تَتِمَّة لَا يحل لقط حرم مَكَّة إِلَّا لحفظ فَلَا يحل إِن لقط للتَّمَلُّك أَو أطلق وَيجب تَعْرِيف مَا التقطه للْحِفْظ لخَبر إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله تَعَالَى لَا يلتقط لقطته إِلَّا من عرفهَا وَيلْزم اللاقط الْإِقَامَة للتعريف أَو دَفعهَا إِلَى الْحَاكِم والسر فِي ذَلِك أَن حرم مَكَّة مثابة للنَّاس يعودون إِلَيْهِ مرّة بعد الْأُخْرَى فَرُبمَا يعود مَالِكهَا من أجلهَا أَو يبْعَث فِي طلبَهَا فَكَأَنَّهُ جعل مَاله بِهِ مَحْفُوظًا عَلَيْهِ كَمَا غلظت الدِّيَة فِيهِ
وَخرج بحرم مَكَّة حرم الْمَدِينَة الشَّرِيفَة على ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُ لَيْسَ كحرم مَكَّة بل هِيَ كَسَائِر الْبِلَاد كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْجُمْهُور وَلَيْسَت لقطَة عَرَفَة ومصلى إِبْرَاهِيم كلقطة الْحرم
(فصل فِي اللَّقِيط)
وَيُسمى ملقوطا ومنبوذا ودعيا
وَالْأَصْل فِيهِ مَعَ مَا يَأْتِي قَوْله تَعَالَى {وافعلوا الْخَيْر لَعَلَّكُمْ تفلحون} قَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى}
القَوْل فِي أَرْكَان الِالْتِقَاط وأركان اللَّقِيط الشَّرْعِيّ لقط ولقيط ولاقط
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الأول وَهُوَ اللقط بقوله (وَإِذا وجد لَقِيط) أَي ملقوط (بقارعة الطَّرِيق) أَي طَرِيق الْبَلَد وَغَيره (فَأَخذه وتربيته) وَهِي تَوْلِيَة أَمر الطِّفْل بِمَا يصلحه (وكفالته) وَالْمرَاد بهَا هُنَا كَمَا فِي الرَّوْضَة حفظه وتربيته (وَاجِبَة) أَي فرض (على الْكِفَايَة) لقَوْله تَعَالَى {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} وَلِأَنَّهُ آدَمِيّ مُحْتَرم فَوَجَبَ حفظه كالمضطر إِلَى طَعَام غَيره
وَفَارق اللّقطَة حَيْثُ لَا يجب لقطها بِأَن الْمُغَلب فِيهَا الِاكْتِسَاب وَالنَّفس تميل إِلَيْهِ فاستغني بذلك عَن الْوُجُوب كَالنِّكَاحِ وَالْوَطْء فِيهِ وَيجب الْإِشْهَاد على اللَّقِيط وَإِن كَانَ اللاقط ظَاهر الْعَدَالَة خوفًا من أَن يسترقه وَفَارق الْإِشْهَاد على لقط اللّقطَة بِأَن الْغَرَض مِنْهَا المَال وَالْإِشْهَاد فِي التَّصَرُّف المالي مُسْتَحبّ وَمن اللَّقِيط حفظ حُرِّيَّته وَنسبه فَوَجَبَ الْإِشْهَاد كَمَا فِي النِّكَاح وَبِأَن اللّقطَة يشيع أمرهَا بالتعريف وَلَا تَعْرِيف فِي اللَّقِيط
وَيجب الْإِشْهَاد أَيْضا على مَا مَعَه تبعا وَلِئَلَّا يَتَمَلَّكهُ فَلَو ترك الْإِشْهَاد لم تثبت لَهُ ولَايَة الْحِفْظ وَجَاز نَزعه مِنْهُ قَالَه فِي الْوَسِيط
وَإِنَّمَا يجب الْإِشْهَاد فِيمَا ذكر على لاقط بِنَفسِهِ أما من سلمه لَهُ الْحَاكِم فالإشهاد مُسْتَحبّ قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
واللقيط وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي صَغِير أَو مَجْنُون منبوذ لَا كافل لَهُ مَعْلُوم وَلَو مُمَيّزا لِحَاجَتِهِ إِلَى التعهد
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ اللاقط بقوله (وَلَا يقر) بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي لَا يتْرك اللَّقِيط (إِلَّا فِي يَد أَمِين) وَهُوَ الْحر الرشيد الْعدْل وَلَو مَسْتُورا فَلَو لقطه غَيره مِمَّن بِهِ رق وَلَو مكَاتبا أَو كفر أَو صبا أَو جُنُون أَو فسق لم يَصح فينزع اللَّقِيط مِنْهُ لِأَن حق الْحَضَانَة ولَايَة وَلَيْسَ من أَهلهَا لَكِن لكَافِر لقط كَافِر لما بَينهمَا من الْمُوَالَاة فَإِن أذن لرقيقه غير الْمكَاتب فِي لقطه أَو أقره عَلَيْهِ(2/375)
فَهُوَ اللاقط ورقيقه نَائِب عَنهُ فِي الْأَخْذ والتربية إِذْ يَده كَيده بِخِلَاف الْمكَاتب لاستقلاله فَلَا يكون السَّيِّد هُوَ اللاقط بل وَلَا هُوَ أَيْضا كَمَا علم مِمَّا مر فَإِن قَالَ لَهُ السَّيِّد الْتقط لي فالسيد هُوَ اللاقط والمبعض كالرقيق وَلَو ازْدحم اثْنَان أهلان للقط على لَقِيط قبل أَخذه بِأَن قَالَ كل مِنْهُمَا أَنا آخذه عين الْحَاكِم من يرَاهُ وَلَو من غَيرهمَا أَو بعد أَخذه قدم سَابق لسبقه وَإِن لقطاه مَعًا قدم غَنِي على فَقير لِأَنَّهُ قد يواسيه بِبَعْض مَاله وَعدل بَاطِنا على مَسْتُور احْتِيَاطًا للقيط فَإِن اسْتَويَا أَقرع بَينهمَا
وللاقط نَقله من بادية الْقرْيَة ومنهما لبلد لِأَنَّهُ أرْفق بِهِ لَا نَقله من قَرْيَة لبادية أَو من بلد لقرية أَو بادية لخشونة عيشهما وفوات الْعلم بِالدّينِ والصنعة فيهمَا
نعم لَو نَقله من بلد أَو من قَرْيَة لبادية قريبَة يسهل المُرَاد مِنْهَا جَازَ على النَّص
وَقَول الْجُمْهُور وَله نَقله من بادية وقرية وبلد لمثله
(فَإِن وجد مَعَه) أَي اللَّقِيط (مَال) عَام كوقف على اللقطاء أَو الْوَصِيَّة لَهُم أَو خَاص كثياب ملفوفة عَلَيْهِ أَو ملبوسة لَهُ أَو مغطى بهَا أَو تَحْتَهُ مفروشة ودنانير عَلَيْهِ أَو تَحْتَهُ وَلَو منثورة وَدَار هُوَ فِيهَا وَحده وحصته مِنْهَا إِن كَانَ مَعَه غَيره لِأَن لَهُ يدا وَحِصَّة واختصاصا كَالْبَالِغِ
وَالْأَصْل الْحُرِّيَّة مَا لم يعرف غَيرهَا (أنْفق عَلَيْهِ الْحَاكِم) أَو مأذونه (مِنْهُ) وَخرج بِمَا ذكر المَال المدفون وَلَو تَحْتَهُ أَو كَانَ فِيهِ أَو مَعَ اللَّقِيط رقْعَة مَكْتُوب فِيهَا أَنه لَهُ فَلَا يكون ملكا لَهُ كالمكلف
نعم إِن حكم بِأَن الْمَكَان لَهُ فَهُوَ لَهُ مَعَ الْمَكَان وَلَا مَال مَوْضُوع بِقُرْبِهِ كالبعيد عَنهُ بِخِلَاف الْمَوْضُوع بِقرب الْمُكَلف لِأَنَّهُ لَهُ رِعَايَة (فَإِن لم يُوجد مَعَه مَال) وَلَا عرف لَهُ مَال (فنفقته) حِينَئِذٍ (من بَيت المَال) من سهم الْمصَالح فَإِن لم يكن فِي بَيت المَال مَال أَو كَانَ ثمَّ مَا هُوَ أهم مِنْهُ اقْترض عَلَيْهِ الْحَاكِم فَإِن عسر الِاقْتِرَاض وَجب على موسرينا قرضا بِالْقَافِ عَلَيْهِ إِن كَانَ حرا وَإِلَّا فعلى سَيّده
وللاقطه اسْتِقْلَال بِحِفْظ مَاله كحفظه وَإِنَّمَا يمونه مِنْهُ بِإِذن الْحَاكِم لِأَن ولَايَة المَال لَا تثبت لغير أَب وجد من الْأَقَارِب فالأجنبي أولى فَإِن لم يُوجد الْحَاكِم أنْفق عَلَيْهِ بإشهاد فَإِن أنْفق بِدُونِ ذَلِك ضمن
تَتِمَّة اللَّقِيط مُسلم تبعا للدَّار وَمَا ألحق بهَا وَإِن اسْتَلْحقهُ كَافِر بِلَا بَيِّنَة إِن وجود بِمحل وَلَو بدار كفر بِهِ مُسلم يُمكن كَونه مِنْهُ وَيحكم بِإِسْلَام غير لَقِيط صبي أَو مَجْنُون تبعا لأحد أُصُوله وَلَو من قبل الْأُم وتبعا لسابيه الْمُسلم إِن لم يكن مَعَه فِي السَّبي أحد أُصُوله لِأَنَّهُ صَار تَحت ولَايَته فَإِن كفر بعد كَمَاله بِالْبُلُوغِ أَو الْإِفَاقَة فِي التبعيتين الْأَخِيرَتَيْنِ فمرتد لسبق الحكم بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِهِ فِي التّبعِيَّة الأولى وَهِي تَبَعِيَّة الدَّار وَمَا يلْحق بهَا فَإِنَّهُ كَافِر أُصَلِّي لَا مُرْتَد لبنائه على ظَاهرهَا وَهَذَا معنى قَوْلهم تَبَعِيَّة الدَّار ضَعِيفَة وَهُوَ حر
وَإِن ادّعى رقّه لاقط أَو غَيره إِلَّا أَن تُقَام برقه بَيِّنَة متعرضة لسَبَب الْملك كإرث أَو شِرَاء أَو يقر بِهِ بعد كَمَاله
وَلم يكذبهُ الْمقر لَهُ وَلم يسْبق إِقْرَاره بعد كَمَاله بحريَّته وَلَا يقبل إِقْرَاره بِالرّقِّ فِي تصرف مَاض مُضر بِغَيْرِهِ فَلَو لزمَه دين فَأقر برق وَبِيَدِهِ مَال قضى مِنْهُ وَلَا يَجْعَل للْمقر لَهُ بِالرّقِّ إِلَّا مَا فضل عَن الدّين فَإِن بَقِي من الدّين شَيْء اتبع بِهِ بعد عتقه
أما التَّصَرُّف الْمَاضِي المضر بِهِ فَيقبل إِقْرَاره بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَلَو كَانَ اللَّقِيط امْرَأَة متزوجة وَلَو بِمن لَا يحل لَهُ نِكَاح الْأمة وأقرت بِالرّقِّ لم يَنْفَسِخ نِكَاحهَا وتسلم لزَوجهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ويسافر بهَا زَوجهَا بِغَيْر إِذن سَيِّدهَا وَوَلدهَا قبل إِقْرَارهَا حر وَبعده رَقِيق(2/376)
فصل فِي الْوَدِيعَة
تقال على الْإِيدَاع وعَلى الْعين المودعة ومناسبة ذكرهَا بعد اللَّقِيط ظَاهِرَة
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} وَخبر أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك
وَلِأَن بِالنَّاسِ حَاجَة بل ضَرُورَة إِلَيْهَا
القَوْل فِي أَرْكَان الْوَدِيعَة وأركانها بِمَعْنى الْإِيدَاع أَرْبَعَة وَدِيعَة بِمَعْنى الْعين المودعة وَصِيغَة ومودع ووديع
وَشرط فِي الْمُودع والوديع مَا مر فِي مُوكل ووكيل لِأَن الْإِيدَاع استنابة فِي الْحِفْظ فَلَو أودعهُ نَحْو صبي كمجنون ضمن مَا أَخذه مِنْهُ
وَإِن أودع شخص نَحْو صبي إِنَّمَا يضمن بإتلافه وَشرط فِي الصِّيغَة مَا مر فِي الْوكَالَة فَيشْتَرط اللَّفْظ من جَانب الْمُودع وَعدم الرَّد من جَانب الْوَدِيع نعم لَو قَالَ الْوَدِيع أَو دعنيه مثلا
فَدفعهُ لَهُ ساكتا فَيُشبه أَن يَكْفِي ذَلِك كالعارية
وَعَلِيهِ فَالشَّرْط اللَّفْظ من أَحدهمَا نبه عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيّ والإيجاب إِمَّا صَرِيح كأودعتك هَذَا أَو استحفظتكه أَو كِنَايَة مَعَ النِّيَّة كخذه
(والوديعة أَمَانَة) أَصَالَة فِي يَد الْوَدِيع (يسْتَحبّ) لَهُ (قبُولهَا) أَي أَخذهَا (لمن قَامَ بالأمانة فِيهَا) بِأَن قدر على حفظهَا ووثق بأمانة نَفسه فِيهَا هَذَا إِن لم يتَعَيَّن عَلَيْهِ أَخذهَا لخَبر مُسلم وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه فَإِن تعين بِأَن لم يكن ثمَّ غَيره وَجب عَلَيْهِ أَخذهَا لَكِن لَا يجْبر على إِتْلَاف منفعَته وَمَنْفَعَة حرزه مجَّانا فَإِن عجز عَن حفظهَا حرم عَلَيْهِ قبُولهَا لِأَنَّهُ يعرضهَا للتلف
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَمحله إِذا لم يعلم الْمَالِك بِحَالهِ وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيم وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِي ذَلِك الزَّرْكَشِيّ وَإِن قدر على الْحِفْظ وَهُوَ فِي الْحَال أَمِين وَلَكِن لم يَثِق بأمانته بل خَافَ الْخِيَانَة من نَفسه فِي الْمُسْتَقْبل كره لَهُ قبُولهَا خشيَة الْخِيَانَة فِيهَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا فِي الْمِنْهَاج
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر أَن هَذَا إِذا لم يعلم الْمَالِك الْحَال وَإِلَّا فَلَا تَحْرِيم وَلَا كَرَاهَة كَمَا علم مِمَّا مر
تَنْبِيه أَحْكَام الْوَدِيعَة ثَلَاثَة الحكم الأول الْأَمَانَة وَالْحكم الثَّانِي الرَّد وَالْحكم الثَّالِث الْجَوَاز
وَقد أَشَارَ إِلَى الأول بقوله(2/377)
والوديعة أَمَانَة وَقد تصير مَضْمُونَة بعوارض غالبها يُؤْخَذ من قَول المُصَنّف (وَلَا يضمن إِلَّا بِالتَّعَدِّي) فِي تلفهَا كَأَن نقلهَا من محلّة وَدَار لأخرى دونهَا حرْزا وَإِن لم يَنْهَهُ الْمُودع عَن نقلهَا لِأَنَّهُ عرضهَا للتلف
نعم إِن نقلهَا يظنّ أَنَّهَا ملكه وَلم ينْتَفع بهَا لم يضمن
وَكَأن يودعها غَيره وَلَو قَاضِيا بِلَا إِذن من الْمُودع وَلَا عذر لَهُ لِأَن الْمُودع لم يرض بذلك بِخِلَاف مَا لَو أودعها غَيره لعذر كَمَرَض وسفر وَله استعانة بِمن يحملهَا لحرز أَو يعلفها أَو يسقيها لِأَن الْعَادة جرت بذلك وَعَلِيهِ لعذر كإرادة سفر وَمرض ردهَا لمَالِكهَا أَو وَكيله فَإِن فقدهما ردهَا للْقَاضِي وَعَلِيهِ أَخذهَا فَإِن فَقده ردهَا الْأمين وَلَا يُكَلف تَأْخِير السّفر
ويغني عَن الرَّد إِلَى القَاضِي أَو الْأمين الْوَصِيَّة بهَا إِلَيْهِ فَهُوَ مُخَيّر عِنْد فقد الْمَالِك ووكيله بَين ردهَا للْقَاضِي وَالْوَصِيَّة بهَا إِلَيْهِ وَعند فقد القَاضِي بَين ردهَا للأمين وَالْوَصِيَّة بهَا إِلَيْهِ
وَالْمرَاد بِالْوَصِيَّةِ بهَا الْإِعْلَام بهَا وَالْأَمر بردهَا مَعَ وصفهَا بِمَا تتَمَيَّز بِهِ أَو الْإِشَارَة لعينها وَمَعَ ذَلِك يجب الْإِشْهَاد كَمَا فِي الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ فَإِن لم يردهَا وَلم يوص بهَا لمن ذكر كَمَا ذكر ضمن إِن تمكن من ردهَا أَو الْإِيصَاء بهَا لِأَنَّهُ عرضهَا للفوات وَكَأن يدفنها بِموضع ويسافر وَلم يعلم بهَا أَمينا يراقبها لِأَنَّهُ عرضهَا للضياع بِخِلَاف مَا إِذا أعلم بهَا من ذكر لِأَن إِعْلَامه بهَا بِمَنْزِلَة إيداعه فشرطه فقد القَاضِي وَكَأن لَا يدْفع متلفاتها كَتَرْكِ تهوية ثِيَاب صوف أَو ترك لبسهَا عِنْد حَاجَتهَا لذَلِك وَقد علمهَا لِأَن الدُّود يُفْسِدهَا بترك ذَلِك وكل من الْهَوَاء وعبوق رَائِحَة الْآدَمِيّ بهَا يَدْفَعهُ أَو ترك علف دَابَّة بِسُكُون اللَّام لِأَنَّهُ وَاجِب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من الْحِفْظ لَا إِن نَهَاهُ عَن التهوية واللبس والعلف فَلَا يضمن لكنه يَعْصِي فِي مَسْأَلَة الدَّابَّة لحُرْمَة الرّوح فَإِن أعطَاهُ الْمَالِك علفا عَلفهَا مِنْهُ وَإِلَّا رَاجعه أَو وَكيله ليعلفها أَو يستردها فَإِن فقدهما رَاجع القَاضِي ليقترض على الْمَالِك أَو يؤجرها أَو يَبِيع جُزْءا مِنْهَا فِي عَلفهَا بِحَسب مَا يرَاهُ وَكَأن تلفت بمخالفة حفظ مَأْمُور بِهِ كَقَوْلِه لَا ترقد على الصندوق الَّذِي فِيهِ الْوَدِيعَة فرقد وانكسر بثقله وَتلف مَا فِيهِ بانكساره لَا إِن تلف بِغَيْرِهِ كسرقة فَلَا يضمن وَلَا إِن نَهَاهُ عَن قفلين فأقفلهما لِأَن رقاده وقفله ذَلِك زِيَادَة فِي الْحِفْظ
ثمَّ شرع فِي الحكم الثَّانِي وَهُوَ الرَّد بقوله (وَقَول الْمُودع) بِفَتْح الدَّال (مَقْبُول فِي ردهَا على الْمُودع) بِكَسْرِهَا بِيَمِينِهِ وَإِن أشهد عَلَيْهِ بهَا عِنْد دَفعهَا لِأَنَّهُ ائتمنه
تَنْبِيه مَا ذكره المُصَنّف يجْرِي فِي كل أَمِين كوكيل وَشريك وعامل قِرَاض وجاب فِي رد مَا جباه على الَّذِي اسْتَأْجرهُ للجباية كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح
وَضَابِط الَّذِي يصدق بِيَمِينِهِ فِي الرَّد هُوَ كل أَمِين ادّعى الرَّد على من ائتمنه صدق بِيَمِينِهِ إِلَّا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر فَإِنَّهُمَا لَا يصدقان فِي الرَّد لِأَنَّهُمَا أخذا الْعين لغَرَض أَنفسهمَا فَإِن ادّعى الرَّد على غير من ائتمنه كوارث الْمَالِك أَو(2/378)
ادّعى وَارِث الْمُودع بِفَتْح الدَّال رد الْوَدِيعَة على الْمَالِك أَو أودع الْمُودع عِنْد سَفَره أَمينا فَادّعى الْأمين الرَّد على الْمَالِك طُولِبَ كل مِمَّن ذكر بِبَيِّنَة بِالرَّدِّ على من ذكر إِذْ الأَصْل عدم الرَّد وَلم يأتمنه
القَوْل فِي مَا يجب على الْوَدِيع (وَعَلِيهِ) أَي الْوَدِيع (أَن يحفظها) أَي الْوَدِيعَة لمَالِكه أَو وَارثه (فِي حرز مثلهَا) فَإِن أخر إحرازها مَعَ التَّمَكُّن أَو دلّ عَلَيْهَا سَارِقا بِأَن عين لَهُ مَكَانهَا وضاعت بِالسَّرقَةِ أَو دلّ عَلَيْهَا من يصادر الْمَالِك بِأَن عين لَهُ موضعهَا فَضَاعَت بذلك ضمنهَا لمنافاة ذَلِك للْحِفْظ بِخِلَاف مَا إِذا أعلم بهَا غَيره
فَلَو أكره الْوَدِيع ظَالِم على تَسْلِيم الْوَدِيعَة حَتَّى سلمهَا إِلَيْهِ فللمالك تضمين الْوَدِيع لتسليمه ثمَّ يرجع على الظَّالِم لاستيلائه عَلَيْهَا وَيجب على الْوَدِيع إِنْكَار الْوَدِيعَة من الظَّالِم والامتناع من إِعْلَامه بهَا جهده فَإِن ترك ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ ضمن وَله أَن يحلف على ذَلِك لمصْلحَة حفظهَا
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيتَّجه وجوب الْحلف إِذا كَانَت الْوَدِيعَة رَقِيقا والظالم يُرِيد قَتله أَو الْفُجُور بِهِ وَيجب أَن يوري فِي يَمِينه إِذا حلف وَأمكنهُ التورية وَكَانَ يعرفهَا لِئَلَّا يحلف كَاذِبًا فَإِن لم يور كفر عَن يَمِينه لِأَنَّهُ كَاذِب فِيهَا
فَإِن حلف بِالطَّلَاق أَو الْعتْق مكْرها عَلَيْهِ أَو على اعترافه فَحلف حنث لِأَنَّهُ فدى الْوَدِيعَة بِزَوْجَتِهِ أَو رَقِيقه وَإِن اعْترف بهَا وَسلمهَا ضمنهَا لِأَنَّهُ فدى زَوجته أَو رَقِيقه بهَا وَلَو أعلم اللُّصُوص بمكانها فَضَاعَت بذلك ضمن لمنافاة ذَلِك للْحِفْظ لَا إِن أعلمهم بِأَنَّهَا عِنْده من غير تعْيين مَكَانهَا فَلَا يضمن بذلك
القَوْل فِي ضَمَان الْوَدِيعَة (وَإِذا طُولِبَ) أَي طَالب الْمَالِك أَو وَارثه الْوَدِيع أَو وَارثه (بهَا) أَي بردهَا (لم يُخرجهَا) أَي لم يردهَا عَلَيْهِ (مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا) وَقت طلبَهَا (حَتَّى تلفت ضمنهَا) ببدلها من مثل إِن كَانَت مثلية أَو قيمَة إِن كَانَت مُتَقَومَة لتَركه الْوَاجِب عَلَيْهِ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} وَلَيْسَ المُرَاد برد الْوَدِيعَة حملهَا إِلَى مَالِكهَا بل يحصل بِأَن يخلي بَينه وَبَينهَا فَقَط وَلَيْسَ لَهُ أَن يلْزم الْمَالِك الْإِشْهَاد وَإِن كَانَ أشهد عَلَيْهِ عِنْد الدّفع فَإِنَّهُ يصدق فِي الدّفع بِيَمِينِهِ بِخِلَاف مَا لَو طلبَهَا وَكيل الْمُودع لِأَنَّهُ لَا يقبل قَوْله فِي دَفعهَا إِلَيْهِ
وَلَو قَالَ من عِنْده وَدِيعَة لمَالِكهَا خُذ وديعتك
لزمَه أَخذهَا كَمَا فِي الْبَيَان وعَلى الْمَالِك مُؤنَة الرَّد
وَخرج بقوله مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا مَا إِذا لم يقدر على ذَلِك لعذر كَأَن كَانَ فِي جنح ليل والوديعة فِي خزانَة لَا يَتَأَتَّى فتح بَابهَا فِي ذَلِك الْوَقْت أَو كَانَ مَشْغُولًا بِصَلَاة أَو قَضَاء حَاجَة أَو فِي حمام أَو بِأَكْل طَعَام فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ لعدم تَقْصِيره
الحكم الثَّالِث الْجَوَاز فللمودع الِاسْتِرْدَاد وللوديع الرَّد فِي كل وَقت أما الْمُودع فَلِأَنَّهُ الْمَالِك وَأما الْوَدِيع فَلِأَنَّهُ مُتَبَرّع بِالْحِفْظِ
قَالَ ابْن النَّقِيب وَيَنْبَغِي أَن يُقيد جَوَاز الرَّد للوديع بِحَالَة لَا يلْزمه فِيهَا الْقبُول وَإِلَّا حرم الرَّد فَإِن كَانَ بِحَالَة ينْدب فِيهَا الْقبُول فالرد خلاف الأولى إِن لم يرض بِهِ الْمَالِك
وتنفسخ بِمَا تَنْفَسِخ بِهِ الْوكَالَة من موت أَحدهمَا أَو جُنُونه أَو إغمائه أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا مر فِيهَا
القَوْل فِي ادِّعَاء الْوَدِيع تلف الْوَدِيعَة خَاتِمَة لَو ادّعى الْوَدِيع تلف الْوَدِيعَة وَلم يذكر لَهُ سَببا أَو ذكر لَهُ سَببا خفِيا كسرقة صدق فِي ذَلِك بِيَمِينِهِ
قَالَ ابْن الْمُنْذر(2/379)
بِالْإِجْمَاع وَلَا يلْزمه بَيَان السَّبَب فِي الأولى نعم يلْزمه أَن يحلف لَهُ أَنَّهَا تلفت بِغَيْر تَفْرِيط وَإِن ذكر سَببا ظَاهرا كحريق فَإِن عرف الْحَرِيق وعمومه وَلم يحْتَمل سَلامَة الْوَدِيعَة كَمَا قَالَه ابْن الْمقري صدق بِلَا يَمِين لِأَن ظَاهر الْحَال يُغْنِيه عَن الْيَمين أما إِذا احْتمل سلامتها بِأَن عَم ظَاهرا لَا يَقِينا فَيحلف لاحْتِمَال سلامتها فَإِن عرف الْحَرِيق دون عُمُومه صدق بِيَمِينِهِ لاحْتِمَال مَا ادَّعَاهُ وَإِن جهل مَا ادَّعَاهُ من الظَّاهِر طُولِبَ بِبَيِّنَة عَلَيْهِ ثمَّ يحلف على التّلف لاحْتِمَال أَنَّهَا لم تتْلف بِهِ وَلَا يُكَلف الْبَيِّنَة على التّلف بِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يخفي
وَلَو أودعهُ ورقة مَكْتُوبًا فِيهَا الْحق الْمقر بِهِ كمائة دِينَار وَتَلفت بتقصيره ضمن قيمتهَا مَكْتُوبَة وَأُجْرَة الْكِتَابَة كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ بِخِلَاف مَا لَو أتلف ثوبا مطرزا فَإِنَّهُ يلْزمه قِيمَته وَلَا يلْزمه أُجْرَة التطريز لِأَن التطريز يزِيد قيمَة الثَّوْب غَالِبا وَلَا كَذَلِك الْكِتَابَة فَإِنَّهَا قد تنقصها
وَالله تَعَالَى أعلم(2/380)
= كتاب بَيَان أَحْكَام الْفَرَائِض والوصايا = الْفَرَائِض جمع فَرِيضَة بِمَعْنى مَفْرُوضَة أَي مقدرَة لما فِيهَا من السِّهَام الْمقدرَة فَغلبَتْ على غَيرهَا
وَالْفَرْض لُغَة التَّقْدِير قَالَ الله تَعَالَى {فَنصف مَا فرضتم} أَي قدرتم
وَشرعا نصيب مُقَدّر شرعا لوَارث وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَات الْمَوَارِيث وَالْأَخْبَار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ
ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِي فَلأولى رجل ذكر فَإِن قيل مَا فَائِدَة ذكر ذكر بعد رجل أُجِيب بِأَنَّهُ للتَّأْكِيد لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه مُقَابل الصَّبِي بل المُرَاد أَنه مُقَابل الْأُنْثَى
فَإِن قيل لَو اقْتصر على ذكر ذكر كفتى فَمَا فَائِدَة ذكر رجل مَعَه أُجِيب بِأَن لَا يتَوَهَّم أَنه عَام مَخْصُوص
القَوْل فِي مِيرَاث الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة مَوَارِيث يورثون الرِّجَال دون النِّسَاء والكبار دون الصغار وَكَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام بِالْحلف والنصر ثمَّ نسخ فتوارثوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة ثمَّ نسخ فَكَانَت الْوَصِيَّة وَاجِبَة للْوَالِدين والأقربين ثمَّ نسخ بآيتي الْمَوَارِيث فَلَمَّا نزلتا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله أعْطى كل ذِي حق حَقه أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث
القَوْل فِي الْحَث على تعلم الْفَرَائِض واشتهرت الْأَخْبَار بالحث على تعليمها وتعلمها مِنْهَا تعلمُوا الْفَرَائِض وعلموه أَي علم الْفَرَائِض النَّاس فَإِنِّي امْرُؤ مَقْبُوض وَإِن هَذَا الْعلم سيقبض وَتظهر الْفِتَن حَتَّى يخْتَلف اثْنَان فِي الْفَرِيضَة فَلَا يجدان من يقْضِي فِيهَا
وَمِنْهَا تعلمُوا الْفَرَائِض فَإِنَّهُ من دينكُمْ وَإنَّهُ نصف الْعلم وَإنَّهُ أول علم ينْزع من أمتِي
وَإِنَّمَا سمي نصف الْعلم لِأَن للْإنْسَان حالتين حَالَة حَيَاة وَحَالَة موت وَلكُل مِنْهُمَا أَحْكَام تخصه
وَقيل النّصْف بِمَعْنى الصِّنْف قَالَ الشَّاعِر(2/381)
إِذا مت كَانَ النَّاس نِصْفَانِ شامت وَآخر مثن بِالَّذِي كنت أصنع وَاعْلَم أَن الْإِرْث يتَوَقَّف على ثَلَاثَة أُمُور وجود أَسبَابه وَوُجُود شُرُوطه وَانْتِفَاء موانعه
القَوْل فِي أَسبَاب الْإِرْث فَأَما الْأَسْبَاب فَأَرْبَعَة قرَابَة وَنِكَاح وَوَلَاء وجهة الْإِسْلَام
وشروطه أَيْضا أَرْبَعَة تحقق موت الْمُورث أَو إِلْحَاقه بالموتى حكما كَمَا فِي حكم القَاضِي بِمَوْت الْمَفْقُود اجْتِهَادًا أَو تحقق حَيَاة الْوَارِث بعد موت مُوَرِثه وَلَو بلحظة وَمَعْرِفَة إدلائه للْمَيت بِقرَابَة أَو نِكَاح أَو وَلَاء والجهة الْمُقْتَضِيَة للإرث تَفْصِيلًا
القَوْل فِي مَوَانِع الْإِرْث والموانع أَيْضا أَرْبَعَة كَمَا قَالَه ابْن الهائم فِي شرح كِفَايَته الرّقّ وَالْقَتْل وَاخْتِلَاف الدّين والدور الْحكمِي
وَهُوَ أَن يلْزم من تَوْرِيث شخص عدم توريثه كأخ أقرّ بِابْن للْمَيت فَيثبت نسب الابْن وَلَا يَرث
القَوْل فِي الوارثون من الرِّجَال (والوارثون من) جنس (الرِّجَال) ليدْخل فِيهِ الصَّغِير (عشرَة) بطرِيق الِاخْتِصَار مِنْهُم اثْنَان من أَسْفَل النّسَب وهما (الابْن وَابْن الابْن وَإِن سفل) بِفَتْح الْفَاء على الْأَفْصَح أَي نزل
وَاثْنَانِ من أَعْلَاهُ (و) هما (الْأَب وَالْجد) أَبُو الْأَب (وَإِن علا) وَأَرْبَعَة من الْحَوَاشِي (و) هم (الْأَخ) لِأَبَوَيْنِ أَو من أَحدهمَا (وَابْنه) أَي ابْن الْأَخ لِلْأَبَوَيْنِ أَو لأَب فَقَط ليخرج ابْن الْأَخ للْأُم فَلَا يَرث لِأَنَّهُ من ذَوي الْأَرْحَام (وَإِن تراخيا) أَي وَإِن سفل الْأَخ الْمَذْكُور وَابْنه (وَالْعم) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب فَقَط ليخرج الْعم للْأُم فَلَا يَرث لِأَنَّهُ من ذَوي الْأَرْحَام (وَابْنه) أَي الْعم الْمَذْكُور (وَإِن تباعدا) أَي الْعم الْمَذْكُور وَابْنه
وَالْمعْنَى أَنه لَا فرق فِي الْعم بَين الْقَرِيب كعم الْمَيِّت والبعيد كعم أَبِيه وَعم جده إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي وَكَذَلِكَ ابْنه وَاثْنَانِ بِغَيْر النّسَب (و) هما (الزَّوْج) وَلَو فِي عدَّة رَجْعِيَّة (وَالْمولى) وَيُطلق على نَحْو عشْرين معنى المُرَاد مِنْهَا هُنَا السَّيِّد (الْمُعْتق) بِكَسْر التَّاء وَالْمرَاد بِهِ من صدر مِنْهُ الْإِعْتَاق أَو ورث بِهِ فَلَا يرد على الْحصْر فِي الْعشْرَة عصبَة الْمُعْتق ومعتق الْمُعْتق
وَطَرِيق الْبسط هُنَا يُقَال الوارثون من الذُّكُور خَمْسَة عشر الْأَب وَأَبوهُ وَإِن علا وَالِابْن وَابْنه وَإِن سفل وَالْأَخ الشَّقِيق وَالْأَخ للْأَب وَالْأَخ للْأُم وَابْن الْأَخ الشَّقِيق وَابْن الْأَخ للْأَب وَالْعم لِأَبَوَيْنِ وَالْعم لأَب وَابْن الْعم لِأَبَوَيْنِ وَابْن الْعم لأَب وَالزَّوْج وَالْمُعتق
القَوْل فِي الوارثات من النِّسَاء (والوارثات من) جنس (النِّسَاء) ليدْخل فِيهِنَّ الصَّغِيرَة (سبع) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة بطرِيق الِاخْتِصَار مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ من أَسْفَل النّسَب وهما (الْبِنْت وَبنت الابْن) وَفِي بعض النّسخ (وَإِن سفلت) وَهُوَ فِي بعض نسخ الْمُحَرر أَيْضا وَصَوَابه وَإِن سفل بِحَذْف الْمُثَنَّاة إِذْ الْفَاعِل ضمير يعود على الْمُضَاف إِلَيْهِ أَي وَإِن سفل الابْن فَإِن بنته تَرث وَإِثْبَات الْمُثَنَّاة يُؤَدِّي إِلَى دُخُول بنت بنت الابْن فِي الْإِرْث وَهُوَ خطأ فَتَأَمّله وثنتان من أَعلَى النّسَب (و) هما (الْأُم وَالْجدّة) المدلية بوارث كَأُمّ الْأَب وَأم الْأُم (وَإِن علت) فَخرج بالمدلية بوارث أم أبي الْأُم فَلَا تَرث
وَوَاحِدَة من الْحَوَاشِي (و) هِيَ (الْأُخْت) لِأَبَوَيْنِ أَو من أَحدهمَا
وثنتان بِغَيْر النّسَب (و) هما (الزَّوْجَة) وَلَو فِي عدَّة رَجْعِيَّة (و) السيدة (الْمُعتقَة) بِكَسْر الْمُثَنَّاة وَهِي من صدر مِنْهَا الْعتْق أَو ورثت بِهِ كَمَا مر
تَنْبِيه الْأَفْصَح أَن يُقَال فِي الْمَرْأَة زوج وَالزَّوْجَة لُغَة مرجوحة قَالَ النَّوَوِيّ واستعمالها فِي بَاب الْفَرَائِض مُتَعَيّن ليحصل الْفرق بَين الزَّوْجَيْنِ انْتهى
وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يسْتَعْمل فِي عِبَارَته الْمَرْأَة وَهُوَ حسن
وَطَرِيق الْبسط هُنَا أَن يُقَال والوارثات من النِّسَاء عشرَة الْأُم وَالْجدّة للْأَب وَالْجدّة للْأُم وَإِن علتا وَالْبِنْت وَبنت الابْن وَإِن سفل وَالْأُخْت الشَّقِيقَة وَالْأُخْت للْأَب وَالْأُخْت للْأُم وَالزَّوْجَة والمعتقة
القَوْل فِي اجْتِمَاع الذُّكُور فَلَو اجْتمع كل الذُّكُور فَقَط وَلَا يكون إِلَّا وَالْمَيِّت أُنْثَى ورث مِنْهُم ثَلَاثَة الْأَب وَالِابْن وَالزَّوْج فَقَط لأَنهم لَا يحجبون وَمن بَقِي مَحْجُوب بِالْإِجْمَاع فَابْن الابْن وَالْجد بِالْأَبِ وَتَصِح مسألتهم من اثْنَي عشر لِأَن فِيهَا(2/382)
ربعا وسدسا وَللزَّوْج الرّبع وَللْأَب السُّدس وللابن الْبَاقِي
القَوْل فِي اجْتِمَاع الْإِنَاث أَو اجْتمع كل الْإِنَاث فَقَط وَلَا يكون إِلَّا وَالْمَيِّت ذكر فالوارثات مِنْهُنَّ خمس وَهن الْبِنْت وَبنت الابْن وَالأُم وَالْأُخْت لِأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَة وَالْبَاقِي من الْإِنَاث مَحْجُوب الْجدّة بِالْأُمِّ وَالْأُخْت للْأُم بالبنت وكل من الْأُخْت للْأَب والمعتقة بالشقيقة لكَونهَا مَعَ الْبِنْت وَبنت الابْن عصبَة تَأْخُذ الْفَاضِل عَن الْفُرُوض وَتَصِح مسألتهن من أَرْبَعَة وَعشْرين لِأَن فِيهَا سدسا وَثمنا للْأُم السُّدس وللزوجة الثّمن وللبنت النّصْف ولبنت الابْن السُّدس وَللْأُخْت الْبَاقِي وَهُوَ سهم
القَوْل فِي اجْتِمَاع الْمُمكن من الصِّنْفَيْنِ أَو اجْتمع الَّذين يُمكن اجْتِمَاعهم من الصِّنْفَيْنِ الذُّكُور وَالْإِنَاث بِأَن اجْتمع كل الذُّكُور وكل الْإِنَاث إِلَّا الزَّوْجَة فَإِنَّهَا الْميتَة أَو كل الْإِنَاث وكل الذُّكُور إِلَّا الزَّوْج فَإِنَّهُ الْمَيِّت ورث مِنْهُم فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الابْن والأبوان وَالْبِنْت وَأحد الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ الزَّوْج حَيْثُ الْمَيِّت الزَّوْجَة وَهِي حَيْثُ الْمَيِّت الزَّوْج لحجبهم من عداهم فَالْأولى من اثْنَي عشر لِلْأَبَوَيْنِ السدسان أَرْبَعَة وَللزَّوْج الرّبع ثَلَاثَة وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَة بَين الابْن وَالْبِنْت أَثلَاثًا وَلَا ثلث لَهُ صَحِيح فَتضْرب ثَلَاثَة فِي اثْنَي عشر تبلغ سِتَّة وَثَلَاثِينَ وَمِنْهَا تصح
وَالثَّانيَِة أَصْلهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ للزَّوْجَة الثّمن وللأبوين السدسان وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَة عشر بَين الابْن وَالْبِنْت أَثلَاثًا وَلَا ثلث لَهُ صَحِيح فَتضْرب ثَلَاثَة فِي أَرْبَعَة وَعشْرين تبلغ اثْنَيْنِ وَسبعين وَمِنْهَا تصح
ضَابِط كل من انْفَرد من الذُّكُور حَاز جَمِيع التَّرِكَة إِلَّا الزَّوْج وَالْأَخ للْأُم وَمن قَالَ بِالرَّدِّ لَا يسْتَثْنى إِلَّا الزَّوْج
وكل من انْفَرد من الْإِنَاث لَا يحوز جَمِيع المَال إِلَّا المعتقه وَمن قَالَ بِالرَّدِّ لَا يسْتَثْنى من حوز جَمِيع المَال إِلَّا الزَّوْجَة
القَوْل فِي مِيرَاث ذَوي الْأَرْحَام تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف كَغَيْرِهِ أَن ذَوي الْأَرْحَام لَا يَرِثُونَ وهم كل قريب لَيْسَ بِذِي فرض وَلَا عصبَة وهم أحد عشر صنفا جد وَجدّة ساقطان كَأبي أم وَأم أبي أم وَإِن علتا وَهَذَانِ صنف وَاحِد وَأَوْلَاد بَنَات لصلب أَو لِابْنِ من ذُكُور وإناث وَبَنَات إخْوَة لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب أَو لأم وَأَوْلَاده أَخَوَات كَذَلِك وَبَنُو إخْوَة لأم وَعم لأم أَي أَخُو الْأَب لأمه وَبَنَات أعمام لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب أَو لأم وعمات بِالرَّفْع وأخوال وخالات ومدلون بهم أَي بِمَا عدا الأول إِذْ لم يبْق فِي الأول من يُدْلِي بِهِ
وَمحل هَذَا إِذا استقام أَمر بَيت المَال فَإِذا لم يستقم أَمر بَيت المَال وَلم يكن عصبَة وَلَا ذُو فرض مُسْتَغْرق ورث ذَوُو الْأَرْحَام كَمَا صَححهُ فِي الزَّوَائِد
وَفِي كَيْفيَّة توريثهم مذهبان أَحدهمَا وَهُوَ الْأَصَح مَذْهَب أهل التَّنْزِيل وَهُوَ أَن ينزل كل مِنْهُم منزلَة من يُدْلِي بِهِ وَالثَّانِي مَذْهَب أهل الْقَرَابَة وَهُوَ تَقْدِيم الْأَقْرَب مِنْهُم إِلَى الْمَيِّت
فَفِي بنت بنت وَبنت بنت ابْن المَال على الأول بَينهمَا أَربَاعًا وعَلى الثَّانِي لبِنْت الْبِنْت لقربها إِلَى الْمَيِّت
وَقد بسطت الْكَلَام على ذَلِك فِي غير هَذَا الْكتاب هَذَا كُله إِذا وجد أحد من ذَوي الْأَرْحَام وَإِلَّا فَحكمه كَمَا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام أَنه إِذا جارت الْمُلُوك فِي مَال الْمصَالح فظفر بِهِ أحد يعرف المصارف أَخذه وَصَرفه فِيهَا كَمَا يصرفهُ الإِمَام الْعَادِل وَهُوَ مأجور على ذَلِك
قَالَ وَالظَّاهِر وُجُوبه
القَوْل فِي الْحجب بالشخص ثمَّ شرع فِيمَن يحجب وَمن لَا يحجب بقوله (وَمن) أَي وَالَّذِي (لَا يسْقط بِحَال) أَي الَّذِي لَا يحجب حجب حرمَان والحجب فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع
وَشرعا منع من قَامَ بِهِ سَبَب الْإِرْث من الْإِرْث بِالْكُلِّيَّةِ أَو من أوفر حظيه
وَيُسمى الأول حجب حرمَان وَالثَّانِي حجب نُقْصَان فَالثَّانِي كحجب الْوَلَد الزَّوْج من النّصْف إِلَى الرّبع وَيُمكن دُخُوله على جَمِيع الْوَرَثَة وَالْأول قِسْمَانِ حجب بِالْوَصْفِ وَيُسمى منعا كَالْقَتْلِ وَالرّق وَسَيَأْتِي وَيُمكن دُخُوله على جَمِيع الْوَرَثَة أَيْضا
وحجب بالشخص أَو الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ المُرَاد هُنَا كَمَا يُؤْخَذ من كَلَام المُصَنّف
وَمن لَا يسْقط بِحَال (خَمْسَة) وهم (الزَّوْجَانِ والأبوان وَولد الصلب) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَهَذَا إِجْمَاع لِأَن كلا مِنْهُم يُدْلِي إِلَى الْمَيِّت بِنَفسِهِ بِنسَب أَو نِكَاح وَلَيْسَ فرعا لغيره وَالْأَصْل مقدم على الْفَرْع فَخرج بقولنَا وَلَيْسَ فرعا لغيره الْمُعْتق ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى فَإِنَّهُ وَإِن أدلى إِلَى الْمَيِّت بِنَفسِهِ يحجب لِأَنَّهُ فرع لغيره وَهُوَ النّسَب وَهَذَا أولى من قَول بَعضهم وَضَابِط من لَا يدْخل عَلَيْهِ الْحجب بالشخص حجب حرمَان كل من أدلى إِلَى الْمَيِّت بِنَفسِهِ إِلَّا الْمُعْتق والمعتقة
القَوْل فِي الْحجب بِالْوَصْفِ ثمَّ شرع فِي الْحجب بِالْوَصْفِ بقوله (وَمن) أَي الَّذِي (لَا يَرث بِحَال) أَي مُطلقًا سَبْعَة بل أَكثر كَمَا ستعرفه الأول(2/383)
(العَبْد) قَالَ ابْن حزم وَهُوَ يَشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى
وَقَالَ فِي الْمُحكم العَبْد وَهُوَ الْمَمْلُوك ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى
(و) الثَّانِي الرَّقِيق (الْمُدبر و) الثَّالِث (أم الْوَلَد و) الرَّابِع الرَّقِيق (الْمكَاتب) لنقصهم بِالرّقِّ
وَكَانَ الأخصر للْمُصَنف أَن يَقُول أَرْبَعَة بدل سَبْعَة ويعبر عَن هَؤُلَاءِ بِالرّقِّ إِلَى آخر كَلَامه
تَنْبِيه إِطْلَاقه مشْعر بِأَنَّهُ لَا فرق بَين كَامِل الرّقّ وَغَيره وَهُوَ كَذَلِك إِذْ الصَّحِيح أَن الْمبعض لَا يَرث بِقدر مَا فِيهِ من الْحُرِّيَّة لِأَنَّهُ نَاقص بِالرّقِّ فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْولَايَة فَلم يَرث كالقن وَلَا يُورث الرَّقِيق كُله وَأما الْمبعض فيورث عَنهُ مَا ملكه بِبَعْضِه الْحر لِأَنَّهُ تَامّ الْملك عَلَيْهِ فيرثه عَنهُ قَرِيبه الْحر أَو مُعتق بعضه وَزَوجته وَلَا شَيْء لسَيِّده لاستيفائه حَقه مِمَّا اكْتَسبهُ بالرقية
وَاسْتثنى من كَون الرَّقِيق لَا يُورث كَافِر لَهُ أَمَان وَجَبت لَهُ جِنَايَة حَال حُرِّيَّته وأمانه ثمَّ نقض الْأمان فسبي واسترق وَحصل الْمَوْت بِالسّرَايَةِ فِي حَال رقّه فَإِن قدر الْأَرْش من قِيمَته لوَرثَته على الْأَصَح قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَيْسَ لنا رَقِيق كُله يُورث إِلَّا هَذَا
(و) الْخَامِس (الْقَاتِل) فَلَا يَرث الْقَاتِل من مقتوله مُطلقًا لخَبر التِّرْمِذِيّ وَغَيره لَيْسَ للْقَاتِل شَيْء أَي من الْمِيرَاث وَلِأَنَّهُ لَو ورث لم يُؤمن أذ يستعجل بِالْقَتْلِ فاقتضت الْمصلحَة حرمانه وَلِأَن الْقَتْل قطع الْمُوَالَاة وَهِي سَبَب الْإِرْث
وَسَوَاء أَكَانَ الْقَتْل عمدا أم غَيره مَضْمُونا أم لَا بِمُبَاشَرَة أم لَا قصد مصْلحَته كضرب الْأَب أَو الزَّوْج أَو الْمعلم أم لَا مكْرها أم لَا فَكل ذَلِك تنَاوله إِطْلَاقه (و) السَّادِس (الْمُرْتَد) وَنَحْوه كيهودي تنصر فَلَا يَرث أحدا إِذْ لَيْسَ بَينه وَبَين أحد مُوالَاة فِي الدّين لِأَنَّهُ ترك دينا كَانَ يقر عَلَيْهِ وَلَا يقر على دينه الَّذِي انْتقل إِلَيْهِ وَظَاهر كَلَامهم أَنه لَا يَرث وَلَو عَاد بعده لِلْإِسْلَامِ بعد موت مُوَرِثه وَهُوَ كَذَلِك كَمَا حكى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَمَا وَقع لِابْنِ الرّفْعَة فِي الْمطلب من تَقْيِيده بِمَا إِذا مَاتَ مُرْتَدا وَأَنه إِذا أسلم تبين إِرْثه غلطه فِي ذَلِك صَاحبه السُّبْكِيّ فِي الابتهاج
وَقَالَ إِنَّه فِيهِ خارق للْإِجْمَاع
تَنْبِيه تنَاول إِطْلَاق المُصَنّف الْمُعْلن وَغَيره وَهُوَ كَذَلِك وكما لَا يَرث الْمُرْتَد لَا يُورث لما مر لَكِن لَو قطع شخص طرف مُسلم فَارْتَد الْمَقْطُوع وَمَات سرَايَة وَجب قَود الطّرف ويستوفيه من كَانَ وَارثه لَوْلَا الرِّدَّة وَمثله حد الْقَذْف
(و) السَّابِع (أهل ملتين) مختلفتين كملتي الْإِسْلَام وَالْكفْر فَلَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم لانْقِطَاع الْمُوَالَاة بَينهمَا
وانعقد الْإِجْمَاع على أَن الْكَافِر لَا يَرث الْمُسلم وَاخْتلفُوا فِي تَوْرِيث الْمُسلم مِنْهُ فالجمهور على الْمَنْع
فَإِن قيل يرد على مَا ذكر مَا لَو مَاتَ كَافِر عَن زَوْجَة كَافِرَة حَامِل ووقف الْمِيرَاث فَأسْلمت ثمَّ ولدت فَإِن الْوَلَد يَرث مِنْهُ مَعَ حكمنَا بِإِسْلَامِهِ بِإِسْلَام أمه
أُجِيب بِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ يَوْم موت أَبِيه وَقد ورث مذ كَانَ حملا وَلِهَذَا قَالَ الكتاني من محققي الْمُتَأَخِّرين إِن لنا جمادا يملك وَهُوَ النُّطْفَة وَاسْتَحْسنهُ السُّبْكِيّ
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَفِيه نظر إِذْ الجماد مَا لَيْسَ بحيوان وَلَا كَانَ حَيَوَانا
يَعْنِي وَلَا أصل حَيَوَان
وَخرج بملتي الْإِسْلَام وَالْكفْر ملتا الْكفْر إِذا كَانَ لَهما عهد فيتوارثان كيهودي من نَصْرَانِيّ وَنَصْرَانِي من مَجُوسِيّ ومجوسي من وَثني وَبِالْعَكْسِ لِأَن جَمِيع ملل الْكفْر فِي الْبطلَان كالملة الْوَاحِدَة قَالَ تَعَالَى {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال}(2/384)
فَإِن قيل كَيفَ يتَصَوَّر إِرْث الْيَهُودِيّ من النَّصْرَانِي وَعَكسه فَإِن الْأَصَح أَن من انْتقل من مِلَّة إِلَى مِلَّة لَا يقر أُجِيب بتصور ذَلِك فِي الْوَلَاء وَالنِّكَاح وَفِي النّسَب أَيْضا فِيمَا إِذا كَانَ أحد أَبَوَيْهِ يَهُودِيّا وَالْآخر نَصْرَانِيّا أما بِنِكَاح أَو وَطْء شُبْهَة فَإِنَّهُ يتَخَيَّر بعد بُلُوغه كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ قبيل نِكَاح الْمُشرك حَتَّى لَو كَانَ لَهُ ولدان وَاخْتَارَ أَحدهمَا الْيَهُودِيَّة وَالْآخر النَّصْرَانِيَّة جعل التَّوَارُث بَينهمَا بالأبوة والأمومة والأخوة مَعَ اخْتِلَاف الدّين
أما الْحَرْبِيّ وَغَيره كذمي ومعاهد فَلَا توارث بَين الْحَرْبِيّ وَغَيره لانْقِطَاع الْمُوَالَاة بَينهمَا
وَالثَّامِن إِيهَام وَقت الْمَوْت فَلَو مَاتَ متوارثان بغرق أَو حرق أَو هدم أَو فِي بِلَاد غربَة مَعًا أَو جهل أسبقهما أَو علم سبق وَجَهل لم يَرث أَحدهمَا من الآخر شَيْئا لِأَن من شَرط الْإِرْث كَمَا مر تَحْقِيق حَيَاة الْوَارِث بعد موت الْمُورث وَهُوَ هُنَا مُنْتَفٍ
وَالْجهل بِالسَّبقِ صَادِق بِأَن يعلم أصل السَّبق وَلَا يعلم عين السَّابِق وَبِأَن لَا يعلم بسبق أصلا
وصور الْمَسْأَلَة خمس الْعلم بالمعية الْعلم بِالسَّبقِ وَعين السَّابِق الْجَهْل بالمعية والسبق الْجَهْل بِعَين السَّابِق مَعَ الْعلم بِالسَّبقِ التباس السَّابِق بعد معرفَة عينه فَفِي الصُّورَة الْأَخِيرَة يُوقف الْمِيرَاث إِلَى الْبَيَان أَو الصُّلْح وَفِي الصُّورَة الثَّانِيَة تقسم التَّرِكَة وَفِي الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة تَرِكَة كل من الميتين بغرق وَنَحْوه لباقي ورثته لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا ورث الْأَحْيَاء من الْأَمْوَات وَهنا لم تعلم حَيَاته عِنْد موت صَاحبه فَلم يَرث كالجنين إِذا خرج مَيتا
وَالتَّاسِع الدّور الْحكمِي وَقد مر مِثَاله
والعاشر اللّعان فَإِنَّهُ يقطع التَّوَارُث ذكره الْغَزالِيّ
القَوْل فِي مَوَانِع الْمِيرَاث الْحَقِيقِيَّة وَقَالَ ابْن الهائم فِي شرح كِفَايَته الْمَوَانِع الْحَقِيقِيَّة أَرْبَعَة الْقَتْل وَالرّق وَاخْتِلَاف الدّين والدور الْحكمِي وَمَا زَاد عَلَيْهَا فتسميته مَانِعا مجَاز
وَقَالَ فِي غَيره إِنَّهَا سِتَّة الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة وَالرِّدَّة وَاخْتِلَاف الْعَهْد وَإِن مَا زَاد عَلَيْهَا مجَاز وَانْتِفَاء الْإِرْث مَعَه لَا لِأَنَّهُ مَانع بل لانْتِفَاء الشَّرْط كَمَا فِي جهل التَّارِيخ وَهَذَا أوجه وعد بَعضهم من الْمَوَانِع النُّبُوَّة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة وَالْحكمَة فِيهِ أَن لَا يتَمَنَّى أحد من الْوَرَثَة مَوْتهمْ لذَلِك فَيهْلك وَأَن لَا يظنّ بهم الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا وَأَن يكون مَالهم صَدَقَة بعد وفاتهم توفيرا لأجورهم
وَقد علم مِمَّا تقرر أَن النَّاس فِي الْإِرْث على أَرْبَعَة أَقسَام مِنْهُم من يَرث وَيُورث وَعَكسه فيهمَا
وَمِنْهُم من يُورث وَلَا يَرث وَعَكسه
فَالْأولى كزوجين وأخوين وَالثَّانِي كرقيق ومرتد وَالثَّالِث كمبعض وجنين فِي غرته فَقَط فَإِنَّهَا تورث عَنهُ لَا غَيرهَا
وَالرَّابِع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَإِنَّهُم يَرِثُونَ وَلَا يورثون
القَوْل فِي الْعَصَبَات (وَأقرب الْعَصَبَات) من النّسَب الْعصبَة بِنَفسِهِ وهم (الابْن) لِأَنَّهُ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّت بِنَفسِهِ (ثمَّ ابْنه) وَإِن سفل لِأَنَّهُ يقوم مقَام أَبِيه فِي الْإِرْث فَكَذَا فِي التَّعْصِيب (ثمَّ الْأَب) لإدلاء سَائِر الْعَصَبَات بِهِ (ثمَّ أَبوهُ) وَإِن علا (ثمَّ الْأَخ للْأَب وَالأُم) أَي الشَّقِيق وَلَو(2/385)
عبر بِهِ كَانَ أخصر (ثمَّ الْأَخ للْأَب) لِأَن كلا مِنْهُمَا ابْن الْأَب يُدْلِي بِنَفسِهِ (ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب وَالأُم) أَي الشَّقِيق (ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب) لِأَن كلا مِنْهُمَا يُدْلِي بِنَفسِهِ كأبيه (ثمَّ الْعم على هَذَا التَّرْتِيب) أَي فَيقدم الْعم الشَّقِيق على الْعم للْأَب لِأَن كلا مِنْهُمَا ابْن الْجد ويدلي للْمَيت بِنَفسِهِ
(ثمَّ ابْنه) أَي الْعم على تَرْتِيب أَبِيه فَيقدم ابْن الْعم الشَّقِيق على ابْن الْعم للْأَب ثمَّ عَم الْأَب من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ من الْأَب ثمَّ بنوهما كَذَلِك ثمَّ عَم الْجد من الْأَبَوَيْنِ ثمَّ من الْأَب ثمَّ بنوهما كَذَلِك إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي قَالَه فِي الرَّوْضَة وَتَركه المُصَنّف اختصارا (فَإِذا عدمت الْعَصَبَات) من النّسَب الَّذين يتعصبون بِأَنْفسِهِم (فالمولى الْمُعْتق) والعصبات جمع عصبَة وَيُسمى بِهِ الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث قَالَه المطرزي وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَأنكر ابْن الصّلاح إِطْلَاقه على الْوَاحِد لِأَنَّهُ جمع عاصب وَمعنى الْعصبَة لُغَة قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ
وَشرعا من لَيْسَ لَهُم سهم مُقَدّر من الْوَرَثَة فيرث التَّرِكَة إِذا انْفَرد أَو مَا فضل بعد الْفُرُوض فقولنا يَرث التَّرِكَة صَادِق بالعصبة بِنَفسِهِ وَهُوَ مَا تقدم وبنفسه وَغَيره مَعًا
والعصبة بِغَيْرِهِ من الْبَنَات وَالْأَخَوَات غير ولد الْأُم مَعَ أخيهن
وَقَوْلنَا أَو مَا فضل إِلَى آخِره صَادِق بذلك وبالعصبة مَعَ غَيره وَهن الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات وَبَنَات الابْن فَلَيْسَ لَهُنَّ حَال يستغرقن فِيهِ التَّرِكَة
وَالْمُعتق يَشْمَل الذّكر وَالْأُنْثَى لإِطْلَاق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق وَلِأَن الإنعام بِالْإِعْتَاقِ مَوْجُود من الرجل وَالْمَرْأَة فاستويا فِي الْإِرْث
وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وَإِنَّمَا قدم النّسَب عَلَيْهِ لقُوته ويرشد إِلَيْهِ الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب شبه بِهِ والمشبه دون الْمُشبه بِهِ (ثمَّ عصبته) أَي الْمُعْتق بِنسَب المتعصبون بِأَنْفسِهِم كابنه وأخيه لَا كبنته وَأُخْته وَلَو مَعَ أخويهما المعصبين لَهما لِأَنَّهُمَا من أَصْحَاب الْفُرُوض وَلَا للْعصبَةِ مَعَ غَيره وَالْمعْنَى فِيهِ أَن الْوَلَاء أَضْعَف من النّسَب المتراخي وَإِذا ترَاخى النّسَب ورث الذُّكُور دون الْإِنَاث كبني الْأَخ وَبني الْعم دون أخواتهم فَإِذا لم تَرث بنت الْأَخ وَبنت الْعم فبنت الْمُعْتق أولى أَن لَا تَرث لِأَنَّهَا أبعد مِنْهُمَا وَالْمُعْتَبر أقرب عصباته يَوْم موت الْعَتِيق فَلَو مَاتَ الْمُعْتق وَخلف ابْنَيْنِ ثمَّ مَاتَ أَحدهمَا وَخلف ابْنا ثمَّ مَاتَ الْعَتِيق فولاؤه لِابْنِ الْمُعْتق دون ابْن ابْنه
تَنْبِيه كَلَام المُصَنّف كَالصَّرِيحِ فِي أَن الْوَلَاء لَا يثبت للْعصبَةِ فِي حَيَاة الْمُعْتق بل إِنَّمَا يثبت بعده وَلَيْسَ بِمُرَاد بل الْوَلَاء ثَابت لَهُم فِي حَيَاة الْمُعْتق على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص فِي الْأُم إِذْ لَو لم يثبت لَهُم الْوَلَاء إِلَّا بعد مَوته لم يرثوا
وَقَالَ السُّبْكِيّ يتلخص للأصحاب فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا أَنه لَهُم مَعَه لَكِن هُوَ الْمُقدم عَلَيْهِم فِيمَا يُمكن جعله لَهُ كإرث المَال وَنَحْوه اه
وترتيبهم هُنَا(2/386)
كالترتيب الْمُتَقَدّم فِي النّسَب إِلَّا فِي مسَائِل مِنْهَا إِذا اجْتمع الْجد وَالْأَخ الشَّقِيق أَو لأَب قدم الْأَخ هُنَا فِي الْوَلَاء على الْأَظْهر بِخِلَافِهِ فِي النّسَب فَلَو اجْتمعَا مَعَه فَلَا يقدم أَوْلَاد الْأَب على الْجد على الْأَصَح بل يقتسم الْجد مَعَ الشَّقِيق فَقَط
وَمِنْهَا مَا إِذا كَانَ مَعَ الْجد ابْن الْأَخ فَالْأَظْهر تَقْدِيم ابْن الْأَخ فِي الْوَلَاء لقُوَّة الْبُنُوَّة
وَمِنْهَا إِذا كَانَ للْمُعْتق ابْنا عَم أَحدهمَا أَخ لأم فَالْمَذْهَب تَقْدِيمه
وَسكت المُصَنّف عَمَّا إِذا لم يكن للْمُعْتق عصبَة وَحكمه أَن التَّرِكَة لمعتق الْمُعْتق ثمَّ لعصبته على التَّرْتِيب الْمُعْتَبر فِي عصبات الْمُعْتق ثمَّ لمعتق مُعتق الْمُعْتق وَهَكَذَا كَمَا فِي الرَّوْضَة فَإِن فقدوا فمعتق الْأَب ثمَّ عصبته ثمَّ مُعتق الْجد ثمَّ عصبته وَهَكَذَا فَإِن لم يكن وَارِث انْتقل المَال لبيت المَال إِرْثا للْمُسلمين إِذا انتظم أَمر بَيت المَال أما إِذا لم يَنْتَظِم لكَون الإِمَام غير عَادل فَإِنَّهُ يرد على أهل الْفُرُوض غير الزَّوْجَيْنِ لِأَن عِلّة الرَّد الْقَرَابَة وَهِي مفقودة فيهمَا
وَنقل ابْن سُرَيج فِيهِ الْإِجْمَاع هَذَا إِذا لم يَكُونَا من ذَوي الْأَرْحَام فَلَو كَانَ مَعَ الزَّوْجِيَّة رحم رد عَلَيْهَا كَبِنْت الْخَالَة وَبنت الْعم لَكِن الصّرْف إِلَيْهِم من جِهَة الرَّحِم لَا من جِهَة الزَّوْجِيَّة وَإِنَّمَا يرد مَا فضل عَن فروضهم بِالنِّسْبَةِ لسهام من يرد عَلَيْهِ طلبا للعدل فيهم فَفِي بنت وَأم يبْقى بعد إِخْرَاج فرضهما سَهْمَان من سِتَّة للْأُم ربعهما نصف سهم وللبنت ثَلَاثَة أرباعهما فَتَصِح الْمَسْأَلَة من اثْنَي عشر وَترجع بالاختصار إِلَى أَرْبَعَة للْبِنْت ثَلَاثَة وَللْأُمّ وَاحِد
وَذكرت أَشْيَاء من ذَلِك مِمَّا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمُخْتَصر فِي شرح التَّنْبِيه وَغَيره
القَوْل فِي الْإِرْث بِالْفَرْضِ وَبَيَان الْفُرُوض ثمَّ شرع فِي بَيَان الْفُرُوض وأصحابها وهم كل من لَهُ سهم مُقَدّر شرعا لَا يزِيد وَلَا ينقص وَقدر مَا يسْتَحقّهُ كل مِنْهُم بقوله (والفروض) جمع فرض بِمَعْنى نصيب أَي الْأَنْصِبَاء (الْمَذْكُورَة) أَي الْمقدرَة أَي المحصورة للْوَرَثَة بِأَن لَا يُزَاد عَلَيْهَا وَلَا ينقص عَنْهَا إِلَّا لعَارض كعول فينقص أَو رد فيزاد (فِي كتاب الله تَعَالَى) للْوَرَثَة وَخبر الْفُرُوض (سِتَّة) بعول وبدونه ويعبر عَنْهَا بعبارات أوضحها (النّصْف وَالرّبع وَالثمن وَالثُّلُثَانِ وَالثلث وَالسُّدُس) وأخصرها الرّبع وَالثلث والضعف كل وَنصفه وَإِن شِئْت قلت النّصْف وَنصفه وَنصف نصفه وَالثُّلُثَانِ ونصفهما وَنصف نصفهما وَإِن شِئْت قلت النّصْف وَنصفه وربعه والسدسان ونصفهما وربعهما
وَخرج بقوله فِي كتاب الله تَعَالَى السُّدس الَّذِي للجدة ولبنت الابْن إِلَّا أَن يُقَال السُّدس مَذْكُور فِي كتاب الله تَعَالَى لَا مَعَ كَون من يسْتَحقّهُ إِمَّا جدة أَو بنت ابْن والسبع وَالتسع فِي مسَائِل الْعَوْل إِلَّا أَن يُقَال الأول سدس عائل وَالثَّانِي ثمن عائل وَثلث مَا يبْقى فِي الغراوين كَزَوج وأبوين وَزَوْجَة وأبوين وَفِي مسَائِل الْجد حَيْثُ مَعَه ذُو فرض كَأُمّ وجد وَخَمْسَة إخْوَة فَإِنَّهُ من قبيل الِاجْتِهَاد
القَوْل فِي أَصْحَاب النّصْف (ف) الْفَرْض الأول (النّصْف) بَدَأَ المُصَنّف بِهِ كَغَيْرِهِ لكَونه أكبر كسر مُفْرد
قَالَ السُّبْكِيّ وَكنت أود أَن لَو بدأوا بالثلثين لِأَن الله تَعَالَى بَدَأَ بهما حَتَّى رَأَيْت أَبَا النَّجَاء وَالْحُسَيْن بن عبد الْوَاحِد الوني بدآ بهما فَأَعْجَبَنِي ذَلِك وَهُوَ (فرض خَمْسَة) أَحدهَا (الْبِنْت) إِذا انْفَرَدت عَن جنس الْبُنُوَّة وَالإِخْوَة لقَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف}
(و) ثَانِيهَا (بنت الابْن) وَإِن سفل بِالْإِجْمَاع (إِذا انْفَرَدت) عَن تعصيب وتنقيص فَخرج بِالتَّعْصِيبِ مَا إِذا كَانَ مَعهَا أَخ فِي درجتها فَإِنَّهُ يعصبها وَيكون لَهَا نصف مَا حصل لَهُ وبالتنقيص مَا إِذا كَانَ مَعهَا بنت صلب فَإِن لَهَا مَعهَا السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ
وَلَو عبر بالشقيقة لَكَانَ أخصر
(و) رَابِعهَا (الْأُخْت من الْأَب) إِذا انْفَرَدت عَن جنس الْبُنُوَّة وَالإِخْوَة لقَوْله تَعَالَى {وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك} قَالَ ابْن الرّفْعَة وَأَجْمعُوا على أَن(2/387)
(و) ثَالِثهَا (الْأُخْت من الْأَب وَالأُم) إِذا انْفَرَدت عَن جنس الْبُنُوَّة وَالإِخْوَة المُرَاد بهَا الْأُخْت الشَّقِيقَة وَالْأُخْت من الْأَب وَخرج بِقَيْد الِانْفِرَاد عَمَّن ذكر فِي الْأَرْبَعَة الزَّوْج فَإِن لكل وَاحِدَة مَعَ وجوده النّصْف أَيْضا
(و) خَامِسهَا (الزَّوْج إِذا لم يكن لَهَا) أَي لزوجته (ولد) مِنْهُ أَو من غَيره وَيصدق الْوَلَد بِالذكر وَالْأُنْثَى (وَلَا ولد ابْن) لَهَا وَإِن سفل مِنْهُ أَو من غَيره أما مَعَ عدم الْوَلَد فَلقَوْله تَعَالَى {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم إِن لم يكن لَهُنَّ ولد} وانعقد الْإِجْمَاع على أَن ولد الابْن كَوَلَد الصلب فِي حجب الزَّوْج من النّصْف إِلَى الرّبع إِمَّا لصدق اسْم الْوَلَد عَلَيْهِ مجَازًا وَإِمَّا قِيَاسا على الْإِرْث والتعصيب فَإِنَّهُ فيهمَا كَوَلَد الصلب إِجْمَاعًا
القَوْل فِي أَصْحَاب الرّبع (و) الْفَرْض الثَّانِي (الرّبع وَهُوَ فرض اثْنَيْنِ) فرض (الزَّوْج مَعَ الْوَلَد) لزوجته مِنْهُ أَو من غَيره (أَو) مَعَ (ولد الابْن) لَهَا وَإِن سفل مِنْهُ أَو من غَيره أما مَعَ الْوَلَد فَلقَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لَهُنَّ ولد فلكم الرّبع} وَأما مَعَ ولد الابْن فَلَمَّا مر
وَخرج بِقَيْد الابْن هُنَا وَفِيمَا قبله ولد الْبِنْت فَإِنَّهُ لَا يَرث وَلَا يحجب (وَهُوَ) أَي الرّبع (للزَّوْجَة) الْوَاحِدَة (و) لكل (الزَّوْجَات) بِالسَّوِيَّةِ (مَعَ عدم الْوَلَد) للزَّوْج (أَو) عدم (ولد الابْن) لَهُ وَإِن سفل أما مَعَ عدم الْوَلَد فَلقَوْله تَعَالَى {ولهن الرّبع مِمَّا تركْتُم إِن لم يكن لكم ولد} وَأما مَعَ عدم ولد الابْن فبالإجماع واستفيد من تَعْبِيره بالزوجات بعد الْوَاحِدَة أَن مَا فَوق الْوَاحِدَة إِلَى انْتِهَاء الْأَرْبَع فِي اسْتِحْقَاق الرّبع كالواحدة وَهُوَ إِجْمَاع كَمَا قَالَه ابْن الْمُنْذر
تَنْبِيه قد تَرث الْأُم الرّبع فرضا فِيمَا إِذا ترك زَوْجَة وأبوين فللزوجة الرّبع وَللْأُمّ ثلث مَا بَقِي وَاحِد وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة ربع وَلَكنهُمْ تأدبوا مَعَ لفظ الْقُرْآن الْعَظِيم
القَوْل فِي أَصْحَاب الثّمن (و) الْفَرْض الثَّالِث (الثّمن) وَهُوَ (فرض الزَّوْجَة) الْوَاحِدَة (و) كل (الزَّوْجَات) بالتسوية (مَعَ الْوَلَد) للزَّوْج مِنْهَا أَو من غَيرهَا (أَو) مَعَ (ولد الابْن) لَهُ وَإِن سفل أما مَعَ الْوَلَد فَلقَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ لكم ولد فَلَهُنَّ الثّمن} وَأما مَعَ ولد الابْن فَلَمَّا تقدم
من الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس على ولد الصلب وَيُسْتَفَاد من تَعْبِيره هُنَا بالزوجات بعد الْوَاحِدَة مَا اسْتُفِيدَ فِيمَا قبله
القَوْل فِي أَصْحَاب الثُّلثَيْنِ (و) الْفَرْض الرَّابِع (الثُّلُثَانِ) وَهُوَ قَوْله (فرض أَرْبَعَة البنتين) فَأكْثر أما فِي البنتين فبالإجماع الْمُسْتَند لما صَحَّ الْحَاكِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى بِنْتي سعد بن الرّبيع الثُّلثَيْنِ وَإِلَى الْقيَاس على الْأُخْتَيْنِ وَمِمَّا احْتج بِهِ أَيْضا أَن الله تَعَالَى قَالَ {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} وَهُوَ لَو كَانَ مَعَ وَاحِدَة كَانَ حظها الثُّلُث فَأولى وَأَحْرَى أَن يجب لَهَا ذَلِك مَعَ أُخْتهَا وَأما فِي الْأَكْثَر من ثِنْتَيْنِ فلعموم قَوْله تَعَالَى {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} وَفرض (بَنَات الابْن) وَإِن سفل وَلَو عبر ببنتي الابْن فَأكْثر كَانَ أولى ليدْخل بِنْتا الابْن وَالْألف وَاللَّام فِي الابْن للْجِنْس حَتَّى لَو كن من أَبنَاء كَانَ الحكم كَذَلِك وَهَذَا إِذا لم يكن مَعَهُنَّ بنت صلب فَإِن كَانَ فَسَيَأْتِي حكمه
(و) فرض (الْأُخْتَيْنِ) فَأكْثر (من الْأَب وَالأُم) أما فِي الْأُخْتَيْنِ فَلقَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك} وَأما فِي الْأَكْثَر فلعموم قَوْله تَعَالَى {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} وفللآية الْكَرِيمَة الْمُتَقَدّمَة فَإِن المُرَاد بهما الصنفان كَمَا حكى ابْن الرّفْعَة فِيهِ الْإِجْمَاع وَأما فِي الْأَكْثَر فلعموم قَوْله تَعَالَى {فَإِن كن نسَاء فَوق}(2/388)
فرض (الْأُخْتَيْنِ) فَأكْثر (من الْأَب) عِنْد فقد الشقيقتين أما فِي الْأُخْتَيْنِ اثْنَتَيْنِ كَمَا تقدم
تَنْبِيه ضَابِط من يَرث الثُّلثَيْنِ من تعدد من الْإِنَاث مِمَّن فَرْضه النّصْف عِنْد انفرادهن عَمَّن يعصبهن أَو يحجبهن
القَوْل فِي أَصْحَاب الثُّلُث (و) الْفَرْض الْخَامِس (الثُّلُث) وَهُوَ (فرض اثْنَيْنِ) فرض (الْأُم إِذا لم تحجب) حجب نُقْصَان بِأَن لم يكن لميتها ولد وَلَا ولد ابْن وَارِث وَلَا اثْنَان من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات للْمَيت سَوَاء أكانوا أشقاء أم لَا ذُكُورا أم لَا محجوبين بغَيْرهَا كأخوين لأم من جد أم لَا لقَوْله تَعَالَى {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} وَولد الابْن مُلْحق بِالْوَلَدِ وَالْمرَاد بالإخوة اثْنَان فَأكْثر إِجْمَاعًا قبل إِظْهَار ابْن عَبَّاس الْخلاف
وَيشْتَرط أَيْضا أَن لَا يكون مَعَ الْأُم أَب وَأحد الزَّوْجَيْنِ فَقَط فَإِن كَانَ مَعهَا ذَلِك ففرضها ثلث الْبَاقِي كَمَا مر
(وَهُوَ) أَي الثُّلُث (للاثنين فَصَاعِدا) بِالنّصب على الْحَال وناصبه وَاجِب الاضمار أَي ذَاهِبًا من فرض عدد الِاثْنَيْنِ إِلَى الصعُود على الِاثْنَيْنِ وَلَا يجوز فِيهِ غير النصب وَإِنَّمَا يسْتَعْمل بِالْفَاءِ وَثمّ لَا بِالْوَاو كَمَا فِي الْمُحكم أَي فزائدا (من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات من الْأُم) يَسْتَوِي فِيهِ الذّكر وَغَيره لقَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة وَله أَخ أَو أُخْت} الْآيَة
وَالْمرَاد أَوْلَاد الْأُم بِدَلِيل قِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَغَيره وَله أَخ أَو أُخْت من أم وَهِي وَإِن لم تتواتر لَكِنَّهَا كالخبر فِي الْعَمَل على الصَّحِيح لِأَن مثل ذَلِك إِنَّمَا يكون توقيفا
وَإِنَّمَا سوى بَين الذّكر وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَا تعصيب فِيمَن أدلوا بِهِ بِخِلَاف الأشقاء ولأب فَإِن فيهم تعصيبا فَكَانَ للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ كالبنين وَالْبَنَات ذكره ابْن أبي هُرَيْرَة فِي تَعْلِيقه وَقد يفْرض الثُّلُث للْجدّ مَعَ الْإِخْوَة فِيمَا إِذا نقص عَنهُ بالمقاسمة كَمَا لَو كَانَ مَعَه ثَلَاثَة إخْوَة فَأكْثر وَبِهَذَا يكون فرض الثُّلُث لثَلَاثَة وَإِن لم يكن الثَّالِث فِي كتاب الله تَعَالَى كَمَا مر
القَوْل فِي أَصْحَاب السُّدس (و) الْفَرْض السَّادِس (السُّدس) وَهُوَ (فرض سَبْعَة) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة (للْأُم مَعَ الْوَلَد) ذكرا كَانَ أَو غَيره لقَوْله تَعَالَى {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد} أَو مَعَ (ولد الابْن) وَإِن سفل للْإِجْمَاع على حجبها بِهِ من الثُّلُث إِلَى السُّدس وَلم يعتبروا مُخَالفَة مُجَاهِد فِي ذَلِك (أَو) مَعَ (اثْنَيْنِ فَصَاعِدا) أَي فَأكْثر (من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات) لما مر فِي الْآيَتَيْنِ
تَنْبِيه قَوْله (اثْنَيْنِ) قد يَشْمَل مَا لَو ولدت امْرَأَة وَلدين ملتصقين لَهما رأسان وَأَرْبع أرجل وَأَرْبع أيد وفرجان وَلَهُمَا ابْن آخر ثمَّ مَاتَ هَذَا الابْن وَترك أمه وهذين فَيصْرف لَهَا السُّدس وَهُوَ كَذَلِك لِأَن حكمهمَا حكم الِاثْنَيْنِ فِي سَائِر الْأَحْكَام من قصاص ودية وَغَيرهمَا
وتعطى أَيْضا السُّدس مَعَ الشَّك فِي وجود أَخَوَيْنِ كَأَن وطىء اثْنَان امْرَأَة بِشُبْهَة وَأَتَتْ بِولد واشتبه الْحَال ثمَّ مَاتَ الْوَلَد قبل(2/389)
لُحُوقه بِأَحَدِهِمَا ولأحدهما دون الآخر ولدان فللأم من مَال الْوَلَد السُّدس فِي الْأَصَح أَو الصَّحِيح كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي الْعدَد
وَإِذا اجْتمع مَعَ الْأُم الْوَلَد أَو ولد الابْن وَاثْنَانِ من الْإِخْوَة فَالَّذِي ردهَا من الثُّلُث إِلَى السُّدس الْوَلَد لقُوته كَمَا بَحثه ابْن الرّفْعَة
وَقد يفْرض لَهَا أَيْضا السُّدس مَعَ عدم من ذكر كَمَا إِذا مَاتَت امْرَأَة عَن زوج وأبوين
(وَهُوَ) أَي السُّدس (للجدة) الوارثة لأَب أَو لأم لخَبر أبي دَاوُد وَغَيره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى الْجدّة السُّدس وَالْمرَاد بهَا الْجِنْس لِأَن الجدتين فَأكْثر الوارثات يَشْتَرِكَانِ أَو يشتركن فِي السُّدس وروى الْحَاكِم بِسَنَد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِهِ للجدتين ثمَّ إِن كَانَت الْجدّة لأم فلهَا ذَلِك (عِنْد عدم الْأُم) فَقَط سَوَاء انْفَرَدت أَو كَانَت مَعَ ذَوي فرض أَو عصبَة لِأَنَّهَا لَا يحجبها إِلَّا الْأُم فَقَط إِذْ لَيْسَ بَينهَا وَبَين الْمَيِّت غَيرهَا فَلَا تحجب بِالْأَبِ وَلَا بالجد وَالْجدّة للْأَب يحجبها الْأَب لِأَنَّهَا تدلي بِهِ أَو الْأُم بِالْإِجْمَاع فَإِنَّهَا تسْتَحقّ بالأمومة وَالأُم أقرب مِنْهَا والقربى من كل جِهَة تحجب البعدى مِنْهَا سَوَاء أدلت بهَا كَأُمّ أَب وَأم أم أَب وَأم أم وَأم أم أم أم لم تدل بهَا كَأُمّ أَب وَأم أبي أَب فَلَا تَرث البعدى مَعَ وجود الْقُرْبَى والقربى من جِهَة الْأُم كَأُمّ أم تحجب البعدي من جِهَة الْأَب كَأُمّ أم أَب والقربى من جِهَة الْأَب كَأُمّ أَب لَا تحجب البعدى من جِهَة الْأُم كَأُمّ أم أم بل يكون السُّدس بَينهمَا نِصْفَيْنِ (و) السُّدس أَيْضا (لبِنْت الابْن) فَأكْثر (مَعَ بنت الصلب) أَو مَعَ بنت ابْن أقرب مِنْهَا تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ لقضائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي بنت الابْن مَعَ الْبِنْت رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود
وَقيس عَلَيْهِ الْبَاقِي وَلِأَن الْبَنَات لَيْسَ لَهُنَّ أَكثر من الثُّلثَيْنِ فالبنت وَبَنَات الابْن أولى بذلك
تَنْبِيه اسْتُفِيدَ من إِفْرَاد المُصَنّف كَغَيْرِهِ بنت الصلب أَنه لَو كَانَ مَعَ بَنَات الابْن بِنْتا صلب فَأكْثر أَنه لَا شَيْء لبنات الابْن وَهُوَ كَذَلِك بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَن بنت الابْن فَأكْثر إِنَّمَا تَأْخُذ أَو يَأْخُذن تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَهُوَ السُّدس وَلِهَذَا سمي تَكْمِلَة كَمَا مر
(وَهُوَ) أَي السُّدس (للْأُخْت) فَأكْثر (من الْأَب مَعَ الْأُخْت) الْوَاحِدَة (من الْأَب وَالأُم) تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ كَمَا فِي الْبِنْت وَبَنَات الابْن (وَهُوَ) أَي السُّدس (فرض الْأَب مَعَ الْوَلَد) ذكرا كَانَ أَو غَيره (أَو) مَعَ (ولد الابْن) وَإِن سفل (و) هُوَ أَيْضا (فرض الْجد) للْأَب (عِنْد عدم الْأَب) لقَوْله تَعَالَى {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس} الْآيَة وَولد الابْن كَالْوَلَدِ كَمَا مر وَالْجد كَالْأَبِ (وَهُوَ) أَيْضا (للْوَاحِد من ولد الْأُم) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى أَو خُنْثَى لقَوْله تَعَالَى {وَله أَخ أَو أُخْت} الْآيَة
تَتِمَّة أَصْحَاب الْفُرُوض ثَلَاثَة عشر أَرْبَعَة من الذُّكُور الزَّوْج وَالْأَخ للْأُم وَالْأَب وَالْجد وَقد يَرث الْأَب وَالْجد بِالتَّعْصِيبِ فَقَط وَقد يجمعان بَينهمَا وَتِسْعَة من الْإِنَاث الْأُم والجدتان وَالزَّوْجَة وَالْأُخْت للْأُم
وَذَوَات النّصْف الْأَرْبَع
حجب الحرمان بالشخص
ثمَّ شرع فِي حجب الحرمان بقوله (وَتسقط الْجدَّات) سَوَاء أكن للْأُم أَو للْأَب (بِالْأُمِّ) إِجْمَاعًا لِأَن الْجدّة إِنَّمَا تسْتَحقّ بالأمومة وَالأُم أقرب مِنْهَا كَمَا مر (و) يسْقط (الأجداد) المدلون إِلَى الْمَيِّت بمحض الذُّكُور (بِالْأَبِ) وَبِكُل جد هُوَ إِلَى الْمَيِّت(2/390)
أقرب مِنْهُم بِالْإِجْمَاع (وَيسْقط ولد الْأُم) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى (مَعَ) وجود (أَرْبَعَة) أَي بِوَاحِد مِنْهَا (الْوَلَد) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى (وَولد الابْن) وَإِن سفل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى (وَالْأَب وَالْجد) بِالْإِجْمَاع وَالْآيَة الْكَلَالَة المفسرة بِمن لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد
وَأما الْأُم فَلَا تحجبهم وَإِن أدلوا بهَا لِأَن شَرط حجب المدلي بالمدلى بِهِ أما اتِّحَاد جهتهما كالجد مَعَ الْأَب وَالْجدّة مَعَ الْأُم أَو اسْتِحْقَاق المدلى بِهِ كل التَّرِكَة لَو انْفَرد كالأخ مَعَ الْأَب وَالأُم مَعَ وَلَدهَا لَيست كَذَلِك لِأَنَّهَا تَأْخُذ بالأمومة وَهُوَ بالأخوة وَلَا تسْتَحقّ جَمِيع التَّرِكَة إِذا انْفَرَدت (وَيسْقط ولد الْأَب وَالأُم) أَي الْأَخ الشَّقِيق وَلَو عبر بِهِ لَكَانَ أخصر (مَعَ ثَلَاثَة) أَي بِوَاحِد مِنْهَا (الابْن وَابْن الابْن) وَإِن سفل (وَالْأَب) بِالْإِجْمَاع فِي الثَّلَاثَة (وَيسْقط ولد الْأَب) أَي الْأَخ للْأَب فَقَط مَعَ أَرْبَعَة (بهؤلاء الثَّلَاثَة وبالأخ من الْأَب وَالأُم) لقُوته بِزِيَادَة الْقرب
فَإِن قيل يرد على ذَلِك أَنه يحجب أَيْضا ببنت وَأُخْت شَقِيقَة
أُجِيب بِأَن كَلَامه فِيمَن يحجب بمفرده وكل من الْبِنْت وَالْأُخْت لَا تحجب الْأَخ بمفردها بل مَعَ غَيرهَا وَالَّذِي يحجب ابْن الْأَخ لِأَبَوَيْنِ سِتَّة أَب لِأَنَّهُ يحجب أَبَاهُ فَهُوَ أولى وجد لِأَنَّهُ فِي دَرَجَة أَبِيه وَابْن وَابْنَة لِأَنَّهُمَا يحجبان أَبَاهُ فَهُوَ أولى وَالْأَخ لِأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ إِن كَانَ أَبَاهُ فَهُوَ يُدْلِي بِهِ وَإِن كَانَ عَمه فَهُوَ أقرب مِنْهُ وَالْأَخ لأَب لِأَنَّهُ أقرب مِنْهُ
وَابْن الْأَخ لأَب يَحْجُبهُ سَبْعَة هَؤُلَاءِ السِّتَّة لما سبق وَابْن الْأَخ لِأَبَوَيْنِ لقُوته
وَالْعم لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبهُ ثَمَانِيَة
هَؤُلَاءِ السَّبْعَة لما سبق وَابْن الْأَخ لأَب لقرب دَرَجَته
وَالْعم لأَب يَحْجُبهُ تِسْعَة هَؤُلَاءِ الثَّمَانِية لما مر وَعم لِأَبَوَيْنِ لقُوته وَابْن عَم لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبهُ عشرَة هَؤُلَاءِ التِّسْعَة لما مر وَعم لأَب لِأَنَّهُ فِي دَرَجَة أَبِيه فَيقدم عَلَيْهِ لزِيَادَة قربه
وَابْن عَم لأَب يَحْجُبهُ أحد عشر هَؤُلَاءِ الْعشْرَة لما سلف وَابْن عَم لِأَبَوَيْنِ لقُوته
وَالْمُعتق يَحْجُبهُ عصبَة النّسَب بِالْإِجْمَاع لِأَن النّسَب أقوى من الْوَلَاء إِذْ يتَعَلَّق بِهِ أَحْكَام لَا تتَعَلَّق بِالْوَلَاءِ كالمحرمية وَوُجُوب النَّفَقَة وَسُقُوط الْقصاص وَعدم صِحَة الشَّهَادَة وَنَحْوهَا
وَسكت المُصَنّف عَن ذَلِك اختصارا
(وَأَرْبَعَة يعصبون أخواتهم) مَنْصُوب بالكسرة لكَونه جمع مؤنت سَالم الأول (الابْن) لقَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} فنص سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أَوْلَاد الصلب
(و) الثَّانِي (ابْن الابْن) وَإِن سفل لِأَنَّهُ لما قَامَ مقَام أَبِيه فِي الْإِرْث قَامَ مقَامه فِي التَّعْصِيب
(و) الثَّالِث (الْأَخ من الْأَب وَالأُم و) الرَّابِع (الْأَخ من الْأَب) فَقَط لقَوْله تَعَالَى {وَإِن كَانُوا إخْوَة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ}
القَوْل فِيمَن يَرث دون أُخْته (وَأَرْبَعَة) لَا يعصبون أخواتهم بل (يَرِثُونَ دون أخواتهم) فَلَا يرثن (وهم الْأَعْمَام) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب (وَبَنُو الْأَعْمَام) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب (وَبَنُو الْإِخْوَة) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب لِأَن العمات وَبَنَات الْأَعْمَام وَبَنَات الْإِخْوَة من ذَوي الْأَرْحَام كم مر بيانهم أول الْكتاب(2/391)
(وعصبات الْمولى الْمُعْتق) الَّذين يتعصبون بِأَنْفسِهِم لانجرار الْوَلَاء إِلَيْهِم كَمَا مر بَيَانه فيرثون عَتيق مُورثهم بِالْوَلَاءِ دون أخواتهم لِأَن الْإِنَاث إِذا لم يرثن فِي النّسَب الْبعيد فَلَا يرثن فِي الْوَلَاء الَّذِي هُوَ أَضْعَف من النّسَب الْبعيد أولى
وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورث بنت حَمْزَة من عَتيق أَبِيهَا قَالَ السُّبْكِيّ إِنَّه حَدِيث مُضْطَرب لَا تقوم بِهِ الْحجَّة وَالَّذِي صَححهُ النَّسَائِيّ أَنه كَانَ عتيقها وَكَذَا حكى تصويب ذَلِك عَن النَّسَائِيّ ابْن الملقن فِي أَدِلَّة التَّنْبِيه
تَنْبِيه الابْن الْمُنْفَرد يسْتَغْرق التَّرِكَة وَكَذَا الابنان والبنون إِجْمَاعًا وَلَو اجْتمع بنُون وَبَنَات فالتركة لَهُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَوْلَاد الابْن وَإِن نزل إِذا انفردوا كأولاد الصلب فِيمَا ذكر فَلَو اجْتمع أَوْلَاد الصلب وَأَوْلَاد الابْن فَإِن كَانَ من أَوْلَاد الصلب ذكر حجب أَوْلَاد الابْن بِالْإِجْمَاع فَإِن لم يكن فَإِن كَانَ للصلب بنت فلهَا النّصْف وَالْبَاقِي لأَوْلَاد الابْن الذُّكُور والإنث وَلَا شَيْء للإناث الخلص فِي أَوْلَاد الابْن مَعَ بِنْتي الصلب أَو فَصَاعِدا أخذتا أَو أخذن الثُّلثَيْنِ وَالْبَاقِي لأَوْلَاد الابْن الذُّكُور أَو الذُّكُور وَالْإِنَاث وَلَا شَيْء للإناث الخلص من أَوْلَاد الابْن مَعَ بِنْتي الصلب بِالْإِجْمَاع إِلَّا أَن يكون أَسْفَل مِنْهُنَّ ذكر فيعصبهن فِي الْبَاقِي وَأَوْلَاد ابْن الابْن مَعَ أَوْلَاد الابْن كأولاد الابْن مَعَ أَوْلَاد الصلب فِي جَمِيع مَا مر وَكَذَا سَائِر الْمنَازل وَإِنَّمَا يعصب الذّكر النَّازِل من أَوْلَاد الابْن من فِي دَرَجَته كأخته وَبنت عَمه ويعصب من فَوْقه كَبِنْت عَم أَبِيه إِن لم يكن لَهَا شَيْء من الثُّلثَيْنِ كبنتي صلب وَبنت ابْن وَابْن ابْن ابْن بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لَهَا شَيْء من الثُّلثَيْنِ لِأَن لَهَا فرضا استغنت بِهِ عَن تعصيبه وَبَاب الْفَرَائِض بَاب وَاسع وَقد أفرد بالتأليف
وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة بِالنِّسْبَةِ لهَذَا الْمُخْتَصر
فصل فِي الْوَصِيَّة الشاملة للإيصاء
وَهِي فِي اللُّغَة الإيصال من وصّى الشَّيْء بِكَذَا وَصله بِهِ لِأَن الْمُوصي وصل خير دُنْيَاهُ بِخَير عقباه
وَشرعا لَا بِمَعْنى الْإِيصَاء تبرع بِحَق مُضَاف وَلَو تَقْديرا لما بعد الْمَوْت لَيْسَ بتدبير وَلَا تَعْلِيق عتق بِصفة وَإِن ألحقا بهَا حكما كالتبرع الْمُنجز فِي مرض الْمَوْت أَو الملحق بِهِ وَكَانَ الْأَنْسَب تَقْدِيم الْوَصِيَّة على الْفَرَائِض لِأَن الْإِنْسَان يُوصي ثمَّ يَمُوت فتقسم تركته
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع من الْمَوَارِيث {من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين} وأخبار كَخَبَر ابْن مَاجَه المحروم من حرم الْوَصِيَّة
من مَاتَ على وَصِيَّة مَاتَ على سَبِيل وَسنة وتقى وَشَهَادَة وَمَات مغفورا لَهُ وَكَانَت أول(2/392)
الْإِسْلَام وَاجِبَة بِكُل المَال للْوَالِدين والأقربين ثمَّ نسخ وُجُوبهَا بِآيَة الْمَوَارِيث وَبَقِي استحبابها فِي الثُّلُث فَأَقل لغير الْوَارِث وَإِن قل المَال وَكثر الْعِيَال
القَوْل فِي أَرْكَان الْوَصِيَّة وأركانها أَرْبَعَة صِيغَة وموصي وموصى لَهُ وموصى بِهِ وَأسْقط المُصَنّف من ذَلِك الصِّيغَة وَذكر الْبَقِيَّة
وَبَدَأَ بالموصي بِهِ بقوله (وَتجوز الْوَصِيَّة) بالشَّيْء (الْمَعْلُوم) وَإِن قل كحبتي الْحِنْطَة وبنجوم الْكِتَابَة وَإِن لم تكن مُسْتَقِرَّة وبالمكاتب وَإِن لم يقل إِن عجز نَفسه وَبِعَبْد غَيره وَإِن لم يقل إِن ملكته
وبنجاسة يحل الِانْتِفَاع بهَا ككلب معلم أَو قَابل التَّعْلِيم وَبِنَحْوِ زبل مِمَّا ينْتَفع بِهِ كسماد وَجلد ميتَة قَابل للدباغ وزيت نجس وميتة لطعم الْجَوَارِح كَمَا نَقله القَاضِي أَبُو الطّيب عَن الْأَصْحَاب وخمر مُحْتَرمَة لثُبُوت الِاخْتِصَاص فِي ذَلِك
وَلَو أوصى بكلب من كلابه أعْطى الْمُوصى لَهُ أَحدهَا فَإِن لم يكن لَهُ كلب يحل الِانْتِفَاع بِهِ لغت وَصيته
وَلَو كَانَ لَهُ مَال وكلاب وَأوصى بهَا كلهَا أَو بِبَعْضِهَا نفذت وَصيته وَإِن كثرت الْكلاب وَقل المَال لِأَن المَال خير من الْكلاب (و) تجوز الْوَصِيَّة بالشَّيْء (الْمَجْهُول) عينه كأوصيت لزيد بِمَالي الْغَائِب أَو عبد من عَبِيدِي أَو قدره كأوصيت لَهُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِم أَو نَوعه كأوصيت لَهُ بِصَاع حِنْطَة أَو جنسه كأوصيت لَهُ بِثَوْب أَو صفته كالحمل الْمَوْجُود وَكَانَ ينْفَصل حَيا لوقت يعلم وجوده عِنْدهَا لِأَن الْوَصِيَّة تحْتَمل الْجَهَالَة وَبِمَا لَا يقدر على تَسْلِيمه كالطير الطَّائِر وَالْعَبْد الْآبِق لِأَن الْمُوصى لَهُ يخلف الْمَيِّت فِي ثلثه كَمَا يخلفه الْوَارِث فِي ثُلثَيْهِ (و) تجوز بالشَّيْء (الْمَوْجُود) كأوصيت لَهُ بِهَذِهِ الْمِائَة لِأَنَّهَا إِذا صحت بالمعدوم فبالموجود أولى (و) تجوز بالشَّيْء (الْمَعْدُوم) كَأَن يُوصي بثمرة أَو حمل سيحدث لِأَن الْوَصِيَّة احْتمل فِيهَا وُجُوه من الْغرَر رفقا بِالنَّاسِ وتوسعة وَلِأَن الْمَعْدُوم يَصح تملكه بِعقد السّلم وَالْمُسَاقَاة وَالْإِجَارَة فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ وَتجوز بالمبهم كَأحد عبديه لِأَن الْوَصِيَّة تحْتَمل الْجَهَالَة فَلَا يُؤثر فِيهَا الْإِبْهَام ويعين الْوَارِث وَتجوز بالمنافع الْمُبَاحَة وَحدهَا مُؤَقَّتَة ومؤبدة ومطلقة وَالْإِطْلَاق يَقْتَضِي التَّأْبِيد لِأَنَّهَا أَمْوَال مُقَابلَة بالأعواض كالأعيان وَتجوز بِالْعينِ دون الْمَنْفَعَة وبالعين لوَاحِد وبالمنفعة لآخر
وَإِنَّمَا صحت فِي الْعين وَحدهَا لشخص مَعَ عدم الْمَنْفَعَة فِيهَا لِإِمْكَان صيرورة الْمَنْفَعَة لَهُ بِإِجَارَة أَو إِبَاحَة أَو نَحْو ذَلِك
تَنْبِيه يشْتَرط فِي الْمُوصى بِهِ كَونه مَقْصُودا كَمَا فِي الرَّوْضَة فَلَا تصح بِمَا لَا يقْصد كَالدَّمِ وَكَونه يقبل النَّقْل من شخص إِلَى شخص فَمَا لَا يقبل النَّقْل كَالْقصاصِ وحد الْقَذْف لَا تصح الْوَصِيَّة بِهِ لِأَنَّهُمَا وَإِن انتقلا بِالْإِرْثِ لَا يتَمَكَّن مستحقهما من أقلهَا
نعم لَو أوصى بِهِ لمن هُوَ عَلَيْهِ صَحَّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَاب الْعَفو عَن الْقصاص
القَوْل فِي مِقْدَار الْوَصِيَّة (وَهِي) أَي الْوَصِيَّة مُعْتَبرَة (من الثُّلُث) سَوَاء أوصى بِهِ فِي صِحَة أَو مَرضه لِاسْتِوَاء الْكل وَقت اللُّزُوم حَال الْمَوْت(2/393)
تَنْبِيه يعْتَبر المَال الْمُوصى بِثُلثِهِ يَوْم الْمَوْت لِأَن الْوَصِيَّة تمْلِيك بعد الْمَوْت فَلَو أوصى بِعَبْد وَلَا عبد لَهُ ثمَّ ملك عِنْد الْمَوْت عبدا تعلّقت الْوَصِيَّة بِهِ وَلَو زَاد مَاله تعلّقت الْوَصِيَّة بِهِ وَلَا يخفى أَن الثُّلُث الَّذِي تنفذ فِيهِ الْوَصِيَّة هُوَ الثُّلُث الْفَاضِل بعد الدّين فَلَو كَانَ عَلَيْهِ دين مُسْتَغْرق لم تنفذ الْوَصِيَّة فِي شَيْء لَكِنَّهَا تَنْعَقِد حَتَّى ينفذها لَو أَبْرَأ الْغَرِيم أَو قضى عَنهُ الدّين كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَغَيره
وَيعْتَبر من الثُّلُث تبرع نجز فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ كوقف وَهبة وَعتق وإبراء لخَبر إِن الله تَعَالَى تصدق عَلَيْكُم عِنْد وفاتكم بِثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة لكم فِي أَعمالكُم رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَفِي إِسْنَاده مقَال
وَلَو وهب فِي الصِّحَّة وأقبض فِي الْمَرَض اعْتبر من الثُّلُث أَيْضا إِذْ لَا أثر لتقدم الْهِبَة
وَخرج بتبرع مَا لَو استولد فِي مرض مَوته فَإِنَّهُ لَيْسَ تَبَرعا بل إِتْلَاف واستمتاع فَهُوَ من رَأس المَال وبمرضه تبرع نجز فِي صِحَّته فيحسب من رَأس المَال لَكِن يسْتَثْنى من الْعتْق فِي مرض الْمَوْت عتق أم الْوَلَد إِذا أعْتقهَا فِي مرض مَوته فَإِنَّهُ ينفذ من رَأس المَال كَمَا سَيَأْتِي فِي مَحَله إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَعَ أَنه تبرع نجز فِي الْمَرَض
فَائِدَة قيمَة مَا يفوت على الْوَرَثَة يعْتَبر بِوَقْت التفويت فِي الْمُنجز وبوقت الْمَوْت فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ وَفِيمَا يبْقى للْوَرَثَة يعْتَبر بِأَقَلّ قيمَة من يَوْم الْمَوْت إِلَى يَوْم الْقَبْض لِأَنَّهُ إِن كَانَ يَوْم الْمَوْت أقل فَالزِّيَادَة حصلت فِي ملك الْوَارِث أَو يَوْم الْقَبْض أقل فَمَا نقص قبله لم يدْخل فِي يَده فَلَا يحْسب عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّة اعْتِبَارهَا من الثُّلُث أَنه إِذا اجْتمع فِي وَصِيَّة تبرعات مُتَعَلقَة بِالْمَوْتِ وَإِن كَانَت مرتبَة وَلم يوف الثُّلُث بهَا فَإِن تمحض الْعتْق كَأَن قَالَ إِذا مت فَأنْتم أَحْرَار أَو غَانِم وَسَالم وَبكر أَحْرَار أَقرع بَينهم فَمن قرع عتق مِنْهُ مَا يَفِي بِالثُّلثِ وَلَا يعْتق من كل بعضه لِأَن الْمَقْصُود من الْعتْق تَخْلِيص الشَّخْص من الرّقّ وَإِنَّمَا لم يعْتَبر ترتيبها مَعَ إضافتها للْمَوْت لاشتراكها فِي وَقت نفاذها وَهُوَ وَقت الْمَوْت
نعم إِن اعْتبر الْمُوصي وُقُوعهَا مرتبَة كَأَن قَالَ أعتقوا سالما بعد موتِي ثمَّ غانما ثمَّ بكرا قدم مَا قدمه لِأَن الْمُوصي اعْتبر وُقُوعهَا مرتبَة من غَيره فَلَا بُد أَن تقع كَذَلِك بِخِلَاف مَا مر أَو تمحض تبرعات غير الْعتْق قسط الثُّلُث على الْجَمِيع بِاعْتِبَار الْقيمَة أَو الْمِقْدَار كَمَا تقسط التَّرِكَة بَين أَرْبَاب الدُّيُون أَو اجْتمع عتق وَغَيره كَأَن أوصى بِعِتْق سَالم ولزيد بِمِائَة قسط الثُّلُث عَلَيْهِمَا بِالْقيمَةِ للعتيق لِاتِّحَاد وَقت الِاسْتِحْقَاق فَإِذا كَانَت قِيمَته مائَة وَالثلث مائَة عتق نصفه ولزيد خَمْسُونَ
نعم لَو دبر عَبده وَقِيمَته مائَة وَأوصى لَهُ بِمِائَة وَثلث مَاله مائَة فَإِنَّهُ يعْتق كُله وَلَا شَيْء للْوَصِيَّة على الْأَصَح أَو اجْتمع تبرعات منجزة قدم الأول مِنْهَا فَالْأول حَتَّى يتم الثُّلُث سَوَاء أَكَانَ فِيهَا عتق أم لَا ويتوقف مَا بَقِي على إجَازَة الْوَارِث فَإِن وجدت هَذِه التَّبَرُّعَات دفْعَة إِمَّا مِنْهُ أَو بوكالة واتحد الْجِنْس فِيهَا كعتق عبيد أَو إِبْرَاء جمع كَقَوْلِه أعتقتكم أَو أبرأتكم أَقرع فِي الْعتْق خَاصَّة(2/394)
حذرا من التشقيص وقسط بِالْقيمَةِ فِي غَيره كَمَا مر
وَإِن كَانَت التَّبَرُّعَات منجزة ومعلقة بِالْمَوْتِ قدم الْمُنجز لِأَنَّهُ يُفِيد الْملك حَالا ولازم لَا يُمكن الرُّجُوع فِيهِ
فروع لَو قَالَ إِن أعتقت غانما فسالم حر فَأعتق غانما فِي مرض مَوته تعين لِلْعِتْقِ إِن خرج وَحده من الثُّلُث وَلَا إقراع وَلَو أوصى بحاضر هُوَ ثلث مَاله وَبَاقِيه غَائِب لم يتسلط موصى لَهُ على شَيْء مِنْهُ حَالا وَلَو أوصى بِالثُّلثِ وَله عين وَدين دفع للْمُوصى لَهُ ثلث الْعين وَكلما نض من الدّين شَيْء دفع لَهُ ثلثه
وَينْدب للْمُوصي أَن لَا يُوصي بِأَكْثَرَ من ثلث مَاله وَالْأولَى أَن ينقص مِنْهُ شَيْئا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ الثُّلُث وَالثلث كثير (فَإِن زَاد) على الثُّلُث وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ مَكْرُوهَة وَهُوَ الْمُعْتَمد كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي وَغَيره وَإِن قَالَ القَاضِي وَغَيره إِنَّهَا مُحرمَة (وقف) الزَّائِد (على إجَازَة الْوَرَثَة) فَتبْطل الْوَصِيَّة بِالزَّائِدِ إِن رده وَارِث خَاص مُطلق التَّصَرُّف لِأَنَّهُ حَقه فَإِن لم يكن وَارِث خَاص بطلت فِي الزَّائِد لِأَن الْحق للْمُسلمين فَلَا مجيز أَو كَانَ وَهُوَ غير مُطلق التَّصَرُّف فَالظَّاهِر كَمَا بَحثه بَعضهم أَنه إِن توقعت أَهْلِيَّته وقف الْأَمر إِلَيْهَا وَإِلَّا بطلت
وَعَلِيهِ يحمل مَا أفتى بِهِ السُّبْكِيّ من الْبطلَان وَإِن أجَازه فإجازته تَنْفِيذ للْوَصِيَّة بِالزَّائِدِ
حكم الْوَصِيَّة للْوَارِث (وَلَا تجوز الْوَصِيَّة) أَي تكره كَرَاهَة تَنْزِيه (لوَارث) خَاص غير جَائِز بزائد على حِصَّته لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَصِيَّة لوَارث رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن (إِلَّا أَن يجيزها بَاقِي الْوَرَثَة) المطلقين التَّصَرُّف لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا وَصِيَّة لوَارث إِلَّا أَن يجيزها بَاقِي الْوَرَثَة رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد
قَالَ الذَّهَبِيّ صَالح وَقِيَاسًا على الْوَصِيَّة لأَجْنَبِيّ بِالزَّائِدِ على الثُّلُث وَخرج بالخاص الْوَارِث للعام كَمَا لَو أوصى لإِنْسَان بِشَيْء ثمَّ انْتقل إِرْثه لبيت المَال فَإِن ذَلِك يصرف إِلَيْهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى إجَازَة الإِمَام وَبِغير حائز مَا لَو أوصى لحائز بِمَالِه كُله فَإِنَّهَا بَاطِلَة على الْأَصَح وبزائد على حِصَّته مَا لَو أوصى لوَارث بِقدر إِرْثه فَإِن فِيهِ تَفْصِيلًا يَأْتِي بَين الْمشَاع والمعين وبالمطلقين التَّصَرُّف مَا لَو كَانَ فيهم صَغِير أَو مَجْنُون أَو مَحْجُور عَلَيْهِ بِسَفَه فَلَا تصح مِنْهُ الْإِجَازَة وَلَا من وليه
تَنْبِيه فِي معنى الْوَصِيَّة للْوَارِث الْوَقْف عَلَيْهِ وإبراؤه من دين عَلَيْهِ أوهبته شَيْئا فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة بَقِيَّة الْوَرَثَة
نعم يسْتَثْنى من الْوَقْف صُورَة وَاحِدَة وَهِي مَا لَو وقف مَا يخرج من الثُّلُث على قدر نصِيبهم كمن لَهُ ابْن وَبنت وَله دَار تخرج من ثلثه فَوقف(2/395)
ثلثيها على الابْن وثلثها على الْبِنْت فَإِنَّهُ ينفذ وَلَا يحْتَاج إِلَى إجَازَة فِي الْأَصَح
فَائِدَة من الْحِيَل فِي الْوَصِيَّة للْوَارِث أَن يَقُول أوصيت لزيد بِأَلف إِن تبرع لوَلَدي بِخَمْسِمِائَة مثلا فَإِذا قبل لزمَه دَفعهَا إِلَيْهِ وَلَا عِبْرَة برد بَقِيَّة الْوَرَثَة وإجازتهم للْوَصِيَّة فِي حَيَاة الْمُوصي إِذْ لَا اسْتِحْقَاق لَهُم قبل مَوته وَالْعبْرَة فِي كَون الْمُوصى لَهُ وَارِثا بِوَقْت الْمَوْت فَلَو أوصى لِأَخِيهِ فَحدث لَهُ ابْن قبل مَوته صحت أَو أوصى لِأَخِيهِ وَله ابْن فَمَاتَ قبل موت الْمُوصي فَهِيَ وَصِيَّة لوَارث وَالْوَصِيَّة لكل وَارِث بِقدر حِصَّته شَائِعا من نصف أَو غَيره لَغْو لِأَنَّهُ يسْتَحقّهُ بِغَيْر وَصِيَّة
وَخرج بِكُل وَارِث مَا لَو أوصى لبَعْضهِم بِقدر حِصَّته شَائِعا كَأَن أوصى لأحد بنيه الثَّلَاثَة بِثلث مَاله فَإِنَّهُ يَصح ويتوقف على الْإِجَازَة فَإِن أُجِيز أَخذه وَقسم الْبَاقِي بَينهم بِالسَّوِيَّةِ
وَالْوَصِيَّة لكل وَارِث بِعَين هِيَ قدر حِصَّته كَأَن أوصى لأحد ابنيه بِعَبْد قِيمَته ألف وَللْآخر بدار قيمتهَا ألف وهما مَا يملكهُ صَحِيحَة كَمَا لَو أوصى بِبيع عين من مَاله لزيد وَلَكِن يفْتَقر إِلَى الْإِجَازَة فِي الْأَصَح لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض بالأعيان ومنافعها
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمُوصي بقوله (وَتَصِح) أَي تجوز (الْوَصِيَّة من كل مَالك) بَالغ (عَاقل) حر مُخْتَار بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهَا تبرع وَلَو كَافِرًا حَرْبِيّا أَو غَيره أَو مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه أَو فلس لصِحَّة عبارتهم واحتياجهم للثَّواب فَلَا تصح من صبي وَمَجْنُون ومغمى عَلَيْهِ ورقيق وَلَو مكَاتبا ومكره كَسَائِر الْعُقُود وَلعدم ملك الرَّقِيق أَو ضعفه والسكران كالمكلف
تَنْبِيه دخل فِي الْكَافِر الْمُرْتَد فَتَصِح وَصيته
نعم إِن مَاتَ أَو قتل كَافِرًا بطلت وَصيته لِأَن ملكه مَوْقُوف على الْأَصَح وَالْمُوصى لَهُ وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث إِمَّا أَن يكون معينا أَو غير معِين
وَقد شرع المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْقسم الأول بقوله (لكل متملك) أَي بِأَن يتَصَوَّر لَهُ الْملك عِنْد موت الْمُوصي وَلَو بمعاقدة وليه فَلَا تصح الْوَصِيَّة لدابة لِأَنَّهَا لَيست أَهلا للْملك
وَقَضِيَّة هَذَا أَنَّهَا لَا تصح لمَيت وَهُوَ كَذَلِك وَقَول الرَّافِعِيّ فِي بَاب التَّيَمُّم إِنَّه لَو أوصى بِمَاء لأولى النَّاس بِهِ وَهُنَاكَ ميت قدم على الْمُتَنَجس أَو الْمُحدث الْحَيّ على الْأَصَح لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة وَصِيَّة لمَيت بل لوَلِيِّه لِأَنَّهُ الَّذِي يتَوَلَّى أمره وَيشْتَرط فِيهِ أَيْضا عدم الْمعْصِيَة وَأَن يكون معينا وَأَن يكون مَوْجُودا فَلَا تصح لكَافِر بِمُسلم لكَونهَا مَعْصِيّة وَلَا لأحد هذَيْن الرجلَيْن للْجَهْل بِهِ
نعم إِن قَالَ أعْطوا هَذَا لأحد هذَيْن صَحَّ كَمَا لَو قَالَ لوَكِيله بِعْهُ لأحد هذَيْن وَلَا لحمل سيحدث
تَنْبِيه يُؤْخَذ من اعْتِبَار تصور الْملك اشْتِرَاط كَون الْمُوصى بِهِ مَمْلُوكا للْمُوصي فتمتنع الْوَصِيَّة بِمَال الْغَيْر وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ فِي الْكِتَابَة
وَقَالَ النَّوَوِيّ قِيَاس الْبَاب الصِّحَّة أَي يصير موصى بِهِ إِذا ملكه قبل مَوته
وَلَو فسر الْوَصِيَّة للدابة بِالصرْفِ فِي عَلفهَا صَحَّ لِأَن عَلفهَا على مَالِكهَا فَهُوَ الْمَقْصُود بِالْوَصِيَّةِ فَيشْتَرط قبُوله وَيتَعَيَّن الصّرْف إِلَى جِهَة الدَّابَّة رِعَايَة لغَرَض الْمُوصي وَلَا يسلم عَلفهَا للْمَالِك بل يصرفهُ الْوَصِيّ فَإِن لم يكن فَالْقَاضِي وَلَو بنائبه وَتَصِح لكَافِر وَلَو حَرْبِيّا مُرْتَدا وَقَاتل بِحَق أَو بِغَيْرِهِ(2/396)
كالصدقة عَلَيْهِمَا وَالْهِبَة لَهما
وَصورتهَا فِي الْقَاتِل أَن يُوصي لرجل فيقتله ولحمل إِن انْفَصل حَيا حَيَاة مُسْتَقِرَّة لدوّنَ سِتَّة أشهر مِنْهَا للْعَمَل بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودا عِنْدهَا أَو لأكْثر مِنْهُ ولأربع سِنِين فَأَقل مِنْهَا وَلم تكن الْمَرْأَة فراشا لزوج أَو سيد فَإِن كَانَت فراشا لَهُ أَو انْفَصل لأكْثر من أَربع سِنِين لم تصح الْوَصِيَّة لاحْتِمَال حُدُوثه مَعهَا أَو بعْدهَا فِي الأولى وَلعدم وجودهَا عِنْدهَا فِي الثَّانِيَة
وَتَصِح لعمارة مَسْجِد ومصالحه ومطلقا وَتحمل عِنْد الْإِطْلَاق عَلَيْهِمَا عملا بِالْعرْفِ فَإِن قَالَ أردْت تَمْلِيكه فَقيل تبطل الْوَصِيَّة
وَبحث الرَّافِعِيّ صِحَّتهَا بِأَن لِلْمَسْجِدِ ملكا وَعَلِيهِ وَقفا قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا هُوَ الأفقه الْأَرْجَح
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الْوَصِيَّة لغير معِين بقوله (و) تجوز الْوَصِيَّة (فِي سَبِيل الله تَعَالَى) لِأَنَّهُ من القربات وَتصرف إِلَى الْغُزَاة من أهل الزَّكَاة لثُبُوت هَذَا الِاسْم لَهُم فِي عرف الشَّرْع وَيشْتَرط فِي الْوَصِيَّة لغير الْمعِين أَن لَا يكون جِهَة مَعْصِيّة كعمارة كَنِيسَة للتعبد فِيهَا وَكِتَابَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وقراءتهما وَكِتَابَة كتب الفلسفة وَسَائِر الْعُلُوم الْمُحرمَة وَمن ذَلِك الْوَصِيَّة لدهن سراج الْكَنِيسَة تَعْظِيمًا لَهَا
أما إِذا قصد انْتِفَاع المقيمين والمجاورين بضوئها فَالْوَصِيَّة جَائِزَة وَإِن خَالف فِي ذَلِك الْأَذْرَعِيّ وَسَوَاء أوصى بِمَا ذكر مُسلم أم كَافِر وَإِذا انْتَفَت الْمعْصِيَة فَلَا فرق بَين أَن تكون قربَة كالفقراء وَبِنَاء الْمَسَاجِد أَو مُبَاحَة لَا يظْهر فِيهَا قربَة كَالْوَصِيَّةِ للأغنياء وَفك أُسَارَى الْكفَّار من الْمُسلمين لِأَن الْقَصْد من الْوَصِيَّة تدارك مَا فَاتَ فِي حَال الْحَيَاة من الْإِحْسَان فَلَا يجوز أَن تكون مَعْصِيّة
تَنْبِيه سكت المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى عَن الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع وَشرط فِيهَا لفظ يشْعر بِالْوَصِيَّةِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان
وَهِي تَنْقَسِم إِلَى صَرِيح كأوصيت لَهُ بِكَذَا أَو أَعْطوهُ لَهُ أَو هُوَ لَهُ أَو وهبته لَهُ بعد موتِي فِي الثَّلَاثَة وَإِلَى كِنَايَة كَقَوْلِه من مَالِي وَمَعْلُوم أَن الْكِنَايَة تفْتَقر إِلَى النِّيَّة وَالْكِتَابَة كِنَايَة فتنعقد بهَا مَعَ النِّيَّة كَالْبيع وَأولى فَلَو اقْتصر على قَوْله هُوَ لَهُ فَقَط فإقرار لَا وَصِيَّة
القَوْل فِي لُزُوم الْوَصِيَّة بِالْمَوْتِ وَتلْزم الْوَصِيَّة بِمَوْت وَلَكِن مَعَ قبُول بعده وَلَو بتراخ فِي موصى لَهُ معِين وَإِن تعدد
وَلَا يشْتَرط الْقبُول فِي غير معِين كالفقراء وَيجوز الِاقْتِصَار على ثَلَاثَة مِنْهُم وَلَا تجب التَّسْوِيَة بَينهم وَإِنَّمَا لم يشْتَرط الْفَوْر فِي الْقبُول لِأَنَّهُ إِنَّمَا يشْتَرط فِي الْعُقُود الَّتِي يشْتَرط فِيهَا ارتباط الْقبُول بِالْإِيجَابِ فَلَا يَصح قبُول وَلَا رد فِي حَيَاة الْمُوصي إِذْ لَا حق لَهُ قبل الْمَوْت فَأشبه إِسْقَاط الشُّفْعَة قبل البيع فَلِمَنْ قبل فِي الْحَيَاة الرَّد بعد الْمَوْت وَبِالْعَكْسِ
وَيصِح الرَّد بَين الْمَوْت وَالْقَبُول لَا بعدهمَا وَبعد الْقَبْض وَأما بعد الْقبُول وَقبل الْقَبْض فَالْأَوْجه عدم الصِّحَّة كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَإِن صحّح فِي تَصْحِيحه الصِّحَّة فَإِن مَاتَ الْمُوصى لَهُ قبل الْمُوصي بطلت الْوَصِيَّة لِأَنَّهَا قبل الْمَوْت غير لَازِمَة فبطلت بِالْمَوْتِ وَإِن مَاتَ بعد الْمُوصي وَقبل الْقبُول وَالرَّدّ خَلفه وَارثه فيهمَا فَإِن كَانَ الْوَارِث بَيت المَال فالقابل وَالرَّدّ هُوَ الإِمَام وَملك الْمُوصى لَهُ الْمعِين للْمُوصى بِهِ الَّذِي لَيْسَ بِإِعْتَاق بعد موت الْمُوصي وَقبل الْقبُول مَوْقُوف إِن قبل بَان أَنه ملكه بِالْمَوْتِ وَإِن رد بَان أَنه للْوَارِث ويتبعه فِي الْوَقْف الْفَوَائِد الْحَاصِلَة من الْمُوصى بِهِ كثمرة وَكسب والمؤنة وَلَو فطْرَة وَيُطَالب الْوَارِث الْمُوصى لَهُ أَو الرَّقِيق الْمُوصى بِهِ أَو الْقَائِم مقامهما من ولي ووصي بالمؤن إِن توقف(2/397)
فِي قبُول ورد كَمَا لَو امْتنع مُطلق إِحْدَى زوجتيه من التَّعْيِين فَإِن لم يقبل أَو لم يرد خَيره الْحَاكِم بَين الْقبُول وَالرَّدّ فَإِن لم يفعل حكم بِالْبُطْلَانِ كالمتحجر إِذا امْتنع من الْإِحْيَاء
أما لَو أوصى بِإِعْتَاق رَقِيق فالملك فِيهِ للْوَارِث إِلَى إِعْتَاقه فالمؤنة عَلَيْهِ
وللموصي رُجُوع فِي وَصيته وَعَن بَعْضهَا بِنَحْوِ نقضتها كأبطلتها وَبِنَحْوِ قَوْله هَذَا لوارثي مُشِيرا إِلَى الْمُوصى بِهِ وَبِنَحْوِ بيع وَرهن وَكِتَابَة لما وصّى بِهِ وَلَو بِلَا قبُول وبوصية بذلك وتوكيل بِهِ وَعرض عَلَيْهِ وخلطه برا معينا وصّى بِهِ وخلطه صبرَة وصّى بِصَاع مِنْهَا بأجود مِنْهَا وطحنه برا وصّى بِهِ وبذر لَهُ وعجنه دَقِيقًا وصّى بِهِ وغزله قطنا وصّى بِهِ ونسجه غزلا وصّى بِهِ وقطعه ثوبا وصّى بِهِ قَمِيصًا وبنائه وغراسه بِأَرْض وصّى بهَا
القَوْل فِي الْإِيصَاء وشروط الْوَصِيّ ثمَّ شرع فِي الْإِيصَاء وَهُوَ إِثْبَات تصرف مُضَاف لما بعد الْمَوْت بقوله (وَتَصِح الْوَصِيَّة) بِمَعْنى الْإِيصَاء فِي التَّصَرُّفَات الْمَالِيَّة الْمُبَاحَة يُقَال أوصيت لفُلَان بِكَذَا وأوصيت إِلَيْهِ ووصيته إِذا جعلته وَصِيّا
وَقد أوصى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فَكتب وصيتي إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى الزبير وَابْنه عبد الله
وأركان الْإِيصَاء أَرْبَعَة موص ووصي وموصي فِيهِ وَصِيغَة
وَشرط فِي الْمُوصي بِقَضَاء حق كَدين وتنفيذ وَصِيَّة ورد وَدِيعَة وعارية مَا مر فِي الْمُوصى بِمَال وَقد مر بَيَانه
وَشرط فِي الْمُوصي بِنَحْوِ أَمر طِفْل كمجنون ومحجور بِسَفَه مَعَ مَا مر ولَايَة عَلَيْهِ ابْتِدَاء من الشَّرْع بتفويض فَلَا يَصح الْإِيصَاء مِمَّن فقد شَيْئا من ذَلِك كصبي وَمَجْنُون ومكره وَمن بِهِ رق وَأم وَعم ووصي لم يُؤذن لَهُ فِيهِ وَيصِح الْإِيصَاء (إِلَى من اجْتمعت فِيهِ خمس شَرَائِط) عِنْد الْمَوْت وَترك سادسا وسابعا كَمَا ستعرفه الأول (الْإِسْلَام) فِي مُسلم
(و) الثَّانِي (الْبلُوغ و) الثَّالِث (الْعقل و) الرَّابِع (الْحُرِّيَّة و) الْخَامِس (الْأَمَانَة) وَعبر بَعضهم عَنْهَا بِالْعَدَالَةِ وَلَو ظَاهِرَة وَكِلَاهُمَا صَحِيح
السَّادِس الاهتداء إِلَى التَّصَرُّف كَمَا هُوَ الصَّحِيح فِي الرَّوْضَة
وَالسَّابِع عدم عَدَاوَة مِنْهُ للْمولى عَلَيْهِ وَعدم جَهَالَة فَلَا يَصح الْإِيصَاء إِلَى من فقد شَيْئا من ذَلِك كصبي وَمَجْنُون وفاسق ومجهول وَمن بِهِ رق أَو عَدَاوَة وَكَافِر على مُسلم وَمن لَا يَكْفِي فِي التَّصَرُّف لسفه أَو هرم أَو لغيره لعدم الْأَهْلِيَّة فِي بَعضهم وللتهمة فِي الْبَاقِي
وَيصِح الْإِيصَاء إِلَى كَافِر مَعْصُوم عدل فِي دينه على كَافِر
واعتبرت الشُّرُوط عِنْد الْمَوْت لَا عِنْد الْإِيصَاء وَلَا بَينهمَا لِأَنَّهُ وَقت التسلط على الْقبُول حَتَّى لَو أوصى لمن خلا عَن الشُّرُوط أَو بعضهما كصبي ورقيق ثمَّ استكملها عِنْد الْمَوْت صَحَّ
وَلَا يضر عمى لِأَن الْأَعْمَى مُتَمَكن من التَّوْكِيل فِيمَا لَا يتَمَكَّن مِنْهُ
وَلَا أنوثة لما فِي سنَن أبي دَاوُد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أوصى إِلَى حَفْصَة وَالأُم أولى من غَيرهَا إِذا حصلت الشُّرُوط فِيهَا عِنْد الْمَوْت وينعزل ولي بفسق لَا إِمَام لتَعلق الْمصَالح الْكُلية بولايته
وَشرط فِي الْمُوصى فِيهِ كَونه تَصرفا ماليا مُبَاحا فَلَا يَصح الْإِيصَاء فِي تَزْوِيج لِأَن غير الْأَب وَالْجد لَا يُزَوّج الصَّغِير وَالصَّغِيرَة وَلَا فِي مَعْصِيّة كبناء كَنِيسَة لمنافاتها لَهُ لكَونه قربَة
وَشرط فِي الصِّيغَة إِيجَاب بِلَفْظ يشْعر بالإيصاء وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان كأوصيت إِلَيْك أَو فوضت إِلَيْك أَو جعلتك وَصِيّا وَلَو كَانَ الْإِيجَاب مؤقتا ومعلقا كأوصيت إِلَيْك إِلَى بُلُوغ ابْني أَو قدوم زيد فَإِذا بلغ أَو قدم فَهُوَ الْوَصِيّ لِأَنَّهُ يحْتَمل الجهالات والأخطار وَقبُول كوكالة فيكتفي بِالْعَمَلِ وَيكون الْقبُول بعد الْمَوْت مَتى شَاءَ كَمَا فِي الْوَصِيَّة بِمَال مَعَ بَيَان مَا يُوصي فِيهِ فَلَو اقْتصر على أوصيت إِلَيْك مثلا لَغَا(2/398)
تَتِمَّة يسن إيصاء بِأَمْر نَحْو طِفْل كمجنون وبقضاء حق إِن لم يعجز عَنهُ حَالا أَو عجز وَبِه شُهُود وَلَا يَصح الْإِيصَاء على نَحْو طِفْل وَالْجد بِصفة الْولَايَة عَلَيْهِ لِأَن ولَايَته ثَابِتَة شرعا وَلَو أوصى اثْنَيْنِ وقبلا لم ينْفَرد أَحدهمَا بِالتَّصَرُّفِ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَهُ بالانفراد عملا بِالْإِذْنِ
نعم لَهُ الِانْفِرَاد برد الْحُقُوق وتنفيذ وَصِيَّة مُعينَة وَقَضَاء دين فِي التَّرِكَة جنسه وَإِن لم يَأْذَن لَهُ
وَلكُل من الْمُوصي وَالْوَصِيّ رُجُوع عَن الْإِيصَاء مَتى شَاءَ لِأَنَّهُ عقد جَائِز إِلَّا أَن يتَعَيَّن الْوَصِيّ أَو يغلب على ظَنّه تلف المَال باستيلاء ظَالِم من قَاض أَو غَيره فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع وَصدق بِيَمِينِهِ ولي وَصِيّا كَانَ أَو قيمًا أَو غَيره فِي إِنْفَاق على موليه لَائِق بِالْحَال لَا فِي دفع المَال إِلَيْهِ بعد كَمَاله فَلَا يصدق بل الْمُصدق موليه إِذْ لَا يعسر إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ بِخِلَاف الْإِنْفَاق
وَلَو قَالَ أوصيت إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى زيد حمل ذكر الله على التَّبَرُّك وَلَو خَافَ الْوَصِيّ على المَال من اسْتِيلَاء ظَالِم فَلهُ تخليصه بِشَيْء مِنْهُ {وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَمن هَذَا لَو علم أَنه لَو لم يبْذل شَيْئا لقَاضِي سوء لانتزع مِنْهُ المَال وَسلمهُ لبَعض خونته وَأدّى ذَلِك إِلَى استئصاله وَيقرب من ذَلِك قَول ابْن عبد السَّلَام يجوز تغييب مَال الْيَتِيم أَو السَّفِيه أَو الْمَجْنُون لحفظه إِذا خيف عَلَيْهِ الْغَصْب كَمَا فِي قصَّة الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام نفعنا الله ببركته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة آمين
وانضم بَعْضهَا إِلَى بعض
وَشرعا عقد يتَضَمَّن إِبَاحَة وَطْء بِلَفْظ إنكاح أَو تَزْوِيج أَو تَرْجَمته
وَالْعرب تستعمله بِمَعْنى العقد وَالْوَطْء جَمِيعًا ولأصحابنا فِي مَوْضُوعه الشَّرْعِيّ ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا أَنه حَقِيقَة فِي العقد مجَاز فِي الْوَطْء كَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن وَالْأَخْبَار وَلَا يرد على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره}(2/399)
= كتاب النِّكَاح = هُوَ لُغَة الضَّم وَالْجمع وَمِنْه تناكحت الْأَشْجَار إِذا تمايلت لِأَن المُرَاد العقد وَالْوَطْء مُسْتَفَاد من خبر الصَّحِيحَيْنِ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك وَعقد النِّكَاح لَازم من جِهَة الزَّوْجَة وَكَذَلِكَ من جِهَة الزَّوْج على الْأَصَح وَهل كل من الزَّوْجَيْنِ مَعْقُود عَلَيْهِ أَو الزَّوْجَة فَقَط وَجْهَان أوجههمَا الثَّانِي
وَهل هُوَ ملك أَو إِبَاحَة وَجْهَان أوجههمَا الثَّانِي أَيْضا
وَالْأَصْل فِي حلّه الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة فَمن الْكتاب قَوْله تَعَالَى {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} من السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أحب فِطْرَتِي فَليَسْتَنَّ بِسنتي وَمن سنتي النِّكَاح
وَزَاد المُصَنّف فِي التَّرْجَمَة (وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من) بعض (الْأَحْكَام) كصحة وَفَسَاد (و) من (القضايا) الْآتِي ذكر بَعْضهَا فِي الْفُصُول الْآتِيَة
القَوْل فِي حكم النِّكَاح (وَالنِّكَاح) بِمَعْنى التَّزْوِيج (مُسْتَحبّ) لتائق لَهُ بتوقانه للْوَطْء إِن وجد أهبته من مهر وَكِسْوَة فصل التَّمْكِين وَنَفَقَة يَوْمه تحصينا(2/400)
لدينِهِ سَوَاء أَكَانَ مشتغلا بِالْعبَادَة أم لَا فَإِن فقد أهبته فَتَركه أولى وَكسر إرشادا توقانه بِصَوْم لخَبر يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء أَي قَاطع لتوقانه والباءة بِالْمدِّ مُؤَن النِّكَاح فَإِن لم تنكسر بِالصَّوْمِ فَلَا يكسرهُ بالكافور وَنَحْوه بل يتَزَوَّج وَكره النِّكَاح لغير التائق لَهُ لعِلَّة أَو غَيرهَا إِن فقد أهبته أَو وجدهَا وَكَانَ بِهِ عِلّة كهرم وتعنين لانْتِفَاء حَاجته مَعَ الْتِزَام فَاقِد الأهبة مَا لَا يقدر عَلَيْهِ وخطر الْقيام بواجبه فِيمَا عداهُ وَإِن وجدهَا وَلَا عِلّة بِهِ فتخل لعبادة أفضل من النِّكَاح إِن كَانَ متعبدا اهتماما بهَا فَإِن لم يتعبد فَالنِّكَاح أفضل من تَركه لِئَلَّا تُفْضِي بِهِ البطالة إِلَى الْفَوَاحِش
وَيسْتَثْنى من إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو كَانَ فِي دَار الْحَرْب فَإِنَّهُ لَا يسْتَحبّ لَهُ النِّكَاح وَإِن اجْتمعت فِيهِ الشُّرُوط كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَعلله بالخوف على وَلَده من الْكفْر والاسترقاق
تَنْبِيه نَص فِي الْأُم وَغَيرهَا على أَن الْمَرْأَة التائقة يسن لَهَا النِّكَاح وَفِي مَعْنَاهَا المحتاجة إِلَى النَّفَقَة والخائفة من اقتحام الفجرة
وَيُوَافِقهُ مَا فِي التَّنْبِيه من أَن من جَازَ لَهَا النِّكَاح إِن كَانَت محتاجة إِلَيْهِ اسْتحبَّ لَهَا النِّكَاح وَإِلَّا كره فَمَا قيل إِنَّه يسْتَحبّ لَهَا ذَلِك مُطلقًا مَرْدُود وَيسن أَن يتَزَوَّج بكرا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك إِلَّا لعذر كضعف آلَته عَن الافتضاض أَو احْتِيَاجه لمن يقوم على عِيَاله دينة لَا فاسقة جميلَة لوُرُود خبر الصَّحِيحَيْنِ تنْكح الْمَرْأَة لأَرْبَع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بِذَات الدّين تربت يداك أَي افْتَقَرت إِن لم تفعل واستغنيت إِن فعلت
وَخبر تزوجوا الْوَلُود الْوَدُود فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة وَيعرف كَون الْبكر ولودا بأقاربها نسيبة أَي طيبَة الأَصْل لخَبر تخَيرُوا لنُطَفِكُمْ غير ذَات قرَابَة قريبَة بِأَن تكون أَجْنَبِيَّة أَو ذَات قرَابَة بعيدَة لضعف الشَّهْوَة فِي الْقَرِيبَة فَيَجِيء الْوَلَد نحيفا
(وَيجوز للْحرّ أَن يجمع) فِي نِكَاح (بَين أَربع حرائر) فَقَط لقَوْله تَعَالَى {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغيلان وَقد أسلم وَتَحْته عشر نسْوَة أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن وَإِذا امْتنع فِي الدَّوَام فَفِي الِابْتِدَاء أولى
فَائِدَة ذكر ابْن عبد السَّلَام أَنه كَانَ فِي شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْجَوَاز من غير حصر تَغْلِيبًا لمصْلحَة الرِّجَال وَفِي شَرِيعَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجوز غير وَاحِدَة تَغْلِيبًا لمصْلحَة النِّسَاء وراعت شَرِيعَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ مصلحَة النَّوْعَيْنِ
قَالَ ابْن النَّقِيب وَالْحكمَة فِي تَخْصِيص الْحر بالأربع أَن الْمَقْصُود من النِّكَاح الألفة والمؤانسة وَذَلِكَ يفوت مَعَ الزِّيَادَة على الْأَرْبَع وَلِأَنَّهُ بالقسم يغيب عَن كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ ثَلَاث لَيَال وَهِي مُدَّة قريبَة اه
وَقد تتَعَيَّن الْوَاحِدَة للْحرّ وَذَلِكَ فِي كل نِكَاح توقف على الْحَاجة كالسفيه وَالْمَجْنُون وَقَالَ بعض الْخَوَارِج الْآيَة تدل على جَوَاز تسع مثنى بِاثْنَيْنِ
وَثَلَاث بِثَلَاث وَربَاع بِأَرْبَع ومجموع ذَلِك تسع
وَبَعض مِنْهُم قَالَ تدل على ثَمَانِيَة عشرَة مثنى اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاث ثَلَاثَة ثَلَاثَة وَربَاع أَرْبَعَة أَرْبَعَة ومجموع ذَلِك مَا ذكر
وَهَذَا خرق للْإِجْمَاع
الْيَمين من غير حصر سَوَاء أكن مَعَ الْحَرَائِر أَو منفردات وَهُوَ كَذَلِك لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم}(2/401)
تَنْبِيه اسْتُفِيدَ من تَقْيِيد المُصَنّف بالحرائر جَوَاز الْجمع بَين الْإِمَاء بِملك
(و) يجوز (للْعَبد أَن يجمع بَين اثْنَتَيْنِ) فَقَط لِأَن الحكم بن عتيبة نقل إِجْمَاع الصَّحَابَة فِيهِ وَلِأَنَّهُ على النّصْف من الْحر وَلِأَن النِّكَاح من بَاب الْفَضَائِل فَلم يلْحق العَبْد فِيهِ بِالْحرِّ كَمَا لم يلْحق الْحر بِمنْصب النُّبُوَّة فِي الزِّيَادَة على الْأَرْبَع
والمبعض كالقن كَمَا صرح بِهِ أَبُو حَامِد وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا فَلَو نكح الْحر خمْسا مثلا بِعقد وَاحِد أَو العَبْد ثَلَاثًا كَذَلِك بطلن إِذْ لَيْسَ إبِْطَال نِكَاح وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِأولى من الْأُخْرَى فَبَطل الْجَمِيع كَمَا لَو جمع بَين أُخْتَيْنِ أَو مُرَتبا فالخامسة للْحرّ وَالثَّالِثَة للْعَبد يبطل نِكَاحهَا لِأَن الزِّيَادَة على الْعدَد الشَّرْعِيّ حصل بهَا
(وَلَا ينْكح الْحر أمة) لغيره (إِلَّا بِشَرْطَيْنِ) بل بِثَلَاثَة وَإِن عَم الثَّالِث الْحر وَغَيره
واختص بِالْمُسلمِ أول الثَّلَاثَة (عدم) قدرته على (صدَاق الْحرَّة) وَلَو كِتَابِيَّة تصلح تِلْكَ الْحرَّة للاستمتاع بهَا أَو قدر على صَدَاقهَا وَلم يجدهَا أَو وجدهَا وَلم ترض إِلَّا بِزِيَادَة على مهر مثلهَا أَو لم ترض بنكاحه لقُصُور نسبه وَنَحْوه أَو كَانَ تَحْتَهُ من لَا تصلح للاستمتاع كصغيرة لَا تحْتَمل الْوَطْء أَو رتقاء أَو قرناء أَو هرمة أَو نَحْو ذَلِك فَلَو قدر على حرَّة غَائِبَة عَن بَلَده حلت لَهُ الْأمة إِن لحقه مشقة ظَاهِرَة فِي قَصدهَا
وَضبط الإِمَام الْمَشَقَّة بِأَن ينْسب محتملها فِي طلب الزَّوْجَة إِلَى الْإِسْرَاف ومجاوزة الْحَد أَو خَافَ زنا مُدَّة قصد الْحرَّة وَإِلَّا فَلَا تحل لَهُ الْأمة
وَيجب السّفر للْحرَّة لَكِن مَحَله كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ إِذا أمكن انتقالها مَعَه إِلَى وَطنه وَإِلَّا فَهِيَ كالمعدومة لما فِي تَكْلِيفه الْمقَام مَعهَا هُنَاكَ من التَّغْرِيب والرخص لَا تحْتَمل هَذَا التَّضْيِيق
وَلَا يمْنَع مَاله الْغَائِب نِكَاح الْأمة وَلَو قدر على حرَّة بِبيع مَسْكَنه حلت لَهُ الْأمة وَلَو وجد حرَّة ترْضى بمؤجل وَلم يجد الْمهْر أَو ترْضى بِدُونِ مهر الْمثل وَهُوَ واجده حلت لَهُ الْأمة فِي الصُّورَة الأولى لِأَن ذمَّته تصير مَشْغُولَة فِي الْحَال وَقد لَا يجده عِنْد حُلُول الْأَجَل دون الصُّورَة الثَّانِيَة لقدرته على نِكَاح حرَّة والْمنَّة فِي ذَلِك قَليلَة إِذْ الْعَادة الْمُسَامحَة فِي المهور
وَلَو رضيت حرَّة بِلَا مهر حلت لَهُ الْأمة أَيْضا لوُجُوب مهرهَا بِالْوَطْءِ
(و) ثَانِي الشُّرُوط (خوف الْعَنَت) وَهُوَ الْوُقُوع فِي الزِّنَا بِأَن تغلب شَهْوَته وتضعف تقواه وَإِن لم يغلب على ظَنّه وُقُوع الزِّنَا بل توقعه لَا على ندور فَمن ضعفت شَهْوَته وَله تقوى أَو مُرُوءَة أَو حَيَاء يستقبح مَعَه الزِّنَا وقويت شَهْوَته وتقواه لم تحل لَهُ الْأمة لِأَنَّهُ لَا يخَاف الزِّنَا فَلَا يجوز لَهُ أَن يرق وَلَده لفضاء وطر أَو كسر شَهْوَة
وأصل الْعَنَت الْمَشَقَّة سمي بِهِ الزِّنَا لِأَنَّهُ سَببهَا بِالْحَدِّ فِي الدُّنْيَا والعقوبة فِي الْآخِرَة
وَالْأَصْل فِيمَا ذكر قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم}(2/402)
إِلَى قَوْله تَعَالَى {ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت مِنْكُم} والطول السعَة وَالْمرَاد بالمحصنات الْحَرَائِر
قَالَ الرَّوْيَانِيّ وبالعنت عُمُومه لَا خصوصه حَتَّى لَو خَافَ الْعَنَت من أمة بِعَينهَا لقُوَّة ميله إِلَيْهَا وحبه لَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا إِذا كَانَ واجدا للطول لِأَن الْعِشْق لَا معنى لاعتباره هُنَا لِأَن هَذَا تهييج من البطالة وإطالة الْفِكر وَكم من إِنْسَان ابتلى بِهِ وَسَلاهُ اه
وَالْوَجْه ترك التَّقْيِيد بِوُجُود الطول لِأَنَّهُ يَقْتَضِي جَوَاز نِكَاحهَا عِنْد فقد الطول فَيفوت اعْتِبَار عُمُوم الْعَنَت مَعَ أَن وجود الطول كَاف فِي الْمَنْع من نِكَاحهَا وَبِهَذَا الشَّرْط علم أَن الْحر لَا ينْكح أمتين وَأَن الْمَمْسُوح والمجبوب ذكره لَا يحل لَهُ نِكَاح الْأمة مُطلقًا وَهُوَ كَذَلِك إِذْ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الزِّنَا
وَلَو وجدت الْأمة زَوجهَا مجبوبا وأرادت إبِْطَال النِّكَاح وَادّعى الزَّوْج حُدُوث الْجب بعد النِّكَاح وَأمكن حكم بِصِحَّة نِكَاحه فَإِن لم يُمكن حُدُوثه بِأَن كَانَ الْموضع مندملا وَقد عقد النِّكَاح أمس حكم بِبُطْلَان النِّكَاح
وَالشّرط الثَّالِث إسْلَامهَا لمُسلم حر أَو غَيره كَمَا مر فَلَا تحل لَهُ كِتَابِيَّة أما الْحر فَلقَوْله تَعَالَى {فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} وَأما غير الْحر فَلِأَن الْمَانِع من نِكَاحهَا كفرها فساوى الْحر كالمرتدة والمجوسية وَمن بَعْضهَا رَقِيق وباقيها حر حكمهَا كرقيق كلهَا فَلَا ينْكِحهَا الْحر إِلَّا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَة لِأَن إرقاق بعض الْوَلَد مَحْذُور
وَفِي جَوَاز نِكَاح أمة مَعَ تيَسّر مبعضة تردد للْإِمَام لِأَن إرقاق بعض الْوَلَد أَهْون من إرقاق كُله وعَلى تَعْلِيل الْمَنْع اقْتصر الشَّيْخَانِ قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَهُوَ الْمُرَجح
أما غير الْمُسلم من حر وَغَيره ككتابيين فَتحل لَهُ أمة كِتَابِيَّة لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدّين وَلَا بُد فِي نِكَاح الْحر الْكِتَابِيّ الْأمة الْكِتَابِيَّة من أَن يخَاف الزِّنَا ويفقد الْحرَّة كَمَا فهمه السُّبْكِيّ من كَلَامهم
وَاعْلَم أَنه لَا يحل للْحرّ مُطلقًا نِكَاح أمة وَلَده وَلَا أمة مُكَاتبَة وَلَا أمة مَوْقُوفَة عَلَيْهِ وَلَا موصى لَهُ بخدمتها
القَوْل فِي أَنْوَاع النّظر إِلَى الْمَرْأَة (وَنظر الرجل) الْفَحْل الْبَالِغ الْعَاقِل (إِلَى الْمَرْأَة) وَلَو غير مشتهاة (على سَبْعَة أضْرب) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة فَخرج بِقَيْد الرجل وَالْمَرْأَة وَسَيَأْتِي حكم نظرها لمثلهَا لَكِن عِبَارَته توهم خُرُوج الْخُنْثَى الْمُشكل وَالصَّحِيح أَن حكمه فِي النّظر حكم الرجل وبقيد الْفَحْل الْمَمْسُوح فنظره للأجنبية جَائِز على الْأَصَح كنظر الْفَحْل إِلَى مَحَارمه
تَنْبِيه شَمل قَول المُصَنّف الرجل الْفَحْل الْخصي وَهُوَ من قلعت أنثياه وَبَقِي ذكره والمجبوب بِالْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ من قطع ذكره وَبَقِي أنثياه والعنين وَالشَّيْخ الْهَرم والمخنث وَهُوَ بِكَسْر النُّون على الْأَفْصَح المتشبه بِالنسَاء
وبقيد الْبَالِغ الصَّبِي وَلَو مُمَيّزا لَكِن الْمُرَاهق هُنَا كَالْبَالِغِ على الْأَصَح وبقيد الْعَاقِل الْمَجْنُون فنظره لَا يُوصف بِتَحْرِيم كالبهيمة
(أَحدهَا نظره) أَي الرجل (إِلَى) بدن امْرَأَة (أَجْنَبِيَّة) غير الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وَلَو غير مشتهاة قصدا (لغير حَاجَة) مِمَّا سَيَأْتِي (فَغير جَائِز) قطعا وَإِن إِلَى الاختلاء بهَا لجماع أَو مقدماته بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه الإِمَام وَلَو نظر إِلَيْهِمَا بِشَهْوَة وَهِي قصد التَّلَذُّذ بِالنّظرِ الْمُجَرّد وَأمن الْفِتْنَة حرم قطعا وَكَذَا يحرم النّظر إِلَيْهِمَا عِنْد الْأَمْن من الْفِتْنَة فِيمَا يظْهر لَهُ من نَفسه من غير شَهْوَة على الصَّحِيح كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ
وَوَجهه الإِمَام بِاتِّفَاق الْمُسلمين على منع النِّسَاء من الْخُرُوج سافرات الْوُجُوه وَبِأَن النّظر مَظَنَّة الْفِتْنَة ومحرك للشهوة وَقد قَالَ تَعَالَى قل أَمن الْفِتْنَة وَأما نظره(2/403)
إِلَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَحَرَام عِنْد خوف فتْنَة تَدْعُو {للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم} واللائق بمحاسن الشَّرِيعَة سد الْبَاب والإعراض عَن تفاصيل الْأَحْوَال كالخلوة بالأجنبية وَقيل لَا يحرم لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} وَهُوَ مُفَسّر بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَنسبه الإِمَام لِلْجُمْهُورِ والشيخان للأكثرين وَقَالَ فِي الْمُهِمَّات إِنَّه الصَّوَاب لكَون الْأَكْثَرين عَلَيْهِ وَقَالَ البُلْقِينِيّ التَّرْجِيح بِقُوَّة الْمدْرك وَالْفَتْوَى على مَا فِي الْمِنْهَاج اه وَكَلَام المُصَنّف شَامِل لذَلِك وَهُوَ الْمُعْتَمد وَخرج بِقَيْد الْقَصْد مَا إِذا حصل النّظر اتِّفَاقًا فَلَا إِثْم فِيهِ
(و) الضَّرْب (الثَّانِي نظره) أَي الرجل (إِلَى) بدن (زَوجته و) إِلَى بدن (أمته) الَّتِي يحل لَهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا (فَيجوز) حِينَئِذٍ (أَن ينظر إِلَى) كل بدنهما حَال حياتهما لِأَنَّهُ مَحل استمتاعه (مَا عدا الْفرج) الْمُبَاح مِنْهُمَا فَلَا يجوز جَوَازًا مستوي الطَّرفَيْنِ فَيكْرَه النّظر إِلَيْهِ بِلَا حَاجَة وَإِلَى بَاطِنه أَشد كَرَاهَة قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا مَا رَأَيْت مِنْهُ وَلَا رأى مني أَي الْفرج
وَأما خبر النّظر إِلَى الْفرج يُورث الطمس أَي الْعَمى كَمَا ورد كَذَلِك فَرَوَاهُ ابْن حبَان وَغَيره فِي الضُّعَفَاء بل ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات
وَقَالَ ابْن عدي حَدِيث مُنكر حَكَاهُ عَنهُ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه الْمُسَمّى بِالنّظرِ فِي أَحْكَام النّظر وَخَالف ابْن الصّلاح وَحسن إِسْنَاده وَقَالَ أَخطَأ من ذكره فِي الموضوعات وَمَعَ ذَلِك هُوَ مَحْمُول على الْكَرَاهَة كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَإِن كَانَ كَلَام المُصَنّف يُوهم الْحُرْمَة
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله يُورث الْعَمى فَقيل فِي النَّاظر وَقيل فِي الْوَلَد وَقيل فِي الْقلب وَنظر الزَّوْجَة إِلَى زَوجهَا كنظره إِلَيْهَا
تَنْبِيه شَمل كلا مِنْهُم الدبر وَقَول الإِمَام والتلذذ بالدبر بِلَا إيلاج جَائِز صَرِيح فِيهِ وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِي ذَلِك الدَّارمِيّ وَقَالَ بِحرْمَة النّظر إِلَيْهِ
ويستثني زَوجته الْمُعْتَدَّة عَن وَطْء الْغَيْر بِشُبْهَة فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ نظر مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَيحل مَا سواهُ على الصَّحِيح
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَا يجوز للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى عَورَة زَوجهَا إِذا منعهَا مِنْهُ بِخِلَاف الْعَكْس لِأَنَّهُ يملك التَّمَتُّع بهَا(2/404)
بِخِلَاف الْعَكْس اه
وَهُوَ ظَاهر وَإِن توقف فِيهِ بَعضهم وَخرج بِقَيْد الْحَيَاة مَا بعد الْمَوْت فَيصير الزَّوْج فِي النّظر حِينَئِذٍ كالمحرم كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَمُقْتَضى التَّشْبِيه بالمحرم أَنه يحرم النّظر إِلَيْهِ بِشَهْوَة فِي غير مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَإِلَى مَا بَينهمَا بِغَيْر شَهْوَة وَمثل الزَّوْج السَّيِّد فِي أمته الَّتِي يحل لَهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا أما الَّتِي لَا يحل لَهُ فِيهَا ذَلِك بِكِتَابَة أَو تَزْوِيج أَو شركَة أَو كفر كتوثن وردة وعدة من غَيره وَنسب ورضاع ومصاهرة وَنَحْو ذَلِك فَيحرم عَلَيْهِ نظره مِنْهَا إِلَى مَا بَين سرة وركبة دون مَا زَاد أما الْمُحرمَة بِعَارِض قريب الزَّوَال كحيض وَرهن فَلَا يحرم نظره إِلَيْهَا
(و) الضَّرْب (الثَّالِث نظره إِلَى ذَوَات مَحَارمه) من نسب أَو رضَاع أَو مصاهرة (أَو) إِلَى (أمته الْمُزَوجَة) وَمثلهَا الَّتِي يحرم الِاسْتِمْتَاع بهَا كالمكاتبة والمعتدة والمشتركة والمرتدة والمجوسية والوثنية فَيجوز بِغَيْر شَهْوَة فِيمَا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة مِنْهُنَّ لِأَن الْمَحْرَمِيَّة معنى يُوجب حُرْمَة المناكحة فَكَانَا كالرجلين والمرأتين وَالْمَانِع الْمَذْكُور فِي الْأمة صيرها كالمحرم أما مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة فَيحرم نظره فِي الْمحرم إِجْمَاعًا وَمثل الْمحرم الْأمة الْمَذْكُورَة وَأما النّظر إِلَى السُّرَّة وَالركبَة فَيجوز لِأَنَّهُمَا ليسَا بِعَوْرَة بِالنِّسْبَةِ لنظر الْمحرم وَالسَّيِّد فَهَذِهِ الْعبارَة أولى من عبارَة ابْن الْمقري تبعا لغيره بِمَا فَوق السُّرَّة وَتَحْت الرّكْبَة
وَخرج بِقَيْد عدم الشَّهْوَة النّظر بهَا فَيحرم مُطلقًا فِي كل مَا لَا يُبَاح لَهُ الِاسْتِمْتَاع بِهِ وَلَكِن النّظر فِي الْخطْبَة يجوز وَلَو بِشَهْوَة كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْله
(و) الضَّرْب (الرَّابِع النّظر) الْمسنون (لأجل النِّكَاح فَيجوز) بل يسن إِذا قصد نِكَاحهَا ورجاه رَجَاء ظَاهرا أَنه يُجَاب إِلَى خطبَته كَمَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمُغِيرَة بن شُعْبَة وَقد خطب امْرَأَة انْظُر إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا الْمَوَدَّة والألفة وَمعنى يُؤْدم أَي يَدُوم قدمت الْوَاو على الدَّال
وَقيل من الإدام مَأْخُوذ من إدام الطَّعَام لِأَنَّهُ يطيب بِهِ حكى الأول الْمَاوَرْدِيّ عَن الْمُحدثين وَالثَّانِي عَن أهل اللُّغَة وَوقت النّظر قبل الْخطْبَة وَبعد الْعَزْم على النِّكَاح لِأَنَّهُ قبل الْعَزْم لَا حَاجَة إِلَيْهِ وَبعد الْخطْبَة قد يُفْضِي الْحَال إِلَى التّرْك فَيشق عَلَيْهَا وَلَا يتَوَقَّف النّظر على إِذْنهَا وَلَا إِذن وَليهَا اكْتِفَاء بِإِذن الشَّارِع وَلِئَلَّا تتزين فَيفوت غَرَضه
وَله تَكْرِير نظره إِن احْتَاجَ إِلَيْهِ ليتبين هيئتها فَلَا ينْدَم بعد النِّكَاح
وَالضَّابِط فِي ذَلِك الْحَاجة وَلَا يتَقَيَّد بِثَلَاث مَرَّات وَسَوَاء أَكَانَ بِشَهْوَة أم بغَيْرهَا كَمَا قَالَه الإِمَام وَالرُّويَانِيّ وَإِن قَالَ الْأَذْرَعِيّ فِي نظره بِشَهْوَة نظر وَينظر فِي الْحرَّة (إِلَى) جَمِيع (الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ) ظهرا وبطنا لِأَنَّهُمَا مَوَاضِع مَا يظْهر من الزِّينَة الْمشَار إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} وَلَا يجوز أَن ينظر إِلَى غير ذَلِك
وَالْحكمَة فِي الِاقْتِصَار عَلَيْهِ أَن فِي الْوَجْه مَا يسْتَدلّ بِهِ(2/405)
على الْجمال وَفِي الْيَدَيْنِ مَا يسْتَدلّ بِهِ على خصب الْبدن أما الْأمة وَلَو مبعضة فَينْظر مِنْهَا مَا عدا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة كَمَا صرح بِهِ ابْن الرّفْعَة وَقَالَ إِنَّه مَفْهُوم كَلَامهم فَإِن لم يَتَيَسَّر نظره إِلَيْهَا أَو لم يردهُ بعث امْرَأَة أَو نَحْوهَا تتأملها وتصفها لَهُ وَيجوز للمبعوث أَن يصف للباعث زَائِدا على مَا ينظره فيستفيد بِالْبَعْثِ مَا لَا يستفيده بنظره وَيسن للْمَرْأَة أَيْضا أَن تنظر من الرجل غير عَوْرَته إِذا أَرَادَت تزَوجه فَإِنَّهَا يعجبها مِنْهُ مَا يُعجبهُ مِنْهَا وتستوصف كَمَا مر فِي الرجل
تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر أَن كلا من الزَّوْجَيْنِ ينظر من الآخر مَا عدا عَورَة الصَّلَاة وَخرج بِالنّظرِ الْمس فَلَا يجوز إِذْ لَا حَاجَة إِلَيْهِ
(و) الضَّرْب (الْخَامِس النّظر للمداواة) كفصد وحجامة وعلاج وَلَو فِي فرج (فَيجوز إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا فَقَط) لِأَن فِي التَّحْرِيم حِينَئِذٍ حرجا فللرجل مداواة الْمَرْأَة وَعَكسه وَليكن ذَلِك بِحَضْرَة محرم أَو زوج أَو امْرَأَة ثِقَة إِن جَوَّزنَا خلْوَة أَجْنَبِي بامرأتين وَهُوَ الرَّاجِح
وَيشْتَرط عدم امْرَأَة يُمكنهَا تعَاطِي ذَلِك من امْرَأَة وَعَكسه كَمَا صَححهُ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَأَن لَا يكون ذِمِّيا مَعَ وجود مُسلم وَفِيه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ أَن لَا تكون كَافِرَة أَجْنَبِيَّة مَعَ وجود مسلمة على الْأَصَح وَلَو لم نجد لعلاج الْمَرْأَة إِلَّا كَفَّارَة وَمُسلمًا فَالظَّاهِر أَن الْكَافِرَة تقدم لِأَن نظرها ومسها أخف من الرجل بل الْأَشْبَه عِنْد الشَّيْخَيْنِ أَنَّهَا تنظر مِنْهَا مَا يَبْدُو عِنْد المهنة بِخِلَاف الرجل
وَقيد فِي الْكَافِي الطَّبِيب بالأمين فَلَا يعدل إِلَى غَيره مَعَ وجوده
وَشرط الْمَاوَرْدِيّ أَن يَأْمَن الافتتان وَلَا يكْشف إِلَّا قدر الْحَاجة وَفِي معنى مَا ذكر نظر الخاتن إِلَى فرج من يختنه وَنظر الْقَابِلَة إِلَى فرج الَّتِي تولدها وَيعْتَبر فِي النّظر إِلَى الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ مُطلق الْحَاجة وَفِي غَيرهمَا مَا عدا السوأتين تأكدها بِأَن يكون مِمَّا يُبِيح التَّيَمُّم كشدة الضنا وَفِي السوأتين مزِيد تأكيدها بِأَن لَا يعد الْكَشْف بِسَبَبِهَا هتكا للمروءة
(و) الضَّرْب (السَّادِس النّظر للشَّهَادَة) تحملا وَأَدَاء أَو للمعاملة من بيع وَغَيره (فَيجوز) حَتَّى يجوز فِي الشَّهَادَة النّظر إِلَى الْفرج للشَّهَادَة على الزِّنَا والولادة وَإِلَى الثدي للشَّهَادَة على الرَّضَاع وَإِذا نظر إِلَيْهَا وَتحمل الشَّهَادَة عَلَيْهَا كلفت الْكَشْف عَن وَجههَا عِنْد الْأَدَاء إِن لم يعرفهَا فِي نقابها فَإِن عرفهَا لم يفْتَقر إِلَى الْكَشْف بل يحرم النّظر حِينَئِذٍ
وَيجوز النّظر إِلَى عانة ولد الْكَافِر لينْظر هَل نَبتَت أَو لَا وَيجوز للنسوة أَن ينظرن إِلَى ذكر الرجل إِذا ادَّعَت الْمَرْأَة عبالته وامتنعت من التَّمْكِين
تَنْبِيه هَذَا كُله إِذا لم يخف فتْنَة فَإِن خافها لم ينظر إِلَّا إِن تعين عَلَيْهِ فَينْظر ويضبط نَفسه وَأما فِي الْمُعَامَلَة فَينْظر إِلَى الْوَجْه فَقَط كَمَا جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
(و) الضَّرْب (السَّابِع النّظر إِلَى) بدن (الْأمة عِنْد ابتياعها) أَي إِذا أَرَادَ أَن يَشْتَرِيهَا رجل أَو بدن عبد إِذا أَرَادَت أَن تشتريه(2/406)
امْرَأَة (فَيجوز إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي يحْتَاج إِلَى تقليبها) فَينْظر الرجل إِذا اشْترى جَارِيَة أَو اشترت الْمَرْأَة عبدا مَا عدا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يُزَاد على النظرة الْوَاحِدَة إِلَّا أَن يحْتَاج إِلَى ثَانِيَة للتحقق فَيجوز
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن النّظر إِلَى أَشْيَاء اختصارا مِنْهَا النّظر إِلَى التَّعْلِيم كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَاخْتلف الشُّرَّاح فِي معنى ذَلِك فَقَالَ السُّبْكِيّ إِنَّمَا يظْهر فِيمَا يجب تعلمه وتعليمه كالفاتحة وَمَا يتَعَيَّن تَعْلِيمه من الصَّنَائِع الْمُحْتَاج إِلَيْهَا بِشَرْط التَّعَذُّر من وَرَاء حجاب
وَأما غير ذَلِك فكلامهم يَقْتَضِي الْمَنْع وَمِنْهُم النَّوَوِيّ حَيْثُ قَالَ فِي الصَدَاق وَلَو أصدقهَا تَعْلِيم قُرْآن فَطلق قبله فَالْأَصَحّ تعذر تَعْلِيمه
وَقَالَ الْجلَال الْمحلي وَهُوَ أَي التَّعْلِيم للأمرد خَاصَّة لما سَيَأْتِي وَيُشِير بذلك إِلَى مَسْأَلَة الصَدَاق وَالْمُعْتَمد أَنه يجوز النّظر للتعليم للأمرد وَغَيره وَاجِبا كَانَ أَو مَنْدُوبًا
وَإِنَّمَا منع من تَعْلِيم الزَّوْجَة الْمُطلقَة لِأَن كلا من الزَّوْجَيْنِ تعلّقت آماله بِالْآخرِ فَصَارَ لكل مِنْهُمَا طمعة فِي الآخر فَمنع من ذَلِك
وَمِنْهَا نظر الْمَرْأَة إِلَى محارمها وَحكمه كَعَكْسِهِ فتنظر مِنْهُ مَا عدا مَا بَين سرته وركبته
وَمِنْهَا نظر الْمَرْأَة إِلَى بدن أَجْنَبِي وَالأَصَح أَنه كنظره إِلَيْهَا وَمِنْهَا نظر رجل إِلَى رجل فَيحل بِلَا شَهْوَة إِلَّا مَا بَين سرة وركبة فَيحرم وَمِنْهَا نظر الْأَمْرَد وَهُوَ الشَّاب الَّذِي لم تنْبت لحيته وَلَا يُقَال لمن أسن وَلَا شعر بِوَجْهِهِ أَمْرَد بل يُقَال لَهُ ثط بالثاء الْمُثَلَّثَة فَإِن كَانَ بِشَهْوَة فَهُوَ حرَام بِالْإِجْمَاع وَلَا يخْتَص ذَلِك بالأمرد كَمَا مر بل النّظر إِلَى الملتحي وَالنِّسَاء الْمَحَارِم بِشَهْوَة حرَام قطعا
وَضَابِط الشَّهْوَة فِيهِ كَمَا قَالَه فِي الْإِحْيَاء إِن كل من تأثر بِجَمَال صُورَة الْأَمْرَد بِحَيْثُ يظْهر من نَفسه الْفرق بَينه وَبَين الملتحي فَهُوَ لَا يحل لَهُ النّظر وَلَو انْتَفَت الشَّهْوَة وَخيف الْفِتْنَة حرم النّظر أَيْضا
قَالَ ابْن الصّلاح وَلَيْسَ المعني بخوف الْفِتْنَة غَلَبَة الظَّن بوقوعها بل يَكْفِي أَن لَا يكون ذَلِك نَادرا وَأما نظره بِغَيْر شَهْوَة وَلَا خوف فتْنَة فَيحرم عِنْد النَّوَوِيّ أَيْضا وَالْأَكْثَرُونَ على خِلَافه
وَمِنْهَا النّظر إِلَى الْأمة وَهِي الْحرَّة على الْأَصَح عِنْد الْمُحَقِّقين
وَمِنْهَا نظر الْمَرْأَة إِلَى مثلهَا وَهُوَ كنظر رجل إِلَى رجل وَأما الْخُنْثَى الْمُشكل فيعامل بالأشد فَيجْعَل مَعَ النِّسَاء رجلا وَمَعَ الرِّجَال امْرَأَة إِذا كَانَ فِي سنّ يحرم فِيهِ نظر الْوَاضِح كَمَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأَحْدَاث من الْمَجْمُوع وَلَا يجوز أَن يَخْلُو بِهِ أَجْنَبِي وَلَا أَجْنَبِيَّة وَلَو كَانَ مَمْلُوكا لامْرَأَة فَهُوَ مَعهَا كعبدها وَمِنْهَا نظر الْكَافِرَة إِلَى الْمسلمَة فَهُوَ حرَام فتحتجب الْمسلمَة عَنْهَا لقَوْله تَعَالَى {أَو نسائهن} فَلَو جَازَ لَهَا النّظر لم يبْق للتخصيص فَائِدَة وَصَحَّ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ منع الكتابيات دُخُول الْحمام مَعَ المسلمات هَذَا مَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ وَالْأَشْبَه كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَنه يجوز أَن ترى مِنْهَا مَا يَبْدُو عِنْد المهنة وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَمحل ذَلِك فِي كَافِرَة غير محرم للمسلمة وَغير مَمْلُوكَة لَهَا أما هما فَيجوز(2/407)
لَهما النّظر إِلَيْهَا كَمَا أفتى بِهِ النَّوَوِيّ فِي الْمَمْلُوكَة وبحثه الزَّرْكَشِيّ فِي الْمحرم وَهُوَ ظَاهر
تَتِمَّة مَتى حرم النّظر حرم اللَّمْس لِأَنَّهُ أبلغ مِنْهُ فِي اللَّذَّة وإثارة الشَّهْوَة بِدَلِيل أَنه لَو مس فَأنْزل أفطر وَلَو نظر فَأنْزل لم يفْطر وكل مَا حرم نظره مُتَّصِلا حرم نظره مُنْفَصِلا كشعر عانة وَلَو من رجل وقلامة ظفر حرَّة وَلَو من يَديهَا وَيحرم اضطجاع رجلَيْنِ أَو امْرَأتَيْنِ فِي ثوب وَاحِد إِذا كَانَا عاريين وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا فِي جَانب من الْفراش لخَبر مُسلم لَا يفض الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد وَلَا الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة فِي الثَّوْب الْوَاحِد
وَتسن مصافحة الرجلَيْن والمرأتين لخَبر مَا من مُسلمين يَلْتَقِيَانِ يتصافحان إِلَّا غفر لَهما قبل أَن يَتَفَرَّقَا وَتكره المعانقة والتقبيل فِي الرَّأْس إِلَّا لقادم من سفر أَو تبَاعد لِقَاء عرفا فَسنة لِلِاتِّبَاعِ وَيسن تَقْبِيل يَد الْحَيّ لصلاح وَنَحْوه من الْأُمُور الدِّينِيَّة كعلم وزهد وَيكرهُ ذَلِك لغنى أَو نَحوه من الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة كشوكة ووجاهة وَيسن الْقيام لأهل الْفضل إِكْرَاما لَا رِيَاء وتفخيما
فصل فِي أَرْكَان النِّكَاح
وَهِي خَمْسَة صِيغَة وَزَوْجَة وَزوج وَولي وهما العاقدان وشاهدان وعَلى الْأَخيرينِ وهما الْوَلِيّ
والشاهدان اقْتصر المُصَنّف مُشِيرا إِلَيْهِمَا بقوله (وَلَا يَصح عقد النِّكَاح إِلَّا بولِي) أَو مأذونه أَو الْقَائِم مقَامه كالحاكم عِنْد فَقده أَو غيبته الشَّرْعِيَّة أَو عضلة أَو إِحْرَامه (و) حُضُور (شَاهِدي عدل) لخَبر ابْن حبَان فِي صَحِيحه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل وَمَا كَانَ من نِكَاح على غير ذَلِك فَهُوَ بَاطِل فَإِن تشاحوا فالسلطان ولي من لَا ولي لَهُ وَالْمعْنَى فِي إِحْضَار الشَّاهِدين الِاحْتِيَاط للأبضاع وصيانة الْأَنْكِحَة عَن الْجُحُود
وَيسن إِحْضَار جمع زِيَادَة على الشَّاهِدين من أهل الْخَيْر وَالدّين
القَوْل فِي شُرُوط الْوَلِيّ والشاهدين (ويفتقر الْوَلِيّ والشاهدان) المعتبرون لصِحَّة النِّكَاح (إِلَى سِتَّة شَرَائِط) بل إِلَى أَكثر كَمَا سَيَأْتِي الأول (الْإِسْلَام) وَهُوَ فِي(2/408)
ولي الْمسلمَة إِجْمَاعًا وَسَيَأْتِي أَن الْكَافِر يَلِي الْكَافِرَة وَأما الشَّاهِدَانِ فالإسلام شَرط فيهمَا سَوَاء أَكَانَت الْمَنْكُوحَة مسلمة أم ذِمِّيَّة إِذْ الْكَافِر لَيْسَ أَهلا للشَّهَادَة
(و) الثَّانِي (الْبلُوغ و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا ولَايَة لصبي وَمَجْنُون لِأَنَّهُمَا ليسَا من أهل الشَّهَادَة
(و) الرَّابِع (الْحُرِّيَّة) فَلَا ولَايَة لرقيق وَلَا يكون شَاهدا (و) الْخَامِس (الذُّكُورَة) فَلَا تملك الْمَرْأَة تَزْوِيج نَفسهَا بِحَال لَا بِإِذن وَلَا بِغَيْرِهِ سَوَاء الْإِيجَاب وَالْقَبُول إِذْ لَا يَلِيق بمحاسن الْعَادَات دُخُولهَا فِيهِ لما قصد مِنْهَا من الْحيَاء وَعدم ذكره أصلا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} وَلَا تَزْوِيج غَيرهَا بِولَايَة وَلَا وكَالَة لخَبر لَا تزوج الْمَرْأَة الْمَرْأَة وَلَا الْمَرْأَة نَفسهَا
نعم لَو ابتلينا وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى بإمامة امْرَأَة فَإِن أَحْكَامهَا تنفذ للضَّرُورَة كَمَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام وَغَيره وَقِيَاسه تَصْحِيح تَزْوِيجهَا
وَلَا يعْتَبر إِذن الْمَرْأَة فِي نِكَاح غَيرهَا إِلَّا فِي ملكهَا أَو فِي سَفِيه أَو مَجْنُون هِيَ وَصِيَّة عَلَيْهِ وَلَيْسَت الْمَرْأَة أَهلا للشَّهَادَة فَلَا ينْعَقد النِّكَاح بِشَهَادَة النِّسَاء وَلَا بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يثبت بقَوْلهمْ
تَنْبِيه أفهم كَلَامه أَنه لَا ينْعَقد بخنثيين وَلَو بانا رجلَيْنِ لَكِن الْأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الصِّحَّة فَإِن قيل لَو عقد على خُنْثَى أَو لَهُ ثمَّ تبين كَونه أُنْثَى فِي الأول أَو ذكرا فِي الثَّانِي لَا يَصح
أُجِيب بِأَن الْخُنْثَى أهل للشَّهَادَة فِي الْجُمْلَة فَإِن بَان رجلا اكتفينا بذلك فِي النِّكَاح بِخِلَاف العقد على الْخُنْثَى أَو لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَهلا لعقد النِّكَاح عَلَيْهِ وَلَا لَهُ فِي حَال من الْأَحْوَال
(و) السَّادِس (الْعَدَالَة) وَهِي ملكة فِي النَّفس تمنع من اقتراف الذُّنُوب وَلَو صغائر الخسة والراذئل الْمُبَاحَة فَلَا ينْعَقد بولِي فَاسق غير الإِمَام الْأَعْظَم مجبرا كَانَ أم لَا فسق بِشرب الْخمر أم لَا أعلن بِفِسْقِهِ أم لَا لحَدِيث (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَالْمرَاد بالمرشد الْعدْل
وَأفْتى الْغَزالِيّ رَحمَه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ لَو كَانَ لَو سلب الْولَايَة لانتقلت إِلَى حَاكم فَاسق ولي وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ وَلَا سَبِيل إِلَى الْفَتْوَى بِغَيْرِهِ إِذْ الْفسق قد عَم الْبِلَاد والعباد وَالْأَوْجه إِطْلَاق الْمَتْن لِأَن الْحَاكِم يُزَوّج للضَّرُورَة وقضاؤه نَافِذ أَمَام الإِمَام الْأَعْظَم فَلَا يقْدَح فسقه لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِل بِهِ فيزوج بَنَاته وَبَنَات غَيره بِالْولَايَةِ الْعَامَّة تفخيما لشأنه فَعَلَيهِ إِنَّمَا يُزَوّج بَنَاته إِذا لم يكن لَهُنَّ ولي غَيره كبنات غَيره
تَنْبِيه لَا يلْزم من أَن الْفَاسِق لَا يُزَوّج اشْتِرَاط أَن يكون الْوَلِيّ عدلا لِأَن بَينهمَا وَاسِطَة فَإِن الْعَدَالَة ملكة تمنع صَاحبهَا مِمَّا مر(2/409)
وَالصَّبِيّ إِذا بلغ وَلم تصدر مِنْهُ كَبِيرَة وَلم تحصل لَهُ تِلْكَ الملكة لَا عدل وَلَا فَاسق
وَقد نقل الإِمَام الْغَزالِيّ الِاتِّفَاق على أَن المستور يَلِي وَحَيْثُ منعنَا ولَايَة الْفَاسِق فَقَالَ الْبَغَوِيّ إِذا تَابَ زوج فِي الْحَال وَوَجهه بِأَن الشَّرْط فِي ولي النِّكَاح عدم الْفسق لَا قبُول الشَّهَادَة وَلَا ينْعَقد بِشَهَادَة فاسقين لِأَنَّهُ لَا يثبت بهما وَينْعَقد بمستوري الْعَدَالَة وهما المعروفان بهَا ظَاهرا لَا بَاطِنا بِأَن عرفت بالمخالطة دون التَّزْكِيَة عِنْد الْحَاكِم لِأَن الظَّاهِر من الْمُسلمين الْعَدَالَة وَلَا فرق بَين أَن يعْقد بهما الْحَاكِم أَو غَيره على الْمُعْتَمد لَا بمستوري الْإِسْلَام أَو الْحُرِّيَّة بِأَن يَكُونَا فِي مَوضِع يخْتَلط فِيهِ الْمُسلمُونَ بالكفار والأحرار بالأرقاء بل لَا بُد من معرفَة حَالهمَا بَاطِنا لسُهُولَة الْوُقُوف على ذَلِك بِخِلَاف الْعَدَالَة وَالْفِسْق
هَل الْكَافِر يَلِي عقد موليته الْكَافِرَة ثمَّ شرع فِي كَون الْكَافِر الْأَصْلِيّ يَلِي الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة بقوله (إِلَّا أَنه لَا يفْتَقر نِكَاح الذِّمِّيَّة إِلَى إِسْلَام الْوَلِيّ) وَلَو كَانَت الذِّمِّيَّة عتيقة مُسلم وَإِن اخْتلف اعْتِقَاد الزَّوْجَة وَالْوَلِيّ فيزوج الْيَهُودِيّ نَصْرَانِيَّة وَالنَّصْرَانِيّ يَهُودِيَّة كَالْإِرْثِ لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} وَقَضِيَّة التَّشْبِيه بِالْإِرْثِ أَنه لَا ولَايَة لحربي على ذِمِّيَّة وَبِالْعَكْسِ وَأَن الْمُسْتَأْمن كالذمي وَهُوَ ظَاهر كَمَا صَححهُ البُلْقِينِيّ ومرتكب الْمحرم الْفسق فِي دينه من أَوْلِيَاء الْكَافِرَة كالفاسق عندنَا فَلَا يُزَوّج موليته بِخِلَاف مَا إِذا لم يرتكب ذَلِك وَإِن كَانَ مَسْتُورا فيزوجها كَمَا تقرر
وَفرقُوا بَين ولَايَته وشهادته حَيْثُ لَا تقبل وَإِن لم يكن مرتكبا ذَلِك بِأَن الشَّهَادَة مَحْض ولَايَة على الْغَيْر فَلَا يؤهل لَهَا الْكَافِر وَالْوَلِيّ فِي التَّزْوِيج كَمَا يُرَاعِي حَظّ موليته يُرَاعِي حَظّ نَفسه أَيْضا فِي تحصينها وَدفع الْعَار عَن النّسَب
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامه أَنه لَا فرق بَين أَن يكون زوج الْكَافِرَة كَافِرًا أَو مُسلما وَهُوَ كَذَلِك لَكِن لَا يُزَوّج الْمُسلم قاضيهم بِخِلَاف الزَّوْج الْكَافِر لِأَن نِكَاح الْكَافِر مَحْكُوم بِصِحَّتِهِ وَإِن صدر من قاضيهم أما الْمُرْتَد فَلَا يَلِي مُطلقًا لَا على مسلمة وَلَا على مرتدة وَلَا على غَيرهمَا لانْقِطَاع الْمُوَالَاة بَينه وَبَين غَيره
(وَلَا) يفْتَقر (نِكَاح الْأمة) من عبد أَو حر بِشَرْطِهِ (إِلَى عَدَالَة السَّيِّد) لِأَنَّهُ يُزَوّج بِالْملكِ لَا بِالْولَايَةِ لِأَنَّهُ يملك التَّمَتُّع بهَا فِي الْجُمْلَة وَالتَّصَرُّف فِيمَا يُمكن اسْتِيفَاؤهُ وَنَقله إِلَى الْغَيْر يكون بِحكم الْملك كاستيفاء سَائِر الْمَنَافِع ونقلها بِالْإِجَارَة فيزوج مُسلم وَلَو فَاسِقًا أَو مكَاتبا أمته الْكَافِرَة الْأَصْلِيَّة بِخِلَاف الْكَافِر لي لَهُ أَن يُزَوّج أمته لَيْسَ الْمسلمَة إِذْ لَا يملك التَّمَتُّع بهَا أصلا بل وَلَا سَائِر التَّصَرُّفَات فِيهَا سوى إِزَالَة الْملك عَنْهَا وكتابتها بِخِلَاف الْمُسلم فِي الْكَافِرَة وَإِذا ملك الْمبعض بِبَعْضِه الْحر أمة زَوجهَا كَمَا قَالَه الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه وَإِن خَالف فِي فَتَاوِيهِ كَالْمكَاتبِ بل أولى لِأَن ملكه تَامّ وَلِهَذَا تجب عَلَيْهِ الزَّكَاة(2/410)
تَنْبِيه مِمَّا تَركه المُصَنّف من شُرُوط الْوَلِيّ أَن لَا يكون مختل النّظر بهرم أَو خبل وَأَن لَا يكون مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه وَمَتى كَانَ الْأَقْرَب بِبَعْض هَذِه الصِّفَات الْمَانِعَة للولاية فالولاية للأبعد وَأما الْإِغْمَاء فننتظر إِفَاقَته مِنْهُ وَلَا يقْدَح الْعَمى فِي ولَايَة التَّزْوِيج لحُصُول الْمَقْصُود بالبحث وَالسَّمَاع وإحرام أحد الْعَاقِدين إِن ولي وَلَو حَاكما أَو زوج أَو وَكيل عَن أَحدهمَا أَو الزَّوْجَة بنسك وَلَو فَاسِدا يمْنَع صِحَة النِّكَاح لحَدِيث الْمحرم ينْكح وَلَا ينْكح الْكَاف مَكْسُورَة فيهمَا وَالْيَاء مَفْتُوحَة فِي الأول مَضْمُومَة فِي الثَّانِي وَلَا ينْقل الْإِحْرَام الْولَايَة للأبعد فيزوج السُّلْطَان عِنْد إِحْرَام الْوَلِيّ الْأَقْرَب لَا الْأَبْعَد
وَمِمَّا تَركه من شُرُوط الشَّاهِدين السّمع وَالْبَصَر والضبط وَلَو مَعَ النسْيَان عَن قرب وَمَعْرِفَة لِسَان الْمُتَعَاقدين وَكَونه غير مُتَعَيّن للولاية كأب وَأَخ مُنْفَرد وكل وَحضر مَعَ الآخر وَينْعَقد النِّكَاح بِابْني الزَّوْجَيْنِ وعدويهما لِأَنَّهُمَا من أهل الشَّهَادَة وَينْعَقد بهما النِّكَاح فِي الْجُمْلَة
القَوْل فِي شُرُوط الصِّيغَة وَمِمَّا تَركه من الْأَركان الصِّيغَة وَشرط فِيهَا مَا شَرط فِي صِيغَة البيع وَقد مر بَيَانه
وَمِنْه عدم التَّعْلِيق والتأقيت
وَلَفظ مَا يشتق من تَزْوِيج أَو إنكاح وَلَو بعجمية يفهم مَعْنَاهَا العاقدان والشاهدان وَإِن أحسن العاقدان الْعَرَبيَّة اعْتِبَارا بِالْمَعْنَى فَلَا يَصح بِغَيْر ذَلِك كَلَفْظِ بيع وتمليك وَهبة لخَبر مُسلم اتَّقوا الله فِي النِّسَاء فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله وَصَحَّ النِّكَاح بِتَقْدِيم قبُول وبزوجني من قبُول الزَّوْج ويتزوجها من قبل الْوَلِيّ مَعَ قَول الآخر عقبه زَوجتك فِي الأول أَو تَزَوَّجتهَا فِي الثَّانِي لوُجُود الاستدعاء الْجَازِم الدَّال على الرِّضَا لَا بكناية فِي الصِّيغَة كأحللتك بِنْتي إِذْ لَا بُد فِي الْكِنَايَة من النِّيَّة وَالشُّهُود ركن فِي النِّكَاح كَمَا مر وَلَا اطلَاع لَهُم على النِّيَّة
أما الْكِنَايَة فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ كَمَا لَو قَالَ زَوجتك بِنْتي فَقبل ونويا مُعينَة فَيصح النِّكَاح بهَا
القَوْل فِي شُرُوط الزَّوْجَة وَمِمَّا تَركه من الْأَركان أَيْضا الزَّوْجَة وَشرط فِيهَا حل وَتَعْيِين وخلو من نِكَاح وعدة فَلَا يَصح نِكَاح مُحرمَة للْخَبَر السَّابِق وَلَا إِحْدَى امْرَأتَيْنِ للإبهام وَلَا مَنْكُوحَة وَلَا مُعْتَدَّة من غَيره لتَعلق حق الْغَيْر بهَا
القَوْل فِي شُرُوط الزَّوْج وَمِمَّا تَركه من الْأَركان أَيْضا الزَّوْج وَشرط فِيهِ حل وَاخْتِيَار وَتَعْيِين وَعلم بِحل الْمَرْأَة لَهُ فَلَا يَصح نِكَاح محرم وَلَو بوكيل للْخَبَر السَّابِق وَلَا مكره وَغَيره معِين كَالْبيع وَلَا من جهل حلهَا لَهُ احْتِيَاطًا لعقد النِّكَاح(2/411)
فصل فِي بَيَان أَوْلِيَاء
فِي بَيَان أَحْكَام الْأَوْلِيَاء ترتيبا وإجبارا أَو عَدمه وَفِي بعض أَحْكَام الْخطْبَة بِكَسْر الْمُعْجَمَة وَفِي بعض النّسخ ذكر هَذَا الْفَصْل وأسقطه فِي بَعْضهَا فَقَالَ (وَأولى الْوُلَاة) أَي من الْأَقَارِب فِي التَّزْوِيج (الْأَب) لِأَن سَائِر الْأَوْلِيَاء يدلون بِهِ كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ (ثمَّ الْجد أَبُو الْأَب) وَإِن علا لاخْتِصَاص كل مِنْهُم عَن سَائِر الْعَصَبَات بِالْولادَةِ مَعَ مشاركته فِي الْعُصُوبَة (ثمَّ الْأَخ للْأَب وَالأُم) لإدلائه بهما (ثمَّ الْأَخ للْأَب) لإدلائه بِهِ فَهُوَ أقرب من ابْن الْأَخ (ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب وَالأُم) وَإِن سفل (ثمَّ ابْن الْأَخ للْأَب) وَإِن سفل لِأَن ابْن الْأَخ أقرب من الْعم (ثمَّ الْعم) لِأَبَوَيْنِ ثمَّ الْعم لأَب (ثمَّ ابْنه) أَي الْعم لِأَبَوَيْنِ وَإِن سفل ثمَّ ابْن الْعم لأَب وَإِن سفل وَهَذَا معنى قَوْله (على هَذَا التَّرْتِيب) لزِيَادَة الْقرب والشفقة كَالْإِرْثِ وعَلى هَذَا لَو غَابَ الشَّقِيق لم يُزَوّج الَّذِي لأَب بل السُّلْطَان نعم لَو كَانَا ابْنا عَم أَحدهمَا لِأَبَوَيْنِ وَالْآخر لأَب لكنه أَخُوهَا من أمهَا فَالثَّانِي هُوَ الْوَلِيّ لِأَنَّهُ يُدْلِي بالجد وَالأُم وَالْأول يُدْلِي بالجد وَالْجدّة وَلَو كَانَا ابْنا عَم أَحدهمَا ابْنهَا وَالْآخر أَخُوهَا من الْأُم فالابن هُوَ الْمُقدم لِأَنَّهُ أقرب وَلَو كَانَ ابْنا عَم أَحدهمَا مُعتق قدم الْمُعْتق وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه لَو كَانَ الْمُعْتق ابْن عَم لأَب وَالْآخر شقيقا قدم الشَّقِيق وَبِه صرح البُلْقِينِيّ
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف تَسْمِيَة كل من غير الْأَب وَالْجد من الْأَخ وَالْعم وليا وَهُوَ كَذَلِك وَإِن توقف فِيهِ الإِمَام وَجعل الْولَايَة حَقِيقَة للْأَب وَالْجد فَقَط وَلَا يُزَوّج ابْن أمه ببنوة مَحْضَة خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة والمزني لِأَنَّهُ لَا مُشَاركَة بَينه وَبَينهَا فِي النّسَب إِذْ انتسابها إِلَى أَبِيهَا وانتساب الابْن إِلَى أَبِيه فَلَا يعتني بِدفع الْعَار عَن النّسَب فَإِن كَانَ ابْن عَم لَهَا أَو مُعتقة لَهَا أَو عاصب مُعتق لَهَا أَو قَاضِيا أَو وَكيلا عَن وَليهَا كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ زوج بِمَا ذكر فَلَا تضره الْبُنُوَّة لِأَنَّهَا غير مقتضية لَا مَانِعَة فَإِذا وجد مَعهَا سَبَب آخر يَقْتَضِي للولاية لم تَمنعهُ (فَإِذا عدمت الْعَصَبَات) من النّسَب (فالمولى) أَي السَّيِّد (الْمُعْتق) الرجل (ثمَّ عصباته) بِحَق الْوَلَاء سَوَاء كَانَ الْمُعْتق رجلا أَو امْرَأَة وَالتَّرْتِيب هُنَا كَالْإِرْثِ فِي ترتيبه فَيقدم بعد عصبَة الْمُعْتق مُعتق الْمُعْتق ثمَّ عصبته وَهَكَذَا لحَدِيث الْوَلَاء لحْمَة كلحمة(2/412)
النّسَب وَلِأَن الْمُعتقَة أخرجهَا من الرّقّ إِلَى الْحُرِّيَّة فَأشبه الْأَب فِي إِخْرَاجه لَهَا من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود ويزوج عتيقة الْمَرْأَة إِذا فقد ولي العتيقة من النّسَب كل من يُزَوّج الْمُعتقَة مَا دَامَت حَيَّة بِالْولَايَةِ عَلَيْهِ تبعا للولاية على الْمُعتقَة فيزوجها الْأَب ثمَّ الْجد ثمَّ بَقِيَّة الْأَوْلِيَاء على مَا فِي ترتيبهم بِرِضا العتيقة وَيَكْفِي سكُوت الْبكر كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ فِي تكملته وَإِن خَالف فِي ديباجه وَلَا يعْتَبر إِذن الْمُعتقَة فِي ذَلِك فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهَا وَلَا إِجْبَار فَلَا فَائِدَة لَهُ فَإِذا مَاتَت الْمُعتقَة زوج العتيقة من لَهُ الْوَلَاء على الْمُعتقَة من عصباتها فيزوجها ابْنهَا ثمَّ ابْنه ثمَّ أَبوهَا على تَرْتِيب عصبَة الْوَلَاء إِذْ تَبَعِيَّة الْولَايَة انْقَطَعت بِالْمَوْتِ
القَوْل فِي تَزْوِيج الْحَاكِم (ثمَّ) إِن فقد الْمُعْتق وعصبته زوج (الْحَاكِم) الْمَرْأَة الَّتِي فِي مَحل ولَايَته لخَبر السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ فَإِن لم تكن فِي مَحل ولَايَته فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجهَا وَإِن رضيت كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي آخر الْقَضَاء على الْغَائِب وَكَذَا يُزَوّج الْحَاكِم إِذا عضل النسيب الْقَرِيب وَلَو مجبرا وَالْمُعتق وعصبته لِأَنَّهُ حق عَلَيْهِم فَإِذا امْتَنعُوا من وفائه وفاه الْحَاكِم وَلَا تنْتَقل الْولَايَة للأبعد إِذا كَانَ العضل دون ثَلَاث مَرَّات فَإِن كَانَ ثَلَاث مَرَّات زوج الْأَبْعَد بِنَاء على منع ولَايَة الْفَاسِق كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ وَهَذَا فِيمَن لم تغلب طاعاته على مَعَاصيه كَمَا ذَكرُوهُ فِي الشَّهَادَات
وَكَذَا يُزَوّج عِنْد غيبَة الْوَلِيّ مَسَافَة الْقصر وإحرامه وإرادته تزوج موليته وَلَا مساوي لَهُ فِي الدرجَة والمجنونة الْبَالِغَة عِنْد فقد الْمُجبر
وَقد جمع بَعضهم الْمَوَاضِع الَّتِي يُزَوّج فِيهَا الْحَاكِم فِي أَبْيَات فَقَالَ ويزوج الْحَاكِم فِي صور أَتَت منظومة تحكي عُقُود جَوَاهِر عدم الْوَالِي وفقده ونكاحه وكذاك غيبته مَسَافَة قَاصِر وكذاك إِغْمَاء وَحبس مَانع أمة لمحجور تواري الْقَادِر إِحْرَامه وتعزز مَعَ عضله إِسْلَام أم الْفَرْع وَهِي لكَافِر وأهمل النَّاظِم تَزْوِيج الْمَجْنُونَة الْبَالِغَة
وَإِنَّمَا يحصل العضل من الْوَلِيّ إِذا دعت بَالِغَة عَاقِلَة رَشِيدَة كَانَت أَو سَفِيهَة إِلَى كُفْء
وَامْتنع الْوَلِيّ من تَزْوِيجه وَلَو عينت كفأ وَأَرَادَ الْأَب أَو الْجد الْمُجبر كفأ غَيره فَلهُ ذَلِك فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ أكمل نظرا مِنْهَا
الْكَلَام على الْخطْبَة بِكَسْر الْخَاء ثمَّ شرع فِي بعض أَحْكَام الْخطْبَة وَهِي بِكَسْر الْخَاء التمَاس الْخَاطِب النِّكَاح من جِهَة المخطوبة بقوله (وَلَا يجوز أَن(2/413)
يُصَرح بِخطْبَة) امْرَأَة (مُعْتَدَّة) بَائِنا كَانَت أَو رَجْعِيَّة بِطَلَاق أَو فسخ أَو انْفِسَاخ أَو موت أَو مُعْتَدَّة عَن شُبْهَة لمَفْهُوم قَوْله تَعَالَى {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء} الْآيَة
وَحكى ابْن عَطِيَّة الْإِجْمَاع على ذَلِك وَالتَّصْرِيح مَا يقطع بالرغبة فِي النِّكَاح كأريد أَن أنكحك وَإِذا انْقَضتْ عدتك نكحتك وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا صرح تحققت رغبته فِيهَا فَرُبمَا تكذب فِي انْقِضَاء الْعدة
وَلَا يجوز تَعْرِيض لرجعية لِأَنَّهَا زَوْجَة أَو فِي معنى الزَّوْجَة وَلِأَنَّهَا مجفوة بِالطَّلَاق فقد تكذب انتقاما
والتعريض يحْتَمل الرَّغْبَة فِي النِّكَاح وَعدمهَا كَقَوْلِه أَنْت جميلَة
وَرب رَاغِب فِيك وَمن يجد مثله (وَيجوز أَن يعرض لَهَا) لغير الرَّجْعِيَّة (بنكاحها قبل انْقِضَاء الْعدة) سَوَاء كَانَت عدَّة وَفَاة أم بَائِن بِفَسْخ أَو ردة أَو طَلَاق لعُمُوم الْآيَة ولانقطاع سلطنة الزَّوْج عَنْهَا
تَنْبِيه هَذَا كُله فِي غير صَاحب الْعدة الَّذِي يحل لَهُ نِكَاحهَا فِيهَا أما هُوَ فَيحل لَهُ التَّعْرِيض وَالتَّصْرِيح وَأما من لَا يحل لَهُ نِكَاحهَا فِيهَا كَمَا لَو طَلقهَا بَائِنا أَو رَجْعِيًا فَوَطِئَهَا أَجْنَبِي بِشُبْهَة فِي الْعدة فَحملت مِنْهُ فَإِن عدَّة الْحمل تقدم وَلَا يحل لصَاحب عدَّة الشُّبْهَة أَن يخطبها لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ العقد عَلَيْهَا حِينَئِذٍ
وَحكم جَوَاب الْمَرْأَة فِي الصُّور الْمَذْكُورَة تَصْرِيحًا وتعريضا حكم الْخطْبَة فِيمَا تقدم
وَيحرم على عَالم خطْبَة على خطْبَة جَائِزَة مِمَّن صرح بإجابته إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ بِإِذن أَو غَيره من الْخَاطِب أَو الْمُجيب لخَبر الشَّيْخَيْنِ وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ لَا يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه حَتَّى يتْرك الْخَاطِب قبله أَو يَأْذَن لَهُ الْخَاطِب وَالْمعْنَى فِي ذَلِك مَا فِيهِ من الْإِيذَاء
وَيجب ذكر عُيُوب من أُرِيد اجْتِمَاع عَلَيْهِ لمناكحة أَو نَحْوهَا كمعاملة وَأخذ علم لمريده ليحذر بذلا للنصيحة سَوَاء استشير الذاكر فِيهِ أم لَا فَإِن انْدفع بِدُونِهِ بِأَن لم يحْتَج إِلَى ذكرهَا أَو احْتِيجَ إِلَى ذكر بَعْضهَا حرم ذكر شَيْء مِنْهَا فِي الأول وَشَيْء من الْبَعْض الآخر فِي الثَّانِي
القَوْل فِيمَا تُبَاح فِيهِ الْغَيْبَة قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة والغيبة تُبَاح لسِتَّة أَسبَاب وَذكرهَا وَجَمعهَا غَيره فِي هَذَا الْبَيْت فَقَالَ لقب ومستفت وَفسق ظَاهر وَالظُّلم تحذير مزيل الْمُنكر قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء إِلَّا أَن يكون المتظاهر بالمعصية عَالما يقْتَدى بِهِ فتمنع غيبته لِأَن النَّاس إِذا اطلعوا على زلته تساهلوا فِي ارْتِكَاب الذَّنب انْتهى
وَسن خطْبَة بِضَم الْخَاء قبل خطْبَة بِكَسْرِهَا
وَأُخْرَى قبل العقد لخَبر كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِحَمْد الله فَهُوَ أقطع أَي عَن الْبركَة وَتحصل السّنة بِالْخطْبَةِ قبل العقد من الْوَلِيّ أَو الزَّوْج أَو أَجْنَبِي وَلَو أوجب ولي العقد فَخَطب الزَّوْج خطْبَة قَصِيرَة عرفا فَقبل صَحَّ العقد مَعَ الْخطْبَة الفاصلة بَين الْإِيجَاب وَالْقَبُول لِأَنَّهَا مُقَدّمَة الْقبُول فَلَا تقطع الْوَلَاء كالإقامة وَطلب المَاء وَالتَّيَمُّم بَين صَلَاتي الْجمع لَكِنَّهَا لَا تسن بل يسن تَركهَا كَمَا صرح بِهِ ابْن يُونُس(2/414)
القَوْل فِي الْإِجْبَار على النِّكَاح (وَالنِّسَاء) بِالنِّسْبَةِ إِلَى إجبارهن فِي التَّزْوِيج وَعَدَمه (على ضَرْبَيْنِ) الأول (بكر) تجبر (و) الثَّانِي (ثَبت) لَا تجبر (فالبكر) وَلَو كَبِيرَة ومخلوقة بِلَا بكارة أَو زَالَت بلاوطء كسقطة أَو حِدة حيض (يجوز) وَيصِح (للْأَب وَالْجد) أبي الْأَب وَإِن علا عِنْد عدم الْأَب وَإِن عدم أَهْلِيَّته (إجبارها على النِّكَاح) أَي تَزْوِيجهَا بِغَيْر إِذْنهَا لخَبر الدَّارَقُطْنِيّ الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا وَالْبكْر يُزَوّجهَا أَبوهَا وَلِأَنَّهَا لم تمارس الرِّجَال بِالْوَطْءِ فَهِيَ شَدِيدَة الْحيَاء
تَنْبِيه لتزويج الْأَب أَو الْجد الْبكر بِغَيْر إِذْنهَا شُرُوط الأول أَن لَا يكون بَينهَا وَبَينه عَدَاوَة ظَاهِرَة
الثَّانِي أَن يُزَوّجهَا من كُفْء
الثَّالِث أَن يُزَوّجهَا بِمهْر مثلهَا
الرَّابِع أَن يكون من نقد الْبَلَد
الْخَامِس أَن لَا يكون الزَّوْج مُعسرا بِالْمهْرِ
السَّادِس أَن لَا يُزَوّجهَا بِمن تتضرر بمعاشرته كأعمى أَو شيخ هرم
السَّابِع أَن لَا يكون قد وَجب عَلَيْهَا نسك فَإِن الزَّوْج يمْنَعهَا لكَون النّسك على التَّرَاخِي وَلها غَرَض فِي تَعْجِيل بَرَاءَة ذمَّتهَا قَالَه ابْن الْعِمَاد
وَهل هَذِه الشُّرُوط الْمَذْكُورَة شُرُوط لصِحَّة النِّكَاح بِغَيْر الْإِذْن أَو لجَوَاز الْإِقْدَام فَقَط فِيهِ مَا هُوَ تعْتَبر لهَذَا وَمَا هُوَ مُعْتَبر لذَلِك فالمعتبرات للصِّحَّة بِغَيْر الْإِذْن أَن لَا يكون بَينهَا وَبَين وَليهَا عَدَاوَة ظَاهِرَة وَأَن يكون الزَّوْج كفأ وَأَن يكون مُوسِرًا بِحَال صَدَاقهَا وَمَا عدا ذَلِك شُرُوط لجَوَاز الْإِقْدَام
قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ وَيَنْبَغِي أَن يعْتَبر فِي الْإِجْبَار أَيْضا انْتِفَاء الْعَدَاوَة بَينهَا وَبَين الزَّوْج انْتهى
وَإِنَّمَا لم يعتبروا ظُهُور الْعَدَاوَة هُنَا كَمَا اعْتبر ثمَّ لظُهُور الْفرق بَين الزَّوْج وَالْوَلِيّ الْمُجبر بل قد يُقَال إِنَّه لَا حَاجَة إِلَى مَا قَالَه لِأَن انْتِفَاء الْعَدَاوَة بَينهَا وَبَين الْوَلِيّ يَقْتَضِي أَن لَا يُزَوّجهَا إِلَّا مِمَّن يحصل لَهَا مِنْهُ حَظّ ومصلحة لشفقته عَلَيْهَا أما مُجَرّد كراهتها لَهُ من غير ضَرَر فَلَا يُؤثر لَكِن يكره لوَلِيّهَا أَن يُزَوّجهَا مِنْهُ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم وَيسن اسْتِئْذَان الْبكر إِذا كَانَت مكلفة لحَدِيث مُسلم وَالْبكْر يستأمرها أَبوهَا وَهُوَ مَحْمُول على النّدب تطييبا لخاطرها وَأما غير المكلفة فَلَا إِذن لَهَا
وَيسن اسْتِفْهَام المراهقة وَأَن لَا تزوج الصَّغِيرَة حَتَّى تبلغ وَالسّنة فِي الاسْتِئْذَان لوَلِيّهَا أَن يُرْسل إِلَيْهَا نسْوَة ثِقَات ينظرن مَا فِي نَفسهَا وَالأُم بذلك أولى لِأَنَّهَا تطلع على مَا لَا يطلع غَيرهَا
من لَا تجبر على النِّكَاح (وَالثَّيِّب) الْبَالِغَة (لَا يجوز) وَلَا يَصح (تَزْوِيجهَا) وَإِن عَادَتْ بَكَارَتهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا لخَبر الدَّارَقُطْنِيّ السَّابِق وَخبر لَا تنْكِحُوا الْأَيَامَى حَتَّى تستأمروهن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح
وَلِأَنَّهَا عرفت مَقْصُود النِّكَاح فَلَا تجبر بِخِلَاف الْبكر فَإِن كَانَت الثّيّب صَغِيرَة غير مَجْنُونَة وَغير أمة لم تزوج سَوَاء احتملت الْوَطْء أم لَا
(إِلَّا بعد بُلُوغهَا وإذنها) لِأَن إِذن الصَّغِيرَة غير مُعْتَبر فَامْتنعَ تَزْوِيجهَا إِلَى الْبلُوغ أما الْمَجْنُونَة فيزوجها الْأَب وَالْجد عِنْد عَدمه قبل بُلُوغهَا للْمصْلحَة وَأما الْأمة فلسيدها أَن يُزَوّجهَا وَكَذَا الْوَلِيّ السَّيِّد عِنْد الْمصلحَة(2/415)
تَتِمَّة لَو وطِئت الْبكر فِي قبلهَا وَلم تزل بَكَارَتهَا كَأَن كَانَت غوراء فَهِيَ كَسَائِر الْأَبْكَار وَإِن كَانَ مُقْتَضى تَعْلِيلهم بممارسة الرِّجَال خِلَافه كَمَا أَن قَضِيَّة كَلَامهم كَذَلِك إِذا زَالَت بِذكر حَيَوَان غير آدَمِيّ كقرد مَعَ أَن الْأَوْجه أَنَّهَا كالثيب وَلَو خلقت بِلَا بكارة فَحكمهَا حكم الْأَبْكَار كَمَا حَكَاهُ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن الصَّيْمَرِيّ وَأقرهُ
وَتصدق المكلفة فِي دَعْوَى الْبكارَة وَإِن كَانَت فاسقة قَالَ ابْن الْمقري بِلَا يَمِين وَكَذَا فِي دَعْوَى الثيوبة قبل العقد وَإِن لم تتَزَوَّج وَلَا تسْأَل الْوَطْء فَإِن ادَّعَت الثيوبة بعد العقد وَقد زَوجهَا الْوَلِيّ بِغَيْر إِذْنهَا نطقا فَهُوَ الْمُصدق بِيَمِينِهِ لما فِي تصديقها من إبِْطَال النِّكَاح بل لَو شهِدت أَربع نسْوَة بثيوبتها عِنْد العقد لم يبطل لجَوَاز إِزَالَتهَا بأصبع أَو نَحوه أَو أَنَّهَا خلقت بِدُونِهَا كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَإِن أفتى ابْن الصّلاح بِخِلَافِهِ
فصل فِي مُحرمَات النِّكَاح ومثبتات الْخِيَار فِيهِ
(والمحرمات) على قسمَيْنِ تَحْرِيم مؤبد وَتَحْرِيم غير مؤبد وَمن الأول وَإِن لم يذكرهُ الشَّيْخَانِ اخْتِلَاف الْجِنْس فَلَا يجوز للآدمي نِكَاح الجنبة كَمَا قَالَ ابْن يُونُس وَأفْتى بِهِ ابْن عبد السَّلَام خلافًا للقمولي قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} والمؤبد (بِالنَّصِّ) الْقطعِي فِي الْآيَة الْكَرِيمَة الْآتِيَة عَن قرب (أَربع عشرَة) وَله ثَلَاثَة أَسبَاب قرَابَة ورضاع ومصاهرة وَقد بَدَأَ بِالسَّبَبِ الأول
القَوْل فِي الْمُحرمَات بِالنّسَبِ والمحرمات بِالنّسَبِ وَهُوَ الْقَرَابَة بقوله (سبع) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة أَي يحرمن (بِالنّسَبِ) لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم وأخواتكم} الْآيَة وَلما يحرم بِالنّسَبِ وَالرّضَاع ضابطان الأول تحرم نسَاء الْقَرَابَة إِلَّا من دخلت تَحت ولد العمومة أَو ولد الخؤولة وَالثَّانِي يحرم على الرجل أُصُوله وفصوله وفصول أول أُصُوله وَأول فصل من كل أصل بعد الأَصْل الأول فالأصول الْأُمَّهَات والفصول الْبَنَات وفصول أول الْأُصُول الْأَخَوَات وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت وَأول فصل من كل أصل بعد الأَصْل الأول العمات والخالات
وَالضَّابِط الأول أرجح كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ لإيجازه وَنَصه على الْإِنَاث بِخِلَاف الثَّانِي
(وَهِي) أَي السَّبع من النّسَب الأول مِنْهَا (الْأُم) أَي يحرم العقد عَلَيْهَا وَكَذَا يقدر فِي الْبَاقِي وَضَابِط الْأُم هِيَ كل من وَلدتك فَهِيَ أمك حَقِيقَة أَو ولدت من ولدك ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى كَأُمّ الْأَب (وَإِن علت) وَأم الْأُم كَذَلِك فَهِيَ أمك مجَازًا وَإِن شِئْت قلت كل أُنْثَى يَنْتَهِي إِلَيْهَا نسبك بِوَاسِطَة أَو بغَيْرهَا(2/416)
(و) الثَّانِي (الْبِنْت) وضابطها كل من ولدتها فبنتك حَقِيقَة أَو ولدت من وَلَدهَا ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى كَبِنْت ابْن وَإِن نزل وَبنت بنت (وَإِن سفلت) فبنتك مجَازًا وَإِن شِئْت قلت كل أُنْثَى يَنْتَهِي إِلَيْك نَسَبهَا بِالْولادَةِ بِوَاسِطَة أَو بغَيْرهَا (و) الثَّالِث (الْأُخْت) وضابطها كل من وَلَدهَا أَبَوَاك أَو أَحدهمَا فأختك
(و) الرَّابِع (الْخَالَة) وضابطها كل أُخْت أُنْثَى وَلدتك فخالتك حَقِيقَة أَو بِوَاسِطَة كخالة أمك فخالتك مجَازًا وَقد تكون الْخَالَة من جِهَة الْأَب كأخت أم الْأَب
تَنْبِيه كَانَ الأولى أَن يُؤَخر الْخَالَة عَن الْعمة ليَكُون على تَرْتِيب الْآيَة
(و) الْخَامِس (الْعمة) وضابطها كل أُخْت ذكر ولدك بِلَا وَاسِطَة فعمتك حَقِيقَة أَو بِوَاسِطَة كعمة أَبِيك فعمتك مجَازًا
وَقد تكون الْعمة من جِهَة الْأُم كأخت أبي الْأُم (و) السَّادِس وَالسَّابِع (بنت الْأَخ وَبنت الْأُخْت) من جَمِيع الْجِهَات وَبَنَات أولادهما وَإِن سفلن
تَنْبِيه علم من كَلَام المُصَنّف أَن الْبِنْت المخلوقة من مَاء زِنَاهُ سَوَاء تحقق أَنَّهَا من مَائه أم لَا تحل لَهُ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّة إِذْ لَا حُرْمَة لماء الزِّنَا بِدَلِيل انْتِفَاء سَائِر أَحْكَام النّسَب من إِرْث وَغَيره عَنْهَا فَلَا تبعض الْأَحْكَام كَمَا يَقُول الْمُخَالف
فَإِن منع الْإِرْث إِجْمَاع كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَلَكِن يكره نِكَاحهَا خُرُوجًا من خلاف من حرمهَا وَلَو أرضعت الْمَرْأَة بِلَبن الزَّانِي صَغِيرَة فكبنته قَالَه الْمُتَوَلِي
وَيحرم على الْمَرْأَة وعَلى سَائِر محارمها وَلَدهَا من زنا بِالْإِجْمَاع كَمَا أَجمعُوا على أَنه يَرِثهَا وَالْفرق أَن الابْن كالعضو مِنْهَا وانفصل مِنْهَا إنْسَانا وَلَا كَذَلِك النُّطْفَة الَّتِي خلقت مِنْهَا الْبِنْت بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَب
ثمَّ شرع فِي السَّبَب الثَّانِي الرَّضَاع بقوله (وَاثْنَتَانِ بِالرّضَاعِ) وهما (الْأُم الْمُرضعَة وَالْأُخْت من الرَّضَاع) لقَوْله تَعَالَى {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة} فَمن ارتضع من امْرَأَة صَارَت بناتها الموجودات قبله والحادثات بعده أَخَوَات لَهُ وَإِنَّمَا ذكرت ذَلِك مَعَ وضوحه لِأَن كثيرا من جهلة الْعَوام يظنون أَن الْأُخْت من الرَّضَاع هِيَ الَّتِي ارتضعت مَعَه دون غَيرهَا ويسألون عَنهُ كثيرا فمرضعتك وَمن أرضعتها أَو ولدتها أَو ولدت أَبَا من رضَاع وَهُوَ الْفَحْل أَو أَرْضَعَتْه أَو أرضعت من ولدك بِوَاسِطَة أَو غَيرهَا أم رضَاع وَقس على ذَلِك الْبَاقِي من السَّبع بِالرّضَاعِ بِمَا ذكر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من الْولادَة وَفِي رِوَايَة من النّسَب وَفِي أُخْرَى حرمُوا من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب وَلَا يحرم عَلَيْك مُرْضِعَة أَخِيك أَو أختك وَلَو كَانَت أم نسب حرمت عَلَيْك لِأَنَّهَا أمك أَو مَوْطُوءَة أَبِيك وَلَا مُرْضِعَة نافلتك وَهُوَ ولد الْوَلَد وَلَو كَانَت أم نسب حرمت عَلَيْك لِأَنَّهَا بنتك أَو مَوْطُوءَة ابْنك وَلَا أم مُرْضِعَة ولدك وَلَا بنت الْمُرضعَة وَلَو كَانَت الْمُرضعَة أم نسب كَانَت موطوءتك فَيحرم عَلَيْك أمهَا وبنتها فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة يحرمن فِي النّسَب وَلَا يحرمن فِي الرَّضَاع فاستثناها بَعضهم من قَاعِدَة يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب والمحققون كَمَا فِي الرَّوْضَة على أَنَّهَا لَا تستثنى لعدم دُخُولهَا فِي الْقَاعِدَة لِأَنَّهُنَّ إِنَّمَا يحرمن فِي النّسَب لِمَعْنى لم يُوجد فِيهِنَّ فِي الرَّضَاع كَمَا قَرّرته وَلَا يجرم عَلَيْك أُخْت أَخِيك سَوَاء كَانَت من نسب كَأَن كَانَ لزيد أَخ لأَب وَأُخْت لأم فلأخيه نِكَاحهَا
أم من رضَاع كَأَن ترْضع امْرَأَة زيدا وصغيرة أَجْنَبِيَّة مِنْهُ فلأخيه لِأَبِيهِ نِكَاحه وَسَوَاء أَكَانَت الْأُخْت أُخْت أَخِيك لأَبِيك لأمه كَمَا مثلنَا أم أُخْت أَخِيك لأمك لِأَبِيهِ مِثَاله فِي النّسَب أَن يكون لأبي أَخِيك بنت من غير أمك فلك نِكَاحهَا وَفِي الرَّضَاع أَن ترتضع صَغِيرَة بِلَبن أبي أَخِيك لأمك فلك نِكَاحهَا
بقوله (وَأَرْبع بالمصاهرة) وَهن (أم الزَّوْجَة) بِوَاسِطَة أَو بغَيْرهَا من نسب أَو رضَاع سَوَاء أَدخل بهَا أم لَا لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم}(2/417)
القَوْل فِي الْمُحرمَات بالمصاهرة ثمَّ شرع فِي السَّبَب الثَّالِث وَهُوَ الْمُصَاهَرَة (والربيبة إِذا دخل بِالْأُمِّ) بِعقد صَحِيح أَو فَاسد لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم} وَذكر الحجور خرج مخرج الْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهُ فَإِن قيل لم أُعِيد الْوَصْف إِلَى الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَلم يعد إِلَى الْجُمْلَة الأولى وَهِي {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} مَعَ أَن الصِّفَات عقب الْجمل تعود إِلَى الْجَمِيع أُجِيب بِأَن نِسَائِكُم الثَّانِي مجرور بِحرف الْجَرّ ونسائكم الأول مجرور بالمضاف وَإِذا اخْتلف الْعَامِل لم يجز الِاتِّبَاع وَيتَعَيَّن الْقطع
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَام الشَّيْخ أبي حَامِد وَغَيره أَنه يعْتَبر فِي الدُّخُول أَن يَقع فِي حَيَاة الْأُم فَلَو مَاتَت قبل الدُّخُول وَوَطئهَا بعد مَوتهَا لم تحرم بنتهَا لِأَن ذَلِك لَا يُسمى دُخُولا وَإِن تردد فِيهِ الرَّوْيَانِيّ
فَإِن قيل لم يعتبروا الدُّخُول فِي تَحْرِيم الْأُصُول واعتبروا فِي تَحْرِيم الْبِنْت الدُّخُول أُجِيب بِأَن الرجل يبتلى عَادَة بمكالمة أمهَا عقب العقد لترتيب أُمُوره فَحرمت بِالْعقدِ ليسهل ذَلِك بِخِلَاف بنتهَا
تَنْبِيه من حرم بِالْوَطْءِ لَا يعْتَبر فِيهِ صِحَة العقد كالربيبة وَمن حرم بِالْعقدِ فَلَا بُد فِيهِ من صِحَة العقد
نعم لَو وطىء فِي العقد الْفَاسِد حرم بِالْوَطْءِ فِيهِ لَا بِالْعقدِ
فَائِدَة الربيبة بنت الزَّوْجَة وبناتها وَبنت ابْن الزَّوْجَة وبناتها ذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره وَمن هَذَا يعلم تَحْرِيم بنت الربيبة وَبنت الربيب لِأَنَّهَا من بَنَات أَوْلَاد زَوجته وَهِي مَسْأَلَة نفيسة يَقع السُّؤَال عَنْهَا كثيرا وكل من وطىء امْرَأَة بِملك حرم عَلَيْهِ أمهاتها وبناتها وَحرمت هِيَ على آبَائِهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِالْإِجْمَاع وَكَذَا الْمَوْطُوءَة الْحَيَّة بِشُبْهَة فِي حَقه كَأَن ظَنّهَا زَوجته أَو أمته يحرم عَلَيْهِ أمهاتها وبناتها وَتحرم هِيَ على آبَائِهِ كَمَا يثبت فِي هَذَا الْوَطْء النّسَب وَيُوجب الْعدة لَا الْمُزنِيّ بهَا فَلَا يثبت بزناها حُرْمَة مصاهرة فللزاني نِكَاح أم من زنى بهَا وبنتها ولابنه وَأَبِيهِ نِكَاحهَا هِيَ وبنتها لِأَن الله تَعَالَى امتن على عباده بِالنّسَبِ والصهر فَلَا يثبت بِالزِّنَا كالنسب وَلَيْسَت مُبَاشرَة كلمس وقبلة بِشَهْوَة كَوَطْء لِأَنَّهَا لَا توجب الْعدة فَكَذَا لَا توجب الْحُرْمَة
قبل الْأَب أَو الْأُم وَإِن لم يدْخل بهَا لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا}(2/418)
(و) تحرم (زَوْجَة الْأَب) وَهُوَ من ولدك بِوَاسِطَة أَو غَيرهَا أَبَا أَو جدا من مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء إِلَّا مَا قد سلف قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي فِي الْأُم يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّة قبل علمكُم بِتَحْرِيمِهِ
(و) تحرم (زَوْجَة الابْن) وَهُوَ من وَلدته بِوَاسِطَة أَو غَيرهَا وَإِن لم يدْخل ولدك بهَا لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم}
تَنْبِيه لَا فرق فِي الْفَرْع وَالْأَصْل بَين أَن يكون من نسب أَو رضَاع أما النّسَب فللآية وَأما الرَّضَاع فللحديث الْمُتَقَدّم
فَإِن قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} فَكيف حرمت حَلِيلَة الابْن من الرَّضَاع أُجِيب بِأَن الْمَفْهُوم إِنَّمَا يكون حجَّة إِذا لم يُعَارضهُ مَنْطُوق وَقد عَارضه هُنَا مَنْطُوق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب
فَإِن قيل فَمَا فَائِدَة التَّقْيِيد فِي الْآيَة حِينَئِذٍ أُجِيب بِأَن فَائِدَة ذَلِك إِخْرَاج حَلِيلَة المتبني فَلَا يحرم على الْمَرْء زَوْجَة من تبناه لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْن لَهُ وَلَا تحرم بنت زوج الْأُم وَلَا أمه وَلَا بنت زوج الْبِنْت وَأمه وَلَا أم زَوْجَة الْأَب وَلَا بنتهَا وَلَا أم زَوْجَة الابْن وَلَا بنتهَا وَلَا زَوْجَة الربيب وَلَا زَوْجَة الراب
(القَوْل فِي التَّحْرِيم غير المؤبد) ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيم غير المؤبد بقوله (و) تحرم (وَاحِدَة من جِهَة الْجمع) فِي الْعِصْمَة (وَهِي أُخْت الزَّوْجَة) فَلَا يتأبد تَحْرِيمهَا بل تحل بِمَوْت أُخْتهَا أَو بينونتها لقَوْله تَعَالَى {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} وَلما فِي ذَلِك من قطيعة الرَّحِم وَإِن رضيت بذلك فَإِن الطَّبْع يتَغَيَّر
(وَلَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها وَلَا خَالَتهَا) من نسب أَو رضَاع وَلَو بِوَاسِطَة لخَبر لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا الْعمة على بنت أَخِيهَا وَلَا الْمَرْأَة على خَالَتهَا وَلَا الْخَالَة على بنت أُخْتهَا لَا الْكُبْرَى على الصُّغْرَى وَلَا الصُّغْرَى على الْكُبْرَى رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره وصححوه
وَلما مر من التَّعْلِيل فِي الْأُخْتَيْنِ
القَوْل فِي التَّحْرِيم بِالرّضَاعِ (وَيحرم من) النِّسَاء بِسَبَب (الرَّضَاع مَا يحرم) مِنْهُنَّ (من النّسَب) وَهِي السَّبْعَة الْمُتَقَدّمَة
وَقدمنَا أَنه يحرم زَوْجَة وَالِده من الرَّضَاع وَزَوْجَة وَلَده كَذَلِك وَبنت زَوجته كَذَلِك أما تَحْرِيم الْأُم وَالْأُخْت من الرَّضَاع فَلَمَّا مر
وَأما تَحْرِيم الْبَوَاقِي فللحديث الْمَار وَهُوَ يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب
تَنْبِيه من حرم جَمعهمَا بِنِكَاح حرم أَيْضا فِي الْوَطْء بِملك الْيَمين أَو ملك وَنِكَاح وَله تملكهما بِالْإِجْمَاع فَإِن وطىء وَاحِدَة مِنْهُمَا وَلَو مكْرها حرمت الْأُخْرَى حَتَّى يحرم الأولى بِإِزَالَة ملك أَو نِكَاح أَو كِتَابَة إِذْ لَا جمع حِينَئِذٍ بِخِلَاف غَيرهَا كحيض وَرهن وإحرام وردة لِأَنَّهَا لَا تزيل الْملك وَلَا الِاسْتِحْقَاق فَلَو عَادَتْ الأولى كَأَن ردَّتْ بِعَيْب قبل وَطْء الْأُخْرَى فَلهُ وَطْء أَيَّتهمَا شَاءَ بعد اسْتِبْرَاء العائدة أَو بعد وَطئهَا حرمت العائدة حَتَّى يحرم الْأُخْرَى وَيشْتَرط أَن تكون كل مِنْهُمَا مُبَاحَة على انفرادها فَلَو كَانَت إِحْدَاهمَا مَجُوسِيَّة أَو نَحْوهَا كمحرم فَوَطِئَهَا جَازَ لَهُ وَطْء الْأُخْرَى نعم لَو ملك أما وبنتها فوطىء إِحْدَاهمَا حرمت الْأُخْرَى مُؤَبَّدًا كَمَا علم مِمَّا مر
وَلَو ملك أمة ثمَّ نكح من يحرم الْجمع بَينهمَا وَبَينهَا كَأَن نكح أُخْتهَا الْحرَّة أَو عَمَّتهَا أَو خَالَتهَا أَو نكح امْرَأَة ثمَّ ملك(2/419)
من يحرم الْجمع بَينهَا وَبَينهَا كَأَن ملك أُخْتهَا حلت الْمَنْكُوحَة فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ دون الْمَمْلُوكَة لِأَن فرَاش النِّكَاح أقوى إِذْ يتَعَلَّق بِهِ الطَّلَاق وَالظِّهَار وَالْإِيلَاء وَغَيرهَا بِخِلَاف الْملك
القَوْل فِيمَا ترد بِهِ الْمَرْأَة وَيثبت الْخِيَار للرجل ثمَّ شرع فِي مثبتات الْخِيَار بقوله (وَترد الْمَرْأَة) بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي يثبت للزَّوْج خِيَار فسخ نِكَاحه
(بِخَمْسَة عُيُوب) أَي بِوَاحِدَة مِنْهَا وَإِن أوهمت عِبَارَته أَنه لَا بُد من اجتماعها أَشَارَ إِلَى الأول بقوله (بالجنون) وَإِن تقطع وَكَانَ قَابلا للعلاج
وَالْجُنُون زَوَال الشُّعُور من الْقلب مَعَ بَقَاء الْحَرَكَة وَالْقُوَّة فِي الْأَعْضَاء
وَاسْتثنى الْمُتَوَلِي من المتقطع الْخَفِيف الَّذِي يطْرَأ فِي بعض الزَّمَان وَأما الْإِغْمَاء بِالْمرضِ فَلَا يثبت بِهِ خِيَار كَسَائِر الْأَمْرَاض وَمحله كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ فِيمَا تحصل مِنْهُ الْإِفَاقَة كَمَا هُوَ الْغَالِب
أما الميئوس من زَوَاله فكالجنون كَمَا ذكره الْمُتَوَلِي وَكَذَا إِن بَقِي الْإِغْمَاء بعد الْمَرَض فَيثبت بِهِ الْخِيَار كالجنون وَألْحق الشَّافِعِي الخبل بالجنون
والصراع نوع من الْجُنُون كَمَا قَالَ بعض الْعلمَاء
(و) الثَّانِي (الجذام) وَهُوَ عِلّة يحمر مِنْهَا الْعُضْو ثمَّ يسود ثمَّ يتقطع ويتناثر
وَيتَصَوَّر ذَلِك فِي كل عُضْو لكنه فِي الْوَجْه أغلب (و) الثَّالِث (البرص) وَهُوَ بَيَاض شَدِيد يبقع الْجلد وَيذْهب دمويته هَذَا إِذا كَانَا مستحكمين بِخِلَاف غَيرهمَا من أَوَائِل الجذام والبرص لَا يثبت بِهِ الْخِيَار كَمَا صرح بِهِ الْجُوَيْنِيّ قَالَ والاستحكام فِي الجذام يكون بالتقطع وَتردد الإِمَام فِيهِ وَجوز الِاكْتِفَاء باسوداده
وَحكم أهل الْمعرفَة باستحكام الْعلَّة وَلم يشترطوا فِي الْجُنُون الاستحكام قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَعَلَّ الْفرق أَن الْجُنُون يُفْضِي إِلَى الْجِنَايَة
(و) الرَّابِع (الرتق) وَهُوَ بِفَتْح الرَّاء والمثناة الْفَوْقِيَّة انسداد الْفرج بِاللَّحْمِ وَيخرج الْبَوْل من ثقبة صَغِيرَة كإحليل الرجل قَالَه فِي الْكِفَايَة
(و) الْخَامِس (الْقرن) وَهُوَ بِفَتْح الْقَاف وَكَذَا الرَّاء على الْأَرْجَح انسداد الْفرج بِعظم على الْأَصَح وَقيل بِلَحْم وَعَلِيهِ فالرتق والقرن وَاحِد فَيثبت لَهُ الْخِيَار بِكُل مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يخل بمقصود النِّكَاح كالبرص وَأولى لِأَن البرص لَا يمنعهُ بِالْكُلِّيَّةِ بل ينفر مِنْهُ
وَلَيْسَ للزَّوْج إجبارها على شقّ الْموضع فَإِن شقته وَأمكن الْوَطْء فَلَا خِيَار وَلَا تمكن الْأمة من الشق قطعا إِلَّا بِإِذن السَّيِّد
القَوْل فِيمَا يثبت الْخِيَار للْمَرْأَة وَيرد نِكَاح الرجل (وَيرد الرجل) أَيْضا بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول أَي يثبت للْمَرْأَة فسخ نِكَاحهَا مِنْهُ (بِخَمْسَة عُيُوب) أَي بِوَاحِد مِنْهُمَا كَمَا مر وَأَشَارَ إِلَى ثَلَاثَة مِنْهَا بقوله (بالجنون والجذام والبرص) على مَا مر بَيَانا وتحريرا فِي كل مِنْهَا(2/420)
(و) الرَّابِع (الْجب) وَهُوَ بِفَتْح الْجِيم قطع جَمِيع الذّكر مَعَ بَقَاء الْأُنْثَيَيْنِ أَو لم يبْق مِنْهُ قدر الْحَشَفَة أما إِذا بَقِي مِنْهُ مَا يولج قدرهَا فَلَا خِيَار لَهَا على الْأَصَح فَلَو تنَازعا فِي إِمْكَان الْوَطْء بِهِ قبل قَوْله على الْأَصَح وَخرج بِهِ الْخصي وَهُوَ من قطعت أنثياه وَبَقِي ذكره فَلَا خِيَار لَهَا بِهِ على الْأَصَح لقدرته على الْجِمَاع قَالَ ابْن الملقن فِي شرح الْحَاوِي وَيُقَال إِنَّه أقدر عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا ينزل فَلَا يَعْتَرِيه فتور
(و) الْخَامِس (الْعنَّة) فِي الْمُكَلف قبل الْوَطْء فِي قبلهَا
وَهُوَ بِضَم الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون عِلّة فِي الْقلب والكبد أَو الدِّمَاغ أَو الْآلَة تسْقط الشَّهْوَة الناشرة للآلة فتمنع الْجِمَاع
وَخرج بِقَيْد الْمُكَلف الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا تسمع دَعْوَى الْعنَّة فِي حَقّهمَا لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يثبت بِإِقْرَار الزَّوْج أَو بِيَمِينِهَا بعد نُكُوله وإقرارهما لَغْو
وبقيد قبل الْوَطْء الْعنَّة الْحَادِثَة بعده وَلَو مرّة بِخِلَاف حُدُوث الْجب بعد الْوَطْء فَإِنَّهُ يثبت بِهِ خِيَار الْفَسْخ على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة
وَفرق بتوقع زَوَال الْعنَّة بِحُصُول الشِّفَاء وعود الداعية للاستمتاع فَهِيَ مترجية لحُصُول مَا يعفها بِخِلَاف الْجب ليأسها من توقع حُصُول مَا يعفها
تَنْبِيه ثُبُوت الْخِيَار بِهَذِهِ الْعُيُوب قَالَ بِهِ جُمْهُور الْعلمَاء وَجَاءَت بِهِ الْآثَار وَصَحَّ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الثَّلَاثَة الأول وَهِي الْمُشْتَركَة بَين الزَّوْجَيْنِ رَوَاهُ الشَّافِعِي وعول عَلَيْهِ لِأَن مثله لَا يكون إِلَّا عَن تَوْقِيف
وَفِي الصَّحِيح فر من المجذوم فرارك من الْأسد
قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَأما الجذام والبرص فَإِنَّهُ أَي كلا مِنْهُمَا يعدي الزَّوْج وَالْولد وَقَالَ فِي مَوضِع آخر الجذام والبرص مِمَّا يزْعم أهل الْعلم بالطب والتجارب أَنه يعدي كثيرا وَهُوَ مَانع للجماع لَا تكَاد النُّفُوس تطيب أَن تجامع من هُوَ بِهِ وَالْولد قَلما يسلم مِنْهُ وَإِن سلم أدْرك نَسْله
فَإِن قيل كَيفَ قَالَ الشَّافِعِي إِنَّه يعدي وَقد صَحَّ فِي الحَدِيث لَا عدوى أَنه أُجِيب بِأَن مُرَاده أَنه يعدى بِفعل الله تَعَالَى لَا بِنَفسِهِ والْحَدِيث ورد ردا لما يَعْتَقِدهُ أهل الْجَاهِلِيَّة من نِسْبَة الْفِعْل لغير الله تَعَالَى
وَلَو حدث بِالزَّوْجِ بعد العقد عيب كَأَن جب ذكره وَلَو بعد الدُّخُول وَلَو بِفِعْلِهَا ثَبت لَهَا الْخِيَار بِخِلَاف حُدُوث الْعنَّة بعد الدُّخُول كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَإِلَى الْفرق بَين الْجب والعنة
وَلَو حدث بهَا عيب تخير الزَّوْج قبل الدُّخُول وَبعده كَمَا لَو حدث بِهِ وَلَا خِيَار لوَلِيّ بحادث(2/421)
وَكَذَا بمقارن جب وعنة للْعقد وَيتَخَيَّر بمقارن جُنُون الزَّوْج وَإِن رضيت الزَّوْجَة بِهِ وَكَذَا بمقارن جذام وبرص فِي الْأَصَح للعار
وَالْخيَار فِي الْفَسْخ بِهَذِهِ الْعُيُوب إِذا ثبتَتْ يكون على الْفَوْر لِأَنَّهُ خِيَار عيب فَكَانَ على الْفَوْر كَمَا فِي البيع وَيشْتَرط فِي الْفَسْخ بِعَيْب الْعنَّة وَكَذَا بَاقِي الْعُيُوب رفع إِلَى حَاكم لِأَنَّهُ مُجْتَهد فِيهِ فَأشبه الْفَسْخ بالإعسار
وَتثبت الْعنَّة بِإِقْرَار الزَّوْج أَو بِبَيِّنَة على إِقْرَاره لِأَنَّهُ لَا مطلع للشُّهُود عَلَيْهَا وَتثبت أَيْضا بِيَمِينِهَا بعد نُكُوله وَإِذا ثبتَتْ ضرب القَاضِي لَهُ سنة كَمَا فعله عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِطَلَب الزَّوْجَة لِأَن الْحق لَهَا فَإِذا تمت رفعته إِلَى القَاضِي فَإِن قَالَ وطِئت حلف فَإِن نكل حَلَفت واستقلت بِالْفَسْخِ كَمَا يسْتَقلّ بِالْفَسْخِ من وجد بِالْمَبِيعِ عَيْبا
خَاتِمَة حَيْثُ اخْتلف الزَّوْجَانِ فِي الْإِصَابَة كَانَ الْمُصدق نافيها أخذا بِالْأَصْلِ إِلَّا فِي مسَائِل الأولى الْعنين كَمَا مر
الثَّانِيَة الْمولي وَهُوَ كالعنين فِي أَكثر مَا ذكر الثَّالِثَة إِذا ادَّعَت الْمُطلقَة ثَلَاثًا أَن الْمُحَلّل وَطئهَا وفارقها وَانْقَضَت عدتهَا وَأنكر الْمُحَلّل الْوَطْء فَتصدق بِيَمِينِهَا لحلها للْأولِ
الرَّابِعَة إِذا علق طَلاقهَا بِعَدَمِ الْوَطْء فَادَّعَاهُ وأنكرته صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل بَقَاء النِّكَاح
وَذكرت صورا أُخْرَى فِي شرح الْمِنْهَاج من أرادها فليراجعه
فصل فِي الصَدَاق
وَهُوَ بِفَتْح الصَّاد أشهر من كسرهَا مَا وَجب بِنِكَاح أَو وَطْء أَو تَفْوِيت بضع قهرا كرضاع وَرُجُوع شُهُود
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} أَي عَطِيَّة من الله مُبتَدأَة والمخاطب بذلك الْأزْوَاج عِنْد الْأَكْثَرين وَقيل الْأَوْلِيَاء لأَنهم كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يأخذونه ويسمونه نحلة لِأَن الْمَرْأَة
وَقَوله تَعَالَى {فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمريد التَّزْوِيج تستمتع بِالزَّوْجِ كاستمتاعه بهَا وَأكْثر فَكَأَنَّهَا تَأْخُذ الصَدَاق من(2/422)
غير مُقَابل التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
(وَيسْتَحب) للزَّوْج (تَسْمِيَة الْمهْر) للزَّوْجَة (فِي) صلب (النِّكَاح) أَي العقد لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخل نِكَاحا عَنهُ وَلِأَنَّهُ أدفَع للخصومة وَلِئَلَّا يشبه نِكَاح الواهبة نَفسهَا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن السَّيِّد إِذا زوج عَبده أمته أَنه يسْتَحبّ لَهُ ذكر الْمهْر وَهُوَ مَا فِي الرَّوْضَة تبعا لبَعض نسخ الشَّرْح الْكَبِير وَهُوَ الْمُعْتَمد إِذْ لَا ضَرَر فِي ذَلِك وَإِن خَالف فِي ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين
وَيسن أَن لَا يدْخل بهَا حَتَّى يدْفع إِلَيْهَا شَيْئا من الصَدَاق خُرُوجًا من خلاف من أوجبه (فَإِن لم يسم) صَدَاقا بِأَن أخلى العقد مِنْهُ (صَحَّ العقد) بِالْإِجْمَاع لَكِن مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالْمُتوَلِّيّ وَغَيرهمَا
وَقد تجب التَّسْمِيَة فِي صور الأولى إِذا كَانَت الزَّوْجَة غير جَائِزَة التَّصَرُّف أَو مَمْلُوكَة لغير جَائِز التَّصَرُّف
الثَّانِيَة إِذا كَانَت جَائِزَة التَّصَرُّف وأذنت لوَلِيّهَا أَن يُزَوّجهَا وَلم تفوض فَزَوجهَا هُوَ أَو وَكيله
الثَّالِثَة إِذا كَانَ الزَّوْج غير جَائِز التَّصَرُّف
وَحل الِاتِّفَاق فِي هَذِه الصُّورَة على أقل من مهر مثل الزَّوْجَة وَفِيمَا عَداهَا على أَكثر مِنْهُ فتتعين تَسْمِيَته بِمَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَلَا يجوز إخلاؤه مِنْهُ
وَإِذا خلا العقد من التَّسْمِيَة فَإِن لم تكن مفوضة اسْتحقَّت مهر الْمثل بِالْعقدِ
القَوْل فِي وجوب مهر المفوضة (و) إِذا كَانَت مفوضة بِأَن قَالَت رَشِيدَة لوَلِيّهَا زَوجنِي بِلَا مهر فَفعل (وَجب الْمهْر بِثَلَاثَة أَشْيَاء) أَي بِوَاحِد مِنْهَا الأول (أَن يفرضه) أَي يقدره (الزَّوْج على نَفسه) قبل الدُّخُول وَلها حبس نَفسهَا ليفرض لَهَا لتَكون على بَصِيرَة من تَسْلِيم نَفسهَا وَلها بعد الْفَرْض حبس نَفسهَا لتسليم الْمَفْرُوض الْحَال كالمسمى فِي العقد أما الْمُؤَجل فَلَيْسَ لَهَا حبس نَفسهَا لَهُ كالمسمى فِي العقد
وَيشْتَرط رِضَاهَا بِمَا يفرضه الزَّوْج لِأَن الْحق لَهَا فَإِن لم ترض بِهِ فَكَأَنَّهُ لم يفْرض وَهَذَا كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ إِذا فرض دون مهر الْمثل أما إِذا فرض لَهَا مهر مثلهَا حَالا من نقد الْبَلَد وبذله لَهَا وصدقته على أَنه مهر مثلهَا فَلَا يعْتَبر رِضَاهَا لِأَنَّهُ عَبث
وَلَا يشْتَرط علم(2/423)
الزَّوْجَيْنِ حَيْثُ تَرَاضيا على مهر بِقدر مهر الْمثل لِأَنَّهُ لَيْسَ بَدَلا عَنهُ بل الْوَاجِب أَحدهمَا وَيجوز فرض مُؤَجل بِالتَّرَاضِي وَفَوق مهر الْمثل
وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو يفرضه الْحَاكِم) إِذا امْتنع الزَّوْج من الْفَرْض لَهَا أَو تنَازعا فِي قدر الْمَفْرُوض كَمَا يفْرض لِأَن منصبه فصل الْخُصُومَات وَلَكِن يفرضه الْحَاكِم حَالا من نقد الْبَلَد كَمَا فِي قيم الْمُتْلفَات لَا مُؤَجّلا وَلَا بِغَيْر نقد الْبَلَد وَإِن رضيت الزَّوْجَة بذلك لِأَن منصبه الْإِلْزَام بِمَال حَال من نقد الْبَلَد وَلها إِذا فَرْضه حَالا تَأْخِير الْقَبْض بل لَهَا تَركه بِالْكُلِّيَّةِ لِأَن الْحق لَهَا ويفرض مهر الْمثل بِلَا زِيَادَة وَلَا نقص
وَيشْتَرط علم الْحَاكِم بِمهْر الْمثل لَا يزِيد عَلَيْهِ وَلَا ينقص عَنهُ إِلَّا بالتفاوت الْيَسِير وَلَا يَصح فرض أَجْنَبِي من مَاله لِأَنَّهُ خلاف مَا يَقْتَضِيهِ العقد
وَالْفَرْض الصَّحِيح كالمسمى فِي العقد فينشطر بِالطَّلَاق بعد عقد وَقبل وَطْء سَوَاء أَكَانَ الْمَفْرُوض من الزَّوْجَيْنِ أَو من الْحَاكِم
وَالثَّالِث مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو يدْخل بهَا) بِأَن يَطَأهَا وَلَو فِي حيض أَو إِحْرَام أَو دبر (فَيجب) لَهَا (مهر الْمثل) وَإِن أَذِنت لَهُ فِي وَطئهَا بِشَرْط أَن لَا مهر لِأَن الْوَطْء لَا يُبَاح بِالْإِبَاحَةِ لما فِيهِ من حق الله تَعَالَى
وَالْمُعْتَبر فِي مهر مثل المفوضة أَكثر من مهر الْمثل من العقد إِلَى الْوَطْء لِأَن الْبضْع دخل بِالْعقدِ فِي ضَمَانه واقترن بِهِ الْإِتْلَاف فَوَجَبَ الْأَكْثَر كالمقبوض بشرَاء فَاسد
وَلَو طلق الزَّوْج قبل فرض وَوَطْء فَلَا شطر وَإِن مَاتَ أحد الزَّوْجَيْنِ قبلهمَا وَجب لَهَا مهر الْمثل لِأَنَّهُ كَالْوَطْءِ فِي تَقْرِير الْمُسَمّى فَكَذَا فِي إِيجَاب مهر الْمثل فِي التَّفْوِيض
وَهل يعْتَبر مهر الْمثل هُنَا بِالْأَكْثَرِ كَمَا مر أَو بِحَال العقد أَو الْمَوْت أوجه فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا بِلَا تَرْجِيح أوجهها أَولهَا لِأَن الْبضْع دخل فِي ضَمَانه بِالْعقدِ وتقرر عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ كَالْوَطْءِ
وَلَو قتل السَّيِّد أمته أَو قتلت نَفسهَا قبل دُخُول سقط مهرهَا بِخِلَاف مَا لَو قَتلهَا أَجْنَبِي أَو قتلت الْحرَّة نَفسهَا قبل الدُّخُول لَا يسْقط مهرهَا
وَمهر الْمثل مَا يرغب بِهِ فِي مثلهَا عَادَة
وركنه الْأَعْظَم نسب فِي النسيبة وُقُوع التفاخر بِهِ كالكفاءة فِي النِّكَاح
وَظَاهر كَلَام الْأَكْثَرين اعْتِبَار ذَلِك فِي الْعَجم كالعرب وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَن الرغبات تخْتَلف بِالنّسَبِ مُطلقًا فيراعى أقرب من تنْسب إِلَيْهِ فأقربهن أُخْت لِأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب ثمَّ بَنَات أَخ لِأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب ثمَّ عمات لِأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب لِأَن المدلي بجهتين يقدم على المدليي بِجِهَة ثمَّ بَنَات الْأَعْمَام لِأَبَوَيْنِ ثمَّ لأَب
فَإِن تعذر اعْتِبَار نسَاء الْعصبَة اعْتبر بذوات الْأَرْحَام كالجدات والخالات لِأَنَّهُنَّ أولى من الْأَجَانِب وَيقدم من نسَاء الْأَرْحَام الْأُم ثمَّ الْجدَّات ثمَّ الخالات ثمَّ بَنَات الْأَخَوَات ثمَّ بَنَات الأخوال
وَالْمرَاد بالأرحام هُنَا قَرَابَات الْأُم لَا ذَوُو الْأَرْحَام المذكورون فِي الْفَرَائِض لِأَن أُمَّهَات الْأُم لسن من الْمَذْكُورين فِي الْفَرَائِض
وَيعْتَبر مَعَ مَا تقدم سنّ وعفة وعقل وجمال ويسار وفصاحة وبكارة وثيوبة
وَمَا اخْتلف بِهِ غَرَض كَالْعلمِ والشرف لِأَن المهور تخْتَلف باخْتلَاف الصِّفَات
وَيعْتَبر مَعَ ذَلِك الْبَلَد فَإِن كَانَ نسَاء الْعصبَة ببلدين هِيَ فِي إِحْدَاهمَا اعْتبر بعصبات بَلَدهَا فَإِن كن كُلهنَّ ببلدة أُخْرَى فالاعتبار بِهن لَا بأجنبيات بَلَدهَا كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
(وَلَيْسَ لأَقل الصَدَاق وَلَا لأكثره حد) بل ضابطه كل مَا صَحَّ كَونه مَبِيعًا عوضا أَو معوضا صَحَّ كَونه صَدَاقا ومالا فَلَا فَلَو(2/424)
عقد بِمَا لَا يتمول وَلَا يُقَابل بمتمول كحبتي حِنْطَة لم تصح التَّسْمِيَة وَيرجع لمهر الْمثل وَكَذَا إِذا أصدقهَا ثوبا لَا يملك غَيره فَلَا يَصح لتَعلق حق الله تَعَالَى بِهِ فِي ستر الْعَوْرَة كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ مستدلا بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذي أَرَادَ التَّزْوِيج على إزَاره إزارك هَذَا إِن أَعْطيته إِيَّاهَا جَلَست وَلَا إِزَار لَك وَهَذَا دَاخل فِي قَوْلنَا مَا صَحَّ مَبِيعًا صَحَّ صَدَاقا
وَيسن أَن لَا ينقص الْمهْر عَن عشرَة دَرَاهِم خُرُوجًا من خلاف أبي حنيفَة وَأَن لَا يزِيد على خَمْسمِائَة دِرْهَم كأصدقة بَنَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزوجاته وَأما إصداق أم حَبِيبَة أَرْبَعمِائَة دِينَار فَكَانَ من النَّجَاشِيّ إِكْرَاما لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
القَوْل فِي الزواج على مَنْفَعَة (وَيجوز أَن يَتَزَوَّجهَا على مَنْفَعَة مَعْلُومَة) تستوفى بِعقد الْإِجَارَة كتعليم فِيهِ كلفة وخياطة ثوب وَكِتَابَة وَنَحْوهَا إِذا كَانَ يحسن تِلْكَ الْمَنْفَعَة فَإِن لم يكن يحسنها وَالْتزم فِي الذِّمَّة جَازَ ويستأجر لَهَا من يحسنها وَإِن الْتزم الْعَمَل بِنَفسِهِ لم يَصح على الْأَصَح لعَجزه
وَخرج بِقَيْد الْمَعْلُومَة الْمَنْفَعَة المجهولة فَلَا يَصح أَن تكون صَدَاقا وَلَكِن يجب مهر الْمثل
وَإِطْلَاق التَّعْلِيم فِيمَا تقدم شَامِل لما يجب تعلمه كالفاتحة وَغَيرهَا وَالْقُرْآن والْحَدِيث وَالْفِقْه وَالشعر والخط وَغير ذَلِك مِمَّا لَيْسَ بِمحرم ولتعليمها هِيَ أَو وَلَدهَا الْوَاجِب عَلَيْهَا تَعْلِيمه وَكَذَا عَبدهَا على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فعلى هَذَا لَا يتَعَذَّر تَعْلِيم غَيرهَا بِطَلَاقِهَا أما إِذا أصدقهَا تعليمها بِنَفسِهِ فَطلق قبل التَّعْلِيم بعد دُخُول أَو قبله تعذر تَعْلِيمه لِأَنَّهَا صَارَت مُحرمَة عَلَيْهِ لَا يجوز اختلاؤه بهَا
فَإِن قيل الْأَجْنَبِيَّة يُبَاح النّظر إِلَيْهَا للتعليم وَهَذِه صَارَت أَجْنَبِيَّة فَهَلا جَازَ تعليمها أُجِيب بِأَن كلا من الزَّوْجَيْنِ تعلّقت آماله بِالْآخرِ وَحصل بَينهمَا نوع ود فَقَوِيت التُّهْمَة فَامْتنعَ التَّعْلِيم لقرب الْفِتْنَة بِخِلَاف الْأَجْنَبِيّ فَإِن قُوَّة الوحشة بَينهمَا اقْتَضَت جَوَاز التَّعْلِيم
وَقيل المُرَاد بالتعليم الَّذِي يجوز النّظر لَهُ هُوَ التَّعْلِيم الْوَاجِب كَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فَمَا هُنَا مَحَله فِي غير الْوَاجِب وَرجح هَذَا السُّبْكِيّ
وَقيل التَّعْلِيم الَّذِي يجوز النّظر خَاص بالأمرد بِخِلَاف الْأَجْنَبِيّ وَرجح هَذَا الْجلَال الْمحلي وَالْمُعْتَمد الأول
تَنْبِيه أفهم تَعْلِيلهم السَّابِق أَنَّهَا لَو لم تحرم الْخلْوَة بهَا كَأَن كَانَت صَغِيرَة لَا تشْتَهى أَو صَارَت محرما لَهُ برضاع أَو نَكَحَهَا ثَانِيًا لم يتَعَذَّر التَّعْلِيم وَهُوَ كَذَلِك
فروع لَو أصدق زَوجته الْكِتَابِيَّة تَعْلِيم قُرْآن صَحَّ إِن توقع إسْلَامهَا وَإِلَّا فَلَا وَلَو أصدقهَا تَعْلِيم التَّوْرَاة أَو الْإِنْجِيل وهما كَافِرَانِ ثمَّ أسلما أَو ترافعا إِلَيْنَا بعد التَّعْلِيم فَلَا شَيْء لَهَا سواهُ أَو قبله وَجب لَهَا مهر الْمثل
وَلَو أصدق الْكِتَابِيَّة تَعْلِيم للشهادتين فَإِن كَانَ فِي تعليمهما كلفة صَحَّ وَإِلَّا فَلَا كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
القَوْل فِيمَا يجب بِهِ نصف الْمهْر (وَيسْقط بِالطَّلَاق) وَبِكُل فرقة وجدت لَا مِنْهَا وَلَا بِسَبَبِهَا
(قبل الدُّخُول) كإسلامه وردته ولعانه وإرضاع أمه لَهَا أَو أمهَا لَهُ
(نصف الْمهْر) أما فِي الطَّلَاق فلآية {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} وَأما الْبَاقِي فللقياس عَلَيْهِ وَأما الْفرْقَة الَّتِي وجدت مِنْهَا قبل الدُّخُول كإسلامها بِنَفسِهَا أَو بالتبعية لأحد أَبَوَيْهَا أَو فَسخهَا بِعَيْبِهِ أَو ردتها أَو إرضاعها زَوْجَة لَهُ صَغِيرَة أَو وجدت بِسَبَبِهَا(2/425)
كفسخه بعيبها تسْقط الْمهْر الْمُسَمّى ابْتِدَاء أَو الْمَفْرُوض الصَّحِيح
أَو مهر الْمثل فِي كل مَا ذكر لِأَنَّهَا إِن كَانَت هِيَ الفاسخة فَهِيَ المختارة للفرقة فَكَأَنَّهَا قد أتلفت المعوض قبل التَّسْلِيم فَيسْقط الْعِوَض وَإِن كَانَ هُوَ الفاسخ بعيبها فَكَأَنَّهَا هِيَ الفاسخة
تَنْبِيه لَو ارتدا مَعًا فَهَل هُوَ كردتها فَيسْقط الْمهْر أَو كردته فيتنصف وَجْهَان صحّح الأول الرَّوْيَانِيّ والنشائي والأذرعي وَغَيرهم وَصحح الثَّانِي الْمُتَوَلِي والفارقي وَابْن أبي عصرون وَغَيرهم وَهُوَ أوجه
تَتِمَّة يجب للمطلقة قبل وَطْء مُتْعَة إِن لم يجب لَهَا شطر مهر بِأَن كَانَت مفوضة وَلم يفْرض لَهَا شَيْء وَادّعى الإِمَام فِيهِ الْإِجْمَاع لقَوْله تَعَالَى {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن} الْآيَة وَيجب أَيْضا لموطوءة فِي الْأَظْهر لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ} وَلِأَن جَمِيع الْمهْر وَجب فِي مُقَابلَة اسْتِيفَاء مَنْفَعَة الْبضْع فَخَلا الطَّلَاق عَن الْجَبْر بِخِلَاف من وَجب لَهَا النّصْف فَإِن بضعهَا سلم لَهَا فَكَانَ النّصْف جَابِرا للإيحاش
قَالَ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ إِن وجوب الْمُتْعَة مِمَّا يغْفل النِّسَاء عَن الْعلم بهَا فَيَنْبَغِي تعريفهن وإشاعة حكمهَا ليعرفن ذَلِك وَتجب بفرقة لَا بِسَبَبِهَا بِأَن كَانَت من الزَّوْج كردته ولعانه كَطَلَاق فِي إِيجَاب الْمُتْعَة
وَيسن أَن لَا تنقص عَن ثَلَاثِينَ درهما أَو مَا قِيمَته ذَلِك فَإِن تنَازعا فِي قدرهَا قدرهَا القَاضِي بِاجْتِهَادِهِ بِحَسب مَا يَلِيق بِالْحَال مُعْتَبرا حَالهمَا من يسَار الزَّوْج وإعساره ونسبها وصفاتها لقَوْله تَعَالَى {ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره}
فصل فِي الْوَلِيمَة
ثمَّ شرع فِي أَحْكَام الْوَلِيمَة واشتقاقها كَمَا قَالَ الْأَزْهَرِي من الولم وَهُوَ الِاجْتِمَاع لِأَن الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ وَهِي تقع على كل(2/426)
طَعَام يتَّخذ لسرور حَادث من عرس وإملاك وَغَيرهمَا لَكِن اسْتِعْمَالهَا مُطلقَة فِي الْعرس أشهر
القَوْل فِي حكم الْوَلِيمَة (والوليمة على الْعرس) بِضَم الْعين مَعَ ضم الرَّاء وإسكانها الابتناء بِالزَّوْجَةِ (مُسْتَحبَّة) مُؤَكدَة لثبوتها عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قولا وفعلا فَفِي البُخَارِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولم على بعض نِسَائِهِ بمدين من شعير وَأَنه أولم على صَفِيَّة بِتَمْر وَسمن وأقط وَأَنه قَالَ لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَقد تزوج أولم وَلَو بِشَاة
وأقلها للمتمكن شَاة وَلغيره مَا قدر عَلَيْهِ
قَالَ النَّسَائِيّ وَالْمرَاد أقل الْكَمَال شَاة لقَوْل التَّنْبِيه وَبِأَيِّ شَيْء أولم من الطَّعَام جَازَ
تَنْبِيه لم يتَعَرَّضُوا لوقت الْوَلِيمَة واستنبط السُّبْكِيّ من كَلَام الْبَغَوِيّ أَن وَقتهَا موسع من حِين العقد فَيدْخل وَقتهَا بِهِ وَالْأَفْضَل فعلهَا بعد الدُّخُول لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يولم على نِسَائِهِ إِلَّا بعد الدُّخُول فَتجب الْإِجَابَة إِلَيْهَا من حِين العقد وَإِن خَالف الأَصْل
القَوْل فِي الْإِجَابَة على الْوَلِيمَة (والإجابة إِلَيْهَا وَاجِبَة) عينا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ إِذا دعِي أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة فليأتها وَخبر مُسلم شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة تدعى لَهَا الْأَغْنِيَاء وتترك الْفُقَرَاء وَمن لم يجب الدعْوَة فقد عصى الله وَرَسُوله
قَالُوا وَالْمرَاد وَلِيمَة الْعرس لِأَنَّهَا الْمَعْهُودَة عِنْدهم وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعا إِذا دعِي أحدكُم إِلَى وَلِيمَة عرس فليجب
وَأما غَيرهَا من الولائم فالإجابة إِلَيْهَا مُسْتَحبَّة لما فِي مُسْند أَحْمد عَن الْحسن قَالَ دعِي عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ إِلَى ختان فَلم يجب وَقَالَ لم يكن يدعى لَهُ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَوله (إِلَّا عذر) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَكثر شُرُوط وجوب الْإِجَابَة فَإِن شُرُوطه كَثِيرَة مِنْهَا أَن لَا يخص بالدعوة الْأَغْنِيَاء لغناهم لخَبر شَرّ الطَّعَام
وَمِنْهَا أَن يكون الدَّاعِي مُسلما
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَدْعُو مُسلما أَيْضا وَمِنْهَا أَن يَدعُوهُ فِي الْيَوْم الأول فتسن الْإِجَابَة فِي الْيَوْم الثَّانِي وَتكره فِي الثَّالِث
وَمِنْهَا أَن يكون الدَّاعِي مُطلق التَّصَرُّف نعم إِن اتخذها الْوَلِيّ من مَاله وَهُوَ أَب أَو جد فَالظَّاهِر كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ الْوُجُوب وَمِنْهَا أَن لَا يَدعُوهُ لخوف مِنْهُ لَو لم يحضر أَو طَمَعا فِي جاهه أَو إعانته على بَاطِل
وَمِنْهَا أَن يعين الْمَدْعُو بِنَفسِهِ أَو نَائِبه لَا أَن يُنَادي فِي النَّاس كَأَن فتح الْبَاب وَقَالَ ليحضر من أَرَادَ
وَمِنْهَا أَن لَا يعْتَذر الْمَدْعُو إِلَى الدَّاعِي ويرضى بتخلفه
وَمِنْهَا أَن لَا يسْبق الدَّاعِي غَيره فَإِن جَاءَا مَعًا أجَاب أقربهما رحما ثمَّ دَارا وَمِنْهَا أَن لَا يَدْعُو من أَكثر مَاله حرَام فَمن كَانَ كَذَلِك كرهت إجَابَته فَإِن علم أَن عين الطَّعَام حرَام حرمت إجَابَته وَإِلَّا فَلَا وتباح الْإِجَابَة
وَلَا تجب إِذا كَانَ فِي مَاله شُبْهَة وَلِهَذَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ لَا تجب الْإِجَابَة فِي زَمَاننَا هَذَا انْتهى
وَلَكِن لَا بُد أَن يغلب على الظَّن أَن فِي مَال الدَّاعِي شُبْهَة وَمِنْهَا أَن لَا يكون الدَّاعِي(2/427)
امْرَأَة أَجْنَبِيَّة وَلَيْسَ فِي مَوضِع الدعْوَة محرم لَهَا وَلَا للمدعو وَإِن لم يخل بهَا وَمِنْهَا أَن لَا يكون الدَّاعِي ظَالِما أَو فَاسِقًا أَو شريرا أَو متكلفا طَالبا للمباهاة وَالْفَخْر قَالَه فِي الْإِحْيَاء
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَدْعُو حرا فَلَو دَعَا عبدا لَزِمته إِن أذن لَهُ سَيّده وَكَذَا الْمكَاتب إِن لم يضر حُضُوره بِكَسْبِهِ فَإِن ضرّ وَأذن لَهُ سَيّده فَوَجْهَانِ وَالْأَوْجه عدم الْوُجُوب والمحجور عَلَيْهِ فِي إِجَابَة الدَّعْوَى كالرشيد
وَمِنْهَا أَن يَدعُوهُ فِي وَقت الْوَلِيمَة وَقد تقدم وَقتهَا
وَمِنْهَا أَن لَا يكون الْمَدْعُو قَاضِيا وَفِي مَعْنَاهُ كل ذِي ولَايَة عَامَّة
وَمِنْهَا أَن لَا يكون مَعْذُورًا بمرخص فِي ترك الْجَمَاعَة
وَمِنْهَا أَن لَا يكون هُنَاكَ من يتَأَذَّى بِحُضُورِهِ أَو لَا يَلِيق بِهِ مُجَالَسَته كالأراذل
وَمِنْهَا أَن لَا يكون الْمَدْعُو أَمْرَد يخَاف من حُضُوره رِيبَة أَو تُهْمَة أَو قالة
وَمِنْهَا أَن لَا يكون هُنَاكَ مُنكر لَا يَزُول بِحُضُورِهِ كشرب الْخمر وَالضَّرْب بالملاهي فَإِن كَانَ يَزُول بِحُضُورِهِ وَجب حُضُوره للدعوة وَإِزَالَة الْمُنكر
وَمن الْمُنكر فرش غير حَلَال كالمغصوب والمسروق وفرش جُلُود النمور وفرش الْحَرِير للرِّجَال
وَمِنْهَا أَن لَا يكون هُنَاكَ صُورَة حَيَوَان فِي غير أَرض وبساط ومخدة وَالْمَرْأَة إِذا دعت النِّسَاء فَكَمَا ذكرنَا فِي الرِّجَال قَالَه فِي الرَّوْضَة
وَقِيَاس مَا مر عَن الْأَذْرَعِيّ فِي الْأَمْرَد أَن الْمَرْأَة إِذا خَافت من حُضُورهَا رِيبَة أَو تُهْمَة أَو قالة لَا تجب عَلَيْهَا الْإِجَابَة وَإِن أذن الزَّوْج وَالْأولَى عدم حُضُورهَا خُصُوصا فِي هَذَا الزَّمَان الَّذِي كثر فِيهِ اخْتِلَاط الْأَجَانِب من الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي مثل ذَلِك من غير مبالاة بكشف مَا هُوَ عَورَة كَمَا هُوَ مَعْلُوم مشَاهد وَلابْن الْحَاج الْمَالِكِي اعتناء زَائِد بالْكلَام على مثل هَذَا وأشباهه بِاعْتِبَار زَمَانه فَكيف لَهُ بِزَمَان خرق فِيهِ السياج وَزَاد بَحر فَسَاده وهاج وَلَا تسْقط إِجَابَة بِصَوْم فَإِن شقّ على الدَّاعِي صَوْم نفل من الْمَدْعُو فالفطر لَهُ أفضل وَيَأْكُل الضَّيْف مِمَّا قدم لَهُ بِلَا لغط وَلَا يتَصَرَّف فِيهِ إِلَّا بِأَكْل وَيملك الضَّيْف مَا التقمه بِوَضْعِهِ فِي فَمه كَمَا جزم بِهِ ابْن الْمقري
وللضيف أَخذ مَا يعلم رضَا المضيف بِهِ وَيحل نثر سكره وَغَيره فِي الإملاك وَلَا يكره النثر فِي الْأَصَح وَيحل الْتِقَاطه وَلَكِن تَركه أولى وَيسن للضيف وَإِن لم يَأْكُل أَن يَدْعُو للمضيف وَأَن يَقُول الْملك لضيفه وَلغيره كزوجته وَولده إِذا رفع يَده من الطَّعَام كل ويكرره عَلَيْهِ مَا لم يتَحَقَّق أَنه اكْتفى مِنْهُ وَلَا يزِيد على ثَلَاث مَرَّات
وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مسَائِل مهمة تتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل لَا بَأْس بمراجعتها
فصل فِي الْقسم والنشوز
وَالْقسم بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون السِّين مصدر قسمت الشَّيْء وَأما بِالْكَسْرِ فالنصيب وَالْقسم بِفَتْح الْقَاف وَالسِّين الْيَمين والنشوز هُوَ الْخُرُوج عَن الطَّاعَة(2/428)
وَيجب الْقسم لزوجتين أَو زَوْجَات وَلَو كن إِمَاء فَلَا مدْخل لإماء غير زَوْجَات فِيهِ وَإِن كن مستولدات
قَالَ تَعَالَى {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم}
القَوْل فِي حكم التَّسْوِيَة بَين النِّسَاء وَقد شرح فِي الْقسم الأول وَهُوَ الْقسم بقوله (والتسوية فِي الْقسم) فِي الْمبيت (بَين) الزوجتين و (الزَّوْجَات) الْحَرَائِر (وَاجِبَة) على الزَّوْج وَلَو قَامَ بهما أَو بِهن عذر كَمَرَض وحيض ورتق وَقرن وإحرام لِأَن الْمَقْصُود الْأنس لَا الْوَطْء
وَلَا تجب التَّسْوِيَة بَينهمَا أَو بَينهُنَّ فِي التَّمَتُّع بِوَطْء وَغَيره لَكِنَّهَا تسن
وَخرج بقولنَا الْحَرَائِر مَا لَو كَانَ تَحْتَهُ حرَّة وَأمة فللحرة ليلتان وللأمة لَيْلَة لحَدِيث فِيهِ مُرْسل
وَإِذا قَامَ بِالزَّوْجَةِ نشوز وَإِن لم يحصل بِهِ إِثْم كمجنونة بِأَن خرجت عَن طَاعَة زَوجهَا كَأَن خرجت من مَسْكَنه بِغَيْر إِذْنه أَو لم تفتح لَهُ الْبَاب ليدْخل أَو لم تمكنه من نَفسهَا لَا تسْتَحقّ قسما كَمَا لَا تسْتَحقّ نَفَقَة وَللزَّوْج إِعْرَاض عَن زَوْجَاته بِأَن لَا يبيت عِنْدهن لِأَن الْمبيت حَقه فَلهُ تَركه
وَيسن أَن لَا يعطلهن بِأَن يبيت عِنْدهن ويحصنهن كواحدة لَيْسَ تَحْتَهُ غَيرهَا فَلهُ الْإِعْرَاض عَنْهَا
وَيسن أَن لَا يعطلها وَأدنى درجاتها أَن لَا يخليها كل أَربع لَيَال عَن لَيْلَة اعْتِبَارا بِمن لَهُ أَربع زَوْجَات وَالْأولَى لَهُ أَن يَدُور عَلَيْهِنَّ بمسكنهن وَلَيْسَ لَهُ أَن يدعوهن لمسكن إِحْدَاهُنَّ إِلَّا برضاهن وَلَا أَن يجمعهن بمسكن إِلَّا برضاهن وَلَا أَن يَدْعُو بَعْضًا لمسكنه ويمضي لبَعض آخر لما فِيهِ من التَّخْصِيص الموحش إِلَّا برضاهن أَو بِقرْعَة أَو غَرَض كقرب مسكن من يمْضِي إِلَيْهَا دون الْأُخْرَى
عماد الْقسم لَيْلًا أَو نَهَارا وَالْأَصْل فِي الْقسم لمن عمله نَهَارا اللَّيْل لِأَنَّهُ وَقت السّكُون وَالنَّهَار قبله أَو بعده تبع لِأَنَّهُ وَقت المعاش قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا} الأَصْل فِي الْقسم لمن عمله لَيْلًا كحارس النَّهَار لِأَنَّهُ وَقت سكونه وَاللَّيْل تبع لِأَنَّهُ وَقت معاشه فَلَو كَانَ يعْمل تَارَة بِالنَّهَارِ وَتارَة بِاللَّيْلِ لم يجز أَن يقسم لوَاحِدَة لَيْلَة تَابِعَة وَنَهَارًا متبوعا ولأخرى عَكسه
(و) من عماد قسمه اللَّيْل (لَا يدْخل) نَهَارا (على غير الْمَقْسُوم لَهَا لغير حَاجَة) لتحريمه حِينَئِذٍ لما فِيهِ من إبِْطَال حق صَاحبه النّوبَة فَإِن فعل وَطَالَ مكثه لزمَه لصاحبة النّوبَة الْقَضَاء بِقدر ذَلِك من نوبَة الْمَدْخُول عَلَيْهَا أما دُخُوله لحَاجَة كوضع مَتَاع أَو أَخذه أَو تَسْلِيم نَفَقَة أَو تَعْرِيف خبر فَجَائِز لحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوف علينا جَمِيعًا فيدنو من(2/429)
كل امْرَأَة من غير مَسِيس أَي وَطْء حَتَّى يبلغ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمهَا فيبيت عِنْدهَا
وَلَا يقْضِي إِذا دخل لحَاجَة وَإِن طَال الزَّمن لِأَن النَّهَار تَابع مَعَ وجود الْحَاجة وَله مَا سوى وَطْء من استمتاع للْحَدِيث السَّابِق
وَخرج بِقَيْد النَّهَار اللَّيْل فَيحرم عَلَيْهِ وَلَو لحَاجَة على الصَّحِيح لما فِيهِ من إبِْطَال حق ذَات النّوبَة إِلَّا لضَرُورَة كمرضها الْمخوف وَشدَّة الطلق وَخَوف النهب والحريق
ثمَّ إِن طَال مكثه عرفا قضى من نوبَة الْمَدْخُول عَلَيْهَا مثل مكثه لِأَن حق الْآدَمِيّ لَا يسْقط بالعذر فَإِن لم يطلّ مكثه لم يقْض ليلته وَيَأْثَم من تعدى بِالدُّخُولِ وَإِن لم يطلّ مكثه
وَلَو جَامع من دخل عَلَيْهَا فِي نوبَة غَيرهَا عصى وَإِن قصر الزَّمن وَكَانَ لضَرُورَة قَالَ الإِمَام واللائق بالتحقيق الْقطع بِأَن الْجِمَاع لَا الْجِمَاع يُوصف بِالتَّحْرِيمِ وَيصرف التَّحْرِيم إِلَى إِيقَاع الْمعْصِيَة لَا إِلَى مَا وَقعت بِهِ الْمعْصِيَة
وَحَاصِله أَن تَحْرِيم الْجِمَاع لَا لعَينه بل لأمر خَارج وَيَقْضِي الْمدَّة دون الْجِمَاع لَا إِن قصرت وَمحل وجوب الْقَضَاء مَا إِذا بقيت المظلومة فِي نِكَاحه فَلَو مَاتَت المظلومة بِسَبَبِهَا فَلَا قَضَاء لخلوص الْحق للباقيات وَلَو فَارق المظلومة تعذر الْقَضَاء أما من عماد قسمه النَّهَار فليله كنهار غَيره ونهاره كليل غَيره فِي جَمِيع مَا تقدم
هَذَا كُله فِي الْمُقِيم أما الْمُسَافِر فعماد قسمه وَقت نُزُوله لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه أقل نوب الْقسم لمقيم عمله نَهَارا لَيْلَة وَلَا يجوز تبعيضها لما فِيهِ من تشويش الْعَيْش وعسر ضبط أَجزَاء اللَّيْل وَلَا بليلة وَبَعض أُخْرَى
وَأما طَوَافه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نِسَائِهِ فِي لَيْلَة وَاحِدَة فَمَحْمُول على رضاهن أما الْمُسَافِر فقد مر حكمه وَأما من عماد قسمه النَّهَار كالحارس فَظَاهر كَلَامه أَنه لَا يجوز لَهُ تبعيضه كتبعيض اللَّيْل مِمَّن يقسم لَيْلًا وَهُوَ الظَّاهِر وَيحْتَمل أَنه يجوز لسُهُولَة الضَّبْط
والاقتصار على اللَّيْلَة أفضل من الزِّيَادَة عَلَيْهَا اقْتِدَاء بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وليقرب عَهده بِهن وَيجوز لَيْلَتَيْنِ وَثَلَاثًا بِغَيْر رضاهن وَلَا تجوز الزِّيَادَة عَلَيْهَا بِغَيْر رضاهن وَإِن تفرقن فِي الْبِلَاد لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى المهاجرة والإيحاش للباقيات بطول الْمقَام عِنْد الضرة وَقد يَمُوت فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة فَيفوت حقهن
وَتجب الْقرعَة للابتداء بِوَاحِدَة عِنْد عدم رضاهن تَحَرُّزًا عَن التَّرْجِيح مَعَ استوائهن فِي الْحق فَيبْدَأ بِمن خرجت قرعتها فَإِذا مَضَت نوبتها أَقرع بَين الْبَاقِيَات ثمَّ بَين الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِذا تمت النّوبَة رَاعى التَّرْتِيب
وَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة الْقرعَة بِخِلَاف مَا لَو بَدَأَ بِلَا قرعَة فَإِنَّهُ يقرع بَين الْبَاقِيَات فَإِذا تمت النّوبَة أَقرع للابتداء
القَوْل فِي حكم الْمُسَافِر فِي الْقسم (وَإِذا أَرَادَ) الزَّوْج (السّفر) لنقلة وَلَو سفرا قَصِيرا حرم عَلَيْهِ أَن يستصحب بَعضهنَّ دون بعض وَلَو بِقرْعَة فَإِن سَافر ببعضهن لنقله وَلَو بِقرْعَة قضى للمتخلفات وَلَو نقل بَعضهنَّ بِنَفسِهِ وبعضهن بوكيله قضى لمن مَعَ الْوَكِيل
وَلَا يجوز أَن يتركهن بل ينقلهن أَو يُطَلِّقهُنَّ لما فِي ذَلِك من قطع أطماعهن من الوقاع فَأشبه الْإِيلَاء بِخِلَاف مَا لَو امْتنع من الدُّخُول إلَيْهِنَّ وَهُوَ حَاضر لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع رجاؤهن
وَفِي بَاقِي الْأَسْفَار الطَّوِيلَة أَو القصيرة الْمُبَاحَة إِذا أَرَادَ اسْتِصْحَاب بَعضهنَّ
(أَقرع بَينهُنَّ) وجوبا كَمَا اقْتَضَاهُ إِيرَاد الرَّوْضَة وَأَصلهَا عِنْد تنازعهن
(وَخرج بِالَّتِي تخرج لَهَا) سهم (الْقرعَة) لما روى الشَّيْخَانِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ فأيتهن خرج سهمها خرج بهَا مَعَه
وَسَوَاء أَكَانَ ذَلِك فِي يَوْمهَا أَو فِي يَوْم غَيرهَا
وَإِذا خرجت الْقرعَة لصَاحبه النّوبَة لَا تدخل(2/430)
نوبتها فِي مُدَّة السّفر بل إِذا رَجَعَ وفى لَهَا نوبتها وَإِذا خرجت الْقرعَة لوَاحِدَة فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوج بغَيْرهَا وَله تَركهَا
وَلَو سَافر بِوَاحِدَة أَو أَكثر من غير قرعَة عصى وَقضى فَإِن رضين بِوَاحِدَة جَازَ بِلَا قرعَة وَسقط الْقَضَاء ولهن الرُّجُوع قبل سفرها قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا بعده مَا لم يُجَاوز مَسَافَة الْقصر أَي يصل إِلَيْهَا وَإِذا سَافر بِالْقُرْعَةِ لَا يقْضِي لِلزَّوْجَاتِ المتخلفات مُدَّة سَفَره لِأَنَّهُ لم يَتَعَدَّ وَالْمعْنَى فِيهِ أَن المستصحبة وَإِن فازت بِصُحْبَتِهِ فقد لحقها من تَعب السّفر ومشقته مَا يُقَابل ذَلِك والمتخلفة وَإِن فاتها حظها من الزَّوْج فقد ترفهت بالراحة وَالْإِقَامَة فتقابل الْأَمْرَانِ فاستويا
وَخرج بالأسفار الْمُبَاحَة غَيرهَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يستصحب فِيهَا بَعضهنَّ لَا بِقرْعَة وَلَا بغَيْرهَا فَإِن فعل عصى وَلَزِمَه الْقَضَاء للمتخلفات
وَخرج بالزوجات الْإِمَاء فَلهُ أَن يستصحب بَعضهم بِغَيْر قرعَة فَإِن وصل الْمَقْصد وَصَارَ مُقيما قضى مُدَّة الْإِقَامَة لِخُرُوجِهِ عَن حكم السّفر هَذَا إِن سَاكن المصحوبة أما إِذا اعتزلها مُدَّة الْإِقَامَة فَلَا يقْضِي كَمَا جزم بِهِ فِي الْحَاوِي وَلَا يقْضِي مُدَّة الرُّجُوع كَمَا لَا يقْضِي مُدَّة الذّهاب
تَنْبِيه من وهبت من الزَّوْجَات حَقّهَا من الْقسم لغَيْرهَا لم يلْزم الزَّوْج الرِّضَا بذلك لِأَنَّهَا لَا تملك إِسْقَاط حَقه من الِاسْتِمْتَاع فَإِن رَضِي بِالْهبةِ ووهبت لمعينة مِنْهُنَّ بَات عِنْدهَا ليلتيهما كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وهبت سَوْدَة نوبتها لعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَإِن وهبت للزَّوْج فَقَط كَانَ لَهُ التَّخْصِيص بِوَاحِدَة فَأكْثر لِأَنَّهَا جعلت الْحق لَهُ فيضعه حَيْثُ شَاءَ وَلَو وهبت لَهُ ولبعض الزَّوْجَات أَو لَهُ وللجميع قسم ذَلِك على الرؤوس كَمَا بَحثه بعض الْمُتَأَخِّرين
وَلَا يجوز للواهبة أَن تَأْخُذ على الْمُسَامحَة بِحَقِّهَا عوضا لَا من الزَّوْج وَلَا من الضرائر لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَين وَلَا مَنْفَعَة لِأَن مقَام الزَّوْج عِنْدهَا لَيْسَ بِمَنْفَعَة ملكتها عَلَيْهِ
وَقد استنبط السُّبْكِيّ من هَذِه الْمَسْأَلَة وَمن خلع الْأَجْنَبِيّ جَوَاز النُّزُول عَن الْوَظَائِف وَالَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْيه أَن أَخذ الْعِوَض فِيهِ جَائِز وَأَخذه حَلَال لإِسْقَاط الْحق لَا لتَعلق حق المنزول لَهُ بل يبْقى الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى نَاظر الْوَظِيفَة يفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة شرعا وَبسط ذَلِك
وَهَذِه مَسْأَلَة كَثِيرَة الْوُقُوع فاستفدها
وللواهبة الرُّجُوع مَتى شَاءَت فَإِذا رجعت خرج فَوْرًا وَلَا ترجع فِي الْمَاضِي قبل الْعلم بِالرُّجُوعِ
وَإِن بَات الزَّوْج فِي نوبَة وَاحِدَة عِنْد غَيرهَا ثمَّ ادّعى أَنَّهَا وهبت حَقّهَا وَأنْكرت لم يقبل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَة(2/431)
القَوْل فِي تَخْصِيص الزَّوْجَة الجديدة (وَإِذا تزوج) حر أَو عبد فِي دوَام نِكَاحه (جَدِيدَة) وَلَو معادة بعد الْبَيْنُونَة (خصها) أَي كل مِنْهُمَا وجوبا (بِسبع لَيَال) مُتَوَالِيَة بِلَا قَضَاء للباقيات (إِن كَانَت بكرا) على خلقتها أَو زَالَت بِغَيْر وَطْء (وبثلاث) لَيَال مُتَوَالِيَة بِلَا قَضَاء للباقيات (إِن كَانَت ثَيِّبًا) لخَبر ابْن حبَان فِي صَحِيحه سبع للبكر وَثَلَاث للثيب وَالْمعْنَى فِي ذَلِك زَوَال الوحشة بَينهمَا وَلِهَذَا سوى بَين الْحرَّة وَالْأمة لِأَن مَا يتَعَلَّق بالطبع لَا يخْتَلف بِالرّقِّ وَالْحريَّة كمدة الْعنَّة وَالْإِيلَاء
وَزيد للبكر لِأَن حياءها أَكثر
وَالْحكمَة فِي الثَّلَاث والسبع أَن الثَّلَاث مغتفرة فِي الشَّرْع والسبع عدد أَيَّام الدُّنْيَا وَمَا زَاد عَلَيْهَا تكْرَار فَإِن فرق ذَلِك لما يحْسب لِأَن الوحشة لَا تَزُول بالمفرق واستأنف وَقضى المفرق للأخريات
تَنْبِيه دخل فِي الثّيّب الْمَذْكُورَة من كَانَت ثيوبتها بِوَطْء حَلَال أَو حرَام أَو وَطْء شُبْهَة وَخرج بهَا من حصلت ثيوبتها بِمَرَض أَو وثبة أَو نَحْو ذَلِك
وَيسن تَخْيِير الثّيّب بَين ثَلَاث بِلَا قَضَاء وَبَين سبع بِقَضَاء كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَيْثُ قَالَ لَهَا إِن شِئْت سبعت عنْدك وسبعت عِنْدهن وَإِن شِئْت ثلثت عنْدك وَدرت أَي بالقسم الأول بِلَا قَضَاء وَإِلَّا لقَالَ وثلثت عِنْدهن كَمَا قَالَ وسبعت عِنْدهن
وَلَا يتَخَلَّف بِسَبَب ذَلِك عَن الْخُرُوج للجماعات وَسَائِر أَعمال الْبر كعيادة المرضى وتشييع الْجَنَائِز مُدَّة الزفاف إِلَّا لَيْلًا فيتخلف وجوبا تَقْدِيمًا للْوَاجِب وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
وَأما ليَالِي الْقسم فَتجب التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فيهل فِي الْخُرُوج وَعَدَمه فإمَّا أَن يخرج فِي لَيْلَة الْجَمِيع أَو لَا يخرج أصلا فَإِن خص لَيْلَة بَعضهنَّ بِالْخرُوجِ أَثم
القَوْل فِي حكم نشوز الْمَرْأَة ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ النُّشُوز بقوله (وَإِذا خَافَ) الزَّوْج (نشوز الْمَرْأَة) بِأَن ظَهرت أَمَارَات نشوزها فعلا كَأَن يجد مِنْهَا إعْرَاضًا وعبوسا بعد لطف وطلاقة وَجه أَو قولا كَأَن تجيبه بِكَلَام خشن بعد أَن كَانَ بلين (وعظها) اسْتِحْبَابا لقَوْله تَعَالَى {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن} كَأَن يَقُول لَهَا اتَّقى الله فِي الْحق الْوَاجِب لي عَلَيْك واحذري الْعقُوبَة بِلَا هجر وَلَا ضرب
وَيبين لَهَا أَن النُّشُوز يسْقط النَّفَقَة وَالْقسم فلعلها تبدي عذرا أَو تتوب عَمَّا وَقع مِنْهَا بِغَيْر عذر
وَحسن أَن يذكر لَهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا باتت الْمَرْأَة هاجرة لفراش زَوجهَا لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح وَفِي التِّرْمِذِيّ عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا امْرَأَة باتت وَزوجهَا رَاض عَنْهَا دخلت الْجنَّة
(فَإِن أَبَت) مَعَ وعظه (إِلَّا النُّشُوز هجرها) فِي المضجع أَي يجوز لَهُ ذَلِك لظَاهِر الْآيَة وَلِأَن فِي الهجر أثرا ظَاهرا فِي تَأْدِيب النِّسَاء
وَالْمرَاد أَن يهجر فراشها فَلَا يضاجعها فِيهِ
وَخرج بالهجران فِي المضجع الهجران بالْكلَام فَلَا يجوز الهجر بِهِ لَا لزوجة وَلَا لغَيْرهَا فَوق ثَلَاثَة أَيَّام وَيجوز فِيهَا للْحَدِيث الصَّحِيح لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي سنَن أبي دَاوُد فَمن هجره فَوق ثَلَاث فَمَاتَ دخل النَّار وَحمل الْأَذْرَعِيّ وَغَيره التَّحْرِيم على مَا إِذا قصد بهجرها ردهَا لحظ نَفسه فَإِن قصد بِهِ ردهَا عَن الْمعْصِيَة وَإِصْلَاح دينهَا فَلَا تَحْرِيم وَهَذَا مَأْخُوذ من قَوْلهم يجوز هجر المبتدع وَالْفَاسِق وَنَحْوهمَا وَمن رجا بهجره صَلَاح دين الهاجر أَو المهجور
وَعَلِيهِ يحمل هجره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعْب بن مَالك وصاحبيه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة عَن كَلَامهم وَكَذَا هجر السّلف بَعضهم بَعْضًا
(فَإِن أَقَامَت عَلَيْهِ) أَي أصرت على النُّشُوز بعد الهجر الْمُرَتّب على الْوَعْظ فعظوهن فَإِن نشزن فاهجروهن فِي الْمضَاجِع واضربوهن
وَالْخَوْف هُنَا بِمَعْنى الْعلم كَقَوْلِه تَعَالَى {فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا} ضربهَا ضربا غير مبرح لظَاهِر الْآيَة فتقديرها واللاتي تخافون(2/432)
نشوزهن
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف أَنه لَا يضْرب إِلَّا إِذا تكَرر مِنْهَا النُّشُوز وَهُوَ مَا رَجحه جُمْهُور الْعِرَاقِيّين وَغَيرهم وَرجحه الرَّافِعِيّ وَالَّذِي صَححهُ النَّوَوِيّ جَوَاز الضَّرْب وَإِن لم يتَكَرَّر النُّشُوز لظَاهِر الْآيَة
وَإِنَّمَا يجوز الضَّرْب إِذا أَفَادَ ضربهَا فِي ظَنّه وَإِلَّا فَلَا يضْربهَا كَمَا صرح بِهِ الإِمَام وَغَيره
وَخرج بقوله غير مبرح المبرح فَإِنَّهُ لَا يجوز مُطلقًا وَلَا يجوز على الْوَجْه والمهالك
وَالْأولَى لَهُ الْعَفو عَن الضَّرْب
وَخبر النَّهْي عَن ضرب النِّسَاء مَحْمُول على ذَلِك أَو على الضَّرْب بِغَيْر سَبَب يَقْتَضِيهِ وَهَذَا بِخِلَاف ولي الصَّبِي فَالْأولى لَهُ عدم الْعَفو لِأَن ضربه للتأديب مصلحَة لَهُ وَضرب الزَّوْج زَوجته مصلحَة لنَفسِهِ
(وَيسْقط بالنشوز قسمهَا) الْوَاجِب لَهَا والنشوز يحصل بخروجها من منزل زَوجهَا بِغَيْر إِذْنه لَا إِلَى القَاضِي لطلب الْحق مِنْهُ وَلَا إِلَى اكتسابها النَّفَقَة إِذا أعْسر بهَا الزَّوْج وَلَا إِلَى استفتاء إِذا لم يكن زَوجهَا فَقِيها وَلم يستفت لَهَا وَيحصل أَيْضا بمنعها الزَّوْج من الِاسْتِمْتَاع وَلَو غير الْجِمَاع حَيْثُ لَا عذر لَا منعهَا لَهُ مِنْهُ تذللا وَلَا الشتم لَهُ وَلَا الْإِيذَاء لَهُ بِاللِّسَانِ أَو غَيره بل تأثم بِهِ وتستحق التَّأْدِيب
(و) تسْقط بِهِ أَيْضا حَيْثُ لَا عذر (نَفَقَتهَا) وتوابعها كالسكنى وآلات التَّنْظِيف وَنَحْوهَا فَإِن كَانَ بهَا عذر كَأَن كَانَت مَرِيضَة أَو مضناة لَا تحْتَمل الْجِمَاع أَو بفرجها قُرُوح أَو كَانَت مَرِيضَة مُسْتَحَاضَة أَو كَانَ الزَّوْج عبلا أَي كَبِير الْآلَة يَضرهَا وَطْؤُهُ فَلَا تسْقط نَفَقَتهَا لعذرها
تَنْبِيه قَضِيَّة إِطْلَاق المُصَنّف كَغَيْرِهِ تنَاوله نشوز بعض الْيَوْم وَهُوَ الْأَصَح ومرادهم بالسقوط هُنَا منع الْوُجُوب لَا سُقُوط مَا وَجب حَتَّى لَو نشزت قبل الْفجْر وطلع الْفجْر وَهِي نَاشِزَة
فَلَا وجوب وَيُقَال سَقَطت لِأَن السُّقُوط فرع الْوُجُوب
وَسكت المُصَنّف عَن سُقُوط الْكسْوَة بالنشوز اكْتِفَاء
بجعلهم الْكسْوَة تَابِعَة للنَّفَقَة تجب بِوُجُوبِهَا وَتسقط بسقوطها وَسَيَأْتِي تَحْرِير ذَلِك فِي فصل نَفَقَة الزَّوْجَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى
حكم منع زَوجته حَقّهَا تَتِمَّة لَو منع الزَّوْج زَوجته حَقًا لَهَا كقسم وَنَفَقَة ألزمهُ القَاضِي توفيته إِذا طلبته لعجزها عَنهُ فَإِن أَسَاءَ خلقه وأذاها بِضَرْب أَو غَيره بِلَا سَبَب نَهَاهُ عَن ذَلِك وَلَا يعزره فَإِن عَاد إِلَيْهِ وَطلبت تعزيره من القَاضِي عزره بِمَا يَلِيق بِهِ لتعديه عَلَيْهَا
وَإِنَّمَا لم يعزره فِي الْمرة الأولى وَإِن كَانَ الْقيَاس جَوَازه إِذا طلبته لِأَن إساءة الْخلق تكْثر بَين الزَّوْجَيْنِ وَالتَّعْزِير عَلَيْهَا يُورث وَحْشَة بَينهمَا فَيقْتَصر أَولا(2/433)
على النَّهْي لَعَلَّ الْحَال يلتئم بَينهمَا فَإِن عَاد عزره
وَإِن قَالَ كل من الزَّوْجَيْنِ إِن صَاحبه مُتَعَدٍّ عَلَيْهِ تعرف القَاضِي الْحَال الْوَاقِع بَينهمَا بِثِقَة يخبرهما وَيكون الثِّقَة جارا لَهما
فَإِن عدم أسكنهما بِجنب ثِقَة يتعرف حَالهمَا ثمَّ يُنْهِي إِلَيْهِ مَا يعرفهُ فَإِذا تبين للْقَاضِي حَالهمَا منع الظَّالِم مِنْهُمَا من عوده لظلمه فَإِن اشْتَدَّ الشقاق بَينهمَا بعث القَاضِي حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا لينْظر فِي أَمرهمَا والبعث وَاجِب وَمن أهلهما سنة وهما وكيلان لَهما لَا حكمان من جِهَة الْحَاكِم فيوكل هُوَ حكمه بِطَلَاق أَو خلع وتوكل هِيَ حكمهَا ببذل عوض وَقبُول طَلَاق بِهِ ويفرقا بَينهمَا إِن رأياه صَوَابا
وَيشْتَرط فيهمَا إِسْلَام وحرية وعدالة واهتداء إِلَى الْمَقْصُود من بعثهما لَهُ وَإِنَّمَا اشْترط فيهمَا ذَلِك مَعَ أَنَّهُمَا وكيلان لتَعلق وكالتهما بِنَظَر الْحَاكِم كَمَا فِي أَمِينه
وَيسن كَونهمَا ذكرين فَإِن اخْتلف رأيهما بعث القَاضِي اثْنَيْنِ غَيرهمَا حَتَّى يجتمعا على شَيْء فَإِن لم يرض الزَّوْجَانِ ببعث الْحكمَيْنِ وَلم يتَّفقَا على شَيْء أدب القَاضِي الظَّالِم مِنْهُمَا وَاسْتوْفى للمظلوم حَقه
فصل فِي الْخلْع
وَهُوَ لُغَة مُشْتَقّ من خلع الثَّوْب لِأَن كلا من الزَّوْجَيْنِ لِبَاس الآخر قَالَ تَعَالَى {هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} فَكَأَنَّهُ بمفارقة الآخر نزع لِبَاسه
وَشرعا فرقة بَين الزَّوْجَيْنِ وَلَو بِلَفْظ مفاداة بعوض مَقْصُود رَاجع لجِهَة الزَّوْج فَقَوْل المُصَنّف (وَالْخلْع جَائِز على عوض مَعْلُوم) يُقيد بِمَا ذكر فَخرج بمقصود الْخلْع بِدَم وَنَحْوه فَإِنَّهُ رَجْعِيّ وَلَا مَال وَدخل براجع لجِهَة الزَّوْج وُقُوع الْعِوَض للزَّوْج ولسيده وَمَا لَو خالعت بِمَا ثَبت لَهَا من قَود أَو غَيره وَخرج بِهِ مَا لَو علق الطَّلَاق بِالْبَرَاءَةِ لَهَا على غَيره فَيصح رَجْعِيًا وَخرج بِمَعْلُوم الْعِوَض الْمَجْهُول كَثوب غير معِين فَيَقَع بَائِنا بِمهْر الْمثل
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا} وَالْأَمر بِهِ فِي خبر البُخَارِيّ فِي امْرَأَة ثَابت بن قيس بقوله اقبل الحديقة وَطَلقهَا تَطْلِيقَة وَهُوَ أول خلع وَقع فِي الْإِسْلَام
وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه لما جَازَ(2/434)
أَن يملك الزَّوْج الِانْتِفَاع بالبضع بعوض جَازَ لَهُ (أَن يزِيل ذَلِك الْملك بعوض كالشراء وَالْبيع فَالنِّكَاح كالشراء وَالْخلْع كَالْبيع) وَأَيْضًا فِيهِ دفع الضَّرَر عَن الْمَرْأَة غَالِبا وَلكنه مَكْرُوه لما فِيهِ من قطع النِّكَاح الَّذِي هُوَ مَطْلُوب الشَّرْع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْغض الْحَلَال إِلَى الله تَعَالَى الطَّلَاق قَالَ فِي التَّنْبِيه إِلَّا فِي حالتين الأولى أَن يخافا أَو أَحدهمَا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله
الثَّانِيَة أَن يحلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث على فعل شَيْء لَا بُد لَهُ مِنْهُ فيخلعها ثمَّ يفعل الْأَمر الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
وَذكرت فِي شَرحه صورا أُخْرَى لَا كَرَاهَة فِيهَا فَمن أَرَادَ ذَلِك فليراجعه
وأركان الْخلْع خَمْسَة مُلْتَزم للعوض وبضع وَعوض وَصِيغَة وَزوج وَشرط فِيهِ صِحَة طَلَاقه فَيصح من عبد ومحجور عَلَيْهِ بِسَفَه وَيدْفَع الْعِوَض لمَالِك أَمرهمَا من سيد وَولي وَشرط فِي الْمُلْتَزم قَابلا كَانَ أَو ملتمسا إِطْلَاق تصرف مَالِي فَلَو اخْتلعت أمة وَلَو مُكَاتبَة بِلَا إِذن سَيِّدهَا بِعَين من مَاله أَو غَيره بَانَتْ بِمهْر الْمثل فِي ذمَّتهَا أَو بدين فبالدين تبين ثمَّ مَا ثَبت فِي ذمَّتهَا إِنَّمَا تطالب بِهِ بعد الْعتْق واليسار وَإِن اخْتلعت بِإِذْنِهِ
فَإِن أطلق الْإِذْن وَجب مهر الْمثل فِي كسبها وَمِمَّا فِي يَدهَا من مَال تِجَارَة وَإِن قدر لَهَا(2/435)
دينا فِي ذمَّتهَا تعلق الْمُقدر بذلك أَيْضا وَإِن عين لَهَا عينا من مَاله تعيّنت
وَلَو اخْتلعت محجورة بِسَفَه طلقت رَجْعِيًا ولغا ذكر المَال أَو مَرِيضَة مرض موت صَحَّ وَحسب من الثُّلُث زَائِد على مهر الْمثل
القَوْل فِي أثر الْخلْع (وتملك الْمَرْأَة) المختلعة (بِهِ نَفسهَا) أَي بضعهَا الَّذِي استخلصته بِالْعِوَضِ (وَلَا رَجْعَة لَهُ عَلَيْهَا) فِي الْعدة لانْقِطَاع سلطنته بالبينونة الْمَانِعَة من تسلطه على بضعهَا (إِلَّا بِنِكَاح) أَي بِعقد (جَدِيد) عَلَيْهَا بأركانه وشروطه الْمُتَقَدّم بَيَانهَا فِي مَوْضِعه
وَيصِح عوض الْخلْع قَلِيلا أَو كثيرا دينا وعينا وَمَنْفَعَة لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} وَلَو قَالَ إِن أبرأتيني من صداقك أَو من دينك فَأَنت طَالِق فأبرأته وَهِي جاهلة بِقَدرِهِ لم تطلق لِأَن الْإِبْرَاء لم يَصح فَلم يُوجد مَا علق عَلَيْهِ الطَّلَاق
وَلَو خَالعهَا على مَا فِي كفها وَلم يكن فِيهِ شَيْء وَقع بَائِنا بِمهْر الْمثل على الْأَرْجَح فِي الزَّوَائِد وَشرط فِي الصِّيغَة مَا مر فِيهَا فِي البيع على مَا يَأْتِي وَلَكِن لَا يضر هُنَا تخَلّل كَلَام يسير
وَلَفظ الْخلْع صَرِيح فِي الطَّلَاق فَلَا يحْتَاج مَعَه لنِيَّة لِأَنَّهُ تكَرر على لِسَان حَملَة الشَّرْع وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج تبعا لِلْبَغوِيِّ وَغَيره وَقيل كِنَايَة فِي الطَّلَاق وَهَذَا مَا نَص عَلَيْهِ فِي مَوَاضِع من الْأُم
وَالأَصَح كَمَا فِي الرَّوْضَة أَن الْخلْع والمفاداة إِن ذكر مَعَهُمَا المَال فهما صريحان فِي الطَّلَاق لِأَن ذكره يشْعر بالبينونة وَإِلَّا فكنايتان
القَوْل فِي جَوَاز الْخلْع فِي الطُّهْر (وَيجوز الْخلْع فِي الطُّهْر) الَّذِي جَامعهَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يلْحقهُ نَدم بِظُهُور الْحمل لرضاه بِأخذ الْعِوَض وَمِنْه يعلم جَوَازه فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ من بَاب أولى
(و) يجوز أَيْضا (فِي الْحيض) لِأَنَّهَا ببذلها الْفِدَاء لخلاصها رضيت لنَفسهَا بتطويل الْعدة (وَلَا يلْحق المختلعة) فِي عدتهَا (طَلَاق) بِلَفْظ صَرِيح أَو كِنَايَة وَلَا إِيلَاء وَلَا ظِهَار لصيرورتها أَجْنَبِيَّة بافتداء بضعهَا
وَخرج بِقَيْد المختلعة الرَّجْعِيَّة فيلحقها الطَّلَاق إِلَى انْقِضَاء الْعدة لبَقَاء سلطنته عَلَيْهَا إِذْ هِيَ كَالزَّوْجَةِ فِي لُحُوق الطَّلَاق وَالْإِيلَاء وَالظَّاهِر وَاللّعان وَالْمِيرَاث
القَوْل فِي اخْتِلَاف الزَّوْجَيْنِ فِي الْخلْع تَتِمَّة لَو ادَّعَت خلعا فَأنْكر الزَّوْج صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عَدمه فَإِن أَقَامَت بَيِّنَة رجلَيْنِ عمل بهَا وَلَا مَال لِأَنَّهُ يُنكره إِلَّا أَن يعود ويعترف بِالْخلْعِ فيستحقه قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
أَو ادّعى الْخلْع فأنكرت بِأَن قَالَت لم تُطَلِّقنِي أَو طَلقنِي مجَّانا بَانَتْ بقوله وَلَا عوض عَلَيْهَا إِذْ الأَصْل عَدمه فتحلف على نَفْيه وَلها نَفَقَة الْعدة فَإِن أَقَامَ بَيِّنَة بِهِ أَو شَاهدا وَحلف مَعَه ثَبت المَال كَمَا قَالَه فِي(2/436)
الْبَيَان وَكَذَا لَو اعْترفت بعد يَمِينهَا بِمَا ادَّعَاهُ قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَلَو اخْتلفَا فِي عدد الطَّلَاق كقولها سَأَلتك ثَلَاث طلقات بِأَلف فأجبتني فَقَالَ وَاحِدَة بِأَلف فأجبتك أَو فِي صفة عوضه كدراهم ودنانير أَو صِحَاح ومكسرة سَوَاء اخْتلفَا فِي التَّلَفُّظ بذلك أَو فِي إِرَادَته كَأَن خَالع بِأَلف وَقَالَ أردنَا دَنَانِير فَقَالَت دِرْهَم أَو قدره كَقَوْلِه خالعتك بمائتين فَقَالَت بِمِائَة وَلَا بَيِّنَة لوَاحِد مِنْهُمَا أَو لكل مِنْهُمَا
بَيِّنَة وتعارضتا تحَالفا كالمتبايعين فِي كَيْفيَّة الْحلف وَمن يبْدَأ بِهِ وَيجب ببيونتها بِفَسْخ الْعِوَض مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا أَو الْحَاكِم مهر مثل وَإِن كَانَ أَكثر مِمَّا ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ المُرَاد فَإِن كَانَ لأَحَدهمَا بَيِّنَة عمل بهَا
وَلَو خَالع بِأَلف مثلا ونويا نوعا من نَوْعَيْنِ بِالْبَلَدِ لزم إِلْحَاقًا للمنوي بالملفوظ فَإِن لم ينويا شَيْئا حمل على الْغَالِب إِن كَانَ وَإِلَّا لزم مهر الْمثل
فصل فِي الطَّلَاق
هُوَ لُغَة حل الْقَيْد وَشرعا حل عقد النِّكَاح بِلَفْظ الطَّلَاق وَنَحْوه
وعرفه النَّوَوِيّ فِي تهذيبه بِأَنَّهُ تصرف مَمْلُوك للزَّوْج يحدثه بِلَا سَبَب فَيقطع النِّكَاح
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع الْكتاب كَقَوْلِه تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} وَالسّنة كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ شَيْء من الْحَلَال أبْغض إِلَى الله تَعَالَى من الطَّلَاق
القَوْل فِي أَرْكَان الطَّلَاق وأركانه خَمْسَة صِيغَة وَمحل وَولَايَة وَقصد وَمُطلق وَشرط فِي الْمُطلق وَلَو بِالتَّعْلِيقِ تَكْلِيف فَلَا يَصح من غير مُكَلّف لخَبر رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث إِلَّا السَّكْرَان فَيصح مَعَ أَنه غير مُكَلّف كَمَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن أَصْحَابنَا وَغَيرهم فِي كتب الْأُصُول تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَاخْتِيَار فَلَا يَصح من مكره وَإِن لم يور لإِطْلَاق خبر لَا طَلَاق فِي إغلاق أَي إِكْرَاه
شُرُوط الْإِكْرَاه وَشرط الْإِكْرَاه قدرَة مكره بِكَسْر الرَّاء على تَحْقِيق مَا هدد بِهِ بِولَايَة أَو تَغْلِيب عَاجلا ظلما وَعجز مكره بِفَتْح الرَّاء عَن دَفعه بهرب وَغَيره وظنه أَنه إِن امْتنع حقق مَا هدده بِهِ وَيحصل الْإِكْرَاه بتخويف بمحذور كضرب شَدِيد أَو نَحْو ذَلِك كحبس
صِيغَة الطَّلَاق صَرِيح وكناية ثمَّ شرع المُصَنّف فِي الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الصِّيغَة بقوله (وَالطَّلَاق ضَرْبَان) فَقَط (صَرِيح) وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل ظَاهره غير الطَّلَاق فَلَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة لإيقاع الطَّلَاق كَمَا سَيَأْتِي فَلَو قَالَ لم أنو بِهِ الطَّلَاق لم يقبل وَحكى الْخطابِيّ فِيهِ الْإِجْمَاع (وكناية)(2/437)
وَهُوَ مَا يحْتَمل الطَّلَاق وَغَيره فَيحْتَاج إِلَى نِيَّة لإيقاعه كَمَا سَيَأْتِي فانحصر الطَّلَاق فِي هذَيْن الْقسمَيْنِ وَمَا وَقع للدميري فِي قَوْله لنا طَلَاق يَقع بِلَا صَرِيح وَلَا كِنَايَة وَصورته باعتراف الزَّوْجَيْنِ بفسق الشُّهُود حَالَة العقد هُوَ على وَجه ضَعِيف وَالصَّحِيح فِي الرَّوْضَة أَنَّهَا فرقة فسخ
تَنْبِيه أفهم كَلَام المُصَنّف أَنه لَا يَقع طَلَاق بنية من غير لفظ وَهُوَ كَذَلِك وَلَا بتحريك لِسَانه بِكَلِمَة الطَّلَاق إِذا لم يرفع صَوته بِقدر مَا يسمع نَفسه مَعَ اعْتِدَال سَمعه وَعدم الْمَانِع لِأَن هَذَا لَيْسَ بِكَلَام
القَوْل فِي الطَّلَاق الصَّرِيح (فالصريح ثَلَاثَة أَلْفَاظ) فَقَط كَمَا قَالَه الْأَصْحَاب (الطَّلَاق) أَي مَا اشتق مِنْهُ لاشتهاره فِيهِ لُغَة وَعرفا (و) كَذَا (الْفِرَاق والسراح) بِفَتْح السِّين أَي مَا اشتق مِنْهُمَا على الْمَشْهُور فيهمَا لورودهما فِي الْقُرْآن بِمَعْنَاهُ
وأمثلة الْمُشْتَقّ من الطَّلَاق كطلقتك وَأَنت طَالِق وَيَا مُطلقَة وَيَا طَالِق لَا أَنْت طَلَاق وَالطَّلَاق فليسا بصريحين بل كنايتان لِأَن المصادر إِنَّمَا تسْتَعْمل فِي الْأَعْيَان توسعا
وَيُقَاس بِمَا ذكر فارقتك وسرحتك فهما صريحان وَكَذَا أَنْت مُفَارقَة ومسرحة وَيَا مُفَارقَة وَيَا مسرحة وَأَنت فِرَاق والفراق وسراح والسراح كنايات
فروع لَو قَالَ أَنْت طَالِق من وثاق أَو من الْعَمَل أَو سرحتك إِلَى كَذَا كَانَ كِنَايَة إِن قصد أَن يَأْتِي بِهَذِهِ الزِّيَادَة قبل فَرَاغه من الْحلف وَإِلَّا فصريح وَيجْرِي ذَلِك فِيمَن يحلف بِالطَّلَاق من ذراعه أَو فرسه أَو رَأسه أَو نَحْو ذَلِك فَلَو أَتَى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق بدل الطَّاء كَأَن يَقُول أَنْت تالق كَانَ كِنَايَة كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين سَوَاء أَكَانَت لغته كَذَلِك أم لَا وَلَو قَالَ نسَاء الْمُسلمين طَوَالِق لم تطلق زَوجته إِن لم ينْو طَلاقهَا بِنَاء على الْأَصَح من أَن الْمُتَكَلّم لَا يدْخل فِي عُمُوم كَلَامه
وترجمة لفظ الطَّلَاق بالعجمية صَرِيح لشهرة اسْتِعْمَالهَا فِي مَعْنَاهَا عِنْد أَهلهَا دون تَرْجَمَة الْفِرَاق والسراح فَإِنَّهَا كِنَايَة كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة للِاخْتِلَاف فِي صراحتهما بِالْعَرَبِيَّةِ فضعفا بالترجمة
(وَلَا يفْتَقر) وُقُوع الطَّلَاق بصريحه (إِلَى النِّيَّة) إِجْمَاعًا إِلَّا فِي الْمُكْره عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يشْتَرط فِي حَقه النِّيَّة إِن نَوَاه وَقع على الْأَصَح وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا الْوَكِيل فِي الطَّلَاق يشْتَرط فِي حَقه إِذا طلق عَن مُوكله بِالصَّرِيحِ النِّيَّة إِن كَانَ لمُوكلِه زَوْجَة أُخْرَى كَمَا(2/438)
رَجحه فِي الْخَادِم لتردده بَين زَوْجَتَيْنِ فَلَا بُد من تَمْيِيز قَالَ أما إِذا لم يكن لمُوكلِه غَيرهَا فَفِي اشْتِرَاط النِّيَّة نظر لتعين الْمحل الْقَابِل للطَّلَاق من أَهله انْتهى
وَالظَّاهِر أَنه لَا يشْتَرط
فَإِن قيل كَيفَ يُقَال إِن الصَّرِيح لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة بِخِلَاف الْكِنَايَة مَعَ أَنه يشْتَرط قصد لفظ الطَّلَاق لمعناه وَلَا يَكْفِي قصد حُرُوف الطَّلَاق من غير قصد مَعْنَاهُ أُجِيب بِأَن كلا من الصَّرِيح وَالْكِنَايَة يشتراط فِيهِ قصد اللَّفْظ لمعناه والصريح لَا يحْتَاج إِلَى قصد الْإِيقَاع بِخِلَاف الْكِنَايَة فَلَا بُد فِيهَا من ذَلِك
فروع قَوْله الطَّلَاق لَازم لي أَو وَاجِب عَليّ صَرِيح بِخِلَاف قَوْله فرض عَليّ للْعُرْف فِي ذَلِك وَلَو قَالَ عَليّ الطَّلَاق وَسكت فَفِي الْبَحْر عَن الْمُزنِيّ أَنه كِنَايَة وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ إِنَّه صَرِيح قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَهُوَ الْحق فِي هَذَا الزَّمن لاشتهاره فِي معنى التَّطْلِيق وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وَقَوله لَهَا طَلَّقَك الله ولغريمه أبرأك الله ولأمته أعتقك الله صَرِيح فِي الطَّلَاق وَالْإِبْرَاء وَالْعِتْق إِذْ لَا يُطلق الله وَلَا يبرىء الله وَلَا يعْتق وَإِلَّا وَالزَّوْجَة طَالِق والغريم بَرِيء وَالْأمة مُعتقة بِخِلَاف مَا لَو قَالَ باعك الله أَو أقالك الله فَإِنَّهُ كِنَايَة لِأَن الصِّيَغ هُنَا قَوِيَّة لاستقلالها بِالْمَقْصُودِ بِخِلَاف صيغتي البيع وَالْإِقَالَة
القَوْل فِي كِنَايَة الطَّلَاق (وَالْكِنَايَة كل لفظ احْتمل الطَّلَاق وَغَيره) وَلَا يُخَالف هَذَا قَول الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه هِيَ كل لفظ ينبىء عَن الْفرْقَة وَإِن دق وَلَا قَول الرَّافِعِيّ هِيَ مَا احْتمل مَعْنيين فَصَاعِدا إِذْ هِيَ فِي بعض الْمعَانِي أظهر لرجوع ذَلِك كُله إِلَى معنى وَاحِد
(وتفتقر) فِي وُقُوع الطَّلَاق بهَا (إِلَى النِّيَّة) إِجْمَاعًا إِذْ اللَّفْظ مُتَرَدّد بَين الطَّلَاق وَغَيره فَلَا بُد من نِيَّة تميز بَينهمَا وألفاظها كَثِيرَة لَا تكَاد تَنْحَصِر ذكر المُصَنّف بَعْضهَا فِي بعض النّسخ بقوله (مثل أَنْت خلية) أَي خَالِيَة مني وَكَذَا يقدر الْجَار وَالْمَجْرُور فِيمَا بعده (و) أَنْت (بتة) بمثناة قبل آخِره أَي مَقْطُوعَة الوصلة مَأْخُوذَة من الْبَتّ وَهُوَ الْقطع
تَنْبِيه تنكير ألبت جوزه الْفراء وَالأَصَح وَهُوَ مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ أَنه لَا يسْتَعْمل إِلَّا مُعَرفا بِاللَّامِ
(و) أَنْت (بَائِن) من الْبَين وَهُوَ الْفِرَاق
تَنْبِيه قَوْله بَائِن هُوَ اللُّغَة الفصحى والقليل بَائِنَة
(و) أَنْت (حرَام) أَي مُحرمَة عَليّ مَمْنُوعَة للفرقة
(و) أَنْت (كالميتة) أَي فِي التَّحْرِيم شبه تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ بِالطَّلَاق كتحريم الْميتَة (واغربي) بِمُعْجَمَة ثمَّ رَاء أَي صيري غَرِيبَة بِلَا زوج وَأما اعزبي بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي فَذكره المُصَنّف بِمَعْنَاهُ كَمَا سَيَأْتِي
(واستبرئي رَحِمك) أَي لِأَنِّي طَلقتك وَسَوَاء فِي ذَلِك الْمَدْخُول بهَا وَغَيرهَا
(وتقنعي) أَي استري رَأسك بالقناع لِأَنِّي طَلقتك والقناع بِكَسْر الْقَاف والمقنعة بِكَسْر الْمِيم مَا تغطي بِهِ الْمَرْأَة رَأسهَا ومحاسنها
(وابعدي) أَي مني لِأَنِّي طَلقتك (واذهبي) أَي عني لِأَنِّي طَلقتك هما بِمَعْنى اعزبي بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي (والحقي بأهلك) بِكَسْر الْهمزَة وَفتح الْحَاء وَقيل بِالْعَكْسِ وَجعله المطرزي خطأ أَي لِأَنِّي طَلقتك سَوَاء أَكَانَ لَهَا أهل أم لَا
(وَمَا أشبهه ذَلِك) من أَلْفَاظ الْكِنَايَات كتجردي وتزودي أَي استعدي للحوق بأهلك وَلَا حَاجَة لي فِيك أَي لِأَنِّي طَلقتك وذوقي أَي مرَارَة الْفِرَاق وحبلك على غاربك أَي خليت سَبِيلك كَمَا يخلى الْبَعِير فِي الصَّحرَاء وزمامه على غاربه وَهُوَ مَا تقدم من الظّهْر وارتفع من الْعُنُق ليرعى كَيفَ شَاءَ وَلَا أنده سربك من النده وَهُوَ الزّجر(2/439)
أَي لَا أهتم بشأنك لِأَنِّي طَلقتك
والسرب بِفَتْح السِّين وَسُكُون الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ الْإِبِل وَمَا يرْعَى من المَال أما بِكَسْر السِّين فالجماعة من الظباء وَالْبَقر وَيجوز كسر السِّين هُنَا
وَخرج بِقَيْد شبه مَا ذكر مَا لَا يُشبههُ من الْأَلْفَاظ نَحْو بَارك الله لي فِيك وأطعميني واسقيني وزوديني وقومي واقعدي وَنَحْو ذَلِك فَلَا يَقع بِهِ طَلَاق وَإِن نَوَاه لِأَن اللَّفْظ لَا يصلح لَهُ
القَوْل فِي شُرُوط وُقُوع الطَّلَاق بِالْكِنَايَةِ (فَإِن نوى بِجَمِيعِ ذَلِك) أَي بِلَفْظ من أَلْفَاظه (الطَّلَاق) فِيهِ (وَقع) إِن اقْترن بِكُل اللَّفْظ كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ وَقيل يَكْفِي اقترانها بأوله وينسحب مَا بعده عَلَيْهِ وَرجحه الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيّ وَالَّذِي رَجحه ابْن الْمقري وَهُوَ الْمُعْتَمد أَنه يَكْفِي اقترانها بِبَعْض اللَّفْظ سَوَاء أَكَانَ من أَوله أَو وَسطه أَو آخِره إِذْ الْيَمين إِنَّمَا تعْتَبر بِتَمَامِهَا
تَنْبِيه اللَّفْظ الَّذِي يعْتَبر قرن النِّيَّة بِهِ هُوَ لفظ الْكِنَايَة كَمَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ والبندنيجي لَكِن مثل لَهُ الرَّافِعِيّ تبعا لجَماعَة بقرنها بأنت من أَنْت بَائِن مثلا وَصوب فِي الْمُهِمَّات الأول لِأَن الْكَلَام فِي الْكِنَايَات
وَالْأَوْجه الِاكْتِفَاء بِمَا قَالَه الرَّافِعِيّ لِأَن أَنْت وَإِن لم يكن جُزْءا من الْكِنَايَة فَهُوَ كالجزء مِنْهَا لِأَن مَعْنَاهَا الْمَقْصُود لَا يتَأَدَّى بِدُونِهِ
(وَإِن لم يُنَوّه) بِلَفْظ من أَلْفَاظ الْكِنَايَات الْمَذْكُورَة (لم يَقع) طَلَاق لعدم قَصده وَإِشَارَة نَاطِق وَإِن فهمها كل أحد بِطَلَاق كَأَن قَالَت لَهُ زَوجته طَلقنِي فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن اذهبي لَغْو لَا يَقع بِهِ شَيْء لِأَن عدوله عَن الْعبارَة إِلَى الْإِشَارَة يفهم أَنه غير قَاصد للطَّلَاق وَإِن قَصده بهَا فَهِيَ لَا تقصد للإفهام إِلَّا نَادرا
ويعتد بِإِشَارَة أخرس وَلَو قدر على الْكِتَابَة كَمَا صرح بِهِ الإِمَام فِي الْعُقُود كَالْبيع وَفِي الأقارير وَفِي الدَّعَاوَى وَفِي الْحُلُول كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْق وَاسْتثنى فِي الدقائق شَهَادَته وإشارته فِي الصَّلَاة فَلَا يعْتد بهَا وَلَا يَحْنَث بهَا فِي الْحلف على عدم الْكَلَام فَإِن فهم طَلَاقه مثلا بإشارته كل أحد من فطن وَغَيره فصريحة لَا تحْتَاج لنِيَّة وَإِن اخْتصَّ بطلاقه بإشارته فطنون فكناية تحْتَاج إِلَى النِّيَّة
تَتِمَّة لَو قَالَ لزوجته إِن أبرأتني من دينك فَأَنت طَالِق فأبرأته بَرَاءَة صَحِيحَة وَقع الطَّلَاق بَائِنا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ لغَيْرهَا إِن أبرأتني من دينك فزوجتي طَالِق فأبرأته بَرَاءَة صَحِيحَة وَقع الطَّلَاق رَجْعِيًا لِأَنَّهُ تَعْلِيق مَحْض
وَلَو قَالَ لزوجته إِن دخلت الْبَيْت وَوجدت فِيهِ شَيْئا من متاعك وَلم أكسره على رَأسك فَأَنت طَالِق فَوجدَ فِي الْبَيْت هونا لَهَا لم تطلق كَمَا جزم بِهِ الْخَوَارِزْمِيّ وَرجحه الزَّرْكَشِيّ للاستحالة وَقيل تطلق قبيل مَوته أَو مَوتهَا لليأس وَلَو قَالَ لزوجته إِن قبلت ضرتك فَأَنت طَالِق فقبلها ميتَة لم تطلق بِخِلَاف تَعْلِيقه بتقبيل أمه فَإِنَّهَا تطلق بتقبيله لَهَا ميتَة إِذْ قبْلَة الزَّوْجَة قبْلَة شَهْوَة وَلَا شَهْوَة بعد الْمَوْت وَالأُم لَا فرق فِيهَا بَين الْحَيَاة وَالْمَوْت لِأَن قبلتها قبْلَة شَفَقَة وكرامة أكرمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَجَمِيع أهلنا ومشايخنا وأصحابنا وَالْمُسْلِمين بِالنّظرِ إِلَى وَجهه الْكَرِيم(2/440)
فصل فِي طَلَاق السّني
وَغَيره والترجمة بِالْفَصْلِ سَاقِطَة فِي أَكثر النّسخ وَهُوَ فِي الطَّلَاق السّني وَغَيره وَفِيه اصطلاحان أَحدهمَا وَهُوَ أضبط يَنْقَسِم إِلَى سني وبدعي وَثَانِيهمَا وَهُوَ أشهر يَنْقَسِم إِلَى سني وبدعي وَلَا وَلَا وَيعلم ذَلِك من كَلَام المُصَنّف
الْأَحْكَام الَّتِي تعتري الطَّلَاق فَائِدَة قسم جمَاعَة الطَّلَاق إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَاجِب كَطَلَاق الحكم فِي الشقاق ومندوب كَطَلَاق زَوْجَة حَالهَا غير مُسْتَقِيم كَأَن تكون غير عفيفة وَحرَام كَالطَّلَاقِ البدعي كَمَا سَيَأْتِي ومكروه كَطَلَاق مُسْتَقِيمَة الْحَال وَعَلِيهِ حمل أبْغض الْحَلَال إِلَى الله تَعَالَى الطَّلَاق
وَأَشَارَ الإِمَام إِلَى الْمُبَاح بِطَلَاق من لَا يهواها الزَّوْج وَلَا تسمح نَفسه بمؤنتها من غير استمتاع بهَا
(وَالنِّسَاء فِيهِ) أَي فِي حكم الطَّلَاق (ضَرْبَان ضرب فِي طلاقهن سنة) أَي لَا تَحْرِيم فِيهِ (وبدعة) أَي حرَام (وَهن ذَوَات الْحيض) وَأَشَارَ إِلَى الْقسم الأول بقوله (فَالسنة) أَي السّني
(أَن يُوقع الطَّلَاق) على مَدْخُول بهَا لَيست بحامل وَلَا صَغِيرَة وَلَا آيسة (فِي طهر غير مجامع فِيهِ) وَلَا فِي حيض قبله وَذَلِكَ لاستعقابه الشُّرُوع فِي الْعدة وَعدم النَّدَم فِيمَن ذكرت وَقد قَالَ تَعَالَى {إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} أَي فِي الْوَقْت الَّذِي يشرعن فِيهِ فِي الْعدة
على مَدْخُول بهَا (فِي الْحيض أَو فِي طهر جَامعهَا فِيهِ) وَهِي مِمَّن تحبل أَو فِي حيض قبله وَإِن سَأَلته طَلَاقا بِلَا عوض أَو اختلعها أَجْنَبِي وَذَلِكَ لمُخَالفَته فِيمَا إِذا طَلقهَا فِي حيض لقَوْله تَعَالَى {فطلقوهن لعدتهن} وزمن الْحيض(2/441)
الطَّلَاق البدعي وَأَشَارَ إِلَى الْقسم الثَّانِي بقوله (والبدعة أَن يُوقع الطَّلَاق) لَا يحْسب من الْعدة وَمثله النّفاس وَالْمعْنَى فِي ذَلِك تضررها بطول مُدَّة التَّرَبُّص ولأدائه إِلَى النَّدَم فِيمَن تحمل إِذا ظهر حملهَا فَإِن الْإِنْسَان قد يُطلق الْحَائِل دون الْحَامِل وَعند النَّدَم قد لَا يُمكنهُ التَّدَارُك فيتضرر هول وَخرج بِقَيْد الْإِيقَاع تَعْلِيق الطَّلَاق فَلَا يحرم فِي الْحيض لَكِن إِن وجدت الصّفة فِي الطُّهْر سمي سنيا وَإِن وجدت فِي الْحيض سمي بدعيا وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام البدعي إِلَّا أَنه لَا إِثْم فِيهِ بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب فِي كل الطّرق كَمَا قَالَه فِي الزَّوَائِد
نعم إِن أوقع الصّفة فِي الْحيض بِاخْتِيَارِهِ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ أَنه يَأْثَم بإيقاعه فِي الْحيض كإنشائه الطَّلَاق فِيهِ
وَخرج بِقَيْد الطَّلَاق فِي السّني والبدعي الفسوخ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِم إِلَى سني وَلَا إِلَى بدعي قَالَ فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهَا شرعت لدفع مضار زَائِدَة فَلَا يَلِيق بهَا تَكْلِيف مراقبة الْأَوْقَات وبقيد قَوْله فِي الْحيض مَا إِذا وَافق قَوْله أَنْت زمن الطُّهْر وَطَالِق زمن الْحيض فَهَل يكون سنيا أَو بدعيا وَهِي مَسْأَلَة عزيزة النَّقْل ذكرهَا ابْن الرّفْعَة فِي غير مظنتها فِي بَاب الْكَفَّارَات وَنقل فِيهَا عَن بن شُرَيْح وَأقرهُ أَنه قَالَ يحْسب لَهَا الزَّمن الَّذِي وَقع فِيهِ قَوْله أَنْت فَقَط قرءا وَيكون الطَّلَاق سنيا قَالَ وَهُوَ من بَاب تَرْتِيب الحكم على أول أَجْزَائِهِ لِأَن الطَّلَاق لَا يَقع بقوله أَنْت بمفرده اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا يَقع بِمَجْمُوع قَوْله أَنْت طَالِق انْتهى
تَنْبِيهَات أَحدهَا قَضِيَّة تَقْيِيد المُصَنّف بِالْجِمَاعِ قصر الحكم عَلَيْهِ وَلَيْسَ مرَادا
بل لَو استدخلت مَاءَهُ الْمُحْتَرَم كَانَ الحكم كَذَلِك
وَكَذَا الْوَطْء فِي الدبر على الْأَصَح كَمَا فِي الرَّوْضَة لثُبُوت النّسَب وَوُجُوب الْعدة بِهِ
التَّنْبِيه الثَّانِي ظَاهر كَلَامه حصر البدعي فِيمَا ذكره وَلَيْسَ مُرَاد بل بَقِي مِنْهُ قسم آخر مَذْكُور فِي الرَّوْضَة وَهُوَ فِي حق من لَهُ زوجتان وَقسم لإحداهما ثمَّ طلق الْأُخْرَى قبل الْمبيت عِنْدهَا وَلَو نكح حَامِلا من زنا ثمَّ دخل بهَا ثمَّ طَلقهَا نظر إِن لم تَحض فبدعي لِأَنَّهَا لَا تشرع فِي الْعدة إِلَّا بعد الْوَضع وَالنّفاس وَإِلَّا فَإِن طَلقهَا فِي الطُّهْر فسني أَو فِي الْحيض فبدعي
كَمَا يُؤْخَذ من كَلَامهم
وَأما الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة إِذا حبلت مِنْهُ ثمَّ طَلقهَا طَاهِرا فَإِنَّهُ بدعي
التَّنْبِيه الثَّالِث يسْتَثْنى من الطَّلَاق فِي الْحيض صور مِنْهَا الْحَامِل إِذا حَاضَت فَلَا يحرم طَلاقهَا
لِأَن عدتهَا بِالْوَضْعِ
وَمِنْهَا مَا لَو كَانَت الزَّوْج أمة وَقَالَ لَهَا سَيِّدهَا إِن طَلَّقَك الزَّوْج الْيَوْم فَأَنت حرَّة فَسَأَلت الزَّوْج الطَّلَاق لأجل الْعتْق فَطلقهَا لم يحرم فَإِن دوَام الرّقّ أضرّ بهَا من تَطْوِيل الْعدة وَقد لَا يسمح بِهِ السَّيِّد بعد ذَلِك أَو يَمُوت فيدوم أسرها بِالرّقِّ قَالَه الْأَذْرَعِيّ بحثا وَهُوَ حسن
وَمِنْهَا طَلَاق الْمُتَحَيِّرَة فَلَيْسَ بسني وَلَا بدعي
وَمِنْهَا طَلَاق الْحكمَيْنِ فِي صُورَة الشقاق وَمِنْهَا طَلَاق الْمولى إِذا طُولِبَ فِي الْحيض ثَانِيَة
وَمِنْهَا مَا لَو خَالعهَا على عوض لإِطْلَاق قَوْله تَعَالَى {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} وَإِن توقف فِيهِ(2/442)
الرَّافِعِيّ وَمِنْهَا مَا لَو طَلقهَا فِي الطُّهْر طَلْقَة ثمَّ طَلقهَا {فِيمَا افتدت بِهِ} ولحاجتها إِلَى الْخَلَاص بالمفارقة حَيْثُ افتدت بِالْمَالِ وَهَذَا لَيْسَ بسني وَلَا بدعي وَهُوَ وَارِد على قَول المُصَنّف
طَلَاق لَيْسَ بدعيا وَلَا سنيا (وَضرب لَيْسَ فِي طلاقهن سنة وَلَا بِدعَة) على الْمَشْهُور من الْمَذْهَب كَمَا فِي الرَّوْضَة (وَهن أَربع) الأولى (الصَّغِيرَة) الَّتِي لم تَحض (و) الثَّانِيَة (الآيسة) لِأَن عدتهما بِالْأَشْهرِ فَلَا ضَرَر يلحقهما (و) الثَّالِثَة (الْحَامِل) الَّتِي ظهر حملهَا لِأَن عدتهَا بوضعها فَلَا تخْتَلف الْمدَّة فِي حَقّهَا وَلَا نَدم بعد ظُهُور الْحمل (و) الرَّابِعَة (المختلعة الَّتِي لم يدْخل بهَا) إِذْ لَا عدَّة عَلَيْهَا
مَا يطْلب مِمَّن يُطلق بدعيا تَتِمَّة من طلق بدعيا سنّ لَهُ الرّجْعَة ثمَّ بعْدهَا إِن شَاءَ طلق بعد تَمام طهر لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا طلق زَوجته وَهِي حَائِض فَذكر ذَلِك عمر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مره فَلْيُرَاجِعهَا ثمَّ ليُطَلِّقهَا طَاهِرا أَي قبل أَن يَمَسهَا إِن أَرَادَ كَمَا صرح بِهِ فِي بعض رواياتهما وَلَو قَالَ لحائض ممسوسة أَو نفسَاء أَنْت طَالِق للبدعة وَقع الطَّلَاق فِي الْحَال أَو أَنْت طَالِق للسّنة فَيَقَع الطَّلَاق حِين تطهر وَلَو قَالَ لمن فِي طهر لم تمس فِيهِ أَنْت طَالِق للسّنة وَقع فِي الْحَال فِي وَإِن مست فِيهِ فحين تطهر بعد الْحيض أَو للبدعة وَقع فِي الْحَال إِن مست فِيهِ أَو حيض قبله وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق طَلْقَة حَسَنَة أَو أحسن الطَّلَاق أَو أفضله أَو أعدله أَو أجمله فكالسنة أَو طَلْقَة قبيحة أَو أقبح الطَّلَاق أَو أسمجه أَو أفحشه فكالبدعة وَقَوله لَهَا طَلقتك طَلَاقا كالثلج أَو كالنار يَقع الطَّلَاق فِي الْحَال وَيَلْغُو التَّشْبِيه الْمَذْكُور
فصل فِيمَا يملكهُ الزَّوْج من الطلقات
وَفِي الِاسْتِثْنَاء وَالتَّعْلِيق وَالْمحل الْقَابِل للطَّلَاق وشروط الْمُطلق
وَقد شرع فِي الْقسم الأول وَهُوَ عدد الطلقات بقوله (وَيملك الْحر) على زَوجته سَوَاء أَكَانَت حرَّة أَو أمة (ثَلَاث تَطْلِيقَات) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ من قَوْله تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} فَأَيْنَ الثَّالِثَة فَقَالَ أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَإِنَّمَا لم يعتبروا رق الزَّوْجَة لِأَن الِاعْتِبَار فِي الطَّلَاق بِالزَّوْجِ لما رُوِيَ الْبَيْهَقِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الطَّلَاق بِالرِّجَالِ وَالْعدة بِالنسَاء
وَلَا يحرم جمع الطلقات لِأَن عويمرا الْعجْلَاني لما لَاعن امْرَأَته عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَلقهَا ثَلَاثًا قبل أَن يُخبرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم أَنَّهَا تبين بِاللّعانِ مُتَّفق عَلَيْهِ
فَلَو كَانَ إِيقَاع الثَّلَاث حَرَامًا لنهاه عَن ذَلِك ليعلمه هُوَ وَمن حَضَره(2/443)
(و) يملك (العَبْد طَلْقَتَيْنِ) فَقَط وَإِن كَانَت زَوجته حرَّة لما روى الدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعا طَلَاق العَبْد طَلْقَتَانِ وَالْمكَاتب والمبعض وَالْمُدبر كالقن وَإِنَّمَا لم يعتبروا حريَّة الزَّوْجَة لما مر
تَنْبِيه قد يملك العَبْد ثَالِثَة كذمي
طلق زَوجته طَلْقَتَيْنِ ثمَّ الْتحق بدار الْحَرْب واسترق ثمَّ أَرَادَ نِكَاحهَا فَإِنَّهَا تحل لَهُ على الْأَصَح وَيملك عَلَيْهَا الثَّالِثَة لِأَنَّهَا لم تحرم عَلَيْهِ بالطلقتين وطريان الرّقّ لَا يمْنَع الْحل السَّابِق بِخِلَاف مَا لَو طَلقهَا طَلْقَة ثمَّ اسْترق فَإِنَّهَا تعود لَهُ بِطَلْقَة فَقَط لِأَنَّهُ رق قبل اسْتِيفَاء عدد العبيد
القَوْل فِي الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء بقوله (وَيصِح الِاسْتِثْنَاء فِي الطَّلَاق) لوُقُوعه فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَكَلَام الْعَرَب وَهُوَ الْإِخْرَاج بإلا أَو إِحْدَى أخواتها ولصحته شُرُوط خَمْسَة وَهِي (إِذا وَصله بِهِ) أَي الْيَمين ونواه قبل فَرَاغه وَقصد بِهِ رفع حكم الْيَمين وتلفظ بِهِ مسمعا بِهِ نَفسه وَلم يسْتَغْرق فَلَو انْفَصل زَائِدا على سكتة النَّفس ضرّ أما لَو سكت لتنفس أَو انْقِطَاع صَوت فَإِنَّهُ لَا يضر لِأَن ذَلِك لَا يعد فاصلا بِخِلَاف الْكَلَام الْأَجْنَبِيّ وَلَو يَسِيرا أَو نَوَاه بعد فرَاغ الْيَمين ضرّ بِخِلَاف مَا إِذا نَوَاه قبلهَا لِأَن الْيَمين إِنَّمَا تعْتَبر بِتَمَامِهَا وَذَلِكَ صَادِق بِأَن ينويه أَولهَا أَو آخرهَا أَو مَا بَينهمَا أَو لم يقْصد بِهِ رفع حكم الْيَمين أَو لم قصد بِهِ رفع حكم الْيَمين وَلم يتَلَفَّظ بِهِ أَو تلفظ بِهِ وَلم يسمع بِهِ نَفسه عِنْد اعْتِدَال سَمعه أَو استغرق الْمُسْتَثْنى مِنْهُ ضرّ والمستغرق بَاطِل بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه الإِمَام والآمدي فَلَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا لم يَصح الِاسْتِثْنَاء وَطلقت ثَلَاثًا
وَيصِح تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَأَنْت إِلَّا وَاحِدَة طَالِق ثَلَاثًا وَالِاسْتِثْنَاء يعْتَبر من الملفوظ بِهِ لَا من الْمَمْلُوك فَلَو قَالَ أَنْت طَالِق خمْسا إِلَّا ثَلَاثًا وَقع طَلْقَتَانِ وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا نصف طَلْقَة وَقع ثَلَاثًا لِأَنَّهُ إِذا اسْتثْنى من طَلْقَة بعض طَلْقَة بَقِي بَعْضهَا وَمَتى بَقِي كملت
تَنْبِيه يُطلق الِاسْتِثْنَاء شرعا عل التَّعْلِيق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى كَقَوْلِه أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَو إِن لم يَشَأْ الله تَعَالَى طَلَاقك
وَقصد التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ فِي الأولى وبعدمها فِي الثَّانِيَة قبل فرَاغ الطَّلَاق لم يَحْنَث لِأَن الْمُعَلق عَلَيْهِ من مَشِيئَة الله تَعَالَى وَعدمهَا غير مَعْلُوم فَإِن لم يقْصد بِالْمَشِيئَةِ التَّعْلِيق بِأَن سبق إِلَى لِسَانه لتعوده بهَا كَمَا هُوَ الْأَدَب أَو قَصدهَا بعد الْفَرَاغ من الطَّلَاق أَو قصد بهَا التَّبَرُّك أَو أَن كل شَيْء بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أَو لم يعلم هَل قصد التَّعْلِيق أم لَا حنث وَكَذَا إِن أطلق كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَامهم
وَكَذَا يمْنَع التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ انْعِقَاد نِيَّة وضوء أَو صَلَاة أوصوم أوغيرها عِنْد قصد التَّعْلِيق وانعقاد تَعْلِيق وانعقاد عتق وانعقاد يَمِين(2/444)
وانعقاد نذر وانعقاد كل تصرف غير مَا ذكر مِمَّا حَقه الْجَزْم كَبيع وَإِقْرَار وَإِجَارَة
وَلَو قَالَ يَا طَالِق إِن شَاءَ الله وَقع طَلْقَة فِي الْأَصَح نظرا لصورة النداء الْمشعر بِحُصُول الطَّلَاق حَالَته
وَالْحَاصِل لَا يعلق بِخِلَاف أَنْت طَالِق فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ قد يسْتَعْمل عِنْد الْقرب مِنْهُ وتوقع الْحُصُول كَمَا يُقَال للقريب من الْوُصُول أَنْت وَاصل وللمريض المتوقع شفاؤه أَنْت صَحِيح فينتظم الِاسْتِثْنَاء فِي مثله
القَوْل فِي تَعْلِيق الطَّلَاق بِالصّفةِ وَالشّرط ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ التَّعْلِيق بقوله (وَيصِح تَعْلِيقه) أَي الطَّلَاق قِيَاسا على الْعتْق (بِالصّفةِ) فَتطلق عِنْد وجودهَا فَإِذا قَالَ لَهَا أَنْت طَالِق فِي شهر كَذَا أَو فِي غرته أَو فِي رَأسه أَو فِي أَوله وَقع الطَّلَاق مَعَ أول جُزْء من اللَّيْلَة الأولى مِنْهُ
أَو أَنْت طَالِق فِي نَهَار كَذَا من شهر كَذَا أَو أول يَوْم مِنْهُ فَتطلق بِأول فجر يَوْم مِنْهُ أَو أَنْت طَالِق فِي آخر شهر كَذَا أَو سلخه فَتطلق بآخر جُزْء من الشَّهْر وَإِن علق بِأول آخِره طلقت بِأول الْيَوْم الْأَخير مِنْهُ لِأَنَّهُ أول آخِره وَلَو علق بآخر أَوله طلقت بآخر الْيَوْم الأول مِنْهُ لِأَنَّهُ آخر أَوله وَلَو علق بانتصاف الشَّهْر طلقت بغروب شمس الْخَامِس عشر وَإِن نقص الشَّهْر لِأَن الْمَفْهُوم من ذَلِك وَلَو علق بِنصْف نصفه الأول طلقت بِطُلُوع فجر الثَّامِن لِأَن نصف نصفه سبع لَيَال وَنصف وَسَبْعَة أَيَّام وَنصف وَاللَّيْل سَابق النَّهَار فيقابل نصف لَيْلَة بِنصْف يَوْم وَيجْعَل ثَمَان لَيَال وَسَبْعَة أَيَّام نصفا وَسبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام نصفا وَلَو علق بِمَا بَين اللَّيْل وَالنَّهَار طلقت بالغروب إِن علق نَهَارا وبالفجر إِن علق لَيْلًا إِذا كل مِنْهُمَا عبارَة عَن مَجْمُوع جُزْء من اللَّيْل وجزء من النَّهَار إِذْ لَا فاصل بَين الزمانين
وَقَوله (وَالشّرط) مجرور عطفا على الصّفة قَالَ فِي الْمطلب وَقد استؤنس لجَوَاز تَعْلِيق الطَّلَاق بِالشّرطِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم انْتهى
وأدوات التَّعْلِيق بِالشّرطِ وَالصِّفَات إِن وَهِي أم الْبَاب نَحْو إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَمن بِفَتْح الْمِيم كمن دخلت من نسَائِي الدَّار فَهِيَ طَالِق وَإِذا وَمَتى وَمَتى مَا بِزِيَادَة مَا وَكلما نَحْو كلما دخلت الدَّار وَاحِدَة من نسَائِي فَهِيَ طَالِق(2/445)
وَأي كأي وَقت دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق
وَمن الأدوات إِذْ مَا على رَأْي سِيبَوَيْهٍ وَمهما وَهِي بِمَعْنى مَا وَمَا الشّرطِيَّة وَإِذ مَا وأيا مَا كلمة وأيان وَهِي كمتى فِي تَعْمِيم الْأَزْمَان وَأَيْنَ وحيثما لتعميم الْأَمْكِنَة وَكَيف وكيفما للتعليق على الْأَحْوَال
وَفِي فَتَاوَى الْغَزالِيّ أَن التَّعْلِيق يكون بِلَا فِي بلد عَم الْعرف فِيهَا كَقَوْل أهل بَغْدَاد أَنْت طَالِق لَا دخلت الدَّار وَيكون التَّعْلِيق أَيْضا بلو كَأَنْت طَالِق لَو دخلت الدَّار كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَهَذِه الأدوات لَا تَقْتَضِي الْوُقُوع بِالْوَضْعِ فَوْرًا فِي الْمُعَلق عَلَيْهِ وَلَا تراخيا إِن علق بمثبت كالدخول فِي غير خلع أما فِيهِ فَإِنَّهَا تفِيد الْفَوْرِيَّة فِي بعض صيغه كَإِن وَإِذا كَإِن ضمنت أَو إِذا ضمنت لي ألفا فَأَنت طَالِق وَكَذَا تفِيد الْفَوْرِيَّة فِي التَّعْلِيق بِالْمَشِيئَةِ نَحْو أَنْت طَالِق إِن شِئْت أَو إِذا شِئْت لِأَنَّهُ تمْلِيك على الصَّحِيح بِخِلَاف مَتى شِئْت
وَلَا تَقْتَضِي هَذِه الأدوات تكرارية فِي الْمُعَلق عَلَيْهِ بل إِذا وجد مرّة وَاحِدَة فِي غير نِسْيَان وَلَا إِكْرَاه انْحَلَّت الْيَمين وَلم يُؤثر وجودهَا ثَانِيًا إِلَّا فِي كلما فَإِن التَّعْلِيق بهَا يُفِيد التّكْرَار فَلَو قَالَ من لَهُ عبيد وَتَحْته أَربع نسْوَة إِن طلقت وَاحِدَة فعبد من عَبِيدِي حر أَو اثْنَتَيْنِ فعبدان أَو ثَلَاثًا فَثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة فَأَرْبَعَة وطلق أَرْبعا مَعًا أَو مُرَتبا عتق عشرَة وَاحِد بِطَلَاق الأولى وَاثْنَانِ بِطَلَاق الثَّانِيَة وَثَلَاثَة بِطَلَاق الثَّالِثَة وَأَرْبَعَة بِطَلَاق الرَّابِعَة ومجموع ذَلِك عشرَة وَلَو علق بكلما فخمسة عشر لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التّكْرَار كَمَا مر لِأَن فِيهَا أَرْبَعَة آحَاد واثنتين مرَّتَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة فَيعتق وَاحِد بِطَلَاق الأولى وَثَلَاث بِطَلَاق الثَّانِيَة لِأَنَّهُ صدق بِهِ طَلَاق وَاحِدَة وَطَلَاق ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعَة بِطَلَاق الثَّالِثَة لِأَنَّهُ صدق عَلَيْهِ طَلَاق وَلَا طَلَاق وَاحِدَة ثَلَاث وَسَبْعَة بِطَلَاق الرَّابِعَة لِأَنَّهُ صدق عَلَيْهِ طَلَاق وَاحِدَة وَطَلَاق ثِنْتَيْنِ غير الْأَوليين وَطَلَاق أَرْبَعَة ومجموع ذَلِك خَمْسَة عشر
ثمَّ شرع فِي الْقسم الرَّابِع وَهُوَ الْمحل بقوله (وَلَا يَقع الطَّلَاق) الْمُعَلق (قبل النِّكَاح) بعد وجوده لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا طَلَاق إِلَّا بعد نِكَاح صَححهُ التِّرْمِذِيّ
الْقسم الْخَامِس وَهُوَ شُرُوط الْمُطلق ثمَّ شرع فِي الْقسم الْخَامِس وَهُوَ شُرُوط الْمُطلق بقوله (وَأَرْبع لَا يَقع طلاقهم) بتنجيز وَلَا تَعْلِيق الأول (الصَّبِي) وَالثَّانِي(2/446)
(الْمَجْنُون و) الثَّالِث (النَّائِم) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع الْقَلَم عَن ثَلَاث
عَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق وَعَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ صَححهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره
وَحَيْثُ ارْتَفع عَنْهُم الْقَلَم بَطل تصرفهم نعم لَو طَرَأَ الْجُنُون من سكر تعدى بِهِ صَحَّ تصرفه لِأَنَّهُ لَو طلق فِي هَذَا الْجُنُون وَقع طَلَاقه على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص فِي كتب الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
والمبرسم وَالْمَعْتُوه وَهُوَ النَّاقِص الْعقل كَمَا فِي الصِّحَاح كَالْمَجْنُونِ (و) الرَّابِع (الْمُكْره) بِفَتْح الرَّاء على طَلَاق زَوجته لَا يَقع خلافًا لأبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَلخَبَر لَا طَلَاق فِي إغلاق أَي إِكْرَاه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم وَصحح إِسْنَاده على شَرط مُسلم
فَإِن ظهر من الْمُكْره قرينَة اخْتِيَار مِنْهُ للطَّلَاق كَأَن أكره على ثَلَاث طلقات فَطلق وَاحِدَة أَو على طَلَاق صَرِيح فكنى وَنوى أَو على تَعْلِيق فنجز أَو بِالْعَكْسِ لهَذِهِ الصُّور وَقع الطَّلَاق فِي الْجَمِيع لِأَن مُخَالفَته تشعر اخْتِيَاره فِيمَا أَتَى بِهِ
وَشرط حُصُول الْإِكْرَاه قدرَة الْمُكْره بِكَسْر الرَّاء على تَحْقِيق مَا هدد بِهِ الْمُكْره بِفَتْحِهَا تهديد عَاجلا ظلما بِولَايَة أَو تغلب وَعجز الْمُكْره بِفَتْح الرَّاء عَن دفع الْمُكْره بِكَسْرِهَا بهرب أَو غَيره كاستغاثة بِغَيْرِهِ وظنه أَنه إِن امْتنع من فعل مَا أكره عَلَيْهِ حقق فعل مَا خَوفه بِهِ لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق الْعَجز إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُور الثَّلَاثَة فَخرج بعاجلا مَا لَو قَالَ لأَقْتُلَنك غَدا فَلَيْسَ بإكراه وبظلما مَا لَو قَالَ ولي الْقصاص للجاني طلق زَوجتك وَإِلَّا اقتصصت مِنْك لم يكن إِكْرَاها
وَيحصل الْإِكْرَاه بتخويف بِضَرْب شَدِيد أَو حبس طَوِيل أَو إِتْلَاف مَال أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يُؤثر الْعَاقِل لأَجله الْإِقْدَام على مَا أكره عَلَيْهِ
وَيخْتَلف الْإِكْرَاه باخْتلَاف الْأَشْخَاص والأسباب الْمُكْره عَلَيْهَا فقد يكون الشَّيْء إِكْرَاها فِي شخص دون آخر وَفِي سَبَب دون آخر فالإكراه بِإِتْلَاف مَال لَا يضيق على الْمُكْره بِفَتْح الرَّاء كخمسة دَرَاهِم فِي حق الْمُوسر لَيْسَ بإكراه على الطَّلَاق لِأَن الْإِنْسَان يتحمله وَلَا يُطلق بِخِلَاف المَال الَّذِي يضيق عَلَيْهِ وَالْحَبْس فِي الْوَجِيه إِكْرَاه وَإِن قل كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ وَالضَّرْب الْيَسِير فِي أهل المروءات إِكْرَاه
وَخرج بِقَيْد طَلَاق زَوجته فِيمَا تقدم مَا إِذا أكرهه على طَلَاق زَوْجَة نَفسه بِأَن قَالَ لَهُ طلق زَوْجَتي وَإِلَّا قتلتك فَطلقهَا وَقع على الصَّحِيح لِأَنَّهُ أبلغ فِي الْإِذْن كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَتِمَّة لَو قَالَ لزوجته إِن طَلقتك فَأَنت طَالِق قبله ثَلَاثًا فَطلقهَا طَلْقَة أَو أَكثر وَقع الْمُنجز فَقَط وَلَا يَقع مَعَه الْمُعَلق لزيادته على الْمَمْلُوك وَقيل لَا يَقع شَيْء لِأَنَّهُ لَو وَقع الْمُنجز لوقع الْمُعَلق قبله بِحكم التَّعْلِيق وَلَو وَقع الْمُعَلق لم يَقع الْمُنجز وَإِذا لم يَقع الْمُنجز لم يَقع الْمُعَلق وَهَذِه الْمَسْأَلَة تسمى السريجية منسوبة لِابْنِ سُرَيج وَجرى عَلَيْهَا كثير من الْأَصْحَاب وَالْأول هُوَ مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين لَا يجوز التَّقْلِيد فِي عدم الْوُقُوع وَقَالَ ابْن الصّباغ وددت لَو محيت هَذِه الْمَسْأَلَة وَابْن سُرَيج بَرِيء مِمَّا نسب إِلَيْهِ فِيهَا
وَلَو علق الطَّلَاق بمستحيل عرفا كصعود السَّمَاء والطيران أَو عقلا كالجمع بَين الضدين أَو شرعا كنسخ صَوْم رَمَضَان لم تطلق لِأَنَّهُ لم ينجز الطَّلَاق وَإِنَّمَا علقه على صفة لم تُوجد
وَالْيَمِين فِيمَا ذكر منعقدة حَتَّى يَحْنَث بهَا الْمُعَلق(2/447)
على الْحلف
وَلَو قَالَ لزوجته إِن كلمت زيدا فَأَنت طَالِق فكلمت حَائِطا مثلا وَهُوَ يسمع لم يَحْنَث فِي أصح الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهَا لم تكَلمه
وَلَو قَالَ لَهَا إِن كلمت رجلا فَأَنت طَالِق فكلمت أَبَاهَا أَو أحدا من محارمها طلقت لوُجُود الصّفة فَإِن قَالَ قصدت منعهَا من مكالمة الْأَجَانِب قبل مِنْهُ لِأَنَّهُ الظَّاهِر
وفروع الطَّلَاق لَا تَنْحَصِر وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة لمن وَفقه الله لهَذَا الْمُخْتَصر الَّذِي عَم نَفعه فِي الْوُجُود ونفع الله تَعَالَى بِهِ ورحم مُؤَلفه وشارحيه
آمين
فصل فِي الرّجْعَة
بِفَتْح الرَّاء أفْصح من كسرهَا عِنْد الْجَوْهَرِي وَالْكَسْر أَكثر عِنْد الْأَزْهَرِي
وَهِي لُغَة الْمرة من الرُّجُوع وَشرعا رد الْمَرْأَة إِلَى النِّكَاح من طَلَاق غير بَائِن فِي الْعدة على وَجه مَخْصُوص كَمَا يُؤْخَذ مِمَّا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك} أَي فِي الْعدة {إِن أَرَادوا إصلاحا} أَي رَجْعَة كَمَا قَالَه الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَانِي جِبْرِيل فَقَالَ رَاجع حَفْصَة فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة وَإِنَّهَا زَوجتك فِي الْجنَّة
أَرْكَان الرّجْعَة أَرْكَانهَا ثَلَاثَة مَحل وَصِيغَة ومرتجع
وَأما الطَّلَاق فَهُوَ سَبَب لَا ركن وَبَدَأَ المُصَنّف بِشُرُوط الرُّكْن الأول وَهُوَ مَحل بقوله (وشروط) صِحَة (الرّجْعَة أَرْبَعَة) وَترك خَامِسًا وسادسا كَمَا ستعرفه الأول (أَن يكون الطَّلَاق دون الثَّلَاث) فِي الْحر وَدون اثْنَيْنِ فِي الرَّقِيق وَلَو قَالَ كَمَا فِي الْمِنْهَاج لم يسْتَوْف عدد الطَّلَاق لشمل ذَلِك أما إِذا استوفى ذَلِك فَإِنَّهُ لَا سلطنة لَهُ عَلَيْهَا
(و) الثَّانِي (أَن يكون) الطَّلَاق (بعد الدُّخُول بهَا) فَإِن كَانَ قبله فَلَا رَجْعَة لَهُ لبينونتها وكالوطء استدخال الْمَنِيّ الْمُحْتَرَم
(و) الثَّالِث (أَن لَا يكون الطَّلَاق بعوض) مِنْهَا أَو من غَيرهَا فَإِن كَانَ على عوض فَلَا رَجْعَة كَمَا تقدم تَوْجِيهه فِي الْخلْع
(و) الرَّابِع (أَن تكون) الرّجْعَة (قبل انْقِضَاء الْعدة) فَإِذا انْقَضتْ فَسَيَأْتِي فِي كَلَام المُصَنّف فِي الْفَصْل بعده مَعَ أَن هَذَا الْفَصْل سَاقِط من بعض النّسخ
وَالْخَامِس كَون الْمُطلقَة قَابِلَة للْحلّ للمراجع فَلَو أسلمت الْكَافِرَة وَاسْتمرّ زَوجهَا وراجعها فِي كفره لم يَصح أَو ارْتَدَّت الْمسلمَة لم تصح مراجعتها فِي حَال ردتها لِأَن مَقْصُود الرّجْعَة الْحل وَالرِّدَّة تنافيه وَكَذَا لَو ارْتَدَّ الزَّوْجَة أَو ارتدا مَعًا
وَضَابِط ذَلِك انْتِقَال أحد الزَّوْجَيْنِ إِلَى دين يمْنَع دوَام النِّكَاح
وَالسَّادِس كَونهَا مُعينَة فَلَو طلق إِحْدَى زوجتيه وَأبْهم ثمَّ رَاجع إِحْدَاهمَا أَو طلقهما جَمِيعًا ثمَّ رَاجع إِحْدَاهُنَّ لم تصح الرّجْعَة إِذْ لَيست الرّجْعَة فِي احْتِمَال الْإِبْهَام كَالطَّلَاقِ لشبهها بِالنِّكَاحِ لَا يَصح مَعَ الْإِبْهَام وَلَو تعيّنت ونسيت لم تصح رَجعتهَا أَيْضا فِي الْأَصَح
تَتِمَّة لَو علق طَلاقهَا على شَيْء وَشك فِي حُصُوله فراجع ثمَّ علم أَنه كَانَ حَاصِلا فَفِي صِحَة الرّجْعَة وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَه شيخ النَّوَوِيّ الْكَمَال سَلام فِي مُخْتَصر الْبَحْر إِنَّهَا تصح
بِغَيْر عوض مِنْهُ حرَّة كَانَت أَو أمة طَلْقَة (وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ) بعد وَطئهَا وَلَو فِي الدبر بِنَاء على أَنه يُوجب الْعدة وَهُوَ الْأَصَح وَكَذَا لَو استدخلت مَاءَهُ الْمُحْتَرَم فَإِن الرّجْعَة تثبت بِهِ على الْمُعْتَمد
(فَلهُ مراجعتها) بِغَيْر إِذْنهَا وَإِذن سَيِّدهَا (مَا لم تنقض عدتهَا) لقَوْله تَعَالَى {فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} وَلَو كَانَ حق الرّجْعَة(2/448)
فصل فِي بَيَان مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ حل الْمُطلقَة
(وَإِذا طلق) الْحر امْرَأَته بَاقِيا لما كَانَ يُبَاح لَهُنَّ النِّكَاح
تَنْبِيه يرد عَلَيْهِ مَا إِذا خالط الرَّجْعِيَّة مُخَالطَة الْأزْوَاج بِلَا وَطْء فَإِن الْعدة لَا تَنْقَضِي وَلَا رَجْعَة لَهُ بعد الْأَقْرَاء أَو الْأَشْهر كَمَا فِي الرَّوْضَة والمنهاج وأصليهما
وَإِن خَالف فِي ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين
وَدخل فِي كَلَامه مَا إِذا وطِئت بِشُبْهَة فَحملت ثمَّ طَلقهَا فَإِن لَهُ الرّجْعَة فِي عدَّة الْحمل على الْأَصَح مَعَ أَنَّهَا لَيست فِي عدته وَلَكِن لم تنقض عدتهَا
القَوْل فِي شُرُوط المرتجع وَشرط فِي المرتجع وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي الِاخْتِيَار وأهلية النِّكَاح بِنَفسِهِ وَإِن توقف على إِذن فَتَصِح رَجْعَة سَكرَان وسفيه ومحرم لَا مَجْنُون ومكره ولولي من جن وَقد وَقع عَلَيْهِ طَلَاق رَجْعَة حَيْثُ يُزَوجهُ بِأَن يحْتَاج إِلَيْهِ
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث لفظ يشْعر بالمراد بِهِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح وَهُوَ كرددتك إِلَيّ ورجعتك وارتجعتك وراجعتك وأمسكتك لشهرتها فِي ذَلِك وورودها فِي الْكتاب وَالسّنة وَفِي مَعْنَاهَا سَائِر مَا اشتق من مصادرها كَأَنْت مُرَاجعَة
وَمَا كَانَ بالعجمية وَإِن أحسن الْعَرَبيَّة وَإِمَّا كِنَايَة كتزوجتك ونكحتك وَيشْتَرط فِيهَا تَنْجِيز وَعدم تأقيت فَلَو قَالَ رَاجَعتك إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت أَو رَاجَعتك شهرا لم تحصل الرّجْعَة وَسن إِشْهَاد عَلَيْهَا خُرُوجًا من خلاف من أوجبه وَإِنَّمَا لم يجب لِأَنَّهَا فِي حكم اسْتِدَامَة النِّكَاح السَّابِق وَإِنَّمَا وَجب الْإِشْهَاد على النِّكَاح لإِثْبَات الْفراش وَهُوَ ثَابت هُنَا
تَنْبِيه قد علم مِمَّا تقرر أَن الرّجْعَة لَا تحصل بِفعل غير الْكِتَابَة وَإِشَارَة الْأَخْرَس المفهمة كَوَطْء ومقدماته وَإِن نوى بِهِ الرّجْعَة لعدم دلَالَته عَلَيْهَا
(فَإِذا انْقَضتْ عدتهَا) بِوَضْع حمل أَو أَقراء أَو أشهر (كَانَ لَهُ) إِعَادَة (نِكَاحهَا بِعقد جَدِيد) بِشُرُوطِهِ الْمُتَقَدّمَة فِي بَابه لبينونتها حِينَئِذٍ وَحلفت فِي انْقِضَاء الْعدة بِغَيْر أشهر من أَقراء أَو وضع إِذا أنكرهُ الزَّوْج فَتصدق فِي ذَلِك إِن أمكن وَإِن خَالَفت عَادَتهَا لِأَن(2/449)
النِّسَاء مؤتمنات على أرحامهن
وَخرج بِانْقِضَاء الْعدة غَيره كنسب واستيلاد فَلَا يقبل قَوْلهَا إِلَّا بِبَيِّنَة وَبِغير الْأَشْهر انقضاؤها بِالْأَشْهرِ وبالإمكان مَا إِذا لم يُمكن لصِغَر أَو يأس أَو غَيره فَيصدق بِيَمِينِهِ وَيُمكن انقضاؤها بِوَضْع لتَمام بِسِتَّة أشهر ولحظتين من حِين إِمْكَان اجْتِمَاعهمَا بعد النِّكَاح والمصور بِمِائَة وَعشْرين يَوْمًا ولحظتين ولمضغة بِثَمَانِينَ يَوْمًا ولحظتين وبأقراء لحرة طلقت فِي طهر سبق بحيض بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ولحظتين وَفِي حيض بسبعة وَأَرْبَعين يَوْمًا ولحظة ولغير حرَّة طلقت فِي طهر سبق بحيض بِسِتَّة عشر يَوْمًا ولحظتين وَفِي حيض بِإِحْدَى وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ولحظة
(و) إِذا انْقَضتْ عدتهَا ثمَّ جدد نِكَاحهَا (تكون مَعَه على مَا بَقِي) لَهُ (من) عدد (الطَّلَاق) لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أفتى بذلك وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلم يظْهر لَهُم مُخَالف
القَوْل فِيمَا إِذا طَلقهَا ثَلَاثًا (فَإِن طَلقهَا) أَي الْحر (ثَلَاثًا) أَو العَبْد وَلَو مبعضا طَلْقَتَيْنِ مَعًا أَو مُرَتبا قبل الدُّخُول أَو بعده فِي نِكَاح أَو أنكحة (لم تحل) أَي الْمُطلقَة (لَهُ إِلَّا بعد وجود خَمْسَة أَشْيَاء) فِي الْمَدْخُول بهَا وعَلى وجود مَا عدا الأول مِنْهَا فِي غَيرهَا الأول (انْقِضَاء عدتهَا مِنْهُ) أَي الْمُطلق (و) الثَّانِي (تَزْوِيجهَا بِغَيْرِهِ) وَلَو عبدا أَو مَجْنُونا (و) الثَّالِث (دُخُوله بهَا وإصابتها) بِدُخُول حشفته أَو قدرهَا من مقطوعها وَلَو كَانَ عَلَيْهَا حَائِل كَأَن لف عَلَيْهَا خرقَة فَإِنَّهُ يَكْفِي تغييبها فِي قبلهَا خَاصَّة لَا فِي غَيره كدبرها كَمَا لَا يحصل بِهِ التحصين وَسَوَاء أولج هُوَ أم نزلت عَلَيْهِ فِي يقظة أَو نوم أَو أولج فِيهَا وَهِي نَائِمَة
(و) الرَّابِع (بينونتها مِنْهُ) أَي الزَّوْج الثَّانِي بِطَلَاق أَو فسخ أَو موت (و) الْخَامِس (انْقِضَاء عدتهَا مِنْهُ) لاستبراء رَحمهَا لاحْتِمَال علوقها من إِنْزَال حصل مِنْهُ
تَنْبِيه يشْتَرط انتشار الْآلَة وَإِن ضعف الانتشار واستعان بِأُصْبُعِهِ أَو أصبعها بِخِلَاف مَا لم ينتشر لشلل أَو عنة أَو غَيره فَالْمُعْتَبر الانتشار بِالْفِعْلِ لَا بِالْقُوَّةِ على الْأَصَح كَمَا أفهمهُ كَلَام الْأَكْثَرين وَصرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وصاحبا الْمُهَذّب وَالْبَيَان وَغَيرهم حَتَّى لَو أَدخل السَّلِيم ذكره بِأُصْبُعِهِ بِلَا انتشار لم يحلل كالطفل
فَمَا قيل إِن الانتشار بِالْفِعْلِ لم يقل بِهِ أحد مَمْنُوع
وَلَا بُد أَيْضا من صِحَة النِّكَاح فَلَا يحلل الْوَطْء فِي النِّكَاح الْفَاسِد وَلَا ملك الْيَمين وَلَا وَطْء الشُّبْهَة لِأَنَّهُ تَعَالَى علق الْحل بِالنِّكَاحِ وَهُوَ إِنَّمَا يتَنَاوَل النِّكَاح الصَّحِيح بِدَلِيل مَا لَو حلف لَا ينْكح لَا يَحْنَث بِمَا ذكر
وَكَون الزَّوْج مِمَّن يُمكن جمَاعه لَا طفْلا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِك أَو يَتَأَتَّى مِنْهُ وَهُوَ رَقِيق لِأَن نِكَاحه إِنَّمَا يَتَأَتَّى بالإجبار وَقد مر أَنه مُمْتَنع فليحذر مِمَّا وَقع لبَعض الرؤساء والجهال من الْحِيلَة لدفع الْعَار من إنكاحها مَمْلُوكه الصَّغِير ثمَّ بعد وَطئه يملكهُ لَهَا لينفسخ النِّكَاح وَقد قيل إِن بعض الرؤساء فعل ذَلِك وأعادها فَلم يوفق الله بَينهمَا وتفرقا وَإِنَّمَا حرمت عَلَيْهِ إِلَى أَن تتحلل تنفيرا من الطَّلَاق الثَّلَاث وَلقَوْله تَعَالَى {فَإِن طَلقهَا} أَي الثَّالِثَة {فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره}(2/450)
تَتِمَّة يَكْفِي وَطْء محرم بنسك وَخصي وَلَو كَانَ صَائِما أَو كَانَت حَائِضًا أَو صَائِمَة أَو مُظَاهرا مِنْهَا أَو مُعْتَدَّة من شُبْهَة وَقعت فِي نِكَاح الْمُحَلّل أَو مُحرمَة بنسك لِأَنَّهُ وَطْء زوج فِي نِكَاح صَحِيح وَيشْتَرط فِي تَحْلِيل الْبكر الافتضاض كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ
وَتحل كِتَابِيَّة لمُسلم بِوَطْء مَجُوسِيّ أَو وَثني فِي نِكَاح نقرهم عَلَيْهِ وَلَو نكح الزَّوْج الثَّانِي بِشَرْط أَنه إِذا وَطئهَا طَلقهَا أَو فَلَا نِكَاح بَينهمَا وَشرط ذَلِك فِي صلب العقد لم يَصح النِّكَاح لِأَنَّهُ شَرط يمْنَع دوَام النِّكَاح فَأشبه التَّأْقِيت
وَلَو تواطأ العاقدان على شَيْء من ذَلِك قبل العقد ثمَّ عقدا بذلك الْقَصْد بِلَا شَرط كره
وَلَو نَكَحَهَا بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا وَأَن لَا يَطَأهَا إِلَّا نَهَارا أَو إِلَّا مرّة مثلا لم يَصح النِّكَاح إِن كَانَ الشَّرْط من جِهَتهَا لمنافاته مَقْصُود العقد فَإِن وَقع الشَّرْط مِنْهُ لم يضر لِأَن الْوَطْء حق لَهُ فَلهُ تَركه والتمكين حق عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهَا تَركه وَيقبل قَول الْمُطلقَة ثَلَاثًا فِي التَّحْلِيل بِيَمِينِهَا عِنْد الْإِمْكَان وللأول تَزْوِيجهَا وَإِن ظن كذبهَا لَكِن يكره فَإِن قَالَ هِيَ كَاذِبَة منع من تَزْوِيجهَا إِلَّا إِن قَالَ بعده تبين لي صدقهَا وَلَو حرمت عَلَيْهِ زَوجته الْأمة بِإِزَالَة مَا يملكهُ عَلَيْهَا من الطَّلَاق ثمَّ اشْتَرَاهَا قبل التَّحْلِيل لم يحل لَهُ وَطْؤُهَا لظَاهِر الْقُرْآن
فصل فِي الْإِيلَاء
وَهُوَ لُغَة الْحلف
قَالَ الشَّاعِر وأكذب مَا يكون أَبُو الْمثنى إِذا آلى يَمِينا بِالطَّلَاق وَشرعا حلف زوج يَصح طَلَاقه على امْتِنَاعه من وَطْء زَوجته مُطلقًا أَو فَوق أَرْبَعَة أشهر كَمَا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} الْآيَة وَإِنَّمَا عدي فِيهَا بِمن وَهُوَ إِنَّمَا يعدى(2/451)
بعلى لِأَنَّهُ ضمن معنى الْبعد كَأَنَّهُ قَالَ للَّذين يؤلون مبعدين أنفسهم من نِسَائِهِم وَهُوَ حرَام للإيذاء
القَوْل فِي أَرْكَان الْإِيلَاء وأركانه سِتَّة حَالف ومحلوف بِهِ ومحلوف عَلَيْهِ وَمُدَّة وَصِيغَة وزوجان
وَالْمُصَنّف ذكر بَعْضهَا بقوله (وَإِذا حلف) أَي الزَّوْج باسم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته أَو بِالْتِزَام مَا يلْزم بِنذر أَو تَعْلِيق طَلَاق أَو عتق (أَن لَا يطَأ زَوجته) الْحرَّة أَو الْأمة وطئا شَرْعِيًّا فَهُوَ مول فَلَا إِيلَاء بحلفه على امْتِنَاعه من تمتعه بهَا بِغَيْر وَطْء وَلَا من وَطئهَا فِي دبرهَا أَو فِي قبلهَا فِي نَحْو حيض أَو إِحْرَام
ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْمدَّة بقوله (مُطلقًا) بِأَن يُطلق كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك
(أَو مُدَّة تزيد على أَرْبَعَة أشهر) كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك خَمْسَة أشهر أَو قيد بمستبعد الْحُصُول فِيهَا كَقَوْلِه وَالله لَا أطؤك حَتَّى ينزل السَّيِّد عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَو حَتَّى أَمُوت أَو تموتي أَو يَمُوت فلَان (فَهُوَ مول) لضررها بِمَنْع نَفسه مِمَّا لَهَا فِيهِ حق العفاف وَخرج بِقَيْد الزَّوْجَة أمته فَلَا يَصح الْإِيلَاء مِنْهَا وبقيد الزِّيَادَة على أَرْبَعَة أشهر مَا إِذا حلف لَا يَطَؤُهَا مُدَّة وَسكت أَو لَا يَطَؤُهَا أَرْبَعَة أشهر فَإِنَّهُ لَا يكون موليا فيهمَا
أما الأول فلتردد اللَّفْظ بَين الْقَلِيل وَالْكثير
وَأما الثَّانِي فلصبرها عَن الزَّوْج هَذِه الْمدَّة
فَإِذا قَالَ وَالله لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر فَإِذا مَضَت فوَاللَّه لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر
فَلَيْسَ بمول لانْتِفَاء فَائِدَة الْإِيلَاء وَلكنه يَأْثَم لَكِن إِثْم الْإِيذَاء لَا إِثْم الْإِيلَاء
قَالَ فِي الْمطلب وَكَأَنَّهُ دون إِثْم الْمولي
وَيجوز أَن يكون فَوْقه لِأَن ذَلِك تقدر فِيهِ على رفع الضَّرَر
بِخِلَاف هَذَا فَإِنَّهُ لَا رفع لَهُ إِلَّا من جِهَة الزَّوْج بِالْوَطْءِ هَذَا إِذا أعَاد حرف الْقسم
فَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر فَإِذا مَضَت فَلَا أطؤك أَرْبَعَة أشهر كَانَ موليا لِأَنَّهَا يَمِين وَاحِدَة اشْتَمَلت على أَكثر من أَرْبَعَة أشهر وَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك خَمْسَة أشهر فَإِذا مَضَت فوَاللَّه لَا أطؤك سِتَّة أشهر
فإيلاءان لكل مِنْهُمَا حكمه
وَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بالإيلاء وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح كتغييب حَشَفَة بفرج وَوَطْء وجماع
كَقَوْلِه وَالله لَا أغيب حشفتي بفرجك أَو لَا أطؤك أَو لَا أجامعك
فَإِن قَالَ أردْت بِالْوَطْءِ الْوَطْء بالقدم وبالجماع الِاجْتِمَاع لم يقبل فِي الظَّاهِر ويدين وَإِمَّا كِنَايَة كملامسة ومباضعة ومباشرة
كَقَوْلِه وَالله لَا أمسك أَو لَا أباضعك أَو لَا أباشرك فيفتقر إِلَى نِيَّة الْوَطْء لعدم اشتهارها فِيهِ
وَلَو(2/452)
قَالَ إِن وَطئتك فَعَبْدي حر فَزَالَ ملكه عَنهُ بِمَوْت أَو بِغَيْرِهِ زَالَ الْإِيلَاء لِأَنَّهُ لَا يلْزمه بِالْوَطْءِ بعد ذَلِك شَيْء
وَلَو قَالَ إِن وَطئتك فضرتك طَالِق فمول من المخاطبة فَإِن وطأ فِي مُدَّة الْإِيلَاء أَو بعْدهَا طلقت الضرة لوُجُود الْمُعَلق عَلَيْهِ وَزَوَال الْإِيلَاء إِذْ لَا يلْزمه شَيْء بِوَطْئِهَا بعد وَلَو قَالَ وَالله لَا أطؤك سنة إِلَّا مرّة مثلا فمول إِن وطىء وَبَقِي من السّنة أَكثر من الْأَشْهر الْأَرْبَعَة لحُصُول الْحِنْث بِالْوَطْءِ بعد ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو بَقِي أَرْبَعَة أشهر فَأَقل فَلَيْسَ بمول بل حَالف (ويؤجل لَهُ) بِمَعْنى يُمْهل الْوَلِيّ وجوبا (إِن سَأَلت) زَوجته (ذَلِك أَرْبَعَة أشهر) سَوَاء الْحر وَالرَّقِيق فِي الزَّوْج وَالزَّوْجَة من حِين الْإِيلَاء فِي غير رَجْعِيَّة وابتداؤه فِي رَجْعِيَّة آلى مِنْهَا من حِين الرّجْعَة
وَيقطع الْمدَّة ردة بعد دُخُول وَلَو من أَحدهمَا وَبعد الْمدَّة لارْتِفَاع النِّكَاح أَو اختلاله بهَا فَلَا يحْسب زَمَنهَا من الْمدَّة
ومانع وَطْء بِالزَّوْجَةِ حسي أَو شَرْعِي غير نَحْو حيض كنفاس وَذَلِكَ كَمَرَض وجنون ونشوز وتلبس بِفَرْض نَحْو صَوْم كاعتكاف وإحرام فرضين لِامْتِنَاع الْوَطْء مَعَه بمانع من قبلهَا وتستأنف الْمدَّة بِزَوَال الْقَاطِع وَلَا تبني على مَا مضى
تَنْبِيه مَا ذكره المُصَنّف من توقف التَّأْجِيل على سؤالها مَمْنُوع فَهُوَ مُخَالف لقَوْل الإِمَام الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب
فقد قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْأُم كَمَا فِي الْمطلب مَا نَصه وَمن حلف لَا يقرب امْرَأَته أَكثر من أَرْبَعَة أشهر فتركته امْرَأَته وَلم تطالبه حَتَّى مضى الْوَقْت الَّذِي حلف عَلَيْهِ فقد خرج من حكم الْإِيلَاء لِأَن الْيَمين سَاقِطَة عَنهُ
اه
فَلَو كَانَ التَّأْجِيل متوقفا على طلبَهَا لما حسبت الْمدَّة وَصرح الْأَصْحَاب بِضَرْب الْمدَّة بِنَفسِهَا سَوَاء علمت ثُبُوت حَقّهَا فِي الطّلب وَتركته قصدا أم لم تعلم حَتَّى انْقَضتْ الْمدَّة وَلَا تحْتَاج إِلَى ضرب القَاضِي لثبوتها بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم حَتَّى قَالَ فِي الرَّوْضَة لَو آلى ثمَّ غَابَ أَو آلى وَهُوَ غَائِب حسبت الْمدَّة (ثمَّ) إِذا مَضَت الْمدَّة وَلم يطَأ من غير مَانع بِالزَّوْجَةِ (يُخَيّر) الْمولي بطلبها (بَين الْفَيْئَة) بِأَن يولج الْمولي حشفته أَو قدرهَا(2/453)
من مقطوعها بقبل الْمَرْأَة وَسمي الْوَطْء فيئة لِأَنَّهُ من فَاء إِذا رَجَعَ
(والتكفير) للْيَمِين إِن كَانَ حلفه بِاللَّه تَعَالَى على ترك وَطئهَا (أَو الطَّلَاق) للمحلوف عَلَيْهِ
تَنْبِيه كَيْفيَّة الْمُطَالبَة أَنَّهَا تطالبه أَولا بالفيئة الَّتِي امْتنع مِنْهَا فَإِن لم يفىء طالبته بِطَلَاق لقَوْله تَعَالَى {فَإِن فاؤوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم} وَلَو تركت حَقّهَا كَانَ لَهَا الْمُطَالبَة بعد ذَلِك لتجدد الضَّرَر وَلَيْسَ لسَيِّد الْأمة مُطَالبَته لِأَن التَّمَتُّع حَقّهَا وينتظر بُلُوغ المراهقة وَلَا يُطَالب وَليهَا لذَلِك
وَمَا ذكرته من التَّرْتِيب بَين مطالبتها بالفيئة وَالطَّلَاق هُوَ مَا ذكره الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى تبعا لظَاهِر النَّص وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام الْمِنْهَاج أَنَّهَا تردد الطّلب بَينهمَا فَإِن كَانَ الْمَانِع بِالزَّوْجِ وَهُوَ طبعي كَمَرَض فتطالبه بالفيئة بِاللِّسَانِ بِأَن يَقُول إِذا قدرت فئت ثمَّ إِن لم يفىء طالبته بِطَلَاق أَو شَرْعِي كإحرام وَصَوْم وَاجِب فتطالبه بِالطَّلَاق لِأَنَّهُ الَّذِي يُمكنهُ لحُرْمَة الْوَطْء فَإِن عصى بِوَطْء لم يُطَالب لانحلال الْيَمين (فَإِن امْتنع) مِنْهُمَا أَي الْفَيْئَة وَالطَّلَاق
(طلق عَلَيْهِ الْحَاكِم) طَلْقَة نِيَابَة عَنهُ
لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى دوَام إضرارها وَلَا إِجْبَار على الْفَيْئَة لِأَنَّهَا لَا تدخل تَحت الْإِجْبَار وَالطَّلَاق يقبل النِّيَابَة فناب الْحَاكِم عَنهُ عِنْد الِامْتِنَاع فَيَقُول أوقعت على فُلَانَة على فلَان طَلْقَة كَمَا حُكيَ عَن الْإِمْلَاء أَو حكمت عَلَيْهِ فِي زَوجته بِطَلْقَة
تَنْبِيه يشْتَرط حُضُوره ليثبت امْتِنَاعه كالعضل إِلَّا إِن تعذر وَلَا يشْتَرط للطَّلَاق حُضُوره عِنْده وَلَا ينفذ طَلَاق القَاضِي فِي مُدَّة إمهاله وَلَا بعد وَطئه أَو طَلَاقه
وَإِن طلقا مَعًا وَقع الطلاقان وَإِن طلق القَاضِي مَعَ الْفَيْئَة لم يَقع الطَّلَاق لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَة وَإِن طلق الزَّوْج بعد طَلَاق القَاضِي وَقع الطَّلَاق إِن كَانَ طَلَاق القَاضِي رَجْعِيًا
تَتِمَّة لَو اخْتلف الزَّوْجَانِ فِي الْإِيلَاء أَو فِي انْقِضَاء مدَّته بِأَن ادَّعَتْهُ عَلَيْهِ فَأنْكر صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عَدمه
وَلَو اعْترفت بِالْوَطْءِ بعد الْمدَّة وَأنْكرهُ سقط حَقّهَا من الطّلب عملا باعترافها وَلم يقبل رُجُوعهَا عَنهُ لاعترافها بوصول حَقّهَا إِلَيْهَا
وَلَو كرر يَمِين(2/454)
الْإِيلَاء مرَّتَيْنِ فَأكْثر وَأَرَادَ بِغَيْر الأولى التَّأْكِيد لَهَا وَلَو تعدد الْمجْلس وَطَالَ الْفَصْل صدق بِيَمِينِهِ كَنَظِيرِهِ فِي تَعْلِيق الطَّلَاق وَفرق بَينهَا وَبَين تَنْجِيز الطَّلَاق بِأَن التَّنْجِيز إنْشَاء وإيقاع
وَالْإِيلَاء وَالتَّعْلِيق متعلقان بِأَمْر مُسْتَقْبل فالتأكيد بهما أليق أَو أَرَادَ الِاسْتِئْنَاف تعدّدت الْأَيْمَان وَإِن أطلق وَلم يرد تَأْكِيدًا وَلَا استئنافا فَوَاحِدَة إِن اتَّحد الْمجْلس حملا على التَّأْكِيد وَإِلَّا تعدّدت لبعد التَّأْكِيد مَعَ اخْتِلَاف الْمجْلس
فصل فِي الظِّهَار
هُوَ لُغَة مَأْخُوذ من الظّهْر لِأَن صورته الْأَصْلِيَّة أَن يَقُول لزوجته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي وخصوا الظّهْر دون غَيره لِأَنَّهُ مَوضِع الرّكُوب وَالْمَرْأَة مركوب الزَّوْج وَكَانَ طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة كالإيلاء فَغير الشَّرْع حكمه إِلَى تَحْرِيمهَا بعد الْعود وَلُزُوم الْكَفَّارَة كَمَا سَيَأْتِي
وَحَقِيقَته الشَّرْعِيَّة تَشْبِيه الزَّوْج زَوجته فِي الْحُرْمَة بمحرمة كَمَا يُؤْخَذ مِمَّا سَيَأْتِي
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَة {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم} وَهُوَ من الْكَبَائِر قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا}
فَائِدَة سُورَة المجادلة فِي كل آيَة مِنْهَا اسْم الله تَعَالَى مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآن سُورَة تشابههما وَهِي نصف الْقُرْآن عددا وعشره بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء
وأركان الظِّهَار أَرْبَعَة صِيغَة وَمظَاهر وَمظَاهر مِنْهَا ومشبه بِهِ
القَوْل فِي صِيغَة الظِّهَار وَكلهَا تُؤْخَذ من قَوْله (وَالظِّهَار أَن يَقُول) أَي وصيغته وَهُوَ الرُّكْن الأول أَن يَقُول (الرجل) أَي الزَّوْج وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي (لزوجته) أَي الْمظَاهر مِنْهَا وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث (أَنْت عَليّ) أَو مني أَو معي أَو عِنْدِي (كَظهر أُمِّي) أَي مركبي مِنْك حرَام كمركبي من أُمِّي وَهَذَا هُوَ الْمُشبه بِهِ وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع فقد حصل من كَلَام المُصَنّف جَمِيع الْأَركان وَلَكِن لَهَا شُرُوط فَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بالظهار
وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَذَلِكَ إِمَّا صَرِيح كَأَنْت أَو رَأسك أَو يدك وَلَو بِدُونِ عَليّ كَظهر أُمِّي أَو كيدها أَو كِنَايَة كَأَنْت كأمي أَو كعينها أَو غَيرهَا مِمَّا يذكر للكرامة كرأسها
القَوْل فِي شَرط الْمظَاهر وَشرط فِي الْمظَاهر كَونه زوجا يَصح طَلَاقه وَلَو عبدا أَو كَافِرًا أَو خَصيا أَو مجبوبا أَو سكرانا فَلَا يَصح من غير زوج وَإِن نكح من ظَاهر مِنْهَا وَلَا من صبي وَمَجْنُون ومكره
القَوْل فِي شَرط الْمظَاهر مِنْهَا وَشرط فِي الْمظَاهر مِنْهَا كَونهَا زَوْجَة وَلَو أمة أَو صَغِيرَة أَو مَجْنُونَة أَو رتقاء أَو قرناء أَو رَجْعِيَّة لَا أَجْنَبِيَّة وَلَو مختلعة أَو أمة كَالطَّلَاقِ فَلَو قَالَ لأجنبية إِن نكحتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي أَو قَالَ السَّيِّد لأمته أَنْت(2/455)
عَليّ كَظهر أُمِّي لم يَصح وَشرط فِي الْمُشبه بِهِ كَونه كل أُنْثَى محرم أَو جُزْء أُنْثَى محرم بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة لَهُ تكن حلا للزَّوْج كبنته وَأُخْته من نسب ومرضعة أَبِيه أَو أمه وَزَوْجَة أَبِيه الَّتِي نَكَحَهَا قبل وِلَادَته أَو مَعهَا فِيمَا يظْهر بِخِلَاف غير الْأُنْثَى من ذكر وَخُنْثَى لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحل التَّمَتُّع وَبِخِلَاف من كَانَت حَلَاله كَزَوْجَة ابْنه وَبِخِلَاف أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن تحريمهن لَيْسَ للمحرمية بل لشرفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما أُخْته من الرَّضَاع فَإِن كَانَت وِلَادَتهَا قبل إرضاعه فَلَا يَصح التَّشْبِيه بهَا وَإِن كَانَت بعده صَحَّ وَكَذَا إِن كَانَت مَعَه فِيمَا يظْهر
تَنْبِيه يَصح تأقيت الظِّهَار كَأَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي يَوْمًا تَغْلِيبًا للْيَمِين
فَلَو قَالَ أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي خَمْسَة أشهر كَانَ ظِهَارًا مؤقتا وإيلاء لامتناعه من وَطئهَا فَوق أَرْبَعَة أشهر وَيصِح تَعْلِيقه لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالتَّحْرِيمِ فَأشبه الطَّلَاق فَلَو قَالَ إِن ظَاهَرت من ضرتك فَأَنت عَليّ كَظهر أُمِّي فَظَاهر مِنْهَا فمظاهر مِنْهُمَا عملا بِمُقْتَضى التَّنْجِيز وَالتَّعْلِيق
القَوْل فِي مُضِيّ الْعود فِي الظِّهَار (فَإِذا قَالَ) الْمظَاهر (ذَلِك وَلم يتبعهُ بِالطَّلَاق) بِأَن يمْسِكهَا بعد ظِهَاره زمن إِمْكَان فرقة وَلم يفعل (صَار عَائِدًا) لِأَن تشبيهها بِالْأُمِّ مثلا يَقْتَضِي أَن لَا يمْسِكهَا زَوْجَة فَإِن أمْسكهَا زَوْجَة بعد عَاد فِيمَا قَالَ لِأَن الْعود لِلْقَوْلِ مُخَالفَته
يُقَال قَالَ فلَان قولا ثمَّ عَاد لَهُ وَعَاد فِيهِ أَي خَالفه ونقضه وَهُوَ قريب من قَوْلهم عَاد فِي هِبته
تَنْبِيه هَذَا فِي الظِّهَار المؤبد أَو الْمُطلق وَفِي غير الرَّجْعِيَّة لِأَنَّهُ فِي الظِّهَار الْمُؤَقت إِنَّمَا يصير عَائِدًا بِالْوَطْءِ فِي الْمدَّة كَمَا سَيَأْتِي لَا بالإمساك وَالْعود فِي الرَّجْعِيَّة إِنَّمَا هُوَ بالرجعة وَاسْتثنى من كَلَامه مَا إِذا كرر لفظ الظِّهَار وَقصد بِهِ التَّأْكِيد فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُود على الْأَصَح مَعَ تمكنه بالإتيان بِلَفْظ الطَّلَاق بدل التَّأْكِيد وَمَا تقدم من حُصُول الْعود بِمَا ذكر مَحَله إِذا لم يتَّصل بالظهار فرقة بِسَبَب من أَسبَابهَا فَلَو اتَّصَلت بالظهار فرقة جرت مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا أَو فسخ نِكَاح بِسَبَبِهِ أَو بِسَبَبِهَا أَو بانفساخ كردة قبل الدُّخُول أَو فرقة بِسَبَب طَلَاق بَائِن أَو رَجْعِيّ وَلم يُرَاجع أَو جن الزَّوْج عقب ظِهَاره فَلَا عود وَلَو رَاجع من طَلقهَا عقب ظِهَاره أَو ارْتَدَّ بعد دُخُول مُتَّصِلا ثمَّ أسلم بعد ردته فِي الْعدة صَار عَائِدًا بالرجعة وَإِن لم يمْسِكهَا عقب الرّجْعَة بل طَلقهَا لَا الْإِسْلَام بل هُوَ عَائِد بعده إِن مضى بعد الْإِسْلَام زمن يسع الْفرْقَة وَالْفرق أَن مَقْصُود الرّجْعَة الاستباحة ومقصود الْإِسْلَام الرُّجُوع إِلَى الدّين الْحق فَلَا يحصل بِهِ إمْسَاك إِنَّمَا يحصل بعد (و) إِذا صَار عَائِدًا (لَزِمته الْكَفَّارَة) لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا}(2/456)
الْآيَة وَهل وَجَبت الْكَفَّارَة بالظهار وَالْعود أَو بالظهار وَالْعود شَرط أَو بِالْعودِ فَقَط لِأَنَّهُ الْجُزْء الْأَخير أوجه ذكرهَا فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا تَرْجِيح وَالْأول هُوَ ظَاهر الْآيَة الْمُوَافق لترجيحهم أَن كَفَّارَة الْيَمين تجب بِالْيَمِينِ والحنث جَمِيعًا
وَلَا تسْقط الْكَفَّارَة بعد الْعود بفرقة لمن ظَاهر مِنْهَا بِطَلَاق أَو غَيره لاستقرارها بالإمساك وَلَو قَالَ لزوجاته الْأَرْبَع أنتن عَليّ كَظهر أُمِّي فمظاهر مِنْهُنَّ فَإِن أمسكهن زَمنا يسع طلاقهن فعائد مِنْهُنَّ فَيلْزمهُ أَربع كَفَّارَات فَإِن ظَاهر مِنْهُنَّ بِأَرْبَع كَلِمَات صَار عَائِدًا من كل وَاحِدَة من الثَّلَاث الأول وَلَزِمَه ثَلَاث كَفَّارَات وَأما الرَّابِعَة فَإِن فَارقهَا عقب ظهارها فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ فِيهَا وَإِلَّا فَعَلَيهِ كَفَّارَة
(وَالْكَفَّارَة) مَأْخُوذَة من الْكفْر وَهُوَ السّتْر لسترها للذنب تَخْفِيفًا من الله تَعَالَى وَسمي الزراع كَافِرًا لِأَنَّهُ يستر الْبذر
وتنقسم الْكَفَّارَة إِلَى نَوْعَيْنِ مخيرة فِي أَولهَا ومرتبة فِي آخرهَا وَهِي كَفَّارَة الْيَمين ومرتبة فِي كلهَا وَهِي كَفَّارَة الْقَتْل وَالْجِمَاع فِي نَهَار رَمَضَان وَالظِّهَار
وَالْكَلَام الْآن فِي كَفَّارَة الظِّهَار وخصالها ثَلَاثَة الأول (عتق رَقَبَة) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وللرقبة المجزئة فِي الْكَفَّارَة أَرْبَعَة شُرُوط ذكر المُصَنّف مِنْهَا شرطين الشَّرْط الأول مَا ذكره بقوله (مُؤمنَة) وَلَو بِإِسْلَام أحد الْأَبَوَيْنِ أَو تبعا للسابي أَو الدَّار قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْقَتْل {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَألْحق بهَا غَيرهَا قِيَاسا عَلَيْهَا أَو حملا لإِطْلَاق آيَة الظِّهَار على الْمُقَيد فِي آيَة الْقَتْل كحمل الْمُطلق فِي قَوْله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} على الْمُقَيد فِي قَوْله تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} الشَّرْط الثَّانِي مَا ذكره بقوله (سليمَة من الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ) إِضْرَارًا بَينا لِأَن الْمَقْصُود تَكْمِيل حَاله ليتفرغ لوظائف الْأَحْرَار
وَإِنَّمَا يحصل ذَلِك إِذا اسْتَقل بكفاية نَفسه وَإِلَّا فَيصير كلا على نَفسه أَو على غَيره
تَنْبِيه قَالَ الْأَصْحَاب مُلَاحظَة الشَّافِعِي فِي الْعَيْب هُنَا مَا يضر بِالْعَمَلِ نَظِير ملاحظته فِي عيب الْأُضْحِية مَا ينقص اللَّحْم لِأَنَّهُ الْمَقْصُود فِيهَا وَفِي عيب النِّكَاح مَا يخل بمقصود الْجِمَاع وَفِي عيب الْمَبِيع مَا يخل بالمالية فَاعْتبر فِي كل مَوضِع مَا يَلِيق بِهِ فيجزىء صَغِير وَلَو ابْن يَوْم حكم بِإِسْلَامِهِ لإِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَلِأَنَّهُ يُرْجَى كبره كَالْمَرِيضِ يُرْجَى بُرْؤُهُ وأقرع وَهُوَ من لَا نَبَات بِرَأْسِهِ وأعرج يُمكنهُ تتَابع الْمَشْي بِأَن يكون عرجه غير شَدِيد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة وأصم وَهُوَ فَاقِد السّمع وأخرس إِذا فهمت إِذا فهمت إِشَارَته وَيفهم بِالْإِشَارَةِ وفاقد أَنفه وفاقد أُذُنَيْهِ وفاقد أَصَابِع رجلَيْهِ وَلَا يجزىء زمن وَلَا فَاقِد رجل أَو خنصر وبنصر من يَد أَو فَاقِد أنملتين من غَيرهمَا وَلَا فَاقِد أُنْمُلَة إِبْهَام لتعطل مَنْفَعَة الْيَد
وَلَا يجزىء هرم عَاجز وَلَا مَرِيض لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ
فَإِن برىء بَان الْإِجْزَاء على الْأَصَح
الشَّرْط الثَّالِث كَمَال الرّقّ فِي الْإِعْتَاق عَن الْكَفَّارَة فَلَا يجزىء شِرَاء قريب يعْتق عَلَيْهِ بِمُجَرَّد الشِّرَاء بِأَن كَانَ أصلا أَو فرعا(2/457)
بنية عتقه عَن كَفَّارَته لِأَن عتقه مُسْتَحقّ بِجِهَة الْقَرَابَة فَلَا ينْصَرف عَنْهَا إِلَى الْكَفَّارَة وَلَا عتق أم ولد لاستحقاقها الْعتْق وَلَا عتق ذِي كِتَابَة صَحِيحَة لِأَن عتقه يَقع بِسَبَب الْكِتَابَة ويجزىء مُدبر ومعلق عتقه بِصفة
الشَّرْط الرَّابِع خلو الرَّقَبَة عَن شوب الْعِوَض فَلَو أعتق عَبده عَن كَفَّارَته بعوض يَأْخُذهُ من الرَّقِيق كأعتقتك عَن كفارتي على أَن ترد عَليّ ألفا أَو على أَجْنَبِي كأعتقت عَبدِي هَذَا عَن كفارتي بِأَلف لي عَلَيْك فَقيل لم يجز ذَلِك الْإِعْتَاق عَن كَفَّارَته
وَضَابِط من يلْزمه الْعتْق كل من ملك رَقِيقا أَو ثمنه من نقد أَو عرض فَاضلا عَن كِفَايَة نَفسه وَعِيَاله الَّذين تلْزمهُ مؤنتهم شرعا نَفَقَة وَكِسْوَة وسكنى وأثاثا وإخداما لَا بُد مِنْهُ لزمَه الْعتْق
قَالَ الرَّافِعِيّ وسكتوا عَن تَقْدِير مُدَّة النَّفَقَة وَبَقِيَّة الْمُؤَن فَيجوز أَن يقدر ذَلِك بالعمر الْغَالِب وَأَن يقدر بِسنة وَصوب فِي الرَّوْضَة مِنْهُمَا
الثَّانِي وَقَضِيَّة ذَلِك أَنه لَا نقل فيهمَا مَعَ أَن مَنْقُول الْجُمْهُور الأول وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَلَا يجب على الْمُكَفّر بيع ضيعته وَهِي بِفَتْح الضَّاد الْعقار وَلَا بيع رَأس مَال تِجَارَته بِحَيْثُ لَا يفضل دخلهما من غلَّة الضَّيْعَة وَربح مَال التِّجَارَة عَن كِفَايَته لممونه لتَحْصِيل رَقِيق يعتقهُ وَلَا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما لعسر مُفَارقَة المألوف وَلَا يجب شِرَاء بِغَبن وَأظْهر الْأَقْوَال اعْتِبَار الْيَسَار الَّذِي يلْزمه بِهِ الْإِعْتَاق بِوَقْت الْأَدَاء لَا بِوَقْت الْوُجُوب وَلَا بِأَيّ وَقت كَانَ
ثمَّ شرع فِي الْخصْلَة الثَّانِيَة من خِصَال الْكَفَّارَة فَقَالَ (فَإِن لم يجد) رَقَبَة يعتقها بِأَن عجز عَنْهَا حسا أَو شرعا (فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة
فَلَو تكلّف الْإِعْتَاق بالاستقراض أَو غَيره أَجزَأَهُ لِأَنَّهُ ترقى إِلَى الرُّتْبَة الْعليا وَيعْتَبر الشهران بالهلال وَلَو نقصا وَيكون صومهما بنية الْكَفَّارَة لكل يَوْم مِنْهُمَا كَمَا هُوَ مَعْلُوم فِي صَوْم الْفَرْض
وَيجب تبييت النِّيَّة كَمَا فِي صَوْم رَمَضَان وَلَا يشْتَرط نِيَّة التَّتَابُع اكْتِفَاء بالتتابع الْفعْلِيّ فَإِن بَدَأَ بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاء شهر حسب الشَّهْر بعده بالهلال وَأتم الأول من الثَّالِث ثَلَاثِينَ يَوْمًا ويفوت التَّتَابُع بِفَوَات يَوْم بِلَا عذر وَلَو كَانَ الْيَوْم الْأَخير
أما إِذا فَاتَ بِعُذْر فَإِن كَانَ كجنون لم يضر لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْم أَو كَمَرَض مسوغ للفطر ضرّ لِأَن الْمَرَض لَا يُنَافِي الصَّوْم
ثمَّ شرع فِي الْخصْلَة الثَّالِثَة من خِصَال الْكَفَّارَة فَقَالَ (فَإِن لم يسْتَطع) أَي الصَّوْم المتتابع لهرم أَو لمَرض يَدُوم شَهْرَيْن ظنا الْمُسْتَفَاد من الْعَادة فِي مثله أَو من قَول الْأَطِبَّاء أَو لمَشَقَّة شَدِيدَة وَلَو كَانَت الْمَشَقَّة لشبق وَهُوَ شدَّة الغلمة أَي شَهْوَة الْوَطْء أَو خوف زِيَادَة مرض (فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا) لِلْآيَةِ السَّابِقَة أَو فَقِيرا لِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا مِنْهُ وَيَكْفِي الْبَعْض مَسَاكِين وَالْبَعْض فُقَرَاء
تَنْبِيه قَوْله فإطعام تبع فِيهِ لفظ الْقُرْآن الْكَرِيم وَالْمرَاد تمليكهم كَقَوْل جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أطْعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجدّة السُّدس أَي ملكهَا فَلَا يَكْفِي التغدية وَلَا التعشية وَهل يشْتَرط اللَّفْظ أَو يَكْفِي الدّفع عبارَة الرَّوْضَة تَقْتَضِي اللَّفْظ لِأَنَّهُ عبر بالتمليك قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ بعيد
أَي فَلَا يشْتَرط لفظ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر كدفع الزَّكَاة وَلَا يَكْفِي تَمْلِيكه كَافِرًا وَلَا هاشميا وَلَا مطلبيا وَلَا من تلْزمهُ نَفَقَته كزوجته وقريبه وَلَا إِلَى مكفي بِنَفَقَة قريب أَو زوج وَلَا إِلَى عبد وَلَو مكَاتبا لِأَنَّهَا حق الله تَعَالَى فَاعْتبر فِيهَا صِفَات الزَّكَاة وَيصرف للستين الْمَذْكُورين سِتِّينَ مدا
(كل مِسْكين مد) كَأَن يَضَعهَا(2/458)
بَين أَيْديهم ويملكها لَهُم بِالسَّوِيَّةِ أَو يُطلق فَإِذا قبلوا ذَلِك أَجْزَأَ على الصَّحِيح
فَلَو فاوت بَينهم بِتَمْلِيك وَاحِد مَدين وَآخر مدا أَو نصف مد لم يجزه وَلَو قَالَ خذوه وَنوى بِالسَّوِيَّةِ أَجْزَأَ فَإِن تفاوتوا لم يجزه إِلَّا مد وَاحِد مَا لم يتَبَيَّن مَعَه من أَخذ مدا آخر
وَهَكَذَا وجنس الأمداد من جنس الْحبّ الَّذِي يكون فطْرَة فَيخرج من غَالب قوت بلد الْمُكَفّر فَلَا يجزىء نَحْو الدَّقِيق والسويق وَالْخبْز وَاللَّبن
ويجزىء الأقط كَمَا يجزىء فِي الْفطْرَة
القَوْل فِي وجوب التَّكْفِير قبل الْوَطْء (وَلَا يحل للمظاهر) ظِهَارًا مُطلقًا (وَطْؤُهَا) أَي زَوجته الَّتِي ظَاهر مِنْهَا (حَتَّى يكفر) لقَوْله تَعَالَى فِي الْعتْق {فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} وَيقدر من قبل أَن يتماسا فِي الْإِطْعَام حملا للمطلق على الْمُقَيد لِاتِّحَاد الْوَاقِعَة وَخرج بِالْوَطْءِ غَيره كاللمس وَنَحْوه كالقبلة بِشَهْوَة فَإِنَّهُ جَائِز فِي غير مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة أما مَا بَينهمَا فَيحرم كَمَا رَجحه الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَيصِح الظِّهَار الْمُؤَقت كَمَا مر وَيَقَع مؤقتا وَعَلِيهِ إِنَّمَا يحصل الْعود فِيهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمدَّة لِأَن الْحل منتظر بعد الْمدَّة فالإمساك يحْتَمل أَن يكون لانتظار الْحل وَالْوَطْء فِي الْمدَّة وَالْأَصْل بَرَاءَته من الْكَفَّارَة وكالتكفير مُضِيّ الْوَقْت لانتهائه بهَا
تَتِمَّة إِذا عجز من لَزِمته الْكَفَّارَة عَن جَمِيع الْخِصَال بقيت فِي ذمَّته إِلَى أَن يقدر على شَيْء مِنْهَا فَلَا يطَأ الْمظَاهر حَتَّى يكفر وَلَا تجزىء كَفَّارَة ملفقة من خَصْلَتَيْنِ كَأَن يعْتق نصف رَقَبَة ويصوم شهرا أَو يَصُوم شهرا وَيطْعم ثَلَاثِينَ
فَإِن وجد بعض الرَّقَبَة صَامَ لِأَنَّهُ عادم لَهَا بِخِلَاف مَا إِذا وجد بعض الطَّعَام فَإِنَّهُ يُخرجهُ وَلَو بعض مد لِأَنَّهُ لَا بدل لَهُ والميسور لَا يسْقط بالمعسور وَيبقى الْبَاقِي فِي ذمَّته فِي أحد وَجْهَيْن يظْهر تَرْجِيحه لِأَن الْفَرْض أَن الْعَجز عَن جَمِيع الْخِصَال لَا يسْقط الْكَفَّارَة وَلَا نظر إِلَى توهم كَونه فعل شَيْئا وَإِذا اجْتمع عَلَيْهِ كفارتان وَلم يقدر إِلَّا على رَقَبَة أعْتقهَا عَن إِحْدَاهمَا وَصَامَ عَن الْأُخْرَى إِن قدر وَإِلَّا أطْعم
فصل فِي اللّعان
هُوَ لُغَة المباعدة وَمِنْه لَعنه الله أَي أبعده وطرده وَسمي بذلك لبعد الزَّوْجَيْنِ من الرَّحْمَة أَو لبعد كل مِنْهُمَا عَن الآخر فَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا وَشرعا كَلِمَات مَعْلُومَة جعلت حجَّة للْمُضْطَر إِلَى قذف من لطخ فرَاشه إِن كَانَ من الْكَاذِبين وإطلاقه فِي جَانب الْمَرْأَة من مجَاز التغليب واختير لَفظه دون لفظ لغضب وَإِن كَانَا موجودين فِي اللّعان لكَون اللَّعْنَة مُتَقَدّمَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة وَلِأَن لِعَانه قد يَنْفَكّ عَن لعانها وَلَا ينعكس
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} الْآيَات وَسبب نُزُولهَا وَألْحق الْعَار بِهِ وَسميت هَذِه الْكَلِمَات لعانا(2/459)
لقَوْل الرجل عَلَيْهِ لعنة الله ذكرته فِي شرح الْبَهْجَة وَغَيره
وَهِي يَمِين مُؤَكدَة بِلَفْظ الشَّهَادَة كَمَا هُوَ فِي الرَّوْضَة عَن الْأَصْحَاب فَلَا يَصح لعان صبي وَمَجْنُون وَلَا يَقْتَضِي قذفهما لعانا بعد كمالهما وَلَا عُقُوبَة كَمَا فِي الرَّوْضَة وَلم يَقع بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة لعان بعد اللّعان الَّذِي وَقع بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(وَإِذا رمى) أَي قذف (الرجل) الْمُكَلف (زَوجته) المحصنة (بِالزِّنَا) صَرِيحًا كزنيت وَلَو مَعَ قَوْله فِي الْجَبَل أَو يَا زَانِيَة أَو زنى فرجك أَو يَا قحبة
كَمَا أفتى بِهِ ابْن عبد السَّلَام أَو كِنَايَة كزنأت فِي الْجَبَل بِالْهَمْز لِأَن الزنء هُوَ الصعُود بِخِلَاف زنأت فِي الْبَيْت بِالْهَمْز
فصريح لِأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل بِمَعْنى الصعُود فِي الْبَيْت وَنَحْوه زَاد فِي الرَّوْضَة أَن هَذَا كَلَام الْبَغَوِيّ وَأَن غَيره قَالَ إِن لم يكن للبيت درج يصعد إِلَيْهِ فِيهَا فصريح قطعا
أَو يَا فاجرة أَو يَا فاسقة أَو أَنْت تحبين الْخلْوَة بِالرجلِ أَو لم أجدك بكرا وَنوى بذلك الْقَذْف (فَعَلَيهِ) لَهَا (حد الْقَذْف) للإيذاء وَخرج بِقَيْد المحصنة غَيرهَا
والمحصن الَّذِي يحد قَاذفه مُكَلّف وَمثله السَّكْرَان الْمُتَعَدِّي بسكره حر مُسلم عفيف عَن وَطْء يحد بِهِ فَلَا يحد بِقَذْف زَوجته الصَّغِيرَة الَّتِي لَا تحْتَمل الْوَطْء وَلَا الْبكر قبل دُخُوله بهَا(2/460)
(إِلَّا أَن يُقيم الْبَيِّنَة) بزناها فيرتفع عَنهُ الْحَد أَو التَّعْزِير لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهِلَال بن أُميَّة حِين قذف زَوجته بِشريك ابْن سمحاء الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك فَقَالَ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا إِنِّي لصَادِق ولينزلن الله فِي أَمْرِي مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد فَنزلت آيَات اللّعان الحَدِيث وَهُوَ بِطُولِهِ فِي صَحِيح البُخَارِيّ فَدلَّ على ارْتِفَاع الْحَد بِالْبَيِّنَةِ (أَو يُلَاعن) لدفع الْحَد إِن اخْتَارَهُ لحَدِيث هِلَال وَله الِامْتِنَاع وَعَلِيهِ حد الْقَذْف كَمَا فِي الرَّوْضَة
وَيشْتَرط لصِحَّة اللّعان سبق قذفه زَوجته تَقْدِيمًا للسبب على الْمُسَبّب كَمَا هُوَ مُسْتَفَاد من صَنِيع المُصَنّف وَبِه صرح الْأَصْحَاب لِأَن اللّعان إِنَّمَا شرع لخلاص الْقَاذِف من الْحَد
قَالَ فِي الْمُهَذّب لِأَن الزَّوْج يبتلى بِقَذْف امْرَأَته لدفع الْعَار وَالنّسب الْفَاسِد
وَقد يتَعَذَّر عَلَيْهِ إِقَامَة الْبَيِّنَة فَجعل اللّعان بَيِّنَة لَهُ فَلهُ قَذفهَا إِذا تحقق زنَاهَا بِأَن رَآهَا تَزني أَو ظن زنَاهَا ظنا مؤكدا أورثه الْعلم كشياع زنَاهَا بزيد مصحوب بِقَرِينَة كَأَن رَآهَا وَلَو مرّة وَاحِدَة فِي خلْوَة أَو رَآهُ يخرج من عِنْدهَا أَو هِيَ تخرج من عِنْده أَو رأى رجلا مَعهَا مرَارًا فِي مَحل رِيبَة أَو مرّة تَحت شعار فِي هَيْئَة مُنكرَة أما مُجَرّد الإشاعة فَقَط أَو الْقَرِينَة فَقَط فَلَا يجوز لَهُ اعْتِمَاد وَاحِد مِنْهُمَا أما الإشاعة فقد يشيعه عَدو لَهَا أَو من يطْمع فِيهَا فَلم يظفر بِشَيْء وَأما مُجَرّد الْقَرِينَة الْمَذْكُورَة فَلِأَنَّهُ رُبمَا دخل عَلَيْهَا لخوف أَو سَرقَة أَو طمع أَو نَحْو ذَلِك وَالْأولَى لَهُ كَمَا فِي زَوَائِد الرَّوْضَة أَن يستر عَلَيْهَا ويطلقها إِن كرهها لما فِيهِ من ستر الْفَاحِشَة وإقالة العثرة
هَذَا حَيْثُ لَا ولد يَنْفِيه فَإِن كَانَ هُنَاكَ ولد يَنْفِيه بِأَن علم أَنه لَيْسَ مِنْهُ لزمَه نَفْيه لِأَن ترك النَّفْي يتَضَمَّن استلحاقه واستلحاق من لَيْسَ مِنْهُ حرَام كَمَا يحرم نفي من هُوَ مِنْهُ
وَإِنَّمَا يعلم إِذا لم يَطَأهَا أَو وَطئهَا وَلَكِن وَلدته لدوّنَ سِتَّة أشهر من وَطئه الَّتِي هِيَ أقل مُدَّة الْحمل أَو لفوق أَربع سِنِين من الْوَطْء الَّتِي هِيَ أَكثر مُدَّة الْحمل فَلَو علم زنَاهَا وَاحْتمل كَون الْوَلَد مِنْهُ وَمن الزِّنَا وَإِن لم يَسْتَبْرِئهَا بعد وَطئه حرم النَّفْي رِعَايَة للْفراش وَكَذَا الْقَذْف وَاللّعان على الصَّحِيح لِأَن اللّعان حجَّة ضَرُورِيَّة إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهَا لدفع النّسَب أَو قطع النِّكَاح حَيْثُ لَا ولد على الْفراش الملطخ وَقد حصل الْوَلَد هُنَا فَلم يبْق لَهُ فَائِدَة والفراق يُمكن بِالطَّلَاق
ثمَّ شرع فِي كَيْفيَّة اللّعان بقوله (فَيَقُول) أَي الزَّوْج (عِنْد الْحَاكِم) أَو نَائِبه إِذْ اللّعان لَا يعْتَبر إِلَّا بِحُضُورِهِ والمحكم حَيْثُ لَا ولد كالحاكم أما إِذا كَانَ هُنَاكَ ولد فَلَا يَصح التَّحْكِيم
إِلَّا أَن يكون مُكَلّفا ويرضى بِحكمِهِ لِأَن لَهُ حَقًا فِي النّسَب فَلَا يُؤثر رضاهما فِي حَقه
وَالسَّيِّد فِي اللّعان بَين أمته وَعَبده إِذا زَوجهَا مِنْهُ كالحاكم لِأَن لَهُ أَن يتَوَلَّى لعان رَقِيقه وَيسن التَّغْلِيظ فِي اللّعان بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان
أما الْقسم الأول وَهُوَ التَّغْلِيظ بِالْمَكَانِ فَيكون فِي أشرف مَوضِع بلد اللّعان لِأَن فِي ذَلِك تَأْثِيرا فِي الزّجر عَن الْيَمين الْفَاجِرَة فَإِن كَانَ فِي غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَيكون (فِي الْجَامِع على الْمِنْبَر) كَمَا صَححهُ صَاحب الْكَافِي لِأَن الْجَامِع هُوَ الْمُعظم من تِلْكَ الْبَلدة والمنبر أولى فَإِن كَانَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَبين الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود وَبَين مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُسمى مَا بَينهمَا بِالْحَطِيمِ
فَإِن قيل لَا شَيْء فِي مَكَّة أشرف من الْبَيْت
أُجِيب بِأَن عدولهم عَنهُ صِيَانة لَهُ عَن ذَلِك وَإِن كَانَ فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فعلى الْمِنْبَر كَمَا فِي الْأُم والمختصر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلف على منبري هَذَا يَمِينا آثِما تبوأ مَقْعَده من النَّار وَإِن كَانَ فِي بَيت الْمُقَدّس فَعِنْدَ الصَّخْرَة لِأَنَّهَا أشرف بقاعه لِأَنَّهَا قبْلَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم(2/461)
الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَفِي صَحِيح ابْن حبَان أَنَّهَا من الْجنَّة وتلاعن امْرَأَة حَائِض أَو نفسَاء أَو متحيرة مسلمة بِبَاب الْجَامِع لتَحْرِيم مكثها فِيهِ
وَالْبَاب أقرب إِلَى الْمَوَاضِع الشَّرِيفَة ويلاعن الزَّوْج فِي الْمَسْجِد فَإِذا فرغ خرج الْحَاكِم أَو نَائِبه إِلَيْهَا ويغلظ على الْكَافِر الْكِتَابِيّ إِذا ترافعوا إِلَيْنَا فِي بيعَة وَهِي بِكَسْر الْمُوَحدَة معبد النَّصَارَى وَفِي كَنِيسَة وَهِي معبد الْيَهُود وَفِي بَيت نَار مَجُوسِيّ لَا بَيت أصنام وَثني لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُ وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ فِي الْمُسلم فَيكون بعد صَلَاة عصر كل يَوْم إِن كَانَ طلبه حثيثا لِأَن الْيَمين الْفَاجِرَة بعد الْعَصْر أغْلظ عُقُوبَة لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم
وعد مِنْهُم رجلا حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر يقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم فَإِن لم يكن طلب حثيث فَبعد صَلَاة عصر يَوْم الْجُمُعَة لِأَن سَاعَة الْإِجَابَة فِيهِ
كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم
وروى مُسلم أَنَّهَا من مجْلِس الإِمَام على الْمِنْبَر إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة
وَأما التَّغْلِيظ بِالزَّمَانِ فِي الْكَافِر فَيعْتَبر بأشرف الْأَوْقَات عِنْدهم كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه كَالْمُسلمِ وَنَقله ابْن الرّفْعَة عَن الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره
تَنْبِيه من لَا ينتحل دينا كالدهري والزنديق الَّذِي لَا يتدين بدين وعابد الوثن لَا يشرع فِي حَقهم تَغْلِيظ بل يلاعنون فِي مجْلِس الحكم لأَنهم لَا يعظمون زَمَانا وَلَا مَكَانا فَلَا ينزجرون
قَالَ الشَّيْخَانِ وَيحسن أَن يحلف من ذكر بِاللَّه الَّذِي خلقه ورزقه
لِأَنَّهُ وَإِن غلا فِي كفره وجد نَفسه مذعنة لخالق مُدبر وَيسن التَّغْلِيظ أَيْضا (فِي جمَاعَة) أَي بِحُضُور جمع عدُول (من) أَعْيَان (النَّاس) وصلحائهم من بلد اللّعان لقَوْله تَعَالَى {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} وَلِأَن فِيهِ ردعا عَن الْكَذِب وَأَقلهمْ كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ أَرْبَعَة لثُبُوت الزِّنَا بهم فاستحب أَن يحضر ذَلِك الْعدَد وَيبدأ فِي اللّعان بِالزَّوْجِ فَيَقُول (أشهد بِاللَّه إِنَّنِي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميت بِهِ زَوْجَتي فُلَانَة) هَذِه (من الزِّنَا) إِن كَانَت حَاضِرَة فَإِن كَانَت غَائِبَة عَن الْبَلَد أَو مجْلِس اللّعان لمَرض أَو حيض أَو نَحْو ذَلِك سَمَّاهَا وَرفع نَسَبهَا بِمَا يميزها عَن غَيرهَا دفعا للاشتباه
وَإِن كَانَ ثمَّ ولد يَنْفِيه عَنهُ ذكره فِي كل كَلِمَات اللّعان الْخَمْسَة الْآتِيَة لينتفي عَنهُ فَيَقُول فِي كل مِنْهَا (وَإِن هَذَا الْوَلَد) إِن كَانَ حَاضرا أَو لِأَن الْوَلَد الَّذِي وَلدته إِن كَانَ غَائِبا (من الزِّنَا وَلَيْسَ) هُوَ (مني) لِأَن كل مرّة بِمَنْزِلَة شَاهد فَلَو أغفل ذكر الْوَلَد فِي بعض الْكَلِمَات احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة اللّعان لنفيه
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَامه إِنَّه لَو اقْتصر على قَوْله (من الزِّنَا) وَلم يقل لَيْسَ مني أَنه لَا يَكْفِي قَالَ فِي الشَّرْح الْكَبِير وَبِه أجَاب كَثِيرُونَ لِأَنَّهُ قد يظنّ أَن وَطْء النِّكَاح الْفَاسِد والشبهة زنا وَلَكِن الرَّاجِح أَنه يَكْفِي
كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَالشَّرْح الصَّغِير حملا للفظ الزِّنَا على حَقِيقَته وَقَضيته أَيْضا أَنه لَو اقْتصر على قَوْله لَيْسَ مني لم يكف وَهُوَ الصَّحِيح لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَن لَا يُشبههُ خلقا وَلَا خلقا فَلَا بُد أَن يسْندهُ مَعَ ذَلِك إِلَى سَبَب معِين كَقَوْلِه من زنا أَو وَطْء شُبْهَة
ويكرر ذَلِك (أَربع مَرَّات) للآيات السَّابِقَة أول الْفَصْل وكررت الشَّهَادَة لتأكيد الْأَمر
لِأَنَّهَا أُقِيمَت مقَام أَربع شُهُود من غَيره ليقام عَلَيْهَا الْحَد وَلذَلِك سميت شَهَادَات وَهِي فِي الْحَقِيقَة أَيْمَان وَأما الْكَلِمَة الْخَامِسَة الْآتِيَة فمؤكدة لمفاد الْأَرْبَع (وَيَقُول فِي الْمرة الْخَامِسَة بعد أَن يعظه الْحَاكِم) ندبا بِأَن يخوفه من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهِلَال اتَّقِ الله فَإِن عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَيَأْمُر رجلا أَن يضع يَده على فِيهِ لَعَلَّه ينزجر فَإِن أَبى بعد مُبَالغَة الْحَاكِم فِي وعظه إِلَّا الْمُضِيّ قَالَ لَهُ قل (وَعلي لعنة الله إِن كنت من الْكَاذِبين) فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا وَيُشِير إِلَيْهَا فِي الْحُضُور ويميزها فِي الْغَيْبَة كَمَا فِي الْكَلِمَات الْأَرْبَع(2/462)
تَنْبِيه كَانَ من حق المُصَنّف أَن يذكر هَذِه الزِّيَادَة لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن الْخَامِسَة لَا يشْتَرط فِيهَا ذكر ذَلِك وسكوته أَيْضا عَن ذكر الْوَلَد فِي الْخَامِسَة يَقْتَضِي أَيْضا أَنه لَا يشْتَرط فِي نَفْيه ذكره فِيهَا
وَلَيْسَ مرَادا كَمَا مر أَنه لَا بُد من ذكره فِي الْكَلِمَات الْخمس وَسكت أَيْضا عَن ذكر الْمُوَالَاة فِي الْكَلِمَات الْخمس وَالأَصَح اشْتِرَاطهَا كَمَا فِي الرَّوْضَة فيؤثر الْفَصْل الطَّوِيل وَهَذَا كُله إِن كَانَ قذف وَلم تثبته عَلَيْهِ بِبَيِّنَة
وَإِلَّا بِأَن كَانَ اللّعان لنفي ولد كَأَن احْتمل كَونه من وَطْء شُبْهَة وأثبتت قذفه بِبَيِّنَة قَالَ فِي الأول فِيمَا رميتها بِهِ من إِصَابَة غَيْرِي لَهَا على فِرَاشِي وَأَن هَذَا الْوَلَد من تِلْكَ الْإِصَابَة إِلَى الْكَلِمَات وَفِي الثَّانِي فِيمَا أَثْبَتَت على من رمى إِيَّاهَا بِالزِّنَا إِلَى آخِره
وَلَا تلاعن الْمَرْأَة فِي الأول إِذْ لَا حد عَلَيْهَا بِهَذَا اللّعان حَتَّى تسقطه بلعانها
القَوْل فِيمَا يرتب على لعان الرجل (وَيتَعَلَّق بلعانه) أَي بِتَمَامِهِ من غير توقف عى لعانها وَلَا قَضَاء القَاضِي كَمَا فِي الرَّوْضَة
(خَمْسَة أَحْكَام) وَعَلَيْهَا اقْتصر فِي الْمِنْهَاج وَذكر فِي الزَّوَائِد زِيَادَة عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي مَعَ غَيرهَا
الأول (سُقُوط الْحَد) أَي سُقُوط حد قذف الْمُلَاعنَة (عَنهُ) إِن كَانَت مُحصنَة وَسُقُوط التَّعْزِير عَنهُ إِن لم تكن مُحصنَة وَلَا يسْقط حد قذف الزَّانِي عَنهُ إِلَّا إِن ذكره فِي لِعَانه
تَنْبِيه كَانَ الأولى أَن يعبر بالعقوبة بدل الْحَد ليشْمل التَّعْزِير (و) الثَّانِي (وجوب الْحَد) أَي حد الزِّنَا (عَلَيْهَا) أَي زَوجته مسلمة كَانَت أَو كَافِرَة إِن لم تلاعن لقَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} الْآيَة فَدلَّ على وُجُوبه عَلَيْهَا بلعانه وعَلى سُقُوطه بلعانها
(و) الثَّالِث (زَوَال الْفراش) أَي فرَاش الزَّوْج عَنْهَا لانْقِطَاع النِّكَاح بَينهمَا لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا ثمَّ قَالَ لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا وَهِي فرقة فسخ كالرضاع لحصولها بِغَيْر لفظ وَتحصل ظَاهرا وَبَاطنا وَفِي سنَن أبي دواد المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا
تَنْبِيه تَعْبِير المُصَنّف بالفراش مُرَاده بِهِ هُنَا الزَّوْجِيَّة كَمَا مر تبعا لجمع من أَئِمَّة اللُّغَة وَغَيرهم (و) الرَّابِع (نفي) انتساب (الْوَلَد) إِلَيْهِ إِن نَفَاهُ فِي لِعَانه لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَينهمَا وَألْحق الْوَلَد بِالْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا يحْتَاج الْملَاعن إِلَى نفي نسب ولد يُمكن كَونه مِنْهُ فَإِن تعذر كَون الْوَلَد مِنْهُ كَأَن طَلقهَا فِي مجْلِس العقد أَو نكح امْرَأَة وَهُوَ بالمشرق وَهِي بالمغرب أَو كَانَ الزَّوْج صَغِيرا أَو ممسوحا لم يلْحقهُ الْوَلَد لِاسْتِحَالَة كَونه مِنْهُ فَلَا حَاجَة فِي انتفائه إِلَى لِعَانه وَالنَّفْي فوري كالرد بِالْعَيْبِ بِجَامِع الضَّرَر بالإمساك إِلَّا لعذر كَأَن بلغه الْخَبَر لَيْلًا فَأخر حَتَّى يصبح أَو كَانَ مَرِيضا أَو مَحْبُوسًا وَلم يُمكنهُ إِعْلَام القَاضِي بذلك أَو لم يجده فَلَا يبطل حَقه إِن تعسر عَلَيْهِ فِيهِ إِشْهَاد بِأَنَّهُ بَاقٍ على النَّفْي وَإِلَّا بَطل حَقه
كَمَا لَو أخر بِلَا عذر فيلحقه الْوَلَد وَله نفي حمل وانتظار وَضعه ليتَحَقَّق كَونه ولدا فَلَو قَالَ عَلمته ولدا وأخرت رَجَاء وَضعه مَيتا فألغي اللّعان بَطل حَقه من النَّفْي لتَفْرِيطه فَإِن أخر
وَقَالَ جهلت الْوَضع وَأمكن جَهله صدق بِيَمِينِهِ وَلَا يَصح نفي أحد توأمين بِأَن(2/463)
لم يَتَخَلَّل بَينهمَا سِتَّة أشهر
بِأَن ولدا مَعًا أَو تخَلّل بَين وضعيهما دون سِتَّة أشهر لِأَن الله تَعَالَى لم يجر الْعَادة بِأَن يجمع فِي الرَّحِم ولدا من مَاء رجل وَولدا من مَاء آخر لِأَن الرَّحِم إِذا اشْتَمَل على الْمَنِيّ استد فَمه فَلَا يَتَأَتَّى قبُوله منيا آخرا وَلَو هنىء بِولد كَأَن قيل لَهُ متعت بولدك فَأجَاب بِمَا يتَضَمَّن إِقْرَارا كآمين أَو نعم
لم ينف بِخِلَاف مَا إِذا أجَاب بِمَا لَا يتَضَمَّن إِقْرَارا كَقَوْلِه جَزَاك الله خيرا لِأَن الظَّاهِر أَنه قَصده مُكَافَأَة الدُّعَاء بِالدُّعَاءِ (و) الْخَامِس (التَّحْرِيم) أَي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ (على الْأَبَد) فَلَا يحل لَهُ نِكَاحهَا بعد اللّعان وَلَا وَطْؤُهَا بِملك الْيَمين لَو كَانَت أمة واشتراها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمَار وَلَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا أَي لَا طَرِيق لَك إِلَيْهَا
وَلما مر فِي الحَدِيث الآخر المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا
تَنْبِيه بَقِي على المُصَنّف من الْأَحْكَام أَشْيَاء لم يذكرهَا وَقد تقدم الْوَعْد بذكرها مِنْهَا سُقُوط حد قذف الزَّانِي بهَا عَن الزَّوْج إِن سَمَّاهُ فِي لِعَانه كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَإِن لم يذكرهُ فِي لِعَانه لم يسْقط عَنهُ حد قذفه لَكِن لَهُ أَن يُعِيد اللّعان ويذكره
فَإِن لم يُلَاعن وَلَا بَيِّنَة وحد لقذفها بطلبها فطالبه الرجل الْمَقْذُوف بِهِ بِالْحَدِّ
وَقُلْنَا بالأصح أَنه يجب عَلَيْهِ حدان فَلهُ اللّعان وتأبدت حُرْمَة الزَّوْجَة بِاللّعانِ لأجل الرجل فَقَط وَلَو ابْتَدَأَ الرجل فطالبه بِحَدّ قذفه كَانَ لَهُ اللّعان لإِسْقَاط الْحَد فِي أحد وَجْهَيْن يظْهر تَرْجِيحه بِنَاء على أَن حَقه يثبت أصلا لَا تبعا لَهَا كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَامهم وَإِن عَفا أَحدهمَا فللآخر الْمُطَالبَة بِحقِّهِ
وَحَيْثُ قُلْنَا يُلَاعن للمقذوف بِهِ لَا يثبت بلعانه زنا الْمَقْذُوف بِهِ وَلَا يُلَاعن الْمَقْذُوف بِهِ وَإِنَّمَا فَائِدَته سُقُوط الْحَد عَن الْقَاذِف وَمِنْهَا سُقُوط حصانتها فِي حق الزَّوْج إِن امْتنعت من اللّعان وَمِنْهَا تشطير الصَدَاق قبل الدُّخُول وَمِنْهَا أَن حكمهَا حكم الْمُطلقَة بَائِنا فَلَا يلْحقهَا طَلَاق وَيحل للزَّوْج نِكَاح أَربع سواهَا وَمن يحرم جمعه مَعهَا كأختها وعمتها وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام المترتبة على الْبَيْنُونَة وَإِن لم تنقض عدتهَا وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على قَضَاء القَاضِي لَا على لعانها بل يحصل بِمُجَرَّد لعان الزَّوْج وَمِنْهَا أَنه لَا نَفَقَة لَهَا وَإِن كَانَت حَامِلا إِذا نفى الْحمل بلعانه كَمَا جزم بِهِ فِي الْكَافِي
فرع لَو قذف زوج زَوجته
وَهِي بكر ثمَّ طَلقهَا وَتَزَوَّجت ثمَّ قَذفهَا الزَّوْج الثَّانِي وَهِي ثيب ثمَّ لاعنا وَلم تلاعن جلدت ثمَّ رجمت (وَيسْقط الْحَد عَنْهَا) أَي حد الزِّنَا الَّذِي وَجب عَلَيْهَا بِتمَام لعان الزَّوْج (بِأَن تلاعن) بعد تَمام لِعَانه كَمَا هُوَ مُسْتَفَاد من لفظ المسقوط لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا فِيمَا وَجب وَلم يجب عَلَيْهَا إِلَّا بِتمَام لِعَانه وباشتراط البعدية جزم فِي الرَّوْضَة وَدلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} الْآيَة
(فَتَقول) بعد أَن يأمرها الْحَاكِم فِي جمع من النَّاس كَمَا سنّ التَّغْلِيظ فِي حَقه كَمَا مر (أشهد بِاللَّه إِن فلَانا هَذَا) أَي زَوجهَا إِن كَانَ حَاضرا وتميزه فِي الْغَيْبَة كَمَا فِي جَانبهَا (لمن الْكَاذِبين) عَليّ (فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا أَربع مَرَّات) لقَوْله تَعَالَى {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه} الْآيَة (وَتقول فِي الْمرة الْخَامِسَة بعد أَن يعظها) أَي يُبَالغ (الْحَاكِم) ندبا فِي هَذِه الْمرة بالتخويف والتحذير كَأَن يَقُول لَهَا عَذَاب الدُّنْيَا أَهْون من عَذَاب الْآخِرَة وَيَأْمُر امْرَأَة تضع يَدهَا على فِيهَا لَعَلَّهَا أَن تنزجر فَإِن أَبَت إِلَّا الْمُضِيّ قَالَ لَهَا قولي (وَعلي غضب الله إِن كَانَ من الصَّادِقين) فِيمَا رماني بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه أفهم سُكُوته فِي لعانها عَن ذكر الْوَلَد أَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بِذكرِهِ فِي لعانها حكم فَلم تحتج إِلَيْهِ وَلَو تعرضت لَهُ لم يضر(2/464)
تَتِمَّة لَو بدل لفظ شَهَادَة بِحلف أَو نَحوه كأقسم بِاللَّه أَو أَحْلف بِاللَّه إِلَى آخِره أَو لفظ غضب بلعن أَو غَيره كالإبعاد وَعَكسه بِأَن ذكر الرجل الْغَضَب وَالْمَرْأَة اللَّعْن أَو ذكر اللَّعْن أَو الْغَضَب قبل تَمام الشَّهَادَة لم يَصح ذَلِك اتبَاعا للنَّص كَمَا فِي الشَّهَادَة وَالْحكمَة فِي اخْتِصَاص لعانها بِالْغَضَبِ ولعان الرجل باللعن أَن جريمة الزِّنَا أعظم من جريمة الْقَذْف فقوبل الْأَعْظَم بِمثلِهِ وَهُوَ الْغَضَب لِأَن غَضَبه تَعَالَى إِرَادَة الانتقام من العصاة وإنزال الْعقُوبَة بهم واللعن والطرد والبعد
فخصت الْمَرْأَة بِالْتِزَام أغْلظ الْعقُوبَة وَلَو نفى الذِّمِّيّ ولدا ثمَّ أسلم لم يتبعهُ فِي الْإِسْلَام فَلَو مَاتَ الْوَلَد وَقسم مِيرَاثه بَين ورثته الْكفَّار ثمَّ اسْتَلْحقهُ لحقه فِي نسبه وإسلامه وَورثه وانتقضت الْقِسْمَة وَلَو قتل الْملَاعن من نَفَاهُ ثمَّ اسْتَلْحقهُ لحقه وَسقط عَن الْقصاص وَالِاعْتِبَار فِي الْحَد وَالتَّعْزِير بِحَالَة الْقَذْف فَلَا يتغيران بحدوث عتق أَو رق أَو إِسْلَام فِي الْقَاذِف أَو الْمَقْذُوف
فصل فِي الْعدَد
مَأْخُوذَة من الْعدَد لاشتمالها على عدد من الْأَقْرَاء أَو الْأَشْهر غَالِبا وَهِي فِي الشَّرْع اسْم لمُدَّة تَتَرَبَّص فِيهَا الْمَرْأَة لمعْرِفَة بَرَاءَة رَحمهَا أَو للتعبد أَو لتفجعها على زَوجهَا
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع الْآيَات وَالْأَخْبَار الْآتِيَة وشرعت صِيَانة للأنساب وتحصينا لَهَا من الِاخْتِلَاط رِعَايَة لحق الزَّوْجَيْنِ وَالْولد والناكح الثَّانِي والمغلب فِيهَا التَّعَبُّد بِدَلِيل أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي بقرء وَاحِد مَعَ حُصُول الْبَرَاءَة بِهِ (والمعتدة) من النِّسَاء (على ضَرْبَيْنِ متوفى عَنْهَا وَغير متوفى عَنْهَا) سلك المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَقْسِيم الْأَحْكَام الْآتِيَة طَريقَة حَسَنَة مَعَ الِاخْتِصَار ثمَّ بَدَأَ بِالضَّرْبِ الأول فَقَالَ (فالمتوفى عَنْهَا) حرَّة كَانَت أَو أمة (إِن كَانَت حَامِلا) بِولد يلْحق الْمَيِّت
(فعدتها بِوَضْع الْحمل) أَي انْفِصَال كُله حَتَّى ثَانِي توأمين وَلَو بعد الْوَفَاة
لقَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} هُوَ مُقَيّد لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا}(2/465)
وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسبيعة الأسْلَمِيَّة وَقد وضعت بعد موت زَوجهَا بِنصْف شهر قد حللت فَانْكِحِي من شِئْت مُتَّفق عَلَيْهِ
وَخرج بقولنَا يلْحق الْمَيِّت مَا لَو مَاتَ صبي لَا يُولد لمثله عَن حَامِل فَإِن عدتهَا بِالْأَشْهرِ لَا بِالْوَضْعِ لِأَنَّهُ منفي عَنهُ يَقِينا لعدم إنزاله وَكَذَا لَو مَاتَ مَمْسُوح وَهُوَ الْمَقْطُوع جَمِيع ذكره وأنثييه عَن حَامِل فعدتها بِالْأَشْهرِ لَا بِالْوَضْعِ إِذْ لَا يلْحقهُ ولد على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ لَا ينزل فَإِن الْأُنْثَيَيْنِ مَحل الْمَنِيّ الَّذِي يتدفق بعد انْفِصَاله من الظّهْر وَلم يعْهَد لمثله ولادَة
فَائِدَة حُكيَ أَن أَبَا عبيد بن حربويه قلد قَضَاء مصر وَقضى بِهِ فَحَمله الْمَمْسُوح على كتفه وَطَاف بِهِ الْأَسْوَاق وَقَالَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا القَاضِي يلْحق أَوْلَاد الزِّنَا بالخدام وَيلْحق الْوَلَد مجبوبا قطع جَمِيع ذكره وَبَقِي أنثياه فَتعْتَد الْحَامِل بِوَضْعِهِ لبَقَاء أوعية الْمَنِيّ وَمَا فِيهَا من الْقُوَّة المحيلة للدم
وَكَذَا مسلول خصيتاه وَبَقِي ذكره يلْحقهُ الْوَلَد فتنقضي بِهِ الْعدة على الْمَذْهَب لِأَن آلَة الْجِمَاع بَاقِيَة فقد يُبَالغ فِي الْإِيلَاج فيلتذ وَينزل مَاء رَقِيقا (وَإِن كَانَت) أَي الْمُعْتَدَّة عَن وَفَاة (حَائِلا) وَهِي بِهَمْزَة مَكْسُورَة غير الْحَامِل (فعدتها) إِن كَانَت حرَّة وَإِن لم تُوطأ أَو كَانَت صَغِيرَة أَو زَوْجَة صبي أَو مَمْسُوح
(أَرْبَعَة أشهر وَعشرا) من الْأَيَّام لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} وَهُوَ مَحْمُول على الْحَرَائِر كَمَا مر وعَلى الحائلات بِقَرِينَة الْآيَة الْمُتَقَدّمَة وكالحائلات الحاملة من غير الزَّوْج وَهَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول} فَإِن قيل شَرط النَّاسِخ أَن يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ مَعَ أَن الْآيَة الأولى مُتَقَدّمَة وَهَذِه مُتَأَخِّرَة
أُجِيب بِأَنَّهَا مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة مُتَأَخِّرَة فِي النُّزُول وَتعْتَبر الْأَشْهر بِالْأَهِلَّةِ مَا أمكن ويكمل المنكسر بِالْعدَدِ كنظائره
فَإِن خفيت عَلَيْهَا الْأَهِلّة كالمحبوسة اعْتدت بِمِائَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَو مَاتَ عَن مُطلقَة رَجْعِيَّة انْتَقَلت إِلَى عدَّة وَفَاة بِالْإِجْمَاع كَمَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر أَو مَاتَ عَن مُطلقَة بَائِن فَلَا تنْتَقل لعدة وَفَاة لِأَنَّهَا لَيست بِزَوْجَة فتكمل عدَّة الطَّلَاق وَخرج بِقَيْد الْحرَّة الْأمة وَسَتَأْتِي فِي كَلَامه
ثمَّ شرع فِي الضَّرْب الثَّانِي فَقَالَ (وَغير الْمُتَوفَّى عَنْهَا) الْمُعْتَدَّة عَن فرقة طَلَاق أَو فسخ بِعَيْب أَو رضَاع أَو لعان (إِن كَانَت حَامِلا فعدتها بِوَضْع الْحمل) لقَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} فَهُوَ مُخَصص لقَوْله تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} وَلِأَن الْمُعْتَبر من الْعدة بَرَاءَة الرَّحِم وَهِي حَاصِلَة بِالْوَضْعِ بِشَرْط إِمْكَان نسبته إِلَى صَاحب الْعدة زوجا كَانَ أَو غَيره وَلَو احْتِمَالا كمنفي بِلعان لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي إِمْكَان كَونه مِنْهُ وَلِهَذَا لَو اسْتَلْحقهُ لحقه
فَإِن لم يُمكن نسبته إِلَيْهِ لم تنقض بِوَضْعِهِ كَمَا إِذا مَاتَ صبي لَا يتَصَوَّر مِنْهُ الْإِنْزَال أَو مَمْسُوح عَن زَوْجَة حَامِل فَلَا تَعْتَد بوضح الْحمل كَمَا مر(2/466)
وَكَذَا كل من أَتَت زَوجته الْحَامِل بِولد لَا يُمكن كَونه مِنْهُ كَأَن وَضعته لدوّنَ سِتَّة أشهر من النِّكَاح أَو لأكْثر وَكَانَ بَين الزَّوْجَيْنِ مَسَافَة لَا تقطع فِي تِلْكَ الْمدَّة أَو لفوق أَربع سِنِين من الْفرْقَة لم تنقض عدتهَا بِوَضْعِهِ
لَكِن لَو ادَّعَت فِي الْأَخِيرَة أَنه رَاجعهَا أَو جدد نِكَاحهَا أَو وَطئهَا بِشُبْهَة وَأمكن فَهُوَ وَإِن انْتَفَى عَنهُ تَنْقَضِي بِهِ عدتهَا وَيشْتَرط انْفِصَال كل الْحمل فَلَا أثر لخُرُوج بعضه مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا فِي انْقِضَاء الْعدة وَلَا فِي غَيرهَا من سَائِر أَحْكَام الْجَنِين لعدم تَمام انْفِصَاله ولظاهر الْآيَة
وَاسْتثنى من ذَلِك وجوب الْغرَّة بِظُهُور شَيْء مِنْهُ لِأَن الْمَقْصُود تحقق وجوده وَوُجُوب الْقود إِذا حز جَان رقبته وَهُوَ حَيّ وَوُجُوب الدِّيَة بِالْجِنَايَةِ على أمه إِذا مَاتَت بعد صياحه
وتنقضي الْعدة بميت وبمضغة فيهمَا صُورَة آدَمِيّ وَلَو خَفِيفَة على غير القوابل لظهورها عِنْدهن
فَإِن لم يكن فِي المضغة صُورَة لَا ظَاهِرَة وَلَا خُفْيَة وَلَكِن قُلْنَ هِيَ أصل آدَمِيّ وَلَو بقيت لتصورت انْقَضتْ الْعدة بوضعها على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص لحُصُول بَرَاءَة الرَّحِم بذلك
وَهَذِه الْمَسْأَلَة تسمى مَسْأَلَة النُّصُوص فَإِنَّهُ نَص هُنَا على أَن الْعدة تَنْقَضِي بهَا وعَلى أَنه لَا تجب فِيهَا الْغرَّة وَلَا يثبت فِيهَا الِاسْتِيلَاد
وَالْفرق أَن الْعدة تَنْقَضِي بِبَرَاءَة الرَّحِم وَقد حصلت
وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة فِي الْغرَّة وأمومة الْوَلَد إِنَّمَا تثبت تبعا للْوَلَد وَهَذَا لَا يُسمى ولدا
وَخرج بالمضغة الْعلقَة وَهِي مني يَسْتَحِيل فِي الرَّحِم فَيصير دَمًا غليظا فَلَا تَنْقَضِي الْعدة بهَا لِأَنَّهَا لَا تسمى حملا
فَائِدَة وَقع فِي الْإِفْتَاء أَن الْوَلَد لَو مَاتَ فِي بطن الْمَرْأَة وَتعذر نُزُوله بدواء أَو غَيره كَمَا يتَّفق لبَعض الْحَوَامِل هَل تَنْقَضِي عدتهَا بالإقراء إِن كَانَت من ذَوَات الْأَقْرَاء
أَو بِالْأَشْهرِ إِن لم تكن من ذَوَات الْأَقْرَاء أَو لَا تَنْقَضِي عدتهَا مَا دَامَ فِي بَطنهَا اخْتلف العصريون فِي ذَلِك وَالظَّاهِر الثَّالِث كَمَا صرح بِهِ جلال الدّين البُلْقِينِيّ فِي حَوَاشِي الرَّوْضَة
قَالَ وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة واستفتينا عَنْهَا فأجبنا بذلك انْتهى
وَيدل لذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ}
(وَإِن كَانَت) أَي الْمُعْتَدَّة عَن فرقة طَلَاق وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا مر (حَائِلا) بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدّم (وَهِي من ذَوَات) أَي صَوَاحِب (الْحيض فعدتها ثَلَاثَة قُرُوء) جمع قرء وَهُوَ لُغَة بِفَتْح الْقَاف وَضمّهَا حَقِيقَة فِي الْحيض وَالطُّهْر
تتْرك الصَّلَاة أَيَّام أقرائها (وَهِي) فِي الِاصْطِلَاح (الْأَطْهَار) كَمَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَعَائِشَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلقَوْله تَعَالَى {فطلقوهن لعدتهن} وَالطَّلَاق فِي الْحيض يحرم فَيصْرف الْإِذْن وَمن إِطْلَاقه على الْحيض مَا فِي(2/467)
خبر النَّسَائِيّ وَغَيره إِلَى زمن الطُّهْر فَإِن طلقت طَاهِرا وَبَقِي من زمن طهرهَا شَيْء انْقَضتْ عدتهَا بالطعن فِي حَيْضَة ثَالِثَة لِأَن بعض الطُّهْر وَإِن قل يصدق عَلَيْهِ اسْم قرء قَالَ تَعَالَى {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} وَهُوَ شَهْرَان وَبَعض الثَّالِث أَو طلقت فِي حيض انْقَضتْ عدتهَا بالطعن فِي حَيْضَة رَابِعَة وَلَا يحْسب طهر من لم تَحض قرءا بِنَاء على أَن الطُّهْر هُوَ المحتوش بَين دمي حيض أَو حيض ونفاس أَو دمي نِفَاس كَمَا صرح بِهِ الْمُتَوَلِي
وعدة مُسْتَحَاضَة غير متحيرة بأقرائها الْمَرْدُودَة إِلَيْهَا وعدة متحيرة ثَلَاثَة أشهر فِي الْحَال لاشتمال كل شهر على طهر وحيض غَالِبا
(إِلَّا إِذا كَانَت) أَي الْمُعْتَدَّة (صَغِيرَة أَو) كَبِيرَة (آيسة) من الْحيض
(فعدتها ثَلَاثَة أشهر) هلالية بِأَن انطبق الطَّلَاق على أول الشَّهْر قَالَ الله تَعَالَى {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر واللائي لم يحضن} فعدتهن كَذَلِك كَمَا قَالَه أَبُو الْبَقَاء فِي إعرابه وَقَوله تَعَالَى {إِن ارتبتم} مَعْنَاهُ إِن لم تعرفوا مَا تَعْتَد بِهِ الَّتِي يئست من ذَوَات الْأَقْرَاء فَإِن طلقت فِي أثْنَاء شهر كملته من الرَّابِع ثَلَاثِينَ يَوْمًا سَوَاء كَانَ الشَّهْر تَاما أم نَاقِصا
القَوْل انْقَطع حَيْضهَا لغير يأس تَنْبِيه من انْقَطع حَيْضهَا لعَارض كرضاع أَو نِفَاس أَو مرض تصبر حَتَّى تحيض فَتعْتَد بِالْأَقْرَاءِ أَو حَتَّى تبلغ سنّ الْيَأْس فَتعْتَد بِالْأَشْهرِ وَلَا مبالاة بطول مُدَّة الِانْتِظَار وَإِن انْقَطع لَا لعِلَّة تعرف فكالانقطاع لعَارض على الْجَدِيد فتصبر حَتَّى تحيض أَو تيأس
فَائِدَة قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين ويتعتين التفطن لتعليم جهلة الشُّهُود هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِنَّهُم يزوجون مُنْقَطِعَة الْحيض لعَارض أَو غَيره قبل بُلُوغ سنّ الْيَأْس ويسمونها بِمُجَرَّد الِانْقِطَاع آيسة ويكتفون بِمُضِيِّ ثَلَاثَة أشهر ويستغربون القَوْل بصبرها إِلَى بُلُوغ سنّ الْيَأْس حَتَّى تصير عجوزا فليحذر من ذَلِك انْتهى
أَي لِأَن الْأَشْهر إِنَّمَا شرعت للَّتِي لم تَحض والآيسة وَهَذِه غَيرهمَا فَلَو حَاضَت من لم تَحض من حرَّة أَو غَيرهَا أَو حَاضَت آيسة كَذَلِك فِي الْأَشْهر اعْتدت بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا الأَصْل فِي الْعدة وَقد قدرت عَلَيْهَا قبل الْفِرَار من بدلهَا فتنتقل إِلَيْهَا كالمتيمم إِذا وجد المَاء فِي أثْنَاء التَّيَمُّم فَإِن حَاضَت بعْدهَا الأولى لم يُؤثر لِأَن حَيْضهَا حِينَئِذٍ لَا يمْنَع صدق القَوْل بِأَنَّهَا عِنْد اعتدادها بِالْأَشْهرِ من اللائي لم يحضن أَو الثَّانِيَة فَهِيَ كآيسة حَاضَت بعْدهَا وَلم تنْكح زوجا آخر فَإِنَّهَا تَعْتَد بِالْأَقْرَاءِ لتبين أَنَّهَا لَيست آيسة فَإِن نكحت آخر فَلَا شَيْء عَلَيْهَا لانقضاء عدتهَا ظَاهرا مَعَ تعلق حق الزَّوْج بهَا وللشروع فِي الْمَقْصُود كَمَا إِذا قدر الْمُتَيَمم على المَاء بعد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَالْمُعْتَبر فِي الْيَأْس يأس من كل النِّسَاء بِحَسب مَا بلغنَا خَبره لَا طواف نسَاء الْعَالم وَلَا يأس عشيرتها فَقَط وأقصاه اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سنة وَقيل سِتُّونَ وَقيل خَمْسُونَ
عَلَيْهَا) لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} ثمَّ(2/468)
القَوْل فِي الْمُطلقَة قبل الدُّخُول بهَا (والمطلقة قبل الدُّخُول بهَا لَا عدَّة {طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} وَالْمعْنَى فِيهِ عدم اشْتِغَال رَحمهَا بِمَا يُوجب استبراءه
القَوْل فِي عدَّة الْأمة (وعدة الْأمة) أَو من فِيهَا رق (بِالْحملِ) أَي بِوَضْعِهِ بِشَرْط نسبته إِلَى ذِي الْعدة حَيا كَانَ أَو مَيتا أَو مُضْغَة (كعدة الْحرَّة) فِي جَمِيع مَا مر فِيهَا من غير فرق لعُمُوم الْآيَة الْكَرِيمَة
(و) عدتهَا (بِالْأَقْرَاءِ) عَن فرقة طَلَاق أَو فسخ وَلَو مُسْتَحَاضَة غير متحيرة (أَن تَعْتَد بقرأين) لِأَنَّهَا على النّصْف من الْحرَّة فِي كثير من الْأَحْكَام
وَإِنَّمَا كملت الْقُرْء الثَّانِي لتعذر تبعيضه كَالطَّلَاقِ إِذْ لَا يظْهر نصفه إِلَّا بِظُهُور كُله فَلَا بُد من الِانْتِظَار إِلَى أَن يعود الدَّم فَإِن عتقت فِي عدَّة رَجْعَة فكحرة فتكمل ثَلَاثَة أَقراء لِأَن الرَّجْعِيَّة كَالزَّوْجَةِ فِي كثير من الْأَحْكَام فَكَأَنَّهَا عتقت قبل الطَّلَاق بِخِلَاف مَا إِذا عتقت فِي عدَّة بينونة لِأَنَّهَا كالأجنبية فَكَأَنَّهَا عتقت بعد انْقِضَاء الْعدة أما الْمُتَحَيِّرَة فَهِيَ إِن طلقت أول الشَّهْر فبشهرين وَإِن طلقت فِي أثْنَاء شهر وَالْبَاقِي أَكثر من خَمْسَة عشر يَوْمًا حسب قرءا فتكمل بعده بِشَهْر هلالي وَإِلَّا لم يحْسب قرءا فَتعْتَد بعده بشهرين هلاليين على الْمُعْتَمد خلافًا للباذري فِي اكتفائه بِشَهْر وَنصف (و) عدتهَا (بالشهور عَن الْوَفَاة) قبل الدُّخُول أَو بعده (أَن تَعْتَد بشهرين) هلاليين (وَخَمْسَة أَيَّام) بلياليها وَيَأْتِي فِي الانكسار مَا مر
(و) عدتهَا (عَن الطَّلَاق) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تقدم (بِشَهْر) هلالي (وَنصف) شهر لِإِمْكَان التنصيف فِي الْأَشْهر وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر وَقَالَ المُصَنّف من عِنْد نَفسه (فَإِن اعْتدت بشهرين كَانَ أولى) أَي لِأَنَّهَا تَعْتَد فِي الْأَقْرَاء بقرأين فَفِي الْيَأْس تَعْتَد بشهرين بَدَلا عَنْهُمَا قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين وَمَا ادَّعَاهُ من الْأَوْلَوِيَّة لم يقل بِهِ أحد من الْأَصْحَاب الْقَائِلين بالتنصيف ثمَّ قَالَ وَجُمْلَة مَا فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أَقْوَال أظهرها مَا تقدم وَثَانِيها وجوب شَهْرَيْن وَالثَّالِث وجوب ثَلَاثَة أشهر
فَالْخِلَاف فِي الْوُجُوب فَإِن أَرَادَ الْأَوْلَوِيَّة من حَيْثُ الِاحْتِيَاط على القَوْل الرَّاجِح فالاحتياط إِنَّمَا يكون بالْقَوْل الثَّالِث وَلم يَقُولُوا بِهِ أَيْضا انْتهى
وَقد يُقَال إِن المُصَنّف قد اطلع على ذَلِك فِي كَلَامهم وَلَا شكّ أَن الِاحْتِيَاط بالشهرين أولى من الِاقْتِصَار على شهر وَنصف وَإِن كَانَ بِالثَّلَاثَةِ أولى ويراعي الأول الْوَجْه الضَّعِيف فَيَجْعَلهُ من بَاب الِاحْتِيَاط
تَتِمَّة لَو طلق زَوجته وعاشرها بِلَا وَطْء فِي عدَّة أَقراء أَو أشهر فَإِن كَانَت بَائِنا انْقَضتْ عدتهَا بِمَا ذكر وَإِن كَانَت رَجْعِيَّة لم تنقض عدتهَا بذلك وَإِن طَالَتْ الْمدَّة وَلَا رَجْعَة لَهُ بعد الْأَقْرَاء أَو الْأَشْهر وَإِن لم تنقض بذلك الْعدة ويلحقها الطَّلَاق وَلَو طلق زَوجته(2/469)
الْأمة وعاشرها سَيِّدهَا كَانَ كَمَا لَو عَاشرهَا الزَّوْج فَفِيهِ التَّفْصِيل الْمَار
أما غير الزَّوْج وَالسَّيِّد فكمعاشرة الْبَائِن فتنقضي عدتهَا بِمَا ذكر
فصل فِيمَا يجب للمعتدة وَعَلَيْهَا
وَعَلَيْهَا سَوَاء أَكَانَت بَائِنا أم رَجْعِيَّة
القَوْل فِيمَا يجب للرجعية وَقد بَدَأَ بالقسم الثَّانِي فَقَالَ (للمعتدة الرَّجْعِيَّة) وَلَو حَائِلا أَو أمة (السُّكْنَى وَالنَّفقَة) وَالْكِسْوَة وَسَائِر حُقُوق الزَّوْجِيَّة إِلَّا آلَة تنظيف لبَقَاء حبس النِّكَاح وسلطنته وَلِهَذَا يسْقط بنشوزها
القَوْل فِيمَا يجب للبائن ثمَّ شرع فِي الْقسم الأول فَقَالَ (وَيجب للبائن) الْحَائِل بخلع أَو ثَلَاث فِي غير نشوز (السُّكْنَى دون النَّفَقَة) وَالْكِسْوَة لقَوْله تَعَالَى {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم} فَلَا سُكْنى لمن أَبَانهَا نَاشِزَة أَو نشزت فِي الْعدة إِلَّا إِن عَادَتْ إِلَى الطَّاعَة كَمَا فِي الرَّوْضَة
ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك قَوْله (إِلَّا أَن تكون) الْبَائِن (حَامِلا) بِولد يلْحق الزَّوْج فَيجب لَهَا من النَّفَقَة بِسَبَب الْحمل على أظهر الْقَوْلَيْنِ مَا كَانَ سقط عِنْد عَدمه إِذا توافقا على الْحمل أَو شهد بِهِ أَربع نسْوَة مَا لم تنشز فِي الْعدة
فَإِن نشزت فِيهَا سقط مَا وَجب لَهَا بِنَاء على الْأَظْهر الْمُتَقَدّم وَخرج بِقَيْد الْبَائِن الْمُعْتَدَّة عَن وَفَاة فَلَا نَفَقَة لَهَا وَإِن كَانَت حَامِلا لخَبر لَيْسَ للحامل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا نَفَقَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَلِأَنَّهَا بَانَتْ بالوفاة والقريب تسْقط مُؤْنَته بهَا وَإِنَّمَا لم تسْقط فِيمَا لَو توفّي بعد بينونتها لِأَنَّهَا وَجَبت(2/470)
قبل الْوَفَاة فاغتفر بَقَاؤُهَا فِي الدَّوَام لِأَنَّهُ أقوى من الِابْتِدَاء
الْإِحْدَاد على الْمُتَوفَّى (و) يجب (على الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا) وَلَو أمة (الْإِحْدَاد) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا أَي فَيحل لَهَا الْإِحْدَاد عَلَيْهِ أَي يجب للْإِجْمَاع على إِرَادَته والتقيد بِإِيمَان الْمَرْأَة جري على الْغَالِب لِأَن غَيرهَا مِمَّن لَهَا أَمَان يلْزمهَا الْإِحْدَاد وعَلى ولي صَغِيرَة ومجنونة منعهما مِمَّا يمْنَع مِنْهُ غَيرهمَا وَسن لمفارقة وَلَو رَجْعِيَّة وَلَا يجب لِأَنَّهَا إِن فورقت بِطَلَاق فَهِيَ مجفوة بِهِ أَو بِفَسْخ فالفسخ مِنْهَا أَو لِمَعْنى فِيهَا فَلَا يَلِيق بهَا فيهمَا إِيجَاب الْإِحْدَاد بِخِلَاف الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا وَمَا ذكر من أَن الرَّجْعِيَّة يسن لَهَا ذَلِك هُوَ مَا نَقله فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا عَن أبي ثَوْر عَن الشَّافِعِي ثمَّ نقل عَن بعض الْأَصْحَاب أَن الأولى لَهَا أَن تتزين بِمَا يَدْعُو الزَّوْج إِلَى رَجعتهَا
(وَهُوَ) أَي الْإِحْدَاد من أحد وَيُقَال فِيهِ الْحداد من حد لُغَة الْمَنْع وَاصْطِلَاحا (الِامْتِنَاع من الزِّينَة) فِي الْبدن بحلي من ذهب أَو فضَّة سَوَاء كَانَ كَبِيرا كالخلخال والسوار أم صَغِيرا كالخاتم والقرط لما روى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِإِسْنَاد حسن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تلبس الْحلِيّ وَلَا تكتحل وَلَا تختضب وَإِنَّمَا حرم ذَلِك لِأَنَّهُ يزِيد فِي حسنها كَمَا قيل (الطَّوِيل) مَا الْحلِيّ إِلَّا زِينَة لنقيصة يتمم من حسن إِذا الْحسن قصرا فَأَما إِذا كَانَ الْجمال موفرا كحسنك لم يحْتَج إِلَى أَن يزورا وَكَذَا اللُّؤْلُؤ يحرم التزين بِهِ فِي الْأَصَح لِأَن الزِّينَة فِيهِ ظَاهِرَة أَو بِثِيَاب مصبوغة لزينة لحَدِيث أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا لَا تلبس المعصفر من الثِّيَاب وَلَا الممشقة وَلَا الْحلِيّ وَلَا تختضب وَلَا تكتحل
والممشقة المصبوغة بالمشق وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم الْمغرَة بِفَتْحِهَا
وَيُقَال طين أَحْمَر يشبهها
وَيُبَاح لبس غير مصبوغ من قطن وصوف وكتان وَإِن كَانَ نفيسا وحرير إِذا لم يحدث فِيهِ زِينَة وَيُبَاح مصبوغ لَا يقْصد لزينة كالأسود
وَكَذَا الْأَزْرَق والأخضر المشبعان الكدران لِأَن ذَلِك لَا يقْصد للزِّينَة بل لنَحْو حمل وسخ أَو مُصِيبَة فَإِن تردد بَين الزِّينَة وَغَيرهَا كالأخضر والأزرق فَإِن كَانَ براقا صافي اللَّوْن حرم لِأَنَّهُ مستحسن يتزين بِهِ أَو كدرا أَو مشبعا فَلَا لِأَن المشبع من الْأَخْضَر والأزرق يُقَارب الْأسود وَخرج بِقَيْد الْبدن تجميل فرَاش وَهُوَ مَا ترقد أَو تقعد عَلَيْهِ من نطع ومرتبة ووسادة وَنَحْوهَا وتجميل أثاث وَهُوَ بِفَتْح الْهمزَة ومثلثتين مَتَاع الْبَيْت فَيجوز ذَلِك لِأَن الْإِحْدَاد فِي الْبدن لَا فِي الْفراش وَنَحْوه
وَأما الغطاء فالأشبه أَنه كالثياب لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِن خصّه الزَّرْكَشِيّ بِالنَّهَارِ
(و) الِامْتِنَاع من اسْتِعْمَال (الطّيب) فِي بدن أَو ثوب لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أم عَطِيَّة كُنَّا ننهى أَن نحد على ميت فَوق ثَلَاث إِلَّا على زوج أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَأَن نكتحل وَأَن نتطيب وَأَن نلبس ثوبا مصبوغا وَيحرم أَيْضا اسْتِعْمَال الطّيب فِي طَعَام(2/471)
وكحل غير محرم قِيَاسا على الْبدن وَضَابِط الطّيب الْمحرم عَلَيْهَا كل مَا حرم على الْمحرم لَكِن يلْزمهَا إِزَالَة الطّيب الْكَائِن مَعهَا حَال الشُّرُوع فِي الْعدة وَلَا فديَة عَلَيْهَا فِي اسْتِعْمَاله
بِخِلَاف الْمحرم فِي ذَلِك وَاسْتثنى اسْتِعْمَالهَا عِنْد الطُّهْر من الْحيض وَكَذَا من النّفاس كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ وَغَيره قَلِيلا من قسط أَو إظفار وهما نَوْعَانِ من البخور وَيحرم عَلَيْهَا دهن شعر رَأسهَا ولحيتها إِن كَانَ لَهَا لحية لما فِيهِ من الزِّينَة واكتحالها بإثمد وَإِن لم يكن فِيهِ طيب لحَدِيث أم عَطِيَّة الْمَار لِأَن فِيهِ جمالا وزينة وَسَوَاء فِي ذَلِك الْبَيْضَاء وَغَيرهَا أما اكتحالها بالأبيض كالتوتياء فَلَا يحرم إِذْ لَا زِينَة فِيهِ
وَأما الْأَصْفَر وَهُوَ الصَّبْر فَيحرم على السَّوْدَاء وَكَذَا على الْبَيْضَاء على الْأَصَح لِأَنَّهُ يحسن الْعين وَيجوز الاكتحال بالإثمد وَالصَّبْر لحَاجَة كرمد فتكتحل لَيْلًا وتمسحه نَهَارا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن لأم سَلمَة فِي الصَّبْر لَيْلًا نعم إِن احْتَاجَت إِلَيْهِ نَهَارا أَيْضا جَازَ وَكَذَا يحرم عَلَيْهَا طلي الْوَجْه بالإسفيذاج والدمام وَهُوَ كَمَا فِي الْمُهِمَّات بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وميمين بَينهمَا ألف مَا يطلى بِهِ الْوَجْه للتحسين الْمُسَمّى بالحمرة الَّتِي يُورد بهَا الخد والاختضاب بحناء وَنَحْوه فيهمَا يظْهر من بدنهَا كالوجه وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَيحرم تطريف أصابعها وتصفيف شعر طرتها وتجعيد صدغيها وحشو حاجبها بالكحل وتدقيقه بالحف
تَنْبِيه قد علم من تَفْسِير الْإِحْدَاد بِمَا ذكر جَوَاز التَّنْظِيف بِغسْل رَأس وقلم أظفار واستحداد ونتف شعر إبط وَإِزَالَة وسخ وَلَو ظَاهرا لِأَن جَمِيع ذَلِك لَيْسَ من الزِّينَة أَي الداعية إِلَى الْوَطْء وَأما إِزَالَة الشّعْر المتضمن زِينَة كأخذ مَا حول الحاجبين وَأَعْلَى الْجَبْهَة فتمتنع مِنْهُ كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر
وَأما إِزَالَة شعر لحية أَو شَارِب نبت لَهَا فتسن إِزَالَته كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم
وَيحل الامتشاط بِلَا ترجيل بدهن وَنَحْوه وَيجوز بسدر وَنَحْوه وَيحل لَهَا أَيْضا دُخُول حمام إِن لم يكن فِيهِ خُرُوج محرم وَلَو تركت المحدة المكلفة الْإِحْدَاد الْوَاجِب عَلَيْهَا كل الْمدَّة أَو بَعْضهَا عَصَتْ إِن علمت حُرْمَة التّرْك وَانْقَضَت عدتهَا مَعَ الْعِصْيَان وَلَو بلغتهَا وَفَاة زَوجهَا أَو طَلَاقه بعد انْقِضَاء الْعدة كَانَت منقضية وَلَا حداد عَلَيْهَا وَلها إحداد على غير زوج ثَلَاثَة أَيَّام فَأَقل وَتحرم الزِّيَادَة عَلَيْهَا بِقصد الْإِحْدَاد
فَلَو تركت ذَلِك بِلَا قصد لم تأثم
وَخرج بِالْمَرْأَةِ الرجل فَلَا يجوز لَهُ الْإِحْدَاد على قَرِيبه ثَلَاثَة أَيَّام لِأَن الْإِحْدَاد إِنَّمَا شرع للنِّسَاء لنَقص عقلهن الْمُقْتَضِي عدم الصَّبْر
القَوْل فِيمَا يجب على الْمُتَوفَّى عَنْهَا والمبتوتة (و) يجب (على الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا) (و) على (المبتوتة) أَي المقطوعة عَن النِّكَاح ببينونة صغرى أَو كبرى إِذْ الْبَتّ الْقطع (مُلَازمَة الْبَيْت) أَي الَّذِي كَانَت فِيهِ عِنْد الْفرْقَة بِمَوْت أَو غَيره وَكَانَ مُسْتَحقّا للزَّوْج لائقا بهَا لقَوْله تَعَالَى {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ}(2/472)
أَي بيُوت أَزوَاجهنَّ وإضافتها إلَيْهِنَّ للسُّكْنَى
{وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} اي قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره الْفَاحِشَة المبينة هِيَ أَن تبذو على أهل زَوجهَا أَي تشتمهم وَلَيْسَ للزَّوْج وَلَا لغيره إخْرَاجهَا وَلَا لَهَا خُرُوج مِنْهُ وَإِن رَضِي بِهِ الزَّوْج إِلَّا لعذر
كَمَا سَيَأْتِي لِأَن فِي الْعدة حَقًا لله تَعَالَى وَالْحق الَّذِي لله تَعَالَى لَا يسْقط بِالتَّرَاضِي وَخرج بِقَيْد المبتوتة الرَّجْعِيَّة فَإِن للزَّوْج إسكانها حَيْثُ شَاءَ فِي مَوضِع يَلِيق بهَا وَهَذَا مَا فِي حاوي الْمَاوَرْدِيّ والمهذب وَغَيرهمَا من كتب الْعِرَاقِيّين لِأَنَّهَا فِي حكم الزَّوْجَة وَبِه جزم النَّوَوِيّ فِي نكته وَالَّذِي فِي النِّهَايَة وَهُوَ مَفْهُوم الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا وَهُوَ مَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة وَغَيره
وَهُوَ كَمَا قَالَ السُّبْكِيّ أولى لإِطْلَاق الْآيَة وَقَالَ الْأَذْرَعِيّ إِنَّه الْمَذْهَب الْمَشْهُور وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِنَّه الصَّوَاب وَلِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ الْخلْوَة بهَا فضلا عَن الِاسْتِمْتَاع فَلَيْسَتْ كَالزَّوْجَةِ ثمَّ اسْتثْنى من وجوب مُلَازمَة الْبَيْت
قَوْله (إِلَّا لحَاجَة) أَي فَيجوز لَهَا الْخُرُوج فِي عدَّة وَفَاة وعدة وَطْء شُبْهَة وَنِكَاح فَاسد وَكَذَا بَائِن ومفسوخ نِكَاحهَا وَضَابِط ذَلِك كل مُعْتَدَّة لَا تجب نَفَقَتهَا وَلم يكن لَهَا من يَقْضِيهَا حَاجَتهَا لَهَا الْخُرُوج فِي النَّهَار لشراء طَعَام وقطن وكتان وَبيع غزل وَنَحْوه للْحَاجة إِلَى ذَلِك أما من وَجَبت نَفَقَتهَا من رَجْعِيَّة أَو بَائِن حَامِل مستبرأة فَلَا تخرج إِلَّا بِإِذن أَو ضَرُورَة كَالزَّوْجَةِ لِأَنَّهُنَّ مكفيات بِنَفَقَة أَزوَاجهنَّ وَكَذَا لَهَا الْخُرُوج لذَلِك لَيْلًا إِن لم يُمكنهَا نَهَارا وَكَذَا إِلَى دَار جارتها لغزل وَحَدِيث وَنَحْوهمَا للتأنس وَلَكِن بِشَرْط أَن ترجع وتبيت فِي بَيتهَا
تَنْبِيه اقْتصر المُصَنّف على الْحَاجة إعلاما بِجَوَازِهِ للضَّرُورَة من بَاب أولى كَأَن خَافت على نَفسهَا تلفا أَو فَاحِشَة أَو خَافت على مَالهَا أَو وَلَدهَا من هدم أَو غرق
فَيجوز لَهَا الِانْتِقَال للضَّرُورَة الداعية إِلَى ذَلِك وَعلم من كَلَامه كَغَيْرِهِ وَتَحْرِيم خُرُوجهَا لغير حَاجَة وَهُوَ كَذَلِك كخروجها لزيارة وعيادة واستنماء مَال تِجَارَة وَنَحْو ذَلِك
تَتِمَّة لَو أَحرمت بِحَجّ أَو قرَان بِإِذن زَوجهَا أَو بِغَيْر إِذن ثمَّ طَلقهَا أَو مَاتَ فَإِن خَافت الْفَوات لضيق الْوَقْت جَازَ لَهَا الْخُرُوج مُعْتَدَّة لتقدم الْإِحْرَام وَإِن لم تخف الْفَوات لسعة الْوَقْت جَازَ لَهَا الْخُرُوج إِلَى ذَلِك أَيْضا لما فِي تعْيين الصَّبْر من مشقة مصابرة الْإِحْرَام وَإِن أَحرمت بعد أَن طَلقهَا أَو مَاتَ بِحَجّ أَو عمْرَة أَو بهما امْتنع عَلَيْهَا الْخُرُوج
سَوَاء أخافت الْفَوات أم لَا فَإِذا انْقَضتْ الْعدة أتمت عمرتها أَو حَجهَا إِن بَقِي وقته وَإِلَّا تحللت بِأَفْعَال عمْرَة ولزمها الْقَضَاء وَدم الْفَوات ويكتري الْحَاكِم من مَال مُطلق لَا مسكن لَهُ مسكنا لمعتدته لتعتد فِيهِ إِن فقد مُتَطَوّع بِهِ فَإِن لم يكن لَهُ مَال اقْترض عَلَيْهِ الْحَاكِم فَإِن أذن لَهَا الْحَاكِم أَن تقترض على زَوجهَا أَو تكتري الْمسكن من مَالهَا جَازَ وَترجع بِهِ فَإِن فعلته بِقصد الرُّجُوع بِلَا إِذن الْحَاكِم نظر
فَإِن قدرت على اسْتِئْذَانه أَو لم تقدر وَلم تشهد لم ترجع وَإِن لم تقدر وأشهدت رجعت(2/473)
فصل فِي أَحْكَام الِاسْتِبْرَاء
هُوَ بِالْمدِّ لُغَة طلب الْبَرَاءَة وَشرعا تربص الْأمة مُدَّة بِسَبَب حُدُوث ملك الْيَمين أَو زَوَاله أَو حُدُوث حل كالمكاتبة والمرتدة لمعْرِفَة بَرَاءَة الرَّحِم أَو للتعبد
وَهَذَا الْفَصْل مقدم فِي بعض النّسخ على الَّذِي قبله وموضعه هُنَا أنسب وَخص هَذَا بِهَذَا الِاسْم لِأَنَّهُ قدر بِأَقَلّ مَا يدل على بَرَاءَة الرَّحِم من غير تكَرر وتعدد وَخص التَّرَبُّص بِسَبَب النِّكَاح باسم الْعدة اشتقاقا من الْعدَد
وَالْأَصْل فِي الْبَاب مَا سَيَأْتِي من الْأَدِلَّة (وَمن استحدث) أَي حدث لَهُ (ملك أمة) وَلَو مِمَّن لَا يُمكن جمَاعه كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وَلَو مستبرأة قبل ملكه بشرَاء أَو إِرْث أَو هبة أَو رد بِعَيْب أَو إِقَالَة أَو تحالف أَو قبُول وَصِيَّة أَو سبي أَو نَحْو ذَلِك (حرم عَلَيْهِ) فِيمَا عدا المسبية (الِاسْتِمْتَاع بهَا) بِكُل نوع من أَنْوَاعه حَتَّى النّظر بِشَهْوَة (حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا) بِمَا سَيَأْتِي لاحْتِمَال حملهَا أما المسبية الَّتِي وَقعت فِي سَهْمه من الْغَنِيمَة فَيحل لَهُ مِنْهَا غير وَطْء من أَنْوَاع الاستمتاعات لمَفْهُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا غير ذَات حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة وقاس الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ المسبية عَلَيْهَا بِجَامِع حُدُوث الْملك
وَأخذ من الْإِطْلَاق فِي المسبية أَنه لَا فرق بَين الْبكر وَغَيرهَا
وألحقت من لم تَحض أَو أَيِست بِمن تحيض فِي اعْتِبَار قدر الْحيض وَالطُّهْر غَالِبا وَهُوَ شهر كَمَا سَيَأْتِي
وَلما روى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنه قَالَ وَقعت فِي سهمي جَارِيَة من سبي جَلُولَاء فَنَظَرت إِلَيْهَا فَإِذا عُنُقهَا مثل إبريق الْفضة فَلم أتمالك أَن قبلتها وَالنَّاس ينظرُونَ وَلم يُنكر أحد عَليّ من الصَّحَابَة(2/474)
وجلولاء بِفَتْح الْجِيم وَالْمدّ قَرْيَة من نواحي فَارس وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا جلولي على غير قِيَاس فتحت يَوْم اليرموك سنة سبع عشرَة من الْهِجْرَة فبلغت غنائمها ثَمَانِيَة عشر ألفا
وَفَارَقت المسبية غَيرهَا بِأَن غايتها أَن تكون مُسْتَوْلدَة حَرْبِيّ وَذَلِكَ لَا يمْنَع الْملك وَإِنَّمَا حرم وَطْؤُهَا صِيَانة لمائه لِئَلَّا يخْتَلط بِمَاء حَرْبِيّ لَا لحُرْمَة مَاء الْحَرْبِيّ ثمَّ (إِن كَانَت) أَي الْأمة الَّتِي يجب استبراؤها
(من ذَوَات الْحيض) فاستبراؤها يحصل (بِحَيْضَة) وَاحِدَة بعد انتقالها إِلَيْهِ
الْجَدِيد للْخَبَر السَّابِق فَلَا يَكْفِي بَقِيَّة الْحَيْضَة الَّتِي وجد السَّبي فِي أَثْنَائِهَا وتنتظر ذَات الْأَقْرَاء الْكَامِلَة إِلَى سنّ الْيَأْس كالمعتدة وَإِنَّمَا لم يكتف بِبَقِيَّة الْحَيْضَة كَمَا اكْتفى بِبَقِيَّة الطُّهْر فِي الْعدة لِأَن بَقِيَّة الطُّهْر تستعقب الْحَيْضَة الدَّالَّة على الْبَرَاءَة وَهَذَا يستعقب الطُّهْر وَلَا دلَالَة لَهُ على الْبَرَاءَة (وَإِن كَانَت من ذَوَات الشُّهُور) لصِغَر أَو يأس فاستبراؤها يحصل (بِشَهْر) فَقَط فَإِنَّهُ كقرء فِي الْحرَّة فَكَذَا فِي الْأمة والمتحيرة تستبرأ بِشَهْر أَيْضا (وَإِن كَانَت من ذَوَات الْحمل) وَلَو من زنا فاستبراؤها يحصل (بِالْوَضْعِ) لعُمُوم الحَدِيث السَّابِق وَلِأَن الْمَقْصُود معرفَة بَرَاءَة الرَّحِم وَهِي حَاصِلَة بذلك
تَنْبِيه لَو مضى زمن اسْتِبْرَاء على أمة بعد الْملك وَقبل الْقَبْض حسب زَمَنه إِن ملكهَا بِإِرْث لِأَن الْملك بذلك مَقْبُوض حكما وَإِن لم يحصل الْقَبْض حسا بِدَلِيل صِحَة بَيْعه وَكَذَا إِن ملكت بشرَاء أَو نَحوه من الْمُعَاوَضَات بعد لُزُومهَا لِأَن الْملك لَازم فَأشبه مَا بعد الْقَبْض أما إِذا جرى الِاسْتِبْرَاء فِي زمن الْخِيَار فَإِنَّهُ لَا يعْتد بِهِ لضعف الْملك وَلَو وهبت لَهُ وَحصل الِاسْتِبْرَاء بعد عقدهَا وَقبل الْقَبْض لم يعْتد بِهِ لتوقف الْملك فِيهَا على الْقَبْض
وَلَو اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو نَحْوهَا كمرتدة فَحَاضَت أَو وجد مِنْهَا مَا يحصل بِهِ الِاسْتِبْرَاء من وضع حمل أَو مُضِيّ شهر لغير ذَوَات الْأَقْرَاء ثمَّ أسلمت بعد انْقِضَاء ذَلِك أَو فِي أَثْنَائِهِ لم يكف هَذَا الِاسْتِبْرَاء فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ لَا يستعقب حل الِاسْتِمْتَاع الَّذِي هُوَ الْقَصْد فِي الِاسْتِبْرَاء
فروع يجب الِاسْتِبْرَاء فِي مُكَاتبَة كِتَابَة صَحِيحَة فسختها بِلَا تعجيز أَو عجزت بتعجيز السَّيِّد لَهَا عِنْد عجزها عَن النُّجُوم لعود ملك التَّمَتُّع بعد زَوَاله فَأشبه مَا لَو بَاعهَا ثمَّ اشْتَرَاهَا أما الْفَاسِدَة فَلَا يجب الِاسْتِبْرَاء فِيهَا كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي بَابه وَكَذَا يجب اسْتِبْرَاء أمة مرتدة عَادَتْ إِلَى الْإِسْلَام لزوَال ملك الِاسْتِمْتَاع ثمَّ أعادته فَأشبه تعجيز الْمُكَاتبَة وَكَذَا لَو ارْتَدَّ السَّيِّد ثمَّ أسلم فَإِنَّهُ يلْزمه الِاسْتِبْرَاء أَيْضا لما ذكر وَلَو زوج السَّيِّد أمته ثمَّ طَلقهَا الزَّوْج قبل الدُّخُول وَجب الِاسْتِبْرَاء لما مر وَإِن طَلقهَا بعد الدُّخُول فاعتدت لم يدْخل الِاسْتِبْرَاء فِي الْعدة بل يلْزمه أَن يَسْتَبْرِئهَا بعد انْقِضَاء عدتهَا
وَلَا يجب اسْتِبْرَاء أمة خلت من حيض ونفاس وَصَوْم(2/475)
واعتكاف وإحرام لِأَن حرمتهَا بذلك لَا تخل بِالْملكِ بِخِلَاف الْكِتَابَة وَالرِّدَّة وَلَو اشْترى زَوجته الْأمة اسْتحبَّ لَهُ استبراؤها ليتميز ولد الْملك عَن ولد النِّكَاح لِأَنَّهُ بِالنِّكَاحِ ينْعَقد الْوَلَد رَقِيقا ثمَّ يعْتق فَلَا يكون كُفؤًا لحرة أَصْلِيَّة وَلَا تصير بِهِ أم ولد وبملك الْيَمين ينعكس الحكم
(وَإِذا مَاتَ سيد أم الْوَلَد) أَو أعْتقهَا وَهِي خَالِيَة من زوج أَو عدَّة (استبرأت نَفسهَا) وجوبا (كالأمة) على حكم التَّفْصِيل الْمُتَقَدّم فِيهَا فَلَو كَانَت فِي نِكَاح أَو عدَّة وَقت موت السَّيِّد أَو عتقه لَهَا لم يلْزمهَا اسْتِبْرَاء على الْمَذْهَب لِأَنَّهَا لَيست فراشا للسَّيِّد بل للزَّوْج فَهِيَ كَغَيْر الْمَوْطُوءَة
وَلِأَن الِاسْتِبْرَاء لحل الِاسْتِمْتَاع وهما مشغولتان بِحَق الزَّوْج وَلَو أعتق مستولدته فَلهُ نِكَاحهَا بِلَا اسْتِبْرَاء فِي الْأَصَح كَمَا يجوز لَهُ أَن ينْكح الْمُعْتَدَّة مِنْهُ لِأَن المَاء لوَاحِد
تَتِمَّة لَو وطىء أمة شريكان فِي حيض أَو طهر ثمَّ باعاها أَو أَرَادَا تَزْوِيجهَا أَو وطىء اثْنَان أمة رجل كل يَظُنهَا أَنَّهَا أمته وَأَرَادَ الرجل تَزْوِيجهَا وَجب استبراءان كالعدتين من شَخْصَيْنِ وَلَو بَاعَ جَارِيَة لم يقر بِوَطْئِهَا فَظهر بهَا حمل وادعاه فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي بِيَمِينِهِ إِنَّه لَا يُعلمهُ مِنْهُ وَثَبت نسب البَائِع على الْأَوْجه من خلاف فِيهِ إِذْ لَا ضَرُورَة على المُشْتَرِي فِي الْمَالِيَّة وَالْقَائِل بِخِلَافِهِ علله بِأَن ثُبُوته يقطع إِرْث المُشْتَرِي بِالْوَلَاءِ
فَإِن أقرّ بِوَطْئِهَا وباعها نظر فَإِن كَانَ ذَلِك بعد أَن استبرائها فَأَتَت بِولد لدوّنَ سِتَّة أشهر من استبرائها مِنْهُ لحقه وَبَطل البيع لثُبُوت أُميَّة الْوَلَد
وَإِن وَلدته لسِتَّة أشهر فَأكْثر فَالْوَلَد مَمْلُوك للْمُشْتَرِي إِن لم يكن وَطئهَا وَإِلَّا فَإِن أمكن كَونه مِنْهُ بِأَن وَلدته لسِتَّة أشهر فَأكْثر من وَطئه لحقه وَصَارَت الْأمة مُسْتَوْلدَة لَهُ وَإِن لم يكن استبرأها قبل البيع فَالْوَلَد لَهُ إِن أمكن كَونه مِنْهُ إِلَّا إِن وَطئهَا المُشْتَرِي وَأمكن كَونه مِنْهُمَا فتعرض على الْقَائِف وَلَو زوج أمته فَطلقت قبل الدُّخُول وأقرت للسَّيِّد بِوَطْئِهَا فَولدت ولدا لزمن يحْتَمل كَونه مِنْهُمَا لحق السَّيِّد عملا بِالظَّاهِرِ وَصَارَت أم ولد للْحكم بلحوق الْوَلَد بِملك الْيَمين
فصل فِي الرَّضَاع
هُوَ بِفَتْح الرَّاء وَيجوز كسرهَا وَإِثْبَات التَّاء مَعَهُمَا لُغَة اسْم لمص الثدي وَشرب لبنه وَشرعا اسْم لحُصُول لبن امْرَأَة أَو مَا(2/476)
حصل مِنْهُ فِي معدة طِفْل أَو دماغه
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيمه قبل الْإِجْمَاع الْآيَة وَالْخَبَر الآتيين وأركانه ثَلَاثَة مرضع ورضيع وَلبن وَقد شرع فِي الرُّكْن الأول فَقَالَ (وَإِذا أرضعت الْمَرْأَة) أَي الْآدَمِيَّة خلية كَانَت أَو مُزَوّجَة الْحَيَّة حَيَاة مُسْتَقِرَّة حَال انْفِصَال لَبنهَا بلغت تسع سِنِين قمرية تَقْرِيبًا وَإِن لم يحكم ببلوغها بذلك
(بلبنها) وَلَو متغيرا عَن هَيْئَة انْفِصَاله عَن الثدي بحموضة أَو غَيرهَا ثمَّ أَشَارَ إِلَى الرُّكْن الثَّانِي بقوله (ولدا صَار الرَّضِيع وَلَدهَا) من الرَّضَاع
القَوْل فِيمَا يخرج بِالْمَرْأَةِ ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا الرجل فَلَا تثبت حُرْمَة بلبنه على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ معدا للتغذية فَلم يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم كَغَيْرِهِ من الْمَائِعَات لَكِن يكره لَهُ ولفرعه نِكَاح من ارتضعت مِنْهُ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم والبويطي
ثَانِيهَا الْخُنْثَى الْمُشكل وَالْمذهب توقفه إِلَى الْبَيَان فَإِن بَانَتْ أنوثته حرم وَإِلَّا فَلَا وَلَو مَاتَ قبله لم يثبت التَّحْرِيم فللرضيع نِكَاح أم الْخُنْثَى وَنَحْوهَا كَمَا نَقله الْأَذْرَعِيّ عَن الْمُتَوَلِي
ثَالِثهَا الْبَهِيمَة فَلَو ارتضع صغيران من شَاة مثلا لم يثبت بَينهمَا أخوة فَتحل مناكحتهما لِأَن الْأُخوة فرع الأمومة فَإِذا لم يثبت الأَصْل لم يثبت الْفَرْع
وَخرج بآدمية وَلَو عبر بهَا بدل الْمَرْأَة كَمَا عبر بِهِ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَكَانَ أولى الجنية إِن تصور إرضاعها بِنَاء على عدم صِحَة مناكحتهم وَهُوَ الرَّاجِح لِأَن الرَّضَاع تلو النّسَب بِدَلِيل يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب وَالله تَعَالَى قطع النّسَب بَين الْجِنّ وَالْإِنْس وَخرج بقوله بالحية لبن الْميتَة فَإِنَّهُ لَا يحرم لِأَنَّهُ من لبن جثة منفكة عَن الْحل وَالْحُرْمَة كالبهيمة خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة
وباستكمال تسع سِنِين تَقْرِيبًا مَا لَو ظهر لصغيرة دون ذَلِك لبن وارتضع بِهِ طِفْل فَلَا يثبت بِهِ تَحْرِيم وَلَو حلب لبن الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة قبل مَوتهَا وأوجر لطفل حرم لانفصاله مِنْهَا فِي الْحَيَاة
ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا يشْتَرط فِي الرَّضِيع بقوله (بِشَرْطَيْنِ) وَترك ثَالِثا ورابعا كَمَا ستراه (أَحدهمَا أَن يكون لَهُ دون السنتين) لخَبر لَا رضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره فَإِن بلغهما وَشرب بعدهمَا لم يحرم ارتضاعه قَالَ فِي الرَّوْضَة وَيعْتَبر الحولان بِالْأَهِلَّةِ فَإِن انْكَسَرَ الشَّهْر الأول تمم الْعدَد ثَلَاثِينَ يَوْمًا من الشَّهْر الْخَامِس وَالْعِشْرين
وَذَلِكَ بقوله تَعَالَى {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة}(2/477)
اي جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَمام الرضَاعَة فِي الْحَوْلَيْنِ فأفهم بِأَن الحكم بعد الْحَوْلَيْنِ بِخِلَافِهِ
تَنْبِيه ابْتِدَاء الْحَوْلَيْنِ من تَمام انْفِصَال الرَّضِيع كَمَا فِي نَظَائِره
فَإِن ارتضع قبل تَمَامه لم يُؤثر وَظَاهر كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى أَنه لَو تمّ الحولان فِي الرضعة الْخَامِسَة حرم وَهُوَ الْمَذْهَب كَمَا فِي التَّهْذِيب وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري
وَإِن كَانَ ظَاهر نَص الْأُم وَغَيره عدم التَّحْرِيم
لِأَن مَا يصل إِلَى الْجوف فِي كل رضعة غير مُقَدّر كَمَا قَالُوا لَو لم يحصل فِي جَوْفه إِلَّا خمس قطرات فِي كل رضعة قَطْرَة حرم
(و) الشَّرْط (الثَّانِي أَن ترْضِعه خمس رَضعَات) لما روى مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا كَانَ فِيمَا أنزل الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات يحرمن فنسخن بِخمْس مَعْلُومَات فَتوفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهن فِيمَا يقْرَأ من الْقُرْآن أَي يتلي حكمهن أَو يقرؤهن من لم يبلغهُ النّسخ وَقيل تَكْفِي رضعة وَاحِدَة وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك رَضِي الله عَنْهُمَا وَالْخمس رَضعَات ضبطهن بِالْعرْفِ إِذْ لَا ضَابِط لَهَا فِي اللُّغَة وَلَا فِي الشَّرْع فَرجع فِيهَا إِلَى الْعرف كالحرز فِي السّرقَة فَمَا قضى بِكَوْنِهِ رضعة أَو رَضعَات اعْتبر وَإِلَّا فَلَا وَلَا خلاف فِي اعْتِبَار كَونهَا (متفرقات) عرفا فَلَو قطع الرَّضِيع الارتضاع بَين كل من الْخمس إعْرَاضًا عَن الثدي تعدد عملا بِالْعرْفِ وَلَو قطعت عَلَيْهِ الْمُرضعَة لشغل وأطالته ثمَّ عَاد تعدد كَمَا فِي أصل الرَّوْضَة لِأَن الرَّضَاع يعْتَبر فِيهِ فعل الْمُرضعَة والرضيع على الِانْفِرَاد بِدَلِيل مَا لَو ارتضع على امْرَأَة نَائِمَة أَو أجرعته لَبَنًا وَهُوَ نَائِم
وَإِذا ثَبت ذَلِك وَجب أَن يعْتد بقطعها كَمَا يعْتد بِقطعِهِ وَلَو قطعه للهو أَو نَحوه كنومة خَفِيفَة أَو تنفس أَو ازدراد مَا جمعه من اللَّبن فِي فَمه وَعَاد فِي الْحَال لم يَتَعَدَّد بل الْكل رضعة وَاحِدَة فَإِن طَال لهوه أَو نَومه فَإِن كَانَ الثدي فِي فَمه فرضعة وَإِلَّا فرضعتان وَلَو تحول الرَّضِيع بِنَفسِهِ أَو بتحويل الْمُرضعَة فِي الْحَال من ثدي إِلَى ثدي أَو قطعته الْمُرضعَة لشغل خَفِيف ثمَّ عَادَتْ لم يَتَعَدَّد حِينَئِذٍ فَإِن لم يتَحَوَّل فِي الْحَال تعدد الْإِرْضَاع وَلَو حلب مِنْهَا لبن دفْعَة وَوصل إِلَى جَوف الرَّضِيع أَو دماغه بإيجار أَو إسعاط أَو غير ذَلِك فِي خمس مَرَّات أَو حلب مِنْهَا خمْسا وأوجر بِهِ الرَّضِيع دفْعَة فرضعة وَاحِدَة فِي الصُّورَتَيْنِ اعْتِبَارا فِي الأولى بِحَال الِانْفِصَال من الثدي وَفِي الثَّانِيَة بِحَالهِ وُصُوله إِلَى جَوْفه دفْعَة وَاحِدَة
وَلَو شكّ فِي رَضِيع هَل رضع خمْسا أَو أقل أَو هَل رضع فِي حَوْلَيْنِ أَو بعدهمَا فَلَا تَحْرِيم لِأَن الأَصْل عدم مَا ذكر وَلَا يخفى الْوَرع وَالشّرط الثَّالِث وُصُول اللَّبن فِي الْخمس إِلَى الْمعدة فَلَو لم يصل إِلَيْهَا فَلَا تَحْرِيم وَلَو وصل إِلَيْهَا وتقايأه ثَبت التَّحْرِيم(2/478)
وَالشّرط الرَّابِع كَون الطِّفْل حَيا كَمَا فِي الرَّوْضَة فَلَا أثر للوصول إِلَى معدة الْمَيِّت
وَاعْلَم أَن الْحُرْمَة تَنْتَشِر من الْمُرضعَة والفحل إِلَى أصولهما وفروعهما وحواشيهما وَمن الرَّضِيع إِلَى فروعه فَقَط إِذا علمت ذَلِك وَوجدت الشُّرُوط الْمَذْكُورَة فَتَصِير الْمُرضعَة بذلك أمه
(وَيصير زَوجهَا) الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ الْوَلَد بِنِكَاح أَو وَطْء شُبْهَة (أَبَا لَهُ) لِأَن الرَّضَاع تَابع للنسب أما من لم ينْسب إِلَيْهِ الْوَلَد كالزاني فَلَا يثبت بِهِ حُرْمَة من جِهَته وتنتشر الْحُرْمَة من الرَّضِيع إِلَى أَوْلَاده فَقَط سَوَاء كَانُوا من النّسَب أم من الرَّضَاع فَلَا تسري الْحُرْمَة إِلَى آبَائِهِ وَإِخْوَته فلأبيه وأخيه نِكَاح الْمُرضعَة وبناتها ولزوج الْمُرضعَة أَن يتَزَوَّج بِأم الطِّفْل وَأُخْته وَيصير آبَاء الْمُرضعَة من نسب أَو رضَاع أجدادا للرضيع لما مر وَأَوْلَادهَا من نسب أَو رضَاع جداته لما مر أَن من الْحُرْمَة تَنْتَشِر إِلَى أُصُولهَا وَتصير أمهاتها من نسب أَو رضَاع جداته لما مر وَأَوْلَادهَا من نسب أَو رضَاع وأخواته لما مر من أَن الْحُرْمَة تَنْتَشِر إِلَى فروعها وَتصير إخوتها وَأَخَوَاتهَا من نسب أَو رضَاع أَخْوَاله وخالاته لما مر من أَن الْحُرْمَة تسري إِلَى حواشيها
وَإِذا علمت ذَلِك فَيمْتَنع عَلَيْهِ أَن يتَزَوَّج بهَا كَمَا يُشِير إِلَى ذَلِك قَوْله (وَيحرم على الْمُرْضع) بِفَتْح الضَّاد اسْم مفعول
(التَّزْوِيج إِلَيْهَا) أَي الْمُرضعَة لِأَنَّهَا أمه من الرضَاعَة فَتحرم عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن
(و) تَنْتَشِر الْحُرْمَة مِنْهَا (إِلَى كل من ناسبها) أَي من انتسبت إِلَيْهِ من الْأُصُول أَو انتسب إِلَيْهِ من الْفُرُوع
تَنْبِيه كَانَ الأولى أَن يَقُول إِلَى كل من تنتمي إِلَيْهِ أَو ينتمي إِلَيْهَا بِنسَب أَو رضَاع لما مر من الضَّابِط (وَيحرم عَلَيْهَا) أَي الْمُرضعَة (التَّزْوِيج إِلَيْهِ) أَي الرَّضِيع لِأَنَّهُ وَلَدهَا وَهَذَا مَعْلُوم
لَكِن ذكره المُصَنّف توضيحا للمبتدىء ليُفِيد أَن الْحُرْمَة المنتشرة مِنْهَا لَيست كالحرمة المنتشرة مِنْهُ فَإِن الْحُرْمَة الَّتِي مِنْهَا منتشرة إِلَى مَا تقدم بَيَانه وَالْحُرْمَة الَّتِي مِنْهُ منتشرة إِلَيْهِ
(و) إِلَى (وَلَده) الذّكر وَإِن سفل من نسب أَو رضَاع لأَنهم أحفادهما (دون من كَانَ فِي دَرَجَته) أَي الرَّضِيع كأخيه فَلَا يحرم عَلَيْهَا تَزْوِيجه لما مر أَن الْحُرْمَة لَا تَنْتَشِر إِلَى حَوَاشِيه
وَعطف المُصَنّف على الْجُمْلَة المنفية قَوْله (أَو أَعلَى) أَي وَدون من كَانَ أَعلَى (طبقَة مِنْهُ) أَي الرَّضِيع كآبائه فَلَا يحرم عَلَيْهَا تَزْوِيج أحد أَبَوَيْهِ لما مر أَن الْحُرْمَة لَا تَنْتَشِر إِلَى آبَائِهِ وَتقدم فِي فصل مُحرمَات النِّكَاح مَا يحرم بِالنّسَبِ وَالرّضَاع فَارْجِع إِلَيْهِ
تَتِمَّة لَو كَانَ لرجل خمس مستولدات أَو لَهُ أَربع نسْوَة دخل بِهن وَأم ولد فرضع طِفْل من كل رضعة وَلَو متواليا صَار ابْنه لِأَن لبن الْجَمِيع مِنْهُ فيحرمن على الطِّفْل لِأَنَّهُنَّ موطوءات أَبِيه وَلَو كَانَ لرجل بدل المستولدات بَنَات أَو أَخَوَات فرضع طِفْل من كل رضعة فَلَا حُرْمَة بَين الرجل والطفل لِأَن الجدودة للْأُم فِي الصُّورَة الأولى والخؤولة فِي الصُّورَة الثَّانِيَة إِنَّمَا يثبتان بتوسط الأمومة وَلَا أمومة هُنَا وَيثبت الرَّضَاع بِشَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو بِأَرْبَع نسْوَة لاخْتِصَاص النِّسَاء بالإطلاع عَلَيْهِ غَالِبا هَذَا إِذا كَانَ الْإِرْضَاع(2/479)
من الثدي أما إِذا كَانَ بالشرب من إِنَاء أَو كَانَ بإيجار فَلَا تقبل فِيهِ شَهَادَة النِّسَاء المتمحضات لِأَنَّهُنَّ لَا اخْتِصَاص لَهُنَّ بالاطلاع عَلَيْهِ
وَأما الْإِقْرَار بالإرضاع فَلَا بُد فِيهِ من رجلَيْنِ لاطلاع الرِّجَال عَلَيْهِ غَالِبا
فصل فِي نَفَقَة الْقَرِيب وَالرَّقِيق والبهائم
وَجَمعهَا المُصَنّف فِي هَذَا الْفَصْل لتناسبها فِي سُقُوط كل مِنْهَا بِمُضِيِّ الزَّمَان وَوُجُوب الْكِفَايَة من غير تَقْدِير
ثمَّ شرع فِي الْقسم الأول وَهُوَ نَفَقَة الْقَرِيب وَالْمرَاد بِهِ الأَصْل وَالْفرع فَقَالَ (وَنَفَقَة الْوَالِدين) من ذُكُور وإناث الْأَحْرَار (و) نَفَقَة (المولودين) كَذَلِك بخفض مَا قبل عَلامَة الْجمع فِيهَا كل مِنْهُمَا (وَاجِبَة) على الْفُرُوع لِلْأُصُولِ وَبِالْعَكْسِ بِشَرْطِهِ الْآتِي
وَالْأَصْل فِي الأول من جِهَة الْأَب وَالأُم قَوْله تَعَالَى {وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} اي وَمن الْمَعْرُوف الْقيام بكفايتهما عِنْد حاجتهما وَخبر أطيب مَا يَأْكُل الرجل من كَسبه وَولده من كَسبه فَكُلُوا من أَمْوَالهم رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
قَالَ ابْن الْمُنْذر وَأَجْمعُوا على أَن نَفَقَة الْوَالِدين اللَّذين لَا كسب لَهما وَلَا مَال وَاجِبَة فِي مَال الْوَلَد والأجداد والجدات ملحقون بهما إِن لم يدخلُوا فِي عُمُوم ذَلِك
كَمَا ألْحقُوا بهما فِي الْعتْق بِالْملكِ وَعدم الْقود ورد الشَّهَادَة وَغَيرهَا
وَفِي الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} اي إِذْ إِيجَاب الْأُجْرَة لإرضاع الْأَوْلَاد يَقْتَضِي إِيجَاب مؤنتهم
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ والأحفاد ملحقون بالأولاد إِن لم يتناولهم إِطْلَاق مَا تقدم وَلَا يضر فِيمَا ذكر اخْتِلَاف الدّين فَيجب على الْمُسلم مِنْهُمَا نَفَقَة الْكَافِر الْمَعْصُوم وَعَكسه لعُمُوم الْأَدِلَّة ولوجود الْمُوجب وَهُوَ البعضية كَالْعِتْقِ ورد الشَّهَادَة
فَإِن قيل هلا كَانَ ذَلِك كالميراث
أُجِيب بِأَن الْمِيرَاث مَبْنِيّ على الناصرة وَهِي مفقودة عِنْد اخْتِلَاف الدّين وَخرج بالأصول وَالْفُرُوع وَغَيرهمَا من سَائِر الْأَقَارِب كالأخ وَالْأُخْت وَالْعم والعمة وبالأحرار الأرقاء فَإِن لم يكن الرَّقِيق مبعضا وَلَا مكَاتبا
فَإِن كَانَ منفقا عَلَيْهِ فَهِيَ على سَيّده وَإِن كَانَ منفقا فَهُوَ أَسْوَأ حَالا من الْمُعسر
والمعسر لَا تجب عَلَيْهِ نَفَقَة قريبَة وَأما الْمبعض فَإِن كَانَ منفقا فَعَلَيهِ نَفَقَة تَامَّة لتَمام ملكه فَهُوَ كحر الْكل وَإِن كَانَ منفقا عَلَيْهِ فتبعض نَفَقَته على الْقَرِيب(2/480)
وَالسَّيِّد بِالنِّسْبَةِ لما فِيهِ من رق وحرية وَأما الْمكَاتب فَإِن كَانَ منفقا عَلَيْهِ فَلَا تلْزم قَرِيبه نَفَقَته لبَقَاء أَحْكَام الرّقّ عَلَيْهِ بل نَفَقَته من كَسبه فَإِن عجز نَفسه فعلى سَيّده
وَإِن كَانَ منفقا فَلَا تجب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للمواساة
وَخرج بالمعصوم غَيره من مُرْتَد وحربي
فَلَا تجب نَفَقَته إِذْ لَا حُرْمَة لَهُ
القَوْل فِي شُرُوط نَفَقَة الْأُصُول ثمَّ ذكر المُصَنّف شرطين آخَرين بقوله (فَأَما الوالدون فَتجب نَفَقَتهم) على الْفُرُوع (بِشَرْطَيْنِ) أَي بِأحد شرطين (الْفقر والزمانة) وَهِي بِفَتْح الزَّاي الِابْتِلَاء والعاهة (أَو الْفقر وَالْجُنُون) لتحَقّق الِاحْتِيَاج حِينَئِذٍ فَلَا تجب للْفُقَرَاء الأصحاء وَلَا للْفُقَرَاء الْعُقَلَاء إِن كَانُوا ذَوي كسب لِأَن الْقُدْرَة بِالْكَسْبِ كالقدرة بِالْمَالِ فَإِن لم يَكُونُوا ذَوي كسب وَجَبت نَفَقَتهم على الْفَرْع
على الْأَظْهر فِي الرَّوْضَة
وزوائد الْمِنْهَاج
لِأَن الْفَرْع مَأْمُور بمعاشرة أَهله بِالْمَعْرُوفِ وَلَيْسَ مِنْهَا تَكْلِيفه الْكسْب مَعَ كبر السن
وكما يجب الإعفاف وَيمْتَنع الْقصاص
ثمَّ ذكر شُرُوطًا زَائِدَة على مَا تقدم فِي المولودين بقوله (وَأما المولودون فَتجب نَفَقَتهم) على الْأُصُول
(بِثَلَاثَة شَرَائِط) أَي بِوَاحِد مِنْهَا
(الْفقر والصغر) لعجزهم
(أَو الْفقر والزمانة أَو الْفقر وَالْجُنُون) لتحَقّق احتياجهم فَلَا تجب للبالغين إِن كَانُوا ذَوي كسب قطعا وَكَذَا إِن لم يَكُونُوا على الْمَذْهَب وَسَوَاء فِيهِ الابْن وَالْبِنْت كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه لم يتَعَرَّض المُصَنّف لاشْتِرَاط الْيَسَار فِيمَن تجب عَلَيْهِ مِنْهُمَا لوضوحه وَالْمُعْتَبر فِي نَفَقَة الْقَرِيب الْكِفَايَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خذي مَا يَكْفِيك وَيَكْفِي وولدك بِالْمَعْرُوفِ وَلِأَنَّهَا تجب على سَبِيل الْمُوَاسَاة لدفع الْحَاجة الناجزة
وَيعْتَبر حَاله فِي سنه وزهادته ورغبته وَيجب إشباعه كَمَا صرح بِهِ ابْن يُونُس
وَيجب لَهُ الْأدم كَمَا يجب لَهُ الْقُوت وَيجب لَهُ مُؤنَة خَادِم إِن احتاجه مَعَ كسْوَة وسكنى لائقين بِهِ
وَأُجْرَة طَبِيب وَثمن أدوية وَالنَّفقَة وَمَا ذكر مَعهَا إمتاع تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَإِن تعدى الْمُنفق بِالْمَنْعِ
لِأَنَّهَا وَجَبت لدفع الْحَاجة الناجزة وَقد زَالَت بِخِلَاف نَفَقَة الزَّوْجَة فَإِنَّهَا مُعَاوضَة
وَحَيْثُ قُلْنَا بسقوطها لَا تصير دينا فِي ذمَّته إِلَّا باقتراض قَاض بِنَفسِهِ أَو مأذونه لغيبة أَو منع أَو نَحْو ذَلِك
كَمَا لَو نفى الْأَب الْوَلَد فأنفقت عَلَيْهِ أمه ثمَّ اسْتَلْحقهُ فَإِن الْأُم ترجع عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ
وَكَذَا لَو لم يكن هُنَاكَ حَاكم واستقرضت الْأُم على الْأَب وأشهدت فَعَلَيهِ قَضَاء مَا استقرضته أما إِذا لم تشهد فَلَا رُجُوع لَهَا وَنَفَقَة الْحَامِل لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَإِن جعلنَا النَّفَقَة للْحَمْل لِأَن الزَّوْجَة لما كَانَت هِيَ الَّتِي تنْتَفع بهَا فَكَانَت كنفقتها وللقريب أَخذ نَفَقَته من مَال قَرِيبه عِنْد امْتِنَاعه إِن وجد جِنْسهَا
وَكَذَا إِن لم يجده فِي الْأَصَح وَله الاستقراض إِن لم يجد لَهُ مَالا وَعجز عَن القَاضِي وَيرجع إِن أشهد كجد الطِّفْل الْمُحْتَاج وَأَبوهُ غَائِب مثلا وَللْأَب وَالْجد أَخذ النَّفَقَة من مَال فرعهما الصَّغِير أَو الْمَجْنُون بِحكم الْولَايَة وَلَهُمَا إيجاره لَهَا لما يطيقه من الْأَعْمَال وَلَا تأخذها الْأُم من مَاله إِذا وَجَبت نَفَقَتهَا عَلَيْهِ وَلَا الابْن من مَال أَصله الْمَجْنُون فيولي القَاضِي الابْن(2/481)
الزَّمن إِجَارَة أَبِيه الْمَجْنُون إِذا صلح لصنعة لنفقته وَيجب على الْأُم إِرْضَاع وَلَدهَا اللبأ
وَهُوَ بهمز وَقصر اللَّبن النَّازِل أول الْولادَة لِأَن الْوَلَد لَا يعِيش بِدُونِهِ غَالِبا أَو أَنه لَا يقوى وَلَا تشتد بنيته إِلَّا بِهِ
ثمَّ بعد إرضاعه للبأ
إِن لم يُوجد إِلَّا الْأُم أَو أَجْنَبِيَّة وَجب على الْمَوْجُود مِنْهُمَا إرضاعه إبْقَاء للْوَلَد وَلها طلب الْأُجْرَة من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال وَإِلَّا فَمن تلْزمهُ نَفَقَته وَإِن وجدت الْأُم والأجنبية لم تجبر الْأُم وَإِن كَانَت فِي نِكَاح أَبِيه على إرضاعه
لقَوْله تَعَالَى {وَإِن تعاسرتم فسترضع لَهُ أُخْرَى} اي وَإِذا امْتنعت حصل التعاسر فَإِن رغبت فِي إرضاعه وَهِي مَنْكُوحَة أبي الرَّضِيع فَلَيْسَ لَهُ منعهَا مَعَ وجود غَيرهَا كَمَا صَححهُ الْأَكْثَرُونَ لِأَن فِيهِ إِضْرَارًا بِالْوَلَدِ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أشْفق ولبنها لَهُ أصلح وَلَا تزاد نَفَقَتهَا للإرضاع وَإِن احْتَاجَت فِيهِ إِلَى زِيَادَة الْغذَاء لِأَن قدر النَّفَقَة لَا يخْتَلف بِحَال الْمَرْأَة وحاجتها
القَوْل فِي نَفَقَة الرَّقِيق والبهائم ثمَّ شرع فِي الْقسمَيْنِ الآخرين
وهما نَفَقَة الرَّقِيق والبهائم بقوله (وَنَفَقَة الرَّقِيق والبهائم وَاجِبَة) بِقدر الْكِفَايَة أما الرَّقِيق فلخبر للمملوك طَعَامه وَكسوته وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق فيكفيه طَعَاما وأدما وَتعْتَبر كِفَايَته فِي نَفسه زهادة ورغبة وَإِن زَادَت على كِفَايَة مثله غَالِبا وَعَلِيهِ كِفَايَته كسْوَة وَكَذَا سَائِر مؤنه وَيجب على السَّيِّد شِرَاء مَاء طَهَارَته إِن احْتَاجَ إِلَيْهِ
وَكَذَا شِرَاء تُرَاب تيَمّمه إِن احْتَاجَ وَنَصّ فِي الْمُخْتَصر على وجوب إشباعه
وَإِن كَانَ رَقِيقه كسوبا أَو مُسْتَحقّا مَنَافِعه بِوَصِيَّة أَو غَيرهَا أَو أعمى زَمنا أَو مُدبرا أَو مُسْتَوْلدَة أَو مُسْتَأْجرًا أَو معارا أَو آبقا لبَقَاء الْملك فِي الْجَمِيع
ولعموم لخَبر السَّابِق نعم الْمكَاتب وَلَو فَاسد الْكِتَابَة لَا يجب لَهُ شَيْء من ذَلِك على سَيّده
لاستقلاله بِالْكَسْبِ وَلِهَذَا تلْزمهُ نَفَقَة أرقائه نعم إِن عجز نَفسه وَلم يفْسخ السَّيِّد الْكِتَابَة فَعَلَيهِ نَفَقَته وَهِي مَسْأَلَة عزيزة النَّقْل فاستفدها وَكَذَا الْأمة الْمُزَوجَة حَيْثُ أَوجَبْنَا نَفَقَتهَا على الزَّوْج
وَلَا يجب على الْمَالِك الْكِفَايَة الْمَذْكُورَة من جنس طَعَامه وَكسوته بل من غَالب قوت رَقِيق الْبَلَد من قَمح وشعير وَنَحْو ذَلِك
وَمن غَالب أدمهم من نَحْو زَيْت وَسمن وَمن غَالب كسوتهم من نَحْو قطن وصوف لخَبر الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ للمملوك نَفَقَته وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ قَالَ وَالْمَعْرُوف عندنَا الْمَعْرُوف لمثله بِبَلَدِهِ ويراعى حَال السَّيِّد فِي يسَاره وإعساره وَينْفق عَلَيْهِ الشريكان بِقدر مليكهما وَلَا يَكْفِي ستر الْعَوْرَة لرقيقه وَإِن لم يتأذ بَحر وَلَا برد لما فِيهِ من الإذلال والتحقير هَذَا ببلادنا
كَمَا قَالَه الْغَزالِيّ وَغَيره وَأما بِبِلَاد السودَان وَنَحْوهَا فَلهُ ذَلِك كَمَا فِي الْمطلب وَتسقط نَفَقَة الرَّقِيق بِمُضِيِّ الزَّمَان فَلَا تصير دينا عَلَيْهِ إِلَّا باقتراض القَاضِي أَو إِذْنه فِيهِ واقتراض كَنَفَقَة الْقَرِيب بِجَامِع وجوبهما بالكفاية وَيبِيع القَاضِي فِيهَا مَا لَهُ إِن امْتنع أَو غَابَ لِأَنَّهُ حق وَاجِب عَلَيْهِ
فَإِن فقد المَال أمره القَاضِي بِبيعِهِ أَو إِجَارَته أَو إِعْتَاقه دفعا للضَّرَر فَإِن لم يفعل أجره القَاضِي فَإِن لم يَتَيَسَّر إِجَارَته بَاعه فَإِن لم يشتره أحد أنْفق عَلَيْهِ من بَيت المَال
وَأما غير الرَّقِيق من الْبَهَائِم جمع بَهِيمَة سميت بذلك لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم وَهِي كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ كل ذَات أَربع من دَوَاب الْبر وَالْبَحْر اه
وَفِي مَعْنَاهَا كل حَيَوَان مُحْتَرم فَيجب عَلَيْهِ عَلفهَا وسقيها لحُرْمَة الرّوح
وَلخَبَر الصَّحِيحَيْنِ دخلت امْرَأَة النَّار فِي هرة حبستها لَا هِيَ أطعمتها وَلَا هِيَ أرسلتها تَأْكُل من خشَاش لأرض بِفَتْح الْخَاء وَكسرهَا أَي هوامها وَالْمرَاد بكفاية الدَّوَابّ وصولها لأوّل الشِّبَع والري دون غايتهما وَخرج بالمحترم غَيره كالفواسق الْخمس
فَلَا يلْزمه عَلفهَا بل يخليها وَلَا يجوز لَهُ حَبسهَا لتَمُوت جوعا لخَبر إِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة فَإِن امْتنع الْمَالِك مِمَّا ذكر وَله مَال أجْبرهُ الْحَاكِم فِي الْحَيَوَان الْمَأْكُول على أحد ثَلَاثَة أُمُور بيع لَهُ أَو نَحوه
مِمَّا يَزُول ضَرَره بِهِ
أَو علف أَو ذبح وأجبر فِي غَيره على أحد أَمريْن بيع أَو علف وَيحرم ذبحه للنَّهْي عَن ذبح الْحَيَوَان إِلَّا لأكله فَإِن لم يفعل مَا أمره الْحَاكِم بِهِ نَاب عَنهُ فِي ذَلِك على مَا يرَاهُ ويقتضيه الْحَال فَإِن لم يكن لَهُ مَال بَاعَ الْحَاكِم الدَّابَّة أَو جُزْءا مِنْهَا أَو إِكْرَاها عَلَيْهِ فَإِن تعذر ذَلِك فعلى بَيت المَال كفايتها(2/482)
(وَلَا يكلفون) أَي لَا يجوز لمَالِك الرَّقِيق والبهائم أَن يكلفهم
(من الْعَمَل مَا لَا يُطِيقُونَ) الدَّوَام عَلَيْهِ لوُرُود النَّهْي عَنهُ فِي الرَّقِيق فِي صَحِيح مُسلم وَهُوَ للتَّحْرِيم وَقيس عَلَيْهِ الْبَهَائِم بِجَامِع حُصُول الضَّرَر
قَالَ فِي الرَّوْضَة لَا يجوز للسَّيِّد تَكْلِيف رَقِيقه من الْعَمَل إِلَّا مَا يُطيق الدَّوَام عَلَيْهِ
فَلَا يجوز أَن يكلفه عملا يقدر عَلَيْهِ يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ ثمَّ يعجز عَنهُ
وَقَالَ أَيْضا يحرم عَلَيْهِ تَكْلِيفه الدَّابَّة مَا لَا تُطِيقهُ من ثقيل الْحمل أَو إدامة السّير أَو غَيرهم وَقَالَ فِي الزَّوَائِد يحرم تحميلها مَا لَا تطِيق الدَّوَام عَلَيْهِ يَوْمًا أَو نَحوه كَمَا سبق فِي الرَّقِيق
تَتِمَّة لَا يحلب الْمَالِك من لبن دَابَّته مَا يضر وَلَدهَا لِأَنَّهُ غذاؤه كَوَلَد الْأمة وَإِنَّمَا يحلب مَا فضل عَن ري وَلَدهَا وَله أَن يعدل بِهِ إِلَى لبن غير أمه إِن استمرأه وَإِلَّا فَهُوَ أَحَق بِلَبن أمه وَلَا يجوز الْحَلب إِذا كَانَ يضر بالبهيمة لقلَّة عَلفهَا وَلَا ترك الْحَلب أَيْضا إِذا كَانَ يَضرهَا فَإِن لم يَضرهَا كره للإضاعة وَيسن أَن لَا يستقصى الحالب فِي الْحَلب بل يدع فِي الضَّرع شَيْئا وَأَن يقص أَظْفَاره لِئَلَّا يؤذيها وَيحرم جز الصُّوف من أصل الظّهْر وَنَحْوه وَكَذَا حلقه لما فيهمَا من تَعْذِيب الْحَيَوَان قَالَه الْجُوَيْنِيّ وَيجب على مَالك النَّحْل أَن يبقي لَهُ شَيْئا من الْعَسَل فِي الكوارة بِقدر حَاجته إِن لم يكفه غَيره
وَإِلَّا فَلَا يجب عَلَيْهِ ذَلِك قَالَ الرَّافِعِيّ وَقد قيل يشوي لَهُ دجَاجَة ويعلقها بِبَاب الكوارة فيأكل مِنْهَا وعَلى مَالك دود القز علفه بورق توت أَو تخليته كُله لِئَلَّا يهْلك بِغَيْر فَائِدَة وَيُبَاع فِيهِ مَاله كالبهيمة وَيجوز تجفيفه بالشمس عِنْد حُصُول نواله
وَإِن أهلكه لحُصُول فَائِدَته كذبح الْحَيَوَان الْمَأْكُول وَخرج بِمَا فِيهِ روح مَا لَا روح فِيهِ كقناة وَدَار لَا يجب على الْمَالِك عمارتهما فَإِن ذَلِك تنمية لِلْمَالِ وَلَا يجب على الْإِنْسَان ذَلِك وَلَا يكره تَركهَا إِلَّا إِذا أدّى إِلَى الخراب فَيكْرَه لَهُ
فصل فِي النَّفَقَة
وَالنَّفقَة على قسمَيْنِ نَفَقَة تجب للْإنْسَان على نَفسه
إِذا قدر عَلَيْهَا وَعَلِيهِ أَن يقدمهَا على نَفَقَة غَيره لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول وَنَفَقَة تجب على الْإِنْسَان لغيره
قَالَ الشَّيْخَانِ وَأَسْبَاب وُجُوبهَا ثَلَاثَة النِّكَاح والقرابة وَالْملك وَأورد على الْحصْر فِي هَذِه الثَّلَاثَة صور مِنْهَا الْهَدْي وَالْأُضْحِيَّة المنذوران فَإِن نفقتهما على النَّاذِر وَالْمهْدِي مَعَ انْتِقَال الْملك فيهمَا للْفُقَرَاء وَمِنْهَا نصيب الْفُقَرَاء بعد الْحول وَقبل الْإِمْكَان تجب نَفَقَته على الْمَالِك وَقدم المُصَنّف الْقسمَيْنِ الْأَخيرينِ
ثمَّ شرع فِي الْقسم الأول بقوله (وَنَفَقَة الزَّوْجَة الممكنة من نَفسهَا وَاجِبَة) بالتمكين التَّام لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ}(2/483)
وَخبر اتَّقوا الله فِي النِّسَاء فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله ولهن عَلَيْكُم رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ
رَوَاهُ مُسلم وَلِأَنَّهَا سلمت مَا ملك عَلَيْهَا فَيجب مَا يُقَابله من الْأُجْرَة لَهَا وَالْمرَاد بِالْوُجُوب اسْتِحْقَاقهَا يَوْمًا بِيَوْم كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَلَو حصل التَّمْكِين فِي أثْنَاء الْيَوْم فَالظَّاهِر وُجُوبهَا بِالْقِسْطِ وَهل التَّمْكِين سَبَب أَو شَرط فِيهِ وَجْهَان أوجههمَا الثَّانِي فَلَا تجب بِالْعقدِ
لِأَنَّهُ يُوجب الْمهْر وَهُوَ لَا يُوجب عوضين مُخْتَلفين وَلِأَنَّهَا مَجْهُولَة وَالْعقد لَا يُوجب مَالا مَجْهُولا وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَهِي بنت سِتّ سِنِين وَدخل بهَا بعد سنتَيْن وَلم ينْقل أَنه أنْفق عَلَيْهَا قبل الدُّخُول وَلَو كَانَ حَقًا لَهَا لساقه إِلَيْهَا وَلَو وَقع لنقل فَإِن لم تعرض عَلَيْهِ زَوجته مُدَّة مَعَ سكُوتهَا عَن طلبَهَا وَلم تمْتَنع فَلَا نَفَقَة لَهَا لعدم التَّمْكِين وَلَو عرضت عَلَيْهِ وَهِي بَالِغَة عَاقِلَة مَعَ حُضُوره فِي بَلَدهَا كَأَن بعثت إِلَيْهِ تخبره إِنِّي مسلمة نَفسِي إِلَيْك فاختر أَن آتِيك حَيْثُ شِئْت أَو تَأتي إِلَيّ وَجَبت نَفَقَتهَا من حِين بُلُوغ الْخَبَر لَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مقصر فَإِن غَابَ عَن بَلَدهَا قبل عرضهَا عَلَيْهِ وَرفعت الْأَمر إِلَى الْحَاكِم مظهرة لَهُ التَّسْلِيم كتب الْحَاكِم لحَاكم بلد الزَّوْج يُعلمهُ بِالْحَال فَيَجِيء أَو يُوكل فَإِن لم يفعل شَيْئا من الْأَمريْنِ وَمضى زمن إِمْكَان وُصُوله فَرضهَا القَاضِي فِي مَاله من حِين إِمْكَان وُصُوله
وَالْعبْرَة فِي زَوْجَة مَجْنُونَة ومراهقة عرض وليهما على أزواجهما لِأَن الْوَلِيّ هُوَ الْمُخَاطب بذلك وَلَو اخْتلف الزَّوْجَانِ فِي التَّمْكِين فَقَالَت مكنت فِي وَقت كَذَا فَأنْكر وَلَا بَينه صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عَدمه
(وَهِي) أَي نَفَقَة الزَّوْجَة (مقدرَة) على الزَّوْج بِحَسب حَاله ثمَّ (إِن كَانَ الزَّوْج) حرا (مُوسِرًا فمدان) عَلَيْهِ لزوجته وَلَو أمة وكتابية من الْحبّ
(من غَالب قوتها) أَي غَالب قوت بَلَدهَا من حِنْطَة أَو شعير أَو تمر أَو غَيرهَا
المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُور بهَا قِيَاسا على الْفطْرَة وَالْكَفَّارَة فالتعبير بِالْبَلَدِ جري على الْغَالِب
(وَيجب) لَهَا مَعَ ذَلِك (من الْأدم) مَا جرت بِهِ الْعَادة من أَدَم غَالب الْبَلَد كزيت وشيرج وَسمن وزبد وتمر وخل لقَوْله تَعَالَى {وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} حَتَّى يجب الأقط فِي حق أهل(2/484)
الْبَوَادِي والقرى الَّذين يعتادونه لِأَنَّهُ من وَلَيْسَ من المعاشرة تكليفها الصَّبْر على الْخبز وَحده إِذْ الطَّعَام غَالِبا لَا يساغ إِلَّا بِالْأدمِ وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم} اي الْخبز وَالزَّيْت وَقَالَ ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا الْخبز وَالسمن وَيخْتَلف قدر الْأدم بالفصول الْأَرْبَعَة فَيجب لَهَا فِي كل فصل
مَا يعتاده النَّاس من الْأدم قَالَ الشَّيْخَانِ وَقد تغلب الْفَاكِهَة فِي أَوْقَاتهَا فَتجب وَيقدر الْأدم عِنْد تنَازع الزَّوْجَيْنِ فِيهَا قَاض بِاجْتِهَادِهِ إِذْ لَا تَوْقِيف فِيهِ من جِهَة الشَّرْع ويفاوت فِي قدره بَين مُوسر وَغَيره فَينْظر فِي جنس الْأدم
وَمَا يحتاح إِلَيْهِ الْمَدّ فيفرضه على الْمُعسر ويضاعفه للموسر ويوسطه فيهمَا للمتوسط
وَيجب لَهَا عَلَيْهِ لحم يَلِيق بيساره وتوسطه وإعساره كعادة الْبَلَد وَلَو كَانَت عَادَتهَا أَن تَأْكُل الْخبز وَحده وَجب لَهَا عَلَيْهِ الْأدم وَلَا نظر لعادتها لِأَنَّهُ حَقّهَا
القَوْل فِي أصل تَقْدِير النَّفَقَة (و) يجب لَهَا عَلَيْهِ من (الْكسْوَة) لفصلي الشتَاء والصيف (مَا جرت بِهِ الْعَادة) لقَوْله تَعَالَى {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} وَلما روى التِّرْمِذِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَدِيث وحقهن عَلَيْكُم أَن تحسنوا إلَيْهِنَّ فِي كسوتهن وطعامهن وَلَا بُد أَن تكون الْكسْوَة تكفيها للْإِجْمَاع على أَنه لَا يَكْفِي مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وتختلف كفايتها بِطُولِهَا وقصرها وسمنها وهزالها وباختلاف الْبِلَاد فِي الْحر وَالْبرد وَلَا يخْتَلف عدد الْكسْوَة باخْتلَاف يسَار الزَّوْج وإعساره ولكنهما يؤثران فِي الْجَوْدَة والرداءة وَلَا فرق بَين البدوية والحضرية وَيجب لَهَا عَلَيْهِ فِي كل سِتَّة أشهر قَمِيص وَسَرَاويل وخمار ومكعب
وَيزِيد الزَّوْج زَوجته على ذَلِك فِي الشتَاء جُبَّة محشوة قطنا أَو فَرْوَة بِحَسب الْعَادة لدفع الْبرد وَيجب لَهَا أَيْضا تَوَابِع ذَلِك من كوفية للرأس وتكة للباس وزر الْقَمِيص والجبة وَنَحْوهمَا وجنس الْكسْوَة من قطن لِأَنَّهُ لِبَاس أهل الدّين وَمَا زَاد عَلَيْهِ ترفه ورعونة
فَإِن جرت عَادَة الْبَلَد لمثل الزَّوْج بكتان أَو حَرِير وَجب مَعَ وجوب التَّفَاوُت فِي مَرَاتِب ذَلِك الْجِنْس بَين الْمُوسر وَغَيره عملا بِالْعَادَةِ وَيجب لَهَا عَلَيْهِ مَا تقعد عَلَيْهِ كزلية أَو لبد فِي الشتَاء أَو حَصِير فِي الصَّيف وَهَذَا لزوجة الْمُعسر
أما زَوْجَة الْمُوسر فَيجب لَهَا نطع فِي الصَّيف وطنفسة فِي الشتَاء وَهِي بِسَاط صَغِير ثخين لَهُ وبرة كَبِيرَة وَيجب لَهَا عَلَيْهِ فرَاش للنوم غير مَا تفرشه نَهَارا للْعَادَة الْغَالِبَة وَيجب لَهَا عَلَيْهِ مخدة ولحاف أَو كسَاء فِي الشتَاء فِي بلد بَارِد وَمِلْحَفَة بدل اللحاف أَو الكساء فِي الصَّيف
(وَإِن كَانَ) الزَّوْج (مُعسرا فَمد) وَاحِد (من غَالب) قوت محلهَا كَمَا مر
على مَا مر بَيَانه
(وَإِن كَانَ) الزَّوْج حرا (متوسطا) بَين الْيَسَار والإعسار (فَمد وَنصف) أَي وَنصف مد من غَالب قوت محلهَا كَمَا مر (و) يجب لَهَا عَلَيْهِ مَعَ ذَلِك (من الْأدم) قدرا وجنسا على مَا مر بَيَانه (و) من (الْكسْوَة الْوسط) فِي كل مِنْهُمَا على مَا مر بَيَانه وَاحْتَجُّوا لأصل التَّفَاوُت بقوله تَعَالَى {لينفق} (و) يجب لَهَا مَعَ ذَلِك (مَا يتأدم بِهِ المعسرون(2/485)
ويكسونه) قدرا وجنسا {ذُو سَعَة من سعته} وَاعْتبر الْأَصْحَاب النَّفَقَة بِالْكَفَّارَةِ بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا مَال يجب بِالشَّرْعِ ويستقر فِي الذِّمَّة وَأكْثر مَا وَجب فِي الْكَفَّارَة لكل مِسْكين مدان وَذَلِكَ فِي كَفَّارَة الْأَذَى فِي الْحَج وَأَقل مَا وَجب لَهُ مد فِي نَحْو كَفَّارَة الظِّهَار فأوجبوا على الْمُوسر الْأَكْثَر وَهُوَ مدان لِأَنَّهُ قدر الْمُوسر وعَلى الْمُعسر الْأَقَل وَهُوَ مد لِأَن الْمَدّ الْوَاحِد يَكْتَفِي بِهِ الزهيد ويقتنع بِهِ الرغيب وعَلى الْمُتَوَسّط مَا بَينهمَا لِأَنَّهُ لَو ألزم الْمَدِين لضره وَلَو اكْتفى مِنْهُ بِمد لضرها فَلَزِمَهُ مد وَنصف
والمعسر هُنَا مِسْكين الزَّكَاة لَكِن قدرته على الْكسْب لَا تخرجه عَن الْإِعْسَار فِي النَّفَقَة وَإِن كَانَت تخرجه عَن اسْتِحْقَاق سهم الْمَسَاكِين فِي الزَّكَاة وَمن فَوق الْمِسْكِين إِن كَانَ لَو كلف إِنْفَاق مَدين رَجَعَ مِسْكينا فمتوسط وَإِن لم يرجع مِسْكينا فموسر
وَيخْتَلف ذَلِك بالرخص والغلاء وَقلة الْعِيَال وكثرتهم أما من فِيهِ رق وَلَو مكَاتبا ومبعضا وَإِن كثر مَاله فمعسر لضعف ملك الْمكَاتب وَنقص حَال الْمبعض وَعدم ملك غَيرهمَا
وَلَو اخْتلف قوت الْبَلَد وَلَا غَالب فِيهِ أَو اخْتلف الْغَالِب وَجب لَائِق بِالزَّوْجِ لَا بهَا فَلَو كَانَ يَأْكُل فَوق اللَّائِق بِهِ تكلفا لم يُكَلف ذَلِك أَو دونه بخلا أَو زهدا وَجب اللَّائِق بِهِ
وَيعْتَبر الْيَسَار وَغَيره من توَسط وإعسار بِطُلُوع الْفجْر فِي كل يَوْم اعْتِبَارا بِوَقْت الْوُجُوب حَتَّى لَو أيسر بعده أَو أعْسر لم يتَغَيَّر حكم نَفَقَة ذَلِك الْيَوْم هَذَا إِذا كَانَت مُمكنَة حِين طُلُوع الْفجْر أما الممكنة بعده فَيعْتَبر الْحَال عقب تمكينها وَعَلِيهِ تمليكها الطَّعَام حبا سليما وَعَلِيهِ مُؤنَة طحنه وعجنه وخبزه ببذل مَال أَو يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ أَو بِغَيْرِهِ فَإِن غلب غير الْحبّ كتمر وَلحم وأقط فَهُوَ الْوَاجِب لَيْسَ غير لَكِن عَلَيْهِ مُؤنَة اللَّحْم وَمَا يطْبخ بِهِ كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَلَو طلب أَحدهمَا بدل الْحبّ خبْزًا أَو قِيمَته لم يجْبر الْمُمْتَنع مِنْهُمَا لِأَنَّهُ غير الْوَاجِب فَإِن اعتاضت عَمَّا وَجب لَهَا نَقْدا أَو غَيره من الْعرُوض جَازَ إِلَّا خبْزًا ودقيقا أَو نَحْوهمَا من الْجِنْس
فَلَا يجوز لما فِيهِ من الرِّبَا
وَلَو أكلت مَعَ الزَّوْج على الْعَادة سَقَطت نَفَقَتهَا على الْأَصَح لجَرَيَان الْعَادة بِهِ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعده من غير نزاع وَلَا إِنْكَار وَلم ينْقل أَن امْرَأَة طالبت بِنَفَقَة بعده إِلَّا أَن تكون الزَّوْجَة غير رَشِيدَة كصغيرة أَو سَفِيهَة بَالِغَة وَلم يَأْذَن فِي أكلهَا مَعَه وَليهَا فَلَا تسْقط نَفَقَتهَا بأكلها مَعَه وَيكون الزَّوْج مُتَطَوعا وَيجب للزَّوْجَة على زَوجهَا آلَة تنظيف من الأوساخ الَّتِي تؤذيها وَذَلِكَ كمشط ودهن يسْتَعْمل فِي ترجيل شعرهَا
وَمَا يغسل بِهِ الرَّأْس من سدر أَو خطمي على حسب الْعَادة ومرتك وَنَحْوه لدفع صنان إِذا لم ينْدَفع بِدُونِهِ كَمَاء وتراب وَلَا يجب لَهَا عَلَيْهِ كحل وَلَا طيب وَلَا خضاب وَلَا مَا تتزين بِهِ
فَإِن هيأه لَهَا وَجب عَلَيْهَا اسْتِعْمَاله وَلَا يجب لَهَا عَلَيْهِ دَوَاء مرض وَلَا أجره طَبِيب وحاجم وَنَحْو ذَلِك كفاصد وخاتن لِأَن ذَلِك لحفظ الأَصْل وَيجب لَهَا طَعَام أَيَّام الْمَرَض وأدمها لِأَنَّهَا محبوسة عَلَيْهِ وَلها صرفه فِي الدَّوَاء وَنَحْوه
وَيجب لَهَا أُجْرَة حمام بِحَسب الْعَادة إِن كَانَ عَادَتهَا دُخُوله للْحَاجة إِلَيْهِ عملا بِالْعرْفِ وَذَلِكَ فِي كل شهر مرّة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
لتخرج من دنس الْحيض الَّذِي يكون فِي كل شهر مرّة غَالِبا وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيّ أَن ينظر فِي ذَلِك لعادة مثلهَا(2/486)
وَيخْتَلف باخْتلَاف الْبِلَاد حرا وبردا
وَيجب لَهَا ثمن مَاء غسل جماع ونفاس من الزَّوْج إِن احْتَاجَت لشرائه لَا مَاء غسل من حيض واحتلام إِذْ لَا صنع مِنْهُ وَيجب لَهَا آلَات أكل وَشرب وآلات طبخ كَقدْر وقصعة وكوز وجرة وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا غنى لَهَا عَنهُ كمغرفة وَمَا تغسل فِيهِ ثِيَابهَا
وَيجب لَهَا عَلَيْهِ تهيئة مسكن لِأَن الْمُطلقَة يجب لَهَا ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم} فالزوجة أولى وَلَا بُد أَن يكون الْمسكن يَلِيق بهَا عَادَة لِأَنَّهَا لَا تملك الِانْتِقَال مِنْهُ وَلَا يشْتَرط فِي الْمسكن كَونه ملكه
(وَإِن كَانَت) تِلْكَ الزَّوْجَة (مِمَّن يخْدم مثلهَا) بِأَن كَانَت مِمَّن تخْدم فِي بَيت أَبِيهَا لكَونهَا لَا يَلِيق بهَا خدمَة نَفسهَا (فَعَلَيهِ إخدامها) لِأَنَّهُ من المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ إِمَّا بحرة أَو أمة لَهُ أَو لَهَا
أَو مستأجرة أَو بِالْإِنْفَاقِ على من صحبتهَا من حرَّة أَو أمة لخدمة لحُصُول الْمَقْصُود بِجَمِيعِ ذَلِك
وَسَوَاء فِي وجوب الإخدام مُوسر ومتوسط ومعسر ومكاتب وَعبد كَسَائِر الْمُؤَن لِأَن ذَلِك من المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُور بهَا فَإِن أخدمها الزَّوْج بحرة أَو أمة بِأُجْرَة فَلَيْسَ عَلَيْهِ غير الْأُجْرَة وَإِن أخدمها بأمته أنْفق عَلَيْهَا بِالْملكِ وَإِن أخدمها بِمن صحبتهَا حرَّة كَانَت أَو أمة لزمَه نَفَقَتهَا وفطرتها
فَائِدَة الْخَادِم يُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى وَفِي لُغَة قَليلَة يُقَال للْأُنْثَى خادمة وجنس طَعَام الْخَادِم جنس طَعَام الزَّوْجَة
وَقد مر وَهُوَ مد على الْمُعسر جزما وعَلى الْمُتَوَسّط الْأَصَح قِيَاسا على الْمُعسر وعَلى الْمُوسر مد وَثلث على النَّص
وَأقرب مَا قيل فِي تَوْجِيهه أَن نَفَقَة الْخَادِم على الْمُتَوَسّط مد وَهُوَ ثلثا نَفَقَة المخدومة وَالْمدّ وَالثلث على الْمُوسر وَهُوَ ثلثا نَفَقَة المخدومة
وَالْمدّ وَالثلث على الْمُوسر وَهُوَ ثلثا نَفَقَة المخدومة وَيجب للخادم أَيْضا كسْوَة تلِيق بِحَالهِ وَلَو على متوسط ومعسر وَلَا يجب لَهُ سَرَاوِيل لِأَنَّهُ للزنية وَكَمَال السّتْر وَيجب لَهُ الْأدم لِأَن الْعَيْش لَا يتم بِدُونِهِ وجنسه جنس أَدَم المخدومة وَلَكِن نَوعه دون نَوعه على الْأَصَح
وَمن تخْدم نَفسهَا فِي الْعَادة لَهَا أَن تتَّخذ خَادِمًا وتنفق عَلَيْهِ من مَالهَا إِلَّا بِإِذن زَوجهَا
كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا
فَإِن احْتَاجَت حرَّة كَانَت أَو أمة إِلَى خدمَة لمَرض بهَا أَو زمانة وَجب إخدامها لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنهُ فَأَشْبَهت من لَا يَلِيق بهَا خدمَة نَفسهَا بل أولى لِأَن الْحَاجة أقوى مِمَّا نقص من الْمُرُوءَة وَلَا إخدام حَال الصِّحَّة لزوجة رقيقَة الْكل أَو الْبَعْض لِأَن الْعرف أَن تخْدم نَفسهَا وَإِن كَانَت جميلَة
تَنْبِيه يجب فِي الْمسكن وَالْخَادِم إمتاع لَا تمْلِيك
لِأَنَّهُ لَا يشْتَرط كَونهمَا ملكه وَيجب فِيمَا يستهلك لعدم بَقَاء عينه كطعام وأدم تمْلِيك فتتصرف فِيهِ الْحرَّة بِمَا شَاءَت أما الْأمة فَإِنَّمَا يتَصَرَّف فِي ذَلِك سَيِّدهَا
فَلَو قترت بعد قبض نَفَقَتهَا بِمَا يَضرهَا منعهَا زَوجهَا من ذَلِك وَمَا دَامَ نَفعه مَعَ بَقَاء عينه ككسوة وفرش وظروف طَعَام وشراب وآلات تنظيف ومشط تمْلِيك فِي الْأَصَح
وتعطى الزَّوْجَة الْكسْوَة أول فصل شتاء وَأول فصل صيف لقَضَاء الْعرف بذلك هَذَا إِذا وَافق النِّكَاح أول الْفَصْل وَإِلَّا وَجب إعطاؤها فِي أول كل سِتَّة أشهر من حِين الْوُجُوب فَإِن أَعْطَاهَا الْكسْوَة أول فصل مثلا ثمَّ تلفت فِيهِ بِلَا تَقْصِير مِنْهَا لم تبدل لِأَنَّهُ وفاها مَا عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ إِذا تلفت فِي يَدهَا
فَإِن مَاتَ أَو أَبَانهَا بِطَلَاق أَو غَيره أَو مَاتَت فِي أثْنَاء فصل لم ترد وَلَو لم يكس الزَّوْج مُدَّة فدين عَلَيْهِ
وَالْوَاجِب فِي الْكسْوَة الثِّيَاب لَا قيمتهَا وَعَلِيهِ خياطتها وَلها بيعهَا لِأَنَّهَا ملكهَا وَلَو لبست دونهَا منعهَا لِأَن لَهُ غَرضا فِي تجملها
القَوْل فِي الْإِعْسَار بِنَفَقَة الزَّوْجَة (وَإِن أعْسر) الزَّوْج (بنفقتها) الْمُسْتَقْبلَة لتلف مَاله مثلا فَإِن صبرت بهَا وأنفقت على نَفسهَا من مَالهَا أَو مِمَّا فَإِن لم تصبر
(فلهَا فسخ النِّكَاح) بِالطَّرِيقِ الْآتِي لقَوْله تَعَالَى {فإمساك بِمَعْرُوف} أَو اقترضته صَار دينا عَلَيْهِ وَإِن لم يقرضها القَاضِي كَسَائِر الدُّيُون المستقرة {تَسْرِيح بِإِحْسَان}(2/487)
فَإِذا عجز عَن الأول تعين الثَّانِي وَلِأَنَّهَا إِذا فسخت بالجب أَو الْعنَّة فبالعجز عَن النَّفَقَة أولى لِأَن الْبدن لَا يقوم بِدُونِهَا بِخِلَاف الْوَطْء
أما لَو أعْسر بِنَفَقَة مَا مضى فَلَا فسخ على الْأَصَح وَلَا فسخ أَيْضا بالإعسار بِنَفَقَة الْخَادِم وَلَا بامتناع مُوسر من الْإِنْفَاق سَوَاء أحضر أم غَابَ عَنْهَا لتمكنها من تَحْصِيل حَقّهَا بالحاكم وَلَو حضر الزَّوْج وَغَابَ مَاله فَإِن كَانَ غَائِبا بمسافة الْقصر فَأكْثر فلهَا الْفَسْخ وَلَا يلْزمهَا الصَّبْر للضَّرَر فَإِن كَانَ دون مَسَافَة الْقصر فَلَا فسخ لَهَا
وَيُؤمر بإحضاره بِسُرْعَة وَلَو تبرع شخص بهَا عَن زوج مُعسر لم يلْزمهَا الْقبُول بل لَهَا الْفَسْخ لما فِيهِ من الْمِنَّة نعم لَو كَانَ الْمُتَبَرّع أَبَا أَو جدا وَالزَّوْج تَحت حجره وَجب عَلَيْهَا الْقبُول وقدرة الزَّوْج على الْكسْب كالقدرة على المَال وَإِنَّمَا تفسخ الزَّوْجَة بعجز الزَّوْج عَن نَفَقَة مُعسر فَلَو عجز عَن نَفَقَة مُوسر أَو متوسط لم تفسخ لِأَن نَفَقَته الْآن نَفَقَة مُعسر فَلَا يصير الزَّائِد دينا عَلَيْهِ والإعسار بالكسوة كالإعسار بِالنَّفَقَةِ إِلَّا إِذا لَا بُد مِنْهَا وَلَا يبْقى الْبدن بِدُونِهَا غَالِبا وَلَا تفسخ بإعساره من الْأدم والمسكن لِأَن النَّفس تقوم بدونهما بِخِلَاف الْقُوت (و) كَذَلِك يثبت لَهَا خِيَار الْفَسْخ (إِن أعْسر بِالصَّدَاقِ قبل الدُّخُول) للعجز عَن تَسْلِيم الْعِوَض مَعَ بَقَاء المعوض فَأشبه مَا إِذا لم يقبض البَائِع الثّمن حَتَّى حجر على المُشْتَرِي بالفلس وَالْمَبِيع بَاقٍ بِعَيْنِه وَلَا تفسخ بعده لتلف المعوض وصيرورة الْعِوَض دينا فِي الذِّمَّة
تَنْبِيه لَو قبضت بعض الْمهْر قبل الدُّخُول كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد وأعسر بِالْبَاقِي كَانَ لَهَا الْفَسْخ كَمَا أفتى بِهِ الْبَارِزِيّ وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام المُصَنّف لصدق الْعَجز عَن الْمهْر بِالْعَجزِ عَن بعضه
وَبِه صرح الْجَوْزِيّ وَقَالَ الْأَذْرَعِيّ هُوَ الْأَوْجه نقلا وَمعنى وَإِن أفتى ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ لَا فسخ إِذْ يلْزم على إفتائه إِجْبَار الزَّوْجَة على تَسْلِيم نَفسهَا بِتَسْلِيم بعض الصَدَاق
وَلَو أجبرت لاتخذ الْأزْوَاج ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى إبِْطَال حق الْمَرْأَة من حبس نَفسهَا بِتَسْلِيم دِرْهَم وَاحِد من صدَاق هُوَ ألف دِرْهَم وَهُوَ فِي غَايَة الْبعد
تَتِمَّة لَا فسخ بإعسار زوج بِشَيْء مِمَّا ذكر حَتَّى يثبت عِنْد قَاض بعد الرّفْع إِلَيْهِ إِعْسَاره بِبَيِّنَة أَو إِقْرَار فيفسخه بِنَفسِهِ أَو بنائبه بعد الثُّبُوت أَو يَأْذَن لَهَا فِيهِ
وَلَيْسَ لَهَا مَعَ علمهَا بِالْعَجزِ الْفَسْخ قبل الرّفْع إِلَى القَاضِي وَلَا بعده قبل الْإِذْن فِيهِ
نعم إِن عجزت عَن الرّفْع إِلَى القَاضِي وفسخت نفذ ظَاهرا وَبَاطنا للضَّرُورَة ثمَّ على ثُبُوت الْفَسْخ بإعسار الزَّوْج بِالنَّفَقَةِ يجب إمهاله ثَلَاثَة أَيَّام وَإِن لم يطْلب الزَّوْج الْإِمْهَال ليتَحَقَّق عَجزه فَإِنَّهُ قد يعجز لعَارض ثمَّ يَزُول وَهِي مُدَّة قريبَة يتَوَقَّع فِيهَا الْقُدْرَة بقرض أَو غَيره
وَلها خُرُوج فِيهَا لتَحْصِيل نَفَقَة مثلا بكسب وسؤال وَعَلَيْهَا رُجُوع لمسكنها لَيْلًا لِأَنَّهُ وَقت الدعة
وَلَيْسَ لَهَا مَنعه من التَّمَتُّع ثمَّ بعد الْإِمْهَال يفْسخ القَاضِي أَو هِيَ بِإِذْنِهِ صَبِيحَة الرَّابِع نعم إِن لم يكن فِي النَّاحِيَة قَاض وَلَا مُحكم فَفِي الْوَسِيط لَا خلاف فِي استقلالها بِالْفَسْخِ فَإِن سلم نَفَقَة الْيَوْم الرَّابِع فَلَا فسخ لتبين زَوَال مَا كَانَ الْفَسْخ لأَجله
فَإِن أعْسر بَعْدَمَا سلم نَفَقَة الْيَوْم الرَّابِع بِنَفَقَة الْخَامِس بنت على الْمدَّة وَلم تستأنفها كَمَا لَو أيسر فِي الثَّالِث ثمَّ أعْسر فِي الرَّابِع فَإِنَّهَا تبني وَلَا تسْتَأْنف وَلَو رضيت قبل النِّكَاح أَو بعده بإعساره(2/488)
فلهَا الْفَسْخ لِأَن الضَّرَر يَتَجَدَّد وَلَا أثر لقولها رضيت بِهِ أبدا لِأَنَّهُ وعد لَا يلْزم الْوَفَاء بِهِ إِلَّا إِن رضيت بإعساره بِالْمهْرِ فَلَا فسخ لَهَا لِأَن الضَّرَر لَا يَتَجَدَّد
فصل فِي الْحَضَانَة
وَهِي بِفَتْح الْحَاء لُغَة الضَّم مَأْخُوذَة من الحضن بِكَسْرِهَا
وَهُوَ الْجنب لضم الحاضنة الطِّفْل إِلَيْهِ وَشرعا تربية من لَا يسْتَقلّ بأموره بِمَا يصلحه ويقيه عَمَّا يضرّهُ وَلَو كَبِيرا مَجْنُونا كَأَن يتعهده بِغسْل جسده وثيابه ودهنه وكحله وربط الصَّغِير فِي المهد وتحريكه لينام
وَهِي نوع ولَايَة وسلطنة
لَكِن الْإِنَاث أليق بهَا لِأَنَّهُنَّ أشْفق وَأهْدى إِلَى التربية وأصبر على الْقيام بهَا
الْحق بحضانة الْوَلَد وأولاهن أم كَمَا قَالَ (وَإِذا فَارق الرجل زَوجته) بِطَلَاق أَو فسخ أَو لعان (وَله مِنْهَا ولد) لَا يُمَيّز ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى أَو خُنْثَى (فَهِيَ أَحَق بحضانته) لوفور شفقتها ثمَّ بعد الْأُم أُمَّهَات لَهَا وارثات
وَإِن علت الْأُم تقدم الْقُرْبَى فالقربى فأمهات أَب كَذَلِك وَخرج بالوارثات غَيْرهنَّ وَهِي من أدلت بِذكر بَين أنثيين كَأُمّ أبي أم فأخت لِأَنَّهَا أقرب من الْخَالَة فخالة لِأَنَّهَا تدلى بِالْأُمِّ فبنت أُخْت فبنت أَخ كالأخت مَعَ الْأَخ فعمة وَتقدم أُخْت وَخَالَة وعمة لِأَبَوَيْنِ عَلَيْهِنَّ لأَب لزِيَادَة قرابتهن وَتقدم أُخْت وَخَالَة وعمة لأَب عَلَيْهِنَّ لأم لقُوَّة لجِهَة
فرع لَو كَانَ للمحضون بنت قدمت فِي الْحَضَانَة عِنْد عدم الْأَبَوَيْنِ على الْجدَّات أَو زوج يُمكن تمتعه بهَا قدم ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى على كل الْأَقَارِب وَالْمرَاد بتمتعه بهَا وَطْؤُهُ لَهَا فَلَا بُد أَن تُطِيقهُ وَإِلَّا فَلَا تسلم إِلَيْهِ
كَمَا صرح بِهِ ابْن الصّلاح فِي فَتَاوِيهِ وَتثبت(2/489)
الْحَضَانَة لأنثى قريبَة غير محرم لم تدل بِذكر غير وَارِث كَبِنْت خَالَة وَبنت عمَّة وَلذكر قريب وَارِث محرما كَانَ كأخ أَو غير محرم كَابْن عَم لوفور شفقته وَقُوَّة قرَابَته بِالْإِرْثِ وَالْولَايَة وَيزِيد الْمحرم بالمحرمية بترتيب ولَايَة النِّكَاح وَلَا تسلم مشتهاة لغير محرم حذرا من الْخلْوَة الْمُحرمَة بل تسلم لثقة يعينها هُوَ كبنته
وَإِن اجْتمع ذُكُور وإناث قدمت الْأُم فأمهاتها
وَإِن علت فأب فأمهاته
وَإِن علا لما مر وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من الْحَوَاشِي ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى فَإِن اسْتَويَا قربا قدمت الْأُنْثَى لِأَن الْإِنَاث أَصْبِر وَأبْصر فَإِن اسْتَويَا ذكورة أَو أنوثة قدم بِقرْعَة من خرجت قرعته على غَيره وَالْخُنْثَى هُنَا كالذكر فَلَا يقدم على الذّكر فَلَو ادّعى الْأُنُوثَة صدق بِيَمِينِهِ
(ثمَّ) الْمُمَيز (يُخَيّر ندبا) بَين أَبَوَيْهِ إِن صلحا للحضانة بِالشُّرُوطِ الْآتِيَة وَلَو فضل أَحدهمَا الآخر دينا أَو مَالا أَو محبَّة
(فَأَيّهمَا اخْتَارَهُ سلم إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه
والغلامة كالغلام فِي الانتساب وَلِأَن الْقَصْد بِالْكَفَالَةِ الْحِفْظ للْوَلَد والمميز أعرف بحفظه فَيرجع إِلَيْهِ
وَسن التَّمْيِيز غَالِبا سبع سِنِين أَو ثَمَان تَقْرِيبًا وَقد يتَقَدَّم على السَّبع وَقد يتَأَخَّر عَن الثمان
فمداره عَلَيْهِ لَا على السن قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيعْتَبر فِي تَمْيِيزه أَن يكون عَارِفًا بِأَسْبَاب الِاخْتِيَار
وَإِلَّا أخر إِلَى حُصُول ذَلِك وَهُوَ موكول إِلَى اجْتِهَاد القَاضِي وَيُخَير أَيْضا بَين أم وَإِن علت وجد أَو غَيره من الْحَوَاشِي كأخ أَو عَم أَو ابْنه كَالْأَبِ بِجَامِع الْعُصُوبَة كَمَا يُخَيّر بَين أَب وَأُخْت لغير أَب أَو خَالَة كالأم وَله بعد اخْتِيَار أَحدهمَا تحول للْآخر وَإِن تكَرر مِنْهُ ذَلِك لِأَنَّهُ قد يظْهر لَهُ الْأَمر على خلاف مَا ظَنّه أَو يتَغَيَّر حَال من اخْتَارَهُ قيل نعم إِن غلب على الظَّن أَن سَبَب تكرره قلَّة تَمْيِيزه ترك عِنْد من يكون عِنْده قبل التَّمْيِيز فَإِن اخْتَار الْأَب ذكر لم يمنعهُ زِيَارَة أمه وَلَا يكلفها الْخُرُوج لزيارته لِئَلَّا يكون ساعيا فِي العقوق وَقطع الرَّحِم
وَهُوَ أولى مِنْهَا بِالْخرُوجِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَة وَهل هَذَا على سَبِيل الْوُجُوب أَو الِاسْتِحْبَاب قَالَ فِي الْكِفَايَة الَّذِي صرح بِهِ الْبَنْدَنِيجِيّ وَدلّ(2/490)
عَلَيْهِ كَلَام الْمَاوَرْدِيّ الأول
وَيمْنَع الْأَب أُنْثَى إِذا اختارته من زِيَارَة أمهَا لتألف الصيانة وَعدم البروز
وَالأُم أولى مِنْهَا بِالْخرُوجِ لزيارتها وَلَا تمنع الْأُم زِيَارَة ولديها على الْعَادة كَيَوْم فِي أَيَّام لَا فِي كل يَوْم وَلَا يمْنَعهَا من دُخُولهَا بَيته وَإِذا زارت لَا تطيل الْمكْث وَهِي أولى بتمريضها عِنْده لِأَنَّهَا أشْفق وَأهْدى إِلَيْهِ هَذَا إِن رَضِي بِهِ وَإِلَّا فَعندهَا
ويعودهما ويحترز فِي الْحَالين عَن الْخلْوَة بهَا وَإِذا اخْتَارَهَا ذكر فَعندهَا لَيْلًا وَعِنْده نَهَارا ليعلمه الْأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية على مَا يَلِيق بِهِ لِأَن ذَلِك من مَصَالِحه
فَمن أدب وَلَده صَغِيرا سر بِهِ كَبِيرا يُقَال الْأَدَب على الْآبَاء وَالصَّلَاح على الله تَعَالَى أَو اختارتها أُنْثَى أَو خُنْثَى كَمَا بَحثه بَعضهم فَعندهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لِاسْتِوَاء الزمنين فِي حَقّهَا ويزورها الْأَب على الْعَادة وَلَا يطْلب إحضارها عِنْده وَإِن اختارهما مُمَيّز أَقرع بَينهمَا وَيكون عِنْد من خرجت قرعته مِنْهُمَا أَو لم يخْتَر وَاحِدًا مِنْهُمَا فالأم أولى لِأَن الْحَضَانَة لَهَا وَلم يخْتَر غَيرهَا
القَوْل فِي شُرُوط من يسْتَحق الْحَضَانَة (وشرائط) اسْتِحْقَاق (الْحَضَانَة سَبْعَة) وَترك سِتَّة كَمَا ستعرفه أَولهَا (الْعقل) فَلَا حضَانَة لمَجْنُون وَإِن كَانَ جُنُونه متقطعا لِأَنَّهَا ولَايَة وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا
وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِفْظ والتعهد بل هُوَ فِي نَفسه يحْتَاج إِلَى من يحضنه
نعم إِن كَانَ يَسِيرا كَيَوْم فِي سنة كَمَا فِي الشَّرْح الصَّغِير لم تسْقط الْحَضَانَة كَمَرَض يطْرَأ وَيَزُول
(و) ثَانِيهَا الْحُرِّيَّة فَلَا حضَانَة لرقيق وَلَو مبعضا وَإِن أذن لَهُ سَيّده لِأَنَّهَا ولَايَة وَلَيْسَ من أَهلهَا وَلِأَنَّهُ مَشْغُول بِخِدْمَة سَيّده وَإِنَّمَا لم يُؤثر إِذْنه لِأَنَّهُ قد يرجع فيشوش أَمر الْوَلَد
وَيسْتَثْنى مَا لَو أسلمت أم ولد الْكَافِر فَإِن وَلَدهَا يتبعهَا وحضانته لَهَا مَا لم تنْكح كَمَا حَكَاهُ فِي الرَّوْضَة فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَالْمعْنَى فِيهِ كَمَا فِي الْمُهِمَّات فراغها لمنع السَّيِّد من قربانها ووفور شفقتها
(و) ثَالِثهَا (الدّين) أَي الْإِسْلَام
فَلَا حضَانَة لكَافِر على مُسلم إِذْ لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ رُبمَا فتنه فِي دينه
فيحضنه أَقَاربه الْمُسلمُونَ ومؤنته فِي مَاله على التَّرْتِيب الْمَار
فَإِن لم يُوجد أحد مِنْهُم حضنه الْمُسلمُونَ فَإِن لم يكن لَهُ مَال فعلى من تلْزمهُ نَفَقَته
فَإِن لم يكن فَهُوَ من محاويج الْمُسلمين وَينْزع ندبا من الْأَقَارِب الذميين
ولد ذمِّي وصف الْإِسْلَام وَتثبت الْحَضَانَة للْكَافِرِ على الْكَافِر وللمسلم على الْكَافِر بِالْأولَى لِأَن فِيهِ مصلحَة لَهُ
(و) رَابِعهَا وخامسها (الْعِفَّة وَالْأَمَانَة) جمع المُصَنّف بَينهمَا لتلازمهما إِذْ الْعِفَّة بِكَسْر الْمُهْملَة الْكَفّ عَمَّا لَا يحل وَلَا يحمد قَالَه فِي الْمُحكم وَالْأَمَانَة ضد الْخِيَانَة فَكل عفيف أَمِين وَعَكسه
فَلَو عبر المُصَنّف عَن الثَّالِث إِلَى هُنَا بِالْعَدَالَةِ لَكَانَ أخصر فَلَا حضَانَة لفَاسِق لِأَن الْفَاسِق لَا يَلِي وَلَا يؤتمن
وَلِأَن الْمَحْضُون لَا حَظّ لَهُ فِي حضانته لِأَنَّهُ ينشأ على طَرِيقَته وتكفي الْعَدَالَة الظَّاهِرَة كشهود النِّكَاح نعم إِن وَقع نزاع فِي الْأَهْلِيَّة فَلَا بُد من ثُبُوتهَا عِنْد القَاضِي
(و) سادسها (الْإِقَامَة) فِي بلد الطِّفْل بِأَن يكون أَبَوَاهُ مقيمين فِي بلد وَاحِد فَلَو أَرَادَ أَحدهمَا سفرا لَا لنقلة كحج وتجارة فالمقيم أولى بِالْوَلَدِ مُمَيّزا كَانَ أَو لَا حَتَّى يعود الْمُسَافِر لخطر السّفر أَو لنقله فالعصبة من أَب أَو غَيره وَلَو غير محرم أولى بِهِ من الْأُم حفظا للنسب إِن أَمن خوفًا فِي طَرِيقه ومقصده وَإِلَّا فالأم أولى وَقد علم مِمَّا مر أَنه لَا تسلم مشتهاة لغير محرم كَابْن عَم حذرا(2/491)
من الْخلْوَة الْمُحرمَة
بل لثقة ترافقه كبنته
(و) سابعها (الْخُلُو) أَي خلو الحاضنة (من زوج) لَا حق لَهُ فِي الْحَضَانَة فَلَا حضَانَة لمن تزوجت بِهِ وَإِن لم يدْخل بهَا
وَإِن رَضِي أَن يدْخل الْوَلَد دَاره لخَبر أَن امْرَأَة قَالَت يَا رَسُول الله إِن ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاء وحجري لَهُ حَوَّاء وثديي لَهُ سقاء وَإِن أَبَاهُ طَلقنِي وَزعم أَن يَنْزعهُ مني فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي وَلِأَنَّهَا مَشْغُولَة عَنهُ بِحَق الزَّوْج فَإِن كَانَ لَهُ فِيهَا حق كعم الطِّفْل وَابْن عَمه فَلَا يبطل حَقّهَا بنكاحه لِأَن من نكحته لَهُ حق فِي الْحَضَانَة وشفقته تحمله على رعايته فيتعاونان على كفَالَته
وثامنها أَن تكون الحاضنة مُرْضِعَة للطفل إِن كَانَ الْمَحْضُون رضيعا فَإِن لم يكن لَهَا لبن أَو امْتنعت من الْإِرْضَاع فَلَا حضَانَة لَهَا كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة الْمِنْهَاج
وَقَالَ البُلْقِينِيّ حَاصله إِن لم يكن لَهَا لبن فَلَا خلاف فِي عدم اسْتِحْقَاقهَا وَإِن كَانَ لَهَا لبن وامتنعت فَالْأَصَحّ لَا حضَانَة لَهَا انْتهى
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وتاسعها أَن لَا يكون بِهِ مرض دَائِم كالسل والفالج إِن عَاق تألمه عَن نظر الْمَحْضُون بِحَيْثُ يشْغلهُ تألمه عَن كفَالَته وتدبر أمره أَو عَن حَرَكَة من يُبَاشر الْحَضَانَة فَتسقط فِي حَقه دون من يدبر الْأُمُور بنظره ويباشرها غَيره
وعاشرها أَن لَا يكون أبرص وَلَا أَجْذم كَمَا فِي قَوَاعِد العلائي
وحادي عشرهَا أَن لَا يكون أعمى كَمَا أفتى بِهِ عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي من أَئِمَّتنَا وَمن أَقْرَان ابْن الصّباغ وَأقرهُ عَلَيْهِ جمع من محققي الْمُتَأَخِّرين
وَثَانِي عشرهَا أَن لَا يكون مغفلا كَمَا قَالَه الْجِرْجَانِيّ فِي الشافي
وثالث عشرهَا أَن لَا يكون صَغِيرا لِأَنَّهَا ولَايَة وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا
القَوْل فِي سُقُوط الْحَضَانَة (فَإِن اخْتَلَّ مِنْهَا) أَي من الشُّرُوط الْمَذْكُورَة (شَرط) فَقَط (سَقَطت) حضانتها أَي لم تسْتَحقّ حضَانَة كَمَا تقرر نعم لَو خَالعهَا الْأَب على ألف مثلا وحضانة وَلَده الصَّغِير سنة فَلَا يسْقط حَقّهَا فِي تِلْكَ الْمدَّة كَمَا هُوَ فِي الرَّوْضَة
أَو أَخذ الْخلْع حِكَايَة عَن القَاضِي حُسَيْن مُعَللا لَهُ بِأَن الْإِجَارَة عقد لَازم وَلَو فقد مقتضي الْحَضَانَة ثمَّ وجد كَأَن كملت نَاقِصَة بِأَن أسلمت كَافِرَة أَو تابت فاسقة أَو أفاقت مَجْنُونَة أَو عتقت رقيقَة أَو طلقت مَنْكُوحَة بَائِنا أَو رَجْعِيَّة على الْمَذْهَب حضنت لزوَال الْمَائِع وتستحق الْمُطلقَة الْحَضَانَة فِي الْحَال قبل انْقِضَاء الْعدة على الْمَذْهَب وَلَو غَابَتْ الْأُم أَو امْتنعت من الْحَضَانَة فللجدة مثلا أم الْأُم كَمَا لَو مَاتَت أَو جنت
وَضَابِط ذَلِك أَن الْقَرِيب إِن امْتنع كَانَت الْحَضَانَة لمن يَلِيهِ وَظَاهر كَلَامهم عدم إِجْبَار الْأُم عِنْد الِامْتِنَاع وَهُوَ مُقَيّد بِمَا إِذا لم تجب النَّفَقَة عَلَيْهَا للْوَلَد الْمَحْضُون فَإِن وَجَبت كَأَن لم يكن لَهُ أَب وَلَا مَال أجبرت
كَمَا قَالَه ابْن الرّفْعَة لِأَنَّهَا من جملَة النَّفَقَة فَهِيَ حِينَئِذٍ كَالْأَبِ
القَوْل فِي الْمَحْضُون إِذا بلغ خَاتِمَة مَا مر إِذا لم يبلغ الْمَحْضُون فَإِن بلغ بِأَن كَانَ غُلَاما وَبلغ رشيدا ولي أَمر نَفسه لاستغنائه عَمَّن يكفله فَلَا يجْبر على الْإِقَامَة عِنْد أحد أَبَوَيْهِ وَالْأولَى أَنه لَا يفارقهما ليبرهما
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَعند الْأَب أولى للمجانسة
نعم إِن كَانَ أَمْرَد وَخيف عَلَيْهِ من انْفِرَاده فَفِي الْعدة عَن الْأَصْحَاب أَنه يمْنَع من مُفَارقَة الْأَبَوَيْنِ وَلَو بلغ عَاقِلا غير رشيد فَأطلق مطلقون أَنه كَالصَّبِيِّ وَقَالَ ابْن كج إِن(2/492)
كَانَ لعدم إصْلَاح مَاله فَكَذَلِك وَإِن كَانَ لدينِهِ
فَقيل تدام حضانته إِلَى ارْتِفَاع الْحجر وَالْمذهب أَنه يسكن حَيْثُ شَاءَ
قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا التَّفْصِيل حسن
انْتهى
وَإِن كَانَ أُنْثَى فَإِن بلغت رَشِيدَة فَالْأولى أَن تكون عِنْد أَحدهمَا حَتَّى تتَزَوَّج إِن كَانَا مفترقين وَبَينهمَا إِن كَانَا مُجْتَمعين لِأَنَّهُ أبعد عَن التُّهْمَة وَلها أَن تسكن حَيْثُ شَاءَت وَلَو بكرا وَهَذَا إِذا لم تكن رِيبَة فَإِن كَانَت فللأم إسكانها مَعهَا
وَكَذَا للْوَلِيّ من الْعصبَة إسكانها مَعَه إِذا كَانَ محرما لَهَا
وَإِلَّا فَفِي مَوضِع لَائِق بهَا يسكنهَا ويلاحظها دفعا لعار النّسَب كَمَا يمْنَعهَا نِكَاح غير الْكُفْء وتجبر على ذَلِك والأمرد مثلهَا فِيمَا ذكر كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَيصدق الْوَلِيّ بِيَمِينِهِ فِي دَعْوَى الرِّيبَة وَلَا يُكَلف الْبَيِّنَة لِأَن إسكانها فِي مَوضِع الْبَرَاءَة أَهْون من الفضيحة لَو أَقَامَ بَيِّنَة وَإِن بلغت غير رَشِيدَة فَفِيهَا التَّفْصِيل الْمَار قَالَ النَّوَوِيّ فِي نواقض الْوضُوء حضَانَة الْخُنْثَى الْمُشكل وكفالته بعد الْبلُوغ لم أر فِيهِ نقلا
وَيَنْبَغِي أَن يكون كالبنت الْبكر حَتَّى يَجِيء فِي جَوَاز استقلاله وانفراده عَن الْأَبَوَيْنِ إِذا شَاءَ وَجْهَان انْتهى
وَيعلم التَّفْصِيل فِيهِ مِمَّا مر وَالله أعلم(2/493)
كتاب الْجِنَايَات
عبر بهَا دون الْجراح لتشمله وَالْقطع وَالْقَتْل وَنَحْوهمَا مِمَّا يُوجب حدا أَو تعزيرا وَهُوَ حسن وَهِي جمع جِنَايَة وجمعت وَإِن كَانَت مصدرا لتنوعها كَمَا سَيَأْتِي إِلَى عمد وَخطأ وَشبه عمد
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ اجتنبوا السَّبع الموبقات
قيل وَمَا هن يَا رَسُول الله قَالَ الشّرك بِاللَّه تَعَالَى وَالسحر وَقتل النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَأكل الرِّبَا وَأكل مَال الْيَتِيم والتولي يَوْم الزَّحْف وَقذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات
القَوْل فِي ذَنْب الْقَتْل وَقتل الْآدَمِيّ عمدا بِغَيْر حق من أكبر الْكَبَائِر بعد الْكفْر
فقد سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي الذَّنب أعظم عِنْد الله تَعَالَى قَالَ أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك
قيل ثمَّ أَي قَالَ أَن تقتل ولدك مَخَافَة أَن يطعم مَعَك رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَتَصِح تَوْبَة الْقَاتِل عمدا لِأَن الْكَافِر تصح تَوْبَته فَهَذَا أولى وَلَا يتحتم عَذَابه بل هُوَ فِي خطر الْمَشِيئَة وَلَا يخلد عَذَابه إِن عذب وَإِن أصر على ترك التَّوْبَة كَسَائِر ذَوي الْكَبَائِر غير الْكفْر
وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} فَالْمُرَاد بالخلود الْمكْث الطَّوِيل
فَإِن الدَّلَائِل تظاهرت على أَن عصاة الْمُسلمين لَا يَدُوم عَذَابهمْ أَو مَخْصُوص بالمستحيل كَمَا ذكره عِكْرِمَة وَغَيره
وَإِن اقْتصّ مِنْهُ الْوَارِث أَو عَفا عَنهُ على مَال أَو مجَّانا فظواهر الشَّرْع تَقْتَضِي سُقُوط الْمُطَالبَة فِي الدَّار الْآخِرَة كَمَا أفتى بِهِ النَّوَوِيّ وَذكر مثله فِي شرح مُسلم
وَمذهب أهل السّنة أَن الْمَقْتُول لَا يَمُوت إِلَّا بأجله وَالْقَتْل لَا يقطع الْأَجَل خلافًا للمعتزلة فَإِنَّهُم قَالُوا الْقَتْل بِقطعِهِ
القَوْل فِي أَنْوَاع الْقَتْل ثمَّ شرع فِي تَقْسِيم الْقَتْل بقوله (الْقَتْل على ثَلَاثَة أضْرب عمد مَحْض وَخطأ مَحْض وَعمد خطأ) وَجه الْحصْر فِي(2/494)
ذَلِك أَن الْجَانِي إِن لم يقْصد عين الْمَجْنِي عَلَيْهِ فَهُوَ الْخَطَأ
وَإِن قَصدهَا فَإِن كَانَ بِمَا يقتل غَالِبا فَهُوَ الْعمد وَإِلَّا فَشبه عمد كَمَا تُؤْخَذ هَذِه الثَّلَاثَة من قَوْله (فالعمد الْمَحْض) أَي الْخَالِص (هُوَ أَن يعمد) بِكَسْر الْمِيم أَي يقْصد (إِلَى ضربه) أَي الشَّخْص الْمَقْصُود بِالْجِنَايَةِ
(بِمَا يقتل غَالِبا) كجارح ومثقل وسحر
(ويقصد) بِفِعْلِهِ (قَتله بذلك) عُدْوانًا من حَيْثُ كَونه مزهقا للروح كَمَا فِي الرَّوْضَة فَخرج بِقَيْد قصد الْفِعْل مَا لَو تزلقت رجله فَوَقع على غَيره فَمَاتَ فَهُوَ خطأ وبقيد الشَّخْص الْمَقْصُود مَا لَو رمى زيدا فَأصَاب عمرا فَهُوَ خطأ
وبقيد الْغَالِب النَّادِر كَمَا لَو غرز إبرة فِي غير مقتل وَلم يعقبها ورم وَمَات فَلَا قصاص فِيهِ
وَإِن كَانَ عُدْوانًا وبقيد الْعدوان الْقَتْل الْجَائِز وبقيد حيثية الإزهاق للروح مَا إِذا اسْتحق حز رقبته قصاصا فَقده نِصْفَيْنِ فَلَا قصاص فِيهِ وَإِن كَانَ عُدْوانًا قَالَ فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهُ لَيْسَ عُدْوانًا من حَيْثُ كَونه مزهقا وَإِنَّمَا هُوَ عدوان من حَيْثُ إِنَّه عدل عَن الطَّرِيق
فَائِدَة يُمكن انقسام الْقَتْل إِلَى الْأَحْكَام الْخَمْسَة وَاجِب وَحرَام ومكروه ومندوب ومباح فَالْأول قتل الْمُرْتَد إِذا لم يتب وَالْحَرْبِيّ إِذا لم يسلم أَو يُعْطي الْجِزْيَة وَالثَّانِي قتل الْمَعْصُوم بِغَيْر حق وَالثَّالِث قتل الْغَازِي قَرِيبه الْكَافِر إِذا لم يسب الله تَعَالَى أَو رَسُوله وَالرَّابِع قَتله إِذا سبّ أَحدهمَا وَالْخَامِس قتل الإِمَام الْأَسير إِذا اسْتَوَت الْخِصَال فَإِنَّهُ مُخَيّر فِيهِ وَأما قتل الْخَطَأ فَلَا يُوصف بحلال وَلَا حرَام لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فِيمَا أَخطَأ فِيهِ فَهُوَ كَفعل الْمَجْنُون والبهيمة
الْوَاجِب فِي الْعمد الْمَحْض (فَيجب) فِي الْقَتْل الْعمد لَا فِي غَيره كَمَا سَيَأْتِي (الْقود) أَي الْقصاص لقَوْله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} اي الْآيَة سَوَاء أمات فِي الْحَال أم بعده بسراية جِرَاحَة وَأما عدم وُجُوبه فِي غَيره فَسَيَأْتِي وَسمي الْقصاص قودا لأَنهم يقودون الْجَانِي بِحَبل أَو غَيره إِلَى مَحل الِاسْتِيفَاء وَإِنَّمَا وَجب الْقصاص فِيهِ لِأَنَّهُ بدل متْلف فَتعين جنسه كَسَائِر الْمُتْلفَات
(فَإِن عَفا) الْمُسْتَحق (عَنهُ) أَي الْقود مجَّانا سقط وَلَا دِيَة
وَكَذَا إِن أطلق الْعَفو لَا دِيَة على الْمَذْهَب لِأَن الْقَتْل لم يُوجب الدِّيَة وَالْعَفو إِسْقَاط ثَابت لَا إِثْبَات مَعْدُوم أَو عَفا على مَال (وَجَبت دِيَة مُغَلّظَة) كَمَا سنعرفه فِيمَا سَيَأْتِي (حَالَة فِي مَال الْقَاتِل) وَإِن لم يرض الْجَانِي لما روى(2/495)
الْبَيْهَقِيّ عَن مُجَاهِد وَغَيره كَانَ فِي شرع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام تحتم الْقصاص جزما وَفِي شرع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام الدِّيَة فَقَط
فَخفف الله تَعَالَى عَن هَذِه الْأمة وَخَيرهَا بَين الْأَمريْنِ لما فِي الْإِلْزَام بِأَحَدِهِمَا من الْمَشَقَّة وَلِأَن الْجَانِي مَحْكُوم عَلَيْهِ فَلَا يعْتَبر رِضَاهُ كالمحال عَلَيْهِ وَلَو عَفا عَن عُضْو من أَعْضَاء الْجَانِي سقط كُله كَمَا أَن تطليق بعض الْمَرْأَة تطليق لكلها
وَلَو عَفا بعض الْمُسْتَحقّين سقط أَيْضا وَإِن لم يرض الْبَعْض الآخر لِأَن الْقصاص لَا يتَجَزَّأ ويغلب فِيهِ جَانب السُّقُوط
القَوْل فِي الْخَطَأ الْمَحْض (وَالْخَطَأ الْمَحْض) هُوَ أَن يقْصد الْفِعْل دون الشَّخْص كَأَن (يَرْمِي إِلَى شَيْء) كشجرة أَو صيد (فَيُصِيب) إنْسَانا (رجلا) أَي ذكرا أَو غَيره (فيقتله) أَو يَرْمِي بِهِ زيدا فَيُصِيب عمرا كَمَا مر وَلم يقْصد أصل الْفِعْل كَأَن زلق فَسقط على غَيره فَمَاتَ كَمَا مر أَيْضا
(فَلَا قَود عَلَيْهِ) لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله} اي فَأوجب الدِّيَة وَلم يتَعَرَّض للْقصَاص (بل تجب دِيَة) لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة (مُخَفّفَة على الْعَاقِلَة) كَمَا ستعرفه فِي فصلها
(مُؤَجّلَة) عَلَيْهِم لأَنهم يحملونها على سَبِيل الْمُوَاسَاة وَمن الْمُوَاسَاة تأجيلها عَلَيْهِم (فِي ثَلَاث سِنِين) بِالْإِجْمَاع كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره
(وَعمد الْخَطَأ) الْمُسَمّى بشبه الْعمد
هُوَ (أَن يقْصد ضربه) أَي الشَّخْص (بِمَا لَا يقتل غَالِبا) كسوط أَو عَصا خَفِيفَة أَو نَحْو ذَلِك (فَيَمُوت) بِسَبَبِهِ (فَلَا قَود عَلَيْهِ) لفقد الْآلَة القاتلة غَالِبا فموته بغَيْرهَا مصادفة قدر
(بل تجب دِيَة مُغَلّظَة) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا إِن فِي قَتِيل عمد الْخَطَأ قَتِيل السَّوْط أَو الْعَصَا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا وَالْمعْنَى فِيهِ أَن شبه الْعمد مُتَرَدّد بَين الْعمد وَالْخَطَأ فَأعْطِي حكم الْعمد من وَجه تغليظها وَحكم الْخَطَأ من وَجه كَونهَا (على الْعَاقِلَة)
لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بذلك (مُؤَجّلَة) عَلَيْهِم كَمَا فِي دِيَة الْخَطَأ
تَنْبِيه جِهَات تحمل الدِّيَة ثَلَاث قرَابَة وَوَلَاء وَبَيت مَال لَا غَيرهَا
كزوجية وقرابة لَيست بعصبة وَلَا الفريد الَّذِي لَا عشيرة لَهُ فَيدْخل نَفسه فِي قَبيلَة ليعد مِنْهَا
الْجِهَة الأولى عصبَة الْجَانِي الَّذين يرثونه بِالنّسَبِ أَو الْوَلَاء إِذا كَانُوا ذُكُورا مكلفين
قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلَا أعلم مُخَالفا فِي أَن الْعَاقِلَة الْعصبَة وهم الْقَرَابَة من قبل الْأَب قَالَ وَلَا أعلم مُخَالفا فِي أَن الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ إِن أيسرا لَا يحْملَانِ شَيْئا وَكَذَا الْمَعْتُوه عِنْدِي انْتهى
وَاسْتثنى من الْعصبَة أصل الْجَانِي وَإِن علا وفرعه وَإِن سفل لأَنهم أَبْعَاضه فَكَمَا لَا يتَحَمَّل الْجَانِي لَا يتَحَمَّل أَبْعَاضه
وَيقدم فِي تحمل الدِّيَة من الْعصبَة الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب
فَإِن لم يَفِ الْأَقْرَب بِالْوَاجِبِ بِأَن بَقِي مِنْهُ شَيْء وزع الْبَاقِي على من يَلِيهِ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَيقدم مِمَّن ذكر مدل بأبوين على مدل بأب فَإِن لم يَفِ مَا(2/496)
عَلَيْهِم بِالْوَاجِبِ فمعتق ذكر لخَبر الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب ثمَّ إِن فقد الْمُعْتق أَو لم يَفِ مَا عَلَيْهِ بِالْوَاجِبِ فعصبته من نسب غير أَصله وَإِن علا وفرعه وَإِن سفل كَمَا مر فِي أصل الْجَانِي وفرعه ثمَّ مُعتق الْمُعْتق ثمَّ عصبته كَذَلِك وَهَكَذَا مَا عدا الأَصْل وَالْفرع ثمَّ مُعتق أَب الْجَانِي ثمَّ عصبته ثمَّ مُعتق مُعتق الْأَب وعصبته غير أَصله وفرعه
وَكَذَا أبدا وعتيق الْمَرْأَة يعقله عاقلتها ومعتقون فِي تحملهم كمعتق وَاحِد وكل شخص من عصبَة كل مُعتق يحمل مَا كَانَ يحملهُ ذَلِك الْمُعْتق فِي حَيَاته وَلَا يعقل عَتيق عَن مُعْتقه كَمَا لَا يَرِثهُ فَإِن فقد الْعَاقِل مِمَّن ذكر عقل ذَوُو الْأَرْحَام إِذا لم يَنْتَظِم أَمر بَيت المَال فَإِن انتظم عقل بَيت المَال فَإِن فقد بَيت المَال فكله على الْجَانِي بِنَاء على أَنَّهَا تلْزمهُ ابْتِدَاء ثمَّ تتحملها الْعَاقِلَة وَهُوَ الْأَصَح
وصفات من يعقل خمس الذُّكُورَة وَعدم الْفقر وَالْحريَّة والتكليف واتفاق الدّين فَلَا تعقل امْرَأَة وَلَا خُنْثَى نعم إِن بَان ذكرا غرم حِصَّته الَّتِي أَدَّاهَا غَيره وَلَا فَقير وَلَو كسوبا وَلَا رَقِيق وَلَو مكَاتبا وَلَا صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا مُسلم عَن كَافِر وَعَكسه
وَيعْقل يَهُودِيّ عَن نَصْرَانِيّ وَعَكسه كَالْإِرْثِ وعَلى الْغَنِيّ فِي كل سنة من الْعَاقِلَة وَهُوَ من يملك فَاضلا عَمَّا يبْقى لَهُ فِي الْكَفَّارَة عشْرين دِينَارا أَو قدرهَا اعْتِبَارا بِالزَّكَاةِ نصف دِينَار على أهل الذَّهَب أَو قدره دَرَاهِم على أهل الْفضة وعَلى الْمُتَوَسّط مِنْهُم وَهُوَ من يملك فَاضلا عَمَّا ذكر دون الْعشْرين دِينَارا أَو قدرهَا وَفَوق ربع دِينَار لِئَلَّا يبْقى فَقِيرا ربع دِينَار أَو ثَلَاثَة دَرَاهِم لِأَنَّهُ وَاسِطَة بَين الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء عَلَيْهِ
والغني الَّذِي عَلَيْهِ نصف دِينَار وَتحمل الْعَاقِلَة الْجِنَايَة على العَبْد لِأَنَّهُ بدل آدَمِيّ فَفِي آخر كل سنة يُؤْخَذ من قِيمَته قدر ثلث دِيَة وَلَو قتل شخص رجلَيْنِ مثلا فَفِي ثَلَاث سِنِين
والأطراف كَقطع الْيَدَيْنِ والحكومات وأروش الْجِنَايَات تؤجل فِي كل سنة قدر ثلث دِيَة كَامِلَة وَأجل دِيَة النَّفس من الزهوق وَأجل دِيَة غير النَّفس كَقطع يَد من ابْتِدَاء الْجِنَايَة
وَمن مَاتَ من الْعَاقِلَة فِي أثْنَاء سنة سقط من وَاجِب تِلْكَ السّنة
القَوْل فِي شُرُوط وجوب الْقصاص (وشرائط وجوب الْقصاص) فِي الْعمد
(أَرْبَعَة) بل خَمْسَة كَمَا ستعرفه الأول (أَن يكون الْقَاتِل بَالغا)
وَالثَّانِي أَن يكون (عَاقِلا) فَلَا قصاص على صبي وَمَجْنُون لرفع الْقَلَم عَنْهُمَا وتضمينهما متلفاتهما إِنَّمَا هُوَ من بَاب خطاب الْوَضع فَتجب الدِّيَة فِي مَالهمَا
تَنْبِيه مَحل عدم الْجِنَايَة على الْمَجْنُون إِذا كَانَ جُنُونه مطبقا فَإِن تقطع فَلهُ حكم الْمَجْنُون حَال جُنُونه وَحكم الْعَاقِل حَال إِفَاقَته وَمن لزمَه قصاص ثمَّ جن استوفى مِنْهُ حَال جُنُونه لِأَنَّهُ لَا يقبل الرُّجُوع
وَلَو قَالَ كنت يَوْم الْقَتْل صَبيا أَو مَجْنُونا وَكذبه ولي الْمَقْتُول صدق الْقَاتِل بِيَمِينِهِ إِن أمكن الصِّبَا وَقت الْقَتْل وعهد الْجُنُون قبله لِأَن الأَصْل بقاؤهما بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن صباه وَلم يعْهَد جُنُونه
وَالْمذهب وجوب الْقصاص على السَّكْرَان الْمُتَعَدِّي بسكره لِأَنَّهُ مُكَلّف عِنْد غير النَّوَوِيّ
وَلِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى ترك الْقصاص لِأَن من رام الْقَتْل لَا يعجز أَن يسكر حَتَّى لَا يقْتَصّ مِنْهُ
وَهَذَا كالمستثنى من شَرط الْعقل
وَهُوَ من قبيل ربط الْأَحْكَام بالأسباب وَألْحق بِهِ من تعدى بِشرب دَوَاء يزِيل الْعقل أما غير الْمُتَعَدِّي فَهُوَ كالمعتوه فَلَا قصاص عَلَيْهِ وَلَا قصاص وَلَا دِيَة على حَرْبِيّ قتل حَال حرابته وَإِن عصم بعد ذَلِك بِإِسْلَام أَو عقد ذمَّة لما تَوَاتر من فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة بعده من عدم الْقصاص مِمَّن أسلم كوحشي قَاتل حَمْزَة وَلعدم الْتِزَامه الْأَحْكَام(2/497)
(و) الثَّالِث (أَن لَا يكون) الْقَاتِل (والدا للمقتول) فَلَا قصاص بقتل ولد للْقَاتِل وَإِن سفل لخَبر الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وصححاه لَا يُقَاد للِابْن من أَبِيه وَلَو كَافِرًا ولرعاية حرمته وَلِأَنَّهُ كَانَ سَببا فِي وجوده فَلَا يكون هُوَ سَببا فِي عَدمه
تَنْبِيه هَل يقتل بولده الْمَنْفِيّ بِاللّعانِ وَجْهَان ويجريان فِي الْقطع بِسَرِقَة مَاله وَقبُول شَهَادَته لَهُ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَالْأَشْبَه أَنه يقتل بِهِ مَا دَامَ مصرا على النَّفْي انْتهى
وَالْأَوْجه أَنه لَا يقتل بِهِ مُطلقًا للشُّبْهَة كَمَا قَالَه غَيره
وَلَا قصاص للْوَلَد على الْوَالِد
كَأَن قتل زَوْجَة نَفسه وَله مِنْهَا ولد أَو قتل زَوْجَة ابْنه أَو لزمَه قَود فورث بعضه وَلَده كَأَن قتل أَبَا زَوجته ثمَّ مَاتَت الزَّوْجَة وَله مِنْهَا ولد لِأَنَّهُ إِذا لم يقتل بِجِنَايَتِهِ على وَلَده فَلِأَن لَا يقتل بِجِنَايَتِهِ على من لَهُ فِي قَتله حق أولى
وَأفهم كَلَامه أَن الْوَلَد يقتل بِكُل وَاحِد من وَالِديهِ وَهُوَ كَذَلِك بِشَرْط التَّسَاوِي فِي الْإِسْلَام وَالْحريَّة
إِلَّا أَنه يسْتَثْنى مِنْهُ الْمكَاتب إِذا قتل أَبَاهُ وَهُوَ يملكهُ فَلَا يقتل بِهِ على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَيقتل الْمَحَارِم بعضم بِبَعْض وَيقتل العَبْد بِعَبْد لوالده
(و) الرَّابِع (أَن لَا يكون الْمَقْتُول أنقص من الْقَاتِل بِكفْر أَو رق) أَو هدر دم تَحْقِيقا للمكافأة الْمَشْرُوطَة لوُجُوب الْقصاص بالأدلة الْمَعْرُوفَة فَإِن كَانَ أنقص بِأَن قتل مُسلم كَافِرًا أَو حر من فِيهِ رق أَو مَعْصُوم بِالْإِسْلَامِ زَانيا مُحصنا فَلَا قصاص حِينَئِذٍ وَخرج بتقييد الْعِصْمَة بِالْإِسْلَامِ الْمَعْصُوم بجزية كالذمي فَإِنَّهُ يقتل بالزاني الْمُحصن وبذمي أَيْضا وَإِن اخْتلفت ملتهما فَيقْتل يَهُودِيّ بنصراني ومعاهد ومستأمن ومجوسي وَعَكسه لِأَن الْكفْر كُله مِلَّة وَاحِدَة من حَيْثُ إِن النّسخ شَمل الْجَمِيع
فَلَو أسلم الذِّمِّيّ الْقَاتِل لم يسْقط الْقصاص لتكافؤهما حَال الْجِنَايَة
لِأَن الِاعْتِبَار فِي الْعُقُوبَات بِحَال الْجِنَايَات وَلَا نظر لما يحدث بعْدهَا وَيقتل رجل بِامْرَأَة وَخُنْثَى كَعَكْسِهِ وعالم بجاهل كَعَكْسِهِ وشريف بخسيس وَشَيخ بشاب كعسكهما
وَالْخَامِس عصمَة الْقَتِيل بِإِيمَان أَو أَمَان كعقد ذمَّة أَو عهد لقَوْله تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} اي الْآيَة وَلقَوْله تَعَالَى {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} اي الْآيَة فيهدر الْحَرْبِيّ وَلَو صَبيا وَامْرَأَة وعبدا لقَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ومرتد فِي حق مَعْصُوم لخَبر من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ كزان مُحصن قَتله مُسلم مَعْصُوم كَمَا مر لاستيفائه حق الله(2/498)
تَعَالَى سَوَاء أثبت زِنَاهُ بِإِقْرَارِهِ أم بِبَيِّنَة
وَمن عَلَيْهِ قَود لقاتله لاستيفائه حَقه وَيقتل قن ومدبر ومكاتب وَأم ولد بَعضهم بِبَعْض وَإِن كَانَ الْمَقْتُول الْكَافِر وَالْقَاتِل الْمُسلم وَلَو قتل عبد عبدا ثمَّ عتق الْقَاتِل فكحدوث الْإِسْلَام لذِمِّيّ قتل وَحكمه كَمَا سبق وَمن بعضه حر لَو قتل مثله سَوَاء ازادت حريَّة الْقَاتِل على حريَّة الْمَقْتُول أم لَا لَا قصاص لِأَنَّهُ لم يقتل بِالْبَعْضِ الْحر الْبَعْض الْحر وبالرقيق الرَّقِيق بل قَتله جَمِيعه بِجَمِيعِهِ حريَّة وَرقا شَائِعا فَيلْزم قتل جُزْء حريَّة بِجُزْء رق وَهُوَ مُمْتَنع والفضيلة فِي شخص لَا بِخَبَر النَّقْص فِيهِ وَلِهَذَا لَا قصاص بَين عبد مُسلم وحر ذمِّي لِأَن الْمُسلم لَا يقتل بالذمي وَالْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ وَلَا تجبر فَضِيلَة كل مِنْهُمَا نقيضته
القَوْل فِي قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ (وَتقتل الْجَمَاعَة) وَإِن كَثُرُوا (بِالْوَاحِدِ) وَإِن تفاضلت جراحاتهم فِي الْعدَد وَالْفُحْش وَالْأَرْش سَوَاء أقتلوه بمحدد أم بِغَيْرِهِ كَأَن ألقوه من شَاهِق وَفِي بَحر لما روى مَالك أَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قتل نَفرا خَمْسَة أَو سَبْعَة بِرَجُل قَتَلُوهُ غيلَة أَي حِيلَة بِأَن يخدع وَيقتل فِي مَوضِع لَا يرَاهُ فِيهِ أحد وَقَالَ لَو تمالأ أَي اجْتمع عَلَيْهِ أهل صنعاء لقتلتهم بِهِ جَمِيعًا وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد فَصَارَ ذَلِك إِجْمَاعًا وَلِأَن الْقصاص عُقُوبَة تجب للْوَاحِد على الْوَاحِد فَتجب للْوَاحِد على الْجَمَاعَة كَحَد الْقَذْف وَلِأَنَّهُ شرع لحقن الدِّمَاء فَلَو لم يجب عِنْد الِاشْتِرَاك لَكَانَ كل من أَرَادَ أَن يقتل شخصا اسْتَعَانَ بآخر على قَتله وَاتخذ ذَلِك ذَرِيعَة لسفك الدِّمَاء لِأَنَّهُ صَار آمنا من الْقصاص وللولي الْعَفو عَن بَعضهم على الدِّيَة وَعَن جَمِيعهم عَلَيْهَا
ثمَّ إِن كَانَ الْقَتْل بجراحات وزعت الدِّيَة بِاعْتِبَار عدد الرؤوس لِأَن تَأْثِير الْجِرَاحَات لَا يَنْضَبِط وَقد تزيد نكاية الْجرْح الْوَاحِد على جراحات كَثِيرَة وَإِن كَانَ بِالضَّرْبِ فعلى عدد الضربات لِأَنَّهَا تلاقي الظَّاهِر وَلَا يعظم فِيهَا التَّفَاوُت بِخِلَاف الْجِرَاحَات
وَمن قتل جمعا مُرَتبا قتل بأولهم أَو دفْعَة فبالقرعة وللباقين الدِّيات لتعذر الْقصاص عَلَيْهِم فَلَو قَتله غير الأول من الْمُسْتَحقّين فِي الأولى أَو غير من خرجت قرعته مِنْهُم فِي الثَّانِيَة عصى وَوَقع قَتله قصاصا وللباقين الدِّيات لتعذر الْقصاص عَلَيْهِم بِغَيْر اختيارهم
وَلَو قَتَلُوهُ كلهم أساؤوا وَوَقع الْقَتْل موزعا عَلَيْهِم وَرجع كل مِنْهُم بِالْبَاقِي لَهُ من الدِّيَة(2/499)
عُفيَ عَنهُ قَوْله (على عدد الضربات الخ) وَهُوَ المعمتد وَقيل على عدد الرؤوس هَذَا إِن عرف عدد الضربات وَإِلَّا فعلى عدد الرؤوس قَوْله (وَمن قتل جمعا الخ) هَذَا عكس مَا فِي الْمَتْن قَوْله مُرَتبا أَي يَقِينا وَقَوله دفْعَة أَي وَلَو احْتِمَالا فَيدْخل فِي الثَّانِيَة (وكل شَخْصَيْنِ جري الْقصاص بَينهمَا فِي النَّفس) بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدّمَة (يجْرِي بَينهمَا) الْقصاص أَيْضا (فِي) قطع (الْأَطْرَاف) وَفِي الْجرْح الْمُقدر كالموضحة كَمَا سَيذكرُهُ المُصَنّف وَفِي إِزَالَة بعض الْمَنَافِع المضبوطة كضوء الْعين والسمع والشم والبطش والذوق
قَالَ فِي الرَّوْضَة لِأَن لَهَا محالا مضبوطة وَلأَهل الْخِبْرَة طرق فِي إِبْطَالهَا
القَوْل فِي شُرُوط الْقصاص فِي الْأَطْرَاف (وشرائط وجوب الْقصاص فِي الْأَطْرَاف بعد الشَّرَائِط) الْخَمْسَة (الْمَذْكُورَة) فِي قصاص النَّفس (اثْنَان) الأول (الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم الْخَاص) رِعَايَة للمماثلة (الْيُمْنَى باليمنى واليسرى باليسرى) فَلَا تقطع يسَار بِيَمِين وَلَا شفة سفلى بعليا وعكسهما وَلَا حَادث بعد الْجِنَايَة بموجود فَلَو قلع سنا لَيْسَ لَهُ مثلهَا فَلَا قَود وَإِن نبت لَهُ مثلهَا بعد وَخرج بِقَيْد الِاسْم الْخَاص الِاشْتِرَاك فِي الْبدن فَلَا يشْتَرط فَيقطع الرجل بِالْمَرْأَةِ وَعَكسه وَالذِّمِّيّ بِالْمُسلمِ وَالْعَبْد بِالْحرِّ وَلَا عكس فيهمَا
قَالَه فِي الرَّوْضَة
(و) الثَّانِي (أَن لَا يكون بِأحد الطَّرفَيْنِ) أَي الْجَانِي والمجني عَلَيْهِ (شلل) وَهُوَ يبس فِي الْعُضْو يبطل عمله فَلَا تقطع صَحِيحَة من يَد أَو رجل بشلاء وَإِن رَضِي بِهِ الْجَانِي أَو شلت يَده أَو رجله بعد الْجِنَايَة لانْتِفَاء الْمُمَاثلَة فَلَو خَالف صَاحب الشلاء وَفعل الْقطع بِغَيْر إِذن الْجَانِي لم يقطع قصاصا لِأَنَّهُ غير مُسْتَحقّ بل عَلَيْهِ دِيَتهَا وَله حُكُومَة يَده الشلاء فَلَو سرى الْقطع فَعَلَيهِ قصاص النَّقْص لتفويتها بِغَيْر حق وتقطع الشلاء بالشلاء إِذا اسْتَويَا فِي الشلل أَو كَانَ شلل الْجَانِي أَكثر وَلم يخف نزف الدَّم وَإِلَّا فَلَا قطع
وتقطع الشلاء أَيْضا بالصحيحة لِأَنَّهَا دون حَقه إِلَّا أَن يَقُول أهل الْخِبْرَة لَا يَنْقَطِع الدَّم بل تنفتح أَفْوَاه الْعُرُوق وَلَا تنسد بحسم النَّار وَلَا غَيره فَلَا تقطع بهَا وَإِن رَضِي الْجَانِي كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم حذرا من اسْتِيفَاء النَّفس بالطرف فَإِن قَالُوا يَنْقَطِع الدَّم وقنع بهَا مستوفيها بِأَن لَا يطْلب أرشا لشلل قطعت لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الجرم
وَإِن اخْتلفَا فِي الصّفة لِأَن الصّفة الْمُجَرَّدَة لَا تقَابل بِمَال وَكَذَا لَو قتل الذِّمِّيّ بِالْمُسلمِ وَالْعَبْد بِالْحرِّ لم يجب لفضيلة الْإِسْلَام وَالْحريَّة شَيْء وَيقطع عُضْو سليم بأعسم وأعرج إِذْ لَا خلل فِي الْعُضْو والعسم بمهملتين مفتوحتين تشنج فِي الْمرْفق أَو قصر فِي الساعد أَو الْعَضُد وَلَا أثر فِي الْقصاص فِي يَد أَو رجل لخضرة أظفار وسوادها لِأَنَّهُ عِلّة أَو مرض فِي الظفر وَذَلِكَ لَا يُؤثر فِي وجوب الْقصاص وتقطع ذَاهِبَة الْأَظْفَار بسليمتها لِأَنَّهَا دونهَا دون عَكسه
لِأَن الْكَامِل لَا يُؤْخَذ بالناقص وَالذكر صِحَة وشللا كَالْيَدِ صِحَة وشللا أَو لذكر الأشل منقبض لَا ينبسط وَعَكسه وَلَا أثر للانتشار وَعَدَمه
فَيقطع ذكر فَحل بِذكر خصي وعنين وأنف صَحِيح الشم بأخشم
وتقطع أذن سميع بِأَصَمَّ وَلَا تُؤْخَذ عين صَحِيحَة بحدقة عمياء وَلَا(2/500)
لِسَان نَاطِق بأخرس وَفِي قلع السن قصاص قَالَ تَعَالَى {وَالسّن بِالسِّنِّ} اي فَلَا قصاص فِي كسرهَا كَمَا لَا قصاص فِي كسر الْعِظَام نعم إِن أمكن فِيهَا الْقصاص فَعَن النَّص أَنه يجب لِأَن السن عظم مشَاهد من أَكثر الجوانب وَلأَهل الصَّنْعَة آلَات قطاعة يعْتَمد عَلَيْهَا فِي الضَّبْط فَلم تكن كَسَائِر الْعِظَام وَلَو قلع شخص مثغور وَهُوَ الَّذِي سَقَطت رواضعه سنّ كَبِير أَو صَغِير لم تسْقط أَسْنَانه الرواضع وَمِنْهَا المقلوعة فَلَا ضَمَان فِي الْحَال لِأَنَّهَا تعود غَالِبا فَإِن جَاءَ وَقت نباتها بِأَن سقط الْبَوَاقِي ونبتت دون المقلوعة وَقَالَ أهل الْخِبْرَة فسد المنبت وَجب الْقصاص فِيهَا حِينَئِذٍ وَلَا يسْتَوْفى للصَّغِير فِي صغره لِأَن الْقصاص للتشفي وَلَو قلع شخص سنّ مثغور فَنَبَتَتْ لم يسْقط الْقصاص لِأَن عودهَا نعْمَة جَدِيدَة من الله تَعَالَى (وكل عُضْو أَخذ) أَي قطع جِنَايَة (من مفصل) بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْمُهْملَة كالمرفق والأنامل والكوع ومفصل الْقدَم وَالركبَة
(فَفِيهِ الْقصاص) لانضباط ذَلِك مَعَ الْأَمْن من اسْتِيفَاء الزِّيَادَة وَلَا يضر فِي الْقصاص عِنْد مُسَاوَاة الْمحل كبر وَصغر وَقصر وَطول وَقُوَّة بَطش وَضَعفه فِي عُضْو أُصَلِّي أَو زَائِد
وَمن المفاصل أصل الْفَخْذ والمنكب فَإِن أمكن الْقصاص فيهمَا بِلَا جَائِفَة اقْتصّ وَإِلَّا فَلَا سَوَاء أجاف الْجَانِي أم لَا
نعم إِن مَاتَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ بذلك قطع الْجَانِي وَإِن لم يُمكن بِلَا إجافة وَيجب الْقصاص فِي فقء عين وَفِي قطع أذن وجفن وشفة سفلى وعليا ولسان وَذكر وأنثيين وشفرين وهما بِضَم الشين الْمُعْجَمَة تنثية شفر وَهُوَ حرف الْفرج وَفِي الأليتين وهما اللحمان الناتئان بَين الظّهْر والفخذ (وَلَا قصاص فِي الجروح) فِي سَائِر الْبدن لعدم ضَبطهَا وَعدم أَمن الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان طولا وعرضا (إِلَّا فِي) الْجراحَة (الْمُوَضّحَة) للعظم فِي أَي مَوضِع من الْبدن من غير كسر فَفِيهَا الْقصاص لتيسر ضَبطهَا
القَوْل فِي حكم الجروح فِي الْقصاص تَتِمَّة يعْتَبر قدر الْمُوَضّحَة بالمساحة طولا وعرضا فِي قصاصها لَا بالجزئية لِأَن الرأسين مثلا قد يَخْتَلِفَانِ صغرا وكبرا وَلَا يضر تفَاوت غلظ لحم وَجلد فِي قصاصها وَلَو أوضح كل رَأس المشجوج وَرَأس الشاج أَصْغَر من رَأسه استوعبناه إيضاحا وَلَا نكتفي بِهِ وَلَا نتممه من غَيره بل نَأْخُذ قسط الْبَاقِي من أرش الْمُوَضّحَة لَو وزع على جَمِيعهَا
وَإِن كَانَ رَأس الشاج أكبر من رَأس المشجوج أَخذ مِنْهُ قدر مُوضحَة رَأس المشجوج فَقَط والخيرة فِي تعْيين مَوْضِعه للجاني وَلَو أوضح نَاصِيَة من شخص وناصيته أَصْغَر من نَاصِيَة الْمَجْنِي عَلَيْهِ تمم من بَاقِي الرَّأْس لِأَن الرَّأْس كُله عُضْو وَاحِد وَلَو زَاد الْمُقْتَص عمدا فِي مُوضحَة على حَقه لزمَه قصاص الزِّيَادَة لتعمده
فَإِن كَانَ الزَّائِد خطأ أَو شبه عمد أَو عمدا وعفي عَنهُ على مَال وَجب أرش كَامِل وَلَو أوضحه جمع(2/501)
بتحاملهم على آلَة وَاحِدَة أوضح من كل وَاحِد مِنْهُم مُوضحَة مثلهَا كَمَا لَو اشْتَركُوا فِي قطع عُضْو
فصل فِي الدِّيَة
وَهِي فِي الشَّرْع اسْم لِلْمَالِ الْوَاجِب بِجِنَايَة على الْحر فِي نفس أَو فِيمَا دونهَا وَذكرهَا المُصَنّف عقب الْقصاص لِأَنَّهَا بدل عَنهُ على الصَّحِيح
وَالْأَصْل فِيهَا الْكِتَابِيّ وَالسّنة وَالْإِجْمَاع قَالَ تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة إِلَى أَهله اي وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة طافحة بذلك وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على وُجُوبهَا فِي الْجُمْلَة
القَوْل فِي أَنْوَاع الدِّيَة (وَالدية) الْوَاجِبَة ابْتِدَاء أَو بَدَلا (على ضَرْبَيْنِ) الأول (مُغَلّظَة) من ثَلَاثَة أوجه أَو من وَجه وَاحِد
(و) الثَّانِي (مُخَفّفَة) من ثَلَاثَة أوجه أَو من وَجْهَيْن
تَنْبِيه الدِّيَة قد يعرض لَهَا مَا يغلظها وَهُوَ أحد أَسبَاب خَمْسَة كَون الْقَتْل عمدا أَو شبه عمد أَو فِي الْحرم أَو فِي الْأَشْهر الْحرم أَو ذِي رحم محرم
وَقد يعرض لَهَا مَا ينقصها وَهُوَ أحد أَسبَاب أَرْبَعَة الْأُنُوثَة وَالرّق وَقتل الْجَنِين وَالْكفْر
فَالْأول يردهَا إِلَى الشّطْر وَالثَّانِي إِلَى الْقيمَة وَالثَّالِث إِلَى الْغرَّة وَالرَّابِع إِلَى الثُّلُث أَو أقل وَكَون الثَّانِي أنقص جرى على الْغَالِب وَإِلَّا فقد تزيد الْقيمَة على الدِّيَة
القَوْل فِي الدِّيَة الْمُغَلَّظَة ثمَّ شرع المُصَنّف فِي الْقسم الأول وَهِي الْمُغَلَّظَة فَقَالَ (فالمغلظة مائَة من الْإِبِل) فِي الْقَتْل الْعمد سَوَاء وَجب فِيهِ قصاص(2/502)
وعفي على مَال أم لَا كَقَتل الْوَالِد وَلَده
(ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة) وَتقدم بيانهما فِي الزَّكَاة (وَأَرْبَعُونَ خلفة) وَهِي الَّتِي (فِي بطونها أَوْلَادهَا) لخَبر التِّرْمِذِيّ بذلك وَالْمعْنَى أَن الْأَرْبَعين حوامل وَيثبت حملهَا بقول أهل الْخِبْرَة بِالْإِبِلِ
وَذَلِكَ فِي قتل الذّكر الْحر الْمُسلم المحقون الدَّم غير جَنِين انْفَصل بِجِنَايَة مَيتا وَالْقَاتِل لَهُ لَا رق فِيهِ لِأَن الله تَعَالَى أوجب فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة دِيَة وَبَينهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كتاب عَمْرو بن حزم فِي قَوْله فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَنقل ابْن عبد الْبر وَغَيره فِيهِ الْإِجْمَاع
وَلَا تخْتَلف الدِّيَة بالفضائل والرذائل وَإِن اخْتلفت بالأديان والذكورة وَالْأُنُوثَة بِخِلَاف الْجِنَايَة على الرَّقِيق فَإِن فِيهِ الْقيمَة الْمُخْتَلفَة أما إِذا كَانَ غير محقون الدَّم كتارك الصَّلَاة كسلا وَالزَّانِي الْمُحصن إِذا قتل كلا مِنْهُمَا مُسلم فَلَا دِيَة فِيهِ وَلَا كَفَّارَة وَإِن كَانَ الْقَاتِل رَقِيقا لغير الْمَقْتُول وَلَو مكَاتبا وَأم ولد فَالْوَاجِب أقل الْأَمريْنِ من قِيمَته
وَالدية وَإِن كَانَ مبعضا لزمَه لجِهَة الْحُرِّيَّة الْقدر الَّذِي يُنَاسِبهَا من نصف أَو ثلث مثلا ولجهة الرّقية أقل الْأَمريْنِ من الْقيمَة وَالدية وَهَذِه الدِّيَة مُغَلّظَة من ثَلَاثَة أوجه كَونهَا على الْجَانِي وَحَالَة وَمن جِهَة السن والخلفة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر اللَّام وبالفاء وَلَا جمع لَهَا من لَفظهَا عِنْد الْجُمْهُور بل من مَعْنَاهَا وَهُوَ مَخَاض كامرأة وَنسَاء
وَقَالَ الْجَوْهَرِي جمعهَا خلف بِكَسْر اللَّام وَابْن سَيّده خلفات وَفِي شبه الْعمد مُغَلّظَة من وَجه وَاحِد وَهُوَ كَونهَا مُثَلّثَة
القَوْل فِي الدِّيَة المخففة (والمخففة) بِسَبَب قتل الذّكر الْحر الْمُسلم
(مائَة من الْإِبِل) وَهِي فِي الْخَطَأ مُخَفّفَة من ثَلَاثَة أوجه الأول وُجُوبهَا مخمسة (عشرُون حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَعِشْرُونَ ابْن لبون وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض) وَتقدم بَيَانهَا فِي الزَّكَاة
وَالثَّانِي وُجُوبهَا على الْعَاقِلَة
وَالثَّالِث وُجُوبهَا مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين
القَوْل فِي دِيَة شبه الْعمد وَفِي شبه الْعمد مُخَفّفَة من وَجْهَيْن وهما وُجُوبهَا على الْعَاقِلَة ووجوبها مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين وَلَا يقبل فِي إبل الدِّيَة معيب بِمَا يثبت الرَّد فِي الْمَبِيع وَإِن كَانَت إبل من لَزِمته مَعِيبَة لِأَن الشَّرْع أطلقها فاقتضت السَّلامَة وَخَالف ذَلِك الزَّكَاة لتعلقها بِعَين المَال وَخَالف الْكَفَّارَة أَيْضا لِأَن مقصودها تَخْلِيص الرَّقَبَة من الرّقّ لتستقل فَاعْتبر فِيهَا السَّلامَة مِمَّا يُؤثر فِي الْعَمَل والاستقلال إِلَّا بِرِضا الْمُسْتَحق بذلك إِذا كَانَ أَهلا للتبرع لِأَن الْحق لَهُ فَلهُ إِسْقَاطه
وَمن لَزِمته دِيَة وَله إبل فتؤخذ مِنْهَا وَلَا يُكَلف غَيرهَا لِأَنَّهَا تُؤْخَذ على سَبِيل الْمُوَاسَاة فَكَانَت مِمَّا عِنْده كَمَا تجب الزَّكَاة فِي نوع النّصاب فَإِن لم يكن لَهُ إبل فَمن غَالب إبل بَلْدَة بلدي أَو غَالب إبل قَبيلَة بدوي لِأَنَّهَا بدل متْلف فَوَجَبَ فِيهَا الْبَدَل الْغَالِب كَمَا فِي قيمَة الْمُتْلفَات فَإِن لم يكن فِي الْبَلدة أَو الْقَبِيلَة إبل بِصفة الْإِجْزَاء(2/503)
فتؤخذ من غَالب إبل أقرب بِلَاد أَو أقرب قبائل إِلَى مَوضِع الْمُؤَدِّي فَيلْزمهُ نقلهَا كَمَا فِي زَكَاة الْفطر مَا لم تبلغ مُؤنَة نقلهَا مَعَ قيمتهَا أَكثر من ثمن الْمثل ببلدة أَو قَبيلَة الْعَدَم فَإِنَّهُ لَا يجب حِينَئِذٍ نقلهَا وَهَذَا مَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَهُوَ أولى من الضَّبْط بمسافة الْقصر وَإِذا وَجب نوع من الْإِبِل لَا يعدل عَنهُ إِلَى نوع من غير ذَلِك الْوَاجِب وَلَا إِلَى قيمَة عَنهُ إِلَّا بتراض من الْمُؤَدِّي والمستحق
تَنْبِيه مَا ذكره المُصَنّف من التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف فِي النَّفس يجْرِي مثله فِي الْأَطْرَاف والجروح
القَوْل فِي الحكم إِذا عدمت الْإِبِل (فَإِن عدمت الْإِبِل) حسا بِأَن لم تُوجد فِي مَوضِع يجب تَحْصِيلهَا مِنْهُ أَو شرعا بِأَن وجدت فِيهِ بِأَكْثَرَ من ثمن مثلهَا (انْتقل إِلَى قيمتهَا) وَقت وجوب تَسْلِيمهَا بَالِغَة مَا بلغت لِأَنَّهَا بدل متْلف فَيرجع إِلَى قيمتهَا عِنْد إعواز أَصله وَتقوم بِنَقْد بَلَده الْغَالِب لِأَنَّهُ أقرب من غَيره وأضبط
فَإِن كَانَ فِيهِ نقدان فَأكْثر لَا غَالب فيهمَا تخير الْجَانِي بَينهمَا وَهَذَا هُوَ القَوْل الْجَدِيد وَهُوَ الصَّحِيح
(وَقيل) وَهُوَ القَوْل الْقَدِيم (ينْتَقل) الْمُسْتَحق عِنْد عدمهَا (إِلَى) أَخذ (ألف دِينَار) من أهل الدَّنَانِير (أَو) ينْتَقل (إِلَى اثْنَي عشر ألف دِرْهَم) فضَّة من أهل الدَّرَاهِم وَالْمُعْتَبر فيهمَا الْمَضْرُوب الْخَالِص (و) على الْقَدِيم (إِن غلظت) الدِّيَة وَلَو من وَجه وَاحِد (زيد عَلَيْهَا) لأجل التَّغْلِيظ (الثُّلُث) أَي قدره على أحد الْوَجْهَيْنِ المفرعين عَلَيْهِ
فَفِي الدَّنَانِير ألف وثلاثمائة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ دِينَارا وَثلث دِينَار وَفِي الْفضة سِتَّة عشر ألف دِرْهَم وَالْمُصَنّف فِي هَذَا تَابع لصَاحب الْمُهَذّب وَهُوَ ضَعِيف
وأصحهما فِي الرَّوْضَة إِنَّه لَا يُزَاد شَيْء لِأَن التَّغْلِيظ فِي الْإِبِل إِنَّمَا ورد بِالسِّنِّ وَالصّفة لَا بِزِيَادَة الْعدَد وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم
القَوْل فِي أَسبَاب تَغْلِيظ دِيَة الْخَطَأ (وتغلظ دِيَة الْخَطَأ) من وَجه وَاحِد وَهُوَ وُجُوبهَا مُثَلّثَة (فِي) أحد (ثَلَاثَة مَوَاضِع) الأول (إِذا قتل) خطأ (فِي الْحرم) أَي حرم مَكَّة فَإِنَّهَا تثلث فِيهِ لِأَن لَهُ تَأْثِيرا فِي الْأَمْن بِدَلِيل إِيجَاب جَزَاء الصَّيْد الْمَقْتُول فِيهِ سَوَاء أَكَانَ الْقَاتِل والمقتول فِيهِ أم أُصِيب الْمَقْتُول فِيهِ وَرمى من خَارجه أم قطع السهْم فِي مروره هَوَاء الْحرم وهما بِالْحلِّ
تَنْبِيه الْكَافِر لَا تغلظ دِيَته فِي الْحرم كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي لِأَنَّهُ مَمْنُوع من دُخُوله فَلَو دخله لضَرُورَة اقتضته فَهَل تغلظ أَو يُقَال هَذَا نَادِر الْأَوْجه الثَّانِي وَخرج بِالْحرم الْإِحْرَام لِأَن حرمته عارضة غير مستمرة وبمكة حرم الْمَدِينَة بِنَاء على منع الْجَزَاء بقتل صَيْده وَهُوَ الْأَصَح
وَالثَّانِي مَا ذكره بقوله (أَو) قتل خطأ (فِي) بعض (الْأَشْهر الْحرم) الْأَرْبَعَة وَهِي ذُو الْقعدَة بِفَتْح الْقَاف وَذُو الْحجَّة بِكَسْر الْحَاء على الْمَشْهُور فيهمَا وسميا بذلك لقعودهم عَن الْقِتَال فِي الأول ولوقوع الْحَج فِي الثَّانِي وَالْمحرم بتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة سمي بذلك لتَحْرِيم الْقِتَال فِيهِ
وَقيل لتَحْرِيم الْجنَّة على إِبْلِيس حَكَاهُ صَاحب المستعذب ودخلته اللَّام دون غَيره من الشُّهُور لِأَنَّهُ أَولهَا فعرفوه كَأَنَّهُ قيل هَذَا الشَّهْر الَّذِي يكون أبدا أول السّنة
وَرَجَب وَيُقَال لَهُ الْأَصَم والأصب وَهَذَا التَّرْتِيب الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي عد الْأَشْهر الْحرم وَجعلهَا من سنتَيْن هُوَ الصَّوَاب كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم
وعدها الْكُوفِيُّونَ من سنة وَاحِدَة فَقَالُوا الْمحرم وَرَجَب وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة قَالَ ابْن دحْيَة وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا إِذا نذر صيامها أَي مرتبَة فعلى الأول يبْدَأ بِذِي الْقعدَة وعَلى الثَّانِي بالمحرم(2/504)
وَالثَّالِث مَا ذكره بقوله
(أَو قتل) خطأ محرما (ذَات رحم) أَي قريب
(محرم) كالأم وَالْأُخْت لما فِي ذَلِك من قطيعة الرَّحِم وَخرج بِمحرم ذَات رحم صُورَتَانِ الأولى مَا إِذا انْفَرَدت الْمَحْرَمِيَّة عَن الرَّحِم كَمَا فِي الْمُصَاهَرَة
وَالرّضَاع فَلَا يغلظ بهَا الْقَتْل قطعا
الثَّانِيَة أَن تنفرد الرحمية عَن الْمَحْرَمِيَّة كأولاد الْأَعْمَام والأخوال فَلَا تغلظ فيهم على الْأَصَح عِنْد الشَّيْخَيْنِ لما بَينهمَا من التَّفَاوُت فِي الْقَرَابَة
تَنْبِيه يدْخل التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف فِي دِيَة الْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ وَنَحْوه مِمَّن لَهُ عصمَة وَفِي قطع الطّرف وَفِي دِيَة الْجرْح بِالنِّسْبَةِ لدية النَّفس وَلَا يدْخل قيمَة العَبْد تَغْلِيظ وَلَا تَخْفيف بل الْوَاجِب قِيمَته يَوْم التّلف على قِيَاس سَائِر المتقومات
وَلَا تَغْلِيظ فِي قتل الْجَنِين بِالْحرم كَمَا يَقْتَضِيهِ إِطْلَاقهم وَصرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَإِن كَانَ مُقْتَضى النَّص خِلَافه وَلَا تَغْلِيظ فِي الحكومات كَمَا نَقله الزَّرْكَشِيّ عَن تَصْرِيح الْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخَيْنِ خِلَافه
وَتَقْيِيد المُصَنّف الْقَتْل بالْخَطَأ إِشَارَة إِلَى أَن التَّغْلِيظ إِنَّمَا يظْهر فِيهِ أما إِذا كَانَ عمدا أَو شبه عمد فَلَا يتضاعف بالتغليظ وَلَا خلاف فِيهِ كَمَا قَالَه العمراني
لِأَن الشَّيْء إِذا انْتهى نهايته فِي التَّغْلِيظ لَا يقبل التَّغْلِيظ كالإيمان فِي الْقسَامَة وَنَظِيره المكبر لَا يكبر كَعَدم التَّثْلِيث فِي غسلات الْكَلْب قَالَه الدَّمِيرِيّ وَالزَّرْكَشِيّ
القَوْل فِي تَخْفيف الدِّيَة وأسبابه وَلما فرغ من مغلظات الدِّيَة شرع فِي منقصاتها فَمِنْهَا الْأُنُوثَة كَمَا قَالَه (ودية الْمَرْأَة) الْحرَّة سَوَاء أقتلها رجل أم امْرَأَة (على النّصْف من دِيَة الرجل) الْحر مِمَّن هِيَ على دينه نفسا أَو جرحا لما روى الْبَيْهَقِيّ خبر دِيَة الْمَرْأَة نصف دِيَة الرجل وَألْحق بِنَفسِهَا جرحها
وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ هُنَا فِي جَمِيع أَحْكَامهَا لِأَن زِيَادَته عَلَيْهَا مَشْكُوك فِيهَا
فَفِي قتل الْمَرْأَة أَو الْخُنْثَى خطأ عشر بَنَات مَخَاض وَعشر بَنَات لبون وَهَكَذَا
وَفِي قَتلهَا عمدا أَو شبه عمد خمس عشرَة حقة وَخمْس عشرَة جَذَعَة وَعِشْرُونَ خلفة
القَوْل فِي دِيَة الْكتاب وَغَيره (ودية) كل من (الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ) والمعاهد والمستأمن إِذا كَانَ مَعْصُوما تحل مناكحته (ثلث دِيَة) الْحر (الْمُسلم) نفسا وَغَيرهَا
أما فِي النَّفس فَروِيَ مَرْفُوعا قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأُم قضى بذلك عمر وَعُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
وَهَذَا التَّقْدِير لَا يفعل بِلَا تَوْقِيف فَفِي قَتله عمدا أَو شبه عمد عشر حقاق وَعشر جذعات وَثَلَاث عشرَة خلفة وَثلث وَفِي قَتله خطأ لم يغلظ سِتَّة وَثُلُثَانِ من بَنَات الْمَخَاض وَبَنَات اللَّبُون وَبني اللَّبُون والحقاق والجذاع فمجموع ذَلِك ثَلَاث وَثَلَاثُونَ وَثلث
وَقَالَ أَبُو(2/505)
حنيفَة دِيَة مُسلم
وَقَالَ مَالك نصفهَا
وَقَالَ أَحْمد إِن قتل عمدا فديَة مُسلم أَو خطأ فنصفها
أما غير الْمَعْصُوم من الْمُرْتَدين وَمن لَا أَمَان لَهُ فَإِنَّهُ مقتول بِكُل حَال وَأما من لَا تحل مناكحته فَهُوَ كالمجوسي
وَأما الْأَطْرَاف والجراح فبالقياس على النَّفس
تَنْبِيه السامرة كاليهود والصابئة كالنصارى إِن لم يكفرهم أهل ملتهم وَإِلَّا فكمن لَا كتاب لَهُ
القَوْل فِي دِيَة الْمَجُوس (ودية الْمَجُوسِيّ) الَّذِي لَهُ أَمَان أخس الدِّيات وَهِي (ثلثا عشر دِيَة الْمُسلم) كَمَا قَالَه بِهِ عمر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم فَفِيهِ عِنْد التَّغْلِيظ حقتان وجذعتان وخلفتان وَثلثا خلفة وَعند التَّخْفِيف بعير وَثلث من كل سنّ فمجموع ذَلِك سِتّ وَثُلُثَانِ وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن فِي الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ خمس فَضَائِل وَهِي حُصُول كتاب وَدين كَانَ حَقًا بِالْإِجْمَاع وَتحل مناكحتهم وذبائحهم ويقرون بالجزية
وَلَيْسَ للمجوسي من هَذِه الْخَمْسَة إِلَّا التَّقْرِير بالجزية فَكَانَت دِيَته على الْخمس من دِيَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ
تَنْبِيه قَوْله ثلثا عشر أولى مِنْهُ ثلث خمس
لِأَن فِي الثُّلثَيْنِ تكريرا وَأَيْضًا فَهُوَ الْمُوَافق لتصويب أهل الْحساب لَهُ بِكَوْنِهِ أخصر وَكَذَا وَثني وَنَحْوه كعابد شمس وقمر وزنديق وَهُوَ من لَا ينتحل دينا مِمَّن لَهُ أَمَان كدخوله لنا رَسُولا أما من لَا أَمَان لَهُ فمهدر
القَوْل فِي دِيَة الْمُتَوَلد بَين كتابي ووثني وَسكت المُصَنّف عَن دِيَة المتوليد بَين كتابي ووثني مثلا
وَهِي كدية الْكِتَابِيّ اعْتِبَارا بالأشرف سَوَاء كَانَ أَبَا أم أما لِأَن الْمُتَوَلد يتبع أشرف الْأَبَوَيْنِ دينا وَالضَّمان يغلب فِيهِ جَانب التَّغْلِيظ وَيحرم قتل من لَهُ أَمَان لأمانه ودية النِّسَاء وخناثى مِمَّن ذكر على النّصْف من دِيَة رِجَالهمْ
وَلَو أخر المُصَنّف ذكر الْمَرْأَة إِلَى هُنَا
وَذكر مَعهَا الْخُنْثَى لشمل الْجَمِيع
ويراعى فِي ذَلِك التَّغْلِيظ وَالتَّخْفِيف
وَمن لم تبلغه دَعْوَة الْإِسْلَام إِن تمسك بدين لم يُبدل فديَة أهل دينه دِيَته وَإِلَّا فكدية مَجُوسِيّ وَلَا يجوز قتل من لم تبلغه الدعْوَة ويقتص لمن أسلم بدار الْحَرْب
وَلم يُهَاجر مِنْهَا بعد إِسْلَامه وَإِن تمكن
القَوْل فِي دِيَة الْأَطْرَاف وَلما بَين المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى دِيَة النَّفس شرع فِي بَيَان مَا دونهَا وَهِي ثَلَاثَة أَقسَام إبانة طرف وَإِزَالَة مَنْفَعَة وجرح مخلا بترتيبها كَمَا ستعرفه إِن شَاءَ الله تَعَالَى مبتدئا بِالْأَمر الأول بقوله (وتكمل دِيَة النَّفس) أَي دِيَة نفس صَاحب ذَلِك الْعُضْو من ذكر أَو غَيره تَغْلِيظًا أَو تَخْفِيفًا (فِي) إبانة (الْيَدَيْنِ) الأصليتين لخَبر عَمْرو بن حزم بذلك رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره(2/506)
تَنْبِيه المُرَاد بِالْيَدِ الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع الْخمس هَذَا إِن قطع الْيَد من مفصل كف وَهُوَ الْكُوع
فَإِن قطع فَوق الْكَفّ وَجب مَعَ دِيَة الْكَفّ حُكُومَة لِأَن مَا فَوق الْكَفّ لَيْسَ بتابع بِخِلَاف الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع فَإِنَّهُمَا كالعضو الْوَاحِد بِدَلِيل قطعهمَا فِي السّرقَة بقوله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا بِالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى النَّص بالوارد فِي كتاب عَمْرو بن حزم الَّذِي كتبه لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة
(الرجلَيْن) الأصليتين إِذا قطعتا من الْكَعْبَيْنِ لحَدِيث عَمْرو بن حزم بذلك والكعب كَالْكَفِّ والساق كالساعد والفخذ كالعضد
والأعرج كالسليم لِأَن الْعَيْب لَيْسَ فِي نفس الْعُضْو وَإِنَّمَا العرج نقص فِي الْفَخْذ وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا لما مر
وَفِي كل أصْبع أَصْلِيَّة من يَد أَو رجل عشر دِيَة صَاحبهَا فَفِيهَا لذكر حر مُسلم عشرَة أَبْعِرَة
كَمَا جَاءَ فِي خبر عَمْرو بن حزم أما الْأصْبع الزَّائِد أَو الْيَد الزَّائِدَة أَو الرجل الزَّائِدَة فَفِيهَا حُكُومَة وَفِي كل أُنْمُلَة من أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ من غير إِبْهَام ثلث الْعشْر لِأَن كل أصْبع لَهُ ثَلَاث أنامل إِلَّا الْإِبْهَام فَلهُ أنملتان فَفِي أنملته نصفهَا عملا بقسط وَاجِب الْأصْبع (و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة مارن (الْأنف) وَهُوَ مَا لَان من الْأنف وخلا من الْعظم لخَبر عَمْرو بن حزم بذلك وَلِأَن فِيهِ جمالا وَمَنْفَعَة وَهُوَ مُشْتَمل على الطَّرفَيْنِ المسميان بالمنخرين وعَلى الحاجز بَينهمَا
وتندرج حُكُومَة قصبته فِي دِيَته كَمَا رَجحه فِي أصل الرَّوْضَة
وَلَا فرق بَين الأخشم وَغَيره وَفِي كل من طَرفَيْهِ والحاجز ثلث توزيعا للدية عَلَيْهَا
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة (الْأُذُنَيْنِ) من أَصلهمَا بِغَيْر إِيضَاح سَوَاء أَكَانَ سميعا أم أَصمّ لخَبر عَمْرو بن حزم فِي الْأذن خَمْسُونَ من الْإِبِل رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَلِأَنَّهُمَا عضوان فيهمَا جمال وَمَنْفَعَة فَوَجَبَ أَن تكمل فيهمَا الدِّيَة
فَإِن حصل بِالْجِنَايَةِ إِيضَاح وَجب مَعَ الدِّيَة أرش وَفِي بعض الْأذن بِقسْطِهِ
وَيقدر بالمساحة وَلَو أيبسهما بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِمَا
بِحَيْثُ لَو حركتا لم تتحركا فديَة كَمَا لَو ضرب يَده فشلت وَلَو قطع أذنين يابستين بِجِنَايَة أَو غَيرهَا فَحُكُومَة
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة (الْعَينَيْنِ) لخَبر عَمْرو بن حزم بذلك وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وَلِأَنَّهُمَا من أعظم الْجَوَارِح نفعا فكانتا أولى بِإِيجَاب الدِّيَة
وَفِي كل عين نصفهَا وَلَو عين أَحول وَهُوَ من فِي عَيْنَيْهِ خلل دون بَصَره وَعين أعمش وَهُوَ من يسيل دمعه غَالِبا مَعَ ضعف رُؤْيَته
وَعين أَعور وَهُوَ ذَاهِب حس إِحْدَى الْعَينَيْنِ مَعَ بَقَاء بَصَره وَعين أخفش وَهُوَ صَغِير الْعين المبصرة وَعين أعشى وَهُوَ من لَا يبصر لَيْلًا
وَعين أَجْهَر وَهُوَ من لَا يبصر فِي الشَّمْس لِأَن الْمَنْفَعَة بَاقِيَة بأعين
من ذكر وَمِقْدَار الْمَنْفَعَة لَا ينظر إِلَيْهِ وَكَذَا من بِعَيْنِه بَيَاض علا بياضها أَو سوادها أَو ناظرها وَهُوَ رَقِيق لَا ينقص الضَّوْء الَّذِي فِيهَا يجب فِي قلعهَا نصف دِيَة
لما مر فَإِن نقص الضَّوْء وَأمكن ضبط النَّقْص فقسط مَا نقص يسْقط من الدِّيَة فَإِن لم يَنْضَبِط النَّقْص وَجَبت حكومته
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة (الجفون الْأَرْبَعَة) وَفِي كل جفن بِفَتْح جيمه وَكسرهَا وَهُوَ غطاء الْعين ربع دِيَة سَوَاء(2/507)
الْأَعْلَى أَو الْأَسْفَل
وَلَو كَانَت لأعمى وَبلا هدب لِأَن فِيهَا جمالا وَمَنْفَعَة
وَقد اخْتصّت عَن غَيرهَا من الْأَعْضَاء بِكَوْنِهَا ربَاعِية وَتدْخل حُكُومَة الْأَهْدَاب فِي دِيَة الأجفان بِخِلَاف مَا لَو انْفَرَدت الْأَهْدَاب فَإِن فِيهَا حُكُومَة إِذا فسد منبتها كَسَائِر الشُّعُور لِأَن الْفَائِت بقعطها الزِّينَة وَالْجمال دون الْمَقَاصِد الْأَصْلِيَّة وَإِلَّا فالتعزير
وَفِي قطع الجفن المستحشف
حُكُومَة وَفِي إحشاف الجفن الصَّحِيح ربع دِيَة وَفِي بعض الجفن الْوَاحِد قسطه من الرّبع
فَإِن قطع بعضه فتقلص بَاقِيه فقضية كَلَام الرَّافِعِيّ عدم تَكْمِيل الدِّيَة (و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة (اللِّسَان) لناطق سليم الذَّوْق وَلَو كَانَ اللِّسَان لألكن وَهُوَ من فِي لِسَانه لكنة أَي عجمة وَلَو لِسَان أرت بمثناة أَو ألثغ بمثلثة وَسبق
تفسيرهما فِي صَلَاة الْجَمَاعَة وَلَو لِسَان طِفْل وَإِن لم ينْطق كل ذَلِك لإِطْلَاق حَدِيث عَمْرو بن حزم وَفِي اللِّسَان الدِّيَة صَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَنقل ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وَلِأَن فِيهِ جمالا وَمَنْفَعَة يتَمَيَّز بِهِ الْإِنْسَان عَن الْبَهَائِم فِي الْبَيَان والعبارة
عَمَّا فِي الضَّمِير وَفِيه ثَلَاث مَنَافِع الْكَلَام والذوق والاعتماد فِي أكل الطَّعَام وإدارته فِي اللهوات حَتَّى يستكمل طحنه بالأضراس نعم لَو بلغ الطِّفْل أَوَان النُّطْق والتحريك وَلم يوجدا مِنْهُ فَفِيهِ حُكُومَة لَا دِيَة لإشعار الْحَال بعجزه وَإِن لم يبلغ أَوَان النُّطْق فديَة أخذا بِظَاهِر السَّلامَة
كَمَا تجب الدِّيَة فِي يَده وَرجله وَإِن لم يكن فِي الْحَال بَطش وَلَا مشي وَخرج بِقَيْد النَّاطِق الْأَخْرَس فَالْوَاجِب فِيهِ حُكُومَة
وَلَو كَانَ خرسه عارضا كَمَا فِي قطع الْيَد الشلاء وبسليم الذَّوْق وعديمه فَجزم الْمَاوَرْدِيّ وَصَاحب الْمُهَذّب بِأَن فِيهِ حُكُومَة كالأخرس قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهَذَا بِنَاء على الْمَشْهُور أَن الذَّوْق فِي اللِّسَان وَقد ينازعه قَول الْبَغَوِيّ وَغَيره
إِذا قطع لِسَانه فَذهب ذوقه لزمَه ديتان اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر لقَوْل الرَّافِعِيّ إِذا قطع لِسَان أخرس فَذهب ذوقه وَجَبت الدِّيَة للذوق
وَهَذَا يعلم من قَوْلهم إِن فِي الذَّوْق الدِّيَة وَإِن لم يقطع اللِّسَان (و) تكمل دِيَة النَّفس فِي إبانة (الشفتين) لوروده فِي حَدِيث عَمْرو بن حزم وَفِي الشفتين الدِّيَة وَفِي كل شفة وَهِي فِي عرض الْوَجْه إِلَى الشدقين وَفِي طوله مَا يستر اللثة كَمَا قَالَه فِي الْمُحَرر وَنصف الدِّيَة عليا أَو سفلى رقت أَو غلظت صغرت أَو كَبرت والإشلال كالقطع وَفِي شقها بِلَا إبانة حُكُومَة
وَلَو قطع شفة مشقوقة وَجَبت دِيَتهَا إِلَّا حُكُومَة الشق وَإِن قطع بعضهما فتقلص البعضان الباقيان وبقيا كمقطوع الْجَمِيع وزعت الدِّيَة على الْمَقْطُوع وَالْبَاقِي كَمَا اقْتَضَاهُ نَص الْأُم وَهل يسْقط مَعَ قطعهمَا حُكُومَة الشَّارِب أَو لَا وَجْهَان أظهرهمَا الأول كَمَا فِي الْأَهْدَاب مَعَ الأجفان وَيجب فِي كل لحي نصف دِيَة وَهُوَ بِفَتْح لامه وَكسرهَا وَاحِد اللحيين بِالْفَتْح وهما العظمان اللَّذَان تنْبت عَلَيْهِمَا الْأَسْنَان السُّفْلى وملتقاهما الذقن أما الْعليا فمنبتها عظم الرَّأْس وَلَا يدْخل أرش الْأَسْنَان فِي دِيَة فك اللحيين لِأَن كلا مِنْهُمَا مُسْتَقل بِرَأْسِهِ
وَله بدل مُقَدّر وَاسم يَخُصُّهُ فَلَا يدْخل أَحدهمَا فِي الآخر كالأسنان وَاللِّسَان
القَوْل فِي إِزَالَة الْمَنَافِع وديته ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ إِزَالَة الْمَنَافِع فَقَالَ (و) تكمل دِيَة النَّفس
(فِي ذهَاب الْكَلَام) فِي الْجِنَايَة على اللِّسَان(2/508)
لخَبر الْبَيْهَقِيّ فِي اللِّسَان الدِّيَة إِن منع الْكَلَام وَقَالَ ابْن أسلم مَضَت السّنة بذلك
وَلِأَن اللِّسَان عُضْو مَضْمُون بِالدِّيَةِ فَكَذَا منفعَته الْعُظْمَى كَالْيَدِ وَالرجل وَإِنَّمَا تُؤْخَذ الدِّيَة إِذا قَالَ أهل الْخِبْرَة لَا يعود كَلَامه
فَإِن أخذت ثمَّ عَاد استردت وَلَو ادّعى زَوَال نطقه امتحن بِأَن يروع فِي أَوْقَات الخلوات وَينظر هَل يصدر مِنْهُ مَا يعرف بِهِ كذبه فَإِن لم يظْهر مِنْهُ شَيْء حلف الْمَجْنِي عَلَيْهِ كَمَا يحلف الْأَخْرَس هَذَا فِي إبِْطَال نطقه بِكُل الْحُرُوف
وَأما فِي إبِْطَال بعض الْحُرُوف فَيعْتَبر قسطه من الدِّيَة هَذَا إِذا بَقِي لَهُ كَلَام مَفْهُوم
وَإِلَّا فَعَلَيهِ كَمَال الدِّيَة كَمَا جزم بِهِ صَاحب الْأَنْوَار اه والحروف الَّتِي توزع عَلَيْهَا الدِّيَة ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حرفا فِي لُغَة الْعَرَب بِحَذْف كلمة لَا لِأَنَّهَا لَام وَألف وهما معدودتان
فَفِي إبِْطَال نصف الْحُرُوف نصف الدِّيَة وَفِي إبِْطَال حرف مِنْهَا ربع سبعها
وَخرج بلغَة الْعَرَب غَيرهَا
فتوزع عَلَيْهَا وَإِن كَانَت أَكثر حروفا وَقد انْفَرَدت لُغَة الْعَرَب بِحرف الضَّاد فَلَا يُوجد فِي غَيرهَا وَفِي اللُّغَات حُرُوف لَيست فِي لُغَة الْعَرَب كالحرف الْمُتَوَلد بَين الْجِيم والشين وحروف اللُّغَات مُخْتَلفَة بَعْضهَا أحد عشر وَبَعضهَا أحد وَثَلَاثُونَ وَلَا فرق فِي توزيع الدِّيَة على الْحُرُوف بَين اللسانية وَغَيرهَا
كالحروف الحلقية
وَلَو عجز الْمَجْنِي على لِسَانه عَن بعض الْحُرُوف خلقَة كأرت وألثغ أَو بِآفَة سَمَاوِيَّة
فديَة كَامِلَة فِي إبِْطَال كَلَام كل مِنْهُمَا لِأَنَّهُ نَاطِق وَله كَلَام مَفْهُوم إِلَّا أَن فِي نطقه ضعفا وَضعف مَنْفَعَة الْعُضْو لَا يقْدَح فِي كَمَال الدِّيَة كضعف الْبَطْش وَالْبَصَر
فعلى هَذَا لَو أبطل بِالْجِنَايَةِ بعض الْحُرُوف فالتوزيع على مَا يُحسنهُ لَا على جَمِيع الْحُرُوف
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (ذهَاب الْبَصَر) من الْعَينَيْنِ لخَبر معَاذ بن جبل فِي الْبَصَر الدِّيَة وَهُوَ غَرِيب وَلِأَن منفعَته النّظر وَفِي ذهَاب بصر كل عين نصفهَا صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة حادة أَو كالة صَحِيحَة أَو عليلة عمشاء أَو حولاء من شيخ أَو طِفْل حَيْثُ الْبَصَر السَّلِيم فَلَو قلعهَا لم يزدْ على نصف الدِّيَة كَمَا لَو قطع يَده
وَلَو ادّعى الْمَجْنِي عَلَيْهِ زَوَال الضَّوْء وَأنكر الْجَانِي سُئِلَ عَدْلَانِ من أهل الْخِبْرَة أَو رجل وَامْرَأَتَانِ
إِن كَانَ خطأ أَو شبه عمد
فَإِنَّهُم إِذا واوفقوا الشَّخْص فِي مُقَابلَة عين الشَّمْس ونظروا فِي عينه عرفُوا أَن الضَّوْء ذَاهِب أَو مَوْجُود فَإِن لم يُوجد مَا ذكر من أهل الْخِبْرَة امتحن الْمَجْنِي عَلَيْهِ بتقريب عقرب أَو حَدِيدَة محماة أَو نَحْو ذَلِك من عينه بَغْتَة وَنظر هَل ينزعج أَو لَا
فَإِن انزعج صدق الْجَانِي بِيَمِينِهِ وَإِلَّا فالمجني عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ
وَإِن نقص ضوء الْمَجْنِي عَلَيْهِ فَإِن عرف قدر النَّقْص
بِأَن كَانَ يرى الشَّخْص من مَسَافَة فَصَارَ لَا يرَاهُ إِلَّا من نصفهَا مثلا فقسطه من الدِّيَة وَإِلَّا فَحُكُومَة
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (ذهَاب السّمع) لخَبر الْبَيْهَقِيّ وَفِي السّمع الدِّيَة وَنقل ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع
وَلِأَنَّهُ من أشرف الْحَواس فَكَانَ كالبصر بل هُوَ أشرف مِنْهُ عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء
لِأَن بِهِ يدْرك الْفَهم وَيدْرك من الْجِهَات السِّت وَفِي النُّور والظملة وَلَا يدْرك بالبصر إِلَّا من جِهَة الْمُقَابلَة وبواسطة من ضِيَاء أَو شُعَاع
وَقَالَ أَكثر الْمُتَكَلِّمين بتفضيل الْبَصَر عَلَيْهِ لِأَن السّمع لَا يدْرك بِهِ إِلَّا الْأَصْوَات
وَالْبَصَر يدْرك بِهِ الأجساد والألوان والهيئات
فَلَمَّا كَانَ تعلقاته أَكثر كَانَ أشرف وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
تَنْبِيه لَا بُد فِي وجوب الدِّيَة من تحقق زَوَاله فَلَو قَالَ أهل الْخِبْرَة يعود وقدروا لَهُ مُدَّة لَا يستبعد أَن يعِيش إِلَيْهَا انْتظر فَإِن استبعد ذَلِك أَو لم يقدروا لَهُ مُدَّة أخذت الدِّيَة فِي الْحَال
وَفِي إِزَالَته من أذن نصفهَا لَا لتَعَدد السّمع فَإِنَّهُ وَاحِد وَإِنَّمَا التَّعَدُّد فِي منفذه بِخِلَاف ضوء الْبَصَر إِذْ تِلْكَ اللطيفة مُتعَدِّدَة ومحلها الحدقة
بل لِأَن ضبط نقصانه بالمنفذ
أقرب مِنْهُ بِغَيْرِهِ وَهَذَا مَا نَص عَلَيْهِ(2/509)
فِي الْأُم وَلَو ادّعى الْمَجْنِي عَلَيْهِ زَوَاله من أُذُنَيْهِ وَكذبه الْجَانِي وانزعج بالصياح فِي نوم أَو غَفلَة فكاذب لِأَن ذَلِك يدل على التصنع
وَإِن لم ينزعج بالصياح وَنَحْوه فصادق فِي دَعْوَاهُ وَحلف حِينَئِذٍ لاحْتِمَال تجلده وَأخذ الدِّيَة وَإِن نقص سَمعه فقسطه من الدِّيَة إِن عرف وَإِلَّا فَحُكُومَة بِاجْتِهَاد قَاض
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (ذهَاب الشم) من المنخرين كَمَا جَاءَ فِي خبر عَمْرو بن حزم وَهُوَ غَرِيب وَلِأَنَّهُ من الْحَواس النافعة فكملت فِيهِ الدِّيَة كالسمع وَفِي إِزَالَة شم كل منخر نصف الدِّيَة وَلَو نفض الشم وَجب بِقسْطِهِ من الدِّيَة إِن أمكن مَعْرفَته وَإِلَّا فَحُكُومَة
تَنْبِيه لَو أنكر الْجَانِي زَوَاله امتحن الْمَجْنِي عَلَيْهِ فِي غفلاته بالروائح الحادة فَإِن هش للطيب وَعَبس لغيره حلف الْجَانِي لظُهُور كذب الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَإِلَّا حلف هُوَ لظُهُور صدقه مَعَ أَنه لَا يعرف إِلَّا مِنْهُ
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (ذهَاب الْعقل) إِن لم يرج عوده بقول أهل الْخِبْرَة فِي مُدَّة يظنّ أَنه يعِيش إِلَيْهَا كَمَا جَاءَ فِي خبر عَمْرو بن حزم وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على ذَلِك لِأَنَّهُ أشرف الْمعَانِي وَبِه يتَمَيَّز الْإِنْسَان عَن الْبَهِيمَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَالْمرَاد الْعقل الغريزي الَّذِي بِهِ التَّكْلِيف دون المكتسب الَّذِي بِهِ حسن التَّصَرُّف فَفِيهِ حُكُومَة فَإِن رجى عوده فِي الْمدَّة الْمَذْكُورَة انْتظر فَإِن عَاد فَلَا ضَمَان
تَنْبِيه اقْتِصَار المُصَنّف على الدِّيَة يَقْتَضِي عدم وجوب الْقصاص فِيهِ وَهُوَ الْمَذْهَب للِاخْتِلَاف فِي مَحَله
فَقيل الْقلب وَقيل الدِّمَاغ وَقيل مُشْتَرك بَينهمَا
وَالْأَكْثَرُونَ على الأول
وَقيل مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره فِي الْقلب وَسمي عقلا لِأَنَّهُ يعقل صَاحبه عَن التورط فِي المهالك
وَلَا يُزَاد شَيْء على دِيَة الْعقل إِن زَالَ بِمَا لَا أرش لَهُ
فَإِن زَالَ بِجرح لَهُ أرش مُقَدّر كالموضحة أَو حُكُومَة وَجَبت الدِّيَة وَالْأَرْش أَو هِيَ والحكومة
وَلَا ينْدَرج ذَلِك فِي دِيَة الْعقل لِأَنَّهَا جِنَايَة أبطلت مَنْفَعَة غير حَالَة فِي مَحل الْجِنَايَة فَكَانَت كَمَا انْفَرَدت الْجِنَايَة عَن زَوَال الْعقل وَلَو ادّعى ولي الْمَجْنِي عَلَيْهِ زَوَال الْعقل وَأنكر الْجَانِي فَإِن لم يَنْتَظِم قَول الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَفعله فِي خلواته فَلهُ دِيَة بِلَا يَمِين لِأَن يَمِينه تثبت جُنُونه
وَالْمَجْنُون لَا يحلف وَهَذَا فِي الْجُنُون المطبق
أما المتقطع فَإِنَّهُ يحلف فِي زمن إِفَاقَته
فَإِن انتظم قَوْله وَفعله حلف الْجَانِي لاحْتِمَال صُدُور المنتظم اتِّفَاقًا أَو جَريا على الْعَادة وَخرج بالغريزي الْعقل المكتسب الَّذِي بِهِ حسن التَّصَرُّف فَتجب فِيهِ الْحُكُومَة فَقَط كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (الذّكر) السَّلِيم لخَبر عَمْرو بن حزم
بذلك وَلَو كَانَ لصغير وَشَيخ وعنين وَخصي لإِطْلَاق الْخَبَر الْمَذْكُور وَلِأَن ذكر الْخصي سليم وَهُوَ قَادر على الْإِيلَاج وَإِنَّمَا الْفَائِت الإيلاد
والعنة عيب فِي غير الذّكر لِأَن الشَّهْوَة فِي الْقلب والمني فِي الصلب وَلَيْسَ الذّكر بِمحل لوَاحِد مِنْهُمَا
فَكَانَ سليما من الْعَيْب بِخِلَاف الأشل وَحكم الْحَشَفَة حكم الذّكر لِأَن مَا عَداهَا من الذّكر كالتابع لَهَا كَالْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِع لِأَن أَحْكَام الْوَطْء تَدور عَلَيْهَا وَبَعضهَا بِقسْطِهِ مِنْهَا لِأَن الدِّيَة تكمل بقطعها كَمَا مر فقسطت على أبعاضها
(و) تكمل دِيَة النَّفس فِي (الْأُنْثَيَيْنِ) لحَدِيث عَمْرو بن حزم بذلك وَلِأَنَّهُمَا من تَمام الْخلقَة وَمحل التناسل وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا سَوَاء الْيُمْنَى واليسرى وَلَو من عنين ومجبوب وطفل وَغَيرهم
تَنْبِيه المُرَاد بالأنثيين البيضتان
كَمَا صرح بهما فِي بعض طرق حَدِيث عَمْرو بن حزم
وَأما الخصيتان فالجلدتان اللَّتَان فيهمَا البيضتان
(و) يجب فِي (الْمُوَضّحَة) أَي مُوضحَة الرَّأْس وَلَو للعظم الناتىء خلف الْأذن أَو الْوَجْه وَإِن صغرت وَلَو لما تَحت الْمقبل من الجبين نصف عشر دِيَة صَاحبهَا فَفِيهَا لحر مُسلم غير جَنِين (خمس من الْإِبِل) لما روى التِّرْمِذِيّ وَحسنه فِي الْمُوَضّحَة(2/510)
خمس من الْإِبِل فتراعى هَذِه النِّسْبَة فِي حق غَيره من الْمَرْأَة والكتابي وَغَيرهمَا
وَخرج بِقَيْد الرَّأْس وَالْوَجْه مَا عداهما كالساق والعضد فَإِن فيهمَا الْحُكُومَة وبقيد الْحر الرَّقِيق فَفِيهِ نصف عشر قِيمَته وبقيد الْمُسلم الْكِتَابِيّ فَفِي موضحته بعير وَثُلُثَانِ
والمجوسي وَنَحْوه فَفِي موضحته ثلث بعير
وَلَا يخْتَلف أرش مُوضحَة بكبرها وَلَا بصغرها لَا تبَاع الِاسْم كالأطراف وَلَا لكَونهَا بارزة أَو مستورة بالشعر وَيجب فِي هاشمة مَعَ إِيضَاح عشرَة أَبْعِرَة وَهِي عشر دِيَة الْكَامِل بِالْحُرِّيَّةِ وَغَيرهَا
لما رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوجب فِي الهاشمة عشرا من الْإِبِل وَيجب فِي هاشمة دون إِيضَاح خَمْسَة أَبْعِرَة وَيجب فِي منقلة مَعَ إِيضَاح وهشم خَمْسَة عشر بَعِيرًا كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(و) يجب (فِي) قلع (السن) الْأَصْلِيَّة التَّامَّة المثغورة غير القلقلة صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة بَيْضَاء أَو سَوْدَاء نصف عشر دِيَة صَاحبهَا فَفِيهَا لذكر حر مُسلم
(خمس من الْإِبِل) لحَدِيث عَمْرو بن حزم بذلك فَقَوله خمس من الْإِبِل رَاجع لكل من الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تقرر وَلَا فرق بَين الثَّنية والناب والضرس وَإِن انْفَرد كل مِنْهَا باسم كالسبابة وَالْوُسْطَى والخنصر فِي الْأَصَابِع وفيهَا لأنثى حرَّة مسلمة بعيران وَنصف ولذمي بعير وَثُلُثَانِ ولمجوسي ثلث بعير
ولرقيق نصف عشر قِيمَته
تَنْبِيه يسْتَثْنى من إِطْلَاقه صُورَتَانِ الأولى لَو انْتهى صغر السن إِلَّا أَن لَا تصلح للمضغ فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْحُكُومَة
الثَّانِيَة أَن الْغَالِب طول الثنايا على الرعيات فَلَو كَانَت مثلهَا أَو أقصر فقضية كَلَام الرَّوْضَة
وَأَصلهَا أَن الْأَصَح أَنه لَا يجب الْخمس بل ينقص مِنْهَا بِحَسب نقصانها وَلَا فرق فِي وجوب دِيَة السن بَين أَن يقلعها من السنخ وَهُوَ بِكَسْر الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وإعجام الْخَاء أَصْلهَا الْمُسْتَتر بِاللَّحْمِ أَو بِكَسْر الظَّاهِر مِنْهَا دونه لِأَن السنخ تَابع فَأشبه الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع وَلَو أذهب مَنْفَعَة السن وَهِي بَاقِيَة على حَالهَا وَجَبت دِيَتهَا وَخرج بِقَيْد الْأَصْلِيَّة الزَّائِدَة وَهِي الشاغبة الْخَارِجَة عَن سمت الْأَسْنَان الْأَصْلِيَّة لمُخَالفَة نباتها لَهَا فَفِيهَا حُكُومَة كالأصبع الزَّائِدَة وبقيد التَّامَّة مَا لَو كسر بعض الظَّاهِر مِنْهَا فَفِيهِ قسطه من الْإِرْث وينسب المكسور إِلَى مَا بق من الظَّاهِر دون السنخ على الْمَذْهَب وبقيد المثغورة مَا لَو قلع سنّ صَغِير أَو كَبِير لم يثغر نظر إِن بَان فَسَاد المنبت فكالمثغورة وَإِن لم يتَبَيَّن الْحَال حَتَّى مَاتَ فَفِيهَا الْحُكُومَة وبقيد غير المقلقلة
فَإِن بطلت مَنْفَعَتهَا فَفِيهَا الْحُكُومَة وحركة السن لكبر أَو مرض إِن قلت بِحَيْثُ لَا تُؤدِّي المقلقلة إِلَى نقص فِي مَنْفَعَتهَا من مضغ وَغَيره فكصحيحة حكمهَا لبَقَاء الْجمال وَالْمَنْفَعَة
(و) يجب (فِي كل عُضْو لَا مَنْفَعَة فِيهِ) كَالْيَدِ الشلاء وَالذكر الأشل وَنَحْو ذَلِك كالأصبع الأشل
(حُكُومَة) وَكَذَا فِي كسر الْعِظَام لِأَن الشَّرْع لم ينص عَلَيْهِ وَلم يُبينهُ فَوَجَبَ فِيهِ حُكُومَة وَكَذَا يجب فِي تعويج الرَّقَبَة وَالْوَجْه وتسويده وَفِي حلمتي الرجل وَالْخُنْثَى
وَأما حلمتا الْمَرْأَة ففيهما دِيَة لِأَن مَنْفَعَة الْإِرْضَاع وجمال الثدي بهما كمنفعة الْيَدَيْنِ وجمالهما بالأصابع وَفِي إِحْدَاهمَا نصفهَا والحلمة كَمَا فِي الْمُحَرر الْمُجْتَمع الناتىء على رَأس الثدي
تَنْبِيه لَو ضرب ثدي امْرَأَة فشل بِفَتْح الشين وَجَبت دِيَته
وَإِن استرسل فَحُكُومَة لِأَن الْفَائِت مُجَرّد جمال وَإِن ضرب ثدي خُنْثَى فاسترسل لم يجب فِيهِ حُكُومَة حَتَّى يتَبَيَّن كَونه امْرَأَة لاحْتِمَال كَونه رجلا فَلَا يلْحقهُ نقص بالاسترسال
وَلَا يفوتهُ جمال فَإِذا(2/511)
تبين أَنه امْرَأَة وَجَبت الْحُكُومَة وَهِي جُزْء من الدِّيَة نسبته إِلَى دِيَة النَّفس نِسْبَة نقص الْجِنَايَة من قيمَة الْمَجْنِي عَلَيْهِ لَو كَانَ رَقِيقا بصفاته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مِثَاله جرح يَده فَيُقَال كم قيمَة الْمَجْنِي عَلَيْهِ بصفاته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا بِغَيْر جِنَايَة لَو كَانَ رَقِيقا فَإِذا قيل مائَة فَيُقَال كم قِيمَته بعد الْجِنَايَة فَإِذا قيل تسعون فالتفاوت الْعشْر فَيجب عشر دِيَة النَّفس وَهِي عشر من الْإِبِل إِذا كَانَ الْمَجْنِي عَلَيْهِ حرا ذكرا مُسلما لِأَن الْجُمْلَة مَضْمُونَة بِالدِّيَةِ فتضمن الْأَجْزَاء بِجُزْء مِنْهَا كَمَا فِي نَظِيره من عيب الْمَبِيع
تَنْبِيه تقدم أَن المُصَنّف أخل بترتيب صور الْأَقْسَام الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ قبل فَرَاغه من الأول أَعنِي إبانة الْأَطْرَاف ذكر الثَّانِي أَعنِي الْمَنَافِع ثمَّ عَاد إِلَى الأول ثمَّ ذكر الثَّالِث أَعنِي الْجِرَاحَات ثمَّ ختم بِالسِّنِّ الَّذِي هُوَ من جملَة صور الأول
وَكَانَ حق التَّرْتِيب الوضعي ذكر الأول على نسق إِلَّا أَن الْأَمر فِيهِ سهل ثمَّ إِنَّه اقْتصر فِي الأول على إِيرَاد إِحْدَى عشرَة صُورَة وَأهل من صوره سِتَّة وَفِي الثَّانِي على خَمْسَة وأهمل من صوره تِسْعَة كَمَا أوضحته كُله فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
القَوْل فِي دِيَة العَبْد (ودية العَبْد) أَي وَالْجِنَايَة على نفس الرَّقِيق الْمَعْصُوم ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى وَلَو مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد (قِيمَته) بَالِغَة مَا بلغت سَوَاء أَكَانَت الْجِنَايَة عمدا أم خطأ وَإِن زَادَت على دِيَة الْحر كَسَائِر الْأَمْوَال المتلفة وَلَو عبر بِالْقيمَةِ بدل الدِّيَة لَكَانَ أولى فَيَقُول وَفِي العَبْد قِيمَته لما سبق فِي تَعْرِيف الدِّيَة أول الْفَصْل وَلَا يدْخل فِي قِيمَته التَّغْلِيظ
أما الْمُرْتَد فَلَا ضَمَان فِي إِتْلَافه قَالَ فِي الْبَيَان وَلَيْسَ لنا شَيْء يَصح بَيْعه وَلَا يجب فِي إِتْلَافه شَيْء سواهُ وَيجب فِي إِتْلَاف غير نفس الرَّقِيق من أَطْرَافه ولطائفه مَا نقص من قِيمَته سليما إِن لم يتَقَدَّر ذَلِك الْغَيْر من الْحر وَلم يتبع مُقَدرا وَلَا يبلغ بالحكومة قيمَة جملَة الرَّقِيق الْمَجْنِي عَلَيْهِ أَو قيمَة عضوه على مَا سبق فِي الْحر
وَإِن قدرت فِي الْحر كموضحة(2/512)
وَقطع عُضْو فَيجب مثل نسبته من الدِّيَة من قِيمَته لأَنا نشبه الْحر بالرقيق فِي الْحُكُومَة ليعرف قدر التَّفَاوُت ليرْجع بِهِ فَفِي الْمُشبه بِهِ أولى وَلِأَنَّهُ أشبه الْحر فِي أَكثر الْأَحْكَام بِدَلِيل التَّكْلِيف فألحقناه بِهِ فِي التَّقْدِير فَفِي قطع يَده نصف قِيمَته وَفِي يَدَيْهِ قِيمَته وَفِي أُصْبُعه عشرهَا وَفِي موضحته نصف عشرهَا وعَلى هَذَا الْقيَاس وَلَو قطع ذكره وأنثياه وَنَحْوهمَا مِمَّا يجب للْحرّ فِيهِ ديتان وَجب بقطعهما قيمتان كَمَا يجب فيهمَا للْحرّ ديتان وَمن نصفه حر
قَالَ المارودي يجب فِي طرفه نصف مَا فِي طرف الْحر وَنصف مَا فِي طرف العَبْد فَفِي يَده ربع الدِّيَة وَربع الْقيمَة وَفِي أُصْبُعه نصف عشر الدِّيَة وَنصف عشر الْقيمَة
وعَلى هَذَا الْقيَاس فِيمَا زَاد من الْجراحَة أَو نقص
القَوْل فِي دِيَة الْجَنِين (و) فِي (دِيَة الْجَنِين الْحر) الْمُسلم (غرَّة) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي الْجَنِين بغرة (عبد أَو أمة) بترك تَنْوِين غرَّة على الْإِضَافَة البيانية وتنوينها على أَن مَا بعْدهَا بدل مِنْهَا
وأصل الْغرَّة الْبيَاض فِي وَجه الْفرس وَلِهَذَا شَرط عَمْرو بن الْعَلَاء أَن يكون العَبْد أَبيض وَالْأمة بَيْضَاء وَحَكَاهُ الْفَاكِهَانِيّ فِي شرح الرسَالَة عَن ابْن عبد الْبر أَيْضا
وَلم يشْتَرط الْأَكْثَرُونَ ذَلِك
وَقَالُوا النَّسمَة من الرَّقِيق غرَّة لِأَنَّهَا غرَّة مَا يملك أَي أفضله وغرة كل شَيْء خِيَاره وَإِنَّمَا تجب الْغرَّة فِي الْجَنِين إِذا انْفَصل مَيتا بِجِنَايَة على أمه الْحَيَّة مُؤثرَة فِيهِ سَوَاء أَكَانَت الْجِنَايَة بالْقَوْل كالتهديد والتخويف المفضي إِلَى سُقُوط الْجَنِين أم بِالْفِعْلِ كَأَن يضْربهَا أَو يؤجرها دَوَاء أَو غَيره
فتلقي جَنِينا أم بِالتّرْكِ كَأَن يمْنَعهَا الطَّعَام أَو الشَّرَاب حَتَّى تلقي الْجَنِين وَكَانَت الأجنة تسْقط بذلك وَلَو دعتها ضَرُورَة إِلَى شرب دَوَاء فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهَا لَا تضمن بِسَبَبِهِ
وَلَيْسَ من الضَّرُورَة الصَّوْم وَلَو فِي رَمَضَان إِذا خشيت مِنْهُ الإجهاض فَإِذا فعلته وأجهضت ضمنته كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا تَرث مِنْهُ لِأَنَّهَا قاتلة وَسَوَاء أَكَانَ الْجَنِين ذكرا أم غَيره لإِطْلَاق الْخَبَر وَلِأَن دِيَتهمَا لَو اخْتلفت لكثر الِاخْتِلَاف فِي كَونه ذكرا أَو غَيره
فسوى الشَّارِع بَينهمَا وَسَوَاء أَكَانَ الْجَنِين تَامّ الْأَعْضَاء أم ناقصها ثَابت النّسَب أم لَا لَكِن لَا بُد أَن يكون مَعْصُوما مَضْمُونا على الْجَانِي بالغرة عِنْد الْجِنَايَة وَإِن لم تكن أمه معصومة أَو مَضْمُونَة عِنْدهَا وَلَا أثر لنَحْو لطمة خَفِيفَة كَمَا لَا تُؤثر فِي الدِّيَة وَلَا لضربة قَوِيَّة أَقَامَت بعْدهَا بِلَا ألم ثمَّ أَلْقَت جَنِينا نَقله فِي الْبَحْر عَن النَّص
وَسَوَاء انْفَصل فِي حَيَاتهَا بِجِنَايَة أَو انْفَصل بعد مَوتهَا بِجِنَايَة فِي حَيَاتهَا وَلَو ظهر بعض الْجَنِين بِلَا انْفِصَال من أمه كخروج رَأسه مَيتا وَجَبت فِيهِ الْغرَّة لتحَقّق وجوده فَإِن لم يكن مَعْصُوما عِنْد الْجِنَايَة كجنين حربية من حَرْبِيّ إِن أسلم أَحدهمَا بعد الْجِنَايَة أَو لم يكن مضموما كَأَن يكون الْجَانِي مَالِكًا للجنين ولأمه بِأَن جنى السَّيِّد على أمته الْحَامِل وجنينها من غَيره وَهُوَ ملك لَهُ فعتقت ثمَّ أَلْقَت(2/513)
الْجَنِين أَو كَانَت أمه ميتَة أَو لم ينْفَصل وَلَا ظهر بِالْجِنَايَةِ على أمه شين فَلَا شَيْء فِيهِ لعدم احترامه فِي الصُّورَة الأولى وَعدم ضَمَان الْجَانِي فِي الثَّانِيَة
وَظُهُور مَوته بموتها فِي الثَّالِثَة وَلعدم تحقق وجوده فِي الْأَخِيرَتَيْنِ وَلَو انْفَصل حَيا وَبَقِي بعد انْفِصَاله زَمنا بِلَا ألم فِيهِ ثمَّ مَاتَ فَلَا ضَمَان على الْجَانِي
وَإِن مَاتَ حِين خرج بعد انْفِصَاله أَو دَامَ ألمه وَمَات مِنْهُ فديَة نفس كَامِلَة على الْجَانِي
تَنْبِيه لَو أَلْقَت امْرَأَة بِجِنَايَة عَلَيْهَا جنينين ميتين وَجَبت غرتان أَو ثَلَاثًا فَثَلَاث وَهَكَذَا
وَلَو أَلْقَت يدا أَو رجلا وَمَاتَتْ وَجَبت غرَّة لِأَن الْعلم قد حصل بِوُجُود الْجَنِين
أما لَو عاشت الْأُم وَلم تلق جَنِينا فَلَا يجب إِلَّا نصف غرَّة كَمَا أَن يَد الْحَيّ لَا يجب فِيهَا إِلَّا نصف دِيَة وَلَا يضمن بَاقِيه لأَنا لم نتحقق تلفه وَلَو أَلْقَت لَحْمًا قَالَ أهل الْخِبْرَة فِيهِ صُورَة آدَمِيّ خُفْيَة وَجَبت الْغرَّة بِخِلَاف مَا لَو قَالُوا لَو بَقِي لتصور أَي تخلق فَلَا شَيْء فِيهِ وَإِن انْقَضتْ بِهِ الْعدة كَمَا مر فِي الْعدَد والخيرة فِي الْغرَّة إِلَى الْغَارِم وَيجْبر الْمُسْتَحق على قبُولهَا من أَي نوع كَانَت بِشَرْط أَن يكون العَبْد أَو الْأمة مُمَيّزا فَلَا يلْزمه قبُول غَيره سليما من عيب مَبِيع لِأَن الْمَعِيب لَيْسَ من الْخِيَار وَالأَصَح قبُول رَقِيق كَبِير لم يعجز بهرم لِأَنَّهُ من الْخِيَار مَا لم تنقص مَنَافِعه وَيشْتَرط بُلُوغهَا فِي الْقيمَة نصف عشر الدِّيَة من الْأَب الْمُسلم وَهُوَ عشر دِيَة الْأُم الْمسلمَة
فَفِي الْحر الْمُسلم رَقِيق قِيمَته خَمْسَة أَبْعِرَة كَمَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي وَزيد بن ثَابت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
فَإِن فقدت الْغرَّة حسا بِأَن لم تُوجد أَو شرعا بِأَن وجدت بِأَكْثَرَ من ثمن مثلهَا فخمسة أَبْعِرَة بدلهَا لِأَنَّهَا مقدرَة بهَا وَهِي لوَرَثَة الْجَنِين على فَرَائض الله تَعَالَى وَهِي وَاجِبَة على عَاقِلَة الْجَانِي والجنين الْيَهُودِيّ أَو النَّصْرَانِي بالتبع لِأَبَوَيْهِ تجب غرَّة فِيهِ كثلث غرَّة مُسلم كَمَا فِي دِيَته وَهُوَ بعير وَثلثا بعير
وَفِي الْجَنِين الْمَجُوسِيّ ثلث خمس غرَّة مُسلم كَمَا فِي دِيَته وَهُوَ ثلث بعير وَأما الْجَنِين الْحَرْبِيّ والجنين الْمُرْتَد بالتبع لأبويهما فمهدران
ثمَّ شرع فِي حكم الْجَنِين الرَّقِيق فَقَالَ (ودية الْجَنِين الْمَمْلُوك) ذكرا كَانَ أَو غَيره فِيهِ (عشر قيمَة أمه) قنة كَانَت أَو مُدبرَة أَو مُكَاتبَة أَو مُسْتَوْلدَة قِيَاسا على الْجَنِين الْحر فَإِن الْغرَّة فِي الْجَنِين مُعْتَبرَة بِعشر مَا تضمن بِهِ الْأُم وَإِنَّمَا لم يعتبروا قِيمَته فِي نَفسه لعدم ثُبُوت استقلاله بانفصاله مَيتا
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك مَا إِذا كَانَت الْأُم هِيَ الجانية على نَفسهَا فَإِنَّهُ لَا يجب فِي جَنِينهَا الْمَمْلُوك للسَّيِّد شَيْء إِذْ لَا يجب للسَّيِّد على رَقِيقه شَيْء وَخرج بالرقيق الْمبعض فَالَّذِي يَنْبَغِي أَن توزع الْغرَّة فِيهِ على الرّقّ وَالْحريَّة خلافًا ل لمحاملي فِي قَوْله إِنَّه كَالْحرِّ وَتعْتَبر قيمَة الْأُم كَمَا فِي أصل الرَّوْضَة بأكبر مَا كَانَت من حِين الْجِنَايَة إِلَى حِين الإجهاض خلافًا لما جري عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج من أَنَّهَا يَوْم الْجِنَايَة هَذَا إِذا انْفَصل مَيتا كَمَا علم من التَّعْلِيل السَّابِق فَإِن انْفَصل حَيا وَمَات من أثر الْجِنَايَة فَإِن فِيهِ قِيمَته يَوْم الِانْفِصَال
وَإِن نقصت عَن(2/514)
عشر قيمَة أمه كَمَا نَقله فِي الْبَحْر عَن النَّص وَسكت المُصَنّف عَن الْمُسْتَحق لذَلِك
وَالَّذِي فِي الرَّوْضَة أَن بدل الْجَنِين الْمَمْلُوك لسَيِّده وَهُوَ أحسن من قَول الْمِنْهَاج لسَيِّدهَا أَي أم الْجَنِين لِأَن الْجَنِين قد يكون لشخص وصّى لَهُ بِهِ وَتَكون الْأُم لآخر فالبدل لسَيِّده لَا لسَيِّدهَا وَقد يعد عَن الْمِنْهَاج بِأَنَّهُ جري على الْغَالِب من أَن الْحمل الْمَمْلُوك لسَيِّد الْأمة
تَتِمَّة لَو كَانَت الْأُم مَقْطُوعَة الْأَطْرَاف والجنين سليمها
قومت بتقديرها سليمَة فِي الْأَصَح لسلامته كَمَا لَو كَانَت كَافِرَة والجنين مُسلم فَإِنَّهُ يقدر فِيهَا الْإِسْلَام وَتقوم مسلمة وَكَذَا لَو كَانَت حرَّة والجنين رَقِيق فَإِنَّهَا تقدر رقيقَة
وَصورته أَن تكون الْأمة لشخص والجنين لآخر بِوَصِيَّة فيعتقها مَالِكهَا وَيحمل الْعشْر الْمَذْكُور عَاقِلَة الْجَانِي على الْأَظْهر
فصل فِي الْقسَامَة
وَهِي بِفَتْح الْقَاف اسْم للأيمان الَّتِي تقسم على أَوْلِيَاء الدَّم مَأْخُوذَة من الْقسم وَهُوَ الْيَمين
وَقيل اسْم للأولياء وَترْجم الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالْأَكْثَرُونَ بِبَاب دَعْوَى الدَّم والقسامة وَالشَّهَادَة على الدَّم وَاقْتصر المُصَنّف رَضِي الله عَنهُ على إِيرَاد وَاحِد مِنْهَا وَهُوَ الْقسَامَة طلبا للاختصار وأدرج فِيهِ الْكَلَام على الْكَفَّارَة فَقَالَ (وَإِذا اقْترن بِدَعْوَى الْقَتْل) عِنْد حَاكم (لوث) وَهُوَ بِإِسْكَان الْوَاو وبالمثلثة مُشْتَقّ من التلويث أَي التلطيخ (يَقع بِهِ) أَي اللوث (فِي النَّفس صدق الْمُدَّعِي) بِأَن يغلب على الظَّن صدقه بِقَرِينَة كَأَن وجد قَتِيل أَو بعضه كرأسه إِذا تحقق مَوته وَفِي محلّة مُنْفَصِلَة عَن بلد كَبِير وَلَا يعرف قَاتله وَلَا بَيِّنَة بقتْله أَو فِي قَرْيَة صَغِيرَة لأعدائه سَوَاء فِي ذَلِك الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة أَو الدُّنْيَوِيَّة إِذا كَانَت تبْعَث على الانتقام بِالْقَتْلِ أَو وجد قَتِيل وَقد تفرق عَنهُ جمع كَأَن ازدحموا على بِئْر أَو بَاب الْكَعْبَة ثمَّ تفَرقُوا عَن قَتِيل
(حلف الْمُدَّعِي) بِكَسْر الْعين على قتل(2/515)
ادَّعَاهُ لنَفس وَلَو نَاقِصَة كامرأة وذمي
(خمسين يَمِينا) لثُبُوت ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَلَا يشْتَرط موالاتها فَلَو حلفه القَاضِي خمسين يَمِينا فِي خمسين يَوْمًا صَحَّ لِأَن الْأَيْمَان من جنس الْحجَج والحجج يجوز تفريقها كَمَا إِذا شهد الشُّهُود مُتَفَرّقين وَلَو تخَلّل الْأَيْمَان جُنُون أَو إِغْمَاء بنى إِذا أَفَاق على مَا مضى
وَلَو مَاتَ الْوَلِيّ الْمقسم فِي أثْنَاء الْأَيْمَان لم يبن وَارثه بل يسْتَأْنف لِأَن الْأَيْمَان كالحجة الْوَاحِدَة وَلَا يجوز أَن يسْتَحق أحد شَيْئا بِيَمِين غَيره وَلَيْسَ كَمَا لَو أَقَامَ شطر الْبَيِّنَة ثمَّ مَاتَ حَيْثُ يضم وَارثه إِلَيْهِ الشّطْر الثَّانِي وَلَا يسْتَأْنف لِأَن شَهَادَة كل شَاهد مُسْتَقلَّة
أما إِذا تمت أيمانه قبل مَوته فَلَا يسْتَأْنف وَارثه بل يحكم لَهُ كَمَا لَو أَقَامَ بَيِّنَة ثمَّ مَاتَ
وَأما وَارِث الْمُدعى عَلَيْهِ فيبني على أيمانه إِذا تخَلّل مَوته الْأَيْمَان وَكَذَا يَبْنِي الْمُدعى عَلَيْهِ لَو عزل القَاضِي أَو مَاتَ فِي خلالها وَولي غَيره
وَالْفرق بَين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ أَن يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ للنَّفْي فتنفذ بِنَفسِهَا وَيَمِين الْمُدَّعِي للإثبات فتتوقف على حكم القَاضِي وَالْقَاضِي الثَّانِي لَا يحكم بِحجَّة أُقِيمَت عِنْد الأول
وَلَو كَانَ للقتيل وَرَثَة خَاصَّة اثْنَان فَأكْثر وزعت الْأَيْمَان الْخَمْسُونَ عَلَيْهِم بِحَسب الْإِرْث لِأَن مَا ثَبت بأيمانهم يقسم بَينهم على فَرَائض الله تَعَالَى فَوَجَبَ أَن تكون الْأَيْمَان كَذَلِك
وَخرج بقولنَا خَاصَّة مَا لَو كَانَ هُنَاكَ وَارِث غير حائز وشريكه بَيت المَال فَإِن الْأَيْمَان لَا توزع بل يحلف الْخَاص خمسين يَمِينا كَمَا لَو نكل بعض الْوَرَثَة أَو غَابَ يحلف الْحَاضِر خمسين يَمِينا
وَهل تقسم الْأَيْمَان بَينهم على أصل الْفَرِيضَة أَو على الْفَرِيضَة وعولها وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا فِي الْحَاوِي
الثَّانِي أَنَّهَا تقسم على الْفَرِيضَة بعولها فَفِي زوج وَأم وأختين لأَب وأختين لأم أَصْلهَا سِتَّة وتعول إِلَى الْعشْرَة فَيحلف الزَّوْج خمس عشرَة
وكل أُخْت لأَب عشرَة وكل أُخْت لأم خَمْسَة وَالأُم خَمْسَة وَيجْبر المنكسر إِن لم تَنْقَسِم صَحِيحَة
لِأَن الْيَمين لَا تتبعض وَلَا يجوز إِسْقَاطه لِئَلَّا ينقص نِصَاب الْقسَامَة
فَلَو كَانَ ثَلَاثَة بَنِينَ حلف كل مِنْهُم سَبْعَة عشر أَو تِسْعَة وَأَرْبَعين حلف كل يمينين وَلَو نكل أحد الْوَارِثين حلف الآخر وَأخذ حِصَّته لما مر
تَنْبِيه يَمِين الْمُدعى عَلَيْهِ قتل بِلَا لوث وَالْيَمِين الْمَرْدُودَة من الْمُدعى عَلَيْهِ على الْمُدَّعِي إِن لم يكن لوث أَو كَانَ وَنكل الْمُدَّعِي عَن الْقسَامَة فَردَّتْ على الْمُدعى عَلَيْهِ
فنكل فَردَّتْ على الْمُدَّعِي مرّة ثَانِيَة وَالْيَمِين الْمَرْدُودَة على الْمُدعى عَلَيْهِ بِسَبَب نُكُول الْمُدَّعِي مَعَ لوث وَالْيَمِين أَيْضا مَعَ شَاهد خَمْسُونَ فِي جَمِيع هَذِه الصُّور لِأَنَّهَا فِيهَا ذكر يَمِين دم حَتَّى لَو تعدد الْمُدعى عَلَيْهِ حلف كل خمسين يَمِينا وَلَا توزع عَلَيْهِم على الْأَظْهر بِخِلَاف تعدد الْمُدَّعِي
وَالْفرق أَن كل وَاحِد من الْمُدعى عَلَيْهِم يَنْفِي عَن نَفسه الْقَتْل
كَمَا يَنْفِيه من انْفَرد وكل من المدعين لَا يثبت لنَفسِهِ مَا يُثبتهُ الْوَاحِد لَو انْفَرد بل يثبت بعض الْأَرْش فَيحلف بِقدر الْحصَّة
(وَاسْتحق) الْوَارِث بالقسامة فِي قتل الْخَطَأ أَو قتل شبه الْعمد (الدِّيَة) على الْعَاقِلَة مُخَفّفَة فِي الأول مُغَلّظَة فِي الثَّانِي لقِيَام(2/516)
الْحجَّة بذلك كَمَا لَو قَامَت بِهِ بَيِّنَة
وَفِي قتل الْعمد دِيَة حَالَة على الْمقسم عَلَيْهِ وَلَا قصاص فِي الْجَدِيد لخَبر البُخَارِيّ الحكم بِالدِّيَةِ
وَلم يفصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو صلحت الْأَيْمَان للْقصَاص لذكره
وَلِأَن الْقسَامَة حجَّة ضَعِيفَة فَلَا توجب الْقصاص احْتِيَاطًا لأمر الدِّمَاء كالشاهد وَالْيَمِين
تَنْبِيه كل من اسْتحق بدل الدَّم من سيد أَو وَارِث سَوَاء أَكَانَ مُسلما أم كَافِرًا عدلا أم فَاسِقًا مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه أم غَيره وَلَو كَانَ مكَاتبا لقتل عَبده أقسم لِأَنَّهُ الْمُسْتَحق لبدله وَلَا يقسم سَيّده بِخِلَاف العَبْد الْمَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة إِذا قتل العَبْد الَّذِي تَحت يَده فَإِن السَّيِّد أَخذ السَّيِّد الْقيمَة كَمَا لَو مَاتَ الْوَلِيّ بَعْدَمَا أقسم أَو قبله وَقبل نُكُوله حلف السَّيِّد أَو بعد نُكُوله فَلَا لبُطْلَان الْحق بِالنّكُولِ
كَمَا حَكَاهُ الإِمَام عَن الْأَصْحَاب إِذا لم يُوجد لوث
(وَإِن لم يكن هُنَاكَ) أَي عِنْد الْقَتْل (لوث) بِأَن تعذر إثْبَاته أَو ظهر فِي أصل الْقَتْل بِدُونِ كَونه عمدا أَو خطأ أَو أنكر الْمُدعى عَلَيْهِ اللوث فِي حَقه أَو شهد بِهِ عدل أَو عَدْلَانِ
أَن زيدا قتل أحد هذَيْن الْقَتِيلين أَو كذب بعض الْوَرَثَة فَهَذِهِ خمس صور يسْقط فِيهَا اللوث
كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
(فاليمين على الْمُدعى عَلَيْهِ) لسُقُوط اللوث فِي حَقه وَالْأَصْل بَرَاءَة ذمَّته
تَنْبِيه قَضِيَّة تَعْبِيره بِالْيَمِينِ أَنه لَا يغلظ فِي حَقه بِالْعدَدِ الْمَذْكُور وَهُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ وأظهرهما كَمَا فِي الرَّوْضَة أَنه يغلظ عَلَيْهِ بِالْعدَدِ الْمَذْكُور كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
لِأَنَّهَا يَمِين دم فَكَانَ الأولى أَن يَقُول فالأيمان إِلَى آخِره
تَتِمَّة من ارْتَدَّ بعد اسْتِحْقَاقه بدل الدَّم بِأَن يَمُوت الْمَجْرُوح ثمَّ يرْتَد وليه قبل أَن يقسم فَالْأولى تَأْخِير إقسامه ليسلم
لِأَنَّهُ لَا يتورع فِي حَال ردته عَن الْأَيْمَان الكاذبة فَإِذا عَاد إِلَى الْإِسْلَام أقسم أما إِذا ارْتَدَّ قبل مَوته ثمَّ مَاتَ الْمَجْرُوح وَهُوَ مُرْتَد فَلَا يقسم لِأَنَّهُ لَا يَرث بِخِلَاف مَا إِذا قتل العَبْد وارتد سَيّده فَإِنَّهُ لَا فرق بَين أَن يرْتَد قبل موت العَبْد أَو بعده
لِأَن اسْتِحْقَاقه بِالْملكِ لَا بِالْإِرْثِ
فَإِن أقسم الْوَارِث فِي الرِّدَّة صَحَّ إقسامه وَاسْتحق الدِّيَة
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتد بأيمان الْيَهُود فَدلَّ على أَن يَمِين الْكَافِر صَحِيحَة
والقسامة نوع اكْتِسَاب لِلْمَالِ فَلَا تمنع مِنْهُ الرِّدَّة كالاحتطاب وَمن لَا وَارِث لَهُ خَاص لَا قسَامَة فِيهِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ لوث لعدم الْمُسْتَحق الْمعِين لِأَن دِيَته لعامة الْمُسلمين وتحليفهم غير مُمكن لَكِن ينصب القَاضِي من يَدعِي على من نسب الْقَتْل إِلَيْهِ ويحلفه
فَإِن نكل فَهَل يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ أَو لَا وَجْهَان جزم فِي الْأَنْوَار بِالْأولِ وَمُقْتَضى مَا رَجحه الشَّيْخَانِ فِيمَن مَاتَ بِلَا وَارِث(2/517)
فَادّعى القَاضِي أَو منصوبه دينا لَهُ على آخر فَأنْكر وَنكل أَنه لَا يقْضِي لَهُ بِالنّكُولِ بل يحبس ليحلف أَو يقر تَرْجِيح الثَّانِي وَهُوَ أوجه
القَوْل فِي كَفَّارَة الْقَتْل ثمَّ شرع فِي كَفَّارَة الْقَتْل الَّتِي هِيَ من موجباته فَقَالَ (وعَلى قَاتل النَّفس الْمُحرمَة) سَوَاء كَانَ الْقَتْل عمدا أَو شبه عمد أَو خطأ
(كَفَّارَة) لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} اي وَقَوله تَعَالَى {فَإِن كَانَ من قوم} أَي فِي قوم
{عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} {وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق فديَة مسلمة إِلَى أَهله وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة} اي وَخبر وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ أَتَيْنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَاحب لنا قد اسْتوْجبَ النَّار بِالْقَتْلِ فَقَالَ أعتقوا عَنهُ رَقَبَة يعْتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ الْحَاكِم وَغَيره
وَخرج بِالْقَتْلِ الْأَطْرَاف والجروح فَلَا كَفَّارَة فيهمَا لعدم وُرُوده وَلَا يشْتَرط فِي وجوب الْكَفَّارَة تَكْلِيف بل تجب وَإِن كَانَ الْقَاتِل صَبيا أَو مَجْنُونا لِأَن الْكَفَّارَة من بَاب الضَّمَان فَتجب فِي مَالهمَا فَيعتق الْوَلِيّ عَنْهُمَا من مَالهمَا وَلَا يَصُوم عَنْهُمَا بِحَال
فَإِن صَامَ الصَّبِي الْمُمَيز أَجزَأَهُ وَلَا يشْتَرط فِي وُجُوبهَا أَيْضا الْحُرِّيَّة بل تجب
وَإِن كَانَ الْقَاتِل عبدا كَمَا يتَعَلَّق بقتْله الْقصاص وَالضَّمان لَكِن يكفر بِالصَّوْمِ لعدم ملكه وَلَا يشْتَرط فِي وُجُوبهَا الْمُبَاشرَة بل تجب وَإِن كَانَ الْقَاتِل كالمكره متسببا بِكَسْر الرَّاء وَشَاهد الزُّور وحافر بِئْر عُدْوانًا
تَنْبِيه دخل فِي قَول المُصَنّف النَّفس الْمُحرمَة الْمُسلم وَلَو كَانَ بدار الْحَرْب وَالذِّمِّيّ والمستأمن والجنين الْمَضْمُون بالغرة وَعبد الشَّخْص نَفسه وَنَفسه لِأَنَّهُ قتل نفسا معصومة وَخرج بذلك قتل الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ الْحَرْبِيين فَلَا كَفَّارَة فِي قَتلهمَا وَإِن كَانَ حَرَامًا
لِأَن الْمَنْع من قَتلهمَا لَيْسَ لحرمتهما بل لمصْلحَة الْمُسلمين لِئَلَّا يفوتهُمْ الارتفاق بهما
وَقتل مُبَاح الدَّم كَقَتل بَاغ وصائل لِأَنَّهُمَا لَا يضمنَانِ فأشبها الْحَرْبِيّ ومرتد وزان مُحصن بِالنِّسْبَةِ لغير الْمسَاوِي وَالْحَرْبِيّ وَلَو قَتله مثله ومقتص مِنْهُ يقتل الْمُسْتَحق لَهُ لِأَنَّهُ مُبَاح الدَّم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وعَلى كل من الشُّرَكَاء فِي الْقَتْل كَفَّارَة فِي الْأَصَح الْمَنْصُوص لِأَنَّهُ حق يتَعَلَّق بِالْقَتْلِ فَلَا يَتَبَعَّض كَالْقصاصِ
وَالْكَفَّارَة
(عتق رَقَبَة) مُؤمنَة بِالْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} اي (سليمَة من الْعُيُوب الْمضرَّة بِالْعَمَلِ) إِضْرَارًا بَينا كَامِلَة الرّقّ خَالِيَة عَن عوض كَمَا تقدم بَيَان ذَلِك مَبْسُوطا فِي الظِّهَار فَهِيَ ككفارة الظِّهَار فِي التَّرْتِيب فَيعتق أَولا (فَإِن لم يجد) رَقَبَة بشروطها أَو وجدهَا وَعجز عَن ثمنهَا أَو وجدهَا وَهِي تبَاع بِأَكْثَرَ من ثمن مثلهَا (فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين) على مَا تقدم بَيَانه فِي الظِّهَار
تَنْبِيه قَضِيَّة اقْتِصَاره على مَا ذكره أَنه لَا إطْعَام هُنَا عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم وَهُوَ كَذَلِك على الْأَظْهر اقتصارا على الْوَارِد فِيهَا إِذْ المتبع فِي الْكَفَّارَات النَّص لَا الْقيَاس وَلم يذكر الله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْقَتْل غير الْعتْق وَالصِّيَام
فَإِن قيل لم لَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي الظِّهَار كَمَا فعلوا فِي قيد الْأَيْمَان حَيْثُ اعتبروه ثمَّ حملا على الْمُقَيد هُنَا
أُجِيب بِأَن ذَاك إِلْحَاق فِي وصف وَهَذَا إِلْحَاق فِي أصل وَأحد الْأَصْلَيْنِ لَا يلْحق بِالْآخرِ بِدَلِيل أَن الْيَد الْمُطلقَة فِي التَّيَمُّم(2/518)
حملت على الْمقيدَة بالمرافق فِي الْوضُوء وَلم يحمل إهمال الرَّأْس وَالرّجلَيْنِ فِي التَّيَمُّم على ذكرهمَا فِي الْوضُوء
وعَلى هَذَا لَو مَاتَ قبل الصَّوْم أطْعم من تركته كفائت صَوْم رَمَضَان
خَاتِمَة لَا كَفَّارَة على من أصَاب غَيره بِالْعينِ واعترف أَنه قَتله بهَا وَإِن كَانَت الْعين حَقًا لِأَن ذَلِك لَا يُفْضِي إِلَى الْقَتْل غَالِبا وَلَا يعد مهْلكا وَينْدب للعائن أَن يَدْعُو بِالْبركَةِ فَيَقُول اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ وَلَا تضره
وَأَن يَقُول مَا شَاءَ الله لَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
قيل وَيَنْبَغِي للسُّلْطَان أَن يمْنَع من عرف بذلك من مُخَالطَة النَّاس ويأمره بِلُزُوم بَيته وَيَرْزقهُ مَا يَكْفِيهِ إِن كَانَ فَقِيرا فَإِن ضَرَره أَشد من ضَرَر المجذوم
الَّذِي مَنعه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من مُخَالطَة النَّاس
وَذكر القَاضِي حُسَيْن أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام استكثر قومه ذَات يَوْم فأمات الله مِنْهُم مائَة ألف فِي لَيْلَة وَاحِدَة فَلَمَّا أصبح اشْتَكَى ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ الله تَعَالَى إِنَّك استكثرتهم فعنتهم فَهَلا حصنتهم حِين استكثرتهم فَقَالَ يَا رب كَيفَ أحصنهم فَقَالَ تَعَالَى تَقول حصنتكم بالحي القيوم الَّذِي لَا يَمُوت أبدا وَدفعت عَنْكُم السوء بِأَلف لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي العظيمب 1
قَالَ القَاضِي وَهَكَذَا السّنة فِي الرجل إِذا رأى نَفسه سليمَة وأحواله معتدلة يَقُول فِي نَفسه ذَلِك وَكَانَ القَاضِي يحصن تلامذته بذلك إِذا استكثرهم وسكتوا عَن الْقَتْل بِالْحَال
وَأفْتى بعض الْمُتَأَخِّرين بِأَنَّهُ يقتل إِذا قتل بِهِ لِأَن لَهُ فِيهِ اخْتِيَارا كالساحر وَالصَّوَاب أَنه لَا يقتل بِهِ وَلَا بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ كَمَا نقل ذَلِك عَن جمَاعَة من السّلف
قَالَ مهْرَان بن مَيْمُون حَدثنَا غيلَان بن جرير أَن مطرف بن عبد الله بن الشخير كَانَ بَينه وَبَين رجل كَلَام فكذب عَلَيْهِ فَقَالَ مطرف اللَّهُمَّ إِن كَانَ كَاذِبًا فأمته
فَخر مَيتا فَرفع ذَلِك إِلَى زِيَاد فَقَالَ قتلت الرجل قَالَ لَا وَلكنهَا دَعْوَة وَافَقت أَََجَلًا(2/519)
= كتاب الْحُدُود = جمع حد وَهُوَ لُغَة الْمَنْع وَشرعا عُقُوبَة مقدرَة وَجَبت زجرا عَن ارْتِكَاب مَا يُوجِبهُ وَعبر عَنْهَا جمعا لتنوعها وَلَو عبر بِالْبَابِ لَكَانَ أولى لما تقدم أَن التَّرْجَمَة بالجنايات شَامِلَة للحدود وَبَدَأَ مِنْهَا بِالزِّنَا وَهُوَ بِالْقصرِ لُغَة حجازية وبالمد لُغَة تميمية وَاتفقَ أهل الْملَل على تَحْرِيمه وَهُوَ من أفحش الْكَبَائِر وَلم يحل فِي مِلَّة قطّ وَلِهَذَا كَانَ حَده أَشد الْحُدُود لِأَنَّهُ جِنَايَة على الْأَعْرَاض والأنساب
تَعْرِيف الزَّانِي الَّذِي يجب حَده فَقَالَ (وَالزَّانِي) أَي الَّذِي يجب حَده وَهُوَ مُكَلّف وَاضح الذُّكُورَة أولج حَشَفَة ذكره الْأَصْلِيّ الْمُتَّصِل أَو قدرهَا مِنْهُ عِنْد فقدها فِي قبل وَاضح الْأُنُوثَة وَلَو غوراء
كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ فارقا بَين مَا هُنَا وَمَا فِي بَاب التَّحْلِيل من عدم الِاكْتِفَاء بالإيلاج
فِيهَا بِنَاء على تَكْمِيل اللَّذَّة محرم فِي نفس الْأَمر لعين الْإِيلَاج خَال عَن الشُّبْهَة المسقطة للحد مشتهي طبعا بِأَن كَانَ فرج آدَمِيّ حَيّ فَهَذِهِ قيود لإِيجَاب الْحَد خرج بِالْأولِ الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا حد عَلَيْهِمَا
وَبِالثَّانِي الخثنى الْمُشكل إِذا أولج آلَة الذُّكُورَة فَلَا حد عَلَيْهِ لاحْتِمَال أنوثته
وَكَون هَذَا عرقا زَائِدا
وبالثالث مَا لَو أولج بعض الْحَشَفَة فَلَا حد عَلَيْهِ(2/520)
وبالرابع مَا لَو خلق لَهُ ذكران مشتبهان فأولج أَحدهمَا فَلَا حد للشَّكّ فِي كَونه أَصْلِيًّا كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
وبالخامس الذّكر المبان فَلَا حد فِيهِ
وبالسادس مَا لَو أولج فِي فرج خُنْثَى مُشكل فَلَا حد لاحْتِمَال ذكورته وَكَون هَذَا الْمحل زَائِدا
وبالسابع الْمحرم لأمر خَارج كَوَطْء حَائِض وصائمة ومحرمة وَنَحْوه وبنفس الْأَمر كَمَا لَو وطىء زَوجته ظَانّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّة فَلَا حد فِيهِ
وبالثامن وَطْء الْميتَة والبهيمة فَلَا حد فِيهِ
وبالتاسع وَطْء شُبْهَة الطَّرِيق وَالْفَاعِل وَالْمحل إِلَّا فِي جَارِيَة بَيت المَال فَيحد بِوَطْئِهَا لِأَنَّهُ لَا يسْتَحق الإعفاف فِيهِ وَإِن اسْتحق النَّفَقَة ثمَّ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تقيسم الْحَد فِي حَقه (على ضَرْبَيْنِ مُحصن) وَهُوَ من اسْتكْمل الشُّرُوط الْآتِيَة (وَغير مُحصن) وَهُوَ من لم يستكملها
القَوْل فِي حد الْمُحصن (فالمحصن) والمحصنة كل مِنْهُمَا (حَده الرَّجْم) حَتَّى يَمُوت بِالْإِجْمَاع
وتظاهر الْأَخْبَار فِيهِ كرجم مَاعِز والغامدية
وقرىء شاذا وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة وَهَذِه نسخ لَفظهَا وَبَقِي حكمهَا
وَكَانَت هَذِه الْآيَة فِي الْأَحْزَاب كَمَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره وَلَو زنى قبل إحْصَانه وَلم يحد ثمَّ زنى بعده جلد ثمَّ رجم على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي اللّعان وَأرْسل فِيهَا فِي بَاب قَاطع الطَّرِيق وَجْهَيْن مصححين من غير تَصْرِيح بترجيح
وَصحح فِي الْمُهِمَّات أَن الرَّاجِح مَا صَحَّحَاهُ فِي اللّعان وَهُوَ الْمُصَحح فِي التَّنْبِيه أَيْضا ومشيت عَلَيْهِ فِي شَرحه وَأقرهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيحه
القَوْل فِي حد غير الْمُحصن (وَغير الْمُحصن) ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى إِذا كَانَ حرا (حَده مائَة جلدَة) لآيَة {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} اي أَي وَلَاء فَلَو فرقها نظر فَإِن لم يزل الْأَلَم لم يضر
وَإِلَّا فَإِن كَانَ خمسين لم يضر وَإِن كَانَ دون ذَلِك ضرّ وَعلل بِأَن(2/521)
الْخمسين حد الرَّقِيق وَسمي جلدا لوصوله إِلَى الْجلد
(وتغريب عَام) لرِوَايَة مُسلم بذلك
تَنْبِيه أفهم عطفه التَّغْرِيب بِالْوَاو أَنه لَا يشْتَرط التَّرْتِيب بَينهمَا فَلَو قدم التَّغْرِيب على الْجلد جَازَ كَمَا صرح بِهِ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا
وَأفهم لفظ التَّغْرِيب أَنه لَا بُد من تغريب الإِمَام أَو نَائِبه حَتَّى لَو أَرَادَ الإِمَام تغريبه فَخرج بِنَفسِهِ وَغَابَ سنة ثمَّ عَاد لم يكف وَهُوَ الصَّحِيح
لِأَن الْمَقْصُود التنكيل وَلم يحصل وَابْتِدَاء الْعَام من حُصُوله فِي بلد التَّغْرِيب فِي أحد وَجْهَيْن أجَاب بِهِ القَاضِي أَبُو الطّيب
وَالْوَجْه الثَّانِي من خُرُوجه من بلد الزِّنَا وَلَو ادّعى الْمَحْدُود انْقِضَاء الْعَام وَلَا بَيِّنَة صدق لِأَنَّهُ من حُقُوق الله تَعَالَى وَيحلف ندبا
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيَنْبَغِي للْإِمَام أَن يثبت فِي ديوانه أول زمَان التَّغْرِيب ويغرب من بلد الزِّنَا (إِلَى مَسَافَة الْقصر) لِأَن مَا دونهَا فِي حكم الْحَضَر لتواصل الْأَخْبَار فِيهَا إِلَيْهِ وَلِأَن الْمَقْصُود إيحاشه بالبعد عَن الْأَهْل والوطن (فَمَا فَوْقهَا)
إِن رَآهُ الإِمَام لِأَن عمر غرب إِلَى الشَّام وَعُثْمَان إِلَى مصر وعليا إِلَى الْبَصْرَة وَليكن تغريبه إِلَى بلد معِين فَلَا يُرْسِلهُ الإِمَام إرْسَالًا
وَإِذا عين لَهُ الإِمَام جِهَة فَلَيْسَ للمغرب أَن يخْتَار غَيرهَا لِأَن ذَلِك أليق بالزجر
ومعاملة لَهُ بنقيض قَصده
تَنْبِيه لَو غرب إِلَى بلد معِين فَهَل يمْنَع من الِانْتِقَال إِلَى بلد آخر وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا فِي أصل الرَّوْضَة لَا يمْنَع لِأَنَّهُ امتثل وَالْمَنْع من الِانْتِقَال لم يدل عَلَيْهِ دَلِيل
وَيجوز أَن يحمل مَعَه جَارِيَة يتسرى بهَا مَعَ نَفَقَة يحتاجها وَكَذَا مَال يتجر فِيهِ
كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَيْسَ لَهُ أَن يحمل مَعَه أَهله وعشيرته فَإِن خَرجُوا مَعَه لم يمنعوا وَلَا يعقل فِي الْموضع الَّذِي غرب إِلَيْهِ لَكِن يحفظ بالمراقبة وَالتَّوْكِيل بِهِ لِئَلَّا يرجع إِلَى بَلَده أَو إِلَى مَا دون مَسَافَة الْقصر مِنْهَا لَا لِئَلَّا ينْتَقل إِلَى بلد آخر لما مر من أَنه لَو انْتقل إِلَى بلد آخر لم يمْنَع وَلَو عَاد إِلَى بَلَده الَّذِي غرب مِنْهَا أَو إِلَى مَا دون مَسَافَة الْقصر مِنْهُ رد واستؤنفت الْمدَّة على الْأَصَح إِذْ لَا يجوز تَفْرِيق سنة التَّغْرِيب فِي الْحر وَلَا نصفهَا فِي غَيره لِأَن الإيحاش لَا يحصل مَعَه
وَقَضِيَّة هَذَا أَنه لَا يتَعَيَّن للتغريب الْبَلَد الَّذِي غرب إِلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِك ويغرب زَان غَرِيب لَهُ بلد من بلد الزِّنَا تنكيلا وإبعادا عَن مَوضِع الْفَاحِشَة إِلَى غير بَلَده لِأَن الْقَصْد إيحاشه وعقوبته وَعوده إِلَى وَطنه يأباه
وَيشْتَرط أَن يكون بَينه وَبَين بَلَده مَسَافَة الْقصر فَمَا فَوْقهَا ليحصل مَا ذكر فَإِن عَاد إِلَى بَلَده الْأَصْلِيّ منع مِنْهُ مُعَارضَة لَهُ بنقيض قَصده
القَوْل فِي شُرُوط الْإِحْصَان ثمَّ شرع فِي شُرُوط الْإِحْصَان فِي الزِّنَا فَقَالَ (وشرائط الْإِحْصَان أَرْبَعَة) الأول (الْبلُوغ و) الثَّانِي (الْعقل) فَلَا حصانة لصبي وَمَجْنُون لعدم الْحَد عَلَيْهِمَا لَكِن يؤدبان بِمَا يزجرهما كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه مَا ذكره من اعْتِبَار التَّكْلِيف وَلَو عبر بِهِ لَكَانَ أخصر فِي الْإِحْصَان صَحِيح
إِلَّا أَن هَذَا الْوَصْف لَا يخْتَص بالإحصان(2/522)
بل هُوَ شَرط لوُجُوب الْحَد مُطلقًا كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
والمتعدي بسكره كالمكلف
(و) الثَّالِث (الْحُرِّيَّة)
فالرقيق لَيْسَ بمحصن وَلَو مكَاتبا ومبعضا ومستولدة لِأَنَّهُ على النّصْف من الْحر وَالرَّجم لَا نصف لَهُ وَلَو كَانَ ذِمِّيا أَو مُرْتَدا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم الْيَهُودِيين كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ زَاد أَبُو دَاوُد وَكَانَا قد أحصنا
تَنْبِيه عقد الذِّمَّة شَرط لإِقَامَة الْحَد على الذِّمِّيّ لَا لكَونه مُحصنا فَلَو غيب حَرْبِيّ حشفته فِي نِكَاح وصححنا أنكحة الْكفَّار وَهُوَ الْأَصَح فَهُوَ مُحصن حَتَّى لَو عقدت لَهُ ذمَّة فزنى رجم وَمثل الذِّمِّيّ الْمُرْتَد وَخرج بِهِ الْمُسْتَأْمن فَإنَّا لَا نُقِيم عَلَيْهِ حد الزِّنَا على الْمَشْهُور
(و) الرَّابِع (وجود الْوَطْء) بغيبوبة الْحَشَفَة أَو قدرهَا عِنْد فقدها من مُكَلّف بقبل وَلَو لم تزل الْبكارَة كَمَا مر
(فِي نِكَاح صَحِيح) لِأَن الشَّهْوَة مركبة فِي النُّفُوس فَإِذا وطىء فِي نِكَاح صَحِيح وَلَو كَانَت الْمَوْطُوءَة فِي عدَّة وَطْء شُبْهَة أَو وَطئهَا فِي نَهَار رَمَضَان أَو فِي حيض أَو إِحْرَام فقد استوفاها
فحقه أَن يمْتَنع من الْحَرَام وَلِأَنَّهُ يكمل طَرِيق الْحل بِدفع الْبَيْنُونَة بِطَلْقَة أَو ردة فَخرج بِقَيْد الْوَطْء المفاخذة وَنَحْوهَا
وبقيد الْحَشَفَة غيبوبة بَعْضهَا وبقيد الْقبل الْوَطْء فِي الدبر وبقيد النِّكَاح الْوَطْء فِي ملك الْيَمين وَالْوَطْء بِشُبْهَة
وبقيد الصَّحِيح الْوَطْء فِي النِّكَاح الْفَاسِد لِأَنَّهُ حرَام فَلَا يحصل بِهِ صفة كَمَال فَلَا حصانة فِي هَذِه الصُّور المحترز عَنْهَا بالقيود الْمَذْكُورَة
وَالأَصَح الْمَنْصُوص اشْتِرَاط التغييب لحشفة الرجل أَو قدرهَا حَال حُرِّيَّته الْكَامِلَة
وتكليفه
فَلَا يجب الرَّجْم على من وطىء فِي نِكَاح صَحِيح وَهُوَ صبي أَو مَجْنُون أَو رَقِيق وَإِنَّمَا اعْتبر وُقُوعه فِي حَال الْكَمَال لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بأكمل الْجِهَات وَهُوَ النِّكَاح الصَّحِيح فَاعْتبر حُصُوله من كَامِل حَتَّى لَا يرْجم من وطىء وَهُوَ نَاقص ثمَّ زنى وَهُوَ كَامِل ويرجم من كَانَ كَامِلا فِي الْحَالين
وَإِن تخللهما نقص كجنون ورق وَالْعبْرَة بالكمال فِي الْحَالين
فَإِن قيل يرد على هَذَا إِدْخَال الْمَرْأَة حَشَفَة الرجل وَهُوَ نَائِم وإدخاله فِيهَا وَهِي نَائِمَة فَإِنَّهُ يحصل الْإِحْصَان للنائم أَيْضا مَعَ أَنه غير مُكَلّف عِنْد الْفِعْل
أُجِيب بِأَنَّهُ مُكَلّف استصحابا لحاله قبل النّوم
تَنْبِيه سكتوا عَن شَرط الِاخْتِيَار هُنَا وَقَضِيَّة كَلَامهم عدم اشْتِرَاطه حَتَّى لَو وجدت الْإِصَابَة وَالزَّوْج مكره عَلَيْهَا
وَقُلْنَا بتصور الْإِكْرَاه حصل التحصين وَهُوَ كَذَلِك
وَهَذِه الشُّرُوط كَمَا تعْتَبر فِي الواطىء تعْتَبر أَيْضا فِي الْمَوْطُوءَة وَالْأَظْهَر كَمَا فِي الرَّوْضَة
أَن الْكَامِل من رجل أَو امْرَأَة إِذا تزوج بناقص مُحصن لِأَنَّهُ حر مُكَلّف وطىء فِي نِكَاح صَحِيح
فَأشبه مَا إِذا كَانَا كَامِلين وَلَا تغرب امْرَأَة زَانِيَة وَحدهَا بل مَعَ زوج أَو محرم لخَبر لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا زوج أَو محرم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر مسيرَة يَوْم إِلَّا مَعَ ذِي رحم محرم وَلِأَن الْقَصْد تأديبها
والزانية إِذا خرجت وَحدهَا هتكت جِلْبَاب الْحيَاء فَإِن امْتنع من ذكر من الْخُرُوج مَعهَا وَلَو بِأُجْرَة لم يجْبر
كَمَا فِي الْحَج لِأَن فِيهِ تغريب من لم يُذنب وَلَا يَأْثَم بامتناعه(2/523)
كَمَا بَحثه فِي الْمطلب فيؤخر تغريبها إِلَى أَن يَتَيَسَّر من يخرج مَعهَا كَمَا جزم بِهِ ابْن الصّباغ
القَوْل فِي حد العَبْد وَالْأمة ثمَّ شرع فِي حد غير الْحر قَالَ (وَالْعَبْد وَالْأمة) الْمُكَلّفين وَلَو مبعضين (حدهما نصف حد الْحر) وَهُوَ خَمْسُونَ جلدَة لقَوْله تَعَالَى {فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} اي وَالْمرَاد الْجلد لِأَن الرَّجْم قتل وَالْقَتْل لَا يتنصف
وروى مَالك وَأحمد عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أُتِي بِعَبْد وَأمة زَنَيَا فجلدهما خمسين إِذْ لَا فرق فِي ذَلِك بَين الرجل وَالْأُنْثَى بِجَامِع الرّقّ
وَلَو عبر المُصَنّف بِمن فِيهِ رق لعم الْمكَاتب وَأم الْوَلَد والمبعض
ويغرب من فِيهِ رق نصف سنة
كَمَا شَمل ذَلِك قَول المُصَنّف نصف الْحر ولعموم الْآيَة فَأشبه الْجلد
القَوْل فِي مُؤنَة التَّغْرِيب تَنْبِيه مُؤنَة الْمغرب فِي مُدَّة تغريبه على نَفسه إِن كَانَ حرا وعَلى سَيّده إِن كَانَ رَقِيقا
وَإِن زَادَت على مُؤنَة الْحر وَلَو زنى العَبْد الْمُؤَجّر حد
وَهل يغرب فِي الْحَال وَيثبت للْمُسْتَأْجر الْخِيَار أَو يُؤَخر إِلَى مُضِيّ الْمدَّة وَجْهَان حَكَاهُمَا الدَّارمِيّ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيقرب أَن يفرق بَين طول مُدَّة الْإِجَارَة وقصرها قَالَ وَيُشبه أَن يَجِيء ذَلِك فِي الْأَجِير الْحر أَيْضا انْتهى
وَالْأَوْجه أَنه لَا يغرب إِن تعذر عمله فِي الغربة كَمَا لَا يحبس لغريمه إِن تعذر عمله فِي الْحَبْس بل أولى لِأَن ذَلِك حق آدَمِيّ وَهَذَا حق الله تَعَالَى بِخِلَاف الْمَرْأَة إِذا توجه عَلَيْهَا حبس فَإِنَّهَا تحبس وَلَو فَاتَ التَّمَتُّع على الزَّوْج لِأَنَّهُ لَا غَايَة لَهُ
وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَا فرق بَين العَبْد الْمُسلم وَالْكَافِر وَهُوَ كَذَلِك
القَوْل فِيمَا يثبت بِهِ الزِّنَا وَيثبت الزِّنَا بِأحد أَمريْن إِمَّا بِبَيِّنَة عَلَيْهِ وَهِي أَرْبَعَة شُهُود لآيَة {واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم} اي أَو إِقْرَار حَقِيقِيّ وَلَو مرّة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما رَوَاهُ مُسلم
وَيشْتَرط فِي الْبَيِّنَة التَّفْصِيل فَتذكر بِمن زنى لجَوَاز أَن لَا حد عَلَيْهِ بِوَطْئِهَا والكيفية لاحْتِمَال إِرَادَة الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج وتتعرض للحشفة أَو قدرهَا وَقت الزِّنَا فَتَقول رَأَيْنَاهُ أَدخل ذكره أَو حشفته فِي فرج فُلَانَة على وَجه الزِّنَا وَيعْتَبر كَون الْإِقْرَار مفصلا كَالشَّهَادَةِ
وَخرج بِالْإِقْرَارِ الْحَقِيقِيّ التقديري وَهُوَ الْيَمين الْمَرْدُودَة بعد نُكُول الْخصم فَلَا يثبت بِهِ الزِّنَا
وَلَكِن يسْقط بِهِ الْحَد عَن الْقَاذِف
وَيسن للزاني وكل من ارْتكب مَعْصِيّة السّتْر على نَفسه لخَبر من أَتَى من هَذِه القاذورات شَيْئا فليستتر بستر الله تَعَالَى فَإِن من أبدى لنا صفحته أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَد رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد جيد
حكم اللوط (وَحكم اللواط) وَهُوَ إيلاج الْحَشَفَة أَو قدرهَا فِي دبر ذكر وَلَو عَبده أَو أُنْثَى غير زَوجته وَأمته
(وإتيان الْبَهَائِم) مُطلقًا فِي وجوب الْحَد (كَحكم الزِّنَا) فِي الْقبل على الْمَذْهَب فِي مَسْأَلَة اللواط فَقَط فيرجم الْفَاعِل الْمُحصن ويجلد ويغرب غَيره على مَا سبق وَأما الْمَفْعُول بِهِ فيجلد ويغرب مُطلقًا أحصن أم لَا
على الْأَصَح وَخرج بِقَيْد غير زَوجته وَأمته اللواط بهما فَلَا حد عَلَيْهِ بل(2/524)
واجبه التَّعْزِير فَقَط على الْمَذْهَب فِي الرَّوْضَة
أَي إِذا تكَرر مِنْهُ الْفِعْل فَإِن لم يتَكَرَّر فَلَا تَعْزِير
كَمَا ذكره الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ وَالزَّوْجَة وَالْأمة فِي التَّعْزِير مثله
وَأما مَا ذكره المُصَنّف من أَن إتْيَان الْبَهَائِم فِي الْحَد كَالزِّنَا فَهُوَ أحد الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي الْمَسْأَلَة وَهُوَ مَرْجُوح وَعَلِيهِ يفرق بَين الْمُحصن وَغَيره لِأَنَّهُ حد يجب بِالْوَطْءِ كَذَا علله صَاحب الْمُهَذّب والتهذيب
وَالثَّانِي أَن واجبه الْقَتْل مُحصنا كَانَ أَو غَيره لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَتَى بَهِيمَة فَاقْتُلُوهُ واقتلوها مَعَه رَوَاهُ الْحَاكِم وَصحح إِسْنَاده
وأظهرها لَا حد فِيهِ كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ لِأَن الطَّبْع السَّلِيم يأباه فَلم يحْتَج إِلَى زاجر بِحَدّ
بل يُعَزّر وَفِي النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس لَيْسَ على الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَة حد وَمثل هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا عَن تَوْقِيف
القَوْل فِي حكم الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج (وَمن وطىء) الأولى وَمن بَاشر (فِيمَا دون الْفرج) بمفاخذة أَو معانقة أَو قبْلَة أَو نَحْو ذَلِك
(عزّر) بِمَا يرَاهُ الإِمَام من ضرب أَو صفع أَو حبس أَو نفي وَيعْمل بِمَا يرَاهُ من الْجمع بَين هَذِه الْأُمُور أَو الِاقْتِصَار على بَعْضهَا
وَله الِاقْتِصَار على التوبيخ بِاللِّسَانِ
وَحده فِيمَا يتَعَلَّق بِحَق الله تَعَالَى كَمَا فِي الرَّوْضَة
ضَابِط مَا فِيهِ التَّعْزِير وَلَا يبلغ الإِمَام وجوبا (بالتعزير أدنى الْحُدُود) لِأَن الضَّابِط فِي التَّعْزِير أَنه مَشْرُوع فِي كل مَعْصِيّة لَا حد فِيهَا وَلَا كَفَّارَة سَوَاء أَكَانَت حَقًا لله تَعَالَى أم لآدَمِيّ وَسَوَاء أَكَانَت من مُقَدمَات مَا فِيهِ حد كمباشرة أَجْنَبِيَّة فِي غير الْفرج وسرقة مَا لَا قطع فِيهِ
والسب بِمَا لَيْسَ بِقَذْف أم لَا كالتزوير وَشَهَادَة الزُّور وَالضَّرْب بِغَيْر حق ونشوز الْمَرْأَة وَمنع الزَّوْج حَقه مَعَ الْقُدْرَة
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {واللاتي تخافون نشوزهن} اي الْآيَة فأباح الضَّرْب عِنْد الْمُخَالفَة فَكَانَ فِيهِ تَنْبِيه على التَّعْزِير وروى الْبَيْهَقِيّ أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سُئِلَ عَمَّن قَالَ لرجل يَا فَاسق يَا خَبِيث فَقَالَ يُعَزّر
أُمُور ثَلَاثَة نتيجة لضابط التَّعْزِير تَنْبِيه اقْتضى الضَّابِط الْمَذْكُور ثَلَاثَة أُمُور الْأَمر الأول تَعْزِير ذِي الْمعْصِيَة الَّتِي لَا حد فِيهَا وَلَا كَفَّارَة وَيسْتَثْنى مِنْهُ مسَائِل مِنْهَا الأَصْل لَا يُعَزّر لحق الْفَرْع كَمَا لَا يحد بقذفه
وَمِنْهَا مَا إِذا ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فَإِنَّهُ لَا يُعَزّر أول مرّة وَمِنْهَا مَا إِذا كلف السَّيِّد عَبده مَا لَا يُطيق الدَّوَام عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يحرم عَلَيْهِ وَلَا(2/525)
يُعَزّر أول مرّة وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ لَا تعد فَإِن عَاد عزّر
وَمِنْهَا مَا إِذا قطع الشَّخْص أَطْرَاف نَفسه
الْأَمر الثَّانِي مَتى كَانَ فِي الْمعْصِيَة حد كَالزِّنَا أَو كَفَّارَة كالتمتع بِطيب فِي الْإِحْرَام يَنْتَفِي التَّعْزِير لإِيجَاب الأول الْحَد وَالثَّانِي الْكَفَّارَة وَيسْتَثْنى مِنْهُ مسَائِل مِنْهَا إِفْسَاد الصَّائِم يَوْمًا من رَمَضَان بجماع زَوجته أَو أمته
فَإِنَّهُ يجب فِيهِ التَّعْزِير مَعَ الْكَفَّارَة
وَمِنْهَا الْمظَاهر يجب عَلَيْهِ التَّعْزِير مَعَ الْكَفَّارَة
وَمِنْهَا الْيَمين الْغمُوس يجب فِيهَا التَّعْزِير مَعَ الْكَفَّارَة
وَمِنْهَا مَا ذكره الشَّيْخ عز الدّين فِي الْقَوَاعِد الصُّغْرَى أَنه لَو زنى بِأُمِّهِ فِي جَوف الْكَعْبَة فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم معتكف محرم لزمَه الْعتْق والبدنة وَيحد للزِّنَا وَيُعَزر لقطع رَحمَه وانتهاك حُرْمَة الْكَعْبَة
الْأَمر الثَّالِث أَنه لَا يُعَزّر فِي غير مَعْصِيّة وَيسْتَثْنى مِنْهُ مسَائِل مِنْهَا الصَّبِي وَالْمَجْنُون يعزران إِذا فعلا مَا يُعَزّر عَلَيْهِ الْبَالِغ الْعَاقِل
وَإِن لم يكن فعلهمَا مَعْصِيّة
وَمِنْهَا أَن الْمُحْتَسب يمْنَع من يكْتَسب باللهو ويؤدب عَلَيْهِ الْآخِذ والمعطي
وَظَاهره تنَاول اللَّهْو الْمُبَاح
وَمِنْهَا نفي المخنث نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي
مَعَ أَنه لَيْسَ بِمَعْصِيَة وَإِنَّمَا هُوَ فعل للْمصْلحَة واستثنيت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
من ذَلِك مسَائِل عديدة مهمة لَا يحتملها شرح هَذَا الْمُخْتَصر وَفِيمَا ذكرته تذكرة لأولي الْأَلْبَاب
تَتِمَّة للْإِمَام ترك تَعْزِير لحق الله تَعَالَى لإعراضه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جمَاعَة استحقوه كالغال فِي الْغَنِيمَة ولاوي شدقه فِي حكمه للزبير
وَلَا يجوز تَركه إِن كَانَ لآدَمِيّ عِنْد طلبه كَالْقصاصِ على الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِي ذَلِك ابْن الْمقري وَيُعَزر من وَافق الْكفَّار فِي أعيادهم وَمن يمسك الْحَيَّة وَيدخل النَّار
وَمن قَالَ لذِمِّيّ يَا حَاج وَمن يُسَمِّي زائر قُبُور الصَّالِحين حَاجا وَلَا يجوز للْإِمَام الْعَفو عَن الْحَد وَلَا تجوز الشَّفَاعَة فِيهِ
وَتسن الشَّفَاعَة الْحَسَنَة إِلَى وُلَاة الْأُمُور لقَوْله تَعَالَى {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة} الْآيَة وَلما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أَتَاهُ طَالب حَاجَة أقبل على جُلَسَائِهِ وَقَالَ اشفعوا تؤجروا وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ
فصل فِي حد الْقَذْف
وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة لُغَة الرَّمْي
وَشرعا الرَّمْي بِالزِّنَا فِي معرض التعيير وألفاظ الْقَذْف ثَلَاثَة صَرِيح وكناية وتعريض
وَبَدَأَ بِالْأولِ فَقَالَ (وَإِذا قذف) شخص (غَيره بِالزِّنَا) كَقَوْلِه لرجل أَو امْرَأَة حد الْقَذْف) للمقذوف بالاجماع الْمُسْتَند إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ}(2/526)
زَنَيْت أَو زَنَيْت بِفَتْح التَّاء وَكسرهَا أَو يَا زاني أَو يَا زَانِيَة (فَعَلَيهِ الْمُحْصنَات اي الْآيَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهِلَال بن أُميَّة حِين قذف زَوجته بِشريك بن سمحاء الْبَيِّنَة أَو حد فِي ظهرك وَلما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ذَلِك
قَالَ يَا رَسُول الله إِذا رأى أَحَدنَا على امْرَأَته رجلا ينْطَلق يلْتَمس الْبَيِّنَة فَجعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكَرر ذَلِك فَقَالَ هِلَال وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نَبيا إِنِّي لصَادِق ولينزلن الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد فَنزلت آيَة اللّعان
وَلَو قَالَ للرجل يَا زَانِيَة وللمرأة يَا زاني كَانَ قذفا وَلَا يضر اللّحن بالتذكير للمؤنث وَعَكسه كَمَا صرح بِهِ فِي الْمُحَرر
وَلَو خَاطب خُنْثَى بزانية أَو زَان وَجب الْحَد لكنه يكون صَرِيحًا إِن أضَاف الزِّنَا إِلَى فرجيه فَإِن أَضَافَهُ إِلَى أَحدهمَا كَانَ كِنَايَة وَالرَّمْي لشخص بإيلاج ذكره أَو حَشَفَة مِنْهُ فِي فرج مَعَ وصف الْإِيلَاج بِتَحْرِيم مُطلق أَو الرَّمْي بإيلاج ذكر أَو حَشَفَة فِي دبر صَرِيح وَإِنَّمَا اشْترط الْوَصْف بِالتَّحْرِيمِ فِي الْقبل دون الدبر لِأَن الْإِيلَاج فِي الدبر لَا يكون إِلَّا حَرَامًا فَإِن لم يُوصف الأول بِالتَّحْرِيمِ فَلَيْسَ صَرِيحًا لصدقه بالحلال بِخِلَاف الثَّانِي
وَأما اللَّفْظ الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَة فكقوله زنأت بِالْهَمْز فِي الْجَبَل أَو السّلم أَو نَحوه فَهُوَ كِنَايَة لِأَن ظَاهره يَقْتَضِي الصعُود
وزنيت بِالْيَاءِ فِي الْجَبَل صَرِيح للظهور فِيهِ كَمَا لَو قَالَ فِي الدَّار وَكَقَوْلِه لرجل يَا فَاجر يَا فَاسق يَا خَبِيث
ولامرأة يَا فاجرة يَا فاسقة يَا خبيثة
وَأَنت تحبين الْخلْوَة أَو الظلمَة أَو لَا تردين يَد لامس
وَاخْتلف فِي قَول شخص لآخر يَا لوطي هَل هُوَ صَرِيح أَو كِنَايَة لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَنه على دين قوم لوط
وَالْمُعْتَمد أَنه كِنَايَة بِخِلَاف قَوْله يَا لائط فَإِنَّهُ صَرِيح
قَالَ ابْن الْقطَّان وَلَو قَالَ لَهُ يَا بغاء أَو لَهَا يَا قحبة فَهُوَ كِنَايَة
وَالَّذِي أفتى بِهِ ابْن عبد السَّلَام فِي قحبة أَنه صَرِيح وَهُوَ الظَّاهِر وَأفْتى أَيْضا بصراحة يَا مخنث للْعُرْف
وَالظَّاهِر أَنه كِنَايَة فَإِن أنكر شخص فِي الْكِنَايَة إِرَادَة قذف بهَا صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أعرف بمراده فَيحلف أَنه مَا أَرَادَ قذفه قَالَه الْمَاوَرْدِيّ ثمَّ عَلَيْهِ التعزيز للإيذاء
وَقَيده الْمَاوَرْدِيّ بِمَا إِذا خرج لَفظه مخرج السب والذم وَإِلَّا فَلَا تَعْزِير وَهُوَ ظَاهر
وَأما اللَّفْظ الثَّالِث وَهُوَ التَّعْرِيض فكقوله لغيره فِي خُصُومَة أَو غَيرهَا يَا ابْن الْحَلَال
وَأما أَنا فلست بزان وَنَحْوه كليست أُمِّي بزانية وَلست ابْن خباز أَو اسكافي وَمَا أحسن اسْمك فِي الْجِيرَان فَلَيْسَ ذَلِك بِقَذْف صَرِيح وَلَا كِنَايَة وَإِن نَوَاه لِأَن النِّيَّة إِنَّمَا تُؤثر إِذا احْتمل اللَّفْظ الْمَنوِي وَهَا هُنَا لَيْسَ فِي اللَّفْظ إِشْعَار بِهِ وَإِنَّمَا يفهم بقرائن الْأَحْوَال فَلَا يُؤثر فِيهِ
فاللفظ الَّذِي يقْصد بِهِ الْقَذْف إِن لم يحْتَمل غَيره فصريح وَإِلَّا فَإِن فهم مِنْهُ الْقَذْف بِوَضْعِهِ فكناية وَإِلَّا فتعريض
وَلَيْسَ الرَّمْي بإتيان الْبَهَائِم قذفا وَالنِّسْبَة إِلَى غير الزِّنَا من الْكَبَائِر وَغَيرهَا مِمَّا فِيهِ إِيذَاء
كَقَوْلِه لَهَا زَنَيْت بفلانة أَو أصابتك فُلَانَة
يَقْتَضِي التَّعْزِير للإيذاء لَا الْحَد لعدم ثُبُوته
(وشرائطه) أَي حد الْقَذْف (ثَمَانِيَة ثَلَاثَة مِنْهَا) بل سِتَّة (فِي الْقَاذِف) كَمَا ستعرفه (وَهُوَ أَن يكون بَالغا عَاقِلا) فَلَا حد(2/527)
على صبي وَمَجْنُون لنفي الْإِيذَاء بقذفهما لعدم تكليفهما لَكِن يعزران إِذا كَانَ لَهما نوع تَمْيِيز
(و) الثَّالِث (أَن لَا يكون والدا) أَي أصلا (للمقذوف) فَلَا يحد أصل بِقَذْف فَرعه وَإِن سفل
وَالرَّابِع كَونه مُخْتَارًا فَلَا حد على مكره بِفَتْح الرَّاء فِي الْقَذْف
وَالْخَامِس كَونه مُلْتَزما للْأَحْكَام فَلَا حد على حَرْبِيّ لعدم الْتِزَامه وَالسَّادِس كَونه مَمْنُوعًا مِنْهُ ليخرج مَا لَو أذن مُحصن لغيره فِي قذفه فَلَا حد كَمَا صرح بِهِ فِي الزَّوَائِد
تَنْبِيه قد علم من الِاقْتِصَار على هَذِه الشُّرُوط فِي الْقَاذِف عدم اشْتِرَاط إِسْلَامه وحريته وَهُوَ كَذَلِك
(وَخَمْسَة) مِنْهَا (فِي الْمَقْذُوف وَهُوَ أَن يكون مُسلما بَالغا عَاقِلا حرا عفيفا) عَن وَطْء يحد بِهِ بِأَن لم يطَأ أصلا أَو وطىء وطئا لَا يجد بِهِ كَوَطْء الشَّرِيك الْأمة الْمُشْتَركَة لِأَن أضداد ذَلِك نقص
وَفِي الْخَبَر من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن وَإِنَّمَا جعل الْكَافِر مُحصنا فِي حد الزِّنَا لِأَن حَده إهانة لَهُ وَالْحَد بقذفه إكرام لَهُ واعتبرت الْعِفَّة عَن الزِّنَا لِأَن من زنا لَا يتعير بِهِ
تَنْبِيه يرد على مَا ذكر وَطْء زَوجته فِي دبرهَا فَإِنَّهُ تبطل لَهُ حصانته على الْأَصَح مَعَ أَنه لَا يحد بِهِ وَيتَصَوَّر الْحَد بِقَذْف الْكَافِر بِأَن يقذف مُرْتَدا بزنا يضيفه إِلَى حَال إِسْلَامه
وبقذف الْمَجْنُون بِأَن يقذفه بزنا يضيفه إِلَى حَال إِفَاقَته
وبقذف العَبْد بِأَن يقذفه بزنا يضيفه إِلَى حَال حُرِّيَّته إِذا طَرَأَ عَلَيْهِ الرّقّ
وَصورته فِيمَا إِذا أسلم الْأَسير ثمَّ اخْتَار الإِمَام فِيهِ الرّقّ
القَوْل فِيمَا تبطل بِهِ الْعِفَّة وَتبطل الْعِفَّة الْمُعْتَبرَة فِي الْإِحْصَان بِوَطْء شخص وطئا حَرَامًا وَإِن لم يحد بِهِ كَوَطْء مُحرمَة برضاع أَو نسب كأخت مَمْلُوكَة لَهُ مَعَ علمه بِالتَّحْرِيمِ لدلالته على قلَّة مبالاته بِالزِّنَا بل غشيان الْمَحَارِم أَشد من غشيان الأجنبيات
وَلَا تبطل الْعِفَّة بِوَطْء حرَام فِي نِكَاح صَحِيح كَوَطْء زَوجته فِي عدَّة شُبْهَة لِأَن التَّحْرِيم عَارض يَزُول وَلَا بِوَطْء أمة وَلَده لثُبُوت النّسَب حَيْثُ حصل علوق من ذَلِك الْوَطْء
مَعَ انْتِفَاء الْحَد وَلَا بِوَطْء فِي نِكَاح فَاسد كَوَطْء منكوحته بِلَا ولي أَو بِلَا شُهُود لقُوَّة الشُّبْهَة
وَلَا تبطل الْعِفَّة بِوَطْء زَوجته أَو أمته فِي حيض أَو نِفَاس أَو إِحْرَام أَو صَوْم أَو اعْتِكَاف
وَلَا بِوَطْء زَوجته الرَّجْعِيَّة وَلَا بِوَطْء مَمْلُوكَة لَهُ مرتدة أَو مُزَوّجَة أَو قبل الِاسْتِبْرَاء أَو مُكَاتبَة وَلَا بزنا صبي وَمَجْنُون وَلَا بِوَطْء جَاهِل بِتَحْرِيم الْوَطْء لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ
أَو نَشأ ببادية بعيدَة عَن الْعلمَاء وَلَا بِوَطْء مكره
وَلَا بِوَطْء مَجُوسِيّ محرما لَهُ كَأُمِّهِ بِنِكَاح أَو ملك لِأَنَّهُ لَا يعْتَقد تَحْرِيمه وَلَا بمقدمات الْوَطْء فِي الْأَجْنَبِيَّة
القَوْل فِي سُقُوط وَاحِد الْقَذْف بعد ثُبُوته فروع لَو زنى مقذوف قبل أَن يحد قَاذفه سقط الْحَد عَن قَاذفه لِأَن الْإِحْصَان لَا يتَيَقَّن بل يظنّ وَظُهُور الزِّنَا يخدشه(2/528)
كالشاهد ظَاهره الْعَدَالَة شهد بِشَيْء ثمَّ ظهر فسقه قبل الحكم
وَلَو ارْتَدَّ لم يسْقط الْحَد عَن قَاذفه وَالْفرق بَين الرِّدَّة وَالزِّنَا أَنه يكتم مَا أمكن فَإِذا ظهر أشعر بسبق مثله
لِأَن الله تَعَالَى كريم لَا يهتك السّتْر أول مرّة
كَمَا قَالَه عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَالرِّدَّة عقيدة والعقائد لَا تخفى غَالِبا فإظهارها لَا يدل على سبق الْإخْفَاء وكالردة السّرقَة وَالْقَتْل لِأَن مَا صدر مِنْهُ لَيْسَ من جنس مَا قذف بِهِ
وَمن زنى مرّة ثمَّ صلح بِأَن تَابَ وَصلح حَاله لم يعد مُحصنا أبدا وَلَو لزم الْعَدَالَة وَصَارَ من أورع خلق الله تَعَالَى وأزهدهم لِأَن الْعرض إِذا انخرم بِالزِّنَا لم يزل خلله بِمَا يطْرَأ من الْعِفَّة
فَإِن قيل قد ورد التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ أُجِيب بِأَن هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَة
مِقْدَار الْحَد فِي الْقَاذِف (وَيحد الْحر) فِي الْقَذْف (ثَمَانِينَ) جلدَة لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} اي الْآيَة واستفيد كَونهَا فِي الْأَحْرَار من قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} اي
(و) يحد (الرَّقِيق) فِيهِ وَلَو مبعضا (أَرْبَعِينَ) جلدَة بالاجماع وحد الْقَذْف أَو تعزيره يُورث كَسَائِر حُقُوق الْآدَمِيّين وَلَو مَاتَ الْمَقْذُوف مُرْتَدا قبل اسْتِيفَاء الْحَد فَالْأَوْجه أَنه لَا يسْقط بل يَسْتَوْفِيه وَارثه لَوْلَا الرِّدَّة للتشفي كَمَا فِي نَظِيره من قصاص الطّرف
القَوْل فِي الْأُمُور الَّتِي يسْقط بهَا الْقَذْف (وَيسْقط حد الْقَذْف) عَن الْقَاذِف (بِثَلَاثَة) بل بِخَمْسَة (أَشْيَاء) الأول (إِقَامَة الْبَيِّنَة) على زنا الْمَقْذُوف وَتقدم أَنَّهَا أَرْبَعَة وَأَنَّهَا تكون مفصلة فَلَو شهد بِهِ دون أَرْبَعَة حدوا
كَمَا فعله عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَالثَّانِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو عَفْو الْمَقْذُوف) عَن الْقَاذِف عَن جَمِيع الْحَد فَلَو عَفا عَن بعضه لم يسْقط مِنْهُ شَيْء كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي الشُّفْعَة وَألْحق فِي الرَّوْضَة التَّعْزِير بِالْحَدِّ فَقَالَ إِنَّه يسْقط بِعَفْو أَيْضا وَلَو عَفا وَارِث الْمَقْذُوف على مَال سقط وَلم يجب المَال كَمَا فِي فَتَاوَى الحناطي وَلَو قذفه فَعَفَا عَنهُ ثمَّ قذفه
لم يحد كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ بل يُعَزّر وَالثَّالِث مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو اللّعان) أَي لعان الزَّوْج الْقَاذِف
(فِي حق الزَّوْجَة) المقذوفة وَلَو مَعَ قدرته على إِقَامَة الْبَيِّنَة كَمَا تقدم تَوْجِيهه فِي اللّعان
وَالرَّابِع إِقْرَار الْمَقْذُوف بِالزِّنَا
وَالْخَامِس مَا لَو ورث الْقَاذِف الْحَد
تَتِمَّة يَرث الْحَد جَمِيع الْوَرَثَة الخاصين حَتَّى الزَّوْجَيْنِ ثمَّ من بعدهمْ للسُّلْطَان كَالْمَالِ وَالْقصاص وَلَو قذف بعد مَوته
هَل للزوجين حق أَو لَا وَجْهَان أوجههمَا الْمَنْع لانْقِطَاع الوصلة حَالَة الْقَذْف وَلَو عَفا بعض الْوَرَثَة عَن حَقه مِمَّا وَرثهُ من الْحَد فللباقين(2/529)
مِنْهُم اسْتِيفَاء جَمِيعه لِأَنَّهُ عَار
والعار يلْزم الْوَاحِد كَمَا يلْزم الْجَمِيع وَفرق بَينه وَبَين الْقود فَإِنَّهُ إِذا عَفا بعض الْوَرَثَة عَنهُ سقط بِأَن لَهُ بَدَلا يعدل إِلَيْهِ وَهُوَ الدِّيَة بِخِلَافِهِ هَذَا إِذا كَانَ الْمَقْذُوف حرا
فَلَو كَانَ رَقِيقا وَاسْتحق التَّعْزِير على غير سَيّده ثمَّ مَاتَ فَهَل يَسْتَوْفِيه سَيّده أَو عصبته الْأَحْرَار أَو السُّلْطَان وُجُوه أَصَحهَا أَولهَا وللقاذف تَحْلِيف الْمَقْذُوف على عدم زِنَاهُ وَلَو مَعَ قدرته على الْبَيِّنَة عِنْد الْأَكْثَرين
فَإِن حلف حد الْقَاذِف وَإِلَّا سقط عَنهُ
فصل فِي حد شَارِب السكر من خمر وَغَيره
فِي حد شَارِب الْمُسكر من خمر وَغَيره وشربه من كَبَائِر الْمُحرمَات
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيمه قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} الْآيَة
وانعقد الْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْخمر وَكَانَ الْمُسلمُونَ يشربونها فِي صدر الْإِسْلَام
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي أَن ذَلِك كَانَ استصحابا مِنْهُم لحكم الْجَاهِلِيَّة أَو بشرع فِي إباحتها على وَجْهَيْن رجح الْمَاوَرْدِيّ الأول وَالنَّوَوِيّ الثَّانِي
وَكَانَ تَحْرِيمهَا فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة بعد أحد
وَقيل بل كَانَ الْمُبَاح الشّرْب لَا مَا يَنْتَهِي إِلَى السكر المزيل لِلْعَقْلِ
فَإِنَّهُ حرَام فِي كل مِلَّة
حَكَاهُ الْقشيرِي فِي تَفْسِيره عَن الْقفال الشَّاشِي
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَهُوَ بَاطِل لَا أصل لَهُ وَالْخمر الْمُسكر من عصير الْعِنَب وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي وُقُوع اسْم الْخمر على الأنبذة هَل هُوَ حَقِيقَة قَالَ الْمُزنِيّ وَجَمَاعَة نعم لِأَن الِاشْتِرَاك بِالصّفةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم
وَهُوَ قِيَاس فِي اللُّغَة وَهُوَ جَائِز عِنْد الْأَكْثَرين وَهُوَ ظَاهر الْأَحَادِيث وَنسب الرَّافِعِيّ إِلَى الْأَكْثَر أَنه لَا يَقع عَلَيْهَا إِلَّا مجَازًا أما فِي التَّحْرِيم وَالْحَد فكالخمر كَمَا يُؤْخَذ من قَول المُصَنّف
شُرُوط الْحَد فِي شرب الْخمر(2/530)
(وَمن شرب) أَي من الْمُكَلّفين الْمُلْتَزم للْأَحْكَام مُخْتَارًا لغير ضَرُورَة عَالما بِالتَّحْرِيمِ
(خمرًا) وَهِي المتخذة من عصير الْعِنَب كَمَا مر
(أَو) شرب (شرابًا مُسكرا) غير الْخمر كالأنبذة المتخذة من تمر أَو رطب أَو زبيب أَو شعير أَو ذرة أَو نَحْو ذَلِك
(يحد) الْحر (أَرْبَعِينَ) جلدَة لما فِي مُسلم عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضْرب فِي الْخمر بِالْجَرِيدِ وَالنعال أَرْبَعِينَ وَيحد الرَّقِيق وَلَو مبعضا عشْرين لِأَنَّهُ حد يَتَبَعَّض فتنصف على الرَّقِيق كَحَد الزِّنَا
تَنْبِيه لَو تعدد الشّرْب كفي مَا ذكر
وَحَدِيث الْأَمر بقتل الشَّارِب فِي الرَّابِعَة مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع
القَوْل فِي ضَابِط معنى الْخمر تَنْبِيه كل شراب أسكر كَثِيره حرم هُوَ وقليله وحد شَاربه
لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كل شراب أسكرع فَهُوَ حرَام وروى مُسلم خبر كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام وَإِنَّمَا حرم الْقَلِيل وحد شَاربه إِن كَانَ لَا يسكر حسما لمادة الْفساد
كَمَا حرم تَقْبِيل الْأَجْنَبِيَّة وَالْخلْوَة بهَا لافضائه إِلَى الْوَطْء الْمحرم
وَلِحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم من شرب الْخمر فاجلدوه وَقيس بِهِ شرب النَّبِيذ وَخرج بالشرب الحقنة بِهِ بِأَن أدخلهُ دبره
والسعوط بِأَن أدخلهُ أَنفه
فَلَا حد بذلك لِأَن الْحَد للزجر وَلَا حَاجَة إِلَيْهِ هُنَا وبالشراب الْمَفْهُوم من شرب النَّبَات قَالَ الدَّمِيرِيّ كالحشيشة الَّتِي يأكلها الحرافيش
وَنقل الشَّيْخَانِ فِي بَاب الْأَطْعِمَة عَن الرَّوْيَانِيّ أَن أكلهَا حرَام وَلَا حد فِيهَا وبالمكلف الصَّبِي وَالْمَجْنُون لرفع المقلم عَنْهُمَا وبالملتزم الْحَرْبِيّ لعدم الْتِزَامه وَالذِّمِّيّ لِأَنَّهُ لَا يلْتَزم بِالذِّمةِ مَا لَا يَعْتَقِدهُ وبالمختار المصبوب فِي حلقه قهرا وَالْمكْره على شربه لحَدِيث رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَبِغير ضَرُورَة مَا لَو غص أَي شَرق بلقمة وَلم يجد غير الْخمر فأساغها بهَا فَلَا حد عَلَيْهِ لوُجُوب شربهَا إنقاذا للنَّفس من الْهَلَاك والسلامة بذلك قَطْعِيَّة بِخِلَاف الدَّوَاء وَهُوَ رخصَة وَاجِبَة
فَلَو وجد غَيرهَا وَلَو بولا حرم إساغتها بِالْخمرِ
وَوَجَب حَده وبعالم بِالتَّحْرِيمِ من جهل كَونهَا خمرًا فَشربهَا ظَانّا كَونهَا شرابًا لَا يسكر لم يحد للْعُذْر وَلَا يلْزمه قَضَاء الصَّلَوَات الْفَائِتَة مُدَّة السكر كالمغمى عَلَيْهِ وَلَو قَالَ السَّكْرَان بعد الإصحاء كنت مكْرها أَو لم أعلم أَن الَّذِي شربته مُسكرا صدق بِيَمِينِهِ قَالَه فِي الْبَحْر فِي كتاب الطَّلَاق وَلَو قرب إِسْلَامه فَقَالَ جهلت تَحْرِيمهَا لم يحد لِأَنَّهُ قد يخفى عَلَيْهِ ذَلِك
وَالْحَد يدْرَأ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين(2/531)
من نَشأ فِي بِلَاد الْإِسْلَام أَو لَا وَلَو قَالَ علمت تَحْرِيمهَا وَلَكِن جهلت الْحَد بشربها حد لِأَن من حَقه إِذا علم التَّحْرِيم أَن يمْتَنع
وَيحد بدردي مُسكر وَلَا يحد بشربه فِيمَا اسْتهْلك فِيهِ
وَلَا بِخبْز عجن دقيقه بِهِ لِأَن عين الْمُسكر أَكلته النَّار وَبَقِي الْخبز متنجسا وَلَا معجون هُوَ فِيهِ لاستهلاكه وَلَا بِأَكْل لحم طبخ بِهِ بِخِلَاف مرقه إِذا شربه أَو غمس فِيهِ أَو ثرد بِهِ فَإِنَّهُ يحد لبَقَاء عينه
القَوْل فِي حُرْمَة التدواي بِالْخمرِ وَيحرم تنَاول الْخمر لدواء وعطش أما تَحْرِيم الدَّوَاء بهَا فَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن التَّدَاوِي بهَا قَالَ إِنَّه لَيْسَ بدواء وَلكنه دَاء وَالْمعْنَى أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سلب الْخمر مَنَافِعهَا حِين حرمهَا
وَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن من أَن فِيهَا مَنَافِع للنَّاس إِنَّمَا هُوَ قبل تَحْرِيمهَا وَإِن سلم بَقَاء الْمَنْفَعَة
فتحريمها مَقْطُوع بِهِ وَحُصُول الشِّفَاء بهَا مظنون فَلَا يقوى على إِزَالَة الْمَقْطُوع بِهِ
وَأما تَحْرِيمهَا للعطش فَلِأَنَّهُ لَا يُزِيلهُ بل يزِيدهُ لِأَن طبعها حَار يَابِس
كَمَا قَالَه أهل الطِّبّ وشربها لدفع الْجُوع كشربها لدفع الْعَطش هَذَا إِذا تداوى بصرفها
أما الترياق المعجون بهَا وَنَحْوه مِمَّا تستهلك فِيهِ فَيجوز التَّدَاوِي بِهِ عِنْد فقد مَا يقوم مقَامه مِمَّا يحصل بِهِ التَّدَاوِي من الطاهرات كالتداوي بِنَجس كلحم حَيَّة وَبَوْل
وَلَو كَانَ التَّدَاوِي بذلك لتعجيل شِفَاء بِشَرْط إِخْبَار طَبِيب مُسلم عدل بذلك أَو مَعْرفَته للتداوي بِهِ والند بِالْفَتْح المعجون بِخَمْر لَا يجوز بَيْعه لنجاسته
وَيجوز تنَاول مَا يزِيل الْعقل من غير الْأَشْرِبَة لقطع عُضْو متآكل أما الْأَشْرِبَة فَلَا يجوز تعاطيها لذَلِك وأصل الْجلد أَن يكون بِسَوْط أَو يَد أَو نعال أَو أَطْرَاف ثِيَاب لما روى الشَّيْخَانِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يضْرب بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَفِي البُخَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسكران فَأمر بضربه فمنا من ضربه بِيَدِهِ وَمنا من ضربه بنعله وَمنا من ضربه بِثَوْبِهِ
القَوْل فِي جَوَاز الزِّيَادَة عَن أَرْبَعِينَ (وَيجوز) للْإِمَام (أَن يبلغ بِهِ) أَي الشَّارِب الْحر (ثَمَانِينَ) على الْأَصَح الْمَنْصُوص لما رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ جلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ وَجلد أَبُو بكر أَرْبَعِينَ وَعمر ثَمَانِينَ وكل سنة وَهَذَا أحب إِلَيّ لِأَنَّهُ إِذا شرب سكر وَإِذا سكر هذى وَإِذا(2/532)
هذى افترى وحد الافتراء ثَمَانُون وَالزِّيَادَة على الْأَرْبَعين فِي الْحر وعَلى الْعشْرين فِي غَيره
(على وَجه التَّعْزِير) لِأَنَّهَا لَو كَانَت حدا لما جَازَ تَركهَا
وَقيل حد لِأَن التَّعْزِير لَا يكون إِلَّا عَن جِنَايَة مُحَققَة وَاعْترض الأول
بِأَن وضع التَّعْزِير النَّقْص عَن الْحَد فَكيف يُسَاوِيه
وَأجِيب بِأَنَّهُ لجنايات تولدت من الشَّارِب وَلِهَذَا اسْتحْسنَ تَعْبِير الْمِنْهَاج بتعزيرات على تَعْبِير الْمُحَرر بتعزير
قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَيْسَ هَذَا الْجَواب شافيا
فَإِن الْجِنَايَات لم تتَحَقَّق حَتَّى يُعَزّر والجنايات الَّتِي تتولد من الْخمر لَا تَنْحَصِر فلتجز الزِّيَادَة على الثَّمَانِينَ وَقد منعوها قَالَ وَفِي قصَّة تَبْلِيغ الصَّحَابَة الضَّرْب ثَمَانِينَ أَلْفَاظ مشعرة بِأَن الْكل حد وَعَلِيهِ فحد الشَّارِب مَخْصُوص من بَين سَائِر الْحُدُود
بِأَن يتحتم بعضه وَيتَعَلَّق بعضه بِاجْتِهَاد الإِمَام
اه
وَالْمُعْتَمد أَنَّهَا تعزيرات وَإِنَّمَا لم تجز الزِّيَادَة اقتصارا على مَا ورد
بِمَ يجب حد الْخمر (وَيجب عَلَيْهِ) أَي الشَّارِب الْمُقَيد بِمَا تقدم (الْحَد بِأحد أَمريْن) إِمَّا (بِالْبَيِّنَةِ) وَهِي شَهَادَة رجلَيْنِ أَنه شرب خمرًا أَو شرب مِمَّا شرب مِنْهُ غَيره فَسَكِرَ مِنْهُ
(أَو الْإِقْرَار) بِمَا ذكر لِأَن كلا من الْبَيِّنَة وَالْإِقْرَار حجَّة شَرْعِيَّة فَلَا يحد بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَن الْبَيِّنَة نَاقِصَة وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَلَا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَة لما مر فِي قطع السّرقَة وَلَا برِيح خمر وسكر وقيء لاحْتِمَال أَن يكون شرب غالطا أَو مكْرها
وَالْحَد يدْرَأ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَسْتَوْفِيه القَاضِي بِعِلْمِهِ على الصَّحِيح بِنَاء على أَنه لَا يقْضِي بِعِلْمِهِ فِي حُدُود الله تَعَالَى
نعم سيد العَبْد يَسْتَوْفِيه بِعِلْمِهِ لإِصْلَاح ملكه وَلَا يشْتَرط فِي الْإِقْرَار وَالشَّهَادَة تَفْصِيل بل يَكْفِي الْإِطْلَاق فِي إِقْرَار من شخص بِأَنَّهُ شرب خمرًا وَفِي شَهَادَة بِشرب مُسكر
شرب فلَان خمرًا وَلَا يحْتَاج أَن يَقُول وَهُوَ مُخْتَار عَالم لِأَن الأَصْل عدم الْإِكْرَاه
وَالْغَالِب من حَال الشَّارِب علمه بِمَا يشربه فَنزل الْإِقْرَار وَالشَّهَادَة عَلَيْهِ وَيقبل رُجُوعه عَن الْإِقْرَار لِأَن كل مَا لَيْسَ من حق آدَمِيّ يقبل الرُّجُوع فِيهِ
القَوْل فِي وَقت حد السَّكْرَان تَتِمَّة لَا يحد حَال سكره
لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ الردع والزجر والتنكيل وَذَلِكَ لَا يحصل مَعَ السكر بل يُؤَخر وجوبا إِلَى إِفَاقَته ليرتدع فَإِن حد قبلهَا فَفِي الِاعْتِدَاد بِهِ وَجْهَان أصَحهمَا كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ الِاعْتِدَاد بِهِ وسوط الْحُدُود أَو التعازير بَين قضيب وَهُوَ الْغُصْن وعصا غير معتدلة وَبَين رطب ويابس بِأَن يكون معتدل الجرم والرطوبة لِلِاتِّبَاعِ وَلم يصرحوا بِوُجُوب هَذَا وَلَا بندبه وَقَضِيَّة كَلَامهم الْوُجُوب كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ وَيفرق الضَّرْب على الْأَعْضَاء فَلَا يجمعه فِي مَوضِع وَاحِد لِأَنَّهُ قد يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاك ويجتنب الْمقَاتل وَهِي مَوَاضِع يسْرع الْقَتْل إِلَيْهَا بِالضَّرْبِ كقلب وثغرة نحر وَفرج ويجتنب الْوَجْه أَيْضا فَلَا يضْربهُ لخَبر مُسلم إِذا ضرب أحدكُم فليتق الْوَجْه
وَلِأَنَّهُ مجمع المحاسن فيعظم أثر شينه بِخِلَاف الرَّأْس فَإِنَّهَا مغطاة غَالِبا فَلَا يخَاف تشويهه بِالضَّرْبِ بِخِلَاف الْوَجْه
وروى ابْن أبي شيبَة عَن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ للجلاد اضْرِب الرَّأْس فَإِن الشَّيْطَان فِي الرَّأْس
وَلَا تشد يَد(2/533)
المجلود وَلَا تجرد ثِيَابه الْخَفِيفَة
أما مَا يمْنَع كالجبة المحشوة فتنزع عَنهُ مُرَاعَاة لمقصود الْحَد
ويوالي الضَّرْب عَلَيْهِ بِحَيْثُ يحصل زجر وتنكيل فَلَا يجوز أَن يفرق على الْأَيَّام والساعات لعدم الإيلام الْمَقْصُود فِي الْحُدُود وَبِمَ يضْبط التَّفْرِيق الْجَائِز وَغَيره قَالَ الإِمَام إِن لم يحصل فِي كل دفْعَة ألم لَهُ وَقع كسوط أَو سوطين فِي كل يَوْم فَهَذَا لَيْسَ بِحَدّ وَإِن آلم أَو أثر لما لَهُ وَقع فَإِن لم يَتَخَلَّل زمن يَزُول فِيهِ الْأَلَم الأول كفى وَإِن تخَلّل لم يكف على الْأَصَح وَيكرهُ إِقَامَة الْحُدُود والتعازير فِي الْمَسْجِد كَمَا صرح بِهِ الشَّيْخَانِ فِي أدب الْقَضَاء
فصل فِي حد السّرقَة
الْوَاجِب بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع
وَهِي لُغَة أَخذ المَال خُفْيَة وَشرعا أَخذه خُفْيَة ظلما من حرز مثله بِشُرُوط تَأتي وَلما نظم أَبُو الْعَلَاء المعري الْبَيْت الَّذِي شكك بِهِ على أهل الشَّرِيعَة فِي الْفرق بَين الدِّيَة وَالْقطع فِي السّرقَة
وَهُوَ يَد بِخمْس مئين عسجد وديت مَا بالها قطعت فِي ربع دِينَار أَجَابَهُ القَاضِي عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي بقوله وقاية النَّفس أغلاها وأرخصها وقاية المَال فَافْهَم حِكْمَة الْبَارِي وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ لما سُئِلَ عَن هَذَا لما كَانَت أمينة كَانَت ثمنية فَلَمَّا خانت هَانَتْ وأركان الْقطع ثَلَاثَة مَسْرُوق وسرقة وسارق
وَالْمُصَنّف اقْتصر على السَّارِق والمسروق فَقَالَ (وتقطع يَد السَّارِق) والسارقة وَلَو ذميين ورقيقين (بِسِتَّة) بل بِعشْرَة (شَرَائِط) كَمَا ستعرفه وَمرَاده بِالشّرطِ هُنَا مَا لَا بُد مِنْهُ الشَّامِل للركن وَغَيره لِأَنَّهُ ذكر من جُمْلَتهَا الْمَسْرُوق
وَهُوَ أحد الْأَركان كَمَا مر الأول (أَن يكون) السَّارِق (بَالغا) فَلَا يقطع صبي لعدم تَكْلِيفه
(و) الثَّانِي أَن يكون (عَاقِلا) فَلَا يقطع مَجْنُون لما ذكر (و) الثَّالِث وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ أَنه من الْأَركان
(أَن يسرق نِصَابا) وَهُوَ ربع دِينَار فَأكْثر وَلَو كَانَ الرّبع لجَماعَة اتَّحد حرزهم لخَبر مُسلم لَا تقطع يَد سَارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار فَصَاعِدا وَأَن يكون خَالِصا لِأَن الرّبع(2/534)
الْمَغْشُوش لَيْسَ بِربع دِينَار حَقِيقَة فَإِن كَانَ فِي الْمَغْشُوش بِربع خَالص وَجب الْقطع
وَمثل ربع الدِّينَار مَا قِيمَته ربع دِينَار لِأَن الأَصْل فِي التَّقْوِيم هُوَ الذَّهَب الْخَالِص حَتَّى لَو سرق دَرَاهِم أَو غَيرهَا قومت بِهِ وَتعْتَبر (قِيمَته ربع دِينَار) وَقت الْإِخْرَاج من الْحِرْز فَلَو نقصت قِيمَته بعد ذَلِك لم يسْقط الْقطع وعَلى أَن التَّقْوِيم يعْتَبر بالمضروب لَو سرق ربع دِينَار مسبوكا أَو حليا أَو نَحوه كقراضة لَا تَسَاوِي ربعا مَضْرُوبا فَلَا قطع بِهِ وَإِن ساواه غير مَضْرُوب لِأَن الْمَذْكُور فِي الْخَبَر
لفظ الدِّينَار وَهُوَ اسْم للمضروب
وَلَا يقطع بِخَاتم وَزنه دون ربع
وَقِيمَته بالصنعة ربع نظرا إِلَى الْوَزْن الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي الذَّهَب وَلَا بِمَا نقص قبل إِخْرَاجه من الْحِرْز عَن نِصَاب بِأَكْل أَو غَيره كإحراق لانْتِفَاء كَون الْمخْرج نِصَابا وَلَا بِمَا دون نصابين اشْترك اثْنَان فِي إِخْرَاجه لِأَن كلا مِنْهُمَا لم يسرق نِصَابا وَيقطع بِثَوْب رث فِي جيبه تَمام نِصَاب وَإِن جَهله السَّارِق لِأَنَّهُ أخرج نِصَابا من حرز بِقصد السّرقَة وَالْجهل بِجِنْسِهِ لَا يُؤثر كالجهل بِصفتِهِ وبنصاب ظَنّه فَلَو مَالا يُسَاوِيه لذَلِك وَلَا أثر لظَنّه وَالرَّابِع أَن يَأْخُذهُ
(من حرز مثله) فَلَا قطع بِسَرِقَة مَا لَيْسَ محرزا لخَبر أبي دَاوُد لَا قطع فِي شَيْء من الْمَاشِيَة إِلَّا فِيمَا آواه المراح وَلِأَن الْجِنَايَة تعظم بمخاطرة أَخذه من الْحِرْز فَحكم بِالْقطعِ زجرا بِخِلَاف مَا إِذا جرأه الْمَالِك ومكنه بتضييعه
والإحراز يكون بلحاظ لَهُ بِكَسْر اللَّام دَائِما أَو حصانة مَوْضِعه مَعَ لحاظ لَهُ والمحكم فِي الْحِرْز الْعرف فَإِنَّهُ لم يحد فِي الشَّرْع وَلَا اللُّغَة فَرجع فِيهِ إِلَى الْعرف كَالْقَبْضِ والإحياء وَلَا شكّ أَنه يخْتَلف باخْتلَاف الْأَمْوَال وَالْأَحْوَال والأوقات فقد يكون الشَّيْء حرْزا فِي وَقت دون وَقت
بِحَسب صَلَاح أَحْوَال النَّاس وفسادها وَقُوَّة السُّلْطَان وَضَعفه
وَضَبطه الْغَزالِيّ بِمَا لَا يعد صَاحبه مضيعا لَهُ فعرصة دَار وصفتها حرز خسيس آنِية وَثيَاب أما نفيسها فحرزه بيُوت الدّور والخانات والأسواق المنيعة ومخزن حرز حلي وَنقد وَنَحْوهمَا
ونوم بِنَحْوِ(2/535)
صحراء كمسجد وشارع على مَتَاع وَلَو توسده حرز لَهُ
وَمحله فِي توسده فِيمَا يعد التوسد حرْزا لَهُ وَإِلَّا كَأَن توسد كيسا فِيهِ نقد أَو جَوْهَر فَلَا يكون حرْزا لَهُ كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَيقطع بنصاب انصب من وعَاء بنقبه لَهُ وَإِن انصب شَيْئا فَشَيْئًا لِأَنَّهُ سرق نِصَابا من حرزه وبنصاب أخرجه دفعتين بِأَن تمّ فِي الثَّانِيَة لذَلِك
فَإِن تخَلّل بَينهمَا علم الْمَالِك
وإعادة الْحِرْز فالثانية سَرقَة أُخْرَى فَلَا قطع فِيهَا إِن كَانَ الْمخْرج فِيهَا دون نِصَاب وَالْخَامِس كَون السَّارِق (لَا ملك لَهُ فِيهِ) أَي الْمَسْرُوق
فَلَا قطع بِسَرِقَة مَاله الَّذِي بيد غَيره
وَإِن كَانَ مَرْهُونا أَو مؤجرا وَلَو سرق مَا اشْتَرَاهُ من يَد غَيره وَلَو قبل تَسْلِيم الثّمن أَو فِي زمن الْخِيَار أَو سرق مَا اتهبه قبل قَبضه لم يقطع فيهمَا وَلَو سرق مَعَ مَا اشْتَرَاهُ مَالا آخر بعد تَسْلِيم الثّمن لم يقطع كَمَا فِي الرَّوْضَة
وَلَو سرق الْمُوصى لَهُ بِهِ قبل موت الْمُوصي أَو بعده وَقبل الْقبُول قطع فِي الصُّورَتَيْنِ
أما الأولى فَلِأَن الْقبُول لم يقْتَرن بِالْوَصِيَّةِ
وَأما فِي الثَّانِيَة فبناء على أَن الْملك فِيهَا لَا يحصل بِالْمَوْتِ
فَإِن قيل قد مر أَنه لَا يقطع بِالْهبةِ بعد الْقبُول وَقبل الْقَبْض
فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك
أُجِيب بِأَن الْمُوصي لَهُ مقصر بِعَدَمِ الْقبُول مَعَ تمكنه مِنْهُ بِخِلَافِهِ فِي الْهِبَة فَإِنَّهُ قد لَا يتَمَكَّن من الْقَبْض وَأَيْضًا الْقبُول وجد ثمَّ وَلم يُوجد هُنَا
وَلَو سرق الْمُوصي بِهِ فَقير بعد موت الْمُوصي وَالْوَصِيَّة للْفُقَرَاء لم يقطع كسرقة المَال الْمُشْتَرك بِخِلَاف مَا لَو سَرقه الْغَنِيّ
تَنْبِيه لَو ملك السَّارِق الْمَسْرُوق أَو بعضه بِإِرْث أَو غَيره كَشِرَاء قبل إِخْرَاجه من الْحِرْز أَو نقص فِي الْحِرْز عَن نِصَاب بِأَكْل بعضه أَو غَيره كإحراقه لم يقطع أما فِي الأولى فَلِأَنَّهُ مَا أخرج إِلَّا ملكه
وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَنَّهُ لم يخرج من الْحِرْز نِصَابا وَلَو ادّعى السَّارِق ملك الْمَسْرُوق أَو بعضه لم يقطع على النَّص لاحْتِمَال صدقه فَصَارَ شُبْهَة دارئة للْقطع ويروى عَن الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه سَمَّاهُ السَّارِق الظريف أَي الْفَقِيه
وَلَو سرق اثْنَان مثلا نصابين وَادّعى الْمَسْرُوق أَحدهمَا أَنه لَهُ أَولهمَا فكذبه الآخر لم يقطع الْمُدَّعِي لما مر وَقطع الآخر فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ أقرّ بِسَرِقَة نِصَاب لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ وَإِن سرق من حرز شَرِيكه مَالا مُشْتَركا بَينهمَا فَلَا قطع بِهِ
وَإِن قل نصِيبه لِأَن لَهُ فِي كل جُزْء حَقًا شَائِعا وَذَلِكَ شُبْهَة فَأشبه من وطىء الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة
(و) السَّادِس كَون السَّارِق (لَا شُبْهَة لَهُ فِي مَال الْمَسْرُوق مِنْهُ) لحَدِيث(2/536)
ادرؤوا الْحُدُود عَن الْمُسلمين مَا اسْتَطَعْتُم صحّح الْحَاكِم إِسْنَاده سَوَاء فِي ذَلِك شُبْهَة الْملك
كمن سرق مُشْتَركا بَينه وَبَين غَيره كَمَا مر أَو شُبْهَة الْفَاعِل كمن أَخذ مَالا على صُورَة السّرقَة يظنّ أَنه ملكه أَو ملك أَصله أَو فَرعه أَو شُبْهَة الْمحل كسرقة الابْن مَال أحد أُصُوله أَو أحد الْأُصُول مَال فَرعه وَإِن سفل لما بَينهمَا من الِاتِّحَاد وَإِن اخْتلف دينهما
كَمَا بَحثه بعض الْمُتَأَخِّرين وَلِأَن مَال كل مِنْهُمَا مرصد لحَاجَة الآخر وَمِنْهَا أَن لَا تقطع يَده بِسَرِقَة ذَلِك المَال بِخِلَاف سَائِر الْأَقَارِب وَسَوَاء أَكَانَ السَّارِق مِنْهُمَا حرا أم رَقِيقا كَمَا صرح بِهِ الزَّرْكَشِيّ تفقها مؤيدا لَهُ بِمَا ذَكرُوهُ من أَنه لَو وطىء الرَّقِيق أمة فَرعه لم يحد للشُّبْهَة وَلَا قطع أَيْضا بِسَرِقَة رَقِيق مَال سَيّده بِالْإِجْمَاع كَمَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر ولشبهة اسْتِحْقَاق النَّفَقَة وَيَده كيد سَيّده والمبعض كالقن وَكَذَا الْمكَاتب لِأَنَّهُ قد يعجز فَيصير كَمَا كَانَ
لَا يقطع العَبْد بِمَال لَا يقطع بِهِ سَيّده قَاعِدَة من لَا يقطع بِمَال لَا يقطع بِهِ رَقِيقه فَكَمَا لَا يقطع الأَصْل بِسَرِقَة مَال الْفَرْع بِالْعَكْسِ لَا يقطع أَحدهمَا بِسَرِقَة مَال الآخر
لَا يقطع السَّيِّد بِسَرِقَة مَال مكَاتبه لما مر
لَا بِمَال ملكه الْمبعض بِبَعْضِه الْحر كَمَا جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ لِأَن ملكه بِالْحُرِّيَّةِ فِي الْحَقِيقَة لجَمِيع بدنه فَصَارَ شُبْهَة
لَا يقطع بِطَعَام سَرقَة زمن الْقَحْط فروع لَو سرق طَعَاما زمن الْقَحْط وَلم يقدر عَلَيْهِ لم يقطع وَكَذَا من أذن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى دَار أَو حَانُوت لشراء أَو غَيره فَسرق كَمَا رَجحه ابْن الْمقري
وَيقطع بِسَرِقَة حطب وحشيش وَنَحْوهمَا كصيد لعُمُوم الْأَدِلَّة وَلَا أثر لكَونهَا مُبَاحَة الأَصْل
وَيقطع بِسَرِقَة معرض للتلف كهريسة وفواكه وَبقول لذَلِك وبماء وتراب ومصحف وَكتب علم شَرْعِي مَا يتَعَلَّق بِهِ وَكتب شعر نَافِع مُبَاح
لما مر فَإِن لم يكن نَافِعًا مُبَاحا قوم الْوَرق وَالْجَلد فَإِن بلغا نِصَابا قطع وَإِلَّا فَلَا
لَا يقطع المكرة على السّرقَة وَالسَّابِع كَونه مُخْتَارًا فَلَا يقطع الْمُكْره بِفَتْح الرَّاء على السّرقَة لرفع الْقَلَم عَنهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون وَلَا يقطع الْمُكْره بِكَسْرِهَا أَيْضا نعم لَو كَانَ الْمُكْره بِالْفَتْح غير مُمَيّز لعجمة أَو غَيرهَا قطع الْمُكْره لَهُ
وَالثَّامِن كَونه مُلْتَزما للْأَحْكَام فَلَا يقطع حَرْبِيّ لعدم الْتِزَامه وَيقطع مُسلم وذمي بِمَال مُسلم وذمي
أما قطع الْمُسلم بِمَال الْمُسلم فبالاجماع
وَأما قطعه بِمَال الذِّمِّيّ فعلى الْمَشْهُور لِأَنَّهُ مَعْصُوم بِذِمَّتِهِ
وَلَا يقطع مُسلم وَلَا ذمِّي بِمَال معاهد وَمُؤمن كَمَا لَا يقطع الْمعَاهد وَالْمُؤمن بِسَرِقَة مَال ذمِّي أَو مُسلم لِأَنَّهُ لم يلْتَزم الْأَحْكَام فَأشبه الْحَرْبِيّ
وَالتَّاسِع كَونه مُحْتَرما فَلَو أخرج مُسلم أَو ذمِّي خمرًا وَلَو مُحْتَرمَة وخنزيرا وكلبا وَلَو مقتنى وَجلد ميت بِلَا دبغ فَلَا قطع لِأَن مَا ذكر لَيْسَ بِمَال أما المدبوغ فَيقطع بِهِ حَتَّى لَو دبغه السَّارِق فِي الْحِرْز ثمَّ أَخّرهُ وَهُوَ يُسَاوِي نِصَاب سَرقَة فَإِنَّهُ يقطع بِهِ إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ للْمَغْصُوب مِنْهُ إِذا دبغه الْغَاصِب وَهُوَ الْأَصَح وَمثله كَمَا قَالَ البُلْقِينِيّ إِذا صَار الْخمر خلا بعد وضع السَّارِق يَده عَلَيْهِ وَقبل إِخْرَاجه من الْحِرْز فَإِن بلغ إِنَاء الْخمر نِصَابا قطع بِهِ لِأَنَّهُ سرق نِصَابا من حرز لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ كَمَا إِذا سرق إِنَاء فِيهِ بَوْل فَإِنَّهُ يقطع بِاتِّفَاق كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
هَذَا إِذا قصد بِإِخْرَاج ذَلِك السّرقَة أما إِذا قصد تغييرها بِدُخُولِهِ أَو بإخراجها فَلَا قطع وَسَوَاء(2/537)
أخرجهَا فِي الأولى أَو دخل فِي الثَّانِيَة بِقصد السّرقَة أم لَا كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّوْض فيهمَا وَكَلَام أَصله فِي الثَّانِيَة
وَلَا قطع فِي أَخذ مَا سلط الشَّرْع على كَسره كمزمار وصنم وصليب وطنبور لِأَن التَّوَصُّل إِلَى إِزَالَة الْمعْصِيَة مَنْدُوب إِلَيْهِ فَصَارَ شُبْهَة كإراقة الْخمر فَإِن بلغ مكسره نِصَابا قطع لِأَنَّهُ سرق نِصَابا من حرزه هَذَا إِذا لم يقْصد التَّغْيِير كَمَا فِي الرَّوْضَة فَإِن قصد بِإِخْرَاجِهِ تيَسّر تَغْيِير فَلَا قطع وَلَا فرق بَين أَن يكون لمُسلم أَو ذمِّي وَيقطع بِسَرِقَة مَا لَا يحل الِانْتِفَاع بِهِ من الْكتب إِذا كَانَ الْجلد والقرطاس يبلغ نِصَابا وبسرقة إِنَاء النَّقْد لِأَن اسْتِعْمَاله يُبَاح عِنْد الضَّرُورَة إِلَّا إِن أخرجه من الْحِرْز ليشهره بِالْكَسْرِ وَلَو كسر إِنَاء الْخمر والطنبور وَنَحْوه أَو إِنَاء النَّقْد فِي الْحِرْز ثمَّ أخرجه قطع إِن بلغ نِصَابا كَحكم الصَّحِيح
والعاشر كَون الْملك فِي النّصاب تَاما قَوِيا كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة فَلَا يقطع مُسلم بِسَرِقَة حصر الْمَسْجِد الْمعدة للاستعمال وَلَا سَائِر مَا يفرش فِيهِ وَلَا قناديل تسرج فِيهِ لِأَن ذَلِك لمصْلحَة الْمُسلمين فَلهُ فِيهِ حق كَمَال بَيت المَال وَخرج بالمعدة حصر الزِّينَة فَيقطع فِيهَا كَمَا قَالَه ابْن الْمقري وبالمسلم الذِّمِّيّ فَيقطع لعدم الشُّبْهَة وَيَنْبَغِي أَن يكون بلاط الْمَسْجِد كحصره الْمعدة للاستعمال وَيقطع الْمُسلم بِسَرِقَة بَاب الْمَسْجِد وجذعه وتأزيره وسواريه وسقوفه وقناديل زِينَة فِيهِ لِأَن الْبَاب للتحصين والجذع وَنَحْوه للعمارة وَلعدم الشُّبْهَة فِي الْقَنَادِيل وَيلْحق بِهَذَا ستر الْكَعْبَة إِن خيط عَلَيْهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُحرز وَيَنْبَغِي أَن يكون ستر الْمِنْبَر
كَذَلِك إِن خيط عَلَيْهِ وَلَو سرق الْمُسلم من مَال بَيت المَال شَيْئا نظر إِن أفرز لطائفة كذوي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين وَكَانَ مِنْهُم أَو أَصله أَو فَرعه فَلَا قطع وَإِن أفرز لطائفة لَيْسَ هُوَ مِنْهُم وَلَا أَصله وَلَا فَرعه قطع إِذْ لَا شُبْهَة لَهُ فِي ذَلِك وَإِن لم يفرز لطائفة فَإِن كَانَ لَهُ حق فِي الْمَسْرُوق كَمَال الْمصَالح سَوَاء أَكَانَ فَقِيرا أم غَنِيا
وكصدقة وَهُوَ فَقير أَو غَارِم لذات الْبَين أَو غاز فَلَا يقطع فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أما فِي الأولى فَلِأَن لَهُ حَقًا وَإِن كَانَ غَنِيا كَمَا مر لِأَن ذَلِك قد يصرف فِي عمَارَة الْمَسَاجِد والرباطات والقناطر
فينتفع بِهِ الْغَنِيّ وَالْفَقِير من الْمُسلمين
لِأَن ذَلِك مَخْصُوص بهم بِخِلَاف الذِّمِّيّ يقطع بذلك وَلَا نظر إِلَى إِنْفَاق الإِمَام عَلَيْهِ عِنْد الْحَاجة لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينْفق عَلَيْهِ للضَّرُورَة وبشرط الضَّمَان كَمَا ينْفق على الْمُضْطَر بِشَرْط الضَّمَان وانتفاعه بالقناطر والرباطات بالتبعية من حَيْثُ إِنَّه قاطن بدار(2/538)
الْإِسْلَام لَا لاختصاصه بِحَق فِيهَا
وَأما فِي الثَّانِيَة فلاستحقاقه بِخِلَاف الْغَنِيّ
فَإِنَّهُ يقطع لعدم اسْتِحْقَاقه إِلَّا إِذا كَانَ غازيا أَو غارما لذات الْبَين فَلَا يقطع لما مر فَإِن لم يكن لَهُ فِي بَيت المَال حق قطع لانْتِفَاء التّبعِيَّة
فرع لَو سرق شخص الْمُصحف الْمَوْقُوف عَن الْقِرَاءَة لم يقطع إِذا كَانَ قَارِئًا لِأَن لَهُ فِيهِ حَقًا
وَكَذَا إِن كَانَ غير قارىء لِأَنَّهُ رُبمَا تعلم مِنْهُ قَالَ الزَّرْكَشِيّ أَو يَدْفَعهُ إِلَى من يقْرَأ فِيهِ لاستماع الْحَاضِرين وَيقطع بموقوف على غَيره لِأَنَّهُ مَال مُحرز وَلَو سرق مَالا مَوْقُوفا على الْجِهَات الْعَامَّة أَو على وُجُوه الْخَيْر لم يقطع
وَإِن كَانَ السَّارِق ذِمِّيا لِأَنَّهُ تبع للْمُسلمين
تَعْرِيف السّرقَة تَنْبِيه قد تقدم أَن المُصَنّف ترك الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ السّرقَة وَهِي أَخذ المَال خُفْيَة
كَمَا مر وَحِينَئِذٍ لَا يقطع مختلس وَهُوَ من يعْتَمد الْهَرَب من غير غَلَبَة مَعَ مُعَاينَة الْمَالِك وَلَا منتهب وَهُوَ من يَأْخُذ عيَانًا مُعْتَمدًا على الْقُوَّة
وَالْغَلَبَة وَلَا مُنكر وَدِيعَة وعارية لحَدِيث لَيْسَ على المختلس والمنتهب والخائن قطع صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَفرق من حَيْثُ الْمَعْنى بَينهم وَبَين السَّارِق بِأَن السَّارِق يَأْخُذ المَال خُفْيَة وَلَا يَتَأَتَّى مَنعه
فشرع الْقطع زجرا لَهُ وَهَؤُلَاء يقصدونه عيَانًا فَيمكن مَنعهم بالسلطان وَغَيره
كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره
وَلَعَلَّ هَذَا حكم على الْأَغْلَب وَإِلَّا فالجاحد لَا يقْصد الْأَخْذ عِنْد جحوده عيَانًا فَلَا يُمكن مَنعه بسُلْطَان وَلَا بِغَيْرِهِ وفروع الْبَاب كَثِيرَة وَمحل ذكرهَا المبسوطات وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة لقارىء هَذَا الْكتاب (وتقطع يَده) أَي السَّارِق (الْيُمْنَى) قَالَ تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} اي وقرىء شاذا فَاقْطَعُوا أيمانهما وَالْقِرَاءَة الشاذة كَخَبَر الْوَاحِد فِي الِاحْتِجَاج بهَا
ويكتفي بِالْقطعِ وَلَو كَانَت مَعِيبَة كفاقدة الْأَصَابِع أَو زائدتها لعُمُوم الْآيَة
وَلِأَن الْغَرَض التنكيل بِخِلَاف الْقود فَإِنَّهُ مَبْنِيّ على الْمُمَاثلَة كَمَا مر أَو سرق مرَارًا قبل قطعهَا لِاتِّحَاد السَّبَب(2/539)
كَمَا لَو زنى أَو شرب مرَارًا يَكْتَفِي بِحَدّ وَاحِد
وكاليد الْيُمْنَى فِي ذَلِك غَيرهَا كَمَا هُوَ ظَاهر وانعقد الْإِجْمَاع على قطعهَا
(من مفصل الْكُوع) بِضَم الْكَاف وَهُوَ الْعظم الَّذِي فِي مفصل الْكَفّ مِمَّا يَلِي الْإِبْهَام وَمَا يَلِي الْخِنْصر اسْمه الكرسوع
والبوع هُوَ الْعظم الَّذِي عِنْد أصل إِبْهَام الرجل وَمِنْه قَوْلهم الغبي من لَا يعرف كوعه من بوعه
أَي مَا يدْرِي لغباوته مَا اسْم الْعظم الَّذِي عِنْد كل إِبْهَام من أصْبع يَدَيْهِ من الْعظم الَّذِي عِنْد كل إِبْهَام من رجلَيْهِ
(فَإِن سرق ثَانِيًا) بعد قطع يمناه (قطعت رجله الْيُسْرَى) بعد اندمال يَده الْيُمْنَى لِئَلَّا يُفْضِي التوالي إِلَى الْهَلَاك وتقطع من الْمفصل الَّذِي بَين السَّاق والقدم لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِك
(فَإِن سرق ثَالِثا) بعد قطع رجله الْيُسْرَى
(قطعت يَده الْيُسْرَى) بعد اندمال رجله الْيُسْرَى لما مر
(فَإِن سرق رَابِعا) بعد قطع يَده الْيُسْرَى
(قطعت رجله الْيُمْنَى) بعد اندمال يَده الْيُسْرَى لما مر وَإِنَّمَا قطع من خلاف لما روى الشَّافِعِي أَن السَّارِق إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا يَده ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله
وحكمته لِئَلَّا يفوت جنس الْمَنْفَعَة عَلَيْهِ فتضعف حركته كَمَا فِي قطع الطَّرِيق
لَو سرق بعد قطع أَعْضَائِهِ (فَإِن سرق بعد ذَلِك) أَي بعد قطع أَعْضَائِهِ الْأَرْبَعَة
(عزّر) على الْمَشْهُور لِأَنَّهُ لم يبْق فِي نكاله بعد مَا ذكر إِلَّا التَّعْزِير كَمَا لَو سَقَطت أَطْرَافه أَولا
(وَقيل) لَا يزجره حِينَئِذٍ تَعْزِير بل (يقتل) وَهَذَا مَا حَكَاهُ الإِمَام عَن الْقَدِيم لوروده فِي حَدِيث رَوَاهُ الْأَرْبَعَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة إِنَّه مَنْسُوخ أَو مؤول على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله لاستحلاله أَو لسَبَب آخر اه
وَالْإِمَام أطلق حِكَايَة هَذَا القَوْل عَن الْقَدِيم كَمَا ترَاهُ وَقَيده المُصَنّف بِكَوْنِهِ (صبرا) قَالَ بعض شارحيه وَلم أره بعد التتبع فِي كَلَام وَاحِد من الْأَئِمَّة الحاكين لَهُ بل أطلقهُ من وقفت على كَلَامه مِنْهُم
فَلَعَلَّ مَا قيد بِهِ المُصَنّف من تصرفه أَو لَهُ فِيهِ سلف لم أظفر بِهِ وعَلى كلا الْأَمريْنِ هُوَ مَنْصُوب على الْمصدر اه
قَالَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه الصَّبْر فِي اللُّغَة الْحَبْس وَقَتله صبرا حَبسه للْقَتْل
اه وَيُوَافِقهُ قَول الْجَوْهَرِي فِي صحاحه يُقَال قتل فلَان صبرا إِذا حبس على الْقَتْل حَتَّى يقتل اه
مُلَخصا
القَوْل فِي حكم الْيَمين الْمَرْدُودَة تَتِمَّة هَل يثبت الْقطع فِي السّرقَة بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَة أَو لَا كَأَن يَدعِي على شخص سَرقَة نِصَاب فينكل عَن الْيَمين فَترد على الْمُدَّعِي فَيحلف جرى فِي الْمِنْهَاج على أَنه يثبت بهَا فَيجب الْقطع
لِأَن الْيَمين الْمَرْدُودَة كَالْإِقْرَارِ أَو الْبَيِّنَة وَالْقطع يجب بِكُل مِنْهُمَا وَالَّذِي جزم فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا فِي الْبَاب الثَّالِث فِي الْيَمين من الدَّعَاوَى وَمَشى عَلَيْهِ فِي الْحَاوِي الصَّغِير هُنَا أَنه لَا يقطع بهَا وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَن الْقطع فِي السّرقَة حق الله تَعَالَى بل قَالَ الْأَذْرَعِيّ إِنَّه الْمَذْهَب وَالصَّوَاب الَّذِي قطع بِهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب وَهَذَا الْخلاف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقطع
وَأما المَال فَيثبت قطعا
القَوْل فِيمَا يثبت بِهِ السّرقَة وَيثبت قطع السّرقَة بِإِقْرَار السَّارِق مُؤَاخذَة لَهُ بقوله وَلَا يشْتَرط تكْرَار الْإِقْرَار
كَمَا فِي سَائِر الْحُقُوق وَذَلِكَ بِشَرْطَيْنِ الأول أَن يكون بعد الدَّعْوَى عَلَيْهِ فَلَو أقرّ قبلهَا لم يثبت الْقطع فِي الْحَال بل يُوقف على حُضُور الْمَالِك وَطَلَبه
وَالثَّانِي أَن يفصل الْإِقْرَار فيبين السّرقَة والمسروق مِنْهُ
وَقدر الْمَسْرُوق والحرز بِتَعْيِين أَو وصف بِخِلَاف مَا إِذا لم يبين ذَلِك لِأَنَّهُ قد يظنّ غير السّرقَة الْمُوجبَة للْقطع سَرقَة مُوجبَة لَهُ
وَيقبل رُجُوعه عَن الْإِقْرَار بِالسَّرقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقطع وَلَو فِي أَثْنَائِهِ لِأَنَّهُ حق الله تَعَالَى
وَمن أقرّ بِمُقْتَضى عُقُوبَة الله تَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر كَانَ(2/540)
للْقَاضِي أَن يعرض لَهُ بِالرُّجُوعِ عَمَّا أقرّ بِهِ
كَأَن يَقُول لَهُ فِي الزِّنَا لَعَلَّك فَأخذت أَو لمست أَو باشرت وَفِي السّرقَة لَعَلَّك أخذت من غير حرز
وَفِي الشّرْب لَعَلَّك لم تعلم أَن مَا شربته مُسكرا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن أقرّ عِنْده بِالسَّرقَةِ مَا إخالك سرقت قَالَ بلَى فَأَعَادَ عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَأمر بِهِ فَقطع وَقَالَ لماعز لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَلَا يَقُول لَهُ ارْجع عَنهُ لِأَنَّهُ يكون أمرا بِالْكَذِبِ
وَتثبت أَيْضا بِشَهَادَة رجلَيْنِ كَسَائِر الْعُقُوبَات غير الزِّنَا
فَلَو شهد رجل وَامْرَأَتَانِ ثَبت المَال وَلَا قطع
وَيشْتَرط ذكر الشَّاهِد شُرُوط السّرقَة الْمُوجبَة للْقطع كَمَا مر فِي الْإِقْرَار
وَيجب على السَّارِق رد مَا أَخذه إِن كَانَ بَاقِيا لخَبر أبي دَاوُد على الْيَد مَا أخذت حَتَّى تُؤَدِّيه فَإِن تلف ضمنه بِبَدَلِهِ جبرا لما فَاتَ
فصل فِي قَاطع الطَّرِيق
الأَصْل فِيهِ آيَة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} وَقطع الطَّرِيق هُوَ البروز لأخذ مَال أَو لقتل أَو لإرعاب مُكَابَرَة واعتمادا على الْقُوَّة مَعَ الْبعد عَن الْغَوْث
وَيثبت برجلَيْن لَا بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ
وقاطع الطَّرِيق مُلْزم للْأَحْكَام وَلَو سكرانا أَو ذِمِّيا مُخْتَار مخيف للطريق يُقَاوم من يبرز هوله بِأَن يُسَاوِيه أَو يغلبه بِحَيْثُ يبعد مَعَه غوث لبعد عَن الْعِمَارَة أَو ضعف فِي أَهلهَا
وَإِن كَانَ البارز وَاحِدًا أَو أُنْثَى أَو بِلَا سلَاح
وَخرج بالقيود الْمَذْكُورَة أضدادها فَلَيْسَ المتصف بهَا أَو بِشَيْء مِنْهَا من حَرْبِيّ وَلَو معاهدا وَصبي وَمَجْنُون ومكره ومختلس ومنتهب قَاطع طَرِيق
وَقد علم مِمَّا تقرر أَنه لَا يشْتَرط فِيهِ إِسْلَام وَإِن شَرطه فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ وَلَو دخل جمع بِاللَّيْلِ دَارا وَمنعُوا أَهلهَا من الِاسْتِعَانَة مَعَ قُوَّة السُّلْطَان وحضوره فقطاع
(وقطاع الطَّرِيق على أَرْبَعَة أَقسَام) فَقَط لِأَن الْمَوْجُود مِنْهُم إِمَّا الِاقْتِصَار على الْقَتْل أَو الْجمع بَينه وَبَين أَخذ المَال أَو الِاقْتِصَار على أَخذ المَال أَو على الإخافة ورتبها المُصَنّف على هَذَا مبتدئا بِالْأولِ فَقَالَ (إِن قتلوا) مَعْصُوما مكافئا لَهُم عمدا
(وَلم يَأْخُذُوا المَال قتلوا) حتما لِلْآيَةِ السَّابِقَة
وَلِأَنَّهُم ضمُّوا إِلَى جنايتهم إخافة سَبِيل الْمُقْتَضِيَة زِيَادَة الْعقُوبَة
وَلَا زِيَادَة هُنَا إِلَّا تحتم الْقَتْل فَلَا يسْقط
قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَمحل تحتمه إِذا قتلوا لأخذ المَال وَإِلَّا فَلَا تحتم(2/541)
ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقسم الثَّانِي بقوله (فَإِن قتلوا وَأخذُوا المَال) الْمُقدر بنصاب السّرقَة وَقِيَاس مَا سبق اعْتِبَار الْحِرْز وَعدم الشُّبْهَة
(قتلوا) حتما (وصلبوا) زِيَادَة فِي التنكيل وَيكون صلبهم بعد غسلهم وتكفينهم وَالصَّلَاة عَلَيْهِم
وَالْغَرَض من صلبهم بعد قَتلهمْ التنكيل بهم وزجر غَيرهم ويصلب على خَشَبَة وَنَحْوهَا ثَلَاثَة أَيَّام ليشتهر الْحَال
وَيتم النكال وَلِأَن لَهَا اعْتِبَارا فِي الشَّرْع وَلَيْسَ لما زَاد عَلَيْهَا غَايَة ثمَّ ينزل هَذَا إِذا لم يخف التَّغَيُّر
فَإِن خيف قبل الثَّلَاثَة أنزل على الْأَصَح وَحمل النَّص فِي الثَّلَاث على زمن الْبرد والاعتدال ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقسم الثَّالِث بقوله (وَإِن أخذُوا المَال) الْمُقدر بنصاب سَرقَة بِلَا شُبْهَة من حرز مِمَّا مر بَيَانه فِي السّرقَة
(وَلم يقتلُوا قطعت) بِطَلَب من الْمَالِك (أَيْديهم وأرجلهم من خلاف) بِأَن تقطع الْيَد الْيُمْنَى وَالرجل الْيُسْرَى دفْعَة أَو على الْوَلَاء لِأَنَّهُ حد وَاحِد فَإِن عَادوا بعد قطعهمَا ثَانِيًا قطعت الْيَد الْيُسْرَى وَالرجل الْيُمْنَى لقَوْله تَعَالَى {أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف} وَإِنَّمَا قطع من خلاف لما مر فِي السّرقَة وَقطعت الْيَد الْيُمْنَى لِلْمَالِ كالسرقة وَقيل للمحاربة وَالرجل قيل لِلْمَالِ وَقيل للمجاهرة تَنْزِيلا لذَلِك منزلَة سَرقَة ثَانِيَة وَقيل للمحاربة قَالَ العمراني وَهُوَ أشبه
ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْقسم الرَّابِع بقوله (فَإِن أخافوا السَّبِيل) أَي الطَّرِيق بوقوفهم فِيهَا (وَلم يَأْخُذُوا مَالا) من الْمَارَّة (وَلم يقتلُوا) مِنْهُم أحدا (حبسوا) فِي غير موضعهم لِأَنَّهُ أحوط وأبلغ فِي الزّجر والإيحاش
كَمَا هُوَ فِي الرَّوْضَة حِكَايَة عَن ابْن سُرَيج
وَأقرهُ (وعزروا) بِمَا يرَاهُ الإِمَام من ضرب وَغَيره لارتكابهم مَعْصِيّة لَا حد فِيهَا وَلَا كَفَّارَة
تَنْبِيه عطف المُصَنّف التَّعْزِير على الْحَبْس من عطف الْعَام على الْخَاص إِذْ الْحَبْس من جنس التَّعْزِير وَللْإِمَام تَركه إِن رَآهُ مصلحَة وَبِمَا تقرر فسر ابْن عَبَّاس الْآيَة الْكَرِيمَة فَقَالَ الْمَعْنى أَن يقتلُوا إِن قتلوا أَو يصلبوا مَعَ ذَلِك إِن قتلوا وَأخذُوا المَال أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف إِن اقتصروا على أَخذ المَال أَو ينفوا من الأَرْض إِن أرعبوا وَلم يَأْخُذُوا شَيْئا فَحمل كلمة أَو على التنويع لَا التَّخْيِير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا كونُوا هودا أَو نَصَارَى} أَي قَالَت الْيَهُود كونُوا هودا وَقَالَت النَّصَارَى كونُوا نَصَارَى
إِذْ لم يُخَيّر أحد مِنْهُم بَين الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَقتل الْقَاطِع يغلب فِيهِ معنى الْقصاص لَا الْحَد لِأَن الأَصْل فِيمَا اجْتمع فِيهِ حق الله تَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّ يغلب فِيهِ حق الْآدَمِيّ لبنائه على التَّضْيِيق وَلِأَنَّهُ لَو قتل بِلَا محاربة ثَبت لَهُ الْقود فَكيف يحبط حَقه بقتْله فِيهَا
فَلَا يقتل بِغَيْر كُفْء كولده وَلَو مَاتَ بِغَيْر قتل فديَة تجب فِي تركته فِي الْحر
أما فِي الرَّقِيق فَتجب قِيمَته مُطلقًا وَيقتل بِوَاحِد مِمَّن قَتلهمْ وللباقين ديات فَإِن قَتلهمْ مُرَتبا قتل بِالْأولِ مِنْهُم
وَلَو عَفا ولي الْقَتِيل بِمَال وَجب المَال وَقتل الْقَاتِل حدا لتحتيم قَتله وتراعى الْمُمَاثلَة فِيمَا قتل بِهِ وَلَا يتحتم غير قتل وصلب كَأَن قطع يَده فاندمل لِأَن التحتم تَغْلِيظ لحق الله تَعَالَى
فاختص بِالنَّفسِ كالكفارة
الظفر بِهِ (سقط عَنهُ الْحُدُود) أَي الْعُقُوبَات الَّتِي تخص الْقَاطِع من تحتم الْقَتْل والصلب وَقطع الْيَد وَالرجل لآيَة {إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن}(2/542)
القَوْل فِي حكم من تَابَ مِنْهُم (وَمن تَابَ مِنْهُم قبل الْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي قبل تقدروا عَلَيْهِم {وَأخذُوا} من الْمُؤَاخَذَة مَبْنِيّ للْمَفْعُول بِمَعْنى طُولِبَ
(بالحقوق) أَي بباقيها فَلَا يسْقط عَنهُ وَلَا عَن غَيره بِالتَّوْبَةِ قَود وَلَا مَال وَلَا بَاقِي الْحُدُود من حد زنا وسرقة وَشرب خمر وَقذف لِأَن العمومات الْوَارِدَة فِيهَا لم تفصل بَين مَا قبل التَّوْبَة وَمَا بعْدهَا بِخِلَاف قَاطع الطَّرِيق نعم تَارِك الصَّلَاة كسلا يقتل حدا على الصَّحِيح
وَمَعَ ذَلِك لَو تَابَ سقط الْقَتْل قطعا وَالْكَافِر إِذا زنى ثمَّ أسلم فَإِنَّهُ يسْقط عَنهُ الْحَد كَمَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن النَّص وَلَا يرد الْمُرْتَد إِذا تَابَ حَيْثُ تقبل تَوْبَته وَيسْقط الْقَتْل لِأَنَّهُ إِذا أصر يقتل كفرا لَا حدا وَمحل عدم سُقُوط بَاقِي الْحُدُود بِالتَّوْبَةِ فِي الظَّاهِر أما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَيسْقط قطعا لِأَن التَّوْبَة تسْقط أثر الْمعْصِيَة كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي بَاب السّرقَة
وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّوْبَة تجب مَا قبلهَا وَورد التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ
تَتِمَّة التَّوْبَة لُغَة الرُّجُوع وَلَا يلْزم أَن تكون عَن ذَنْب وَعَلِيهِ حمل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنِّي لأتوب إِلَى الله تَعَالَى فِي الْيَوْم سبعين مرّة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ عَن الِاشْتِغَال بمصالح الْخلق إِلَى الْحق
قَالَ تَعَالَى {فَإِذا فرغت فانصب} وَإِنَّمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك تشريعا وليفتح بَاب التَّوْبَة للْأمة ليعلمهم كَيفَ الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى وَقد سُئِلَ بعض أكَابِر الْقَوْم عَن قَوْله تَعَالَى {لقد تَابَ الله على النَّبِي} من أَي شَيْء فَقَالَ نبه بتوبة من لم يُذنب على تَوْبَة من أذْنب يَعْنِي بذلك أَنه لَا يدْخل أحد مقَاما من المقامات الصَّالِحَة إِلَّا تَابعا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلولا تَوْبَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا حصل لأحد تَوْبَة
وأصل هَذِه التَّوْبَة أَخذ الْعلقَة من صَدره الْكَرِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل هَذِه حَظّ الشَّيْطَان مِنْك وَشرعا لرجوع عَن التعويج إِلَى سنَن الطَّرِيق الْمُسْتَقيم
وشروطها إِن كَانَت من حق الله تَعَالَى النَّدَم والإقلاع والعزم على أَن لَا يعود
وَإِن كَانَت من حُقُوق الْآدَمِيّين زيد على ذَلِك رَابِع وَهُوَ الْخُرُوج من الْمَظَالِم وَقد بسطت الْكَلَام على التَّوْبَة مَعَ ذكر جمل من النفائس الْمُتَعَلّقَة بهَا فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
فصل فِي حكم الصيال وَمَا تتلفه الْبَهَائِم
والصيال هُوَ الاستطالة والوثوب
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم}(2/543)
وَخبر البُخَارِيّ انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما
والصائل ظَالِم فَيمْنَع من ظلمه لِأَن ذَلِك نصر
ثمَّ شرع فِي الْقسم الأول وَهُوَ حكم الصَّائِل فَقَالَ (وَمن قصد) بِضَم أَوله على الْبناء للْمَفْعُول
بِمَعْنى قَصده صائل من آدَمِيّ مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا عَاقِلا أَو مَجْنُونا بَالغا أَو صَغِيرا قَرِيبا أَو أَجْنَبِيّا أَو بَهِيمَة
(بأذى) بتنوين الْمُعْجَمَة أَي بِمَا يُؤْذِيه (فِي نَفسه) كَقَتل وَقطع طرف وَإِبْطَال مَنْفَعَة عُضْو (أَو) فِي (مَاله) وَلَو قَلِيلا كدرهم (أَو) فِي (حريمه فقاتل عَن ذَلِك) ليندفع عَنهُ (فَقتل) المصول عَلَيْهِ الصَّائِل
(فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ) من قصاص وَلَا دِيَة وَلَا كَفَّارَة وَلَا قيمَة بَهِيمَة وَغَيرهَا لخَبر من قتل دون دَمه فَهُوَ شَهِيد وَمن قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد وَمن قتل دون أَهله فَهُوَ شَهِيد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ
وَجه الدّلَالَة أَنه لما جعله شَهِيدا دلّ على أَن لَهُ الْقَتْل والقتال كَمَا أَن من قَتله أهل الْحَرْب لما كَانَ شَهِيدا كَانَ لَهُ الْقَتْل والقتال وَلَا إِثْم عَلَيْهِ أَيْضا لِأَنَّهُ مَأْمُور بِدَفْعِهِ وَفِي الْأَمر بِالْقِتَالِ وَالضَّمان مُنَافَاة حَتَّى لَو صال العَبْد الْمَغْصُوب أَو الْمُسْتَعَار على مَالِكه فَقتله دفعا لم يبرأ الْغَاصِب وَلَا الْمُسْتَعِير وَيسْتَثْنى من عدم الضَّمَان الْمُضْطَر إِذا قَتله صَاحب الطَّعَام دفعا فَإِن عَلَيْهِ الْقود كَمَا قَالَه الزبيلي فِي آدَاب الْقَضَاء وَلَو صال مكْرها على إِتْلَاف مَال غَيره لم يجز دَفعه بل يلْزم الْمَالِك أَن يقي روحه بِمَالِه
كَمَا يتَنَاوَل الْمُضْطَر طَعَامه وَلكُل مِنْهُمَا دفع الْمُكْره
تَنْبِيه تَعْبِير المُصَنّف بِالْمَالِ قد يخرج مَا لَيْسَ بِمَال كَالْكَلْبِ المقتنى والسرجين وَقَضِيَّة كَلَام الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره إِلْحَاقه بِهِ
وَهُوَ الظَّاهِر وَله دفع مُسلم عَن ذمِّي ووالد عَن وَلَده وَسيد عَن عَبده
لأَنهم معصومون وَلَا يجب الدّفع عَن مَال لَا روح فِيهِ لِأَنَّهُ تجوز إِبَاحَته للْغَيْر أما مَا فِيهِ روح فَيجب الدّفع عَنهُ
إِذا قصد إِتْلَافه مَا لم يخْش على نَفسه لحُرْمَة الرّوح
وَيجب الدّفع عَن بضع لِأَنَّهُ لَا السَّبِيل إِلَى إِبَاحَته وَسَوَاء بضع أَهله وَغَيرهم وَمثل الْبضْع مقدماته وَعَن نَفسه إِذا قَصدهَا كَافِر وَلَو مَعْصُوما إِذْ غير الْمَعْصُوم لَا حُرْمَة لَهُ والمعصوم بطلت حرمته بصياله وَلِأَن الاستسلام للْكَافِرِ ذل فِي الدّين أَو قَصدهَا بَهِيمَة لِأَنَّهَا تذبح لاستبقاء الْآدَمِيّ فَلَا وَجه(2/544)
للإستسلام لَهَا وَظَاهره أَن عضوه ومنفعته كنفسه وَلَا يجب الدّفع إِذا قَصدهَا مُسلم وَلَو مَجْنُونا بل يجوز الاستسلام لَهُ بل يسن كَمَا أفهمهُ كَلَام الرَّوْضَة لخَبر أبي دَاوُد كن خير ابْني آدَمِيّ يَعْنِي قابيل وهابيل
وَالدَّفْع عَن نفس غَيره إِذا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرما كالدفع عَن نَفسه فَيجب حَيْثُ يجب وينتفي حَيْثُ يَنْتَفِي وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد من أذلّ عِنْده مُسلم فَلم ينصره وَهُوَ قَادر أَن ينصره أذله الله على رُؤُوس الْخَلَائق يَوْم الْقِيَامَة وَيدْفَع الصَّائِل بالأخف فالأخف
فَإِن أمكن دَفعه بِكَلَام أَو استغاثة حرم الدّفع بِالضَّرْبِ أَو بِضَرْب بيد حرم بِسَوْط أَو بِسَوْط حرم بعصا أَو بعصا حرم بِقطع عُضْو أَو بِقطع عُضْو حرم قتل لِأَن ذَلِك جوز للضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي الأثقل مَعَ إِمْكَان تَحْصِيل الْمَقْصُود بالأسهل وَفَائِدَة هَذَا التَّرْتِيب أَنه مَتى خَالف وَعدل إِلَى رُتْبَة مَعَ إِمْكَان الِاكْتِفَاء بِمَا دونهَا ضمن وَيسْتَثْنى من التَّرْتِيب مَا لَو التحم الْقِتَال بَينهمَا وَاشْتَدَّ الْأَمر عَن الضَّبْط سقط مُرَاعَاة التَّرْتِيب كَمَا ذكره الإِمَام فِي قتال الْبُغَاة
وَمَا لَو كَانَ الصَّائِل ينْدَفع بِالسَّوْطِ والعصا والمصول عَلَيْهِ لَا يجد إِلَّا السَّيْف فَالصَّحِيح أَن لَهُ الضَّرْب بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الدّفع إِلَّا بِهِ وَلَيْسَ بمقصر فِي ترك اسْتِصْحَاب السَّوْط وَنَحْوه
وعَلى التَّرْتِيب إِن أمكن المصول عَلَيْهِ هرب أَو التجاء لحصن أَو جمَاعَة فَالْمَذْهَب وُجُوبه وَتَحْرِيم قتال لِأَنَّهُ مَأْمُور بتخليص نَفسه بالأهون
فالأهون وَمَا ذكره أسهل من غَيره فَلَا يعدل إِلَى الأشد
القَوْل فِي حكم مَا تتلفه الْبَهَائِم ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ مَا تتلفه الْبَهَائِم بقوله (وعَلى رَاكب الدَّابَّة) وسائقها وقائدها سَوَاء أَكَانَ مَالِكًا أم مُسْتَأْجرًا أم مودعا أم مستعيرا أم غَاصبا
(ضَمَان مَا أتلفته دَابَّته) أَي الَّتِي يَده عَلَيْهَا بِيَدِهَا أَو رجلهَا أَو غير ذَلِك نفسا أَو مَالا لَيْلًا أَو نَهَارا لِأَنَّهَا فِي يَده وَعَلِيهِ تعهدها وحفظها وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ فعلهَا مَنْسُوبا إِلَيْهِ
وَإِلَّا نسب إِلَيْهَا كَالْكَلْبِ إِذا أرْسلهُ صَاحبه وَقتل الصَّيْد حل وَإِن استرسل بِنَفسِهِ فَلَا فجنايتها كجنايته وَلَو كَانَ مَعهَا سائق وقائد فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَلَو كَانَ مَعهَا سائق وقائد مَعَ رَاكب فَهَل يخْتَص الضَّمَان بالراكب أَو يجب أَثلَاثًا وَجْهَان أرجحهما الأول
وَلَو كَانَ عَلَيْهَا راكبان فَهَل يجب الضَّمَان عَلَيْهِمَا أَو يخْتَص بِالْأولِ دون الرديف وَجْهَان أوجههمَا الأول لِأَن الْيَد لَهما(2/545)
تَنْبِيه حَيْثُ أطلق ضَمَان النَّفس فِي هَذَا الْبَاب فَهُوَ على الْعَاقِلَة كحفر الْبِئْر وَيسْتَثْنى من إِطْلَاقه صور الأولى لَو أركبها أَجْنَبِي بِغَيْر إِذن الْوَلِيّ صَبيا أَو مَجْنُونا فأتلفت شَيْئا فَالضَّمَان على الْأَجْنَبِيّ
الثَّانِيَة لَو ركب الدَّابَّة فنخسها إِنْسَان بِغَيْر إِذْنه كَمَا قَيده الْبَغَوِيّ
فرمحت فأتلفت شَيْئا فَالضَّمَان على الناخس فَإِن أذن الرَّاكِب فِي النخس فَالضَّمَان عَلَيْهِ الثَّالِثَة لَو غلبته دَابَّته فَاسْتَقْبلهَا إِنْسَان فَردهَا فأتلفت فِي انصرافها شَيْئا ضمنه الرَّاد
الرَّابِعَة لَو سَقَطت الدَّابَّة ميتَة فَتلف بهَا شَيْء لم يضمنهُ
وَكَذَا لَو سقط هُوَ مَيتا على شَيْء وأتلفه لَا ضَمَان عَلَيْهِ قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَيَنْبَغِي أَن يلْحق بسقوطها ميتَة سُقُوطهَا بِمَرَض أَو عَارض ريح شَدِيد وَنَحْوه
الْخَامِسَة لَو كَانَ مَعَ الدَّوَابّ رَاع فهاجت ريح وأظلم النَّهَار فتفرقت الدَّوَابّ فَوَقَعت فِي زرع فأفسدته فَلَا ضَمَان على الرَّاعِي فِي الْأَظْهر للغلبة كَمَا لَو ند بعيره أَو انفلتت دَابَّته من يَده فأفسدت شَيْئا بِخِلَاف مَا لَو تَفَرَّقت الْغنم لنومه فَيضمن وَلَو انتفخ ميت فتكسر بِسَبَبِهِ شَيْء لم يضمنهُ بِخِلَاف طِفْل سقط على شَيْء لِأَن لَهُ فعلا بِخِلَاف الْمَيِّت وَلَو بَالَتْ دَابَّته أَو راثت بمثلثة بطرِيق وَلَو واقفة فَتلفت بِهِ نفس أَو مَال فَلَا ضَمَان كَمَا فِي الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ لِأَن الطَّرِيق لَا تَخْلُو عَن ذَلِك وَالْمَنْع من الطروق لَا سَبِيل إِلَيْهِ
وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن نَازع فِي ذَلِك أَكثر الْمُتَأَخِّرين وَإِنَّمَا يضمن صَاحب الدَّابَّة مَا أتلفته دَابَّته إِذا لم يقصر صَاحب المَال فِيهِ فَإِن قصر بِأَن وضع المَال بطرِيق أَو عرضه للدابة فَلَا يضمنهُ لِأَنَّهُ المضيع لمَاله وَإِن كَانَت الدَّابَّة وَحدهَا فأتلفت زرعا أَو غَيره نَهَارا لم يضمن صَاحبهَا أَو لَيْلًا ضمن لتَقْصِيره بإرسالها لَيْلًا بِخِلَافِهِ نَهَارا للْخَبَر الصَّحِيح فِي ذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره
وَهُوَ على وفْق الْعَادة فِي حفظ الزَّرْع وَنَحْوه نَهَارا وَالدَّابَّة لَيْلًا وَلَو تعود أهل الْبَلَد إرْسَال الدَّوَابّ أَو حفظ الزَّرْع لَيْلًا دون النَّهَار
انعكس الحكم فَيضمن مرسلها مَا أتلفته نَهَارا دون اللَّيْل اتبَاعا لِمَعْنى الْخَبَر وَالْعَادَة وَمن ذَلِك يُؤْخَذ مَا بَحثه البُلْقِينِيّ أَنه لَو جرت عَادَة بحفظها لَيْلًا وَنَهَارًا ضمن مرسلها مَا أتلفته مُطلقًا
تَتِمَّة يسْتَثْنى من الدَّوَابّ الْحمام وَغَيره من الطُّيُور فَلَا ضَمَان بإتلافها مُطلقًا كَمَا حَكَاهُ فِي أصل الرَّوْضَة عَن ابْن الصّباغ(2/546)
وَعلله بِأَن الْعَادة إرسالها وَيدخل فِي ذَلِك النَّحْل
وَقد أفتى البُلْقِينِيّ فِي نحل لإِنْسَان قتل جملا لآخر بِعَدَمِ الضَّمَان
وَعلله بِأَن صَاحب النَّحْل لَا يُمكنهُ ضَبطه وَالتَّقْصِير من صَاحب الْجمل وَلَو أتلفت الْهِرَّة طيرا أَو طَعَاما أَو غَيره إِن عهد ذَلِك مِنْهَا ضمن مَالِكهَا أَو صَاحبهَا الَّذِي يَأْوِيهَا مَا أتلفته لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا وَكَذَا كل حَيَوَان مولع بِالتَّعَدِّي كَالْجمَلِ وَالْحمار اللَّذين عرفا بعقر الدَّوَابّ وإتلافها
أما إِذا لم يعْهَد مِنْهَا إِتْلَاف مَا ذكر فَلَا ضَمَان لِأَن الْعَادة حفظ مَا ذكر عَنْهَا لَا ربطها
فَائِدَة سُئِلَ الْقفال عَن حبس الطُّيُور فِي أقفاص لسَمَاع أصواتها أَو غير ذَلِك فَأجَاب بِالْجَوَازِ إِذا تعهدها صَاحبهَا بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ
كالبهيمة ترْبط وَلَو كَانَ بداره كلب عقور أَو دَابَّة جموح ودخلها شخص بِإِذْنِهِ وَلم يُعلمهُ بِالْحَال فعضه الْكَلْب أَو رمحته الدَّابَّة ضمن وَإِن كَانَ الدَّاخِل بَصيرًا أَو دَخلهَا بِلَا إِذن أَو أعلمهُ بِالْحَال
فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ المتسبب فِي هَلَاك نَفسه
فصل فِي قتال الْبُغَاة
جمع بَاغ وَالْبَغي الظُّلم ومجاوزة الْحَد سموا بذلك لظلمهم وعدولهم عَن الْحق وَالْأَصْل فِيهِ آيَة {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الْخُرُوج على الإِمَام صَرِيحًا لَكِنَّهَا تشمله بعمومها أَو تَقْتَضِيه لِأَنَّهُ إِذا طلب الْقِتَال لبغي طَائِفَة على طَائِفَة فللبغي على الإِمَام أولى وهم مُسلمُونَ مخالفو إِمَام وَلَو جائرا بِأَن خَرجُوا عَن طَاعَته بِعَدَمِ انقيادهم لَهُ أَو منع حق توجه عَلَيْهِم كَزَكَاة بِالشُّرُوطِ الْآتِيَة (وَيُقَاتل أهل الْبَغي) وجوبا كَمَا اسْتُفِيدَ من الْآيَة الْمُتَقَدّمَة
وَعَلَيْهَا عول عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي قتال صفّين والنهروان
(بِثَلَاثَة شَرَائِط) الأول (أَن يَكُونُوا فِي مَنْعَة) بِفَتْح النُّون وَالْعين الْمُهْملَة أَي شَوْكَة بِكَثْرَة أَو قُوَّة وَلَو بحصن بِحَيْثُ يُمكن مَعهَا مقاومة الإِمَام فَيحْتَاج فِي ردهم إِلَى الطَّاعَة لكلفة من بذل مَال وَتَحْصِيل رجال وَهِي لَا تحصل إِلَّا بمطاع أَي متبوع يحصل بِهِ قُوَّة لشوكتهم يصدرون عَن رَأْيه
إِذْ لَا قُوَّة لمن لَا تجمع كلمتهم بمطاع فالمطاع شَرط لحُصُول الشَّوْكَة لَا أَنه شَرط آخر غير الشَّوْكَة كَمَا تَقْتَضِيه عبارَة الْمِنْهَاج وَلَا يشْتَرط أَن يكون فيهم إِمَام مَنْصُوب لِأَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَاتل أهل الْجمل وَلَا إِمَام لَهُم وَأهل صفّين قبل نصب إمَامهمْ(2/547)
(و) الثَّانِي (أَن يخرجُوا عَن قَبْضَة الإِمَام) أَي عَن طَاعَته بانفرادهم ببلدة أَو قَرْيَة أَو مَوضِع من الصَّحرَاء كَمَا نَقله فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا عَن جمع وَحكى الْمَاوَرْدِيّ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ
(و) الثَّالِث (أَن يكون لَهُم) فِي خُرُوجهمْ عَن طَاعَة الإِمَام (تَأْوِيل سَائِغ) أَي مُحْتَمل من الْكتاب أَو السّنة ليستندوا إِلَيْهِ لِأَن من خَالف بِغَيْر تَأْوِيل كَانَ معاندا للحق
تَنْبِيه يشْتَرط فِي التَّأْوِيل أَن يكون فَاسِدا لَا يقطع بفساده بل يَعْتَقِدُونَ بِهِ جَوَاز الْخُرُوج كتأويل الخارجين من أهل الْجمل وصفين على عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِأَنَّهُ يعرف قتلة عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَلَا يقْتَصّ مِنْهُم لمواطأته إيَّاهُم وَتَأْويل بعض مانعي الزَّكَاة من أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِأَنَّهُم لَا يدْفَعُونَ الزَّكَاة إِلَّا لمن صلَاته سكن لَهُم أَي دعاؤه رَحْمَة لَهُم وَهُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن فقدت فِيهِ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة بِأَن خَرجُوا بِلَا تَأْوِيل
كمانعي حق الشَّرْع كَالزَّكَاةِ عنادا أَو بِتَأْوِيل يقطع بِبُطْلَانِهِ كتأويل الْمُرْتَدين أَو لم تكن لَهُم شَوْكَة بِأَن كَانُوا أفرادا يسهل الظفر بهم أَو لَيْسَ فيهم مُطَاع
فليسوا بغاة لانتقاء حرمتهم فيترتب على أفعالهم مقتضاها على تَفْصِيل فِي ذِي الشَّوْكَة يعلم مِمَّا يَأْتِي حَتَّى لَو تأولوا بِلَا شَوْكَة وأتلفوا شَيْئا ضمنوه مُطلقًا كقاطع الطَّرِيق وَأما الْخَوَارِج وهم قوم يكفرون مرتكب كَبِيرَة ويتركون الْجَمَاعَات فَلَا يُقَاتلُون وَلَا يفسقون مَا لم يقاتلوا وهم فِي قبضتنا نعم إِن تضررنا بهم
تعرضنا لَهُم حَتَّى يَزُول الضَّرَر فَإِن قَاتلُوا أَو لم يَكُونُوا فِي قبضتنا قوتلوا وَلَا يتحتم قتل الْقَاتِل مِنْهُم وَإِن كَانُوا كقطاع الطَّرِيق فِي شهر السِّلَاح لأَنهم لم يقصدوا إخافة الطَّرِيق وَهَذَا مَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا عَن الْجُمْهُور وَفِيهِمَا عَن الْبَغَوِيّ أَن حكمهم كَحكم قطاع الطَّرِيق وَبِه جزم فِي الْمِنْهَاج وَالْمُعْتَمد الأول فَإِن قيد بهَا إِذا قصدُوا إخافة الطَّرِيق فَلَا خلاف
القَوْل فِي حكم شَهَادَة الْبُغَاة وَتقبل شَهَادَة الْبُغَاة لأَنهم لَيْسُوا بفسقة لتأويلهم قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَّا أَن يَكُونُوا مِمَّن يشْهدُونَ لموافقيهم بتصديقهم كالخطابية وهم صنف من الرافضة يشْهدُونَ بالزور ويقضون لموافقيهم بتصديقهم فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَلَا ينفذ حكم قاضيهم وَلَا يخْتَص هَذَا بالبغاة نعم إِن بينوا السَّبَب قبلت شَهَادَتهم لانْتِفَاء التُّهْمَة حِينَئِذٍ وَيقبل قَضَاء قاضيهم بعد اعْتِبَار صِفَات القَاضِي فِيهِ فِيمَا يقبل فِيهِ قَضَاء قاضينا لِأَن لَهُم تَأْوِيلا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد إِلَّا أَن يسْتَحل شَاهد الْبُغَاة أَو قاضيهم دماءنا وَأَمْوَالنَا فَلَا تقبل شَهَادَته وَلَا قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعدْل وَشرط الشَّاهِد وَالْقَاضِي الْعَدَالَة هَذَا مَا نَقله الشَّيْخَانِ فِي الرَّوْضَة
وَأَصلهَا هُنَا عَن الْمُعْتَبر وَجرى عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَلَا يُنَافِي ذَلِك مَا ذكره فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي كتاب الشَّهَادَات من أَنه لَا فرق فِي قبُول شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء وَقَضَاء قاضيهم بَين من يسْتَحل الدِّمَاء وَالْأَمْوَال أم لَا لِأَن مَا هُنَا مَحْمُول على من اسْتحلَّ ذَلِك بِلَا تَأْوِيل
وَمَا هُنَاكَ على من استحله بِتَأْوِيل(2/548)
القَوْل فِي حكم مَا أتْلفه الْبُغَاة وَمَا أتْلفه بَاغ من نفس أَو مَال على عَادل وَعَكسه
إِن لم يكن فِي قتال لضرورته بِأَن كَانَ فِي غير الْقِتَال أَو فِيهِ لَا لضرورته ضمن كل مِنْهُمَا مَا أتْلفه من نفس أَو مَال جَريا على الأَصْل فِي الاتلافيات نعم إِن قصد أهل الْعدْل إِتْلَاف المَال إضعافهم وهزيمتهم لم يضمنوا كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ
فَإِن كَانَ الْإِتْلَاف فِي قتال لضرورته فَلَا ضَمَان اقْتِدَاء بالسلف لِأَن الوقائع الَّتِي جرت فِي عصر الصَّحَابَة كوقعة الْجمل وصفين لم يُطَالب بَعضهم بَعْضًا بِضَمَان نفس وَلَا مَال وَهَذَا عِنْد اجْتِمَاع الشَّوْكَة والتأويل فَإِن فقد أَحدهمَا فَلهُ حالان الأول الْبَاغِي المتأول بِلَا شَوْكَة يضمن النَّفس وَالْمَال وَلَو حَال الْقِتَال كقاطع الطَّرِيق
وَالثَّانِي لَهُ شَوْكَة بِلَا تَأْوِيل وَهَذَا كباغ فِي الضَّمَان وَعَدَمه
لِأَن سُقُوط الضَّمَان فِي الباغين لقطع الْفِتْنَة واجتماع الْكَلِمَة وَهُوَ مَوْجُود هُنَا
وَلَا يُقَاتل الإِمَام الْبُغَاة حَتَّى يبْعَث لَهُم أَمينا فطنا إِن كَانَ الْبَعْث للمناظرة ناصحا لَهُم يسألهم عَمَّا يكْرهُونَ اقْتِدَاء ب عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ بعث ابْن عَبَّاس إِلَى أهل النهروان فَرجع بَعضهم وأبى بَعضهم فَإِن ذكرُوا مظْلمَة أَو شُبْهَة أزالها لِأَن الْمَقْصُود بقتالهم ردهم إِلَى الطَّاعَة فَإِن أصروا نصحهمْ ووعظهم فَإِن أصروا أعلمهم بِالْقِتَالِ لِأَن الله تَعَالَى أَمر أَولا بالإصلاح ثمَّ بِالْقِتَالِ فَلَا يجوز تَقْدِيم مَا أَخّرهُ الله تَعَالَى فَإِن طلبُوا من الإِمَام الْإِمْهَال اجْتهد وَفعل مَا رَآهُ صَوَابا
القَوْل فِي أَسِير الْبُغَاة ومالهم (وَلَا يقتل) مدبرهم وَلَا من ألْقى سلاحه وَأعْرض عَن الْقِتَال وَلَا (أسيرهم وَلَا يذفف) بِالْمُعْجَمَةِ أَي لَا يسْرع (على جريحهم) بِالْقَتْلِ (وَلَا يغنم مَالهم) لقَوْله تَعَالَى {حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} والفيئة الرُّجُوع عَن الْقِتَال بالهزيمة وروى ابْن أبي شيبَة أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَمر مناديه يَوْم الْجمل فَنَادَى لَا يتبع مُدبر وَلَا يذفف على جريح وَلَا يقتل أَسِير وَمن أغلق بَابه فَهُوَ آمن وَمن ألْقى سلاحه فَهُوَ آمن وَلِأَن قِتَالهمْ شرع للدَّفْع عَن منع الطَّاعَة وَقد زَالَ
تَنْبِيه قد يفهم من منع قتل هَؤُلَاءِ وجوب الْقصاص بِقَتْلِهِم
وَالأَصَح أَنه لَا قصاص لشُبْهَة أبي حنيفَة وَلَا يُطلق أسيرهم وَلَو كَانَ صَبيا أَو امْرَأَة أَو عبدا حَتَّى يَنْقَضِي الْحَرْب
ويتفرق جمعهم وَلَا يتَوَقَّع عودهم إِلَّا أَن يُطِيع الْأَسير بِاخْتِيَارِهِ
فيطلق قبل ذَلِك وَهَذَا فِي الرجل الْحر
وَكَذَا فِي الصَّبِي وَالْمَرْأَة وَالْعَبْد إِن كَانُوا مقاتلين وَإِلَّا أطْلقُوا بِمُجَرَّد انْقِضَاء الْحَرْب وَيرد لَهُم بعد أَمن شرهم بعودهم إِلَى الطَّاعَة أَو تفرقهم وَعدم توقع عودهم مَا أَخذ مِنْهُم من سلَاح وخيل وَغير ذَلِك
وَيحرم اسْتِعْمَال شَيْء من سِلَاحهمْ وخيلهم وَغَيرهم من أَمْوَالهم لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل مَال امرىء مُسلم إِلَّا بِطيب نفس مِنْهُ إِلَّا لضَرُورَة كَمَا إِذا خفنا انهزام أهل الْعدْل وَلم نجد غير خيولهم فَيجوز لأهل الْعدْل ركُوبهَا وَلَا يُقَاتلُون بِمَا يعم كنار ومنجنيق وَلَا يستعان عَلَيْهِم بِكَافِر لِأَنَّهُ يحرم تسليطه على الْمُسلم إِلَّا لضَرُورَة بِأَن كَثُرُوا وَأَحَاطُوا بِنَا فيقاتلون بِمَا يعم كنار ومنجنيق وَلَا بِمن يرى قَتلهمْ مُدبرين لعداوة أَو اعْتِقَاد كالحنفي وَالْإِمَام لَا يرى ذَلِك إبْقَاء عَلَيْهِم(2/549)
القَوْل فِي إحصار الْبُغَاة وَلَا يجوز إحصارهم بِمَنْع طَعَام وشراب إِلَّا على رَأْي الإِمَام فِي أهل قلعة وَلَا يجوز عقر خيولهم إِلَّا إِذا قَاتلُوا عَلَيْهَا وَلَا قطع أَشْجَارهم أَو زُرُوعهمْ
القَوْل فِي مقاومة أهل الْبَغي وَيلْزم الْوَاحِد كَمَا قَالَ الْمُتَوَلِي من أهل الْعدْل مصابرة اثْنَيْنِ من الْبُغَاة كَمَا يجب على الْمُسلم أَن يصبر لكافرين فَلَا يولي إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة قَالَ الشَّافِعِي يكره للعادل أَن يعمد إِلَى قتل ذِي رَحمَه من أهل الْبَغي وَحكم دَار الْبَغي كَحكم دَار الْإِسْلَام
فَإِذا جرى فِيهَا مَا يُوجب إِقَامَة حد أَقَامَهُ الإِمَام المستولي عَلَيْهَا وَلَو سبى الْمُشْركُونَ طَائِفَة من الْبُغَاة وَقدر أهل الْعدْل على استنقاذهم لَزِمَهُم ذَلِك
االقول فِي شُرُوط الإِمَام الْأَعْظَم تَتِمَّة فِي شُرُوط الإِمَام الْأَعْظَم وَفِي بَيَان طرق انْعِقَاد الْإِمَامَة وَهِي فرض كِفَايَة
كالقضاء فَشرط الإِمَام كَونه أَهلا للْقَضَاء قرشيا لخَبر الْأَئِمَّة من قُرَيْش شجاعا ليغزو بِنَفسِهِ وَتعْتَبر سَلَامَته من نقص يمْنَع اسْتِيفَاء الْحَرَكَة وَسُرْعَة النهوض كَمَا دخل فِي الشجَاعَة
القَوْل فِيمَا تَنْعَقِد بِهِ الْإِمَامَة وتنعقد الْإِمَامَة بِثَلَاثَة طرق الأولى ببيعة أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء
ووجوه النَّاس المتيسر اجْتِمَاعهم فَلَا يعْتَبر فِيهَا عدد وَيعْتَبر اتصاف المبايع بِصفة الشُّهُود
وَالثَّانيَِة باستخلاف الإِمَام من عينه فِي حَيَاته كَمَا عهد أَبُو بكر لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَيشْتَرط الْقبُول فِي حَيَاته
كجعله الْأَمر فِي الْخلَافَة تشاورا بَين جمع
كَمَا جعل عمر الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة عَليّ وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَطَلْحَة فاتفقوا على عُثْمَان
وَالثَّالِثَة باستيلاء شخص متغلب على الْإِمَامَة وَلَو غير أهل لَهَا نعم الْكَافِر إِذا تغلب لَا تَنْعَقِد إِمَامَته لقَوْله تَعَالَى {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} وَتجب طَاعَة الإِمَام وَإِن كَانَ جائرا فِيمَا يجوز من أمره وَنَهْيه لخَبر اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن أَمر عَلَيْكُم عبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف وَلِأَن الْمَقْصُود من نَصبه اتِّحَاد الْكَلِمَة وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِوُجُوب الطَّاعَة
فصل فِي الرِّدَّة
أعاذنا الله تَعَالَى مِنْهَا هِيَ لُغَة الرُّجُوع عَن الشَّيْء إِلَى غَيره وَهِي من أفحش الْكفْر وأغلظه حكما محبطة للْعَمَل إِن اتَّصَلت بِالْمَوْتِ وَإِلَّا حَبط ثَوَابه كَمَا نَقله فِي الْمُهِمَّات عَن نَص الشَّافِعِي وَشرعا قطع من
أَو قَول مكفر سَوَاء أقاله استهزاء أم اعتقادا أم عنادا لقَوْله تَعَالَى {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزؤون لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ} بعد يَصح طَلَاقه اسْتِمْرَار الْإِسْلَام وَيحصل قطعه بِأُمُور بنية كفر أَو فعل(2/550)
مكفر إيمَانكُمْ
القَوْل فِيمَا يُوجب الرِّدَّة فَمن نفى الصَّانِع وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم الدهريون الزاعمون أَن الْعَالم لم يزل مَوْجُودا كَذَلِك بِلَا صانع أَو نفى الرُّسُل بِأَن قَالَ لم يرسلهم الله تَعَالَى أَو نفى نبوة نَبِي أَو كذب رَسُولا أَو نَبيا أَو سبه أَو استخف بِهِ أَو باسمه
أَو باسم الله أَو بأَمْره أَو وعده أَو جحد آيَة من الْقُرْآن مجمعا على ثُبُوتهَا أَو زَاد فِيهِ آيَة مُعْتَقدًا أَنَّهَا مِنْهُ أَو استخف بِسنة كَمَا لَو قيل لَهُ قلم أظفارك فَإِنَّهُ سنة فَقَالَ لَا أفعل وَإِن كَانَ سنة وَقصد الِاسْتِهْزَاء بذلك
أَو قَالَ لَو أَمرنِي الله وَرَسُوله بِكَذَا مَا فعلته
أَو قَالَ إِن كَانَ مَا قَالَه الْأَنْبِيَاء صدقا نجونا أَو قَالَ لَا أَدْرِي النَّبِي إنسي أَو جني
أَو قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْإِيمَان احتقارا أَو قَالَ لمن حول لَا حول لَا تغني من جوع
أَو قَالَ الْمَظْلُوم هَذَا بِتَقْدِير الله تَعَالَى
فَقَالَ الظَّالِم أَنا أفعل بِغَيْر تَقْدِيره أَو أَشَارَ بالْكفْر على مُسلم أَو على كَافِر أَرَادَ الْإِسْلَام أَو لم يلقن الْإِسْلَام طَالبه مِنْهُ أَو كفر مُسلما بِلَا تَأْوِيل للمكفر بِكفْر النِّعْمَة كَمَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْمُتَوَلِي
وَأقرهُ أَو حلل محرما بِالْإِجْمَاع كَالزِّنَا واللواط وَالظُّلم وَشرب الْخمر أَو حرم حَلَالا بِالْإِجْمَاع كَالنِّكَاحِ وَالْبيع أَو نفى وجوب مجمع عَلَيْهِ كَأَن نفى رَكْعَة من الصَّلَوَات الْخمس أَو اعْتقد وجوب مَا لَيْسَ بِوَاجِب بِالْإِجْمَاع كزيادة رَكْعَة فِي الصَّلَوَات الْخمس أَو عزم على الْكفْر غَدا أَو تردد فِيهِ حَالا كفر فِي جَمِيع هَذِه الْمسَائِل الْمَذْكُورَة وَهَذَا بَاب لَا سَاحل لَهُ وَالْفِعْل الْمُكَفّر مَا تَعَمّده صَاحبه استهزاء صَرِيحًا بِالدّينِ أَو جحُودًا لَهُ كإلقاء مصحف وَهُوَ اسْم للمكتوب بَين الدفتين بقاذورة وَسُجُود لمخلوق كصنم وشمس وَخرج بقولنَا قطع من يَصح طَلَاقه الصَّبِي وَلَو مُمَيّزا وَالْمَجْنُون فَلَا تصح ردتهما لعدم تكليفهما وَالْمكْره لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} وَدخل فِيهِ السَّكْرَان الْمُتَعَدِّي بسكره فَتَصِح ردته كطلاقه وَسَائِر تَصَرُّفَاته وإسلامه عَن ردته
القَوْل فِيمَا يفعل بالمرتد (وَمن ارْتَدَّ) من رجل أَو امْرَأَة عَن دين (الْإِسْلَام) بِشَيْء مِمَّا تقدم بَيَانه أَو بِغَيْرِهِ مِمَّا تقرر فِي المبسوطات وَغَيرهَا (استتيب) وجوبا قبل قَتله لِأَنَّهُ كَانَ مُحْتَرما بِالْإِسْلَامِ فَرُبمَا عرضت لَهُ شُبْهَة
فيسعى فِي إِزَالَتهَا لِأَن الْغَالِب أَن الرِّدَّة تكون عَن شُبْهَة عرضت(2/551)
وَثَبت وجوب الاستتابة عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عَن جَابر أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا أم رُومَان ارْتَدَّت
فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام فَإِن تابت وَإِلَّا قتلت وَلَا يُعَارض هَذَا النَّهْي عَن قتل النِّسَاء الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة
لِأَن ذَلِك مَحْمُول على الحربيات وَهَذَا على المرتدات والاستتابة تكون حَالا
لِأَن قَتله الْمُرَتّب عَلَيْهَا حد فَلَا يُؤَخر كَسَائِر الْحُدُود
نعم إِن كَانَ سَكرَان سنّ التَّأْخِير إِلَى الصحو وَفِي قَول يُمْهل فِيهَا (ثَلَاثًا) أَي ثَلَاثَة أَيَّام لأثر عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي ذَلِك وَأخذ بِهِ الإِمَام مَالك
وَقَالَ الزُّهْرِيّ يدعى إِلَى الْإِسْلَام ثَلَاث مَرَّات فَإِن أَبى قتل وَحمل بَعضهم كَلَام الْمَتْن على هَذَا
وعَلى كل حَال هُوَ ضَعِيف وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه يُسْتَتَاب شَهْرَيْن (فَإِن تَابَ) بِالْعودِ إِلَى الْإِسْلَام (صَحَّ) إِسْلَامه وَترك وَلَو كَانَ زنديقا أَو تكَرر مِنْهُ ذَلِك لآيَة {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} وَخبر فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام والزنديق من يخفي الْكفْر وَيظْهر الْإِسْلَام كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ فِي هَذَا الْبَاب وبابي صفة الْأَئِمَّة والفرائض هُوَ أَو من لَا ينتحل دينا كَمَا قَالَاه فِي اللّعان وَصَوَابه فِي الْمُهِمَّات ثمَّ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتب فِي الْحَال (قتل) وجوبا لخَبر البُخَارِيّ من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ أَي بِضَرْب عُنُقه دون الإحراق وَغَيره كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة لِلْأَمْرِ بِإِحْسَان القتلة
(وَلم يغسل) أَي لَا يجب غسله لِخُرُوجِهِ عَن أَهْلِيَّة الْوُجُوب بِالرّدَّةِ
لَكِن يجوز لَهُ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة فِي الْجَنَائِز (وَلم يصل عَلَيْهِ) لتحريمها على الْكَافِر قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا}
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن تكفينه وَحكمه الْجَوَاز كغسله
(وَلم يدْفن) أَي لَا يجوز دَفنه (فِي مَقَابِر الْمُسلمين) لِخُرُوجِهِ مِنْهُم بِالرّدَّةِ وَيجوز دَفنه فِي مَقَابِر الْكفَّار
وَلَا يجب كالحربي كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الدَّمِيرِيّ من دَفنه بَين مَقَابِر الْمُسلمين وَالْكفَّار لما تقدم لَهُ من حُرْمَة الْإِسْلَام لَا أصل لَهُ لقَوْله تَعَالَى {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر} الْآيَة وَيجب تَفْصِيل الشَّهَادَة بِالرّدَّةِ
لاخْتِلَاف النَّاس فِيمَا يُوجِبهَا وَلَو ادّعى مدعى عَلَيْهِ بردة إِكْرَاها وَقد شهِدت بَيِّنَة بِلَفْظ كفر أَو فعله حلف فَيصدق وَلَو بِلَا قرينَة لِأَنَّهُ لم يكذب الشُّهُود أَو شهِدت بردته وأطلقت لم تقبل لما مر وَلَو قَالَ أحد ابْنَيْنِ مُسلمين مَاتَ أبي مُرْتَدا فَإِن بَين سَبَب ردته كسجود لصنم فَنصِيبه فَيْء لبيت المَال
وَإِن أطلق استفصل فَإِن ذكر مَا هُوَ ردة كَانَ فَيْئا أَو غَيرهَا كَقَوْلِه كَانَ يشرب الْخمر
صرف إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر فِي أصل الرَّوْضَة
وَمَا فِي الْمِنْهَاج من أَن الْأَظْهر أَنه فَيْء أَيْضا ضَعِيف
تَتِمَّة فرع الْمُرْتَد إِن انْعَقَد قبل الرِّدَّة أَو فِيهَا وَأحد أُصُوله مُسلم فَمُسلم تبعا لَهُ وَالْإِسْلَام يَعْلُو أَو أُصُوله مرتدون فمرتد تبعا لَا(2/552)
مُسلم وَلَا كَافِر أُصَلِّي فَلَا يسترق وَلَا يقتل حَتَّى يبلغ ويستتاب فَإِن لم يتب قتل
وَاخْتلف فِي الْمَيِّت من أَوْلَاد الْكفَّار قبل بُلُوغه
وَالصَّحِيح كَمَا فِي الْمَجْمُوع فِي بَاب صَلَاة الاسْتِسْقَاء تبعا للمحققين أَنهم فِي الْجنَّة وَالْأَكْثَرُونَ على أَنهم فِي النَّار وَقيل على الْأَعْرَاف
وَلَو كَانَ أحد أَبَوَيْهِ مُرْتَدا وَالْآخر كَافِرًا أَصْلِيًّا فكافر أُصَلِّي قَالَه الْبَغَوِيّ
وَملك الْمُرْتَد مَوْقُوف إِن مَاتَ مُرْتَدا بَان زَوَاله بِالرّدَّةِ وَيَقْضِي مِنْهُ دين لزمَه قبلهَا وَبدل مَا أتْلفه فِيهَا ويمان مِنْهُ ممونه من نَفسه وَبَعضه وَمَاله وزوجاته لِأَنَّهَا حُقُوق مُتَعَلقَة بِهِ وتصرفه إِن لم يحْتَمل الْوَقْف بِأَن لم يقبل التَّعْلِيق كَبيع وَكِتَابَة بَاطِل لعدم احْتِمَال الْوَقْف وَإِن احتمله بِأَن قبل التَّعْلِيق كعتق وَوَصِيَّة
فموقوف إِن أسلم نفذ
وَإِلَّا فَلَا وَيجْعَل مَاله عِنْد عدل وَأمته عِنْد نَحْو محرم كامرأة ثِقَة وَيُؤَدِّي مكَاتبه النُّجُوم للْقَاضِي حفظا لَهَا
وَيعتق بذلك أَيْضا وَإِنَّمَا لم يقبضهَا الْمُرْتَد لِأَن قَبضه غير مُعْتَبر
فصل فِي تَارِك الصَّلَاة
الْمَفْرُوضَة على الْأَعْيَان أَصَالَة جحدا أَو غَيره
وَبَيَان حكمه وَذكره المُصَنّف عقب الرِّدَّة لاشْتِمَاله على شَيْء من أَحْكَامهَا فَفِيهِ مُنَاسبَة وَإِن كَانَ مُخَالفا لغيره من المصنفين فِيمَا علمت فَإِن الْغَزالِيّ ذكره بعد الْجَنَائِز
وَذكره جمَاعَة قبل الْأَذَان وَذكره الْمُزنِيّ وَالْجُمْهُور قبل الْجَنَائِز وتبعهم الْمِنْهَاج كَأَصْلِهِ
قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَعَلَّه أليق
(و) الْمُكَلف (تَارِك الصَّلَاة) الْمَعْهُودَة شرعا الصادقة بِإِحْدَى الْخمس
(على ضَرْبَيْنِ) إِذْ التّرْك سَببه جحد أَو كسل
(أَحدهمَا أَن يَتْرُكهَا غير مُعْتَقد لوُجُوبهَا) عَلَيْهِ جحدا بِأَن أنكرها بعد علمه بِهِ أَو عنادا كَمَا هُوَ فِي الْقُوت عَن الدَّارمِيّ
(فَحكمه) فِي وجوب استتابته وَقَتله وَجَوَاز غسله وتكفينه وَدَفنه فِي مَقَابِر الْمُشْركين
(حكم الْمُرْتَد) على مَا سبق بَيَان فِي مَوْضِعه من غير فرق وكفره بجحده فَقَط لَا بِهِ من التّرْك وَإِنَّمَا ذكره المُصَنّف لأجل التَّقْسِيم لِأَن الْجحْد لَو انْفَرد كَمَا لَو صلى جاحدا للْوُجُوب كَانَ مقتضيا للكفر لإنكاره مَا هُوَ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ
فَلَو اقْتصر المُصَنّف على الْجحْد كَانَ أولى لِأَن ذَلِك تَكْذِيب لله وَلِرَسُولِهِ فيكفر بِهِ وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى
وَنقل الْمَاوَرْدِيّ الْإِجْمَاع على ذَلِك وَذَلِكَ جَار فِي جحود كل مجمع عَلَيْهِ مَعْلُوم من الدّين بِالضَّرُورَةِ
أما من أنكرهُ جَاهِلا لقرب عَهده بِالْإِسْلَامِ أَو نَحوه
مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ كمن بلغ مَجْنُونا ثمَّ أَفَاق أَو نَشأ بَعيدا عَن الْعلمَاء فَلَيْسَ مُرْتَدا بل يعرف الْوُجُوب فَإِن عَاد بعد ذَلِك صَار مُرْتَدا(2/553)
القَوْل فِي تَارِك الصَّلَاة كسلا (و) الضَّرْب (الثَّانِي أَن يَتْرُكهَا) كسلا أَو تهاونا (مُعْتَقدًا لوُجُوبهَا) عَلَيْهِ (فيستتاب) قبل الْقَتْل لِأَنَّهُ لَيْسَ أَسْوَأ حَالا من الْمُرْتَد
وَهِي مَنْدُوبَة كَمَا صَححهُ فِي التَّحْقِيق وَإِن كَانَ قَضِيَّة كَلَام الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع أَنَّهَا وَاجِبَة كاستتابة الْمُرْتَد وَالْفرق على الأول أَن جريمة الْمُرْتَد تَقْتَضِي الخلود فِي النَّار فَوَجَبت الاستتابة رَجَاء نجاته من ذَلِك بِخِلَاف تَارِك الصَّلَاة فَإِن عُقُوبَته أخف لكَونه يقتل حدا بل مُقْتَضى مَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ من كَون الْحُدُود تسْقط الْإِثْم أَنه لَا يبْقى عَلَيْهِ شَيْء بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ قد حد على هَذَا الجريمة والمستقبل لم يُخَاطب بِهِ وتوبته على الْفَوْر لِأَن الْإِمْهَال يُؤَدِّي إِلَى تَأْخِير صلوَات
(فَإِن تَابَ) بِأَن امتثل الْأَمر (وَصلى) خلي سَبيله من غير قتل
فَإِن قيل هَذَا الْقَتْل حد وَالْحُدُود لَا تسْقط بِالتَّوْبَةِ
أُجِيب أَن هَذَا الْقَتْل لَا يضاهي الْحُدُود الَّتِي وضعت عُقُوبَة على مَعْصِيّة سَابِقَة بل حملا على مَا توجه عَلَيْهِ من الْحق وَلِهَذَا لَا خلاف فِي سُقُوطه بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَوْبَة وَلَا يتَخَرَّج على الْخلاف فِي سُقُوط الْحَد بِالتَّوْبَةِ على الصَّوَاب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتب (قتل) بِالسَّيْفِ إِن لم يبد عذرا (حدا) لَا كفرا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة
فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام وحسابهم على الله فَإِن أبدى عذرا كَأَن قَالَ تركتهَا نَاسِيا أَو للبرد أَو نَحْو ذَلِك من الْأَعْذَار صَحِيحَة كَانَت فِي نفس الْأَمر أَو بَاطِلَة لم يقتل لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق مِنْهُ تعمد تَأْخِيرهَا عَن الْوَقْت بِغَيْر عذر لَكِن نأمره بهَا بعد ذكر الْعذر وجوبا فِي الْعذر الْبَاطِل وندبا فِي الصَّحِيح بِأَن نقُول لَهُ صل فَإِن امْتنع لم يقتل لذَلِك
فَإِن قَالَ تَعَمّدت تَركهَا بِلَا عذر قتل سَوَاء قَالَ وَلم أَصْلهَا
أَو سكت لتحَقّق جِنَايَته بتعمد التَّأْخِير وَيقتل تَارِك الطَّهَارَة للصَّلَاة لِأَنَّهُ ترك لَهَا وَيُقَاس بِالطَّهَارَةِ الْأَركان وَسَائِر الشُّرُوط وَمحله فِيمَا لَا خلاف فِيهِ أَو فِيهِ خلاف(2/554)
واه بِخِلَاف الْقوي فَفِي فَتَاوَى الْقفال لَو ترك فَاقِد الطهُورَيْنِ الصَّلَاة مُتَعَمدا أَو مس شَافِعِيّ الذّكر أَو لمس الْمَرْأَة أَو تَوَضَّأ وَلم ينْو وَصلى مُتَعَمدا لَا يقتل لِأَن جَوَاز صلَاته مُخْتَلف فِيهِ وَالصَّحِيح قَتله وجوبا بِصَلَاة فَقَط لظَاهِر الْخَبَر بِشَرْط إخْرَاجهَا عَن وَقت الضَّرُورَة فِيمَا لَهُ وَقت ضَرُورَة بِأَن تجمع مَعَ الثَّانِيَة فِي وَقتهَا فَلَا يقتل بترك الظّهْر حَتَّى تغرب الشَّمْس وَلَا بترك الْمغرب حَتَّى يطلع الْفجْر وَيقتل فِي الصُّبْح بِطُلُوع الشَّمْس وَفِي الْعَصْر بغروبها وَفِي الْعشَاء بِطُلُوع الْفجْر فَيُطَالب بأدائها إِذا ضَاقَ وَقتهَا ويتوعد بِالْقَتْلِ إِن أخرجهَا عَن الْوَقْت فَإِن أصر وَأخرج اسْتوْجبَ الْقَتْل فَقَوْل الرَّوْضَة يقتل بِتَرْكِهَا إِذا ضَاقَ وَقتهَا مَحْمُول على مُقَدمَات الْقَتْل بِقَرِينَة
كَلَامهَا بعد وَمَا قيل من أَنه لَا يقتل بل يُعَزّر وَيحبس حَتَّى يُصَلِّي كَتَرْكِ الصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَلخَبَر لَا يحل دمخ امرىءه مسلمه إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث الثّيّب الزَّانِي وَالنَّفس بِالنَّفسِ والتارك لدينِهِ المفارق للْجَمَاعَة وَلِأَنَّهُ لَا يقتل بترك الْقَضَاء مَرْدُود بِأَن الْقيَاس مَتْرُوك بالنصوص وَالْخَبَر عَام مَخْصُوص بِمَا ذكر
وَقَتله خَارج الْوَقْت إِنَّمَا هُوَ للترك بِلَا عذر على أَنا نمْنَع أَنه لَا يقتل بترك الْقَضَاء مُطلقًا بل فِيهِ تَفْصِيل يَأْتِي فِي خَاتِمَة الْفَصْل وَيقتل بترك الْجُمُعَة وَإِن قَالَ أصليها ظهرا كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن الشَّاشِي لتركها بِلَا قَضَاء إِذْ الظّهْر لَيْسَ قَضَاء عَنْهَا وَيقتل بِخُرُوج وَقتهَا بِحَيْثُ لَا يتَمَكَّن من فعلهَا إِن لم يتب
فَإِن تَابَ لم يقتل وتوبته أَن يَقُول لَا أتركها بعد ذَلِك كسلا وَهَذَا فِيمَن تلْزمهُ الْجُمُعَة إِجْمَاعًا
فَإِن أَبَا حنيفَة يَقُول لَا جُمُعَة إِلَّا على أهل مصر
جَامع وَقَوله جَامع صفة لمصر (وَحكمه) بعد قَتله (حكم الْمُسلمين فِي) وجوب (الدّفن) فِي مَقَابِر الْمُسلمين
(و) فِي وجوب (الْغسْل وَالصَّلَاة) عَلَيْهِ وَلَا يطمس قَبره كَسَائِر أَصْحَاب الْكَبَائِر من الْمُسلمين
خَاتِمَة من ترك الصَّلَاة بِعُذْر كنوم أَو نِسْيَان لم يلْزمه قَضَاؤُهَا فَوْرًا لَكِن يسن لَهُ الْمُبَادرَة بهَا أَو بِلَا عذر لزمَه قَضَاؤُهَا فَوْرًا لتَقْصِيره لَكِن لَا يقتل بفائتة فَاتَتْهُ بِعُذْر لِأَن وَقتهَا موسع أَو بِلَا عذر وَقَالَ أصليها لم يقتل لتوبته بِخِلَاف مَا إِذا لم يقل ذَلِك كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَلَو ترك منذورة مُؤَقَّتَة لم يقتل كَمَا علم من تَقْيِيد الصَّلَاة بِإِحْدَى الْخمس لِأَنَّهُ الَّذِي أوجبهَا على نَفسه قَالَ الْغَزالِيّ وَلَو زعم زاعم أَن بَينه وَبَين الله تَعَالَى حَالَة أسقطت عَنهُ الصَّلَاة وَأحلت لَهُ شرب الْخمر وَأكل مَال السُّلْطَان كَمَا زَعمه بعض من ادّعى التصوف
فَلَا شكّ فِي وجوب قَتله وَإِن كَانَ فِي خلوده فِي النَّار نظر(2/555)
= كتاب أَحْكَام الْجِهَاد = أَي الْقِتَال فِي سَبِيل الله وَمَا يتَعَلَّق بِبَعْض أَحْكَامه وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} وَقَوله تَعَالَى {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة} وَقَوله تَعَالَى {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله وَخبر مُسلم لغدوة أَو رَوْحَة فِي سَبِيل الله خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
وَقد جرت عَادَة الْأَصْحَاب تبعا لإمامهم الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن يذكرُوا مُقَدّمَة فِي صدر هَذَا الْكتاب
فلنذكر نبذة مِنْهَا على سَبِيل التَّبَرُّك فَنَقُول بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي رَمَضَان وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة وَقيل ثَلَاث وَأَرْبَعين سنة
وَآمَنت بِهِ خَدِيجَة ثمَّ بعْدهَا قيل عَليّ وَهُوَ ابْن تسع سِنِين
وَقيل عشر وَقيل أَبُو بكر
وَقيل زيد بن حَارِثَة
ثمَّ أَمر بتبليغ قومه بعد ثَلَاث سِنِين من مبعثه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأول مَا فرض عَلَيْهِ بعد الْإِنْذَار وَالدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد من قيام اللَّيْل مَا ذكر فِي أول سُورَة المزمل ثمَّ نسخ بِمَا فِي آخرهَا
ثمَّ نسخ بالصلوات الْخمس لَيْلَة الْإِسْرَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة بِعشر سِنِين وَثَلَاثَة أشهر لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَجَب وَقيل بعد النُّبُوَّة بِخمْس أَو سِتّ
وَقيل غير ذَلِك
ثمَّ أَمر باستقبال الْكَعْبَة ثمَّ فرض الصَّوْم بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ تَقْرِيبًا وفرضت الزَّكَاة بعد الصَّوْم وَقيل قبله وَفِي السّنة الثَّانِيَة
قيل فِي نصف شعْبَان
وَقيل فِي رَجَب من الْهِجْرَة حولت الْقبْلَة وفيهَا فرضت صَدَقَة الْفطر وفيهَا ابْتَدَأَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة عيد الْفطر ثمَّ عيد الْأَضْحَى ثمَّ فرض الْحَج سنة سِتّ وَقيل سنة خمس وَلم يحجّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْهِجْرَة إِلَّا حجَّة الْوَدَاع سنة عشر وَاعْتمر أَرْبعا وَكَانَ الْجِهَاد فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْهِجْرَة فرض كِفَايَة وَأما بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فللكفار كِفَايَة سقط الْحَرج عَن البَاقِينَ لِأَن هَذَا شَأْن فروض الْكِفَايَة
(وشرائط وجوب الْجِهَاد) حِينَئِذٍ (سبع خِصَال) الأولى (الْإِسْلَام) لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار} الْآيَة(2/556)
حالان الْحَال الأول أَن يَكُونُوا ببلادهم فَفرض كِفَايَة إِذا فعله من فيهم فخوطب بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يجب على الْكَافِر وَلَو ذِمِّيا لِأَنَّهُ يبْذل الْجِزْيَة لنذب عَنهُ لَا ليذب عَنَّا
(و) الثَّانِيَة (الْبلُوغ و) الثَّالِثَة (الْعقل) فَلَا جِهَاد على صبي وَمَجْنُون لعدم تكليفهما
وَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الضُّعَفَاء} الْآيَة قيل هم الصّبيان لضعف أبدانهم وَقيل المجانين لضعف عُقُولهمْ وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد ابْن عمر يَوْم أحد وَأَجَازَهُ فِي الخَنْدَق
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا جِهَاد على رَقِيق وَلَو مبعضا أَو مكَاتبا لقَوْله تَعَالَى {وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} وَلَا مَال للْعَبد وَلَا نفس يملكهَا فَلم يَشْمَلهُ الْخطاب حَتَّى لَو أمره سَيّده لم يلْزمه كَمَا قَالَه الإِمَام لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل هَذَا الشَّأْن وَلَيْسَ الْقِتَال من الِاسْتِخْدَام الْمُسْتَحق للسَّيِّد لِأَن الْملك لَا يَقْتَضِي التَّعَرُّض للهلاك
(و) الْخَامِسَة (الذُّكُورَة) فَلَا جِهَاد على امْرَأَة لِضعْفِهَا
وَلقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} وَإِطْلَاق لفظ الْمُؤمنِينَ ينْصَرف للرِّجَال دون النِّسَاء وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة وَقد سَأَلته فِي الْجِهَاد لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور
(و) السَّادِسَة (الصِّحَّة) فَلَا جِهَاد على مَرِيض يتَعَذَّر قِتَاله أَو تعظم مشقته
(و) السَّابِعَة (الطَّاقَة على الْقِتَال) بِالْبدنِ وَالْمَال فَلَا جِهَاد على أعمى وَلَا على ذِي عرج بَين وَلَو فِي رجل وَاحِدَة لقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج} النُّور 61 فَلَا عِبْرَة بصداع ووجع ضرس وَضعف بصر إِن كَانَ يدْرك الشَّخْص ويمكنه اتقاء السِّلَاح
وَلَا عرج يسير لَا يمْنَع الْمَشْي والعدو والهرب وَلَا على أقطع يَد بكاملها أَو مُعظم أصابعها بِخِلَاف فَاقِد الْأَقَل أَو أَصَابِع الرجلَيْن إِن أمكنه الْمَشْي بِغَيْر عرج بَين وَلَا على أشل يَد أَو مُعظم أصابعها لِأَن مَقْصُود الْجِهَاد الْبَطْش
والنكاية وَهُوَ مَفْقُود فيهمَا لِأَن كلا مِنْهُمَا لَا يتَمَكَّن من الضَّرْب وَلَا عادم أهبة قتال من نَفَقَة وَلَا سلَاح
وَكَذَا مركوب إِن كَانَ سفر قصر فَإِن كَانَ دونه لزمَه إِن كَانَ قَادِرًا على الْمَشْي
فَاضل ذَلِك عَن مُؤنَة من تلْزمهُ مُؤْنَته كَمَا فِي الْحَج وَلَو مرض بعد مَا خرج أَو فنى زَاده أَو هَلَكت دَابَّته فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين أَن ينْصَرف أَو يمْضِي فَإِن حضر الْوَقْعَة جَازَ لَهُ الرُّجُوع على الصَّحِيح إِذا لم يُمكنهُ الْقِتَال فَإِن أمكنه الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ فَالْأَصَحّ فِي زَوَائِد الرَّوْضَة الرَّمْي بهَا على تنَاقض وَقع لَهُ فِيهِ
وَلَو كَانَ الْقِتَال على بَاب دَاره أَو حوله سقط اعْتِبَار الْمُؤَن كَمَا ذكره القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره
وَالضَّابِط الَّذِي يعم مَا سبق وَغَيره كل عذر منع وجوب حج كفقد زَاد وراحلة منع وجوب الْجِهَاد إِلَّا فِي خوف طَرِيق من كفار أَو من لصوص مُسلمين فَلَا يمْنَع وُجُوبه لِأَن الْخَوْف يحْتَمل فِي هَذَا السّفر لبِنَاء الْجِهَاد على مصادمة المخاوف وَالدّين الْحَال على مُوسر يحرم على رجل سفر جِهَاد وسفر غَيره إِلَّا بِإِذن(2/557)
غَرِيمه وَالدّين الْمُؤَجل لَا يحرم السّفر وَإِن قرب الْأَجَل وَيحرم على رجل جِهَاد بسفر وَغَيره إِلَّا بِإِذن أَبَوَيْهِ إِن كَانَا مُسلمين وَلَو كَانَ الْحَيّ أَحدهمَا فَقَط لم يجز إِلَّا بِإِذْنِهِ وَجَمِيع أُصُوله الْمُسلمين
كَذَلِك وَلَو وجد الْأَقْرَب مِنْهُم وَأذن بِخِلَاف الْكَافِر مِنْهُم لَا يجب اسْتِئْذَانه وَلَا يحرم عَلَيْهِ سفر لتعلم فرض وَلَو كِفَايَة
كَطَلَب دَرَجَة الافتاء بِغَيْر إِذن أَصله وَلَو أذن أَصله أَو رب الدّين فِي الْجِهَاد ثمَّ رَجَعَ بعد خُرُوجه وَعلم بِالرُّجُوعِ وَجب رُجُوعه إِن لم يحضر الصَّفّ وَإِلَّا حرم انْصِرَافه لقَوْله تَعَالَى {إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا} وَيشْتَرط لوُجُوب الرُّجُوع أَيْضا أَن يَأْمَن على نَفسه وَمَاله
وَلم تنكسر قُلُوب الْمُسلمين
وَإِلَّا فَلَا يجب الرُّجُوع بل لَا يجوز
وَالْحَال الثَّانِي من حَال الْكفَّار أَن يدخلُوا بَلْدَة لنا مثلا فَيلْزم أَهلهَا الدّفع بالممكن مِنْهُم
وَيكون الْجِهَاد حِينَئِذٍ فرض عين سَوَاء أمكن تأهبهم لقِتَال أم لم يُمكن علم كل من قصد أَنه إِن أَخذ قتل أَو لم يعلم أَنه إِن امْتنع من الاستسلام قتل أَو لم تأمن الْمَرْأَة فَاحِشَة إِن أخذت
وَمن هُوَ دون مَسَافَة الْقصر من الْبَلدة الَّتِي دَخلهَا الْكفَّار حكمه كأهلها وَإِن كَانَ فِي أَهلهَا كِفَايَة لِأَنَّهُ كالحاضر مَعَهم فَيجب ذَلِك على كل مِمَّن ذكر حَتَّى على فَقير وَولد ومدين ورقيق بِلَا إِذن من الأَصْل وَرب الدّين وَالسَّيِّد وَيلْزم الَّذين على مَسَافَة الْقصر الْمُضِيّ إِلَيْهِم عِنْد الْحَاجة بِقدر الْكِفَايَة دفعا لَهُم وإنقاذا من الهلكة
فَيصير فرض عين فِي حق من قرب وَفرض كِفَايَة فِي حق من بعد
وَإِذا لم يُمكن من قصد تأهب لقِتَال وَجوز أسرا وقتلا فَلهُ استسلام وقتال إِن علم أَنه إِن امْتنع مِنْهُ قتل وَأمنت الْمَرْأَة فَاحِشَة
ثمَّ شرع فِي أَحْكَام الْجِهَاد بقوله (وَمن أسر من الْكفَّار فعلى ضَرْبَيْنِ ضرب يكون رَقِيقا بِنَفس) أَي بِمُجَرَّد (السَّبي) بِفَتْح الْمُهْملَة وَإِسْكَان الْمُوَحدَة وَهُوَ الْأسر كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تحريره (وهم النِّسَاء وَالصبيان) والمجانين وَالْعَبِيد وَلَو مُسلمين
كَمَا يرق حَرْبِيّ مقهور لحربي بالقهر أَي يصيرون بالأسر أرقاء لنا وَيَكُونُونَ كَسَائِر أَمْوَال الْغَنِيمَة الْخمس لأَهله وَالْبَاقِي للغانمين لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال
وَالْمرَاد برق العبيد استمراره لَا تجدده وَمثلهمْ فِيمَا ذكر المبعضون تَغْلِيبًا لحقن الدَّم(2/558)
تَنْبِيه لَا يقتل من ذكر للنَّهْي عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُمَا فَإِن قَتلهمْ الإِمَام وَلَو لشرهم وقوتهم ضمن قيمتهم للغانمين كَسَائِر الْأَمْوَال
(وَضرب لَا يرق بِنَفس السَّبي) وَإِنَّمَا يرق بِالِاخْتِيَارِ كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(وهم الرِّجَال) الْأَحْرَار (البالغون) الْعُقَلَاء (وَالْإِمَام) أَو أَمِير الْجَيْش (مُخَيّر فيهم) بِفعل الأحظ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين
(بَين أَرْبَعَة أَشْيَاء) وَهِي (الْقَتْل) بِضَرْب رَقَبَة لَا بتحريق وتغريق
(والاسترقاق) وَلَو لونثي أَو عَرَبِيّ أَو بعض شخص على الْمُصَحح فِي الرَّوْضَة إِذا رَآهَا مصلحَة
(والمن) عَلَيْهِم بتخلية سبيلهم (والفدية بِالْمَالِ) أَي يَأْخُذهُ مِنْهُم سَوَاء أَكَانَ من مَالهم أَو من مالنا الَّذِي فِي أَيْديهم (أَو بِالرِّجَالِ) أَي برد أسرى مُسلمين كَمَا نَص عَلَيْهِ وَمثل الرِّجَال غَيرهم أَو أهل ذمَّة كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر فَيرد مُشْرك بِمُسلم أَو مُسلمين أَو مُشْرِكين بِمُسلم أَو بذمي وَيجوز أَن يفديهم بأسلحتنا الَّتِي فِي أَيْديهم وَلَا يجوز أَن نرد أسلحتهم الَّتِي فِي أَيْدِينَا بِمَال يبذلونه
كَمَا لَا يجوز أَن نبيعهم السِّلَاح (يفعل الإِمَام) أَو أَمِير الْجَيْش (من ذَلِك) بِالِاجْتِهَادِ لَا بالتشهي (مَا فِيهِ الْمصلحَة للْمُسلمين) وَالْإِسْلَام فَإِن خَفِي على الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش
الأحظ حَبسهم حَتَّى يظْهر لَهُ لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى الِاجْتِهَاد لَا إِلَى التشهي كَمَا مر
فيؤخر لظُهُور الصَّوَاب وَلَو أسلم أَسِير مُكَلّف لم يخْتَر الإِمَام فِيهِ قبل إِسْلَامه منا وَلَا فدَاء عصم الْإِسْلَام دَمه فَيحرم قَتله لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَى أَن قَالَ فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَقَوله وَأَمْوَالهمْ مَحْمُول على مَا قبل الْأسر بِدَلِيل قَوْله إِلَّا بِحَقِّهَا وَمن حَقّهَا أَن مَاله الْمَقْدُور عَلَيْهِ بعد الْأسر غنيمَة
وَبَقِي الْخِيَار فِي الْبَاقِي من خِصَال التَّخْيِير السَّابِقَة لِأَن الْمُخَير بَين أَشْيَاء إِذا سقط بَعْضهَا لتعذره لَا يسْقط الْخِيَار فِي الْبَاقِي كالعجز عَن الْعتْق فِي الْكَفَّارَة
(وَمن أسلم) من رجل أَو امْرَأَة فِي دَار حَرْب أَو إِسْلَام
(قبل الْأسر) أَي قبل الظفر بِهِ (أحرز) أَي عصم بِإِسْلَامِهِ (مَاله) من غنيمَة (وَدَمه) من سفكه للْخَبَر الْمَار (وصغار أَوْلَاده) الْأَحْرَار عَن السَّبي لأَنهم يتبعونه فِي الْإِسْلَام وَالْجد كَذَلِك فِي الْأَصَح وَلَو كَانَ الْأَب حَيا لما مر وَولده أَو ولد وَلَده الْمَجْنُون كالصغير وَلَو طَرَأَ الْجُنُون بعد الْبلُوغ لما مر أَيْضا ويعصم الْحمل تبعا لَهُ لَا إِن استرقت أمه قبل إِسْلَام الْأَب فَلَا يبطل إِسْلَامه رقّه كالمنفصل وَإِن حكم بِإِسْلَامِهِ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن سبي الزَّوْجَة والمذاهب كَمَا فِي الْمِنْهَاج أَن إِسْلَام الزَّوْج لَا يَعْصِمهَا عَن الاسترقاق لاستقلالها وَلَو كَانَت حَامِلا مِنْهُ فِي الْأَصَح
فَإِن قيل لَو بذل مِنْهُ فِي الْجِزْيَة منع إرقاق زَوجته وَابْنَته الْبَالِغَة فَكَانَ الْإِسْلَام أولى
أُجِيب بِأَن مَا يُمكن اسْتِقْلَال الشَّخْص بِهِ لَا يَجْعَل فِيهِ تَابعا لغيره
والبالغة تستقل بِالْإِسْلَامِ وَلَا تستقل ببذل الْجِزْيَة
فَإِن استرقت انْقَطع نِكَاحه فِي حَال السَّبي سَوَاء أَكَانَ قبل الدُّخُول بهَا أم لَا لِامْتِنَاع إمْسَاك الْأمة الْكَافِرَة للنِّكَاح كَمَا يمْتَنع ابْتِدَاء نِكَاحهَا
وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض وَلم يسْأَل عَن ذَات زوج وَلَا غَيرهَا
وَمَعْلُوم أَنه كَانَ فيهم من لَهَا زوج وترق زَوْجَة الذِّمِّيّ(2/559)
بِنَفس الْأسر وَيقطع بِهِ نِكَاحه
فَإِن قيل هَذَا يُخَالف قَوْلهم إِن الْحَرْبِيّ إِذا بذل الْجِزْيَة عصم نَفسه وَزَوجته من الاسترقاق
أُجِيب بِأَن المُرَاد هُنَاكَ الزَّوْجَة الْمَوْجُودَة حِين العقد
فيتناولها العقد على جِهَة التّبعِيَّة وَالْمرَاد هُنَا الزَّوْجَة المتجددة بعد العقد لِأَن العقد لم يَتَنَاوَلهَا وَيجوز إرقاق عَتيق الذِّمِّيّ إِذا كَانَ حَرْبِيّا لِأَن الذِّمِّيّ لَو الْتحق بدار الْحَرْب اسْترق فعتيقه أولى لَا عَتيق مُسلم الْتحق بدار الْحَرْب
فَلَا يسترق لِأَن الْوَلَاء بعد ثُبُوته لَا يرفع وَلَا تسْتَرق زَوْجَة الْمُسلم الحربية إِذا سبيت كَمَا صَححهُ فِي الْمِنْهَاج وَأَصله وَهُوَ الْمُعْتَمد
وَإِن كَانَ مُقْتَضى كَلَام الرَّوْضَة والشرحين الْجَوَاز فَإِنَّهُمَا سويا فِي جَرَيَان الْخلاف بَينهمَا وَبَين زَوْجَة الْحَرْبِيّ إِذا أسلم لِأَن الْإِسْلَام الْأَصْلِيّ أقوى من الْإِسْلَام الطارىء وَلَو سبيت زَوْجَة حرَّة أَو زوج حر ورق انْفَسَخ النِّكَاح لحدوث الرّقّ فَإِن كَانَا رقيقين لم يَنْفَسِخ النِّكَاح إِذْ لم يحدث رق وَإِنَّمَا انْتقل الْملك من شخص إِلَى آخر وَذَلِكَ لَا يقطع النِّكَاح كَالْبيع
وَإِذا رق الْحَرْبِيّ وَعَلِيهِ دين لغير حَرْبِيّ كمسلم وذمي لم يسْقط فيفضي من مَاله إِن غنم بعد رقّه
فَإِن كَانَ لحربي على حَرْبِيّ ورق من عَلَيْهِ الدّين بل أَو رب الدّين فَيسْقط
وَلَو رق رب الدّين وَهُوَ على غير حَرْبِيّ لم يسْقط وَمَا أَخذ من أهل الْحَرْب بِلَا رضَا من عقار أَو غَيره بِسَرِقَة أَو غَيرهَا غنيمَة مخمسة إِلَّا السَّلب خمسها لأَهله وَالْبَاقِي للآخذ وَكَذَا مَا وجد كلقطة مِمَّا يظنّ أَنه لَهُم فَإِن أمكن كَونه لمُسلم وَجب تَعْرِيفه
وَيعرف سنة إِلَّا أَن يكون حَقِيرًا كَسَائِر اللقطات
(وَيحكم للصَّبِيّ) أَي للصَّغِير ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى أَو خُنْثَى (بِالْإِسْلَامِ عِنْد وجود) أحد (ثَلَاثَة أَسبَاب) أَولهَا مَا ذكره بقوله (أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ)
وَالْمَجْنُون وَإِن جن بعد بُلُوغه كالصغير بِأَن يعلق بَين كَافِرين ثمَّ يسلم أَحدهمَا قبل بُلُوغه فَإِنَّهُ يحكم بِإِسْلَامِهِ حَالا سَوَاء أسلم أَحدهمَا قبل وَضعه أم بعده قبل تَمْيِيزه وَقبل بُلُوغه لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ}
تَنْبِيه قَول المُصَنّف أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ يُوهم قصره على الْأَبَوَيْنِ
وَلَيْسَ مرَادا بل فِي معنى الْأَبَوَيْنِ الأجداد والجدات وَإِن لم يَكُونُوا وارثين وَكَانَ الْأَقْرَب حَيا
فَإِن قيل إِطْلَاق ذَلِك يَقْتَضِي إِسْلَام جَمِيع الْأَطْفَال بِإِسْلَام أَبِيهِم آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
أُجِيب بِأَن الْكَلَام فِي جد يعرف النّسَب إِلَيْهِ بِحَيْثُ يحصل بَينهمَا التَّوَارُث وَبِأَن التّبعِيَّة فِي الْيَهُودِيَّة والنصرانية حكم جَدِيد وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ(2/560)
وَالْمَجْنُون الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ كالصغير فِي تَبَعِيَّة أحد أُصُوله فِي الْإِسْلَام إِن بلغ مَجْنُونا
وَكَذَا إِن بلغ عَاقِلا ثمَّ جن فِي الْأَصَح وَإِذا حدث للْأَب ولد بعد موت الْجد مُسلما تبعه فِي أحد احْتِمَالَيْنِ رَجحه السُّبْكِيّ وَهُوَ الظَّاهِر
فَإِن بلغ الصَّغِير وَوصف كفرا بعد بُلُوغه أَو أَفَاق الْمَجْنُون وَوصف كفرا بعد إِفَاقَته فمرتد على الْأَظْهر لسبق الحكم بِإِسْلَامِهِ
فَأشبه من أسلم بِنَفسِهِ ثمَّ ارْتَدَّ وَإِن كَانَ أحد أَبَوي الصَّغِير مُسلما وَقت علوقه
فَهُوَ مُسلم بِإِجْمَاع وتغليبا لِلْإِسْلَامِ وَلَا يضر مَا يطْرَأ بعد الْعلُوق مِنْهُمَا من ردة
فَإِن بلغ وَوصف كفرا بِأَن أعرب بِهِ عَن نَفسه كَمَا فِي الْمُحَرر فمرتد قطعا لِأَنَّهُ مُسلم ظَاهرا وَبَاطنا وَثَانِيها مَا ذكره بقوله (أَو يسبيه) أَي الصَّغِير أَو الْمَجْنُون (مُسلم) وَقَوله (مُنْفَردا) حَال من ضمير الْمَفْعُول أَي حَال انْفِرَاده
(عَن أَبَوَيْهِ) فَيحكم بِإِسْلَامِهِ ظَاهرا وَبَاطنا تبعا لسابيه لِأَن لَهُ عَلَيْهِ ولَايَة وَلَيْسَ مَعَه من هُوَ أقرب إِلَيْهِ مِنْهُ فيتبعه كَالْأَبِ قَالَ الإِمَام وَكَأن السابي لما أبطل حُرِّيَّته قلبه قلبا كليا
فَعدم عَمَّا كَانَ وافتتح لَهُ وجود تَحت يَد السابي وَولَايَة فَأشبه تولده بَين الْأَبَوَيْنِ الْمُسلمين
وَسَوَاء أَكَانَ السابي بَالغا عَاقِلا أم لَا أما إِذا سبي مَعَ أحد أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يتبع السابي جزما وَمعنى كَون أحد أَبَوي الصَّغِير مَعَه أَن يَكُونَا فِي جَيش وَاحِد وغنيمة وَاحِدَة وَإِن اخْتلف سابيهما لِأَن تَبَعِيَّة الأَصْل أقوى من تَبَعِيَّة السابي فَكَانَ أولى بالاستتباع وَلَا يُؤثر موت الأَصْل بعد لِأَن التّبعِيَّة إِنَّمَا تثبت فِي ابْتِدَاء السَّبي وَخرج بِالْمُسلمِ الْكَافِر فَلَو سباه ذمِّي وَحمله إِلَى دَار الْإِسْلَام أَو مستأمن كَمَا قَالَه الدَّارمِيّ لم يحكم بِإِسْلَامِهِ فِي الْأَصَح
لِأَن كَونه من أهل دَار الْإِسْلَام لم يُؤثر فِيهِ وَلَا فِي أَوْلَاده
فَكيف يُؤثر فِي مسبيه وَلِأَن تَبَعِيَّة الدَّار إِنَّمَا تُؤثر فِي حق من لَا يعرف حَاله وَلَا نسبه
نعم هُوَ على دين سابيه كَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
ثَالِثهَا مَا ذكره بقوله (أَو يُوجد لقيطا فِي دَار الْإِسْلَام) فَيحكم بِإِسْلَامِهِ تبعا للدَّار وَمَا ألحق بهَا وَإِن اسْتَلْحقهُ كَافِر بِلَا بَيِّنَة بنسبه هَذَا إِن وجد بِمحل وَلَو بدار كفر بِهِ مُسلم يُمكن كَونه مِنْهُ وَلَو أَسِيرًا منتشرا أَو تَاجِرًا أَو مجتازا تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ
وَلِأَنَّهُ قد حكم بِإِسْلَامِهِ فَلَا يُغير بِمُجَرَّد دَعْوَى الِاسْتِلْحَاق وَلَكِن لَا يَكْفِي اجتيازه بدار كفر
بِخِلَافِهِ بِدَارِنَا لحرمتها وَلَو نَفَاهُ مُسلم
قبل فِي نفي نسبه لَا فِي نفي إسْلَامهَا اتِّفَاقًا لِأَن نطقه بِالشَّهَادَتَيْنِ إِمَّا خبر وَإِمَّا إنْشَاء فَإِن كَانَ خَبرا للْكَافِرِ لَيْسَ بِهِ مُسلم فَهُوَ كَافِر أما إِذا اسْتَلْحقهُ الْكَافِر بِبَيِّنَة أَو وجد اللَّقِيط بِمحل مَنْسُوب للْكفَّار لَيْسَ بِهِ مُسلم فَهُوَ كَافِر
تَنْبِيه اقْتِصَاره كَغَيْرِهِ على هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة يدل على عدم الحكم بِإِسْلَام الصَّغِير الْمُمَيز وَهُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص
فِي(2/561)
الْقَدِيم والجديد كَمَا قَالَه الإِمَام لِأَنَّهُ غير مُكَلّف فَأشبه غير الْمُمَيز وَالْمَجْنُون وهما لَا يَصح إسلامهما اتِّفَاقًا وَلِأَن نطقه بِالشَّهَادَتَيْنِ إِمَّا خبر وَإِمَّا إنْشَاء فَإِن كَانَ خَبرا فخبره غير مَقْبُول وَإِن كَانَ إنْشَاء فَهُوَ كعقوده وَهِي بَاطِلَة وَأما إِسْلَام سيدنَا عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقد اخْتلف فِي وقته فَقيل إِنَّه كَانَ بَالغا حِين أسلم كَمَا نَقله القَاضِي أَبُو الطّيب عَن الإِمَام أَحْمد وَقيل إِنَّه أسلم قبل بُلُوغه وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ
وَأجَاب عَنهُ الْبَيْهَقِيّ بِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا صَارَت معلقَة بِالْبُلُوغِ بعد الْهِجْرَة
قَالَ السُّبْكِيّ وَهُوَ صَحِيح لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا نيطت بِخَمْسَة عشر عَام الخَنْدَق فقد تكون منوطة قبل ذَلِك بسن التَّمْيِيز وَالْقِيَاس على الصَّلَاة
وَنَحْوهَا لَا يَصح لِأَن الْإِسْلَام لَا يتَنَفَّل بِهِ وعَلى هَذَا يُحَال بَينه وَبَين أَبَوَيْهِ الْكَافرين لِئَلَّا يفتنانه
وَهَذِه الْحَيْلُولَة مُسْتَحبَّة على الصَّحِيح فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة فيتلطف بِوَالِديهِ ليؤخذ مِنْهُمَا فَإِن أَبَيَا فَلَا حيلولة
تَتِمَّة فِي أَطْفَال الْكفَّار إِذا مَاتُوا وَلم يتلفظوا بِالْإِسْلَامِ خلاف منتشر وَالأَصَح أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة لِأَن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فحكمهم حكم الْكفَّار فِي الدُّنْيَا فَلَا يصلى عَلَيْهِم وَلَا يدفنون فِي مَقَابِر الْمُسلمين
وحكمهم حكم الْمُسلمين فِي الْآخِرَة لما مر
فصل فِي قسم الْغَنِيمَة
وَهِي لُغَة الرِّبْح وَشرعا مَال أَو مَا ألحق بِهِ كخمر مُحْتَرمَة حصل لنا من كفار أصليين حربيين مِمَّا هُوَ لَهُم بِقِتَال منا أَو إيجَاف خيل أَو ركاب وَنَحْو ذَلِك
وَلَو بعد انهزامهم فِي الْقِتَال أَو قبل شهر السِّلَاح حِين التقى الصفان وَمن الْغَنِيمَة مَا أَخذ من دَارهم سَرقَة أَو اختلاسا أَو لقطَة أَو مَا أهدوه لنا أَو صالحونا عَلَيْهِ
وَالْحَرب قَائِمَة وَخرج بِمَا ذكره مَا حصله أهل الذِّمَّة من أهل الْحَرْب بِقِتَال
فالنص أَنه لَيْسَ بغنيمة فَلَا ينْزع مِنْهُم وَمَا أَخذ من تَرِكَة الْمُرْتَد فَإِنَّهُ فَيْء لَا غنيمَة وَمَا أَخذ من ذمِّي كجزية فَإِنَّهُ فَيْء أَيْضا وَلَو أَخذنَا من الْحَرْبِيين مَا أَخَذُوهُ من مُسلم أَو ذمِّي أَو نَحوه بِغَيْر حق لم نملكه وَلَو غنم ذمِّي وَمُسلم غنيمَة فَهَل يُخَمّس الْجَمِيع أَو نصيب الْمُسلم فَقَط وَجْهَان أظهرهمَا الثَّانِي كَمَا رَجحه بعض الْمُتَأَخِّرين
وَلما كَانَ يقدم من أصل مَال الْغَنِيمَة السَّلب بَدَأَ بِهِ فَقَالَ (وَمن) أَي إِذا (قتل) الْمُسلم سَوَاء أَكَانَ حرا أم لَا ذكرا أم لَا بَالغا أم لَا فَارِسًا أم لَا (قَتِيلا أعْطى سلبه) سَوَاء أشرطه لَهُ الإِمَام أم لَا لخَبر الشَّيْخَيْنِ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه وروى أَبُو دَاوُد أَن أَبَا طَلْحَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قتل يَوْم خَيْبَر عشْرين قَتِيلا وَأخذ سلبهم
تَنْبِيه يسْتَثْنى من إِطْلَاقه الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ لَا يسْتَحق السَّلب سَوَاء أحضر بِإِذن الإِمَام أم لَا والمخذل والمرجف والخائن(2/562)
وَنَحْوهم مِمَّن لَا سهم لَهُ وَلَا رضخ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وأطلقوا اسْتِحْقَاق العَبْد الْمُسلم السَّلب وَيجب تقيده بِكَوْنِهِ لمُسلم على الْمَذْهَب
وَيشْتَرط فِي الْمَقْتُول أَن لَا يكون مَنْهِيّا عَن قَتله
فَلَو قتل صَبيا أَو امْرَأَة لم يقاتلا فَلَا سلب لَهُ فَإِن قَاتلا اسْتَحَقَّه فِي الْأَصَح
وَلَو أعرض مُسْتَحقّ السَّلب عَنهُ لم يسْقط حَقه مِنْهُ على الْأَصَح لِأَنَّهُ مُتَعَيّن لَهُ إِنَّمَا يسْتَحق الْقَاتِل السَّلب بركوب غرر يَكْفِي بِهِ شَرّ كَافِر فِي حَال الْحَرْب وكفاية شَره أَن يزِيل امْتِنَاعه كَأَن يفقأ عَيْنَيْهِ أَو يقطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَكَذَا لَو أسره أَو قطع يَدَيْهِ أَو رجلَيْهِ
وَكَذَا لَو قطع يدا ورجلا فَلَو رمي من حصن أَو من صف الْمُسلمين أَو قتل كَافِرًا نَائِما أَو أَسِيرًا أَو قَتله وَقد انهزم الْكفَّار فَلَا سلب لَهُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الْخطر والتغرير بِالنَّفسِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هَا هُنَا
وسلب ثِيَاب الْقَتِيل الَّتِي عَلَيْهِ والخف وَآلَة الْحَرْب كدرع وَسلَاح ومركوب وآلته نَحْو سرج ولجام وَكَذَا سوار ومنطقة وَخَاتم وَنَفَقَة مَعَه وَكَذَا جنيبة تقاد مَعَه
فِي الْأَظْهر لَا حقيبة وَهِي وعَاء يجمع فِيهِ الْمَتَاع وَيجْعَل على حقو الْبَعِير مشدودة على الْفرس فَلَا يَأْخُذهَا
وَلَا مَا فِيهَا من الدَّرَاهِم والأمتعة لِأَنَّهَا لَيست من لِبَاسه وَلَا من حليته وَلَا من حلية فرسه
وَلَا يُخَمّس السَّلب على الْمَشْهُور لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِهِ للْقَاتِل وَبعد السَّلب تخرج مُؤنَة الْحِفْظ وَالنَّقْل وَغَيرهمَا من الْمُؤَن اللَّازِمَة كَأُجْرَة جمال وراع
(وتقسم الْغَنِيمَة) وجوبا (بعد ذَلِك) أَي بعد إِعْطَاء السَّلب وَإِخْرَاج الْمُؤَن خَمْسَة أَخْمَاس مُتَسَاوِيَة
(فَيعْطى أَرْبَعَة أخماسها) من عقار ومنقول (لمن شهد الْوَقْعَة) بنية الْقِتَال وهم الغانمون لإِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَعَملا بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَرْض خَيْبَر سَوَاء أقَاتل من حضر بنية الْقِتَال مَعَ الْجَيْش أم لَا لِأَن الْمَقْصُود تهيؤه للْجِهَاد وحصوله هُنَاكَ
فَإِن تِلْكَ الْحَالة باعثة على الْقِتَال
وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ فِي الْغَالِب إِلَّا لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ مَعَ تكثيره سَواد الْمُسلمين
وَكَذَا من حضر لَا بنية الْقِتَال وَقَاتل فِي الْأَظْهر فَمن لم يحضر أَو حضر لَا بنية الْقِتَال وَلم يُقَاتل لم يسْتَحق شَيْئا وَيسْتَثْنى من ذَلِك مسَائِل الأولى مَا لَو بعث الإِمَام جاسوسا فغنم الْجَيْش قبل رُجُوعه فَإِنَّهُ يشاركهم فِي الْأَصَح
الثَّانِيَة لَو طلب الإِمَام بعض الْعَسْكَر ليحرس من هجوم الْعَدو وأفرد من الْجَيْش كمينا فَإِنَّهُ يُسهم لَهُم وَإِن لم يحضروا الْوَقْعَة لأَنهم فِي حكمهم ذكره الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
الثَّالِثَة لَو دخل الإِمَام أَو نَائِبه دَار الْحَرْب فَبعث سَرِيَّة فِي نَاحيَة فَغنِمت شاركها جَيش الإِمَام وَبِالْعَكْسِ لاستظهار كل مِنْهُمَا بِالْآخرِ وَلَو بعث سريتين إِلَى جِهَة اشْترك
الْجَمِيع فِيمَا تغنم كل وَاحِدَة مِنْهُمَا
وَكَذَا لَو بعثهما إِلَى جِهَتَيْنِ وَإِن تباعدتا على الْأَصَح
وَلَا شي لمن حضر بعد انْقِضَاء الْقِتَال وَلَو قبل حِيَازَة المَال
وَلَو مَاتَ بَعضهم بعد انْقِضَاء الْقِتَال وَلَو قبل حِيَازَة المَال فحقه لوَارِثه كَسَائِر الْحُقُوق
وَلَو مَاتَ فِي أثْنَاء الْقِتَال فالمنصوص أَنه لَا شَيْء لَهُ فَلَا يخلفه وَارثه فِيهِ وَنَصّ فِي موت الْفرس حِينَئِذٍ أَنه يسْتَحق سهميها وَالأَصَح تَقْرِير النَّصِيبَيْنِ لِأَن الْفَارِس متبوع
فَإِذا مَاتَ فَاتَ الأَصْل وَالْفرس تَابع فَإِذا مَاتَ جَازَ أَن يبْقى سَهْمه للمتبوع وَالْأَظْهَر أَن الْأَجِير الَّذِي وَردت الْإِجَارَة على عينه مُدَّة مُعينَة لَا لجهاده بل لسياسة دَوَاب وَحفظ أَمْتعَة وَنَحْوهَا
والتاجر(2/563)
والمحترف كالخياط والبقال يُسهم لَهُم إِذا قَاتلُوا لشهودهم الْوَقْعَة وقتالهم أما من وَردت الْإِجَارَة على ذمَّته أَو بِغَيْر مُدَّة كخياطة ثوب فَيعْطى وَإِن لم يُقَاتل وَأما الْأَجِير للْجِهَاد فَإِن كَانَ مُسلما فَلَا أُجْرَة لَهُ لبُطْلَان إِجَارَته لِأَنَّهُ بِحُضُور الصَّفّ تعين عَلَيْهِ وَلم يسْتَحق السهْم فِي أحد وَجْهَيْن قطع بِهِ الْبَغَوِيّ وَاقْتضى كَلَام الرَّافِعِيّ تَرْجِيحه لإعراضه عَنهُ بِالْإِجَارَة وَلم يحضر مُجَاهدًا وَيدْفَع
(للفارس ثَلَاثَة أسْهم) لَهُ سهم ولفرسه سَهْمَان لِلِاتِّبَاعِ فيهمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمن حضر بفرس يركبه يُسهم لَهُ وَإِن لم يُقَاتل عَلَيْهِ
إِذا كَانَ يُمكنهُ ركُوبه لَا إِن حضر وَلم يعلم بِهِ فَلَا يُسهم لَهُ وَلَا يعْطى إِلَّا لفرس وَاحِد
وَإِن كَانَ مَعَه أَكثر مِنْهَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُعْط الزبير إِلَّا لفرس وَاحِد
وَكَانَ مَعَه يَوْم خَيْبَر أَفْرَاس عَرَبيا كَانَ الْفرس أَو غَيره كالبرذون وَهُوَ مَا أَبَوَاهُ عجميان والهجين وَهُوَ مَا أَبوهُ عَرَبِيّ دون أمه
والمقرف بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَكسر الرَّاء عَكسه لِأَن الْكر والفر يحصل من كل مِنْهُمَا وَلَا يضر تفاوتهما كالرجال
وَلَا يعْطى لفرس أعجف أَي مهزول بَين الهزال وَلَا مَا لَا نفع فِيهِ كالهرم وَالْكَبِير لعدم فَائِدَته
وَلَا لبعير وَغَيره كالفيل والبغل وَالْحمار لِأَنَّهَا لَا تصلح للحرب صَلَاحِية الْخَيل لَهُ وَلَكِن يرْضخ لَهَا ويتفاوت بَينهَا بِحَسب النَّفْع
(و) يدْفع (للراجل سهم) وَاحِد لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك يَوْم خَيْبَر مُتَّفق عَلَيْهِ وَلَا يرد إِعْطَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي وقْعَة سَهْمَيْنِ كَمَا صَحَّ فِي مُسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مِنْهُ خُصُوصِيَّة اقْتَضَت ذَلِك
(وَلَا يُسهم) من الْغَنِيمَة (إِلَّا لمن استكملت فِيهِ خمس) بل سِتّ (شَرَائِط الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة)
وَالصِّحَّة (فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك)
أَي مِمَّا ذكر كالكافر وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون وَالرَّقِيق وَالْمَرْأَة وَالْخُنْثَى والزمن (رضخ لَهُ وَلم يُسهم) لوَاحِد مِنْهُم لأَنهم لَيْسُوا من أهل فرض الْجِهَاد
والرضخ بالضاد وَالْخَاء المعجمتين لُغَة الْعَطاء الْقَلِيل وَشرعا اسْم لما دون السهْم ويجتهد الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش فِي قدره لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ تَحْدِيد
فَيرجع إِلَى رَأْيه ويتفاوت على قدر نفع المرضخ لَهُ فَيرجع الْمقَاتل وَمن قِتَاله أَكثر على غَيره والفارس على الراجل وَالْمَرْأَة الَّتِي تداوي الْجَرْحى وتسقي العطاشى على الَّتِي تحفظ الرِّجَال بِخِلَاف سهم الْغَنِيمَة فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمقَاتل وَغَيره لِأَنَّهُ مَنْصُوص عَلَيْهِ
والرضخ بِالِاجْتِهَادِ لَكِن لَا يبلغ بِهِ سهم راجل وَلَو كَانَ الرضخ لفارس لِأَنَّهُ تبع للسهام فينقص بِهِ من قدرهَا كالحكومة مَعَ الأروش الْمقدرَة وَمحل الرضخ الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ سهم من الْغَنِيمَة يسْتَحق بِحُضُور الْوَقْعَة إِلَّا أَنه نَاقص وَإِنَّمَا يرْضخ لذِمِّيّ وَمَا ألحق بِهِ من الْكفَّار حضر بِلَا أُجْرَة وَكَانَ حُضُوره بِإِذن الإِمَام أَو أَمِير الْجَيْش وَبلا إِكْرَاه مِنْهُ
وَلَا أثر لإذن الْآحَاد فَإِن حضر بِأُجْرَة فَلهُ الْأُجْرَة وَلَا شَيْء لَهُ سواهَا وَإِن حضر بِلَا إِذن الإِمَام أَو الْأَمِير فَلَا رضخ لَهُ بل يعزره الإِمَام إِن رَآهُ وَإِن أكرهه الإِمَام على الْخُرُوج اسْتحق أُجْرَة مثله من غير سهم وَلَا رضخ لاستهلاك عمله عَلَيْهِ كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(وَيقسم الْخمس) الْخَامِس بعد ذَلِك (على خَمْسَة أسْهم) فالقسمة من خَمْسَة وَعشْرين لقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه} الْآيَة
الأول (سهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِلْآيَةِ وَلَا يسْقط بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل (يصرف بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/564)
للْمصَالح) أَي لمصَالح الْمُسلمين فَلَا يصرف مِنْهُ لكَافِر فَمن الْمصَالح سد الثغور وشحنها بِالْعدَدِ والمقاتلة وَهِي مَوَاضِع الْخَوْف من أَطْرَاف بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي تَلِيهَا بِلَاد الْمُشْركين فيخاف أَهلهَا مِنْهُم
وَعمارَة الْمَسَاجِد والقناطر والحصون وأرزاق الْقُضَاة وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء بعلوم تتَعَلَّق بمصالح الْمُسلمين كتفسير وَحَدِيث وَفقه ومعلمي الْقُرْآن والمؤذنين لِأَن بالثغور حفظ الْمُسلمين وَلِئَلَّا يتعطل من ذكر بالاكتساب عَن الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الْعُلُوم وَعَن تَنْفِيذ الْأَحْكَام وَعَن التَّعْلِيم والتعلم فيرزقون مَا يكفيهم ليتفرغوا لذَلِك
قَالَ الزَّرْكَشِيّ نقلا عَن الْغَزالِيّ يعْطى الْعلمَاء والقضاة مَعَ الْغَنِيّ وَقدر الْمُعْطى إِلَى رَأْي الإِمَام بِالْمَصْلَحَةِ وَيخْتَلف بِضيق المَال وسعته
وَقَالَ الْغَزالِيّ وَيُعْطى أَيْضا من ذَلِك الْعَاجِز عَن الْكسْب لَا مَعَ الْغَنِيّ وَالْمرَاد بالقضاة غير قُضَاة الْعَسْكَر أما قُضَاة الْعَسْكَر وهم الَّذين يحكمون لأهل الْفَيْء فِي مغزاهم فيرزقون من الْأَخْمَاس الْأَرْبَعَة لَا من خمس الْخمس
كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا أئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم
يقدم الأهم فالأهم مِنْهَا وجوبا وأهمها
كَمَا قَالَه فِي التَّنْبِيه سد الثغور لِأَن فِيهِ حفظا للْمُسلمين
تَنْبِيه قَالَ فِي الْإِحْيَاء لَو لم يدْفع الإِمَام إِلَى الْمُسْتَحقّين حُقُوقهم من بَيت المَال فَهَل يجوز لأحد أَخذ شَيْء من بَيت المَال وَفِيه أَرْبَعَة مَذَاهِب أَحدهَا لَا يجوز أَخذ شَيْء أصلا لِأَنَّهُ مُشْتَرك وَلَا يدْرِي قدر حِصَّته مِنْهُ
قَالَ وَهَذَا غلُول
وَالثَّانِي يَأْخُذ كل يَوْم قوت يَوْم
وَالثَّالِث يَأْخُذ كِفَايَة سنة
وَالرَّابِع يَأْخُذ مَا يعْطى وَهُوَ قدر حِصَّته
قَالَ وَهَذَا هُوَ الْقيَاس لِأَن المَال لَيْسَ مُشْتَركا بَين الْمُسلمين كالغنيمة بَين الْغَانِمين وَالْمِيرَاث بَين الْوَارِثين لِأَن ذَلِك ملك لَهُم حَتَّى لَو مَاتُوا تقسم بَين ورثتهم وَهَذَا لَو مَاتَ لم يسْتَحق وَارثه شَيْئا انْتهى
وَأقرهُ فِي الْمَجْمُوع على هَذَا الرَّابِع وَهُوَ الظَّاهِر
(و) الثَّانِي (سهم لِذَوي الْقُرْبَى) لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة (وهم) آله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب) وَمِنْهُم إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ دون بني عبد شمس وَبني نَوْفَل وَإِن كَانَ الْأَرْبَعَة أَوْلَاد عبد منَاف لاقتصاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقسم على بني الْأَوَّلين مَعَ سُؤال بني الآخرين لَهُ رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَلِأَنَّهُم لم يفارقوه فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا الْإِسْلَام حَتَّى إِنَّه لما بعث صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرسالة نصروه وذبوا عَنهُ بِخِلَاف بني الآخرين بل كَانُوا يؤذونه وَالثَّلَاثَة الأول أشقاء وَنَوْفَل أخوهم لأبيهم وَعبد شمس جد عُثْمَان بن عَفَّان وَالْعبْرَة بالانتساب إِلَى الْآبَاء أما من انتسب مِنْهُم إِلَى الْأُمَّهَات فَلَا
ويشترك فِي هَذَا الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَالنِّسَاء ويفضل الذّكر كَالْإِرْثِ
وَحكى(2/565)
الإِمَام فِيهِ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
(و) الثَّالِث (سهم لِلْيَتَامَى) لِلْآيَةِ جمع يَتِيم وَهُوَ صَغِير ذكر أَو خُنْثَى أَو أُنْثَى لَا أَب لَهُ أما كَونه صَغِيرا فلخبر لَا يتم بعد احْتِلَام وَأما كَونه لَا أَب لَهُ فللوضع وَالْعرْف سَوَاء أَكَانَ من أَوْلَاد المرتزقة أم لَا قتل أَبوهُ فِي الْجِهَاد أم لَا لَهُ جد أم لَا
تَنْبِيه كَانَ الأولى للْمُصَنف أَن يُقيد الْيَتِيم بِالْمُسلمِ لِأَن أَيْتَام الْكفَّار لَا يُعْطون من سهم الْيَتَامَى شَيْئا لِأَنَّهُ مَال أَخذ من الْكفَّار فَلَا يرجع إِلَيْهِم
وَكَذَا يشْتَرط الْإِسْلَام فِي ذَوي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل لذَلِك ويندرج فِي تفسيرهم الْيَتِيم ولد الزِّنَا واللقيط والمنفي بِلعان وَلَا يسمون أيتاما لِأَن ولد الزِّنَا لَا أَب لَهُ شرعا فَلَا يُوصف باليتيم
واللقيط قد يظْهر أَبوهُ والمنفي بِاللّعانِ قد يستلحقه نافيه وَلَكِن الْقيَاس أَنهم يُعْطون من سهم الْيَتَامَى
فَائِدَة يُقَال لمن فقد أمه دون أَبِيه مُنْقَطع
واليتيم فِي الْبَهَائِم من فقد أمه وَفِي الطير من فقد أَبَاهُ وَأمه وَيشْتَرط فِي إِعْطَاء الْيَتِيم لَا فِي تَسْمِيَته يَتِيما فقره أَو مسكنته لإشعار لفظ الْيَتِيم بذلك وَلِأَن اغتناءه بِمَال أَبِيه
إِذا منع اسْتِحْقَاقه فاغتناؤه بِمَالِه أولى بِمَنْعه (و) الرَّابِع (سهم للْمَسَاكِين) لِلْآيَةِ
وَيدخل فِي هَذَا الِاسْم هُنَا الْفُقَرَاء كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
(و) الْخَامِس (سهم لِابْنِ السَّبِيل) أَي الطَّرِيق لِلْآيَةِ وَابْن السَّبِيل منشىء سفر مُبَاح من مَحل الزَّكَاة كَمَا فِي قسم الصَّدقَات أَو مجتاز بِهِ فِي سفر وَاحِدًا كَانَ أَو أَكثر ذكرا أَو غَيره سمي بذلك لملازمته السَّبِيل وَهِي الطَّرِيق وَشرط فِي إِعْطَائِهِ لَا فِي تَسْمِيَته الْحَاجة بِأَن لَا يجد مَا يَكْفِيهِ غير الصَّدَقَة وَإِن كَانَ لَهُ مَال فِي مَكَان آخر أَو كَانَ كسوبا أَو كَانَ سَفَره لنزهة
لعُمُوم الْآيَة
تَتِمَّة يجوز للْإِمَام أَن يجمع للْمَسَاكِين بَين سهمهم من الزَّكَاة وسهمهم من الْخمس وحقهم من الْكَفَّارَات فَيصير لَهُم ثَلَاثَة أَمْوَال قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا وجد فِي وَاحِد مِنْهُم يتم ومسكنة أعْطى باليتم دون المسكنة لِأَن الْيُتْم وصف لَازم والمسكنة زائلة وَاعْترض بِأَن الْيُتْم لَا بُد فِيهِ من فقر أَو مسكنة
وَقَضِيَّة كَلَام الْمَاوَرْدِيّ أَنه إِذا كَانَ الْغَازِي من ذَوي الْقُرْبَى لَا يَأْخُذ بالغزو بل بِالْقَرَابَةِ فَقَط
لَكِن ذكر الرَّافِعِيّ فِي قسم الصَّدقَات أَنه يَأْخُذ بهما
وَاقْتضى كَلَامه أَنه لَا خلاف فِيهِ وَهُوَ ظَاهر
وَالْفرق بَين الْغَزْو والمسكنة أَن الْأَخْذ بالغزو لحاجتنا بالمسكنة لحَاجَة صَاحبهَا
وَمن فقد من الْأَصْنَاف أعْطى الْبَاقُونَ نصِيبه كَمَا فِي الزَّكَاة إِلَّا سهم رَسُول(2/566)
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ للْمصَالح كَمَا مر وَيصدق مدعي المسكنة والفقر بِلَا بَيِّنَة وَإِن اتهمَ وَلَا يصدق مدعي الْيُتْم وَلَا مدعي الْقَرَابَة إِلَّا بِبَيِّنَة
فصل فِي قسم الْفَيْء
وَهُوَ مَال أَو نَحوه
ككلب ينْتَفع بِهِ حصل لنا من كفار مِمَّا هُوَ لَهُم بِلَا قتال
وَبلا إيجَاف أَي إسراع خيل وَلَا سير ركاب أَي إبل وَنَحْوهَا
كبغال وحمير وسفن ورجالة فَخرج بلنا مَا حصله أهل الذِّمَّة من أهل الْحَرْب
فَإِنَّهُ لَا ينْزع مِنْهُم وَمِمَّا هُوَ لَهُم مَا أَخَذُوهُ من مُسلم أَو ذمِّي أَو نَحوه بِغَيْر حق
فإننا لم نملكه بل نرده على مَالِكه إِن عرف وَإِلَّا فيحفظ وَمن الْفَيْء الْجِزْيَة وَعشر تِجَارَة من كفار شرطت عَلَيْهِم إِذا دخلُوا دَارنَا وخراج ضرب عَلَيْهِم على اسْم الْجِزْيَة وَمَا جلوا أَي تفَرقُوا عَنهُ وَلَو لغير خوف كضر أَصَابَهُم وَمن قتل أَو مَاتَ على الرِّدَّة أَو ذمِّي أَو نَحوه مَاتَ بِلَا وَارِث أَو ترك وَارِثا غير جَائِز ثمَّ شرع فِي قسمته بقوله (وَيقسم مَال الْفَيْء)
وَمَا ألحق بِهِ من الاختصاصات (على خمس)
لقَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى} الْآيَة (يصرف خمسه) وجوبا (على من يصرف عَلَيْهِم خمس الْغَنِيمَة) فيخمس جَمِيعه خَمْسَة أَخْمَاس مُتَسَاوِيَة كالغنيمة خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة
حَيْثُ قَالُوا لَا يُخَمّس بل جَمِيعه لمصَالح الْمُسلمين وَدَلِيلنَا قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} الْآيَة فَأطلق هَا هُنَا وَقيد فِي الْغَنِيمَة فَحمل الْمُطلق على الْمُقَيد جمعهَا بَينهمَا لِاتِّحَاد الحكم فَإِن الحكم وَاحِد وَهُوَ رُجُوع المَال من الْمُشْركين للْمُسلمين وَإِن اخْتلف السَّبَب بِالْقِتَالِ وَعَدَمه
كَمَا حملنَا الرَّقَبَة فِي الظِّهَار على المؤمنة فِي كَفَّارَة الْقَتْل وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم لَهُ أَرْبَعَة أخماسه وَخمْس خمسه
وَلكُل من الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورين مَعَه فِي الْآيَة خمس الْخمس كَمَا مر فِي الْفَصْل قبله
وَأما بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيصْرف مَا كَانَ لَهُ من خمس الْخمس لمصالحنا كَمَا مر أَيْضا فِي الْفَصْل قبله
(وَيُعْطى أَرْبَعَة أخماسها) الَّتِي كَانَت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته (للمقاتلة) أَي المرتزقة لعمل الْأَوَّلين بِهِ
لِأَنَّهَا كَانَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحُصُول النُّصْرَة بِهِ(2/567)
والمقاتلون بعده هم المرصدون لِلْقِتَالِ
(فِي مصَالح الْمُسلمين) بِتَعْيِين الإِمَام لَهُم سموا مرتزقة لأَنهم أرصدوا أنفسهم للذب عَن الدّين وطلبوا الرزق من مَال الله
وَخرج بهم المتطوعة وهم الَّذين يغزون إِذا نشطوا وَإِنَّمَا يُعْطون من الزَّكَاة لَا من الْفَيْء عكس المرتزقة
تَتِمَّة يجب على الإِمَام أَن يبْحَث عَن حَال كل وَاحِد من المرتزقة وَعَمن تلْزمهُ نَفَقَتهم من أَوْلَاد وزوجات ورقيق لحَاجَة غَزْو أَو لخدمة إِن اعتادها لَا رَقِيق زِينَة وتجارة وَمَا يكفيهم فيعطيه كِفَايَته وكفايتهم من نَفَقَة وَكِسْوَة وَسَائِر الْمُؤَن بِقدر الْحَاجة ليتفرغ للْجِهَاد ويراعي فِي الْحَاجة حَاله فِي مروءته وضدها وَالْمَكَان وَالزَّمَان والرخص والغلاء وَعَادَة الْبَلَد فِي المطاعم والملابس وَيُزَاد إِن زَادَت حَاجته بِزِيَادَة ولد أَو حُدُوث زَوْجَة وَمن لَا رَقِيق لَهُ يعْطى من الرَّقِيق مَا يَحْتَاجهُ لِلْقِتَالِ مَعَه أَو لخدمته إِذا كَانَ مِمَّن يخْدم وتعطى زَوجته وَأَوْلَاده الَّذين تلْزمهُ نَفَقَتهم فِي حَيَاته إِذا مَاتَ بعد أَخذ نصِيبه لِئَلَّا يشْتَغل النَّاس بِالْكَسْبِ عَن الْجِهَاد إِذا علمُوا ضيَاع عِيَالهمْ بعدهمْ فتعطى الزَّوْجَة حَتَّى تنْكح لاستغنائها بِالزَّوْجِ وَلَو استغنت بكسب أَو إِرْث أَو نَحوه
كوصية لم تعط وَحكم أم الْوَلَد كَالزَّوْجَةِ وَكَذَا الزَّوْجَات وَيُعْطى الْأَوْلَاد حَتَّى يستقلوا بكسب أَو نَحوه
كوصية واستنبط السُّبْكِيّ رَحمَه الله تَعَالَى من هَذِه الْمَسْأَلَة أَن الْفَقِيه أَو المعيد أَو الْمدرس إِذا مَاتَ تُعْطى زَوجته وَأَوْلَاده مِمَّا كَانَ يَأْخُذ مَا يقوم بهم ترغيبا فِي الْعلم كالترغيب هُنَا فِي الْجِهَاد اه
وَفرق بَعضهم بَينهمَا بِأَن الْإِعْطَاء من الْأَمْوَال الْعَامَّة وَهِي أَمْوَال الْمصَالح أقوى من الْخَاصَّة كالأوقاف فَلَا يلْزم من التَّوَسُّع فِي تِلْكَ التَّوَسُّع فِي هَذِه لِأَنَّهُ مَال معِين أخرجه شخص لتَحْصِيل مصلحَة نشر الْعلم فِي هَذَا الْمحل الْمَخْصُوص فَكيف يصرف مَعَ انْتِفَاء الشَّرْط وَمُقْتَضى هَذَا الْفرق الصّرْف لأَوْلَاد الْعَالم من مَال الْمصَالح كفايتهم كَمَا كَانَ يصرف لأبيهم وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
فصل فِي الْجِزْيَة تطلق
على العقد وعَلى المَال الْمُلْتَزم بِهِ وَهِي مَأْخُوذَة من المجازاة لكفنا عَنْهُم
وَقيل من الْجَزَاء بِمَعْنى الْقَضَاء قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} أَي لَا تقضى
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَة {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} وَقد أَخذهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مجوس هجر
وَقَالَ سنوا بهم سنة أهل الْكتاب كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمن أهل نَجْرَان كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن فِي أَخذهَا مَعُونَة لنا وإهانة لَهُم وَرُبمَا يحملهم ذَلِك على الْإِسْلَام
وَفسّر إِعْطَاء الْجِزْيَة فِي الْآيَة بالتزامها وَالصغَار بِالْتِزَام أحكامنا
وأركانها خَمْسَة عَاقد ومعقود لَهُ وَمَكَان وَمَال وَصِيغَة
وَشرط فِي الصِّيغَة وَهِي الرُّكْن الأول مَا مر فِي شَرطهَا فِي البيع والصيغة إِيجَابا كأقررتكم أَو أَذِنت فِي إقامتكم بِدَارِنَا مثلا على أَن تلتزموا كَذَا جِزْيَة
وتنقادوا لحكمنا وقبولا نَحْو قبلنَا ورضينا وَشرط فِي الْعَاقِد كَونه إِمَامًا يعْقد بِنَفسِهِ أَو بنائبه
ثمَّ شرع المُصَنّف فِي شُرُوط الْمَعْقُود لَهُ وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي بقوله (وشرائط وجوب) ضرب (الْجِزْيَة) على الْكفَّار الْمَعْقُود(2/568)
لَهُم (خمس خِصَال) الأولى (الب و) الثَّانِيَة (الْعقل) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا من وليهما لعدم تكليفهما وَلَا جِزْيَة عَلَيْهِمَا
وَإِن كَانَ الْمَجْنُون بَالغا وَلَو بعد عقد الْجِزْيَة إِن أطبق جُنُونه
فَإِن تقطع وَكَانَ قَلِيلا كساعة من شهر لَزِمته وَلَا عِبْرَة بِهَذَا الزَّمن الْيَسِير وَكَذَا لَا أثر ليسير زمن الْإِفَاقَة كَمَا بَحثه بَعضهم
وَإِن كَانَ كثيرا كَيَوْم وَيَوْم فَالْأَصَحّ تلفيق زمن الْإِفَاقَة فَإِذا بلغ سنة وَجَبت جزيتهَا (و) الثَّالِثَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ الرَّقِيق وَلَو مبعضا وَلَا جِزْيَة على متمحض الرّقّ إِجْمَاعًا وَلَا على الْمبعض على الْمَذْهَب
(و) الرَّابِعَة (الذكورية) فَلَا يَصح عقدهَا مَعَ امْرَأَة وَلَا جِزْيَة عَلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} إِلَى قَوْله {وهم صاغرون} وَهُوَ خطاب للذكور وَحكى ابْن الْمُنْذر فِيهِ الْإِجْمَاع وروى الْبَيْهَقِيّ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن لَا تَأْخُذُوا الْجِزْيَة من النِّسَاء وَالصبيان وَلَا من خُنْثَى وَلَا جِزْيَة عَلَيْهِ لاحْتِمَال كَونه أُنْثَى فَإِن بَانَتْ ذكورته وَقد عقدت لَهُ الْجِزْيَة طالبناه بجزية الْمدَّة الْمَاضِيَة عملا بِمَا فِي نفس الْأَمر بِخِلَاف مَا لَو دخل حَرْبِيّ دَارنَا وَبَقِي مُدَّة ثمَّ اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ لَا نَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا لما مضى لعدم عقد الْجِزْيَة لَهُ وَالْخُنْثَى كَذَلِك إِذا بَانَتْ ذكورته وَلم تعقد لَهُ الْجِزْيَة وعَلى هَذَا التَّفْصِيل يحمل إِطْلَاق من صحّح الْأَخْذ مِنْهُ وَمن صحّح عَدمه
(و) الْخَامِسَة (أَن يكون) الْمَعْقُود مَعَه (من أهل الْكتاب) كاليهودي وَالنَّصْرَانِيّ من الْعَرَب والعجم الَّذين لم يعلم دُخُولهمْ فِي ذَلِك الدّين بعد نسخه لأصل أهل الْكتاب وَقد قَالَ تَعَالَى {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ} إِلَى أَن قَالَ {الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة}
(أَو مِمَّن لَهُ شُبْهَة كتاب) كالمجوس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذهَا مِنْهُم وَقَالَ سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وَلِأَن لَهُم شُبْهَة كتاب وَكَذَا تعقد لأَوْلَاد من تهود أَو تنصر قبل النّسخ لدينِهِ وَلَو بعد التبديل
وَإِن لم يجتنبوا الْمُبدل مِنْهُ تَغْلِيبًا لحقن الدَّم وَلَا تحل ذبيحتهم وَلَا مناكحتهم لِأَن الأَصْل فِي الميتات والأبضاع التَّحْرِيم وتقعد أَيْضا لمن شككنا فِي وَقت تهوده أَو تنصره
فَلم نَعْرِف أدخلُوا فِي ذَلِك الدّين قبل النّسخ أَو بعده تَغْلِيبًا لحقن الدَّم كالمجوس وَبِذَلِك حكمت الصَّحَابَة فِي نَصَارَى الْعَرَب وَأما الصابئة والسامرة فتعقد لَهُم الْجِزْيَة إِن لم تكفرهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلم يخالفوهم فِي أصُول دينهم وَإِلَّا فَلَا تعقد لَهُم وَكَذَا تعقد لَهُم لَو أشكل أَمرهم وتعقد لزاعم التَّمَسُّك بصحف إِبْرَاهِيم وصحف شِيث وَهُوَ ابْن آدم لصلبه
وزبور دَاوُد لِأَن الله تَعَالَى أنزل عَلَيْهِم صحفا فَقَالَ {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} وَقَالَ {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين}
وَتسَمى كتبا كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فاندرجت فِي قَوْله تَعَالَى {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} وَمن أحد أَبَوَيْهِ كتابي وَالْآخر وَثني تَغْلِيبًا لحقن الدَّم وَتحرم ذَبِيحَته ومناكحته احْتِيَاطًا(2/569)
وَأما من لَيْسَ لَهُم كتاب وَلَا شُبْهَة كتاب كعبدة الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْمَلَائِكَة وَمن فِي معناهم كمن يَقُول إِن الْفلك حَيّ نَاطِق وَإِن الْكَوَاكِب السَّبْعَة آلِهَة فَلَا يقرونَ بالجزية وَلَو بلغ ابْن ذمِّي وَلم يُعْط الْجِزْيَة ألحق بمأمنه
وَإِن بذلها عقدت لَهُ وَالْمذهب وُجُوبهَا على زمن وَشَيخ وهرم وأعمى وراهب وأجير لِأَنَّهَا كَأُجْرَة الدَّار وعَلى فَقير عجز عَن كسب فَإِذا تمت سنة وَهُوَ مُعسر فَفِي ذمَّته حَتَّى يوسر وَكَذَا حكم السّنة الثَّانِيَة وَمَا بعْدهَا
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ المَال بقوله (وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار فِي كل حول) عَن كل وَاحِد لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن معَاذ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما وَجهه إِلَى الْيمن أمره أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله من المعافر وَهِي ثِيَاب تكون بِالْيمن
تَنْبِيه ظَاهر الْخَبَر أَن أقلهَا دِينَار أَو مَا قِيمَته دِينَار وَبِه أَخذ البُلْقِينِيّ وَالْمَنْصُوص الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَاب كَمَا هُوَ ظَاهر عبارَة المُصَنّف أَن أقلهَا دِينَار وَعَلِيهِ إِذا عقدهَا بِهِ جَازَ أَن يعتاض عَنهُ مَا قِيمَته دِينَار وَإِنَّمَا امْتنع عقدهَا بِمَا قِيمَته دِينَار لِأَن قِيمَته قد تنقص عَنهُ آخر الْمدَّة وَمحل كَون أقلهَا دِينَارا عِنْد قوتنا
وَإِلَّا فقد نقل الدَّارمِيّ عَن الْمَذْهَب أَنه يجوز عقدهَا بِأَقَلّ من دِينَار
نَقله الْأَذْرَعِيّ وَقَالَ إِنَّه ظَاهر مُتَّجه وَقَضِيَّة كَلَام المُصَنّف تعلق الْوُجُوب بِانْقِضَاء الْحول
وَقَالَ الْقفال اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي أَن الْجِزْيَة تجب بِالْعقدِ وتستقر بِانْقِضَاء الْحول أَو تجب بانقضائه وَبنى عَلَيْهِمَا إِذا مَاتَ فِي أثْنَاء الْحول هَل تسْقط فَإِن قُلْنَا بِالْعقدِ لم تسْقط وَإِلَّا سَقَطت حَكَاهُ القَاضِي حُسَيْن فِي الْأَسْرَار وَلَا حد لأكْثر الْجِزْيَة وَينْدب للْإِمَام مماكسة الْكَافِر الْعَاقِد لنَفسِهِ أَو لمُوكلِه فِي قدر الْجِزْيَة حَتَّى تزيد على دِينَار (و) على هَذَا (يُؤْخَذ من الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ وَمن الْمُوسر أَرْبَعَة دَنَانِير) وَمن الْفَقِير دِينَارا (اسْتِحْبَابا) اقْتِدَاء بعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ(2/570)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
وَلِأَن الإِمَام متصرف للْمُسلمين فَيَنْبَغِي أَن يحْتَاط لَهُم فَإِن أمكنه أَن يعْقد بِأَكْثَرَ مِنْهُ لم يجز أَن يعْقد بِدُونِهِ إِلَّا لمصْلحَة
تَنْبِيه هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ابْتِدَاء العقد فَأَما إِذا انْعَقَد العقد على شَيْء فَلَا يجوز أَخذ شَيْء زَائِد عَلَيْهِ
كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي سير الْوَاقِدِيّ وَنَقله الزَّرْكَشِيّ عَن نَص الْأُم وَلَو عقدت الْجِزْيَة للْكفَّار بِأَكْثَرَ من دِينَار ثمَّ علمُوا بعد العقد جَوَاز دِينَار لَزِمَهُم مَا التزموه كمن اشْترى شَيْئا بِأَكْثَرَ من ثمن مثله
ثمَّ علم الْغبن فَإِن أَبَوا بذل الزِّيَادَة بعد العقد كَانُوا ناقضين للْعهد
كَمَا لَو امْتَنعُوا من أَدَاء أصل الْجِزْيَة
وَلَو أسلم ذمِّي أَو نبذ الْعَهْد أَو مَاتَ بعد سِنِين وَله وَارِث مُسْتَغْرق أخذت جزيتهن مِنْهُ فِي الأولتين وَمِنْه تركته فِي الثَّالِثَة مُقَدّمَة على حق الْوَرَثَة كالخراج وَسَائِر الدُّيُون
أما إِذا لم يخلف وَارِثا فتركته فَيْء أَو أسلم أَو نبذ الْعَهْد أَو مَاتَ فِي خلال سنة
فقسط لما مضى كالأجرة
(وَيجوز) كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام الْجُمْهُور وَالرَّاجِح كَمَا فِي الْمِنْهَاج أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام (أَن يشْتَرط) بِنَفسِهِ أَو بنائبه (عَلَيْهِم) أَي على غير فَقير من غَنِي أَو متوسط فِي العقد برضاهم (الضِّيَافَة) أَي ضِيَافَة من يمر بهم منا بِخِلَاف الْفَقِير فَإِنَّهَا تَتَكَرَّر فَلَا تتيسر لَهُ (فضلا) أَي فَاضلا (عَن مِقْدَار الْجِزْيَة) لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على الْإِبَاحَة والجزية على التَّمْلِيك وَيجْعَل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام فَأَقل
وَيذكر عدد ضيفان رجلا وخيلا لِأَنَّهُ أنفى للغرر وأقطع للنزاع بِأَن يشْتَرط ذَلِك على كل مِنْهُم أَو على الْمَجْمُوع كَأَن يَقُول وتضيفون فِي كل سنة ألف مُسلم وهم يتوزعون فِيمَا بَينهم أَو يتَحَمَّل بَعضهم عَن بعض وَيذكر منزلهم ككنيسة أَو فَاضل مسكن وجنس طَعَام وأدم وقدرهم لكل منا وَيذكر الْعلف للدواب وَلَا يشْتَرط ذكر جنسه وَلَا قدره وَيحمل على تبن وَنَحْوه
بِحَسب الْعَادة إِلَّا الشّعير وَنَحْوه كالفول إِن ذكره فيقدره وَلَو كَانَ لوَاحِد دَوَاب وَلم يعين عددا مِنْهَا لم يعلف لَهُ إِلَّا وَاحِدَة على النَّص
وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا روى الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَالح أهل أَيْلَة على ثَلَاثمِائَة دِينَار وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة رجل وعَلى ضِيَافَة من يمر بهم من الْمُسلمين وروى الشَّيْخَانِ خبر الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَليكن الْمنزل بِحَيْثُ يدْفع الْحر وَالْبرد
والركن الرَّابِع الْعَاقِد وَشرط فِيهِ كَونه إِمَامًا فيعقد بِنَفسِهِ أَو بنائبه
فَلَا يَصح عقدهَا من غَيره لِأَنَّهَا من الْأُمُور الْكُلية فتحتاج إِلَى نظر واجتهاد
لَكِن لَا يغتال الْمَعْقُود لَهُ بل يبلغ مأمنه وَعَلِيهِ إجابتهم إِذا طلبُوا وَأمن إِذا لم يخف غائلتهم ومكيدتهم(2/571)
فَإِن خَافَ ذَلِك كَأَن يكون الطَّالِب جاسوسا يخَاف شرهم لم يجبهم
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر مُسلم عَن بُرَيْدَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو سَرِيَّة أوصاه إِلَى أَن قَالَ فَإِن هم أَبَوا فاسألهم الْجِزْيَة فَإِن هم أجابوا فاقبل مِنْهُم وكف عَنْهُم وَيسْتَثْنى الْأَسير إِذا طلب عقدهَا فَلَا يجب تَقْرِيره بهَا
والركن الْخَامِس الْمَكَان وَيشْتَرط فِيهِ قبُوله للتقرير فِيهِ فَيمْنَع كَافِر وَلَو ذِمِّيا إِقَامَة بالحجاز وَهُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة وطرق الثَّلَاثَة وقراها
كالطائف لمَكَّة وخيبر للمدينة فَلَو دخله بِغَيْر إِذن الإِمَام أخرجه مِنْهُ وعزره إِن كَانَ عَالما بِالتَّحْرِيمِ وَلَا يَأْذَن لَهُ فِي دُخُولهَا الْحجاز غير حرم مَكَّة إِلَّا لمصْلحَة لنا كرسالة وتجارة فِيهَا كَبِير حَاجَة فَإِن لم يكن فِيهَا كَبِير حَاجَة لم يَأْذَن لَهُ إِلَّا بِشَرْط أَخذ شَيْء من متاعها كالعشر وَلَا يُقيم فِيهِ بعد الْإِذْن لَهُ إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام فَلَو أَقَامَ فِي مَوضِع ثَلَاثَة أَيَّام
ثمَّ انْتقل إِلَى آخر أَي وَبَينهمَا مَسَافَة الْقصر وَهَكَذَا فَلَا منع فَإِن مرض فِيهِ وشق نَقله مِنْهُ أَو خيف مِنْهُ مَوته ترك مُرَاعَاة لأعظم الضررين فَإِن مَاتَ فِيهِ وشق نَقله مِنْهُ دفن فِيهِ للضَّرُورَة نعم الْحَرْبِيّ لَا يجب دَفنه وَلَا يدْخل حرم مَكَّة وَلَو لمصْلحَة لقَوْله تَعَالَى {فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام} وَالْمرَاد جَمِيع الْحرم لقَوْله تَعَالَى {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} أَي فقرا بمنعهم من الْحرم
وَانْقِطَاع مَا كَانَ لكم بقدومهم من المكاسب {فَسَوف يغنيكم الله من فَضله} وَمَعْلُوم أَن الجلب إِنَّمَا يجلب إِلَى الْبَلَد لَا إِلَى الْمَسْجِد نَفسه
وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَنهم أخرجُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فعوقبوا بِالْمَنْعِ من دُخُوله بِكُل حَال
فَإِن كَانَ رَسُولا خرج إِلَيْهِ الإِمَام بِنَفسِهِ أَو نَائِبه يسمعهُ فَإِن مرض فِيهِ أخرج مِنْهُ وَإِن خيف مَوته فَإِن مَاتَ فِيهِ لم يدْفن فِيهِ فَإِن دفن فِيهِ نبش وَأخرج مِنْهُ إِلَى الْحل لِأَن بَقَاء جيفته فِيهِ أَشد من دُخُوله حَيا
وَلَا يجْرِي هَذَا الحكم فِي حرم الْمَدِينَة لاخْتِصَاص حرم مَكَّة بالنسك
وَثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدخل الْكفَّار مَسْجده وَكَانَ ذَلِك بعد نزُول بَرَاءَة
(ويتضمن عقد الذِّمَّة) أَي الْجِزْيَة الْمُشْتَملَة على هَذِه الْأَركان الْخَمْسَة
وَقد قَالَ البُلْقِينِيّ نفس العقد يَشْمَل الْإِيجَاب وَالْقَبُول وَالْقدر الْمَأْخُوذ والموجب والقابل فَجعله متضمنا لغالب الْأَركان
ثمَّ بَين مَا تضمنه بقوله (أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (أَن يؤدوا الْجِزْيَة عَن يَد) أَي ذلة (وصغار) أَي احتقار وأشده على الْمَرْء أَن يحكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدهُ ويضطر إِلَى احْتِمَاله قَالَه فِي الزَّوَائِد
فتؤخذ بِرِفْق كَسَائِر الدُّيُون وَيَكْفِي فِي الصغار الْمَذْكُور فِي آياتها أَن يجرى عَلَيْهِ الحكم بِمَا لَا يعْتَقد حلّه كَمَا فسره الْأَصْحَاب بذلك وَتَفْسِيره بِأَن يجلس الْآخِذ وَيقوم الْكَافِر ويطأطىء رَأسه ويحني ظَهره وَيَضَع الْجِزْيَة فِي الْمِيزَان وَيقبض الْآخِذ لحيته وَيضْرب لهزمتيه
وهما مُجْتَمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن من الْجَانِبَيْنِ مَرْدُود بِأَن هَذِه الْهَيْئَة بَاطِلَة وَدَعوى استحبابها أَو وُجُوبهَا أَشد بطلانا وَلم ينْقل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا أحدا من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فعل شَيْئا مِنْهَا
(و) الثَّانِي (أَن تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْإِسْلَام) فِي غير الْعِبَادَات من حُقُوق الْآدَمِيّين فِي الْمُعَامَلَات وغرامة الْمُتْلفَات
وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة دون مَا لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كشرب الْخمر وَنِكَاح الْمَجُوس
وَإِنَّمَا وَجب التَّعَرُّض لذَلِك(2/572)
فِي الْإِيجَاب لِأَن الْجِزْيَة مَعَ الانقياد والاستسلام كالعوض عَن التَّقْرِير فَيجب التَّعَرُّض لَهُ كَالثّمنِ فِي البيع وَالْأُجْرَة فِي الْإِجَارَة
وَهَذَا فِي حق الرجل وَأما الْمَرْأَة فَيَكْفِي فِيهَا الانقياد لحكم الْإِسْلَام فَقَط
(و) الثَّالِث (أَن لَا يذكرُوا دين الْإِسْلَام إِلَّا بِخَير) لإعزازه
فَلَو خالفوا وطعنوا فِيهِ أَو فِي الْقُرْآن الْعَظِيم أَو ذكرُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا لَا يَلِيق بِقَدرِهِ الْعَظِيم عزروا وَالأَصَح أَنه إِن شَرط انْتِقَاض الْعَهْد بذلك انْتقض وَإِلَّا فَلَا
(و) الرَّابِع (أَن لَا يَفْعَلُوا مَا فِيهِ ضَرَر للْمُسلمين) كَأَن قاتلوهم وَلَا شُبْهَة لَهُم أَو امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة أَو من إِجْرَاء حكم الْإِسْلَام عَلَيْهِم فَإِن فعلوا شَيْئا من ذَلِك انْتقض عَهدهم وَإِن لم يشرط الإِمَام عَلَيْهِم الانتقاض بِهِ وَيمْنَعُونَ أَيْضا من سقيهم خمرًا وإطعامهم خنزيرا أَو إسماعهم قولا شركا كَقَوْلِهِم الله ثَالِث ثَلَاثَة تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَمن إِظْهَار خمر وخنزير وناقوس وَعِيد وَمَتى أظهرُوا خمورهم أريقت وَقِيَاسه إِتْلَاف الناقوس وَهُوَ مَا يضْرب بِهِ النَّصَارَى لأوقات الصَّلَاة إِذا أظهروه وَمن إِحْدَاث كَنِيسَة وبيعة وصومعة للرهبان وَبَيت نَار للمجوس فِي بلد أحدثناه كبغداد والقاهرة أَو أسلم أَهله عَلَيْهِ كالمدينة الشَّرِيفَة
واليمن لما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تبن كَنِيسَة فِي الْإِسْلَام وَلِأَن إِحْدَاث ذَلِك مَعْصِيّة فَلَا يجوز فِي دَار الْإِسْلَام فَإِن بنوا ذَلِك هدم سَوَاء أشرط عَلَيْهِم أم لَا
وَلَا يحدثُونَ ذَلِك فِي بَلْدَة فتحت عنْوَة كمصر وأصبهان لِأَن الْمُسلمين ملكوها بِالِاسْتِيلَاءِ فَيمْتَنع جعلهَا كَنِيسَة وكما لَا يجوز إحداثها لَا يجوز إِعَادَتهَا إِذا انْهَدَمت وَلَا يقرونَ على كَنِيسَة كَانَت فِيهِ لما مر
وَلَو فتحنا الْبَلَد صلحا كبيت الْمُقَدّس بِشَرْط كَون الأَرْض لنا وَشرط إسكانهم فِيهَا بخراج وإبقاء الْكَنَائِس أَو إحداثها جَازَ
لِأَنَّهُ إِذا جَازَ الصُّلْح على أَن كل الْبَلَد لَهُم فعلى بعضه أولى فَلَو أطلق الصُّلْح وَلم يذكر فِيهِ إبْقَاء الْكَنَائِس وَلَا عَدمه فَالْأَصَحّ الْمَنْع من إبقائها فيهدم مَا فِيهَا من الْكَنَائِس
لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ يَقْتَضِي صيرورة جَمِيع الْبَلَد لنا أَو بِشَرْط الأَرْض لَهُم ويؤدون خراجها قررت كنائسهم لِأَنَّهَا ملكهم وَلَهُم الإحداث فِي الْأَصَح وَيمْنَعُونَ وجوبا من رفع بِنَاء لَهُم على بِنَاء جَار لَهُم مُسلم لخَبر الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلِئَلَّا يطلع على عوراتنا
وَلَا فرق بَين أَن يرضى الْجَار بذلك أم لَا
لِأَن الْمَنْع من ذَلِك لحق الدّين لَا لمحض حق الدَّار
وَالأَصَح الْمَنْع من الْمُسَاوَاة أَيْضا فَإِن كَانُوا بمحلة مُنْفَصِلَة عَن الْمُسلمين كطرف من الْبَلَد لم يمنعوا من رفع الْبناء (ويعرفون) بِضَم حرف المضارعة مَعَ تَشْدِيد الرَّاء الْمَفْتُوحَة على الْبناء للْمَفْعُول أَي نعرفهم ونأمرهم أَي أهل الذِّمَّة المكلفون فِي دَار الْإِسْلَام
وجوبا أَنهم يتميزون عَن الْمُسلمين (بِلبْس الغيار) بِكَسْر الْمُعْجَمَة وَإِن لم يشرط عَلَيْهِم وَهُوَ أَن يخيط(2/573)
كل مِنْهُم من ذكر أَو غَيره بِموضع لَا يعْتَاد الْخياطَة عَلَيْهِ كالكتف على ثَوْبه الظَّاهِر مَا يُخَالف لَونه لون ثَوْبه ويلبسه وَذَلِكَ للتمييز وَلِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَالحهمْ على تَغْيِير زيهم بِمحضر من الصَّحَابَة كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
فَإِن قيل لم لم يفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا بيهود الْمَدِينَة أُجِيب بِأَنَّهُم كَانُوا قليلين معروفين فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زمن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وخافوا من التباسهم بِالْمُسْلِمين احتاجوا إِلَى تمييزهم وإلقاء منديل وَنَحْوه كالخياطة وَالْأولَى باليهود الْأَصْفَر وبالنصارى الْأَزْرَق أَو الأكهب وَيُقَال لَهُ الرَّمَادِي وبالمجوسي الْأَحْمَر أَو الْأسود (وَشد الزنار) أَي ويؤمرون بذلك أَيْضا وَهُوَ بِضَم الْمُعْجَمَة خيط غليظ يشد فِي الْوسط فَوق الثِّيَاب لِأَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَالحهمْ عَلَيْهِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ هَذَا فِي الرجل أما الْمَرْأَة فتشده تَحت الْإِزَار كَمَا صرح بِهِ فِي التَّنْبِيه وَحَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن التَّهْذِيب وَغَيره
لَكِن مَعَ ظُهُور بعضه حَتَّى يحصل بِهِ فَائِدَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيَسْتَوِي فِيهِ سَائِر الألوان قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَلَيْسَ لَهُم إِبْدَاله بمنطقة ومنديل وَنَحْوهمَا وَالْجمع بَين الغيار والزنار أولى وَلَيْسَ بِوَاجِب وَمن لبس مِنْهُم قلنسوة يميزها عَن قلانسنا بعلامة فِيهَا وَإِذا دخل الذِّمِّيّ مُجَردا حَماما فِيهِ مُسلمُونَ أَو تجرد عَن ثِيَابه بَين الْمُسلمين فِي غير حمام جعل وجوبا فِي عُنُقه خَاتم حَدِيد أَو رصاص أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يَجعله من ذهب وَلَا فضَّة قَالَ الزَّرْكَشِيّ والخاتم طوق يكون فِي الْعُنُق قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَيجب الْقطع بمنعهم من التَّشَبُّه بلباس أهل الْعلم والقضاة وَنَحْوهم لما فِي ذَلِك من التعاظم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيمْنَعُونَ من التَّخَتُّم بِالذَّهَب وَالْفِضَّة لما فِيهِ من التطاول والمباهاة وَتجْعَل الْمَرْأَة خفها لونين وَلَا يشْتَرط التَّمْيِيز بِكُل هَذِه الْوُجُوه بل يَكْفِي بَعْضهَا قَالَ الْحَلِيمِيّ وَلَا يَنْبَغِي لفعلة الْمُسلمين وصياغهم أَن يعملوا للْمُشْرِكين كَنِيسَة أَو صليبا وَأما نسج الزنانير فَلَا بَأْس بِهِ لِأَن فِيهَا صغَارًا لَهُم
(وَيمْنَعُونَ) أَي الذُّكُور المكلفون فِي بِلَاد الْمُسلمين وجوبا
(من ركُوب الْخَيل) لقَوْله تَعَالَى {وَمن رِبَاط الْخَيل ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ} فَأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه وَلما فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامه أَنه لَا فرق فِي منع ركُوب الْخَيل بَين النفيس مِنْهَا والخسيس وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور
بِخِلَاف الْحمير وَالْبِغَال وَلَو نفيسة لِأَنَّهَا فِي نَفسهَا خسيسة وَإِن كَانَ أَكثر أَعْيَان النَّاس يركبونها ويركب بإكاف وركاب خشب لَا حَدِيد
وَنَحْوه وَلَا سرج اتبَاعا لكتاب عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
وَالْمعْنَى فِيهِ أَن يتميزوا عَن الْمُسلمين ويركب عرضا بِأَن يَجْعَل رجلَيْهِ من جَانب وَاحِد وظهره من جَانب آخر
قَالَ الرَّافِعِيّ وَيحسن أَن يتوسط فَيُفَرق بَين أَن يركب إِلَى مَسَافَة قريبَة من الْبَلَد أَو بعيدَة وَهُوَ ظَاهر وَيمْنَع من حمل السِّلَاح وَمن اللجم المزينة بالنقدين أما النِّسَاء وَالصبيان وَنَحْوهمَا فَلَا يمْنَعُونَ من ذَلِك كَمَا لَا جِزْيَة عَلَيْهِم
قَالَ ابْن الصّلاح وَيَنْبَغِي مَنعهم من خدمَة الْمُلُوك والأمراء كَمَا يمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل
(ويلجؤون) عِنْد زحمة الْمُسلمين (إِلَى أضيق الطّرق) بِحَيْثُ لَا يقعون فِي وهدة وَلَا يصدمهم جِدَار لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تبدأوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي طَرِيق فاضطروهم إِلَى أضيقه أما إِذا خلت الطَّرِيق عَن الزحمة فَلَا حرج
قَالَ فِي الْحَاوِي وَلَا يَمْشُونَ إِلَّا أفرادا مُتَفَرّقين وَلَا يوقرون فِي مجْلِس فِيهِ مُسلم لِأَن الله تَعَالَى أذلّهم وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ تَحْرِيم ذَلِك
خَاتِمَة تحرم مَوَدَّة الْكَافِر لقَوْله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله}(2/574)
فَإِن قيل قد مر فِي بَاب الْوَلِيمَة أَن مُخَالطَة الْكفَّار مَكْرُوهَة أُجِيب بِأَن المخالطة ترجع إِلَى الظَّاهِر والمودة إِلَى الْميل القلبي
فَإِن قيل الْميل القلبي لَا اخْتِيَار للشَّخْص فِيهِ
أُجِيب بِإِمْكَان دَفعه بِقطع أَسبَاب الْمَوَدَّة الَّتِي ينشأ عَنْهَا ميل الْقلب كَمَا قيل إِن الْإِسَاءَة تقطع عروق الْمحبَّة
وَالْأولَى للْإِمَام أَن يكْتب بعد عقد الذِّمَّة اسْم من عقد لَهُ وَدينه وحليته
ويتعرض لسنه أهوَ شيخ أم شَاب ويصف أعضاءه الظَّاهِرَة من وَجهه ولحيته وحاجبيه وَعَيْنَيْهِ وشفتيه وَأَنْفه وأسنانه وآثار وَجهه إِن كَانَ فِيهِ آثَار ولونه من سَمُرَة أَو شقرة وَغَيرهمَا
وَيجْعَل لكل من طوائفهم عريفا مُسلما يضبطهم ليعرفه بِمن مَاتَ أَو أسلم أَو بلغ مِنْهُم أَو دخل فيهم
وَأما من يحضرهم ليؤدي كل مِنْهُم الْجِزْيَة أَو يشتكي إِلَى الإِمَام من يعتدي عَلَيْهِم منا أَو مِنْهُم فَيجوز جعله عريفا لذَلِك وَلَو كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا اشْترط إِسْلَامه فِي الْغَرَض الأول لِأَن الْكَافِر لَا يعْتَمد خَبره
تَعَالَى {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} والذبائح جمع ذَبِيحَة بِمَعْنى(2/575)
= كتاب الصَّيْد والذبائح = مصدر صَاد يصيد ثمَّ أطلق الصَّيْد على المصيد قَالَ مذبوحة وَلما كَانَ الصَّيْد مصدرا أفرده المُصَنّف وَجمع الذَّبَائِح لِأَنَّهَا تكون بالسكين أَو السهْم أَو الْجَوَارِح
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَقَوله تَعَالَى {إِلَّا مَا ذكيتم} وَقَوله تَعَالَى {أحل لكم الطَّيِّبَات} والمذكى من الطَّيِّبَات
تَنْبِيه ذكر المُصَنّف كالمنهاج وَأكْثر الْأَصْحَاب هَذَا الْكتاب وَمَا بعده هُنَا وفَاقا للمزني
وَخَالف فِي الرَّوْضَة فَذكره آخر ربع الْعِبَادَات تبعا لطائفة من الْأَصْحَاب قَالَ وَهُوَ أنسب
قَالَ ابْن قَاسم وَلَعَلَّ وَجه الأنسبية أَن طلب الْحَلَال فرض عين اه
(وأركان الذّبْح) بِالْمَعْنَى الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ أَرْبَعَة ذبح وَآلَة وذبيح وذابح
وَقد شرع فِي بَيَان ذَلِك فَقَالَ (وَمَا قدر) بِضَم الْقَاف على الْبناء للْمَفْعُول (على ذَكَاته) بِالْمُعْجَمَةِ أَي ذبحه من الْحَيَوَان الْمَأْكُول (فذكاته) اسْتِقْلَالا (فِي حلقه ولبته) إِجْمَاعًا هَذَا هُوَ الرُّكْن الأول وَالثَّانِي وَهُوَ الذّبْح والذبيح وَالْحلق أَعلَى الْعُنُق واللبة بِفَتْح اللَّام وَالْبَاء المشددتين أَسْفَله وقيدت إِطْلَاقه بالاستقلال لِأَنَّهُ مُرَاده فَلَا يرد حل الْجَنِين الْمَوْجُود مَيتا فِي بطن أمه وَلم يذبح وَلم يعقر لِأَن حلّه بطرِيق التّبعِيَّة لذكاة أمه
كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه
وَيشْتَرط فِي الذّبْح قصد فَلَو سَقَطت مدية على مذبح شَاة أَو احتكت بهَا فانذبحت أَو استرسلت جارحة بِنَفسِهَا(2/576)
فقتلت أَو أرسل سَهْما لَا لصيد فَقتل صيدا حرم كجارحة أرسلها وَغَابَتْ عَنهُ مَعَ الصَّيْد أَو جرحته
وَلم ينْتَه بِالْجرْحِ إِلَى حَرَكَة مَذْبُوح وَغَابَتْ ثمَّ وجده مَيتا فيهمَا فَإِنَّهُ يحرم لاحْتِمَال أَن مَوته بِسَبَب آخر وَمَا ذكر من التَّحْرِيم فِي الثَّانِيَة هُوَ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَإِن اخْتَار النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيحه الْحل وَلَو رمى شَيْئا ظَنّه حجرا أَو رمى قطيع ظباء فَأصَاب وَاحِدَة مِنْهُ أَو قصد وَاحِدَة مِنْهُ فَأصَاب غَيرهَا حل ذَلِك لصِحَّة قَصده وَلَا اعْتِبَار بظنه الْمَذْكُور
(وَمَا لم يقدر) بِضَم حرف المضارعة على الْبناء للْمَفْعُول (على ذَكَاته) لكَونه متوحشا كالضبع
(فذكاته عقره) أَي بِجرح مزهق للروح فِي أَي مَوضِع كَانَ الْعقر من بدنه بِالْإِجْمَاع وَلَو توحش إنسي كبعير ند فَهُوَ كالصيد يحل بجرحه فِي غير مذبحه
(حَيْثُ قدر عَلَيْهِ) بالظفر بِهِ وَيحل بإرسال الْكَلْب عَلَيْهِ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه تنَاول إِطْلَاق المُصَنّف مَا لَو تردى بعير فِي بِئْر وَلم يقدر على ذَكَاته فَيحل بجرحه فِي غير المذبح
وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح فِي الزَّوَائِد وَلَا يحل بإرسال الْكَلْب عَلَيْهِ كَمَا صَححهُ فِي الْمِنْهَاج من زِيَادَته وَالْفرق أَن الْحَدِيد يستباح بِهِ الذّبْح مَعَ الْقُدْرَة بِخِلَاف فعل الْجَارِحَة وَلَو تردى بعير فَوق بعير فغرز رمحا فِي الأول حَتَّى نفذ مِنْهُ إِلَى الثَّانِي حلا وَإِن لم يعلم بِالثَّانِي قَالَه القَاضِي فَإِن مَاتَ الْأَسْفَل بثقل الْأَعْلَى لم يحل وَلَو دخلت الطعنة إِلَيْهِ وَشك هَل مَاتَ بهَا أَو بالثقل لم يحل كَمَا هُوَ قَضِيَّة مَا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ
(وَيسْتَحب فِي الذَّكَاة)
أَي ذَكَاة الْحَيَوَان الْمَقْدُور عَلَيْهِ (أَرْبَعَة أَشْيَاء) الأول (قطع) كل (الْحُلْقُوم) وَهُوَ مجْرى النَّفس
(و) الثَّانِي قطع كل (المريء) وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْمدّ والهمزة فِي آخِره مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب
(و) الثَّالِث وَالرَّابِع قطع كل (الودجين) بِفَتْح الْوَاو وَالدَّال الْمُهْملَة وَالْجِيم وهما عرقان فِي صفحتي الْعُنُق محيطان بالحلقوم وَقيل بالمريء وهما الوريدان من الْآدَمِيّ لِأَنَّهُ أوحى وأسهل لخُرُوج الرّوح فَهُوَ من الْإِحْسَان فِي الذّبْح وَلَا يسْتَحبّ قطع مَا وَرَاء ذَلِك
تَنْبِيه مُرَاد المُصَنّف أَن قطع هَذِه الْأَرْبَعَة مُسْتَحبّ
لَا أَن قطع كل وَاحِد مُسْتَحبّ على انْفِرَاده من غير قطع الْبَاقِي إِذْ قطع الْحُلْقُوم والمريء وَاجِب وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والمجزىء مِنْهَا) أَي الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة فِي الْحل (شَيْئَانِ) وهما (قطع) كل الْحُلْقُوم و (كل المريء) مَعَ وجود الْحَيَاة المستقرة أول قطعهمَا لِأَن الذَّكَاة صادفته وَهُوَ حَيّ كَمَا لَو قطع يَد حَيَوَان ثمَّ ذكاه فَإِن شرع فِي قطعهمَا وَلم تكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بل انْتهى لحركة مَذْبُوح لم يحل لِأَنَّهُ صَار ميتَة فَلَا يفِيدهُ الذّبْح بعد ذَلِك(2/577)
تَنْبِيه لَو ذبح شخص حَيَوَانا وَأخرج آخر أمعاءه أَو نخس خاصرته مَعًا لم يحل لِأَن التذفيف لم يتمحض بِقطع الْحُلْقُوم والمريء قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة سَوَاء أَكَانَ مَا قطع بِهِ الْحُلْقُوم مَا يذفف أَو انْفَرد أَو كَانَ يعين على التذفيف وَلَو اقْترن قطع الْحُلْقُوم بِقطع رَقَبَة الشَّاة من قفاها بِأَن أجْرى سكينا من الْقَفَا وسكينا من الْحُلْقُوم حَتَّى التقيا فَهِيَ ميتَة كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة لِأَن التذفيف إِنَّمَا حصل بذبحين وَلَا يشْتَرط الْعلم بِوُجُود الْحَيَاة المستقرة عِنْد الذّبْح
بل يَكْفِي الظَّن بوجودها بِقَرِينَة وَلَو عرفت بِشدَّة الْحَرَكَة أَو انفجار الدَّم وَمحل ذَلِك مَا لم يتقدمه مَا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك
فَلَو وصل بِجرح إِلَى حَرَكَة الْمَذْبُوح وَفِيه شدَّة الْحَرَكَة ثمَّ ذبح لم يحل
وَحَاصِله أَن الْحَيَاة المستقرة عِنْد الذّبْح تَارَة تتيقن وَتارَة تظن بعلامات وقرائن فَإِن شككنا فِي استقرارها حرم للشَّكّ فِي الْمُبِيح وتغليبا للتَّحْرِيم
فَإِن مرض أَو جَاع فذبحه وَقد صَار فِي آخر رَمق حل لِأَنَّهُ لم يُوجد سَبَب يُحَال الْهَلَاك عَلَيْهِ
وَلَو مرض بِأَكْل نَبَات مُضر حَتَّى صَار آخر رَمق كَانَ سَببا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلَاك
فَلم يحل على الْمُعْتَمد وَلَا يشْتَرط فِي الذَّكَاة قطع الْجلْدَة الَّتِي فَوق الْحُلْقُوم والمريء فَلَو أَدخل سكينا بأذن ثَعْلَب مثلا وَقطع الْحُلْقُوم والمريء دَاخل الْجلد لأجل جلده وَبِه حَيَاة مُسْتَقِرَّة حل وَإِن حرم عَلَيْهِ للتعذيب وَيسن نحر إبل فِي اللبة وَهِي أَسْفَل الْعُنُق كَمَا مر لقَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} وللأمر بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه أسهل لخُرُوج الرّوح لطول عُنُقهَا
وَقِيَاس هَذَا كَمَا قَالَ ابْن الرّفْعَة أَن يَأْتِي فِي كل مَا طَال عُنُقه كالنعام والإوز والبط
وَيسن ذبح بقر وغنم وَنَحْوهمَا
كخيل بِقطع الْحُلْقُوم والمريء لِلِاتِّبَاعِ وَيجوز بِلَا كَرَاهَة عَكسه وَيسن أَن يكون نحر الْبَعِير قَائِما معقولة ركبته وَهِي الْيُسْرَى كَمَا فِي الْمَجْمُوع لقَوْله تَعَالَى {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي قيَاما على ثَلَاثَة رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَأَن يكون نحر الْبَقَرَة أَو الشَّاة مضجعه لجنبها الْأَيْسَر وتترك رجلهَا الْيُمْنَى بِلَا تشد وتشد بَاقِي القوائم وَيسن الذَّابِح أَن يحد سكينه لخَبر مُسلم إِن الله كتب الأحسان على كل شَيْء فَإِذا قُلْتُمْ فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته وَأَن يُوَجه للْقبْلَة ذَبِيحَته وَأَن يَقُول عِنْد ذَبحهَا بِسم الله
وَأَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك وَلَا يقل بِسم الله وَاسم مُحَمَّد لإيهامه التَّشْرِيك
(وَيجوز) لمن تحل ذَكَاته لَا لغيره (الِاصْطِيَاد) أَي أكل المصاد بِالشّرطِ الْآتِي فِي غير الْمَقْدُور عَلَيْهِ
(بِكُل جارحة من(2/578)
سِبَاع الْبَهَائِم) كَالْكَلْبِ والفهد فِي أَي مَوضِع كَانَ جرحها حَيْثُ لم يكن فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة
بِأَن أدْركهُ مَيتا أَو فِي حَرَكَة الْمَذْبُوح
أما الِاصْطِيَاد بِمَعْنى إِثْبَات الْملك فَلَا يخْتَص بالجوارح بل يحصل بِكُل طَرِيق تيَسّر
والجارحة كل مَا يجرح سمي بذلك لجرحه الطير بظفره أَو نابه
وَقَوله (معلمة) بِالْجَرِّ صفة لجارحة (و) من (جوارح الطير) كالباز والصقر لقَوْله تَعَالَى {أحل لكم الطَّيِّبَات وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} أَي صيد مَا علمْتُم
(وشرائط تعليمها) أَي جارحة السبَاع وَالطير (أَرْبَعَة) الأول (أَن تكون) الْجَارِحَة معلمة بِحَيْثُ (إِذا أرْسلت) أَي أرسلها صَاحبهَا (استرسلت) أَي هَاجَتْ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع
لقَوْله تَعَالَى {مكلبين} قَالَ الشَّافِعِي إِذا أمرت الْكَلْب فائتمر وَإِذا نهيته فَانْتهى فَهُوَ مكلب
(و) الثَّانِي (إِذا زجرت) أَي زجرها صَاحبهَا فِي ابْتِدَاء الْأَمر وَبعده
(انزجرت) أَي وقفت (و) الثَّالِث (إِذا قتلت) صيدا (لم تَأْكُل من الصَّيْد) أَي من لَحْمه أَو نَحوه كجلده وحشوته شَيْئا قبل قَتله أَو عقبه وَمَا قررت بِهِ كَلَام المُصَنّف من اشْتِرَاط جَمِيع هَذِه الْأُمُور فِي جارحة السبَاع وَالطير
هُوَ مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي كَمَا نَقله البُلْقِينِيّ كَغَيْرِهِ
ثمَّ قَالَ وَلم يُخَالِفهُ أحد من الْأَصْحَاب وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
وَإِن كَانَ ظَاهر كَلَام الْمِنْهَاج كالروضة يُخَالف ذَلِك حَيْثُ خصها بجارحة السبَاع وَشرط فِي جارحة الطير ترك الْأكل فَقَط
(و) الرَّابِع
(أَن يتَكَرَّر ذَلِك) أَي هَذِه الْأُمُور الْمُعْتَبرَة فِي التَّعْلِيم (مِنْهَا) بِحَيْثُ يظنّ تأدب الْجَارِحَة وَلَا يَنْضَبِط ذَلِك بِعَدَد بل الرُّجُوع فِي ذَلِك إِلَى أهل الْخِبْرَة بالجوارح
(فَإِن عدم أحد هَذِه الشُّرُوط) الْمُعْتَبرَة فِي التَّعْلِيم (لم يحل) أكل (مَا أَخَذته) أَي جرحته من الصَّيْد بِحَيْثُ لم يبْق فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة بِالْإِجْمَاع كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع (إِلَّا أَن يدْرك حَيا) أَي يجد فِيهِ حَيَاة مُسْتَقِرَّة
(فيذكى) حِينَئِذٍ فَيحل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فِي حَدِيثه وَمَا صدت بكلبك غير الْمعلم فأدركت ذَكَاته فَكل مُتَّفق عَلَيْهِ
تَنْبِيه عَلامَة الْحَيَاة المستقرة شدَّة الْحَرَكَة بعد قطع الْحُلْقُوم والمريء على الْأَصَح فِي الزَّوَائِد وَالْمَجْمُوع وَقَالَ فِيهِ يَكْتَفِي بهَا وَحدهَا وَلَو لم يجر الدَّم على الصَّحِيح الْمُعْتَمد وَقد مرت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك مَعَ تَفْصِيل تقدم وَلَو ظهر بِمَا ذكر من الشُّرُوط كَونهَا معلمة ثمَّ أكلت من لحم صيد أَو نَحوه مِمَّا مر لم يحل ذَلِك الصَّيْد فِي الْأَظْهر
هَذَا إِذا أرسلها صَاحبهَا فَإِن استرسلت بِنَفسِهَا فقتلت وأكلت لم يقْدَح ذَلِك فِي تعليمها وَلَا أثر للعق الدَّم
لِأَنَّهُ لَا يقْصد للصائد فَصَارَ كتناوله الفرث ومعض الْكَلْب من الصَّيْد نجس كَغَيْرِهِ مِمَّا يُنجسهُ الْكَلْب وَالأَصَح أَنه لَا يُعْفَى عَنهُ وَأَنه يَكْفِي غسله سبعا بِمَاء وتراب فِي إِحْدَاهَا كَغَيْرِهِ وَأَنه لَا يجب أَن يقور المعض ويطرح لِأَنَّهُ لم يرد وَلَو تحاملت الْجَارِحَة على صيد فَقتلته بثقلها أَو نَحوه كعضها وصدمتها وَلم تجرحه حل فِي الْأَظْهر لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم}(2/579)
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الْآلَة فَقَالَ (وَتجوز الذَّكَاة بِكُل مَا يجرح) كمحدد حَدِيد وقصب وَحجر ورصاص وَذهب وَفِضة لِأَنَّهُ أسْرع فِي إزهاق الرّوح
(إِلَّا بِالسِّنِّ وَالظفر) وَبَاقِي الْعِظَام مُتَّصِلا كَانَ أَو مُنْفَصِلا من آدَمِيّ أَو غَيره لخَبر الصَّحِيحَيْنِ مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السن وَالظفر وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَن ذَلِك
أما السن فَعظم
وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة وَألْحق بذلك بَاقِي الْعِظَام
وَالنَّهْي عَن الذّبْح بالعظام قيل تعبدي وَبِه قَالَ ابْن الصّلاح وَمَال إِلَيْهِ ابْن عبد السَّلَام وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم مَعْنَاهُ لَا تذبحوا بهَا فَإِنَّهَا تنجس بِالدَّمِ
وَقد نهيتم عَن تنجسها فِي الِاسْتِنْجَاء لكَونهَا طَعَام إخْوَانكُمْ من الْجِنّ وَمعنى قَوْله وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة أَنهم كفار وَقد نهيتم عَن التَّشَبُّه بهم نعم مَا قتلته الْجَارِحَة بظفرها أَو نابها حَلَال
كَمَا علم مِمَّا مر وَخرج بمحدد مَا لَو قتل بمثقل كبندقة وسوط وَسَهْم بِلَا نصل وَلَا حد أَو بِسَهْم وبندقة أَو انخنق وَمَات بأحبولة مَنْصُوبَة
لذَلِك أَو أَصَابَهُ سهم فَوَقع على طرف جبل ثمَّ سقط مِنْهُ وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَمَات حرم الصَّيْد فِي جَمِيع هَذِه الْمسَائِل أما فِي الْقَتْل بالمثقل
فَلِأَنَّهَا موقوذة فَإِنَّهَا مَا قتل بِحجر أَو نَحوه مِمَّا لَا حد لَهُ وَأما مَوته بِالسَّهْمِ والبندقة وَمَا بعدهمَا فَإِنَّهُ موت بشيئين مُبِيح ومحرم
فغلب الْمحرم لِأَنَّهُ الأَصْل فِي الميتات وَأما المنخنقة بالأحبولة فَلقَوْله تَعَالَى {والمنخنقة}
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الرَّابِع وَهُوَ الذَّابِح فَقَالَ (وَتحل ذَكَاة) وصيد (كل مُسلم) ومسلمة (وكتابي) وكتابية تحل مناكحتنا لأهل ملتهما قَالَ تَعَالَى {وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم} وَقَالَ ابْن عَبَّاس إِنَّمَا أحلّت ذَبَائِح الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أجل أَنهم آمنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ وَلَا أثر للرق فِي الذَّابِح فَتحل ذَكَاة أمة كِتَابِيَّة وَإِن حرم مناكحتها لعُمُوم الْآيَة الْمَذْكُورَة
(وَلَا تحل ذَكَاة مَجُوسِيّ وَلَا وَثني) وَلَا غَيرهمَا مِمَّا لَا كتاب لَهُ وَلَو شَارك من لَا تحل مناكحته مُسلما فِي ذبح أَو اصطياد حرم الْمَذْبُوح والمصاد تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم وَلَو أرسل الْمُسلم والمجوسي كلبين أَو سَهْمَيْنِ على صيد فَإِن سبق آلَة الْمُسلم آلَة الْمَجُوسِيّ فِي صُورَة السهمين أَو كلب الْمُسلم كلب الْمَجُوسِيّ فِي صُورَة الكلبين فَقتل الصَّيْد أَو لم يقْتله
بل أنهاه إِلَى حَرَكَة مَذْبُوح حل وَلَو انعكس مَا ذكر أَو جرحاه مَعًا وَحصل الْهَلَاك بهما أَو جهل ذَلِك أَو جرحاه مُرَتبا وَلَكِن لم يذففه الأول فَهَلَك بهما حرم الصَّيْد فِي مَسْأَلَة الْعَكْس وَمَا عطف عَلَيْهَا تَغْلِيبًا للتَّحْرِيم
فَائِدَة قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم قَالَ بعض الْعلمَاء وَالْحكمَة فِي اشْتِرَاط الذَّابِح وإنهار الدَّم تَمْيِيز حَلَال اللَّحْم والشحم من حرامهما وتنبيه على تَحْرِيم الْميتَة لبَقَاء دَمهَا
وَيحل ذبح وصيد صَغِير مُسلم أَو كتابي مُمَيّز لِأَن قَصده صَحِيح بِدَلِيل صِحَة الْعِبَادَة مِنْهُ إِن كَانَ مُسلما فاندرج تَحت الْأَدِلَّة كَالْبَالِغِ وَكَذَا صَغِير غير مُمَيّز وَمَجْنُون وسكران تحل ذبيحتهم فِي الْأَظْهر لِأَن لَهُم قصدا وَإِرَادَة فِي الْجُمْلَة لَكِن مَعَ(2/580)
الْكَرَاهَة كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم خوفًا من عدولهم عَن مَحل الذّبْح وَتكره ذَكَاة الْأَعْمَى لذَلِك وَيحرم صَيْده برمي وكلب وَغَيره من جوارح السبَاع لعدم صِحَة قَصده لِأَنَّهُ لَا يرى الصَّيْد
وَأما صيد الصَّغِير غير الْمُمَيز وَالْمَجْنُون والسكران فَمُقْتَضى عبارَة الْمِنْهَاج أَنه حَلَال
وَهُوَ مَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع أَنه الْمَذْهَب وَقيل لَا يَصح لعدم الْقَصْد وَلَيْسَ بِشَيْء انْتهى (وذكاة الْجَنِين) حَاصِلَة (بِذَكَاة أمه) فَلَو وجد جَنِين مَيتا أَو عيشه عَيْش مَذْبُوح سَوَاء أشعر أم لَا فِي بطن مذكاة سَوَاء أَكَانَت ذكاتها بذبحها أَو إرْسَال سهم أَو نَحْو كلب عَلَيْهَا لحَدِيث ذَكَاة الْجَنِين ذَكَاة أمه أَي ذكاتها الَّتِي أحلتها أحلته تبعا لَهَا وَلِأَنَّهُ جُزْء من أَجْزَائِهَا وذكاتها ذَكَاة لجَمِيع أَجْزَائِهَا وَلِأَنَّهُ لَو لم يحل بِذَكَاة أمه لحرم ذكاتها مَعَ ظُهُور الْحمل كَمَا لَا تقتل الْحَامِل قودا أما إِذا خرج وَبِه حَيَاة مُسْتَقِرَّة كَمَا قَالَ (إِلَّا أَن يُوجد حَيا) حَيَاة مُسْتَقِرَّة وَأمكنهُ ذَكَاته
(فيذكى) وجوبا فَلَا يحل بِذَكَاة أمه وَلَا بُد أَن يسكن عقب ذبح أمه فَلَو اضْطربَ فِي الْبَطن بعد ذبح أمه زَمَانا طَويلا ثمَّ سكن لم يحل قَالَه الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد فِي الفروق وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَالظَّاهِر أَن مُرَاد الْأَصْحَاب إِذا مَاتَ بِذَكَاة أمه فَلَو مَاتَ قبل ذكاتها كَانَ ميتَة لَا محَالة لِأَن ذَكَاة الْأُم لم تُؤثر فِيهِ والْحَدِيث يُشِير إِلَيْهِ انْتهى
وعَلى هَذَا لَو خرج رَأسه مَيتا ثمَّ ذبحت أمه قبل انْفِصَاله لم يحل وَقَالَ البُلْقِينِيّ وَمحل الْحل مَا إِذا لم يُوجد سَبَب يُحَال عَلَيْهِ مَوته فَلَو ضرب حَامِلا على بَطنهَا وَكَانَ الْجَنِين متحركا فسكن حِين ذبحت أمه فَوجدَ مَيتا لم يحل
وَلَو خرج رَأسه وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة لم يجب ذبحه حَتَّى يخرج لِأَن خُرُوج بعضه كَعَدم خُرُوجه فِي الْغرَّة وَنَحْوهَا فَيحل إِذا مَاتَ عقب خُرُوجه بِذَكَاة أمه وَإِن صَار بِخُرُوج رَأسه مَقْدُورًا عَلَيْهِ وَلَو لم تتخطط المضغة لم تحل بِنَاء على عدم وجوب الْغرَّة فِيهَا وَعدم ثُبُوت الِاسْتِيلَاد لَو كَانَت من آدَمِيّ وَلَو كَانَ للمذكاة عُضْو أشل حل كَسَائِر أَجْزَائِهَا
(وَمَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت) أَي فَهُوَ كميتته طَهَارَة ونجاسة لخَبر مَا قطع من حَيّ فَهُوَ ميت رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ فجزء الْبشر والسمك وَالْجَرَاد طَاهِر دون جُزْء غَيرهَا
(إِلَّا الشُّعُور) الساقطة من الْمَأْكُول وأصوافه وأوباره المنتفع بهَا فِي المفارش والملابس وَغَيرهَا من سَائِر أَنْوَاع الانتفاعات فطاهرة
قَالَ تَعَالَى {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} وَخرج بالمأكول نَحْو شعر غَيره فنجس وَمِنْه نَحْو شعر عُضْو أبين من مَأْكُول لِأَن الْعُضْو صَار غير مَأْكُول
تَتِمَّة تتَعَلَّق بالصيد لَو أرسل كَلْبا وَسَهْما فأزمنه الْكَلْب ثمَّ ذبحه السهْم حل
وَإِن أزمنه السهْم ثمَّ قَتله الْكَلْب حرم وَلَو أخبرهُ فَاسق أَو كتابي أَنه ذبح هَذِه الشَّاة مثلا حل أكلهَا لِأَنَّهُ من أهل الذّبْح فَإِن كَانَ فِي الْبِلَاد مجوس ومسلمون وَجَهل ذابح الْحَيَوَان
هَل هُوَ مُسلم أَو مَجُوسِيّ لم يحل أكله للشَّكّ فِي الذّبْح الْمُبِيح وَالْأَصْل عَدمه نعم إِن كَانَ الْمُسلمُونَ أغلب كَمَا فِي بِلَاد الْإِسْلَام فَيَنْبَغِي أَن يحل وَفِي معنى الْمَجُوسِيّ كل من لم تحل ذَبِيحَته
فصل فِي الْأَطْعِمَة
جمع طَعَام أَي بَيَان مَا يحل أكله وشربه مِنْهَا وَمَا يحرم فقد ورد فِي الْخَبَر أَي لحم نبت من حرَام فَالنَّار أولى بِهِ وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة إِذْ معرفَة أَحْكَامهَا من الْمُهِمَّات لِأَن فِي تنَاول الْحَرَام الْوَعيد(2/581)
الشَّديد وَقَوله تَعَالَى {وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث}
(وكل حَيَوَان) لَا نَص فِيهِ من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع لَا خَاص وَلَا عَام بِتَحْرِيم وَلَا تَحْلِيل وَلَا ورد فِيهِ أَمر بقتْله وَلَا بِعَدَمِهِ (استطابته الْعَرَب) وهم أهل يسَار أَي ثروة وخصب وَأهل طباع سليمَة سَوَاء كَانُوا سكان بِلَاد أَو قرى فِي حَال رفاهية
(فَهُوَ حَلَال إِلَّا مَا) أَي حَيَوَان (ورد الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ) كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يرجع فِيهِ لاستطابتهم
(وكل حَيَوَان استخبثته الْعَرَب) أَي عدوه خبيثا (فَهُوَ حرَام إِلَّا مَا) أَي حَيَوَان (ورد الشَّرْع بإباحته) كَمَا سَيَأْتِي فَلَا يكون حَرَامًا لِأَن الله تَعَالَى أناط الْحل بالطيب وَالتَّحْرِيم بالخبيث
وَعلم بِالْعقلِ أَنه لم يرد مَا يستطيبه ويستخبثه كل الْعَالم لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاعهم على ذَلِك عَادَة لاخْتِلَاف طبائعهم فَتعين أَن يكون المُرَاد بَعضهم وَالْعرب بذلك أولى لأَنهم أولى الْأُمَم إِذْ هم المخاطبون أَولا وَلِأَن الدّين عَرَبِيّ وَخرج بِأَهْل يسَار المحتاجون
وبسليمة أجلاف الْبَوَادِي الَّذين يَأْكُلُون مَا دب ودرج من غير تَمْيِيز فَلَا عِبْرَة بهم وبحال الرَّفَاهِيَة حَال الضَّرُورَة فَلَا عِبْرَة بهَا
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَام المُصَنّف أَنه لَا بُد من إِخْبَار جمع مِنْهُم بل ظَاهره جَمِيع الْعَرَب
وَالظَّاهِر كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ الِاكْتِفَاء بِخَبَر عَدْلَيْنِ وَيرجع فِي كل زمَان إِلَى الْعَرَب الْمَوْجُودين فِيهِ فَإِن استطابته فحلال وَإِن استخبثته فَحَرَام وَالْمرَاد بِهِ مَا لم يسْبق فِيهِ كَلَام الْعَرَب الَّذين كَانُوا فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن بعدهمْ
فَإِن ذَلِك قد عرف حَاله
وَاسْتقر أمره فَإِن اخْتلفُوا فِي استطابته اتبع الْأَكْثَر فَإِن اسْتَووا فقريش لِأَنَّهَا قطب الْعَرَب فَإِن اخْتلفُوا وَلَا تَرْجِيح أَو شكوا أَو لم نجدهم وَلَا غَيرهم من الْعَرَب اعتبروا بأقرب الْحَيَوَان شبها بِهِ صُورَة أَو طبعا أَو طعما فَإِن اسْتَوَى الشبهان أَو لم يُوجد مَا يُشبههُ فحلال لآيَة {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما} وَلَا يعْتَمد فِيهِ شرع من قبلنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شرعا لنا فاعتماد ظَاهر الْآيَة الْمُقْتَضِيَة للْحلّ أولى من اسْتِصْحَاب الشَّرَائِع السالفة
وَإِن جهل اسْم حَيَوَان سُئِلَ الْعَرَب عَن ذَلِك الْحَيَوَان
وَعمل بتسميتهم لَهُ مَا هُوَ حَلَال أَو حرَام لِأَن الْمرجع فِي ذَلِك إِلَى الِاسْم وهم أهل اللِّسَان
وَإِن لم يكن لَهُ اسْم عِنْدهم اعْتبر بالأشبه بِهِ من الْحَيَوَان فِي الصُّورَة أَو الطَّبْع أَو الطّعْم فِي اللَّحْم فَإِن تساوى الشبهان أَو فقد مَا يُشبههُ حل على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة وَالْمَجْمُوع فمما ورد النَّص بِتَحْرِيمِهِ الْبَغْل للنَّهْي عَن أكله فِي خبر أبي دَاوُد ولتولده بَين حَلَال وَحرَام
فَإِنَّهُ متولد بَين فرس وحمار أَهلِي فَإِن كَانَ الذّكر فرسا فَهُوَ شَدِيد الشّبَه بالحمار أَو حمارا كَانَ شَدِيد الشّبَه بالفرس فَإِن تولد بَين فرس وحمار وَحشِي أَو بَين فرس وبقر حل بِلَا خلاف وَالْحمار الأهلي للنَّهْي عَنهُ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ(2/582)
وكنيته أَبُو زِيَاد وكنية الْأُنْثَى أم مَحْمُود
(وَيحرم من السبَاع) كل (مَا لَهُ نَاب قوي يجرح بِهِ) أَي يَسْطُو بِهِ على غَيره من الْحَيَوَان كأسد ذكر لَهُ ابْن خالويه خَمْسمِائَة اسْم وَزَاد عَليّ بن جَعْفَر عَلَيْهِ مائَة وَثَلَاثِينَ اسْما
ونمر بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم وَهُوَ حَيَوَان مَعْرُوف أَخبث من الْأسد
سمي بذلك لتنمره وَاخْتِلَاف لون جسده يُقَال تنمر فلَان أَي تنكر وَتغَير
لِأَنَّهُ لَا يُوجد غَالِبا إِلَّا غَضْبَان معجبا بِنَفسِهِ إِذا شبع نَام ثَلَاثَة أَيَّام ورائحة فِيهِ طيبَة وذئب بِالْهَمْز وَعَدَمه حَيَوَان مَعْرُوف مَوْصُوف بالانفراد والوحدة وَمن طبعه أَنه لَا يعود إِلَى فريسة شبع مِنْهَا وينام بِإِحْدَى عَيْنَيْهِ وَالْأُخْرَى يقظة حَتَّى تكتفي الْعين النائمة من النّوم ثمَّ يفتحها وينام بِالْأُخْرَى ليحرس باليقظى ويستريح بالنائمة
ودب بِضَم الدَّال الْمُهْملَة
وَقيل وكنيته أَبُو الْعَبَّاس والفيل الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن كنيته ذَلِك واسْمه مَحْمُود وَهُوَ صَاحب حقد وَلسَانه مقلوب
وَلَوْلَا ذَلِك لتكلم وَيخَاف من الْهِرَّة خوفًا شَدِيدا وَفِيه من الْفَهم مَا يقبل بِهِ التَّأْدِيب والتعليم
ويعمر أَي يعِيش كثيرا والهند تعظمه لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْخِصَال المحمودة
وقرد وَهُوَ حَيَوَان ذكي سريع الْفَهم يشبه الْإِنْسَان فِي غَالب حالاته
فَإِنَّهُ يضْحك وَيضْرب ويتناول الشَّيْء بِيَدِهِ ويأنس بِالنَّاسِ
وَمن ذَوي الناب الْكَلْب وَالْخِنْزِير والفهد وَابْن آوى بِالْمدِّ بعد الْهمزَة وَهُوَ فَوق الثَّعْلَب وَدون الْكَلْب طَوِيل المخالب فِيهِ شبه من الذِّئْب وَشبه من الثَّعْلَب
وَسمي بذلك لِأَنَّهُ يأوي إِلَى عواء أَبنَاء جنسه
وَلَا يعوي إِلَّا لَيْلًا إِذا استوحش والهرة وَلَو وحشية
(وَيحرم من الطُّيُور) كل (مَا لَهُ مخلب قوي) بِكَسْر الْمِيم وَإِسْكَان الْمُعْجَمَة وَهُوَ للطير كالظفر للْإنْسَان (يجرح بِهِ) كالصقر والباز والشاهين والنسر وَالْعِقَاب وَجَمِيع جوارح الطير كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة وَمِمَّا ورد فِيهِ النَّص بِالْحلِّ الْأَنْعَام وَهِي الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَإِن اخْتلفت أَنْوَاعهَا لقَوْله تَعَالَى {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَالْخَيْل وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه
كقوم لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن جَابر نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة وَأذن فِي لُحُوم الْخَيل وَفِيهِمَا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَت نحرنا فرسا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكلناه وَنحن بِالْمَدِينَةِ وَأما خبر خَالِد فِي النَّهْي عَن أكل لُحُوم الْخَيل فَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَغَيره مُنكر
وَقَالَ أَبُو دَاوُد مَنْسُوخ
وبقر وَحش وَهُوَ أشبه شَيْء بالمعز الْأَهْلِيَّة وحمار وَحش لِأَنَّهُمَا من الطَّيِّبَات وَلما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الثَّانِي كلوا من لَحْمه وَأكل مِنْهُ وَقيس بِهِ الأول
وظبي وظبية بِالْإِجْمَاع
وضبع لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يحل أكله وَلِأَن نابه ضَعِيف لَا يتقوى بِهِ وَهُوَ من أَحمَق الْحَيَوَان
لِأَنَّهُ يتناوم حَتَّى يصاد وَهُوَ اسْم للْأُنْثَى قَالَ الدَّمِيرِيّ وَمن عَجِيب أمرهَا أَنَّهَا تحيض وَتَكون سنة ذكرا وَسنة أُنْثَى وَيُقَال للذّكر ضبعان وضب لِأَنَّهُ أكل على مائدته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَضْرَتِهِ
وَلم يَأْكُل مِنْهُ فَقيل لَهُ أحرام هُوَ قَالَ لَا
وَلكنه لَيْسَ بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه وَهُوَ حَيَوَان للذّكر مِنْهُ ذكران وللأنثى فرجان
وأرنب وَهُوَ حَيَوَان يشبه العناق قصير الْيَدَيْنِ طَوِيل الرجلَيْن قصير عكس الزرافة لِأَنَّهُ بعث بوركها إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبله وَأكل مِنْهُ
رَوَاهُ البُخَارِيّ وثعلب لِأَنَّهُ من الطَّيِّبَات وَلَا يتقوى بنابه وكنيته أَبُو الْحصين وَالْأُنْثَى ثَعْلَبَة وكنيتها أم هويل ويربوع لِأَن الْعَرَب تستطيبه ونابه ضَعِيف وفنك بِفَتْح الْفَاء وَالنُّون لِأَن الْعَرَب تستطيبه
وَهُوَ حَيَوَان يُؤْخَذ من جلده الفرو للينه وَخِفته وسمور بِفَتْح الْمُهْملَة وَضم الْمِيم الْمُشَدّدَة
وسنجاب لِأَن الْعَرَب تستطيب ذَلِك
وهما نَوْعَانِ من ثعالب(2/583)
التّرْك وقنفذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة
والوبر بِإِسْكَان الْمُوَحدَة دويبة أَصْغَر من الهر كحلاء الْعين لَا ذَنْب لَهَا
والدلدل وَهُوَ دويبة قدر السخلة ذَات شوك طَوِيل يشبه السِّهَام وَابْن عرس وَهُوَ دويبة رقيقَة تعادي الفأر تدخل جُحْره وتخرجه
والحواصل وَيُقَال لَهُ حوصل وَهُوَ طَائِر أَبيض أكبر من الكركي ذُو حوصلة عَظِيمَة يتَّخذ مِنْهَا فرو وَيحرم كل مَا ندب قَتله لإيذائه كحية وعقرب وغراب أبقع وحدأة وفأرة والبرغوث والزنبور بِضَم الزَّاي والبق وَإِنَّمَا ندب قَتلهَا لإيذائها
كَمَا مر إِذْ لَا نفع فِيهَا وَمَا فِيهِ نفع ومضرة لَا يسْتَحبّ قَتله لنفعه وَلَا يكره لضرره
وَيكرهُ قتل مَا لَا ينفع وَلَا يضر كالخنافس والجعلان وَهُوَ دويبة مَعْرُوفَة تسمى الزعقوق
وَالْكَلب غير الْعَقُور الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ مُبَاحَة وَتحرم الرخمة وَهُوَ طَائِر أَبيض والبغاثة لِأَنَّهَا كالحدأة وَهِي طَائِر أَبيض بطيء الطيران والببغاء بِفَتْح الموحدتين وَتَشْديد الثَّانِيَة وَهُوَ الطَّائِر الْمَعْرُوف بِالدرةِ والطاووس وَهُوَ طَائِر فِي طبعه الْعِفَّة وَيُحب الزهو بِنَفسِهِ وَالْخُيَلَاء والإعجاب بريشه وَهُوَ مَعَ حسنه يتشاءم بِهِ
وَوجه تَحْرِيمه وَمَا قبله خبثهما وَلَا يحل مَا نهى عَن قَتله كخطاف وَيُسمى عُصْفُور الْجنَّة لِأَنَّهُ زهد مَا فِي أَيدي النَّاس من الأقوات ونمل وذباب وَلَا تحل الحشرات وَهِي صغَار دَوَاب الأَرْض كخنفساء ودود وَلَا مَا تولد من مَأْكُول وَغَيره كمتولد بَين كلب وشَاة فَلَو لم نر ذَلِك وَولدت شَاة سخلة تشبه الْكَلْب
قَالَ الْبَغَوِيّ لَا تحرم لِأَنَّهُ قد يحصل الْخلق على خلاف صُورَة الأَصْل وَمن الْمُتَوَلد بَين مَأْكُول وَغَيره السّمع بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة فَإِنَّهُ متولد بَين الذِّئْب والضبع والبغل لتولده بَين فرس وحمار كَمَا مر
والزرافة وَهِي بِفَتْح الزَّاي وَضمّهَا وبتحريمها جزم صَاحب التَّنْبِيه وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْمَجْمُوع إِنَّه لَا خلاف فِيهِ
وَمنع ابْن الرّفْعَة التَّحْرِيم وَحكي أَن الْبَغَوِيّ أفتى بحلها قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الصَّوَاب ومنقول اللُّغَة أَنَّهَا مُتَوَلّدَة بَين مأكولين من الْوَحْش
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ مَا فِي الْمَجْمُوع سَهْو وَصَوَابه الْعَكْس اه
وَهَذَا الْخلاف يرجع فِيهِ إِلَى الْوُجُود إِن ثَبت أَنَّهَا مُتَوَلّدَة بَين مأكولين فَمَا يَقُول هَؤُلَاءِ ظَاهر وَإِلَّا فَالْمُعْتَمَد مَا فِي الْمَجْمُوع وَيحل كركي وبط وإوز ودجاج وحمام وَهُوَ كل مَا عب وهدر وَمَا على شكل عُصْفُور
وَإِن اخْتلف لَونه كعندليب وَهُوَ الهزار وصعوة وَهِي صغَار العصافير وَيحل غراب الزَّرْع على الْأَصَح وَهُوَ أسود صَغِير يُقَال لَهُ الزاغ وَقد يكون محمر المنقار وَالرّجلَيْنِ لِأَنَّهُ مستطاب يَأْكُل الزَّرْع يشبه الفواخت
وَأما مَا عدا الأبقع الْحَرَام وغراب الزَّرْع الْحَلَال فأنواع أَحدهَا العقعق
وَيُقَال لَهُ القعقع وَهُوَ ذُو لونين أَبيض وأسود طَوِيل الذَّنب قصير الْجنَاح عَيناهُ يشبهان الزئبق صَوته العقعقة
كَانَت الْعَرَب تتشاءم بِصَوْتِهِ ثَانِيهَا الغداف الْكَبِير وَيُسمى الْغُرَاب الْجبلي لِأَنَّهُ لَا يسكن إِلَّا الْجبَال فهذان حرامان لخبثهما ثَالِثهَا الغداف الصَّغِير وَهُوَ أسود رمادي اللَّوْن
وَهَذَا قد اخْتلف فِيهِ فَقيل يحرم كَمَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة
وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري لِلْأَمْرِ بقتل الْغُرَاب فِي خبر مُسلم وَقيل بحله كَمَا هُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ وَهُوَ الظَّاهِر
وَقد صرح بحله الْبَغَوِيّ والجرجاني وَالرُّويَانِيّ
وَعلله بِأَنَّهُ يَأْكُل الزَّرْع وَاعْتَمدهُ الْإِسْنَوِيّ والبلقيني (وَيحل للْمُضْطَر) أَي يجب عَلَيْهِ إِذا خَافَ على نَفسه
(فِي) حَال (المخمصة) بميمين مفتوحتين بَينهمَا خاء مُعْجمَة وبعدهما صَاد أَي المجاعة موتا أَو مَرضا مخوفا أَو زِيَادَته أَو طول مدَّته أَو انْقِطَاعه عَن رفقته أَو خوف ضعف عَن مشي أَو ركُوب
وَلم يجد حَلَالا يَأْكُلهُ
(أَن يَأْكُل من الْميتَة الْمُحرمَة) عَلَيْهِ قبل اضطراره لِأَن تَاركه ساع فِي هَلَاك نَفسه وكما يجب دفع الْهَلَاك(2/584)
بِأَكْل الْحَلَال وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} فَلَا يشْتَرط تحقق وُقُوعه لَو لم يَأْكُل بل يَكْفِي فِي ذَلِك الظَّن كَمَا فِي الْإِكْرَاه على أكل ذَلِك فَلَا يشْتَرط فِيهِ التيقن وَلَا الإشراف على الْمَوْت بل لَو انْتهى إِلَى هَذِه الْحَالة لم يحل لَهُ أكله فَإِنَّهُ غير مُفِيد كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك العَاصِي بِسَفَرِهِ فَلَا يُبَاح لَهُ الْأكل حَتَّى يَتُوب قَالَ البُلْقِينِيّ وكالعاصي بِسَفَرِهِ مراق الدَّم كالمرتد
وَالْحَرْبِيّ فَلَا يأكلان من ذَلِك حَتَّى يسلما قَالَ وَكَذَا مراق الدَّم من الْمُسلمين وَهُوَ مُتَمَكن من إِسْقَاط الْقَتْل بِالتَّوْبَةِ كتارك الصَّلَاة
وَمن قتل فِي قطع الطَّرِيق قَالَ وَلم أر من تعرض لَهُ وَهُوَ مُتَعَيّن
تَنْبِيه أفهم إِطْلَاق المُصَنّف الْميتَة الْمُحرمَة التَّخْيِير بَين أَنْوَاعهَا كميتة شَاة وحمار لَكِن لَو كَانَت الْميتَة من حَيَوَان نجس فِي حَيَاته كخنزير وميتة حَيَوَان طَاهِر فِي حَيَاته كحمار وَجب تَقْدِيم ميتَة الطَّاهِر كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع وَهُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالفه الْإِسْنَوِيّ ثمَّ إِن توقع الْمُضْطَر حَلَالا على قرب لم يجز أَن يَأْكُل غير (مَا يسدد رمقه) لاندفاع الضَّرُورَة بِهِ وَقد يجد بعده الْحَلَال وَلقَوْله تَعَالَى {غير متجانف لإثم} قيل أَرَادَ بِهِ الشِّبَع قَالَ الْإِسْنَوِيّ وَمن تبعه والرمق بَقِيَّة الرّوح كَمَا قَالَه جمَاعَة وَقَالَ بَعضهم إِنَّه الْقُوَّة وَبِذَلِك ظهر لَك أَن الشد الْمَذْكُور بالشين الْمُعْجَمَة لَا بِالْمُهْمَلَةِ قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره الَّذِي نَحْفَظهُ أَنه بِالْمُهْمَلَةِ
وَهُوَ كَذَلِك فِي الْكتب وَالْمعْنَى عَلَيْهِ صَحِيح لِأَن المُرَاد سد الْخلَل الْحَاصِل فِي ذَلِك بِسَبَب الْجُوع نعم إِن خَافَ تلفا أَو حُدُوث مرض أَو زِيَادَته إِن اقْتصر على سد الرمق جَازَت لَهُ الزِّيَادَة بل وَجَبت لِئَلَّا يهْلك نَفسه
تَنْبِيه يجوز لَهُ التزود من الْمُحرمَات وَلَو رجا الْوُصُول إِلَى الْحَلَال وَيبدأ وجوبا بلقمة حَلَال ظفر بهَا فَلَا يجوز أَن يَأْكُل مِمَّا ذكر حَتَّى يأكلها لتحَقّق الضَّرُورَة وَإِذا وجد الْحَلَال بعد تنَاوله الْميتَة وَنَحْوهَا لزمَه الْقَيْء أَي إِذا لم يضرّهُ كَمَا هُوَ قَضِيَّة نَص الْأُم فَإِنَّهُ قَالَ وَإِن أكره رجل حَتَّى شرب خمرًا أَو أكل محرما فَعَلَيهِ أَن يتقايأ إِذا قدر عَلَيْهِ وَلَو عَم الْحَرَام جَازَ اسْتِعْمَال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا يقْتَصر على الضَّرُورَة قَالَ الإِمَام بل على الْحَاجة قَالَ ابْن عبد السَّلَام هَذَا إِن توقع معرفَة الْمُسْتَحق إِذْ المَال عِنْد الْيَأْس مِنْهَا للْمصَالح الْعَامَّة وللمضطر أكل آدَمِيّ ميت إِذا لم يجد ميتَة غَيره كَمَا قَيده الشَّيْخَانِ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة لِأَن حُرْمَة الْحَيّ أعظم من حُرْمَة الْمَيِّت
واستثني من ذَلِك مَا إِذا كَانَ الْمَيِّت نَبيا فَإِنَّهُ لَا يجوز الْأكل مِنْهُ جزما
فَإِن قيل كَيفَ يَصح هَذَا الِاسْتِثْنَاء والأنبياء أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ كَمَا صحت بِهِ الْأَحَادِيث
أُجِيب بِأَنَّهُ يتَصَوَّر ذَلِك من مُضْطَر وجد ميتَة نَبِي قبل دَفنه وَأما إِذا كَانَ الْمَيِّت مُسلما والمضطر كَافِرًا فَإِنَّهُ لَا يجوز الْأكل(2/585)
مِنْهُ لشرف الْإِسْلَام
وَحَيْثُ جَوَّزنَا أكل ميتَة الْآدَمِيّ لَا يجوز طبخها وَلَا شيها لما فِي ذَلِك من هتك حرمته وَيتَخَيَّر فِي غَيره بَين أكله نيئا وَغَيره
وَله قتل مُرْتَد وَأكله وَقتل حَرْبِيّ وَلَو صَغِيرا أَو امْرَأَة وَأكله لِأَنَّهُمَا غير معصومين
وَإِنَّمَا حرم قتل الصَّبِي الْحَرْبِيّ وَالْمَرْأَة الحربية فِي غير الضَّرُورَة لَا لحرمتهما بل لحق الْغَانِمين وَله قتل الزَّانِي الْمُحصن والمحارب
وتارك الصَّلَاة وَمن لَهُ عَلَيْهِ قصاص وَإِن لم يَأْذَن الإِمَام فِي الْقَتْل لِأَن قَتلهمْ مُسْتَحقّ
وَإِنَّمَا اعتبروا إِذْنه فِي غير حَال الضَّرُورَة تأدبا مَعَه وَحَال الضَّرُورَة لَيْسَ فِيهَا رِعَايَة أدب وَحكم مجانين أهل الْحَرْب وأرقائهم وخنثاهم كصبيانهم قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَو وجد الْمُضْطَر صَبيا مَعَ بَالغ حربيين أكل الْبَالِغ وكف عَن الصَّبِي لما فِي أكله من ضيَاع المَال
وَلِأَن الْكفْر الْحَقِيقِيّ أبلغ من الْكفْر الْحكمِي انْتهى
وَكَذَا يُقَال فِيمَا شبه بِالصَّبِيِّ وَمحل الْإِبَاحَة كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ إِذا لم يستول على الصَّبِي وَالْمَرْأَة أَي وَنَحْوهمَا وَإِلَّا صَارُوا أرقاء معصومين لَا يجوز قَتلهمْ لحق الْغَانِمين وَلَا يجوز قتل ذمِّي ومعاهد لحُرْمَة قَتلهمَا وَلَو وجد مُضْطَر طَعَام غَائِب أكل مِنْهُ وَغرم بدله أَو حَاضر مُضْطَر إِلَيْهِ لم يلْزمه بذله لغيره إِن لم يفضل عَنهُ بل هُوَ أَحَق بِهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابدأ بِنَفْسِك وإبقاء لمهجته
نعم إِن كَانَ غير الْمَالِك نَبيا وَجب بذله لَهُ فَإِن آثر الْمُضْطَر مُضْطَرّا مُسلما مَعْصُوما جَازَ بل سنّ وَإِن كَانَ أولى بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة لقَوْله تَعَالَى {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} وَهُوَ من شيم الصَّالِحين وَخرج بِالْمُسلمِ الْكَافِر والبهيمة وبالمعصوم مراق الدَّم فَيجب عَلَيْهِ أَن يقدم نَفسه على هَؤُلَاءِ أَو وجد طَعَام حَاضر غير مُضْطَر لزمَه بذله لمعصوم بِثمن مثل مَقْبُوض إِن حضر وَإِلَّا فَفِي ذمَّته وَلَا ثمن لَهُ إِن لم يذكرهُ وَإِن امْتنع غير الْمُضْطَر من بذله بِالثّمن فللمضطر قَبره وَأخذ الطَّعَام وَإِن قَتله وَلَا يضمنهُ بقتْله إِلَّا إِن كَانَ مُسلما والمضطر كَافِر مَعْصُوم فَيضمنهُ كَمَا بَحثه ابْن أبي الدَّم أَو وجد مُضْطَر ميتَة وَطَعَام غَيره لم يبذله لَهُ أَو ميتَة وصيدا حرم بِإِحْرَام أَو حرم تعيّنت الْميتَة
وَيحل قطع جُزْء نَفسه لأكله إِن فقد نَحْو ميتَة وَإِن كَانَ خوف قطعه أقل وَيحرم قطع بعضه لغيره من الْمُضْطَرين لِأَن قطعه لغيره لَيْسَ فِيهِ قطع الْبَعْض لاستبقاء الْكل نعم إِن كَانَ ذَلِك الْغَيْر نَبيا لم يحرم بل يجب وَيحرم على الْمُضْطَر أَيْضا أَن يقطع لنَفسِهِ قِطْعَة من حَيَوَان مَعْصُوم لما مر
(وَلنَا ميتَتَانِ حلالان) وهما (السّمك وَالْجَرَاد) وَلَو بقتل مَجُوسِيّ لخَبر أحلّت لنا ميتَتَانِ السّمك وَالْجَرَاد فَيحل أكلهما وبلعهما
وَإِن لم يشبه السّمك الْمَشْهُور ككلب وخنزير وَفرس وَكره قطعهمَا حيين
وَيكرهُ ذبحهما إِلَّا سَمَكَة كَبِيرَة يطول بَقَاؤُهَا(2/586)
فَيسنّ ذَبحهَا وَيحرم مَا يعِيش فِي بر وبحر كضفدع وسرطان
وَيُسمى عقرب المَاء وحية ونسناس وتمساح وسلحفاة بِضَم السِّين وَفتح اللَّام لخبث لَحمهَا وللنهي عَن قتل الضفدع
فَائِدَة روى الْقزْوِينِي عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله خلق فِي الأَرْض ألف أمة سِتّمائَة فِي الْبَحْر وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبر وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان لله تَعَالَى ثَمَانُون ألف عَالم أَرْبَعُونَ ألفا فِي الْبَحْر وَأَرْبَعُونَ ألفا فِي الْبر (وَدَمَانِ حلالان) وهما (الكبد) بِكَسْر الْمُوَحدَة على الْأَفْصَح (وَالطحَال) بِكَسْر الطَّاء لحَدِيث أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال رَفعه ابْن مَاجَه بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَصحح الْبَيْهَقِيّ وَقفه عَلَيْهِ وَقَالَ حكمه حكم الْمَرْفُوع
وَلذَا قَالَ فِي الْمَجْمُوع الصَّحِيح أَن ابْن عمر هُوَ الْقَائِل أحلّت لنا
وَأَنه يكون بِهَذِهِ الصِّيغَة مَرْفُوعا
تَتِمَّة أفضل مَا أكلت مِنْهُ كسبك من زراعة لِأَنَّهَا أقرب إِلَى التَّوَكُّل ثمَّ من صناعَة لِأَن الْكسْب فِيهَا يحصل بكد الْيَمين ثمَّ من تِجَارَة لِأَن الصَّحَابَة كَانُوا يكتسبون بهَا
وَيحرم مَا يضر الْبدن أَو الْعقل كالحجر وَالتُّرَاب والزجاج والسم كالأفيون وَهُوَ لبن الخشخاش لِأَن ذَلِك مُضر وَرُبمَا يقتل وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}
قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي شرح التَّنْبِيه وَيحرم أكل الشواء المكمور وَهُوَ مَا يكفأ عَلَيْهِ غطاء بعد استوائه لإضراره بِالْبدنِ
وَيسن ترك التبسط فِي الطَّعَام الْمُبَاح فَإِنَّهُ لَيْسَ من أَخْلَاق السّلف هَذَا إِذا لم تدع إِلَيْهِ حَاجَة كقرى الضَّعِيف وأوقات التَّوسعَة على الْعِيَال كَيَوْم عَاشُورَاء ويومي الْعِيد وَلم يقْصد بذلك التفاخر وَالتَّكَاثُر بل لطيب خاطر الضَّعِيف والعيال وَقَضَاء وطرهم مِمَّا يشتهونه وَفِي إِعْطَاء النَّفس شهواتها الْمُبَاحَة مَذَاهِب حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيّ منعهَا وقهرها لِئَلَّا تطغى وَالثَّانِي إعطاؤها تحيلا على نشاطها وبعثا لروحانيتها
قَالَ وَالْأَشْبَه التَّوَسُّط بَين الْأَمريْنِ لِأَن فِي إعطائها الْكل سلاطة عَلَيْهِ وَفِي منعهَا بلادة
وَيسن الحلو من الْأَطْعِمَة وَكَثْرَة الْأَيْدِي على الطَّعَام وَأَن يحمد الله تَعَالَى عقب الْأكل وَالشرب
وروى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أكل أَو شرب قَالَ الْحَمد لله الَّذِي أطْعم وَسَقَى وسوغه وَجعل لَهُ مخرجا
فصل فِي الْأُضْحِية
مُشْتَقَّة من الضحوة وَسميت بِأول زمَان فعلهَا
وَهُوَ الضُّحَى وَهِي بِضَم همزتها وَكسرهَا وَتَشْديد يائها وتخفيفها مَا يذبح
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فصل لِرَبِّك وانحر} فَإِن أشهر(2/587)
من الْغنم تقربا إِلَى الله تَعَالَى من يَوْم الْعِيد إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق الْأَقْوَال أَن المُرَاد بِالصَّلَاةِ صَلَاة الْعِيد وبالنحر الضَّحَايَا وَخبر التِّرْمِذِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا عمل ابْن آدم يَوْم النَّحْر من عمل أحب إِلَى الله تَعَالَى من إِرَاقَة الدَّم إِنَّهَا لتأتي يَوْم الْقِيَامَة بقرونها وأظلافها وَإِن الدَّم ليَقَع من الله بمَكَان قبل أَن يَقع على الأَرْض فطيبوا بهَا نفسا (وَالْأُضْحِيَّة) بِمَعْنى التَّضْحِيَة كَمَا فِي الرَّوْضَة لَا الْأُضْحِية كَمَا يفهمهُ كَلَامه لِأَن الْأُضْحِية اسْم لما يضحى بِهِ
(سنة) مُؤَكدَة فِي حَقنا على الْكِفَايَة إِن تعدد أهل الْبَيْت فَإِذا فعلهَا وَاحِد من أهل الْبَيْت كفى عَن الْجَمِيع وَإِلَّا فَسنة عين والمخاطب بهَا الْمُسلم الْحر الْبَالِغ الْعَاقِل المستطيع
وَكَذَا الْمبعض إِذا ملك مَالا بِبَعْضِه الْحر قَالَه فِي الْكِفَايَة
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَا بُد أَن تكون فاضلة عَن حَاجته وحاجة من يمونه لِأَنَّهَا نوع صَدَقَة وَظَاهر هَذَا أَنه يَكْفِي أَن تكون فاضلة عَمَّا يَحْتَاجهُ فِي ليلته ويومه وَكِسْوَة فَصله كَمَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع وَيَنْبَغِي أَن تكون فاضلة عَن يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فَإِنَّهُ وقتهما كَمَا أَن يَوْم الْعِيد وَلَيْلَة الْعِيد وَقت زَكَاة الْفطر واشترطوا فِيهَا أَن تكون فاضلة عَن ذَلِك وَأما الْمكَاتب فَهِيَ مِنْهُ تبرع فَيجْرِي فِيهَا مَا يجْرِي فِي سَائِر تبرعاته
تَنْبِيه شَمل كَلَام المُصَنّف أهل الْبَوَادِي والحضر وَالسّفر والحاج وَغَيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى فِي منى عَن نِسَائِهِ بالبقر
رَوَاهُ الشَّيْخَانِ والتضحية أفضل من صَدَقَة التَّطَوُّع للِاخْتِلَاف فِي وُجُوبهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا أرخص فِي تَركهَا لمن قدر عَلَيْهَا
انْتهى أَي فَيكْرَه للقادر تَركهَا وَيسن لمن يريدها أَن لَا يزِيل شعره وَلَا ظفره فِي عشر ذِي الْحجَّة حَتَّى يُضحي وَلَا تجب إِلَّا بِالنذرِ
وَيسن أَن يذبح الْأُضْحِية الرجل بِنَفسِهِ إِن أحسن الذّبْح لِلِاتِّبَاعِ
أما الْمَرْأَة فَالسنة لَهَا أَن توكل كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَالْخُنْثَى مثلهَا وَمن لم يذبح لعذر أَو لغيره فليشهدها لما روى الْحَاكِم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لفاطمة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قومِي إِلَى أضحيتك فاشهديها فَإِنَّهُ بِأول قَطْرَة مِنْهَا أَي من دَمهَا يغْفر لَك مَا سلف من ذنوبك
قَالَ عمرَان بن حُصَيْن هَذَا لَك وَلأَهل بَيْتك فَأهل ذَلِك أَنْتُم أم للْمُسلمين عَامَّة قَالَ بل للْمُسلمين عَامَّة وَشرط التَّضْحِيَة نعم إبل وبقر وغنم لقَوْله تَعَالَى {وَلكُل أمة جعلنَا منسكا لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَلِأَن التَّضْحِيَة عبَادَة تتَعَلَّق بِالْحَيَوَانِ فاختصت بِالنعَم كَالزَّكَاةِ
(ويجزىء فِيهَا) من النعم (الْجذع من الضَّأْن) وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنة وَطعن فِي الثَّانِيَة وَلَو أجذع قبل تَمام السّنة
أَي سَقَطت أَسْنَانه أَجْزَأَ لعُمُوم خبر أَحْمد ضحوا بالجذع من الضَّأْن فَإِنَّهُ جَائِز أَي وَيكون ذَلِك كالبلوغ بِالسِّنِّ أَو الِاحْتِلَام فَإِنَّهُ يَكْفِي أسبقهما كَمَا صرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة (والثني من الْمعز) وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنتَيْن وَطعن فِي الثَّالِثَة (و) الثني من (الْإِبِل) وَهُوَ مَا اسْتكْمل خمس سِنِين وَطعن فِي السَّادِسَة
(و) الثني من (الْبَقر) الْإِنْسِي وَهُوَ مَا اسْتكْمل سنتَيْن وَطعن فِي الثَّالِثَة(2/588)
وَخرج بِقَيْد الْإِنْسِي والوحشي فَلَا يجزىء فِي الْأُضْحِية وَإِن دخل فِي اسْم الْبَقر وتجزىء التَّضْحِيَة بِالذكر وَالْأُنْثَى بِالْإِجْمَاع وَإِن كثر نزوان الذّكر وولادة الْأُنْثَى نعم التَّضْحِيَة بِالذكر أفضل على الْأَصَح الْمَنْصُوص لِأَن لَحْمه أطيب
كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَنقل فِي الْمَجْمُوع فِي بَاب الْهَدْي عَن الشَّافِعِي أَن الْأُنْثَى أحسن من الذّكر لِأَنَّهَا أرطب لَحْمًا وَلم يحك غَيره
وَيُمكن حمل الأول على مَا إِذا لم يكثر نزوانه
وَالثَّانِي على مَا إِذا كثر
تَنْبِيه لم يتَعَرَّض كثير من الْفُقَهَاء لإجزاء الْخُنْثَى فِي الْأُضْحِية وَقَالَ النَّوَوِيّ إِنَّه يجزىء لِأَنَّهُ ذكر أَو أُنْثَى وَكِلَاهُمَا يجزىء وَلَيْسَ فِيهِ مَا ينقص اللَّحْم (وتجزىء الْبَدنَة) عِنْد الِاشْتِرَاك فِيهَا (عَن سَبْعَة) لما رَوَاهُ مُسلم عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهلين بِالْحَجِّ فَأمرنَا أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر كل سَبْعَة منا فِي بَدَنَة وَسَوَاء اتَّفقُوا فِي نوع الْقرْبَة أَو اخْتلفُوا كَمَا إِذا قصد بَعضهم التَّضْحِيَة وَبَعْضهمْ الْهَدْي وَكَذَا لَو أَرَادَ بَعضهم اللَّحْم وَبَعْضهمْ الْأُضْحِية وَلَهُم قسْمَة اللَّحْم لِأَن قسمته قسْمَة إِفْرَاز على الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع
(و) كَذَا
(الْبَقَرَة) تجزىء (عَن سَبْعَة) للْحَدِيث الْمَار
تَنْبِيه لَا يخْتَص إِجْزَاء الْبَدنَة وَالْبَقَرَة عَن سَبْعَة بالتضحية بل لَو لزم شخصا سبع شِيَاه بِأَسْبَاب مُخْتَلفَة كالتمتع وَالْقرَان والفوات ومباشرة مَحْظُورَات الْإِحْرَام جَازَ عَن ذَلِك بَدَنَة أَو بقرة
(و) تجزىء (الشَّاة) الْمعينَة من الضَّأْن أَو الْمعز (عَن وَاحِد) فَقَط فَإِن ذَبحهَا عَنهُ وَعَن أَهله أَو عَنهُ وأشرك غَيره فِي ثَوَابهَا جَازَ وَعَلِيهِ حمل خبر مُسلم ضحى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكبشين وَقَالَ اللَّهُمَّ تقبل من مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد وَمن أمة مُحَمَّد قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ لذَلِك الْخَبَر الصَّحِيح فِي الْمُوَطَّأ أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَ كُنَّا نضحي بِالشَّاة الْوَاحِدَة يذبحها الرجل عَنهُ وَعَن أهل بَيته
ثمَّ تباهى النَّاس بعد فَصَارَت مباهاة وَخرج بمعينة الِاشْتِرَاك فِي شَاتين مشاعتين بَين اثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَصح
وَكَذَا لَو اشْترك أَكثر من سَبْعَة فِي بقرتين مشاعتين أَو بدنتين كَذَلِك لم يجز عَنْهُم ذَلِك لِأَن كل وَاحِد لم يَخُصُّهُ سبع بَدَنَة أَو بقرة من كل وَاحِدَة من ذَلِك والمتولد بَين إبل وغنم أَو بقر وغنم يَنْبَغِي أَنه لَا يجزىء عَن أَكثر من وَاحِد
وَأفضل أَنْوَاع التَّضْحِيَة بِالنّظرِ لإِقَامَة شعارها بَدَنَة ثمَّ بقرة لِأَن لحم الْبَدنَة أَكثر ثمَّ ضَأْن ثمَّ معز لطيب الضَّأْن على الْمعز ثمَّ الْمُشَاركَة فِي بَدَنَة أَو بقرة أما بِالنّظرِ للحم فلحم الضَّأْن خَيرهَا وَسبع شِيَاه أفضل من بَدَنَة أَو بقرة وشَاة أفضل من مُشَاركَة فِي بَدَنَة أَو بقرة للانفراد بإراقة الدَّم وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَاب السمين فِي الْأُضْحِية فالسمينة أفضل من غَيرهَا ثمَّ مَا تقدم من الْأَفْضَلِيَّة(2/589)
فِي الذَّات
وَأما فِي الألوان فالبيضاء أفضل ثمَّ الصَّفْرَاء ثمَّ العفراء وَهِي الَّتِي لَا يصفو بياضها ثمَّ الْحَمْرَاء ثمَّ البلقاء ثمَّ السَّوْدَاء قيل للتعبد وَقيل لحسن المنظر وَقيل لطيب اللَّحْم وروى الإِمَام أَحْمد خبر لدم عفراء أحب إِلَى الله تَعَالَى من دم سوداوين (وَأَرْبع لَا تجزىء فِي الضَّحَايَا) الأولى (العوراء) بِالْمدِّ (الْبَين عورها) بِأَن لم تبصر بِإِحْدَى عينيها وَإِن بقيت الحدقة
فَإِن قيل لَا حَاجَة لتقييد العور بالبين لِأَن الْمدَار فِي عدم إِجْزَاء العوراء على ذهَاب الْبَصَر من إِحْدَى الْعَينَيْنِ
أُجِيب بِأَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أصل العور بَيَاض يُغطي النَّاظر وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَتَارَة يكون يَسِيرا فَلَا يضر
فَلَا بُد من تَقْيِيده بالبين كَمَا فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ الْآتِي
تَنْبِيه قد علم من كَلَامه عدم إِجْزَاء العمياء بطرِيق الأولى وتجزىء العمشاء وَهِي ضَعِيفَة الْبَصَر مَعَ سيلان الدمع غَالِبا والمكوية لِأَن ذَلِك لَا يُؤثر فِي اللَّحْم والعشواء وَهِي الَّتِي لَا تبصر لَيْلًا لِأَنَّهَا تبصر وَقت الرَّعْي غَالِبا
(و) الثَّانِيَة (العرجاء) بِالْمدِّ (الْبَين عرجها) بِأَن يشْتَد عرجها بِحَيْثُ تسبقها الْمَاشِيَة إِلَى المرعى
وتتخلف عَن القطيع فَلَو كَانَ عرجها يَسِيرا بِحَيْثُ لَا تتخلف بِهِ عَن الْمَاشِيَة لم يضر كَمَا فِي الرَّوْضَة
(و) الثَّالِثَة (الْمَرِيضَة الْبَين مَرضهَا) بِأَن يظْهر بِسَبَبِهِ هزالها وَفَسَاد لَحمهَا فَلَو كَانَ مَرضهَا يَسِيرا لم يضر وَيدخل فِي إِطْلَاق المُصَنّف الهيماء بِفَتْح الْهَاء وَالْمدّ فَلَا تجزىء لِأَن الهيام كالمرض يَأْخُذ الْمَاشِيَة فتهيم فِي الأَرْض وَلَا ترعى كَمَا قَالَه فِي الزَّوَائِد
(و) الرَّابِعَة (الْعَجْفَاء) بِالْمدِّ وَهِي (الَّتِي ذهب لَحمهَا) السمين بِسَبَب مَا حصل لَهَا (من الهزال) بِضَم الْهَاء وَهُوَ كَمَا قَالَه الْجَوْهَرِي ضد السّمن وَيدل لما قَالَه المُصَنّف مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَربع لَا تجزىء فِي الْأَضَاحِي العوراء الْبَين عورها والمريضة الْبَين مَرضهَا والعرجاء الْبَين عرجها والعجفاء الَّتِي لَا تنقى مَأْخُوذَة من النقي بِكَسْر النُّون وَإِسْكَان الْقَاف وَهُوَ المخ أَي لَا مخ لَهَا من شدَّة الهزال
وَعلم من هَذَا عدم إِجْزَاء الْمَجْنُونَة وَهِي الَّتِي تَدور فِي المرعى وَلَا ترعى إِلَّا قَلِيلا فتهزل وَتسَمى أَيْضا التواء بل هُوَ أولى بهَا
تَنْبِيه قد عرفت مَا تنَاوله كَلَام المُصَنّف من أَن العمياء والهيماء والمجنونة لَا تجزىء وَبِه صَارَت الْعُيُوب الْمَذْكُورَة سَبْعَة وَبَقِي مِنْهَا مَا لَا يتَنَاوَلهُ كَلَام المُصَنّف الجرباء وَإِن كَانَ الجرب يَسِيرا على الْأَصَح الْمَنْصُوص
لِأَنَّهُ يفْسد اللَّحْم والودك وَالْحَامِل فَلَا تجزىء
كَمَا حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَتَبعهُ عَلَيْهِ فِي الْمُهِمَّات وتعجب من ابْن الرّفْعَة حَيْثُ صحّح فِي الْكِفَايَة الْإِجْزَاء
فَائِدَة ضَابِط المجزىء فِي الْأُضْحِية السَّلامَة من عيب ينقص اللَّحْم أَو غَيره مِمَّا يُؤْكَل (ويجزىء الْخصي) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحى بكبشين موجوءين أَي خصيين رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا وجبر مَا قطع(2/590)
مِنْهُ زِيَادَة لَحْمه طيبا وَكَثْرَة وَأَيْضًا الخصية المفقودة مِنْهُ غير مَقْصُودَة بِالْأَكْلِ فَلَا يضر فقدها
وَاتفقَ الْأَصْحَاب إِلَّا ابْن الْمُنْذر على جَوَاز خصاء الْمَأْكُول فِي صغره دون كبره وتحريمه فِيمَا لَا يُؤْكَل كَمَا أوضحته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره
(و) تجزىء (الْمَكْسُورَة الْقرن) مَا لم يعب اللَّحْم وَإِن دمي بِالْكَسْرِ لِأَن الْقرن لَا يتَعَلَّق بِهِ كَبِير غَرَض وَلِهَذَا لَا يضر فَقده خلقَة فَإِن عيب اللَّحْم ضرّ كالجرب وَغَيره وَذَات الْقرن أولى لخَبر خير الضحية الْكَبْش الأقرن وَلِأَنَّهُ أحسن منْظرًا بل يكره غَيرهَا
كَمَا نَقله فِي الْمَجْمُوع عَن الْأَصْحَاب وَلَا يضر ذهَاب بعض الْأَسْنَان لِأَنَّهُ لَا يُؤثر فِي الاعتلاف وَنقص اللَّحْم فَلَو ذهب الْكل ضرّ لِأَنَّهُ يُؤثر فِي ذَلِك
وَقَضِيَّة هَذَا التَّعْلِيل أَن ذهَاب الْبَعْض إِذا أثر يكون كَذَلِك وَهُوَ الظَّاهِر وَيدل لذَلِك قَول الْبَغَوِيّ ويجزىء مكسور سنّ أَو سِنِين ذكره الْأَذْرَعِيّ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيّ
(وَلَا يجزىء مَقْطُوع) بعض (الْأذن) وَإِن كَانَ يَسِيرا لذهاب جُزْء مَأْكُول
وَقَالَ أَبُو حنيفَة إِن كَانَ الْمَقْطُوع دون الثُّلُث أَجْزَأَ وَأفهم كَلَام المُصَنّف منع كل الْأذن بطرِيق الأولى وَمنع المخلوقة بِلَا أذن وَهُوَ مَا اقْتصر عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ بِخِلَاف فاقدة الضَّرع أَو الألية أَو الذَّنب خلقَة فَإِنَّهُ لَا يضر
وَالْفرق أَن الْأذن عُضْو لَازم غَالِبا بِخِلَاف مَا ذكر فِي الْأَوَّلين وكما يجزىء ذكر الْمعز وَأما فِي الثَّالِث فقياسا على ذَلِك أما إِذا فقد ذَلِك بِقطع وَلَو لبَعض مِنْهُ كَمَا يُؤْخَذ من قَوْله (وَلَا مَقْطُوع) بعض (الذَّنب) وَإِن قل أَو بِقطع بعض لِسَان فَإِنَّهُ يضر لحدوث مَا يُؤثر فِي نقص اللَّحْم وَبحث بَعضهم أَن شلل الْأذن كفقدها وَهُوَ ظَاهر أَن خرج عَن كَونه مَأْكُولا وَلَا يضر شقّ أذن وَلَا خرقها بِشَرْط أَن لَا يسْقط من الْأذن شَيْء بذلك كَمَا علم مِمَّا مر لِأَنَّهُ لَا ينقص بذلك شَيْء من لَحمهَا وَلَا يضر التطريف وَهُوَ قطع شَيْء يسير من الألية لجبر ذَلِك بسمنها وَلَا قطع فلقَة يسيرَة من عُضْو كَبِير كفخذ لِأَن ذَلِك لَا يظْهر بِخِلَاف الْكَبِيرَة بِالْإِضَافَة إِلَى الْعُضْو فَلَا يجزىء لنُقْصَان اللَّحْم
(و) يدْخل (وَقت الذّبْح) للأضحية المندوبة والمنذورة (من وَقت) مُضِيّ قدر (صَلَاة) رَكْعَتي (الْعِيد) وَهُوَ طُلُوع الشَّمْس يَوْم النَّحْر
ومضي قدر خطبتين خفيفتين وَيسْتَمر (إِلَى غرُوب الشَّمْس من آخر أَيَّام التَّشْرِيق) الثَّلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر بِحَيْثُ لَو قطع الْحُلْقُوم والمريء قبل تَمام غرُوب شمس آخرهَا صحت أضحيته
فَلَو ذبح قبل ذَلِك أَو بعده لم يقطع أضْحِية لخَبر الصَّحِيحَيْنِ أول مَا نبدأ بِهِ فِي يَوْمنَا هَذَا نصلي ثمَّ نرْجِع فننحر
من فعل ذَلِك فقد أصَاب سنتنا وَمن ذبح قبل
فَإِنَّمَا هُوَ لحم قدمه لأَهله لَيْسَ من النّسك فِي شَيْء وَخبر ابْن حبَان فِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح وَالْأَفْضَل تَأْخِيرهَا إِلَى مُضِيّ ذَلِك من ارْتِفَاع شمس يَوْم النَّحْر كرمح خُرُوجًا من الْخلاف وَمن نذر أضْحِية مُعينَة أَو فِي ذمَّته كلله عَليّ أضْحِية ثمَّ عين الْمَنْذُورَة لزمَه ذبحه فِي الْوَقْت الْمَذْكُور
فَإِن تلفت الْمعينَة فِي الثَّانِيَة وَلَو بِلَا تَقْصِير بَقِي الأَصْل عَلَيْهِ أَو تلفت فِي الأولى بِلَا تَقْصِير فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن تلفت بتقصير لزمَه الْأَكْثَر من مثلهَا يَوْم النَّحْر وَقيمتهَا يَوْم التّلف ليَشْتَرِي بهَا كَرِيمَة أَو مثلين للمتلفة فَأكْثر فَإِن أتلفهَا أَجْنَبِي لزمَه دفع قيمتهَا للناذر يَشْتَرِي بهَا مثلهَا فَإِن لم يجد فدونها
(وَيسْتَحب عِنْد الذّبْح) مُطلقًا (خَمْسَة) بل تِسْعَة (أَشْيَاء) الأول (التَّسْمِيَة) بِأَن يَقُول بِسم الله وَلَا يجوز أَن يَقُول بِسم الله وَاسم مُحَمَّد
(و) الثَّانِي (الصَّلَاة) وَالسَّلَام (على) سيدنَا (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) تبركا بهما
(و) الثَّالِث (اسْتِقْبَال الْقبْلَة بالذبيحة)(2/591)
أَي بمذبحها فَقَط على الْأَصَح دون وَجههَا ليمكنه الِاسْتِقْبَال أَيْضا
(و) الرَّابِع (التَّكْبِير ثَلَاثًا) بعد التَّسْمِيَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) الْخَامِس (الدُّعَاء بِالْقبُولِ) بِأَن يَقُول اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك فَتقبل مني وَالسَّادِس تَحْدِيد الشَّفْرَة فِي غير مقابلتها
وَالسَّابِع إمرارها وتحامل ذهابها وإيابها وَالثَّامِن إضجاعها على شقها الْأَيْسَر وَشد قَوَائِمهَا الثَّلَاث غير الرجل الْيُمْنَى
وَالتَّاسِع عقل الْإِبِل وَقد مرت الْإِشَارَة إِلَى بعض ذَلِك
(وَلَا يَأْكُل من الْأُضْحِية الْمَنْذُورَة) وَالْهَدْي الْمَنْذُور كَدم الجبرانات فِي الْحَج (شَيْئا) أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك فَإِن أكل من ذَلِك شَيْئا غرمه
(وَيَأْكُل من الْأُضْحِية المتطوع بهَا) أَي ينْدب لَهُ ذَلِك قِيَاسا على هدي التَّطَوُّع الثَّابِت بقوله تَعَالَى {فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير} أَي الشَّديد الْفقر وَفِي الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْكُل من كبد أضحيته
وَإِنَّمَا لم يجب الْأكل مِنْهَا
كَمَا قيل بِهِ لظَاهِر الْآيَة لقَوْله تَعَالَى {وَالْبدن جعلناها لكم من شَعَائِر الله} فَجَعلهَا لنا وَمَا جعل للْإنْسَان فَهُوَ مُخَيّر بَين أكله وَتَركه
قَالَه فِي الْمُهَذّب (وَلَا يَبِيع من الْأُضْحِية شَيْئا) وَلَو جلدهَا أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا يَصح سَوَاء أَكَانَت منذورة أم لَا
وَله أَن ينْتَفع بجلد أضْحِية
التَّطَوُّع كَمَا يجوز لَهُ الِانْتِفَاع بهَا
كَأَن يَجعله دلوا أَو نعلا أَو خفا وَالتَّصَدُّق بِهِ أفضل
وَلَا يجوز بَيْعه وَلَا إِجَارَته لِأَنَّهَا بيع الْمَنَافِع لخَبر الْحَاكِم وَصَححهُ من بَاعَ جلد أضحيته فَلَا أضْحِية لَهُ وَلَا يجوز إِعْطَاؤُهُ أُجْرَة للجزار وَيجوز لَهُ إعارته كَمَا تجوز لَهُ إعارتها
أما الْوَاجِبَة فَيجب التَّصَدُّق بجلدها
كَمَا فِي الْمَجْمُوع والقرن مثل الْجلد
فِيمَا ذكر وَله جز صوف عَلَيْهَا إِن ترك إِلَى الذّبْح ضرّ بهَا للضَّرُورَة وَإِلَّا فَلَا يجزه إِن كَانَت وَاجِبَة لانتفاع الْحَيَوَان بِهِ فِي دفع الْأَذَى وانتفاع الْمَسَاكِين بِهِ عِنْد الذّبْح
وكالصوف فِيمَا ذكر الشّعْر والوبر وَولد الْأُضْحِية الْوَاجِبَة يذبح حتما كَأُمِّهِ وَيجوز لَهُ كَمَا فِي الْمِنْهَاج أكله قِيَاسا على اللَّبن وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
وَقيل لَا يجوز كَمَا لَا يجوز لَهُ الْأكل من أمه وَله شرب فَاضل لَبنهَا عَن وَلَدهَا مَعَ الْكَرَاهَة كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ (وَيطْعم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين) من الْمُسلمين على سَبِيل التَّصَدُّق من أضْحِية التَّطَوُّع بَعْضهَا وجوبا وَلَو جُزْءا يَسِيرا من لَحمهَا بِحَيْثُ ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَيَكْفِي الصّرْف لوَاحِد من الْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين
وَإِن كَانَت عبارَة المُصَنّف تَقْتَضِي خلاف ذَلِك بِخِلَاف سهم الصِّنْف الْوَاحِد من الزَّكَاة لَا يجوز صرفه لإقل من ثَلَاثَة لِأَنَّهُ يجوز هُنَا الِاقْتِصَار على جُزْء يسير لَا يُمكن صرفه لأكْثر من وَاحِد وَيشْتَرط فِي اللَّحْم أَن يكون نيئا ليتصرف فِيهِ من يَأْخُذهُ بِمَا شَاءَ من بيع وَغَيره
كَمَا فِي الْكَفَّارَات فَلَا يَكْفِي جعله طَعَاما وَدُعَاء الْفُقَرَاء إِلَيْهِ لِأَن حَقهم فِي تملكه وَلَا تمليكهم لَهُ مطبوخا وَلَا تمليكهم غير اللَّحْم من جلد وكرش وطحال وَنَحْوهَا وَلَا الْهَدِيَّة عَن التَّصَدُّق وَلَا الْقدر التافه من اللَّحْم كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْمَاوَرْدِيّ وَلَا كَونه قديدا كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ
وَلَو تصدق بِقدر الْوَاجِب وَأكل وَلَدهَا كُله جَازَ
وَلَو أعطي الْمكَاتب جَازَ كَالْحرِّ قِيَاسا على الزَّكَاة وَخَصه ابْن الْعِمَاد بِغَيْر سَيّده وَإِلَّا فَهُوَ كَمَا لَو صرفه إِلَيْهِ من(2/592)
زَكَاته انْتهى
وَهُوَ ظَاهر وَخرج بِقَيْد الْمُسلمين غَيرهم فَلَا يجوز إطعامهم مِنْهَا كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَوَقع فِي الْمَجْمُوع جَوَاز إطْعَام فُقَرَاء أهل الذِّمَّة من أضْحِية التَّطَوُّع دون الْوَاجِبَة وتعجب مِنْهُ الْأَذْرَعِيّ
تَتِمَّة الْأَفْضَل التَّصَدُّق بكلها لِأَنَّهُ أقرب للتقوى وَأبْعد عَن حَظّ النَّفس إِلَّا لقْمَة أَو لقمتين أَو لقما يتبرك بأكلها عملا بِظَاهِر الْقُرْآن والاتباع وللخروج من خلاف من أوجب الْأكل وَيسن أَن يجمع بَين الْأكل وَالتَّصَدُّق والإهداء وَأَن يَجْعَل ذَلِك أَثلَاثًا وَإِذا أكل الْبَعْض وَتصدق بِالْبَعْضِ فَلهُ ثَوَاب التَّضْحِيَة بِالْكُلِّ وَالتَّصَدُّق بِالْبَعْضِ وَيشْتَرط النِّيَّة للتضحية عِنْد ذبح الْأُضْحِية أَو قبله عِنْد تعْيين مَا يُضحي بِهِ كالنية فِي الزَّكَاة لَا فِيمَا عين لَهَا بِنذر فَلَا يشْتَرط لَهُ نِيَّة وَإِن وكل بِذبح كفت نِيَّته وَلَا حَاجَة لنِيَّة الْوَكِيل وَله تفويضها لمُسلم مُمَيّز وَلَا تضحية لأحد عَن آخر بِغَيْر إِذْنه وَلَو كَانَ مَيتا كَسَائِر الْعِبَادَات بِخِلَاف مَا إِذا أذن لَهُ كَالزَّكَاةِ
وَلَا لرقيق وَلَو مكَاتبا فَإِن أذن لَهُ سَيّده فِيهَا وَقعت لسَيِّده إِن كَانَ غير مكَاتب وَإِن كَانَ مكَاتبا وَقعت لَهُ لِأَنَّهَا تبرع وَقد أذن لَهُ سَيّده فِيهِ
فصل فِي الْعَقِيقَة
وَهِي سنة مُؤَكدَة للْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك مِنْهَا خبر الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته تذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع
ويحلق رَأسه وَيُسمى وَمِنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِتَسْمِيَة الْمَوْلُود يَوْم سابعه وَوضع الْأَذَى عَنهُ والعق رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيّ وَمعنى مُرْتَهن بعقيقته قيل لَا يَنْمُو نمو مثله
وَقيل إِذا لم يعق عَنهُ لم يشفع لوَالِديهِ يَوْم الْقِيَامَة
(والعقيقة مُسْتَحبَّة وَهِي) لُغَة اسْم للشعر الَّذِي على رَأس الْمَوْلُود حِين وِلَادَته وَشرعا (الذَّبِيحَة عَن الْمَوْلُود) عِنْد حلق شعر رَأسه تَسْمِيَة للشَّيْء باسم سَببه وَيدخل وَقتهَا بانفصال جَمِيع الْوَلَد وَلَا تسْتَحب قبله بل تكون شَاة لحم وَيسن ذَبحهَا
(يَوْم سابعه) أَي وِلَادَته ويحسب يَوْم الْولادَة من السَّبْعَة
كَمَا فِي الْمَجْمُوع بِخِلَاف الْخِتَان فَإِنَّهُ لَا يحْسب مِنْهَا كَمَا صَححهُ فِي الزَّوَائِد لِأَن المرعي هُنَا الْمُبَادرَة إِلَى فعل الْقرْبَة والمرعي هُنَاكَ التَّأْخِير لزِيَادَة الْقُوَّة ليحتمله
وَيسن أَن يَقُول الذَّابِح بعد التَّسْمِيَة(2/593)
اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك عقيقة فلَان لخَبر ورد فِيهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن وَيكرهُ لطخ رَأس الْمَوْلُود بدمها لِأَنَّهُ من فعل الْجَاهِلِيَّة وَإِنَّمَا لم يحرم للْخَبَر الصَّحِيح كَمَا فِي الْمَجْمُوع أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَعَ الْغُلَام عقيقة فأهرقوا عَلَيْهِ دَمًا وأميطوا عَنهُ الْأَذَى بل قَالَ الْحسن وَقَتَادَة إِنَّه يسْتَحبّ ذَلِك ثمَّ يغسل لهَذَا الْخَبَر وَيسن لطخ رَأسه بالزعفران والخلوق كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع
وَيسن أَن يُسمى فِي السَّابِع كَمَا فِي الحَدِيث الْمَار وَلَا بَأْس بتسميته قبل ذَلِك وَذكر النَّوَوِيّ فِي أذكاره أَن السّنة تَسْمِيَته يَوْم السَّابِع أَو يَوْم الْولادَة وَاسْتدلَّ لكل مِنْهُمَا بأخبار صَحِيحَة وَحمل البُخَارِيّ أَخْبَار يَوْم الْولادَة على من لم يرد العق وأخبار يَوْم السَّابِع على من أَرَادَهُ
قَالَ ابْن حجر شَارِحه وَهُوَ جمع لطيف لم أره لغيره وَيسن أَن يحسن اسْمه لخَبر إِنَّكُم تدعون يَوْم الْقِيَامَة بأسمائكم وَأَسْمَاء آبائكم فحسنوا أسماءكم وَأفضل الْأَسْمَاء عبد الله وَعبد الرَّحْمَن لخَبر مُسلم أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمَن
وَتكره الْأَسْمَاء القبيحة كشهاب وَشَيْطَان وحمار وَمَا يتطير بنفيه عَادَة كبركة ونجيح وَلَا تكره التَّسْمِيَة بأسماء الْمَلَائِكَة والأنبياء رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة أخرج الله أهل التَّوْحِيد من النَّار وَأول من يخرج من وَافق اسْمه اسْم نَبِي وَعنهُ أَنه قَالَ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد أَلا ليقمْ من اسْمه مُحَمَّد فَلْيدْخلْ الْجنَّة كَرَامَة لنَبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحرم تلقيب الشَّخْص بِمَا يكره
وَإِن كَانَ فِيهِ كالأعمش وَيجوز ذكره بِقصد التَّعْرِيف
لمن لَا يعرف إِلَّا بِهِ والألقاب الْحَسَنَة لَا ينْهَى عَنْهَا وَمَا زَالَت الألقاب الْحَسَنَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ إِلَّا مَا أحدثه النَّاس فِي زَمَاننَا من التَّوَسُّع حَتَّى لقبوا السفلة بِالْأَلْقَابِ الْعليا
وَيسن أَن يكنى أهل الْفضل من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَيحرم التكني بِأبي الْقَاسِم وَلَا يكنى كَافِر
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَلَا فَاسق وَلَا مُبْتَدع لِأَن الكنية للتكرمة وَلَيْسوا من أَهلهَا إِلَّا لخوف فتْنَة من ذكره باسمه أَو تَعْرِيف كَمَا قيل بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {تبت يدا أبي لَهب} واسْمه عبد الْعُزَّى وَيسن فِي سَابِع ولادَة الْمَوْلُود أَن يحلق رَأسه كُله
وَيكون ذَلِك بعد ذبح الْعَقِيقَة وَأَن يتَصَدَّق بزنة الشّعْر ذَهَبا فَإِن لم يَتَيَسَّر كَمَا فِي الرَّوْضَة ففضة
(ويذبح) على الْبناء للْمَفْعُول حذف فَاعله للْعلم بِهِ
وَهُوَ من تلْزمهُ نَفَقَته كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة (عَن الْغُلَام شَاتَان) متساويتان (وَعَن الْجَارِيَة شَاة) لخَبر عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نعق عَن الْغُلَام بشاتين وَعَن الْجَارِيَة بِشَاة
وَإِنَّمَا كَانَت الْأُنْثَى على النّصْف تَشْبِيها بِالدِّيَةِ ويتأدى أصل السّنة عَن الْغُلَام بِشَاة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عق عَن الْحسن وَالْحُسَيْن كَبْشًا وكالشاة سبع بَدَنَة أَو بقرة أَنه من مَال الْمَوْلُود فَلَا يجوز للْوَلِيّ أَن يعق عَنهُ من ذَلِك لِأَن الْعَقِيقَة تبرع وَهُوَ مُمْتَنع من مَال الْمَوْلُود
تَنْبِيه لَو كَانَ الْوَلِيّ عَاجِزا عَن الْعَقِيقَة حِين الْولادَة ثمَّ أيسر قبل تَمام السَّابِع
اسْتحبَّ فِي حَقه وَإِن أيسر بهَا بعد السَّابِع وَبعد بَقِيَّة مُدَّة النّفاس أَي أَكْثَره كَمَا قَالَه بَعضهم لم يُؤمر بهَا وَفِيمَا إِذا أيسر بهَا بعد السَّابِع فِي مُدَّة النّفاس تردد للأصحاب وَمُقْتَضى كَلَام الْأَنْوَار تَرْجِيح مخاطبته بهَا وَهُوَ الظَّاهِر
(وَيطْعم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين) الْمُسلمين فَهِيَ كالأضحية فِي جِنْسهَا وسلامتها من الْعَيْب وَالْأَفْضَل مِنْهَا وَالْأكل مِنْهَا
وَقدر(2/594)
الْمَأْكُول مِنْهَا وَالتَّصَدُّق والإهداء مِنْهَا وتعيينها إِذا عينت وَامْتِنَاع بيعهَا كالأضحية المسنونة فِي ذَلِك لِأَنَّهَا ذَبِيحَة مَنْدُوب إِلَيْهَا
فَأَشْبَهت الْأُضْحِية لَكِن الْعَقِيقَة يسن طبخها كَسَائِر الولائم بِخِلَاف الْأُضْحِية لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَنه السّنة
وَيسن أَن تطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أَخْلَاق الْمَوْلُود وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامهم أَنه يسن طبخها وَإِن كَانَت منذورة
وَهُوَ كَذَلِك وَيسْتَثْنى من طبخها رجل الشَّاة
فَإِنَّهَا تُعْطى للقابلة لِأَن فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فعلت ذَلِك بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ الْحَاكِم
وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَيسن أَن لَا يكسر مِنْهَا عظم بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلا بسلامة أَعْضَاء الْمَوْلُود
فَإِن كَسره لم يكره
خَاتِمَة يسن أَن يُؤذن فِي أذن الْمَوْلُود الْيُمْنَى ويقام فِي الْيُسْرَى لخَبر ابْن السّني من ولد لَهُ مَوْلُود فَأذن فِي أُذُنه الْيُمْنَى وَأقَام فِي الْيُسْرَى لم تضره أم الصّبيان أَي التابعة من الْجِنّ وليكون إِعْلَامه بِالتَّوْحِيدِ أول مَا يقرع سَمعه عِنْد قدومه إِلَى الدُّنْيَا كَمَا يلقن عِنْد خُرُوجه مِنْهَا
وَأَن يحنك بِتَمْر سَوَاء أَكَانَ ذكرا أم أُنْثَى فيمضغ ويدلك بِهِ حنكه وَيفتح فَاه حَتَّى ينزل إِلَى جَوْفه مِنْهُ شَيْء وَفِي معنى التَّمْر الرطب وَيسن لكل أحد من النَّاس أَن يدهن غبا بِكَسْر الْغَيْن أَي وقتا بعد وَقت بِحَيْثُ يجِف الأول وَأَن يكتحل وترا لكل عين ثَلَاثَة وَأَن يحلق الْعَانَة ويقلم الظفر وينتف الْإِبِط وَأَن يغسل البراجم وَلَو فِي غير الْوضُوء
وَهِي عقد الْأَصَابِع ومفاصلها
وَأَن يسرح اللِّحْيَة لخَبر أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن من كَانَ لَهُ شعر فليكرمه وَيكرهُ الْفَزع وَهُوَ حلق بعض الرَّأْس وَأما حلق جَمِيعهَا فَلَا بَأْس بِهِ لمن أَرَادَ التنظف وَلَا يتْركهُ لمن أَرَادَ أَن يدهنه ويرجله وَلَا يسن حلقه إِلَّا فِي النّسك أَو فِي حق الْكَافِر إِذا أسلم
أَو فِي الْمَوْلُود إِذا أُرِيد أَن يتَصَدَّق بزنة شعره ذَهَبا أَو فضَّة كَمَا مر وَأما الْمَرْأَة فَيكْرَه لَهَا حلق رَأسهَا إِلَّا لضَرُورَة وَيكرهُ نتف اللِّحْيَة أول طُلُوعهَا إيثارا للمروءة ونتف الشيب واستعجال الشيب بالكبريت أَو غَيره طلبا للشيخوخة(2/595)
= كتاب السَّبق وَالرَّمْي = السَّبق بِالسُّكُونِ مصدر سبق أَي تقدم وبالتحريك المَال الْمَوْضُوع بَين أهل السباق وَالرَّمْي يَشْمَل الرَّمْي بِالسِّهَامِ والمزاريق وَغَيرهمَا
وَهَذَا الْبَاب من مبتكرات إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا
كَمَا قَالَه الْمُزنِيّ وَغَيره والمسابقة الشاملة للمناضلة سنة للرِّجَال الْمُسلمين بِقصد الْجِهَاد بِالْإِجْمَاع وَلقَوْله تَعَالَى {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة} وَفسّر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُوَّة بِالرَّمْي وَلخَبَر أنس كَانَت العضباء نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تسبق فجَاء أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسبقها فشق ذَلِك على الْمُسلمين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن حَقًا على الله تَعَالَى أَن لَا يرفع شَيْئا من هَذِه الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه وَيكرهُ لمن علم الرَّمْي تَركه كَرَاهَة شَدِيدَة فَإِن قصد بذلك غير الْجِهَاد كَانَ مُبَاحا لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِن قصد بِهِ محرما كَقطع الطَّرِيق كَانَ حَرَامًا أما النِّسَاء فَصرحَ الصَّيْمَرِيّ بِمَنْع ذَلِك لَهُنَّ وَأقرهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَمرَاده أَنه لَا يجوز بعوض لَا مُطلقًا فقد روى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سابقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَتَصِح الْمُسَابقَة) بعوض وَغَيره (على الدَّوَابّ) الْخَيل وَالْإِبِل وَالْبِغَال وَالْحمير والفيلة فَقَط لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر فَلَا تجوز على الْكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش لَا بعوض وَلَا بِغَيْرِهِ لِأَن فعل ذَلِك سفه وَمن فعل قوم لوط الَّذين أهلكهم الله بِذُنُوبِهِمْ وَلَا على طير وصراع بعوض لِأَنَّهُمَا ليسَا من آلَات الْقِتَال
فَإِن قيل قد صارع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركَانَة على شِيَاه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
أُجِيب بِأَن الْغَرَض من مصارعته لَهُ أَن يرِيه شدته ليسلم بِدَلِيل أَنه لما صارعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم رد عَلَيْهِ غنمه
فَإِن كَانَ ذَلِك بِغَيْر عوض جَازَ
وَكَذَا كل مَا لَا ينفع فِي الْحَرْب كالشباك والمسابقة على الْبَقر فَيجوز بِلَا عوض وَأما الغطس فِي المَاء فقد جرت الْعَادة بالاستعانة بِهِ فِي الْحَرْب
كالسباحة فَيجوز بِلَا عوض وَإِلَّا فَلَا يجوز مُطلقًا
(و) تجوز (المناضلة) بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة أَي المغالبة (على) رمي (السِّهَام) سَوَاء أَكَانَت عَرَبِيَّة وَهِي النبل أم عجمية(2/596)
وَهِي النشاب وَتَصِح على مزاريق جمع مزراق وَهُوَ رمح صَغِير وعَلى رماح وعَلى رمي بأحجار بمقلاع أَو بيد وَرمي بمنجنيق وكل نَافِع فِي الْحَرْب مِمَّا يشبه ذَلِك كالرمي بالمسلات والإبر والتردد بِالسُّيُوفِ والرماح وَخرج مِمَّا ذكر المراماة بِأَن يَرْمِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحجر إِلَى صَاحبه وإشالة الْحجر بِالْيَدِ وَيُسمى العلاج فَلَا يَصح العقد على ذَلِك وَأما التقاف بِالْمُثَنَّاةِ وَتقول الْعَامَّة بِالدَّال فَلَا نقل فِيهِ
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَالْأَشْبَه جَوَازه لِأَنَّهُ ينفع فِي حَال الْمُسَابقَة وَقد يمْنَع خشيَة الضَّرَر إِذْ كل يحرص على إِصَابَة صَاحبه كاللكام وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَلَا يَصح على رمي ببندق يَرْمِي بِهِ فِي حُفْرَة وَنَحْوهَا
وَلَا على سباحة فِي المَاء وَلَا على شطرنج وَلَا على خَاتم وَلَا على وقُوف على رجل وَلَا على معرفَة مَا بِيَدِهِ من شفع ووتر وَكَذَا سَائِر أَنْوَاع اللّعب كالمسابقة على الْأَقْدَام وبالسفن أَو الزوارق لِأَن هَذِه الْأُمُور لَا تَنْفَع فِي الْحَرْب هَذَا إِذا عقد عَلَيْهَا بعوض وَإِلَّا فمباح وَأما الرَّمْي بالبندق على قَوس فَظَاهر كَلَام الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَنه كَذَلِك لَكِن الْمَنْقُول فِي الْحَاوِي الْجَوَاز قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَا خلاف فِيهِ قَالَ وَهُوَ الْأَقْرَب وشروط الْمُسَابقَة عشرَة أَشْيَاء اقْتصر المُصَنّف مِنْهَا على ذكر اثْنَيْنِ أَولهمَا (إِذا كَانَ الْمسَافَة) أَي مَسَافَة مَا بَين موقف الرَّامِي وَالْغَرَض الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ (مَعْلُومَة) ابْتِدَاء وَغَايَة وَثَانِيهمَا الْمُحَلّل الْآتِي فِي كَلَامه وَالثَّالِث من بَاقِي الشُّرُوط أَن يكون الْمَعْقُود عَلَيْهِ عدَّة لِلْقِتَالِ وَالرَّابِع تعْيين الفرسين مثلا لِأَن الْغَرَض معرفَة سيرهما وَهِي تَقْتَضِي التَّعْيِين وَيَكْفِي وصفهما فِي الذِّمَّة ويتعينان بِالتَّعْيِينِ فَإِن وَقع هَلَاك انْفَسَخ العقد
فَإِن وَقع العقد على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة لم يتعينا كَمَا بَحثه الرَّافِعِيّ فَلَا يَنْفَسِخ العقد بِمَوْت الْفرس الْمَوْصُوف كالأجير غير الْمعِين وَالْخَامِس إِمْكَان سبق كل وَاحِد من الفرسين مثلا فَإِن كَانَ أَحدهمَا ضَعِيفا يقطع بتخلفه أَو فارها يقطع بتقدمه لم يجز وَالسَّادِس أَن يركبا المركوبين وَلَا يرسلاهما فَلَو شَرط إرسالهما ليجريا بأنفسهما لم يَصح لِأَنَّهُمَا لَا يقصدان الْغَايَة وَالسَّابِع أَن يقطع المركوبان الْمسَافَة فَيعْتَبر كَونهمَا بِحَيْثُ يمكنهما قطعهَا بِلَا انْقِطَاع وتعب وَالثَّامِن تعْيين الراكبين فَلَو شَرط كل مِنْهُمَا أَن يركب دَابَّته من شَاءَ لم يجز حَتَّى يتَعَيَّن الراكبان وَلَا يَكْفِي الْوَصْف فِي الرَّاكِب كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ
وَالتَّاسِع الْعلم بِالْمَالِ الْمَشْرُوط جِنْسا وَقدرا وَصفَة كَسَائِر الأعواض عينا كَانَ أَو دينا حَالا أَو مُؤَجّلا فَلَا يَصح عقد بِغَيْر مَال ككلب وَلَا بِمَال مَجْهُول كَثوب غير مَوْصُوف والعاشر اجْتِنَاب شَرط مُفسد فَلَو قَالَ إِن سبقتني فلك هَذَا الدِّينَار بِشَرْط أَن تطعمه أصحدبك فسد العقد لِأَنَّهُ تمْلِيك بِشَرْط يمْنَع كَمَال التَّصَرُّف فَصَارَ كَمَا لَو بَاعه شَيْئا بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن حكم عقد الْمُسَابقَة وَهُوَ لَازم فِي حق مُلْتَزم الْعِوَض وَلَو غير المتسابقين كَالْإِجَارَةِ فَلَيْسَ لَهُ(2/597)
فَسخه وَلَا ترك عمل قبل الشُّرُوع وَلَا بعده إِن كَانَ مَسْبُوقا أَو سَابِقًا وَأمكن أَن يُدْرِكهُ الآخر ويسبقه وَإِلَّا فَلهُ ترك حَقه وَلَا زِيَادَة وَلَا نقص فِي الْعَمَل وَلَا فِي الْعِوَض وَقَوله (وَصفَة المناضلة مَعْلُومَة) مَعْطُوف على الْمسَافَة أَي وَكَانَت صفة المناضلة مَعْلُومَة لتصح فَيشْتَرط لَهَا زِيَادَة على مَا مر بَيَان البادىء مِنْهُمَا بِالرَّمْي لاشْتِرَاط التَّرْتِيب بَينهمَا فِيهِ حذرا من اشْتِبَاه الْمُصِيب بالمخطىء لَو رميا مَعًا وَبَيَان قدر الْغَرَض وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة مَا يَرْمِي إِلَيْهِ من نَحْو خشب أَو جلد أَو قرطاس طولا وعرضا وسمكا وَبَيَان ارتفاعه من الأَرْض إِن ذكر الْغَرَض وَلم يغلب عرف فيهمَا
فَإِن غلب فَلَا يشْتَرط بَيَان شَيْء مِنْهُمَا بل يحمل الْمُطلق عَلَيْهِ
وَلَا بَيَان مبادرة بِأَن يبدر أَي يسْبق أَحدهمَا بِإِصَابَة الْعدَد الْمَشْرُوط من عدد مَعْلُوم كعشرين من كل مِنْهُمَا مَعَ استوائهما فِي عدد الرَّمْي أَو الْيَأْس من استوائهما فِي الْإِصَابَة وَلَا بَيَان محاطة بِأَن تزيد إِصَابَته على إِصَابَة الآخر بِكَذَا كواحد من عدد مَعْلُوم كعشرين من كل مِنْهُمَا وَيحمل الْمُطلق عَن التَّقْيِيد بِشَيْء من ذَلِك على الْمُبَادرَة
وعَلى أقل نوبه وَهُوَ سهم سهم لغلبتهما وَلَا يشْتَرط بَيَان قَوس
وَسَهْم لِأَن الْعُمْدَة على الرَّامِي فَإِن عين شَيْئا مِنْهُمَا لَغَا وَجَاز إِبْدَاله بِمثلِهِ من نَوعه وَشرط منع إِبْدَاله مُفسد للْعقد
وَيسن بَيَان صفة إِصَابَته الْغَرَض من قرع وَهُوَ مُجَرّد إِصَابَة الْغَرَض أَو خرق بِأَن يثقبه وَيسْقط أَو خسق بِأَن يثبت فِيهِ وَإِن سقط بعد ذَلِك أَو مرق بِأَن ينفذ مِنْهُ أَو خرم بِأَن يُصِيب طرف الْغَرَض فيخرمه فَإِن أطلقا كفى القرع (وَيخرج الْعِوَض) الْمَشْرُوط (أحد المتسابقين حَتَّى إِذا سبق) بِفَتْح أَوله على الْبناء للْفَاعِل (استرده) مِمَّن هُوَ مَعَه (وَإِن سبق) بِضَم أَوله على الْبناء للْمَفْعُول (أَخذه صَاحبه) السَّابِق وَلَا يشْتَرط حِينَئِذٍ بَينهمَا مُحَلل
(وَإِن أَخْرجَاهُ) أَي المتسابقان الْعِوَض
(مَعًا لم يجز) حِينَئِذٍ (إِلَّا أَن يدخلا) أَي يشرطا (بَينهمَا محللا) بِكَسْر اللَّام الأولى فَيجوز إِن كَانَت دَابَّته كُفؤًا لدابتيهما سمي محللا لِأَنَّهُ يحلل العقد
ويخرجه عَن صُورَة الْقمَار الْمُحرمَة فَإِن الْمُحَلّل
(إِن سبق) المتسابقين (أَخذ) مَا أَخْرجَاهُ من الْعِوَض لنَفسِهِ سَوَاء أجاءا مَعًا أم مُرَتبا لسبقه لَهما
(وَإِن سبق) أَي سبقاه وجاءا مَعًا (لم يغرم) لَهما شَيْئا وَلَا شَيْء لأَحَدهمَا على الآخر وَإِن جَاءَ الْمُحَلّل مَعَ أحد المتسابقين وَتَأَخر الآخر فَمَال هَذَا لنَفسِهِ لِأَنَّهُ لم يسْبقهُ أحد وَمَال الْمُتَأَخر للمحلل وللذمي مَعَه لِأَنَّهُمَا سبقاه وَإِن جَاءَ أَحدهمَا ثمَّ الْمُحَلّل ثمَّ الآخر فَمَال الآخر للْأولِ لسبقه الِاثْنَيْنِ(2/598)
تَنْبِيه الصُّور الممكنة فِي الْمُحَلّل ثَمَانِيَة أَن يسبقهما ويجيئان مَعًا أَو مُرَتبا أَو يسبقا ويجيئان مَعًا أَو مُرَتبا أَو يتوسط بَينهمَا أَو يكون مَعَ أَولهمَا أَو ثَانِيهمَا أَو يَجِيء الثَّلَاثَة مَعًا وَلَا يخفى الحكم فِي الْجَمِيع وَلَو تسابق جمع ثَلَاثَة فَأكْثر وَشرط الثَّانِي مثل الأول أَو دونه صَحَّ وَيجوز شَرط الْعِوَض من غير المتسابقين وَسَوَاء أَكَانَ من الإِمَام أم من غَيره كَأَن يَقُول الإِمَام من سبق مِنْكُمَا فَلهُ فِي بَيت المَال كَذَا أَوله عَليّ كَذَا وَيكون مَا يُخرجهُ من بَيت المَال من سهم الْمصَالح كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ أَو الْأَجْنَبِيّ من سبق مِنْكُمَا فَلهُ عَليّ كَذَا لِأَنَّهُ بذل مَال فِي طَاعَة وَلَا شكّ أَن حكم إِخْرَاج أحد المتناضلين الْعِوَض
وإخراجهما مَعًا حكم الْمُسَابقَة فِيمَا سبق من غير فرق
وَصُورَة إِخْرَاج أَحدهمَا أَن يَقُول أَحدهمَا ترمي كَذَا فَإِذا أصبت أَنْت مِنْهَا كَذَا فلك عَليّ كَذَا
وَأَن أصبتها أَنا فَلَا شَيْء لِأَحَدِنَا على صَاحبه
وَصُورَة إخراجهما مَعًا أَن يشْتَرط كل وَاحِد على صَاحبه عوضا إِن أصَاب وَلَا يجوز هَذَا إِلَّا بِمُحَلل بَينهمَا كَمَا سبق
خَاتِمَة لَو تراهن رجلَانِ عل اختبار قوتهما بصعود جبل أَو إقلال صَخْرَة أَو أكل كَذَا فَهُوَ من أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَكله حرَام ذكره ابْن كج وَأقرهُ فِي الرَّوْضَة
قَالَ الدَّمِيرِيّ وَمن هَذَا النمط مَا يَفْعَله الْعَوام من الرِّهَان على حمل كَذَا من مَوضِع كَذَا إِلَى مَكَان كَذَا أَو إِجْرَاء السَّاعِي من طُلُوع الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب وكل ذَلِك ضَلَالَة وجهالة مَعَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من ترك الصَّلَوَات وَفعل الْمُنْكَرَات
اه
وَهَذَا أَمر ظَاهر وَينْدب أَن يكون عِنْد الْغَرَض شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ على مَا وَقع من إِصَابَة أَو خطأ وَلَيْسَ لَهما أَن يمدحا الْمُصِيب وَلَا أَن يذما المخطىء لِأَن ذَلِك يخل بالنشاط وَيمْنَع أَحدهمَا من أذية صَاحبه بالتبجح وَالْفَخْر عَلَيْهِ
وَلكُل مِنْهُمَا حث الْفرس فِي السباق بِالسَّوْطِ أَو تَحْرِيك اللجام وَلَا يجلب عَلَيْهِ بالصياح
ليزِيد عدوه لخَبر لَا جلب وَلَا جنب قَالَ الرَّافِعِيّ وَذكر فِي معنى الْجنب أَنهم كَانُوا يجنبون الْفرس حَتَّى إِذا قاربوا الأمد تحولوا عَن المركوب الَّذِي كره بالركوب إِلَى الجنيبة فنهوا عَن ذَلِك(2/599)
= كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور = الْأَيْمَان بِفَتْح الْهمزَة جمع يَمِين وَأَصلهَا فِي اللُّغَة الْيَد الْيُمْنَى وأطلقت على الْحلف لأَنهم كَانُوا إِذا تحالفوا يَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُم بيد صَاحبه
وَفِي الِاصْطِلَاح تَحْقِيق أَمر غير ثَابت مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا نفيا أَو إِثْبَاتًا مُمكنا كحلفه ليدخلن الدَّار أَو مُمْتَنعا كحلفه ليقْتلن الْمَيِّت صَادِقَة كَانَت أَو كَاذِبَة مَعَ الْعلم بِالْحَال أَو الْجَهْل بِهِ وَخرج بالتحقيق لَغْو الْيَمين فَلَيْسَتْ يَمِينا وَبِغير ثَابت الثابث كَقَوْلِه وَالله لأموتن لتحققه فِي نَفسه فَلَا معنى لتحقيقه وَلِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْحِنْث وَفَارق انْعِقَادهَا بِمَا لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْبر كحلفه ليقْتلن الْمَيِّت فَإِن امْتنَاع الْحِنْث لَا يخل بتعظيم الله وَامْتِنَاع الْبر يخل بِهِ فيحوج إِلَى التَّكْفِير
وَتَكون الْيَمين أَيْضا للتَّأْكِيد وَالْأَصْل فِي الْبَاب قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} الْآيَة وأخبار كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لأغزون قُريْشًا ثَلَاث مَرَّات ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة إِن شَاءَ الله رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَضَابِط الْحَالِف مُكَلّف مُخْتَار قَاصد فَلَا تَنْعَقِد يَمِين الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا الْمُكْره وَلَا يَمِين اللَّغْو(2/600)
ثمَّ شرع المُصَنّف فِيمَا تَنْعَقِد الْيَمين بِهِ فَقَالَ (وَلَا تَنْعَقِد الْيَمين إِلَّا بِذَات الله تَعَالَى)
أَي بِمَا يفهم مِنْهُم ذَات الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المُرَاد بهَا الْحَقِيقَة من غير احْتِمَال غَيره
(أَو باسم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى) المختصة بِهِ وَلَو مشتقا أَو من غير أَسْمَائِهِ الْحسنى
سَوَاء كَانَ اسْما مُفردا كَقَوْلِه وَالله أَو مُضَافا كَقَوْلِه وَرب الْعَالمين وَمَالك يَوْم الدّين أَو لم يكن كَقَوْلِه وَالَّذِي أعبده أَو أَسجد لَهُ أَو نَفسِي بِيَدِهِ أَي بقدرته يصرفهَا كَيفَ يَشَاء أَو الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت إِلَّا أَن يُرِيد بِهِ غير الْيَمين فَلَيْسَ بِيَمِين
فَيقبل مِنْهُ ذَلِك كَمَا فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا وَلَا يقبل مِنْهُ ذَلِك فِي الطَّلَاق والعناق وَالْإِيلَاء ظَاهرا لتَعلق حق غَيره بِهِ أما إِذا أَرَادَ بذلك غير الله تَعَالَى فَلَا يقبل مِنْهُ إِرَادَته لَا ظَاهرا وَلَا بَاطِنا لِأَن الْيَمين بذلك لَا تحْتَمل غَيره تَعَالَى فَقَوْل الْمِنْهَاج وَلَا يقبل قَوْله لم أرد بِهِ الْيَمين
مؤول بذلك أَو باسم من أَسْمَائِهِ الْغَالِب إِطْلَاقه عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعَلى غَيره
كَقَوْلِه والرحيم والخالق والرازق والرب انْعَقَدت يَمِينه مَا لم يرد بهَا غَيره تَعَالَى
بِأَن أَرَادَهُ تَعَالَى أَو أطلق بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ بهَا غَيره لِأَنَّهَا تسْتَعْمل فِي غَيره تَعَالَى مُقَيّدا كرحيم الْقلب وخالق الْإِفْك ورازق الْجَيْش وَرب الْإِبِل
وَأما الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ تَعَالَى وعَلى غَيره سَوَاء كالموجود والعالم والحي فَإِن أَرَادَهُ تَعَالَى بِهِ انْعَقَدت يَمِينه بِخِلَاف مَا إِذا أَرَادَ بهَا غَيره أَو أطلق لِأَنَّهَا لما أطلقت عَلَيْهِمَا سَوَاء أشبهت الْكِنَايَات (أَو صفة من صِفَات ذَاته) كوعظمته وعزته وكبريائه وَكَلَامه ومشيئته وَعلمه وَقدرته وَحقه
إِلَّا أَن يُرِيد بِالْحَقِّ الْعِبَادَات وباللذين قبله الْمَعْلُوم والمقدور وبالبقية ظُهُور آثارها فَلَيْسَتْ يَمِينا لاحْتِمَال اللَّفْظ وَقَوله وَكتاب الله يَمِين وَكَذَا وَالْقُرْآن والمصحف إِلَّا أَن يُرِيد بِالْقُرْآنِ الْخطْبَة وَالصَّلَاة(2/601)
وبالمصحف الْوَرق وَالْجَلد
وحروف الْقسم الْمَشْهُورَة بَاء مُوَحدَة وواو وتاء فوقية كبالله وَوَاللَّه وتالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَيخْتَص لفظ الله تَعَالَى بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّة والمظهر مُطلقًا بِالْوَاو وَسمع شاذا ترب الْكَعْبَة وتالرحمن وَتدْخل الْمُوَحدَة عَلَيْهِ وعَلى الْمُضمر فَهِيَ الأَصْل
وتليها الْوَاو ثمَّ التَّاء وَلَو قَالَ الله مثلا بِتَثْلِيث الْهَاء أَو تسكينها لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فكناية كَقَوْلِه أشهد بِاللَّه أَو لعمر الله أَو على عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِن نوى بهَا الْيَمين فيمين وَإِلَّا فَلَا
واللحن وَإِن قيل بِهِ فِي الرّفْع لَا يمْنَع الِانْعِقَاد على أَنه لَا لحن فِي ذَلِك فالرفع بِالِابْتِدَاءِ أَي الله أَحْلف بِهِ لَأَفْعَلَنَّ وَالنّصب بِنَزْع الْخَافِض والجر بحذفه وإبقاء عمله
والتسكين بإجراء الْوَصْل مجْرى الْوَقْف وَقَوله أَقْسَمت أَو أقسم أَو حَلَفت أَو أَحْلف بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا يَمِين إِلَّا إِن نوى خَبرا مَاضِيا فِي صِيغَة الْمَاضِي أَو مُسْتَقْبلا فِي الْمُضَارع فَلَا يكون يَمِينا لاحْتِمَال مَا نَوَاه وَقَوله لغيره أقسم عَلَيْك بِاللَّه أَو اسألك بِاللَّه لتفعلن كَذَا يَمِين إِن أَرَادَ بِهِ يَمِين نَفسه بِخِلَاف مَا إِذا لم يردهَا
وَيحمل على الشَّفَاعَة وَعلم من حصر الِانْعِقَاد فِيمَا ذكر عدم انْعِقَاد الْيَمين بمخلوق كالنبي وَجِبْرِيل والكعبة وَنَحْو ذَلِك وَلَو مَعَ قَصده بل يكره الْحلف بِهِ إِلَّا أَن يسْبق إِلَيْهِ لِسَانه وَلَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَأَنا يَهُودِيّ أَو بَرِيء من الْإِسْلَام أَو من الله أَو من رَسُوله فَلَيْسَ بِيَمِين وَلَا يكفر بِهِ إِن أَرَادَ تبعيد نَفسه عَن الْفِعْل أَو أطلق كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْأَذْكَار وَليقل لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ويستغفر الله تَعَالَى وَإِن قصد الرِّضَا بذلك إِذا فعله فَهُوَ كَافِر فِي الْحَال
تَنْبِيه تصح الْيَمين على مَاض وَغَيره وَتكره إِلَّا فِي طَاعَة وَفِي دَعْوَى مَعَ صدق عِنْد حَاكم وَفِي حَاجَة كتوكيد كَلَام فَإِن حلف على ارْتِكَاب مَعْصِيّة عصى بحلفه
وَلَزِمَه حنث وَكَفَّارَة
أَو على ترك أَو فعل مُبَاح سنّ ترك حنثه أَو على ترك مَنْدُوب أَو فعل مَكْرُوه سنّ حنثه وَعَلِيهِ بِالْحِنْثِ كَفَّارَة أَو على فعل مَنْدُوب أَو ترك مَكْرُوه كره حنثه وَله تَقْدِيم كَفَّارَة بِلَا صَوْم على أحد سببيها كمنذور مَالِي
(وَمن حلف بِصَدقَة مَاله) كَقَوْلِه لله عَليّ أَن أَتصدق بِمَالي إِن فعلت كَذَا أَو أعتق عَبدِي
وَيُسمى نذر اللجاج وَالْغَضَب وَمن صوره مَا إِذا قَالَ الْعتْق يلْزَمنِي مَا أفعل كَذَا
(فَهُوَ مُخَيّر) على أظهر الْأَقْوَال (بَين) فعل (الصَّدَقَة) الَّتِي التزمها أَو الْعتْق الَّذِي(2/602)
الْتَزمهُ
(و) بَين فعل (الْكَفَّارَة) عَن الْيَمين الْآتِي بَيَانه لخَبر مُسلم كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين وَهِي لَا تَكْفِي فِي نذر التبرر بالانفاق فَتعين حمله على نذر اللجاج
وَلَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين أَو كَفَّارَة نذر لَزِمته الْكَفَّارَة عِنْد وجود الصّفة تَغْلِيبًا لحكم الْيَمين فِي الأولى وَلخَبَر مُسلم السَّابِق فِي الثَّانِيَة وَلَو قَالَ فعلي يَمِين فلغو أَو فعلي نذر صَحَّ وَيتَخَيَّر بَين قربَة وَكَفَّارَة يَمِين
(وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين) لقَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} أَي قصدتم بِدَلِيل الْآيَة الآخرى {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} ولغو الْيَمين هُوَ كَمَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَول الرجل لَا وَالله وبلى وَالله رَوَاهُ البُخَارِيّ كَأَن قَالَ ذَلِك فِي حَال غضب أَو لجاج أَو صلَة كَلَام
قَالَ ابْن الصّلاح وَالْمرَاد بتفسير لَغْو الْيَمين بِلَا وَالله وبلى وَالله على الْبَدَل لَا على الْجمع
مَا لَو قَالَ لَا وَالله وبلى وَالله فِي وَقت وَاحِد
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ كَانَت الأولى لَغوا وَالثَّانيَِة منعقدة لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاك فَصَارَت مَقْصُودَة
وَلَو حلف على شَيْء فَسبق لِسَانه إِلَى غَيره كَانَ من لَغْو الْيَمين وَجعل صَاحب الْكَافِي من لَغْو الْيَمين مَا إِذا دخل على صَاحبه فَأَرَادَ أَن يقوم لَهُ فَقَالَ وَالله لَا تقوم لي وَهُوَ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى
(وَمن حلف أَن لَا يفعل شَيْئا) معينا كَأَن لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي (فَفعل) شَيْئا (غَيره لم يَحْنَث) لِأَنَّهُ لم يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
أما إِذا فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ بِأَن بَاعَ أَو اشْترى بِنَفسِهِ بِولَايَة أَو وكَالَة فَإِن كَانَ عَالما مُخْتَارًا حنث أَو نَاسِيا أَو جَاهِلا أَو مكْرها لم يَحْنَث وَمن صور الْفِعْل جَاهِلا أَن يدْخل دَارا لَا يعرف أَنَّهَا الْمَحْلُوف عَلَيْهَا أَو حلف لَا يسلم على زيد فَسلم عَلَيْهِ فِي ظلمَة وَلَا(2/603)
يعرف أَنه زيد قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه مُطلق الْحلف على الْعُقُود ينزل على الصَّحِيح مِنْهَا فَلَا يَحْنَث بالفاسد قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلم يُخَالف الشَّافِعِي هَذِه الْقَاعِدَة إِلَّا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة وَهِي مَا إِذا أذن لعَبْدِهِ فِي النِّكَاح فنكح فَاسِدا فَإِنَّهُ أوجب فِيهَا الْمهْر كَمَا يجب فِي النِّكَاح الصَّحِيح وَكَذَا الْعِبَادَات لَا يسْتَثْنى مِنْهَا إِلَّا الْحَج الْفَاسِد
فَإِنَّهُ يَحْنَث بِهِ وَلَو أضَاف العقد إِلَى مَا لَا يقبله كَأَن حلف لَا يَبِيع الْخمر وَلَا الْمُسْتَوْلدَة ثمَّ أَتَى بِصُورَة البيع فَإِن قصد التَّلَفُّظ بِلَفْظ العقد مُضَافا إِلَى مَا ذكره حنث وَإِن أطلق فَلَا
(وَمن حلف أَلا يفعل شَيْئا) كَأَن حلف أَنه لَا يُزَوّج موليته أَو لَا يُطلق امْرَأَته أَو لَا يعْتق عَبده أَو لَا يضْرب غُلَامه
(فَأمر غَيره) بِفِعْلِهِ (فَفعله) وَكيله
وَلَو مَعَ حُضُوره (لم يَحْنَث) لِأَنَّهُ حلف على فعله وَلم يفعل إِلَّا أَن يُرِيد الْحَالِف اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي حَقِيقَته ومجازه وَهُوَ أَن لَا يَفْعَله هُوَ وَلَا غَيره فَيحنث بِفعل وَكيله فِيمَا ذكر عملا بإرادته وَلَو حلف لَا يَبِيع وَلَا يُوكل وَكَانَ وكل قبل ذَلِك بِبيع مَاله فَبَاعَ الْوَكِيل بعد يَمِينه بِالْوكَالَةِ السَّابِقَة فَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن أَنه لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ بعد الْيَمين لم يُبَاشر وَلم يُوكل وَقِيَاسه أَنه لَو حلف على زَوجته أَن لَا تخرج إِلَّا بِإِذْنِهِ
وَكَانَ أذن لَهَا قبل ذَلِك فِي الْخُرُوج إِلَى مَوضِع معِين فَخرجت إِلَيْهِ بعد الْيَمين لم يَحْنَث قَالَ البُلْقِينِيّ وَهُوَ ظَاهر وَلَو حلف لَا يعْتق عَبده فكاتبه وَعتق بِالْأَدَاءِ لم يَحْنَث كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن ابْن قطان
وَأَقَرَّاهُ وَإِن صوب فِي الْمُهِمَّات الْحِنْث وَلَو حلف لَا ينْكح حنث بِعقد وَكيله لَهُ لَا بِقبُول الْحَالِف النِّكَاح لغيره لِأَن الْوَكِيل فِي النِّكَاح سفير مَحْض وَلِهَذَا يجب تَسْمِيَة الْمُوكل وَهَذَا مَا جزم بِهِ فِي الْمِنْهَاج تبعا لأصله وَهُوَ الْمُعْتَمد وَصحح فِي التَّنْبِيه عدم الْحِنْث وَأقرهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحه
وَصَححهُ البُلْقِينِيّ فِي تَصْحِيح الْمِنْهَاج نَاقِلا لَهُ عَن الْأَكْثَرين وَقَالَ إِن مَا فِي الْمِنْهَاج من الْحِنْث مُخَالف لمقْتَضى نُصُوص الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ولقاعدته وللدليل وَلما عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ من الْأَصْحَاب وَأطَال فِي ذَلِك
وَيجْرِي هَذَا الْخلاف فِي التَّوْكِيل فِي الرّجْعَة فِيمَا إِذا حلف أَنه لَا يُرَاجِعهَا فَوكل من يُرَاجِعهَا
فروع لَو حَلَفت الْمَرْأَة بِأَن لَا تتَزَوَّج فعقد عَلَيْهَا وَليهَا نظر إِن كَانَت مجبرة فعلى قولي الْمُكْره وَإِن كَانَت غير مجبرة وأذنت فِي التَّزْوِيج فَزَوجهَا الْوَلِيّ فَهُوَ كَمَا لَو أذن الزَّوْج لمن يُزَوجهُ وَلَو حلف الْأَمِير أَن لَا يضْرب زيدا فَأمر الجلاد بضربه فَضَربهُ لم يَحْنَث أَو حلف لَا يَبْنِي بَيته فَأمر الْبناء ببنائه فبناه
فَكَذَلِك أَو لَا يحلق رَأسه فَأمر حلاقا فحلقه لم يَحْنَث كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري لعدم فعله وَقيل يَحْنَث للْعُرْف وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي بَاب مُحرمَات الْإِحْرَام من شرحيه وَصَححهُ الْإِسْنَوِيّ أَو لَا يَبِيع مَال زيد فَبَاعَهُ بيعا صَحِيحا بِأَن بَاعه بِإِذْنِهِ أَو لظفر بِهِ أَو أذن حَاكم لحجر أَو امْتنَاع أَو أذن ولي لصِغَر أَو لحجر أَو جُنُون حنث لصدق اسْم البيع بِمَا ذكر وَلَو حلف لَا يَبِيع لي زيد مَالا فَبَاعَهُ زيد حنث الْحَالِف سَوَاء أعلم زيد أَنه مَال الْحَالِف أم لَا لِأَن الْيَمين منعقدة(2/604)
على نفي فعل زيد وَقد فعل باخت وَالْجهل أَو النسْيَان إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْمُبَاشر للْفِعْل لَا فِي غَيره وَوقت الْغَدَاء من طُلُوع الْفجْر إِلَى الزَّوَال وَوقت الْعشَاء من الزَّوَال إِلَى نصف اللَّيْل وقدرهما أَن يَأْكُل فَوق نصف الشِّبَع وَوقت السّحُور بعد نصف اللَّيْل إِلَى طُلُوع الْفجْر وَلَو حلف ليثنين على الله أحسن الثَّنَاء وأعظمه أَو أَجله
فَلْيقل لَا أحصي ثَنَاء عَلَيْك أَنْت كَمَا أثنيت على نَفسك أَو ليحمدن الله تَعَالَى بِمَجَامِع الْحَمد أَو بِأَجل التحاميد فَلْيقل الْحَمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده وَهنا فروع كَثِيرَة ذكرتها فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر وَفِيمَا ذكرته كِفَايَة لأولي الْأَلْبَاب
ثمَّ شرع فِي صفة كَفَّارَة الْيَمين واختصت من بَين الْكَفَّارَات بِكَوْنِهَا مخيرة فِي الِابْتِدَاء مرتبَة فِي الِانْتِهَاء وَالصَّحِيح فِي سَبَب وُجُوبهَا عِنْد الْجُمْهُور الْحِنْث وَالْيَمِين مَعًا فَقَالَ (وَكَفَّارَة الْيَمين هُوَ)
أَي الْمُكَفّر الْحر الرشيد وَلَو كَافِرًا (مُخَيّر فِيهَا) ابْتِدَاء (بَين) فعل وَاحِد من (ثَلَاثَة أَشْيَاء) وَهِي (عتق رَقَبَة مُؤمنَة) بِلَا عيب يخل بِعَمَل أَو كسب (أَو إطْعَام) أَي تمْلِيك (عشرَة مَسَاكِين كل مِسْكين مد) من جنس الْفطْرَة على مَا مر بَيَانه فِيهَا (أَو كسوتهم) بِمَا يُسمى كسْوَة مِمَّا يعْتَاد لبسه وَلَو ثوبا أَو عِمَامَة أَو إزارا أَو طيلسانا أَو منديلا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَالْمرَاد بِهِ الْمَعْرُوف الَّذِي يحمل فِي الْيَد أَو مقنعة أَو درعا من صوف أَو غَيره
وَهُوَ قَمِيص لَا كم لَهُ أَو ملبوسا لم تذْهب قوته أَو لم يصلح للمدفوع لَهُ كقميص صَغِير لكبير لَا يصلح لَهُ وَيجوز قطن وكتان وحرير وَشعر وصوف منسوج كل مِنْهَا لامْرَأَة وَرجل لوُقُوع اسْم الْكسْوَة على ذَلِك
وَلَا يجزىء الْجَدِيد مهلهل النسيج إِذا كَانَ لبسه لَا يَدُوم إِلَّا بِقدر مَا يَدُوم لبس الثَّوْب الْبَالِي لضعف النَّفْع بِهِ وَلَا خف وَلَا قفازان وَلَا مكعب وَلَا منْطقَة وَلَا قلنسوة وَهِي مَا يُغطي بهَا الرَّأْس(2/605)
وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يُسمى كسْوَة كدرع من حَدِيد
وتجزىء فَرْوَة ولبد اُعْتِيدَ فِي الْبَلَد لبسهما وَلَا يجزىء التبَّان وَهُوَ سروال قصير لَا يبلغ الرّكْبَة وَلَا الْخَاتم وَلَا التكة والعرقية
وَوَقع فِي شرح الْمنْهَج أَنَّهَا تَكْفِي ورد بِأَن القلنسوة لَا تَكْفِي
كَمَا مر وَهِي شَامِلَة لَهَا وَيُمكن حملهَا على الَّتِي تجْعَل تَحت البرذعة وَإِن كَانَ بَعيدا فَهُوَ أولى من مُخَالفَته للأصحاب وَلَا يجزىء نجس الْعين
ويجزىء الْمُتَنَجس وَعَلِيهِ أَن يعلمهُمْ بِنَجَاسَتِهِ ويجزىء مَا غسل مَا لم يخرج عَن الصلاحية كالطعام الْعَتِيق لانطلاق اسْم الْكسْوَة عَلَيْهِ وَكَونه يرد فِي البيع لَا يُؤثر فِي مقصودها كالعيب الَّذِي لَا يضر بِالْعَمَلِ فِي الرَّقِيق وَينْدب أَن يكون الثَّوْب جَدِيدا خاما كَانَ أَو مَقْصُور
الْآيَة {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} وَلَو أعْطى عشرَة ثوبا طَويلا لم يُجزئهُ بِخِلَاف مَا لَو قطعه قطعا قطعا ثمَّ دَفعه إِلَيْهِم قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَهُوَ مَحْمُول على قِطْعَة تسمى كسْوَة وَخرج بقول المُصَنّف عشرَة مَسَاكِين مَا إِذا أطْعم خَمْسَة وكسا خَمْسَة لَا يجزىء كَمَا لَا يجزىء إِعْتَاق نصف رَقَبَة وإطعام خمسه
(فَإِن لم) يكن الْمُكَفّر رشيدا أَو لم (يجد) شَيْئا من الثَّلَاثَة لعَجزه عَن كل مِنْهَا بِغَيْر غيبَة مَاله برق أَو غَيره
(فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام) لقَوْله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} الْآيَة وَالرَّقِيق لَا يملك أَو يملك ملكا ضَعِيفا فَلَو كفر عَنهُ سَيّده بِغَيْر صَوْم لم يجز ويجزىء بعد مَوته بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَة لِأَنَّهُ لَا رق بعد الْمَوْت
وَله فِي الْمكَاتب أَن يكفر عَنهُ بهما بِإِذْنِهِ وللمكاتب أَن يكفر بهما بِإِذن سَيّده أما الْعَاجِز بغيبة مَاله فكغير الْعَاجِز لِأَنَّهُ وَاحِد فينتظر حُضُور مَاله بِخِلَاف فَاقِد المَاء مَعَ غيبَة مَاله فَإِنَّهُ يتَيَمَّم لضيق وَقت الصَّلَاة وَبِخِلَاف الْمُتَمَتّع الْمُعسر بِمَكَّة الْمُوسر بِبَلَدِهِ فَإِنَّهُ يَصُوم لِأَن مَكَان الدَّم بِمَكَّة فَاعْتبر يسَاره وَعَدَمه بهَا
وَمَكَان الْكَفَّارَة مُطلق فَاعْتبر مُطلقًا فَإِن كَانَ لَهُ هُنَا رَقِيق غَائِب تعلم حَيَاته فَلهُ إِعْتَاقه فِي الْحَال
تَنْبِيه المُرَاد بِالْعَجزِ أَن لَا يقدر على المَال الَّذِي يصرفهُ فِي الْكَفَّارَة كمن يجد كِفَايَته وكفاية من تلْزمهُ مُؤْنَته فَقَط وَلَا يجد مَا يفضل عَن ذَلِك قَالَ الشَّيْخَانِ وَمن لَهُ أَن يَأْخُذ سهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من الزَّكَاة وَالْكَفَّارَات لَهُ أَن يكفر بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ فَقير فِي الْأَخْذ فَكَذَا فِي الْإِعْطَاء وَقد يملك نِصَابا وَلَا يَفِي دخله لحوائجه فَتلْزمهُ الزَّكَاة وَله أَخذهَا وَالْفرق بَين الْبَابَيْنِ أَنا لَو أسقطنا الزَّكَاة خلا النّصاب عَنْهَا بِلَا بدل والتكفير لَهُ بدل وَهُوَ الصَّوْم وَلَا يجب تتَابع فِي الصَّوْم لإِطْلَاق الْآيَة
فَإِن قيل قَرَأَ ابْن مَسْعُود ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات وَالْقِرَاءَة الشاذة كخبير الْوَاحِد فِي وجوب الْعَمَل كَمَا أَوجَبْنَا قطع يَد السَّارِق الْيُمْنَى بِالْقِرَاءَةِ الشاذة فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} أُجِيب بِأَن آيَة الْيَمين نسخت مُتَتَابِعَات تِلَاوَة وَحكما فَلَا يسْتَدلّ بهَا بِخِلَاف آيَة السّرقَة فَإِنَّهَا نسخت تِلَاوَة لَا حكما
تَتِمَّة إِن كَانَ الْعَاجِز أمة تحل لسَيِّدهَا لم تصم إِلَّا بِإِذْنِهِ كَغَيْرِهَا من أمة لَا تحل لَهُ وَعبد وَالصَّوْم يضر غَيرهَا فِي الْخدمَة(2/606)
وَقد حنث بِلَا إِذن من السَّيِّد فَإِنَّهُ لَا يَصُوم إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِن أذن لَهُ فِي الْحلف لحق الْخدمَة
فَإِن أذن لَهُ فِي الْحِنْث صَامَ بِلَا إِذن وَإِن لم يَأْذَن فِي الْحلف فَالْعِبْرَة فِي الصَّوْم بِلَا إِذن فِيمَا إِذا أذن فِي أَحدهمَا بِالْحِنْثِ وَوَقع فِي الْمِنْهَاج تَرْجِيح اعْتِبَار الْحلف وَالْأول هُوَ الْأَصَح فِي الرَّوْضَة كالشرحين
فَإِن لم يضرّهُ الصَّوْم فِي الْخدمَة لم يحْتَج إِلَى إِذن فِيهِ وَمن بعضه حر وَله مَال يكفر بِطَعَام أَو كسْوَة وَلَا يكفر بِالصَّوْمِ ليساره لَا عتق لِأَنَّهُ يستعقب مِنْك الْوَلَاء المتضمن للولاية وَالْإِرْث وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا وَاسْتثنى البُلْقِينِيّ من ذَلِك مَا لَو قَالَ لَهُ مَالك بعضه إِذا عتقت عَن كفارتك فنصيبي مِنْك حر قبل إعتاقك عَن الْكَفَّارَة أَو مَعَه فَيصح إِعْتَاقه عَن كَفَّارَة نَفسه فِي الأولى قطعا وَفِي الثَّانِيَة على الْأَصَح
فصل فِي أَحْكَام النذور
جمع نذر وَهُوَ بذال مُعْجمَة سَاكِنة وَحكي فتحهَا لُغَة الْوَعْد بِخَير أَو شَرّ وَشرعا الْوَعْد بِخَير خَاصَّة قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ غَيرهمَا الْتِزَام قربَة لم تتَعَيَّن كَمَا يعلم مِمَّا يَأْتِي وَذكره المُصَنّف عقب الْأَيْمَان لِأَن كلا مِنْهُمَا عقد يعقده الْمَرْء على نَفسه تَأْكِيدًا لما الْتَزمهُ
وَالْأَصْل فِيهِ آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وليوفوا نذورهم} وأخبار كَخَبَر البُخَارِيّ من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَفِي كَونه قربَة أَو مَكْرُوها خلاف وَالَّذِي رَجحه ابْن الرّفْعَة أَنه قربَة فِي نذر التبرر دون غَيره وَهَذَا أولى مَا قيل فِيهِ
وأركانه ثَلَاثَة صِيغَة ومنذور وناذر
(و) شَرط فِي النَّاذِر إِسْلَام وَاخْتِيَار ونفوذ بِصَرْف فِيمَا ينذره فَلَا يَصح (النّذر) من كَافِر لعدم أَهْلِيَّته للقربة وَلَا من مكره لخَبر رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَلَا مِمَّن لَا ينفذ تصرفه فِيمَا ينذره كمحجور سفه أَو فلس فِي الْقرب الْمَالِيَّة الْمعينَة وَصبي وَمَجْنُون وَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بِالْتِزَام وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان كلله عَليّ كَذَا أَو عَليّ كَذَا كَسَائِر الْعُقُود
و (يلْزم) ذَلِك بِالنذرِ بِنَاء على أَنه يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع وَهُوَ مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ هُنَا وَوَقع لَهما فِيهِ اخْتِلَاف(2/607)
تَرْجِيح وَبَين المُصَنّف مُتَعَلق اللُّزُوم بقوله (فِي المجازاة) أَي الْمُكَافَأَة (على) نذر فعل (مُبَاح) لم يرد فِيهِ ترغيب كَأَكْل وَشرب وقعود وَقيام أَو ترك ذَلِك وَهَذَا من المُصَنّف لَعَلَّه سَهْو أَو سبق
قلم إِذْ النّذر على فعل مُبَاح أَو تَركه لَا ينْعَقد بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب فضلا عَن لُزُومه
وَلَكِن هَل يكون يَمِينا تلْزمهُ فِيهِ الْكَفَّارَة عِنْد الْمُخَالفَة أَو لَا اخْتلف فِيهِ تَرْجِيح الشَّيْخَيْنِ فَالَّذِي رجحاه فِي الْمِنْهَاج وَالْمُحَرر اللُّزُوم لِأَنَّهُ نذر فِي غير مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَالَّذِي رجحاه فِي الرَّوْضَة والشرحين
وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوع أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ وَهُوَ الْمُعْتَمد لعدم انْعِقَاده فَإِن قيل يُوَافق الأول مَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا من أَنه لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أطلقك
أَو أَن آكل الْخبز أَو لله عَليّ أَن أَدخل الدَّار فَإِن عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي ذَلِك عِنْد الْمُخَالفَة
أُجِيب بِأَن الْأَوَّلين فِي نذر اللجاج وَكَلَام المُصَنّف فِي نذر التبرر وَأما الْأَخِيرَة فلزوم الْكَفَّارَة فِيهَا من حَيْثُ الْيَمين لَا من حَيْثُ النّذر
(و) يلْزم النّذر على فعل (الطَّاعَة) مَقْصُودَة لم تتَعَيَّن كعتق وعيادة مَرِيض وَسَلام وتشييع جَنَازَة
وَقِرَاءَة سُورَة مُعينَة وَطول قِرَاءَة صَلَاة وَصَلَاة جمَاعَة
وَلَا فرق فِي صِحَة نذر الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة بَين كَونهَا فِي فرض أم لَا
فَالْقَوْل بِأَن صِحَّتهَا مُقَيّدَة بِكَوْنِهَا فِي الْفَرْض أخذا من تَقْيِيد الرَّوْضَة
وَأَصلهَا بذلك وهم لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا قيدا بذلك للْخلاف فِيهِ فَلَو نذر غير الْقرْبَة الْمَذْكُورَة من وَاجِب عَيْني كَصَلَاة الظّهْر أَو مُخَيّر كَأحد خِصَال كَفَّارَة الْيَمين وَلَو مُعينَة كَمَا صرح بِهِ(2/608)
القَاضِي حُسَيْن أَو مَعْصِيّة كَمَا سَيَأْتِي كشرب خمر وَصَلَاة بِحَدَث أَو مَكْرُوه كَصَوْم الدَّهْر لمن خَافَ بِهِ ضَرَرا أَو فَوت حق لم يَصح نَذره أما الْوَاجِب الْمَذْكُور فَلِأَنَّهُ لزم عينا بإلزام الشَّرْع قبل النّذر فَلَا معنى لالتزامه
وَأما الْمَكْرُوه فَلِأَنَّهُ لَا يتَقرَّب بِهِ وَلخَبَر أبي دَاوُد لَا نذر إِلَّا فِيمَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَلم يلْزمه بمخالفة ذَلِك كَفَّارَة
ثمَّ بَين المُصَنّف نذر المجازاة
وَهُوَ نوع من التبرر وَهُوَ الْمُعَلق بِشَيْء بقوله (كَقَوْلِه إِن شفي الله) تَعَالَى (مريضي) أَو قدم غائبي أَو نجوت من الْغَرق أَو نَحْو ذَلِك
(فَللَّه) تَعَالَى (عَليّ أَن أُصَلِّي أَو أَصوم أَو أَتصدق) وأو فِي كَلَامه تنويعية (وَيلْزمهُ) بعد حُصُول الْمُعَلق عَلَيْهِ (من ذَلِك) أَي من أَي نوع الْتَزمهُ عِنْد الْإِطْلَاق (مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم) مِنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة رَكْعَتَانِ على الْأَظْهر بِالْقيامِ مَعَ الْقُدْرَة حملا على أقل وَاجِب الشَّرْع وَفِي الصَّوْم يَوْم وَاحِد لِأَنَّهُ الْيَقِين فَلَا يلْزمه زِيَادَة عَلَيْهِ وَفِي الصَّدَقَة مَا يتمول شرعا وَلَا يتَقَدَّر بِخَمْسَة دَرَاهِم وَلَا بِنصْف دِينَار وَإِنَّمَا حملنَا الْمُطلق على أقل وَاجِب من جنسه كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَن ذَلِك قد يلْزمه فِي الشّركَة
فرع لَو نذر شَيْئا كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي فشفي ثمَّ شكّ هَل نذر صَدَقَة أَو عتقا أَو صَلَاة أَو صوما
قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ يحْتَمل أَن يُقَال عَلَيْهِ الْإِتْيَان بجميعها كمن نسي صَلَاة من الْخمس
وَيحْتَمل أَن يُقَال يجْتَهد بِخِلَاف الصَّلَاة لأَنا تَيَقنا أَن الْجَمِيع لم تجب عَلَيْهِ
وَإِنَّمَا وَجب عَلَيْهِ شَيْء وَاحِد واشتبه فيجتهد كالأواني والقبلة
اه
وَهَذَا أوجه وَإِن لم يعلق النّذر بِشَيْء وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي من نَوْعي التبرر كَقَوْلِه ابْتِدَاء لله عَليّ صَوْم أَو حج أَو غير ذَلِك
لزمَه مَا الْتَزمهُ لعُمُوم الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة وَلَو علق النّذر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أَو مَشِيئَة زيد لم يَصح
وَإِن شَاءَ زيد لعدم الْجَزْم اللَّائِق بِالْقربِ نعم إِن قصد بِمَشِيئَة الله تَعَالَى التَّبَرُّك أَو وُقُوع حُدُوث مَشِيئَة زيد نعْمَة مَقْصُودَة كقدوم زيد فِي قَوْله إِن قدم زيد فعلي كَذَا
فَالْوَجْه الصِّحَّة كَمَا صرح بذلك بعض الْمُتَأَخِّرين (وَلَا) يَصح (نذر فِي) فعل (مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن قتلت فلَانا فَللَّه عَليّ كَذَا) لحَدِيث لَا نذرع فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى رَوَاهُ مُسلم وَلخَبَر البُخَارِيّ الْمَار من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَلَا تجب بِهِ كَفَّارَة إِن حنث
وَأجَاب النَّوَوِيّ عَن خبر لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين بِأَنَّهُ ضَعِيف وَغَيره يحملهُ على نذر اللجاج وَمحل عدم لُزُومهَا بذلك
كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ إِذا لم ينْو بِهِ الْيَمين كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّافِعِيّ آخرا
فَإِن نوى بِهِ الْيَمين لَزِمته الْكَفَّارَة بِالْحِنْثِ
تَنْبِيه أورد فِي التوشيح إِعْتَاق العَبْد الْمَرْهُون فَإِن الرَّافِعِيّ حكى عَن التَّتِمَّة أَن نَذره مُنْعَقد إِن نفذنا عتقه فِي الْحَال أَو عِنْد أَدَاء المَال
وَذكروا فِي الرَّهْن أَن الْإِقْدَام على عتق الْمَرْهُون لَا يجوز وَإِن تمّ الكلامان كَانَ نذرا فِي مَعْصِيّة منعقدا وَاسْتثنى غَيره
مَا لَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أَرض مَغْصُوبَة صَحَّ النّذر وَيُصلي فِي مَوضِع آخر كَذَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه وَصرح باستثنائه(2/609)
الْجِرْجَانِيّ فِي إيضاحه
وَلَكِن جزم الْمحَامِلِي بِعَدَمِ الصِّحَّة
وَرجحه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْجَارِي على الْقَوَاعِد
وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِنَّه الْأَقْرَب ويتأيد بِالنذرِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد على الصَّحِيح
(وَلَا يلْزم النّذر) بِمَعْنى لَا ينْعَقد
(على ترك) فعل (مُبَاح أَو فعله كَقَوْلِه لَا آكل لَحْمًا وَلَا أشْرب لَبَنًا وَمَا أشبه ذَلِك) لخَبر البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس بَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب إِذْ رأى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ
فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يَصُوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل
وَلَا يتَكَلَّم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه
وَفسّر فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا الْمُبَاح بِمَا لم يرد فِيهِ ترغيب وَلَا ترهيب وَزَاد فِي الْمَجْمُوع على ذَلِك واستوى فعله وَتَركه شرعا كنوم وَأكل وَسَوَاء أقصد بِالنَّوْمِ النشاط على التَّهَجُّد وبالأكل التقوي على الْعِبَادَة أم لَا
وَإِنَّمَا لم يَصح فِي الْقسم الأول كَمَا اخْتَارَهُ بعض الْمُتَأَخِّرين لِأَن فعله غير مَقْصُود فالثواب على الْقَصْد لَا الْفِعْل
تَنْبِيه كَانَ الأولى للْمُصَنف التَّعْبِير هُنَا بِنَفْي الِانْعِقَاد الْمَعْلُوم مِنْهُ
بِالْأولَى مَا ذكر وَيُؤْخَذ من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن النّذر بترك كَلَام الْآدَمِيّين لَا ينْعَقد وَبِه صرح فِي الزَّوَائِد وَالْمَجْمُوع وَلَا يلْزم عقد النِّكَاح بِالنذرِ كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري هُنَا وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين إِن كَانَ مَنْدُوبًا وَفِي فَتَاوَى الْغَزالِيّ أَن قَول البَائِع للْمُشْتَرِي إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا فَللَّه عَليّ أَن أهبك ألفا لَغْو
لِأَن الْمُبَاح لَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الْهِبَة وَإِن كَانَت قربَة فِي نَفسهَا إِلَّا أَنَّهَا على هَذَا الْوَجْه لَيست قربَة وَلَا مُحرمَة
فَكَانَت مُبَاحَة كَذَا قَالَه ابْن الْمقري وَالْأَوْجه انْعِقَاد النّذر كَمَا لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
وَفِي فَتَاوَى بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه يَصح نذر الْمَرْأَة لزَوجهَا بِمَا وَجب لَهَا عَلَيْهِ من حُقُوق الزَّوْجِيَّة
وَيبرأ الزَّوْج وَإِن لم تكن عَالِمَة بالمقدار قِيَاسا مَا إِذا قَالَ نذرت لزيد ثَمَرَة بستاني مُدَّة حَيَاته فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا أفتى بِهِ البُلْقِينِيّ وَقِيَاسًا على صِحَة وقف مَا لم يره كَمَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وتوبع عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعم من أَن يكون الْمَوْقُوف عَلَيْهِ معينا أَو جِهَة عَامَّة
خَاتِمَة فِيهَا مسَائِل مهمة تتَعَلَّق بِالنذرِ من نذر إتْمَام نفل لزمَه إِتْمَامه أَو نذر صَوْم بعض يَوْم لم ينْعَقد أَو نذر إتْيَان الْحرم أَو شَيْء مِنْهُ لزمَه نسك من حج أَو عمْرَة
أَو نذر الْمَشْي إِلَيْهِ لزمَه مَعَ نسك مشي من مَسْكَنه أَو نذر أَن يحجّ أَو يعْتَمر مَاشِيا أَو عَكسه لزمَه مَعَ ذَلِك مشي من حَيْثُ أحرم فَإِن ركب وَلَو بِلَا عذر أَجزَأَهُ وَلَزِمَه دم وَإِن ركب بِعُذْر وَلَو نذر صَلَاة أَو صوما فِي وَقت ففاته وَلَو بِعُذْر
وَجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَلَو نذر إهداء شَيْء إِلَى الْحرم لزمَه حمله إِلَيْهِ إِن سهل
وَلَزِمَه صرفه بعد ذبح مَا يذبح مِنْهُ لمساكينه
أما إِذا لم يسهل حمله كعقار فَيلْزمهُ حمل ثمنه إِلَى الْحرم
وَلَو نذر تصدقا بِشَيْء على أهل بلد معِين لزمَه صرفه لمساكينه الْمُسلمين
وَلَو نذر صَلَاة قَاعِدا جَازَ فعلهَا قَائِما لإتيانه بالأفضل لَا عَكسه وَلَو نذر عتقا أَجزَأَهُ رَقَبَة وَلَو نَاقِصَة
بِكفْر أَو غَيره أَو نذر عتق نَاقِصَة أَجزَأَهُ رَقَبَة كَامِلَة فَإِن عين نَاقِصَة كَأَن قَالَ لله عَليّ عتق هَذَا الرَّقِيق الْكَافِر
تعيّنت وَلَو نذر زيتا أَو شمعا لإسراج مَسْجِد أَو غَيره أَو وقف مَا يشتريان بِهِ من غَلَّته صَحَّ كل من النّذر وَالْوَقْف وَإِن كَانَ يدْخل الْمَسْجِد أَو غَيره من ينْتَفع بِهِ من نَحْو مصل أَو نَائِم وَإِلَّا لم يَصح لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال
وَلَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أفضل الْأَوْقَات فَقِيَاس مَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاق لَيْلَة الْقدر أَو فِي أحب الْأَوْقَات إِلَى الله تَعَالَى قَالَ الزَّرْكَشِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح نَذره وَالَّذِي يَنْبَغِي الصِّحَّة وَيكون كنذره فِي أفضل الْأَوْقَات وَلَو نذر أَن يعبد الله بِعبَادة لَا يشركهُ فِيهَا أحد
فَقيل يطوف بِالْبَيْتِ وَحده وَقيل يُصَلِّي دَاخل الْبَيْت وَحده وَقيل يتَوَلَّى الْإِمَامَة(2/610)
الْعُظْمَى وَيَنْبَغِي أَن يَكْفِي وَاحِد من ذَلِك وَمَا رد بِهِ من أَن الْبَيْت لَا يَخْلُو عَن طائف من ملك
أَو غَيره مَرْدُود لِأَن الْعبْرَة بِمَا فِي ظَاهر الْحَال وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره هُنَا فروعا مهمة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر فَمن أرادها فَلْيُرَاجِعهَا فِي ذَلِك(2/611)
= كتاب الْأَقْضِيَة والشهادات = الْأَقْضِيَة جمع قَضَاء بِالْمدِّ كقباء وأقبية وَهُوَ لُغَة إِمْضَاء الشَّيْء وإحكامه وَشرعا فصل الْخُصُومَة بَين خصمين فَأكْثر بِحكم الله تَعَالَى والشهادات جمع شَهَادَة
وَهِي إِخْبَار عَن شَيْء بِلَفْظ خَاص وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا
وَالْأَصْل فِي الْقَضَاء قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَقَوله تَعَالَى {فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَفِي رِوَايَة فَلهُ عشرَة أجور قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم أجمع الْمُسلمُونَ على أَن هَذَا الحَدِيث يَعْنِي الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَاكم عَالم أهل للْحكم إِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ بِاجْتِهَادِهِ وإصابته وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر فِي اجْتِهَاده فِي طلب الْحق أما من لَيْسَ بِأَهْل للْحكم فَلَا يحل لَهُ أَن يحكم وَإِن حكم فَلَا أجر لَهُ بل هُوَ آثم وَلَا ينفذ حكمه سَوَاء أوافق الْحق أم لَا لِأَن إِصَابَته اتفاقية
لَيست صادرة عَن أصل شَرْعِي فَهُوَ عَاص فِي جَمِيع أَحْكَامه سَوَاء أوافق الصَّوَاب أم لَا
وَهِي مَرْدُودَة كلهَا وَلَا يعْذر فِي شَيْء من ذَلِك وَقد روى الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة
فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ واللذان فِي النَّار رجل عرف الْحق فجار فِي الْحق وَرجل قضى للنَّاس على جهل وَالْقَاضِي الَّذِي ينفذ حكمه هُوَ الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث لَا اعْتِبَار بحكمهما
وتولي الْقَضَاء فرض كِفَايَة فِي حق الصَّالِحين لَهُ فِي نَاحيَة
أما تَوْلِيَة الإِمَام لأَحَدهم فَفرض عين عَلَيْهِ
فَمن تعين عَلَيْهِ فِي نَاحيَة لزمَه طلبه وَلَزِمَه قبُوله (وَلَا يجوز) وَلَا يَصح (أَن يَلِي الْقَضَاء) الَّذِي هُوَ الحكم بَين النَّاس (إِلَّا من استكملت فِيهِ) بِمَعْنى اجْتمع فِيهِ (خمس عشرَة خصْلَة) ذكر المُصَنّف مِنْهَا خَصْلَتَيْنِ على ضَعِيف وَسكت عَن خَصْلَتَيْنِ على الصَّحِيح كَمَا ستعرف ذَلِك
الأولى (الْإِسْلَام) فَلَا تصح ولَايَة كَافِر وَلَو على كَافِر وَمَا جرت بِهِ الْعَادة من نصب شخص مِنْهُم للْحكم بَينهم فَهُوَ تَقْلِيد رئاسة وزعامة لَا تَقْلِيد حكم وَقَضَاء كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
(و) الثَّانِيَة (الْبلُوغ و) الثَّالِثَة (الْعقل)
فَلَا تصح ولَايَة غير مُكَلّف لنقصه
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا تصح ولَايَة رَقِيق وَلَو مبعضا لنقصه
(و) الْخَامِسَة (الذكورية) فَلَا تصح ولَايَة امْرَأَة وَلَا خُنْثَى مُشكل أما الْخُنْثَى الْوَاضِح الذُّكُورَة فَتَصِح ولَايَته كَمَا قَالَه(2/612)
فِي الْبَحْر
(و) السَّادِسَة (الْعَدَالَة) الْآتِي بَيَانهَا فِي الشَّهَادَات فَلَا تصح ولَايَة فَاسق وَلَو بِمَا لَهُ فِيهِ شُبْهَة على الصَّحِيح كَمَا قَالَه ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة
وَإِن اقْتضى كَلَام الدَّمِيرِيّ خِلَافه
(و) السَّابِعَة (معرفَة أَحْكَام الْكتاب) الْعَزِيز
(و) معرفَة أَحْكَام (السّنة) على طَرِيق الِاجْتِهَاد
وَلَا يشْتَرط حفظ آياتها وَلَا أحاديثها المتعلقات بهَا عَن ظهر قلب وآي الْأَحْكَام كَمَا ذكره الْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا خَمْسمِائَة آيَة وَعَن الْمَاوَرْدِيّ أَن عدد أَحَادِيث الْأَحْكَام خَمْسمِائَة كعدد الْآي
وَالْمرَاد أَن يعرف أَنْوَاع الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ مجَال النّظر وَالِاجْتِهَاد وَاحْترز بهَا عَن المواعظ والقصص فَمن أَنْوَاع الْكتاب وَالسّنة الْعَام الْخَاص والمجمل والمبين وَالْمُطلق والمقيد وَالنَّص وَالظَّاهِر والناسخ والمنسوخ وَمن أَنْوَاع السّنة الْمُتَوَاتر والآحاد والمتصل وَغَيره
لِأَنَّهُ بذلك يتَمَكَّن من التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة فَيقدم الْخَاص على الْعَام والمقيد على الْمُطلق والمبين على الْمُجْمل والناسخ على الْمَنْسُوخ والمتواتر على الْآحَاد وَيعرف الْمُتَّصِل من السّنة والمرسل مِنْهَا وَهُوَ غير الْمُتَّصِل وَحَال الروَاة قُوَّة وضعفا فِي حَدِيث لم يجمع على قبُوله
(و) الثَّامِنَة معرفَة (الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف) فِيهِ فَيعرف أَقْوَال الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ إِجْمَاعًا واختلافا لِئَلَّا يَقع فِي حكم أَجمعُوا على خِلَافه
تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَامه أَنه يشْتَرط معرفَة جَمِيع ذَلِك وَلَيْسَ مرَادا بل يَكْفِي أَن يعرف فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يُفْتِي أَو يحكم فِيهَا أَن قَوْله لَا يُخَالف الْإِجْمَاع فِيهَا إِمَّا بِعِلْمِهِ بموافقة بعض الْمُتَقَدِّمين أَو يغلب على ظَنّه أَن تِلْكَ الْمَسْأَلَة لم يتَكَلَّم فِيهَا الْأَولونَ
بل تولدت فِي عصره وعَلى هَذَا تقاس معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن الْغَزالِيّ وَأَقَرَّاهُ
(و) التَّاسِعَة معرفَة (طرق الِاجْتِهَاد) الموصلة إِلَى مدارك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة
وَهِي معرفَة مَا تقدم وَمَا سَيذكرُهُ مَعَ معرفَة الْقيَاس صَحِيحه وفاسده بأنواعه الأولى والمساوي والأدون ليعْمَل بهَا
فَالْأول كقياس ضرب الْوَالِدين على التأفيف وَالثَّانِي كإحراق مَال الْيَتِيم على أكله فِي التَّحْرِيم فيهمَا
وَالثَّالِث كقياس التفاح على الْبر فِي الرِّبَا بِجَامِع الطّعْم
(و) الْعَاشِرَة (معرفَة طرف من لِسَان الْعَرَب) لُغَة وإعرابا وتصريفا لِأَن بِهِ يعرف عُمُوم اللَّفْظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده(2/613)
وإجماله وَبَيَانه وصيغ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء وَالْأَفْعَال والحروف وَمَا لَا بُد مِنْهُ فِي فهم الْكتاب وَالسّنة
(و) الْحَادِيَة عشرَة معرفَة طرف (تَفْسِير) من (كتاب الله تَعَالَى) ليعرف بِهِ الْأَحْكَام الْمَأْخُوذَة مِنْهُ
تَنْبِيه هَذَا مَعَ الَّذِي قبله من جملَة طرق الِاجْتِهَاد وَلَا يشْتَرط أَن يكون متبحرا فِي كل نوع من هَذِه الْعُلُوم حَتَّى يكون فِي النَّحْو كسيبويه وَفِي اللُّغَة كالخليل بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا
قَالَ ابْن الصّباغ إِن هَذَا سهل فِي هَذَا الزَّمَان فَإِن الْعُلُوم قد دونت وجمعت انْتهى
وَيشْتَرط أَن يكون لَهُ من كتب الحَدِيث أصل كصحيح البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَلَا يشْتَرط حفظ جَمِيع الْقُرْآن وَلَا بعضه عَن ظهر قلب بل يَكْفِي أَن يعرف مظان أَحْكَامه فِي أَبْوَابهَا فيراجعها وَقت الْحَاجة
وَلَا بُد أَن يعرف الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا كالأخذ بِأَقَلّ مَا قيل وكالاستصحاب وَمَعْرِفَة أصُول الِاعْتِقَاد
كَمَا حُكيَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا عَن الْأَصْحَاب اشْتِرَاطه ثمَّ اجْتِمَاع هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع
أما الْمُقَلّد بِمذهب إِمَام خَاص فَلَيْسَ عَلَيْهِ معرفَة قَوَاعِد إِمَامه وليراع فِيهَا مَا يُرَاعى الْمُطلق فِي قوانين الشَّرْع فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهد كالمجتهد مَعَ نُصُوص الشَّرْع وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يعدل عَن نَص إِمَامه كَمَا لَا يسوغ الِاجْتِهَاد مَعَ النَّص
قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد وَلَا يَخْلُو الْعَصْر عَن مُجْتَهد إِلَّا إِذا تداعى الزَّمَان وَقربت السَّاعَة
وَأما أَقْوَال الْغَزالِيّ والقفال إِن الْعَصْر خلا عَن الْمُجْتَهد المستقل
فَالظَّاهِر أَن المُرَاد مُجْتَهد قَائِم بِالْقضَاءِ فَإِن الْعلمَاء يرغبون عَنهُ فقد قَالَ مَكْحُول لَو خيرت بَين الْقَضَاء وَالْقَتْل لاخترت الْقَتْل
وَامْتنع مِنْهُ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذَا ظَاهر لَا شكّ فِيهِ إِذْ كَيفَ يُمكن الْقَضَاء على الْأَعْصَار بخلوها عَن الْمُجْتَهد وَالشَّيْخ أَبُو عَليّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْن والأستاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيرهم كَانُوا يَقُولُونَ لسنا مقلدين للشَّافِعِيّ بل وَافق رَأينَا رَأْيه
وَيجوز تبعيض الِاجْتِهَاد بِأَن يكون الْعَالم مُجْتَهدا فِي بَاب دون بَاب فيكفيه علم مَا يتَعَلَّق بِالْبَابِ الَّذِي يجْتَهد فِيهِ
(و) الثَّانِيَة عشرَة (أَن يكون سميعا) وَلَو بصياح فِي أُذُنه فَلَا يُولى أَصمّ لَا يسمع أصلا فَإِنَّهُ لَا يفرق بَين إِقْرَار وإنكار
وَالثَّالِثَة عشرَة أَن يكون (بَصيرًا) فَلَا يُولى أعمى وَلَا من يرى الأشباح وَلَا يعرف الصُّور لِأَنَّهُ لَا يعرف الطَّالِب من الْمَطْلُوب فَإِن كَانَ يعرف الصُّور إِذا قربت مِنْهُ صَحَّ وَخرج بالأعمى الْأَعْوَر فَإِنَّهُ يَصح تَوليته
وَكَذَا من يبصر نَهَارا فَقَط دون من يبصر لَيْلًا فَقَط قَالَه الْأَذْرَعِيّ
فَإِن قيل قد اسْتخْلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن أم مَكْتُوم على الْمَدِينَة وَهُوَ أعمى
وَلذَلِك قَالَ مَالك بِصِحَّة ولَايَة الْأَعْمَى أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي إِمَامَة الصَّلَاة دون الحكم
تَنْبِيه لَو سمع القَاضِي الْبَيِّنَة ثمَّ عمي
قضى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة على الْأَصَح وَاسْتثنى أَيْضا لَو نزل أهل قلعة على حكم أعمى
فَإِنَّهُ يجوز كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي مَحَله(2/614)
وَالرَّابِعَة عشرَة أَن يكون (كَاتبا) على أحد وَجْهَيْن اخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ وَالزَّرْكَشِيّ لاحتياجه إِلَى أَن يكْتب إِلَى غَيره وَلِأَن فِيهِ أمنا من تَحْرِيف القارىء عَلَيْهِ وأصحهما كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا عدم اشْتِرَاط كَونه كَاتبا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب
وَلَا يشْتَرط فِيهِ معرفَة الْحساب لتصحيح الْمسَائِل الحسابية الْفِقْهِيَّة كَمَا صَوبه فِي الْمطلب لِأَن الْجَهْل بِهِ لَا يُوجب الْخلَل فِي غير تِلْكَ الْمسَائِل والإحاطة بِجَمِيعِ الْأَحْكَام لَا تشْتَرط
وَالْخَامِسَة عشرَة أَن يكون (مستيقظا) بِحَيْثُ لَا يُؤْتى من غَفلَة وَلَا يخدع من غرَّة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام ابْن الْقَاص وَصرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ فِي الْوَسِيط واستند فِيهِ إِلَى قَول الشَّيْخَيْنِ وَيشْتَرط فِي الْمُفْتِي التيقظ وَقُوَّة الضَّبْط قَالَ وَالْقَاضِي أولى بِاشْتِرَاط ذَلِك وَإِلَّا لضاعت الْحُقُوق انْتهى مُلَخصا وَلَكِن المجزوم بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا اسْتِحْبَاب ذَلِك لَا اشْتِرَاطه
تَنْبِيه هَاتَانِ الخصلتان الضعيفتان الْمَوْعُود بهما وَأما المتروكتان فَالْأولى كَونه ناطقا فَلَا تصح تَوْلِيَة الْأَخْرَس على الصَّحِيح لِأَنَّهُ كالجماد
وَالثَّانيَِة أَن يكون فِيهِ كِفَايَة للْقِيَام بِأَمْر الْقَضَاء فَلَا يُولى مختل نظر بكبر أَو مرض أَو نَحْو ذَلِك وَفسّر بَعضهم الْكِفَايَة اللائقة بِالْقضَاءِ بِأَن يكون فِيهِ قُوَّة على تَنْفِيذ الْحق بِنَفسِهِ فَلَا يكون ضَعِيف النَّفس جَبَانًا فَإِن كثيرا من النَّاس يكون عَالما دينا وَنَفسه ضَعِيفَة عَن التَّنْفِيذ
والإلزام والسطوة فيطمع فِي جَانِبه بِسَبَب ذَلِك وَإِذا عرف الإِمَام أَهْلِيَّة أحد ولاه وَإِلَّا بحث عَن حَاله كَمَا اختبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا وَلَو ولى من لَا يصلح للْقَضَاء مَعَ وجود الصَّالح لَهُ وَالْعلم بِالْحَال أَثم الْمولي بِكَسْر اللَّام وَالْمولى بِفَتْحِهَا وَلَا ينفذ قَضَاؤُهُ وَإِن أصَاب فِيهِ فَإِن تعذر فِي شخص جَمِيع هَذِه الشُّرُوط السَّابِقَة فولى السُّلْطَان لَهُ شَوْكَة فَاسِقًا مُسلما أَو مُقَلدًا نفذ قَضَاؤُهُ للضَّرُورَة لِئَلَّا تتعطل مصَالح النَّاس فَخرج الْمُسلم الْكَافِر إِذا ولي بِالشَّوْكَةِ
وَأما الصَّبِي وَالْمَرْأَة فَصرحَ ابْن عبد السَّلَام بنفوذه مِنْهُمَا
وَمَعْلُوم أَنه يشْتَرط فِي غير الْأَهْل معرفَة طرف من الْأَحْكَام وللعادل أَن يتَوَلَّى الْقَضَاء من الْأَمِير الْبَاغِي
فقد سُئِلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن ذَلِك لمن استقضاه زِيَاد فَقَالَت إِن لم يقْض لَهُم خيارهم قضى لَهُم شرارهم
فروع ينْدب للْإِمَام أَن يَأْذَن للْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَاف إِعَانَة لَهُ فَإِن أطلق التَّوْلِيَة اسْتخْلف فِيمَا عجز عَنهُ
فَإِن أطلق الْإِذْن فِي الِاسْتِخْلَاف اسْتخْلف مُطلقًا فَإِن خصصه بِشَيْء لم يتعده وَشرط الْمُسْتَخْلف بِفَتْح اللَّام كَشَرط القَاضِي السَّابِق إِلَّا أَن يسْتَخْلف فِي أَمر خَاص كسماع بَيِّنَة فَيَكْفِي علمه بِمَا يتَعَلَّق بِهِ
وَيحكم بِاجْتِهَادِهِ إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو اجْتِهَاد مقلده إِن كَانَ مُقَلدًا
وَجَاز نصب أَكثر من قَاض بِمحل إِن لم يشرط اجْتِمَاعهم على الحكم وَإِلَّا فَلَا يجوز لما يَقع بَينهمَا من الْخلاف فِي مَحل الِاجْتِهَاد وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن عدم الْجَوَاز مَحَله فِي غير الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا وَهُوَ ظَاهر وَيجوز تحكيم اثْنَيْنِ فَأكْثر أَهلا للْقَضَاء فِي غير عُقُوبَة الله تَعَالَى وَلَو مَعَ وجود قَاض وَخرج بالأهل غَيره فَلَا يجوز تحكيمه مَعَ وجود الْأَهْل وَلَا ينفذ حكمه إِلَّا بِرِضا الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم إِن لم يكن أَحدهمَا قَاضِيا وَإِلَّا فَلَا يشْتَرط رضاهما وَلَا يَكْفِي رضَا جَان فِي ضرب دِيَة على عَاقِلَة وَلَو رَجَعَ أحد الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم امْتنع وَلَو زَالَت أَهْلِيَّة القَاضِي بِنَحْوِ جُنُون كإغماء انْعَزل وَلَو(2/615)
عَادَتْ لم تعد ولَايَته وَله عزل نَفسه كَالْوَكِيلِ وَللْإِمَام عَزله بخلل وَأفضل مِنْهُ وبمصلحة كتسكين فتْنَة
فَإِن لم يكن شَيْء من ذَلِك حرم وَنفذ عَزله إِن وجد ثمَّ صَالح وَإِلَّا فَلَا ينفذ وَلَا يَنْعَزِل قبل بُلُوغه عَزله
فَإِن علق عَزله بقرَاءَته كَاتبا انْعَزل بهَا وبقراءته عَلَيْهِ وينعزل بانعزاله نَائِبه لَا قيم يَتِيم
ووقف وَلَا من اسْتَخْلَفَهُ بقول الإِمَام اسْتخْلف عني وَلَا يَنْعَزِل قَاض ووال بانعزال الإِمَام وَلَا يقبل قَول متول فِي غير مَحل ولَايَته وَلَا مَعْزُول حكمت بِكَذَا وَلَا شَهَادَة كل مِنْهُمَا بِحكمِهِ إِلَّا إِن شهد بِحكم حَاكم وَلم يعلم القَاضِي أَنه حكمه
وَلَو ادّعى على متول جورا فِي حكمه لم يسمع ذَلِك إِلَّا بِبَيِّنَة
فَإِن ادّعى عَلَيْهِ بِشَيْء لَا يتَعَلَّق بِحكمِهِ أَو على مَعْزُول بِشَيْء فكغيرهما وَتثبت تَوْلِيَة القَاضِي بِشَاهِدين يخرجَانِ مَعَه إِلَى مَحل ولَايَته يخبران أَو باستفاضة
وَيسن أَن يكْتب موليه لَهُ كتابا بالتولية وَأَن يبْحَث القَاضِي عَن حَال عُلَمَاء الْمحل وعدوله قبل دُخُوله وَأَن يدْخل يَوْم الِاثْنَيْنِ فخميس فسبت
(وَيسْتَحب أَن يجلس) للْقَضَاء (فِي وسط الْبَلَد) ليتساوى أَهله فِي الْقرب مِنْهُ هَذَا إِن اتسعت خطته وَإِلَّا نزل حَيْثُ تيَسّر
وَهَذَا إِذا لم يكن فِيهِ مَوضِع يعْتَاد النُّزُول فِيهِ وَأَن ينظر أَولا فِي أهل الْحَبْس لِأَنَّهُ عَذَاب فَمن أقرّ مِنْهُم بِحَق فعل بِهِ مُقْتَضَاهُ وَمن قَالَ ظلمت فعلى خَصمه حجَّة
فَإِن كَانَ خَصمه غَائِبا كتب إِلَيْهِ ليحضر هُوَ أَو وَكيله ثمَّ ينظر فِي الأوصياء فَمن وجده عدلا قَوِيا فِيهَا أقره أَو فَاسِقًا أَخذ المَال مِنْهُ أَو عدلا ضَعِيفا عضده بِمعين ثمَّ يتَّخذ كَاتبا للْحَاجة إِلَيْهِ عدلا ذكرا حرا عَارِفًا بِكِتَابَة محَاضِر وسجلات شرطا فِيهَا فَقِيها عفيفا وافر الْعقل جيد الْخط ندبا وَأَن يتَّخذ مترجمين
وَأَن يتَّخذ قَاض أَصمّ مسمعين للْحَاجة إِلَيْهِمَا أَهلِي شَهَادَة وَلَا يضرهما الْعَمى لِأَن التَّرْجَمَة والإسماع تَفْسِير
وَنقل اللَّفْظ لَا يحْتَاج إِلَى مُعَاينَة بِخِلَاف الشَّهَادَات وَأَن يتَّخذ درة للتأديب وسجنا لأَدَاء حق ولعقوبة
وَيكون جُلُوسه (فِي مَوضِع) فسيح (بارز للنَّاس) أَي ظَاهر لَهُم ليعرفه من أَرَادَهُ من مستوطن وغريب مصونا من أَذَى حر وَبرد بِأَن يكون فِي الصَّيف فِي مهب الرّيح وَفِي الشتَاء فِي كن لائقا بِالْحَال فيجلس فِي كل فصل من الصَّيف والشتاء وَغَيرهمَا بِمَا يُنَاسِبه وَيكرهُ للْقَاضِي أَن يتَّخذ حاجبا كَمَا قَالَ (لَا حَاجِب لَهُ) أَي للْقَاضِي (دونهم) أَي الْخُصُوم أَي حَيْثُ لَا زحمة وَقت الحكم لخَبر من ولي من أُمُور النَّاس شَيْئا فاحتجب حجبه الله يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِن لم يجلس للْحكم بِأَن كَانَ فِي وَقت خلوته أَو كَانَ ثمَّ زحمة لم يكره نَصبه والبواب وَهُوَ من يقْعد بِالْبَابِ للإحراز وَيدخل على القَاضِي للاستئذان كالحاجب فِيمَا ذكر
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ أما من وظيفته تَرْتِيب الْخُصُوم والإعلام بمنازل النَّاس أَي وَهُوَ الْمُسَمّى الْآن بالنقيب فَلَا بَأْس باتخاذه وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره باستحبابه
تَنْبِيه من الْآدَاب أَن يجلس على مُرْتَفع كدكة ليسهل عَلَيْهِ النّظر إِلَى النَّاس وَعَلَيْهِم الْمُطَالبَة وَأَن يتَمَيَّز عَن غَيره بفراش ووسادة وَإِن كَانَ مَشْهُورا بالزهد والتواضع ليعرفه النَّاس وليكون أهيب للخصوم وأرفق بِهِ فَلَا يمل وَأَن يسْتَقْبل الْقبْلَة لِأَنَّهَا أشرف الْمجَالِس كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَأَن لَا يتكىء بِغَيْر عذر وَأَن يَدْعُو عقب جُلُوسه بالتوفيق والتسديد
وَالْأولَى مَا روته أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا خرج من بَيته قَالَ بِسم الله توكلت على الله اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من أَن أضلّ أَو أضلّ أَو أزل أَو أزل أَو أظلم أَو أظلم أَو أَجْهَل أَو يجهل عَليّ قَالَ فِي الْأَذْكَار حَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
قَالَ ابْن الْقَاص وَسمعت أَن الشّعبِيّ كَانَ يَقُوله إِذا خرج إِلَى مجْلِس الْقَضَاء وَيزِيد فِيهِ أَو أعتدي أَو يعتدى عَليّ اللَّهُمَّ أَعنِي بِالْعلمِ وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى حَتَّى لَا أنطق إِلَّا بِالْحَقِّ(2/616)
وَلَا أَقْْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ
وَأَن يَأْتِي الْمجْلس رَاكِبًا وَأَن يسْتَعْمل مَا جرت بِهِ الْعَادة من الْعِمَامَة والطيلسان وَينْدب أَن يسلم على النَّاس يَمِينا وَشمَالًا وَأَن يشاور الْفُقَهَاء عِنْد اخْتِلَاف وُجُوه النّظر وتعارض الْأَدِلَّة فِي حكم قَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستغنيا عَنْهَا وَلَكِن أَرَادَ أَن تكون سنة للحكام
أما الحكم الْمَعْلُوم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس جلي فَلَا
وَالْمرَاد بالفقهاء كَمَا قَالَه جمع من الْأَصْحَاب الَّذين يقبل قَوْلهم فِي الْإِفْتَاء فَيدْخل الْأَعْمَى وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَيخرج الْفَاسِق وَالْجَاهِل (وَلَا يقْعد للْقَضَاء فِي الْمَسْجِد) أَي يكره لَهُ اتِّخَاذه مَجْلِسا للْحكم صونا لَهُ عَن ارْتِفَاع الْأَصْوَات واللغظ الواقعين بِمَجْلِس الْقَضَاء عَادَة
وَلَو اتّفقت قَضِيَّة أَو قضايا وَقت حُضُوره فِيهِ لصَلَاة أَو غَيرهَا فَلَا بَأْس بفصلها وعَلى ذَلِك يحمل مَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن خلفائه فِي الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد وَكَذَا إِذا احْتَاجَ لجُلُوس فِيهِ لعذر من مطر وَنَحْوه
فَإِن جلس فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَة أَو دونهَا منع الْخُصُوم من الْخَوْض فِيهِ بالمخاصمة والمشاتمة وَنَحْوهمَا
بل يَقْعُدُونَ خَارجه وَينصب من يدْخل عَلَيْهِ خصمين وَإِقَامَة الْحُدُود فِيهِ أَشد كَرَاهَة كَمَا نَص عَلَيْهِ
ثمَّ شرع فِي التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ فَقَالَ (وَيُسَوِّي) أَي القَاضِي (بَين الْخَصْمَيْنِ) وجوبا على الصَّحِيح (فِي ثَلَاثَة) بل سَبْعَة (أَشْيَاء) كَمَا ستعرفه الأول (فِي الْمجْلس) فيسوي بَينهمَا فِيهِ بِأَن يجلسهما بَين يَدَيْهِ أَو أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَالْجُلُوس بَين يَدَيْهِ أولى وَلَا يرْتَفع الْمُوكل عَن الْوَكِيل والخصم لِأَن الدَّعْوَى مُتَعَلقَة بِهِ أَيْضا بِدَلِيل تَحْلِيفه إِذا وَجَبت يَمِين حَكَاهُ ابْن الرّفْعَة عَن الزبيلي وَأقرهُ قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره وَهُوَ حسن والبلوى بِهِ عَامَّة وَقد رَأينَا من يُوكل قرارا من التسويه بَينه وَبَين خَصمه وَالصَّحِيح جَوَاز رفع مُسلم على ذمِّي فِي الْمجْلس كَأَن يجلس الْمُسلم أقرب إِلَيْهِ من الذِّمِّيّ لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ قَالَ خرج عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى السُّوق
فَإِذا هُوَ بنصراني يَبِيع درعا فعرفها عَليّ فَقَالَ هَذِه دِرْعِي بيني وَبَيْنك قَاضِي الْمُسلمين فَأتيَا إِلَى القَاضِي شُرَيْح فَلَمَّا رأى القَاضِي عليا قَامَ من مَجْلِسه وَأَجْلسهُ
فَقَالَ لَهُ عَليّ لَو كَانَ خصمي مُسلما لجلست مَعَه بَين يَديك وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا تساووهم فِي الْمجَالِس اقْضِ بيني وَبَينه
فَقَالَ شُرَيْح مَا تَقول يَا نَصْرَانِيّ فَقَالَ الدرْع دِرْعِي فَقَالَ شُرَيْح لعَلي هَل من بَيِّنَة فَقَالَ عَليّ صدق شُرَيْح فَقَالَ النَّصْرَانِي إِنِّي أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء ثمَّ أسلم النَّصْرَانِي فَأعْطَاهُ عَليّ الدرْع وَحمله على فرس عَتيق قَالَ الشّعبِيّ فقد رَأَيْته يُقَاتل الْمُشْركين عَلَيْهِ
وَلِأَن الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَيُشبه كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَن يجْرِي ذَلِك فِي سَائِر وُجُوه الْإِكْرَام حَتَّى فِي التَّقْدِيم فِي الدَّعْوَى كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر إِذا قلت خصوم الْمُسلمين
وَإِلَّا فَالظَّاهِر خِلَافه لِكَثْرَة ضَرَر الْمُسلمين
قَالَ الأسنوي وَلَو كَانَ أَحدهمَا ذِمِّيا وَالْآخر مُرْتَدا فَيتَّجه تَخْرِيجه على التكافؤ فِي الْقصاص
وَالصَّحِيح أَن الْمُرْتَد يقتل بالذمي دون عَكسه وتعجب البُلْقِينِيّ من هَذَا التَّخْرِيج فَإِن التكافؤ فِي الْقصاص لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل وَلَو اعتبرناه لرفع الْحر على العَبْد وَالْوَالِد على الْوَلَد(2/617)
(و) الثَّانِي فِي اسْتِمَاع (اللَّفْظ) مِنْهُمَا لِئَلَّا ينكسر قلب أَحدهمَا
(و) الثَّالِث فِي (اللحظ) بالظاء المشالة وَهُوَ النّظر بمؤخر الْعين كَمَا قَالَه فِي الصِّحَاح وَالْمعْنَى فِيهِ مَا تقدم
وَالرَّابِع فِي دخولهما عَلَيْهِ فَلَا يدْخل أَحدهمَا قبل الآخر
وَالْخَامِس فِي الْقيام لَهما فَلَا يخص أَحدهمَا بِقِيَام إِن علم أَنه فِي خُصُومَة فَإِن لم يعلم إِلَّا بعد قِيَامه لَهُ فإمَّا أَن يعْتَذر لخصمه مِنْهُ وَإِمَّا أَن يقوم لَهُ كقيامه للْأولِ
وَهُوَ الأولى وَاخْتَارَ ابْن أبي الدَّم كَرَاهَة الْقيام لَهما جَمِيعًا فِي آدَاب الْقَضَاء لَهُ أَي إِذا كَانَ أَحدهمَا مِمَّن يُقَام لَهُ دون الآخر لِأَنَّهُ رُبمَا يتَوَهَّم أَن الْقيام لَيْسَ لَهُ
وَالسَّادِس فِي جَوَاب سلامهما إِن سلما مَعًا فَلَا يرد على أَحدهمَا وَيتْرك الآخر فَإِن سلم عَلَيْهِ أَحدهمَا انْتظر الآخر أَو قَالَ لَهُ سلم ليجيبهما مَعًا إِذا سلم قَالَ الشَّيْخَانِ وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا إِذا طَال الْفَصْل وَكَأَنَّهُم احتملوا هَذَا الْفَصْل لِئَلَّا يبطل معنى التَّسْوِيَة
وَالسَّابِع فِي طلاقة الْوَجْه وَسَائِر أَنْوَاع الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء مِنْهَا وَإِن اخْتلف بفضيلة أَو غَيرهَا
تَنْبِيه ينْدب أَن لَا يَشْتَرِي وَلَا يَبِيع بِنَفسِهِ لِئَلَّا يشْتَغل قلبه عَمَّا هُوَ بصدده
وَلِأَنَّهُ قد يحابي فيميل قلبه إِلَى من يحابيه إِذا وَقع بَينه وَبَين غَيره حُكُومَة والمحاباة فِيهَا رشوة أَو هَدِيَّة وَهِي مُحرمَة وَأَن لَا يكون لَهُ وَكيل مَعْرُوف كي لَا يحابي أَيْضا فَإِن فعل ذَلِك كره والمعاملة فِي مجْلِس حكمه أَشد كَرَاهَة
(وَلَا يجوز) للْقَاضِي (أَن يقبل الْهَدِيَّة) وَإِن قلت فَإِن أهدي إِلَيْهِ من لَهُ خُصُومَة فِي الْحَال عِنْده سَوَاء أَكَانَ مِمَّن يهدى إِلَيْهِ قبل الْولَايَة سَوَاء أَكَانَ (من أهل عمله) أم لَا أَو لم يكن لَهُ خُصُومَة لكنه لم يهد لَهُ قبل ولَايَته الْقَضَاء ثمَّ أهدي إِلَيْهِ بعد الْقَضَاء هَدِيَّة حرم عَلَيْهِ قبُولهَا
أما فِي الأولى فلخبر هَدَايَا الْعمَّال سحت وَرُوِيَ هَدَايَا السُّلْطَان سحت وَلِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْميل إِلَيْهِ وينكسر بهَا قلب خَصمه وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن سَببهَا الْعَمَل ظَاهرا وَلَا يملكهَا فِي الصُّورَتَيْنِ لَو قبلهَا ويردها على مَالِكهَا فَإِن تعذر وَضعهَا فِي بَيت المَال وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَو أرسلها إِلَيْهِ فِي مَحل ولَايَته وَلم يدْخل بهَا حرمت وَهُوَ كَذَلِك وَإِن ذكر فِيهَا الْمَاوَرْدِيّ وَجْهَيْن
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك هَدِيَّة أَبْعَاضه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ إِذْ لَا ينفذ حكمه لَهُم وَلَو أهدي إِلَيْهِ من لَا خُصُومَة لَهُ وَكَانَ يهدى إِلَيْهِ قبل ولَايَته جَازَ لَهُ قبُولهَا إِن كَانَت الْهَدِيَّة بِقدر الْعَادة السَّابِقَة
وَالْأولَى إِذا قبلهَا أَن يردهَا أَو يثيب عَلَيْهَا لِأَن ذَلِك أبعد من(2/618)
التُّهْمَة أما إِذا زَادَت على الْعَادة فَكَمَا لَو لم يعْهَد مِنْهُ ذَلِك كَذَا فِي أصل الرَّوْضَة وَقَضيته تَحْرِيم الْجَمِيع
لَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ نقلا عَن الْمُهَذّب إِن كَانَت الزِّيَادَة من جنس الْهَدِيَّة جَازَ قبُولهَا لدخولها فِي المألوف وَإِلَّا فَلَا وَفِي الذَّخَائِر يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن لم تتَمَيَّز الزِّيَادَة أَي بِجِنْس أَو قدر حرم قبُول الْجَمِيع وَإِلَّا فَالزِّيَادَة فَقَط
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فَإِن زَادَت فِي الْمَعْنى كَأَن أهْدى من عَادَته قطن حَرِيرًا هَل يبطل فِي الْجَمِيع أَو يَصح مِنْهَا بِقدر الْمُعْتَاد فِيهِ نظر استظهر الْإِسْنَوِيّ الأول وَهُوَ ظَاهر إِن كَانَ للزِّيَادَة وَقع وَإِلَّا فَلَا عِبْرَة بهَا والضيافة وَالْهِبَة كالهدية وَالْعَارِية إِن كَانَت مِمَّا يُقَابل بِأُجْرَة فَحكمهَا كالهدية وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحثه بَعضهم وَبحث بَعضهم أَيْضا أَن الصَّدَقَة كالهدية وَأَن الزَّكَاة كَذَلِك إِن لم يتَعَيَّن الدّفع إِلَيْهِ وَمَا بَحثه ظَاهر وَقبُول الرِّشْوَة حرَام وَهِي مَا يبْذل للْقَاضِي ليحكم بِغَيْر الْحق أَو ليمتنع من الحكم بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لخَبر لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم
فروع لَيْسَ للْقَاضِي حُضُور وَلِيمَة أحد الْخَصْمَيْنِ حَالَة الْخُصُومَة وَلَا يحضر وليمتهما
وَلَو فِي غير مَحل ولَايَته لخوف الْميل وَله تَخْصِيص إِجَابَة من اعْتَادَ تَخْصِيصه قبل الْولَايَة وَينْدب لَهُ إِجَابَة غير الْخَصْمَيْنِ إِن عمم المولم النداء لَهَا وَلم يقطعهُ كَثْرَة الولائم عَن الحكم وَإِلَّا فَيتْرك الْجَمِيع وَلَا يضيف أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر وَلَا يلْتَحق فِيمَا ذكر الْمُفْتِي والواعظ ومعلموا الْقُرْآن وَالْعلم إِذْ لَيْسَ لَهُم أَهْلِيَّة الْإِلْزَام وللقاضي أَن يشفع لأحد الْخَصْمَيْنِ ويزن عَنهُ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ينفعهما وَأَن يُعِيد المرضى وَيشْهد الْجَنَائِز ويزور القادمين وَلَو كَانُوا متخاصمين لِأَن ذَلِك قربَة
(ويجتنب) القَاضِي (الْقَضَاء) أَي يكره لَهُ ذَلِك (فِي عشرَة مَوَاضِع) وأهمل مَوَاضِع كَمَا ستعرفها
وَضَابِط الْمَوَاضِع الَّتِي يكره للْقَاضِي الْقَضَاء فِيهَا كل حَال يتَغَيَّر فها خلقه وَكَمَال عقله الْموضع الأول (عِنْد الْغَضَب) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحكم أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان وَظَاهر هَذَا أَنه لَا فرق بَين الْمُجْتَهد وَغَيره وَلَا بَين أَن يكون لله تَعَالَى أَو لَا
وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الْمَقْصُود تشويش الْفِكر وَهُوَ لَا يخْتَلف بذلك نعم تَنْتفِي الْكَرَاهَة إِذا دعت الْحَاجة إِلَى الحكم فِي الْحَال وَقد يتَعَيَّن الحكم على الْفَوْر فِي صور كَثِيرَة
(و) الثَّانِي عِنْد (الْجُوع و) الثَّالِث عِنْد (الْعَطش) المفرطين وَكَذَا عِنْد الشِّبَع المفرط وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف(2/619)
(و) الرَّابِع عِنْد (شدَّة الشَّهْوَة) أَي التوقان إِلَى النِّكَاح
(و) الْخَامِس عِنْد (الْحزن) المفرط فِي مُصِيبَة أَو غَيرهَا
(و) السَّادِس عِنْد (الْفَرح المفرط) وَلَو قَالَ المفرطين لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ قيد فِي الْحزن أَيْضا كَمَا مر
(و) السَّابِع عِنْد (الْمَرَض) المؤلم كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الثَّامِن عِنْد (مدافعة) أحد (الأخبثين) أَي الْبَوْل وَالْغَائِط وَلَو ذكر أحد كَمَا قدرته فِي كَلَامه لَكَانَ أولى لإِفَادَة الِاكْتِفَاء بِهِ وكراهته عِنْد مدافعتهم بِالْأولَى وَكَذَا يكره عِنْد مدافعة الرّيح
كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف
(و) التَّاسِع عِنْد (النعاس) أَي غلبته كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الْعَاشِر عِنْد شدَّة (الْحر و) شدَّة (الْبرد) وأهمل المُصَنّف عِنْد الْخَوْف المزعج وَعند الملال وَقد جزم بهما فِي الرَّوْضَة وَإِنَّمَا كره الْقَضَاء فِي هَذِه الْأَحْوَال لتغير الْعقل والخلق فِيهَا فَلَو خَالف وَقضى فِيهَا نفذ قَضَاؤُهُ كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة لقصة الزبير الْمَشْهُورَة
وَلَا ينفذ حكم القَاضِي لنَفسِهِ لِأَنَّهُ من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يحكم لرقيقه وَلَا لشَرِيكه فِي المَال الْمُشْتَرك بَينهمَا للتُّهمَةِ
وَيحكم للْقَاضِي وَلمن ذكر مَعَه الإِمَام أَو قَاض آخر أَو نَائِبه وَإِذا أقرّ الْمُدعى عَلَيْهِ عِنْد القَاضِي أَو نكل عَن الْيَمين فَحلف الْمُدَّعِي الْيَمين الْمَرْدُودَة وَسَأَلَ القَاضِي أَن يشْهد على إِقْرَاره عِنْده فِي صُورَة الْإِقْرَار أَو على يَمِينه فِي صُورَة النّكُول أَو سَأَلَ الحكم بِمَا ثَبت عِنْده وَالْإِشْهَاد بِهِ لزمَه إجَابَته لِأَنَّهُ قد يُنكر بعد ذَلِك
(وَلَا يسْأَل) القَاضِي (الْمُدعى عَلَيْهِ) الْجَواب أَي لَا يجوز لَهُ ذَلِك (إِلَّا بعد كَمَال الدَّعْوَى) الصَّحِيحَة
وَيشْتَرط لصِحَّة كل دَعْوَى سَوَاء أَكَانَت بِدَم أم بِغَيْرِهِ كغصب وسرقة وَإِتْلَاف سِتَّة شُرُوط الأول أَن تكون مَعْلُومَة غَالِبا بِأَن يفصل الْمُدَّعِي مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه فِي دَعْوَى الْقَتْل قَتله عمدا أَو شبه عمد أَو خطأ إفرادا أَو شركَة فَإِن أطلق مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه هَذَا قتل ابْني يسن للْقَاضِي استفصاله عَمَّا ذكر
وَالثَّانِي أَن تكون ملزمة فَلَا تسمع دَعْوَى هبة شَيْء أَو بَيْعه أَو إِقْرَار بِهِ حَتَّى يَقُول الْمُدَّعِي وقبضته بِإِذن الْوَاهِب وَيلْزم البَائِع أَو الْمقر التَّسْلِيم
وَالثَّالِث أَن يعين مدعى عَلَيْهِ فَلَو قَالَ قَتله أحد هَؤُلَاءِ لم تسمع دَعْوَاهُ لإبهام الْمُدعى عَلَيْهِ
وَالرَّابِع وَالْخَامِس أَن يكون كل من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ غير حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ مُكَلّفا وَمثله
السَّكْرَان فَلَا تصح دَعْوَى حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ وَلَا صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا دَعْوَى عَلَيْهِم
وَالسَّادِس أَن لَا تناقضها دَعْوَى أُخْرَى فَلَو ادّعى على أحد انفرادا بِالْقَتْلِ ثمَّ ادّعى على آخر شركَة أَو انفرادا لم تسمع الدَّعْوَى الثَّانِيَة لِأَن الأولى تكذبها نعم إِن صدقه الآخر فَهُوَ مؤاخذ بِإِقْرَار وَتسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ على الْأَصَح فِي أصل الرَّوْضَة وَلَا يُمكن من العودة إِلَى الأولى لِأَن الثَّانِيَة تكذبها
(وَلَا يحلفهُ) أَي لَا يجوز للْقَاضِي أَن يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ
(إِلَّا بعد سُؤال) أَي طلب (الْمُدَّعِي) تَحْلِيفه فَلَو حلفه قبل طلبه لم يعْتد بِهِ فعلى هَذَا يَقُول القَاضِي للْمُدَّعِي حلفه وَإِلَّا فاقطع طَلَبك عَنهُ قَالَ ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة وَلَو حلف بعد طلب الْمُدَّعِي وَقبل إحلاف القَاضِي لم يعْتد بِهِ صرح بِهِ القَاضِي حسن اه
تَنْبِيه قد علم مِمَّا ذكره المُصَنّف أَنه لَا يجوز للْقَاضِي الحكم على الْمُدعى عَلَيْهِ إِلَّا بعد طلب الْمُدَّعِي وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْقَضَاء على الْغَائِب (وَلَا يلقن خصما) مِنْهُمَا (حجَّة) يستظهر بهَا على خَصمه أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك لإضراره بِهِ
(وَلَا يفهمهُ) أَي وَاحِدًا مِنْهُمَا (كلَاما) يعرف بِهِ كَيْفيَّة الدَّعْوَى وَكَيْفِيَّة الْجَواب أَو الْإِقْرَار أَو الانكار لما مر وَخرج بِقَيْد الْخصم فِي كَلَامه الشَّاهِد فَيجوز(2/620)
للْقَاضِي تَعْرِيفه كَيْفيَّة أَدَاء الشَّهَادَة
كَمَا صَححهُ القَاضِي أَبُو المكارم وَالرُّويَانِيّ وَأقرهُ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَة خلافًا للشرف الْغَزِّي فِي ادعائه الْمَنْع مِنْهُ فَلَعَلَّهُ انْتقل نظره من منع التَّلْقِين إِلَى ذَلِك فَإِن القَاضِي لَا يلقن الشَّاهِد الشَّهَادَة كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة
(وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ) أَي لَا يشق عَلَيْهِم كَأَن يَقُول لَهُم لم شهدتم وَمَا هَذِه الشَّهَادَة وَنَحْو ذَلِك
فَرُبمَا يُؤَدِّي إِلَى تَركهم الشَّهَادَة فيتضرر الْخصم الْمَشْهُود لَهُ بذلك
(وَلَا يقبل) القَاضِي (الشَّهَادَة) إِذا لم يعرف عَدَالَة الشَّاهِد (إِلَّا مِمَّن ثبتَتْ عَدَالَته) عِنْد حَاكم سَوَاء أطعن الْخصم فِيهِ أم سكت لِأَنَّهُ حكم بِشَهَادَة تَتَضَمَّن تعديله
وَالتَّعْدِيل لَا يثبت إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَسَيَأْتِي بَيَان الْعَدَالَة فِي فصل بعد ذَلِك
فَإِذا ثبتَتْ عَدَالَة الشَّاهِد ثمَّ شهد فِي وَاقعَة أُخْرَى قَالَ فِي الرَّوْضَة إِن لم يطلّ الزَّمَان حكم بِشَهَادَتِهِ وَلَا يطْلب تعديله ثَانِيًا وَإِن طَال فَوَجْهَانِ أصَحهمَا يطْلب تعديله ثَانِيًا لِأَن طول الزَّمَان يُغير الْأَحْوَال ثمَّ يجْتَهد الْحَاكِم فِي طوله وقصره انْتهى
قَالَ فِي الْخَادِم إِن الْخلاف فِي الطول فِي غير الشُّهُود المرتبين عِنْد الْحَاكِم أما هم فَلَا يجب طلب التَّعْدِيل قطعا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين فِي قَوَاعِده انْتهى وَهُوَ حسن وَقَالَ فِي الْعدة إِذا استفاض فسق الشَّاهِدين بَين النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَى الْبَحْث وَالسُّؤَال
(وَلَا تقبل شَهَادَة عَدو على عدوه) لحَدِيث لَا تقبل شَهَادَة ذِي غمر على أَخِيه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن والغمر بِكَسْر الْغَيْن الغل والحقد وَلما فِي ذَلِك من التُّهْمَة
تَنْبِيه المُرَاد بالعداوة الْعَدَاوَة الدُّنْيَوِيَّة الظَّاهِرَة لِأَن الْبَاطِنَة لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا علام الغيوب وَفِي مُعْجم الطَّبَرَانِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَيَأْتِي قوم فِي آخر الزَّمَان إخْوَان الْعَلَانِيَة أَعدَاء السريرة بِخِلَاف شَهَادَته لَهُ إِذْ لَا تُهْمَة
ومليحة شهِدت لَهَا ضراتها وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وعدو الشَّخْص من يحزن لفرحه ويفرح لحزنه
وَقد تكون الْعَدَاوَة من الْجَانِبَيْنِ وَقد تكون من أَحدهمَا فَيخْتَص برد شَهَادَته على الآخر
وَلَا يشْتَرط ظُهُورهَا بل يَكْفِي مَا دلّ عَلَيْهَا من الْمُخَاصمَة وَنَحْوهَا
كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ نَاقِلا لَهُ عَن نَص الْمُخْتَصر أما الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة فَلَا توجب رد الشَّهَادَة فَتقبل بِشَهَادَة الْمُسلم على الْكَافِر
وَشَهَادَة السّني على المبتدع وَتقبل من مُبْتَدع لَا نكفره ببدعته كمنكري صِفَات الله تَعَالَى وخلقه أَفعَال عباده وَجَوَاز رُؤْيَته يَوْم الْقِيَامَة لاعتقادهم أَنهم مصيبون فِي ذَلِك لما قَامَ عِنْدهم بِخِلَاف من نكفره ببدعته كمنكري حُدُوث الْعَالم والبعث والحشر للأجسام وَعلم الله بالمعدوم وبالجزئيات لإنكارهم مَا علم مَجِيء الرَّسُول بِهِ ضَرُورَة فَلَا تقبل شَهَادَتهم
وَلَا شَهَادَة من يَدْعُو النَّاس إِلَى بدعته كَمَا لَا تقبل رِوَايَته بل أولى وَلَا شَهَادَة خطابي لمثله
إِن لم يذكر فِيهَا مَا يَنْفِي احْتِمَال اعْتِمَاده على قَول الْمَشْهُود لَهُ لاعْتِقَاده أَنه لَا يكذب فَإِن ذكر فِيهَا ذَلِك كَقَوْلِه رَأَيْت أَو سَمِعت أَو شهد لمُخَالفَة قبلت لزوَال الْمَانِع(2/621)
(وَلَا) تقبل (شَهَادَة وَالِد) وَإِن علا (لوَلَده) وَإِن سفل (وَلَا) تقبل شها (ولد) وَإِن سفل (لوالده) وَإِن علا للتُّهمَةِ
وَلَو قَالَ المُصَنّف وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لبعضه
لَكَانَ أخصر وَأفهم كَلَامه قبُول شَهَادَة الْوَالِد على وَلَده وَعَكسه وَهُوَ كَذَلِك لانْتِفَاء التُّهْمَة
تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَ بَينه وَبَين أَصله أَو فَرعه عَدَاوَة فَإِن شَهَادَته لَا تقبل لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَمَا جزم بِهِ فِي الْأَنْوَار وَإِذا شهد بِحَق لفرع أَو أصل لَهُ وأجنبي كَأَن شهد برقيق لَهما قبلت الشَّهَادَة للْأَجْنَبِيّ على الْأَصَح من قولي تَفْرِيق الصَّفْقَة
وَتقبل الشَّهَادَة لكل من الزَّوْجَيْنِ من الآخر لِأَن الْحَاصِل بَينهمَا عقد يطْرَأ وَيَزُول نعم لَو شهد لزوجته بِأَن فلَانا قَذفهَا لم تصح شَهَادَته فِي أحد وَجْهَيْن رَجحه البُلْقِينِيّ وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَته عَلَيْهَا بِالزِّنَا لِأَنَّهُ يَدعِي خيانتها فرَاشه وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لأحد أصليه أَو فرعيه على الآخر
كَمَا جزم بِهِ الْغَزالِيّ وَيُؤَيِّدهُ منع الحكم بَين أَبِيه وَأمه وَإِن خَالف ابْن عبد السَّلَام فِي ذَلِك مُعَللا بِأَن الْوَازِع الطبيعي قد تعَارض فَظهر الصدْق لضعف التُّهْمَة وَلَا تقبل تَزْكِيَة الْوَالِد لوَلَده وَلَا شَهَادَته لَهُ بِالرشد سَوَاء أَكَانَ فِي حجره أم لَا وَإِن أخذناه بِإِقْرَارِهِ برشد من فِي حجره
تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف أَن مَا عدا الأَصْل وَالْفرع من حَوَاشِي النّسَب تقبل شَهَادَة بَعضهم لبَعض فَتقبل شَهَادَة الْأَخ لِأَخِيهِ وَهُوَ كَذَلِك
وَكَذَا تقبل شَهَادَة الصّديق لصديقه وَهُوَ من صدق فِي ودادك بِأَن يهمه مَا أهمك
قَالَ ابْن الْقَاسِم وَقَلِيل ذَلِك أَي فِي زَمَانه ونادر فِي زَمَاننَا أَو مَعْدُوم (وَلَا يقبل) القَاضِي (كتاب قَاض) كتب بِهِ (إِلَى قَاض) وَلَو غير معِين أَي لَا يعْمل بِهِ (فِي) مَا أنهاه فِيهِ من (الْأَحْكَام)
كَأَن حكم فِيهِ لحاضر على غَائِب بدين (إِلَّا بعد شَهَادَة شَاهِدين) على شَهَادَة (يَشْهَدَانِ) عِنْد من وصل إِلَيْهِ من الْقُضَاة (بِمَا فِيهِ) أَي الْكتاب من الحكم
تَنْبِيه صُورَة الْكتاب كَمَا هُوَ حَاصِل كَلَام الرَّوْضَة حضر فلَان وَادّعى على فلَان الْغَائِب الْمُقِيم ببلدة كَذَا بدين وحكمت لَهُ بِحجَّة أوجبت الحكم وسألني أَن أكتب إِلَيْك بذلك فأجبته وأشهدت بالحكم شَاهِدين ويسميهما إِن لم يعدلهما وَإِلَّا فَلهُ ترك تسميتهما وَيسن خَتمه بعد قِرَاءَته على الشَّاهِدين بِحَضْرَتِهِ وَيَقُول أشهدكم أَنِّي كتبت إِلَى فلَان بِمَا سمعتما ويضعان خطيهما فِيهِ وَلَا يَكْفِيهِ أَن يَقُول أشهدكما أَن هَذَا خطي وَأَن مَا فِيهِ حكمي وَيدْفَع للشاهدين نُسْخَة أُخْرَى بِلَا ختم ليطالعاها ويتذكرا عِنْد الْحَاجة ويشهدان عِنْد القَاضِي الآخر على القَاضِي الْكَاتِب بِمَا جرى عِنْده من ثُبُوت أَو حكم إِن أنكر الْخصم(2/622)
الْمحْضر أَن المَال الْمَذْكُور فِيهِ عَلَيْهِ فَإِن قَالَ لَيْسَ الْمَكْتُوب اسْمِي صدق بِيَمِينِهِ إِن لم يعرف بِهِ لِأَنَّهُ أخبر بِنَفسِهِ وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة
فَإِن عرف بِهِ لم يصدق بل يحكم عَلَيْهِ أَو قَالَ لست الْخصم وَقد ثَبت بِإِقْرَارِهِ أَو بِحجَّة أَنه اسْمه
حكم عَلَيْهِ إِن لم يكن ثمَّ من يشركهُ فِيهِ أَو كَانَ وَلم يعاصر الْمُدَّعِي لِأَن الظَّاهِر أَنه الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَإِن كَانَ ثمَّ من يشركهُ فِيهِ صرعا وَالْمُدَّعِي فَإِن مَاتَ أَو أنكر الْحق بعث الْمَكْتُوب إِلَيْهِ لِلْكَاتِبِ ليطلب من الشُّهُود زِيَادَة تَمْيِيز للْمَشْهُود عَلَيْهِ ويكتبها وينهيها
ثَانِيًا لقَاضِي بلد الْغَائِب فَإِن لم يجد زِيَادَة تَمْيِيز وقف الْأَمر حَتَّى ينْكَشف فَإِن اعْترف المشارك بِالْحَقِّ طُولِبَ بِهِ وَيعْتَبر أَيْضا مَعَ المعاصرة إِمْكَان الْمُعَامَلَة كَمَا صرح بِهِ الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره
تَتِمَّة لَو حضر قَاضِي بلد الْغَائِب بِبَلَد الْحَاكِم للْمُدَّعِي الْحَاضِر فشافهه بِحكمِهِ على الْغَائِب أَمْضَاهُ إِذا عَاد إِلَى مَحل ولَايَته وَهُوَ حِينَئِذٍ قَضَاء بِعِلْمِهِ بِخِلَاف مَا لَو شافهه بِهِ فِي غير عمله فَلَيْسَ لَهُ إمضاؤه إِذا عَاد إِلَى مَحل ولَايَته
كَمَا قَالَه الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَلَو قَالَ قَاضِي بلد الْحَاضِر وَهُوَ فِي طرف ولَايَته لقَاضِي بلد الْغَائِب فِي طرف ولَايَته حكمت بِكَذَا على فلَان الَّذِي ببلدك نفذه لِأَنَّهُ أبلغ من الشَّهَادَة وَالْكتاب فِي الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ والإنهاء وَلَو بِغَيْر كتاب بِحكم يمْضِي مُطلقًا عَن التَّقْيِيد بفوق مَسَافَة الْعَدْوى والإنهاء بِسَمَاع حجَّة يقبل فِيمَا فَوق مَسَافَة الْعَدْوى لَا فِيمَا دونه وَفَارق الإنهاء بالحكم بِأَن الحكم قد تمّ وَلم يبْق إِلَّا الِاسْتِيفَاء بِخِلَاف سَماع الْحجَّة إِذْ يسهل إحضارها مَعَ الْقرب وَالْعبْرَة بالمسافة بِمَا بَين القاضيين لَا بِمَا بَين القَاضِي الْمنْهِي والغريم ومسافة الْعَدْوى مَا يرجع مِنْهَا مبكرا إِلَى مَحَله يَوْمه المعتدل وَسميت بذلك لِأَن القَاضِي يعدي أَي يعين من طلب خصما مِنْهَا على إِحْضَاره وَيُؤْخَذ من تَعْلِيلهم السَّابِق إِنَّه لَو عسر إِحْضَار الْحجَّة مَعَ الْقرب بِنَحْوِ مرض قبل الإنهاء كَمَا ذكره فِي الْمطلب
فصل فِي الْقِسْمَة
بِكَسْر الْقَاف وَهِي تَمْيِيز بعض الْأَنْصِبَاء من بعض والقسام الَّذِي يقسم الْأَشْيَاء بَين النَّاس قَالَ لبيد فرض بِمَا قسم المليك فَإِنَّمَا قسم الْمَعيشَة بَيْننَا قسامها وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حضر الْقِسْمَة} الْآيَة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم الْغَنَائِم بَين أَرْبَابهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ(2/623)
وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا ليتَمَكَّن كل وَاحِد من الشُّرَكَاء من التَّصَرُّف فِي ملكه على الْكَمَال ويتخلص من سوء الْمُشَاركَة وَاخْتِلَاف الْأَيْدِي
(ويفتقر الْقَاسِم) أَي الَّذِي ينصبه الإِمَام أَو القَاضِي (إِلَى سَبْعَة شَرَائِط) وَزيد عَلَيْهَا شَرَائِط أخر كَمَا ستعرفها وَهِي (الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة) لِأَن ذَلِك ولَايَة وَمن لم يَتَّصِف بِمَا ذكر لَيْسَ من أهل الْولَايَة
(و) علم المساحة وَعلم (الْحساب) لاستدعائها للمساحة من غير عكس وَإِنَّمَا شَرط علمهما لِأَنَّهُمَا آلَة الْقِسْمَة كَمَا أَن النَّفَقَة آلَة الْقَضَاء وَاعْتبر الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره مَعَ ذَلِك أَن يكون عفيفا عَن الطمع حَتَّى لَا يرتشي وَلَا يخون واقتضاه كَلَام الْأُم وَهل يشْتَرط فِيهِ معرفَة التَّقْوِيم فِيهِ وَجْهَان أوجههمَا لَا يشْتَرط كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَقَالَ الْإِسْنَوِيّ جزم باستحبابه القاضيان الْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو الطّيب وَابْن الصّباغ وَغَيرهم
تَنْبِيه لَو قَالَ المُصَنّف بدل الْعَدَالَة تقبل شَهَادَته لاستفيد مِنْهُ اشْتِرَاط السّمع وَالْبَصَر والنطق والضبط إِذْ لَا بُد من ذَلِك
وَاسْتغْنى عَن ذكر الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل بل ويستغني عَن ذكر ذَلِك أَيْضا بِالْعَدَالَةِ وَإِذا لم يكن الْقَاسِم مَنْصُوبًا من جِهَة القَاضِي فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَإِن تَرَاضيا) وَفِي نُسْخَة فَإِن تراضى (الشريكان) أَي المطلقان التَّصَرُّف (بِمن يقسم بَينهمَا) من غير أَن يحكماه فِي المَال الْمُشْتَرك (لم يفْتَقر) أَي هَذَا الْقَاسِم (إِلَى ذَلِك) أَي الشُّرُوط السَّابِقَة لِأَنَّهُ وَكيل عَنْهُمَا لَكِن يشْتَرط فِيهِ التَّكْلِيف فَإِن كَانَ فيهمَا مَحْجُورا عَلَيْهِ فقاسم عَنهُ وليه اشْترط مَعَ التَّكْلِيف الْعَدَالَة
أما محكمهما فَهُوَ كمنصوب القَاضِي فَيشْتَرط فِيهِ الشُّرُوط الْمَذْكُورَة (وَإِن كَانَ فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم) هُوَ مصدر قوم السّلْعَة قدر قيمتهَا (لم يقْتَصر فِيهِ على أقل من اثْنَيْنِ) لاشْتِرَاط الْعدَد فِي الْمُقَوّم لِأَن التَّقْدِيم شَهَادَة بِالْقيمَةِ فَإِن لم يكن فِيهِ تَقْوِيم فَيَكْفِي قَاسم وَاحِد وَإِن كَانَ فِيهَا خرص وَهُوَ الْأَصَح لِأَن الخارص يجْتَهد وَيعْمل بِاجْتِهَادِهِ فَكَانَ كالحاكم وَلَا يحْتَاج الْقَاسِم إِلَى لفظ الشَّهَادَة وَإِن وَجب تعدده لِأَنَّهَا تستند إِلَى عمل محسوس
وَللْإِمَام جعل الْقَاسِم حَاكما فِي التَّقْوِيم فَيعْمل فِيهِ بعدلين
وَيقسم بِنَفسِهِ وللقاضي الحكم فِيهِ فِي التَّقْوِيم بِعِلْمِهِ وَيجْعَل الإِمَام رزق(2/624)
منصوبه إِن لم يتَبَرَّع بِهِ من بَيت المَال إِذا كَانَ فِيهِ سَعَة وَإِلَّا فأجرته على الشُّرَكَاء لِأَن الْعَمَل لَهُم فَإِن استأجروه وسمى كل مِنْهُم قدرا لزمَه وَإِن سموا أُجْرَة مُطلقَة فِي إِجَارَة صَحِيحَة أَو فَاسِدَة فالأجرة موزعة على قدر الحصص الْمَأْخُوذَة لِأَنَّهَا من مُؤَن الْملك ثمَّ مَا عظم ضَرَر قسمته إِن بَطل نَفعه بِالْكُلِّيَّةِ كجوهرة وثوب نفيسين مَنعهم الْحَاكِم مِنْهَا وَإِن لم يبطل نَفعه بِالْكُلِّيَّةِ كَأَن نقص نَفعه أَو بَطل نَفعه الْمَقْصُود لم يمنعهُم وَلم يجبهم فَالْأول كسيف يكسر وَالثَّانِي كحمام وطاحونة صغيرين فَلَا يمنعهُم وَلَا يُجِيبهُمْ
وَلَو كَانَ لَهُ عشر دَار مثلا لَا يصلح للسُّكْنَى وَالْبَاقِي آخر يصلح لَهَا أجبر صَاحب الْعشْر على الْقِسْمَة بِطَلَب الآخر لَا عَكسه
وَمَا لَا يعظم ضَرَر قسمته فقسمته أَنْوَاع ثَلَاثَة وَهِي الْآتِيَة لِأَن الْمَقْسُوم إِن تَسَاوَت الْأَنْصِبَاء مِنْهُ صُورَة وَقِيمَة فَهُوَ الأول
وَإِلَّا فَإِن لم يحْتَج إِلَى رد شَيْء فَالثَّانِي وَإِلَّا فالثالث
النَّوْع الأول الْقِسْمَة بالأجزاء وَتسَمى قسْمَة المتشابهات وَإِلَى هَذَا النَّوْع وَالنَّوْع الثَّانِي أَيْضا أَشَارَ المُصَنّف بقوله (وَإِذا دَعَا أحد الشَّرِيكَيْنِ شَرِيكه إِلَى قسْمَة مَا لَا ضَرَر فِيهِ) كمثلي من حبوب ودراهم وأدهان وَغَيرهَا
ودر متفقة الْأَبْنِيَة وَأَرْض مستوية الْأَجْزَاء (لزم) شَرِيكه (الآخر) الْمَطْلُوب إِلَى الْقِسْمَة إجَابَته إِذْ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِيهَا فيجزأ مَا يقسم كَيْلا فِي الْمكيل ووزنا فِي الْمَوْزُون وذرعا فِي المذروع وَعدا فِي الْمَعْدُود بِعَدَد الْأَنْصِبَاء إِن اسْتَوَت وَيكْتب مثلا هُنَا وَفِيمَا يَأْتِي من بَقِيَّة الْأَنْوَاع فِي كل رقْعَة إِمَّا اسْم شريك من الشَّرِيك من الشُّرَكَاء أَو جُزْء من الْأَجْزَاء مُمَيّز عَن الْبَقِيَّة بِحَدّ أَو غَيره وتدرج الرقع فِي بَنَادِق من نَحْو طين مستوية ثمَّ يخرج من لم يحضر الْكِتَابَة والإدراج رقْعَة إِمَّا على الْجُزْء الأول إِن كتبت الْأَسْمَاء أَو على اسْم زيد مثلا إِن كتبت الْأَجْزَاء فَيعْطى ذَلِك الْجُزْء وَيفْعل كَذَلِك فِي الثَّانِيَة وتتعين الثَّالِثَة للْبَاقِي إِن كَانَت الرّقاع ثَلَاثَة
فَإِن اخْتلفت الْأَنْصِبَاء كَنِصْف وَثلث وَسدس جُزْء مَا يقسم على أقلهَا ويجتنب إِذا كتبت الْأَجْزَاء تَفْرِيق حِصَّة وَاحِد بِأَن لَا يبْدَأ بِصَاحِب السُّدس
النَّوْع الثَّانِي الْقِسْمَة بالتعديل بِأَن تعدل السِّهَام بِالْقيمَةِ كأرض تخْتَلف قيمَة أَجْزَائِهَا بِنَحْوِ قُوَّة إنبات وَقرب مَاء أَو يخْتَلف جنس مَا فِيهَا كبستان بعضه نخل وَبَعضه عِنَب
فَإِذا كَانَت لاثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ وَقِيمَة ثلثهما الْمُشْتَمل على مَا ذكر كقيمة ثلثيها الخاليين عَن ذَلِك جعل الثُّلُث سَهْما وَالثُّلُثَانِ سَهْما وأقرع كَمَا مر وَيلْزم شَرِيكه الآخر إجَابَته كَمَا شَمل ذَلِك عبارَة المُصَنّف كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ إِلْحَاقًا للمتساوي فِي الْقيمَة بالمتساوي فِي الْأَجْزَاء فِي الأَرْض الْمَذْكُورَة نعم إِن أمكن قسم الْجيد وَحده والرديء وَحده لم يلْزمه فِيهَا إجَابَته كأرضين يُمكن قسْمَة كل مِنْهُمَا بالأجزاء فَلَا يجْبر على التَّعْدِيل كَمَا بَحثه الشَّيْخَانِ(2/625)
وَجزم بِهِ جمع مِنْهُم الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَيجْبر على قسْمَة التَّعْدِيل فِي منقولات نوع لم يخْتَلف مُتَقَومَة كعبيد وَثيَاب من نوع إِن زَالَت الشّركَة بِالْقِسْمَةِ كثلاثة أعبد زنجية مُتَسَاوِيَة الْقيمَة بَين ثَلَاثَة وعَلى قسْمَة التَّعْدِيل أَيْضا فِي نَحْو دكاكين صغَار متلاصقة مِمَّا لَا يخْتَلف فِي كل مِنْهَا الْقِسْمَة أعيانا إِن زَالَت الشّركَة بهَا للْحَاجة بِخِلَاف نَحْو الدكاكين الْكِبَار وَالصغَار غير المتلاصقة لشدَّة اخْتِلَاف الْأَغْرَاض باخْتلَاف الْمحَال والأبنية
النَّوْع الثَّالِث الْقِسْمَة بِالرَّدِّ بِأَن يحْتَاج فِي الْقِسْمَة إِلَى رد مَال أَجْنَبِي كَأَن يكون بِأحد الْجَانِبَيْنِ من الأَرْض نَحْو بِئْر كشجر لَا يُمكن قسمته فَيرد أَخذه بِالْقِسْمَةِ قسط قيمَة نَحْو الْبِئْر فَإِن كَانَ ألفا وَله النّصْف رد خَمْسمِائَة وَلَا إِجْبَار فِي هَذَا النَّوْع لِأَن فِيهِ تَمْلِيكًا لما لَا شركَة فِيهِ
فَكَانَ كَغَيْر الْمُشْتَرك وَشرط الْقِسْمَة مَا قسم بتراض من قسْمَة رد وَغَيرهَا رضَا بهَا بعد خُرُوج قرعَة
وَالنَّوْع الأول إِفْرَاز للحق لَا بيع
والنوعان الْآخرَانِ بيع وَإِن أجبر على الأول مِنْهُمَا كَمَا مر وَلَو ثَبت بِحجَّة غلط أَو حيف فِي قسْمَة إِجْبَار أَو قسْمَة ترَاض وَهِي بالأجزاء نقضت الْقِسْمَة بنوعيها فَإِن لم تكن بالأجزاء بِأَن كَانَت بالتعديل أَو الرَّد لم تنقض لِأَنَّهَا بيع وَإِن لم يثبت ذَلِك فَلهُ تَحْلِيف شَرِيكه وَلَو اسْتحق بعض مقسوم معينا وَلَيْسَ سَوَاء بطلت الْقِسْمَة لاحتياج أَحدهمَا إِلَى الرُّجُوع على الآخر
وتعود الإشاعة فَإِن اسْتحق بعضه شَائِعا بطلت فِيهِ لَا فِي الْبَاقِي
تَتِمَّة لَو ترافع الشُّرَكَاء إِلَى قَاض فِي قسْمَة ملك بِلَا بَيِّنَة لم يجبهم وَإِن لم يكن لَهُم مُنَازع وَقيل يُجِيبهُمْ وَعَلِيهِ الإِمَام وَغَيره
فصل فِي الدَّعْوَى والبينات
وَفِي بعض النّسخ أَن هَذَا الْفَصْل مقدم على الَّذِي قبله(2/626)
وَالدَّعْوَى فِي اللُّغَة الطّلب وَالتَّمَنِّي وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَهُم مَا يدعونَ} وَشرعا إِخْبَار عَن وجوب حق على غَيره عِنْد حَاكم والبينات جمع بَيِّنَة وهم الشُّهُود سموا بذلك لِأَن بهم يتَبَيَّن الْحق
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم إِذا فريق مِنْهُم معرضون} وأخبار كَخَبَر مُسلم لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ
وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد حسن وَلَكِن الْبَيِّنَة على الْمُدعى وَالْيَمِين على من أنكر وَالَّذِي يتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل خَمْسَة أُمُور الدَّعْوَى وجوابها وَالْيَمِين وَالْبَيِّنَة والنكول وَتقدم شَرط صِحَة الدَّعْوَى فِيمَا قبل ذَلِك وَأَن لَهَا سِتَّة شُرُوط وَأما الْأَرْبَعَة فمدمجة فِي كَلَام المُصَنّف كَمَا ستراه
وَالْمُدَّعِي من خَالف قَوْله الظَّاهِر وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ من وَافقه
فَلَو قَالَ الزَّوْج وَقد أسلم هُوَ وَزَوجته قبل وَطْء أسلمنَا مَعًا فَالنِّكَاح بَاقٍ
وَقَالَت بل مُرَتبا فَلَا نِكَاح فَهُوَ مُدع وَهِي مدعى عَلَيْهَا (فَإِذا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَة) بِمَا ادَّعَاهُ (سَمعهَا الْحَاكِم وَحكم لَهُ بهَا) إِن كَانَت معدلة فَيشْتَرط فِي غير عين وَدين كقود وحد قذف وَنِكَاح ورجعة ولعان دَعْوَى عِنْد حَاكم وَلَو محكما فَلَا يسْتَقلّ صَاحبه باستيفائه نعم لَو اسْتَقل الْمُسْتَحق لقود باستيفائه وَقع الْموقع وَإِن حرم وَخرج بذلك الْعين وَالدّين ففيهما تَفْصِيل وَهُوَ إِن اسْتحق شخص عينا عِنْد آخر اشْترط الدَّعْوَى بهَا عِنْد حَاكم إِن خشِي بأخذها ضَرَرا تَحَرُّزًا عَنهُ وَإِلَّا فَلهُ أَخذهَا اسْتِقْلَالا للضَّرُورَة وَإِن اسْتحق دينا على مُمْتَنع من أَدَائِهِ طَالبه بِهِ
(فَإِن لم تكن) مَعَه (بَيِّنَة) معدلة (فَالْقَوْل) حِينَئِذٍ (قَول الْمُدعى عَلَيْهِ) لموافقته الظَّاهِر وَلَكِن (بِيَمِينِهِ) فِي غير الْقسَامَة فِي دَعْوَى(2/627)
الدَّم إِذْ الْيَمين هُنَاكَ فِي جَانب الْمُدَّعِي لوُجُود اللوث كَمَا تقدم هُنَاكَ وَله حِينَئِذٍ أَن يَأْخُذ من مَال الْمُدعى عَلَيْهِ بِغَيْر مُطَالبَة جنس حَقه وَإِذا أَخذه ملكه إِن كَانَ بِصفتِهِ فَإِن تعذر عَلَيْهِ جنس حَقه أَو لم يجد جنس حَقه بِصفتِهِ أَخذ غَيره مقدما النَّقْد على غَيره فيبيعه مُسْتقِلّا كَمَا يسْتَقلّ بِالْأَخْذِ وَلما فِي الرّفْع إِلَى الْحَاكِم من الْمُؤْنَة هَذَا حَيْثُ لَا حجَّة لَهُ وَإِلَّا فَلَا يَبِيع إِلَّا بِإِذن الْحَاكِم وَلمن جَازَ لَهُ الْأَخْذ فعل مَا لَا يصل لِلْمَالِ إِلَّا بِهِ ككسر بَاب ونقب جِدَار وَظَاهر أَن مَحل ذَلِك
إِذا كَانَ ملكا للْمَدِين وَلم يتَعَلَّق بِهِ حق لَازم كرهن وَإِجَارَة والمأخوذ مَضْمُون على الْآخِذ إِن تلف قبل تملكه وَلَو بعد البيع لِأَنَّهُ أَخذه لغَرَض نَفسه كالمستلم وَإِن كَانَ الدّين على غير مُمْتَنع من أَدَائِهِ طَالبه بِهِ فَلَا يَأْخُذ شَيْئا لَهُ بِغَيْر مُطَالبَة وَلَو أَخذه لم يملكهُ وَلَزِمَه رده وَيضمنهُ إِن تلف عِنْده
(فَإِن نكل) الْمُدعى عَلَيْهِ أَي امْتنع (عَن الْيَمين) بعد عرضهَا عَلَيْهِ
كَأَن قَالَ أَنا ناكل أَو يَقُول لَهُ القَاضِي احْلِف
فَيَقُول لَا أَحْلف أَو يسكت لَا لدهشة وغباوة
(ردَّتْ) أَي الْيَمين حِينَئِذٍ (على الْمُدَّعِي) لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ردهَا على صَاحب الْحق كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ
وَكَذَا فعل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِمحضر من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم من غير مُخَالفَة كَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(فَيحلف) الْمُدَّعِي إِن اخْتَار ذَلِك
(وَيسْتَحق) الْمُدَّعِي بِهِ بِيَمِينِهِ لَا بنكول خَصمه
وَقَول القَاضِي للْمُدَّعِي احْلِف نَازل منزلَة الحكم بنكول الْمُدعى عَلَيْهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا
وَإِن لم يكن حكم بِنُكُولِهِ حَقِيقَة وَبِالْجُمْلَةِ فللخصم بعد نُكُوله الْعود إِلَى الْحلف مَا لم يحكم بِنُكُولِهِ حَقِيقَة أَو تَنْزِيلا وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ الْعود إِلَيْهِ إِلَّا بِرِضا الْمُدَّعِي وَيبين القَاضِي حكم النّكُول للجاهل بِهِ
بِأَن يَقُول لَهُ إِن نكلت عَن الْيَمين حلف الْمُدَّعِي وَأخذ مِنْك الْحق فَإِن لم يفعل وَحكم بِنُكُولِهِ نفذ حكمه لتَقْصِيره بترك الْبَحْث عَن حكم النّكُول
وَيَمِين الرَّد وَهِي يَمِين الْمُدَّعِي بعد نُكُول خَصمه كإقرار الْخصم لَا كالبينة لِأَنَّهُ يتَوَصَّل بِالْيَمِينِ بعد نُكُوله إِلَى الْحق
فَأشبه إِقْرَاره بِهِ فَيجب الْحق بعد فرَاغ الْمُدَّعِي من يَمِين الرَّد من غير افتقار إِلَى حكم كَالْإِقْرَارِ وَلَا تسمع بعْدهَا حجَّة بمسقط كأداء أَو إِبْرَاء
فَإِن لم يحلف الْمُدَّعِي يَمِين الرَّد وَلَا عذر لَهُ سقط حَقه من الْيَمين والمطالبة لإعراضه عَن الْيَمين وَلَكِن تسمع حجَّته
فَإِن أبدى عذرا كإقامة حجَّة وسؤال فَقِيه ومراجعة حِسَاب أمْهل ثَلَاثَة أَيَّام فَقَط لِئَلَّا تطول مدافعته وَالثَّلَاثَة مُدَّة مغتفرة شرعا وَيُفَارق جَوَاز تَأْخِير الْحجَّة أبدا بِأَنَّهَا قد لَا تساعده وَلَا تحضر وَالْيَمِين إِلَيْهِ وَهل هَذَا الْإِمْهَال وَاجِب أَو مُسْتَحبّ وَجْهَان وَالظَّاهِر الأول وَلَا يُمْهل خَصمه لعذر حَتَّى يسْتَحْلف إِلَّا بِرِضا الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ مقهور بِطَلَب الْإِقْرَار أَو الْيَمين بِخِلَاف الْمُدَّعِي وَإِن استمهل الْخصم فِي ابْتِدَاء الْجَواب لعذر أمْهل إِلَى آخر الْمجْلس إِن شَاءَ القَاضِي وَقيل إِن شَاءَ الْمُدَّعِي وَالْأول هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَهُوَ الظَّاهِر لِأَن الْمُدَّعِي لَا يتَقَيَّد بآخر الْمجْلس وَمن طُولِبَ بجزية فَادّعى مسْقطًا كإسلامه قبل تَمام الْحول فَإِن وَافَقت دَعْوَاهُ الظَّاهِر كَأَن كَانَ غَائِبا فَحَضَرَ وَادّعى ذَلِك وَحلف فَذَاك وَإِن لم نوافق الظَّاهِر بِأَن(2/628)
كَانَ عندنَا ظَاهرا ثمَّ ادّعى ذَلِك أَو وَافقه
وَنكل طُولِبَ بهَا وَلَيْسَ ذَلِك قَضَاء بِالنّكُولِ بل لِأَنَّهَا وَجَبت وَلم يَأْتِ بدافع أَو بِزَكَاة فَادّعى الْمسْقط كدفعها لساع آخر لم يُطَالب بهَا وَإِن نكل عَن الْيَمين لِأَنَّهَا مُسْتَحبَّة وَلَو ادّعى ولي صبي أَو مَجْنُون حَقًا لَهُ على شخص فَأنْكر وَنكل لم يحلف الْوَلِيّ وَإِن ادّعى ثُبُوته بِسَبَب مُبَاشَرَته بل ينْتَظر كَمَاله لِأَن إِثْبَات الْحق لغير الْحَالِف بعيد
(وَإِذا تداعيا) أَي الخصمان أَي ادّعى كل مِنْهُمَا (شَيْئا) أَي عينا وَهِي (فِي يَد أَحدهمَا) وَلَا بَيِّنَة لوَاحِد مِنْهُمَا
(فَالْقَوْل) حِينَئِذٍ (قَول صَاحب الْيَد بِيَمِينِهِ) إِنَّهَا ملكه إِذْ الْيَد من الْأَسْبَاب المرجحة
(فَإِن كَانَ) الْمُدَّعِي بِهِ وَهُوَ الْعين
(فِي يديهما) وَلَا بَيِّنَة لَهما (تحَالفا) على النَّفْي فَقَط على النَّص (وَجعل) ذَلِك (بَينهمَا) نِصْفَيْنِ لقضائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك كَمَا صَححهُ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلَو أَقَامَ كل من المدعيين بَيِّنَة بِمَا ادَّعَاهُ وَهُوَ بيد ثَالِث سقطتا لتناقض موجبهما فَيحلف لكل مِنْهُمَا يَمِينا وَإِن أقرّ بِهِ لأَحَدهمَا عمل بِمُقْتَضى إِقْرَاره أَو بيدهما أَو لَا بيد أحد فَهُوَ لَهما إِذْ لَيْسَ أَحدهمَا بِأولى بِهِ من الآخر أَو بيد أَحدهمَا وَيُسمى الدَّاخِل رجحت بَينته
وَإِن تَأَخّر تاريخها أَو كَانَت شَاهدا ويمينا وَبَيِّنَة الْخَارِج شَاهِدين أَو لم تبين سَبَب الْملك من شِرَاء أَو غَيره تَرْجِيحا لبينته بِيَدِهِ هَذَا إِن أَقَامَهَا بعد بَيِّنَة الْخَارِج وَلَو قبل تعديلها لِأَنَّهَا إِنَّمَا تسمع بعْدهَا لِأَن الأَصْل فِي جَانِبه الْيَمين فَلَا يعدل عَنْهَا مَا دَامَت كَافِيَة وَلَو أزيلت يَده بِبَيِّنَة
وأسندت بَيِّنَة الْملك إِلَى مَا قبل إِزَالَة يَده وَاعْتذر بغيبتها مثلا فَإِنَّهَا ترجح لِأَن يَده إِنَّمَا أزيلت لعدم الْحجَّة وَقد ظَهرت لَكِن لَو قَالَ الْخَارِج هُوَ ملكي اشْتَرَيْته مِنْك فَقَالَ الدَّاخِل بل هُوَ ملكي وَأَقَامَا بينتين بِمَا قَالَاه
رجح الْخَارِج لزِيَادَة علم بَينته بِمَا ذكر فَلَو أزيلت يَده بِإِقْرَار لم تسمع دَعْوَاهُ بِهِ بِغَيْر ذكر انْتِقَال لِأَنَّهُ مؤاخذ بِإِقْرَارِهِ نعم لَو قَالَ وهبته لَهُ وَملكه لم يكن إِقْرَارا بِلُزُوم الْهِبَة لجَوَاز اعْتِقَاده لُزُوم الْهِبَة بِالْعقدِ
ذكره فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا ويرجح بِشَاهِدين(2/629)
أَو بِشَاهِد وَامْرَأَتَيْنِ لأَحَدهمَا على شَاهد مَعَ يَمِين للْآخر لِأَن ذَلِك حجَّة بِالْإِجْمَاع وَأبْعد عَن تُهْمَة الْحَالِف بِالْكَذِبِ فِي يَمِينه إِلَّا أَن يكون مَعَ الشَّاهِد يَد فَيرجع بهَا على من ذكر
وَلَا يرجح بِزِيَادَة شُهُود لأَحَدهمَا وَلَا برجلَيْن على رجل وَامْرَأَتَيْنِ وَلَا على أَربع نسْوَة لكَمَال الْحجَّة فِي الطَّرفَيْنِ وَلَا بَيِّنَة مؤرخة على بَيِّنَة مُطلقَة
ويرجح بتاريخ سَابق وَالْعين بيدهما أَو بيد غَيرهمَا أَو لَا بيد أحد
ورجحت بَيِّنَة ذِي الْأَكْثَر لِأَن الْأُخْرَى لَا تعارضها فِيهِ
وَلِصَاحِب التَّارِيخ السَّابِق أُجْرَة وَزِيَادَة حَادِثَة من يَوْم ملكه بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّهُمَا نَمَاء ملكه ويستثني من الْأُجْرَة مَا لَو كَانَت الْعين بيد البَائِع قبل الْقَبْض فَلَا أُجْرَة عَلَيْهِ للْمُشْتَرِي على الْأَصَح (وَمن حلف على فعل نَفسه) إِثْبَاتًا كَانَ أَو نفيا وَلَو بِظَنّ مُؤَكد كَأَن يعْتَمد على خطه أَو خطّ مُوَرِثه
(حلف على الْبَتّ) بِالْمُثَنَّاةِ وَهُوَ الْقطع والجزم مَأْخُوذ من قَوْلهم بت الْحَبل إِذا قطعه فَقَوله حِينَئِذٍ
(وَالْقطع) عطف تَفْسِير لِأَنَّهُ يعلم حَال نَفسه ويطلع عَلَيْهَا فَيَقُول فِي البيع وَالشِّرَاء فِي الْإِثْبَات وَالله لقد بِعْت بِكَذَا أَو اشْتريت بِكَذَا وَفِي النَّفْي
وَالله مَا بِعْت بِكَذَا أَو اشْتريت بِكَذَا
(وَمن حلف على فعل نَفسه) اثباتا أَو نفيا وَلَو بِظَنّ مؤكدا كَانَ يعْتَمد حلف حِينَئِذٍ (على الْبَتّ وَالْقطع) لسُهُولَة الإطلاع عَلَيْهِ (وَإِن كَانَ) فعله (نفيا مُطلقًا حلف) حِينَئِذٍ (على نفي الْعلم) أَي أَنه لَا يعلم فَيَقُول وَالله مَا علمت أَنه فعل كَذَا لِأَن النَّفْي الْمُطلق يعسر الْوُقُوف عَلَيْهِ وَلَا يتَعَيَّن فِيهِ ذَلِك فَلَو حلف على الْبَتّ اعْتد بِهِ كَمَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره لِأَنَّهُ قد يعلم ذَلِك أما النَّفْي المحصور فكالإثبات فِي إِمْكَان الْإِحَاطَة بِهِ كَمَا فِي آخر الدَّعَاوَى من الرَّوْضَة فَيحلف فِيهِ على الْبَتّ
تَنْبِيه ظَاهر كَلَام المُصَنّف حصر الْيَمين فِي فعله وَفعل غَيره وَقد يكون الْيَمين على تَحْقِيق مَوْجُود لَا إِلَى فعل ينْسب إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيره مثل أَن يَقُول لزوجته إِن كَانَ هَذَا الطَّائِر غرابا فَأَنت طَالِق فطار وَلم يعرف فادعت أَنه غراب فَأنْكر
فقد قَالَ الإِمَام إِنَّه يحلف على الْبَتّ قَالَ الشَّيْخَانِ تبعا للبندنيجي وَغَيره
وَالضَّابِط أَن يُقَال كل يَمِين فَهِيَ على الْبَتّ إِلَّا على نفي فعل الْغَيْر وَلَو ادّعى دينا لمورثه فَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ أبرأني مورثك مِنْهُ وَأَنت تعلم ذَلِك حلف الْمُدَّعِي على نفي الْعلم بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ حلف على نفي فعل غَيره
وَلَو قَالَ جنى عَبدك عَليّ بِمَا يُوجب كَذَا وَأنكر
فَالْأَصَحّ حلف السَّيِّد على الْبَتّ لِأَن عَبده مَاله وَفعله كَفِعْلِهِ
وَلذَلِك سَمِعت الدَّعْوَى عَلَيْهِ
وَلَو قَالَ جنت بهيمتك على زرعي مثلا فَعَلَيْك ضَمَانه فَأنْكر مَالِكهَا حلف على الْبَتّ لِأَنَّهُ لَا ذمَّة لَهَا وَضَمان جنايتها بتقصيره فِي حفظهَا لَا وَتعْتَبر نِيَّة القَاضِي المستحلف للخصم فَلَو ورى الْحَالِف فِي يَمِينه بِأَن(2/630)
قصد خلاف ظَاهر اللَّفْظ أَو تَأَول بِأَن اعْتقد الْحَالِف خلاف نِيَّة القَاضِي لم يدْفع إِثْم الْيَمين الْفَاجِرَة لِأَن الْيَمين شرعت ليهاب الْخصم الْإِقْدَام عَلَيْهَا خوفًا من الله تَعَالَى فَلَو صَحَّ تَأْوِيله لبطلت هَذِه الْفَائِدَة
تَتِمَّة يسن تَغْلِيظ يَمِين مُدع إِذا حلف مَعَ شَاهده أَو ردَّتْ الْيَمين عَلَيْهِ وَيَمِين مدعى عَلَيْهِ
وَإِن لم يطْلب الْخصم تغليظها فِيمَا لَيْسَ بِمَال وَلَا يقْصد بِهِ مَال كَنِكَاح وَطَلَاق ولعان
وَفِي مَال يبلغ نِصَاب زَكَاة نقد عشْرين مِثْقَالا ذَهَبا أَو مِائَتي دِرْهَم فضَّة أَو مَا قِيمَته ذَلِك
والتغليظ يكون بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان كَمَا مر فِي اللّعان وَبِزِيَادَة أَسمَاء وصفات كَأَن يَقُول وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الرَّحْمَن الرَّحِيم الَّذِي يعلم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَإِن كَانَ الْحَالِف يَهُودِيّا حلفه القَاضِي بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى ونجاه من الْغَرق أَو نَصْرَانِيّا حلفه بِاللَّه الَّذِي أنزل الْإِنْجِيل على عِيسَى أَو مجوسيا أَو وثنيا حلفه بِالَّذِي خلقه وصوره وَلَا يجوز لقاض أَن يحلف أحدا بِطَلَاق أَو عتق أَو نذر كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمَتى بلغ الإِمَام أَن قَاضِيا يسْتَحْلف النَّاس بِطَلَاق أَو عتق أَو نذر عَزله عَن الحكم لِأَنَّهُ جَاهِل
وَقَالَ ابْن عبد الْبر لَا أعلم أحدا من أهل الْعلم يرى الِاسْتِحْلَاف بذلك وَلَا يحلف قَاض على تَركه ظلما فِي حكمه وَلَا شَاهد أَنه لم يكذب فِي شَهَادَته وَلَا مُدع صبا وَلَو احْتِمَالا بل يمهله حَتَّى يبلغ إِلَّا كَافِرًا مسبيا أنبت وَقَالَ تعجلت إنبات الْعَانَة فَيحلف لسُقُوط الْقَتْل
وَالْيَمِين من الْخصم تقطع الْخُصُومَة حَالا لَا الْحق فَتسمع بَيِّنَة الْمُدَّعِي بعد حلف الْخصم وَلَو ادّعى رق غير صبي وَمَجْنُون ومجهول نسب فَقَالَ أَنا حر أَصَالَة صدق بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل الْحُرِّيَّة وعَلى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة وَلَو ادّعى رق صبي أَو مَجْنُون وليسا بِيَدِهِ لم يصدق إِلَّا بِحجَّة أَو بِيَدِهِ وَجَهل لقطهما حلف وَحكم لَهُ برقهما لِأَنَّهُ الظَّاهِر من حَالهمَا وإنكارهما بعد كمالهما لَغْو فَلَا بُد لَهما من حجَّة وَلَا تسمع دَعْوَى بدين مُؤَجل وَإِن كَانَ بِهِ بَيِّنَة إِذْ لَا يتَعَلَّق بهَا إِلْزَام فِي الْحَال فَلَو كَانَ بعضه حَالا وَبَعضه مُؤَجّلا صحت الدَّعْوَى بِهِ لاسْتِحْقَاق الْمُطَالبَة بِبَعْضِه كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
فصل فِي الشَّهَادَات
جمع شَهَادَة وَهِي إِخْبَار عَن شَيْء بِلَفْظ خَاص(2/631)
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تكتموا الشَّهَادَة} وَقَوله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ لَك إِلَّا شَاهِدَاك أَو يَمِينه وَخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الشَّهَادَة فَقَالَ للسَّائِل ترى الشَّمْس قَالَ نعم فَقَالَ على مثلهَا فاشهد أَو دع رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وصححا إِسْنَاده
وأركانها خَمْسَة شَاهد ومشهود لَهُ ومشهود عَلَيْهِ ومشهود بِهِ وَصِيغَة
ثمَّ شرع فِي شُرُوط الرُّكْن الأول فَقَالَ (وَلَا تقبل الشَّهَادَة) عِنْد الْأَدَاء (إِلَّا مِمَّن اجْتمعت فِيهِ خَمْسَة) بل عشرَة (خِصَال) كَمَا ستعرفها الأولى (الْإِسْلَام) فَلَا تقبل شَهَادَة الْكَافِر على الْمُسلم
وَلَا على الْكَافِر خلافًا لأبي حنيفَة فِي قبُوله شَهَادَة الْكَافِر على الْكَافِر وَلأَحْمَد فِي الْوَصِيَّة لقَوْله تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} وَالْكَافِر لَيْسَ بِعدْل وَلَيْسَ منا وَلِأَنَّهُ أفسق الْفُسَّاق ويكذب على الله تَعَالَى فَلَا يُؤمن من الْكَذِب على خلقه
(و) الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة (الْبلُوغ وَالْعقل) فَلَا تقبل شَهَادَة صبي لقَوْله تَعَالَى {من رجالكم} وَلَا مَجْنُون بِالْإِجْمَاع
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) وَلَو بِالدَّار فَلَا تقبل شَهَادَة رَقِيق خلافًا لِأَحْمَد وَلَو مبعضا أَو مكَاتبا لِأَن أَدَاء الشَّهَادَة فِيهِ معنى الْولَايَة وَهُوَ مسلوب مِنْهَا
(و) الْخَامِسَة (الْعَدَالَة) فَلَا تقبل شَهَادَة فَاسق لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَالسَّادِسَة أَن تكون لَهُ مُرُوءَة وَهِي الاسْتقَامَة لِأَن من لَا مُرُوءَة لَهُ لَا حَيَاء لَهُ وَمن لَا حَيَاء لَهُ قَالَ مَا شَاءَ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وَالسَّابِعَة أَن يكون غير مُتَّهم فِي شَهَادَته لقَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم أقسط عِنْد الله وأقوم للشَّهَادَة وَأدنى أَلا ترتابوا} والريبة حَاصِلَة بالمتهم
وَالثَّامِنَة أَن يكون ناطقا فَلَا تقبل شَهَادَة الْأَخْرَس وَإِن فهمت إِشَارَته والتاسعة أَن يكون يقظا كَمَا قَالَه صَاحب التَّنْبِيه وَغَيره فَلَا تقبل شَهَادَة مُغفل
والعاشرة أَن لَا يكون مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه
فَلَا تقبل شَهَادَته كَمَا نقل فِي أصل الرَّوْضَة قبيل فصل التَّوْبَة عَن الصَّيْمَرِيّ وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة(2/632)
وَخرج بِقَيْد الْأَدَاء التَّحَمُّل فَلَا يشْتَرط عِنْده هَذِه الشُّرُوط بِدَلِيل قَوْلهم إِنَّه لَو شهد كَافِر أَو عبد أَو صبي ثمَّ أَعَادَهَا بعد كَمَاله قبلت كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ فِي خادمه قَالَ وَلَا يسْتَثْنى من ذَلِك غير شُهُود النِّكَاح فَإِنَّهُ يشْتَرط الْأَهْلِيَّة عِنْد التَّحَمُّل أَيْضا (وللعدالة) الْمُتَقَدّمَة (خمس شَرَائِط) الأول (أَن يكون مجتنبا للكبائر) أَي لكل مِنْهَا
(و) الثَّانِي أَن يكون (غير مصر على الْقَلِيل من الصَّغَائِر) من نوع أَو أَنْوَاع وَفسّر جمَاعَة الْكَبِيرَة بِأَنَّهَا مَا لحق صَاحبهَا وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب أَو سنة
وَقيل هِيَ الْمعْصِيَة الْمُوجبَة للحد وَذكر فِي أصل الرَّوْضَة أَنهم إِلَى تَرْجِيح هَذَا أميل وَأَن الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا هُوَ الْمُوَافق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر انْتهى
لأَنهم عدوا الرِّبَا وَأكل مَال الْيَتِيم وَشَهَادَة الزُّور وَنَحْوهَا من الْكَبَائِر وَلَا حد فِيهَا وَقَالَ الإِمَام هِيَ كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بِالدّينِ
انْتهى وَالْمرَاد بهَا بِقَرِينَة التعاريف الْمَذْكُورَة غير الْكَبَائِر الاعتقادية الَّتِي هِيَ الْبدع فَإِن الرَّاجِح قبُول شَهَادَة أَهلهَا مَا لم نكفرهم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه هَذَا ضَبطهَا بِالْحَدِّ وَأما ضَبطهَا بالعد فأشياء كَثِيرَة
قَالَ ابْن عَبَّاس هِيَ إِلَى السّبْعين أقرب وَقَالَ سعيد بن جُبَير إِنَّهَا إِلَى سَبْعمِائة أقرب أَي بِاعْتِبَار أَصْنَاف أَنْوَاعهَا وَمَا عدا ذَلِك من الْمعاصِي فَمن الصَّغَائِر وَلَا بَأْس بعد شَيْء من النَّوْعَيْنِ
فَمن الأول تَقْدِيم الصَّلَاة أَو تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا بِلَا عذر وَمنع الزَّكَاة وَترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة ونسيان الْقُرْآن واليأس من رَحْمَة الله وَأمن مكره تَعَالَى وَأكل الرِّبَا وَأكل مَال الْيَتِيم والإفطار فِي رَمَضَان من غير عذر وعقوق الْوَالِدين وَالزِّنَا واللواط وَشَهَادَة الزُّور وَضرب الْمُسلم بِغَيْر حق والنميمة
وَأما الْغَيْبَة فَإِن كَانَت فِي أهل الْعلم وَحَملَة الْقُرْآن فَهِيَ كَبِيرَة كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَإِلَّا فصغيرة وَمن الصَّغَائِر النّظر الْمحرم وهجر الْمُسلم فَوق ثَلَاثَة أَيَّام والنياحة وشق الجيب والتبختر فِي الْمَشْي وَإِدْخَال صبيان أَو مجانين يغلب تنجيسهم الْمَسْجِد وَاسْتِعْمَال نَجَاسَة فِي بدن أَو ثوب لغير حَاجَة فبارتكاب كَبِيرَة أَو إِصْرَار على صَغِيرَة من نوع أَو أَنْوَاع تَنْتفِي الْعَدَالَة إِلَّا إِن تغلب طَاعَته على مَعَاصيه
كَمَا قَالَه الْجُمْهُور فَلَا تَنْتفِي عَدَالَته وَإِن اقْتَضَت عبارَة المُصَنّف الانتفاء مُطلقًا
فَائِدَة فِي الْبَحْر لَو نوى الْعدْل فعل كَبِيرَة غَدا كزنا لم يصر بذلك فَاسِقًا بِخِلَاف نِيَّة الْكفْر (و) الثَّالِث أَن يكون الْعدْل (سليم السريرة) أَي العقيدة بِأَن لَا يكون مبتدعا لَا يكفر وَلَا يفسق ببدعته فَلَا تقبل شَهَادَة(2/633)
مُبْتَدع يكفر أَو يفسق ببدعته فَالْأول كمنكري الْبَعْث وَالثَّانِي كساب الصَّحَابَة وَيسْتَثْنى من هَذَا الخطابية فَلَا تقبل شَهَادَتهم وهم فرقة يجوزون الشَّهَادَة لصَاحِبِهِمْ إِذا سَمِعُوهُ يَقُول لي على فلَان كَذَا هَذَا إِذا لم يبينوا السَّبَب كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَإِن بينوا السَّبَب كَأَن قَالُوا رَأَيْنَاهُ يقْرضهُ كَذَا فَتقبل حِينَئِذٍ شَهَادَتهم
(و) الرَّابِع أَن يكون الْعدْل (مَأْمُونا) مِمَّا توقع فِيهِ النَّفس الأمارة صَاحبهَا (عِنْد الْغَضَب) من ارْتِكَاب قَول الزُّور والإصرار على الْغَيْبَة وَالْكذب لقِيَام غَضَبه فَلَا عَدَالَة لمن يحملهُ غَضَبه على الْوُقُوع فِي ذَلِك
(و) الْخَامِس أَن يكون (محافظا على مُرُوءَة مثله) بِأَن يتخلق الشَّخْص بِخلق أَمْثَاله من أَبنَاء عصره مِمَّن يُرَاعِي مناهج الشَّرْع وآدابه فِي زَمَانه ومكانه لِأَن الْأُمُور الْعُرْفِيَّة قَلما تنضبط بل تخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص والأزمنة والبلدان وَهَذَا بِخِلَاف الْعَدَالَة فَإِنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص
فَإِن الْفسق يَسْتَوِي فِيهِ الشريف والوضيع بِخِلَاف الْمُرُوءَة فَإِنَّهَا تخْتَلف فَلَا تقبل شَهَادَة من لَا مُرُوءَة لَهُ كمن يَأْكُل أَو يشرب فِي سوق وَهُوَ غير سوقي كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغير من لم يغلبه جوع أَو عَطش أَو يمشي فِي سوق مَكْشُوف الرَّأْس أَو الْبدن غير الْعَوْرَة مِمَّن لَا يَلِيق بِهِ مثله ولغير محرم بنسك أما الْعَوْرَة فكشفها حرَام أَو يقبل زَوجته أَو أمته بِحَضْرَة النَّاس وَأما تَقْبِيل ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أمته الَّتِي وَقعت فِي سَهْمه بِحَضْرَة النَّاس فَقَالَ الزَّرْكَشِيّ كَانَ تَقْبِيل اسْتِحْسَان لَا تمتّع أَو ظن أَنه لَيْسَ ثمَّ من ينظره أَو على أَن الْمرة الْوَاحِدَة لَا تضر على مَا اقْتَضَاهُ نَص الشَّافِعِي وَمد الرجل عِنْد النَّاس بِلَا ضَرُورَة كقبلة أمته بحضرتهم وَمن ذَلِك إكثار حكايات مضحكة بَين النَّاس بِحَيْثُ يصير ذَلِك عَادَة لَهُ
وَخرج بالإكثار مَا لم يكثر أَو كَانَ ذَلِك طبعا لَا تصنعا كَمَا وَقع لبَعض الصَّحَابَة وَلبس فَقِيه قبَاء أَو قلنسوة فِي مَحل لَا يعْتَاد الْفَقِيه لبس ذَلِك فِيهِ وإكباب على لعب الشطرنج بِحَيْثُ يشْغلهُ عَن مهامته وَإِن لم يقْتَرن بِهِ مَا يحرمه أَو على غناء أَو استماعه وإكثار رقص
وحرفة دنيئة مُبَاحَة كحجامة وكنس زبل وَنَحْوه ودبغ مِمَّن لَا يَلِيق ذَلِك بِهِ
وَاعْترض جعلهم الحرفة الدنيئة مِمَّا يخرم الْمُرُوءَة مَعَ قَوْلهم إِنَّهَا من فروض الكفايات وَأجِيب بِحمْل ذَلِك على من اخْتَارَهَا لنَفسِهِ مَعَ حُصُول الْكِفَايَة بِغَيْرِهِ وَأما الحرفة غير الْمُبَاحَة كالمنجم والعراف والكاهن والمصور فَلَا تقبل شَهَادَتهم قَالَ الصَّيْمَرِيّ لِأَن شعارهم التلبيس(2/634)
تَنْبِيه هَذَا الشَّرْط الْخَامِس إِنَّمَا هُوَ شَرط فِي قبُول الشَّهَادَة لَا فِي الْعَدَالَة فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِك لَا يخرج عَن كَونه عدلا لَكِن شَهَادَته لم تقبل لفقد مروءته
وَمن شُرُوط الْقبُول أَيْضا أَن لَا يكون مُتَّهمًا والتهمة أَن يجر إِلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ نفعا أَو يدْفع عَنهُ بهَا ضَرَرا كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه
تَتِمَّة لَو شهد اثْنَان لاثْنَيْنِ بِوَصِيَّة من تَرِكَة فَشهد الِاثْنَان للشاهدين بِوَصِيَّة من تِلْكَ التَّرِكَة قبلت الشهادتان فِي الْأَصَح لانفصال كل شَهَادَة عَن الْأُخْرَى وَلَا تجر شَهَادَته نفعا وَلَا تدفع عَنهُ ضَرَرا وَتقبل شَهَادَة الْحِسْبَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى المتمحضة كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم
وَفِيمَا فِيهِ لله تَعَالَى حق مُؤَكد وَهُوَ مَا لَا يتأثر بِرِضا الْآدَمِيّ كَطَلَاق وَعتق وعفو عَن قصاص وإبقاء عدَّة وانقضائها وحد لله تَعَالَى وَكَذَا النّسَب على الصَّحِيح
وَمَتى حكم قَاض بِشَاهِدين فبانا غير مقبولي الشَّهَادَة ككافرين نقضه هُوَ وَغَيره
وَلَو شهد كَافِر أَو عبد أَو صبي ثمَّ أَعَادَهَا بعد كَمَاله قبلت شَهَادَته لانْتِفَاء التُّهْمَة أَو فَاسق تَابَ لم تقبل للتُّهمَةِ وَتقبل من غير تِلْكَ الشَّهَادَة بِشَرْط اختباره بعد التَّوْبَة مُدَّة يظنّ فِيهَا صدق تَوْبَته وقدرها الْأَكْثَرُونَ بِسنة وَيشْتَرط فِي تَوْبَة مَعْصِيّة قولية القَوْل فَيَقُول قذفي بَاطِل وَأَنا نادم عَلَيْهِ وَلَا أَعُود إِلَيْهِ وَيَقُول فِي شَهَادَة الزُّور شهادتي بَاطِلَة وَأَنا نادم عَلَيْهَا
وَالْمَعْصِيَة غير القولية يشْتَرط فِي التَّوْبَة مِنْهَا إقلاع عَنْهَا وَنَدم عَلَيْهَا وعزم أَن لَا يعود لَهَا ورد ظلامة آدَمِيّ إِن تعلّقت بِهِ
فصل كَمَا فِي بعض النّسخ يذكر فِيهِ الْعدَد فِي الشُّهُود والذكورة
والأسباب الْمَانِعَة من الْقبُول وَأسْقط ذكر فصل فِي بَعْضهَا
(والحقوق) الْمَشْهُود بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يعْتَبر فِيهَا عددا أَو وَصفا (ضَرْبَان) أَحدهمَا (حق الله تَعَالَى و) ثَانِيهمَا (حق الْآدَمِيّ) وَبَدَأَ بِهِ فَقَالَ
(فَأَما حق الْآدَمِيّ) لِأَنَّهُ الْأَغْلَب وقوعا (فَهُوَ على ثَلَاثَة أضْرب) الأول (ضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ ذكران) أَي رجلَانِ وَلَا مدْخل فِيهِ للإناث وَلَا للْيَمِين مَعَ الشَّاهِد (وَهُوَ مَا لَا يقْصد مِنْهُ المَال) أصلا كعقوبة لله تَعَالَى والآدمي (و) مَا (يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) غَالِبا كَطَلَاق وَنِكَاح ورجعة وَإِقْرَار بِنَحْوِ زنا(2/635)
وَمَوْت ووكالة ووصاية وَشركَة وقراض وكفالة وَشَهَادَة على شَهَادَة
لِأَن الله تَعَالَى نَص على الرجلَيْن فِي الطَّلَاق وَالرَّجْعَة والوصاية
وروى مَالك عَن الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَنَّهُ لَا يجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود وَلَا فِي النِّكَاح كَالطَّلَاقِ وَقيس بالمذكورات غَيرهَا مِمَّا يشاركها فِي الْمَعْنى الْمَذْكُور وَالْوكَالَة وَالثَّلَاثَة بعْدهَا وَإِن كَانَت فِي مَال الْقَصْد مِنْهَا الْولَايَة والسلطنة
لَكِن لما ذكر ابْن الرّفْعَة اخْتلَافهمْ فِي الشّركَة والقراض قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن رام مدعيهما إِثْبَات التَّصَرُّف فَهُوَ كَالْوَكِيلِ أَو إِثْبَات حِصَّته من الرِّبْح فيثبتان بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود المَال وَيقرب مِنْهُ دَعْوَى الْمَرْأَة النِّكَاح لإِثْبَات الْمهْر أَو شطره أَو الْإِرْث فَيثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود مِنْهُ المَال
وَإِن لم يثبت النِّكَاح بهما فِي غير هَذِه الصُّورَة
(و) الثَّانِي (ضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ) رجلَانِ (أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو شَاهد) أَي رجل وَاحِد
(وَيَمِين الْمُدَّعِي) بعد أَدَاء شَهَادَة شَاهده وَبعد تعديله
وَيذكر حتما فِي حلفه صدق شَاهده لِأَن الْيَمين وَالشَّهَادَة حجتان مختلفتا الْجِنْس فَاعْتبر ارتباط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى ليصيرا كالنوع الْوَاحِد (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّانِي فِي كل (مَا كَانَ) مَالا عينا كَانَ أَو دينا أَو مَنْفَعَة أَو كَانَ (الْقَصْد مِنْهُ المَال) من عقد مَالِي أَو فَسخه أَو حق مَالِي كَبيع وَمِنْه الْحِوَالَة لِأَنَّهَا بيع دين بدين وإقالة وَضَمان وَخيَار وَأجل
وَذَلِكَ لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} وروى مُسلم وَغَيره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين زَاد الشَّافِعِي فِي الْأَمْوَال وَقيس بهَا مَا فِيهِ مَال
تَنْبِيه من هَذَا الضَّرْب الْوَقْف أَيْضا كَمَا قَالَه ابْن سُرَيج وَقَالَ فِي الرَّوْضَة إِنَّه أقوى من الْمَعْنى وَصَححهُ الإِمَام وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا انْتهى
وَصَححهُ أَيْضا الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير كَمَا أَفَادَهُ فِي الْمُهِمَّات
(و) الثَّالِث (ضرب يقبل فِيهِ) شَاهِدَانِ (رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو أَربع نسْوَة) منفردات (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّالِث فِي كل (مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) غَالِبا كبكارة وولادة وحيض ورضاع وعيب امْرَأَة تَحت ثوبها كجراحة على فرجهَا حرَّة كَانَت(2/636)
أَو أمة واستهلال ولد لما روى ابْن أبي شيبَة عَن الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَنَّهُ يجوز شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ من ولادَة النِّسَاء وعيوبهن وَقيس بِمَا ذكر غَيره مِمَّا يُشَارِكهُ فِي الضَّابِط الْمَذْكُور
وَإِذا قبلت شَهَادَتهنَّ فِي ذَلِك منفردات فقبول الرجلَيْن أَو الرجل والمرأتين أولى
تَنْبِيه قيد الْقفال وَغَيره مَسْأَلَة الرَّضَاع بِمَا إِذا كَانَ الرَّضَاع من الثدي فَإِن كَانَ من إِنَاء حلب فِيهِ اللَّبن لم تقبل شَهَادَة النِّسَاء بِهِ لَكِن تقبل شَهَادَتهنَّ بِأَن هَذَا اللَّبن من هَذِه الْمَرْأَة لِأَن الرِّجَال لَا يطلعون عَلَيْهِ غَالِبا وَخرج بِعَيْب امْرَأَة تَحت ثوبها مَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْبَغَوِيّ وَأقرهُ الْعَيْب فِي وَجه الْحرَّة وكفيها فَإِنَّهُ لَا يثبت إِلَّا برجلَيْن وَفِي وَجه الْأمة وَمَا يَبْدُو عِنْد المهنة فَإِنَّهُ يثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ المَال
فَإِن قيل هَذَا وَمَا قبله إِنَّمَا يأتيان على القَوْل بِحل النّظر إِلَى ذَلِك أما على مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ فِي الأولى وَالنَّوَوِيّ فِي الثَّانِيَة من تَحْرِيم ذَلِك فَتقبل النِّسَاء فِيهِ منفردات
أُجِيب بِأَن الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ يطلع عَلَيْهِمَا الرِّجَال غَالِبا وَإِن قُلْنَا بِحرْمَة نظر الْأَجْنَبِيّ لِأَن ذَلِك جَائِز لمحارمها وَزوجهَا وَيجوز نظر الْأَجْنَبِيّ لوجهها لتعليم ومعاملة وَتحمل شَهَادَة وَقد قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ أطلق الْمَاوَرْدِيّ نقل الْإِجْمَاع على أَن عُيُوب النِّسَاء فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لَا يقبل فِيهِ إِلَّا الرِّجَال وَلم يفصل بَين الْأمة والحرة وَبِه صرح القَاضِي حُسَيْن فيهمَا انْتهى
أَي فَلَا تقبل النِّسَاء الخلص فِي الْأمة لما مر أَنه يقبل فِيهَا رجل وَامْرَأَتَانِ لما مر وكل مَا لَا يثبت من الْحُقُوق بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ لَا يثبت بِرَجُل وَيَمِين لِأَن الرجل وَامْرَأَتَيْنِ أقوى وَإِذا لم يثبت بالأقوى لَا يثبت بِمَا دونه وكل مَا يثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ يثبت بِرَجُل وَيَمِين إِلَّا عُيُوب النِّسَاء وَنَحْوهَا
كإرضاع فَإِنَّهَا لَا تثبت بِشَاهِد وَيَمِين لِأَنَّهَا أُمُور خطرة بِخِلَاف المَال وَقد علم من تَقْسِيم المُصَنّف الْمَذْكُور أَنه لَا يثبت شَيْء بامرأتين وَيَمِين وَهُوَ كَذَلِك لعدم وُرُود ذَلِك وقيامهما مقَام رجل فِي غير ذَلِك لوروده
فرع مَا قبل فِيهِ شَهَادَة النسْوَة على فعله لَا تقبل شَهَادَتهنَّ على الْإِقْرَار بِهِ فَإِنَّهُ مِمَّا يسمعهُ الرِّجَال غَالِبا كَسَائِر الأقارير كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ
(وَأما حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا تقبل فِيهَا النِّسَاء) أصلا وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ فِي هَذَا وَفِي جَمِيع مَا مر (وَهِي) أَي حُقُوق الله تَعَالَى (على ثَلَاثَة أضْرب) أَيْضا الأول (ضرب لَا يقبل فِيهِ أقل من أَرْبَعَة) من الرِّجَال (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب
(الزِّنَا) لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} وَلما فِي صَحِيح مُسلم عَن سعد بن عبَادَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو وجدت مَعَ امْرَأَتي رجلا أمهله حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء قَالَ نعم وَلِأَنَّهُ لَا يقوم إِلَّا من اثْنَيْنِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ على فعلين وَلِأَنَّهُ(2/637)
من أغْلظ الْفَوَاحِش فغلظت الشَّهَادَة فِيهِ ليَكُون أستر وَإِنَّمَا تقبل شَهَادَتهم بِالزِّنَا إِذا قَالُوا حانت منا التفاتة فَرَأَيْنَا أَو تعمدنا النّظر لإِقَامَة الشَّهَادَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَإِن قَالُوا تعمدنا لغير الشَّهَادَة فسقوا وَردت شَهَادَتهم انْتهى هَذَا إِذا تكَرر ذَلِك مِنْهُم وَلم تغلب طاعتهم على معاصيهم وَإِلَّا فَتقبل لِأَن ذَلِك صَغِيرَة وَيَنْبَغِي إِذا أطْلقُوا الشَّهَادَة أَن يستفسروا إِن تيَسّر وَإِلَّا فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَلَا بُد أَن يَقُولُوا رَأَيْنَاهُ أَدخل حشفته أَو قدرهَا من فاقدها فِي فرجهَا وَإِن لم يَقُولُوا كالأصبع فِي الْخَاتم أَو كالمرود فِي المكحلة
تَنْبِيه اللواط فِي ذَلِك كَالزِّنَا وَكَذَا إتْيَان الْبَهِيمَة على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص فِي الْأُم قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَن كلا جماع ونقصان الْعقُوبَة فِيهِ لَا يمْنَع من الْعدَد كَمَا فِي زنا الْأمة قَالَ البُلْقِينِيّ وَوَطْء الْميتَة لَا يُوجب الْحَد على الْأَصَح
وَهُوَ كإتيان الْبَهَائِم فِي أَنه لَا يثبت إِلَّا بأَرْبعَة على الْمُعْتَمد انْتهى
وَخرج بِمَا ذكر وَطْء الشُّبْهَة إِذا قصد بِالدَّعْوَى بِهِ المَال أَو شهد بِهِ حسبَة ومقدمات الزِّنَا كقبلة ومعانقة فَلَا تحْتَاج إِلَى أَرْبَعَة وَيقبل فِي الْإِقْرَار بِالزِّنَا وَمَا ألحق بِهِ رجلَانِ كَغَيْرِهِ من الأقارير
(و) الثَّانِي (ضرب يقبل فِيهِ اثْنَان) أَي رجلَانِ
(وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّانِي (مَا سوى الزِّنَا) وَمَا ألحق بِهِ (من الْحُدُود) سَوَاء أَكَانَ قتلا للمرتد أم لقاطع الطَّرِيق بِشَرْطِهِ أم لقطع فِي سَرقَة أم فِي طَرِيق أم فِي جلد لشارب مُسكر
(و) الثَّالِث (ضرب يقبل فِيهِ) رجل (وَاحِد وَهُوَ هِلَال شهر رَمَضَان) بِالنِّسْبَةِ للصَّوْم على أظهر الْقَوْلَيْنِ عِنْد الشَّيْخَيْنِ احْتِيَاطًا للصَّوْم أما بِالنِّسْبَةِ لحلول أجل أَو لوُقُوع طَلَاق فَلَا
كَمَا مر ذَلِك فِي الصّيام وَألْحق بذلك مسَائِل مِنْهَا مَا لَو نذر صَوْم رَجَب مثلا فَشهد وَاحِد بِرُؤْيَتِهِ فَهَل يجب الصَّوْم إِذا قُلْنَا يثبت بِهِ رَمَضَان
حكى ابْن الرّفْعَة فِيهِ وَجْهَيْن عَن الْبَحْر وَرجح ابْن الْمقري فِي كتاب الصّيام الْوُجُوب مِنْهَا مَا فِي الْمَجْمُوع آخر الصَّلَاة على الْمَيِّت عَن الْمُتَوَلِي أَنه لَو مَاتَ ذمِّي فَشهد عدل بِإِسْلَامِهِ لم يكف فِي الْإِرْث وَفِي الِاكْتِفَاء بِهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ وتوابعها وَجْهَان بِنَاء على الْقَوْلَيْنِ فِي هِلَال رَمَضَان وَمُقْتَضَاهُ تَرْجِيح الْقبُول وَهُوَ الظَّاهِر وَإِن أفتى القَاضِي حُسَيْن بِالْمَنْعِ وَمِنْهَا ثُبُوت شَوَّال بِشَهَادَة الْعدْل الْوَاحِد بطرِيق التّبعِيَّة فِيمَا إِذا ثَبت رَمَضَان بِشَهَادَتِهِ وَلم ير الْهلَال بعد الثَّلَاثِينَ فانفطر على الْأَصَح وَمِنْهَا المسمع للخصم كَلَام القَاضِي أَو للْقَاضِي كَلَام الْخصم يقبل فِيهِ الْوَاحِد وَهُوَ من بَاب الشَّهَادَة كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ قبيل الْقَضَاء على الْغَائِب وَمِنْهَا صور زِيَادَة على ذَلِك ذكرتها فِي شرح المنهاح وَغَيره
(وَلَا تقبل شَهَادَة) على فعل كزنا وَشرب خمر وغصب وَإِتْلَاف وولادة ورضاع واصطياد وإحياء وَكَون الْيَد على مَال إِلَّا بإبصار لذَلِك الْفِعْل مَعَ فَاعله لِأَنَّهُ يصل بِهِ إِلَى الْعلم وَالْيَقِين فَلَا يَكْفِي فِيهِ السماع من الْغَيْر قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مثلهَا فاشهد أَو دع إِلَّا أَن فِي الْحُقُوق مَا اكْتفى فِيهِ بِالظَّنِّ الْمُؤَكّد لتعذر الْيَقِين فِيهِ وَتَدْعُو الْحَاجة(2/638)
إِلَى إثْبَاته كالملك فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته يَقِينا وَكَذَا الْعَدَالَة والإعسار وَتقبل فِي الْفِعْل من أَصمّ لإبصاره وَيجوز تعمد النّظر لفرجي الزَّانِيَيْنِ لتحمل الشَّهَادَة كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا هتكا حُرْمَة أَنفسهمَا والأقوال كعقد وَفسخ وَطَلَاق وَإِقْرَار يشْتَرط فِي الشَّاهِد بهَا سَمعهَا وإبصار قَائِلهَا حَال تلفظه بهَا حَتَّى لَو نطق بهَا من وَرَاء حجاب وَهُوَ يتحققه لم يكف
وَمَا حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن الْأَصْحَاب من أَنه لَو جلس بِبَاب بَيت فِيهِ اثْنَان فَقَط فَسمع تعاقدهما بِالْبيعِ وَغَيره كفى من غير رُؤْيَة زيفه الْبَنْدَنِيجِيّ بِأَنَّهُ لَا يعرف الْمُوجب من الْقَابِل
وَلَا تقبل شَهَادَة (الْأَعْمَى) فِيمَا يتَعَلَّق بالبصر لجَوَاز اشْتِبَاه الْأَصْوَات وَقد يحاكي الْإِنْسَان صَوت غَيره
(إِلَّا فِي سِتَّة) وَفِي بعض النّسخ خَمْسَة (مَوَاضِع) وَسَيَأْتِي تَوْجِيه ذَلِك الْموضع الأول (الْمَوْت) فَإِنَّهُ يثبت بِالتَّسَامُعِ لِأَن أَسبَابه كَثِيرَة مِنْهَا مَا يخفى وَمِنْهَا مَا يظْهر وَقد يعسر الإطلاع عَلَيْهَا فَجَاز أَن يعْتَمد على الاستفاضة
(و) الْموضع الثَّانِي (النّسَب) لذكر أَو أُنْثَى وَإِن لم يعرف عين الْمَنْسُوب إِلَيْهِ من أَب أَو جد فَيشْهد أَن هَذَا ابْن فلَان أَو أَن هَذِه بنت فلَان أَو قَبيلَة فَيشْهد أَنه من قَبيلَة كَذَا لِأَنَّهُ لَا مدْخل للرؤية فِيهِ فَإِن غَايَة الْمُمكن أَن يُشَاهد الْولادَة على الْفراش وَذَلِكَ لَا يُفِيد الْقطع بل الظَّاهِر فَقَط
وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى إِثْبَات الْإِنْسَان إِلَى الأجداد المتوفين والقبائل الْقَدِيمَة فسومح فِيهِ قَالَ ابْن الْمُنْذر وَهَذَا مِمَّا لَا أعلم فِيهِ خلافًا وَكَذَا يثبت النّسَب بالاستفاضة إِلَى الْأُم فِي الْأَصَح
كَالْأَبِ وَإِن كَانَ النّسَب فِي الْحَقِيقَة إِلَى الْأَب
(و) الْموضع الثَّالِث (الْملك الْمُطلق) من غير إِضَافَة لمَالِك معِين إِذا لم يكن مُنَازع
تَنْبِيه هَذِه الثَّلَاثَة من الْأُمُور الَّتِي تثبت بالاستفاضة وَبَقِي من الْأُمُور الَّتِي تثبت بالاستفاضة الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْوَقْف وَالنِّكَاح كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الْمُحَقِّقين لِأَنَّهَا أُمُور مُؤَبّدَة فَإِذا طَالَتْ مدَّتهَا عسر إِقَامَة الْبَيِّنَة على ابتدائها فمست الْحَاجة إِلَى إِثْبَاتهَا بالاستفاضة وَلَا يشك أحد أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَعَن أَبَوَيْهَا زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مُسْتَند غير السماع
وَمَا ذكر فِي الْوَقْف هُوَ بِالنّظرِ إِلَى أَصله
وَأما شُرُوطه فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لَا يثبت بالاستفاضة شُرُوط الْوَقْف وتفاصيله بل إِن كَانَ وَقفا على جمَاعَة مُعينين أَو جِهَات مُتعَدِّدَة قسمت الْغلَّة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ أَو على مدرسة مثلا وتعذرت معرفَة الشُّرُوط صرف النَّاظر الْغلَّة فِيمَا يرَاهُ من مصالحها انْتهى
وَالْأَوْجه حمل هَذَا على مَا أفتى بِهِ ابْن الصّلاح شَيْخه من أَن الشُّرُوط إِن شهد بهَا مُنْفَرِدَة لم يثبت بهَا وَإِن ذكرهَا فِي شَهَادَته بِأَصْل الْوَقْف سَمِعت لِأَنَّهُ يرجع حَاصله إِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْوَقْف وَمِمَّا يثبت بالاستفاضة الْقَضَاء وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل والرشد وَالْإِرْث وَاسْتِحْقَاق الزَّكَاة وَالرّضَاع وَحَيْثُ يثبت النِّكَاح بالاستفاضة لَا يثبت الصَدَاق بهَا بل يرجع لمهر الْمثل وَلَا يَكْفِي الشَّاهِد بالاستفاضة أَن يَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ كَذَا وَإِن كَانَت(2/639)
شَهَادَته مَبْنِيَّة عَلَيْهَا بل يَقُول أشهد أَنه لَهُ أَو أَنه ابْنه مثلا لِأَنَّهُ قد يعلم خلاف مَا سمع من النَّاس وَلَو صرح بذلك لم تقبل شَهَادَته على الْأَصَح لِأَن ذكره يشْعر بِعَدَمِ جزمه بِالشَّهَادَةِ وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل حمل هَذَا على مَا إِذا ظهر بِذكرِهِ تردد فِي الشَّهَادَة فَإِن ذكره لتقوية أَو حِكَايَة حَال قبلت شَهَادَته
وَهُوَ ظَاهر وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول أشهد أَن فُلَانَة ولدت فلَانا وَأَن فلَانا أعتق فلَانا لما مر أَنه يشْتَرط فِي الشَّهَادَة بِالْفِعْلِ الإبصار وبالقول الإبصار والسمع وَشرط الاستفاضة الَّتِي يسْتَند الشَّاهِد إِلَيْهَا فِي الْمَشْهُود بِهِ سَماع الْمَشْهُود بِهِ من جمع كثير يُؤمن توافقهم على الْكَذِب بِحَيْثُ يَقع الْعلم أَو الظَّن الْقوي بخبرهم
كَمَا ذكره الشَّيْخَانِ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة لِأَن الأَصْل فِي الشَّهَادَة اعْتِمَاد الْيَقِين وَإِنَّمَا يعدل عَنهُ عِنْد عدم الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَى ظن يقرب مِنْهُ على حسب الطَّاقَة
(و) الْموضع الرَّابِع (التَّرْجَمَة) إِذا اتَّخذهُ القَاضِي مترجما وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ وَهُوَ الْأَصَح فَتقبل شَهَادَته فِيهَا لِأَن التَّرْجَمَة تَفْسِير للفظ فَلَا يحْتَاج إِلَى مُعَاينَة وَإِشَارَة
وَقَوله (وَمَا شهد بِهِ قبل الْعَمى) سَاقِط فِي بعض النّسخ فَمن عد الْمَوَاضِع سِتَّة عد ذَلِك وَمن عدهَا خَمْسَة لم يعد ذَلِك وَمَعْنَاهُ أَن الْأَعْمَى لَو تحمل شَهَادَة فِيمَا يحْتَاج لِلْبَصَرِ قبل عرُوض الْعَمى لَهُ ثمَّ عمي بعد ذَلِك شهد بِمَا تحمله إِن كَانَ الْمَشْهُود لَهُ وَعَلِيهِ معروفي الِاسْم وَالنّسب لِإِمْكَان الشَّهَادَة عَلَيْهِمَا فَيَقُول أشهد أَن فلَان ابْن فلَان أقرّ لفُلَان ابْن فلَان بِكَذَا بِخِلَاف مجهولهما أَو أَحدهمَا أخذا من مَفْهُوم الشَّرْط نعم لَو عمي ويدهما أَو يَد الْمَشْهُود عَلَيْهِ فِي يَده
فَشهد عَلَيْهِ فِي الأولى مُطلقًا مَعَ تَمْيِيزه لَهُ من خَصمه وَفِي الثَّانِيَة بِالْمَعْرُوفِ الِاسْم وَالنّسب قبلت شَهَادَته
كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ فِي الأولى وَصرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة فِي الثَّانِيَة (و) الْموضع الْخَامِس أَو السَّادِس على مَا تقدم مَا تحمله (على المضبوط) عِنْده كَأَن يقر شخص فِي أُذُنه بِنَحْوِ طَلَاق أَو عتق أَو مَال لشخص مَعْرُوف الِاسْم وَالنّسب فَيتَعَلَّق الْأَعْمَى بِهِ ويضبطه حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ بِمَا سمع مِنْهُ عِنْد قَاض بِهِ فَتقبل على الصَّحِيح لحُصُول الْعلم بِأَنَّهُ الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَله أَن يطَأ زَوجته اعْتِمَادًا على صَوتهَا للضَّرُورَة وَلِأَن الْوَطْء يجوز بِالظَّنِّ
وَلَا يجوز لَهُ أَن يشْهد على زَوجته اعْتِمَادًا على صَوتهَا كَغَيْرِهَا خلافًا لما بَحثه الْأَذْرَعِيّ من قبُول شَهَادَته عَلَيْهَا اعْتِمَادًا على ذَلِك
(وَلَا تقبل شَهَادَة جَار لنَفسِهِ نفعا) فَترد شَهَادَته لعَبْدِهِ سَوَاء أَكَانَ مَأْذُونا لَهُ أم لَا
ومكاتبه لِأَن لَهُ فِيهِ علقَة نعم لَو شهد بشرَاء شقص لمشتريه وَفِيه شُفْعَة لمكاتبه قبلت
ولغريم لَهُ ميت وَإِن لم تستغرق تركته الدُّيُون أَو عَلَيْهِ حجر فلس لِأَنَّهُ إِذا أثبت للْغَرِيم شَيْئا أثبت لنَفسِهِ الْمُطَالبَة بِهِ وَترد شَهَادَته أَيْضا بِمَا هُوَ ولي أَو وَصِيّ أَو وَكيل فِيهِ وَلَو بِدُونِ جعل لِأَنَّهُ يثبت لنَفسِهِ سلطنة التَّصَرُّف وببراءة(2/640)
من ضمنه بأَدَاء أَو إِبْرَاء لِأَنَّهُ يدْفع بِهِ الْغرم عَن نَفسه وبجراحة مُوَرِثه قبل اندمالها لِأَنَّهُ لَو مَاتَ كَانَ الْأَرْش لَهُ وَلَو شهد لموروث لَهُ مَرِيض أَو جريح بِمَال قبل الِانْدِمَال قبلت شَهَادَته
وَالْفرق بَين هَذِه وَالَّتِي قبلهَا أَن الْجراحَة سَبَب للْمَوْت النَّاقِل للحق إِلَيْهِ بِخِلَاف المَال
وَاحْتج لمنع قبُول الشَّهَادَة فِي ذَلِك وَأَمْثَاله
بقوله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} والريبة حَاصِلَة هُنَا
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة خصم وَلَا ظنين والظنين الْمُتَّهم (و) لهَذَا (لَا) تقبل شَهَادَة (دَافع عَنْهَا) أَي عَن نَفسه (ضَرَرا) كَشَهَادَة عَاقِلَة بفسق شُهُود قتل يحملونه من خطأ أَو شبه عمد وَشَهَادَة غُرَمَاء مُفلس بفسق شُهُود دين آخر ظهر عَلَيْهِ لأَنهم يدْفَعُونَ بهَا ضَرَر الْمُزَاحمَة
تَتِمَّة لَا تقبل شَهَادَة مُغفل لَا يضْبط أصلا وَلَا غَالِبا لعدم الوثوق بقوله أما من لَا يضْبط نَادرا والأغلب فِيهِ الْحِفْظ والضبط فَتقبل شَهَادَته قطعا لِأَن أحدا لَا يسلم من ذَلِك وَمن تعادل غلطه وَضَبطه فَالظَّاهِر أَنه كمن غلب غلطه وَلَا شَهَادَة مبادر بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يستشهد للتُّهمَةِ وَلخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يَجِيء قوم يشْهدُونَ وَلَا يستشهدون فَإِن ذَلِك فِي مقَام الذَّم لَهُم وَأما خبر مُسلم أَلا أخْبركُم بِخَير الشُّهُود الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يسْأَلهَا فَمَحْمُول على شَهَادَة الْحِسْبَة
وَهِي مَأْخُوذَة من الاحتساب وَهُوَ طلب الْأجر فَتقبل سَوَاء أسبقها دَعْوَى أم لَا وَسَوَاء أَكَانَت فِي غيبَة الْمَشْهُود عَلَيْهِ أم لَا وَهِي كَغَيْرِهَا من الشَّهَادَات فِي شُرُوطهَا السَّابِقَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى المتمحضة كَصَلَاة وَزَكَاة وَصَوْم بِأَن يشْهد بِتَرْكِهَا وَفِيمَا لله تَعَالَى فِيهِ حق مُؤَكد كَطَلَاق وَعتق وعفو عَن قصاص وَبَقَاء عدَّة وانقضائها وحد لله تَعَالَى بِأَن يشْهد بِمُوجب ذَلِك وَالْمُسْتَحب ستره إِذا رأى الْمصلحَة فِيهِ وإحصان وتعديل وَكَفَّارَة وبلوغ وَكفر وَإِسْلَام وَتَحْرِيم مصاهرة وَثُبُوت نسب وَوَصِيَّة
ووقف إِذا عَمت جهتهما وَلَو أخرت الْجِهَة الْعَامَّة فَيدْخل نَحْو مَا أفتى بِهِ الْبَغَوِيّ من أَنه لَو وقف دَارا على أَوْلَاده ثمَّ الْفُقَرَاء فاستولى عَلَيْهَا ورثته وتملكوها فَشهد شَاهِدَانِ حسبَة قبل انْقِرَاض أَوْلَاده بوقفيتها قبلت شَهَادَتهمَا لِأَن آخِره وقف على الْفُقَرَاء لَا إِن خصت جهتهما فَلَا تقبل شَهَادَتهمَا لتعلقهما بِحُقُوق خَاصَّة
وَخرج بِحُقُوق الله تَعَالَى حُقُوق الْآدَمِيّين كَالْقصاصِ وحد الْقَذْف والبيوع والأقارير لَكِن إِذا لم يعلم صَاحب الْحق بِهِ أعلمهُ الشَّاهِد بِهِ ليستشهده بعد الدَّعْوَى
وَإِنَّمَا تسمع شَهَادَة الْحِسْبَة عِنْد الْحَاجة إِلَيْهَا فَلَو شهد اثْنَان أَن فلَانا أعتق عَبده أَو أَنه أَخُو فُلَانَة من الرَّضَاع لم يكف حَتَّى يَقُولَا إِنَّه يسترقه أَو أَنه يُرِيد نِكَاحهَا وَكَيْفِيَّة شَهَادَة الْحِسْبَة أَن الشُّهُود يجيئون إِلَى القَاضِي وَيَقُولُونَ نَحن نشْهد على فلَان بِكَذَا فَأحْضرهُ لنشهد عَلَيْهِ فَإِن ابتدأوا وَقَالُوا فلَان زنى فهم قذفة
وَمَا تقبل فِيهِ شَهَادَة الْحِسْبَة هَل تسمع فِيهِ دَعْوَاهَا وَجْهَان أوجههمَا كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري تبعا للإسنوي وَنسبه الإِمَام للعراقيين لَا تسمع لِأَنَّهُ لَا حق للْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُود بِهِ وَمن لَهُ الْحق لم يَأْذَن فِي الطّلب وَالْإِثْبَات بل أَمر فِيهِ الْإِعْرَاض وَالدَّفْع مَا أمكن
وَالْوَجْه الثَّانِي وَرجحه البُلْقِينِيّ أَنَّهَا تسمع وَيجب حمله على غير حُدُود الله تَعَالَى
وَلذَا فصل بعض الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ إِنَّهَا تسمع فِي مَحْض حُدُود الله تَعَالَى(2/641)
كتاب الْعتْق
بِمَعْنى الْإِعْتَاق وَهُوَ لُغَة مَأْخُوذ من قَوْلهم عتق الْفرس إِذا سبق وَعتق الفرخ إِذا طَار واستقل فَكَأَن العَبْد إِذا فك من الرّقّ تخلص واستقل وَشرعا إِزَالَة ملك عَن آدَمِيّ لَا إِلَى مَالك تقربا إِلَى الله تَعَالَى وَخرج بالآدمي والبهيمة فَلَا يَصح عتقهما
كَمَا فِي زَوَايَا الخبايا عَن الرَّافِعِيّ أَو ملك طائرا وَأَرَادَ إرْسَاله فَوَجْهَانِ أصَحهمَا الْمَنْع لِأَنَّهُ فِي معنى السوائب
وَالْأَصْل فِي مشروعيته قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فك رَقَبَة} وَقَوله تَعَالَى {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ} أَي بِالْإِسْلَامِ {وأنعمت عَلَيْهِ} أَي بِالْعِتْقِ كَمَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ وَفِي غير مَوضِع فَتَحْرِير رَقَبَة
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا من أَعْضَائِهِ من النَّار حَتَّى الْفرج بالفرج وَفِي سنَن أبي دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من أعتق رَقَبَة مُؤمنَة كَانَت فداءه من النَّار وخصت الرَّقَبَة بِالذكر فِي هذَيْن الْخَبَرَيْنِ لِأَن ملك السَّيِّد الرَّقِيق كالغل فِي رقبته فَهُوَ محتبس بِهِ كَمَا تحبس الدَّابَّة بالحبل فِي عُنُقهَا فَإِذا أعْتقهُ أطلقهُ من ذَلِك الغل الَّذِي كَانَ فِيهِ رقبته وَقَوله حَتَّى الْفرج بالفرج خصّه بِالذكر إِمَّا لِأَن ذَنبه فَاحش وَإِمَّا لِأَنَّهُ قد يخْتَلف من الْمُعْتق وَالْمُعتق
فَائِدَة أعتق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا وَسِتِّينَ نسمَة وعاش ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة وأعتقت السيدة عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تسعا وَسِتِّينَ(2/642)
وَعَاشَتْ كَذَلِك وَأعْتق عبد الله بن عمر ألفا وَأعْتق حَكِيم بن حزَام مائَة مطوقين بِالْفِضَّةِ وَأعْتق ذُو الكراع الْحِمْيَرِي فِي يَوْم ثَمَانِيَة آلَاف وَأعْتق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ثَلَاثِينَ ألفا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وحشرنا مَعَهم آمين
وأركانه ثَلَاثَة مُعتق وعتيق وَصِيغَة وَقد شرع فِي الرُّكْن الأول فَقَالَ (وَيصِح الْعتْق من كل مَالك) للرقبة (جَائِز التَّصَرُّف فِي ملكه) أهل للتبرع وَالْوَلَاء مُخْتَار وَمن وَكيل أَو ولي فِي كَفَّارَة لَزِمت موليه فَلَا يَصح من غير مَالك بِلَا إِذن وَلَا من غير مُطلق التَّصَرُّف من صبي وَمَجْنُون ومحجور عَلَيْهِ بِسَفَه أَو فلس وَلَا من مبعض ومكاتب ومكره بِغَيْر حق وَيتَصَوَّر الْإِكْرَاه بِحَق فِي البيع بِشَرْط الْعتْق وَيصِح من سَكرَان وَمن كَافِر وَلَو حَرْبِيّا وَيثبت وَلَاؤُه على عتيقه الْمُسلم سَوَاء أعْتقهُ مُسلما أَو كَافِرًا ثمَّ أسلم وَلَا يَصح عتق مَوْقُوف لِأَنَّهُ غير مَمْلُوك وَلِأَن ذَلِك يبطل بِهِ حق بَقِيَّة الْبُطُون وَيصِح مُعَلّقا بِصفة مُحَققَة الْوُقُوع وَغَيرهَا
كالتدبير لما فِيهِ من التَّوسعَة لتَحْصِيل الْقرْبَة وَإِذا علق الْإِعْتَاق على صفة لم يملك الرُّجُوع فِيهِ بالْقَوْل
ويملكه بِالتَّصَرُّفِ كَالْبيع وَنَحْوه
وَلَو بَاعه ثمَّ اشْتَرَاهُ لم تعد الصّفة وَلَو علقه على صفة بعد الْمَوْت ثمَّ مَاتَ السَّيِّد لم تبطل الصّفة وَيصِح مؤقتا وَيَلْغُو التَّأْقِيت
والركن الثَّانِي الْعَتِيق وَيشْتَرط فِيهِ أَن لَا يتَعَلَّق بِهِ حق لَازم غير عتق يمْنَع بَيْعه كمستولدة ومؤجر بِخِلَاف مَا تعلق بِهِ ذَلِك كرهن على تَفْصِيل مر بَيَانه
وَهَذَا الرُّكْن لم يذكرهُ المُصَنّف
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّالِث وَهُوَ الصِّيغَة وَهِي إِمَّا صَرِيح وَإِمَّا كِنَايَة وَقد شرع فِي الْقسم الأول بقوله (وَيَقَع الْعتْق) أَي ينفذ (بِصَرِيح) لفظ (الْعتْق والتحرير) وَمَا تصرف مِنْهُمَا كَأَنْت عَتيق أَو مُعتق أَو مُحَرر أَو حررتك لورودهما فِي الْقُرْآن وَالسّنة متكررين وَيَسْتَوِي فِي ألفاظهما الهازل واللاعب لِأَن هزلهما جد كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره
وَكَذَا {فك رَقَبَة} وَمَا تصرف مِنْهُ كمفكوك الرَّقَبَة صَرِيح فِي الْأَصَح لوروده فِي الْقُرْآن
فروع لَو كَانَ اسْم أمته قبل إرقاقها حرَّة فسميت بِغَيْرِهِ
فَقَالَ لَهَا يَا حرَّة عتقت إِن لم يقْصد النداء باسمها الْقَدِيم فَإِن كَانَ اسْمهَا فِي الْحَال حرَّة لم تعْتق إِلَّا إِن قصد الْعتْق
وَلَو أقرّ بحريّة رَقِيقه خوفًا من أَخذ المكس عَنهُ إِذا طَالبه المكاس بِهِ وَقصد(2/643)
الْإِخْبَار بِهِ لم يعْتق بَاطِنا وَلَو قَالَ لامْرَأَة زاحمته تأخري يَا حرَّة فَبَانَت أمته لم تعْتق وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ افرغ من عَمَلك وَأَنت حر
وَقَالَ أردْت حرا من الْعَمَل لم يقبل ظَاهرا ويدين وَلَو قَالَ الله أعتقك عتق أَو أعتقك الله فَكَذَلِك
كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام الشَّيْخَيْنِ
وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر مثل هَذَا العَبْد وَأَشَارَ إِلَى عبد آخر لَهُ لم يعْتق ذَلِك العَبْد كَمَا بَحثه النَّوَوِيّ لِأَن وَصفه بِالْعَبدِ يمْنَع عتقه وَيعتق الْمُخَاطب فَإِن قَالَ مثل هَذَا وَلم يقل العَبْد عتقا كَمَا صَوبه النَّوَوِيّ
وَإِن قَالَ الْإِسْنَوِيّ إِنَّمَا يعْتق الأول فَقَط
وَلَو قَالَ السَّيِّد لرجل أَنْت تعلم أَن عَبدِي حر عتق بِإِقْرَارِهِ وَإِن لم يكن الْمُخَاطب عَالما بحريَّته لَا إِن قَالَ لَهُ أَنْت تظن أَو ترى والصريح لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة لإيقاعه كَسَائِر الصرائح لِأَنَّهُ لَا يفهم مِنْهُ غَيره عِنْد الْإِطْلَاق فَلم يحْتَج لتقويته بِالنِّيَّةِ وَلِأَن هزله جد كَمَا مر فَيَقَع الْعتْق وَإِن لم يقْصد إِيقَاعه أما قصد الصَّرِيح لمعناه فَلَا بُد مِنْهُ ليخرج أعجمي تلفظ بِالْعِتْقِ وَلم يعرف مَعْنَاهُ
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ الْكِنَايَة بقوله
(و) يَقع الْعتْق أَيْضا بِلَفْظ (الْكِنَايَة) وَهُوَ مَا احْتمل الْعتْق وَغَيره كَقَوْلِه لَا ملك لي عَلَيْك لَا سُلْطَان لي عَلَيْك لَا سَبِيل لي عَلَيْك لَا خدمَة لي عَلَيْك أَنْت سائبة أَنْت مولَايَ وَنَحْو ذَلِك كأزلت ملكي أَو حكمي عَنْك لإشعار مَا ذكر بِإِزَالَة الْملك مَعَ احْتِمَال غَيره وَلذَلِك قَالَ المُصَنّف (مَعَ النِّيَّة) أَي لَا بُد من نِيَّة وَإِن احتف بهَا قرينَة لاحتمالها غير الْعتْق فَلَا بُد من نِيَّة الْعتْق التَّمْيِيز كالإمساك فِي الصَّوْم
تَنْبِيه يشْتَرط أَن يَأْتِي بِالنِّيَّةِ قبل فَرَاغه من لفظ الْكِنَايَة كَمَا مر ذَلِك فِي الطَّلَاق بِالْكِنَايَةِ وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ يَا سَيِّدي هَل هُوَ كِنَايَة أَو لَا وَجْهَان رجح الإِمَام أَنه كِنَايَة وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَهُوَ الظَّاهِر وَرجح القَاضِي وَالْغَزالِيّ أَنه لَغْو لِأَنَّهُ من السؤدد وتدبير الْمنزل وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعتْق وَصِيغَة طَلَاق أَو ظِهَار صَرِيحه كَانَت أَو كِنَايَة كِنَايَة هُنَا أَي فِيمَا هُوَ صَالح فِيهِ بِخِلَاف قَوْله للْعَبد اعْتد أَو استبرىء رَحِمك أَو لرقيقه أَنا مِنْك حر فَلَا ينفذ بِهِ الْعتْق وَلَو نَوَاه وَلَا يضر خطأ بتذكير أَو تَأْنِيث فَقَوله لعَبْدِهِ أَنْت حرَّة ولأمته أَنْت حر صَرِيح وَتَصِح إِضَافَة الْعتْق إِلَى جُزْء من الرَّقِيق كَمَا قَالَ (فَإِذا أعتق) الْمَالِك (بعض عبد) معِين كَيده أَو شَائِع مِنْهُ كربعه (عتق جَمِيعه) سرَايَة كَنَظِيرِهِ فِي الطَّلَاق وَسَوَاء الْمُوسر وَغَيره
لما روى النَّسَائِيّ أَن رجلا أعتق شِقْصا من غُلَام فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأجَاز عتقه وَقَالَ لَيْسَ لله شريك هَذَا إِذا كَانَ بَاقِيه لَهُ
فَإِن كَانَ بَاقِيه لغيره فقد ذكره بقوله (وَإِن أعتق شركا) بِكَسْر الشين أَي نَصِيبا مُشْتَركا (لَهُ فِي عبد) سَوَاء كَانَ شَرِيكه مُسلما أم لَا كثر نصِيبه أم قل (وَهُوَ مُوسر يسري الْعتْق) مِنْهُ بِمُجَرَّد تلفظه بِهِ (إِلَى بَاقِيه) من غير توقف على أَدَاء الْقيمَة
تَنْبِيه المُرَاد بِكَوْنِهِ مُوسِرًا أَن يكون مُوسِرًا بِقِيمَة حِصَّة شَرِيكه فَاضلا ذَلِك عَن قوته وقوت من تلْزمهُ نَفَقَته فِي يَوْمه وَلَيْلَته
ودست ثوب يلْبسهُ وسكنى يَوْم على مَا سبق فِي الْفلس وَيصرف إِلَى ذَلِك كل مَا يُبَاع وَيصرف فِي الدُّيُون
(وَكَانَ عَلَيْهِ) بِمُجَرَّد السَّرَايَة (قيمَة نصيب شَرِيكه) يَوْم الْإِعْتَاق لِأَنَّهُ وَقت الْإِتْلَاف فَإِن أيسر بِبَعْض حِصَّته سرى إِلَى مَا أيسر بِهِ من نصيب شَرِيكه
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر الصَّحِيحَيْنِ من أعتق شركا لَهُ فِي عبد وَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم العَبْد عَلَيْهِ قيمَة عدل فَأعْطى شركاءه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد وَإِلَّا فقد عتق عَلَيْهِ مِنْهُ مَا عتق وَفِي رِوَايَة وَمن أعتق شركا لَهُ فِي عبد وَكَانَ لَهُ مَال يبلغ قيمَة العَبْد(2/644)
فَهُوَ عَتيق وَاحْترز بِقَيْد يسَاره عَن إِعْسَاره فَإِنَّهُ لَا يسري بل الْبَاقِي ملك لشَرِيكه وَيعتق نصِيبه فَقَط
وَالِاعْتِبَار باليسار بِحَالَة الْإِعْتَاق فَلَو أعتق وَهُوَ مُعسر ثمَّ أيسر فَلَا تَقْوِيم كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة وَقَضِيَّة إِطْلَاق التَّقْوِيم شُمُوله مَا لَو كَانَ عَلَيْهِ دين بِقَدرِهِ وَهُوَ كَذَلِك على الْأَظْهر عِنْد الْأَكْثَرين كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَنَّهُ مَالك لما فِي يَده نَافِذ تصرفه فِيهِ وَلِهَذَا لَو اشْترى بِهِ عبدا وَأعْتقهُ نفذ وَيسْتَثْنى من السَّرَايَة مَا لَو كَانَ نصيب الشَّرِيك مستولدا بِأَن اسْتَوْلدهَا وَهُوَ مُعسر فَلَا سرَايَة فِي الْأَصَح لِأَن السَّرَايَة تَتَضَمَّن النَّقْل وَيجْرِي الْخلاف فِيمَا لَو اسْتَوْلدهَا أَحدهمَا وَهُوَ مُعسر ثمَّ اسْتَوْلدهَا الآخر ثمَّ أعْتقهَا أَحدهمَا وَلَو كَانَت حِصَّة الَّذِي لم يعْتق مَوْقُوفَة لم يسر الْعتْق إِلَيْهَا قولا وَاحِدًا كَمَا قَالَه فِي الْكِفَايَة وَيسْتَثْنى صُورَتَانِ لَا تَقْوِيم فيهمَا على الْمُعْتق مَعَ يسَاره الأولى مَا إِذا وهب الأَصْل لفرعه شِقْصا من رَقِيق وَقَبضه ثمَّ أعتق الأَصْل مَا بَقِي فِي ملكه فَإِنَّهُ يسري إِلَى نصيب الْفَرْع مَعَ الْيَسَار وَلَا قيمَة عَلَيْهِ على الرَّاجِح
وَالثَّانيَِة مَا لَو بَاعَ شِقْصا من رَقِيق ثمَّ حجر على المُشْتَرِي بالفلس فَأعتق البَائِع نصِيبه فَإِنَّهُ يسري إِلَى الْبَاقِي الَّذِي لَهُ الرُّجُوع فِيهِ بِشَرْط الْيَسَار وَلَا قيمَة عَلَيْهِ لِأَن عتقه صَادف مَا كَانَ لَهُ أَن يرجع فِيهِ
وَلَو كَانَ رَقِيق بَين ثَلَاثَة فَأعتق اثْنَان مِنْهُم نصيبهما مَعًا وَأَحَدهمَا مُعسر وَالْآخر مُوسر قوم جَمِيع نصيب الَّذِي لم يعْتق على هَذَا الْمُوسر كَمَا قَالَه الشَّيْخَانِ وَالْمَرِيض مُعسر إِلَّا فِي ثلثه مَاله فَإِذا أعتق نصِيبه من رَقِيق مُشْتَرك فِي مرض مَوته فَإِن خرج جَمِيع العَبْد من ثلثه مَاله قوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه وَعتق جَمِيعه
وَإِن لم يخرج إِلَّا نصِيبه عتق بِلَا سرَايَة وَلَا تخْتَص السَّرَايَة بِالْإِعْتَاقِ وَحِينَئِذٍ استيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْمُوسر الْأمة الْمُشْتَركَة بَينهمَا يسري إِلَى نصيب شَرِيكه كَالْعِتْقِ بل أولى مِنْهُ بالنفوذ لِأَنَّهُ فعل وَهُوَ أقوى من القَوْل وَلِهَذَا ينفذ استيلاد الْمَجْنُون والمحجور عَلَيْهِ دون عتقهما وإيلاد الْمَرِيض من رَأس المَال وإعتاقه من الثُّلُث وَخرج بالموسر الْمُعسر فَلَا يسري استيلاده كَالْعِتْقِ نعم إِن كَانَ الشَّرِيك المستولد أصلا لشَرِيكه يسري كَمَا لَو استولد الْجَارِيَة الَّتِي كلهَا لَهُ وَعَلِيهِ قيمَة نصيب شَرِيكه للإتلاف بِإِزَالَة ملكه وَعَلِيهِ أَيْضا حِصَّته من مهر مثل للاستمتاع بِملك غَيره مَعَ أرش الْبكارَة لَو كَانَت بكرا وَهَذَا إِن تَأَخّر الْإِنْزَال عَن تغييب الْحَشَفَة كَمَا هُوَ للْغَالِب وَإِلَّا فَلَا يلْزمه حِصَّة مهر لِأَن الْمُوجب لَهُ تغييب الْحَشَفَة فِي ملك غَيره وَهُوَ مُنْتَفٍ
وشروط سرَايَة الْعتْق أَرْبَعَة الأول إِعْتَاق الْمَالِك وَلَو بنائبه بِاخْتِيَارِهِ كشرائه جُزْء أَصله وَلَيْسَ المُرَاد بِالِاخْتِيَارِ مُقَابل الْإِكْرَاه بل المُرَاد السَّبَب فِي الاعتاق وَلَا يَصح الِاحْتِرَاز بِالِاخْتِيَارِ عَن الْإِكْرَاه لِأَن الْكَلَام فِيمَا يعْتق فِيهِ الشّقص وَالْإِكْرَاه لَا عتق فِيهِ وَخرج بِالِاخْتِيَارِ مَا لَو ورث بعض فَرعه أَو أَصله فَإِنَّهُ لم يسر عَلَيْهِ الْعتْق إِلَى بَاقِيه لِأَن التَّقْوِيم سَبيله سَبِيل ضَمَان الْمُتْلفَات وَعند انْتِفَاء الِاخْتِيَار لَا صنع مِنْهُ يعد إتلافا
الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون لَهُ يَوْم الْإِعْتَاق مَال يَفِي بِقِيمَة الْبَاقِي أَو بعضه كَمَا مر
الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون محلهَا قَابلا للنَّقْل فَلَا(2/645)
سرَايَة فِي نصيب حكم بالاستيلاد فِيهِ وَلَا إِلَى الْحصَّة الْمَوْقُوفَة وَلَا إِلَى الْمَنْذُور إِعْتَاقه
الشَّرْط الرَّابِع أَن يعْتق نصِيبه ليعتق أَولا ثمَّ يسري الْعتْق إِلَى نصيب شَرِيكه فَلَو أعتق نصيب شَرِيكه لَغَا إِذْ لَا ملك وَلَا تَبَعِيَّة فَلَو أعتق نصِيبه بعد ذَلِك سرى إِلَى حِصَّة شَرِيكه وَلَو أعتق نصف الْمُشْتَرك وَأطلق حمل على ملكه فَقَط لِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يعْتق مَا يملكهُ كَمَا جزم بِهِ صَاحب الْأَنْوَار (وَمن ملك وَاحِدًا من وَالِديهِ أَو مولوديه) من النّسَب بِكَسْر الدَّال فيهمَا ملكا قهريا كَالْإِرْثِ أَو اختياريا كالشراء وَالْهِبَة
(وَعتق عَلَيْهِ) أما الْأُصُول فَلقَوْله تَعَالَى {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} وَلَا يتأنى خفض الْجنَاح مَعَ الاسترقاق وَلما فِي صَحِيح مُسلم لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه أَي بِالشِّرَاءِ لَا أَن الْوَلَد هُوَ الْمُعْتق بإنشائه الْعتْق كَمَا فهمه دَاوُد الظَّاهِرِيّ بِدَلِيل رِوَايَة فَيعتق عَلَيْهِ وَأما الْفُرُوع فَلقَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} دلّ على نفي اجْتِمَاع الولدية والعبدية
تَنْبِيه شَمل قَوْله وَالِديهِ أَو مولوديه الذُّكُور مِنْهُمَا وَالْإِنَاث علوا أَو سفلوا اتَّحد دينهما أم لَا لِأَنَّهُ حكم مُتَعَلق بِالْقَرَابَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ من ذَكرْنَاهُ وَخرج من عداهما من الْأَقَارِب كالإخوة والأعمام فَإِنَّهُم لَا يعتقون بِالْملكِ لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ نَص وَلَا هُوَ فِي معنى مَا ورد فِيهِ النَّص لانْتِفَاء البعضية عَنهُ وَأما خبر من ملك ذَا رحم فقد عتق عَلَيْهِ فضعيف بل قَالَ النَّسَائِيّ إِنَّه مُنكر وَخرج بقولنَا من النّسَب أَصله أَو فَرعه من الرَّضَاع فَإِنَّهُ لَا يعْتق عَلَيْهِ
تَتِمَّة لَا يَصح شِرَاء الْوَلِيّ لطفل أَو مَجْنُون أَو سَفِيه قَرِيبه الَّذِي يعْتق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَصَرَّف عَلَيْهِ بالغبطة وَلَا غِبْطَة لِأَنَّهُ يعْتق عَلَيْهِ وَلَو وهب لمن ذكر أَو وصّى لَهُ بِهِ وَلم تلْزمهُ نَفَقَته كَأَن كَانَ هُوَ مُعسرا أَو فَرعه كسوبا فعلى الْوَلِيّ قبُوله وَيعتق على موليه لانْتِفَاء الضَّرَر وَحُصُول الْكَمَال للْبَعْض فَإِن لَزِمته نَفَقَته لم يجز للْوَلِيّ قبُوله وَلَو ملك أَصله أَو فَرعه فِي مرض مَوته مجَّانا كَأَن وَرثهُ أَو وهب لَهُ عتق عَلَيْهِ من رَأس المَال لِأَن الشَّرْع أخرجه عَن ملكه فَكَأَنَّهُ لم يدْخل وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
كَمَا صَححهُ فِي الرَّوْضَة كالشرحين وَإِن صحّح فِي الْمِنْهَاج أَنه يعْتق من ثلثه وَإِن ملكه بعوض بِلَا مُحَابَاة عتق من ثلثه لِأَنَّهُ فَوت على الْوَرَثَة مَا بذلوه من الثّمن وَلَا يَرِثهُ لِأَنَّهُ لَو وَرثهُ لَكَانَ عتقه تَبَرعا على الْوَرَثَة فَيبْطل لتعذر إِجَازَته لتوقفها على إِرْثه المتوقف على عتقه المتوقف عَلَيْهَا فَيتَوَقَّف كل من إِجَازَته وإرثه على الآخر فَيمْتَنع إِرْثه فَإِن كَانَ الْمَرِيض مدينا بدين مُسْتَغْرق لمَاله عِنْد مَوته بيع للدّين وَلَا يعْتق مِنْهُ شَيْء لِأَن عتقه يعْتَبر من الثُّلُث وَالدّين يمْنَع مِنْهُ وَإِن ملكه بعوض بمحاباة من البَائِع فقدرها كملكه مجَّانا فَيكون من رَأس المَال(2/646)
وَالْبَاقِي من الثُّلُث وَلَو وهب لرقيق جُزْء بعض سَيّده فَقبل عتق قَالَ فِي الْمِنْهَاج وسرى وعَلى سَيّده قيمَة بَاقِيَة لِأَن الْهِبَة لَهُ هبة لسَيِّده
وَقَالَ فِي الرَّوْضَة يَنْبَغِي أَنه لَا يسري لِأَنَّهُ دخل فِي ملكه قهرا كَالْإِرْثِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر كَمَا اعْتَمدهُ البُلْقِينِيّ وَقَالَ مَا فِي الْمِنْهَاج وَجه ضَعِيف غَرِيب لَا يلْتَفت إِلَيْهِ
فصل فِي أَحْكَام الْوَلَاء
وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَالْمدّ لُغَة الْقَرَابَة مَأْخُوذَة من الْمُوَالَاة وَهِي المعاونة والمقاربة وَشرعا عصوبة سَببهَا زَوَال الْملك عَن الرَّقِيق بِالْحُرِّيَّةِ وَهِي متراخية عَن عصوبة النّسَب فيرث الْمُعْتق بهَا الْمُعْتق ويلي أَمر النِّكَاح وَالصَّلَاة وَيعْقل
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى {ومواليكم} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب أَي اخْتِلَاط كاختلاط النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب
واللحمة بِضَم اللَّام الْقَرَابَة
وَيجوز فتحهَا وَلَا يُورث بل يُورث بِهِ لِأَنَّهُ لَو ورث لاشترك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء كَسَائِر الْحُقُوق (وَالْوَلَاء من حُقُوق الْعتْق) اللَّازِمَة لَهُ فَلَا يَنْتَفِي بنفيه فَلَو اعتقه على أَن لَا وَلَاء لَهُ عَلَيْهِ أَو أَنه لغيره لَغَا الشَّرْط
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل قَضَاء الله أَحَق وَشَرطه أوثق إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق وَيثبت لَهُ الْوَلَاء سَوَاء أحصل الْعتْق مُنجزا أم بِصفة أم بِكِتَابَة بأَدَاء نُجُوم أم بتدبير أم باستيلاد أم بِقرَابَة كَأَن ورث قَرِيبه الَّذِي يعْتق عَلَيْهِ أَو ملكه بِبيع أَو هبة أَو وَصِيَّة أَو بشرَاء الرَّقِيق نَفسه فَإِنَّهُ عقد عتاقة أم ضمنا كَقَوْلِه لغيره أعتق عَبدك عني فَأَجَابَهُ أما وَلَاؤُه بِالْإِعْتَاقِ فللخبر السَّابِق وَأما بِغَيْرِهِ فبالقياس عَلَيْهِ أما إِذا أعتق غَيره عَبده عَنهُ بِغَيْر إِذْنه فَإِنَّهُ يَصح أَيْضا لَكِن لَا يثبت لَهُ الْوَلَاء
وَإِنَّمَا يثبت للْمَالِك الْمُعْتق خلافًا لما وَقع فِي أصل الرَّوْضَة من أَنه يثبت لَهُ لَا للْمَالِك وَاسْتثنى من ذَلِك مَا لَو أقرّ بحريّة عبد ثمَّ اشْتَرَاهُ فَإِنَّهُ يعْتق عَلَيْهِ وَلَا يكون وَلَاؤُه لَهُ بل هُوَ مَوْقُوف لِأَن الْملك بِزَعْمِهِ لم يثبت لَهُ وَإِنَّمَا عتق مُؤَاخذَة لَهُ بقوله وَمَا لَو أعتق الْكَافِر كَافِرًا فلحق الْعَتِيق بدار الْحَرْب واسترق ثمَّ أعْتقهُ السَّيِّد الثَّانِي فولاؤه للثَّانِي وَمَا لَو أعتق الإِمَام عبدا من عبيد بَيت المَال فَإِنَّهُ يثبت الْوَلَاء عَلَيْهِ للْمُسلمين لَا للْمُعْتق
تَنْبِيه يثبت الْوَلَاء للْكَافِرِ على الْمُسلم كَعَكْسِهِ وَإِن لم يتوارثا كَمَا تثبت علقَة النِّكَاح وَالنّسب بَينهمَا وَإِن لم يتوارثا وَلَا(2/647)
يثبت الْوَلَاء بِسَبَب آخر غير الْإِعْتَاق كلإسلام شخص على يَد غَيره وَحَدِيث من أسلم على يَد رجل فَهُوَ أَحَق النَّاس بمحياه ومماته قَالَ البُخَارِيّ اخْتلفُوا فِي صِحَّته وكالتقاطه وَحَدِيث تحوز الْمَرْأَة ثَلَاثَة مَوَارِيث عتيقها ولقيطها وَوَلدهَا الَّذِي لاعنت عَلَيْهِ ضعفه الشَّافِعِي وَغَيره (وَحكمه) أَي الْإِرْث بِالْوَلَاءِ (حكم التَّعْصِيب) بِالنّسَبِ فِي أَرْبَعَة أَحْكَام الْمُتَقَدّم فِي صَلَاة الْجِنَازَة وَالْإِرْث بِهِ وَولَايَة التَّزْوِيج وَتحمل الدِّيَة
(عِنْد عَدمه) أَي التَّعْصِيب بِالنّسَبِ وَإِنَّمَا قدم النّسَب لقُوته (وينتقل) الْوَلَاء (عَن الْمُعْتق) بعد مَوته (إِلَى الذُّكُور من عصبته) أَي الْمُعْتق المتعصبين بِأَنْفسِهِم دون سَائِر الْوَرَثَة وَمن يعصبهم العاصب لِأَنَّهُ لَا يُورث كَمَا مر فَلَو انْتقل إِلَى غَيرهم لَكَانَ موروثا
تَنْبِيه ظَاهر كَلَامه أَن الْوَلَاء لَا يثبت للعاصب مَعَ وجود الْمُعْتق وَلَيْسَ مرَادا بل يثبت لَهُم فِي حَيَاته والمتأخر لَهُم عَنهُ إِنَّمَا هُوَ فَوَائده
وَلَا تَرث امْرَأَة بولاء إِلَّا من عتيقها للْخَبَر السَّابِق أَو منتميا إِلَيْهِ بِنسَب أَو وَلَاء فَإِن عتق عَلَيْهَا أَبوهَا كَأَن اشترته ثمَّ أعتق عبدا فَمَاتَ بعد موت الْأَب بِلَا وَارِث من النّسَب للْأَب وَالْعَبْد فَمَال الْعَتِيق للْبِنْت لَا لكَونهَا بنت مُعْتقه لما مر أَنَّهَا لَا تَرث بل لِأَنَّهَا مُعتقة الْمُعْتق وَمحل مِيرَاثهَا إِذا لم يكن للْأَب عصبَة
فَإِن كَانَ كأخ أَو ابْن عَم فميراث الْعَتِيق لَهُ وَلَا شَيْء لَهَا لِأَن مُعتق الْمُعْتق مُتَأَخّر من عصوبة النّسَب
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ سَمِعت بعض النَّاس يَقُول أَخطَأ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَرْبَعمِائَة قَاض فَقَالُوا إِن الْمِيرَاث للْبِنْت لأَنهم رأوها أقرب وَهِي عصبَة لَهُ بولائها عَلَيْهِ وَوجه الْغَفْلَة أَن الْمُقدم فِي الْوَلَاء الْمُعْتق ثمَّ عصبته ثمَّ مُعْتقه ثمَّ عصباته ثمَّ مُعتق مُعْتقه ثمَّ عصباته
وَهَكَذَا ووارث العَبْد هَا هُنَا عصبته فَكَانَ مقدما على مُعتق مُعْتقه
وَلَا شَيْء لَهَا مَعَ وجوده وَنسبَة غلط الْقُضَاة فِي هَذِه الصُّورَة حَكَاهُ الشَّيْخَانِ
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَالَّذِي حَكَاهُ الإِمَام عَن غلطهم فِيمَا إِذا اشْترى أَخ وَأُخْت أباهما فَأعتق الْأَب عبدا وَمَات ثمَّ مَاتَ الْعَتِيق فَقَالُوا مِيرَاثه بَين الْأَخ وَالْأُخْت لِأَنَّهُمَا معتقا مُعْتقه وَهُوَ غلط وَإِنَّمَا الْمِيرَاث للْأَخ وَحده وَالْوَلَاء لأعلى الْعَصَبَات فِي الدرجَة والقرب مِثَاله ابْن الْمُعْتق مَعَ ابْن ابْنه فَلَو مَاتَ الْمُعْتق عَن ابْنَيْنِ أَو أَخَوَيْنِ فَمَاتَ أَحدهمَا وَخلف ابْنا فَالْولَاء لِعَمِّهِ دونه
وَإِن كَانَ هُوَ الْوَارِث لِأَبِيهِ فَلَو مَاتَ الآخر وَخلف تِسْعَة بَنِينَ فَالْولَاء بَين الْعشْرَة بِالسَّوِيَّةِ وَلَو أعتق عَتيق أَبَا مُعتقة فَلِكُل مِنْهُمَا الْوَلَاء على الآخر وَإِن أعتق أَجْنَبِي أُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب فاشترتا أباهما فَلَا وَلَاء لوَاحِدَة مِنْهُمَا على الْأُخْرَى
وَلَو أعتق كَافِر مُسلما وَله ابْن مُسلم وَابْن كَافِر ثمَّ مَاتَ الْعَتِيق بعد موت مُعْتقه فولاؤه للْمُسلمِ فَقَط
وَلَو أسلم الآخر قبل مَوته فولاؤه لَهما وَلَو مَاتَ فِي حَيَاة مُعتقة فميراثه لبيت المَال (وَلَا يجوز بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته) لِأَن الْوَلَاء كالنسب فَكَمَا لَا يَصح بيع النّسَب وَلَا هِبته فَكَذَلِك لَا يَصح بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْوَلَاء وهبته مُتَّفق عَلَيْهِ(2/648)
تَتِمَّة لَو نكح عبد مُعتقة فَأَتَت بِولد فولاؤه لموَالِي الْأُم لِأَنَّهُ الْمُنعم عَلَيْهِ فَإِنَّهُ عتق بِإِعْتَاق أمه فَإِذا عتق الْأَب انجر الْوَلَاء من موَالِي الْأُم إِلَى موَالِي الْأَب لِأَن الْوَلَاء فرع النّسَب وَالنّسب إِلَى الْآبَاء دون الإمهات وَإِنَّمَا ثَبت لموَالِي الْأُم لعدمه من جِهَة الْأَب فَإِذا أمكن عَاد إِلَى مَوْضِعه
وَمعنى الانجرار أَن يَنْقَطِع من وَقت عتق الْأَب عَن موَالِي الْأُم فَإِذا انجر إِلَى موَالِي الْأَب فَلم يبْق مِنْهُم أحد لم يرجع إِلَى موَالِي الْأُم بل يكون الْمِيرَاث لبيت المَال وَلَو مَاتَ الْأَب رَقِيقا وَعتق الْجد انجر الْوَلَاء من موَالِي الْأُم إِلَى موَالِي الْجد لِأَنَّهُ كَالْأَبِ فَإِن أعتق الْجد وَالْأَب رَقِيق انجر الْوَلَاء من موَالِي الْأُم إِلَى موَالِي الْجد أَيْضا
فَإِن أعتق الْأَب بعد الْجد انجر الْوَلَاء من موَالِي الْجد إِلَى موَالِي الْأَب لِأَن الْجد إِنَّمَا جَرّه لكَون الْأَب كَانَ رَقِيقا فَإِذا عتق كَانَ أولى بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ أقوى من الْجد فِي النّسَب وَلَو ملك هَذَا الْوَلَد الَّذِي وَلَاؤُه لموَالِي أمه أَبَاهُ جر وَلَاء إخْوَته لِأَبِيهِ من موَالِي أمّهم إِلَيْهِ وَلَا يجر وَلَاء نَفسه لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يكون لَهُ على نَفسه وَلَاء وَلِهَذَا لَو اشْترى العَبْد نَفسه أَو كَاتبه سَيّده وَأخذ النُّجُوم كَانَ الْوَلَاء عَلَيْهِ لسَيِّده كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ
فصل فِي التَّدْبِير
وَهُوَ لُغَة النّظر فِي عواقب الْأُمُور وَشرعا تَعْلِيق عتق بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ دبر الْحَيَاة فَهُوَ تَعْلِيق عتق بِصفة لَا وَصِيَّة وَلِهَذَا لَا يفْتَقر إِلَى إِعْتَاق بعد الْمَوْت وَلَفظه مَأْخُوذ من الدبر لِأَن الْمَوْت دبر الْحَيَاة وَكَانَ مَعْرُوفا فِي الْجَاهِلِيَّة فأقره الشَّرْع وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع خبر الصَّحِيحَيْنِ أَن رجلا دبر غُلَاما لَيْسَ لَهُ مَال غَيره فَبَاعَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتقريره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ وَعدم إِنْكَاره يدل على جَوَازه
(وأركانه ثَلَاثَة) صِيغَة وَمَالك وَمحل وَهُوَ الرَّقِيق وَشرط فِيهِ كَونه رَقِيقا غير أم ولد لِأَنَّهَا تسْتَحقّ الْعتْق بِجِهَة أقوى من التَّدْبِير
وَيشْتَرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بِهِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان وَهُوَ إِمَّا صَرِيح كَمَا يُؤْخَذ من قَوْله (وَمن قَالَ لعَبْدِهِ إِذا مت) أَنا (فَأَنت حر) أَعتَقتك أَو حررتك بعد موتِي أَو دبرتك أَو أَنْت مُدبر وَإِمَّا كِنَايَة وَهُوَ مَا يحْتَمل التَّدْبِير وَغَيره كخليت سَبِيلك أَو حسبتك بعد موتِي نَاوِيا الْعتْق
(فَهُوَ مُدبر) وَحكمه أَنه (يعْتق) عَلَيْهِ (بعد وَفَاته) أَي السَّيِّد محسوبا (من ثلث مَاله) بعد الدّين وَإِن وَقع التَّدْبِير فِي الصِّحَّة وَلَو استغرق الدّين التَّرِكَة لم يعْتق مِنْهُ شَيْء أَو نصفهَا وَهِي هُوَ فَقَط بيع نصفه فِي الدّين وَعتق ثلث الْبَاقِي مِنْهُ وَإِن لم يكن دين وَلَا مَال غَيره عتق ثلثه
فَائِدَة الْحِيلَة فِي عتق الْجَمِيع بعد الْمَوْت وَإِن لم يكن لَهُ مَال سواهُ أَن يَقُول هَذَا الرَّقِيق حر قبل مرض موتِي بِيَوْم وَإِن مت فَجْأَة فَقبل موتِي بِيَوْم فَإِذا مَاتَ بعد التعليقين بِأَكْثَرَ من يَوْم عتق من رَأس المَال وَلَا سَبِيل لأحد عَلَيْهِ وَيصِح التَّدْبِير مُقَيّدا بِشَرْط كَأَن مَاتَ فِي هَذَا الشَّهْر أَو الْمَرَض فَأَنت حر
فَإِن مَاتَ فِيهِ عتق وَإِلَّا فَلَا ومعلقا كَإِن دخلت الدَّار فَأَنت حر بعد موتِي فَإِن وجدت الصّفة وَمَات عتق وَإِلَّا فَلَا وَلَا يصير مُدبرا حَتَّى يدْخل وَشرط لحُصُول الْعتْق الدُّخُول قبل موت سَيّده فَإِن مَاتَ السَّيِّد قبل دُخُوله فَلَا تَدْبِير فَإِن قَالَ إِن مت ثمَّ دخلت الدَّار فَأَنت حر شَرط دُخُوله بعد مَوته وَلَو متراخيا عَن الْمَوْت وللوارث كَسبه قبل الدُّخُول
وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّف فِيهِ بِمَا يزِيل الْملك كَالْبيع لتَعلق حق الْعتْق بِهِ
كَقَوْلِه إِذا مت وَمضى شهر مثلا بعد موتِي فَأَنت حر فللوارث كَسبه فِي الشَّهْر وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّف فِيهِ بِمَا يزِيل الْملك وَهَذَا لَيْسَ بتدبير فِي الصُّورَتَيْنِ بل تَعْلِيق بِصفة لِأَن الْمُعَلق عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ(2/649)
الْمَوْت فَقَط وَلَا مَعَ شَيْء قبله
وَلَو قَالَ إِن شِئْت فَأَنت حر بعد موتِي اشْترط وُقُوع الْمَشِيئَة قبل الْمَوْت فَوْرًا فَإِن أَتَى بِصِيغَة نَحْو مَتى لم يشْتَرط الْفَوْر وَلَو قَالَا لعبدهما إِذا متْنا فَأَنت حر لم يعْتق حَتَّى يموتا مَعًا أَو مُرَتبا
فَإِن مَاتَ أَحدهمَا فَلَيْسَ لوَارِثه بيع نصِيبه لِأَنَّهُ صَار مُسْتَحقّ الْعتْق بِمَوْت الشَّرِيك وَله كَسبه ثمَّ عتقه بعد مَوْتهمَا مَعًا عتق تَعْلِيق بِصفة لَا عتق تَدْبِير لِأَن كلا مِنْهُمَا لم يعلقه بِمَوْتِهِ بل بِمَوْتِهِ وَمَوْت غَيره
وَفِي مَوْتهمَا مُرَتبا يصير نصيب الْمُتَأَخر موتا بِمَوْت الْمُتَقَدّم مُدبرا دون نصيب الْمُتَقَدّم وَيشْتَرط فِي الْمَالِك أَن يكون مُخْتَارًا وَعدم صبي وجنون فَيصح من سَفِيه ومفلس وَلَو بعد الْحجر عَلَيْهِمَا وَمن مبعض وَكَافِر وَلَو حَرْبِيّا لِأَن كلا مِنْهُم صَحِيح الْعبارَة وَالْملك وَمن سَكرَان لِأَنَّهُ كالمكلف حكما وتدبير مُرْتَد مَوْقُوف إِن أسلم بَانَتْ صِحَّته وَإِن مَاتَ مُرْتَدا بِأَن فَسَاده ولحربي حمل مدبره لداره لِأَن أَحْكَام الرّقّ بَاقِيَة وَلَو دبر كَافِر مُسلما بيع عَلَيْهِ إِن لم يزل ملكه عَنهُ أَو دبر كَافِر كَافِرًا فَأسلم نزع مِنْهُ وَجعل عِنْد عدل ولسيده كَسبه وَهُوَ بَاقٍ على تَدْبيره لَا يُبَاع عَلَيْهِ لتوقع الْحُرِّيَّة
(وَيجوز لَهُ) أَي للسَّيِّد الْجَائِز التَّصَرُّف (أَن يَبِيعهُ) أَي الْمُدبر أَو يَهبهُ ويقبضه وَنَحْو ذَلِك من أَنْوَاع التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك
(فِي حَال حَيَاته) كَمَا قبل التَّدْبِير (وَيبْطل تَدْبيره) بإزالته ملكه عَنهُ للْخَبَر السَّابِق فَلَا يعود وَإِن ملكه بِنَاء على عدم عود الْحِنْث فِي الْيَمين وَخرج بجائز التَّصَرُّف السَّفِيه فَإِنَّهُ لَا يَصح بَيْعه وَإِن صَحَّ تَدْبيره وَيبْطل أَيْضا بإيلاد لمدبرته لِأَنَّهُ أقوى مِنْهُ بِدَلِيل أَنه لَا يعْتَبر من الثُّلُث وَلَا يمْنَع مِنْهُ الدّين بِخِلَاف التَّدْبِير فيرفعه الْأَقْوَى كَمَا يرفع ملك الْيَمين النِّكَاح وَلَا يبطل التَّدْبِير بردة السَّيِّد وَلَا الْمُدبر صِيَانة لحق الْمُدبر عَن الضّيَاع فَيعتق بِمَوْت السَّيِّد
وَإِن كَانَا مرتدين وَلَا رُجُوع عَنهُ بِاللَّفْظِ كفسخته أَو نقضته كَسَائِر التعليقات وَلَا إِنْكَار التَّدْبِير كَمَا أَن إِنْكَار الرِّدَّة لَيْسَ إسلاما وإنكار الطَّلَاق لَيْسَ رَجْعَة فَيحلف إِنَّه مَا دبره وَلَا وطىء مدبرته وَيحل وَطْؤُهَا لبَقَاء ملكه وَيصِح تَدْبِير الْمكَاتب كَمَا يَصح تَعْلِيق عتقه بِصفة وَكِتَابَة مُدبر وَصَحَّ تَعْلِيق كل مِنْهُمَا بِصفة وَيعتق بالأسبق من الوصفين
تَنْبِيه حمل من دبرت حَامِلا مُدبر تبعا لَهَا وَإِن انْفَصل قبل موت سَيِّدهَا لَا إِن بَطل قبل انْفِصَاله تدبيرها بِلَا مَوتهَا كَبيع
فَيبْطل تَدْبيره أَيْضا وَيصِح تَدْبِير حمل كَمَا يَصح إِعْتَاقه وَلَا تتبعه أمه لِأَن الأَصْل لَا يتبع الْفَرْع فَإِن بَاعهَا فرجوع عَنهُ وَلَا يتبع مُدبرا وَلَده
وَإِنَّمَا يتبع أمه فِي الرّقّ وَالْحريَّة
(وَحكم) الرَّقِيق (الْمُدبر فِي حَال حَيَاة السَّيِّد حكم العَبْد الْقِنّ) فِي سَائِر الْأَحْكَام إِلَّا فِي رَهنه فَإِنَّهُ بَاطِل على الْمَذْهَب الَّذِي قطع الْجُمْهُور بِهِ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة فِي بَابه
والقن بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد النُّون هُوَ من لم يتَّصل بِهِ شَيْء من أَحْكَام الْمُعْتق ومقدماته بِخِلَاف الْمُدبر وَالْمكَاتب وَالْمُعَلّق عتقه بِصفة والمستولدة سَوَاء أَكَانَ أَبَوَاهُ مملوكين أَو عتيقين أَو حُرَّيْنِ أصليين بِأَن كَانَا كَافِرين واسترق هُوَ كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تهذيبه
تَتِمَّة لَو وجد مَعَ مُدبر مَال أَو نَحوه فِي يَده بعد موت سَيّده فَتَنَازَعَ هُوَ وَالْوَارِث فِيهِ فَقَالَ الْمُدبر كسبته بعد موت سَيِّدي
وَقَالَ الْوَارِث بل قبله صدق الْمُدبر بِيَمِينِهِ
لِأَن الْيَد لَهُ فترجح وَهَذَا بِخِلَاف ولد الْمُدبرَة إِذا قَالَت وَلدته بعد موت السَّيِّد فَهُوَ حر وَقَالَ الْوَارِث بل قبله فَهُوَ قن فَإِن القَوْل قَول الْوَارِث لِأَنَّهَا تزْعم حُرِّيَّته وَالْحر لَا يدْخل تَحت الْيَد وَتقدم بَيِّنَة الْمُدبر على بَيِّنَة الْوَارِث إِذا أَقَامَا بينتين على مَا قَالَاه
لاعتضادها بِالْيَدِ وَلَو دبر رجلَانِ أمتهما وَأَتَتْ بِولد وادعاه أَحدهمَا لحقه وَضمن لشَرِيكه نصف قيمتهَا وَنصف مهرهَا وَصَارَت أم ولد لَهُ وَبَطل التَّدْبِير وَإِن لم يَأْخُذ شَرِيكه نصف قيمتهَا لِأَن السَّرَايَة لَا تتَوَقَّف على أَخذهَا وَيَلْغُو رد الْمُدبر التَّدْبِير فِي حَيَاة السَّيِّد وَبعد مَوته كَمَا فِي الْمُعَلق عتقه بِصفة وَلَو قَالَ لأمته أَنْت حرَّة بعد موتِي بِعشر سِنِين مثلا لم تعْتق(2/650)
إِلَّا بِمُضِيِّ تِلْكَ الْمدَّة من حِين الْمَوْت وَلَا يتبعهَا وَلَدهَا فِي حكم الصّفة إِلَّا إِن أَتَت بِهِ بعد موت السَّيِّد وَلَو قبل مُضِيّ الْمدَّة فيتبعها ذَلِك فَيعتق من رَأس المَال كَوَلَد الْمُسْتَوْلدَة بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا لَا يجوز إرقاقها وَيُؤْخَذ من الْقيَاس أَن مَحل ذَلِك إِذا علقت بِهِ بعد الْمَوْت وَلَو قَالَ لعَبْدِهِ إِذا قَرَأت الْقُرْآن ومت فَأَنت حر
فَإِذا قَرَأَ الْقُرْآن قبل موت السَّيِّد عتق بِمَوْتِهِ
وَإِن قَرَأَ بعضه لم يعْتق بِمَوْت السَّيِّد وَإِن قَالَ إِن قَرَأت قُرْآنًا ومت فَأَنت حر فَقَرَأَ بعض الْقُرْآن وَمَات السَّيِّد عتق وَالْفرق التَّعْرِيف والتنكير كَذَا نَقله الْبَغَوِيّ عَن النَّص قَالَ الدَّمِيرِيّ وَالصَّوَاب مَا قَالَه الإِمَام فِي الْمَحْصُول إِن الْقُرْآن يُطلق على الْقَلِيل وَالْكثير لِأَنَّهُ اسْم جنس كَالْمَاءِ وَالْعَسَل لقَوْله تَعَالَى {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} وَهَذَا الْخطاب كَانَ بِمَكَّة بِالْإِجْمَاع لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة وَبعد ذَلِك نزل كثير من الْقُرْآن وَمَا نقل عَن النَّص لَيْسَ على هَذَا الْوَجْه فَإِن الْقُرْآن بِالْهَمْز عِنْد الشَّافِعِي يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير
وَالْقُرْآن بِغَيْر همز عِنْده اسْم جمع كَمَا أَفَادَهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة
ولغة الشَّافِعِي بِغَيْر همز والواقف على كَلَام الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَظُنّهُ مهموزا وَإِنَّمَا نطق فِي ذَلِك بلغته المألوفة لَا بغَيْرهَا وَبِهَذَا اتَّضَح الْإِشْكَال
وَأجِيب عَن السُّؤَال
فصل فِي الْكِتَابَة
وَهِي بِكَسْر الْكَاف على الْأَشْهر هِيَ لُغَة الضَّم وَالْجمع لِأَن فِيهَا ضم نجم إِلَى نجم والنجم يُطلق على الْوَقْت أَيْضا الَّذِي يحل فِيهِ مَال الْكِتَابَة كَمَا سَيَأْتِي وَسميت كِتَابَة للْعُرْف الْجَارِي بِكِتَابَة ذَلِك فِي كتاب يُوَافقهُ وَشرعا عقد عتق بلفظها بعوض منجم بنجمين فَأكْثر ولفظها إسلامي لَا يعرف فِي الْجَاهِلِيَّة
وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَة {وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَخبر الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا
(وَالْكِتَابَة مُسْتَحبَّة) لَا وَاجِبَة وَإِن طلبَهَا الرَّقِيق قِيَاسا على التَّدْبِير وَشِرَاء الْقَرِيب وَلِئَلَّا يتعطل أثر الْملك وتتحكم المماليك(2/651)
على المالكين وَإِنَّمَا تسْتَحب
(إِذا سَأَلَهَا العَبْد) من سَيّده (وَكَانَ مَأْمُونا) أَي أَمينا فِيمَا يكسبه بِحَيْثُ لَا يضيعه فِي مَعْصِيّة
(مكتسبا) أَي قَادِرًا على الْكسْب وَبِهِمَا فسر الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْخَيْر فِي الْآيَة
واعتبرت الْأَمَانَة لِئَلَّا يضيع مَا يحصله فَلَا يعْتق وَالْقُدْرَة على الْكسْب ليوثق بتحصيل النُّجُوم وتفارق الْإِيفَاء حَيْثُ أجري على ظَاهر الْأَمر من الْوُجُوب كَمَا سَيَأْتِي لِأَنَّهُ مواساة وأحوال الشَّرْع لَا تمنع وُجُوبهَا كَالزَّكَاةِ
تَنْبِيه قَوْله مكتسبا قد يُوهم أَنه أَي كسب كَانَ وَلَيْسَ مرَادا بل لَا بُد أَن يكون قَادِرًا على كسب يُوفي مَا الْتَزمهُ من النُّجُوم فَإِن فقد شَرط من هَذِه الثَّلَاثَة وَهِي السُّؤَال وَالْأَمَانَة وَالْقُدْرَة على الْكسْب فمباحة إِذْ لَا يقوى رَجَاء الْعتْق إِلَّا بهَا وَلَا تكره بِحَال لِأَنَّهَا عِنْد فقد مَا ذكر تُفْضِي إِلَى الْعتْق
نعم إِن كَانَ الرَّقِيق فَاسِقًا بِسَرِقَة أَو نَحْوهَا وَعلم السَّيِّد أَنه لَو كَاتبه مَعَ الْعَجز عَن الْكسْب لاكتسب بطرِيق الْفسق كرهت كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ
وأركانها أَرْبَعَة سيد ورقيق وَصِيغَة وَعوض
وَشرط فِي السَّيِّد وَهُوَ الرُّكْن الأول مَا مر فِي الْمُعْتق من كَونه مُخْتَارًا أهل تبرع وَوَلَاء لِأَنَّهَا تبرع وآيلة للولاء فَتَصِح من كَافِر أُصَلِّي وسكران لَا من مكره ومكاتب وَإِن أذن لَهُ سَيّده وَلَا من صبي وَمَجْنُون ومحجور سفه وأوليائهم وَلَا من مَحْجُور فلس وَلَا من مُرْتَد لِأَن ملكه مَوْقُوف والعقود لَا توقف على الْجَدِيد وَلَا من مبعض لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للولاء وَكِتَابَة مَرِيض مرض الْمَوْت محسوبة من الثُّلُث فَإِن خلف مثلي قِيمَته صحت فِي كُله أَو مثل قِيمَته فَفِي ثُلثَيْهِ أَو لم يخلف غَيره فَفِي ثلثه وَشرط فِي الرَّقِيق وَهُوَ الرُّكْن الثَّانِي اخْتِيَار وَعدم صبا وجنون وَأَن لَا يتَعَلَّق بِهِ حق لَازم وَشرط فِي الصِّيغَة وَهُوَ الرُّكْن الثَّالِث لفظ يشْعر بِالْكِتَابَةِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان إِيجَابا ككاتبتك أَو أَنْت مكَاتب عَليّ كَذَا كألف منجما مَعَ قَوْله إِذا أديته مثلا فَأَنت حر لفظا أَو نِيَّة وقبولا كقبلت ذَلِك وَشرط فِي الْعِوَض وَهُوَ الرُّكْن الرَّابِع كَونه مَالا كَمَا تعرض لَهُ المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى
وَلم يذكر غَيره من الْأَركان بقوله (وَلَا تصح) أَي الْكِتَابَة (إِلَّا بِمَال) فِي ذمَّة الْمكَاتب نَقْدا كَانَ أَو عرضا مَوْصُوفا بِصفة السّلم لِأَن الْأَعْيَان لَا يملكهَا حَتَّى يُورد العقد عَلَيْهَا (مَعْلُوم) عِنْدهمَا قدرا وجنسا وَصفَة ونوعا لِأَنَّهُ عوض فِي الذِّمَّة فَاشْترط فِيهِ الْعلم بذلك كَدين السّلم وَيكون (إِلَى أجل مَعْلُوم) ليحصله ويؤديه فَلَا تصح بِالْحَال
وَلَو كَانَ الْمكَاتب مبعضا لِأَن الْكِتَابَة عقد خَالف الْقيَاس فِي وَضعه فَاعْتبر فِيهِ سنَن السّلف والمأثور عَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَمن بعدهمْ قولا وفعلا
إِنَّمَا هُوَ التَّأْجِيل وَلم يعقدها أحد مِنْهُم حَالَة وَلَو جَازَ لم يتفقوا على تَركه مَعَ اخْتِلَاف الْأَغْرَاض خُصُوصا وَفِيه تَعْجِيل عتقه
تَنْبِيه لَو كَانَ الْعِوَض مَنْفَعَة فِي الذِّمَّة كبناء دارين فِي ذمَّته وَجعل لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا وقتا مَعْلُوما جَازَ كَمَا يجوز أَن تجْعَل الْمَنَافِع ثمنا وَأُجْرَة أما لَو كَانَ الْعِوَض مَنْفَعَة عين فَإِنَّهُ لَا يَصح تأجيلها
لِأَن الْأَعْيَان لَا تقبل التَّأْجِيل ثمَّ إِن كَانَ الْعِوَض مَنْفَعَة عين حَالَة نَحْو كاتبتك على أَن تخدمني شهرا أَو تخيط لي ثوبا بِنَفْسِك فَلَا بُد مَعَهُمَا من ضميمة مَال كَقَوْلِه وتعطيني دِينَارا بعد انقضائه لِأَن الضميمة شَرط فَلم يجز أَن يكون الْعِوَض مَنْفَعَة فَقَط
فَلَو اقْتصر على خدمَة شَهْرَيْن وَصرح بِأَن كل شهر نجم لم(2/652)
يَصح لِأَنَّهُمَا نجم وَاحِد وَلَا ضميمة
وَلَو كَاتبه على خدمَة شهر رَجَب ورمضان فَأولى بِالْفَسَادِ إِذْ يشْتَرط فِي الْخدمَة أَو الْمَنَافِع الْمُتَعَلّقَة بالأعيان أَن تتصل بِالْعقدِ وَلَا حد لعدد نُجُوم الْكِتَابَة
(وَأقله نجمان) لِأَنَّهُ الْمَأْثُور عَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَمن بعدهمْ وَلَو جَازَت على أقل من نجمين لفعلوه لأَنهم كَانُوا يبادرون إِلَى القربات والطاعات مَا أمكن وَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّة من ضم النُّجُوم بَعْضهَا إِلَى بعض وَأَقل مَا يحصل بِهِ الضَّم نجمان وَالْمرَاد بِالنَّجْمِ هُنَا الْوَقْت
كَمَا فِي الصِّحَاح قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي تهذيبه حِكَايَة عَن الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى يُقَال كَانَت الْعَرَب لَا تعرف الْحساب
ويبنون أُمُورهم على طُلُوع النَّجْم والمنازل فَيَقُول أحدهم إِذا طلع نجم الثريا أديتك حَقك فسميت الْأَوْقَات نجوما ثمَّ سمي الْمُؤَدِّي فِي الْوَقْت نجما
تَنْبِيه قَضِيَّة إِطْلَاقه أَنَّهَا تصح بنجمين قصيرين وَلَو فِي مَال كثير وَهُوَ كَذَلِك لِإِمْكَان الْقُدْرَة عَلَيْهِ كالسلم إِلَى مُعسر فِي مَال كثير إِلَى أجل قصير وَلَو كَاتب عبيدا كثلاثة صَفْقَة وَاحِدَة على عوض وَاحِد كألف منجم بنجمين مثلا وعلق عتقهم بِأَدَائِهِ صَحَّ لِاتِّحَاد الْمَالِك فَصَارَ كَمَا لَو بَاعَ عبيدا بِثمن وَاحِد ووزع الْعِوَض على قيمتهم وَقت الْكِتَابَة فَمن أدّى حِصَّته مِنْهُم عتق وَمن عجز رق وَتَصِح كِتَابَة بعض من بَاقِيه حر لِأَنَّهَا تفِيد الِاسْتِقْلَال الْمَقْصُود بِالْعقدِ وَلَا تصح كِتَابَة بعض رَقِيق وَإِن كَانَ بَاقِيه لغيره وَأذن لَهُ فِي الْكِتَابَة لِأَن الرَّقِيق لَا يسْتَقلّ فِيهَا بالتردد لِاكْتِسَابِ النُّجُوم ثمَّ لَو كَاتب فِي مَرضه بعض رَقِيق وَالْبَعْض ثلث مَاله أَو أوصى بِكِتَابَة رَقِيق فَلم يخرج من الثُّلُث إِلَّا بعضه وَلم تجز الْوَرَثَة الْوَصِيَّة صحت الْكِتَابَة فِي ذَلِك الْقدر وَعَن النَّص وَالْبَغوِيّ صِحَة الْوَصِيَّة بِكِتَابَة بعض عَبده وَلَو تعدد السَّيِّد كشريكين فِي عبد كاتباه مَعًا أَو وكلا من كَاتبه صَحَّ إِن اتّفقت النُّجُوم جِنْسا وَصفَة وعددا وآجلا وَجعلت النُّجُوم على نِسْبَة ملكيهما
فَلَو عجز العَبْد فعجزه أَحدهمَا وَفسخ الْكِتَابَة وآبداه الآخر فِيهَا لم يَصح كابتداء عقدهَا وَلَو أَبرَأَهُ أَحدهمَا من نصِيبه من النُّجُوم أَو أعتق نصِيبه من العَبْد عتق نصِيبه مِنْهُ وَقوم عَلَيْهِ الْبَاقِي إِن أيسر وَعَاد الرّقّ للْمكَاتب وَخرج بِالْإِبْرَاءِ وَالْإِعْتَاق مَا لَو قبض نصِيبه فَلَا يعْتق وَإِن رَضِي الآخر بتقديمه إِذْ لَيْسَ لَهُ تَخْصِيص أَحدهمَا بِالْقَبْضِ
(وَهِي) أَي الْكِتَابَة الصَّحِيحَة (من جِهَة) أَي جَانب (السَّيِّد لَازِمَة) لَيْسَ لَهُ فَسخهَا لِأَنَّهَا عقدت لحظ مكَاتبه لَا لحظه فَكَانَ فِيهَا كالراهن لِأَنَّهَا حق عَلَيْهِ أما الْكِتَابَة الْفَاسِدَة فَهِيَ جَائِزَة من جِهَته على الْأَصَح فَإِن عجز الْمكَاتب عِنْد الْمحل بِنَجْم أَو بعضه غير الْوَاجِب فِي الإيتاء أَو امْتنع مِنْهُ عِنْد ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ أَو غلب عِنْد ذَلِك
وَإِن حضر مَاله أَو كَانَت غيبَة الْمكَاتب دون مَسَافَة الْقصر على الْأَشْبَه فِي الْمطلب وقيدها فِي الْكِفَايَة بمسافة الْقصر وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر كَانَ لَهُ فَسخهَا بِنَفسِهِ وبحاكم مَتى شَاءَ لتعذر الْعِوَض عَلَيْهِ وَلَيْسَ للْحَاكِم الْأَدَاء من مَال الْمكَاتب الْغَائِب عَنهُ بل يُمكن السَّيِّد من الْفَسْخ لِأَنَّهُ رُبمَا عجز نَفسه أَو امْتنع من الْأَدَاء لَو أحضر
(و) هِيَ (من جِهَة العَبْد الْمكَاتب جَائِزَة) فَلهُ الِامْتِنَاع من الْإِعْطَاء مَعَ الْقُدْرَة (وَله تعجيز نَفسه) وَلَو مَعَ الْقُدْرَة على الْكسْب(2/653)
وَتَحْصِيل الْعِوَض (و) لَهُ (فَسخهَا مَتى شَاءَ) وَإِن كَانَ مَعَه وَفَاء وَلَو استمهل سَيّده عِنْد الْمحل لعجز سنّ لَهُ إمهاله مساعدة لَهُ فِي تَحْصِيل الْعتْق أَو لبيع عرض وَجب إمهاله ليَبِيعهُ وَله أَن لَا يزِيد فِي المهلة على ثَلَاثَة أَيَّام سَوَاء أعرض كساد أم لَا
فَلَا فسخ فِيهَا أَو لإحضار مَاله من دون مرحلَتَيْنِ
وَجب أَيْضا إمهاله إِلَى إِحْضَاره لِأَنَّهُ كالحاضر بِخِلَاف مَا فَوق ذَلِك لطول الْمدَّة وَلَا تَنْفَسِخ الْكِتَابَة من السَّيِّد أَو الْمكَاتب بجنون وَلَا إِغْمَاء وَلَا بِحجر سفه لِأَن اللَّازِم من أحد طَرفَيْهِ لَا يَنْفَسِخ بِشَيْء من ذَلِك كَالرَّهْنِ وَيقوم ولي السَّيِّد الَّذِي جن أَو حجر عَلَيْهِ مقَامه فِي قبض وَيقوم الْحَاكِم مقَام الْمكَاتب الَّذِي جن أَو حجر عَلَيْهِ فِي أَدَاء إِن وجد لَهُ مَالا وَلم يَأْخُذهُ السَّيِّد اسْتِقْلَالا وَثبتت الْكِتَابَة وَحل النَّجْم وَحلف السَّيِّد على اسْتِحْقَاقه
قَالَ الْغَزالِيّ وَرَأى لَهُ مصلحَة فِي الْحُرِّيَّة فَإِن رأى أَنه يضيع إِذا أَفَاق لم يؤد قَالَ الشَّيْخَانِ وَهَذَا حسن فَإِن اسْتَقل السَّيِّد بِالْأَخْذِ عتق لحُصُول الْقَبْض الْمُسْتَحق وَلَو جنى الْمكَاتب على سَيّده لزمَه قَود أَو أرش بَالغا مَا بلغ لِأَن وَاجِب جِنَايَته عَلَيْهِ لَا تعلق لَهُ بِرَقَبَتِهِ مِمَّا مَعَه وَمِمَّا يكسبه لِأَنَّهُ مَعَه كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِن لم يكن مَعَه مَا يَفِي بذلك فللسيد أَو الْوَارِث تعجيزه دفعا للضَّرَر عَنهُ أَو جنى على أَجْنَبِي لزمَه قَود أَو الْأَقَل من قِيمَته وَالْأَرْش لِأَنَّهُ يملك تعجيز نَفسه وَإِذا عجزها فَلَا مُتَعَلق إِلَّا الرَّقَبَة وَفِي إِطْلَاق الْأَرْش على دِيَة النَّفس تَغْلِيب فَإِن لم يكن مَعَه مَال يَفِي بِالْوَاجِبِ عَجزه الْحَاكِم بِطَلَب الْمُسْتَحق وَبيع بِقدر الْأَرْش إِن زَادَت قِيمَته عَلَيْهِ وَبقيت الْكِتَابَة فِيمَا بَقِي وَإِلَّا بيع كُله وَللسَّيِّد فداؤه بِأَقَلّ الْأَمريْنِ من قِيمَته وَالْأَرْش فَيبقى مكَاتبا وعَلى الْمُسْتَحق قبُول الْفِدَاء وَلَو أعْتقهُ أَو أَبرَأَهُ بعد الْجِنَايَة عتق وَلَزِمَه الْفِدَاء لِأَنَّهُ فَوت مُتَعَلق حق الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَلَو قتل الْمكَاتب بِطَلَب الْكِتَابَة
وَمَات رَقِيقا لفَوَات محلهَا ولسيده قَود على قَاتله إِن أوجبت الْجِنَايَة قودا وَإِلَّا فَالْقيمَة لَهُ
(وللمكاتب) بِفَتْح الْمُثَنَّاة (التَّصَرُّف فِيمَا فِي يَده من المَال) الْحَاصِل من كَسبه بِمَا لَا تبرع فِيهِ وَلَا خطر كَبيع وَشِرَاء وَإِجَارَة أما مَا فِيهِ تبرع كصدقة أَو خطر كقرض وَبيع نَسِيئَة وَإِن استوثق برهن أَو كَفِيل فَلَا بُد فِيهِ من إِذن سَيّده نعم مَا تصدق بِهِ عَلَيْهِ من نَحْو لحم وخبز مِمَّا الْعَادة فِيهِ أكله وَعدم بَيْعه لَهُ إهداؤه كَغَيْرِهِ على النَّص فِي الْأُم وَله شِرَاء من يعْتق عَلَيْهِ بِإِذن سَيّده وَإِذا اشْتَرَاهُ بِإِذْنِهِ تبعه رقا وعتقا وَلَا يَصح إِعْتَاقه عَن نَفسه وكاابته وَلَو بِإِذن سَيّده لتضمنهما الْوَلَاء وَلَيْسَ من أَهله كَمَا علم مِمَّا مر
(و) يجب (على السَّيِّد أَن يضع) أَي يحط عَنهُ أَي مكَاتبه (من مَال الْكِتَابَة) الصَّحِيحَة
(مَا) أَي أقل مُتَمَوّل أَو يَدْفَعهُ لَهُ من جنس مَال الْكِتَابَة
وَإِن كَانَ من غَيره جَازَ والحط أَو الدّفع قبل الْعتْق
(يَسْتَعِين بِهِ) على الْعتْق قَالَ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} فسر الإيتاء بِمَا ذكر لِأَن الْقَصْد مِنْهُ الْإِعَانَة على الْعتْق وَخرج بالصحيحة الْفَاسِدَة فَلَا شَيْء فِيهَا من ذَلِك
وَاسْتثنى من لُزُوم الإيتاء مَا لَو كَاتبه فِي مرض مَوته وَهُوَ ثلث مَاله وَمَا لَو كَاتبه على مَنْفَعَة والحط أولى من الدّفع لِأَن الْقَصْد بالحط الْإِعَانَة على الْعتْق وَهِي مُحَققَة فِيهِ موهومة فِي الدّفع إِذْ قد يصرف الْمَدْفُوع فِي جِهَة أُخْرَى وَكَون كل من الْحَط وَالدَّفْع فِي النَّجْم الْأَخير أولى مِنْهُ
فِيمَا قبله لِأَنَّهُ أقرب إِلَى الْعتْق وَكَونه ربع النُّجُوم أولى من غَيره فَإِن لم تسمح بِهِ نَفسه فسبعة أولى
روى حط الرّبع
النَّسَائِيّ وَغَيره وَحط السَّبع مَالك عَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَيحرم على السَّيِّد التَّمَتُّع بمكاتبته لاختلال ملكه فِيهَا وَيجب لَهَا بِوَطْئِهِ مهرهَا
وَلَا حد عَلَيْهِ لِأَنَّهَا ملكه وَالْولد حر وَلَا يجب عَلَيْهِ قِيمَته لانعقاده حرا وَصَارَت بِالْوَلَدِ مُسْتَوْلدَة مُكَاتبَة وَولد الْمُكَاتبَة الرَّقِيق الْحَادِث بعد الْكِتَابَة يتبعهَا رقا وعتقا وَحقّ الْملك فِيهِ للسَّيِّد فَلَو قتل فَقيمته لَهُ ويمونه من أرش(2/654)
جِنَايَة عَلَيْهِ وَكَسبه ومهره وَمَا فضل وقف فَإِن عتق فَلهُ وَإِلَّا فلسيده وَلَو أَتَى الْمكَاتب بِمَال فَقَالَ سَيّده هَذَا حرَام وَلَا بَيِّنَة صدق الْمكَاتب بِيَمِينِهِ
وَيُقَال للسَّيِّد حِينَئِذٍ خُذْهُ أَو تبرئه عَن قدره فَإِن ابى قَبضه القَاضِي عَنهُ فَإِن نكل عَن الْحلف حلف سَيّده نعم لَو كَاتبه على لحم فجَاء بِهِ فَقَالَ السَّيِّد هَذَا غير مذكى صدق بِيَمِينِهِ
لِأَن الأَصْل عدم التذكية وللمكاتب شِرَاء الْإِمَاء للتِّجَارَة لَا تزوج إِلَّا بِإِذن سَيّده وَلَا وَطْء أمته وَإِن أذن لَهُ سَيّده
فَإِن خَالف ووطىء فَلَا حد عَلَيْهِ لشُبْهَة الْملك وَالْولد نسيب فَإِن وَلدته قبل عتق أَبِيه أَو بعده لدوّنَ سِتَّة أشهر من الْعتْق تبعه رقا وعتقا وَهُوَ مَمْلُوك لِأَبِيهِ يمْتَنع بَيْعه وَلَا تصير أمه أم ولد لِأَنَّهَا علقت بمملوك وَإِن وَلدته لسِتَّة أشهر فَأكْثر من الْعتْق وَوَطئهَا مَعَ الْعتْق مُطلقًا أَو بعده فِي صُورَة الْأَكْثَر وولدته لسِتَّة أشهر فَأكْثر من الْوَطْء فَهِيَ أم ولد وَلَو عجل الْمكَاتب النُّجُوم أَو بَعْضهَا قبل محلهَا لم يجْبر السَّيِّد على قبضهَا وَإِن امْتنع مِنْهُ لغَرَض كمؤنة حفظه وَإِلَّا أجبر على الْقَبْض
فَإِن أَبى قَبضه القَاضِي عَنهُ وَعتق الْمكَاتب وَلَو عجل بعض النُّجُوم ليبرئه من الْبَاقِي فَقبض وأبرأه بطلا وَلَا يَصح بيع النُّجُوم وَلَا الِاعْتِيَاض عَنْهَا من الْمكَاتب وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن جرى بعض الْمُتَأَخِّرين على خِلَافه وَلَو بَاعَ السَّيِّد النُّجُوم وَأدّى الْمكَاتب النَّجْم إِلَى المُشْتَرِي لم يعْتق وَيُطَالب السَّيِّد الْمكَاتب وَالْمكَاتب المُشْتَرِي بِمَا أَخذه وَلَا يَصح بيع رَقَبَة الْمُكَاتبَة كِتَابَة صَحِيحَة فِي الْجَدِيد لِأَن البيع لَا يرفع الْكِتَابَة للزومها من جِهَة السَّيِّد فَيبقى مُسْتَحقّ الْعتْق فَلم يَصح بَيْعه كالمستولدة هَذَا إِذا لم يرض الْمكَاتب البيع فَإِن رَضِي بِهِ جَازَ
وَكَانَ رِضَاهُ فسخا كَمَا جزم بِهِ القَاضِي حُسَيْن فِي تعاليقه لِأَن الْحق لَهُ وَقد رَضِي بإبطاله وهبته كَبَيْعِهِ وَلَيْسَ للسَّيِّد بيع مَا فِي يَد مكَاتبه وَلَا إِعْتَاق عَبده وَلَا تَزْوِيج أمته وَلَا التَّصَرُّف فِي شَيْء مِمَّا فِي يَده لِأَنَّهُ مَعَه كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَو قَالَ رجل مثلا للسَّيِّد أعتق مكاتبك على كَذَا كألف فَفعل عتق وَلَزِمَه مَا الْتزم كَمَا لَو قَالَ أعتق مستولدتك على كَذَا وَهُوَ بِمَنْزِلَة فك الْأَسير هَذَا إِذا قَالَ أعْتقهُ وَأطلق أما إِذا قَالَ أعْتقهُ عني على كَذَا فَإِنَّهُ لم يعْتق عَن السَّائِل وَيعتق عَن الْمُعْتق فِي الْأَصَح وَلَا يسْتَحق المَال (وَلَا يعْتق) شَيْء من الْمكَاتب (إِلَّا بعد أَدَاء جَمِيع المَال) الْبَاقِي (بعد الْقدر الْمَوْضُوع عَنهُ) فَلَو لم يضع سَيّده عَنهُ شَيْئا وَبَقِي عَلَيْهِ من النُّجُوم الْقدر الْوَاجِب حطه أَو إيتاؤه لم يعْتق مِنْهُ شَيْء لِأَن هَذَا الْقدر لم يسْقط عَنهُ وَلَا يحصل التَّقَاصّ كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
قَالَ لِأَن للسَّيِّد أَن يؤتيه من غَيره وَلَيْسَ للسَّيِّد تعجيزه لِأَن لَهُ عَلَيْهِ مثله لَكِن يرفعهُ الْمكَاتب للْحَاكِم حَتَّى يرى رَأْيه ويفصل الْأَمر بَينهمَا اه
تَنْبِيه قَضِيَّة تَقْيِيد المُصَنّف بِالْأَدَاءِ قصر الحكم عَلَيْهِ وَلَيْسَ مرَادا بل يعْتق بِالْإِبْرَاءِ من النُّجُوم أَيْضا كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة وبالحوالة بِهِ وَلَا تصح الْحِوَالَة عَلَيْهِ وَعلم من تَقْيِيده بِالْجَمِيعِ أَنه لَو بَقِي من الْقدر الْبَاقِي شَيْء وَلَو درهما فَأَقل لم يعْتق مِنْهُ شَيْء وَهُوَ كَذَلِك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمكَاتب قن مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم وَالْمعْنَى فِيهِ أَنه إِن كَانَ الْمُغَلب فِيهِ الْعتْق بِالصّفةِ فَلَا يعْتق قبل استكمالها وَإِن كَانَ الْمُغَلب فِيهِ الْمُعَاوضَة فكالبيع فَلَا يجب تَسْلِيمه إِلَّا بعد قبض جَمِيع ثمنه
تَتِمَّة فِي الْفرق بَين الْكِتَابَة الْبَاطِلَة والفاسدة وَمَا تشارك فِيهِ الْفَاسِدَة الصَّحِيحَة وَمَا تخالفها فِيهِ وَغير ذَلِك الْبَاطِلَة مَا اختلت صِحَّتهَا باختلال ركن من أَرْكَانهَا ككون أحد الْمُتَعَاقدين صَبيا أَو مَجْنُونا أَو مكْرها أَو عقدت بِغَيْر مَقْصُود كَدم وَهِي ملغاة إِلَّا فِي تَعْلِيق مُعْتَبر بِأَن يَقع مِمَّن يَصح تَعْلِيقه فَلَا تلغى فِيهِ
والفاسدة مَا اختلت صِحَّتهَا بِكِتَابَة بعض رَقِيق أَو فَسَاد شَرط كَشَرط أَن يَبِيعهُ كَذَا أَو فَسَاد عوض كخمر أَو فَسَاد أجل كنجم وَاحِد وَهِي كالصحيحة فِي اسْتِقْلَال الْمكَاتب بِكَسْبِهِ وَفِي أَخذ أرش جِنَايَة عَلَيْهِ وَفِي أَنه يعْتق بِالْأَدَاءِ لسَيِّده وَفِي أَنه يتبعهُ إِذا عتق كَسبه وكالتعليق بِصفة فِي أَنه لَا يعْتق بِغَيْر أَدَاء الْمكَاتب كإبرائه أَو أَدَائِهِ غَيره عَنهُ مُتَبَرعا وَفِي أَن كِتَابَته تبطل بِمَوْت سَيّده قبل الْأَدَاء وَفِي أَنه تصح الْوَصِيَّة بِهِ وَفِي أَنه لَا يصرف لَهُ سهم المكاتبين وَفِي صِحَة إِعْتَاقه عَن الْكَفَّارَة وتمليكه وَمنعه من السّفر وَجَوَاز وَطْء الْأمة
وكل من الصَّحِيحَة والفاسدة عقد مُعَاوضَة لَكِن الْمُغَلب فِي الأولى معنى الْمُعَاوضَة وَفِي الثَّانِيَة معنى التَّعْلِيق وَالْبَاطِل وَالْفَاسِد عندنَا سَوَاء إِلَّا فِي مَوَاضِع يسير مِنْهَا الْحَج وَالْعَارِية وَالْخلْع وَالْكِتَابَة وتخالف الْكِتَابَة الْفَاسِدَة الصَّحِيحَة وَالتَّعْلِيق فِي أَن للسَّيِّد فَسخهَا بالْقَوْل وَفِي أَنَّهَا تبطل بِنَحْوِ إِغْمَاء السَّيِّد وَحجر سفه عَلَيْهِ وَفِي أَن الْمكَاتب يرجع عَلَيْهِ بِمَا أَدَّاهُ إِن بَقِي وببدله إِن تلف إِن كَانَ لَهُ قيمَة وَالسَّيِّد يرجع عَلَيْهِ بِقِيمَتِه وَقت الْعتْق
فَإِن اتَّحد وَاجِب السَّيِّد وَالْمكَاتب تقاصا وَلَو بِلَا رضَا وَيرجع صَاحب الْفضل بِهِ هَذَا إِذا كَانَا نقدين فَإِن كَانَا متقومين فَلَا تقاص أَو مثليين(2/655)
ففيهما تَفْصِيل ذكرته فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مَعَ فَوَائِد مهمة لَا بَأْس بمراجعتها فَإِن هَذَا الْمُخْتَصر لَا يحْتَمل ذكرهَا وَلَو ادّعى رَقِيق كِتَابَة فَأنْكر سَيّده أَو وَارثه حلف الْمُنكر وَلَو اخْتلف السَّيِّد وَالْمكَاتب فِي قدر النُّجُوم أَو فِي قدر الْأَجَل وَلَا بَيِّنَة أَو لكل بَيِّنَة تحَالفا ثمَّ إِن لم يتَّفقَا على شَيْء فَسخهَا الْحَاكِم أَو المتحالفان أَو أَحدهمَا كَمَا فِي البيع وَلَو قَالَ السَّيِّد كاتبتك وَأَنا مَجْنُون أَو مَحْجُور عَليّ فَأنْكر الْمكَاتب صدق السَّيِّد بِيَمِينِهِ إِن عرف لَهُ مَا ادَّعَاهُ وَإِلَّا فالمكاتب وَلَو مَاتَ السَّيِّد وَالْمكَاتب مِمَّن يعْتق على الْوَارِث عتق عَلَيْهِ وَلَو ورث رجل زَوجته الْمُكَاتبَة أَو ورثت امْرَأَة زَوجهَا الْمكَاتب انْفَسَخ النِّكَاح لِأَن كلا مِنْهُمَا ملكه زوجه أَو بعضه
وَلَو اشْترى الْمكَاتب زَوجته أَو بِالْعَكْسِ وَانْقَضَت مُدَّة الْخِيَار أَو كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي انْفَسَخ النِّكَاح لِأَن كلا مِنْهُمَا ملك زوجه
فصل فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد
ختم المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى كِتَابه بِالْعِتْقِ رَجَاء أَن الله تَعَالَى يعتقهُ وقارئه وشارحه من النَّار
فنسأل الله تَعَالَى من فَضله وَكَرمه أَن يجيرنا ووالدينا ومشايخنا وَجَمِيع أهلنا ومحبينا مِنْهَا وَآخر هَذَا الْفَصْل لِأَنَّهُ عتق قهري مشوب بِقَضَاء أوطار وَأُمَّهَات بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا مَعَ فتح الْمِيم وَكسرهَا وَأَصلهَا أمهة بِدَلِيل جمعهَا على ذَلِك قَالَه الْجَوْهَرِي
وَيُقَال فِي جمعهَا أَيْضا أمات وَقَالَ بَعضهم الْأُمَّهَات للنَّاس والأمات للبهائم وَقَالَ آخَرُونَ يُقَال فيهمَا أُمَّهَات وأمات لَكِن الأول أَكثر فِي النَّاس وَالثَّانِي أَكثر فِي غَيرهم وَيُمكن رد الأول إِلَى هَذَا
وَالْأَصْل فِي ذَلِك خبر أَيّمَا أمة ولدت من سَيِّدهَا فَهِيَ حرَّة عَن دبر مِنْهُ رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَصحح إِسْنَاده
وَخبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى قُلْنَا يَا رَسُول الله إِنَّا نأتي السبايا ونحب أَثْمَانهنَّ فَمَا ترى فِي الْعَزْل فَقَالَ مَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَهِي كائنة فَفِي قَوْلهم ونحب أَثْمَانهنَّ دَلِيل على أَن بيعهنَّ بالاستيلاد مُمْتَنع وَاسْتشْهدَ لذَلِك الْبَيْهَقِيّ بقول عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا لم يتْرك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِينَارا وَلَا درهما وَلَا عبدا وَلَا أمة
قَالَ فِيهِ دلَالَة على أَنه لم يتْرك أم إِبْرَاهِيم رقيقَة وَأَنَّهَا عتقت بِمَوْتِهِ(2/656)
(وَإِذا أصَاب) أَي وطىء (السَّيِّد) الرجل الْحر كلا أَو بَعْضًا مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا أَصْلِيًّا (أمته)
أَي بِأَن علقت مِنْهُ وَلَو سَفِيها أَو مَجْنُونا أَو مكْرها أَو أحبلها الْكَافِر حَال إسْلَامهَا قبل بيعهَا عَلَيْهِ بِوَطْء مُبَاح أَو محرم كَأَن تكون حَائِضًا أَو محرما لَهُ كأخته أَو مُزَوّجَة أَو باستدخال مَائه الْمُحْتَرَم فِي حَال حَيَاته (فَوضعت) حَيا أَو مَيتا أَو مَا يجب فِيهِ غرَّة وَهُوَ (مَا) أَي لحم (يتَبَيَّن) لكل أحد أَو لأهل الْخِبْرَة من القوابل (فِيهِ شَيْء من خلق آدَمِيّ) كمضغة فِيهَا صُورَة آدَمِيّ وَإِن لم تظهر إِلَّا لأهل الْخِبْرَة وَلَو من غير النِّسَاء وَجَوَاب إِذا (حرم عَلَيْهِ بيعهَا)
وَلَو مِمَّن تعْتق عَلَيْهِ أَو بِشَرْط الْعتْق أَو مِمَّن أقرّ بحريتها
(ورهنها وهبتها) مَعَ بطلَان ذَلِك أَيْضا لخَبر أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن وَلَا يوهبن وَلَا يورثن يسْتَمْتع بهَا سَيِّدهَا مَا دَامَ حَيا فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حرَّة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ ابْن الْقطَّان رُوَاته(2/657)
كلهم ثِقَات
وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على عدم صِحَة بيعهَا واشتهر عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه خطب يَوْمًا على الْمِنْبَر فَقَالَ فِي أثْنَاء خطبَته اجْتمع رَأْي ورأي عمر على أَن أُمَّهَات الْأَوْلَاد لَا يبعن وَأَنا الْآن أرى بيعهنَّ فَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ رَأْي عمر
وَفِي رِوَايَة مَعَ الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك
فَقَالَ اقضوا فِيهِ مَا أَنْتُم قاضون فَإِنِّي أكره أَن أُخَالِف الْجَمَاعَة فَلَو حكم حَاكم بِصِحَّة بيعهَا نقض حكمه لمُخَالفَته الْإِجْمَاع وَمَا كَانَ فِي بيعهَا من خلاف بَين الْقرن الأول فقد انْقَطع وَصَارَ مجمعا على مَنعه وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن جَابر كُنَّا نبيع سرارينا أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ لَا يرى بذلك بَأْسا أُجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ وَبِأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتِدْلَالا واجتهادا فَيقدم عَلَيْهِ مَا نسب إِلَيْهِ قولا ونصا وَهُوَ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد كَمَا مر وَيسْتَثْنى من منع بيعهَا بيعهَا من نَفسهَا بِنَاء على أَنه عقد عتاقة وَهُوَ الْأَصَح وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنه لَو بَاعهَا بَعْضهَا أَنه يَصح ويسري إِلَى بَاقِيهَا كَمَا لَو أعتق بعض رَقِيقه وَأَنه إِذا كَانَ السَّيِّد مبعضا أَنه لَا يَصح مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْوَلَاء وَهَذَا ظَاهر وَإِن لم أر من ذكره وَمحل الْمَنْع إِذا لم يرْتَفع الإيلاد فَإِن ارْتَفع بِأَن كَانَت كَافِرَة وَلَيْسَت لمُسلم وسبيت وَصَارَت قنة
فَإِنَّهُ يَصح جَمِيع التَّصَرُّفَات فِيهَا
وَكَذَا يَصح بيعهَا فِي صور مِنْهَا مُسْتَوْلدَة الرَّاهِن المقبض الْمُعسر تبَاع فِي الدّين وَمِنْهَا جَارِيَة التَّرِكَة الَّتِي تعلق بهَا دين إِذا اسْتَوْلدهَا الْوَارِث وَهُوَ مُعسر تبَاع فِي دين الْمَيِّت وَمِنْهَا مَا إِذا استولد الجانية جِنَايَة توجب مَالا مُتَعَلقا برقبتها وَهُوَ مُعسر تبَاع فِي دين الْجِنَايَة
وَمِنْهَا مَا إِذا استولد أمة العَبْد الْمَأْذُون لَهُ فِي التِّجَارَة وَهُوَ مُعسر تبَاع فِي دينه
وَقد ذكر فِي الرَّوْضَة هَذِه الصُّور الْأَرْبَع أَوَاخِر الْبَاب الْخَامِس من النِّكَاح وَقَالَ إِن الْملك إِذا عَاد فِي هَذِه الصُّور إِلَى الْمَالِك بعد البيع عَاد الِاسْتِيلَاد
اه
أما الصُّورَة الأولى وَهِي مَسْأَلَة السَّبي فَالَّذِي يظْهر فِيهَا أَنه لَا يعود الِاسْتِيلَاد إِذا عَادَتْ لمَالِكهَا بعد ذَلِك لأَنا أبطلناه بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَاف هَذِه الْمسَائِل وَيسْتَثْنى من نُفُوذ الِاسْتِيلَاد مَا لَو نذر التَّصَدُّق بِثمنِهَا ثمَّ اسْتَوْلدهَا فَإِنَّهُ يلْزمه بيعهَا وَالتَّصَدُّق بِثمنِهَا وَلَا ينفذ(2/658)
استيلاده فِيهَا
وَمَا إِذا أوصى بِعِتْق جَارِيَة تخرج من الثُّلُث فالملك فِيهَا للْوَارِث
وَمَعَ ذَلِك لَو اسْتَوْلدهَا قبل إعْتَاقهَا لم ينفذ لإفضائه إِلَى إبِْطَال الْوَصِيَّة وَمَا إِذا اسْتكْمل الصَّبِي تسع سِنِين فوطىء أمته فَولدت لأكْثر من سِتَّة أشهر فَإِن الْوَلَد يلْحقهُ قَالُوا وَلَكِن لَا يحكم بِبُلُوغِهِ قَالَ البُلْقِينِيّ وَظَاهر كَلَامهم يَقْتَضِي أَنه لَا يثبت استيلاد وَالَّذِي صوبناه الحكم بِبُلُوغِهِ وَثُبُوت استيلاد أمته فعلى كَلَامهم تستثنى هَذِه الصُّورَة وعَلى مَا قُلْنَاهُ لَا اسْتثِْنَاء اه
وَالْمُعْتَمد الِاسْتِثْنَاء وَاخْتلف فِي نُفُوذ استيلاد الْمَحْجُور عَلَيْهِ بالفلس فرجح نُفُوذه ابْن الرّفْعَة وَتَبعهُ البُلْقِينِيّ وَرجح السُّبْكِيّ خِلَافه وَتَبعهُ الْأَذْرَعِيّ وَالزَّرْكَشِيّ ثمَّ قَالَ لَكِن سبق عَن الْحَاوِي وَالْغَزالِيّ النّفُوذ اه
وَكَونه كاستيلاد الرَّاهِن الْمُعسر أشبه من كَونه كَالْمَرِيضِ فَإِن من يَقُول بالنفوذ يُشبههُ بالمريض وَمن يَقُول بِعَدَمِهِ يُشبههُ بالراهن الْمُعسر وَخرج بِقَيْد الْحر كلا أَو بَعْضًا الْمكَاتب إِذا أحبل أمته ثمَّ مَاتَ رَقِيقا قبل الْعَجز أَو بعده فَلَا تعْتق بِمَوْتِهِ وبالماء الْمُحْتَرَم مَا إِذا كَانَ غير مُحْتَرم وَهُوَ الْخَارِج على وَجه محرم لَعنه كَالزِّنَا فَلَا يثبت بِهِ استيلاد وبحال الْحَيَاة مَا لَو استدخلت منيه الْمُنْفَصِل مِنْهُ فِي حَال حَيَاته بعد مَوته فَلَا يثبت بِهِ أُميَّة الْوَلَد لِأَنَّهَا بِالْمَوْتِ انْتَقَلت إِلَى ملك الْوَارِث وَيدخل فِي عِبَارَته أمته الَّتِي اشْتَرَاهَا بِشَرْط الْعتْق فَإِنَّهُ إِذا اسْتَوْلدهَا وَمَات قبل أَن يعتقها فَإِنَّهَا تعْتق بِمَوْتِهِ وَقد توهم عِبَارَته أَنه لَو أحبل الْجَارِيَة الَّتِي يملك بَعْضهَا أَنه لَا ينفذ بالاستيلاد فِيهَا وَلَيْسَ مرَادا بل يثبت الِاسْتِيلَاد فِي نصِيبه وَفِي الْكل إِن كَانَ مُوسِرًا كَمَا مر فِي الْعتْق (وَجَاز لَهُ) أَي السَّيِّد (التَّصَرُّف فِيهَا بالاستخدام) وَالْإِجَارَة والإعارة لبَقَاء ملكه عَلَيْهَا فَإِن قيل قد صرح الْأَصْحَاب بِأَنَّهُ لَا يجوز إِجَارَة الْأُضْحِية الْمعينَة كَمَا لَا يجوز بيعهَا إِلْحَاقًا للمنافع بالأعيان فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك كَمَا قَالَ بِهِ الإِمَام مَالك
أُجِيب بِأَن الْأُضْحِية خرج ملكه عَنْهَا
تَنْبِيه مَحل صِحَة إِجَارَتهَا إِذا كَانَ من غَيرهَا أما إِذا أجرهَا نَفسهَا فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن الشَّخْص لَا يملك مَنْفَعَة نَفسه وَهل لَهَا أَن تستعير نَفسهَا من سَيِّدهَا قِيَاس مَا قَالُوهُ فِي الْحر إِنَّه لَو أجر نَفسه وَسلمهَا ثمَّ استعارها جَازَ أَنه هُنَا كَذَلِك وَلَو مَاتَ السَّيِّد بعد أَن أجرهَا انْفَسَخت الْإِجَارَة
فَإِن قيل لَو أعتق رَقِيقه الْمُؤَجّر لم تَنْفَسِخ فِيهِ الْإِجَارَة فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك أُجِيب بِأَن السَّيِّد فِي العَبْد لَا يملك مَنْفَعَة الْإِجَارَة فإعتاقه ينزل على مَا يملكهُ وَأم الْوَلَد ملكت نَفسهَا بِمَوْت سَيِّدهَا فانفسخت الْإِجَارَة
وَيُؤْخَذ من هَذَا أَنه لَو أجرهَا ثمَّ أحبلها ثمَّ مَاتَ لَا تَنْفَسِخ الْإِجَارَة فِي الْمُسْتَقْبل
وَهُوَ كَذَلِك وَله تَزْوِيجهَا بِغَيْر إِذْنهَا لبَقَاء ملكه عَلَيْهَا وعَلى مَنَافِعهَا
(و) لَهُ (الْوَطْء) لأم وَلَده بِالْإِجْمَاع وَلِحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ الْمُتَقَدّم هَذَا إِذا لم يحصل هُنَاكَ مَانع مِنْهُ والموانع كَثِيرَة فَمِنْهَا مَا لَو أحبل الْكَافِر أمته الْمسلمَة أَو أحبل الشَّخْص أمته الْمُحرمَة عَلَيْهِ بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة وَمَا لَو أولد مُكَاتبَته وَمَا لَو أولد الْمبعض أمته
(وَإِذا مَاتَ السَّيِّد) وَلَو بقتلها لَهُ بِقصد الاستعجال (عتقت) بِلَا خلاف لما مر من الْأَدِلَّة وَلما روى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن(2/659)
عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ أم الْوَلَد أعْتقهَا وَلَدهَا أَي أثبت لَهَا حق الْحُرِّيَّة وَلَو كَانَ سقطا وَهَذَا أحد الصُّور المستثناة من الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة وَهِي من استعجل بِشَيْء قبل أَوَانه عُوقِبَ بحرمانه وعتقها (من رَأس مَاله) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتقهَا وَلَدهَا وَسَوَاء أحبلها أم أعْتقهَا فِي الْمَرَض أم لَا أَو أوصى بهَا من الثُّلُث أم لَا بِخِلَاف مَا لَو أوصى بِحجَّة الْإِسْلَام فَإِن الْوَصِيَّة بهَا تحسب من الثُّلُث لِأَن هَذَا إِتْلَاف حصل بالاستمتاع فَأشبه إِنْفَاق المَال فِي اللَّذَّات والشهوات وَيبدأ بِعتْقِهَا
(قبل) قَضَاء (الدُّيُون) وَلَو لله تَعَالَى كالكفارة (والوصايا) وَلَو لجِهَة عَامَّة كالفقراء (وَوَلدهَا) الْحَاصِل قبل الِاسْتِيلَاد من زنا أَو من زوج لَا يعتقون بِمَوْت السَّيِّد وَله بَيْعه وَالتَّصَرُّف فِيهِ بِسَائِر التَّصَرُّفَات لحدوثه قبل ثُبُوت الْحُرِّيَّة للْأُم بِخِلَاف الْوَلَد الْحَاصِل بعد الِاسْتِيلَاد
(من غَيره) بِنِكَاح أَو غَيره فَإِنَّهُ (بمنزلتها) فِي منع التَّصَرُّف فِيهِ بِمَا يمْتَنع عَلَيْهِ التَّصَرُّف بِهِ فِيهَا وَيجوز لَهُ استخدامه وإجارته وإجباره على النِّكَاح إِن كَانَ أُنْثَى لَا إِن كَانَ ذكرا وعتقه بِمَوْت السَّيِّد
وَإِن كَانَت أمه قد مَاتَت فِي حَيَاة السَّيِّد كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَن الْوَلَد يتبع أمه رقا وحرية فَكَذَا فِي سَببه اللَّازِم وَلِأَنَّهُ حق اسْتَقر لَهُ فِي حَيَاة أمه فَلم يسْقط بموتها وَلَو أعتق السَّيِّد مستولدته لم يعْتق وَلَدهَا
وَلَيْسَ لَهُ وَطْء بنت مستولدته
وَعلل ذَلِك بحرمتها بِوَطْء أمهَا وَهُوَ جري على الْغَالِب فَإِن استدخال الْمَنِيّ الَّذِي يثبت بِهِ الِاسْتِيلَاد كَذَلِك فَلَو وَطئهَا هَل تصير مُسْتَوْلدَة كَمَا لَو كَاتب ولد الْمُكَاتبَة فَإِنَّهُ يصير مكَاتبا أَو لَا يَنْبَغِي أَن يصير وَفَائِدَته الْحلف وَالتَّعْلِيق
تَنْبِيه سكت المُصَنّف عَن أَوْلَاد أَوْلَاد الْمُسْتَوْلدَة
وَلم أر من تعرض لَهُم وَالظَّاهِر أخذا من كَلَامهم أَنهم إِن كَانُوا من أَوْلَادهَا الْإِنَاث فحكمهم حكم أَوْلَادهَا أَو من الذكوره فَلَا لِأَن الْوَلَد يتبع الْأُم رقا وحرية وَلَو ادَّعَت الْمُسْتَوْلدَة أَن هَذَا الْوَلَد حدث بعد الِاسْتِيلَاد أَو بعد موت السَّيِّد فَهُوَ حر
وَأنكر الْوَارِث ذَلِك وَقَالَ بل حدث قبل الِاسْتِيلَاد فَهُوَ قن صدق بِيَمِينِهِ بِخِلَاف مَا لَو كَانَ فِي يَدهَا مَال وَادعت أَنَّهَا اكتسبته بعد موت السَّيِّد وَأنكر الْوَارِث فَإِنَّهَا المصدقة لِأَن الْيَد لَهَا فترجح بِخِلَافِهَا فِي الأولى فَإِنَّهَا تَدعِي حُرِّيَّته وَالْحر لَا يدْخل تَحت الْيَد (وَمن أصَاب) أَي وَطْء (أمة غَيره بِنِكَاح) لَا غرور فِيهِ بحريّة أَو زنا (فولده مِنْهَا) حِينَئِذٍ (مَمْلُوك لسَيِّدهَا) بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ يتبع الْأُم فِي الرّقّ وَالْحريَّة أما إِذا غر بحريّة أمه فنكحها وأولدها فَالْوَلَد حر كَمَا ذكره الشَّيْخَانِ فِي بَاب الْخِيَار والإعفاف
وَكَذَا إِذا نَكَحَهَا بِشَرْط أَن أَوْلَادهَا الحادثين مِنْهُ أَحْرَار فَإِنَّهُ يَصح الشَّرْط وَمَا حدث لَهُ مِنْهَا من ولد فَهُوَ حر كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الْقُوت فِي بَاب الصَدَاق
تَنْبِيه لَو نكح حر جَارِيَة أَجْنَبِي ثمَّ ملكهَا ابْنه أَو تزوج رَقِيق جَارِيَة ابْنه ثمَّ عتق لم يَنْفَسِخ النِّكَاح لِأَن الأَصْل فِي النِّكَاح الثَّبَات والدوام فَلَو اسْتَوْلدهَا الْأَب بعد عتقه فِي الثَّانِيَة وَملك ابْنه لَهَا فِي الأولى لم ينفذ استيلادها لِأَنَّهُ رَضِي برق وَلَده حِين نَكَحَهَا
وَلِأَن النِّكَاح حَاصِل مُحَقّق فَيكون واطئا بِالنِّكَاحِ لَا بِشُبْهَة الْملك بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن نِكَاح كَمَا جرى على ذَلِك الشَّيْخَانِ فِي بَاب النِّكَاح وَلَو ملك الْمكَاتب زَوْجَة سَيّده الْأمة انْفَسَخ نِكَاحه (فَإِن أَصَابَهَا) أَي وَطئهَا لَا بِنِكَاح بل (بِشُبْهَة) مِنْهُ كَأَن ظَنّهَا أمته أَو زَوجته الْحرَّة (فولده مِنْهَا) حِينَئِذٍ (حر نسيب) بِلَا خلاف اعْتِبَارا بظنه
(و) لَكِن (عَلَيْهِ) فِي هَذِه الْحَالة (قِيمَته) وَقت وِلَادَته بِأَن يقدر رَقِيقا فَمَا بلغت قِيمَته دَفعه (للسَّيِّد) لتفويته الرّقّ عَلَيْهِ بظنه أما إِذا ظَنّهَا زَوجته الْأمة فَالْوَلَد رَقِيق للسَّيِّد اعْتِبَارا بظنه وَإِطْلَاق المُصَنّف ينزل على هَذَا التَّفْصِيل كَمَا نزلنَا عَلَيْهِ عبارَة الْمِنْهَاج فِي شَرحه إِذْ هُوَ الْمَذْكُور فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا
وَلَو أفْصح بِهِ كَانَ أولى وَلَو تزوج شخص بحرة وَأمة بِشَرْطِهِ فوطىء الْأمة يَظُنهَا الْحرَّة فالأشبه أَن الْوَلَد حر كَمَا فِي أمة الْغَيْر يَظُنهَا زَوجته الْحرَّة
تَنْبِيه أطلق المُصَنّف الشُّبْهَة وَمُقْتَضى تَعْلِيلهم شُبْهَة الْفَاعِل فَتخرج شُبْهَة الطَّرِيق الَّتِي أَبَاحَ الْوَطْء بهَا عَالم فَلَا يكون الْوَلَد بهَا حرا كَأَن تزوج شَافِعِيّ أمة وَهُوَ مُوسر وَبَعض الْمذَاهب يرى بِصِحَّتِهِ فَيكون الْوَلَد رَقِيقا وَكَذَا لَو أكره على أمة الْغَيْر كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ(2/660)
(وَإِن ملك) الواطىء بِالنِّكَاحِ (الْأمة الْمُطلقَة) مِنْهُ (بعد ذَلِك) أَي بعد وِلَادَتهَا من النِّكَاح (لم تصر أم ولد) بِمَا وَلدته مِنْهُ (بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاح) لكَونه رَقِيقا لِأَنَّهَا علقت بِهِ فِي غير ملك الْيَمين
وَالِاسْتِيلَاد إِنَّمَا يثبت تبعا لحرية الْوَلَد كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة
تَنْبِيه تَقْيِيد المُصَنّف بالمطلقة لَا معنى لَهُ بل قد يُوهم قصر الحكم عَلَيْهِ وَلَيْسَ مرَادا فَإِنَّهُ إِذا ملكهَا فِي نِكَاحه بعد الْولادَة كَانَ الحكم كَذَلِك بِلَا فرق
وَكَذَلِكَ إِذا ملكهَا فِي نِكَاحه حَامِلا لم تصر أم ولد
لَكِن يعْتق عَلَيْهِ وَلَده إِن وَضعته لدوّنَ أقل مُدَّة الْحمل من الْملك أَو دون أَكْثَره من حِين وَطْء بعد الْملك فَإِن وَضعته بعد الْملك لدوّنَ أَقَله من الْوَطْء فَيحكم بِحُصُول علوقه فِي ملكه وَإِن أمكن كَونه سَابِقًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَه الصيدلاني وَأقرهُ فِي الرَّوْضَة
فَلَو حذف المُصَنّف لفظ الْمُطلقَة لَكَانَ أولى وأشمل
(وَصَارَت) أَي الْأمة الَّتِي ملكهَا (أم ولد) بِمَا وَلدته مِنْهُ (بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ) المقرونة بظنه (على أحد الْقَوْلَيْنِ) وَهُوَ الْمَرْجُوح لِأَنَّهَا علقت مِنْهُ بَحر والعلوق بِالْحرِّ سَبَب للحرية بِالْمَوْتِ
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهر كَمَا فِي الْمِنْهَاج وَغَيره لَا تصير أم ولد لِأَنَّهَا علقت بِهِ فِي غير ملكه فَأشبه مَا لَو علقت بِهِ فِي النِّكَاح
تَنْبِيه مَحل الْخلاف فِي الْحر أما إِذا وطىء العَبْد جَارِيَة غَيره بِشُبْهَة ثمَّ عتق ثمَّ ملكهَا فَإِنَّهَا لَا تصير أم ولد بِلَا خلاف لِأَنَّهُ لم ينْفَصل من حر
خَاتِمَة لَو أولد السَّيِّد أمة مُكَاتبَة ثَبت فِيهَا الِاسْتِيلَاد وَلَو أولد الْأَب الْحر أمة ابْنه الَّتِي لم يستولدها ثَبت فِيهَا الِاسْتِيلَاد وَإِن كَانَ الْأَب مُعسرا أَو كَافِرًا وَإِنَّمَا لم يخْتَلف الحكم هُنَا باليسار والإعسار كَمَا فِي الْأمة الْمُشْتَركَة لِأَن الإيلاد هُنَا إِنَّمَا ثَبت لحُرْمَة الْأُبُوَّة وشبهة الْملك وَهَذَا الْمَعْنى لَا يخْتَلف بذلك وَلَو أولد الشَّرِيك الْأمة الْمُشْتَركَة فَإِن كَانَ مُعسرا ثَبت الِاسْتِيلَاد فِي نصِيبه خَاصَّة وَإِن كَانَ مُوسِرًا بِحِصَّة شَرِيكه ثَبت الِاسْتِيلَاد فِي جَمِيعهَا كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ وَكَذَا الْأمة الْمُشْتَركَة بَين فرع الواطىء وأجنبي إِذا كَانَ الأَصْل مُوسِرًا وَلَو أولد الْأَب الْحر مُكَاتبَة وَلَده هَل ينفذ استيلاده لِأَن الْكِتَابَة تقبل الْفَسْخ أَو لَا لِأَن الْكِتَابَة لَا تقبل النَّقْل
وَجْهَان أوجههمَا كَمَا جزم بِهِ الْقفال الأول وَلَو أولد أمة وَلَده الْمُزَوجَة نفذ إيلاده كإيلاد السَّيِّد لَهَا وَحرمت على الزَّوْج مُدَّة الْحمل
وَجَارِيَة بَيت المَال كجارية الْأَجْنَبِيّ فَيحد واطئها وَإِن أولدها فَلَا نسب وَلَا استيلاد وَإِن ملكهَا بعد سَوَاء أَكَانَ فَقِيرا أم لَا لِأَن الإعفاف لَا يجب فِي بَيت المَال
وَلَو شهد اثْنَان على إِقْرَار سيد الْأمة بإيلادها وَحكم بِهِ ثمَّ رجعا عَن شَهَادَتهمَا لم يغرما شَيْئا لِأَن الْملك بَاقٍ فِيهَا وَلم يفوتا إِلَّا سلطنة البيع وَلَا قيمَة لَهَا بانفرادها وَلَيْسَ كإباق العَبْد من يَد غاصبه فَإِنَّهُ فِي عُهْدَة ضَمَان يَده حَتَّى يعود إِلَى مُسْتَحقّه فَإِن مَاتَ السَّيِّد غرما للْوَارِث لِأَن هَذِه الشَّهَادَة لَا تنحط عَن الشَّهَادَة بتعليق الْعتْق وَلَو شَهدا بتعليقه فَوجدت الصّفة وَحكم بِعِتْقِهِ ثمَّ رجعا غرما وَحكى الرَّافِعِيّ قبيل الصَدَاق عَن فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وَأقرهُ أَن الزَّوْج إِذا كَانَ يظنّ أَن أم الْوَلَد(2/661)
حرَّة فَالْوَلَد حر وَعَلِيهِ قِيمَته للسَّيِّد وَلَو عجز السَّيِّد عَن نَفَقَة أم الْوَلَد أجبر على تخليتها لتكتسب وتنفق على نَفسهَا أَو على إيجارها وَلَا يجْبر على عتقهَا وتزويجها
كَمَا لَا يرفع ملك الْيَمين بِالْعَجزِ عَن الِاسْتِمْتَاع فَإِن عجزت عَن الْكسْب فنفقتها فِي بَيت المَال وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم
قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى هَذَا آخر مَا يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الْإِقْنَاع فِي حل أَلْفَاظ أبي شُجَاع فدونك مؤلفا موضح الْمسَائِل مُحَرر الدَّلَائِل فَلَو كَانَ لَهُ نفس ناطقة ولسان منطلقة لقَالَ بمقال صَرِيح وَكَلَام فصيح لله در مؤلف هَذَا التَّأْلِيف الرَّائِق النفيس وَلَا شلت يدا مُصَنف هَذَا التصنيف الْفَائِق النفيس وَهَذَا الْمُؤلف لَا بُد أَن يَقع لأحد رجلَيْنِ إِمَّا عَالم محب منصف فَيشْهد لي بِالْخَيرِ ويعذرني فِيمَا عَسى يجده من العثار الَّذِي هُوَ لَازم الْإِكْثَار
وَإِمَّا جَاهِل مبغض متعسف فَلَا اعْتِبَار بوعوعته وَلَا اعْتِدَاد بوسوسته وَمثله لَا يعبأ بموافقته وَلَا مُخَالفَته وَإِنَّمَا الِاعْتِبَار بِذِي النّظر الَّذِي يُعْطي كل ذِي حق حَقه
إِذا رضيت عني كرام عشيرتي فَلَا زَالَ غضبانا عَليّ لثامها فَإِن ظَفرت بفائدة شاردة فَادع لي بِحسن الخاتمة وَإِن ظَفرت بعثرة قلم فَادع لي بالتجاوز وَالْمَغْفِرَة والعذر عِنْد خِيَار النَّاس مَقْبُول واللطف من شيم السادات مأمول(2/662)
وَأَنا أسأَل الله تَعَالَى أَن يَجعله لوجهه خَالِصا وَأَن يَنْفَعنِي بِهِ حِين يكون الظل فِي الْآخِرَة قالصا وَأَن يصب عَلَيْهِ قبُول الْقبُول فَإِنَّهُ أكْرم مسؤول وأعز مأمول ونختم هَذَا الشَّرْح بِمَا ختم بِهِ الرَّافِعِيّ كِتَابه الْمُحَرر بقوله اللَّهُمَّ كَمَا ختمنا بِالْعِتْقِ كتَابنَا نرجو أَن تعْتق من النَّار رقابنا وَأَن تجْعَل إِلَى الْجنَّة مآبنا وَأَن تسهل عِنْد سُؤال الْملكَيْنِ جَوَابنَا وَإِلَى رضوانك إيابنا اللَّهُمَّ بِفَضْلِك حقق رجاءنا وَلَا تخيب دعاءنا بِرَحْمَتك يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
انْتهى
وَصلى الله وعَلى سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وَذريته وَأهل بَيته صَلَاة وَسلَامًا وائمين متلازمين وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين
رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم وَاخْتِمْ لنا بِخَير أَجْمَعِينَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم وصل اللَّهُمَّ على سيدن مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم(2/663)