أنه سُئل عن آية في كتاب الله، قال سعيد: لا أَقول في القرآن شيئاً. قال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني عن القاسم بن محمد نحو ذلك قال مالك: وبلغني أَنَّ أَبا بكر قال: أَيُّ سماء تُظلني؟ وَأَيُّ أَرضٍ تُقِلُّني إن أَنا قلت على الله ما لا أَعلم.
قال محمد بن رشد: هذا من قول الأئمة من السلف الصالح حجة لقول من ذهب إلى أَن المتشابه من القرآن لا يعلم تأويله إلَّا الله، وأَن ذلك ممَّا استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله سواه، وأن الوقف في الآية يَحسُن عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فَثم تمَّ الكلام، ثم يبتدئ القارئ بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ومن أَهل العلم من يقول: إِن الراسخين في العلم يعلمون تأويله أيَضاَ بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، وجعل لهم من الطرق الموصلة إليه.
وتمام الكلام الذي يحسن فيه الوقف، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، ثم يبتدئ القارئ بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] أي وهم يقولون: آمنا به. وسيأتي الكلام على تفسير الآية في رسم البز إن شاء الله وبالله التوفيق.
[حكم المفاوضْة والمناظرة]
في استحسان المفاوضْة والمناظرة
قال مالك كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما رأيت أحداً لَاحَى الرجال لم يأخذ بجوامع الكلم.
قال محمد بن رشد: الملاحاة المفاوضة والمناظرة، فمن تدرب في ذلك تعلم تحسين العبارة في الحجة، فكان له بذلك فضل بيان الصواب بتحرير العلة. ورواه أَبو عبيدة في غريب الحديث: "عَجِبْت لِمَن لَاحَنَ الرِّجَالَ " بالنون. واللَّحَن الفطنة بفتح الحاء ومنه حديث النبي عليه(17/219)
السلام: «وَلَعلَّ بَعْضَكُم أَن يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ» .
[تَمْتَشِطَ الْحَادُّ بِالْحِنَّاء وَتَجْعَلَ فِي عَيْنِهَا صَبِراً]
فيما كرهت أم سلمة للحادِّ أن تفعله
قال مالك: بلغني أَنَّ أمَّ سَلَمَةَ كَرِهَتْ أن تَمْتَشِطَ الْحَادُّ بِالْحِنَّاء وَتَجْعَلَ فِي عَيْنِهَا صَبِراً.
قال محمد بن رشد: هذا في المدونة عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّهَا كَرِهَتْ أن تَمْتَشِطَ الْحَادُ بِالْحِنَّاء وقالت: تَجْمَعُ رَأسَهَا بِالسِّدْرِ، وهو مذهب مالك. قال: لا تمتشط بالحناء ولا الكتم، ولا بشيء مما يختمر في رأسها، وإنما كرهت - أم سلمة - أن تجعل في عينها صَبِراً لما جاء من «أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ دَخَل عَلَيْهَا وَهِيَ حَادٌّ عَلَى أبِي سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنِهَا صَبراً، فقَالَ: مَا هَذَا يا أمَّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أجْعَلِيهِ بِاللَّيْل وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ» . ذكر ذلك مالك في الموطأ وباللَّه التوفيق.
[قصر الصلاة بمنى وعرفة]
في قصر الصلاة بمنى وعرفة قال مالك: بلغني أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد اللَّه يفتيان بقصر الصلاة بمنى وعرفة، قال مالك: وحدثني نافع، أن ابن عمر كان يصلي ركعتين بمنى وعرفة، إلا أن يصلي مع الِإمام فيصلي بصلاته.
قال محمد بن رشد: معناه أنهما كانا يفتيان من حج من أهل مكة أو(17/220)
كان مقيماً بها من غير أهلها بقصر الصلاة بمنى وعرفة، كما كان يفعل ابن عمر في رواية نافع. وهو مذهب مالك لم يختلف قوله في أنه يقصر بمنى وبعرفة وفي مواطن الحج إلا في رجوعه من منى إلى مكة بعد انقضاء حجه، إذا نوى الإِقامة بمكة أو كان من أهلها على ما تقدم، فكان أولاَ يقول: إنه يتم، مراعاة لقول من يرى أنه يتم، إذ ليس في سفر تقصر في مثله الصلاة، وهو مذهب أهل العراق، ثم رجع فقال: إنه يقصر حتى يأتي مكة، بناء على أصله في أنه من أهل القصر دون مراعاة منه لقول غيره.
وكذلك اختلَف في ذلك أيضاً اختيار ابن القاسم. فمن ذهب إلى أنه يتم قال: إنما قصر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى وعرفة، لأنة كان مسافراً إذ لم يقم بمكة قبل. خروجه إقامة يجب عليه بها الإِتمام وهو مذهب أهل العراق. ومن ذهب إلى أنه يقصر قال: بل قصر رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بمنى وعرفة وقد أقام بمكة إقامة تخرجه عن السفر، لأنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة. فأقام بمكة إلى يوم التروية. وذلك أربع ليال، وقد مضى هذا المعنى في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وباللَّه التوفيق.
[ما يقال في الحج عند محاذاة الركن في بطن المسعى]
فيما يقال في الحج عند محاذاة الركن في بطن المسعى وسئلِ مالك عما يتكلم به الناس إذا حاذوا الركن الأسود: اللَّهُمَّ إِيمَاناَ بِكَ وَتَصدِيقاً بِكِتَابِكَ، وما يتبعه من الكلام مثل ما يقول في بطن المسعى: اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ واعْفُ عمّا تَعْلَمُ، فأَنكر ذلك وقال: ليس في هذا شيء معروف، ولا أعرف هذا، وأنكر أن يكون هذا من العمل، قال: وليس في ذلك شيء معروف، إلا على ما تيسر.
قال محمد بن رشد: قد استحب ابن حبيب أن يقول الحاج عند استلام الركن: بِاسْم اللَّهِ وَاللَّهُ أكْبَرُ اللَّهمَّ إِيماناً بِكَ، وَتَصْدِيقاً بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال فقد حدثني أصبغ عن ابن وهب عن محمد بن(17/221)
عمر، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم ناساً من أصحابه أن يقولوا هذا. واستحب أيضاً أن يقول في هرولته ببطن المسيل بين الصفا والمروة: رَبِّ اغفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَا تعْلَمُ أنْتَ الرَّبُّ الأحْكَمُ، وَأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَمُ. قال: فقد كان ابن عمر يقوله في هذا الموضع على ما حدثني غسان بن قيس عن ابن جريح عن مجاهد، وهذا كله من الكلام الحسن، فلا يكره مالك لأحد أن يقوله، وإنما أنكر أن يكون هذا من القول أمراً قد جرى العمل به فلا يتعدَّى إلى مَا سِوَاه من الذِّكر والدعاء. وبالله التوفيق.
[كراهية اتكاء الرجل على يده اليسرى عند أكله]
في ذكر كراهية اتكاء الرجل على يده اليسرى عند أكله وسئل مالك عن الرجل يأكل وهو واضعِ يده اليسرى على الأرض. فقال: إِني لأتَّقيه، وما سمعت فيه شيئاَ، وإني لأكرهه.
قال محمد بن رشد: كره مالك هذا لأنه أشبه عنده الاتِّكاءَ، وقد قال رسول اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئَاً» والمعنى الذي من أجله أبى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل متكئِاً هو مَا رُوي «أنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيهِ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْداً نَبيّاً وبين أن تَكُونَ مَلِكاً، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِبْرِيل كَالْمُسْتَشِير، فَأشَارَ جِبْرِيلُ إلَيْهِ أنْ تَوَاضَعْ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا بَلْ أكُونَ عَبْداً نَبِياً فَمَا أكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَاماً مُتَّكِئاً» . ويحتمل أن يكون المعنى في ذلك أنه يورث العجب والخيلاَء وأنه من فعل الأعاجم وباللَّه التوفيق.
[ثناء النبي عليه السلام على أصحابه]
في ثناء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أصحابه قال مالك: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:(17/222)
«نِعْمَ الرَّجُلُ أبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عمَر بْنُ الْخطَّاب، نِعْمَ الرجُلُ أبُو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجراح، نِعْمَ الرَّجُلٌ مُعَاذُ بْنُ جَبلٍَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، نِعْمَ الرجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ بْنِ شَمَاسٍ، نِعْمَ الرَّجُل عُمَرُو بْن الْجَمُوحَ» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث تقديم أبي بكر الصديق على عمر بن الخطاب، وليس في قوله: نِعْمَ الرَجُلُ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجرَّاح بعد قوله عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، دليل على أنه أفضل الناس بعده، والذي عليه عامة أهل السنة، وكافة علماء الأمة، أن أمة نبينا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أفضل الأمم، كما أنه هو أفضل الأنبياء والرسل، وخاتم النبيين، وسيد الخلق أجمعين، وأَن أفضل أصحابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثمِ عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، وقد روي هذا عن مالك نصاَ وقيل: إنه الذي رجع إليه بعد أن كان وقف في عثمان وعلي، فلم يفضل أحدهما على صاحبه على ظاهر ما وقع في كتاب الديات من المدونة على أنه كلام محتمل للتأويل، لأن قوله: ويرى الكف عنهما يحتمل أن يكون من كلام ابن القاسم، حكاية عن مالك، ويحتمل أن يكون من قول مالك، حكاية عمن أدرك ممن يقتدي به ولعله يريد في الرواية، لا في العلم والفقه، ولعلَّه قد صح عنده عمَّن لم يدرك ممن هو أرفع مرتبةً ممن أدرك تفضيل عثمان على علي، فأخذ بذلك، على ما روي عنه منصوصاً عليه، وقد وقع في بعض الروايات، ورأيته يرى الكف عنهما، فيكون هذا تأويلاً من ابن القاسم على مالك، والتأويل قد يخطئ ويصيب. ثم يقدم بعد هؤلاء الخلفاء في التفضيل، بقية العشرة، الذين شهد لهم رسول اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، وهم الزبيرُ بن العوَّام، وطلحة بن عُبيد اللَّه، وعبد الرحمن بن عوف، وسعدُ بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعيد بن زيد.(17/223)
وهؤلاء العشرة كلهم بدريُون، ثم التقدم بعد هؤلاء العشرة في الفضل لبقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، وهم أصحاب الشجرة ومنهم من اتفقت له هذه المواطن كلها، ومنهم من نال بعضها، ثم مَنْ أنْفَقَ مِن بَعْدِ الْفَتح وَقَاتَلَ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ومن أهل العلم من ذهب إلى أن من مات في حياة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء، مثل حمزة، وجعفر، وسعد بن معاذ، ومصعب بن عمير، أو مات في حياته وإن لم يكن من الشهداء، كعثمان بن مظعوّن الذي قال فيه رسول اللًه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلبَّسْ مِنهَا بِشَيْءٍ» أفْضَل مِمَّنْ بَقِيَ بَعْدهُ. وإياه اختار ابن عبد البر ومن حجتهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشَهَدَاءُ أحَدُ هَؤُلَاءِ اشهد عَلَيْهِمْ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ الصدَيقُ: ألَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِم أسْلَمْنَا كَمَا أسْلَموا وَجاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ فَقَال رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلَى وَلَكِنْ لَا أدرِي ما تُحْدثونَ بَعْدِي» . وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الحديث ليس على عمومه في أبي بكر وغيره، لأن العموم قد يراد به الخصوص، كقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ أشْدُدْ وَطْأتَكَ عَلَى مُضَرٍ» . وإنما أراد الكافر منهم دون المؤمن، فالقول الأول هو الصحيح، ويؤيده ما روي عن ابن عمر أنه قال: كُنَّا نفاضل على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول: أبو بكر ثم عثمان، ثم نسكَت، وباللَّه تعالى التوفيق.(17/224)
[التوصية بالقبط]
في التوصية بالقبط قال مالك: عَن ابْنِ شِهَاب، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكَ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا افتَتَحْتُمْ مِصْرَ، فَاسْتَوْصُوا بِالقِبْط خَيْراَ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً» قال: وكان يقال: أم إسماعيل بن إبراهيم آجرُ منهم.
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث علم من أعلام النبوءة، لأنه أعلم فيه بما يكون من افتتاح مصر بعده، والرحم الذي للقبط هو ما ذكره من أن أم إسماعيل منهم. وأما قوله: إِنَّ لهُم ذِمَّةً وَهم يومئذ لا ذمة لهم، لأنهم أهلُ حرب، فمعناه: إِن لهم ذماماً برحمهم، يجب مراعاتها لهم إذا عوهدوا أو مُلكوا ويقال: هَاجَرَ وَآجَر، وذلك واحدٌ، مثل أرقت الماء وهرقت الماء. واللَّه الموفق.
[ما جاء من أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء]
فيما جاء من أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء قَالَ مَالِكٌ عَن نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْكَافِرُ يأكلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يأكلُ فِي مِعي وَاحِدِ» .(17/225)
قال محمد بن رشد: هذا من المجاز على غير حقيقة اللفظ، لأن عدد أمعاء الكافر والمؤمن سواء، فإنما هو مَثَلٌ ضربه في قلة الأكل من كثرته، على سبيل الاستعارة. وهو كثير. من ذلك قوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] واختلف في تأويله، فقيل: إنه على ظاهره في مقدار أكل المؤمن من أكل الكافر، ومعناه: في الرجُل بِعَيْنِهِ الَذِي ضَافَ النَّبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهُوَ كَافِرٌ، فَأمَرَ لَهُ النَّبيُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا ثَمّ بِأخْرَى فَشَرِبَه، ثُمَ بِأخْرَى فَشَرِبَهُ، حًتّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْع شِياهٍ، ثمَ إِنَّهُ أصْبَحَ فَأسْلَمَ فَأمَرَ لَهُ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ، فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أمَرَ لَهُ بِأخْرَى فَلَمْ يَسْتَتمَّها فقال ذلك القول، فكان مقصوراً على ذلك الرجل الذي كان سببه، ولم يكن على عمومه في كل مسلم وكافر، وقيل: ليس على ظاهره في مقدار أكل المؤمن من أكل الكافر إذ قد يكون الكافر قليل الأكل، والمؤمن كثير الأكل، وقد كان يطرح لعمر صاع من تمر فيأكله، حتى يأكل حشفه، وَمَن يُساويه في جودة الإيمان؟ وإنما معناه: إِنَّ الكافر يرغب في الدنيا ويستكثر منها، ولا يؤثر على نفسه، إذ لا يعتقد القربة بذلك، والمؤمن يدخر فيها، ولا يستكثر منها، ويطوي بطنه عن جاره، ويؤثره على نفسه، أي إن هذا هو فعل المؤمن الممدوح إيمانه، وهذا أولى ما قيل في تأويل الحديث. وقد قيل: المعنى فيه إِن المسلم يسمي اللَّه تعالى على طعامه ليضع له البركة به، والكافر لا توضع له البركة في طعامه أي لا يسمي اللَّه عز وجل واللَّه أعلم.
[ما جاء في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ]
في أنَّ الحُمّى مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ قال مالك: عَن نَافِعٍ عَن ابن عُمَرَ إِنَّ النَّبيً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/226)
وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْحُمّى مِنْ فيْح جَهًنّمَ، فأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» .
قال محمد بن رشد: أعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذا الحديث أن ما يجده المحموم من حر الحمى هو من حر جهنم، كما أعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ما يجده الناس من شدة الحر، هو من فيح جهنم، فوجب الِإيمان بذلك، وأن اللَّه عز وجل يبتلي المؤمن بالحمى من فيح جهنم، ليثيبه على ذلك، وقد كان مجاهد يقول في قول اللَّه عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن ورود المؤمن هو ما يصيبه في الدنيا من حمى ومرض، وذلك حظ من النار. وروي ذلك في حديث عَنْ أبِي صَالِحٍ «عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُود رَجلاً مِنْ أصْحَابِهِ وَعِكاً وَأنَا مَعَهُ ثُمِّ قَالَ: إِنَ اللَّهَ عًزّ وَجَلَّ قَالَ: هِيَ نَارِي أسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُون حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَة» .
[ما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به]
فيما يروى عن ابن عمر أنه كان يدعو به قال مالك عن نافع، قال: كان ابن عمر يقول: اللَّهُمَّ أذهِبْ عَنِّي الرَجْزَ.
قال محمد بن رشد: الرجز العذاب، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} [الأعراف: 135] أي العذاب الذي أرسله عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع. وقد يراد بالعذاب وسوسة الشيطان، لأنها مُؤدية إلى(17/227)
العذاب. قال عز وجل: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11] إلى قوله: {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] أي وسوسته، وهو الذي أراد ابن عمر بما دعا به. واللَّه أعلم، لأن من سلم من وسوسة الشيطان بعصيانه، وترك طاعته، فقد نجا، واستوجب جنة المأوى. فخير ما يدعو به العبد ويرغب فيه إلى ربه أن يعصمه من الشيطان الرجيم. وباللَّه التوفيق.
[وصايا عمر بن الخطاب]
فيما ذكر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أوصى به عن زيد بن أسلم أنَّ عمرَ بْنَ الْخَطَّاب قَالَ: أوصِيكُم بِالأنْصَارِ خَيْراً وأوصِيكُم بِالْعَرَب خَيْراً وَأوصِيكُم بَأهل الذِّمَةَ خَيْراً. وقال مالك عن يحيى بن سعيدَ، أن عمر بن الخطاب كان يقول: مَنْ كَانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَعْمُرْهَا، ومن كان له مال فليصل فيوشك أن يأتي من لا يعطي إلا من أحب.
قال محمد بن رشد: المعنى في توصيته بمن وصى بهم أن يُحفظوا ويُراعوا ويُحسَن إِلى مُحسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. وإنما أوصى بالأنصار لتقدمهم في الِإسلام، وسابقتهم فيه، ولأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أوصى بهم، وَدَعَا لَهُم وَلِأبْنَائِهِم، فَقَالَ: «اللَّهًمَّ اغْفِرْ لِلأنْصَارِ، وَلأِبْنَاء الأنْصَارِ» . وإنما خص العرب بالتوصية بهم دون غيرهم، من العجم، لمكانتهم من النسب، ولما خشِي أن يُجْهَلَ عليهم، لما في كثيرٍ منهم من الجهل، وإنما أوصى بأهل الذمة مخافة أن تُستخف إذايتُهم من أجل كفرهم. وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَداً أوْ ذِمِّيَاَ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وإنَّ رَائِحَتَها لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ» . وإنما(17/228)
أوصى الناس بحفظ أموالهم بالقيام عليها، مخافة أن يضيعوها اتكالاً منهم على أعطيات الِإمام. وقد نهى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن إِضَاعَةِ الْمَال. وهذا من إضاعته. وقد قيل في تأويله غيرُ ما وَجْهٍ. وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَيُوشِكُ أن يَأتِيَ مَن لَا يُعْطِي إِلاَّ مَنْ أحبَّ. معناه: فيغلب على الظن أن ذلك يكون فكان كما غلب على ظنه. وقد كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول الشيء على ظنه، ويرأسه، فيكون على ما قال. من ذلك قوله: " وَافَقْتُ ربِّيِّ فِي ثَلَاثٍ. منها: آيَةُ الْحِجَابِ، وآيَةُ فِدَاءِ الأسْرَى، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سَيَكُونُ بَعْدِي مُحَدَّثُونَ، فَإِن يَكُنْ فَعُمَرُ، فَقَال: إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ عَلَى قَلْبِ عمَرَ وَلِسَانِهِ بِالصِّدْقِ» وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: كنّا نَعُدّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ على لِسان عُمر.
وأما قوله: أدركْ أهلَك فقد احترقوا للذي سأله عن اسمه، فقال حمزة: فقال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: مِمّن؟ قال من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيتها؟ قال: بذاتِ لظى. فكان كما قال، فإنما ذلك واللَّه أعلم من معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّ الْبَلاَءَ مًوَكَّلٌ بِالْقَوْل» . وباللَّه التوفيق.
[ما يقاتل عليه الناس]
فيما يقاتل عليه الناس قال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أُمِرْت أن أقَاتِلَ النَّاسَ حًتّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلّاَ اللَّهَ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي مَاءهُم وأَمْوَالَهُم إِلَّا(17/229)
بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ» .
قال محمد بن رشد: معنى قوله: " حَتَّى يَقُولُوا لَا إلهَ إلَّا اللَّهُ " أي حتى يسلموا فيقولوا لا إلهَ إلّاَ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ويلتزموا سائر قواعد الِإسلام. وهي الصلاة والزكاة والصيام، وحج بيت الله الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بُنيَ الِإسْلَامُ عَلَى خَمْس شَهَادَة أَن لَا إله إلاَّ الله وَإقَام الصَّلاَةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْم رَمَضَانَ، وَحَجِّ بَيْتِ اللِّهِ الْحَرَام» لَا أن قتالهم يحرم بمجرد قول لا اله إلا الله فقد قال أبو بكر الصديق: والله لأقَاتِلَنَّ من فرَّق بَيْنَ الصَلاَةِ وَالزَّكَاةِ. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ذُكر في بعضها مع شهادة أن لا اله إلا اللَّه الصلاة، وفي بعضها الصلاةُ والزكاة، وفي بعضها الصيام والصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان. وأداءُ الخمس وهو بين ما ذهبنا إليه من أنَّ الشرائع داخلة في الحديث بالمعنى، وإن لم تذكر فيه. وقد ذهب بعض من تكلم على معاني الحديث أن ما روي في هذا الحديث من اختلاف الألفاظ فيه، محمولة على ظاهرها من التعارض، لأن المعنى فيها أنها مرتبة على الأزمان، لأن الفرائض كانت تَنْزِلُ شيئاً بعد شيء، فالحديث الذي لم يذكر فيه شيء من الشرائع، كان في أول الإسلام قبل فرض الصلاة، والحديث الذي ذكر فيه الصلاة، ولم يذكر فيه الزكاة، كان قبل فرض الزكاة، والحديث الذي ذكر فيه الزكاة والصلاة، ولم يذكر فيه صيام رمضان كان قبل فرض صيام رمضان. والحديث الذي ذكر فيه صيام رمضان متأخراً عن الأحاديث الأول، والذي ذكرناه وذهبنا إليه في تأويل الحديث أولى والله أعلم. ومعنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ " أي أنه(17/230)
هو يحاسبهم بما يعلمه من صدق نياتهم في ذلك، إذ لا يعلم حقيقة ذلك سواه. فإن اعتقدوا بقلوبهم ما قالوه بألسنتهم، كانوا مسلمين مؤمنين، وانتفعوا بإسلامهم، وإن لم يعتقدوه بقلوبهم، لم ينتفعوا بإسلامهم. وقد تكلمنا في صدر كتاب المقدمات على حكم الِإيمان والِإسلام والفرق بينهما عند من رآه وبالله التوفيق.
[ترك غسل الجمعة]
في جهل تارك غسل الجمعة قال مالك: بلغني عن ابن مسعود أنه سئل عن شيء فقال: لئن جهلت هذا لأنا أجهل من تارك غسل يوم الجمعة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه لا يترك سنة الغسل يوم الجمعة إلا من جهل السنة في ذلك، ولم يعرف قدرها لمن التزمها، ولم يضيعها من الفضل في ذلك، أو علمه فحرم التوفيق. وَقَدْ وَبَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَاب عُثْمَانَ بْن عَفانَ، إذْ جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: أَيَّةُ سَاعَةِ هَذِهِ؟ فَقَالَ يَا أميرَ الْمُؤْمِنِين: انْقَلَبْتُ مِن السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْت عَلى أن تَوَضَّأت، فَقَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءَ أَيْضاً؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَن رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يَأمرُ بِالْغُسل. وبالله تعالى التوفيق.
[هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم رجع إليه]
في هل يكون الرجل أحق بمجلسه إذا قام عنه ثم رجع إليه؟ وسئل مالك عن الرجل يقومُ من المجلس، فقيل له: إن بعض الناس يزعم أنه إذا قام الرجل من مجلسه ثم رجع إليه، إنه(17/231)
أحق به، فقال سمعت في ذلك شيئاً، وإنه لحسن إن كان إتيانه قريباً، وإن تباعد ذلك حتى يذهب بعيداً ونحو ذلك، فلا أرى ذلك له. وإن هذا لمن محاسن الأخلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وإنه لحسن إن كان إتيانه قريباً، معناه: إذا قام عنه على أن لا يرجع إليه، وأما إن قام عنه على أن يرجع إليه فهو أحق به إن رجع بالقرب، فتحصيل هذا أنه إن قام عنه على أن لا يرجع إليه فرجع بالقرب، حسُن أن يقوم له عنه من جلس بعده فيه، وإن لم يرجع بالقرب، لم يكن ذلك عليه في الاستحسان، وإن قام عنه على أن يعود إليه فعاد إليه بالقرب، كان أحق به، ووجب على من جلس فيه بعده أن يقوم له عنه، وإن لم يعد إليه بالقرب، حسُن أن يقوم له عنه مَن جلس فيه بعده، ولم يجب ذلك عليه. وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن المرء مع من أحب]
قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: عَن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ «إنَّ أعرابِياً أدْرَكَ النبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ: مَتَى تَقُومُ السَّاعَة؟ فَقَالَ: وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا، قَالَ لَا شَيْءَ، وَاللَّهِ لأنِّي قَلِيلُ الصَّلَاةِ، قَلِيلُ الصِّيَام، إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإنَّكَ مَعَ مَن أحببت» .
قال محمد بن رشد: قوله: إني لقليل الصلاة، قليل الصيام، معناه في النافلة لا في الفريضة، لأن من ترك بعض الصلاة المفروضة، والصيام المفروض، مضيِّعاً لذلك أو مفرطاً فيه فمذهب ابن حبيب فيه أنه كافر. وذهب غيره إلى أنه لا يكون كافراً بترك شيء من الشرائع إلا بترك الصلاة خاصة، تعلقاً بظاهر ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: مَن(17/232)
تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَن تَرَكَ الصَلَاةَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلهُ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ فَقَدْ حُشِرَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ) . والصحيح أنه لا يكون كافراً وإن تركها مضيعاً لها أو مفرطاً فيها، إذا كان مقراً بفرضها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُن اللهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْم وَاللَّيلة، مَن جَاءَ بِهِن لَمْ يُضَيًعْ مِنْهُن شَيئَاَ اسْتِخْفَافاً بِهَن، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أن يُدْخله الجنةَ، ومَن لَم يأتِ بِهِن، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الله عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذبَهُ، وإن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» ، فإنما يستحق الرجل بتضييع الصلوات اسم الفسق، لا اسم الكفر. وقوله في الحديث: كَان لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْد أَن يدخله الجنة، معناه: ابتداءً دون أن يعذبه بإدخال النار، وقوله: فَلَيْس لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إن شَاءَ عَذبَهُ، وإن شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجنًةَ معناه: إن شاء عذبه ثم أدخله الجنة، وإن شاء أدخله الجنة ولم يعذبه، لأن من مات على الِإيمان، فلا بد له من دخول الجنة، لأنهُ إن دخل النار، فلا بد أن يخرج منها بالشفاعة على ما تظاهرت به الآثار وبالله التوفيق.
[سؤال الناس النبي عليه السلام الاستقاء]
في سؤال الناس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الاستقاء وسمعت مالكاً يقول: «أُتي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقيل له: يَا نَبيَّ اللَّهَ: اسْتَسْقِ لَنَا فَدَعَا اللَّهَ لَهُم فَسُقُوا. ثمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ قابِل، جَاؤُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِينَا، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ سَقْيَ الْكُفَّارِ؟» .
قال محمد بن رشد: في هذا دليل على صحة رواية أبي(17/233)
المعصب عن مالك، إن الاستسقاء على سنة الاستسقاء من البروز إلى المصلى لا يكون إلا عند الحطمة الشديدة، ولا يؤثر عنه ولا عن أصحابه فيما علمت خلاف ذلك، فيحمل على البيان للمذهب، ويشهد لصحتهما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنمَا اسْتَسْقَى حِينَ جَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه: هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادْعُ الله وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن لله عباداً أهل عافية في الدنيا والآخرة]
قال مالك وبلغني أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إنَّ لَلّهِ عباداً أَهْلَ عَافِيَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، إذ قد يكون الرجل يرزق المال الحلال فيعيش منه العيش الحسن، ويؤدي حق الله، ويقيم فرائضه من الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويجتنب محارمه، ويعافيه الله في بدنه طول حياته، ثم يميته على الِإيمان، فيكون معافيه في الدنيا والآخرة وبالله التوفيق.
[الحلف بالله على الصدق]
في الحلف بالله على الصدق قال مالك: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: إنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إلاَّ وَأَنْتُم صَادِقُونَ، وَأَنَا أَقُولُ لَكُم لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ صَادِقِينَ وَلَا كَاذِبِينَ، قُولُوا: بَلَى وَنَعَمْ.(17/234)
قال محمد بن رشد: ظاهر قول عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن شرعه مخالف لشرع موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبله فيِ إباحة الحلف بالله عز وجل على الصدق، ومخالف لشرعنا أيضاً، لأن اللَّه تعالى قد أمر نبيه بالحلف باسمه في غير ما آيةٍ فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] ، وقال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال: قُلْ: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً ما يحلف لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَلَا وَمُقَلِّب الْقُلُوب. وَلا وجه لكراهة ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شَك أن في ذكر الله تعالى على قصد التعظيم له أجراً عظيماً، ويحتمل أن يكون عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما كره لهم اليمين بالله صادقين وكاذبين، مخافة أن يكثر منهم، فيكون ذريعةً إلى حلفهم بالله على ما لم يقولوه يقيناً أو يواقعوا الحنث كثيراً ويقصروا في الكفارة، فيواقعوا الإثم من أجل ذلك، لا من أجل اليمين بالله.
وقد مضى في آخر سماع أشهب من كتاب النذور، لتكرر المسألة هناك.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: وبلغني أن لقمان قال لابنه: يا بُنَيِّ جَالِس الْعُلَمَاءَ، وَزَاحِمْهُم بِرُكْبَتِكَ، فَلَعَلَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِم فَتصيبك مَعَهُم، وقال له في الفجار، في مجالستهم، مثل ما قال له في العلماء في الرحمة لئلاَّ ينزل عليهم سخط فيصيبك معهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين واضح ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى التوفيق.(17/235)
[ما جاء في الِإبار]
قال مالك: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَعْض الْحَوَائِطِ وَهُم يَأبرُون النَّخْلَ وَيُلَقِّحُونَهَا، فَقَالَ: " مَا عَلَيْكُمْ أَلّاَ تَفْعَلُوا " قالَ: فترك الناس الإبار في ذلك العام، فلم تطعم النخل، فشكوْا ذلك إلى رسول اللًّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إِنَّما أنَا بَشَر، فَاعْمَلُوا بِمَا يُصْلِحُكُم» .
قال محمد بن رشد: التلقيح وضع الذكور في الأنثى. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة، يقرب بعضها من بعض منها: أنه قال: «مَا أَظنّ هَذَا يُغْنِي شَيْئاً وَلَوْ تَرَكُوهُ لَصَلُحَ، أَوْ لَا لِقَاحَ، أَوْ مَا أَرَى اللِّقاح شَيْئاً فتركوه فشيص فأخبر به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَا أنَا بِزَارِعٍ وَلَا صِاحِبِ نَخْلٍ، لَقِّحُوا أو قال: " إنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنّاً، وَالظَّنُّ يَخْطِئُ وَيُصِيبُ أَو لا تؤاخِذُوني بِالظَّنِّ، وَلَكِن إذَا حًدّثْتًكُم عَنِ اللَّهِ شَيْئاً فَخُذُوهُ، فَإنِّي لَنْ أكْذِبَ عَلَى اللَّهِ» . فقال الطحاوي فيما روي من ذلك كله: إنه ليس باختلاف تعارض، وإنما معناه أنه قال ما قال من ذلك لقوم بعد قوم، فحكى كل واحد منهم ما سمع، ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ممن يعاني ذلك ولم يكن من بلد فيه نخل، فاتسع له أن ينفي ما توهم بالظن استحالته، وهو أن يكون الِإناث من غير الحيوان يأخذن من الذكور شيئاً، ولم يكن ذلك إخبار منه عن وحي. هذا معنى قول الطحاوي والذي أقول به في ذلك إنه إنما قال للذين رآهم يأبرون النخل ويلقحونها ما قال لهم مما روي عنه في ذلك أنه قاله لهم لما علمه من أنه لا تأثير لشيء من(17/236)
المخلوقات في شيء منها بإفساد ولا إصلاح. وإنما الله هو المفسد المصلح، الفاعل لكل شيء، إلا أنه تعالى قد أجرى العادة بأن يفسد من المخلوقات، وأن يصلحها عند مباشرة غيرها لها، ويعلم ذلك من الناس من جرَّبه، فوجد العادة مستمرة عليه، كالأطباء الذين يعلمون الأدوية النافعة من الضارة لتجربتهم وتجربة من تقدم من أسلافهم، ولا يسلم من ذلك سواهم ممن لم يجرب من ذلك ما جربوه، فكذلك إبار النخل وتلقيحه، علِم الانتفاع به من جربه من أهل النخل بطول التجربة، ولم يعلمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ لم تتقدم له به تجربة، فقال لهم ما قال، مما هو مذكور في الآثار. وقولي كالأطباء الذين يعلمون الأدوية النافعة من الضارة، تَجَوُّزٌ في العبارة، إذ ليس الأدوية على الحقيقة بنافعة ولا ضارة، وإنما النافع والضار الله رب العالمين.
[حكم الصفرة للرجل]
في إنكار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الصفرة للرجل، وإقادته من نفسه قال مالك: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلاً فيه أثَرُ صُفْرَةٍ، فَطَعَنَهُ بقدحٍ كَانَ مَعُه، فَقَالَ: له: أوْجَعْتنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَطَرَحَ الْقَدَحَ إلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهُ: " اسْتَقِدْ " فَقَالَ لَهُ الرجُل: إنَّ اللَّهَ بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَعَلَيْكَ قَمِيصٌ، وَلَيْسَ عَلَيَّ قميصٌ. قال: فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ عَنْهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُقَبِّلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ» .
قال محمد بن رشد: قوله: وبهِ أثَرُ صُفرَة معناه والله أعلم وبه ودع من زعفران، ففي طعنِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه لِما رأى به من ذلك على ما يدل عليه ظاهر الحديث، دليل على أن ذلك لا يجوز له، إذ لا ينكر على أحد ما يجوز له أن يفعله. وهذا نحو ما جاء عنه صلى الله(17/237)
عليه وسلم من رواية أنس بن مالك: «أنه نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» وهو معارض لحديث أنس بن مالك في الموطأ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إِلَى رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِهِ أثرْ صُفْرَةٍ، فَسَألَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأخْبَرَهُ أنَّهُ تَزَوَّجَ. الحديث إلى قوله: أوْلِمْ وَلَوْ بشَاةٍ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُنكر عليه ما رأى به من أثر الصفرة، كما فعل بالرجل الذي طعنه بالقدح. ولتعارض هذه الآثار اختلف العلماء هل يكره للرجل أن يصفر لحيته بالزعفران، ويلبس الثياب المصبوغة؟ فذكر مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْمِشْقِ، وَالْمَصْبُوغَ بالزّعْفَرَانِ. وجاء ذلك عن جماعة من السلف، وأخذ به مالك وأصحابه، فأجازوا لباس الثياب المصبوغة بالزعفران للرجال.
وإنما كره ذلك مالك في الإِحرام. وقد سئل ابن شهاب عن الخلوق، فقال قد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخلقون، ولا يرون بالخلوق بأساً. وكره الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما أن يصبغ الرجل ثيابه ولحيته بالزعفران. وقال ابن شهاب هذا جائز عند أصحابنا في الثياب دون الجسد، وهو قول ثالث في المسألة.
وإقادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل الذي طعنه بالقدح من نفسه تواضعاً منه لله بأن أعطى من نفسه ما لم يجب عليه، إذ لم يفعل به إلا ما كان له أن يفعله به، لمخالفته ما كان قد علمه من أمره والله أعلم. لكنه لما قال له: قدْ أوجعتني خشي أن يكون قد تجاوز القدر الذي كان أراده خطأً منه. والخطأ ليس بمسئول عنه، فتنحى من ذلك بالِإقادة من نفسه تطوعاً من غير(17/238)
أن يجب ذلك عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم فمر به ابن غزية حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنصل من الصف فطعن في بطنه بالقدح، وقال: استوِ في الصف يا سواد، فقال: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني قال: فكشف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بطنه. فقال. استقد. قال: فاعتنقه وقبل بطنه. فقال: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يا سَوَادُ قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بخير وقاله» .
وقع هذا الحديث في البر لابن هشام فإن كان حديث الجامع، على ما يدل عليه ظاهره من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنما طعن الرجل من أجل ما رأى به من الصفرة، فهو حديث آخَر، في رجل آخَر، ويحتمل أن يكون هو الحديث بعينه، ويكون المعنى فيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى الرجلَ يريد سواد بن غزية، وفيه أثر صفرة خارجاً عن الصف يوم بدر، فطعنه بقدح كان بيده، ليعتدل في الصف. الحديث. وقوله: فجعل الرجل يقبل ذلك الموضع، إشارة منه إلى الموضع الذي كشفه له ليستقيد منه. وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه]
فيما جاء من أن رسول الله لم ينتقم قط لنفسه قال مالك: بلغني «أن عائشة قالت: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلّي اللهُ عَلَيْهِ وَسلّمَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ أتَى إِلَيْهِ إِلّاَ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتقِم لِلّهِ مِنْهَا» .
قال محمد بن رشد: يشهد لما قالته عائشة قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] «وسئلت عائشة عن خُلقِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/239)
وسلم قالت: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ» تريد أنه كان جبل على ما حَض الله عليه في القرآن من العفو والصفح. والتفضل والإِحسان بقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلمُ عمن جهل عليه، ويعفو عمن ظلمه، فلا ينتقم إلا لله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْتُ لأتَمِّم حسن الأخْلَاقِ» وبالله التوفيق.
[التحذير من الدخول في الفتن]
في التحذير من الدخول في الفتن
قال مالك: وبلغني أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان مجالس رجل من الأنصار يسمى أبا جُهَيْم، قال: فكان عبد الله ابن عمرو بن العاص يحدثه عن الفتن، فلما كانت الفتنة، بلغ أبا جهيم الذي كان من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: دخل فيما دخل فيه. وقد كان يحدثني بما يحدث به في الفتن. إن لله علي أَلَّا أكلمه أبداً. قال: فقدم عبد الله بن عمرو بن العاص فلقي الرجل فكلمه فأبى ثم كلمه فأبى فقال عبد الله: أنَا أعْرِفُ لم تركت كلامي لما كنت أُحدثك؟
قال محمد بن رشد: أبو جُهَيم هذا هو والله أعلم عبد الله بن جهيم الأنصاري الذي روى عن النبي عليه السلام في المارِّ بَيْنَ يَدَي(17/240)
الْمُصَلي أنَّهُ لَوْ عَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أن يَمُرَ بَيْنَ يَدَيْهِ ويحتملّ أن يكون أبو جهيم بن الحرث بن الصمة الأنصاري الذي روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه أتى من نحو بير جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه شيئاً، حتى أتى على جدار، فمسحَ بوجهه ويديه، ثم رد عليه. وعبد الله بن عمرو بن العاص من فضلاء الصحابة، ولد لأبيه عمرو وهو ابن بضع عشرة سنة، وأسلم قبله، وكان يسرد الصوم، ويقوم الليل، فشكاه أبوه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً، وإن لأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَإِنَّ لَزَوْجك عَلَيْك حَقاً قُمْ وَنَمْ وَصُمْ وأفْطِرْ صُمْ ثَلَاثَةٌ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ، قَالَ: فَإنِّي أطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُهُ في الصِّيَام حَتَى قَالَ لَهُ: لَا صَوْمَ أفضَلُ مِنْ صَوْم دَاوُودَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً» «ونازل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضاً في ختم القرآن فقال: " اخْتمْهُ في شَهْرٍ، فَقَالَ: إِنِّي أطِيقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعه حَتَّى قَالَ: لَا تَقْرَأهُ فِي أقلَّ مِنْ سَبْع» وروي في أقلَّ مِنْ خَمْسٍ والأكثر على سبع.
فوقف عند ذلك فكان لَمَّا أسنَّ يقول: وددت أنَّي قبلت رخصة رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والذي كان يحدث به أبا جُهَيم عن الفتن هو ما روي عن النبي عليه السلام من التحذير منها نحو قوله: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِد فِيها خَيْر مِنَ الْقَائِم، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ(17/241)
المَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الساعِي مَن تَشَرَّفَ لَهَا تَستَشْرِفُه وَمَنْ وَجَد فيهَا مَلْجأً وَمَعَاذَاً فَلْيَعُذْ بِهِ ".» وقوله: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفِّاراً يَضرِب بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ» وما أشبه ذلك من الآثار المروية في ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنه كان حافظاً لآثاره، لأنه استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكتب حديثَه فأذِنَ له في ذلك، فكان واقفاً عليه وحافظاً له. والذي دخل فيه من أمر الفتنة وهجره عليه أبو جُهيم، هو شهوده صفين وقتاله مع معاوية. وقد ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ، وليس ذلك مما يقدح في عدالته، لأنه لم يفعل ذلك إلا وهو على بصيرة من أمره فيما أداه إليه اجتهاده.
وقد روي أنه اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا بسهم، وأنه إنما شهدها لعَزْم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أطع أبَاكَ» . وإنما أطاعه بما عرض عليه من الحجة التي ظهرت عليه حينئذ، لا أنّه أطاعه ويعتقد أنه على خطأ. هذا ما لا يحل أن يتأول عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنه لا طَاعَةَ لأَحدٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ثم اعتذر بعد ذلك من الأمر، إذ ظهر له خلاف رأيه الأول فيه، فهو محمود في كِلتي الحالتين، وَعتْبُ أبي جُهيم عليه، إنما كان إذ لم يتورع عن ذلك. وقد كان في سعة منه. وإن كان يرى حينئذ أن معاوية على صواب لأنه رآه مغرراً إذ من يقاتل على الاجتهاد فيما لا نص فيه، فقد تذكره البصيرة في خلاف رأيه، وهو قد نشب في القتال، فتذكره الحمية مما دخل فيه من القتال فيتمادى عليه،(17/242)
فيكون قد وقع في الحرج، والتوقي من ذلك هو الحظ، كفعل أحد ابني آدم، إذ قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] ولا شك أنه رجع إلى تكليمه إذ بين له الوجه الذي دخل فيما دخل فيه من أجله، فهو الذي يدل عليه قوله له: أنا أعرف لما تركت كلامي لما كنت أحدثك به، لأن المعنى في ذلك، أنا أعرف ذلك، وإنما دخلت فيما دخلت فيه لوجه كذا والله أعلم.
[التحفظ من سوء الظن ونصيحة الِإمام لرعيته]
في التحفظ من سوء الظن ونصيحة الِإمام لرعيته قال مالك: بلغني أن ابن عمر باع من رجلين تبناً، قال: فكان يكيل لهما، وقعد إلى جنب حائط في ظله، فذهب الظل عنهما، وأصابت ابن عمر الشمس، فقال له الرجل: إن لو انصرفت عن الشمس، فإنا لا نزيد على حقنا. فقال: أما إني لا أرى إلا وقد صدقتكما، ولكن القعود في الشمس أحب إلي من ظن السوء.
قال مالك عن قطن بن وهب عن عمه، أنه سمعه يقول: كنت مع عمر بن الخطاب حتى إذا كنا بالرَّوْحَا أو قريباً من الروحا، رأى عمر بن الخطاب راعياً فعدل إليه من الطريق برواحله، حتى دنا منه، ثم قال: يا راعي إني رأيت مكاناً هو أكلأ من هذا المكان الذي أنت فيه، فانتقل إليه وهو مكان كذا وكذا، ألا وإن كل راع مسئول عن رعيته. ثم انصرف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذين الحديثين بيِّن، ليس فيه ما يخفى فيحتاج إلى بيانه وبالله التوفيق.
[التحذير من اتباع الهوى ومن الزيغ البعيد]
في التحذير من اتباع الهوى ومن الزيغ البعيد وقال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: أُحَذِّرُكُم مَا(17/243)
مَالَتْ إِلَيْهِ الأهْوَاء وَالزَّيْغَ الْبَعِيدَ.
قال محمد بن رشد: إنما حذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اتباع الهوى لقوله عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] والزيغ البعيد هو الِإغراق في القياس، والغلو في الدِّين، وكلاهما مذمومان، لأنك لا تكاد تجد الِإغراق في القياس إلا مخالفاً للسنة، والغلو في الدِّين منهي عنه. قال عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] وبالله التوفيق.
[حكاية بينة في المعنى ليس فيها ما يخفى]
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: إني لست متبوعاً ولكن متَّبِعاً، ولست بقاض ولكن منفَذ، ولست بخير من أحدكم ولكنَي مِن أثقَلِكم حملاً. قال مالك: ورفعوه إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: " مَنْ «أحْدَثَ في المدينَةِ أوْ أَوَى مُحْدِثاَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالُمَلاَئِكَةِ والنَّاس أجْمَعِينَ» . قال مالك: يريد من عمل بمعاصي الله، أو أوى أهل المعاصي في رأي. قال مالك: بلغني أن المِسْوَر بن مخرمة، دخل على مروان، فجلس معه. قال: فسأله مروان عن شيء، أو ابتدأَهُ به المسور فقال له: بئس ما قلت، فركضه مروانُ برجله، قال: فخرج المسور، قال: ثم إن مروان نام فأتِيَ في المنام، فقيل له: ما لك وللمسور؟ {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} [الإسراء: 84] ، قال(17/244)
فأرسل مروان إلى المسور فقال: إني قد زجرت عنك في المنام، وأخبره بالذي رأى، فقال له المسور: ولقد نهيت عني في اليقظة والمنام، وما أراك تنهى.
قال مالك: كان في المسجد مجلس من أهل الفضل فيما مضى والفقه، فكان الرجلان يأتيان في الأمر يكون بينهما، فيدليان بحججهما، فإذا رأوا أن أحدهما أظلمُ، قالوا له: ما نراك إلا أظلم. ووعظوه. فإن انتهى، وإلا حصبوه بالحصباء كلهم، حتى يقوم من عندهم وباللَّه التوفيق.
[ما روي عن النبي عليه السلام في سعد بن معاذ]
في قول مالك فيما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سعد وسألت مالكاً عن الحديث الذي يذكره الناس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في سعد بن معاذ. فأنكره وقال: إني أنهاك أن تقوله، وما يدعو أمرأ أن يتكلم بهذا ولا يدري ما فيه من التغرير. وقال مالك: حدثنيِ يحيي بنِ سعيد قال: لَقَدْ نَزَلَ لِمَوْت سعد بْنِ مُعَاذ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ مَا نزَلُوا الأرْض قَبْلَهَا.
قال محمد بن رشد: إنما نهى مالك أن يتحدث بهذا الحديث وهو ما رُوي أنّ الْعَرْشَ اهْتَزَّ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ويتكلم به، مخافة أن يَشِيعَ في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، لظنهم أنّ العرش إذا اهتز أي تحرك، تحرك الله بتحركه، كالجالس منا على كرسيه إذا تحرك الكرسي تحرك هو بتحركه. وليس عرش الرحمن بموضع استقرار له، إذ ليس في مكان، ولا مستقر بمكان، تعالى(17/245)
عن ذلك ذو الجلال والِإكرام. وقد اختلف في تأويل الحديث، فقيل: بأن المراد بالعرش سريره الذي حمل كلليه، فيكون المعنى فيه: إِن الله أحياه معجزة للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأفهمه منزلته عند الله، فاهتز هيبة له، كما أحيا الجذع الذي كان يخطب إليه، إذ صنع له الكرسي فحنَّ إليه وجأر، حتى ارتجَّ له المسجد، وقيل: إن المراد به عرش الرحمن، وذلك مذكور في بعض الآثار، فقيل على هذا المعنى فيه: إنه اهتز حملته استبشاراً لقُدومه عليهم. خرج مَخْرَجَ: وَاسْأْل الْقَرْيَةَ أي أهلها. وَمَخْرَجَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبًّنَا وَنُحِبُّه» . أي يحبنا أهله ونحب أهله. وقيل المعنى فيه، اهتز حقيقة بأن أحياه الله، وأفهمه منزلته عنده، فتحرك هيبة له، ولا يلحق ذلك الله عز وجل، إذ ليس بمستقر عليه ولا يحويه مكان. وبالله التوفيق.
[ما كتب به عبد العزيز إلى ابنه عمر]
فيما كتب به عبد العزيز إلى ابنه عمر قال مالك: بلغني أن عبد العزيز كتب إلى ابنه عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة: إنَّه لا دين لمن لا نية له، ولا جديد لِمَن لا خِلقَ له، ولا مال لمن لا رفق له، وكأنه بلغه عنه إسرافٌ في الكسوة. فلقد رؤي بعد كتاب أبيه إليه، وإِن ثوبه لمرقوع.
قال محمد بن رشد: قوله لا دين لمن لا نية له صحيح، يشهد له قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنيَّاتِ» ومعناه نفي الانتفاع بالعمل دون نية، لا نفي العمل، فمن أسلم ولم تكن له نية في أعماله، فهو ضعيف الدِّين، ليس له دين ممدوح، وقوله: لا جديد لمن لا يلبس الخلق، حكمة صحيحة منه، لأنه إِن لم يضن ثوبه الجديد بالخلق خلق الجديد بسرعة، فلم يكن له جديد. وقوله: لا مال لمن لا رفق له،(17/246)
صحيح أيضاً لأن من لا يرفق بماله، هلك سريعاً. وفي الحديث المحفوظ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ، يُحِبًّ الرِّفْقَ وَيرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لاَ يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإذَا رَكِبْتُم هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ، فَأنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإنْ كَانَتِ الأرْضُ جَدْبَةً، فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنقْيِهَا فإنَّ الأرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْل مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ المُنْبَتَّ لا أرضاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أبْقَى» وبالله التوفيق.
[أول من أحدث القتل]
أحاديث بينة في المعنى قال مالك: بلغني أن ابن آدم الذي قتل أخاه حمله على عنقه، قال: فَبَعَثَ اللهُ الغرابَ، قال: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة: 31] قال ابن القاسم بلغني أن ما من قتيل يقتل إلا ضوعف عليه العذاب، لأنه أول من أحدث القتل. قال ابن القاسم: وسمعت مالكاً قال: حدثني أبو الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قَالَ اللهُ تَعَالَى يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أنْفِقْ عَلَيْكَ» ، حدثنا مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أذِنَ لِي أنْ أحَدِّثَ عَن مَلَكِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أذُنِهِ وَعاتِقِهِ لمجرَى الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً» .
قال محمد بن رشد: هذه أحاديث بينة في المعنى ليس فيها ما يخفى فلا وجه لتكلف القول بما هو بيِّنٌ يُدْرَى.(17/247)
[التكبير في الفطر والأضحى]
في التكبير في الفطر والأضحى قال سحنونٌ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بن نَافِعٍ عَن كُثَيِّرَ بْن عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِي، عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكانَ من أصْحَاب رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأضْحَى وَالْفِطْرِ، فِي الرَّكْعَةِ الأولَى سَبْعاً قَبْلَ الْقِرَاءةِ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة قبل هذا في رسم كتب عليه ذكر حق فلا وجه لِإعادته.
[أخذ زكاة الفطر من أهل البادية]
في أخذ زكاة الفطر من أهل البادية قال ابن القاسم: وحدثني عبد الله بن نافع عن كُثير بن عبد الله عن رِبح بن عبد الرحمن عَنْ أَبى سَعِيِدِ الْخُدْري «أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخَذَ زَكَاةَ الفِطْرِ مِنْ أهْل البَادِيَةِ» .
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأبي حنيفة. وقال الليث بن سعد ليس على أهل العمود زكاة الفطر أصحاب الخصوص والمظال، وإنما هي على أهل القرى. وهو قول ضعيف، لأنه كما يستوي الحاضرة والبادية في جميع شرائع الدين، من الصلاة والصيام، وزكاة العين والحرث والماشية، فكذلك يلزم أن يستويا في زكاة الفطر. وبالله التوفيق.(17/248)
[ما جاء في أن يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ابنا خالة]
في أن يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم ابنا خالة قال: وبلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حماهُما جميعاً معاً، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني سجد لما في بطنك، لتفضيل عيسى، فإن الله جعله يُحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ولم يكن ليحيى عيشٌ إلا عشب الأرض، وإن كان ليبكي من خشية الله، حتى لو كان على خده القار لأذابه، ولقد كان الدمع اتخذ في وجهه مجرى.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن، ليس فيه ما يخفى فيُحتاج إلى بيانه. وبالله التوفيق.
[ما جاء في أَن الدعاء لا يرد القدَر]
في أَن الدعاء لا يرد القدَر قال: وحدَّثني مالك أن ابناً لعبد الملك بن مروان مرض، فكأنَّهم رقوا له. قال: فقالت أُمه لو أخرجته إلى القراء والناس يدعون له. قال: فخرج، ثم إنه مات، قال: فدخل عليها عبد الملك. فقالت: قد دُعي له فمات، قال عبد الملك: إن لِلَّهِ عَزَائِمَ مِنْ قَضَائِهِ لَا مَرْدُودَ لَهَا.
قال محمد بن رشد: قول عبد الملك، إن لله عزائم من قضائه لا مردود لها، كلام ليس بمحصل، لأن فيه دليلاً على أنَّ له عزائم من قضائه يردها الدعاء، والدعاء لا يرد القضاء، إذ لا يدعو الداعي، ولا يجاب لدعائه إلّاَ بأمر من الله. قد سبق به القضاء. فقد علم اللهُ في أَزله، من يدعو فيجيب دعاءه، ومن يدعو فلا يجيب دعاءه. ومن لا يدعو إذا لم يوفقه للدعاء. وعلم أن من قضى عليه أَن يدعو فيجيب دعاءه فيما دعا به وسأَله لو سبق قضاؤه ألَّا يدعو في ذلك الشيء لم يكن إذ لم يدع فيه،(17/249)
لأن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، إذ قدْ قدَّره وقضى به ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان. قال عز وجلّ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وهم لا يردون، إذ قد سبق في علم الله أَنهم لا يردون، فقد يود الرجل الشيء ويُحِب أَن يكون، فيدعو فيه، فيجيب الله دعاءه فيه، ويكون بما سبق من قضاء بذلك، وقد لا يجيب دعاءه ولا يكون إذا كان قد سبق من قضاء الله أَن ذلك لا يكون، وقد لا يدعو فيه فيكون أيضاً. ولا يكون بما سبق أيضاً من قضائه بأن ذلك لا يكون، أَو يكون.
فلو قال عبد الملك بن مروان: إن عزائِم الله وقضاياه لا مردود لها، لكان قوله صحيحاً، وإن لم يستجب للداعي فيما دعا فيه، أُجر في دعائه. فكتبت له به حسنات وكفرت عنه سيئات. لأنَه عبادة من العبادات.
[موقع الحسنة من قلب المؤمن]
في موقع الحسنة من قلب المؤمن
قال مالك: وبلغني أن ابن مسعود قال: لأن أَعلم أَن اللهَ قد قبِل مني حسنة، أحبُّ إلي ممَّا على الأرض.
قال محمد بن رشد: هذا اعتقاد صحيح، لأن ما على الأرض جميعاً لو كان له يموت ويتركه. والجزاء من الله عزَّ وجلّ على الحسنة المقبولة سرمداً أبداً لا نهاية له، فينبغي لكل مسلم أَن يُسر بقبول الله تعالى له حسنة واحدة أكثر ممَّا يسر بمتاع الدنيا كله لو أعطيه، وأَمكن أن يملكه وينفعه، لأنه متاع قليل، يموت ويتركه. وبالله التوفيق.
[المشرك يُسلم هل يُثاب على ما عمل من خير في حال شركه]
في المشرك يُسلم هل يُثاب على ما عمل من خير في حال شركه؟ وسُئل مالك عن عمل أَهل الشرك، أَبلغك أَنهم ما عملوا من خير كتب لهم بعد أن يسلموا حسناتٍ؟ فأنكر ذلك وقال: لا(17/250)
أدري ما هذا؟ وإنما الأعمال بالنية فأما اليهود والنصارى يعملون الآن، فإذا أسلموا كتب لهم، فأنكر ذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في أن الكافر لا يثاب إذا أسلم بما عمله من الخير في حال كفره، صحيح، واحتجاجه في ذلك بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» . بين واضح، لاسيما بما في الحديث من قوله فيه: «وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» والكافر ما عمل في حال كفره من صلة رحم أو فعل معروف، أو عتق رقاب أو قرا ضيف فإنما يريد بذلك أن يحمد بذلك ويشكر عليه، فليس له بما فعله من ذلك إلا ما نوى به، وإذا كان المسلم لا يكون له بما عمله إذا لم يرد به وجه الله إلا ما نواه من أمر دنياه، فأحرى ألا يكون للكافر إلا ذلك، ويؤيد هذا ما روي «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله: إن أبي كان يفعل كذا وكذا ويصل الرحم. قال: إن أباك أراد أمرا فأدركه» . أي إنما كان ذلك منه لمعنى قد بلغه وناله في دنياه، فلا ثواب له عليه في أخراه وقد ينتفع بذلك ولده من بعده، فيكون له به شرف عند الناس وحرمة، ويؤيد هذا ما روي من «أن سلمان بن عامر أتى النبي عليه السلام فقال: إن أبي كان يقري الضيف، ويفعل ويفعل، وإنه مات قبل الإسلام، فقال: " لن ينفعه ذلك ". فلما ولى قال علي الشيخ، فلما جاء قال إن ذلك لن ينفعه، ولكن في عقبه، إنهم لن يفتقروا ولن يذلوا ولن يجزوا.» والمعنى في رده إياه والله أعلم أنه أراد أن يبين له أن قوله لن ينفعه ذلك، إنما أراد بذلك أنه لا ينفعه في الآخرة، ولم يرد أن المنفعة بذلك في الدنيا تنقطع بموته، إذ قد ينتفع بذلك عقبه من بعده، فيكون لهم به حرمة يراعون من أجلها ويتمكنون من(17/251)
اكتساب المال بسببها، فيبين له آخرا ما أجمله من قوله أولا، وقد قيل في تأويل رده: إنه إنما كان لوحي أتاه به الملك في الحين. والذي قلته أولى والله أعلم. وما روي «عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت أمورا كنت أتحدث بها في الجاهلية، من صدقة وعتاقة وصلة رحم، هل لي فيها من أجر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسلمت على ما أسلفت من خير.» يحمل على أن ذلك الخير هو الخير الذي يناله في دنياه من المحمدة والشكر والثناء وينتفع به ولده من بعده. فيحظى عند الناس من أجله. وبالله التوفيق.
[النهبة حكمها]
في النهبة قال مالك: أخبرني شيخ قديم قال: لما كانت فتنة ابن الزبير انتهب الناس تمرا من تمر مال الله، قال: فاشترت أمي ذلك الثمر، فعملت منه خلا حتى طاب وذهبت الفتنة، فأمرتني أمي أن أذهب إلى ابن عمر فأسأله عن ذلك، فذهبت إلى ابن عمر فسألته عنه فأفتاني أن أهرقه، ولا آكله، قال مالك: أرى ابن عمر إنما كرهه لموضع النهبة.
قال محمد بن رشد: وجه فتوى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المرأة أن تهرقه ولا تأكله، هو أن الثمر الذي عملته منه هو من مال الله، فكان الحق منه أن يقسمه الإمام بالاجتهاد، فلما لم تكن هي ممن لها الاجتهاد في ذلك، لم يأمرها بالتصدق به، ورأى لها الخلاص أن تهرقه ولا تأكله، لأن تصدقها به من غير أن يكون لها الاجتهاد في ذلك، من جنس النهبة التي وقعت فيه أولا. والله أعلم. ويحتمل أن يكون ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أفتاه بإراقته وترك أكله، عقوبة لها على ما فعلت من عملها إياه من التمر المنهوب ولم يأمرها بالصدقة، لئلا يظن ظان أنها تصدقت به على ملكها، فتكون مأجورة في فعلها، فيكون ذلك ذريعة إلى استجازة ذلك الفعل، وهذا من(17/252)
نحو ما قيل فيمن يفعل ما لا يجوز له من تخليل الخمر إنها لا تؤكل وتهرق، ولا يتصدق بها. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بإكفاء القدر يوم خيبر من لحوم الحمر الأهلية، إنما كان من أجل أنها كانت نهبة. وأما ما ينثر على الصبيان عند خروج أسنانهم، وفي العرائس، فتكون فيه النهبة، فكرهه مالك بكل حال، لظهور الآثار الواردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك. من ذلك نهيه عن النهبة، وأنه قال: «النهبة لا تحل» وأنه قال: «من انتهب فليس منا» وفي ذلك تفصيل أما ما ينثر عليهم ليأكلوه على وجه ما يؤكل دون أن ينتهب حرام، لا يحل ولا يجوز، لأن مخرجه إنما أراد أن يتساووا في أكله على وجه ما يؤكل. فمن أخذ منه أكثر مما كان يأكل منه مع أصحابه على وجه الأكل فقد أخذ حراما، وأكل سحتا لا مرية فيه. ودخل تحت الوعيد. وأما ما ينثر عليهم لينتهبوه، فهذا كرهه مالك، وأجازه غيره. وتأول أن نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الانتهاب، إنما معناه انتهاب ما لم يؤذن في انتهابه، بدليل ما روي عن عبد الله بن قوط قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الأيام إلى الله يوم النحر ثم يوم القر» فقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنات خمسا، أو ستا فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفقهها، فقلت للذي كان إلى جنبي: ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قال: قال: " من شاء اقتطع ". وما روي من «أن صاحب هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال يا رسول الله: كيف(17/253)
أصنع بما عطب من الهدي فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انحرها، ثم ألق قلائدها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها» . لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أباح في هذين الحديثين للناس الذين يحل لهم الهدي أن يأخذ منهم من شاء ما أخذ، من غير مقدار ولا قسم معلوم، وفي هذا بيان إن شاء الله.
[تحريق رحل الغال]
في تحريق رحل الغال وسئل مالك عن الحديث الذي جاء فيه من غل أحرق رحله. فأنكر ذلك وقال لا حرق في الإسلام، ولا يحرق رحل رجل في الإسلام.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء بإحراق رحل الغال حديث شاذ لم يأخذ به مالك ولا أحد من فقهاء الأمصار ولا قال بذلك من الفقهاء إلا مكحول، وقوله شاذ بعيد في النظر إذ لا يحل إهلاك مال أحد بذنب من الذنوب، وإن قتل. وإن صح الحديث، فمعناه أنه كان في أول الإسلام حين كانت العقوبات في الذنوب بالأموال. من ذلك ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة أن خذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا. وما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في حريسة الجبل، أن فيها غرامة مثليها وجلدات نكال. وما روي عنه من أن من أخذ يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه ثم نسخ ذلك كلها بالإجماع، على أن ذلك لا يجب، وأن العقوبات إنما تجب في الأبدان، وقد روي أنه يجب عليه مع حرق رحله، ضرب عنقه. حكى «أن مسلمة بن عبد الملك، دخل(17/254)
أرض الروم فغل رجل، فبعث مسلمة إلى سالم بن عبد الله فقال: حدثني أبي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يقول: " من أخذتموه قد غل فاضربوا عنقه وأحرقوا متاعه» وهذا ما لم يقل به أحد من فقهاء الأمصار، ويعارضه القرآن قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] فإذا لم يجب على السارق في سرقة ما لا حظ له فيه، ضرب عنقه، فأحرى ألا يجب ذلك على من سرق من المغنم الذي له فيه حظ. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: أن يكفر بعد إيمان أو يزني بعد إحصان أو يقتل نفسا بغير نفس» فاقتضى ذلك إسقاط القتل عمن سوى هؤلاء الثلاث نصا، فلا يصح أن يوجب القتل على الغال بهذا الحديث، وإن صح إلا أن يعلم أنه كان بعده، فيكون ناسخا له، لأنه إذا احتمل أن يكون قبله وأن يكون بعده، لم يصح أن يحمل على أنه كان بعده، لأن الدماء محظورة فلا تباح إلا بيقين.
[ركوع الإمام وغيره في المسجد بعد الجمعة]
في ركوع الإمام وغيره في المسجد بعد الجمعة قال مالك: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الجمعة انصرف من المسجد ولم يركع بعدها في مقامه شيئا. قال مالك: والإمام يفعل ذلك، فأما الناس، فمن شاء ركع، ومن شاء لم يركع، قال ابن القاسم: وأحب إلى غير الإمام أن يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين.(17/255)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم حلف قبل هذا مستوفى فلا معنى لإعادته.
[المثل الذي ضربه رسول الله لأمته مع من قبلها من الأمم]
في المثل الذي ضربه رسول الله لأمته مع من قبلها من الأمم وحدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كمثل ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط، قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى على قيراط قيراط ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغيب الشمس على قيراطين قال: فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغيب الشمس على قيراطين قيراطين. قال: فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال: فهل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن فضلي أوتيه من أشاء» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث مثلان، ضربهما النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أحدهما في مقدار مدة أمته، من سائر الأمم، وهو قوله في أول الحديث: إنما أجلكم فيما خلا من الأمم، كمثل صلاة العصر إلى مغرب الشمس، فأعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهذا المثل، أن نسبة مدة أمته، من نسبة مدة سائر الأمم كنسبة مدة ما بين العصر إلى المغرب من نسبة مدة جميع النهار، وذلك نحو الربع في المقادر. والمثل الثاني في مقدار أجور(17/256)
أمته، من أجور أهل التوراة، والإنجيل. وهو قوله: " وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا " إلى آخر الحديث. فأعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهذا المثل، أن أجور أمته ضعف أجور أهل التوراة وضعف أجور أهل الإنجيل، وإن كانوا أقل عملا منهم؛ لأن مدتهم أقصر مدة منهم. وهذا في الجملة، والمعنى فيه على التفصيل، والله أعلم، أن لمن آمن بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعمل بما شرعه إلى أن توفي، من الأجر ضعف ما لمن آمن بموسى وعمل بما شرعه، إلى أن توفي، وضعف ما لمن آمن بعيسى وعمل بما شرعه إلى أن توفي أيضا، وقد خرج البخاري هذا الحديث عن عبد الله بن عمر، من غير رواية مالك معناه وإن خالفت ألفاظه ألفاظه، وخرجه من رواية يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى بما يخالف لفظه ومعناه، من الأجراء الآخرين الذين عملوا من العصر إلى المغرب، يستوجبون أجر الفريقين جميعا الذين عملوا من أول النهار إلى نصف النهار، ومن نصف النهار، إلى حين صلاة العصر، ويذهبان غما ولا شيء لهما. وهذا المثل إنما ضربه صلى الله عليه فيمن آمن بموسى من أهل التوراة، وكان على شرعه، إلى أن بعث عيسى، فلم يؤمن به، وفيمن آمن من أهل الإنجيل بعيسى، وكان على شرعه، إلى أن بعث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلم يؤمن به؛ لأن هذين يبطل أجرهما جميعا، الأول بكفره بعيسى، والثاني بكفره بمحمد عليه السلام، ويكون لمن آمن بالنبي عليه السلام ضعف ما كان يكون لمن آمن بموسى ولم يدرك عيسى ولا كفر به، وضعف ما كان يكون لمن آمن بعيسى، ولم يدرك نبينا عليه السلام، ولا كفر به. وأما من آمن بموسى وكان على شرعه إلى أن بعث عيسى فآمن به، أو كان على شرع عيسى إلى أن بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فآمن به، فله أجره مرتين، على ما جاء فيما كتب به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى هرقل، وبالله التوفيق.(17/257)
[أنكر لون ولده]
في الذي أنكر لون ولده وحدثني عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: «أن رجلا من أهل المدينة أتى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال: يا رسول الله، ولدت امرأتي غلاما أسود. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقا. قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: فأراه عرقا نزعه، قال: فلعل ابنك نزعه عرق» .
قال محمد بن رشد: زاد في حديث آخر: ولم يرخص له في الانتفاء منه. وهو المعنى فيه. فلا اختلاف فيمن أقر بوطء امرأته فجاءت بولد لما يلحق به، ولم يستبرئها، فأنكر لونه أنه يلزمه، ولا يكون له أن ينفيه عن نفسه؛ لأن اللعان لا يكون إلا على ستة أوجه، الثلاثة منها متفق عليها، وهي أن ينفي حملا لم يكن مقرا به ويدعي الاستبراء، أو يدعي رؤية لا مسيس بعدها في غير ظاهرة الحمل، أو ينكر الوطء جملة، فيقول: لم أطأها قط، أو منذ مدة كذا وكذا، لما لا تلحق به الأنساب. والثلاث المختلف فيها هي أن يقذف زوجته ولا يدعي رؤية، أو ينفي حملها ولا يدعي استبراء، أو يدعي رؤية ولا مسيس بعدها في حامل بينة الحمل. وفي هذا الحديث إثبات الحكم بالقياس؛ لأن القياس إنما هو تمثيل الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه. وبالله التوفيق.
[الاستعانة بالمشرك على قتال العدو]
في الاستعانة بالمشرك وحدث عن مالك، عن الفضيل بن أبي عبد الله، عن(17/258)
عبد الله بن دينار، عن عروة بن الزبير، «عن عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنها قالت: خرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة، أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأوه، فلما أدركه قال: يا رسول الله: جئتك لأتبعك، وأصيب معك، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: أرجع فلن أستعين بمشرك، قالت عائشة: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال كما قال أول مرة، فقال: لا، أرجع فلن أستعين بمشرك، قالت. فرجع، ثم أدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في كتاب الجهاد من المدونة، وأخذ به مالك وأصحابه، فلم يجيزوا للإمام أن يستعين بالكفار على قتال العدو، ولا أن يأذن لهم في الغزو مع المسلمين، ولا منفردين أيضا؛ لأنه وجه من العون، ولأنهم يستبيحون فيه ما لا يجوز في الغزو على ما قاله أصبغ في نوازله؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لن أستعين بمشرك» . ولما روي من «أن الأنصار قالوا يوم بدر: ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حاجة لنا فيهم» . وهو نص قول ابن القاسم في سماع يحيى من كتاب الجهاد. قال: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو. ودليل على أنهم إن لم يستأذنوه لم يجب عليه أن يمنعهم.(17/259)
وعلى هذا يحمل غزو صفوان بن أمية مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حنينا والطائف، خلاف قول أصبغ في نوازله إنهم يمنعون من ذلك أشد المنع. وقد ذكر أبو الفرج عن مالك أنه لا بأس على الإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك. وهو دليل قوله للأنصار: لا حاجة لنا فيهم. وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه لما بلغه جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد استعان بيهود النضير. فقال لهم: (إنا وأنتم أهل كتاب، وإن لأهل الكتاب النصر على أهل الكتاب، فإما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحا» فإن غزوا بإذن الإمام أو بغير إذنه منفردين تركت لهم غنيمتهم ولم تخمس، وإن غزوا مع المسلمين في عسكرهم، لم يكن لهم في الغنيمة نصيب، إلا أن يكونوا متكافئين أو يكونوا هم الغالبين فتقسم الغنيمة بينهم وبين المسلمين قبل أن تخمس، ثم يخمس سهم المسلمين خاصة. وأهل الكتاب وغيرهم عند مالك سواء في هذا. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم أجازوا الاستعانة بأهل الكتاب دون من سواهم من المشركين عبدة الأوثان والمجوس، وصحح الآثار على ذلك. قال: وإنما لم يستعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحلفاء الأنصار من يهود، للحلف الذي كان بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق؛ لأنهم خرجوا بذلك من حكم أهل الكتاب، وهو من التأويل البعيد، ولا بأس بأن يستعار السلاح من الكفار، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأجاز ابن حبيب أن يقوى الإمام على من سالمه من أهل الحرب على من لم يسالمه منهم بالقوة والسلاح أن يسايروا عسكر المسلمين ما لم يكونوا في داخله وبسبيل أهله. وقد مضى في أول سماع يحيى من كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.(17/260)
[في الرؤيا والحلم]
وحدثنا محمد بن أحمد العتبي، عن عيسى بن دينار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الذي يكرهه في منامه فلينفث عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها لا تضره» . قال عيسى: وقال لي ابن وهب مثل هذا، إلا أنه قال: يقول: «أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسوله من شر ما رأيت في منامي أن يصيبني منه شيء أكرهه في الدنيا والآخرة وليتحول على شقه الآخر» .
قال محمد بن رشد: الحديث الذي ذكره موسى عن عيسى بن دينار هو في الموطأ مسند من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي قتادة بن ربعي أنه سمع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «الرؤيا الصالحة من الله» . الحديث. فزاد فيه الصالحة. وهو يبين ما في الحديث. والمعنى فيه أن الرؤيا الصالحة وهي الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا وفي الآخرة، لا مدخل فيها للشيطان. وهي من الله جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، إذا رآها الرجل الصالح. وروي من خمسة وأربعين جزءا، وروي من سبعين جزءا. والمعنى في هذه التجزئة، أن ما يصاب في تأويله من هذه الرؤيا التي هي على الصفة المذكورة، يتخرج على ما يعبر به مما يخطأ في تأويله. فلا تخرج على ما يعبر يكون جزءا من خمسة وأربعين أو من ستة وأربعين أو من سبعين، إذ لو خرجت كلها على ما تعبر لكانت كالنبوءة في الإخبار(17/261)
بالمغيبات. وهذا هو الفرق بين الأنبياء وبين رؤيا سائر الناس؛ لأن رؤيا سائر الناس قد يخطأ في تأويلها فلا تخرج على ما تعبر. وقد يصاب في تأويلها فتخرج على ما تعبر. وما يصاب في تأويله منها هو الجزء من النبوءة، لكونه في معنى النبوءة. فالرؤية الصالحة المبشرة من الله عز وجل، جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث، إن كانت من الرجل الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها، وإن كانت من الله عز وجل، إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوءة، ولا من ستة وأربعين، ولا من سبعين. والرؤيا المكروهة تنقسم على قسمين: منها رؤيا من الله عز وجل، قد يصاب في تعبيرها فتخرج على ما يعبر به، وقد يخطأ في تعبيرها فلا تخرج على ما تعبر به، ولا يقال فيها أيضا: إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين. ومنها حلم من قبل الشيطان، يحزن به الإنسان لا يضر رائيه، فأمر الرجل إذا رأى في منامه ما يكرهه أن يستعيذ بالله من شر ما رأى، فإذا فعل ذلك موقنا بما روي في ذلك لم يضره ما رأى، أو المعنى في ذلك أن الله لا يوفقه للاستعاذة مما رأى إلا بيقين صحيح، إلا فيما هو من تحزين الشيطان، وفيما هو بخلاف ما تأوله مما كره. وقد يصرف الله عنه ما كرهه مما رآه في منامه، وإن كان من الله، بالاستعاذة منه، كما يصرف عنه سوء القدر بالدعاء الذي سبق في علمه أنه يصرف به على ما تقدم القول فيه قبل هذا الرسم، وبالله التوفيق.
تم الجزء الثاني من الجامع بحمد الله.(17/262)
[كتاب الجامع الثالث] [الكلام بعد طلوع الفجر]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية
في الكلام بعد طلوع الفجر قال مالك: حدثني أبو النصر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، ثم ينصرف، قالت: فإن كنت يقظانة حدثني، وإن كنت نائمة اضطجع حتى يأتيه المؤذن، وذلك بعد طلوع الفجر» . قال: وقد كان سالم بن عبد الله يتحدث بعد الفجر، قال: ولم أدرك الناس إلا على ذلك. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كله في كتاب الصلاة الثاني من المدونة وزاد فيها قال: وإنما يكره الكلام بعد صلاة الصبح، ولقد رأيت نافعا مولى ابن عمر، وموسى بن ميسرة، وسعيد بن أبي هند يجلسون بعد أن يصلوا الصبح، فيتفرقون للركوع، وما يكلم أحد منهم صاحبه، يريد بذلك، اشتغالا بذكر الله، فأجاز مالك الكلام بعد الفجر، إلى صلاة الصبح،(17/263)
اتباعا لحديث عائشة، وكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، أو قرب طلوعها. وأهل العراق على ضد هذا، يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح، ولا بأس بالكلام عندهم بعدها. قال أحمد بن خالد: والسنة ترد ما قالوه، وما قاله مالك من حديث عائشة يرد قول أهل العراق. وما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من «أنه كان إذا صلى الصبح حول وجهه إلى الناس وقال: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» وبالله التوفيق.
[تفضيل عمررضي الله عنه لركبة على الشام]
في تفضيل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لركبة على الشام
وقال في تفسير قول عمر: بيت بركبة خير من عشرة أبيات بالشام. قال مالك: يريد بذلك الوباء بالشام وصحة ركبة.
قال محمد بن رشد: ركبة موضع بين الطائف ومكة، في طريق العراق، قاله ابن وضاح. وقال غيره: ركبة واد من أودية الطائف. وتفسير مالك للحديث صحيح. والمعنى فيه أن الأمراض تقل بركبة. وتطول أعمار أهلها بها في الغالب من أحوالهم، بخلاف الشام، التي ينتابها الوباء وتكثر فيها الأمراض بعادة أجراها الله في البلدين مع اختلاف الهواء فيهما، لا أن في ذلك للهواء تأثيرا. ولم ينكر قول القائل من الحكماء: هواء بلد كذا جيد مصح للأجسام. وهواء بلد كذا فاسد مولد للأمراض؛ لأن ذلك عندهم مجاز، ليس على ظاهره من الحقيقة؛ لأن الهواء لا يصح الجسم، ولا يولد فيه مرضا بحال، والفاعل لذلك كله إنما الله عز وجل، لكنه تعالى أجرى ما يفعله من ذلك كله على عوائد أمره عليها، فلما وجدت بلدان على مر الدهور والأزمان، يختلف هواؤها ويختلف أحوال أهلها فيها بالصحة(17/264)
والمرض على وتيرة واحدة، نسب إلى هواء كل بلد حال أهله من الصحة والسقم، مجازا على غير حقيقة. هذا هو الواجب اعتقاده في هذا، وما عداه كفر. والحديث عن عمر في الجامع من الموطأ، وقد روي عنه أنه قال: لأن أعمل عشر خطايا بركبة، أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة. والمعنى في هذا تفضيل مكة على ركبة، بأن السيئات تضاعف فيها، كما تضاعف فيها الحسنات، وقد رأى بعض العلماء تغليظ الدية في الجراح والنفس في البلد الحرام والشهر الحرام. وبالله التوفيق.
[استتابة القدرية]
في استتابة القدرية قال مالك في القدرية: إن لم يتوبوا أرى أن يقتلوا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في القدرية: إنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا. كما يفعل بالمرتدين، يدل على أنه كفرهم بما يدينون به من اعتقادهم. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المرتدين والمحاربين. وفي رسم يريد من سماع عيسى منه، فمن أراد الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[ما جاء من اختتان إبراهيم صلى الله عليه بالقدوم]
فيما جاء من اختتان إبراهيم
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالقدوم قال: وسمعت مالكا يحدث، قال: «اختتن إبراهيم بالقدوم على رأس عشرين ومائة سنة. وبقي بعد ذلك ثمانين سنة» .
قال محمد بن رشد: قد روي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب(17/265)
عن أبي هريرة، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فمن الرواة من أوقفه على سعيد بن المسيب، ومنهم من أوقفه على أبي هريرة، ومنهم من أسنده إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وهو الصحيح؛ لأن مثله لا يكون رأيا. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله غليه وسلم أنه قال: اختتن إبراهيم بعد ما مرت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم. والقدوم موضع، وقيل فيه: إنه الحديدة التي اختتن بها. روي عن عكرمة أنه قال: ختن نفسه بالفاس فصرف بصره عن عورته أن ينظر إليها. قال: فلم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختونا. والمعنى في صرفه بصره عن عورته، أنه فعل ذلك تكرما إذ لا حرج على الرجل في النظر إلى عورته. والختان طهرة الإسلام. روي عن المسيب بن رافع أنه قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن تطهر فتوضأ، فأوحى الله أن تطهر فاغتسل، فأوحى الله إليه أن تطهر، فاختتن. فصار الختان من ملته وشريعته التي أمر الله نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالتزامها حيث يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . أي الزموها. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] . الآية. روي عن ابن عباس أنه قال: الأقلف لا تؤكل له ذبيحة، ولا تقبل له صلاة، ولا تجوز شهادته. وروى أبو بردة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأقلف: «أنه لا يحج بيت الله حتى يختتن» . وفي الحديث من الفقه وجوب الختان على من أسلم كبيرا. فروي عن مالك أنه كان يرخص بذلك للشيخ الكبير، ولا يرى بإمامته بأسا، ولا بشهادته وذبيحته وحجه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا ضعف وخاف على نفسه، كان له أن يترك الختان. وقال سحنون: ليس له أن يتركه، وإن خاف على نفسه منه. ألا ترى أن الذي يجب عليه قطع يده، لا يترك عنه ذلك، وإن خيف عليه منه. وحد الختان عند مالك، إذا أدب على الصلاة ابن عشر سنين ونحوها. وكره الختان يوم السابع. قال: لأنه فعل اليهود. وروي أن إبراهيم عليه السلام ختن ابنه(17/266)
إسماعيل لثلاث عشرة سنة، وإسحاق لسبعة أيام. وأنه كان بين ختان إسماعيل ومولد إسحاق سنة. وأما الخفاض للنساء، فإنه مكرمة للنساء، وكان أول ذلك ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث سارة مع الملك. قال فيه: فوهب لها هاجر فخدمتها ما شاء الله، ثم إنها غضبت عليها ذات يوم فحلفت لتغيرن منها ثلاثة أشياء. فقال إبراهيم لها: تخفضينها وتشقين أذنيها، واختلف فيمن ولد مختونا فقيل: تمر الموسى عليه، فإن كان فيه ما يقطع قطع، وقيل قد كفي المؤنة فيه. وهو الأظهر إن شاء الله.
[الشرب في القدح المضبب بالفضة]
في الشرب في القدح المضبب بالفضة وسئل مالك عن الرجل يشرب في القدح وفيه تضبيب ورق أو حلقة من ورق. قال: لا أحب الشرب فيه.
قال محمد بن رشد: قياس القدح المضبب بالفضة، أو الذي يكون فيه الحلقة من الفضة، قياس الثوب يكون فيه العلم من الحرير. وقد مضى هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها قبل هذا.
[الشرب في نفس واحد]
في الشرب في نفس واحد قال مالك في حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني لا أروى من نفس واحد، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فأبن القدح عن فيك» ، وإني لا أرى بالشرب من نفس واحد بأسا، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث. إني لا أروى من نفس واحد.
قال محمد بن رشد: استدلال مالك بالحديث على إجازة الشرب في نفس واحد بين واضح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهى عن(17/267)
النفخ في الشراب فقال له الرجل: إني لا أروى من نفس واحد قال له: «فأبن القدح عن فيك ثم تنفس» ومعناه: فإن كنت لا تقدر على ذلك فأبن القدح عن فيك ثم تنفس. وفي ذلك دليل ظاهر على أنه إن قدر على ذلك جاز له أن يفعله. والنظر يدل على جواز ذلك أيضا؛ لأن النهي إنما جاء عن النفخ في الإناء أو التنفس فيه. روي عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه» . وعن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب. ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عنه ثم يتنفس» . فإذا لم يتنفس في الإناء جاز له أن يشرب كيف شاء، إن شاء في نفس واحد، وإن شاء في نفسين. وهو قول عمر بن عبد العزيز. روي عن ميمون بن مهران أنه قال: رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب، فجعلت أقطع شرابي وأتنفس. فقال: إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنفس في الإناء، فإذا لم تنفس فيه فاشربه إن شئت في نفس واحد. وقوله عين الفقه، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح عن جماعة من السلف، أنهم كرهوا ذلك، منهم ابن عباس وطاوس وعكرمة. قالوا: الشرب من نفس واحد شرب الشيطان، وبالله التوفيق.
[كسر معاصر الخمر]
في كسر معاصر الخمر قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز بعث في كسر معاصر الخمر، فكسرت أو كسر بعضها. قال مالك: قد تكون أشياء فيها رخص، من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: ما بلغ مالكا من أن عمر بن عبد العزيز بعث(17/268)
في كسر معاصر الخمر معناه: في معاصر المسلمين، لا في معاصر أهل الذمة. قاله مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان. وهو صحيح؛ لأن أهل الذمة إنما بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعون من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين. وقوله أو كسر بعضها معناه: أنه ترك منها ما لم يتهم صاحبه على أنه إنما يعصر الخمر فيها ليشربها أو ليبيعها، لاحتمال أن يكون إنما يعصرها فيها ليخللها أو ليبيعها. وقول مالك قد تكون أشياء فيها رخص من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا. كلام فيه نظر؛ لأن من ترك الرخص وتجنبها فقد أخذ بالاحتياط لنفسه، وذلك نهاية الورع، فلا يقال في مثل هذا: إنه لا بأس به، وإنما يقال فيه: إنه قد أتى ما يستحب له، فينبغي أن يتأول الكلام على أن فيه إضمارا، فيكون معناه من تركها غير محرم لها فقد أحسن لأنه مأجور على ذلك، ومن أتاها فلا بأس به أي لا إثم عليه في ذلك، وذلك في مثل أن يعصر الرجل الخمر ليجعلها خلا فلا بأس بذلك، إذ قد رخص فيه من أباحه، ومن لم يأخذ بالرخصة في ذلك فقد أحسن. وإلى هذا الوجه من الرخص ذهب مالك - والله أعلم- في قوله: وقد تكون أشياء بما دل عليه من جواز المسألة، وقد ذكرنا في كتاب الأشربة من المقدمات حكم تخليل الخمر وتخللها مستوفى لمن أراد الوقوف عليه.
[حكم أكل الضب]
في أكل الضب قال: وسئل مالك عن أكل الضب فقال: لا أرى بأكله بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى في أكله بأسا، معناه مباح لا إثم في أكله. ولا جزاء في تركه. وقوله صحيح، للأحاديث الواردة فيه، منها حديث عبد الله بن عمر في الموطأ «أن رجلا نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال يا رسول الله: ما ترى في الضب، فقال رسول الله صلى الله(17/269)
عليه: لست بآكله ولا محرمه» وإنما لم يأكله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه عافه.، إذ لم يكن بأرض قومه، على ما جاء من «أن عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد دخلا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده، فلما أخبر أنه ضب، رفع يده. فقال له خالد بن الوليد: أحرام يا رسول الله؟ فقال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر» . لما نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الحديث على أنه ليس بحرام وأخبر بالعلة التي من أجلها رفع يده ولم يأكله، مع أنه مباح ليس بمحرم ولا مكروه، وقد كره أكله جماعة من العلماء، لما روي عن ثابت بن وديعة قال: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جيش، فأصبنا به ضبابا. قال: فشريت منها ضبا وأتيت رسول الله فوضعته بين يديه، قال: فأخذ عودا فعد به أصابعه فقال: إن بني آدم مسخت دواب في الأرض، ولا أدري أي الدواب هي؟ قال: فلم يأكل ولم ينه» . وإذا لم يأكله مخافة أن يكون مسخا فهو مكروه. من تركه أجر، ومن أكله لم يأثم. وقد روى ابن مسعود عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما يبطل هذه العلة. وذلك أنه «سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القردة والخنازير، أهم من نسل الذين مسخوا؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم عاقبة(17/270)
ولا نسلا، ولكنهم من شيء كان قبل ذلك» وليس هذان الحديثان بمتعارضين.. والمعنى فيهما- والله أعلم- أن ما أخبر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث ابن مسعود من أن المسوخ لم يكن لها نسل، متأخر عما جاء عنه في حديث ثابت ابن وديعة، من أنه شك في الضب، وخشي أن يكون من المسوخ، فعلم آخرا ما شك فيه أولا. وهذا يقضي بأنه لا كراهية في أكل الضب، وأنه من الجائز المباح. فمن كرهه لم يبلغه حديث ابن مسعود. والله أعلم. إذ لا يصح أن يحمل الحديثان على التعارض.
[تفسير الفدادين]
في تفسير الفدادين وسئل مالك عن تفسير الفدادين قال: هم أهل الجفا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا التفسير لمالك في رسم حلف، وهو تفسير صحيح، وبالله التوفيق.
[يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها]
في الذي يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها؟ وسئل مالك عن الأعناب والفاكهة التي في الأجنة يمر بها الناس، مثل فواكه الشام ومصر، قال: لا أحب لأحد أن يأكلها. قيل له: فإن أجراءها يطعمون الناس منها. قال: لا أحب لكم أن تأكلوه. ثم قال: أرأيت رجلا مر براعي غنم ليست له، أله أن يبتاع منها؟ وقد مر ابن عمر على راع معه غنم، فسأله: ألك هذه الغنم؟ فقال: لا. فقال: ابتعني من هذه الغنم، فقال: ليست لي فقال له ابن عمر: بلى فبعني وما علم أربابها. قال: فأين الله؟ قال: فأعجب ذلك ابن عمر. فسأل عنه حتى اشتراه فأعتقه. وإن في حديث الابن عن النبي عليه السلام ما فيه عبرة، وهو أهون على أهله من فواكههم. وإنما ذكرنا هذا لهذا.(17/271)
قال محمد بن رشد: لم ير مالك لرجل إذا مر بجنان غيره أن يأكل من ثمره، وكذلك إذا مر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه على ما يأتي له في صدر سماع أشهب بعد هذا. وإن أذن له في ذلك أجيره وأطعمه إياه؛ لأن الأجير لم يؤذن له بذلك. واستدل على ذلك بما ذكره من أن الرجل إذا مر براعي غنم لا يجوز له أن يشتري شيئا منها. واختلف هل يصدقه أولا يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، أو كان ممن يشبه أن يؤذن له فيه؟ فقيل: إنه يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، وكان ممن يشبه أن يؤذن له فيه. وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا. وقيل: إنه لا يصدقه وهو ظاهر ما في سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس. واعتبر في المنع من أن يأكل الرجل من ثمار ما مر به من الحوائط بحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الابن الذي أشار إليه، وهو قوله في حديث عبد الله بن عمر في الموطأ: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» . وهو اعتبار صحيح؛ لأنه إذا لم يجز أن تحتلب ماشيته إلا بإذنه، واللبن يعود في الضروع كل يوم، فأحرى ألا يكون له أن يأكل من ثمر حائطه. وهو إنما يأتي من عام إلى عام. ومن الحجة له قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه» وقد فرق بين اللبن والثمار بأن اللبن(17/272)
مختزن في الضروع، فهو بمنزلة ما اختزن من الثمار في البيوت. وقال في الرواية في الثمار: لا أحب لأحد أن يأكلها، ولم يقل لا يحل ذلك له، وإن كان عنده لا يجوز له إلا عند الضرورة التي تبيح له أكل الميتة إذا أمن أن يعد سارقا على ما قاله في موطاه؛ لأن أهل العلم قد اختلفوا في إجازة ذلك للآثار الواردة فيه. منها حديث عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من دخل حائطا فأكل منه فلا يتخذ خبنة» . ومنها حديث سمرة بن جندب، أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإذا أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليشرب ولا يحمل» ، ولا حجة في شيء من هذه الآثار إلى مالك؛ لأن الحديث الأول قد ذكر فيه الحاجة، والحديث الثاني والثالث، يحتمل أن يكون المعنى فيهما في ذي الحاجة، كما في الحديث الأول. وقد حمل هذين الحديثين على ظاهرهما جماعة من أهل العلم عن أبي زينب قال: صحبت عبد الرحمن بن سمرة وأنس بن مالك، وأبا بردة في سفر، فكانوا يصيبون من الثمار. وقال الحسن: يأكل، ولا يفسد، ولا يحمل. وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك في أموال أهل الذمة وغيرهم. وذلك خلاف ما ذكرناه من مذهب مالك، أنه لا يأكل إلا أن يحتاج. قال ابن وهب عنه: فإن دخل الحائط فوجد الثمر ساقطا فلا يأكل منه، إلا أن يحتاج، أو يعلم أن صاحبه طيب النفس به، يريد لصداقة بينهما، والله أعلم. فقد ذكر حارث بن مسكين قال: سمعت أشهب بن عبد العزيز(17/273)
يقول: خرجنا مرابطين إلي الإسكندرية، فمررنا بجنان الليث بن سعد، فأكلنا من الثمر، فلما رجعت دعتني نفسي إلى أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه فقلت: يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين، ومررنا بجنانك، فأكلنا من الثمر، فأحببنا أن تجعلنا في حل، فقال الليث: يا ابن أخي لقد نسكت نسكا أعجميا. أما سمعت الله يقول: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] : فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه الذي يسره بذلك. ومن أهل العلم من لم يجز له أن يأكل شيئا، وإن كان صديقا له إلا بإذنه. وهو مذهب مالك، - لأنه إذا لم يجز ذلك، وإن كان أباه أو أمه أو أخاه، فأحرى ألا يجيز ذلك إن كان صديقا. فيتحصل في المسألة إذ لم يحتج ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين الصديق وغيره. وهو أعدل الأقوال، وأولاها بالصواب. وهذا في ثمر الحائط، دون لبن الماشية؛ لحديث عبد الله بن عمر في الموطأ في لبن الماشية. وقيل: بل ذلك في لبن الماشية وفي ثمر الحائط سواء، لحديث سمرة بن جندب الذي ذكرناه. وأما إذا احتاج فلا اختلاف في أنه يجوز له أن يأكل من ثمر الحائط الذي يمر به، ويحتلب من لبن الغنم الذي يمر بها ما يرد به جوعه من ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق..
[الدؤابة للصبيان]
في الدؤابة للصبيان قال مالك: أكره الدؤابة للصبيان، وأن يترك بعض رأسه ويحلق بعضها.
قال محمد بن رشد: الدوابة للصبيان هي الناصية تترك في بعض رأس الصبي، ويحلق سائره، فكره ذلك لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن القزع» . وهو حلق بعض الرأس دون بعض. فعم(17/274)
ولم يخص صغيرا من كبير. وكذلك كره في رسم الجامع من سماع أشهب من كتاب السلطان القصة والقفا للصبيان لهذا الحديث. وقال: إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره كله فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه كله فليحلقوه. وقد كاتبت في ذلك بعض الأمراء وأمرته أن ينهى عنه، فسئل عن القصة وحدها بلا قفا فقال مثل ما قال في القصة والقفا.
وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى، وبالله التوفيق.
[تفسير الشؤم في الدار والفرس]
في الشؤم في الدار والفرس
وسئل مالك عن تفسير الشؤم في الدار والفرس قال: ذلك فيما نرى: كم من دار سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا، وهذا تفسيره فيما نرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله سئل عن تفسير الشؤم في الدار والفرس معناه: سئل عن الشؤم الذي جاء الحديث أنه في الدار والفرس ما هو؟ والمروي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حديثان في جامع الموطأ: أحدهما قوله: «إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن» يعني الشؤم. والثاني قوله: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وليس ذلك بتعارض بين الحديثين. والمعنى فيهما أنه قال في الأول منهما: إن كان قبل أن يعلم أن ذلك يكون، فلما علم بإعلام الله له، إذ لا ينطق عن الهوى أن ذلك يكون، قال: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وفسر مالك الشؤم بما قد فسره به مما يصيب ساكن بعض الدور في أغلب الأحوال، من الهلاك وشبهه(17/275)
ومعناه، بعادة أجراها الله من غير أن يكون للدار في ذلك تأثير، أو عدوى، وقد ذهب بعض الناس إلى أن حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» يعارضه ما جاء عنه من أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة» . وضعف حديث الشؤم لما روي من «أن عائشة أنكرت على أبي هريرة حديثه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: الطيرة في المرأة والدار والدابة، وأقسمت أنه ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط. وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه. ثم قرأت {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] » ومنهم من صحح الحديث وتأوله على أن معنى الشؤم في الدار، سوء الجوار، وفي المرأة سوء خلقها. والذي أقول به: إنه لا تعارض بين الحديثين؛ لأن المعنى الذي أوجبه في أحدهما غير المعنى الذي نفاه في الأخرى. نفى في الحديث الواحد أن يكون لشيء من الأشياء عدوى في شيء من الأشياء أو تأثير فيه بقوله: «لا عدوى ولا طيرة» ، إذ لا فاعل في الحديث سوى الله عز وجل. وأعلم في الحديث الأخر أنه قد يوجد الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وهو تكرر الأذى على ساكن بعض الدور، أو نكاح بعض النساء، أو اتخاذ بعض الخيل بقضاء الله وقدره السابق على ما أخبر به في كتابه حيث يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الحديد: 22] .... الآية. وفي الفرس ركوبه فيما لا ينبغي ركوبه فيه، لا بعدوى في شيء من ذلك إلى شيء ولا تأثير له فيه، فلم ينف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله «لا عدوى» وجود ما هو موجود مما يعتدي، وإنما بقي أن يكون شيء من الأشياء يعدي على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهالة بالله. ألا ترى إلى(17/276)
ما جاء في الحديث الصحيح من قوله: «لا عدوى ولا هام ولا صفر، ولا يحل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: يا رسول الله وما ذاك؟ فقال رسول الله: إنه أذى» فنفى أن يكون لشيء عدوى، ونهى أن يحل الممرض على المصح؛ لأنه أذى، أي لأنه قد يتأذى بذلك على ما هو موجود من جري العادة في ذلك، من فعل الله وقدره السابق. ويبين هذا الذي ذكرناه، حديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا هامة ولا صفر ". فقام أعرابي فقال يا رسول الله: إن الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيرد عليها البعير الجرب فتجرب كلها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن أعدى الأول؟» وبالله التوفيق.
[تفسير حديث النبي عليه السلام اعلفه نضاحك]
في تفسير النضاح في الحديث وسئل مالك عن تفسير حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اعلفه نضاحك» " قال: رقيقك؛ لأن النضاح عندهم الرقيق. ويكون من الإبل. ولكن تفسيره الرقيق.
قال محمد بن رشد: حديث النبي عليه السلام الذي جاء فيه «اعلفه نضاحك» هو حديث مالك في موطئه عن ابن شهاب «عن ابن محيصة الأنصاري أحد بني حارثة، أنه استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال " اعلفة نضاحك» يعني رقيقك. وهو كما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن النضاح الرقيق.(17/277)
وقد يكون من الإبل، والأظهر في الحديث أنه أراد النضاح فيه من الإبل؛ لأنه حال فيه اعلفه، ولم يقل أطعمه؛ لأن العلف إنما يستعمل في البهائم، لا في بني آدم. ويبين هذا قوله في غير هذا الحديث: «اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك» . ولم ينه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن إجارة الحجام، من أجل أنها حرام، وإن كان قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كسب الحجام، أنه سحت. وروي عنه أنه قال: «السحت كسب الحجام» . وأنه قال فيه: " إنه خبيث " إذ لو كان حراما أو سحتا أو خبيثا لما جاز أن يطعمه رقيقه. وإنما المعنى فيه أنه من الكسب الذي يستحب لذوي الفضل والأقدار أن يتنزهوا عنه. فإن كان ولا بد فلا يأكلوه ويطعموه رقيقهم، كما جاء في الحديث، وقد قال مالك: لا بأس بإجارة الحجام. واحتج في ذلك بأن قال: كل ما يحل للعبيد أكله يحل للأحرار، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عليه السلام في الحديث انجو عليها بنقيها]
في تفسير قوله في الحديث «انجو عليها بنقيها» وسئل مالك عن تفسير قوله: انجو عليها بنقيها قال: نقيها شحومها وأنفسها. أما تسمع أنه يقال: لا تنقي فهو النقي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن النقي الشحم والقوة في(17/278)
النفس، والحديث الذي جاء هذا فيه. هو حديث مالك الذي رواه في موطئه عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن خالد بن معدان يرفعه: «إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به، ويعين عليه ما لا يعين على العنف، فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها، فإن كانت الأرض جدبة فانجو عليها بنقيها، وعليكم بسير الليل، فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الحيات» وقوله في الحديث «ويعين عليه ما لا يعين على العنف» والعنف لا يحبه الله ولا يرضى به. والمعنى فيه إن الله يعطي صاحب الرفق من بلوغ حاجته التي يستعين بها على أمور دينه ودنياه، ما لا يعطي لصاحب العنف، يريد بهذا التأويل قوله في الحديث: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى» . وسائر ما في الحديث أدب أرشد النبي عليه السلام إليه المسافر، من أن ينزل الدواب منازلها في الخصب لترعى فيه، وتقوى على المسير، ويسرع السير عليها في الجدب قبل أن تضعف، فلا تقدر على السير. وحض على السير بالليل؛ لأن الدواب إذا استراحت بالنهار نشطت على المشي بالليل، وكان أخف عليها من المشي بالنهار، فقطعت فيه من المسافة ما لا تقطع في قدره من النهار. فهذا هو معنى قوله: «فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار» . إذ لا تطوى على الحقيقة لا في الليل ولا في النهار إلا للأنبياء معجزة وللأولياء كرامة.(17/279)
[ما جاء في قول الرجل هلك الناس]
فيما جاء في قول الرجل هلك الناس وسئل مالك عن تفسير: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم» قال: ما أرى ذلك فيما أرى، والله أعلم، إلا أن يقول: هلك الناس، أي إني خير منهم. قال: وأما إذا قال هلك الناس تحزنا عليهم فلا بأس.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء هذا فيه وسئل مالك عن تفسيره هو حديث أبي هريرة في جامع الموطأ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم» وتفسير مالك صحيح لا اختلاف أعلمه في أن معنى الحديث، إذا قال ذلك إعجابا بنفسه، واحتقارا للناس. وأما إذا قاله إشفاقا على من بقي، لقلة الخير فيهم، وتحزنا على من مضى لكثرته فيهم، فليس ممن جاء الحديث فيه، والله أعلم. وقد قال مسلم بن يسار: إذا لبست ثوبا فظننت أنك فيه أفضل منك في غيره، فليس الثوب هو لك. قال مسلم: وكفى بالمرء من الشر أن يرى أنه أفضل من أخيه.
[خشية عمر بن عبد العزيز]
في خشية عمر بن عبد العزيز قال مالك: صلى بالناس عمر بن عبد العزيز المكتوبة، فقرأ بهم: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14](17/280)
خنقته العبرة فلم يستطع أن يجاوز ذلك ثم أعادها فلما بلغ ذلك الموضع أيضا خنقته العبرة، فتركها. ثم قرأ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] .
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد العزيز نهاية في الخوف لله. ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله. قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه قال: لا يطلق على من حلف بالطلاق، وأن عمر بن عبد العزيز من أهل الجنة. وسئل مالك عن ذلك فتوقف، وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى أو قال رجل صالح، وفضائله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أكثر من أن تحصى. وقول ابن القاسم بالصواب أولى لأن الأمة قد اجتمعت على الثناء عليه، والشهادة له بالخير وهي معصومة. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» . وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة.
[ما يلزم من بر الأب]
ما جاء فيما يلزم من بر الأب وسئل مالك عن الرجل يكتب اسمه قبل اسم أبيه فقال: هذا الضلال، والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «كبر كبر» .(17/281)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن للأب عليه حق السن الذي أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يقدم بسببه. وحق الأبوة الذي هو أكبر من حق السن. قال الله عز وجل: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» . ولما جاء من أنه ما بر أبويه من شد النظر إليهما أو إلى أحدهما. وبالله التوفيق.
[وضع المرأة جلبابها عند زوج ابنتها]
في وضع المرأة جلبابها عند زوج
ابنتها وسئل مالك عن الرجل أتضع أم امرأته عنده وهي قاعدة جلبابها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الله يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] الآية. فأباح عز وجل أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب والصهر، زوج ابنتها من ذوي محارمها، فجاز أن تضع عنده جلبابها، وقد كره مالك في رسم حلف في كتاب النكاح أن يسافر الرجل بامرأة أبيه، بعد أن يفارقها أبوه استحسانا، بعد أن استدل بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23](17/282)
الآية. على جواز ذلك. وكره ذلك ابن القاسم فارقها أو لم يفارقها، لاحتمال أن يكون أراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: «لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم من ذوي محارمها» من النسب دون الصهر. وقد نص الله في هذه المسألة على ذوي محارمها من النسب والصهر بقوله: {آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] فوضع جلبابها عنده أبين في الجواز من سفرها معه. وبالله تعالى التوفيق.
[صلاة الرجل في بيته بزوجته]
في صلاة الرجل في بيته بزوجته وسئل مالك عن الرجل يصلي في بيته المكتوبة، أيصليها بزوجته وحدها؟ قال: نعم. وتكون وراءه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن للرجل أن يصلي بزوجته وحدها وتكون وراءه صحيح مما اجتمع عليه العلماء، ولم يختلفوا فيه؛ لأن سنة النساء في الصلاة أن يكن خلف الرجال وخلف الإمام، لا في صف واحد معه ولا معهم، واحدة كانت أو اثنتين أو جماعة، وإنما الكلام في الرجل أو الرجلين إذا كانا مع الإمام، على ما مضى القول فيه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.
[يقين يعقوب عليه السلام برؤيا ابنه يوسف]
في يقين يعقوب برؤيا ابنه يوسف وسمعته يقول: كان يعقوب يقول في غمراته التي كان فيها: فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بما أراه الله.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أنه كان يقول في غمراته التي(17/283)
كانت تعتريه من شدة وجده على يوسف، لما كان يوسف منه، فأين رؤيا يوسف؟ يقينا بأنها ستخرج على ما تأولها عليه، وذلك أن يوسف لما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] تأول أن إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر رجلا، وأبويه سيسجدون له، أعلمه الله بذلك، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] يقول: يحسدونك ظنا منهم، فكان حقا، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] أي بين العداوة. ثم قال له: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] أي يصطفيك ربك، وهو الإخبار بالنبوءة. وهو شيء أعلمه الله يعقوب، أنه سيعطي يوسف النبوءة. وقوله {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] قيل: تعبير الرؤيا، وقيل: عواقب الأمور التي لا تعلم إلا بوحي النبوءة. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] بالنبوءة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] . أعلمه أنه سيعطي أولاد يعقوب النبوءة كلهم.
[ما يخشى على محتكر الطعام من فساد نيته]
فيما يخشى على محتكر الطعام من
فساد نيته قال: وسمعت رجلا كان عنده طعام كثير، فغلا الطعام، فأتى الناس يغبطونه بذلك، قال: فإني أشهدكم أنه للناس بما أخذته. وقال: أبجوع الناس تغبطوني.
قال محمد بن رشد: في قوله: هو للناس بما أخذته، دليل على أنه اشتراه للحكرة، ولم يصبه من حرثه. ومعنى ذلك أنه اشتراه في وقت لا يضر شراؤه بالناس، إذ لو اشتراه في وقت يضر شراؤه بالناس، لكان ما فعل من إعطائه لهم بما اشتراه به، هو الواجب عليه، إذ لا اختلاف في أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة في وقت يضر احتكاره بالناس، وأما(17/284)
احتكارها في وقت لا يضر احتكارها فيه بالناس، ففيه أربعة أقوال، أحدها: إجازة احتكارها كلها: القمح والشعير وسائر الأطعمة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة. والثاني: المنع من احتكارها كلها جملة من غير تفصيل، للآثار الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وغيره، فقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا يحتكر إلا خاطئ» وهو مذهب مطرف وابن الماجشون. والثالث: إجازة احتكارها كلها ما عدا القمح والشعير، وهو دليل رواية أشهب عن مالك في رسم البيوع الأول من كتاب جامع البيوع. والرابع: المنع من احتكارها كلها، ما عدا الأدم والفواكه، والسمن، والعسل والتين، والزبيب وشبه ذلك. وقد قال ابن أبي زيد فيما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون من أنه لا يجوز احتكار شيء من الأطعمة: معناه في المدينة، إذ لا يكون الاحتكار أبدا إلا مضرا بأهلها، لقلة الطعام بها، فعلى قوله، هم متفقون على أن علة المنع من الاحتكار تغلية الأسعار، وإنما اختلفوا في جوازه لاختلافهم باجتهادهم في وجود العلة وعدمها. ولا اختلاف بينهم في أن ما عدا الأطعمة من العصفر والكتان والحنا وشبهها من السلع يجوز احتكارها إذا لم يضر ذلك بالناس.
[الدعاء في حوائج الدنيا]
في استحباب الدعاء في حوائج الدنيا
قال: وحدثني يحيى بن سعيد أنه كان بإفريقية، قال: فأردت حاجة من حوائج الدنيا، قال: فدعوت فيها ورغبت ونصبت واجتهدت، قال: ثم ندمت بعد ذلك، فقلت: لو كان دعائي هذا في حاجة من حوائج آخرتي، قال: فشكوت ذلك إلى رجل كنت أجالسه فقال لي: فلا تكره ذلك. فإن الله قد بارك(17/285)
لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. قال مالك: بينما عروة بن الزبير في المسجد، إذا برجل يصلي، ثم انصرف ولم يدع كثيرا. قال: فدعاه عروة بن الزبير فقال له: أما كانت لك حاجة إلى الله؟ والله إني لأدعو في حوائجي حتى في الملح، وقد بلغني أنه ما من داع يدعو إلا كان على إحدى ثلاث: إما أن يعطى الدعوة التي دعاها، أو يدخر له، أو يصرف عنه بها.
قال محمد بن رشد: قوله في الحكاية الأولى: فإن الله قد بارك لعبد في حاجة أذن له فيها بالدعاء. معناه قد بارك له في حاجة وفقه فيها للدعاء، إذ هو مأذون له في الدعاء في جميع حوائجه؛ لأن الدعاء عبادة من العبادات يؤجر عليها الأجر العظيم، أجيبت دعوته فيما دعا به أو لم تجب. لأنه لا يدعو ويجتهد في الدعاء إلا بإيمان صحيح، ونية خالصة. ولن يضيع له ذلك عند الله تعالى، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] فهذا وجه بركة تلك الحاجة عليه إن كانت سببا لانتفاعه بدعائه في أخراه، وإن حرم المنفعة به في دنياه؛ لأن الذي أعطي خير من الذي حرم. وليس فيما جاء في الحديث من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه» . ما يدل على أنه لا يدخر له ولا يكفر عنه إذا استجيب له. لأن المعنى فيه إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه مع الاستجابة له. والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.(17/286)
[حسن الأدب مع السائل الجاهل]
في حسن الأدب مع السائل الجاهل قال: وسمعته يقول جاء رجل بدوي إلى القاسم فقال له: أنت أفقه أم سالم؟ فقال له: ها أنذا وذاك سالم، فإن تأته لم يخبرك إلا بما أحاط به علما.
قال محمد بن رشد: لما سأله عما يكره الجواب فيه بما يعتقده في نفسه، من أنه أفقه من سالم، عدل له عن الجواب عما سأله عنه إلى الثناء على سالم بما يعتقده فيه من محاسن الأخلاق.
[اقتناء الكلاب]
فيما جاء في اقتناء الكلاب
قال محمد بن أحمد العتبي: وحدثني سحنون بن سعيد، عن ابن القاسم، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان» .
قال محمد بن رشد: القيراط مثل جبل أحد على ما جاء في حديث ثواب المصلي على الجنازة، فالمقدار الذي يكون للمصلي على الجنازة من الأجر، هو المقدار الذي يحط كل يوم من أجر مقتني الكلب لغير ماشية ولغير صيد. وهو عدد ما في جبل أحد من مثاقيل الذر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] . فإذا كان من يعمل من(17/287)
الخير والشر مثقال ذرة يراه، فالذي يعمل مثقال القيراط من الخير والشر. يكون له من الخير وعليه من الشر زنة جبل أحد من مثاقيل الذر، ولا يعلم قدر ذلك من الثواب أو الإثم الذي يستحق عليه العقاب، إلا أن يغفر الله له، إلا يوم الجزاء والحساب؛ لأن الثواب ليس بجسم، يعبر بالوزن، وإنما هو تمثيل وتشبيه. وقد يمثل ما يعقل مما لا يوزن، ليفهم معناه ويعلم. فعقلنا بهذا الحديث أنه ينتقص من أجر مقتني الكلاب لغير ماشية ولا صيد كل يوم من الثواب، عدد ما في جبل أحد من المقدار الذي تفضل الله به على من عمل أدنى يسير من الخير. وهو مقدار الذرة. وفي قوله في الحديث: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية» دليل على أنه يجوز اقتناء كلب الصيد وكلب الماشية. والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء. ففيه دليل على جواز بيع كلب الماشية والصيد، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وسحنون وأكثر أهل العلم، والصحيح في النظر؛ لأنه إذا جاز الانتفاع به، وجب أن يجوز بيعه، وإن لم يحل أكله، كالحمار الأهلي الذي لا يجوز أكله، ويجوز بيعه لما جاز الانتفاع به. وهو دليل هذا الحديث، على ما ذكرناه، خلاف ما قاله ابن القاسم، ورواه عن مالك، من أنه لا يجوز بيع كلب ماشية ولا صيد، كما لا يجوز بيع ما سواها من الكلاب، لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ثمن الكلب عموما.
وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، وبالله تعالى التوفيق.
[قول النبي عليه السلام في غفار وأسلم وعصية]
قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في غفار
وأسلم وعصية وحدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن عبد الرحمن بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(17/288)
قال: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله» .
قال محمد بن رشد: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عصية إنها عصت الله ورسوله، لما كان من غدرهم بأهل بير معونة، وذلك أن رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، على ما في الصحيح «استمدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار، كانوا يسمون بالقراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنقار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببير معونة قتلوهم وغدروا بهم. فبلغ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. قال أنس راوي الحديث: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وأما أسلم، فإنما قال فيها: سالمها الله. لما روي عن أبي هريرة أسلم ومعه سبعون راكبا من أهل بيته. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحمد لله إذ أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين، ودعا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال: أسلم سالمها الله» . وذلك إن إسلامهم كان سالما من غير حرب. وإما غفار فإنما خصهم بالدعاء والمغفرة - والله أعلم- لمبادرتهم إلى الإسلام، وقد أسلم أبو ذر في أول أيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بمكة، غير ظاهر، وفي قصة إسلامه أنه قال: «أتيت رسول الله فأسلمت، فرأيت الاستبشار في وجهه، فقال: من أنت؟ فقلت: أنا جندب رجل من غفار، فكأنه ارتدع وود أني كنت من غير قبيلتي.» وذلك لما كانوا يقرفون به من الشر. وكانوا يستحلون(17/289)
الشهر الحرام في الجاهلية، ويسرقون الحجيج، ويشبه والله أعلم أن يكون " إنما دعا لهم بالمغفرة ليمحو تلك السيئة ويزيلها عنهم، ثم حسن بلاء هاتين القبيلتين في الإسلام. ويقال كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسلم يوم حنين أربعمائة فارس. ومن غفار مثل ذلك، ذكر ذلك الخطابي. وبالله التوفيق.
[التبرك بما لبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم]
في التبرك بما لبسه رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد، «أن النبي عليه السلام لبس بردة من صوف. قال فلبسها ونزع خلق ثوب كان عليه، قال فجاءه رجل فقال يا رسول الله اكسني إياه، قال: فأعطاه إياه، وأخذ خلق ثوبه، فكره الناس ما صنعه الرجل، فعاتبوه في ذلك، فقال: أما إني لم أسأله إياه أن ألبسه، ولكني أردت أن أجعله كفنا لي» .
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من السخاء وبذل المال، والإيثار به عن نفسه، وترك رد من يسأله خائبا. وبالله التوفيق.
[الربا بين العبد وسيده]
في الربا بين العبد وسيده قال مالك: ولا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا؛ لأنه لو كان عليه أين كان يحاص سيده بما أربا؟ ولو أعتقه تبعه ماله، فلا أحب أن يكون بينه وبين عبده ربا.
قال محمد بن رشد: كره مالك الربا بين العبد وسيده، ولم يحرمه فقال: لا أحب للسيد أن يكون بينه وبين عبده ربا، وان كان العبد يملك على مذهبه ما ملكه سيده أو ملكه غيره بوجه جائز، من أجل أن ملكه لماله غير مستقر، إذ لسيده أن ينزعه منه، فلما كان له أن ينتزع ماله بغير رضاه، لم يحرم عليه أن يأخذ منه ما أربى معه فيه، إلا أنه كره ذلك، إذ لم(17/290)
يأخذه بوجه الانتزاع، وإنما أخذه باسم الربا، فكره ذلك لذلك، ولما ذكره في الرواية. من أن الربا يثبت له عليه فيحاص به غرماءه إن كان عليه دين. ومراعاة للخلاف في ملك العبد أيضا، إذ من أهل العلم من يقول: إنه لا يملك، وإن ماله لسيده، ويجب عليه زكاته، ولا يجوز للعبد أن يتصرف فيه، وهو مذهب الشافعي. وأبي حنيفة، القولين وجه، وقول مالك أظهر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ولا يوصف بالفقر والغنى من لا يملك، فربا السيد مع عبده من المشتبهات التي من تركها أجر، ومن فعلها لم يأثم، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحلال والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن أتقى المشتبهات استبرا لدينه» وكذلك الربا مع الحربي في دار الحرب مكروه، وليس بحرام؛ لأنه لما جاز له أن يأخذ من ماله ما لم يؤتمن عليه لم يحرم عليه أن يربي معه فيه، وكره من أجل أنه لم يأخذه على الوجه الذي أبيح له أخذ ماله، وإنما أخذه بما عامله عليه من الربا. وبالله تعالى التوفيق.
[الحديث الذي جاء من أنه ما مات نبي حتى يؤمه رجل من قومه]
في الحديث الذي جاء من أنه «ما مات نبي
حتى يؤمه رجل من قومه» قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما مات نبي حتى يصلي وراء رجل من قومه» .
قال محمد بن رشد: قد روى مالك هذا الحديث عن ربيعة، فصحح «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ خرج في مرضه الذي توفي منه وأبو بكر يصلي بالناس، صلى خلفه جالسا، ولم يخرج أبو بكر» عن الإمامة، فلم يجز للإمام(17/291)
أن يؤم جالسا بالأصحاء قياما. وقد تعارضت الآثار في ذلك، فجاء في بعضها ما دل على «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما خرج في مرضه وأبو بكر يصلي بالناس، فتأخر أبو بكر عن الإمامة وتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بالناس بقية صلاتهم وهو جالس، والقوم خلفه قياما» . وجاء في بعضها ما دل على أن أبا بكر لم يتأخر عن الإمامة وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما صلى مؤتما بأبي بكر. فمن الناس من صحح ما دل منها أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان الإمام. ومعنى ذلك أنه أحرم خلفه، ثم أتم بالناس بقية صلاتهم، وصار أبو بكر مؤتما به فيها، إذ لا يصح أن يحرم بعد أن خرج أبو بكر عن الإمامة؛ لأنه لا يكون قد أحرم قبل بالناس، ولا يصح أن يحرم الإمام قبل القوم، ورأى ذلك شرعا شرعه لأمته، ولم ينسخه عنهم، ولا اختص به دونهم، فأجاز إمامة المريض جالسا، بالأصحاء قياما. وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. ومنهم من صحح منها ما دل أيضا أنه كان الإمام، إلا أنه رأى ذلك من خواصه، فلم يجز لأحد بعده إذا كان مريضا أن يؤم بالأصحاء قياسا. وهو المشهور من قول مالك وقول أصحابه. ومنهم من ذهب إلى أن ذلك كان منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاتين، فكان في الصلاة الأولى هو الإمام، وائتم في الثانية بأبي بكر، فكان فعله في الصلاة الثانية ناسخا لفعله في الصلاة الأولى، والتأويلان قائمان لمالك في رواية ابن القاسم عنه في رسم سن من سماعه من كتاب الصلاة. وعلى هذا التأويل تتخلص الآثار من التعارض، فهو أولاها بالصواب. وقد زدنا هذه المسألة بيانا في رسم سن المذكور من هذا السماع، من كتاب الصلاة. وبالله تعالى التوفيق.
[القنوت في الصلاة]
في القنوت في الصلاة قال: وما يعجبني القنوت إلا في الصبح، ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله.
قال محمد بن رشد: قوله: ما يعجبني القنوت إلا في الصبح يدل(17/292)
على أنه عنده مستحب، وليس بسنة. وهو مذهبه في المدونة لأنه قال فيها: لا سجود سهو على من نسيه. وقال فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى: القنوت في الفجر سنة ماضية، فعلى قوله من نسيها سجد لسهوه. وروى زياد عن مالك أنه يسجد للسهو عنه قبل السلام من ألزمه نفسه، ولا يسجد من لم يلزمه نفسه. معناه يسجد من اعتقد فيه أنه سنة. وقال يحيى بن يحيى: لو كنت ممن يقنت ثم نسيته لسجدت. وقوله: ولا أرى القنوت في آخر رمضان ولا في أوله مثله في كتاب الصيام من المدونة إنه لا يقنت في الوتر أصلا، لا في أول رمضان ولا في آخره، ولا فيما سواه. وهو المشهور عنه-. وقد اختلف قوله في ذلك. فروى علي بن زياد عنه أنه لا يقنت في الوتر إلا في النصف الآخر في رمضان. وروى ابن نافع عنه الروايتين جميعا. وقال في المدونة: ليس العمل على ما جاء من لعن الكفرة في رمضان. يريد- والله أعلم- لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما هو يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] . ثم علمه القنوت» . وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا فمن أهل العلم من رأى القنوت في الوتر في رمضان كله، ومنهم من رآه في النصف الآخر منه وهو الأكثر، ومنهم من رآه في النصف الأول، ومنهم من رأى لعن الكفرة فيه على ما في الموطأ عن الأعرج أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. وقد سئل في رواية محمد بن يحيى السيابي كيف كان ذلك؟ فقال: كان يدعو في النصف الآخر من رمضان في الوتر على الكفرة ويلعنهم، ويستنصر للمسلمين يجهر بذلك. وأول من قطعه زياد بن عبد الله وحين قطعه- والله أعلم- قال الأعرج: ما(17/293)
أدركت الناس وقد أدرك جماعة من الصحابة إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، إنكارا عليه، واستحسنه مالك في رواية محمد بن يحيى عنه. وقال: لم يكن في الزمن الأول زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وقال ابن القاسم: كان مالك بعد ذلك ينكره إنكارا شديدا، وبالله تعالى التوفيق.
[العلم بكثرة الرواية]
في أن العلم ليس في كثرة الرواية قال: وسمعته يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب.
قال محمد بن رشد: النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني فيتفقه فيما حمل، فشبه ذلك بالنور وهو الضياء الذي به ينكشف الظلام، فمن لم يكن معه ذلك النور، فهو بمنزلة الحمار فيما حمل من كثرة الروايات يحمل أسفارا. فمن أراد الله به خيرا أعطاه من ذلك النور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» . وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مالك: هو الفقه في دين الله. وقد أثنى الله عز وجل على من آتاه الفهم، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] . والحكم الفهم والفقه، والله أعلم، وبه تعالى التوفيق.(17/294)
[ما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في ليلة]
ما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
طاف على نسائه في ليلة واحدة فاغتسل
من كل واحدة منهن وحدثني مالك عن رجل من آل أبي رافع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على نسائه ليلة من ذلك، فأصابهن، فاغتسل من كل طوفة غسلا، كلما فرغ من واحدة اغتسل. فقال له الذي يحمل له الماء: لو أخرت ذلك يا رسول الله. قال: هذا أطهر» . ولا أعلم إلا أن أبا رافع الذي كان يحمل له الماء.
قال محمد بن رشد: قوله: هذا أطهر، دليل على أنه كان له الغسل إلى آخرهن. ومعنى ذلك- والله أعلم- أنه فعله عند قدومه من سفره، ثم استأنف القسم لهن، أو بإذن التي كان في ليلتها؛ لأن من عدل الرجل بين نسائه، أن لا يطأ المرأة في يوم الأخرى. وكذلك قال مالك في موطئه: لا بأس أن يطأ الرجل جاريته قبل أن يغتسل، فأما النساء الحرائر فإنه يكره أن يصيب الرجل المرأة في يوم الأخرى. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر في الجنب إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وإنما يؤمر بالوضوء عندهما - والله أعلم- رجاء أن ينشط فيغتسل كالجنب إذا أراد أن ينام. وقال أحمد بن حنبل: إن توضأ فهو أعجب إلي، وإن لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس. وكذلك قال إسحاق إلا أنه قال: لا بد من غسل الفرج إن أراد أن يعود. وليس لذلك وجه ظاهر، وبالله التوفيق.(17/295)
[الرعي في الحرم]
في الرعي في الحرم وقال مالك حين «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فدك رأى رجلا يرعى قال: " هشوا أو رعوا» .
قال محمد بن رشد: معناه في الحرم، والهش أن يضع المحجن في الغصن، فينفضه فيسقط منه، فترعاه الغنم. ولا يعضد ولا يكسر والعضد الكسر. وهذا في المدونة، وبالله التوفيق.
[حكم الأكل متكئا]
في أن من التواضع ترك الأكل متكئا وحدثني ابن القاسم عن مالك «أن ملكا خير نبي الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: أنبي ملك أم نبي عبد؟ فأشار إليه جبريل أن تواضع فقال: بل نبي عبد. فما رئي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يأكل متكئا حتى لقي الله» .
قال محمد بن رشد: فالأكل متكئا مكروه؛ لأنه من الكبر وقد كره مالك أن يأكل الرجل متكئا وواضعا يده اليسرى بالأرض؛ لأنه رآه من ناحية الاتكاء.
وقد مضى هذا في الرسم الذي قبل هذا.
[كراهية القصص]
في كراهية القصص وقال استبطأ القاسم بن محمد ابنه عبد الرحمن ليلة في الانقلاب فقال: ما حبسك يا بني؟ فقال: مررت بقوم يذكرون الله فجلست معهم، فقال: هذا حسن ولا تعد. قال: وسمعت مالكا يقول: سمعت أن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وخارجة بن(17/296)
زيد كانوا لا يجلسون إلى قاص الجماعة.
قال محمد بن رشد: القصص مكروه، وروي عن يحيى بن يحيى أنه قال: خرج معنا فتى من طرابلس، فكنا لا ننزل منزلا إلا وعظنا فيه، حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب بذلك منه، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بنا، فرأيته في سماط أصحاب السقط، وهو قائم يحدثهم، وقد لهوا عنه، والصبيان يحصبونه ويقولون له: اسكت يا جاهل، فوقفت معجبا لما رأيت، فدخلنا على مالك فكان أول شيء سألناه عنه بعد ما سلمنا عليه ما رأينا من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذ لهوا عنه، وأصاب الصبيان إذ ذكروا عليه باطله، قال يحيى: وسمعت مالكا يكره القصص فقيل له: يا أبا محمد، فإذ تكره مثل هذا فعلى ما كان يجتمع من مضى؟ فقال على الفقه. وكان يأمرهم وينهاهم. وبالله التوفيق.
[فضل الرباط والجهاد]
في الرغبة في الرباط والجهاد وقال: عوتب أبو أيوب صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الغيبة عن أهله، فقال: إني أحب أن أبعث من هذه الجزيرة، وكان قد لحق بغزو الجزائر.
قال محمد بن رشد: أبو أيوب الأنصاري من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة من بني النجار شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشهد مع علي حروبه، وكان يلازم الرباط والجهاد، ولا يتخلف عن الغزو في كل عام، فلما ولى معاوية يزيد على الجيش إلى القسطنطينية جعل أبو أيوب يقول: وما علينا إن أمر علينا شاب فغزا تحت رايته قسطنطينة، فمات بها. وقد مضى خبره في ذلك في أول رسم من السماع.(17/297)
وفضائل الجهاد والرباط أكثر من أن تحصى من ذلك قَوْله تَعَالَى في الجهاد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الآية وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} [الصف: 10] الآية وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ومن أحبه الله أمنه من عذابه وأكرمه بجواره في الجنة التي أعدها لأوليائه. «وسئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله» وقال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع، فقال الرجل: لو قمت الليل وصمت النهار ما بلغت نوم المجاهد» . «وقال لرجل له ستة آلاف دينار لو أنفقتها في طاعة الله، ما بلغت غبار شراك نعل المجاهد.» ومن ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الرباط: «رباط ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقوم ليلها لا يفتر ويصوم نهارا لا يفطر» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رابط فواق ناقة، حرمه الله على النار» .
الرباط هو أن يخرج من منزله إلى ثغر يقيم فيه لحراسة ذلك الثغر(17/298)
ممن يجاوره. وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابطا. وقد قيل فيه: إنه أفضل من الجهاد. روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين فحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين. فقيل: إن ذلك حين دخل الجهاد ما دخل. والأظهر في تأويل ذلك أنه عند شدة الخوف على أهل ذلك الثغر، وتوقع هجوم العدو عليهم وغلبتهم إياهم على أنفسهم ونسائهم وذراريهم، إذ لا شك في أن إغاثتهم في ذلك الوقت وحراستهم مما يتوقع عليهم، أفضل من الجهاد إلى أرض العدو، فلا يصح أن يقال: إن أحدهما أفضل من صاحبه على الإطلاق، وإنما ذلك على قدر ما يرى وينزل. وذلك قائم من قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد.
[ما لا يؤخذ في صدقة الغنم]
في تفسير ما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أنه لا يؤخذ في صدقة الغنم وقال مالك: الربا التي قد وضعت، والماخض الحامل، والأكولة شاة اللحم، وفحل الغنم التيس، والحافل ذات الضرع العظيم، وحزرات الناس، كرائم الأموال وضنائنهم. وقال: العقال القلوص من الإبل.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للربا والماخض والأكولة وفحل الغنم، والحافل الذي جاء عن عمر بن الخطاب أنها لا تؤخذ في الصدقة في حديث سفيان الثقفي أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا، فكان يعد على الناس بالسخل فقالوا: أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئا؟ فلما قدم على(17/299)
عمر بن الخطاب ذكر له ذلك، فقال عمر: نعم تعد عليهم بالسخلة، يحملها الراعي ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذاك عدل بين غذاء الغنم وخياره تفصيل صحيح، هو نص قوله، وتفسيره في الموطأ لذلك وتفسيره للحرزات الذي جاء عن عمر أنها لا تؤخذ في الصدقة في حديث عائشة أنها قالت: مر على عمر بن الخطاب بغنم الصدقة، فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم، فقال عمر بن الخطاب: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر بن الخطاب: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، ولا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. تفسير صحيح أيضا لأن الحزرات مأخوذة من الحزر، وهو ما يحزر الرجل أنه خيار ماله وكريمه الذي يظن به. وأما تفسيره للعقال الذي جاء في «حديث أبي بكر الصديق من قوله: لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه حين ارتد من ارتد من العرب، ومنعوا زكاة أموالهم، فبعث لقتالهم، فقال له عمر بن الخطاب: يا أبا بكر، ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل، فقال: ألا أقاتل أقواما فرقوا بين الصلاة(17/300)
والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسام لقاتلتهم عليه» وقد اختلف فيه، فقيل: العقال الحبل الذي يعقل به البعير المأخوذ في الصدقة، وقيل: العقال صدقة عام. واحتج من ذهب إلى ذلك من اللغة بما روي أن معاوية استعمل ابن أخيه عمرو بن عتبة على صدقات كليب فاعتدى عليهم، فقال عمرو بن العداء الكلبي في ذلك:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
لأصبح الحي أو بادوا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين
وقيل: العقال الفريضة المأخوذة، روي عن الأعرابي أنه قال: إذا أخذ المصدق غيرها في الماشية، قيل: أخذ عقالا. وإذا أخذ به ثمنا، قيل: أخذ نقدا، وقد روي في بعض الآثار: لو منعوني عناقا. مكان عقال، والعناق الصغير من أولاد المعز. ففيه حجة لمن يقول: إن الغنم إذا كانت صغارا كلها، يؤخذ منها. وهو قول أبي يوسف وقيل: إن فيها مسنة. وهو قول زفر. وقد قيل: لا شيء فيها. وهو مذهب محمد بن الحسن، وقد قيل في المذهب فيها قولان: أحدهما، وهو المنصوص عليه فيه: إن فيها مسنة. والثاني: إنه يؤخذ منهما قياسا على القول بأنه يؤخذ منها إذا كانت عجافا كلها أو ذوات عوار كلها. وكذلك يختلف أيضا إذا كانت أكولة كلها، أو مواخض على قولين: أحدهما إن فيها السن المأخوذ في الصدقة. ولا يأخذ منها إلا برضا ربها. وهو المنصوص عليه. والثاني: إنه يؤخذ منها قياسا على القول بأنه يؤخذ منها إن كانت صغارا كلها، أو عجافا كلها، أو ذات عوار كلها. وقد قيل: إن الخلاف لا يدخل فيها ولا في الصغار، ويلزم رب المال في الصغار أن يعطي مسنة باتفاق. ولا يجوز للساعي في المواخض والأكولة أن يأخذ منها(17/301)
إلا برضا ربها. والصحيح دخول الاختلاف فيهما؛ لأن عمر بن الخطاب قال: وتأخذ الجذعة والثنية. وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره. فإذا كانت الغنم صغارا كلها، أو مواخض كلها أخذ منها، لعدم العلة التي توجب أن يأخذ الجذعة والثنية، وهي أن يكون في الغنم أرفع وأدنى فيكون السن عدلا بينهما.
[الصدقة في حب الفجل]
في الصدقة في حب الفجل وقال مالك: في حب الفجل الصدقة.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول مالك في الزكاة في حب القرطم فمرة قال: إن فيه الزكاة، ومرة قال: إنه لا زكاة فيه. وهو قول سحنون. وابن القاسم يرى فيه الزكاة من زيته، وقع ذلك في هذا الرسم من هذا السماع، من كتاب زكاة الحبوب. وهذا الاختلاف داخل في هذه المسألة إذ لا فرق بين حب القرطم وحب الفجل في إيجاب الزكاة فيهما لأن الزكاة إنما وجبت في كل واحد منهما عند من أوجبه، من أجل ما يخرج منه من الزيت قياسا على الزيتون. وما اجتمع الناس على إيجاب الزكاة في الزيتون، فالأظهر أنه لا زكاة في واحد منهما. وقول ابن القاسم: إن الزكاة تؤخذ من زيته إغراق في القياس، ومثله لمالك في رسم يسلف من هذا السماع، من كتاب الزكاة. وقد مضى هذا كله بما فيه زيادة بيان في الرسم المذكور من كتاب الزكاة. ولم يختلف مالك في أنه لا زكاة في حب بزر الكتان ولا في زيته. ولأصبغ في كتاب ابن المواز إن فيه الزكاة، وإنما فرق مالك بين بزر الكتان وحب القرطم في الزكاة في أحد قوليه؛ لأنه رأى أن الناس يعصرون الزيت الكثير من القرطم، ويتخذونه لذلك ولا يفعلون ذلك(17/302)
في بزر الكتان، إذ لا فرق بينهما في القياس؛ لأن الزكاة إنما تجب في ذلك عند من أوجبها فيه، من أجل ما يخرج منه من الزيت، قياسا على الزيتون.
[ثناء ابن مسعود على معاذ بن جبل]
في ثناء ابن مسعود على معاذ بن جبل قال مالك: بلغني أن عبد الله بن مسعود كان يقول: يرحم الله معاذ بن جبل، كان أمة قانتا لله. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله بهذا إبراهيم. قال ابن مسعود: إن الأمة التي تعلم الناس الخير، وإن القانت هو المطيع لله ورسوله.
قال محمد بن رشد: المعنى بين فيما وصف ابن مسعود معاذ بن جبل؛ لأنه من فضلاء الصحابة وعلمائهم. قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه أعلمهم بالحلال والحرام وإنه يأتي أمام العلماء يوم القيامة» وكان من السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وشهد بدرا والمشاهد كلها. وآخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين ابن مسعود. وقيل: بل آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب، وهو أحد عماله على اليمن، بعثه على الجند من اليمن واليا ومعلما. «وقال له حين بعثه: بما تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله» . وكان شابا جميلا براق الثنايا عظيم العينين، حسن الشعر، سمحا، لا يمسك، فلم يزل يدان حتى استغرق الدين ماله، فجعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرمائه، ثم استعمله على اليمن، فقدم منه بعد موت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلافة أبي بكر. وقد تجر في مال الله، فأصاب فيه، فأشار عليه عمر أن يتخلى عنه، فقدم به على(17/303)
أبي بكر الصديق، فوهبه له، فلم يأخذ منه. فقال عمر: الآن حل له، ثم خرج إلى الشام، فمات بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة من الهجرة. وهو ابن اثنين وثلاثين سنة. وقيل: ابن ثمانية وعشرين سنة. ولم يولد له قط وقيل: إنه ولد له ولد، سماه عبد الرحمن، وبه كان يكنى، وبالله تعالى التوفيق.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمر والقاسم بن محمد]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز وعبد الله
ابن عمر والقاسم بن محمد وقال مالك: كان دخول زياد مولى ابن عياش على عمر بن عبد العزيز وهو مملوك، فقال: السلام عليكم، ثم قعد، فتفكر زياد فيها فلام فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أما إني لم أنكر الأولى. قال مالك: سافر رجل مع ابن عمر، فكان يصوم، فيصب على رأسه الماء في الهواجر من شدة الحر، فيقول ابن عمر: إن عذبك الله بعد هذا إنك لشقي. قال مالك: التقى عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد. فقال له القاسم: عليك بالصبر في مواطن الصبر. قال: وعرض عليه عمر بن عبد العزيز أشياء فقال القاسم: إني امرؤ لا أرزأ أحدا شيئا.
قال محمد بن رشد: هذه حكاية كلها بينة في المعنى. فيها تواضع عمر بن عبد العزيز في أنه لم ينكر على زياد ترك تخصيصه بالسلام، وتسميته بما خصه الله به من الإمارة على العادة في ذلك. وفيه شدة خوف عبد الله بن عمر. والله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وفيها حض القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز على الصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200](17/304)
ووعد بالثواب الجزيل عليه فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وما فعله من رده لما عرضه عليه مع جواز الأخذ منه لعدله، فضل منه؛ لأن ذلك مما يستحب له فعله، للحديث الذي جاء: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني؛ لأنه إذا ترك ذلك فقد آثر به على نفسه غيره ممن يعطاه» .
[حكم الصلاة في الكنائس]
في صلاة الكنائس وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور. قال مالك: وأنا أكره الصلاة في الكنائس لأن موضعها نجس ووطئهم بأقدامهم فيها.
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ولم يذكر فيه التي فيها الصور. وفي قوله: التي فيها الصور دليل على أنه إنما كرهت الصلاة فيها إذا كانت عامرة؛ لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور. وقد اختلف في علة كراهة الصلاة في الكنائس. فقال مالك: لنجاستها من أقدامهم وما يدخلون فيها من النجاسات. وقال ابن حبيب: لأنها بيوت متخذة للكفر بالله. وقيل: إن الصلاة تكره فيها للوجهين جميعا. فإن صلى فيها على القول بأن العلة في الكراهة إنها بيوت متخذة للكفر بالله، لم يجب عليه إعادة، بسط فيها ثوبا(17/305)
صلى عليه أو لم يفعل. وإن صلى فيها على القول بأن العلة في الكراهة في الصلاة فيها نجاستها، لم تجب عليه إعادة إن صلى على ثوب بسطه، وإن صلى دون أن يبسط ثوبا فقيل يعيد أبدا. وهو قول ابن حبيب على أصله فيمن صلى بثوب نجس عامدا، إنه يعيد أبدا. وقيل يعيد في الوقت، إلا أن يضطر إلى النزول فيها، فلا يعيد، من أجل أن نجاستها غير متيقنة، وهو قول سحنون.
وقد مضى هذا المعنى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.
[موضع المقام من البيت وحدود]
في موضع المقام من البيت وحدود
الحرم ومواضع مناسك الحج قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت فأخره عمر بن الخطاب إلى موضعه، وهو حدد علم الحرم ومعالمها. قال مالك: لما وقف إبراهيم على المقام، أوحى الله للجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه المناسك. وهو قول إبراهيم: ربنا أرنا مناسكنا.
قال محمد بن رشد: وقع هذا كله في كتاب الحج الثاني من المدونة بزيادة بيان ونص ذلك فيها: قال مالك: بلغني أن عمر ابن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة، أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. وقد كان ملصقا بالبيت في عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي عهد أبي بكر، وقبل ذلك وقد كانوا قدموه في الجاهلية، مخافة أن يذهب به السيل، فلما ولي عمر أخرج أخبوطة كانت في خزانة الكعبة، قد كانوا قاسوا بها ما بين(17/306)
موضعه وبين البيت إذ قدموه مخافة السيل فقاسه عمر، فأخرجه إلى موضعه اليوم، فهذا الذي كان في الجاهلية وعلى عهد إبراهيم. قال: وسار عمر في أعلام الحرم، واتبع رعاة قدماء كانوا مشيخة من مكة، كانوا يرعون في الجاهلية، حتى تتبع أنصاب الحرم فحدده، فهو الذي حدد أنصاب الحرم ونصبه. وقال مالك: وبلغني أن الله تعالى لما أراد أن يري إبراهيم مواضع المناسك، أوحى إلى الجبال أن تنحي له، فتنحت له حتى أراه مواضع المناسك. فهو قول إبراهيم في كتاب الله تعالى: (ربنا أرنا مناسكنا) وليس في التلاوة ربنا، وإنما فيها {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] مجازا، أي وأرنا مواضع مناسكنا، خرج ذلك مخرج: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية؛ لأن المناسك هي الأعمال التي يتقرب إلى الله بها، وينسك له في تلك المواضع من الطواف والإفاضة، والوقوف بعرفة والمزدلفة، وسائر أفعال الحج. والرواية في قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] رواية عين على ما نص عليه في الحديث. وقد قيل: إن مناسك الحج مشاعره وهي المواضع التي تفعل فيها أفعال الحج، من الطواف والسعي، والرمي والذبح. فعلى هذا القول يكون قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] على هذا الحديث رواية عين حقيقة، لا مجاز فيه. وقيل لم يرد بقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] رواية عين وإنما أراد علمنا إياها ودلنا كيف نصنع فيها. من ذهب إلى هذا بما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي ربي فأرنا مناسكنا أبرزها لنا علمنا إياها، فبعث الله عز وجل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فحج به. وقيل: المناسك في قوله عز وجل:(17/307)
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] المذابح، أي علمنا كيف تذبح نسائكنا.
[الرعي في الحرم]
في الرعي في الحرم قال مالك في «الذي رآه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يرعى في حرم المدينة وأرسل إليه فارسين يسوقانه سوقا رفيقا حتى يخرجاه من الحرم، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: هشوا وارعوا» . قال مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه ولا يكسر العود. فهذا الهش ولا يخبط.
قال محمد بن رشد: هذا تفسير ما تقدم قبل هذا في هذا الرسم ومثله في المدونة، وبالله التوفيق.
[مس الفرج]
في ما جاء في مس الفرج قال سحنون حدثني ابن القاسم عن مالك، عن يزيد بن عبد الملك بن المغيرة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينهما حجاب فقد وجب عليه الوضوء للصلاة» .
قال محمد بن رشد: وقد روي هذا المعنى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أوجه كثيرة. وروي «عن طلق بن علي أنه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟» فمن(17/308)
أهل العلم من أوجب الوضوء من مس الذكر، ومنهم من لم يوجبه، ومنهم من فرق بين العمد والنسيان، فاستعمل الآثار الواردة في ذلك، ولم يطرح منها شيئا. والأقوال الثلاثة قائمة في المذهب لمالك، روى أشهب عنه في كتاب الوضوء أنه قال: من مس ذكره انتقض وضوؤه. فظاهره في العمد والسهو، وروي عنه في كتاب الصلاة أنه سئل عن مس الذكر فقال: لا أوجبه رأيا، فروجع في ذلك فقال: يعيد ما كان في الوقت، وإلا فلا، فظاهره أيضا في العمد والسهو. وروى ابن وهب عنه في سماع سحنون من كتاب الوضوء، القول الثالث إنه لا إعادة عليه إلا أن يمسه عامدا، وإلى هذا يرجع ما في المدونة على تأويل بعض الناس، وقد تأول ما فيها على الظاهر من التفرقة بين باطن الكف وظاهره، ومن غير اعتبار يقصد، ولا وجود لذة. وهذا كله إذا مسه على غير حائل. واختلف قوله إن مسه على حائل خفيف على قولين: أحدهما: أنه لا وضوء عليه. وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون، من كتاب الوضوء، اتباعا لظاهر هذا الحديث. والثاني: أن عليه الوضوء، وهو قوله في رواية علي بن زياد، عن مالك. وأما إن كان الحائل كثيفا، فلا وضوء عليه قولا واحدا. وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الوضوء لتكرر الحديث هناك.
[يصبح جنبا في رمضان]
ما جاء في الذي يصبح جنبا في رمضان وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يزيد بن عبد الملك بن المغيرة، عن يزيد بن خصيبة، عن السائب بن يزيد، «عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله لينفض رأسه بيده فيتطاير عنه الماء من غسل الجنابة في رمضان» .(17/309)
قال محمد بن رشد: الحديث إنما يرويه الناس عن ابن القاسم عن يزيد، عن عبد الملك، فوهم العتبي بقوله فيه: ابن القاسم عن مالك، ويزيد هذا متروك الحديث ضعيف، إلا أنه قد ثبت معناه من رواية عائشة وأم سلمه، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم» ذكر ذلك مالك في موطأه، ولا خلاف في ذلك إلا ما جاء عن أبي هريرة من أنه كان يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم، وقد تبرأ من ذلك حين وقفه على عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بإرسال مروان إياه إليه إلى أرضه بالعقيق على ما وقع من ذلك في الموطا، فقال: لا علم لي بذلك، إنما أخبرنيه مخبر، فروى عنه أنه الفضل بن عباس، وروى عنه أنه أسامة، وروى أن عبد الله بن عبد الله بن عمر(17/310)
احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح، قال فأتيت أبا هريرة حين أصبح فاستفتيته في ذلك فقال: أفطر، فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالفطر إذا أصبح جنبا، قال عبد الله بن عبد الله فجئت ابن عمر: فذكرت الذي أفتاني به أبو هريرة، فقال: قسم بالله لئن أفطرت لأوجعن مشفيك، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل.
وقد روي عن أبي هريرة من وجوه أنه نزع عن الفتوى بهذا.
والذي عليه جماعة الصحابة وفقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعامة العلماء أن صيام من أصبح جنبا صحيح جائز لا قضاء عليه فيه، علم بجنابته قبل الفجر أو لم يعلم، وكذلك الحائض إذا طهرت من الدم قبل الفجر فاغتسلت بعده هي من أهل الصيام تصوم ولا تقضي، وقال ابن الماجشون: إنها إن طهرت قبل الفجر فقامت ولم تتوان في غسلها فلم تفرغ منه حتى طلع الفجر فليست من أهل الصيام قياسا على الصلاة، وهو قول محمد بن مسلمة، وحكى ابن عبد البر، عن ابن الماجشون: أنها إذا طهرت قبل فأخرت غسلها إلى بعد الفجر أن يومها يوم فطر لا يجزيها صيامه.
وخطأه في ذلك، احتج فيه عليه، وأراه غلطا فيما نسب من ذلك إليه، والصواب ألا فرق في هذا بين الحائض والجنب على ما ثبت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ودل عليه قول الله عز وجل: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية؛ لأن الجماع إذا كان مباحا إلى طلوع الفجر فالغسل إنما يكون بعده.
وفي ذلك بين جماعة التابعين اختلاف كثير، منهم إبراهيم النخعي(17/311)
وعروة بن الزبير، وطاوس، وسالم بن عبد الله، والحسن، يتحصل فيه ستة أقوال أحدها، أن من أصبح جنبا فهو مفطر، والثاني: أنه يصوم ذلك اليوم ويقضيه، والثالث: أنه يستحب له القضاء، والرابع: الفرق بين أن يعلم بجنابته قبل الفجر أو لا يعلم بها إلا بعد الفجر، فإن علم بها قبل الفجر فهو مفطر، وإن علم بها بعد الفجر أتم صيامه وقضاه، والخامس: أنه إن علم بجنابته قبل الفجر أتم صيامه وقضاه، وإن لم يعلم بها إلا بعد الفجر أجزأ صيامه، والسادس: أنه إن علم بجنابته قبل الفجر استحب له القضاء، وإن لم يعلم بها إلا بعد الفجر فصيامه تام لا يؤمر فيه بالقضاء، فكذلك الحائض على مذهبهم إذا طهرت قبل الفجر فاغتسلت بعده، وبالله التوفيق.
[الإحرام على من أهدى هديه]
فيما جاء من أن الإحرام لا يجب على من أهدى
هديه فبعث به وحدثني عن عيسى، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع، عن أبي نعيم القاري، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه «عن عائشة قالت: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيدي، فيبعث بها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث بيان ما كان عليه أزواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من عملهن بأيديهن وامتهانهن في ذلك، وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يمتهن نفسه في عمل بيته، فربما خاط ثوبه وخصف نعله، وقد قلد هديه بيديه على ما جاء عن عائشة في غير هذا الحديث أنها فتلت قلائد هدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيديها، ثم قلدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بيده فلم يحرم عليها شيئا مما أحله الله حتى يخرج الهدي، وفيه أن من أهدى هديا لا يكون بتقليده وبإشعاره محرما(17/312)
حتى يحرم، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، وفي ذلك اختلاف بين السلف، من ذلك ما في الموطأ، عن ابن عباس من أنه قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي، وتابعه على ذلك جماعة سواه لحديث «جابر بن عبد الله قال: كنت عند النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -جالسا فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أمرت ببدني الذي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي» .
فذهب قوم إلى أن الرجل إذا بعث بهديه وأقام في رحله في أهله فقلد الهدي وأشعره أنه يتجرد فيقيم كذلك حتى يحل الناس من حجهم.
وروي عن ابن سيرين أن ابن عباس بعث بهديه ثم وقع على جارية له فأتي مطرف بن الشخير في المنام فقيل له: ائت ابن عباس فمره أن يطهر فرجه فأبى أن يأتيه، فأتى الليلة الثانية، فقيل له مثل ذلك، فأبى أن يأتيه، وأتى ثالثة، وقيل له قول فيه بعض الشدة، فلما أصبح أتى ابن عباس فأخبره بذلك، فقال ابن عباس: ومم ذلك؟ فقال له: إني وقعت على فلانة بعد ما قلدت الهدي، فكتب ذلك اليوم الذي وقع عليها، فلما قدم ذلك الرجل الذي بعث معه الهدي سأله أي يوم قلدت الهدي؟ فأخبره، فإذا هو قد وقع عليها بعدما قلد الهدي، فأعتق ابن عباس جاريته تلك.(17/313)
واختلفت الرواية في ذلك عن عبد الله بن عمر، فروى عنه نافع أنه قال: إذا فقد الرجل الهدي فقد أحرم، والمرأة كذلك، ما لم تحج فهو حرام حتى ينحر هديه، وروي عن أبي العالية أنه سمعه يقول: يقولون إذا بعث الرجل بالهدي فهو محرم، والله لو كان محرما ما كان له حل دون أن يطوف بالبيت، والله هذا أولى؛ لأنه أصح في النظر وأثبت من جهة الأثر، وإن كان نافع أثبت في ابن عمر من أبي العالية.
وهذه مسألة يتحصل فيها من أقوال العلماء أربعة أقوال.
أحدها: أنه لا يكون بالتقليد والإشعار محرما حتى يحرم، كان مع هديه أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يقيم في أهله، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، على حديث عائشة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وما روي عنها من أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل ولبى.
والثاني: ضد هذا القول، أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما، كان مع الهدي أو لم يكن معه، وبعث به على أن يتبعه وهو يريد الحج، أو على ألا يتبعه ويقيم في أهله، وهو مذهب ابن عباس وجماعة سواه، على ما جاء في حديث ابن جابر.
والثالث: أنه يكون بالتقليد والإشعار محرما إذا أراد الحج، كان مع هديه أو بعث به، وهو يريد أن يتبعه وبحج، ولا يكون محرما إذا لم يرد الحج، بعث به مع من يقلده ويشعره أو قلد هو وأشعره وبعث به، وهو قول الثوري. والرابع: أنه لا يكون محرما بالتقليد إلا أن يكون مع هديه وهو يريد الحج، فإن بعث بهديه فقلد وأشعر وهو لا يريد الحج ثم بدا له أن يحج فلا يكون بخروجه محرما، حتى يدرك هديه فيأخذه ويسير به، وهو قول أبي حنيفة، ومن مذهبه لا يكون محرما إلا بالتقليد، ولا يراعى في ذلك الإشعار، وأنه إن أهدى الغنم فلا يكون بتقليدها محرما إذ لا يقلد الغنم،(17/314)
ومن مذهبه أيضا ومذهب أبي يوسف ومحمد أنه إن بعث بهدي لمتعة ثم أقام أياما حكاما ثم خرج وقد كان قلد الهدي وأشعر، أنه لا يكون محرما بخروجه حتى يدركه ويسير به، بخلاف هدي التطوع، وفي حديث عائشة هذا ما يرد حديث «أم سلمة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: إذا دخل العشر فأراد أحدهم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا أظفاره حتى يضحي» إذ قد علم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كان لا يترك الأضحية، ولم يأخذ مالك بحديث أم سلمة وإن كان قد رواه؛ لأن حديث عائشة عنده أصح منه، وقد ترك مالك أن يحدث به، روي عن عمر أن ابن أنس سأله عنه فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه قد رواه عنه شعبة وهو يقول ليس من حديثي، فقالوا لي إن لم يرد الأخذ بالحديث يقول: ليس من حديثي، وإلى ما ذهب إليه مالك من أنه لا بأس بحلق الرأس وقص الأظفار والشارب وحلق العانة من عشر ذي الحجة ذهب أبو حنيفة، واختلف قول الشافعي، فمرة قال: من أراد الضحية لم يمس في عشر ذي الحجة من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي، ومرة قال: أستحب ذلك، فإن فعل فلا بأس لحديث عائشة.
وقال الأوزاعي: إذا اشترى أضحية بعدما دخل العشر فإنه يكف عن ذلك حتى يضحي، وإن اشتراها قبل أن يدخل العشر فلا بأس.
فيتحصل في المسألة أربعة أقوال.
أحدها: أنه يجب ترك ذلك في العشر على من يضحي إذا كان واجد الضحية وإن لم يشترها بعد.
والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا بشرائها في عشر ذي الحجة منذ اشتراها، وإن اشتراها قبل ذي الحجة لم يكن به بأس.
والثالث: أن ذلك يجب عليه في العشر إن اشتراها قبله، وفي بقية إن اشتراها بعد إن مضى بعضه.(17/315)
والرابع: قول مالك وأصحابه، أن ذلك لا يجب عليه بحال على حديث عائشة..
وذهب الطحاوي إلى أن حديث عائشة غير معارض لحديث أم سلمة؛ لأن المعنى في حديث عائشة أنه لم يحرم عليه شيء مما أحله الله من أهله حتى ينحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار، وفي حديث أم سلمة المنع من حلق الشعر وقص الأظفار لمن أراد أن يضحي في العشر اشترى أضحية أو لم يشترها، وكان واجدا لها فيباح له في العشر الإلمام بأهله على حديث عائشة، ويمنع من حلق الشعر وقص الأظفار على حديث أم سلمة، هذا الذي ذهب إليه الطحاوي، وهو خلاف مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما، وبالله التوفيق.
[الطيب عند الإحرام]
في الطيب عند الإحرام
«قالت عائشة: طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في حجه لحرمه ولحله» .
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا عن عائشة ثابت صحيح روى مالك في موطأه عنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت» وقد روي عنها في هذا الحديث زيادة تبين معناه، وهي أنها قالت: «طيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فطاف على نسائه ثم أصبح محرما، وإذا كان على هذا بالغسل قد أتى على الطيب» .(17/316)
وهذه مسألة قد اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم من التابعين، فمنهم من أجاز للمحرم أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عليه بعد الإحرام، وأن يتطيب إذا رمى الجمرة قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ومنهم من لم يجز ذلك، منهم عمر بن الخطاب جاء عنه أنه وجد ريح طيب من ذي الحليفة من معاوية بن أبي سفيان وابن كثير بن الصلت فتغيظ عليهما وأمرهما بغسل ذلك عنهما، وأنه قال بخطبته في عرفة في الحج: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، وإلى هذا ذهب مالك فلم يجز لأحد أن يتطيب قبل الإحرام بطيب يبقى عليه بعد الإحرام، ولا أن يطيب قبل طواف الإفاضة، وإن كان قد رمى الجمرة، إلا أنه لا يرى على من فعل ذلك الفدية، لما جاء في ذلك من الاختلاف وحصل بين العلماء من الصحابة ومن بعدهم، والله الموفق.
[قول النبي عليه السلام في عمر بن الخطاب]
في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في
عمر بن الخطاب وعنه أيضا عن نافع عن ابن عمر أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله جعل الحق على قلب عمر ولسانه» .
قال محمد بن رشد: ويروى: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» والمعنى في ذلك سواء، وهو أنه كان يرى الرؤية بقلبه ويقوله بلسانه فيوافق فيه الحق، وقد نزل فيه القرآن، بموافقته في تحريم الخمر، وفي أسرى بدر، وفي الحجاب، وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يظن الظن ما يكاد يخطئه، روي عن عبد الله بن(17/317)
عمر أنه قال: قل ما يكون عمر يقول الشيء أظنه كذا إلا كان على ما ظن، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر من كثرة ما كان يصيب في قوله الحق، وقد توجد الزكانة والفطنة وإصابة الرأي في القول في كثير من الناس، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «كان فيما مضى محدثون يعني ملهمون، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر» . فمن ذلك ما روي عنه أنه بعث بعثا أمر عليهم سارية بن زنيم - رجل من أصحابه -، فبينما عمر يخطب إذ صرخ ثلاث صرخات يقول: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، قال فشنع ذلك، فلما سمع عبد الرحمن بن عوف دخل على عمر فقال: كأنك أعرابي إذ صرخت ثلاث صرخات، بينما أنت تخطب يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم قال: وقع في روعي أنه ألجأه العدو إلى الجبل، قال: فلعل عبدا من عبيد الله يبلغه صوتي، قال فجاء سارية من الجبل فقال: نعم سمعت صوتا يوم الجمعة نصف النهار يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، وذكر أيضا أن سارية ابن زنيم لما قصد نساودرا بجرد وانتهى إلى عسكرهم نزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير، ورأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أربهم والمسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، فإن أووا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قال: يا أيها الناس إني رأيت(17/318)
هذين الجمعين، وأخبر بحالهما، ثم قال يا سارية الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضهم أن يبلغهم، ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الاستناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد، فهزمهم الله فكتبوا بذلك وباستيلائهم على البلد إلى عمر، فنفذ الرسول عن عمر لأمره الذي أمره به فيما غنموه، وقد سألوه أهل المدينة عن سارية وعن الفتح وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال: نعم، سمعنا: يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فألجأنا إليه، ففتح الله علينا.
ومن ذلك قوله: أدرك أهلك فقد احترقوا، وكان كما قال للذي سأله ما اسمك؟ فقال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار؟ قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى.
وقد قيل إن قوله أدرك أهلك فقد احترقوا، من معنى ما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا أقول لا أعبد هذا العود، إن البلاء موكل بالقول.
[ما جاء عن عمر بن الخطاب في أن القبلة ما بين المشرق والمغرب]
فيما جاء عن عمر بن الخطاب في أن
القبلة ما بين المشرق والمغرب وفيه أيضا عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن القبلة إنما تتحرى فيما بين المشرق والمغرب، لا في المشرق ولا في المغرب، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يستقبلن أحدكم القبلة لبول ولا لغائط، ولكن شرقوا أو غربوا» ، وإنما خوطب بهذا أهل المدينة، إذ تكون القبلة فيما بين(17/319)
المشرق والمغرب، إلا لمن كان في الجنب والشمال، وأما إن كان في المشرق أو المغرب فقبلته في الجنوب والشمال، أي يتحرى القبلة فيما بينهما على ما ذكرناه، ومن كان فيما بين الشمال والمشرق أو فيما بين الجنوب والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون بين الشمال والمغرب، ومن كان فيما بين الجنوب والمشرق أو فيما بين الشمال والمغرب فإنما يتحرى القبلة فيما يقابله من الخط الذي يكون مما بين المغرب إلى الجنوب إلى ما بين المشرق والشمال.
وقد قال بعض الناس في تفسير قول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ولكن شرقوا أو غربوا» هو أن ينظر الرجل إلى مطلع الشمس وإلى مغربها عند اعتدال الزمن حتى يستوي الليل والنهار، فينصب خطا من المشرق إلى المغرب، ثم يصلي الناس إلى ذلك الخط يتعاطونه من الجهتين، ولا يشرقوا ولا يغربوا، وهو خطأ ظاهر وغلط بين؛ لأن التوجه في الصلاة إنما يجب بنص القرآن إلى شطر المسجد الحرام، يتحرونه من كل جهة من الجهات الأربع، لا إلى الخط الذي يخرج من المشرق إلى المغرب، وقد قال بعض الناس: إن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، قبلة لسائر الناس، وهذا أيضا ليس بصحيح، إذ لا يؤمر أحد أن يتوجه تلقاء الحرم، وإن بعد موضعه من مكة، إنما يؤمر أن يتوجه تلقاء بيت الله الحرام من مكة التي في داخل الحرم.
ووجه ما ذهب إليه قائل هذا القول: إن القبلة كلما بعدت اتسع الخطأ فيها، فيكون سبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل مكة عن استقبال شيء من المسجد كسبيل الذي يخرج في اجتهاده من سائر الناس عن استقبال(17/320)
شيء من الحرم، وكسبيل الذي يخرج في اجتهاده من أهل الحرم عن استقبال شيء من مكة، وهذا لا معنى له، إذ لا يفترق في الحكم قلة الخطأ في ذلك من كثرته.
والخطأ في القبلة لا يخلو من أربعة أوجه.
أحدها: أن يكون الخطأ مما يرجع به من اجتهاد إلى اجتهاد..
والثاني: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى يقين.
والثالث: أن يكون مما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد.
والرابع: أن يكون مما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين.
فأما ما يرجع فيه من اجتهاد إلى اجتهاد، مثل أن ينحرف الرجل عن القبلة من غير أن يشرق أو يغرب، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى يقين، مثل أن يصلي الرجل بمكة إلى غير القبلة، فعليه الإعادة في الوقت وبعده.
وأما ما يرجع فيه من يقين إلى اجتهاد، مثل أن يصلي الرجل مستدبر القبلة أو مشرقا أو مغربا، فهذا فيه قولان في المذهب، أحدهما أنه يعيد في الوقت، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، والثاني: الفرق بين أن يشرق أو يغرب أو يستدبر القبلة، فإن شرق أو غرب أعاد في الوقت، وإن استدبر القبلة أعاد بدءا، وهو قول المغيرة.
وجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك، أنه لما كان لا يرجع إلى يقين لم يجب عليه الإعادة إلا في الوقت.
ووجه قول المغيرة بالتفرقة بين الذي يصلي مستدبر القبلة وبين الذي يصلي مشرقا أو مغربا، أن الذي صلى مستدبر القبلة يعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، والذي صلى مشرقا أو مغربا يوقن أنه صلى إلى غير القبلة، ولا يعلم(17/321)
ذلك قطعا، لقول عمر بن الخطاب: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت..
ولعمري من صلى عندنا مغربا ليعلم قطعا أنه صلى إلى غير القبلة، إذ يعلم أن القبلة عندنا ليست في الغرب، كما يعلم أنها ليست في الجوف.
وأما الوجه الرابع: وهو ما يرجع فيه من اجتهاد إلى يقين، مثل أن يصلي في البعد من مكة مجتهدا في القبلة، ثم يأتي مكة فيعلم فيها أن صلاته الأولى كانت إلى غير القبلة، فالحكم في ذلك عندي حكم من يرجع من يقين إلى اجتهاد، ولا أعلم في ذلك نصا، وقد قال بعض العلماء: إن القبلة يستدل عليها في كل بلد بأي جهة كان من الأرض، بأن يستقبل الرجل الشمس ويجعلها بين عينه إذا استوت الشمس في كبد السماء في أطول يوم من السنة؛ لأن الشمس تكون في ذلك الوقت في ذلك مقابلة للبيت ومسامتة له، بدليل أنه لا فيء له، فإذا استقبل الناظر إليها فقد استقبل البيت، وهذا القول ظاهره الصحة، وليس بصحيح؛ لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في البلد المتباين بالبعد الكثير، وبالله التوفيق.
[الإهلال بالحج]
ما جاء في الإهلال بالحج وعنه، عن نافع، عن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن» ، وقال: يهل أهل الحد من يلملم.
قال محمد بن رشد: ذو الحليفة مهل أهل المدينة على مقربة من(17/322)
المدينة والجحفة مهل أهل الشام على بعد منها في الطريق من المدينة، وأما قرن ويلملم فليسا في طريق مكة من المدينة، وكذلك ذات عرق التي وقتها عمر بن الخطاب لأهل العراق فمن مر من أهل الشام ومن وراءهم من المغرب على المدينة كان له أن يؤخر إحرامه إلى مهله الجحفة، والفضل له أن يحرم من ميقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذي الحليفة، ومن مر من أهل العراق وأهل نجد أو أهل اليمن بالمدينة فعليه أن يحرم من ذي الحليفة مهل أهل المدينة، إذ لا يمر واحد منهم بطريقه على مهله وإنما يمر على الجحفة وليست بميقات له، وإنما هي ميقات لأهل الشام، وهذا بين في المدونة وغيرها، فكل من مر بميقات ليس هو له بميقات فعليه أن يحرم منه واجبا إلا أهل الشام إذا مروا بذي الحليفة عليهم أن يحرموا منه لأن ميقاتهم أمامهم، ومن لم يمر بميقات من المواقيت في طريقه فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات.
واختلف فيمن كان في البحر، فقيل إنه يحرم فيه إذا حاذى الميقات، وقيل لا يحرم حتى يخرج منه لقول الله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وهو قول مالك في رواية علي بن زياد، وبالله التوفيق.
[صيام عاشوراء]
ما جاء في صيام عاشوراء وعنه أيضا عن نافع عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صيام يوم عاشوراء فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «كان يوم عاشوراء يوما تصومه الجاهلية فمن شاء فليصمه ومن شاء فليفطر» .(17/323)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الحديث - والله أعلم - أنه كان بعد أن فرض رمضان لأن صومه كان واجبا قبل أن يفرض صوم رمضان، بدليل ما جاء عن عائشة في حديث الموطأ من قولها: «كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛» لأن في قولها فلما فرض رمضان كان هو الفريضة دليل ظاهر على أنه كان هو الفريضة قبل أن يفرض رمضان، وقد دل على هذا أيضا ما روي «عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي عن عمه قال: غدونا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيحة عاشوراء وقد تغدينا، فقال: أصمتم هذا اليوم؟ فقلنا: قد تغدينا، قال: فأتموا بقية يومكم» وروي «عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر يوم عاشوراء فعظم فيه، ثم قال لمن حوله: " من كان لم يطعم منكم فليصم يومه هذا، ومن كان قد طعم فليصم بقية يومه» ؛ لأن هذا هو حكم الفرض لا حكم التطوع، إذ لا يصح صيام التطوع لمن لم يبيته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» .
وقد روي عن ابن عباس ما دل على أن صومه لم يكن إلا للشكر لا للفرض، قال: «لما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم أظهر الله عز وجل فيه موسى على فرعون، فقال: أنتم أولى بموسى منهم فصوموه» فجمع الطحاوي بين الحديثين بأن قال: يحتمل أن يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب صيامه بعد أن لم يكن واجبا.(17/324)
وما في الحديثين من التعليل يبعد الجمع بينهما على هذا، فالأولى أن يتأول على ما في حديث ابن عباس من قوله: فصوموه على أنه أراد: فصوموه واجبا كما كنتم تصومونه في الجاهلية.
ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وقد قيل فيه: إنه التاسع بدليل ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لئن عشت إلى العام المقبل لأصومن عاشوراء يوم التاسع» ، وهذا الدليل يضعف بما في رواية آخر لهذا الحديث «لئن أعشت، إلى قابل لأصومن يوم التاسع» يعني عاشوراء لأنه يحتمل لأصومن التاسع مع العاشر كيلا أقصد إلى صيامه بعينه دون أن أخلطه بغيره كما يفعله اليهود، بدليل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عاشوراء: «صوموه وصوموا قبله يوما وبعده يوما ولا تشبهوا باليهود» ، وبالله تعالى التوفيق
[ما جاء في ليلة القدر]
فيما جاء في ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: «أري ناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال: " إني أرى رؤياكم، قد تواطأت على السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» .
قال محمد بن رشد: ليلة القدر هي الليلة المباركة التي ذكر الله أنه أنزل فيها الكتاب المبين، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم وأنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] وأن الملائكة تتنزل فيها بكل أمر، وأنها سلام حتى مطلع الفجر، وفي تأويل ذلك خلاف.(17/325)
واختلف أيضا هل كانت في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم رفعت، أو هي باقية لأمته إلى يوم القيامة؟ وهو الصحيح من الأقوال، وهل هي في العام كله أو في شهر منه؟ وهو رمضان منه أو في العشر الأواخر منه أو في العشر الوسط أو العشر الأواخر؟ وهل هي في ليلة بعينها لا تنتقل عنها؟ واختلف على هذا في تعيينها على اختلاف ظواهر الآثار في ذلك، وقد ذكرنا بيان هذا كله مستوفى في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.
[إرداف الحج على العمرة]
في إرداف الحج على العمرة وعنه أيضا عن نافع عن ابن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه خرج فأهل بالعمرة من الشجرة ثم صار حتى ظهر على البيداء فقال: ما شاء الله إن الحج والعمرة إلا واحدا أشهدكم أني أوجبت الحج مع العمرة.
قال محمد بن رشد: إحرام ابن عمر هذا كان في الفتنة وهو يخشى أن يصد عن البيت فأحرم بعمرة من أجل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتمرا إذ صده المشركون وقال: إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين صد عن البيت على ما جاء عنه في غير هذا الحديث.
وقوله في هذا الحديث حين ظهر على البيداء: ما شاء الله معناه ما شاء الله أن يكون كان من الوصول إلى مكة والصدود عنها.
وقوله إن الحج والعمرة إلا وحدا معناه إن الحكم في الصدود عن البيت في الحج والعمرة سواء في أن يحل المصدود منها في الموضع الذي صد فيه على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.(17/326)
وفي قوله أشهدكم أني أوجبت الحج والعمرة دليل بين على أن القران أفضل عنده من التمتع لأنه لم ينتقل من التمتع إلى القران إلا ابتغاء الفضل في ذلك.
وقد اختلف في الإفراد والتمتع والقران أن أيهم أفضل على اختلافهم في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل كان في حجة الوداع مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ فمن صح عنده أنه كان مفردا رأى الإفراد أفضل وهو مذهب مالك، ومن صح عنده أنه كان قارنا رأى القران أفضل، ومن صح عنده أنه كان متمتعا رأى التمتع أفضل.
ومن أهل العلم من رأى الإفراد أفضل ثم التمتع لأن الله تعالى أباحه في القران، ثم القران، ومنهم من لم يفضل شيئا من ذلك على شيء منها؛ لأن الله تعالى قد أباحها كلها وأذن فيها ورضيها.
وإرداف ابن عمر الحج على العمرة التي كان قد أحرم بها قبل أن يعمل منها شيئا أمر متفق عليه من فقهاء الأمصار، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه أن المحرم بالعمرة له أن يردف الحج ما لم يطف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فإن أردف الحج على العمرة قبل أن يتم الطواف بالبيت فهو قرن، واختلف بالتأويل على ما في المدونة إن أردفه عليها بعد أن يكمل الطواف بالبيت قبل أن يركع، وأما إن أردفه عليها بعد أن ركع وشرع في السعي أو قبل أن يشرع فيه فليس بقارن يمضي على سعيه ويحل ثم يستأنف الحج، وأما إن أردفه بعد أن أكمل السعي قبل أن يحلق فيلزمه الحج وليس بقارن ويكون عليه دم لتأخير الحلاق ولا يرتدف الحج على الحج ولا العمرة على العمرة ولا الحج على العمرة.
وقال أبو ثور: إذا أحرم لحجة فليس له أن يضم إليها عمرة، وكذلك إذا أحرم بعمرة فليس له أن يدخل عليها حجة ولا يدخل إحراما على إحرام، كما لا يدخل صلاة على صلاة، وما روي في السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(17/327)
من قوله لمن كان أحرم بالعمرة من أصحابه: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» يرد قوله، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.
[الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر]
في الاعتكاف في رمضان وتحري ليلة القدر وعنه أيضا عن نافع بن أبي نعيم عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الوسط من رمضان فلما كانت ليلة إحدى وعشرين قال: من اعتكف معي فليعتكف هذه العشر الأواخر فإني رأيت ليلة القدر فأنسيتها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين» .
قال محمد بن رشد: وقع في حديث أبي سعيد هذا في الموطأ «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في العشر الوسط من رمضان» .
وقوله كان يعتكف يدل على أن ذلك كان فعله الذي يواظب عليه، وفي ذلك دليل على أن ليلة القدر قد يكون فيها وفيه زيادة أيضا، «قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبينه أثر الماء والطين من صبح ليلة القدر ليلة أحد وعشرين من رمضان» فتبين من هذا أن ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين من رمضان وفي «أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعبد الله بن أنيس الجهني أن ينزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان» على ما وقع من ذلك في الموطأ دليل على أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين من رمضان، فمن الناس من ذهب إلى أن ليلة القدر لا تنتقل، فحمل ذلك على التعارض وصحح أحد الحديثين ورآه أولى من الآخر، ومنهم من ذهب إلى أنها تنتقل فقال: كانت في العام الواحد ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثاني آخر ليلة ثلاث وعشرين، وفي عام آخر ليلة سبع وعشرين، على حديث أبي بن كعب(17/328)
ومعاوية وهو الصحيح في النظر؛ لأنها كلها أحاديث صحاح فلا يصح أن يحمل التعارض والجمع بينها بالتأويل محتمل ظاهر بين، والله الموفق.
[قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار]
في قضاء الحاج بالليل ما فاته بالنهار
قال مالك: بلغني أن ابن عمر أمر بعض أهله أن يقضوا ما فاتهم بالنهار بالليل ولم يبلغني أن يهرقوا دما.
قال محمد بن رشد: بعض أهله الذين أمرهم أن يقضوا ما فاتهم بالليل هما صفية بنت أبي عبيد زوجته وبنت أخ لها والتي فاتها رمي جمرة العقبة، يبين هذا الحديث الموطأ رواه مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه أن بنت أخ لصفية بنت عبيد نفست فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن يرميا الجمرة حين أتتا، ولم ير عليهما شيئا، وهو ظاهر قول مالك في الموطأ، واختلف قوله في ذلك في المدونة، فمرة قال في ذلك بالدم، ومرة لم يقل فيه دما وكذلك من ترك رمي جمرة من الجمار الثلاث حتى غربت الشمس اختلف قول مالك في وجوب الدم عليه، مرة رآه عليه ومرة لم يره.
وأما من ترك رمي جمرة من الجمار حتى ذهبت أيام منى وفات الرمي فلم يختلف قوله في وجوب الدم، واستحب لمن ترك جمرة العقبة أو رمي يوم من أيام أن يهدي بدنة، فإن ترك جمرتين من يوم من أيام منى فليهد بقرة، وإن لم يترك إلا جمرة واحدة فشاة، والشاة تجزيه في ذلك كله في باب الإجزى، وبالله التوفيق.(17/329)
[فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه]
ومن كتاب أوله [الشجرة] تطعم بطنين في السنة
في فضل هشام بن حكيم وقول عمر فيه وحدثني مالك عن هشام بن حكيم بن حزام ومثل ما حدثني به أولا، قال: كان عمر بن الخطاب إذا سئل الأمر الذي لا ينبغي يقول أما ما بقيت أنا وهشام فلا يكون ذلك، وقال هشام لبعض أمراء الشام ورأى نبطا قد أقيموا في الشمس لخراجهم فقال لهم: أشهد أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا» ، وكان هشام رجلا قد تبتل وترك نكاح النساء، وكان في حاله شبيها بالسياحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الإخبار بين لا وجه للقول فيه وكفى منه قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية فوصفهم الله في التوراة لموسى بن عمران بما وصفهم به من السيماء التي في وجوههم من السجود، ووصفهم في الإنجيل لعيسى بأنهم كزرع أخرج شطأه أي فراخه يقال منه أشطأ الزرع إذا أفرخ يشطي فهو أشطأ وقرأ ابن كثير شطأه بفتح الطاء، وهما لغتان، وإنما مثلهم عز وجل بالزرع المشطأ لأنهم أبتداوا في الدخول في الإسلام وهم عدد قليلون ثم جعلوا يتزايدون ويدخل فيه الجماعة بعدهم ثم الجماعة بعد الجماعة حتى كثر عددهم كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمي وقوله: فآزره يقول فقواه أي قوى الزرع شطئه، ويقرأ فأزره بالقصر وهو في القراءتين جميعا من المؤازرة وهي المعاقدة، فاستغلظ يقول فغلظ الزرع، فاستوى على سوقه، والسوق جمع ساق، وساق الزرع والشجر حامله، وقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] معناه يعجب زراع هذا الزرع لتمامه وحسن نباته، وكذلك محمد(17/330)
وأصحابه ابتدأ أمرهم بالضعف ثم قوي واشتد، فعل الله ذلك بأصحاب محمد ليغيظ بهم الكفار، وبالله تعالى التوفيق.
[حمل العلم بالإجازة]
في حمل العلم بالإجازة وسئل مالك عن الرجل يقول له العالم هذا كتابي فاحمله عني وحدث به.
قال: لا أرى هذا يجوز ولا يعجبني، ولقد كان ناس يفعلون ذلك وإنما يريد هؤلاء كثرة الحمل بالأمانة اليسيرة.
قال محمد بن رشد: معناه: هذا مكروه لا يعجبني؛ لأن ما يجوز لا يصح أن يقال فيه لا يعجبني، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف قبل هذا.
[العمل مقدم على خبر الواحد]
في أن العمل مقدم على خبر الواحد
وحدثني أن محمد بن أبي بكر بن عمر بن حزام كان قاضيا وكان أخوه عبد الله بن أبي بكر كثير الأحاديث، وكان رجل صدق، فكان إذا قضى محمد بالقضية قد جاء فيها الحديث مخالفا للقضاء يقول له أخوه: لم يأت في هذا حديث كذا وكذا، قال: بلى، قال: فما لك لا تقضي؟ قال: فأين الناس عنه؟ يريد بذلك أن العمل أثبت من الأحاديث.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم عنده من مذهب مالك أن العمل أقوى عنده من خبر الواحد؛ لأن العمل المتصل بالمدينة لا يكون إلا عن توقيف فهو يجري عنده مجرى ما نقل نقل التواتر من الأخبار فيقدم على خبر الواحد وعلى القياس، والقياس أيضا مقدم على خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولا يجوز من الفساد على(17/331)
القياس إلا وجه واحد وهو: هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا؟ وما جاز عليه أوجه كثيرة مما تبطل الحجة به أضعف مما لم يجز عليه إلا وجه واحد، وكذلك إجماع أهل المدينة عنده من جهة حجة تجري مجرى نقل التواتر؛ لأنهم إذا أجمعوا على أمر من الأمور فلا يخلو من أن يكونوا أخذوه توقيفا أو رآهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأقرهم ولم يتعرض للنهي عنه ولا أنكره، وأي ذلك كان فقد حصل النقل له من جميعهم والتواطؤ عليه من كافتهم، فوجب أن يقدم على غيره ولا سيما إذا كان الأمر مما لا ينفك منه أهل عصر والحاجة إليه عامة كالأذان والإقامة والصلاة على الجنائز وترك أخذ الزكوات من الخضراوات وما أشبه ذلك كثير.
ولما كانت المدينة معدن العلم ومهبط التنزيل وعنها خرج العلماء، والكافة من العلماء بها مقيمون، والعمل جار منهم على ما استقر من أركان الشريعة وجب أن يكون إجماعهم على الحادثة يحج من سواهم ممن رحل عنهم فخالفهم لجواز أن يكون قد نسي أو شبه له، كما روي أن ابن مسعود أفتى في الكوفة بتزويج الأم قبل أن يدخل بها ثم قدم المدينة فأخبروه أن الأم مطلقة وأن العمل بخلاف ما أفتى، فرجع إلى الكوفة فأمر الرجل أن يفارق امرأته، ولو حصل إجماعهم من طريق القياس لوجب أن يقدم على قياس غيرهم؛ لأنهم وإن شاركوا أهل الأمصار في مقامات العلم فقد زادوا عليهم بمشاهدة الوحي وترتيب الشريعة ووضع الأمور مواضعها والعلم بناسخ القرآن من منسوخه واستقر عليه آخر أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأن القياسين إذا تعارضا وجب أن يقدم أرجحهما على الآخر ويرجح قياس أهل المدينة أيضا بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .(17/332)
[الدخول على المعذبين]
في النهي عن الدخول على المعذبين
إلا للاعتبار والبكاء وحدثني عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم» .
قال محمد بن رشد: هؤلاء القوم المعذبون هم ثمود قوم صالح أصحاب الحجر الذين كذبوه وعقروا الناقة التي أخرجها الله من- الصخرة آية إذ قال له قومه: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] ، قالوا له على ما في التفسير: إن كنت صادقا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة، فتصدعت الصخرة فخرجت منها ناقة عشراء فنتجت فصيلا فقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الشعراء: 156] أي بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 158] وقال عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] أي بطغيانها {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] أي أهلكهم {بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي بالعقوبة {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] قيل معناه فلم يخف الذي عقر الناقة العقبى من الله في ذلك، وقيل معناه فلا يخاف الله أن يتبع بذلك مثل قوله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 69] ولما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجر ثمود في غزوة تبوك أمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود ولا يعجنوا خبزا بمائها ولا يستعملوا شيئا منها، فقيل له: إن قوما عجنوا خبزا من ذلك الماء فأمر(17/333)
بالعجين فطرح للإبل علفا وأمرهم أن يستعملوا ماء بئر الناقة في كل ما يحتاجون إليه، أمر أصحابه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأن لا يدخلوا بيوت ثمود وقال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط فخنق أحدهما فأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعير له فأخذته الريح فرمته في جبل طي فردته طي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.
[مفاتح الغيب]
في مفاتح الغيب وحدثني عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، علم الساعة ولا يدري أحد متى يأتي المطر، ولا يدري أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت» .
قال محمد بن رشد: قد روي حديث ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا يعلمهن إلا الله "، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] إلى آخر السورة» .
ويريد بمفاتح الغيب قول الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الأنعام: 59] وليس في قوله خمس لا يعلمهن إلا الله دليل على أنه يعلم سواها من المغيبات من عداه، بل لا يعلم أحد شيئا من الغيب إلا الله، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27](17/334)
فعم من جميع الغيوب بقوله: الغيب؛ لأن الألف واللام إذا دخلت على النكرة اقتضت استغراق الجنس، قال عز وجل: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فكأن معناه: إن الإنسان لفي خسر، بدليل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم، وإذا اعتبرت هذه الخمس وجدتها مستغرقة لجميع الغيوب؛ لأن قوله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] معناه أنه يقتضي أنه لا تعلم نفس ما يكون في غد من الأشياء، وإنما ذكرنا الكسب دون ما سواه من الأشياء؛ لأنه جل ما يحرص الناس على معرفته من الأشياء، وقد «روي أنه جاء رجل من البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادي مجدبة فأخبرني متى ينزل المطر؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية» وبالله التوفيق.
[رفع الأمانة وفضل العلم]
في رفع الأمانة وفضل العلم وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن أول ما يرفع من الناس الأمانة وآخر ما يبقى فيهم الصلاة، وحدثني أنه بلغه أن ابن مسعود كان يقول: إذا لم يعلم أحدكم الفرائض وسنة الحج والطلاق فما فضله على أهل البادية؟
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين؛ لأن أهل البادية أهل جمالة، فإنما فضلهم أهل الحاضرة بالمعرفة بأمور الدين، قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] .(17/335)
[تصديق الرسل واليقين بقولهم]
في تصديق الرسل واليقين بقولهم وحدثني عن ابن القاسم، عن مالك، أنه بلغه أنه خرج مع موسى رجلان من أصحابه إلى البحر، فلما إليه قالا له: ماذا أمرك؟ قال. أمرني أن أضرب البحر بعصاي فقال له: افعل ما أمرك به ربك. فلن نخلفك، ثم ابتدرا البحر فألقيا أنفسهما فيه تصديقا له، قال مالك في تفسيره: فما زال البحر كذلك حتى دخل فرعون ومن معه، ثم رجع إلى ما كان.
قال محمد بن رشد: في كتاب الله بيان هذا، وتفسيره قال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52] فخرج بهم ليلا على ما روى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يعني هم قليلون في كثيرنا، وكان أصحاب موسى ستمائة ألف، وقيل إنه اتبعهم فرعون على ألف ألف حصان ومائتي ألف حصان، وقيل مبلغ جنوده كان أربعين ألف ألف {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] كما قال إلى حين أشرقت الشمس: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] {قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] يريد الطريق، قال قتادة: ذكر لنا أن مؤمنا من آل فرعون كان بين يدي نبي الله موسى يومئذ يسير ويقول: أين أمرت يا رسول الله، فيقول له موسى: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر، والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة(17/336)
ثم يلتفت، فيقول: أين أمرك يا نبي الله؟ فيقول: أمامك، فيقول: وهل أمامي إلا البحر؟ والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة، ثم يلتفت فيقول مثل ذلك، حتى دخلوا البحر، فلما انتهوا إلى البحر أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، جاءه جبريل على فرس وأمره أن يضرب بعصاه البحر، فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] ، أي كالجبل العظيم، صار اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، وصار ما بين كل طريق منه مثل القناطير ينظر بعضهم إلى بعض، واتبعهم فرعون.
قال قتادة: ذكر لنا أنه لما خرج آخر أصحاب موسى دخل آخر أصحاب فرعون شطط البحر فغرقهم، قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 67] أي لعبرة لمن اعتبر وحذر أن ينزل به ما نزل بهم، فأخرج الله آل فرعون كما قال: {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] أي كريم في الدنيا، وقيل أي منزل حسن في الدنيا، قال: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] رجعوا إلى مصر بعدما أهلك الله فرعون وقومه.
[الاستمتاع بما أباحه الله من متاع الدنيا]
في جواز الاستمتاع بما أباحه الله
من متاع الدنيا قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول: دخل عباس البصري على ابن هرمز في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثا عليها ثلاثة فراش ووسائد ومحابس معصفرة، فقال له يا أبا بكر ما هذا؟ فقال له ابن هرمز: ليس بهذا بأس، وليس الذي تقوله بشيء، أدركت الناس على هذا.
قال محمد بن رشد: هو كما قال ابن هرمز؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] إلى قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32](17/337)
أي هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مستقرة سائغة خالصة، وروى ابن عمر عن النبي أنه قال: «إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده» ، وروى «عن أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قشف الهيئة، فقال له رسول الله: " هل لك مال "؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل من الخيل والإبل والرقيق، قال: فكل ما آتاك الله من مال فلير عليك» .
وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
جمع رجل عليه ثيابه وقال إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، والقارئ ها هنا أراد به العابد الزاهد المتقشف؛ لأن القراء عندهم العباد العلماء، ومن هذا كان يقال عندهم للخوارج قبل خروجهم القراء، لما كانوا فيه من العبادة والاجتهاد.
وما فضل عند الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه فاستمتاعه به في الرفيع من اللباس، والطيب من الطعام، والحسن من الركوب والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أولى من ترك ذلك وإمساك ماله، إذ لا أجر فيه، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه، وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحسن، لما جاء من أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وما أشبه ذلك من الآثار التي ذكرناها، فبانت صحة قول ابن هرمز وأنه الفقه.
[الاستشارة في الفتوى]
في الاستشارة في الفتوى قال مالك: وجاء رجل ابن هرمز فأرسل بعض السلاطين(17/338)
يستشيره في الفتوى فسأله أتراني أهلا لذلك؟ قال إن كنت عند الناس كذلك، ورأوك أهلا لذلك فباشر.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية أنه قال له: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل، وهي زيادة صحيحة لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل، وإن رآه الناس أهلا لذلك، وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي أن يفتي وأن رأى هو نفسه أهلا لذلك؛ لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك، ولا حرج عليه إن فعل إذا علم من نفسه أنه قد كملت له آلات الاجتهاد بأن يكون عالما بالقرآن يعرف ناسخه من منسوخه، ومفصله من مجمله، وخاصه من عامه، عالما بالسنة مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، وما اتفقوا عليه، وما اختلفوا فيه من أهل النظر والاجتهاد، بصيرا بوجه القياس، عارفا بوضع الأدلة في مواضعها، ويكون عنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام وجاز للعاصي تقليده فيها.
[طلب العلم وتقوى الله]
في طلب العلم وتقوى الله
قال مالك: وكان ابن هرمز يقول إن سأله رجل عن طلب العلم، إن رأيت أنك أهل لذلك فاطلبه وكان يقول: اتق الله بني آدم يحبك الناس وإن كرهوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه كان إذا سأله رجل عن طلب العلم أواجب هو عليه أم لا؟ يجيبه بما ذكر من وجوب الأمر في رد ذلك عليه إلى ما يعلم من نفسه، فإن كان من أهل الذكاء والفهم ما ترجى به إمامته تعين عليه من العلم ما يحتاج في خاصته من وضوئه وصلاته وصيامه وزكاته إن كان من أهل الزكاة، وما يحل عليه ويحرم من المحرمات، وما يجوز عليه مما لا يجور في البيع إن كان من أهل التجارات، وبالله التوفيق.(17/339)
وإنما قال: من اتقى الله يحبه الناس وإن كرهوا؛ لأن من اتقى الله يحبه الله ومن أحبه الله أحبه أهل السماء ووضع له القبول في الأرض، على ما جاء في الحديث من رواية أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد، قال مالك: لا أحسبه قال في البغض إلا مثل ذلك» .
[صدقة الماشية]
في صدقة الماشية وحدثنى عن مالك، عن ربيعة، أنه ذهب معه إلى عبد الله بن واقد بن عمر وكان فاضلا واحدا، يعجب لفضله، فسأله عن كتاب عمر بن الخطاب إليه في الصدقة فأخرجه إليه.
قال محمد بن رشد: هذا هو سند مالك في كتاب عمر بن الخطاب في الصدقات الذي ذكره في موطئه أنه قرأه ولم يسنده، قال: فوجدت فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا كتاب الصدقة في أربع وعشرين من الإبل، فدونها الغنم، في كل خمس شاة، الكتاب إلى آخره بطوله هو كتاب صحيح مشهور عند أهل المدينة، أصله من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، وعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمر حتى قبض، فكان فيه:
في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم، في كل خمس ذود شاة» وذكر معنى ما ذكره مالك في موطئه في كتاب ابن عمر سواء، وروي عن ابن شهاب أيضا قال: أخرج إلي سالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر نسخة كتاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصدقة، قال ابن شهاب أقرأنيها سالم فوعيتها(17/340)
على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز وأمر عماله بالعمل بها، ولم يزل خلفاؤه يعملون بها، قال: وهذا تفسيرها: لا يؤخذ في شيء من الإبل صدقة حتى يبلغ خمس ذود، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، ثم ذكر معنى ما ذكر مالك عن عمر في كتابه، ثم قال: فإذا كانت إحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقة وبنتا لبون، وليس بين أهل العلم اختلاف في زكاة الإبل إلا في هذا الموضع، وهو إذا زادت الإبل على عشرين ومائة واحدا، فابن شهاب يقول فيها ثلاث بنات لبون على ما في حديثه، ومالك يرى الساعي مخيرا بين أن يأخذ حقتين أو ثلاث بنات لبون، والمغيرة وابن الماجشون يقولان ليس فيهما إلا حقتين حتى تبلغ ثلاثين ومائة فيكون حقة وابنتا لبون، وروى ذلك أشهب عن مالك، وبالله التوفيق.
[كيد الشيطان]
في كيد الشيطان قال مالك: إنه ليقال إن الشيطان إذا لم يجبه العبد إلى المعاصي جاءه من قبل المقنط والإياس [منه] وتعظيم الشيء عليه.(17/341)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى بغير هذا اللفظ في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الوضوء والجماعة من سماع أشهب منه، وليس في ذلك معنى يشكل فيحتاج إلى بيانه؛ لأنه من فعل الشيطان ووسوسته التي أقدره الله عليها ومكنه منها ابتلاء لعباده يجازي الحسن بإحسانه ويعاقب العاصي بإساءته، فهو يلبس على الناس بها ويفسد عليهم طاعتهم بما يلقي في نفوسهم من التقصير فيها، فالذي يؤمن به من اعتراه شيء منها أن يضرب عنقه ولا يلتفت إليه، فإن ذلك يقطعه عنه بفضل الله ورحمته، وبالله تعالى التوفيق.
[التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام]
في التورع من أخذ العطاء ومداراة الإمام وحدثني أنه لما قدم الوليد بن عبد الملك سأل عمر بن عبد العزيز أن يدله على رجل صالح يعطيه مالا، فدله على بشر ابن سعيد، فأرسل إليه بألف درهم أو خمسمائة درهم وحلة، فأبى أن يقبل منه، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز وجده مغضبا، فقال: دللتني على حروري، فقال يا أمير المؤمنين: بل هو رجل متغن، وأنت تحب من هو أحوج منه تعطيه، فتركه الوليد وأعطى غيره.
قال محمد بن رشد: إنما رد بشر عطيته من أجل أنه لم يستجز أخذ جائزته، والله أعلم، وفهم ذلك منه الوليد، ولذلك غضب، فاستلطفه عمر بن عبد العزيز واعتذر إليه.
وقد اختلف في قبول جوائز الخلفاء، فروي عن مالك أنه لا بأس بذلك إذا كان المجبى حلالا، ومن أهل العلم من كرهها وإن كان المجبى ممن يعطاه على نفسه فله أجر ذلك.
وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام فالأكثر يكرهونها، ومنهم من يجيزها، وأما إن كان المجبى حراما فمنهم من يحرمها ومنهم من يكرهها(17/342)
ومنهم من يجيزها، وهم الأقل.
ومن أعطى من المجبى الحرام أو المجبى الذي يشوبه الحرام والحلال مما فيه من الحرام فهو كمن أعطى من المجبى [الحرام] ، ومن أعطى مما فيه من الحلال، فهو كمن أعطى من المجبى الحلال، وإن كان الغالب على المجبى الحرام فله حكم المجبى [الحرام] ، ومن لم يأخذ من المجبى الحلال وإن كان يعدل في القسم فهو أفضل، لقول النبي عليه السلام: «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا» لأن من ترك حقه فيه ولم يأخذه فقد آثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك ".
[ما جاء في وادي العقيق]
وقال مالك: " بلغني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائما بالعقيق، وأن رجلا حرك رجله بشيء، فقال له: لقد أيقظتني وإني أراني بواد مبارك» .
قال محمد بن رشد: وادي العقيق هو بذي الحليفة، عرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه، فقيل له: إنك ببطحاء مبارك، روى موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه ريء وهو في معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له إنك ببطحاء مباركة» قال، وقد أناخ بنا سالم يتوخى المناخ الذي كان عبد الله ينيخ فيه يتحرى معرس رسول الله، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك، وقال عمر بن الخطاب: «سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول بوادي العقيق: أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك» وقال: عمرة في حجة، والموضع المبارك هو الذي تزكو فيه الأعمال، وينال فيه الأجر الكثير من الله عز وجل، قال عز وجل:(17/343)
{حم} [الأحقاف: 1] {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 2 - 3] وهي ليلة القدر التي قال عز وجل فيها إنها {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] أي ثواب العمل فيها أكثر من ثواب العمل في ألف شهر.
[جزاء الصادق في الدنيا]
في جزاء الصادق في الدنيا قال: وبلغني أنه يقال ما كان رجلا صدوقا ليس من أهل الكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف. قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف، وإن صح فمعناه في الغالب، والله أعلم، وقد أثنى الله على الصديقين في غير ما آية في كتابه فقال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] وقال عمر بن الخطاب فيما تقدم قبل هذا: عليكم بالصدق وإن ظننت أنه مهلكك، وقد مضى الكلام عليه، وكان ابن مسعود يقول: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار» ألا ترى أنه يقال صدق وبر، وكذب وفجر، وقد «قيل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا» ومعناه أنه لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان ممن يمدح بأن يقال فلان مؤمن حقا.
[تفسير قوله تعالى بنين وحفدة]
في تفسير قَوْله تَعَالَى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]
قال: وسمعت مالكا يقول في تفسير قوله عز وجل: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] قال: الحفدة الخدام والتباع.(17/344)
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحفدة أنهم الخدام والتباع صحيح بين، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الحفدة الأختان، وليس ذلك بمخالف لما قاله مالك لأن الأختان من الخدمة والتباع لأنهم يتصلون به بسبب الصهر فيحفون به ويشاركونه في أموره ويعينونه فيها، ومعنى الآية في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . إن الله عدد نعمته على خلقه بأن خلق من الرجال النساء، وأصل ذلك أن خلق حواء من آدم، فجعل النساء أزواجا للرجال يسكنون إليهم، ويكون لهم منهن البنون والأنسال، يكون منهم التباع والخدمة والعبيد والأعوان؛ لأن الناس يخدم بعضهم بعضا، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وهي حكمة عظيمة في عمارة الدنيا، وعبرة ظاهرة لمن اعتبر، إذ لا يقوم حال أحد بنفسه، ولا يصل النفع إليه الذي به حياته إلا بعمل غيره من حرث وحصد ودرس وطحن وخبز وطبخ، والحرث لا يكون إلا بالآلات، يخدم في عملها الجماعات، وكذلك الخبز والطحن والطبخ، إذ لا بد لذلك كله من الآلات يعملها الجماعات، فلا يحصي أحد عدد ما يخدمه من البشر في اللقمة التي يأكل أو في الثوب الذي يلبس إلا الله عز وجل، فالفكرة في هذا وشبهه والاعتبار فيه وشكر الله تعالى عليه من أعظم العبادات.
[ما جاء في معاذ بن جبل]
قال مالك: بلغني أن معاذ بن جبل أمام العلماء برتوة.
قال محمد بن رشد: الرتوة الدرجة، وإنما يتقدمهم بالدرجة(17/345)
لكونه أعلم منهم بالحلال والحرام على ما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ لأنه قال الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فدرجتهم في الآخرة على مقدار تقدمهم في المعرفة والعلم مع الفضل والدين، وبالله التوفيق.
[ولاية القاسي القلب]
في أن القاسي القلب لا ينبغي أن يولى
الإمارة قال مالك: إن عمر بن الخطاب دعا رجلا يستعمله، فجاء ابن لعمر صبي فأخذه عمر فقبله، فقال له يا أمير المؤمنين، أتقبله؟ قال: نعم، قال إن لي كذا وكذا ولدا ما قبلت أحدا منهم قط، فقال له عمر: أنت لا ترحم ولدك، فأنت للناس أقل رحمة، وأبى أن يستعمله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه.
[تفسير وسبح بحمد ربك حين تقوم]
وفي تفسير
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وسئل عن تفسير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] قال: حين تقوم إلى الصلاة في رأيي، وقد قال الله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] .
قال محمد بن رشد: تفسير مالك في هذه الرواية لقوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أي إن المعنى في ذلك حين تقوم(17/346)
إلى الصلاة، هو مثل ما روي عن الضحاك أنه قال: معنى ذلك إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك، بدليل احتجاجه على ذلك بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] يريد أن المراد بذلك أن يسبح الله عز وجل في هذه الأوقات، وقد قيل في قوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أن المعنى في ذلك أن يقال حين يقوم من نومه سبحان الله وبحمده.
والمختار في هذا من أقوال العلماء أن يكون المراد بالأمر بالتسبيح في هذه الآية وما أشبهها الصلوات المفروضات، لا التسبيح، بأن يقول سبحانك اللهم وبحمدك، إذ لا يجب على أحد فرضا واجبا أن يقول ذلك في الصلاة ولا في غير الصلاة، إنما يجب اعتقاد ذلك، والإيمان بمعنى التسبيح، وهو التنزيه لله عن مشابهة شيء من مخلوقاته، فمعنى قول الله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] صلاة الظهر، وكذلك قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور: 49] يعني ومن الليل فعظمه بالصلاة، وذلك صلاة المغرب والعشاء، وقوله {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] يعني صلاة الصبح.
وقد قيل: المعنى المراد بذلك ركعتا الفجر، وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «سئل رسول الله عن إدبار النجوم فقال هما الركعتان قبل صلاة الصبح» .
[تواضع الصحابة وما كانوا عليه]
في تواضع الصحابة وما كانوا عليه
من الخدمة لأنفسهم وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب لقي رجلا وعلى عنقه شيء يحمله، فقال له: يا أبا الحسن ما بقي من شد؟، قال فوضع علي ذلك ثم شد بين يديه فقال له(17/347)
عمر: إن البقية بعد الصالحة، قال ابن القاسم قال الليث: حزمة حطب.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا معنى يشكل؛ لأن الشد الجري، فظن عمر أنه قد أعياه حمل ما كان يحمله لثقله فرآه يشده بين يديه أنه لم يدركه بذلك إعياء ولا كلال.
[الشفعة في البئر]
ومن كتاب صلى نهارا ثلاث ركعات
في الشفعة في البئر وسئل مالك عن تفسير لا شفعة في بئر، فقال: إنما ذلك في بئر الأعراب، وأما بئر الزرع ففيه الشفعة إذا كانت النخل لم تقسم.
قال محمد بن رشد: أما آبار الأعراب وهي الآبار التي تحتفر في البراري والمهامه للمواشي فلا شفعة فيها، إذ لا يجوز بيع مائها، وإنما يكون حافرها أحق بمائها حتى تروى ماشيته ويخلى بين الناس وبين الفضل، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» .
وأما بئر الزرع فلا اختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع جزء منها مع الأرض أو دون الأرض والأرض لم تقسم، واختلف إذا بيع جزء منها والأرض قد قسمت وبقيت البئر بينهما يقسمون ماءها بالقلد، فقال في المدونة: إنه لا شفعة في ذلك مثل قوله في هذه الرواية، وروى يحيى عن ابن القاسم في كتاب الشفعة فيما بيع: فيها الشفعة، وذهب سحنون وابن لبانة إلى أن رواية يحيى ليست بمخالفة لما في المدونة، واختلفا في تأويل(17/348)
ذلك، وذهب غيرهما إلى أنها مخالفة لما فيها، واختلفوا في تأويل ذلك على ما قد ذكرناه وبيناه في سماع يحيى من كتاب الشفعة.
ولو أشهد حافر البئر في المهامه والبراري عند حفره إياها أنها لا يحفرها للصدقة، وإنما يحفر لتكون له يبيعها أو يبيع ماءها إن شاء ويمنع فضله إن أراد لكانت فيها الشفعة على رواية يحيى، وبالله التوفيق.
[قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار]
ما جاء في قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار قال مالك: قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قريضة بين المهاجرين ونفير من الأنصار، سمعت منه أنهم ثلاثة: سهل بن حنيف، وحارث بن الصمة، وسماك بن خرشة.
فأما النضير فإنها كانت صافية لم تكن فيها خمس.
وخيبر كانت صافية إلا قليلا منها فتحت عنوة، وذلك يسير فخمس ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
فقيل له يا أبا عبد الله: كان في خيبر زرع حين ساقاها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ؟ قال: نعم، كان ذلك يسيرا، وهي على حالها اليوم.
قال محمد بن رشد: قوله إن رسول الله قسم قريضة بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار خلاف ما وقع في المدونة، وخلاف ما وقع في رسم نذر قبل هذا من هذا الكتاب، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته، وما قاله في زرع خيبر من أنه كان يسيرا هو مثل ما قاله في المدونة من أنه كان يسيرا بين ضعاف السواد، إذ لا يجوز كراء الأرض(17/349)
بالجزء مما يزرع فيها من الزرع، فتأول من ذلك على أنه كان يسيرا في حيز التبع. فجاز دخوله في المسافات.
[الصلاة في الهاجرة بين الظهر والعصر]
في الصلاة في الهاجرة بين الظهر والعصر
قيل لسعيد بن المسيب: إن قوما يصلون ما بين الظهر والعصر، قال سعيد: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله، قال مالك: وإنما كانت صلاة القوم بالهاجرة والليل، لم تكن هذه صلاة القوم.
قال محمد بن رشد: قول سعيد بن المسيب في الصلاة فيما بين الظهر والعصر إنها ليست بعبادة، يريد أنها ليست عبادة من العبادات المرغب فيها، إذ ليس ذلك الوقت من الأوقات التي جاء الترغيب فيها في الصلاة كالهاجرة وصلاة الليل؛ لأنها ليست بعبادة أصلا على ظاهر قوله، وقد مضى في رسم حلف قبل هذا، وبالله التوفيق.
[المتوارثين يهلكون ولا يدرى أيهما مات]
في المتوارثين يهلكون ولا يدرى أيهما مات
قبل صاحبه قال مالك: بلغني أنه قتل طلحة بن عبد الله وابنه محمد بن طلحة يوم الجمل فاختصموا في ميراثه، فلم يورث أحد منهم من صاحبه، فأصلحت بينهم عائشة.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه ألا يورث واحد منهما من صاحبه، ويكون ميراث كل واحد منهما لورثته من الأحياء، وهو مذهب زيد بن ثابت، وجمهور أهل المدينة، ومذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابهما، فيما حكى ابن عبد البر أن الطحاوي ذكره، ولم يقع ذلك له في كتابيه المعروفين، وقد قيل إنه يورث كل واحد منهما من(17/350)
صاحبه مما تركه لا مما ورثه عنه، مثال ذلك أن يموت رجل وابنه ولكل واحد منهما ولد ولا يدرى أيهما مات قبل صاحبه، ويترك كل واحد منهما ستمائة دينار فيورث الأب من ابنه، فيكون له من الستمائة دينار التي ترك مائة دينار تكون لولده الحي، ويورث الابن من أبيه، فيكون له من الستمائة التي ترك ثلاثمائة دينار تكون لولد الحي، فيحصل لولد الابن ثمانمائة دينار، خمسمائة دينار ورثها مما ترك أبوه، والثلاثمائة دينار التي ورثها أبوه عن والده، ويحصل لولد الأب أربعمائة دينار ثلاثمائة دينار ورثها من الستمائة التي ترك أبوه، والمائة دينار التي ورثها والده عن ابنه، وكذلك لو مات زوجان غرقا في البحر وترك كل واحد منهما أربعمائة دينار وعاصبا، فيورث الزوج من زوجته مائتي دينار من أربعمائة دينار التي تركت الزوجة، مائة دينار من الأربعمائة دينار التي ترك، فيصير لعاصب الزوجة مما تركت المائتان التي فضلت بعد نصيب الزوج، والمائة التي ورثت عن زوجها، ويصير لعاصب الزوج الثلاثمائة التي فضلت مما ترك بعد نصيب الزوجة، والمائتان التي ورث من زوجته، وهذا القول يروى عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وهو قول شريح وأبي عبيدة والشعبي وأبي حنيفة فيما ذكر في الفرائض.
[تبدئة الرجل أخاه على نفسه في كتاب الله وهو أصغر منه]
في تبدئة الرجل أخاه على
نفسه في كتاب الله وهو أصغر منه وسئل عن الرجل يكتب إلى أخيه وهو أصغر منه فيبتدئ باسمه قبله لمعرفته بحاله ودينه، وقال مالك: لا بأس بذلك إذا كانت تبدئته على هذا الوجه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه أبدأه على نفسه لفضله ودينه لا لغرض من أغراض الدنيا فلا بأس بذلك؛ لأن الرجلين إذا كان أحدهما أسن والأخر أفضل فالأفضل أولى بالتقديم من الأسن، وإنما يجب تقديم الأسن(17/351)
إذا استويا في الفضل لأن زيادة السن زيادة في الفضل، وسيأتي هذا المعنى بزيادة عليه في رسم شك في طوافه.
[المراد باللينة من النخل]
في اللينة من النخل وقال مالك في قول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] قال اللينة فأمر العجوة من الثمار من الألوان.
قال محمد بن رشد: قد قال في اللينة إنها لون من النخل، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد اللينة النخل كلها العجوة وغيرها ويشهد بصحة قول مالك ما وري عن ابن عباس وغيره من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع نخل بني النضير إلا العجوة، وذلك كانت قوتهم الذي يعتمدون عليها، وهي التي جاء الحديث في فض جلتها، قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العجوة من الجنة» وثمرها يغدو ما لا يغدو غيره والله أعلم، فشق ذلك عليهم وقالوا: أنتم تزعمون أنكم تكرهون الفساد وهذا من الفساد دعوا النخل لمن غلب، فأنزل الله تعالى الآية بتصويب فعل نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأن ما أمر به عن إذنه عز وجل.
وقيل إنهم أخا قطعوا بعضا وتركوا بعضا سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لهم اجر فيما قطعوا؟ وهل عليهم وزر فيما تركوا؟ فأنزل الله الآية فهي دالة على إباحة القطع وعلى ألا حرج في الترك، وتوقف مالك في المدونة في الأفضل من ذلك، وتأول الآية على أنه لا بأس بالقطع(17/352)
[والأظهر] أفضل من الترك، لما في ذلك من إذلال العدو وإصغارهم ونكايتهم، وقد قال الله عز وجل: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] إلا أن يكون بلد يرجى أن يصير للمسلمين فيتوقف عن القطع والتحريق والتخريب أفضل بدليل نهي أبي بكر الصديق أمراء جيوشه إلى الشام لما علم من أن المسلمين يستفتحونها، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث المشهور: «وتفتح الشام فيأتي قوم فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» ، وبحضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلاة في بيت المقدس وبشد المطايا إليها، وما أشبه ذلك من الآثار الدالة على ذلك، وإنما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قطع العجوة لأنها من ثمار الجنة على ما روي عنه، والله أعلم، وقد مضى هذا الرسم من هذا السماع [من كتاب الجهاد المذكور] ، وبالله تعالى التوفيق.
[مناقشة الحساب]
في مناقشة الحساب وسمعته يقول: قالت عائشة: «من نوقش الحساب هلك.
» قال محمد بن رشد: قول عائشة هذا يشهد القرآن بصحته قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] ، وبالله التوفيق.
وهو حسبي ونعيم الوكيل.(17/353)
[دعاء النبي عليه السلام في فتح خيبر]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت
في دعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في فتح خيبر قال: وسمعته يذكر أنه «لما كان فتح خيبر قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله لا نستطيع القتال، قال: لم؟ قالوا: الجوع منعنا والبرد والعري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وزاد فيه ففتح الله عليهم خيبر، وإنما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خيبر: «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا؛» لأنه كان بخيبر حصون كثيرة ففتح الله عليهم ذلك اليوم بدعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خيبر نفسها، ولا شك في أنها كانت أكثرها طعاما وودكا، وبالله تعالى التوفيق.
[رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة النبي عليه السلام]
في رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعدما كان يفعل وقول عائشة فيه قال مالك: قرأ عمر بن الخطاب بسورة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرفع بها صوته فوق ما كان من قراءته كأنه يريد أن يسمع قراءتها أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقيل له: يا أمير المؤمنين لم رفعت صوتك؟ قال: أريد أن أذكرهن العهد، قال مالك: وكانت عائشة تقول: إذا أردتم أن يطيب لكم المجلس فاذكروا عمر.(17/354)
قال محمد بن رشد: في رفع عمر بن الخطاب صوته في الصلاة فوق ما كان يفعل ليسمع أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قراءة السورة التي فيها ذكرهن ليذكرهن بذلك العهد دليل على إجازة رفع صوت المأموم بالتكبير ليسمع ذلك من بعد من الإمام فيقتدي بتكبيره، إذ لا فرق بالمعنى بين الموضعين، وقد كره ذلك جماعة من الفقهاء المتأخرين ولم يجيزوه، وفيما جاء في الحديث الصحيح من تأخر أبي بكر عن الصلاة بالناس إذ خرج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مرضه وهو يصلي، فتقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر، دليل أيضا على إجازة ذلك؛ لأن المعنى فيه على القول بأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان الإمام في تلك الصلاة، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضعف عن رفع صوته بالتكبير، فكان أبو بكر هو الذي يسمع الناس التكبير فيصلون بصلاته، أي يقتدون بتكبيره في صلاتهم خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وفي ذلك اختلاف قد مضى في رسم اغتسل فوق هذا.
وقول عائشة في عمر إن المجلس يطيب بذكره بين على ما قالته؛ لأن ذكر هديه وما كان عليه من أمره مما تنشرح له الصدور، وتطيب به النفوس، وبالله تعالى التوفيق.
[ما رأى النائم لعمر في خلافة أبي بكر]
فيما رأى النائم لعمر في خلافة أبي
بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال ابن القاسم: سمعت مالكا يذكر أن رجلا على عهد أبي بكر رأى فيما يرى النائم أن الناس حشروا، وأنه رأى عمر ابن الخطاب يفضل الناس قد فرعهم بثلاثة أدرع أو ثلاث بسطات، فقلت: بم(17/355)
فضل عمر بن الخطاب؟ فقيل له: بالشهادة والخلافة وبأنه لا يخاف في الله لومة لائم، فأتى الرجل إلى عمر وهو قاعد مع أبي بكر فقص عليه الرؤيا، فقال عمر: أحلام نائم، فلما ولى أرسل إليه، فقال: أخبرني بالرؤيا، فقال: ما كنت أخبرتك فرددتها علي، فقال: أو لا تستحي أن تقصها وأبو بكر حي، فقصها عليه الرجل فقال: الخلافة، فقال: هذه أولهن ثم قال: وبالشهادة، فقال عمر: أنى لي بالشهادة والعرب حولي، ثم قال: والله إني لقادر على ذلك، ثم قال: وإنه لا يخاف في الله لومة لائم، فقال عمر: ما أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من دار الحق فأدير.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في المدونة فقال فيها: وما كنت تستحيي أن تذكر فضيلتي في موضع فيه أبو بكر؟ والذي ها هنا أولى وأصح في المعنى؛ لأنه إنما كره أن يقص الرؤيا بحضرة أبي بكر والله أعلم، لما فيها من ذكر الخلافة وأبو بكر خليفة، وأما فضيلته فمعلومة يعرفها أبو بكر ويقر له بها، وإن كان هو لا يدعيها، وما يظهر من قوله أن تذكر فضيلتي، وليس في الرؤيا ما يدل على أن له عليه فضلا، إذ لم يقل إن أبا بكر كان في جملة الناس الذين فضلهم، فإنما أنكر عليه أن يقص الرؤيا بحضرة أبى بكر لما فيها من خلافته، والله أعلم، وهذه الرؤيا وما كان مثلها حق؛ لأنها جزء من أجزاء النبوءة، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرؤية الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، أو من خمسة وأربعين، أو من سبعين» على ما روي من ذلك كله عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد مضى الكلام في المعنى(17/356)
في هذه التجزية مستوفى قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[قول الأنصار إذ دعاهم النبي عليه السلام ليقطع لهم بالبحرين]
في قول الأنصار إذ دعاهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
ليقطع لهم بالبحرين قال: وسمعت مالكا يقول: حدثني يحيى بن سعيد، عن انس بن مالك، «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا الأنصار فأراد أن يقطع لهم بالبحرين فقالوا: لا يا رسول الله حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنه ستصيبكم أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» .
قال محمد بن رشد: مصداق هذا الحديث في كتاب الله، حيث يقول في ثنائه على الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] نزلت في الذي أضافه منهم ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج، فجعل يري ضيفه أنه يأكل معه وهو لا يأكل، وقوله: ستصيبكم بعدي أثرة، يروى أثرة بفتح الألف والثاء، ويروى أثرة بضم الألف وإسكان الثاء، والمعنى في ذلك سواء يقول: سيأتي زمن يستأثر عليهم فيه بالأموال، وأراد بقوله: ستصيبكم أمته إلا المخاطبين بأعيانهم، فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي هذا ترك الخروج على أمراء الجور.(17/357)
[قول أبي بكر عند نزول قول الله عز وجل ولو أنا كتبنا عليهم]
في قول أبي بكر عند نزول قول
الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 66]
الآية قال: وسمعت مالكا يقول: لما نزلت هذه الآية {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلا.
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة، وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر سلف لو كان كذا وكذا لفعلت كذا وكذا لما يمكنه فعله، لا حنث عليه، خلاف قول أصبغ إنه حانث، لا يدري هل كان يفعل أو لا يفعل.
[قول ابن عباس إنه لا يزال لله في الأرض ولي]
في قول ابن عباس: إنه لا يزال لله
في الأرض ولي
قال مالك: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقول: لا يزال لله في الأرض ولي ما كان للشيطان فيها ولي.
قال محمد بن رشد: إن لم يكن هذا عند ابن عباس عن توقيف من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه أخذه من قول الله عز وجل حاكيا عن إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79] {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [ص: 80] {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص: 81] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83](17/358)
وفي هذا أن الإملاء باق إلى قيام الساعة، وبالله تعالى التوفيق.
[ما خص به عيسى دون سائر البشر]
فيما خص به عيسى دون سائر البشر قال مالك: بلغني أنه ما من مولود يولد إلا والشيطان يطعن في خصيبه، إلا عيسى ابن مريم فإن الشيطان حين طعن حال بينه وبين ذلك الحجاب.
قال محمد بن رشد: ولا يرى في غير هذا الحديث ألا تسمعون إلى صراخه؟ ومن هذا قال أهل العلم: إن المولود لا يورث حتى يستهل صارخا، وإن رضع أو عطس أو تنفس إلا وقد استهل، وكذلك قال سحنون: إن الرضاع يدل على الحياة، ولا يمكن أن يرضع حتى يستهل، وليس العطاس عنده مما يدل على الحياة، ورآه عبد العزيز بن أبي سلمة مما يدل على الحياة، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الزكاة.
[قرب الساعة]
في قرب الساعة قال مالك: وبلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بعثت أنا والساعة كأصبعي هاتين، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام والأخرى» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن قيام الساعة متصل بانقراض أمته إذ لا نبي بعده، قال الله عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] .(17/359)
[المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لقرب الساعة]
في المثل الذي ضربه النبي صلى الله
عليه وسلم لقرب الساعة قال مالك: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثلكم مثل قوم بعثوا طليعة إلى عدوهم فأراد أن يرجع إليهم فأعجله ما رأى منهم فألاح إليهم أتيتم أتيتم» .
قال محمد بن رشد: هذا مثل ضربه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقرب الساعة والحض على المبادرة بالأعمال قبل حلول الأجل، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، ولما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ناداهم اعملوا لما عند الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا، وقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وبالله تعالى التوفيق.
[النار التي تبعث في أرض اليمن]
في النار التي تبعث في أرض اليمن
في آخر الزمن قال مالك: بلغني أنه تبعث نار من أرض اليمن تسوق الناس سوقا إلى أرض المحشر.
قال محمد بن رشد: المحشر هي الشام التي يحشر الناس إليها(17/360)
بعد البعث للحساب، وهذه النار التي تسوق الناس إلى أرض المحشر هي أول شرط من شروط الساعة الكبار التي تكون بين يدي الساعة كالدابة والدخان وياجوج وماجوج والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، يبين هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أول أشراط الساعة بأن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، ذكر البخاري في الترتيب، وخرج من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» ، وهذا الحديث يشهد لصحته قول كعب الأحبار الذي يأتي بعد هذا في هذا الرسم من أن الساعة لا تقوم إلا على شعل نار بهذا الوادي، يعني وادي سرواغ بأكناف قديد، نار تضيء منه أعناق الإبل بأيلة، فيحتمل أن تكون هذه النار هي التي تبعث بأرض اليمن فتسوق الناس إلى أرض المحشر فتمر في طريقها على الحجاز على وادي سرواغ بقديد، ويحتمل أن تكون نارا أخرى، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وأما أشراطها المؤذنة بقربها فكثيرة، من ذلك انشقاق القمر في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ما روي، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ومنها رمي الشياطين بالشهاب، ومنها موت الفجاة، والتطاول في البنيان، ومنها يؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن تلد الأمة ربها وربتها، وأشياء كثيرة أتت بها الروايات عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
والنبي أيضا من أشراطها إذ هو آخر الأنبياء لا نبي بعده، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وأشار بأصبعيه التي تلي الإبهام والأخرى، يريد أن قيام الساعة متصل بانقراض أمته إذ لا نبي بعده، قال عز وجل: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] على ما مضى فوق هذا، وبالله تعالى التوفيق.(17/361)
[التثبت في مسائل الاجتهاد]
فيما يلزم من التثبت
في مسائل الاجتهاد قال مالك: كان عمر بن الخطاب إذا شاور أصحابه قال لهم: ارجعوا وتثبتوا فإنه أثبت لكم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن ما يعين من الاجتهاد في الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة، يفتقر إلى إعمال النظر في رد ما اختلف عليه إلى ما اتفق عليه بالمعنى الجامع بينهما، ووضع الأدلة في ذلك موضعها، وذلك لا يكون إلا بعد روية وتدبر، لا يصح إلا بصرف الهمة إلى ذلك، والانفراد له دون الاشتغال بما سواه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.
[ما أمر به عمر من عد الأئمة]
فيما أمر به عمر
من عد الأئمة قال: وسمعت [مالكا] يذكر، قال عمر بن الخطاب: عدوا الأئمة، فعدوا له رهيطا، قال: سبحان الله أمتروك الناس بغير أئمة؟
قال محمد بن رشد: أراد عمر بالأئمة الأئمة في الدين والعلم الذين يفتونهم في ذلك كله، فلما لم يبلغ ما عدوا منهم إلا رهيطا قال: سبحان الله!! أنكر ألا يكون في عهده من الأئمة إلا من عدوه، هذا معنى قوله، والله أعلم، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» . كان الصحابة في زمن عمر(17/362)
ابن الخطاب متوافرين، فيبعد ألا يكون فيهم أئمة يعتمد بهم [إلا رهيطا] .
[تعريف التقي]
في التقي قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول: التقي ملجم لا يستطيع أن يعمل بكل ما يريد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن من خاف الله عز وجل حجزه خوفه عن هواه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] ، وبالله تعالى التوفيق.
[المسجد الذي أسس على التقوى]
في المسجد الذي أسس على التقوى قال مالك: بلغني أن المسجد الذي أسس على التقوى مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: هذا الذي حكى مالك أنه بلغه، يريد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، من أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو مذهبه، وبه قال، وله احتج في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الصلاة، بأن قال: أين كان يقوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك. وقال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] فإنما هو مسجد رسول الله(17/363)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله أو سمعته يريد أن يقدم القبلة وقال عند ذلك بيده ما قدمتها، قدمها عمر لموضع المقصورة الآن، فلما كان عثمان بن عفان قدمها إلى موضعها الذي هي به الآن، ثم لم تحول بعد، وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وغيره، «أن رجلا من بني خدرة، ورجلا من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال العوفي: هو مسجدنا بقباء، وقال الخدري: هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرجا فأتيا النبي فسألاه عن ذلك فقال: هذا المسجد، هو مسجد رسول الله» وفي ذلك خير كثير، وإلى هذا ذهب ابن عمر.
وخالفه ابن عباس وجماعة من العلماء فذهبوا إلى أنه مسجد قباء مسجد سعد بن ختمة بظاهر ما في كتاب الله عز وجل من قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] إلى قوله: {الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] يريد الأنصار بما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما نزلت: " يا معشر الأنصار إن رسول الله قد أثنى عليكم في الطهور في طهوركم، قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، وفي بعض الآثار: ونستنجي بالأحجار ثم بالماء» ، فقال: هو ذلك فعليكموه، وهذا ليس بدليل قاطع لاحتماله التأويل؛ لأن أولئك الرجال كانوا في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم من الصحابة.
واستدلوا أيضا ببنيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياه، روي «عن عائشة أنها قالت: أول من حمل حجر القبلة بمسجد قباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم حمل أبو بكر آخر، ثم حمل عمر آخر، ثم حمل عثمان آخر، فقلت: يا رسول الله أما ترى هؤلاء يتبعونك؟ فقال: أما هم(17/364)
أمراء الخلافة من بعدي» وهذا لا دليل فيه أيضا؛ لأنه بنى مسجده أيضا فلم يختص بناء مسجد قباء دون مسجده، فصح ما ذهب إليه مالك بتأييد الأثر له عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالنص على أنه مسجده.
واستدلال مالك في رواية أشهب عنه بقول عمر بن الخطاب ظاهر، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض أسه وتبديل قبلته إلا بما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك وأراه قد أراد أن يفعله.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما بنى رسول الله مسجد قباء خرج رجال من الأنصار وهم اثنا عشر رجلا من المنافقين فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله لأحدهم: ويلك ما أردت إلى ما أرى؟ فقال: يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب، فصدقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وروي «أن رسول الله أقبل من تبوك حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من النهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاقة، وإنا لنحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو قد قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد بما أنزل الله فيه من قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] » يعني ليلا يصلون في مسجد قباء جميعا {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] يعني رجلا كان منهم يقال له أبو عامر الراهب، كان محاربا لرسول الله، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج(17/365)
من المدينة محاربا لله ورسوله، فقالوا: إذا رجع أبو عامر من عند هرقل أو من عند قيصر صلى فيه ثم يظهر على محمد: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] أي لا تقم يا محمد في المسجد الذي بنى هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، ثم أقسم عز وجل فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ} [التوبة: 108] إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] وكل القراء قرأ أسس بنيانه بالنصب في هذين الموضعين، وهذا بين في المعنى، إلا نافعا وابن عامر فإنهما قرآ أسس بنيانه بالرفع على ما لم يسم فاعله.
[ما جاء في الفردوس]
قال مالك: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، منها تتفجر أنهار الجنة، وعليها العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» .
قال محمد بن رشد: في هذا أن الاختيار للداعي إذا دعا الله عز وجل يسأله أرفع المنازل؛ لأن الله جواد كريم يستجيب للداعي إذا دعاه، وبالله تعالى التوفيق.
[تسمية المولود يوم سابعه]
في تسمية المولود يوم سابعه قال مالك: يسمى الصبي في اليوم السابع.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لمالك في رسم يسلف المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم من كتاب العقيقة، وإنما اختار مالك أن يسمى المولود يوم السابع لما جاء في الحديث من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الغلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه(17/366)
ويسمى» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «سموا المولود يوم سابعه» ، والأمر في ذلك واسع، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين ولد له ابنه إبراهيم: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم» «وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتي بعبد الله ابن أبي طلحة صبيحة الليلة التي ولد له فيها، فحنكه بثمر عجوة ودعا له وسماه عبد الله،» في حديث طويل.
ويحتمل أن يكون معنى ما في الحديث من تسمية المولود يوم سابعه ألا تؤخر تسميته عن ذلك؛ لأنه إذا سماه يوم السابع فهو مسمى يوم السابع وقبله، فيتفق الآثار على هذا، وقال ابن حبيب على اختيار مالك: ولا بأس أن يتخير له الأسماء قبل السابع، ولا يقع عليه الاسم إلا يوم السابع.
فإن مات قبل يوم السابع سمي بعد موته، ولم تترك تسميته؛ لأنه ولد ترجى شفاعته، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن السقط ليظل حبطيا على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة، فيقول لا أدخل حتى يدخل أبواي» وذكر لمالك الحديث الذي ذكر أن السقط يقول يوم القيامة لأبيه: تركتني بلا اسم فلم يعرفه، وبالله التوفيق.
[ما أعطى عمر لامرأته بالشام حين قدمها]
فيما أعطى عمر لامرأته
بالشام حين قدمها
قال مالك: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أعطى أبا عبيدة مائتي دينار يجعلها في حاجته، ثم دفع إلى معاذ بن جبل مثلها ففرقها، فقالت له امرأته: غفر الله لك، ما لنا فيها حق؟ وكانت قد(17/367)
بقيت أربعة دنانير فطرحها إليها.
قال محمد بن رشد: في هذا ما كان عليه أبو عبيدة ومعاذ بن جبل من الزهد في الدنيا والرغبة فيما رغب الله فيه في بذل المال في طاعته وأثنى على فاعله بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ، وبالله التوفيق.
[التحذير من الكذب]
في التحذير من الكذب قال مالك: يقال عن ابن مسعود كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من يحدث بكل ما سمع يحدث بالحق والباطل، ولكن ليس ذلك بحقيقة الكذب المحرم إذ لم يختلقه هو، فإن كان كذبا فإثمه على دس من اختلقه، وقد مضى الكلام في الكذب وتقسيمه في أول رسم حلف قبل هذا.
[الصلاة بغير رداء]
في كراهية الصلاة بغير رداء وقال مالك: رأى ابن عمر نافعا يصلي بغير رداء، فقال له: ألا أخذت رداءك، فإن الله أحق من تجمل له، قال: وجاء عنه من وجه آخر أنه رآه يصلي في خلوته بثوب واحد، فقال له: ألم أكسك يوم الأول ثوبين؟. قال: بلى، قال: أفكنت تخرج إلى السوق بثوب واحد؟ قال: لا، قال: فالله أحق أن يتجمل له.
قال محمد بن رشد: حض ابن عمر نافعا مولاه على أن يصلي بردائه وفي ثوبين إن كان في خلوته هو مثل ما في المدونة لمالك من قوله:(17/368)
وأحب إلي أن يجعل على عاتقه عمامة إن كان مسافرا أو صلى في داره، وكره في المدونة للإمام أن يجعل على عاتقه عمامة في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ونزع بقوله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
وما كره تركه ففعله مستحب، والاستحباب في هذا على مراتب أربعة، فأعلاها في الاستحباب وأكرهها فيه صلاة الأئمة في مساجد الجماعات ومساجد القبائل بالأردية، وما كان في معناها من الغفائر والبرانس، ويليها في الاستحباب صلاة المنفرد في الجماعات ومساجد القبائل بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك في الاستحباب صلاة الإمام في داره وفي فنائه بالرداء وما كان في معناه، ويلي ذلك صلاة المنفرد بداره بالرداء أو ما يقوم مقامها وهو أدناها مرتبة في الاستحباب، فإذا صلى الإمام بالناس في مساجد الجماعات بخس نفسه حظا وافرا من الأجر، والله أعلم بقدره، وإذا صلى وحده في مساجد الجماعات بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا أم الرجل الجماعة في داره بغير رداء فقد بخس نفسه من الحظ والأجر دون ذلك، وإذا صلى الرجل في داره بغير رداء فلا بأس بذلك لأن الذي بخس نفسه في صلاته وحده بغير رداء يسير.
[عدد من قتل يوم الحرة]
في عدد من قتل يوم الحرة قال وسمعت مالكا يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القرآن، قال ابن القاسم شككت أنه كان فيهم أربعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
قال محمد بن رشد: الحرة كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة، وذلك أن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية(17/369)
وأخرجوا المغيرة بالمدينة وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة، فكتب بذلك مروان بن الحكم إلى يزيد فجيش إليهم الجيوش، فكان من أمرهم ما قد مضى في رسم حلف فيما ذكر مالك فيه عن سعيد بن المسيب من أنه قال: خلا مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يجمع فيه ثلاثة أيام يوم قتل عثمان ليوم الحرة ويوم آخر.
[ما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل بوادي سوارغ نار]
فيما حكي عن كعب الأحبار من أنه ستشتعل
بوادي سوارغ نار قال مالك: قال كعب الأحبار لأبي واقد الليثي أبو واقد رجلا أعرابيا عارفا بالبلد وهو بأكناف قديد أي واد هذا؟ قال: هذا سوارغ، قال كعب: والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من هذا الوادي تضيء منه أعناق الإبل.
قال محمد بن رشد: مثل هذا من الأخبار بما يكون بالمغيبات لا يكون إلا عن توقيف، وشهد له ما خرجه البخاري من رواية أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» فإن صح هذا وكان على الحقيقة فهو من أشراط الساعة التي تكون بين يديها، مثل ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في النار التي تبعث من اليمن فتسوق الناس إلى المحشر على ما حكى(17/370)
مالك فوق هذا أنه بلغه، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على غير حقيقة واستعارة من فتنة تكون بالوادي المذكور واختلاف واختلاط يبلغ ضرره إلى أن يكون أيلة، فإن المجاز جائز استعماله، وقد جاء ذلك كثيرا في القرآن والسنن والأخبار، من ذلك قول الله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] والاشتعال لا يكون حقيقة إلا في النار، وقوله عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] والذل لا جناح له حقيقة.
[إهلال عيسى ابن مريم بالحج]
في إهلال عيسى ابن مريم بالحج قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليهلن ابن مريم بفج الروحا حاجا ومعتمرا، أو ليثنينهما، فقيل ما معنى ذلك؟ أيقرن أم يحج ويعتمر قال: بل يحج ويعتمر» .
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه، وأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إخبارا أوقع العلم به أنه سينزل في آخر الزمن حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، وفي بعض: فيهلك الله في أيامه الملل كلها، فلا يبقى إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد الإبل، والنمور مع البقر، والذياب مع الغنم، والغلمان بالحيات، فلا يضر بعضهم بعضا، فهذه الأحاديث يعضد بعضها بعضا، ويشهد بصحة ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ في هذه الحكاية، وقد وقعت في رسم الحج من سماع أشهب من كتاب الحج.(17/371)
وقال مالك فيها متصلا بقوله: أو ليثنينهما، أراد في رأيي يجمعنهما، والجمع. بين الحج والعمرة هو القران بعينه، وذلك أظهر في تأويل ليثنينهما من قوله في هذه الرواية ليس معنى ذلك القران، وإنما معناه أن يحج ويعتمر، وبالله تعالى التوفيق.
[المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن]
ومن كتاب أوله سئل عن تأخير صلاة
العشاء في الحرس حكاية عن مالك أن كعب الأحبار تكلم بكلام- خفي فقال له عمر: ما لك تكلمت به؟ قال: لا شي، قال: لتخبرني، قال، قلت: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، قال كعب: والذي نفسي بيده وأنه تعالى آثرها في كتاب الله.
قال محمد بن رشد: فهم عمر - والله أعلم - أن الكلام الخفي الذي تكلم به قاله بسببه، فلذلك سأله عنه وعزم عليه أن يخبره به.
وقوله: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، معناه إن لم يعدل فيما جعل الله له عليه السلطان وهو معنى قول عمر ابن الخطاب: إلا من حاسب نفسه؛ لأن من عدل في سلطانه فهو في أرفع المنازل عند الله، روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «المقسطون على منابر يوم القيامة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله» فبدأ بالإمام العادل، ومثل هذا كثير، وفي موافقة بقوله(17/372)
إلا من حاسب نفسه، كتاب الله أي التورية على ما أخبر به كعب وحلف عليه، بيان قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيه «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» ، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه، وقد نزل القرآن بموافقته في تحريم الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب وفي مقام إبراهيم على ما جاء في ذلك كله.
[ما قل وكفى خير مما كثر وألهى]
في أن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وسمعت مالكا يقول كان داود النبي يقول: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
قال محمد بن رشد: في قول داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، دليل على أنه ليس بخير مما كثر إذا لم يله، وفي هذا تفضيل الغنى على الكفاف، وهو أيضا أفضل من الفقر على ما يختاره مما قيل في ذلك في رسم نذر منه، وبيان هذا بالحجة فيه، وبالله تعالى التوفيق.
[تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
في تواضع عمر بن الخطاب
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسمعت مالكا يقول: قيل لعمر: تركب دابة بالشام حين دخلها فقال: لا، إنما أعزنا الله بالإسلام.
قال محمد بن رشد: قال مالك في سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح وتلقي عمر يومئذ ببرذون نحاري فركبه حتى نزل عنه(17/373)
وسبه فقيل له ما لك؟ فقال ركبتموني على شيطان حتى أنكرت نفسي، ولما دخل الشام تلقاه عجمها ركب خلف أسلم وقلب فرويه فجعلوا كلما لقوا أسلم يقولون أين أمير المؤمنين؟ فيقول أمامكم أمامكم حتى أكثروا، فقال له عمر: أكثرت عليهم، أخبرهم الآن، فسألوه فقال: هو هذا، فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال عمر: لا يرون علينا ثياب قوم غضب الله عليهم، فنحن تزدري بنا أعينهم، ثم لم يزل قابضا بين عينيه حتى لقيه أبو عبيدة بن الجراح فقال: أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا، ولقيه على بعير خطامه حبل شعر أسود، وقد قال أنس بن مالك: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين وقد وقع بين كتفيه برقاع ثلاث لبس بعضها فوق بعض، وهذا كله نهاية في التواضع من عمر بن الخطاب، ومن تواضع لله رفعه، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.
[الركوع بعد أذان المغرب]
في الركوع بعد أذان المغرب وسمعت مالكا يقول: أدركت بعض الشيوخ إذا سمع مؤذن المغرب قام فركع ركعتين قبل صلاة المغرب.
قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يعجبني هذا العمل لاختلاف بين أهل العلم في أن الصلاة قد حلت عند غروب الشمس لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى يبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب» ولما جاء من أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة(17/374)
بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا أن صلاة المغرب قد وجبت بغروب الشمس، فلا ينبغي لأحد أن يصلي نافلة قبل صلاة المغرب؛ لأن تعجيل صلاة المغرب عند أول وقتها أفضل عند من رأى وقت الاختيار لها يتسع إلى مغرب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، وقد قيل إنه ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد فلا يجوز أن تؤخر عنه إلا لقدر.
واختلف فيمن كان في المسجد منتظرا للصلاة هل له أن يتنفل بين الأذان والإقامة، فقيل ذلك له على ما حكاه مالك في هذه الرواية عن بعض من أدرك من الشيوخ، ومن حجتهم ما روى المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: كان إذا نودي بالمغرب قام بباب أصحاب رسول الله يبتدرون السواري يصلون الركعتين، ومن حجتهم أيضا التعلق بظاهر ما روي عن النبي عليه السلام من قوله: «بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة. لمن شاء» على ما تأولوه من أنه أراد بذلك ما بين كل أذان وإقامة؛ لأن الإقامة أذان.
وقيل: ليس ذلك له، وهو مذهب مالك على ما روى ابن القاسم عنه في هذه الرواية من قوله: لا يعجبني هذا العمل.
وما ذهب إليه مالك من كراهة ذلك أظهر لثلاثة أوجه.
أحدها: حماية للذرائع؛ لأن ذلك لو أبيح في الناس فكان ذلك سببا لتأخير المغرب عن وقتها المختار، وعن أول وقتها المختار على مذهب من رأى لها وقتين في الاختيار.
والثاني: ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «عند كل أذان ركعتان ما خلا صلاة المغرب» .(17/375)
والثالث: استمرار العمل من عامة العلماء على ترك الركوع في هذا الوقت، وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يفعله ولا أبو بكر ولا عمر، إذ لو فعلوا ذلك لنقل عنهم، وقال إبراهيم النخعي من أجل هذا المعنى: إن الركعتين قبل المغرب بدعة، ويتخرج في المسألة قول ثالث بين أن يكون في المسجد جالسا من قبل غروب الشمس، وبين أن يدخل فيه بعد غروبها، فيجب إذا دخل فيه بعد غروبها منتظرا للصلاة ألا يجلس حتى يركع لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» ، وبالله تعالى التوفيق.
[سكنى البلد الذي تظهر فيه المناكر]
في كراهية سكنى البلد الذي تظهر فيه المناكر
ظهورا لا يقدر على تغييرها قال: وسمعت مالكا ذكر مرانطابلس في آثارها فقال: ما يعجبني سكنى هذه البلدة، وقال سعيد بن المسيب: إذا جئت قوما لا يوفون بالمكيال أو الميزان فأقل اللبث معهم، وإن حديث سعيد بن المسيب أيسر شدة مما ذكرتم.
قال محمد بن رشد: قوله في أثرها يريد في أثر أهلها مما يضيفون ويبيحون لهم ما لا يجوز مثل الربا وشبهه، والله أعلم، فكره السكنى معهم لذلك، كما كره سعيد بن المسيب المقام مع القوم الذين لا يوفون بالمكيال ولا بالميزان.(17/376)
والسكنى معهم مكروه لوجهين، أحدهما: مخافة أن يعاقبهم الله على فعلهم فتأخذه العقوبة معهم، فقد روي «أن أم سلمة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال رسول الله: " نعم إذا كثر الخبث» ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول ما يقال إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحلوا العقوبة كلهم، والوجه الثاني: إذا عملوا بالربا ولم يوفوا بالمكيال والميزان فقد خالط مالهم الحرام والحلال، ولا ينفك من سكن معهم من معاملتهم، ومعاملة من خالط الحرام ماله مكروهة، ووقع في بعض الكتب، وسمعت مالكا يذكر أمر أنطابلس في أمر آبارها بالباء المعجمة من أسفل، فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك على هذا أن آبارها ينضب الماء عنها فيضطر جميعهم إلى الغسل والوضوء والشرب من أجبابها ومراجلها، ولا يوقن بطهارة مائها؛ لأنه من ماء المطر يشرب إليها حتى يجتمع فيها، فقد تمر على المواضع النجسة، وقد تقع فيها النجاسات وتموت فيها الدواب، وتختلف في أخذ الماء منه أيدي الناس، ومنهم الجنب والحائظ ومن لا يتحفظ بدنه فيتوقى من النجاسة على ما يجب، فكره سكناها لذلك، وبالله التوفيق.
[حكم التنعم بالحلال]
في التنعم وزي العجم قال مالك: قال عمر: وإياكم وهذا التنعم وزي العجم.
قال محمد بن رشد: أما التنعم بالحلال فهو حلال وإن كان لا بد من السؤال عنه، قال الله عز وجل: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لتسألن عن نعيم هذا اليوم في الطعام» الذي كان عمله لهم أبو الهيثم بن التيهان، وقد كان صنع لهم خبزا من شعير، وذبح لهم شاة، واستعذب لهم ماء، لكنه يكره من أجل أنه إذا اعتاد التنعيم فيما رزقه(17/377)
الله من المال قل فعله للخير فيه، وقد قال عمر بن الخطاب: إياكم واللحم فإن له ضراوة الخمر، وأدرك جابر بن عبد الله ومعه جمال لحم فقال ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين قرمنا إلى الفحم فاشتريت بدرهم لحما، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه، أين تذهب هذه الآية؟ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] .
وأما زي العجم فمكروه للتشبه بهم، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «من تشبه بقوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمله» وقد جاء في لابسه أنه ملعون، وكذلك سيوفهم وشكلهم وجميع زيهم فهو مثله في اللعنة والكراهة، وروي «عن علي بن أبي طالب أن رسول الله نظر إلى رجل متنكب قوسا فارسية، فقال له يا صاحب القوس ألقها عنك فإنها ملعونة ملعون حاملها، وعليكم بهذه القسي العربية وبها الغنى، فبها يعين الله دينكم ويمكن لكم في البلد» فلا يجوز لأحد لبس شيء من زي العجم في صلاة ولا غيرها، ومن جهل فلبسه في صلاة فقد أساء، ولا إعادة عليه إن كان طاهرا، وبالله التوفيق.
[استكتاب النصراني]
في أن النصراني لا يستكتب وسئل مالك عن النصراني أيستكتب؟ فقال: لا أرى ذلك، ومن ذلك أن الكاتب يستشار، أفيستشار النصراني في أمر المسلمين وغير ذلك؟ فما يعجبني أن يستكتب.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وهو بين على ما قاله، ومثله في الأقضية من(17/378)
المدونة، ولا ينبغي أيضا أن يستكتب القاضي من المسلمين إلا العدول المرضيين، وبالله التوفيق.
[النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد الصدقة ويقبل الهدية]
في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرد
الصدقة ويقبل الهدية قال مالك: بلغني أن سلمان أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة في أول الإسلام، فردها عليه، وأتى بهدية فقبلها منه.
قال محمد بن رشد: الفرق في المعنى بين الصدقة والهدية أن الصدقة هي ما يقصد بها المتصدق الإحسان إلى المتصدق عليه والتفضل عليه، والهدية هي ما يقصد بها المهدي إكرام المهدى إليه وإتحافه بالهدية لكرامته عليه ومنزلته عنده إرادة التقرب منه، فالمتصدق يتفضل على المتصدق عليه وليس المهدي يتفضل على المهدى إليه، وإنما المهدى له هو المتفضل على المهدي في قبول الهدية، فنزه الله تبارك وتعالى نبيه عن الصدقة بأن حرمها عليه، وأباح له الهدية لما فيها من صلة المهدي وإدخال السرور عليه بتبليغه، أما ما قصد بهديته إليه فهذا حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خاصته، لا تحل له الصدقة بوجه من الوجوه، ولا على حال من الأحوال.
وأما آله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنها تحرم عليهم الزكوات والكفارات التي هي أوساخ الناس، يغسلونها عنهم، لا صدقة التطوع جائز للرجل أن يتصدق على من شاء منهم بما شاء من ماله تطوعا.
والأصل في جواز ذلك ما روي «عن ابن عباس قال: قدمت عير المدينة فاشترى منه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متاعا فباعه بربح أواق من فضة، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب» .
واختلف فيما أخرج الرجل تطوعا من ماله دون أن يجب عليه صدقة للمساكين هل لمفرقها أن يعطي منها لفقراء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شيئا ويسوغ لهم(17/379)
ذلك أم لا على قولين، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.
[قبول الرجل ما أعطي من غير مسألة]
في قبول الرجل ما أعطي من غير
مسألة قال مالك: بلغني «أن عمر بن الخطاب رد شيئا أعطيه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لم رددته؟ فقال: للذي قلت يا رسول الله في العطية، قال: إنما ذلك على وجه المسألة، فأما ما أتى الله به من غير المسألة فإنما هو رزق رزقك» إقيل له: كان في الحديث رخصة.
قال محمد بن رشد: قوله: رد شيئا أعطيه يريد رد شيئا أعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مال الله.
وقوله: للذي قلت يا رسول الله في العطية، يريد الحديث الذي جاء حرا «إن خيرا لأحدكم ألا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني» .
وقوله فيما أعطي الرجل من غير مسألة أنه رزق رزقه الله دليل على إباحة أخذ الرجل عطية الإمام من بيت المال إذا لم يعلم أن كان المجبى حلالا أو حراما، وليس عليه أن يبحث على ذلك، وكذلك إذا علم أن في المجبى حلالا وحراما له، في ظاهر الحديث رخصة أن يأخذ دون أن يبحث هل أعطاه مما فيه من الحلال، أو مما فيه من الحرام، أو مما اختلط حلاله بحرامه، وقد مضى قبل هذا في رسم الشجرة القول في الأخذ من بيت المال على افتراق أموال المجبى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
تم الجزء الثالث من الجامع والحمد لله(17/380)
[كتاب الجامع الرابع] [نظرالإمام في أمر قد قضى فيه من قبله من الأئمة العدول]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا
ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب الجامع الرابع
في إن الإمام لا ينظر في أمر قد قضى فيه
من قبله من الأئمة العدول قال: وكان بين رجلين خصومة من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرجا من المدينة في أرض لهما حتى ارتفع الشأن بينهما فركب عثمان في ذلك وكانت خصومتهما في زمن عثمان، وركب معه رجال، فلما ساروا قال له رجل: إن عمر قد قضى فيه، فقال عثمان: لا أنظر في أمر قضى فيه عمر فرجع.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الأقضية، ووقعت أيضا في آخر الزكاة الأول من المدونة. وفائدتها والذي فيها من الفقه أن القاضي يستحسن له أن يركب ويقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس وأشكل، وقد يكون هذا كثيرا في الضرر وشبهه، ولو أمكنه أن يقف على جميع الأمور بنفسه لكان أحسن، ولكن هذا لا يمكنه فيستنيب من يوجهه مكانه لذلك في الحيازات وشبهها، والواحد يجزئ في ذلك كما قال في المدونة في الذي يرسله لتحليف المرأة، والاثنان أحسن، وإنما رجع عثمان، وترك ذلك لأن المحكوم عليه كان يريد فسخ قضاء عمر فيه، وذلك ما لا يجوز، ففي(17/381)
الحديث من الفقه أن القاضي إذا بلغه أن قاضيا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلا.
والذي قال ذلك لعثمان هو معاوية، وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب وطلحة ابن الزبير في ضفير بين ضيعتهما كان علي يحب أن يثبت وطلحة يحب أن يزال، فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا الخصومة فيه بين يدي عثمان وهو خليفة، فقال لهما: إذا كان غد ركبت في الناس معكما حتى أقف على الضفير فأقضي فيه بينكما معاينة، فقال وهما يتنازعا الخصومة في الطريق: لو كان منكرا لأزاله عمر، فكان قوله سبب توجه الحكم لعبد الله على طلحة، فوقف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والناس معه على الضفير فقال: يا هؤلاء أخبرونا أكان هذا أيام عمر؟ فقالوا: نعم، قال: فدعوه كما كان أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى كلام معاوية، فضحك ثم قال: أتدري لم أعانك معاوية؟ قال: قلت: لا، قال: أعانك بالمنافسة، قم الآن إلى طلحة فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرحب به وقال: الضفير لك فاصنع به ما شئت، فقال: قد قبلت وأنا جئت شاكرا ولي حاجة ولا بد من قضائها، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسأل حتى أقضيها لك، فقال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مع من فيها من الغلمان والدواب والآلة، فقال علي: قد قبلت، قال: ففرح طلحة وتعانقا وتفرقنا، وقال عبد الله: فوالله لا أدري أيهما أكرم في ذلك المجلس، أعلي إذ جاء بالضفير؟ أم طلحة إذ جاء بالضيعة بعرصته بمسناة.
روي عن الشعبي أنه قال: أول من جرى جريا أي وكل وكيلا من(17/382)
الصحابة علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكل عبد الله بن جعفر، فقيل له: لم وكلت عبد الله وأنت سيد من سادات الناطقين؟ فقال: إن للخصومات فحما، قال عبد الله: فنازعني طلحة في ضفير كان بين ضيعة لعلي وضيعة لطلحة، ثم ساق بقية الحكاية وإن كان فيها بعض الخلاف لحكاية مالك بالمعنى المقصود منها، وهو استحسان ركوب القاضي فيما أشكل، ووجوب إمضاء أحكام من قبله لا خلاف فيه، وبالله التوفيق.
[دخول أهل الفضل الأسواق]
في جواز دخول أهل الفضل الأسواق
ومقاربتهم في البيع والشراء وسئل مالك عن الرجل له فضل وصلاح يحضر السوق يشتري لنفسه فيقارب لذلك لفضله أو لحاله، قال: لا بأس بذلك، وقد كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدخل السوق، وسالم بن عبد الله إن كان ليقعد في سوق الليل ويجلس معه رجال وإن كان الحرس ليمرون بجلسائه فيقولون: يا أبا عمر أمن جلسائك؟ فقيل له: ما بال الحرس؟ قال: يطردون عنه أهل السفه والعبث.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال من أن مقاربة أهل الأسواق الرجل فيما يشتريه منهم لفضله وخيره سائغ له لا بأس به؛ لأن ذلك شيء كان منهم إليه دون سؤال منه، فهو رزق رزقه الله إياه على ما جاء في الحديث الذي مضى قبل هذا بيسير في هذا الرسم.
وأما جواز دخول الأسواق والمشي فيها فكفى من الحجة في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] ردا لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية.(17/383)
ووقع في بعض الكتب أمن جلسائك، والمعنى في ذلك إعلامهم إياه أنهم يحفظونهم لمجالستهم إياه، فهم آمنون، ومعنى أمن؟ في داخل الكتاب الاستفهام في الرجل هل هو من جلسائك فيحفظونه من أهل السفه كما يحفظونه وجلساءه، وبالله التوفيق.
[التورع عن العطاء]
في التورع عن العطاء قال مالك: قد كان رجال ببلدنا هذا من أهل الفضل والعبادة يردون العطية يعطونها، حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه، يعني بذلك إذا كان يرى أن له عنها غنى.
قال محمد بن رشد: يريد بالعطية العطية من بيت المال، والله أعلم.
وفي قوله: حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه نظر؛ لأن الذي يرد العطية ولا يؤامر نفسه في ذلك أزهد فيها من الذي يؤامر نفسه في أخذها أو ردها، وحتى غاية تدل على أنه أراد أن منهم من يربي في الزهادة والعبادة على الذين يردونها ولا يقبلونها، فكان وجه الكلام أن يقول، حتى إن كان بعضهم لا يؤامر نفسه في قبولها فيردها، وإن كان يرى أنه لا غنى به عنها.
وردهم إياها يحتمل أن يكون زهادة فيها مع جواز أخذها لهم لا كراهة فيها إذا كان المجبى حلالا، وقسم بوجه الاجتهاد دون مأثرة ومحابات، وهذا نهاية في الزهد والفضل؛ لأنه يترك حقه الجائز له أخذه ويؤثر فيه غيره ممن يعطاه، وإن كانت به حاجة إليه، فمن فعل ذلك كان من الصنف الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وإن كان المجبى حلالا ولم يعدل في قسمته فمن أهل العلم من يكره(17/384)
الأخذ منه، وأكثرهم يجيزه.
وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام فمن أهل العلم من يجيز الأخذ منه وأكثرهم يكرهه.
وأما إن كان المجبى حراما فمن أهل العلم من حرم الأخذ منه وروي ذلك عن مالك، ومنهم من أجازه ومنهم من كرهه وهم الأكثر، وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصدقات والهبات لتكرر الحكاية هناك ومضى من هذا المعنى في رسم الشجرة قبل هذا من هذا الكتاب، ومضى في آخر سماع سحنون من كتاب الشهادات القول فيه مستوفى، ومضى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات استحباب ترك الرجل قبول ما وصل به، وبالله التوفيق.
[شدة خشية عمر]
في شدة خشية عمر السؤال قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه.
قال محمد بن رشد: هذا من عمر بن الخطاب نهاية في الخوف لله؛ لأن مثل هذا لو وقع لم يؤاخذه الله به، إذ لم يكن بتضييع منه ولا إهمال، ومن بلغ هذا الحد من الخشية فهو من الفائزين، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] ، وبالله تعالى التوفيق.
[أول من استقضي]
في أول من استقضي ومجلس القاضي للحكم قال: وسئل مالك: عن أول من استقضي، قال: معاوية بن(17/385)
أبي سفيان، قيل له: أفرأيت شريحا؟ قال: كذلك يقول أهل العراق، ونحن ننكر ذلك، وإني لأنكر ذلك من قولهم.
قيل له: يا أبا عبد الله أفترى للقاضي أن يجلس في المسجد؟ قال: نعم، وذلك من أمر الناس القديم، ويستحسن ذلك، ولقد كان قاضي عمر بن عبد العزيز وابن خلدة وغيره يجلسون في المسجد يقضون فيه، وما زال ذلك شأن الناس، وإني لأرى فيه خيرا، وأفضل الناس يدخلون ولا يغلق دونهم باب، وهل للقاضي أن يرضى بالدون من المجلس؟
قال محمد بن رشد: إنكار مالك لما قاله أهل العراق من أن شريحا كان قاضيا لعمر بالعراق يدل على أنه أراد أن معاوية أول من استقضي بموضعه الذي هو فيه لاشتغاله بما سوى ذلك من أمور المسلمين كبعث البعوث وسد الثغور وفرض العطاء وقسم الفيء وما أشبه ذلك، فقد ولى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما ذكر قضاء البصرة أبا مريم الحنفي ثم عزله، وولي كعب بن سور اللقيطي فلم يزل قاضيا حتى قتل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وولي شريحا قضاء الكوفة.
وأما استحسانه أن يكون جلوس القاضي للحكم بين الناس في المسجد للمعاني التي ذكرها من التواضع بالرضا بالدون من المجلس، وأن يصل إليه القوي والضعيف ولا يحجب عنه أحد فهو قوله في المدونة وغيرها والماضي من فعل السلف الصالح المقتدى بهم، فقد جاء في بعض الآثار: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلغه أن أبا موسى الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقضي بالعراق في دار سكناه فبعث رسولا إليه من المدينة وأمره أن يضرمها نارا، فدخل الرسول العراق ووافي أبا موسى الأشعري في الدار يقضي، فنزل عن بعيره وأوقد النار في بابها فأخبر أبو موسى بذلك، فخرج فازعا، فقال له: ما بالك؟ فقال: أمرني أمير المؤمنين بأن أضرمها عليك نارا لالتزامك القضاء فيها، ثم(17/386)
انصرف الرسول من فوره ذلك، ولم يعد أبو موسى إلى القضاء في داره، وبالله التوفيق.
[قدوم الرجل على أهله عشاء]
في قدوم الرجل على أهله عشاء
وسئل مالك: عن الذي يقدم العشاء على أهله، أترى أن يأتيهم تلك الساعة؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية جابر بن عبد الله، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يطرق أهله ليلا» خرجه البخاري، وعن أنس بن مالك قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يطرق أهله، وكان لا يدخل إلا غدوة أو عشية» . وفي بعض الآثار: «نهى أن يأتي الرجل أهله طروقا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة» . فمعنى قول مالك: لا بأس بذلك - أي: لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، وإن كان قد أتى مكروها؛ لأنه رأى النهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهي أدب وإرشاد، لا نهي تحريم، وبالله التوفيق.
[إقامة الحدود في المسجد]
في كراهية إقامة الحدود في المسجد
وإجازة الأدب اليسير فيه وسئل مالك: عن القاضي يعاقب الرجل في المسجد بالأسواط، قال: لا أرى بذلك بأسا، وكره أن تضرب فيه الحدود وما كثر فيه الضرب من الأدب وإن لم يكن حدا.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها، والذي قاله(17/387)
مالك من أنه لا يضرب في المسجد الحد ولا ما كثر من الضرب هو نحو ما حكاه البخاري عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في تبويبه، وأقامه من الحديث الذي خرجه فيه، وذلك أنه بوب: من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام، وقال عمر: أخرجاه من المسجد واضرباه، ويذكر عن علي نحوه، ثم ساق حديث أبي هريرة، قال: «أتى رَجَلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما شهد على نفسه أربعا، قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: اذهبوا به فارجموه» . وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وشراءكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم، وجمروها أيام جمعكم واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» . فهذا كله مما يجب أن تنزه عنه المساجد لقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
ويكره رفع الصوت فيها حتى في العلم، وقد بنى عمر بن الخطاب رحبة في مؤخر المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من كان يريد أن يلغط أو يشعر، ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة، وبالله التوفيق.
[حلق وسط الرأس والقفا]
في حلق وسط الرأس والقفا
واستئصال الشارب والأخذ من اللحية وسمعت مالكا: يكره حلق وسط الرأس للمحجمة، فقد ذكر مالك:(17/388)
وجه الكراهية في ذلك وهو التشبه بالنصارى الذين يفحصون عن أوساط رءوسهم من الشعر على ما جاء في ما أوصى به أبو بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام، فقال له: إنك ستجد أقواما فحصوا عن أوساط رءوسهم من الشعر فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف.
وأما حلق القفا فكرهه مالك إذ لم يرد في حلقه أثر يتبع يراه مثله، وقربا عنده من فعل النصارى الذين يحلقون مؤخر رءوسهم.
وأما استئصال الشارب فاختلف أهل العلم فيه لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإحفاء الشارب وإعفاء اللحى» . والإحفاء الاستئصال بالحلق، فحمله جماعة من العلماء على ظاهره وعمومه، منهم أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما، فقالوا: إحفاء الشواب أفضل من قصها، وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل، فكان يحفي شاربه إحفاء شديدا، ويقول: السنة فيه أن يحفى؛ كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحفوا الشوارب» .
وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن السنة أن يقص ويؤخذ منه حتى يبدو أطراف الشفة الإطار ولا يستأصل جميعه بالحلق، لأنه روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا» ، وأنه قال: «خمس من الفطرة، فذكر منها قص الشارب» ، فجعل ذلك من قوله: "فينا" لأمره بإحفاء(17/389)
الشوارب، فقال: معناه أن يقص حتى يحفي منه الإطار لا جميعه.
وقوله صحيح؛ لأن استعمال الأحاديث وحمل بعضها على التفسير لبعض أولى من الأخذ ببعضها والاطراح لسائرها، لا سيما وفي العمل المتصل من السلف بالمدينة بترك إحفاء الشوارب دليل واضح على أنهم فهموا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه إنما أراد بإحفاء الشوارب قصها والأخذ منها وألا تعفى كما يفعل باللحى، وهو دليل واضح، ولذلك قال مالك: إن حلق الشارب مثله، وحكم له في رسم الجامع من سماع أشهب من كتاب السلطان بأنه بدعة، ورأى أن يؤدب من فعل ذلك؛ لما فيه من تقصير المتقدم في مخالفتهم ظاهر الحديث والجهل به، وهم ما جهلوه ولا خالفوه، لكنهم تأولوه على ما تأوله عليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يصح أن يكون المتأخر أعلم بمراد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من السلف المتقدم، وقد قال بعض المتأخرين: إن الشارب لا يقع إلا على ما يباشر به شرب الماء وهو الإطار، فذلك هو الذي يحفى.
والصحيح أن الشارب ما عليه الشعر من الشفة العليا إلا أن المراد بإحفائها إحفاء بعضها وهو الإطار منها، لا إحفاء جميعها بدليل الحديثين الأخيرين، وقد روي عن ابن القاسم أنه كان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويقول: تفسير حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إحفاء الشارب إنما هو الإطار، والأظهر أن ذلك ليس بمكروه، وأنه مستحسن، فيقص الشارب لما جاء في الحديث من أن قصه من السنة، ويحفى الإطار منه لما جاء في الحديث من الأمر بإحفاء الشوارب.(17/390)
وما استحسنه مالك من أن يؤخذ من اللحى إذا طالت جدا حسن ليس فيه ما يخالف أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بإعفائها، بل فيه ما يدل على ذلك بالمعنى، لأنه إنما أمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعفاء اللحى لأن حلقها أو قصها تشويه ومثله، وكذلك طولها نعما سماجة وشهرة، ولو ترك بعض الناس الأخذ من لحيته لانتهت إلى سرته أو إلى ما هو أسفل من ذلك، وذلك مما يستقبح، وبالله التوفيق.
[صفة المؤمن]
في صفة المؤمن قال مالك: المؤمن يسير المؤنة حسن المعونة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن هذه هي صفة المؤمن الممدوح إيمانه، ومنها أن يكون حسن السمت هينا لينا مكرما لجاره وضيفه لا ينطق إلا بخير ويسارع إلى فعل الخير، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" جائزته يوم وليلة» الحديث.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ، إن المؤمن يزهد في الدنيا ولا يستكثر منها، ويطوي(17/391)
بطنه عن جاره ويؤثر على نفسه، والكافر يرغب في الدنيا ويستكثر منها ولا يؤثر على نفسه فيها، وبالله التوفيق.
[ما جاء في بلال رضي الله عنه]
في ما جاء في بلال
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وسمعت مالكا يذكر أنه بلغه: أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال لبلال: «يا بلال، إني دخلت الجنة فسمعت خشفا أمامي» ، وقال: الخشف الوطء، «فقلت: من هذا؟ فقالوا: بلال، فكان بلال إذا ذكر ذلك بكى» .
قال محمد بن رشد: بلال هذا هو بلال بن رباح مولى أبي بكر الصديق، كان يعذب على دينه، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فكان له خازنا ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنا، فأذن له حتى توفي، ثم أذن لأبي بكر حياته، ولم يؤذن في زمن عمر، فقال له: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض؛ لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا بلال، ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله» ، فخرج مجاهدا، ويقال: إنه أذن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا دخل الشام مرة فبكى عمر وغيره من المسلمين، وروي: أنه كان يؤذن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: بل تكون عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات.(17/392)
ورؤية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه في الجنة شهادة منه له بها؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وبكاؤه إذا ذكر ذلك كان شوقا لله وتوقا إلى لقائه، وبالله التوفيق.
[فضل الفقه في الدين]
في الفقه في الدين وسمعت مالكا يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
قال محمد بن رشد: يشهد لصحة معنى هذا الحديث قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] جاء في التفسير أنه الفقه في دين الله، وهو تفسير يشهد بصحته قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ، والفقه في الدين هو العلم به، وقد أثنى الله على العلماء بما أثنى ووعدهم بالدرجات العلى، فقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] ، وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وطلب العلم أفضل أعمال البر، روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ما أعمال البر كلها في الجهاد إلا كبصقة في بحر، وما أعمال البر كلها والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر» ، فنص في هذا(17/393)
الحديث على أن طلب العلم أفضل من الجهاد، ومعناه في الموضع الذي يكون فيه الجهاد فرضا على الكفاية إذا كان قد قيم به لأنه حينئذ يكون له قافلة، وأما القيام بفرض الجهاد [والجهاد] في الموضع الذي يتعين فيه الجهاد على الأعيان فلا شك أنه أفضل من طلب العلم، والله أعلم.
وظاهر الحديث أن طلب العلم أفضل من الصلاة. وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه «سئل عن أفضل الأعمال فقال: " الصلاة لأول ميقاتها» - معناه في الفرائض، وأما النوافل فطلب العلم أفضل منها على ظاهر الحديث المذكور، والله تعالى أعلم.
وقد سئل مالك: عن القوم يتذاكرون الفقه، القعود في ذلك أحب إليك أم الصلاة؟ فقال: بل الصلاة، وروي عنه أن العناية بالعلم أفضل، وليس ذلك عندي اختلافا من قوله، ومعناه: أن طلب العلم أفضل من الصلاة لمن ترجى إمامته، والصلاة أفضل من طلب العلم لمن لا ترجى إمامته إذا كان عنده منه ما يلزمه في خاصة نفسه من صفة وضوئه وصلاته وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، وقال سحنون: يلزم أثقلهما عليه.
[تفسير إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا]
في تفسير {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]
وسئل مالك: عن تفسير: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ، قال: مخرجا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] .
قال محمد بن رشد: فسر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إحدى الآيتين بالأخرى، فقال: معنى فرقانا في الآية الواحدة معنى مخرجا في الآية الثانية، وقد قيل:(17/394)
معنى فرقانا: نصر، وقيل: نجاة، وأحسن ما قيل في ذلك أن المعنى فيه فصلا بين الحق والباطل، حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم ويهتدوا إليه؛ لأن الفرقان في لسان العرب مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق فرقا وفرقانا. وأما قول الله عز وجل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ، فمعناه: يجعل له من أمره مخرجا، وذلك أنه إذا اتقى الله فطلق كما أمره الله ولم يطلق ثلاثا كان له مخرجا بالارتجاع الذي يملكه في العدة وبالخطبة التي هي له مباح بعد العدة، وقد روي: أن الآية نزلت في رجل من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقال له عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن أسره المشركون، فكان يأتي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليشكو إليه مكان ابنه وحالته التي هو بها أو حاجته، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمره بالصبر، ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجا، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا فانفلت من أيدي العدو فمر بأغنام لهم فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بعثا قد أصابه من الغنم، فنزلت فيه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ، فمن اتقى الله عز وجل وهو في شدة من أمره جعل الله له منه مخرجا على ما في سورة الطلاق، وإن كان في حيرة جعل الله له فرقانا، أي: فصلا يبين له به الحق من الباطل، والصواب وفيما تحير فيه على ما في سورة الأنفال.
فتأويل من تأول لكل آية منها معنى غير معنى الأخرى أولى ممن صرفهما إلى معنى واحد على ما ذهب إليه مالك، والله تعالى أعلم.
[القدوم على البلد الذي تقع فيه الأمراض]
17 -(17/395)
في القدوم على البلد الذي تقع فيه
الأمراض فيكثر فيه الموت وسئل مالك: عن الأمراض تقع في بعض البلدان فيكثر فيهم الموت- وقد كان الرجل يريد الخروج إلى ذلك الموضع فلما بلغه كثرة ذلك المرض والموت كره أن يخرج إليه.
قال: ما أرى بأسا إن خرج أو أقام وذكر الحديث الذي جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الطاعون، فقلت له: أفتراه يشبه ما جاء فيه الحديث من الطاعون؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء في الطاعون قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب إذ خرج إلى الشام، فلما بلغ سرغ، بلغه أن الوباء قد وقع فيه، فاستشار المهاجرين والأنصار في القدوم عن الوباء أو الرجوع عنه، فاختلفوا عليه في ذلك: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» ، فرجع عمر بن الخطاب، قيل: بحديث عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل إنما حدثه به بعد أن كان عزم على الرجوع بما أشار به عليه مشيخة الفتح إذ لم يختلفوا عليه في ذلك.
وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» - ليس بنهي تحريم، وإنما هو نهي أدب وإرشاد من ناحية قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل الممرض على المصح، وليحل المصح حيث شاء» ، لئلا يقع بنفسه إن قدم عليه فأصابه فيه قدر أنه لو لم يقدم عليه لنجا منه، ولا مجير(17/396)
لأحد عن القدر، فلهذا قال مالك: ما أرى بأسا إن خرج أو أقام، أي: لا حرج عليه إن قدم على البلد في مخالفة النهي، إذ ليس بنهي تحريم، بل له الأجر إن شاء الله إذا قدم عليه موقنا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فهو يؤجر إذا قدم عليه لهذا الوجه، ويؤجر إذا لم يقدم عليه لاتباع نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ذلك، فهذا وجه تخيير مالك إياه في ذلك.
وكذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» - ليس بنهي تحريم وإنما هو أمر بالمقام الذي هو أفضل من أجل الاستسلام للقدر، فالمقام أفضل بوجهين: أحدهما: اتباع الحديث، والثاني: الاستسلام للقدر، والخروج جائز لا حرج فيه إن شاء الله إلا أنه مكروه لمخالفة الحديث.
وقد أمر به عمرو بن العاص فروي عن الطاعة، فقال: تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل، فقال: لقد كنت فينا وأنت أضل من حمار أهلك، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هو رحمة لهذه الأمة» اللهم فاذكر معاذا فيمن تذكره في هذه الرحمة "، فمات في طاعون عمواس بالأردن من الشام سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وروي عن شرحبيل بن حسنة أن عمرو بن العاص قال وقد وقع الطاعون بالشام: إنه رجس فتفرقوا عنه، فقال شرحبيل: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنها رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم فلا تفرقوا عنه» . قال ابن عبد البر في الاستذكار أظن قوله " ودعوة نبيكم " قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم فاجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون، قالت عائشة: يا رسول الله، الطعن عرفناه، فما الطاعون؟(17/397)
قال: غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط» .
ووجه ما ذهب إليه عمرو بن العاص من أن الخروج عن البلد الذي يقع فيه الطاعون أولى من المقام فيه، هو مخافة الفتنة في ذلك بأن يصيبه قدر في مقامه فيقول القائل لو خرج لنجا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فهلكت، وكذبا جميعا، فر من لم يجئ أجله، وأقام فمات من جاء أجله، وقد قال المدائني: يقال: إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت.
فيتحصل على هذا في الأفضل من القدوم على الوباء والخروج عنه أو ترك ذلك بعد الإجماع على أنه لا إثم ولا حرج في شيء من ذلك ثلاثة أقوال للسلف:
أحدها: أن الأفضل أن يقدم عليه وأن لا يخرج عنه، وهو مذهب من أشار من المهاجرين والأنصار على عمر بن الخطاب أن يقدم عليه ولا يرجع عن وجهته؛ لأن ترك القدوم عليه أحب من الرجوع عنه، فإذا كره الرجوع عنه فأحرى أن يكره الخروج عنه.
والثاني: أن الأفضل أن لا يقدم عليه وأن يخرج، وهو الذي ذهب إليه عمرو بن العاص؛ لأنه إذا كره المقام فيه فأحرى أن يكره القدوم عليه.(17/398)
والقول الثالث: أن الأفضل ألا يقدم عليه وألا يخرج عنه للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رواية عبد الرحمن بن عوف، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن السنة حجة على القولين الآخرين، وبالله التوفيق.
[نتف الشيب وقرضه]
في نتف الشيب وقرضه وسئل مالك: عن نتف الشيب؟ فقال: ما أعلم حراما، وتركه أحب إلي من نتفه، قال ابن القاسم: ولا أحب نتفه، قيل له: لو قرضه؟ فقال: أكره أن يقرضه من أصله، وهو عندي يشبه النتف.
قال محمد بن رشد: الكراهية في ذلك ما جاء من أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول الناس ضيف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله تبارك وتعالى: (وقارا يا إبراهيم، فقال: رب زدني وقارا) ، فما دعا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به الزيادة فيه لا ينبغي لأحد أن ينقصه من نفسه، وبالله التوفيق.
[ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم]
في سيل مهزور ومذينب وسئل مالك: عن سيل مهزور ومذينب حين قضى فيهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أكان فيهما يومئذ أصول نخل؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: مهزور ومذينب واديان معروفان من أودية المدينة يسيلان بالمطر يتنافس فيهما أهل المدينة فقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن(17/399)
يمسك الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل، وهذا هو الحكم في كل ماء غير متملك يجري على قوم إلى قوم دونهم أن من دخل الماء أرضه أولا فهو أحق بالسقي به حتى يبلغ الماء في أرضه إلى الكعبين.
ثم اختلف الناس إذا بلغ الماء إلى الكعبين هل يرسل جميع الماء إلى الأسفل أو لا يرسل إليه إلا ما زاد على الكعبين؟ وقال ابن القاسم: بل يرسل جميع الماء ولا يحبس منه شيئا، والأول أظهر، وروى زياد عن مالك: أن معنى الحديث أن يجري الأول الذي هو أقرب إلى الماء من الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه حتى يروى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية، ثم يفعل الذي يليه كذلك ما بقي من الماء شيء، قال: وهذا السنة فيهما وفيما يشبههما مما لا حق فيه لأحد بعينه أن الأول أحق بالتبدئة ثم الذي يليه إلى آخرهم رجلا، وبالله التوفيق.
[تغيير الشيب]
في تغيير الشيب قال: وسمعته يذكر، قال مالك: كان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وسعيد بن المسيب والسائب بن زيد لا يغيرون الشيب.
قال محمد بن رشد: أما صبغ الشعر وتغيير الشيب بالحناء والكتم والصفرة فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك جائز، وإنما اختلفوا هل الصبغ بذلك أحسن أو ترك الصبغ جملة أحسن، واختلف في ذلك قول مالك بدليل ما له في الموطأ أن الصبغ بذلك أحسن، ودليل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها أن ترك الصبغ بذلك كله أحسن، وقد مضى الكلام على هذا هناك مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(17/400)
[قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد]
في قضاء الرجل الرجل الذهب في المسجد وسئل مالك: عن الرجل يقضي الرجل ذهبا في المسجد، فقال: لا أرى به بأسا، وأما ما كان على وجه التجارة والصرف فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وكره في رسم شك في طوافه منه في كتاب ذكر الحق في المسجد إلا أن يكون شيئا خفيفا لا يطول، وهذا كله بين؛ لأن المساجد إنما وضعت لذكر الله والصلاة، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] ، فواجب أن ترفع وتنزه عن أن تتخذ لغير ما وضعت له، وقد اتخذ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء، فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة، وكان عطاء إذا مر به بعض من يبيع في المسجد دعاه فسأله: ما معه وما يريد؟ فإذا أخبره أنه يريد أن يبيعه، قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من قلة السعة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول الإسلام من قلة السعة وسمعت مالكا يقول: كان عبد الله بن عمر يقول: ما شبعنا من الثمر حتى فتحت خيبر.
قال محمد بن رشد: قد مضى معنى هذا في رسم نذر سنة(17/401)
وتكلمنا هناك على ما يتعلق به من التفضيل بين الفقر والغنى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ظهور أثر السجود بين عيني الرجل]
في كراهية ظهور أثر السجود بين عيني الرجل
وسمعته يقول: بلغني أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا بين عينيه سجدة، فقال: منذ كم أسلمت، فذكر الرجل أمدا كأنه تقربه، فقال سعد: أسلمت منذ كذا وكذا وما بين عيني شيء.
قال محمد بن رشد: كره له سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يشد جبهته بالأرض حتى يؤثر فيها السجود فيبدو ذلك للناس؛ إذ ليس ذلك هو المعنى المراد بقول الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، وإنما هو ما يعتريهم من الصفرة والنحول بكثرة العبادة وسهر الليل، وقيل: إن ذلك في الآخرة لا في الدنيا، ولعله اتهمه أن يكون قصد إلى ذلك ليعرف به، فلذلك وبخه بما قرره عليه في الرواية، والله أعلم.
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن عياض على مكة فاستعداه عليه رجل ذكر أنه سجنه في حق فلم يخرجه منه حتى باع ماله منه بثلاثة آلاف، وقد كان أعطاه به ستة آلاف فأبى أن يبيعه منه، واستحلفه بالطلاق ألا يخاصمه في ذلك أبدا، فنظر عمر إلى عروة ونكت بالخيزران بين عينيه في سجدته، ثم قال: هذه غرتني منك، لسجدته، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع السجود فغور، ثم قال للرجل: اذهب فقد رددت عليه مالك ولا حنث عليك، وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة لتكون الحكاية هناك، وبالله التوفيق.(17/402)
[شكل المصاحف]
في شكل المصاحف وسئل مالك: عن شكل المصاحف أتشكل؟ فقال: أما أمهات المصاحف فإني أكره ذلك، وأما ما يشكل للتعليم فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهيته لشكل أمهات المصاحف هو أن الشكل مما قد اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأي الشكلين أنزل، وقد يختلف المعنى باختلافه، فكره أن يثبت في أمهات المصاحف ما فيه اختلاف، وبالله التوفيق.
[يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب]
في الذي يأمر للسائل بشيء فيجده قد ذهب وسئل مالك: عن السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف، أترى أن يسترجعه؟ فقال: لا، ولكن يتصدق به، قال له: فالكسوة؟ قال: كذلك يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في هذا الرسم من كتاب العارية، وما رآه عليه بواجب، ووصل ابن أبي زيد بها في النوادر، وقال: ومن خرج إلى مسكين بشيء فلم يقبله فليعطه غيره، وهو أشد من الأول، وليس بينهما فرق بين، والمعنى الذي ذهب إليه ابن أبي زيد في الفرق بينهما والله أعلم هو أنه لما وجده فأبى أن يقبلها وقد كان له أن يقبلها فردها أشبه عنده ردها إليه بعد قبوله إياها، ولعله إنما ردها إليه ليعطيها لغيره، مثل أن يقول له أنا لا حاجة لي بها فادفعها لغيري، فيكون ذلك قبولا منه لها، ويكون بذلك راجعا في صدقته، وكذلك إذا سأله قريبه أو(17/403)
أجنبي أن يعطيه شيئا فيعده بذلك فيأتي بما وعده به فلا تجده يستحب له أن يعطيه لغيره.
فآكدها في الاستحباب الذي يخرج بالشيء إلى السائل فيجده فلا يقبل، ويليها إذا لم يجده، ويليها الرجل الأجنبي يعده بالشيء فلا يجده، ويليها القريب يعده بالشيء فلا يجده، وهو أخفها كلها من أجل أنه إنما أراد عينه لقربه منه، وبالله تعالى التوفيق.
[مقاتلة العصبية]
في مقاتلة العصبية وسئل مالك: عن العصبية مثل ما كان في أهل الشام، قال: أرى للإمام أن يتدارك ذلك وأن يزجرهم، فإن طاعوا وإلا جوهدوا فيه، يعني أن يقاتلوا.
قال محمد بن رشد: هذا نص ما في كتاب الجهاد من المدونة، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، أي: حتى ترجع إلى الحق الذي أمر الله به، وبالله التوفيق.
[حد المنجم]
في المنجم وسئل مالك: عن الذي ينظر في النجوم فيقول الشمس تكسف غدا والرجل يقدم غدا، وما أشبه هذا.
قال: أرى أن يزجر عن ذلك، فإن لم يفعل أدب في ذلك، ثم قال: وإني لأرى هؤلاء الذين يعالجون المجانين(17/404)
ويزعمون أنهم يعالجونهم بالقرآن وقد كذبوا ليس كما قالوا، ولو كانوا يعلمون ذلك لعلمته الأنبياء، قد صنع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سحر فلم يعرفه حتى أخبرته الشاة. وإني لأرى هذا ينظر في الغيب، وإنها عندي لمن حبائل الشيطان.
قال محمد بن رشد: ليس قول الرجل: الشمس تكسف غدا والقمر يكسف ليلة كذا - من جهة النظر في النجوم وعلم الحساب، بمنزلة قوله من هذا الوجه: فلان يقدم غدا، في جميع الوجوه؛ لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج على ترتيب وحساب وقدر لا يتعديانه، قال الله عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وقال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وقال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .
فالقمر سريع الذهاب يقطع جميع بروج السماء في شهر واحد ولا تقطعها الشمس إلا في اثني عشر شهرا، فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر ويصير بإزائها من البروج الذي هي فيه، ثم يخلفها فإذا بعد وكلما زاد بعده منها زاد ضوءه إلى أن ينتهي في البعد ليلة أربعة عشر فتكمل استدارته وضوءه لمقابلة الشمس، ثم يأخذ في القرب منها، فلا يزال ضوءه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصير بإزائها على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو.
فإذا قدر الله عز وجل على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في سيره أن يكون بإزاء الشمس في النهار فيما بين الأبصار وبين الشمس ستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابلها أو بعضه إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو(17/405)
الكسوف للشمس، آية من آيات الله عز وجل يخوف بها عباده، كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ، ولذلك أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالدعاء عند ذلك، وسن له صلاة الكسوف.
فليس في معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء علم غيب ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، لكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه مما لا يعني، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
وفي الإنذار به قبل أن يكون ضرر في الدين؛ لأن من سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب، وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فوجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه كما قال؛ لأن ذلك من حبائل الشيطان، وقد روي: أن رجلا قال بالإسكندرية عند عمرو بن العاص: زعم حسطال هذه المدينة أنه يكسف بالقمر الليلة أو أن القمر ينكسف الليلة، فقال رجل: كذبوا هذا هو، علموا ما في الأرض فما علمهم بما في السماء؟ فقال عمرو بن العاص: إنما الغيب خمسة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] وما سوى ذلك يعلمه قوم ويجهله آخرون.
وأما قوله فلان يقدم غدا فهو من التخرص في علم الغيوب والقضاء بالنجوم.(17/406)
وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه، فيقول: إنه يعلم متى يقدم فلان، ويعلم وقت نزول الأمطار وما في الأرحام وما يستسر به الناس من الأخبار وما يحدث من الفتن والأهوال وما أشبه ذلك من المغيبات، فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون استتابة؛ لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50] ، ولقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» ، وقيل: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عليه، وهو قوله في هذه الرواية، والذي أقول به: إن هذا ليس باختلاف قول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال، فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله وكان مستسرا بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة؛ لأنه كافر زنديق، وإن كان معلنا بذلك غير مستسر به يظهره ويحاج عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء، وإن كان مؤمنا بالله عز وجل مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله هو الفاعل لذلك كله إلا أنه جعلها أدلة على ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده ويتوب عنه؛ لأن ذلك بدعة يجرح بها، تسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في نوازله من كتاب الشهادات.
ولا يحل للمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، وأنى يصح أن يجتمع في قلب مسلم تصديقه مع قول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65](17/407)
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من صدق كاهنا أو منجما أو عرافا فقد كفر بما أنزل الله على قلب محمد» ، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله على صدقه دليلا فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من أنهم إنما يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجوهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلع عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلا على صحة نبوته، قال الله عز وجل في كتابه حاكيا عن عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] ، فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي يعرف ذلك الأنبياء ويخبر به تكذيبا لدلالتهم.
وفي دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره للإسلام وهداه ولم يرد إضلاله وإغواءه.
والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون به من الجمل فيصيبون مثل ما روي عن هرقل: أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك الختان قد ظهر، أن ذلك إنما هو على معنى التجربة التي قد تصدق في الغالب من نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين الغديقة» ، وبالله التوفيق.(17/408)
[كراء الأفنية]
في كراء الأفنية وسئل مالك: عن الأفنية التي تكون في الطريق يكريها أهلها، أترى ذلك لهم وهي طريق المسلمين؟
قال: إذا كان فناء ضيقا إذا وضع فيه شيء أضر ذلك بالمسلمين في طريقهم فلا أرى أن يمكن أحد من الانتفاع به وأن يمنعوا، وأما كل فناء إن انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في طريقهم شيئا لسعته لم أر بذلك بأسا، قال: وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ، فإذا وضع في طريق المسلمين ما يضيق عليهم به فقد أضر بهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن لأرباب الأفنية أن يكروها ممن يضع فيها ما لا يضيق به في الطريق على المارة فيه، لأنه إذا كان لهم أن ينتفعوا بها على هذه الصفة وكانوا أحق بذلك من غيرهم كان لهم أن يكروها؛ لأن ما كان للرجل أن ينتفع به كان له أن يكريه، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا.
وإنما الذي لا يباح لصاحب الفناء أن يقتطعه ويدخله في داره، فإن فعل وكان ذلك يضر بالطريق هدم عليه وأعيد إلى حاله.
واختلف إن كان لا يضر، فقيل: إنه يهدم عليه أيضا، وهو قول أشهب وابن وهب في سماع زونان من كتاب السلطان، وقيل: إنه لا يهدم عليه، وهو قول أصبغ وروايته عن أشهب في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ من الكتاب المذكور، وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من الكتاب المذكور لتكرر المسألة هناك، وبالله التوفيق.(17/409)
[أول طعام أهل الجنة]
في أول طعام أهل الجنة قال: وسمعت مالكا يحدث أنه يقال: أول ما ينزله أهل الجنة بلام ونون، قال: يلبث الثور نافشا في الجنة يأكل من ثمرة الجنة، فإذا أضحى ذكاه الحوت بذنبه فأكلوا منه، ويظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من ثمار الجنة، فإذا أمسى نهره الثور بقرنه فأكلوا من لحمه.
قال محمد بن رشد: البلام الثور، والنون الحوت، قال الله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87] ، وقال في موضع آخر: {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] ، فبان أن النون هو الحوت، والمعنى في هذا الحديث إن صح: أن الله يعيد الثور بعد أن ذكاه الحوت فأكلوا منه حيا كما كان، فينهر الحوت بقرنه فيأكلوا منه، ويحتمل أن يكون النون الذي ينهر الحوت غير الذي ذكاه الحوت فأكلوا منه، لا ذلك الثور بعينه؛ لأن الألف واللام في قوله "يلبث الثور" قد تكون للعهد وقد تكون للجنس، والنفش الرعي بالليل، قال الله عز وجل: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] والجنة لا ظلام فيها ولا ليل ولا ضحى ولا مسى، روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجنة بيضاء تتلألأ، وأهلها بيض، لا ينام أهلها وليس فيها شمس ولا ليل مظلم ولا حر ولا برد يؤذيهم» . وروي عن عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجلا قال: يا رسول الله أفي الجنة ليل؟ فقال: "ليس في الجنة ظلمة، إن الليل ظلمة، إن شجرها نور وأنوارها نور وثمرتها نور وخدمها نور» .(17/410)
فقوله "يلبث في الجنة الثور نافشا في الجنة" أي: آكلا من ثمرها مقدار ليل الدنيا.
وقوله "فإذا أضحى ذكاه الحوت بذنبه فأكلوا منه، فإذا أمسى نهره الثور بقرنه فأكلوا منه" - مثل قول الله عز وجل في كتابه العزيز: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، يريد: أنهم يؤتون به على قدر ما كانوا يشتهونه في الدنيا الغداء والعشاء، وقيل: إنه إذا مضى مقدار ثلاث ساعات من اثنتي عشرة ساعة من ساعات الدنيا التي هي مقدار النهار فيها أتوا بغدائهم، وإذا بقيت ثلاث ساعات أتوا بعشائهم، فيكون على هذا بين الأكل والأكل مقدار ست ساعات من ساعات الدنيا، ويروى: أنه يغدى على أدنى منزلة في الجنة كل يوم بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كل واحدة منها لون ليس في الأخرى، يأكل منها من آخرها كما يأكل من أولها، ويراح عليه بمثلها، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي عنه حاكيا عن ربه عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين نظرت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، وبالله التوفيق.
[فساد الناس وقلة زعتهم]
ومن كتاب البز في فساد الناس وقلة زعتهم قال مالك: وذكر فساد الناس وقلة زعتهم، وقال: لقد قال ذلك الرجل: لقد رأيتنا في الجاهلية وكأنا في ملك ضابط، يريد بذلك كف بعضهم عن بعض وأحلامهم فيما بينهم، وذكر عنه، قال ابن القاسم: إنه الزبير بن العوام.(17/411)
قال محمد بن رشد: وإذا كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد أشفق في زمنه لما رأى من فساد الناس وقلة زعتهم. فناهيك من زمننا هذا الوادركه، وقد قال عبد الله بن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده شر منه، يريد في فساد الناس وقلة زعتهم وكثرة الشر فيهم، وبالله التوفيق.
[معنى الحكمة والعقل]
في الحكمة والعقل قال: وسمعت مالكا يقول: وسمعت زيد بن أسلم يقول: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، إن الحكمة العقل، قال مالك: والذي يقع بقلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر، وتجد آخر ضعيفا في دنياه عالما في أمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرم هذا، فهذه الحكمة، الفقه في دين الله.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك أظهر؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل على التفسير لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وقد قيل: معنى "حكما وعلما" فهما وعقلا، وقيل: معناه: فهما وعلما، فيأتي في تأويل الحكم في هذه الآية ثلاثة أقوال، قيل: الفقه، وقيل: الفهم، وقيل: العقل، وفي رسم شك في طوافه بعد هذا أن الحكمة في قوله عز وجل:(17/412)
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] التفكير في أمر الله والاتباع. والتفكير في أمر الله لا يكون إلا بالعقل والفهم، والتأويلات كلها قريبة بعضها من بعض في المعنى؛ لأن الفقه لا يكون إلا بالفهم، والفهم لا يكون إلا بالعقل، وفي قوله عز وجل: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] مع اختلافهما فيما حكما به يدل على أن كل مجتهد مصيب، وللقول في هذا مكان غير هذا، وبالله التوفيق.
[تمني عمر بن عبد العزيز الموت]
في تمني عمر بن عبد العزيز الموت قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي توفي فيه أنه حبا حتى توضأ، ثم أتى المسجد فركع ثم ذكر موت سهل أخيه وعبد المالك ابنه ومزاحم مولاه، فقال: ما ازددت إلا حبا، وما ازددت فيما عندك إلا رغبة، قال ابن القاسم: ولا أعلمه إلا قال: فاقبضني إليك.
قال محمد بن رشد: في تمني عمر رغبة فيما عند الله وحبا في لقاء الله - دليل على ما له عند الله، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قال الله تبارك وتعالى: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» ، ومن أحب الله لقاءه فهو من أهل الجنة؛ لأن معنى محبة الله لقاءه إرادته لتنعيمه، وبالله التوفيق.(17/413)
[حشف التمر]
في حشف التمر لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وسمعت مالكا في حديث عمر بن الخطاب في الصاع من التمر، قال: يحشف له، قال: يريد يقشر له، فقيل له: تفسير يحشف؟ قال: ينزع له قشره والحشف.
قال محمد بن رشد: هذه الحكاية عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدل على أنه ينتقى له التمر فيأكل طيبه، وذلك جائز لا بأس به بإجماع من العلماء، قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وهي خلاف لما ذكره مالك في موطئه عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفه. وهذا يدل على أنه كان يقتصر في أكله على التمر، وأنه كان لا يأكل حتى يجوع، وأنه كان لا ينقى له من حشفه فيأكله بحشفه، لأنه كان مخشوشنا في طعامه لا ينتقيه، والحشف الرديء من التمر المسوس من اليابس، وللعرب مثل تضربه فيمن باع شيئا رديا وكال كيل سوء، قالت: أحشفا وسوء كيله بكسر الكاف. وقد روى عن حفصة بنت عمر، قالت لعمر: يا أمير المؤمنين، لو لبست ثوبا هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاما هو أطيب من طعامك فقد وسع الله من الرزق وأكثر من الخير، قال: إني سأخاصمك إلى نفسك، ألا تذكرين ما كان يلقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شدة العيش؟ فما زال يذكرها حتى(17/414)
أبكاها، ثم قال: والله لئن استطعت لأشاركنهما بمثل عيشهما لعلي أدرك معهما الرخاء. وسيأتي في رسم طلق بن حبيب أنه كان يحشف له الصاع من التمر فيأكله كله، فقيل له: ما يحشف؟ قال: يأكله بحشفه، والمعنى في ذلك، والله أعلم: أنه كان يحشف له فيكره ذلك من فاعله لما كان عليه من الخشونة في مطعمه وملبسه، ويأكله بحشفه، وهو نحو ما في الموطأ، وبالله التوفيق.
[يضعف عن حمل العلم على وجهه]
في الذي يضعف عن حمل العلم على وجهه قال مالك: كنت أسمع ربيعة بن عبد الرحمن يقول: إن الرجل لتجده صالحا صائما مصليا رجل صدق وعابدا، وآخر ضعيفا ليس فيه محمل لهذه الأشياء، ويضعف عن العلم أن يحمله ويخاف أن يحمله على غير وجهه، فهو عندي خير من هذا الذي حمل الفقه، قال: ورأيت مالكا يعجبه قول ربيعة ويقول: صدق، يسمع الشيء فيضعف عن وجه حمله فيفتي به الناس ويحملهم عليه وقد أخطأ في ذلك؟ وقال: مثل فلان.
قال محمد بن رشد: ما قاله ربيعة واستحسنه مالك صحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من القلوب، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ، فمن نظر في العلم وضعف عن حمله على وجهه وأفتى الناس بتأويله إياه على غير وجهه يخشى ألا يقوم ما عليه من الوزر في ذلك بما له من الأجر والثواب في صلاته وصيامه وعبادته، وبالله التوفيق.
[سن عمر بن عبد العزيز]
17 -(17/415)
في سن عمر بن عبد العزيز وسئل مالك: كم أتى على عمر بن عبد العزيز من السنين؟ قال: اثنان وأربعون سنة.
قال محمد بن رشد: من مات في هذا السن فلم يبلغ سن الشيخ وهو يعد في حد الشباب والكهولة بدليل ما روى عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «دخلت الجنة فإذا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لشاب من قريش فظننت أني هو، فقلت: من هو؟ فقالوا: عمر بن الخطاب، فيا أبا حفص لولا ما أعلم من غيرتك لدخلته، فقال عمر: من كنت أغار عليه يا رسول الله فإني لم أكن أغار عليك» . وما روى عنه من أنه قال في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والأخيرين إلا النبيين والمرسلين» . وروى ذلك عنه علي بن أبي طالب، وأنه قال: «ولا تخبرهما بذلك يا علي،» فكل كهل شاب وليس كل شاب كهلا؛ لأن الرجل يولد طفلا فيقع عليه اسم الطفولة ما لم يحتلم، فإذا احتلم كان شابا ما لم يبلغ الأشد، وقيل فيه: إنه خمس وثلاثون سنة فإذا بلغ خمسا وثلاثين سنة فهو شاب إلى أن يبلغ حد الشيخوخة، فعمر بن عبد العزيز إمام عدل شاب نشأ في عبادة الله، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ... » الحديث، فجمع الله لعمر هاتين(17/416)
الفضيلتين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وبالله التوفيق.
[فضل الفتيان]
في الفتيان قال مالك: كان محمد بن كعب القرظي إذا ذكر الفتيان، قال: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ويذكر فضلهم.
قال محمد بن رشد: الفتيان هم الشبان فإذا نشأ الشاب في عبادة الله فهو في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله على ما جاء في الحديث، وبالله التوفيق.
[الركوب بصفة الأرجوان]
في الركوب بصفة الأرجوان
وسئل مالك: عن الركوب بصفة الأرجوان.
قال: ما أعلم بأسا، وغيره أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: الأرجوان أظنه الخز الأحمر، ويحتمل أن يكون الصوف الأحمر، فإن كان الخز الأحمر فإنما سئل عنه والله أعلم لما روي عن «علي بن أبي طالب أنه أتي ببغلة عليها سرج خز، فقال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخز وعن ركوب عليه وعن جلوس عليه» . فلم ير به مالك بأسا؛ لأنه لم يعرف النهي عن ذلك، والله أعلم، ورأى غيره أحب إليه منه لما فيه من الحرير؛ لأنه يكره لباس الخز لما فيه من الحرير، والركوب عليه إذا جعلت صفة السرج منه، يشبه اللباس له.
وإن كان الأرجوان هو الصوف الأحمر فإنما رأى غيره أحب إليه منه(17/417)
والله أعلم لما في ذلك من التشبه بالعجم، ألا ترى أنه قد روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الميثرة» وهي جلود السباع. «وعن معاوية: أنه دعا نفرا من الأنصار في الكعبة فقال: أنشدكم بالله عز وجل، ألم تسمعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صفف النمور؟ فقالوا: اللهم نعم، قال: وأنا أشهد» وعن المقدام بن معدي كرب أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الركوب على جلود السبع» ولا وجه للنهي عن ذلك إلا التشبه بالعجم؛ إذ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر، وذكاة كل أديم دباغه» ، وروي عن أبي أيوب الأنصاري: أنه أتي بدابة بسرج نمور فنزع الصفة، فقيل: الجديتان نمور، فقال: إنما ينهى عن الصفة، يريد(17/418)
لاستعمال العجم إياها كما ذكرناه.
وقد أباح ذلك جماعة من التابعين من أجل أن النهي في ذلك إنما هو لهذه العلة لا نهي تحريم، فروى أن عروة بن الزبير كان له سرج نمور , وروي ذلك عن الحسن البصري وابن سيرين، ولهذه العلة فرق في حديث علي الذي ذكرناه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخز بين لباسه والركوب عليه والجلوس عليه، وبالله التوفيق.
[الوضيعة على من باع تمر حائطه]
في أن الوضيعة لا تجب على من باع تمر حائطه إذا لم تصبه جائحة قال مالك: باع عبد الله بن عمر حائطا له واشترط على الذي باعه شروطا، واستثنى عليه فيه شيئا، وكان فيما اشترط عليه ألا يخرج منه أشياء إلا بعلمه فعمل فيه الرجل ثم تبين له فيه وضيعة، فجاءه يستوضعه، فأبى، فسأله الإقالة فأبى، فذهب الرجل.
فقال له أبو الرجال: إن أمي عمرة حدثتني «أن رجلا ابتاع حائطا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعمل فيه فتبين له الوضيعة، فجاءه فسأله الوضيعة، فتألى ألا يفعل، فجاءت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، وقالت: يا رسول الله، ما أصبنا منه إلا تمرة أو رطبة رفعها أحدنا إلى فيه أو شيئا استطعمناه مسكينا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تألى ألا يفعل خيرا؟ " فسمع بذلك البائع فأتى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هو له» فلا أدري الوضيعة أم الإقالة رد إليه الثمن.(17/419)
قال محمد بن رشد: قوله فقال أبو الرجال، يريد فقال لمالك أبو الرجال؛ لأنه حديث مالك عن أبي الرجال أدخله في موطئه في باب الجائحة في بيع الثمار والزروع ليبين أن الوضيعة إذا دخلت على المشتري من غير جائحة جرت عليه في الثمن لا رجوع له على البائع؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما ندب البائع إلى الوضع ولم يوجب ذلك عليه.
ولا اختلاف في أن ذلك لا يجب عليه، ولذلك أبى عبد الله بن عمر أن يقيل الذي باع منه ثمر حائطه أو يضع عنه، وأما إذا جرت على الثمر جائحة قبل تناهي طيبها وإمكان جذاذها فمذهبه وجوب وضع الجائحة إذا بلغت الثلث فأكثر، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح بهذا بحديثه هذا، وقال: أدخله في موطئه في باب وضع الجائحة، وليس فيه الأمر بالوضع، وإنما فيه الندب إلى ذلك، ولم يدخله مالك فيه إلا ليبين أن الوضيعة إذا دخلت على المشتري بغلة الإصداق أو انحطاط الأسواق فلا حجة له بذلك على البائع، بخلاف إذا أجيحت الثمرة، وبالله التوفيق.
[فضائل عمر بن عبد العزيز]
في ما يحكى من فضائل عمر بن عبد العزيز قال مالك: قال ابن حبان، وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على المدينة: ما جاءني رسول لعمر بن عبد العزيز إلا بخبر خير، قال مالك: بلغني أنه قال لعمر بن عبد العزيز: أوص، فقال: ما لي من مال أوصي فيه صغار ولدي إلى كبارهم.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا إلا ما هو معلوم من فضائل عمر بن عبد العزيز، وبالله التوفيق.(17/420)
[تعظيم الخطيئة في الحرم]
في تعظيم الخطيئة في الحرم قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان إذا قدم مكة لم يضطرب بناه إلا خارجا من الحرم، فقلت لمالك: لم كان يفعل ذلك؟ قال: يريد إعظام الخطيئة في الحرم.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك على عمرو بن العاص صحيح بين؛ لأن من تعظيم الحرم أن لا يعصى الله فيه، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ، وقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: لأن أعمل عشر خطايا بركبة أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة، والمعنى في ذلك بأن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف فيها الحسنات، وقد رأى بعض العلماء تغليظ الدية في الجراح والنفس في البلد الحرام والشهر الحرام لهذا المعنى، وبالله التوفيق.
[الإشارة بالرجل للعمل]
في الإشارة بالرجل للعمل قيل لمالك: فإن فلانا لا يعمل وهو يشير بمن يعمل.
قال: إن كان يشير برجل مأمون لا بأس بحاله فلا بأس بذلك، فقيل له: أفيطلب الرجل للرجل حتى يوليه؟ قال: إن علم فيه خيرا للمسلمين أشار بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من أشار على الإمام بتولية من لا خير في توليته للمسلمين أو من ليس بثقة ولا مأمون فقد(17/421)
غشه وغش المسلمين، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» ، وقال: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ، وقد أعان على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وبالله التوفيق.
[ما يدعو به الرجل من أسماء الله]
فيما يدعو به الرجل من أسماء الله وسئل مالك: عن الرجل يقول يا الله يا رحمن يا رحيم، قال: يقول: يا رحمن يا رحيم فيقول بالله، قال: يقول: اللهم أبين، ويدعو بما دعت به الأنبياء.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في جواز الدعاء بـ "يا الله" ويا رحمن ويا رحيم؛ لأن الله من أسماء الله العظام، وقد قيل فيه: إنه اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، والرحمن اسم من أسمائه المختصة به، والرحيم اسم من أسمائه التي سمى بها نفسه في كتابه، إلا أن الدعاء بـ "يا رحمن يا رحيم" غير بين، لما ذكرناه من أنهما من أسمائه التي قد أجمعت الأمة على تسميته بها لتسمية الله عز وجهه نفسه بها في كتابه العزيز.
و"اللهم" بمنزلة "الله"؛ لأن الميم زيدت في اسم الله عوض "يا" النداء المحذوفة من أوله تعظيما له بذلك، وقد جاء القرآن بذلك، قال الله عز(17/422)
وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الآية، وقال: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114] ، وقال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] ، وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ} [الزمر: 46] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وكان من دعائه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد ... » الحديث. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت
» الحديث، والسنن في هذا أكثر من أن تحصى، ولذا استحب مالك "اللهم" في الدعاء، وإنما كره مالك الدعاء بـ "يا سيدي ويا حنان" وبما أشبه ذلك من الأسماء لاختلاف أهل العلم في جواز تسميته بها، إذ لم ترد في القرآن ولا في السنن المتواترة، ولا أجمعت الأمة على جواز تسميته بها.
وأما الدعاء بـ "يا منان" فلا كراهية فيه؛ لأنه من أسماء الله القائمة من القرآن، قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثالث من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.(17/423)
[فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
فيما يحكى من فضائل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: كان عمر بن الخطاب لا يفرض لصبي حتى يعظم، فمر من الليل وصبي يبكي، فقال لأمه: أرضعيه، فقالت: لا يفرض له عمر، ففرض عمر بعد ذلك للمولود مائة درهم في السنة.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في كتاب الزكاة الثاني من المدونة، فزاد فيها: فولى عمر وهو يقول: كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض للمنفوش من ذلك اليوم مائة درهم. وقوله في هذه الرواية: في السنة - تتميم لما وقع في المدونة، وفي هذا إشفاق عمر بن الخطاب للمسلمين وحنوه عليهم لعلمه أنه مسئول عنهم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم» ، وقد قال عمر بن الخطاب إيمانا بهذا الحديث وتصديقا له: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه، وبالله تعالى التوفيق.
[يوم بدر وفتح مكة كان كل واحد منهما في يوم سبعة عشر من رمضان]
في أن يوم بدر وفتح مكة كان كل واحد منهما في يوم سبعة عشر من رمضان
قال مالك: فتحت مكة في سبعة عشر يوما من رمضان، وكان يوم بدر في سبعة عشر يوما من رمضان، كانا جميعا في رمضان.
قال محمد بن رشد: فيما أخبر به مالك من هذا ما يدل على أن المعرفة بسير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وغزواته وبعوثاته وأحواله إلى حين وفاته من(17/424)
العلم الشريف الذي يحظى به صاحبه ويغبط فيه ويحمد عليه، فكانت بدر وهي أعظم المشاهد وأكثرها فضلا لمن شهدها؛ لأن الله أعز بها الدين ونصر فيها المسلمين، وأمدهم بالملائكة المسومين، وأذل بها المشركين في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هاجر إلى المدينة فقدمها في ربيع الأول يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، فأقام بها إلى أن دخلت السنة الثانية.
ففي السنة الثانية في صدر صفر منها كانت غزوة ودان، ويقال لها غزوة الأبواء، وهي أول غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خرج فوادع بني ضمرة بن عبد مناة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو ثم رجع ولم يلق كيدا.
وفيها بعث حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد إلى سيف البحر من ناحية العيص فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من كفار أهل مكة فحجر بينهم مجدي بن عمرو الجهني وتوادع الفريقان، فلم يكن بينهم قتال.
وفيها بعث عبيدة بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فنهض حتى بلغ ابني وهي ماء بأسفل ثنية المرة من الحجاز، فلقي بها جمعا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص كان في ذلك البعث، فرمى فيه بسهم، فكان أول سهم رمى به في سبيل الله، واختلف أهل السير في هذين البعثين أيهما كان قبل صاحبه.(17/425)
وفيها كانت غزوة بواط، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة العشيرة، خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسار حتى بلغ العشيرة فوادع فيها بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بدر الأولى، أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ سفوان في ناحية بدر، وفاته كرز فرجع إلى المدينة.
وفيها كان بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، قيل في طلب كرز بن جابر فبلغ الحرار ثم رجع.
وفيها بعث عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين، منهم واقد بن عبد الله التميمي وعتبة بن غزوان، وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولا يكره أحدا من أصحابه، ففعل ما أمره به، فلما فتح الكتاب وجد فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها وتعلم لنا أخبارهم، فلما قرأ الكتاب قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه أنه لا يكره أحدا منهم، وأنه يمضي بمن أطاعه منهم أو وحده إن لم يطعه منهم أحد، وقال: من أحب الشهادة منكم فلينهض معي، ومن كره الموت فليرجع، فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب، وما منا أحد إلا سامع مطيع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهضوا حتى نزلوا بنخلة فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة من الشام، فيها عمرو ابن الحضرمي، وعبد الله ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة المخزوميان، وكان ذلك في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فتشاوروا في ذلك، وقالوا: إن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة(17/426)
الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم، ثم اتفقوا على لقائهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي منهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله، فقدموا بالعير والأسرى، وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش في ذلك ورضياه وسناه للأمة إلى يوم القيامة، فكانت هذه أول غنيمة في الإسلام وأول أسير أسر فيه، وعمر بن الحضرمي أول قتيل قتل فيه، وأنكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتله في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] الآيات إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] ، فأخبر الله تعالى أن القتال في الشهر الحرام كبير، وأن الكفر بالله والصد عن سبيله وإخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام أكبر عند الله من ذلك، وذلك أن المشركين عيروا أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالقتل في الشهر الحرام، فأخبر الله عز وجل أن الذي هم عليه من الكفر أشد وأكبر من القتل في الشهر الحرام، ثم أثنى على أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ} [الأنفال: 72] إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] فدل ذلك على أنه قد غفر لهم.
وقد قيل: إن قتلهم لعمرو بن الحضرمي وقتالهم إنما كان في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى، وغمد المسلمون سيوفهم حتى دخل رجب، فالله(17/427)
أعلم، وقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفداء في الأسيرين، فأما عثمان ابن عبد الله فمات بمكة كافرا وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى استشهد ببئر معونة، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين.
وفيها صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.
ولما دخل رمضان منها اتصل بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن عيرا لقريش عظيمة فيها أموال لهم كثيرة مقبلة من الشام إلى مكة معها ثلاثة وأربعون رجلا من قريش رئيسهم أبو سفيان بن حرب، فندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين إلى تلك العير، وأمر من كان ظهره حاضرا بالخروج، ولم يحتفل لأنه أراد العير، ولم يعلم أنه يلقى حربا، فاتصل بأبي سفيان خروج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأرسل إلى أهل مكة مستصرخا لهم إلى نصر عيرهم، فخرج أكثر أهل مكة ولم يتخلف من أشرافهم إلا القليل، ولما أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير، أخبر أصحابه بذلك واستشارهم فيما يعملون، فتكلم كثير من المهاجرين وتمادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، لو استعرضت هذا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله حيث شئت. فسر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله، وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفين. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء بدر، فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ قال: لا، إلا أن راكبين أناخا إلى هذا التل واستقيا الماء ونهضا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع سريعا حذرا، فصرف العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجا، وأوصى إلى قريش يخبرهم بأنه قد نجا هو والعير فارجعوا، فأتى أبو جهل، وقال: والله لا نرجع أو نرد ماء بدر ونقيم عليه ثلاثا فتهابنا العرب أبدا وسبق رسول الله(17/428)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشا إلى ماء بدر، ومنع قريشا من السبق إليه مطر أنزله الله عليهم عظيم لم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهش الوادي، وأعانهم على المسير، ومشى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رءوس الكفار من قريش مصرعا مصرعا، يقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، فما عدا واحد منهم مصرعه ذلك الذي حده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانت الوقعة ببدر يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان السنة الثانية من الهجرة.
وفيها كانت غزوة بني سليم، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقم بالمدينة بعد منصرفه عن بدر إلا سبعة أيام، ثم خرج بنفسه يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة السويق، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف قبل بدر ندب إلى أن يغزو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة فحرق أصوارا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحليفا له وجدهما في حرث لهما، ثم كر راجعا فنفر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون في إثره وبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون بذلك، فأخذه المسلمون فسميت غزوة السويق.
[متى وقعت غزوة ذي أمر]
وفي السنة الثالثة كانت غزوة ذي أمر في صفر، غزا رسول الله صلى(17/429)
الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان، فأقام - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنجد صفرا كله، ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بحران في ربيع الأول، ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ربيعا الأول، ثم غزا قريشا فبلغ بحران معدنا بالحجاز فأقام هنالك ربيعا الآخر وجمادى الأولى، ثم انصرف إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بني قنينقاع، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لما قدم المدينة وادعته اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا، وألحق كل قوم بلحقائهم وشرط عليهم فيما اشترط ألا يظاهروا عليه أحدا، فنقض بنو قنينقاع من اليهود عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إليهم وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول، ورغب في حقن دمائهم وألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأسعفه فيهم، وحقن دماءهم، وهم قوم عبد الله بن سلام، وكان حصاره لهم خمس عشرة ليلة.
وفيها كان البعث إلى كعب بن الأشرف، وذلك أنه لما اتصل به قتل صناديد قريش ببدر، قال: بطن الأرض خير من ظاهرها، ونهض إلى مكة فجعل يرثي كفار قريش ويحرض على قتال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وكان شاعرا، ثم انصرف إلى موضعه، فلم يزل يؤذي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجو والدعاء إلى خلافه ويسب المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟ "، فقال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله، قال: " فافعل إن قدرت على ذلك» ، فكان من خروجه إليه وتلطفه في قتله بما أذن له فيه(17/430)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القول ما هو مذكور في السير.
وفيها كانت غزوة أحد، وذلك أن كفار قريش غزته في شوال منها، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن، وقصدوا المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، وأشار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أصحابه ألا يخرجوا إليهم، وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منهم قوتلوا على أفواه الأزقة، ووافق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الرأي عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبى كبراء الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله منهم من شاء بالشهادة، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزيمتهم دخل بيته فلبس لأمته وخرج، وذلك يوم الجمعة، وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج، وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» ، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ألف من أصحابه نحو أحد، وانصرف عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس مغاضبا إذ خولف رأيه، حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الخيل، فجعل ظهره إلى أحد وبنى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وتعبأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقتال وهو في سبعمائة، فيهم خمسون فارسا، وكان رماة المسلمين خمسين، وقيل: إن المشركين كانوا في ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس، وظاهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بين درعين، وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش واستمرت الهزيمة عليهم،(17/431)
فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى، وقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبهم خلف الجيش لئلا يأتي العدو من ورائهم، فذكرهم أميرهم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهم ألا يزولوا فلم يلتفتوا إلى قوله، وقالوا: قد انهزموا، ثم كر المشركون فتولى المسلمون وثبت منهم من أكرمه الله بالشهادة، وجرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة رأسه وأكبت الحجارة عليه حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنبه فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام ونشبت حلقتان من درع المغفر في وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح بثنيتيه فسقطتا فكان أهتم يزينه هتمه، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جازى به نبيا من أنبيائه عن صبره، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعينه على وجنته فردها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده وغمزها، فكانت أحسن عينيه وأصحهما، وأدرك أبي بن خلف يومئذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتناول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحربة من الحارث ابن الصمة ثم طعنه في عنقه فكر منهزما، فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو بصق علي لقتلني، أليس قد قال: بل أنا أقتله، وقد كان أوعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقتل بمكة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فمات عدو الله من ضربة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له سوق، وكان خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشية الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، والوقيعة يوم السبت للنصف منه، وكان على ميمنته علي بن أبي طالب، وعلى(17/432)
الميسرة المنذر بن عمرو، وعلى الرجالة الزبير بن العوام، ويقال المقداد، وعلى الرماة عبيد الله بن جبير ومعه سعد بن مالك. وسائر ما جرى في هذه الغزوة ومن استشهد فيها من المهاجرين والأنصار، وقتل فيها من الكفار - قد ذكره أصحاب السير.
وفي اليوم الثاني من هذه الوقعة كانت غزوة حمراء الأسود، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باتباع العدو، فخرج بالناس إلى موضع يدعى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، فأقام به يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة، ولما بلغ العدو خروجه في اتباعهم فت ذلك في أعضادهم وقد كانوا هموا بالرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه عن ذلك وتمادوا إلى مكة.
وفي رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة.
وفي شعبان منها تزوج حفصة.
وفيها تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وفيها ولد الحسن بن علي بن أبي طالب.
[أحداث آخر السنة الثالثة من هجرة النبي عليه السلام]
وفي السنة الرابعة في صفر منها وهو آخر السنة الثالثة من هجرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفر من عضل والقارة، فذكروا له أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين، فبعث(17/433)
معهم ستة رجال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن بكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة بن عبيد، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو بالهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا والرجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف، فأخذوا سيوفهم ليقاتلوهم فأمنوهم، فأبى مرثد بن أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير أن يقبلوا منهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وكان عاصم منهم قد قتل يوم أحد فتيين أخوين، من بني عبد الدار فنذرت أمهما سلافة بنت سعد بن شهيد إن الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلامة، فأرسل الله عز وجل دونه الدبر فحمته عنهم، فقالوا: إذا كان الليل فسيذهب الدبر، فبعث الله في الليل سيلا لم ير مثله فذهب به فلم يقدروا عليه، وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فألقوا بأيديهم فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة، فلما ساروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه وتأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فباعوهما بمكة فصلب خبيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالتنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب:(17/434)
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
في أبيات له، وهو أول من سن الركعتين عند القتل.
وقال له أبو سفيان بن حرب: أيسرك يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة نضرب عنقه وأنك سالم في أهلك؟ ... والله ما يسرني أني في أهلي وأن تصيب محمدا شوكة تؤذيه. وابتاع صفوان بن أمية زيد بن الدثنة فقتله بأبيه.
وفي هذه السنة في شهر صفر منها أيضا كان بعث بئر معونة، وكان سببه أن أبا براء الكلابي من بني كلاب، ويعرف بملاعب الأسنة واسمه «عامر بن مالك قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إني أخشى عليهم أهل نجد "، فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنذر بن عمرو الساعدي» وهو الذي يعرف بالمعنق ليموت لقب غلب عليه، والأكثرون يقولون أعنق ليموت في أربعين رجلا، وقيل: في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم شباب من الأنصار كانوا يسمون القراء، كانوا يتنحون ناحية من المدينة يحسب أهلوهم أنهم في المسجد،(17/435)
ويحسب أهل المسجد أنهم في أهليهم، فيصلون من الليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واعتذبوا الماء فوضعوه على أبواب حجر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأمر على جميعهم المنذر بن عمرو، فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة من أرض بني عامر وحرة بني سليم ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عدو الله عامر ابن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لا نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا حتى قتلوا من آخرهم إلا كعب بن زيد منهم، فإنهم تركوه وبه رمق فأرتت من بين القتلى وعاش حتى قتل في الخندق شهيدا وكان في سرحهم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار، فلما رجعا لينظرا حال قومهم وقد شعروا بأمرهم إذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو ابن أمية: ما ترى؟ فقال: أرى أن تلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنت لأرغب عن موضع قتل فيه المنذر بن عمرو، فقاتل حتى قتل، وأسر عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن قتل في طريقه(17/436)
رجلين كانا نزلا معه في ظل من بني عامر أو من بني سليم، وقد كان لهما من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عهد وجوار لم يعلم به، وظن أنه قد أصاب منهما ثارة من بني عامر فيما أصابوه من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أخبر بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لقد قتلت رجلين كان لهما مني جوار، لأدينهما» ، هذا عمل أبي براء، وقد كنت لهذا كارها، وبلغ أبا براء ما فعل عامر ابن الطفيل، فشق عليه إخفاره إياه.
ولحسان بن ثابت في ذلك شعر يحرض فيه بني أبي براء على عامر بن الطفيل.
وفيها في شهر ربيع الأول منها كانت غزوة بني النضير، غزاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحصنوا منه، فحاصرهم ست ليال وأمر بقطع النخل وإحراقها فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام.
وممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أموالهم بين المهاجرين إلا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف لفقرهما، والحارث بن الصمة، وقد مضى في رسم نذر سنة، المعنى الذي من أجله خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، ونزلت سورة الحشر في بني النضير قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2](17/437)
إلى قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17] فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى الشام، ولذلك قيل للشام أرض المحشر، وفي الحديث: «تجيء نار من قعر عدن تحشر الناس إلى الشام تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا» .
وكان سبب غزوة بني النضير أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قال لعمرو بن أمية: لقد قتلت قتيلين لأدينهما خرج بنفسه إلى بني النضير مستعينا بهم في ذلك، وكانت بينه وبينهم موادعة، فتوامروا على قتله، وهموا أن يلقوا عليه صخرة في مكانه الذي كان فيه جالسا عندهم، فأعلمه الله بذلك، فخرج عنهم ولم يشعر أحد ممن معه، ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقد لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقام أصحابه ولحقوا به، فأخبرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أوحى الله إليه مما أرادت اليهود فعله، وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالتهيؤ لقتالهم وحربهم، وخرج إليهم.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع، في جمادى الأولى منها خرج لخمس خلون من الشهر يريد بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان حتى نزل نخلة، فلقي بها جمعا من غطفان، وتقارب الناس ولم يكن بينهم قتال، وصلى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، ثم انصرف، وإنما سميت ذات الرقاع؛ لأن أقدامهم(17/438)
نقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها، وقيل: ذات الرفاع شجرة بذلك الموضع تدعى بذات الرقاع، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حفرة وصفرة وسواد، فسموا غزوتهم ذات الرقاع لذلك، فالله أعلم، وبه التوفيق.
وفيها كانت غزوة بدر الثانية في شعبان منها، وذلك أن أبا سفيان كان نادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يجيبه بنعم، فخرج للميعاد المذكور، ونهض حتى أتى بدرا، فأقام هنالك ثماني ليال ينتظر أبا سفيان بن حرب، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثم رجع واعتذر هو وأصحابه بأن العام كان عام جدب.
وفي هذه السنة بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق.
[متى وقعت غزوة دومة الجندل]
وفي السنة الخامسة كانت غزوة دومة الجندل، في ربيع الأول منها خرج إلى دومة الجندل، وانصرف من طريقه قبل أن يبلغ إليها، ولم يلق حربا.(17/439)
وفي شوال منها كانت غزوة الخندق وكان سببها أن اليهود اجتمعوا وألبوا وخرجوا إلى مكة فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إليهم، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون وهم الذين حزبوا الأحزاب إلى غطفان، فدعوهم إلى ذلك فأجابوهم، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن في فزارة والحارث بن عوف المري في بني مرة، ومسعود بن رخيلة الأشجعي في أشجع، فلما سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ضرب الخندق على المدينة، فأقبلت قريش ومن معها من هذه القبائل في نحو عشرة آلاف، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف، وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، فأقام بضعا وعشرين يوما، فلم يكن بينهم حرب إلا رمي بالنبل، وخرج عمرو بن عبد ود في أصحاب له، فدعا إلى المبارزة، فخرج علي فقتله، وهرب أصحابه واقتحموا الثغرة التي كانوا أجازوا الخندق فيها فرجعوا، وقتل من المسلمين يوم الخندق ستة نفر، منهم سعد بن معاذ أصابه سهم فمات بعد قريظة، وانصرفت الأحزاب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكفى الله المؤمنين القتال.
وكان سبب ذلك أن نعيم بن مسعود قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم وقال: مرني بما شئت وما عسى أن تفعل وأنت رجل واحد، فلو ذهبت فخذلت بين القوم فإن(17/440)
الحرب خدعة، فذهب فخذل بين قريش وبين بني قريظة، فاختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا شديدة عاصفة في ليال باردة لم يبق لهم بناء إلا قلبته، ولا قدر إلا كفأته، وكان في حفر الخندق آيات بينات، وعلامات النبوءة مذكورة عند أهل السير والآثار.
وفي هذه السنة كانت غزوة بني قريظة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أصبح وقد ذهبت الأحزاب ورجع إلى المدينة ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة. فقال لهم: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم ومزلزل بهم، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان سامعا مطيعا فلا يصل العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري، فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالهم: حيي بن أخطب وكعب بن أسد ستمائة أو سبعمائة، استنزلهم ثم قتلهم بالمدينة، واصطفى من نسائهم عمرة بنت قحافة، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة وهي نباتة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتله. وروي عن عائشة أنها قالت: إن كانت لعندي تضحك وتحدث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل رجالهم؛ إذ هتف هاتف: أين فلانة؟ قالت: أنا والله مقتولة، قلت: ويلك لم؟ قالت: لحدث أحدثته، فانطلق بها فضربت عنقها.(17/441)
ولما انقضى شأن الخندق وقريظة تذاكرت الخزرج من في العداوة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كابن الأشرف الذي قتله محمد بن مسلمة، حتى لا تنفرد الأوس دوننا بمثل تلك المنقبة، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتله، فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنس، ومسعود بن سنان، وأبو قتادة بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم، وطرقوه في بيته بخيبر ليلا فقتلوه، وقدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: أفلح وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «قال: أقتلتموه؟ قالوا: نعم، قال: ناولوني السيف، فسله فقال: أجل، هذا طعامه في ذباب السيف» .
وروي أنهم تداعوا في قتله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هاتوا أسيافكم» ، فأروه إياها، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن سيف عند عبد الله بن أنس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» ، وقد كانوا لما تعاوروه بأسيافهم صاحت امرأته، فخرج أهل الآطام وأوقدوا النيران، فخرجوا وهم لا يوقنون بموته، فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأته تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم قلت: أنى بابن عتيك بهذه البلاد، قال: ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاض وإله يهود.(17/442)
[غزوة بني لحيان]
وفي السنة السادسة كانت غزوة بني لحيان، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شهر جمادى الأولى منها إلى بني لحيان مطالبا بثأر عاصم ابن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فتمادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مائتي راكب حتى نزل عسفان وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قافلا إلى المدينة.
وفي هذه الغزوة قالت الأنصار: إن المدينة خالية منا وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدونا أن يخالفنا إليها فأخبرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله تعالى عز وجل.
وفي هذه السنة كانت غزوة ذي قرد، ولما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليالي، وأغار على سرح المدينة عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاقتسموا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/443)
وسلم بالغابة وناقته العضبا، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من أنذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا على ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح وأنذر المسلمين ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء عظيما ورماهم بالنبل حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت الصحية بالمدينة، وجاء الناس إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وأول من جاء منهم المقداد بن الأسود، ثم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس لأبي طلحة، وقال: إن وجدته لبحرا وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يقال له ذو قرد، فأقام على ذلك الماء يوما وليلة، ولما قام القوم يوما وليلة قامت امرأة الغفاري المقتول، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضبا، فإذا ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن أنجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت ناقة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبر بذلك، فأرسل إليها فجيء بها والمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بئس ما جزيتها، لا وفاء في نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم» ، وأخذ ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(17/444)
وفي شعبان من هذه السنة غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني المصطلق، وأغار عليهم وهم غازون على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد بما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى النساء والذرية، وقد قيل: إنهم جمعوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع، فاقتتلوا فهزمهم الله، والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون.
ومن ذلك السبي كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فأدى عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابتها وأعتقها وتزوجها، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، ما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وأعتقوا كل ما في أيديهم من سبي المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسلم سائر بني المصطلق.
وفي هذه الغزاة قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وَبَلَّغَ زيدُ بن أرقم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالة عبد الله بن أبي ابن سلول، فأنكرها ابن أبي، فأنزل الله عز وجل سورة المنافقين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزيد بن أرقم: «وفت أذنك يا(17/445)
غلام» وأخذ بأذنه، وتبرأ عبد الله بن عبد الله بن أبي من فعل أبيه، وأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أنت والله العزيز، وهو الذليل، أو قال: أنت الأعز وهو الأذل وإن شئت لتخرجنه من المدينة.
وقال سعد بن عبادة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا رجل يحمله حسده على النفاق فدعه إلى عمله، فقد كاد قومه على أن يتوجوه بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان فكله إلى ربه.
وقال عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله بلغني أنك تريد من قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك فمرني بقتله فوالله لئن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإني أخشى إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب فأقتل مسلما فأدخل النار وقد علمت الأنصار أني أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيرا، ودعا له، وقال: «بر أباك ولا يرى منك إلا خيرا» .
وفي هذه الغزاة، قال أهل الإفك في عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها.
وقد قيل في هذه الغزاة: إنها كانت قبل الخندق وقريظة، والصواب أنها كانت بعدها، ثم بعث رسول الله صلى الله(17/446)
عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر من عامين - الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه ففزع منهم وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة وهموا بقتله، فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينا هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين، فأكذبه الوليد بن عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] يعني الوليد بن عقبة، {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] .
وفي هذا العام كانت غزوة الحديبية، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة منها معتمرا واستنفر الأعراب الذين حول المدينة، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب وجميعهم نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي. وأحرم بعمرة ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشا خرج جميعهم صادين له عن المسجد الحرام ودخول مكة، وأنه إن قاتلهم قاتلوه دون ذلك، وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد الخبر بذلك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بعسفان فسلك طريقا يخرج وراء ظهورهم فخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، ولما وصل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحديبية بركت ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الناس: خلأت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما خلأت ولا هو لها بخلق،(17/447)
ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني اليوم قريش إلى خطة يسألوني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها» ، ونزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هناك، وجرت السفراء بينه وبين كفار قريش، وطال التراجع بينهم إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عامه ذلك، فإذا كان من العام المقبل أتى معتمرا، ودخل مكة بلا سلاح إلا السيوف في قرابها، فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل الناس فيها ويأمن بعضهم بعضا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما رد إليهم، ومن جاء من المسلمين إليهم مرتدا لم يرد إليهم، فشق ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصبروا فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه» ، فأنس الناس إلى قوله واطمأنت له نفوسهم وأبى سهيل بن عمرو أن يكتب في كتاب الصلح بذلك محمد رسول الله، وقال: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، وقد كان علي بن أبي طالب كاتبه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «امحه، فقال: والله لا أمحو اسمك، فقال: أرني إياه، فأراه فمحاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكتب محمد بن عبد الله» وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بعث عثمان بن عفان قبل الصلح إلى مكة رسولا، فأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين إلى المبايعة على قتال أهل مكة، قيل: على الموت، وقيل: على أن لا يفروا، وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة التي قال الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ،(17/448)
إلى قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] يريد فتح مكة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] يريد ما غنموا بخيبر، وضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيمينه على شماله لعثمان، فهو من أهل بيعة الرضوان، وكان قد جاء من قريش نحو السبعين أو الثمانين للإيقاع بالمسلمين وانتهاز الفرصة في أطرافهم، والسفراء يمشون بينهم في الصلح، ففطن لهم المسلمين فخرجوا إليهم فأسروهم، وجاءوا بهم إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأطلقهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهم الذين يسمون العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون.
ولما كمل الصلح بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين، فنحروا وحلقوا، وقد كانوا توقفوا عن النحر والحلق إذ أمرهم به، فلما رأوه قد نحر وحلق تتابعوا في ذلك وتسابقوا إليه، ودعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة.
ولما رجع إلى المدينة رد بالشرط من جاء من الرجال مسلما، وأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلى آخر السورة، فلم يرد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جاء من النساء مسلمات، وقد بينا في أول سماع ابن القاسم من كتاب التجارة إلى أرض الحرب هذا المعنى بيانا شافيا، وبالله تعالى التوفيق.(17/449)
[أحداث السنة السابعة من الهجرة]
وفي السنة السابعة
كانت غزوة خيبر، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة، وخرج في المحرم إلى خيبر، وافتتحها في صفر، ورجع في غرة ربيع الأول، وكانت حصونا كثيرة، فافتتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ابن أبي الحقيق، ومن سباياه كانت صفية بنت حيي بن أخطب، كانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أصابها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابني عم لها، فقيل: إنه أعطاها لدحية بن خليفة الكلبي ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس، وقيل: إنه كان سأله إياها، فلما اصطفاها لنفسه أعطاها ابني عمها وجعلها عند أم سليم حتى اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، فمن أهل العلم من جعل ذلك خصوصا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك خصوصا للنبي سنة لمن شاء من أمته، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح.
ولما وقف إلى بعض حصونهم امتنع عليه فتحه ولقوا فيه شدة، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه"، فلما أصبح دعا عليا وهو رمد فتفل في عينيه، ثم قال: "خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله على يديك» فلما دنا من الحصن خرج أهله إليه فقاتلهم فضربه رجل من اليهود، فألقى ترسه من يده فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يديه وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، قال ابن رافع مولى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - راوي(17/450)
الحديث: فلقد رأيتني في نفر معي سبعة وأنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم، حاصرهم بضع عشرة ليلة، فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسيرهم ويحقن دماءهم ففعل، فقيل في هذين الحصنين: إنهما افتتحا بصلح فلم يكن فيهما خمس، ولا كان لأحد فيها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، فقطع منها لأزواجه، وكذلك الكتيبة، قيل فيها: إنها كانت صلحا صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبني النضير وفدك، وقيل: إنها كانت عنوة كلها، وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، فقال: الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر كلها، وقسمها بين من شهد الغزاة، وهم أهل الحديبية؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليهم المسلمون كسائر أرض خيبر، وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال، وقد مضى القول في قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرض خيبر، وفي حكم الأرض المفتتحة عنوة عند العلماء، واختلافهم في ذلك مستوفى في سماع أشهب من كتاب الجهاد.
ولما افتتحت خيبر ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها أقر اليهود فيها على العمل في النخل والأرض، وقال لهم: «أقركم ما أقركم الله» ، ثم أذن الله له في مرضه الذي توفي فيه بإخراجهم، فقال: «لا يبقين دينان بأرض العرب» ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض الحجاز» ، ولم يكن(17/451)
بقي بها يومئذ مشرك وثني ولا بأرض اليمن أيضا إلا أسلم في سنة تسع وسنة عشر، فلما بلغ عمر بن الخطاب في خلافته قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض العرب» أجلاهم منها، وأخذ المسلمون سهامهم من خيبر فتصرفوا فيها تصرف المالكين.
وفي غزاة خيبر هذه حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية.
وفيها أهدت اليهودية زينب بنت سالم بن مشكم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشاة المصلية وسمت له منها الذراع، وكان أحب اللحم إليه، فلما تناول الذراع لفظها ورمى بها وقال: هذا العظم يخبرني أنه مسموم ودعا باليهودية، فقال: ما حملك على هذا؟ فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك، فلم يقتلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكل معه من الشاة بشر بن البراء بن مغرور فمات من أكلته تلك.
وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل ومائتي فارس.
وفي هذه السنة كان فتح فدك، وذلك أنه لما اتصل بأهلها ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأهل خيبر بعثوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك، فكانت فدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب مما أفاء الله عليه بما نصره من الرعب به فلم يقسمها(17/452)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضعها حيث أمره الله عز وجل.
قال ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب: كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صفايا بني النضير وخيبر وفدك.
وفي هذه السنة أيضا كان فتح وادي القرى، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من خيبر إليها فافتتحها عنوة وقسمها وأصيب بها غلام له أسود يسمى مرغم أصابه سهم غرب فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كلا إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» .
وفي هذه السنة أيضا كانت عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من خيبر إلى المدينة، فأقام بها شهر ربيع وشهر جمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال.
وبعث في خلال ذلك السرايا.
من ذلك غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي وسعد الله ومن يليهم قضاعة فخاف(17/453)
عمرو بن العاص من ناحية الذي هو به، فبعث إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمده، فندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهاجرين الأولين، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر في سراة من المهاجرين وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجرح، فأمد بهم عمرو بن العاص، فلما قدموا على عمرو، قال: أنا أميركم، وإنما أرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستمده فأمدني بكم، قال المهاجرون: بل إنما أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددت بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان رجلا حسن الخلق لين الشكيمة متبعا لأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهده، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إِلَيَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك والله لئن عصيتني لأطيعنك، فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص.
ثم خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة قاصدا إلى مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، فلما اتصل ذلك بقريش خرج أكابرهم من مكة عداوة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وأتم الله له عمرته، وقعد بعض المشركين بقيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل ليروا المشركين أن بهم جلدا وقوة، وكان المشركون قالوا في(17/454)
المهاجرين قد وهنهم حمى يثرب.
وتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، قيل: قبل أن يحرم بعمرته، وقيل: وهو محرم بها، وقيل: بعد أن حل منها، فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه أن يبني بها، فخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنى بها في سرف.
[أحداث السنة الثامنة من الهجرة]
في السنة الثامنة
كانت غزوة مؤتة، بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جمادى الأولى منها بعث الأمراء إلى الشام وأمر على الجيش زيد بن حارثة مولاه، وقال: إن قتل، أو قال: إن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وودعهم، ثم انصرف، ونهضوا، فلما بلغوا مغار من أرض الشام أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم نزل في ناحية البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة، فأقام المسلمون في معان، وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخبره بعدد عدونا فيأمرنا بأمره أو يمدنا، فقال لهم عبد الله بن رواحة: يا قوم إن التي تطلبون قد أدركتموها، يعني الشهادة، وما يقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله(17/455)
به، فانطلقوا فهي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فوافقه الجيش كله على هذا الرأي، ونهضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقوا الجموع التي ذكرنا كلها مع هرقل، إلى جنب قرية يقال لها مشارف. وصار المسلمون في قرية يقال لها مؤتة، فجعل المسلمون على ميمنتهم قطنة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري، وقيل: عبادة بن مالك، واقتتلوا، فقتل الأمير الأول زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح مقبلا غير مدبر، والراية في يده، فأخذها جعفر بن أبي طالب ونزل عن فرس له شقراء، وقيل: إنه عرقبها وعقرها، فقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت، فاحتضن الراية، فقتل وهو كذلك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسنه ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتردد عن النزول بعض التردد ثم صمم فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بن أقوم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: لا، فدفع الراية إلى خالد بن الوليد، وقال: أنت أعلم بالقتال مني، فأخذها خالد بن الوليد، وانحاز بالمسلمين، وأنذر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالمدينة يخبرهم في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بيومين.
وفي هذه السنة كانت غزوة فتح مكة، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجب،(17/456)
ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض العهد لقريش المعقود يوم الحديبية، وذلك أن خزاعة كانت في عقد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنها وكافرها، وكانت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بن عبد مناة على قوم من خزاعة خرج نوفل بن معاوية فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى بيتت خزاعة ونالت منهم، واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم منهم بأنفسهم مستخفين بذلك، فانهزمت خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل ابن معاوية لنوفل: يا نوفل اتق إلهك ولا تستحل الحرم ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له منبه، ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل ابن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع، فكان ذلك نقضا للصلح، فقدم بديل بن ورقاء وقوم من خزاعة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر بن عبد مناة وقريش، فأجابهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى نصرهم، وقال: «لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب» ، ثم نظر إلى سحابة، فقال: «إنها لتستهل بنصر بني كعب» يعني خزاعة، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبديل بن ورقاء ومن معه: «إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدة الصلح وينصرف بغير حاجة» ، وقدمت قريش على ما فعلت، فقدم أبو سفيان المدينة ليشد العقد ويزيد في المدة، ثم أتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المسجد وكلمه فلم يجبه، فسعى في أن يستشفع إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما قدم له بابنته أم المؤمنين أو أبى بكر أو بعمر بن الخطاب، فلم يجبه أحد منهم إلى ذلك، وقال له عمر: أنا أفعل ذلك؟(17/457)
والله لو لم أجد إلا الدرة لجاهدتكم بها، وقال له علي بن أبي طالب هازلا به: أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر على الناس والحق بأرضك، فقال له: يا أبا الحسن، أترى ذلك نافعي أو مغنيا عني؟ قال: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت على الناس، ثم ركب وانطلق راجعا إلى مكة، فلما قدمها أخبر قريشا بما لقي وبما فعل، فقالوا له: ما جئت بشيء وما زادك علي بن أبي طالب على أن لعب بك، ثم أعلن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسير إلى مكة وخرج في عشرة آلاف، وكان خروجه لعشر خلون من رمضان، وقد أخفى الله خبرهم عن قريش، فخرج أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام يتحسسون الأخبار، وقد كان العباس بن عبد المطلب هاجر مسلما تلك الأيام، فلقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة، وانصرف مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غازيا، فهو من المهاجرين قبل الفتح، ولما نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجيوش مر الظهران رقت نفس العباس لقريش وأسف على ذهابها وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونهض حتى أتى الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا واحدا يأتي مكة، فلينذرهم، فبينما هو يمشي إذ هو سمع صوت أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، وهما يتساءلان، وقد رأيا نيران عسكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما سمع العباس كلامه ناداه،: أبا حنظلة، فميز أبو سفيان كلامه فناداه: أبا الفضل، فقال: نعم، فقال: فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس،(17/458)
واصباح قريش، فقال أبو سفيان: فما الحيلة؟ قال: والله إن ظهر بك ليقتلنك، فارتدف خلفي وانهض معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فارتدفه العباس على بغلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمسك ومر على نار عمر، فميزه، فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسبقه العباس فدخل ودخل عمر على إثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي فيه أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله قد أمنته وأجرته فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أصبح أتى به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله» ، فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وما أكرمك وما أوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني، قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه ففي النفس منها شيء حتى الآن، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يفخر به، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» ، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة إلا من استثنى وهم عبد الله العذوي بن خطل، وعبد الله بن(17/459)
سعد بن أبي سرح وعكرمة بن أبي جهل والحويرث بن نقير بن وهب ومقيس بن صبابة وقينتا ابن خطل فرتنا وصاحبتها كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب والأسباب التي من أجلها استثناها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مذكورة في السير.
ولذلك قال جماعة من أهل العلم منهم الشافعي: إن مكة مؤتمنة ليست عنوة، والأمان كالصلح، ورأى أن أهلها مالكون رباعهم يجوز لهم كراؤها وبيعها وشراؤها؛ لأن من أمن قد حرم ماله ودمه، فمكة مؤمنة عند من قال بهذا القول إلا الذين استثناهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة.
وأكثر أهل العلم يرون فتح مكة عنوة لأنها أوجف عليها بالخيل والركاب، إلا أنها مخصوصة بأن لم يجر فيها قسم ولا غنيمة ولا سبي من أهلها أحد.
وخصت بذلك لما عظم الله من حرمتها.
ومنهم من يرى أنها إنما خصت بأن لا يسبى أهلها، وأما دورها فمغنومة لا يجوز بيعها ولا كراؤها.
والأصح أنها بلدة مؤمنة أمن أهلها على أنفسهم فكانت(17/460)
أموالهم تبعا لهم، ألا ترى إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مكة حرام محرم لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» ، ولا خلاف أنه لم يكن فيها غنيمة، فالإجماع على ذلك يقضي بصحة قول من أجاز بيع دورها وكراءها، إذ لا فرق بين الأموال والرباع.
وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يوقف أبو سفيان بخطم الوادي ليرى جيوش الله تعالى، ففعل العباس ذلك وأراه القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء مركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المهاجرين والأنصار كلهم في الدروع والبيض، فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المهاجرين والأنصار، فقال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوءة، قال: نعم إذا تم، قال له العباس: يا أبا سفيان النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان فأتى مكة فعرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دخل داره أو المسجد ودار أبي سفيان ... قوم ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرتب الجيوش، وجعل الزبير على الميمنة وخالد بن الوليد على الميسرة، وأمر الزبير بالدخول من كداء في أعلى مكة، والوليد ابن الليط أسفل مكة، وجعل الراية بيد سعد بن عبادة، فكان من قوله: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فقال له العباس: يا رسول الله(17/461)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، إن سعد بن عبادة قال كذا وكذا، إنه حنق على قريش، ولا بد أن يستأصلهم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنزع الراية من يد سعد بن عبادة، وتدفع إلى علي، وقيل: بل إلى الزبير، وقيل: بل إلى ابنه قيس بن سعد لئلا يجد في نفسه سعد شيئا، وأمرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتال من قاتلهم، وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وقد جمعوا جمعا بالحندمة ليقاتلوا فناوشهم أصحاب خالد، فأصيب من المسلمين رجلان، ومن المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن مكة افتتحت عنوة؛ إذ هذا هو حكم العنوة.
ولما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة طاف بالكعبة وأخذ مفتاحها من عثمان بن طلحة، فدخلها وصلى فيها، ثم خرج ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة وأبقى له حجابة البيت، وقال: خذوها تالدة إلى يوم القيامة، وأمر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بكسر الصور التي داخل الكعبة وخارجها وحولها، وكسر الأصنام التي حول الكعبة وبمكة كلها، وكانت الأصنام مشدودة بالرصاص، فكان يشير إليها بقضيب في يده، فكلما أشار إلى واحد منها خر لوجهه، وكان يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، وخطب ثاني يوم الفتح خطبته المشهورة المعروفة، ثم بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السرايا حول الكعبة يدعو إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان أحد أمراء تلك السرايا خالد بن الوليد، خرج إلى بني جذيمة فقتل(17/462)
منهم وسبى، وقد كانوا أسلموا فلم يقبل خالد قولهم وإقرارهم بالإسلام، فوداهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعث علي بن أبي طالب بمال إليهم فودى لهم جميع قتلاهم، ورد إليهم ما أخذ لهم، وقال لهم علي بن أبي طالب: انظروا إن فقدتم عقالا أديته، بهذا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان فتح مكة فيما قاله مالك في هذه الرواية في سبعة عشر يوما من رمضان، وقد قيل: إن فتحها كان لعشر بقين من رمضان، سنة ثمان من الهجرة كما ذكرناه.
وفي هذه السنة كانت غزوة حنين، وذلك أن هوازن لما بلغهم فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه قومه من بني نصر وبنو جشم وبنو سعد وثقيف وطائفة من بني هلال بن عامر وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم دريد بن الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، فحملوه في هودج لضعف جسمه، وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بن عوف النصري، فحشر الناس وساق مع الكفار أموالهم وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن نفوسهم تُحْمَى بذلك وأن شوكتهم تشتد به، فنزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بن الصمة: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق ذلك مالك مع الناس ليقاتلوا عنهم، فقال لهم دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء يا مالك؟ إنه إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
وأخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما شاهد منهم فعزم(17/463)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قصدهم، واستعار من صفوان بن أمية دروعا، قيل: مائة، وقيل: أربعمائة، وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب من بني سليم وبني كلاب وغيرهم، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، ونهض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وقد كانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي، وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس والفضل بن العباس وقثم بن العباس وأبو سفيان ابن الحارث وابنه جعفر بن أبي سفيان، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغلته الشهباء، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا أيها الناس إلى أين؟ أيها الناس أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، يا معشر المهاجرين، يا آل الخزرج، كانت الدعوة أولا يا آل الأنصار، ثم خصصت آخرا بآل الخزرج؛ لأنهم كانوا أصبر عند القتال على ما ذكر، فلما ذهبوا ليرجعوا كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ بعيره لكثرة الأعراب المنهزمين فكان يلبس درعه، ويأخذ سيفه ومجنه ويقتحم عن بعيره ويكر راجعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى إذا اجتمعوا حواليه مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتد الحرب وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركائبه، ونظر إلى مجتاد القوم، فقال: الآن قد حمي الوطيس، وضرب علي ابن أبي طالب(17/464)
عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ الراية علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ورمى في وجوههم بالحصى فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قال بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا، وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم واتبعناهم حتى أتينا إلى رجل راكب على بغلة بيضا، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا وأخذ بكفه حصى أو ترابا، فرمى به، وقال: «شاهت الوجوه» ، فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وأسرى هوازن بين يديه، واستحر القتل في بني مالك، فقتل منهم خاصة يومئذ سبعون رجلا منهم، ورئيسهم والخمار، وأخوه عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة، وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فقتله، وقيل: إنه أسر، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه فيها، ولما انقضى القتل نادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» ، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من السنة، وترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم الغنائم من الأموال والنساء(17/465)
والذراري فلم يقسمها حتى أتي الطائف.
وفي هذه السنة كانت غزوة الطائف، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من حنين إلى الطائف ولم ينصرف إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء، فسلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريقه إلى الطائف على الجعرانة أخذ على قرن وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه، ثم نزل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف، وحاربهم المسلمون، وحصن ثقيف لا مثل له في حصون العرب، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل: بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يوما، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصب المنجنيق على الطائف ورماهم به، ونزل قوم من تحت الربابات من سور الطائف فرارا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصب عليهم أهل الطائف سكك الحديد المحماة، ورموهم بالنبل، فأصابوا منهم قوما، ونجى آخرون، منهم أبو بكرة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبيد بن عبيد.
أهل الطائف منهم الأزرق والد نافع بن الأزرق الخارجي المنسوب إليه الأزارقة.
وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع أعناب أهل الطائف إلا(17/466)
قطعة عنب كانت للأسود بن مسعود ولابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها، فكف عنها.
«ولما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطائف إلى الجعرانة على مقربة من حنين وقسم الغنائم هناك أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: " قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون، فاختاروا إما ذراريكم ونساؤكم وإما أموالكم، فاختاروا العيال والذرية، قالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا صليت الظهر فتكلموا واطلبوا حتى أكلم الناس في أمركم، فلما صلى الظهر تكلموا وقالوا: نستشفع برسول الله على المسلمين وبالمسلمين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لكم، وقال المهاجرون والأنصار: وأما ما كان لنا فهو لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما أن يردوا عليهم مما وقع لهم في سهمانهم، وامتنع العباس ابن مرداس وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه» فرد عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان فيهن الشيماء أخت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت(17/467)
إلى بلادها مسرورة بدينها وما أفاء الله عليها، وقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأموال بين المسلمين، وأعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، وأعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وأبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف، والعلاء بن حارثة، فهؤلاء أصحاب المئين، وأعطى رجالا من قريش دون المائة، منهم سعيد بن يربوع أعطاه خمسين بعيرا، وأعطى عباس بن مرداس أباعر قليلة فسخطها، وقال في ذلك أبياتا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوا عني لسانه» ، فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه.
قال موسى بن عقبة: «ولما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنائم أو ما شاء الله منها فأكثر لأهل مكة من قريش القسم، وأجزل لهم العطاء، وقسم لغيرهم ممن خرج إلى حنين استيلافا لهم، حتى إنه ليعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، وزوى كثيرا من القسم عن أصحابه، فوجدت الأنصار في أنفسها من ذلك، وقالوا: نحن أصحاب كل موطن شدة وبلاء ثم آثر علينا قومه وقسم فيها قسما لم يقسمه لنا، وما نراه فعل ذلك إلا وهو يريد الإقامة بين ظهرانيهم، فلما بلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاهم في مجلسهم فجمعهم، وقال: " من كان هنا من غير الأنصار فليرجع إلى رحله "، فتشهد ثم قال: " حدثت أنكم عتبتم في المغانم أن آثرت بها أناسا أستألفهم على الإسلام، ولعلهم يفقهون، وقد جعل الله في قلوبكم الإيمان وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء، أفلا ترضون أن يذهب الناس(17/468)
بالغنائم وترجعون برسول الله؟ فوالله لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم، فارضوا، فأنتم الشعار، والناس دثار "، فلما سمعوا مقالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكوا، فكثر بكاؤهم، وقالوا: الله ورسوله أمن وأفضل، فقال: " ارجعوا إلي فيما أعلمتكم به "، قالوا: وجدتنا يا رسول الله في ظلمات، فأخرجنا الله بك منها إلى النور، ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك منها، ووجدتنا ضالين فهدانا الله بك، ووجدتنا أذلة قليلا، فأعزنا الله بك وكثرنا، فرضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، افعل ما شئت يا رسول الله في حل محلل.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما والله لو جئتموني بغير هذا لقلت صدقتم، لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك؟ لقلت: صدقتم "، فقالت الأنصار: بل لله ولرسوله علينا وعلى غيرنا المن والفضل، ثم بكوا الثانية وكثر بكاؤهم، وبكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم ورضي عنهم» وكانوا بالذي سمعوا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القول أقر عينا وأشد اغتباطا منهم بالمال.
وقد اختلف فيما أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك اليوم للمؤلفة قلوبهم وغيرهم، هل كان من الخمس أو من خمس الخمس، أو من رأس الغنيمة، والأظهر أنه كان من رأس الغنيمة، إذ لو كان من الخمس أو من خمس الخمس لما وجدت الأنصار في أنفسها من ذلك ما وجدت، ولما قالت له: افعل ما(17/469)
شئت يا رسول الله في حل محلل، إذ التحليل إنما يكون فيما أعطى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأربعة الأخماس الواجبة للغانمين، وأما الخمس فلا حق لهم فيه إلا أن ينفلهم شيئا باجتهاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلف أهل العلم فيما ينفله الإمام، فقالت طائفة من العلماء: لا يكون إلا من خمس الخمس، وقالت طائفة: لا يكون إلا من الخمس، وقالت طائفة منهم: لا ينفل من الغنيمة إلا بعد الخمس، وهذا الاختلاف على اختلافهم في قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية، هل هي مخصوصة للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أو عامة محكمة أو هي منسوخة بآية الغنيمة، قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، وعلى الاختلاف في الخمس هل يقسم بالاجتهاد فيمن سمى الله في الآية وفي غيرهم أو يقسم بالسوية بين من سمى الله في الآية دون غيرهم.
فمن رأى آية الأنفال عامة محكمة غير منسوخة وأن الخمس يقسم على الاجتهاد - قال: إن الإمام ينفل من رأس الغنيمة.
ومن رآها عامة محكمة غير منسوخة، وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى الله بالآية دون غيرهم - قال: إن الإمام ينفل من الغنيمة بعد الخمس.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس بالاجتهاد فيمن سمى الله في(17/470)
الآية وفي غيرهم، قال: إن الإمام إنما ينفل من الخمس، وهو مذهب مالك.
ومن رآها منسوخة وأن الخمس يقسم بالسوية أخماسا بين من سمى الله في آية الخمس، قال: إن النفل إنما يكون من خمس الخمس.
وفي هذا العام اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجعرانة، وذلك أنه لما أتى على قسمة الغنائم خرج منها إلى مكة معتمرا، وأمر ببقايا الفيء فخمس بناحية الظهران، فلما فرغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عمرته استخلف على مكة عتاب بن أسيد ورجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة، وكان خروجه منها لعشر خلون من رمضان، فكانت مدة مغيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وأوقع بهوازن بحنين وحارب الطائف واعتمر إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وأربعة عشر يوما.
وانهزم يوم حنين مالك بن عوف رئيس جيش المشركين، فلحق في انهزامه بالطائف كافرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أتاني مسلما لرددت إليه أهله وماله» فبلغه ذلك فلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خرج من الجعرانة فأسلم وأعطاه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وهو أحدهم ومعدود فيهم، واستعمله على من أسلم من قومه ومن قبائل قيس، وأمره بمناورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم(17/471)
وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حاشى عيينة بن حصن فلم يزل مغموزا عليه.
وسائر المؤلفة متفاضلون، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله كالحارث بن هشام وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون ذلك، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم.
وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وكان خيرا فاضلا ورعا.
[أحداث السنة التاسعة من الهجرة]
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من عمرته بعد فتح مكة وغزوة حنين وحصار الطائف أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزو الروم، وهي آخر غزاة غزاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه، وكان خروجه إلى تلك الغزوة في حر شديد حين طاب أول التمر في عام جدب، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكاد يخرج غازيا إلى وجه إلا ورى بغيره، إلا غزوه تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة ونفقه المال والمشقة وقوة العدو المقصود إليه، فتأخر الجد بن قيس من بني سلمة، وكان متهما بالنفاق، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البقاء وهو غني قوي فأذن له وأعرض عنه، فنزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] .(17/472)
وفي هذه الغزاة أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البكاءون، وهم سبعة فاستحملوه فلم يكن عنده ما يحملهم عليه، فـ {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فسموا البكائين.
وأنفق فيها ناس من المسلمين، فأنفق عثمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - نفقة عظيمة جهز بها جماعة من المعسرين. روي أنه حمل في هذه الغزاة على تسعمائة بعير ومائة فرس، وجهزهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا شكالا. وروي أنه أنفق فيها ألف دينار، وخرج عبد الله بن أبي ابن سلول بعسكره فضربه على باب المدينة أيضا، فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقل العسكرين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما نهض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تخلف فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا وثمانين رجلا خلفهم سوء نياتهم ونفاقهم.
وتخلف في هذه الغزاة من صالح المسلمين ثلاثة رجال، وهم كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي، وتفقدهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد يوم أو يومين، فقيل له: تخلفوا، فعجب(17/473)
من ذلك للذي يعرف من إيمانهم وفضلهم وعز ذلك عليه، وفيهم نزلت: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] الآية، وحديثهم مشهور معروف.
ونهض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخطر على حجر ثمود، فأمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا بمائها خبزا، وأمر بما عجن بمائها أن يطرح للإبل، وأمرهم أن يستعملوا في جميع ما يحتاجون إليه ماء بئر الناقة وأن لا يدخلوا بيوت ثمود المعذبين إلا باكين أن يصيبهم مثل ما أصابهم، وقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمود بضع عشرة ليلة، ولم يتجاوزها ثم انصرف.
وكانت في هذه الغزاة آيات بينات وعلامات للنبوءة مشهورات.
منها أنه كان في طريقه ماء قليل فنهى أن يسبق إليه أحد فسبق إليه رجلان، فاستنفذا ما فيه، فسبهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم فجمعوا من بقية ذلك الماء، غرفوا منه بأيديهم قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، فغسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير جاشت به، كفى الجيش كله، وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ذلك الموضع سيملأ جنانا.
وبنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين تبوك والمدينة مساجد نحو(17/474)
ستة عشر مسجدا أولها مسجد بناه بتبوك وآخرها مسجد بذي خشب [وفي هذه السنة كان إسلام ثقيف] ولما انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تبوك وكان انصرافه في رمضان رأت ثقيف أنهم لا طاقة لهم بما هم فيه من خلاف جميع العرب، فوفدوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسلا منهم بإسلامهم، فخرجوا حتى قدموا المدينة، فكان أول من رآهم بقناة المغيرة بن شعبة، وكان يرعى بها ركاب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نوبته، فترك الركاب عندهم ونهض مسرعا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبشره بقدوم ثقيف للإسلام، فلقي أبا بكر الصديق فسأله عن شأنه، فأخبره، فأقسم عليه أن يؤثره بتبشير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فأجابه المغيرة إلى ذلك، فذهب أبو بكر بالبشارة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، ورجع المغيرة إلى قوم ثقيف، فجاء معهم إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأعلمهم كيف يحيونه إذا قدموا عليه، فلم يفعلوا وحيوه بتحية الجاهلية، فضرب لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يختلف بينهم وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي كتب لهم الكتاب، فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يكتب لهم كتابهم أن يترك لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم من ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه ألا يهدموا أوثانهم بأيديهم فأجابهم إلى ذلك، وأعفاهم من أن يكسروها بأيديهم، وقالوا: إنما أردنا أن نسلم بتركها من سفهائها ونسائنا، وخفنا أن نروع قومنا بهدمها حتى ندخلهم الإسلام، وقد كانوا سألوه(17/475)
مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، فقال لهم: لا خير في دين لا صلاة فيه، فكتب لهم كتابهم وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وأمره أن يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وأن يصلي بهم وأن يعذرهم بأضعفهم ولا يطول عليهم، ولا يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا وبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الأوثان الطاغية وغيرها، فهدمها وأخذ مالها وحليها، وخرج نساء ثقيف حسرى يبكين اللات وينحن عليها.
وفي هذه السنة كانت حجة أبي بكر الصديق، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من تبوك أراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت عراة، فلا أحب الحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر ثم أردفه عليا لينبذ إلى كل ذي عهد عهده ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ... إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج، فأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر، ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قابل حجته التي لم يحج من المدينة غيرها، فوقعت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة، فقال: «إن الزمان قد استدار
» الحديث، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، فلما كان يوم النحر في حجة أبي بكر قام عَلِيٌّ فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم(17/476)
أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إلى مدة» ، ثم قدما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يحج بعد العام مشرك ولا طاف به عريان.
وفي هذه السنة وسنة عشر بعده، قدمت وفود العرب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدخول في الإسلام، وذلك أنه لما فتح الله على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكة وأظهره يوم حنين، وانصرف من تبوك، وأسلمت ثقيف أقبلت إليه وفود العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجا، وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في وفد بني عامر وإلا مسيلمة في وفد بني حنيفة.
فإن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس فإنهما قدما عليه في وفد عامر بن صعصعة، وقد أضمرا الفتك برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والغدر به، فكان عامر بن الطفيل قد قال لأربد: إني سأشغله بالكلام عنك، فإذا فعلت فاعله بالسيف، ثم جعل يسأله سؤال الأحمق ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول له: «لا أجيبك في شيء مما سألت عنه حتى تؤمن بالله ورسوله.» فأنزل الله على أربد البهتة والرعب فلم يرفع يدا، فلما يئس منه عامر، قال: يا محمد والله لأملأنها عليك رجالا، فلما وليا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل وأربد بن قيس» ، فلما كان في بعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه(17/477)
فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: غدة البكر أو غدة البعير وموتا في بيت سلولية، ووصل أربد إلى بلده، فأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة له فأحرقه الله هو وجمله بالصاعقة.
وأما مسيلمة فقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وفد بني حنيفة، فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يسترونه بالثياب، فكلمه فأجابه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك لو سألتني هذا العسيف - لعسيف كان معه من سعف النخل- ما أعطيتكه» ، وأسلم قومه ثم انصرفوا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله مسيلمة وادعى النبوة، وقال: قد أشركني في أمره، واتبعه أكثر قومه، وجعل يسجع لهم أسجاعا يضاهي بها القرآن، وأحل لهم الخمر والزنا، وأسقط عنهم الصلاة، فمن سجعه قوله: لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفا ووحشى، ومثل هذا من سجعه لعنه الله، واتبعه بنو حنيفة إلا ثمامة بن أثال الحنفي، فإنه بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه.
[أحداث السنة العاشرة من الهجرة]
وفي السنة العاشرة كانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل عليه ذو القعدة منها تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز، وخرج لخمس بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة أبا دجانة الشاعري، وقيل: سباع بن عرفطة الغفاري، ولم يحج(17/478)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ثلاث حجات، اثنتان بمكة وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة.
ومن أحسن حديث روي في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه حديث جابر بن عبد الله، خرجه أصحاب الصحيح، مسلم وغيره، وقطعه مالك في موطئه، فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذا فعل البخاري.
وحديث جابر بن عبد الله رواية جعفر بن محمد عن أبيه، قال: «دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يومئذ قد ذهب بصره، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، وأنا يومئذ غلام شاب، فرحب بي وَسَهَّلَ ودعا لي، فقالوا: جئناك نسألك، فقال لي: سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت: أخبرني عن حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال بيده وعقد تسعا، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف تصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى ما مد بصري بين(17/479)
يديه من راكب وماش وعن يمينه وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعرف تأويله، فما عمل من شيء عملنا مثله، فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وَأَهَّلَ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته» الحديث بطوله على ما قد ذكرناه في الحج من المقدمات.
[أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة]
وفي السنة الحادية عشرة توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول في الوقت الذي دخل فيه المدينة في هجرته إليها من مكة، فكانت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس عشر سنين من الهجرة، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء، ولم يحضر غسله وتكفينه إلا أهل بيته، غسله علي بن أبي طالب، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء، والعباس يعينهم، وحضرهم شقران مولاه.
ولم يصدق عمر بموته وأنه مات وأنكر على من قال ذلك، وخرج إلى المسجد فخطب الناس، وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات، والله ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم، والله ليرجعن كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات.(17/480)
وأتى أبو بكر بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكشف له عن وجهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله وأيقن بموته، ثم خرج فوجد عمر يقول تلك المقالة، فقال له: اجلس، فأبى عمر، ثم قال له: اجلس، فأبى، فتنحى عنه وقام خطيبا، فانصرف الناس إليه وتركوا عمر، قال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] الآية، قال عمر: فلما سمعتها من أبي بكر عرفت ما وقعت فيه، وكأنني لم أسمعها قبل، ثم اجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة فبايعوا أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم بايعوه بيعة أخرى من الغد على ملأ منهم ورضا، فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدين، والحمد لله رب العالمين.
ولما أنزل الله على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] علم أنه قد نعيت إليه نفسه، وسأل عُمَرٌ ابْنَ عباسٍ عن هذه السورة، فقال: يقول له: اعلم أنك ستموت عند ذلك، فقال له عمر: لله درك يا ابن عباس، إعجابا بقوله، وقد كان سأل عنها غيره من كبار الصحابة فلم يقولوا ذلك.
ولما دنت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذه وجعه في بيت ميمونة، فخرج إلى أهل أحد، فصلى عليهم صلاته على الميت، وكان أول ما يشكو في علته الصداع، فيقول: وارأساه، ثم لما(17/481)
اشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له في ذلك، ومرض فيه إلى أن مات فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقول لعائشة في مرضه ذلك: «يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر، وما زالت تلك الأكلة تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري» .
وأوصاهم في مرضه بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم به، وألا يتركوا في جزيرة العرب دينين، «أخرجوا منها المشركين، والله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، فأحسنوا إليهم» ، وقال: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وقال لهم: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده أبدا "، فاختلفوا وتنازعوا واختصموا، فقال: " قوموا عني، فإنه لا ينبغي عندي تنازع» ، وكان عمر القائل حينئذ: قد غلب عليه وجعه، وربما صح، وعندكم القرآن، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين أن يكتب ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. وكان يقول في صحته: " «ما يموت نبي حتى يخير ويرى مقعده» ، روته عائشة، قالت: «فلما اشتد مرضه جعل يقول: " مع الرفيق الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» ، فعرفت أنه ذاهب، ولما عجز عن الخروج إلى المسجد قال: «مروا أبا بكر فليصل للناس» ، وقال في مرضه: «أهريقوا عَلَيَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس» ، فأجلس في مخضب لحفظه، ثم صب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إليهم بيده أن حسبكم، ثم خرج إلى الناس وأبو بكر يصلي للناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي عليه(17/482)
السلام فصلى وصلى أبو بكر بصلاة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والناس بصلاة أبي بكر، وقد اختلف من كان الإمام للناس منهما في تلك الصلاة على ما قد مضى بيانه والقول فيه في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ولما اشتد مرضه به جعل يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن للموت لسكرات، الرفيق الأعلى» ، فلم يزل يقولها حتى مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرف وكرم.
[تفسير وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا]
في تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] وسئل مالك: عن تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] ، قال: ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10] ، والإنسان إذا أهمه الشيء لم يكد يذكر معه شيئا غيره، حتى إن المريض ليمرض فما يكاد يذكر غير مرضه الذي هو فيه.
[قال القاضي] : قوله في تفسير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] بأنه ذهاب العقل، معناه: أنها أصبحت دالهة على ولدها ذاهلة عن كل شيء سواه، كالمريض إذا اشتد به المرض يذهل عن كل شيء إلا عن مرضه، ومن ذهل عن شيء فلم يفعله، وهذا هو معنى ما روي عن ابن عباس من أنه قال: المعنى في ذلك أصبح فؤاد أم موسى فارغا من كل شيء إلا من ذكر ابنها، وقال ابن(17/483)
زيد: إنما أصبح فؤاد أم موسى فارغا من الوحي الذي أوحى الله إليها أن تلقيه في اليم، وقال لها: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فنسيت عهد الله إليها بذلك؛ لأن الشيطان أنساها ذلك، فقال لها: يا أم موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فيكون لك أجره وثوابه وتوليت قتله فألقيته في اليم وغرقته، فحزنت لذلك فنسيت عهد الله إليها أنه يرده إليها ويجعله من المرسلين. وقد قيل: معناه: أنه أصبح فؤاد أم موسى فارغا من الحزن لعلمها أنه لم يغرق ابنها بما وعدها الله به.
فهي ثلاثة أقوال: أحدها: هذا. والثاني: أنه أصبح فارغا ممن عدى الحزن على ابنها. والثالث: أنه أصبح فارغا من الوحي، وكذلك اختلف في الهاء من قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10] ، فقيل: إنها عائدة على ابنها، إن كادت لتقول: يا بنياه من شدة الحزن عليه، وقيل: إنها عائدة على الوحي الذي أوحي إليها به في أمره إن كادت لتبديه، وقيل: إنها ضاق صدرها لما نسب إلى فرعون، فقيل: هو ابن فرعون، فكادت تقول: هو ابني، فتبدي به وتخبر بأمره وتظهره، وبالله التوفيق.
[الاستنجاء بالأحجار]
في مرور العمل بترك الاستنجاء بالأحجار قال مالك: وبلغني أن ابن شهاب قال لابن هرمز، وكان يكلمه، فقال له ابن شهاب: نشدتك الله، أما علمت أن الناس كانوا يتوضئون فيما مضى ولا يكونون يستنجون بالماء؟ فسكت ابن هرمز فلم يجبه بشيء، فقيل لمالك: لم؟ قال: لم يحب أن يقول له نعم، وهو أمر قد ترك فتركه ولم يجبه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفي في استنجائه بالأحجار دون الماء فصلى أن صلاته تامة ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره؛(17/484)
لما جاء من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سئل عن الاستطابة، فقال: «أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار؟» ، إلا أن الماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن، وقد كان أهل قباء يفعلون ذلك، فنزلت فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] . قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء إلا لمن عدم الماء، لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه على ما قاله ابن هرمز، وبالله التوفيق.
[أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه]
في أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه
قال: وسمعت مالكا، يقول: دخل رجل على عبد الله بن عمر وهو يخصف نعله، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، لو ألقيت هذا النعل وأخذت أخرى جديدة، فقال له: نعلي جاءت بك هاهنا؟ أقبل على حاجتك.
قال محمد بن رشد: إنما قال له ابن عمر ذلك لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وهذا ما لا يعنيه، وبالله التوفيق.
[تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم]
في تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: لو أن الله فرض على خلقه بقدر عظمته ما أطاقها سماء ولا أرض ولا جبال، ولكن الله خفف عنهم.(17/485)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين يشهد به القرآن ويعتقده كل مؤمن بالله تعالى، إذ لا يفي بحق عظمة الله أحد، قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وبالله التوفيق.
[فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا]
في فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا قال: وسمعت مالكا يقول: سمعت أنه يقال: ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة.
قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم لأن من اتقى الله وزهد في الدنيا صح نظره في الأمور بتقوى الله تعالى فيها، فوفق للحق وأنطق بالحكمة، فضل من الله تعالى فيها عليه في ذلك، من ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب من أنه كان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه كموافقته ما نزل في القرآن في الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب في مقام إبراهيم، على ما جاء في ذلك كله، وبالله التوفيق.
[إشفاق عمرو بن العاص مما دخل فيه من حرب معاوية لعلي]
في إشفاق عمرو بن العاص مما دخل
فيه من حرب معاوية لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وسمعت مالكا يقول: كان عمرو بن العاص يقاتل علي بن أبي طالب، فإذا انتصف النهار ضرب سرادقا يستريح فيه ويفرق الناس يستريحون، فيحمل الناس قتلاهم في الأكسية فيقول(17/486)
عمرو: من هذا؟ فيقال له: فلان، ويقول: من هذا؟ فيقال له: فلان، فقال عمرو: كم من أحسن في الله قد قتله فلان وفلان، يريد عليا ومعاوية، وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء ثم يبكي.
قال محمد بن رشد: قول عمرو بن العاص وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء، هو كما حكي عنهما من أن كل واحد منهما اعتقد باجتهاده أنه مصيب عند الله تعالى في فعله، فلا حرج عليه في ذلك إذ كان فرضه هو الذي أداه اجتهاده إليه من ذلك، فللمصيب منهما -وهو عندنا عَلِيٌّ - أجران، وللمخطئ منهما -وهو عندنا معاوية - أجر واحد، وكذلك حكم من اتبع كل واحد منهما وقاتل معه، هذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم؛ لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» .(17/487)
وبكاء عمرو بن العاص والله أعلم عند المرور بالقتلى عليه إنما هو مخافة أن يكون قد قصر في خاصة نفسه فيما يلزمه من بلوغ غاية الاجتهاد الذي أداه إلى أن معاوية الذي قاتل معه على الحق، وبالله تعالى التوفيق.
[احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم]
في احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم وسمعت مالكا يحدث عن عمه أبي سهيل بن مالك، أنه كان يقول: إن ملكا كان في بني إسرائيل، وأنه ركب يوما في مدينته، فركب في زي عظيم، فمر برجل قاعد على عمله لا يلتفت إليه، فلما رأى الملك ذلك قال له: ما لك لا تنظر إلي كما ينظر الناس إلي؟ فقال له الرجل: إني قد رأيت ملكا مثلك، وكان على هذه القرية، فمات هو ومسكين في يوم واحد، فدفنا فكان قبراهما جميعا في موضع واحد، فكنت أتعاهدهما فأعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت عنهما فاختلط عظم هذا بعظم هذا، فما أعرف أحدهما من صاحبه، فلذلك لم يعجبني ما أنت فيه فأقبلت على عملي.
قال محمد بن رشد: هذا وشبهه مما ينبغي أن يوعظ به من كان فيه زهو بنفسه وإعجاب بحاله، وبالله التوفيق.
[تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق]
في تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق وعند أصحاب العباء قال: وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: ما أخذت(17/488)
أحاديث كثيرة من أحاديث سعيد بن المسيب إلا عند أصحاب العباء في السوق، وما أخذت من سالم بن عبد الله أحاديث كثيرة إلا في ظل المنارة التي في السوق، كان يقعد في ظلها، وسعيد عند أصحاب العباء، قال مالك: كان ذلك من شأن الناس يخرجون إلى السوق ويقعدون فيه.
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع العلماء برضاهم بالدون من المجلس ومجالسة المساكين ودخول الأسواق، ومن تواضع لله رفعه الله. ومن الحجة في جواز دخول الأسواق وأنه لا عيب في ذلك - قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] الآية [ردا لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] ، وبالله التوفيق] .
[الجلوس في المساجد والاشتغال فيها بالعمل اليسير]
في الجلوس في المساجد وجواز الاشتغال فيها بالعمل اليسير قال مالك: كان سعيد بن المسيب يحدث، وربما أخذ ثياب بعض من يقعد إليه فيذرعه وهو في المسجد، فقلت له: ثياب الناس؟ قال: نعم، وهو في المسجد، قال مالك: قال جعفر بن محمد، وكان عمر بن الخطاب يقعد في المسجد ويقعد إليه رجال يحدثهم عن الأجناد ويحدثونه بالأحاديث، والقاسم بن(17/489)
محمد، فما يقولون له كيف تقول؟ ولا كيف يقول؟ كما يصنع أهل هذا الزمان.
قال محمد بن رشد: ما كان سعيد بن المسيب ربما فعله من ذرع ثياب بعض من كان يقعد إليه، المعنى في ذلك، والله أعلم: إنما فعله لوجه أراد معرفة مقداره من ثوب الرجل، وذلك جائز لا بأس به، فقد استحب مالك أن يقضي الرجل الذهب في المسجد إذا لم يكن على وجه التجارة والصرف، واستحب كتاب ذكر الحق فيه إلا أن يطول.
وقعود عمر بن الخطاب في المسجد مع رجال يحدثهم ويحدثونه كان فيما بين الظهر والعصر، وذلك جائز لا بأس به، إذ ليس ذلك من الأوقات المرغب في الصلاة فيها، فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك، وقد مضى هذا قبل هذا في رسم حلف، وبالله تعالى التوفيق.
[إشفاق ابن عمر من قتل عثمان]
فيما بلغ إليه إشفاق ابن عمر من قتل عثمان قال: وسمعت مالكا يحدث: أن رجلا أهدى إلى عبد الله بن عمر صرة فيها جوارش، فقال له ابن عمر: ما هذه؟ قال: جوارش، إذا أكلت فكظك الطعام أكلته على إثره، فقال له ابن عمر: والله ما شبعت منذ قتل عثمان.
قال محمد بن رشد: حق لعبد الله بن عمر في فضله وخيره أن يبلغ الإشفاق منه من قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا المبلغ، فإنه كان حدثا عظيما في الإسلام، لم يكن قبله ولا بعده مثله على ما سبق في أم الكتاب، وأنذر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وبالله التوفيق.(17/490)
[احتجاب النساء من الرجال]
في احتجاب النساء من الرجال قال: وسمعت مالكا يحدث أن عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دخل عليها رجل أعمى وأنها احتجبت منه، فقيل لها: يا أم المؤمنين إنه أعمى لا ينظر إليك؟ فقالت: ولكني أنظر إليه.
قال محمد بن رشد: قد روي «عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ميمونة. قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟» وهذا خاص في أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بخلاف غيرهن من النساء، والله أعلم، بدليل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فيصح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما يصح للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، وقد قيل: إنه لا يصح للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يصح للرجل أن ينظر منها، على فعل عائشة في احتجابها من الرجل الأعمى، وعلى ظاهر قول الله عز وجل؛ لأنه قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ، وليس ذلك بصحيح إذ قد بينت السنة في حديث فاطمة بنت قيس أن النساء في ذلك بخلاف الرجال، فتنظر المرأة من الرجل الأجنبي إلى ما ينظر إليه الرجل من ذوات محارمه، وتنظر المرأة من الرجل من ذوي محارمها إلى ما ينظر إليه الرجل من الرجل.
وكذلك تنظر المرأة من المرأة إلى ما ينظر إليه الرجل من الرجل، وقد(17/491)
زدنا هذا المعنى بيانا في الجامع من مختصر الطحاوي، وبالله التوفيق.
[مناغاة من باد من أهل الخربة على سبيل الاعتبار]
في مناغاة من باد من أهل الخربة على سبيل الاعتبار قال: وسمعت مالك يحدث أن عامر بن عبد القيس كان يمر بالخربة فينادي فيها: يا خربة أين أهلك؟ مرارا، ثم يقول: بادوا وعامر بالإثر.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل، وبالله تعالى التوفيق.
[ترك أكل طيب الطعام مخافة العادة]
في ترك أكل طيب الطعام مخافة العادة قال مالك: بلغني أن عمر بن العزيز قدم طعاما ورجل قاعد يأكل معه، فأخذ الرجل يبطئ في الأكل وعمر يأكل، فقال له: ألا تأكل؟ فقال: إن ثم طعاما غيره، يريد الطعام الذي يعمل للناس، ويريد أنه أطيب، فأنت لا تأكل؟ فقال عمر: لو أكلت منه ما رأيت علي شيئا، ولكن لا أحب أن أعود نفسي.
قال محمد بن رشد: هذا من نحو قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "إياكم واللحم، فإن له ضراوة كضراوة الخمر "، فإنما نهى عمر ابن الخطاب عن اللحم، وترك عمر بن عبد العزيز أكل الطيب من الطعام مخافة أن يضرى ذلك، فيصير له عادة، لا من أجل أن ذلك يكره إذ(17/492)
لا أجر في مجرد ترك لباس الحسن من اللباس وأكل الطيب من الطعام؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وإنما يؤجر في ترك ذلك إذا تركه ابتغاء معنى من الخير يقصده بذلك وينويه به، وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء في سلمان الخير]
قال: وسمعت مالكا يحدث: أن سلمان الخير خرج يطلب الدين قبل الإسلام، وأنه سبي بالشام فاستخدم ثم هرب فأخذ بوادي القرى فاشتري واستخدم ثم جلب إلى المدينة فبيع فابتاعه رجل من الأنصار، فكاتبه على مائتي ودية يغرسها ويقوم عليها حتى تبلغ، فقدم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على إثر ذلك المدينة، فأتى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأخبره بذلك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أردت أن تغرسها فأتني فأعلمني» ، فلما أراد أن يفعل أتاه فأعلمه، فذهب معه فبرك له فيها، فما مات منها ودية واحدة، ثم أتي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بشيء فيه ثمر أو رطب، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما هذا؟ " فقال له: صدقة، فقال له النبي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: "إني لا أقبل الصدقة» ، فرجع به، ثم أقام ما شاء الله ثم أتاه الثانية بمثله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما هذا؟ قال: هو هدية، فأخذه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منه» وكان ذلك من سلمان اختبارا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في صفته، كأنه إنما أراد بذلك الاختبار في صفته.(17/493)
قال مالك: وكان سلمان بالعراق يعمل بيده الحوص فيعيش منه ولا يقبل من أحد شيئا، وإنه لم يكن له بيت، وإنما كان يستظل بظل الجدار، وإن رجلا قال له: أبني لك بيتا، قال له: ما لي به حاجة، فما زال الرجل يردد ذلك عليه ويأبى ذلك عليه، حتى قال له الرجل: أنا أعرف البيت الذي يوافقك، قال: فصفه لي، قال: أبني لك بيتا إذا قمت فيه أصاب سقفه رأسك، وإذا أنت مددت فيه رجلك أصابت حائطه، قال: نعم، فبناه له.
قال محمد بن رشد: سلمان الخير هذا هو سلمان الفارسي، ويعرف بسلمان الخير، يكنى أبا عبد الله، ويقال: إنه مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. روي من وجوه أنه اشتراه على العتق، أصله من فارس، وكان إذا قيل له: ابن مَنْ أنت؟ قال: أنا سلمان ابن الإسلام. وروي عنه أنه قال: كنت من أبناء أساورة فارس. وكان يطلب دين الله ويتبع من يرجو ذلك عنده، فدان بالنصرانية وغيرها، وقرأ الكتب وصبر في ذلك على مشقات نالته. وروي: أنه تداوله في ذلك بضعة عشر ربا، من رب إلى رب حتى أفضى إلي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنَّ الله عليه بالإسلام، وكان خيرا فاضلا عالما زاهدا، دخل عليه قوم وهو أمير على المدائن بالعراق، وهو يعمل الخوص، فقيل له: لم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي، وكان تعلم عمل الخوص بالمدينة عند بعض موالي الأنصار، وكان إذا خرج عطاؤه تصدق به، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وأول مشاهده الخندق، وهو الذي أشار بحفره، فقال أبو سفيان وأصحابه؛ إذ رأوه: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، وقد قيل: إنه شهد بدرا وأحدا، والأكثر أن أول مشاهده الخندق،(17/494)
ولم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وقال فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كان الدين بالثريا لناله سلمان» ، وفي رواية أخرى: «لنالته رجال من فارس» ، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «أمرني ربي بحب أربعة، أخبرني أنه يحبهم: علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان» ، وروي عن علي أنه قال: سلمان الفارسي مثل لقمان الحكيم، وتوفي سلمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر خلافة عثمان سنة خمس وثلاثين، وقيل: بل توفي في أول سنة ست وثلاثين، وقيل: بل توفي في خلافة عمر، والأول أكثر، وبالله التوفيق.
[سكنى المقابر للاعتبار]
في سكنى المقابر للاعتبار قال مالك: بلغني أن رجلا سكن القبور، وأنه كلم في ذلك، فقال: إن لي جيران صدق ولا يؤذونني، وإن لي فيهم عبرة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترك التنعم بالمطاعم الطيبة]
في ما كان عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ترك التنعم بالمطاعم الطيبة
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: آكل مما يأكل الناس وأشرب مما يشرب الناس وأستبقي دنياي لآخرتي، وذلك(17/495)
حين أحدث الناس الخبيص الأحمر والأخضر، قال مالك: وكان عمر لا يأتيه مال إلا أظهره، ولا رسول إلا أنزله.
قال محمد بن رشد: المعنى في قول عمر بن الخطاب حين أحدث الناس الخبيص الأحمر والأخضر: آكل مما يأكل الناس وأستبقي دنياي لآخرتي، أي: لا أتنعم في مالي بأكل المطاعم الطيبة، فيكون ذلك سببا إلى أن أشح على فعل الخير منه الذي أجده في آخرتي، يبين ذلك قوله لجابر بن عبد الله، إذ أدركه ومعه حمال لحم، فقال: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين قرمنا إلى اللحم، فاشتريت لحما بدرهم، أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه، أين تذهب هذه الآية عنكم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ؟ لأن الأجر ليس هو في مجرد شح الرجل على نفسه بما له في ترك أكل المطاعم الطيبة منه؛ لأن الله عز وجل يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وإنما هو في تركه ذلك ليواسي به ويفعل الخير منه، وقد روي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. ومعناه: أستبقيها لأوثرها غيري فأجد ذلك في آخرتي، فآكل الطيب من الطعام من المباح الذي لا وزر في فعله ولا أجر في مجرد تركه، وإذا لم يصرف الغني شيئا من ماله إلا في استمتاعه به في أكل الطيبات ولباس لين الثياب فالفقر خير له من الغنى إذا شكر الله عليه(17/496)
كما يشكره على الغنى، وذكر أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام صنع له طعام لم ير مثله، فقال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين باتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بن الخطاب، فقال كلاما معناه: لئن كان حظنا من الدنيا الاستمتاع بحطامها، وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
وسيرته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أنه كان لا يأتيه مال إلا أظهره ولا رسول إلا أنزله - هي سيرة أهل العدل، وقد أوصى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال في وصيته: وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وبالله التوفيق.
[الخصام لذي الهيئة وإتيان أبواب الأمراء]
في كراهية الخصام لذي الهيئة وإتيان أبواب الأمراء قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز عاتب رجلا له قدر في الحال، في خصومة خاصم فيها، فقال: إن لك قدرا وحالا، فلا أحب لك أن تخاصم، فإن ذلك مما يعيبك، قال مالك: يحضر فيحجب ويتنزه وينتهره الحرس ويجبر، وهذه مذلة لذوي الهيئة، وقال مالك: بلغني أن أبا الدرداء قيل له: تأتى باب معاوية فيحبسك ويصفحك؟ قال: اللهم غفرا، من يأت أبواب الأمراء يقول ويقعد.
قال محمد بن رشد: معنى يصفحك يمنعك ويحرمك، يقال صفحت الرجل إذا أعطيته، وأصفحته إذا منعته وحرمته، وفي الحديث: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سائل منعه بعض أهله: «لعلكم أصفحتموه» ، والمعنى فيما قاله عمر بن عبد العزيز وأبو الدرداء بَيِّنٌ لا يفتقر إلى كلام، وبالله التوفيق.(17/497)
[هل الهد في القرآن أو الترتيل أفضل]
في الأفضل، هل الهد في القرآن أو الترتيل أفضل وسئل مالك: عن الهد في القرآن؟ فقال: من الناس من إذا هد كان أخف عليه، وإن رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن يهد، والناس في ذلك على حالهم فيما يخف عليهم، وذلك واسع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من أنه من لم يقدر على الهد رتل، ومن لم يقدر على الترتيل هد، وأما من كان يقدر على الوجهين جميعا فالترتيل له أفضل؛ لقول الله عز وجل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] ، وفي الموطأ: وقد أتى رجل زيد بن ثابت، فقال له: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع، فقال له: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إلي، وسلني: لم ذلك؟ قال: فإني أسألك، قال: لكي أتدبره عليه.
[ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرمه]
في ما أحله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حرمه، وفي مناداته لقرابته قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليوم الذي مات فيه: «لا يمسك الناس علي شيئا، إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله، فإني لا أغني لكما من الله شيئا» .
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا الحديث من قوله: لا(17/498)
أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه - قول الله عز وجل في كتابه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقَوْله تَعَالَى فيه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، إلا أن منه نصا جليا ومنه مجملا متشابها خفيا، فبين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أجمله الله في كتابه من الحلال والحرام وجميع الأحكام. كما أمره الله تعالى في كتابه حيث يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .
وإنما نادى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته فاطمة وعمته صفية بما ناداهما به لما أمره العشائر به من قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، وقد اختلف في تعيين عشيرته الأقربين الذين أمره الله بمناداتهم في هذه الآية وجعل لهم حقا في الفيء وخمس الغنيمة، وحرم عليهم الصدقة على سبعة أقوال قد ذكرناها محصلة مبينة في مسألة أفردناها لذكر ذلك، وبالله التوفيق.
[ضنانة عبد الله بن عمر بنافع مولاه]
في ضنانة عبد الله بن عمر بنافع مولاه قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر أتى عبد الله بن جعفر ومعه نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال له: بعني هذا، قال: فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك يقول لنافع: لا تأت معي، قال مالك: يخاف أن يفتنه بما يعطيه فيبيعه إياه، فلما خاف أمره ألا يأتي معه.
قال محمد بن رشد: قد بين مالك معنى نهيه إياه أن يأتي معه(17/499)
إليه، ويحتمل أن يكون خاف أن يعيد سؤاله إياه ذلك فلا يجيبه إليه فيجد في نفسه من ذلك عليه، إذ كان عبد الله بن عمر والله أعلم ممن لا يفتتن فيه بكثرة الثمن، وبالله التوفيق.
[قول عبد الله بن أبي ابن سلول لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة]
في قول عبد الله بن أبي ابن سلول لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة قال: وسمعت مالكا يقول: قال عبد الله بن أبي ابن سلول لسعد بن معاذ في بني قريظة: إنهم أحد جناحي، وإنهم ثلاثمائة ذارع وستمائة حاسد، فقال له سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم.
قال محمد بن رشد: لما ذهبت الأحزاب في غزاة الخندق ورجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر، أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة، فقال له: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم، فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان سامعا مطيعا فلا يصل العصر إلا في بني قريظة» ، فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى النساء والذراري، فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيي بن أخطب وكعب بن أسد، قيل: في ستمائة أو سبعمائة استنزلهم، ثم قتلهم بالمدينة، واصطفى من نسائهم عمرة بنت قحافة، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، وهي نباتة امرأه الحكم القرظي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته. روي عن عائشة أنها قالت: إن كانت لعندي تضحك وتحدث، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل رجالهم، إذ هتف هاتف:(17/500)
أين فلانة؟ قالت: أنا والله مقتولة، قلت: ويلك لم؟ قالت: لحدث أحدثته فانطلق بها فضرب عنقها، وبالله التوفيق.
[أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله]
في أن أبا بكر أعتق سبعة كلهم يعذب في الله قال مالك: أعتق أبو بكر الصديق سبعة كلهم يعذب في الله.
قال محمد بن رشد: منهم بلال بن رباح المؤذن، كان يعذب على دينه، فروي أن أبا جهل قال له: أنت تقول أيضا فيمن يقول، فأخذه فبطحه على وجهه وسلقه في الشمس، وعمد إلى رحى فوضعها عليه، فجعل يقول: أحد أحد، وكان على ما روي: إذا أراد المشركون أن يقاربهم، قال: الله الله، قال: فلقي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أبا بكر، فقال: «لو كان عندنا اشترينا بلالا» ، فلقي أبو بكر العباس بن عبد المطلب، فقال له: اشتر لي بلالا، فاشتراه العباس من سيده، فبعث به إلى أبي بكر فأعتقه، فكان يؤذن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى مات، فلما مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: بل تكون عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كانت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى الله عز وجل، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام، فكان بها حتى مات، وكان أمية بن خلف ممن يعذبه ويوالي عليه بالعذاب والمكروه، فكان من قدر الله أن قتله بلال يوم بدر، فقال فيه أبو بكر الصديق أبياتا منها قوله:
هنيئا زادك الرحمن خيرا ... فقد أدركت ثارك يا بلال
ذكر هذا ابن عبد البر في كتاب الصحابة على حسب ما أتى من ذلك في السير.(17/501)
ومنهم عامر بن فهيرة، كان مولدا مرت مولدي الأزد، أسود اللون مملوكا لطفيل بن عبد الله بن شجرة، فأسلم وهو مملوك، فاشتراه أبو بكر من الطفيل فأعتقه وأسلم قبل أن يدخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها إلى الإسلام، وكان يرعى الغنم في ثور، ثم يروح بها على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر في الغار، وكان رفيقا لهما في هجرتهما إلى المدينة، وشهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة، وهو ابن أربعين سنة، قتله عامر بن الطفيل، ويروى عنه أنه قال: رأيت أول طعنة طعنتها عامر بن فهيرة مورا خرج منها. وروي: أنه طلب يومئذ في القتلى فلم يوجد، فكانوا يرون أن الملائكة رفعته.
وبقية السبعة المذكورين: أم عبس، وزبيرة ويروي وزنيرة، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله إليها بصرها، والنهدية أعتقها وبنتها، وكانت لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو بكر: حل يا أم فلان، فقالت: حل؟ أنت أفسدتهما، فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما، هما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أونفرغ منه يا أبا بكر، ثم نرده إليها، قال: وذلك إن شئتما.
ومر بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا مل، قال: إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها، وروي: أن أبا قحافة قال لأبي بكر: يا بني، إنك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك(17/502)
ويقومون دونك، فقال أبو بكر: يا أبي إني إنما أريد ما أريد، فيتحدث ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال له أبوه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] إلى قوله: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] ، وبالله التوفيق.
[ما جاء في القدر]
قال: وسمعت مالكا يقول لرجل: سألتني عن القدر؟ فقال له الرجل: نعم. قال: يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] حقت كلمة ربك ليملأن جهنم منهم، فلا بد أن يكون ما قال.
قال محمد بن رشد: هذه آية بينة في الرد على أهل القدر كما قال، وذلك لأنهم يقولون: إن الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم، ونهاهم عن المعصية ولم يردها منهم، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من المعصية؛ لأن العباد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون إرادة ربهم وخالقهم، وذلك ضلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء، لأنهم يلحقون العجز بالله تعالى، بأن يكون ما لا يريد ويريد ما لا يكون، والجهل به أيضا، لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم فلا يعلم وقوعها منهم على قولهم حتى يفعلوها، وهذا كفر صريح وتكذيب لقوله عز وجل في غير ما آية من كتابه، من ذلك قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ،(17/503)
وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] ، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، والآيات في الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى، وقد قال عون بن معمر: سمعت سعيد بن أبي عروة وكان يذهب مذهب أهل القدر، يقول: ما في القرآن آية أشد علي من قوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] ، قال: فقلت: القرآن يشق عليك، والله لا أكلمك أبدا، فما كلمه حتى مات، فرحم الله عون ابن معمر، والآثار في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - متواترة لا تحصى، من ذلك قوله: «كل شيء بقدر» ، وقوله: «لا تسأل المرأة طلاق أختها [لتستفرغ صحفتها] ، ولتنكح فإنما لها ما قدر لها» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره واستخرج منه ذرية،(17/504)
فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» ، وقول آدم لموسى في حديث محاجته له: «أتلومني على أمر قد قدر عَلَيَّ قبل أن أخلق» ، وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين لتكرار المسألة هناك، وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن لله عبادا أهل عافية في الدنيا والآخرة]
في أن لله عبادا أهل عافية في الدنيا والآخرة قال مالك: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن لله عبادا أهل عافية في الدنيا والآخرة» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا الحديث بين، لأنك قد تجد الرجل يكون له المال الحلال من ميراث أو غيره، فيكون مدة حياته معافى في بدنه وماله، ويكون مع هذا من أهل الخير والصلاح، فينقلب من خير إلى خير، وبالله تعالى التوفيق.
[مناداة النبي عليه السلام لأهل قليب بدر من المشركين]
في مناداة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأهل قليب بدر من المشركين قال مالك: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل قليب(17/505)
بدر من المشركين: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] قالوا: يا رسول الله، إنهم أموات أفيسمعون، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنهم ليسمعون ما أقول» .
قال محمد بن رشد: وقد روي أنه قال: «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون» ، ومن هذا المعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت إذا دفن وانصرف الناس عنه: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين» ، وقد قيل: المعنى في ذلك أنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حقا، لا أنهم يسمعون ما يقال لهم؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ، وهو قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، والأظهر أن يحمل الحديث على ظاهره من أنهم سمعوا ما قاله لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ قد علم بتظاهر الآثار أن الميت إذا مات يعاد إليه الروح ويفتن في قبره بمسائلة منكر ونكير، ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة، وقد قيل: إن الآيات المذكورات إنما وردت في الكفار على المثل بأنهم لا ينتفعون بما يسمعونه كما لا ينتفع الموتى بما يسمعونه.
[ما جاء في أهل بدر]
17 -(17/506)
ما جاء في أهل بدر قال مالك: بلغني أن «جبريل قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: إنهم خيارنا. قال: إنهم كذلك فينا» .
قال محمد بن رشد: يريد أن من شهد بدرا من الملائكة الذين أمد الله بهم نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمؤمنين حيث يقول: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 123 - 124] {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] هم خيار الملائكة، كما أن من شهدها منكم خياركم، وهذا نهاية في الفضل لأهل بدر، وبالله التوفيق.
[صفوان حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاه هل كان مسلما أم لا]
في صفوان حين أعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أعطاه، هل كان مسلما أم لا؟ وسئل مالك: عن صفوان حين أعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أعطاه، أكان مسلما أو مشركا؟ قال: ما سمعت فيه شيئا ولا أراه إلا مشركا، لقد قال: لرب من قريش خير من رب من هوازن. وما هذا بكلام مسلم، وكان من أشدهم قولا حين قال صفوان: لقد أكرم الله أمية حين لم ير هذا الأسود فوق الكعبة، قال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا، إن تكلمت بلغته هذه الحصباء، وقال رجل من آل خالد بن أسيد: ما أحد لهذا الأسود؟ يريد بلالا، قال: وكان سهيل بن عمرو من أشدهم قولا، قال لهم: يا قوم دعوا هذا، فإن كان من الله أمضاه الله.(17/507)
قال محمد بن رشد: قوله حين أعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أعطاه يريد من غنائم حنين، وذلك أنه أعطى منها عطايا وافرة لأشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فأعطى منها لصفوان بن أمية مائة بعير، وكذلك أعطى لعيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة بعير، وكانوا أشرافا فأعطاهم يتألفهم ويتألف قومهم بهم، وكذلك أعطى لجماعة سواهم من المؤلفة قلوبهم مائة بعير، منهم أبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو.
وقول صفوان "لرب من قريش خير من رب هوازن " الذي استدل به مالك على أنه لم يكن يومئذ مسلما، قاله يوم حنين، وذلك أنه حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد، فجال المسلمون جولة ثم ولوا مدبرين، فمر رجل من قريش بصفوان بن أمية، فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجبرونها أبدا، فقال له صفوان: أتبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن، وكان صفوان قد هرب من مكة يوم الفتح ثم رجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهد معه حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة، أسلمت يوم الفتح قبل صفوان بشهر، ثم أسلم صفوان، فَقُرَّا على نكاحهما، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، وهو أحد المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم.
والمؤلفة قلوبهم قوم من صناديد مضر كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يعطيهم من الزكاة أيضا يتألفهم على الإسلام ليسلم بإسلامهم من وراءهم؛ لأن الله تعالى جعل لهم فيها سهما، وقد مضى الكلام على هذا في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب زكاة العين، وبالله التوفيق.
[سن عبد الله بن عمر]
في سن عبد الله بن عمر وحكاية
عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: سنو عبد الله بن عمر سبع وثمانون سنة، قال(17/508)
مالك: بلغني أن سعيد بن المسيب لما حبس بعث إليه أهله بخبز ولحم، فقال سعيد: لا أذوقه، أرأيت الأقراص الأربعة التي كنت آكلهن فابعثوا بهن إلي، قال: وكان معهم رجل في الحبس يبعث إليه أهله الألوان من الطعام، فقال له سعيد: أرأيت ما تريد أن تبرح من هذا الموضع.
قال محمد بن رشد: المعنى فيما فعله سعيد بن المسيب من تركه لأكل ما أرسل إليه من الخبز واللحم هو أنه أراد ترك التنعم في السجن بشيء من الطعام ليكون أجره في السجن موفورا، وكان سجنه والله أعلم، أما إذ دعاه جابر بن الأسود الزهري عامل المدينة إلى بيعة ابن الزبير فأبى أن يبايع له حتى يجتمع الناس عليه، فضربه ستين سوطا، وإما إذ دعا عبد الملك بن مروان الناس إلى البيعة للوليد بعده ثم سليمان بعد الوليد، فبايعوا وكتب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يأخذ لهما بيعة الناس بالمدينة ففعل، وبايع الناس لهما إلا سعيد بن المسبب فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حي، فضربه هشام ضربا مبرحا وألبسه ثياب شعر وسرحه إلى ثنية بالمدينة، كانوا يقتلون ويصلبون عندها، فظن سعيد أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه وبلغ عبد الملك خبره، فقال: قبح الله هشاما فيما فعل، لكان أخرج إلى صلة وجهه من أن يضربه، فإنا لنعلم أن ابن المسيب ما عنده شقاق ولا خلاف، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه عمررضي الله عنه من التفقد لأحوال رعيته]
فيما كان عليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من التفقد لأحوال رعيته قول مالك: إن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بحمار(17/509)
عليه لبن فوضع عنه طوبتين، قال: فأتت سيدته عمر فقالت: يا عمر، ما لك ولحماري إنك عليه سلطان؟ قال: فما يقعدني في هذا الموضع؟
وسئل مالك: عن حديث عمر بن الخطاب حين ذكر رقيق الحوائط إذ كان يخرج إليهم فيخفف عن ثقلهم ويزيد في رزق من أقل له، أكان ذلك في رقيق الناس؟ قال: نعم وغيرهم من الأحرار من عمل ما لا يطيق، فقلت له: فإن الولاة عندنا يوكلون الشرط، فمن مر به بحمل ثقيل من جمل أو بغل أن يخففوا عنه، قال: أرى أن قد أصابوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته ... » الحديث، وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لهذا الحديث وما كان في معناه: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه.
[ما عفا الله عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم]
فيما عفا الله عنه فلم يذكره بتحليل ولا تحريم قال مالك: سمعت من أرضى به يأثره عن غيره: "إن الله تبارك وتعالى أحل حلالا وحرم حراما وأشياء عفا عنها الله فدعوها".
قال محمد بن رشد: هذا يدل على أنه لا يستباح إلا ما أباحه الله تعالى، وأن المسكوت عنه محظور، وقد قيل: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.(17/510)
وجه القول الأول من طريق النظر: أنه قد ثبت أن الأشياء ملك مالك، والأصل أنه لا يستباح ملك أحد إلا بإذنه.
ووجه القول الثاني: أن خلق الله له دليل على الإباحة؛ إذ يقول: {لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] ، فوجب أن يكون ما عدا هذا مما لم يثبت فيه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهي مباحا، وبالله تعالى التوفيق.
[تفسير الراسخين في العلم]
في تفسير الراسخين في العلم وسئل مالك: عن تفسير {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، قال: العالمون العاملون بما علموا المتبعون له.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الراسخ في العلم: إنه العالم العامل بما علم المتبع له، معناه: أنه العالم المتحقق بما علم العالم العامل به المتبع له - هو معنى ما روي من «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، سئل: مَنِ الراسخ في العلم؟ فقال: " من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في العلم» ، ويشهد بصحة هذا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] لأنه كلام يدل على أنه من لم يخش الله فليس بعالم.
وقد اختلف في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] .
فقالت طائفة: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات،(17/511)
والكلام يتم عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، أي: والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون مع العلم بتأويله: آمنا به.
وقالت طائفة: المتشابهات مما استأثر الله بعلمها، فلا يعلم تأويلها إلا الله، والكلام يتم عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، ثم يحسن الوقف، ثم يبدأ القارئ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، وهذا هو نص قول مالك في رسم البيوع الأول من سماع أشهب بعد هذا.
وقد اختلف في المتشابهات التي عناها الله بقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، ما هي؟ فقيل: إن المتشابهات من القرآن منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقيل: إنه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت نزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك مما لا يعلم أحد إلا الله تعالى، وكذلك الحروف المقطعة مثل "الم والمص" وما أشبه ذلك، فعلى هذين القولين لا يعلم تأويل المتشابهات إلا الله.
وأما من قال في المتشابهات: إنها المشكلات من الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب وإنما جاءت فيه مجملة غير مفسرة ولا مبينة، فالراسخون في العلم يعلمون تأويلها بما نصب الله لهم من الأدلة على معرفتها، وبينه لهم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منها؛ لأن الله عز وجل يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، والمعنى في ذلك: أنه(17/512)
عز وجل نص على بعض الأحكام وأحال على الأدلة في سائرها، وأما المحكم فهو البين الذي لم ينسخ وبالله التوفيق.
[حكم أرض العنوة]
في حكم أرض العنوة
قال مالك: وبلغني أن بلالا كلم عمر بن الخطاب في هذا المال في الشام في قسمه، وكان من أشد الناس عليه كلاما فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم، فقال: اللهم اكفنيهم، قال مالك: وبلغني أنه ما حال الحول وواحد منهم حي، قال ابن القاسم: وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس فأبى ذلك عليهم عمر، قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك أنه قال: ليس من الشأن قسم الأرض، ولكن تترك لحالها، قال مالك: وكل ما افتتح بعد عمر من العنوة فالشأن فيها أن تترك كما فعل عمر، قال لي سحنون: وحدثنا ابن القاسم عن ابن كنانة أنه كان يقول ذلك، قال سحنون: وأخبرني به ابن نافع عن مالك.
قال محمد بن رشد: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس أرض خيبر وقسمها بن الموجفين عليها بالسواء، وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الشام؛ ليكون ذلك في أعطية المقاتلة وأرزاق المسلمين ومنافعهم.
فقيل: إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، فمن سمح بترك حقه منها أعطاه فيه الثمن، فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أرض خيبر، وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق وقال: إن أقر أهلها فيها لعمارتها كانت ملكا لهم بدليل ما روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضع الخراج على بياضها وسوادها؛ إذ لو كانت للمسلمين لكان وضع الخراج(17/513)
على سوادها بيعا للثمرة قبل أن تخلق.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطا الموجفين عليها، وإنه تأول في ذلك قول الله عز وجل في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآية، وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه خلافا للشافعي في قوله: إنها تقسم كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر.
وقد اختلف على هذا في آية الفيء وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل: إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر مبينا لآية الأنفال أنها على عمومها، وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر، وإلى هذا ذهب أبو عبيد، وهو قول أكثر الكوفيين: إن الإمام مخير بين أن يقسمها كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض خيبر وبين أن يبقيها كما فعل عمر في سواد العراق.
وقيل: إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين بفعله في أرض خيبر أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي.
وقيل: إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها، ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من المغانم، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قسم أرض خيبر؛ لأن الله وعدها أهل بيعة الرضوان، فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] فهي مخصوصة بهذا الحكم(17/514)
دون سائر الأرضين المغنومة.
وإذا أبقى الإمام أرض العنوة وأقر فيها أهلها لعمارتها ضربت عليهم الجزية على ما فرض عمر وسوقوا في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام، وهو وجه قول مالك في المدونة: لا علم لي بجزية الأرض وأرى أن يجتهد الإمام في ذلك ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه، أي إن لم يثبت عنده مقدار ما وضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليها من الخراج؛ لأنه إنما توقف في مقدار ذلك، [وقيل: إنه إنما توقف هل عليها خراج أم لا خراج عليها وتترك لهم يستطيعون بها على أداء الجزية دون خراج؟] [فيما خراج أم لا معينون بها؟] وقيل: إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج هل يسلك به مسلك الفيء أو مسلك الصدقة، قال ذلك الداودي، وحكى عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أن يسلك به مسلك الفيء، وهذا التأويل أبعد التأويلات عندي، وذهب ابن لبابة إلى أن جزية الأرض توضع فيما أوقف الأرض له الإمام، فقال: إنما توقف مالك فيما يصنع فيها، إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام، ولا إن كانت افتتحت عنوة بقتال أو عنوة بغير قتال، واحتار هو إذا جهل ذلك أن تحمل على أنها افتتحت عنوة بقتال أو عنوة بغير قتال، فتكون أربعة أخماس ذلك لورثة من افتتحه إن عرفوا، وإلا كان سبيل ذلك كله سبيل الخمس، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في بلال]
فيما ذكر في بلال قال مالك: بلغني أن بلالا ذكر له أن عمر بن الخطاب غضب غضبا شديدا، فقال: لو كنت عنده لم أزل أقرأ عليه القرآن(17/515)
حتى يسكن، قال مالك: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «إني رأيت أني دخلت الجنة، وأني سمعت خشفا أمامي. فقلت: من هذا؟ فقيل لي: بلال» ، فزعم أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما ذكر له ذلك بكى.
قال محمد بن رشد: إنما قال بلال: لو كنت عند عمر حين غضب لقرأت عليه القرآن حتى يسكن؛ لعلمه أنه كان وقافا عند كتاب الله، فأراد والله أعلم أنه كان يقرأ عليه من القرآن ما يعظه في غضبه، مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ، ومثل قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ، ومثل قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وما أشبه ذلك من المواعظ في الغضب، وفي رؤية النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لبلال في الجنة شهادة له بها؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وبكاؤه حين أعلمه بما رآه له كان شوقا إلى الجنة، والله أعلم.
[متى وقعت غزوة تبوك]
في أن غزوة تبوك كانت بعد الفتح قال مالك: كانت غزوة تبوك بعد الفتح.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما قاله؛ لأن الفتح كان في رمضان سنة ثمان، وكانت غزوة تبوك بعد ذلك في رجب من سنة تسع، وهى آخر غزوة غزاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد مضى قبل هذا ذكر هذا، وبالله التوفيق.(17/516)
[رغبة عمر في فعل الخير]
في رغبة عمر في فعل الخير قال مالك: قال عمر بن الخطاب: أتراني لو حملت سمراء الشام إلى الجار أيأخذونها مني؟ ثم فقالوا: نعم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أيأخذونها في الجار فأكون قد أحسنت إليهم في ذلك وكفيتهم مؤنة نقلها، فقالوا: نعم، وبالله التوفيق.
[قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة]
في قدوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم المدينة
قال مالك: لما أن قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة نزل قباء فسمع به غلام من اليهود وهو على نخلة يجني رطبا ومعه قفة له، فتركها، ثم نزل حتى أتاه فرآه ثم رجع، فقالت له أمه: تركت متاعك وخرجت إلى هذا الرجل كأنك خرجت إلى موسى؟ قال: هو أخوه، قالت أمه: أفتتبعه؟ قال: لا والله لا أتبعه أبدا.
قال محمد بن رشد: قد ذكره أصحاب السير أن أول من رآه حين قدم المدينة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من اليهود، وكان قدومه على ما ذكر يوم الإثنين حين استوت الشمس لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، فنزل بقباء، وقد قيل غير ذلك، وكان أكثر أهل المدينة قد خرجوا ينظرون إليه، فلما ارتفع النهار وقلصت الضلال واشتد الحر يئسوا منه فانصرفوا، فكان أول من رآه هذا الرجل من اليهود. وهو في نخل له، فصاح بأعلى صوته يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء يعني حظكم، فخرجوا وتلقوه ودخل معهم المدينة فنزل على سعيد بن خيثمة، وقيل: على كلثوم بن الهرم، ونزل أبو(17/517)
بكر على حبيب بن إساف، وقيل: على خارجة بن زيد، وكلاهما من بني الحارث ابن الخزرج.
وكان من شأن هذا اليهودي الذي رأى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أول من رآه مع أمه ما ذكره في الحكاية من قوله: إنه أخو موسى يريد في النبوة، وقسمه أنه لا يتبعه؛ لأن اليهود قد كانوا عرفوا أنه نبي بنعت الله لهم إياه في التوراة، لكنهم كفروا به لأنهم كانوا يرجون أن يكون منهم، فلما كان من غيرهم حسدوه فكفروا به، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وبالله التوفيق.
[قتل أمية بن خلف]
في قتل أمية بن خلف
قال مالك: أسر عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وأراد به الفداء، فرآه بلال، فقال: لا نجوت إن نجا، فحرض عليه فقتله ابنا عفراء.
قال محمد بن رشد: كان أمية بن خلف ممن تولى كبر بلال بالعذاب بمكة على الإسلام، ولذلك حرض على قتله حتى قتله. وقد حكى ابن عبد البر في كتابه الصحابة أن بلالا قتله حسب ما ذكرناه قبل هذا، فقد يحتمل أن يكون قتله إليه من أجل أنه كان سببه بتحريضه على ذلك، والله أعلم.(17/518)
[تواضع أهل الشرف في الإسلام]
في تواضع أهل الشرف في
الإسلام قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال لأبي سفيان بن حرب: احمل علي هذا الحجر، فحمله، فحمد الله عز وجل عمر على ذلك، فقال: ما لك؟ كأنه أراد بذلك اختباره لقدر أبي سفيان في الجاهلية.
قال مالك: ضرب عمر بن الخطاب ابنه عبيد الله في مشية رآه يمشيها فعاتبته أمه في ذلك فقال: إنه يجد في نفسه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن التواضع محمود والكبرياء مذموم، قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» وبالله التوفيق.
[تمني علي درجة عمر في الخير]
في تمني علي درجة عمر في الخير قال مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما سجَّى على عمر بن الخطاب قال علي بن أبي طالب: ما تحت الخضراء ولا فوق الغبراء أحد كنت أحب أن ألقى الله بصحيفته غير هذا المسجى على سريره، وتكلم بذلك علي وعمر مسجى عليه في سريره.
قال محمد بن رشد: في هذا تفضيل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لعمر على عثمان، وهو الذي عليه أهل السنة.(17/519)
والحق أن أفضل الصحابة: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وقد روي هذا عن مالك، وروي عنه أيضا الوقوف عن تفضيل بعضهم على بعض، وروي عنه أيضا تفضيل أبي بكر على عمر والوقوف عن المفاضلة بين علي وعثمان، والأول هو الذي يعتمد عليه من مذهبه والله أعلم.
[الفتيا لمن لم يطلب]
في كراهية الفتيا لمن لم يطلب
العلم حق طلبه
قال: وسمعت مالكا يقول: قال ابن هرمز ما طلبت هذا الأمر حق طلبه إذ استفتي، قال مالك: وهذا يفتي ولا يعلم ولم يتعلم ولم يطلب هذا الأمر حق طلبه، ولم يطلب هذا الأمر ممن يعرفه، فأنكر على مثل هؤلاء أن يفتوا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين؛ لأن ما يتعين على المعنى من الاجتهاد في الأحكام التي لا نص فيها في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة يفتقر إلى القياس برد الفرع إلى الأصل بالمعنى الجامع بينهما، ووضع الأدلة في ذلك مواضعها، وذلك يخشى التقصير فيه ممن طلب الأمر حق طلبه فكيف بمن لم يطلبه حق طلبه وبالله التوفيق.
[فضل حكيم بن حزام رضي الله عنه]
في فضل حكيم بن حزام
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال مالك: بلغني أن حكيم بن حزام أخرج ما كان أعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المؤلفة، فتصدق بذلك بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: قد قيل في حكيم بن حزام: إنه لم يكن من المؤلفة قلوبهم؛ فإن كان منهم على ما في هذه الحكاية فهو من الفضلاء(17/520)
منهم، وكفى بعنوان فضله تصدقه بما أعطاه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جملة المؤلفة قلوبهم، والمؤلفة قلوبهم قد حسن بعد ذلك إسلامهم حاشى عيينة بن حصن، فلم يزل مغمورا عليه، وأما سائرهم فيتفاضلون في الخير، منهم الخير الفاضل المجتمع على فضله كحكيم بن حزام، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ومنهم دون ذلك في الفضل، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وبالله تعالى التوفيق.
تم الجزء الرابع من الجامع
يتلوه إن شاء الله الكتاب الخامس(17/521)
[كتاب الجامع الخامس] [زهد طلق بن حبيب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجامع الخامس ومن كتاب طلق بن حبيب حكاية عنه قال مالك: بلغني أن طلق بن حبيب، جلس إليه رجل ومعه الناس فدعا فذكر، فلما أراد أن يقوم قال: إنكم لن تستبقوا من أنفسكم باقيا، وإنكم لم تلوذوا من الدنيا بمنيع، وإن مجلسكم هذا آخر مجلس تجلسون من الدنيا، وكذلك الدنيا حتى تنقضي المجالس.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه جلس للناس يعظهم ويذكرهم، فكان من آخر قوله لهم حين أراد أن يقوم: إنكم لن تستبقوا من أنفسكم باقيا، وإنكم لم تلوذوا من الدنيا بمنيع يريد أنهم أتعبوا أنفسهم في طلب الدنيا، واستنفذوا جهدهم في ذلك ولم يحصلوا منها على طائل.
وأما قوله: وإن مجلسكم هذا آخر مجلس تجلسون من الدنيا، فالمعنى في ذلك عندي والله أعلم أنه كره لنفسه جلوسهم إليه ليعظهم ويذكرهم، وعزم ألا يعود إلى ذلك، فقال لهم: إن هذا المجلس آخر مجلس تجلسون فيه إلي، وكذلك أمور الدنيا كلها إلى انقراض وتمام، وبالله التوفيق.(17/523)
[الشرط يبعثون في الأمر يكون بين الناس بجعل في أموالهم]
في الشرط يبعثون في الأمر يكون بين الناس بجعل
في أموالهم قال مالك: كان زياد بن عبيد الله يبعث شرطا في الأمر يكون بين الناس في المناهل ويجعل لهم في أموالهم جعلا فنهيته عن ذلك وقلت: إنما هذا على السلطان يرزقهم، فقيل له: فإن أمير المؤمنين جعل لمن ولي عليهم شركا معهم فيما اشتروا، قال: ما أشرت به ولا أمرته بذلك، ثم قال: إن هناك أمورا يخاف منها ما يخاف، وفسر فيها تفسيرا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الواجب أن يجعل للشرط المتصرفين بين أيدي القضاة في أمور الأحكام رزق من بيت المال؛ لأن ذلك من المنافع التي تعم الناس، فإن لم يفعل كان جعل الغلام المتصرف بين الخصمين على الطالب في إحضار خصمه المطلوب، إلا أن يلد المطلوب ويختفي ويغيب تعنتا بالطالب فيكون الجعل في إحضاره عليه.
وأما أن يجعل لمن ولي على أهل السوق شركا معهم فيما اشتروا فالمكروه فيه بين، وذلك أنه إذا كان له معهم شرك فيما اشتروا سامحهم في الفساد لما له فيه من النصيب، وقال هاهنا: فإن أمير المؤمنين، وقال في كتاب السلطان: فإن صاحب السوق وهو الصحيح والله أعلم.
[التحدث عن بني إسرائيل]
في التحدث عن بني إسرائيل وسئل مالك عما ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ، قال: لم أسمع به من ثبت، فأما ما كان من كلام حسن فلا بأس.
قال محمد بن رشد: ذكر الطحاوي هذا الحديث عن عبد الله بن(17/524)
عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، وقال: إن معنى قوله: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» أي ولا حرج في ترك الحديث عنهم، فأباح أن يتحدث عنهم؛ إرادة أن يعلموا ما كان فيهم من العجائب؛ لأن الأنبياء كانت تسوسهم كلما مات نبي قام نبي ليتعظوا بذلك، ورفع الحرج عنهم في ترك التحدث بخلاف التحدث عنهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخذ الميثاق عليهم في التبليغ عنه، فقال: «بلغوا عني ولو آية» ، وتأويله خلاف تأويل مالك له في هذه الرواية؛ لأن الظاهر من قوله أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح التحدث عنهم بما يذكر أنه كان فيهم من العجائب وإن لم يأت ذلك بنقل العدل من العدل إذا كان من الكلام الذي لا يدفعه العقل؛ إذ ليس تحته حكم فيلزم التثبت في رواته وبالله التوفيق.
[ترك قبول العطاء]
في ترك قبول العطاء قال مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أبي العباس أمر له بجارية فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم يشتري بها جارية حين أبى أن يقبلها، فأبى أن يقبلها ورأيت ابن القاسم يعجبه فعل ربيعة ويستحسنه.
قال محمد بن رشد: لما أبى أن يقبل الجارية تأول عليه أنه إنما أبى من قبولها مخافة ألا تكون خلصت لبيت المال بوجه صحيح، فأمر له(17/525)
بالدراهم التي لا تتعين، فأبى من قبولها أيضا.
واستحب ذلك ابن القاسم. من فعله؛ لأن العباس لم يكن من أئمة العدل الذي مجباه حلال والمجبى إذا كان يشوبه حلال وحرام فأكثر أهل العلم يكرهون الأخذ منه، ومن أهل العلم من يكره الأخذ من المجبى الحلال إذا لم يعدل في قسمه، وأما إذا عدل في قسمه فلا بأس بالأخذ منه وتركه أفضل؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله، قال: ولا مني» ؛ لأن من ترك حقه فيه، ولم يأخذه فقد أثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك، وبالله التوفيق.
[ما لا يجب فيه الحد من التعريض]
في ما لا يجب فيه الحد من التعريض وحدثني أن مروان بن الحكم جلد رجلا الحد قال لرجل: إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد، قال ابن القاسم: قال مالك: ليس عليه العمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك عليه العمل؛ إذ ليس عنده بتعريض بين لاحتمال أن يريد أنها تحب الظُّلَم لئلا يبدو قبح صورتها أو سماجة هيئتها وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يراد بها الزنى، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحدود في القذف وبالله التوفيق.
[النبيذ الذي يعمل في السقاية]
في النبيذ الذي يعمل في السقاية وقال لمالك رجل من الحجبة: إنه يقال: إن النبيذ الذي(17/526)
يعمل في السقاية من السنة، فقال: لا والله، يريد ما هو من السنة، فقيل له: إنه قد كان على عهد أبي بكر وعمر، وقال: ما كان على عهدهما، ولو ذكرت لكلمت أمير المؤمنين حين قدم علينا فيه، يقول: ليقطعه، وكرهه كراهية شديدة.
قال محمد بن رشد: قد أنكر مالك أن يكون ذلك من السنة وأقسم على ذلك أن يكون على عهد أبي بكر وعمر، فكفى بقوله في ذلك حجة، واتباع رأيه في ذلك صواب ورشاد؛ لأن الرشد في إتباع السنة والأمر الماضي، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، ومالك يكره للرجل شرب النبيذ وإن كان حلالا؛ مخافة الذريعة، ولئلا يعرض بنفسه سوء الظن، فكيف بعمله في السقاية، وبالله التوفيق.
[حكاية عن زيد بن أسلم]
قال مالك: واستعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن، فلما وليهم شكوا ذلك إليه، فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا وارتفع ذلك عنهم، فهم عليه حتى اليوم، وأعجبني ذلك من مشورة زيد بن أسلم.
قال محمد بن رشد: إنما أمرهم زيد بن أسلم بذلك لما جاء في الحديث من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر» .. الحديث، فهو منه اهتداء حسن لما يذهب به ضرر(17/527)
الجن عن أهل ذلك المعدن، ولذلك أعجب مالكا ذلك من مشورته به وبالله التوفيق.
[ما يحذر من تغير الزمان]
فيما يحذر من تغير الزمان قال مالك: بلغني أنه يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغرق.
قال محمد بن رشد: هذا هو الزمان الذي لا يؤمر فيه بمعروف ولا ينهى فيه عن منكر الذي أنذر به النبي عليه السلام والله أعلم، روي عن أنس بن مالك، قال: «قيل يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك في صغاركم، والفقه في أراذلكم» ، وبالله التوفيق.
[فتح خيبر]
في افتتاح خيبر
قال مالك: حدثني ابن شهاب، أن خيبر كان بعضها عنوة وفيها أربعون ألف عذق، وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، وقد كتب أمير المؤمنين أن تقسم مع صدقات النبي عليه السلام، فهم يقسمونها في الأغنياء والفقراء، فقيل له: أفترى ذلك؟ قال: لا، ولكن أرى أن يؤثر بها الفقراء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم نذر سنة وفي ذكر غزوة(17/528)
خيبر في رسم البز، وفي غيره من المواضع القول في افتتاح خيبر فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[تخيير عمرأزواج النبي عليه السلام بين الإقطاع أو الإنفاق]
في تخيير عمر أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
بين الإقطاع أو الإنفاق قال مالك: خير عمر بن الخطاب نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجري عليهن نفقتهن أو يقطع لكل واحدة منهن قطيعا من الأرض، فكانت عائشة وحفصة قد اختارتا أن يقطع لهما فقطع لهما عمر بن الخطاب بذلك في الغابة.
قال محمد بن رشد: إنما خير عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت لهن واجبة بعد موت النبي عليه السلام فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] . كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - محبوسات عليه ليكن أزواجه في الجنة، محرمات على غيره، يبين ذلك قوله عليه السلام: «لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عائلي فهو صدقة» ، فكان أبو بكر الصديق بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلي ما أفاء الله على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك بما كان يليه هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته، فكان ينفق منه على عياله ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح، وفي(17/529)
هذه الولاية تخاصم إليه علي والعباس ليليها كل واحد منهما بما كان يليها به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،، ثم سار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أبي بكر في ذلك بسيرة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر، غير أنه خير أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما تخترنه من إقطاع الأرض أو إجراء الإنفاق وقد مضى هذا في رسم جامع البيوع من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.
[الاستعاذة من الجار السوء]
في الاستعاذة من الجار السوء قال مالك: وكان يقال اللهم إني أعوذ بك من جار سوء في دار إقامة.
قال محمد بن رشد: المحنة بالجار السوء عظيمة، وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الدار ترد من سوء الجوار فالاستعاذة بالله منه واجبة.
[غلظة مروان بن الحكم في الحد]
في غلظة مروان بن الحكم في الحد وسئل مالك عن الذي جلده مروان الحد حين قال للرجل: أمك تحب الظلم أترى فيه الحد؟ قال: لا أرى ذلك عليه، ولقد كان مروان ينتزع ثنية الرجل؛ يقبل المرأة فينزع ثنيته لذلك.
قال محمد بن رشد: أما حد القذف في التعريض بقول الرجل للرجل: إن أمك لتحب الظلم فله وجه، وإن كان مالك لا يرى ذلك ولا يأخذ به على ما تقدم من قوله قبل هذا في هذا الرسم، وأما نزع ثنية الرجل إذا قبل المرأة فلا وجه له بوجه، وقد أنكره مالك عليه، وبالله التوفيق.
[دعاء الرجل بالموت]
في دعاء الرجل بالموت
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز دعا رجلا فقال:(17/530)
ادع لي بالموت، فقال الرجل: وأنت فادع لي به، فقال عمر للرجل: لِم لَم تدع لي بالموت وأنت مخلى؟ فقال: إني أحب ذلك، قال: فدعوا فمات عمر ولم يمت الرجل، وبقي فكان الرجل يقول بعد ذلك: إن عمر بن عبد العزيز كان صادقا يريد الموت، وإني لم أكن صادقا.
قال سحنون قال ابن القاسم: قال لي مالك: والرجل رجل من أهل الشام كان له فضل، قال مالك: إني لأقول إن عمر بن الخطاب كان يحب ما يحب الناس من البقاء في الدنيا والمال والنساء، ولكنه خاف العجز فلذلك دعا الله اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا عاجز.
قال محمد بن رشد: ما قاله مالك في قول عمر بن الخطاب اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا عاجز من أنه إنما دعا بذلك مخافة الغير في الدين مثلُه يقال في دعاء عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت: إنه إنما دعا بذلك لما كان امتحن به من أمر الخلافة فخشي على نفسه التقصير فيما يتعين عليه في أمرها فيقع في الحرج، فإنما فر من الإثم بطول الحياة، ولا يجوز لأحد أن يدعو لنفسه بالموت من أجل ضر نزل به، فقد جاء النهي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي عنه أنه قال: «لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» وبالله تعالى التوفيق.(17/531)
[الأسير في قول الله عز وجل وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]
في الأسير في قول الله عز وجل
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]
هل هو مسلم أو مشرك؟ وسئل مالك عن قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] الأسير هل مسلم أو مشرك؟ قال: بل مشرك، وقد كان ببدر أسارى فأنزلت فيهم هذه الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] وكانوا مشركين وقد افتدوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين قاموا ولم يذهبوا.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في المراد بالأسير في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] فقيل: الأسير هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرا بالغلبة، والمسلم يحبس في حق، فأثنى الله تبارك وتعالى على الأبرار الذين يطعمون الطعام على حبهم إياه هؤلاء الأصناف، وقيل: المراد الأسير الحربي الكافر يؤسر، وقيل: المراد به المسجون من أهل القبلة، والأظهر أن يحمل على كل أسير كان من أهل الإسلام، أو من أهل الكفر، وبالله التوفيق.
[المقصورة في الجامع]
في المقصورة في الجامع قال مالك: أول من جعل مقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال فجعل مقصورة من طين وجعل فيها تشبيكا.
قال محمد بن رشد: وجه قوله الإعلام بأن المقصورة محدثة لم(17/532)
تكن على عهد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا على عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، وقد قيل: إن معاوية بن أبي سفيان هو أول من اتخذ المقاصير في الجوامع، وأول من أقام على نفسه حرسا، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، فاتخاذها في الجوامع مكروه، فإن كانت ممنوعة تفتح أحيانا وتعلق أحيانا فالصف الأول هو الخارج عنها اللاحق بها، وإن كانت مباحة غير ممنوعة فالصف الأول هو اللاحق بجدار القبلة داخلها، روى ذلك عن مالك.
وقوله: وجعل فيها تشبيكا يريد تخريما يرى منه ركوع الناس وسجودهم للاقتداء بهم، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[الطلوع على منبر النبي عليه السلام بخفين]
في الطلوع على منبر النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين قال مالك: استشارني بعض ولاة المدينة أن يطلع منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخفين ونهيته عن ذلك، ولم أر أن يطلعه بخفين، فقيل له: فالكعبة؟ فقال: إن بعض هؤلاء الحجبيين ممن قدم علينا يذكر أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى أن يطلع أحد الكعبة بنعلين، فقيل له: فالرجل يجعلهما في حجرته؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهيته أن يطلع أحد منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخفين أو نعلين للإمام أو غير الإمام، وأن يدخل أحد البيت بنعلين أو خفين؛ إكراما لهما وترفيعا وتعظيما، إذ من الحق أن ينزها عن أن يوطأ بالخفاف والنعال المتخذة لصيانة القدمين عن المشي بهما(17/533)
في الطرق والمحاج وإن كانت طاهرة، ولم ير ابن القاسم بأسا في المدونة أن يدخل بهما في الحجر، وكره ذلك أشهب في المجموعة؛ لأن الحجر من البيت، قال: وكراهيتي لذلك في البيت أشد وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، وبالله التوفيق.
[عدة من قتل وأسر من المشركين يوم بدر]
في عدة من قتل وأسر من
المشركين يوم بدر قال مالك: بلغني أن قتلى بدر كانوا شبيها بمن أسر منهم، كان من قتل منهم بضعة وأربعين، ومن أسر كذلك بضعة وأربعين، وكان فداؤهم مختلفا لم يكن شيئا واحدا كان بعضهم في ذلك أكثر من بعض.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى سبعين، وقد قال ابن عبد البر في كتاب الدرر له: لا يختلفون أن القتلى يومئذ سبعون والأسرى سبعون في الجملة، وقد يختلفون في تفضيل ذلك، وقد سمى أهل السير الأسرى منهم والقتلى ومن قتل كل واحد منهم وإن كانوا يختلفون في بعضهم، وبالله التوفيق.
[ما روي عن حذيفة في قتل عثمان رضي الله عنه]
فيما روي عن حذيفة في قتل
عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وحدثنا مالك: وقال معاوية من يحفظ حديث حذيفة؟
فقال عبد الرحمن بن غنم، فقال: كيف كان يقول؟ قال: اللهم إني لم أشارك غادرا في غدرته، وإني أعوذ بك من صباح السوء، قال مالك: أراه يعني الموت، فقال معاوية: كذب قد أعان على قتل عثمان، فقال ابن الأسود: دعوه فهو أعلم بما يتكلم به، قال له معاوية: وأنت قد أشركت في دمه، قال: أما أنا فنهيته عما قيل(17/534)
فيه، فأنت أسلمته حين احتاج إليك، قال: فثنى معاوية برجله فدخل.
قال محمد بن رشد: حذيفة بن اليمان من فضلاء الصحابة يعرف فيهم بصاحب سر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان عمر ابن الخطاب يسأله عن المنافقين وينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر، وخيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة، فليس ممن يتهم في أنه أعان على قتل عثمان، ولا يتهم في ذلك أحد أيضا من المهاجرين ولا الأنصار، روي عن الحسن أنه قيل له: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا كانوا أعلاجا من أهل مصر، ولولا أنه منعهم من الدفاع عنه والقتال دونه لفعلوا، روي عن محمد ابن سيرين أنه قال: انطلق الحسن والحسين، وابن عمر، وابن الزبير، ومروان بن الحكم كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال(17/535)
عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فخرج ابن عمر والحسن والحسين، وقاك ابن الزبير ومروان: ونحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وروي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: لو أن أحدا ارفض لما فعل بابن عفان كان محقوقا وهو كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه كان حدثا عظيما لم يجر في الإسلام مثله.
وإنما منع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الدفاع عنه والقتال دونه لعهد كان عنده في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي «عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادع لي بعض أصحابي، فقلت: أبو بكر؟ فقال: لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت ابن عمك علي؟ قال: لا، فقلت له عثمان بن عفان؟ قال: نعم، فلما جاء قال لي بيده، فتنحيت فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عهد إلي عهدا وأنا صابر نفسي عليه» وبالله التوفيق.
[شرب الفلونية والترياق للمحرم]
في شرب الفلونية والترياق للمحرم وسئل مالك عن شرب الفلونية والترياق للمحرم وفيها الزعفران، قال: لا بأس به، والذي فيه من الزعفران ليس له قدر، لا يرى، وما أرى به بأسا، قال مالك حين ذكر شرب(17/536)
الترياق للمحرم: أشد من هذا عندي ما يصيب الناس في إحرامهم من طيب البيت وخلوقه، كأنه يرى أن لهم في ذلك سعة وأنه أمر لا يستطاع، يقول: فكيف يصنعون؟
قال محمد بن رشد: إنما جاز للمحرم شرب الفلونية والترياق؛ لأن الذي فيهما من الزعفران يسير لا قدر له ولا يظهر فيهما فلم ير له حكما لما كان مستهلكا فيهما، كما أن لبن المرأة عنده إذا خلط بالطعام وعصد به حتى صار هو الغالب عليه لم يقع به حرمة، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة وغيرها من أن المحرم لا يأكل الطعام الذي فيه الزعفران إلا أن يكون قد مسته النار، قال ابن حبيب فتعلك بالطعام حتى صار لا يصبغ اليد ولا الشفة لهذه العلة ولمعنى آخر أيضا وهو أن الفلولنية والترياق إنما يشربان لضرورة التداوي، فليس بمنزلة الطعام الذي يؤكل من غير ضرورة، يدل على هذا التعليل تقييد مالك ذلك بما يصيب الناس في إحرامهم من طيب الكعبة وخلوقها؛ لأنهم مضطرون إلى ذلك فأشبه ضرورة التداوي، وبالله التوفيق.
[تحديد عمر الحرم وموضع المقام من البيت]
في تحديد عمر الحرم وموضع المقام
من البيت
قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب هو الذي حد علم الحرم وأنه حين أراد أن يحده أرسل إلى ناس كانوا يدعون في الجاهلية أهل معرفة بذلك الموضع، فسألهم عن ذلك فحددوها ووضعوا أنصابها.
قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، وكان الطواف من ورائه، وإنما ألصق لمكان السيل خيف عليه منه فقدم، فلما ولي عمر ابن الخطاب أخرجه إلى هذا الموضع، وهو موضعه الذي كان(17/537)
فيه في الجاهلية، وأنه وجد خيوطا كان قد قيس بها موضعه حين هدم فقاسه بها حتى رده إلى موضعه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا في رسم اغتسل ومثله في المدونة بمعناه، وفيه الفضيلة لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما تهمم به من ذلك وصنعه، وبالله التوفيق.
[ما يختار للراعف من البناء أو القطع]
فيما يختار للراعف من
البناء أو القطع قال: وقد كان بعض أهل العلم يقول: لأن أتكلم وأبتدِي أحب إلي من ألا أتكلم وأبني، قال: فكيف يعمل؟ لا يتكلم في وضوئه وينصت في ذلك كله!!! ورأيه أن يتكلم ويبتدي.
قال محمد بن رشد: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبل الجائز، وقد اختلف في المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع، وهو قول بعض أهل العلم في هذه الرواية: لأن أتكلم وأبتدى أحب إلي من ألا أتكلم وأبني، وهو القياس، فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة.
واختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - البناء على الاتباع للسلف بأن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله في أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وهو قوله في هذه الرواية: إنه لا يتكلم في وضوئه وينصت في ذلك كله.
وقوله في آخر الكلام: ورأيه أن يتكلم ويبتدئ هو من قول مالك حكاية عما اختاره بعض أهل العلم على ما حكي عنه، وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب البناء، وهو قوله: إن الإمام إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه صلاته بالكلام بعد(17/538)
الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف، والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول، ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما يستحب له؟ وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ]
في تفسير قول الله عز وجل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]
وقول أم سليم للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
يوم حنين وسئل عن قول الله تعالى وتبارك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، قال في حصب رسول الله المشركين يوم حنين.
قال مالك: «وقالت له أم سليم ذلك اليوم من يا رسول الله يضرب رقاب هؤلاء المنهزمين؟ وهي قابضة بعنان بغلته، قال: أويأتي الله عز وجل يا أم سليم بخير من ذلك» قال مالك وكانت عائشة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق.
قال محمد بن رشد: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] إن ذلك في حصب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين يوم حنين صحيح لا اختلاف فيه من أهل العلم بالتفسير، ولم ينف الله عنه عز وجل الرمي جملة وإن كان الله عز وجل هو الفاعل له الخالق لكل شيء، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ؛ لأن للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيه الكسب الذي يثاب عليه ويسمى(17/539)
به راميا حقيقة لا مجازا، وإنما الذي نفي عنه جملة الانتفاع الذي كان عن الرمي فانهزم به المشركون، وذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما واجهه العدو يومئذ صاح بهم صيحة وأخذ حصى أو ترابا ورمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلا دخلت الحصاة والتراب في عينيه، فلم يملكوا أنفسهم ورجعوا على أعقابهم، ونادى مناديه يا آل المهاجرين يا آل الأنصار، فما تكامل المسلمون بالرجوع إليه إلا وأسرى المشركين بين يديه.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سليم: «أويأتي الله بخير من ذلك يا أم سليم» إذ قالت له ما قالت يريد ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به من النصر، وكذلك فعل، رفع يديه إلى الله عز وجل يدعو يقول «اللهم أسألك ما وعدتني» ونادى أصحابه وقبض قبضة من الحصى فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها، وقال: «شاهت الوجوه» وأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرون، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الآن حمي الوطيس» فهزم الله أعداءه من كل ناحية، حصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم الله نسائهم وذراريهم وشاءهم وإبلهم، وفي ذلك قال الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] الآية، إلى قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] .
وفيما ذكره شهود النساء الغزوات ليخدمن الغزاة ويسقين الماء ويداوين الجرحى، ولا لسهم لهن من الغنيمة ولا للصبيان ولا للعبيد، واختلف أهل العلم هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم، فلم ير ذلك(17/540)
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله، وهذا على الاختلاف هل للإمام أن ينفل من جملة الغنيمة وقد مضى الكلام على هذا في ذكر غزوة حنين من رسم البز، وبالله تعالى التوفيق.
[أول من استقضي]
في أول من استقضي قال مالك: ما استقضى أبو بكر ولا عمر ولا عثمان قاضيا وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم حتى كان بعد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم سئل عن تأخير صلاة العشاء في الحرس، من أن أول من استقضى معاوية يريد والله أعلم أنه أول من استقضى في موضعه الذي كان فيه؛ لاشتغاله بما سوى ذلك من أمور المسلمين كبعث البعوث وسد الثغور وفرض العطاء وقسم الفيء وما أشبه ذلك، فقد ولى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما ذكر قضاء البصرة أبا مريم الحنفي، ثم عزله وولى كعب بن سور اللقطي، فلم يزل قاضيا حتى قتل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وولى شريحا قضاء الكوفة، يدل على صحة تأويلنا هذا في هذه الرواية، قوله فيها: " وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم، إذ لا يصح أن ينظروا هم بأنفسهم في أمور المسلمين إلا في مواضعهم التي هم فيها إلا فيما بعد من البلاد "، والذي مضى من قوله في رسم تأخير العشاء المذكور، ويأتي في رسم المحرم ما يرد هذا التأويل ويدفعه، وبالله التوفيق.
[بركة اسم النبي عليه السلام]
في بركة اسم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: سمعت أهل مكة يقولون: ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا، ورزق خيرا.(17/541)
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بكثرة التجربة له، وأن يكون عندهم في ذلك أثر مروي وبالله تعالى التوفيق.
[وصية عمر من كان رزق له في شيء أن يلزمه]
في وصية عمر من كان رزق له في شيء أن يلزمه قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: من كان له رزق في شيء فليلزمه.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر على هذا والله أعلم إلا وقد خشي على من هيأ الله تعالى له رزقا في شيء فلم يعرف حق الله تعالى فيما هيأ له منه فتركه إلى غيره ألا يخار له في ذلك، وما خشيه عمر ينبغي لكل مسلم أن يخشاه، فإنه كان ينطق بالحكمة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه» ، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه، وبالله تعالى التوفيق.
[تفسير قول الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ]
في تفسير قول الله تعالى
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
قال مالك في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المقدس قبل أن تصرف القبلة، فلما أنزل صرف القبلة أنزل الله تعالى في هذا:(17/542)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] للصلاة التي كانوا يصلونها تلقاء بيت المقدس.
قال محمد بن رشد: إنما سمى الله عز وجل الصلاة إلى بيت المقدس إيمانا على ما قاله مالك في هذه الآية وغيره من أهل العلم وهو قول أكثر أهل التأويل والتفسير وذلك أنه مات على القبلة قبل أن تحول إلى الكعبة رجال وقتل آخرون فقال المسلمون: ليت شعرنا هل يقبل الله منهم ومنا صلاتنا إلى بيت المقدس أم لا؟ فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] : أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا من أجل أنها كانت مقارنة للإيمان، ولذلك حصل الانتفاع بها والجزاء عليها، فسميت الصلاة باسم الأصل الذي يثبت لها الحكم بأنها طاعة إلا به وهو الإيمان، إذ لو تجردت من الإيمان لم تكن طاعة ولا حصل عليها مثوبة، وقد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان الله ليضيع إيمانكم بفرض الصلاة عليكم إلى بيت المقدس بأنفس الطاعات من الأقوال والأفعال؛ إذ لم يصح أن تسمى طاعات إلا بمقارنة الإيمان لها، فلا يصح على التحقيق أن يقال: إنها غير الإيمان؛ إذ لا تصح مفارقتها له ولا أنها الإيمان إذ الإيمان إنما هو التصديق الحاصل في القلب لا نفس الأقوال والأفعال كالصفة القديمة لا يصح أن يقال فيها: إنها هي الموصوف، ولا أنها غيره، وبالله تعالى التوفيق.
[وجه الإطعام في الوليمة]
في وجه الإطعام في الوليمة
قال مالك كان ربيعة يقول: إنما يستحب الطعام في الوليمة لإثبات النكاح وإظهاره ومعرفته؛ لأن الشهود يهلكون.
قال محمد بن رشد: يريد أن هذا هو المعنى الذي من أجله أمر(17/543)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوليمة وحض عليها بقوله لعبد الرحمن بن عوف: «أولم ولو بشاة» وما أشبه ذلك من الآثار.
وقوله صحيح يؤيده ما «روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مر هو وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: ما هذا؟ فقالوا: نكاح فلان يا رسول الله، فقال: "كمل دينه هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر يسمع دف أو يرى دخان» ، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في الحبشة ومن أول من قدم مكة]
فيما ذكر في الحبشة ومن أول من قدم
مكة بالنرد والكتاب بالعربية وسئل مالك هل بلغك أن النبي عليه السلام قال: «ذروا الحبشة ما تركوكم؟» قال: أما عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فلا، ولكن قد سمعته يقال، وقال مالك: أول من جاء بالنرد والكتاب بالعربية إلى أهل مكة رجل من أهل الحيرة.
قال محمد بن رشد ليس في هذا معنى يشكل فيحتاج إلى التكلم عليه، وبالله التوفيق.
[كثرة المنافقين في الناس]
في كثرة المنافقين في الناس قال مالك: بلغني أن الحسن البصري كان يقول: لو ذهب المنافقون لاستوحشت الطرق.(17/544)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا والله أعلم أنه أراد لو ذهب المراءون بإظهار الإيمان واعتقاد الكفر؛ لأن الغالب في الناس الرياء، وأما اعتقاد الكفر فليس بغالب في الناس، بل هو الأقل منهم، وإنما أراد الحسن بقوله هذا التحذير من الرياء والله أعلم.
[قول الله تعالى وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ]
في تفسير قول الله تعالى
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31]
وسئل عن تفسير هذه الآية: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] قال: ما أبينها لأهل القدر، أخبر بما هو كائن من أمره حتى يموت.
قال محمد بن رشد: قوله ما أبينها لأهل القدر معناه ما أبينها لهم لو وفقوا في الاهتداء بها. وما أبينها لنا في الرد عليهم؛ لأن من جعله الله مباركا حتى يموت، فقد قدر عليه بأعمال السعادة حتى يموت، ومن جعله شقيا فقد قدر عليه بأعمال أهل الشقاء حتى يموت عليها.
فالخير والشر بقضاء الله وإرادته، وقدره على العبد لا خروج له عما قدره الله عليه من ذلك وأراده، وهو مأمور بالخير ومنهي عن الشر، وإن كان الله قد قدره عليه فهو يعاقبه على ما له فيه من الكسب بمخالفة أمر الله فيما اكتسبه من الإثم.
فالله عز وجل مريد لكل ما يكون من عبده من طاعة أو معصية تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد؛ فيلحقه العجز والنقص وذلك بين في الحجة من قول عمر بن الخطاب، وبالله التوفيق.(17/545)
[محبة الناس لمن اتقى الله]
في محبة الناس لمن اتقى الله وحدثني مالك عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: اتق الله ابن آدم يحبك الناس وإن كرهوا، ولم يسمعه مالك منه.
قال محمد بن رشد: إنما قال هذا زيد بن أسلم والله أعلم لأن من اتقى الله أحبه الله؛ لأن محبة الله لعبده إنما معناه إرادته لإدخاله جنته وتنعيمه منها، قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، ومن أحبه الله وضع له القبول في الأرض [على ما جاء في الحديث من «أن الله إذا أحب العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض» ] ، ومعنى قوله: وإن كرهوا أنهم مغلوبون على محبته بما ألقى الله في نفوسهم منها، وبالله التوفيق.
[حشف الثمر لعمر]
في حشف الثمر لعمر قال: وحدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يحشف له الصاع من الثمر فيأكله كله، فقيل له: ما يحشف له؟ قال: يأكله بحشفه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا قبل هذا في أول رسم البز فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[من يختار مجالسته]
فيمن يختار مجالسته وقال مالك: قال نافع بن جبير بن مطعم لعلي بن حسين:(17/546)
إنك تجالس أقواما كأنه يعاقبه فيهم: يقول أهل دناءة، قال: فقال له علي بن حسين: إني أجالس من أنتفع به في ديني، وكان نافع رجلا يجد في نفسه، وكان علي رجلا له فضل في الدين.
قال محمد بن رشد: معنى قوله أهل دناءة: أهل دناءة في الحسب، فكان علي بن حسين لتواضعه يجالسهم وإن كانوا أهل دناءة في الحسب لعلو مرتبتهم في الدين، وقد قال عمر بن الخطاب: كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها، فعليك بذات الدين» ، وبالله التوفيق.
[ترك التنعم مدة الشدة]
في ترك التنعم مدة الشدة وقال مالك: إن عمر بن الخطاب تألى ألا يأكل السمن حتى يحيى الناس من أول ما يحيون، فأكل الزيت فلم يلائمه، فأمر أن يطبخ له الزيت، فلما رأت ذلك امرأته عاتكة اشترت فرق سمن بستين درهما فقربته إليه، فقال: ما هذا؟ قالت: اشتريته بمالي، فقال لا آكله حتى يحيى الناس، قال: فكان عمر يقرقر بطنه وهو على المنبر حتى يسمع، فيقول: ما لك غيره حتى يحيى الناس.
قال محمد بن رشد: فعل عمر هذا لشدة إشفاقه على المسلمين وذلك نهاية منه في الخير والدين، وبالله تعالى التوفيق.(17/547)
[محبة الرجل أن يرى في شيء من أعمال البر]
في محبة الرجل أن يرى في شيء
من أعمال البر قال مالك: ولقد رأيت رجلا من أهل مصر وهو يسأل ربيعة عن ذلك ويقول: إني لأحب أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه أنكر ذلك من قوله ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال البر، فقلت له: ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر؟ قال: ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في بيته من النافلة أفضل منها في جماعة الناس وهو أعلم بنيته إن صحت في ذلك نيته لا يبالي فما أحسنه إن أحب، والسر أفضل من ذلك، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] وفي الحديث «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» .
قال محمد بن رشد: قوله وهو يسأل ربيعة عن ذلك يريد عن المسألة التي سأل عنها، فساق سؤال السائل لربيعة وما أجابه به؛ حجة لقوله فيها من أن السر في الصدقة أفضل حسب ما وقع من ذلك في هذا الرسم من كتاب الصدقات والهبات.
وكراهية ربيعة للرجل أن يحب أن يرى في شيء من أعمال البر خلاف قول لمالك في سماع أشهب بعد هذا وفي رسم العقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة أنه لا بأس بذلك إذا كان أوله لله، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأنه مما لا يستطاع التخليص منه، والدليل على إجازة ذلك إن شاء الله(17/548)
ما «روي عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله: إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعة، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد؟ من أهل الجنة، فقال: يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» وهذا نص في موضع الخلاف.
وأما قوله في التهجير إلى المسجد قبل الظهر ما زال الصالحون يهجرون وإن صلاة الرجل في بيته النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته إن صحت في ذلك نيته حتى لا يبالي بما أحسبه أن أحب، فالمعنى في ذلك أنه في النهار قد يشتغل باله في صلاته في بيته ببنيه وأهله فيكون باله في المسجد أفرغها، فإذا هجر قبل الظهر إلى المسجد ليصلي فيه متفرغ البال ليرى مكانه فيه فيحمد بذلك، ويثنى عليه من أجله فهو حسن كما قال، ولذلك كان الصالحون يفعلونه، وأما بالليل ففي البيت أفضل؛ لأنه لفعله أستر وباله فيه فارغ لهدوء أهله وبنيه بالنوم، وبالله التوفيق.
[اعتماد الرجل في الصلاة على رجليه جميعا]
في اعتماد الرجل في الصلاة على
رجليه جميعا وسمعت مالكا يقول: أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره قد كان مسمتا، فقيل له: أفعيب ذلك؟ قال: قد عيب ذلك عليه، وهو مكروه من الفعل.
قال محمد بن رشد: قال سحنون الرجل المسمت هو عباد بن كثير، ويروى مشيئا أي يشاء الثناء عليه، فجائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن يقرنهما ولا يعتمد على إحداهما دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة، إذ لم يأت ذلك عن(17/549)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين الكرام، وكان من محدثات الأمور.
وأما الاعتماد على اليدين عند القيام من الجلسة الوسطى فمرة استحبه مالك وكره تركه، ومرة استحسنه وخفف تركه، ومرة خير فيه، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي هريرة في إتيانه الوليمة]
حكاية عن أبي هريرة في إتيانه
الوليمة قال مالك: بلغني أن أبا هريرة دعي إلى وليمة وعليه ثياب دون فأتى ليدخل فمنع ولم يؤذن له، فذهب فلبس ثيابا جيادا ثم جاء فأدخل، فلما وضع الثريد وضع كميه عليه، فقيل له: ما هذا يا أبا هريرة؟ فقال: إنما هي التي أدخلت، وأما أنا فلم أدخل قد رددت إذ لم تكن علي، ثم بكى وقال: ذهب نبيي ولم ينل من هذا شيئا وبقيتم تهديون بعده.
قال محمد بن رشد: هذه الوليمة التي رد فيها أبو هريرة ممن لم يميزه من حجاب باب الوليمة إذ ظنه فقيرا لما كان عليه من الثياب الدون، وأدخله بعد ذلك من رآه من حجابها في صفة الأغنياء بالثياب الحسان، هي التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شر الطعام الوليمة يُدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله» ،(17/550)
ويروى بئس الطعام يريد أنه بئس الطعام لمطعمه؛ إذ رغب عما له فيه الحظ من ألا يحضر لطعامه إلا. الأغنياء دون الفقراء، فالبأس في ذلك عليه لا على من دعاه إليه؛ لقوله في الحديث نفسه: ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
وبكى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شفقة من تغير الأحوال على قرب العهد بالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ورغبة الناس عما ندبوا إليه في ولائمهم من عملها على السنة وترك الرياء فيها والسمعة، وبالله التوفيق.
[ما جاء في أن قول عمر بن الخطاب كان سببا لنزول القرآن بالحجاب]
في أن قول عمر بن الخطاب كان سببا
لنزول القرآن بالحجاب قال مالك: كان النساء يخرجن في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فكلمه عمر بن الخطاب، قال له: يا رسول الله لا ينبغي لنسائك أن يخرجن هكذا، فقالت امرأة منهن: قد تكلف عمر في كل شيء حتى في هذا، قال: فأنزل الله القرآن لقول عمر ابن الخطاب فضرب الحجاب.
قال محمد بن رشد: كان عمر بن الخطاب يرى الرأي بقلبه، ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق، فنزل القرآن بموافقته في الحجاب، وفي تحريم الخمر: وفي أسرى بدر، وفي مقام إبراهيم، وبالله التوفيق.
[التبرك بأمر النبي عليه السلام]
في التبرك بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر رئي وهو على ناقته(17/551)
وهو في مكان وهو يديرها، فقال رجل: إن هذا ليس بصحيح فسئل عن ذلك، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان على ناقته دارت هكذا، فأردت أن تطأ ناقتي على الموضع الذي وطئت عليه راحلة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال محمد بن رشد: هذه نهاية من عبد الله بن عمر في التبرك بأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ لم يدر بناقته في ذلك المكان بقصد منه إلى ذلك فيكون امتثال فعله فيه واجبا أو مستحبا، فإنما فعله عبد الله بن عمر متبركا بذلك، فقد كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يتبع فعل النبي عليه السلام حتى ليخاف على عقله منه، وبالله التوفيق.
[فعل الخير هل يفي بمقارفة الذنوب]
في فعل الخير هل يفي بمقارفة الذنوب قال مالك: بلغني أن ابن عباس سئل عن رجل كثير الصيام كثير الصلاة وهو يقارف الذنوب، ورجل قليل ذلك منه وهو سالم، فقال ابن عباس: ما أعدل بالسلامة شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لا يدري هل تفي في الموازنة حسناته بسيئاته؛ لأن ما عصى الله به وإن صغر فهو عظيم، فمن قلت سيئاته وحسناته أقرب إلى السلامة ممن كثرت سيئاته وحسناته؛ إذ لا يدري قدر الثواب في حسناته، ولا هل تقبلت منه أم لا؟ ولا قدر الإثم في سيئاته لا سيما إن تعلق في ذلك حق لمخلوق، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز خرج مع سليمان بن عبد الملك في حج في حر شديد، فخرج سليمان إلى الطائف(17/552)
ومعه عمر فأصابهما في الطريق مطر ورعد وصواعق، قال: فشد سليمان على وسط راحلته، أو القربوس وطأطأ عليه بصدره، فلما تجلى ذلك قال لعمر: هذا الملك لا ما نحن فيه، فقال عمر له: هذا في رحمته فكيف في غضبه.
قال محمد بن رشد: إنما قال عمر بن عبد العزيز هذا في رحمته؛ لأن المطر رحمة من الله لعباده، قال الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] إلى قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] . وقال عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وقد «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تحبلت السماء تغير وجهه وأقبل وأدبر ودخل وخرج، فإذا أمطرت سري عنه، قالت عائشة: فسألته فقال: لعله كما قال قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] » الآية، وبالله التوفيق.
[ما رغب فيه زياد مولى ابن عباس لمالك]
فيما رغب فيه زياد مولى ابن عباس
لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال مالك: كان زياد مولى ابن عباس يمر بي وأنا جالس، فربما أفزعني حسه خلفي، فيضع يده بين كتفي فيقول: عليك بالجد، فإن كان ما يقول أصحابك هؤلاء من الرخص حقا لم(17/553)
يضرك، وإن كان الأمر على غير ذلك كنت قد أخذت بالجد يريد ما يقول ربيعة وزيد بن أسلم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه حضه على أن يأخذ لنفسه في خاصته بأشد ما قيل بالاجتهاد في أحكام الدين التي لا نص فيها وإن كان يرى باجتهاده ما قاله أصحابه في ذلك من التخفيف فيها؛ إذ لو لم ير باجتهاده إلا الأشد لما وسعه مخالفة ما رآه في ذلك باجتهاده إلى اجتهاد غيره، فللمجتهد الذي كملت له آلات الاجتهاد في خاصته أن يترك ما رآه باجتهاده إلى ما رآه غيره باجتهاده مما هو أشد منه، وذلك مما يستحب له على ما حض عليه زياد لمالك في هذه الحكاية. وليس له أن يترك ما رآه باجتهاده إلى ما رآه غيره باجتهاده مما هو أخف منه.
وأما فيما يفتى به غيره فليس له أن يتعدى فيه ما رآه باجتهاده إلى اجتهاد غيره، كان أخف مما رآه هو باجتهاده أو أشد منه، وليس له أن يترك النظر والاجتهاد ويقلد من قد نظر واجتهد، وإن خاف فوات الحادثة، وهو قول أكثر البغداديين وجماعة أصحاب الشافعي، والأشبه بمذهب مالك. وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يجوز للعالم تقليد عالم وبه قال أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وذهب ابن نصر من أصحابنا، وابن شريح من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يجوز للعالم تقليد عالم إلا إذا خاف فوات الحادثة.
وقال محمد بن الحسن: له أن يقلد من هو أعلم منه ولا يجوز له أن يقلد من هو مثله.
واختلف في المستفتي من العوام، فقيل له: أن يقلد من شاء من(17/554)
العلماء المجتهدين، فله على هذا القول أن يسألهم ويأخذ بقول أيهم شاء، وإذا ألزم نفسه قول أحدهم فليس له أن ينتقل عنه إلى قول غيره إلا أن يكون أشد من القول الذي التزم، وقيل ليس له: أن يقلد إلا أعلمهم وأفضلهم، فإن استووا في الفضل قلد أعلمهم، فإن استووا في العلم قلد أفضلهم، وإن استووا في الوجهين قلد أيهم شاء، وبالله التوفيق.
[رد زياد على الناس ما فضل عنده مما أعانوه به في فكاك رقبته]
في رد زياد على الناس ما فضل عنده
مما أعانوه به في فكاك رقبته قال مالك: كان زياد قد أعانه الناس في فكاك رقبته وأسرع الناس في ذلك، وفضل مما قوطع عليه مال كثير فرده إلى من أعطاه بالحصص وكتبهم زياد عند نفسه فلم يزل يدعو لهم حتى مات.
قال محمد بن رشد: ما فعله زياد من رده على الذين أعانوه في فكاك رقبته ما فضل عنده من ذلك بعد أداء ما قوطع عليه بالحصص صحيح من فعله؛ لأنهم أعانوه بما أعانوه به ليفك رقبته به من الرق، فليس له مما أعانوه به إلا ذلك، ولو لم يكن فيما أعانوه به وفاء بما عليه من الكتابة كان جميع ذلك مردودا على الذين أعانوه إلا أن يجعلوه من ذلك في حل، ولو أعانوه بما أعانوه به ليستعين به في أداء كتابته ليس على وجه أن يفكوه بها من الرق ولكن على وجه الصدقة عليه لكان له من ذلك ما فضل عن أداء كتابته أو قطاعته، ولكان لسيده جميع ذلك إن عجز عن أداء كتابته، قاله في المدونة، وهذا على القول بأن المكاتب يكون بالعجز منتزع المال. وعلى القول بأنه لا يكون بالعجز منتزع المال يكون جميع ما أعين به في كتابته له إن عجز عن الكتابة إلا أن ينتزعه منه السيد، وبالله التوفيق.(17/555)
[سيرة عمر بن عبد العزيز في ركباته ومع قاضيه]
في سيرة عمر بن عبد العزيز
في ركباته ومع قاضيه قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كانت له ركبتان في الجمعة، فكانت إحدى ركبتيه لا يركب معه فيها أحد إلا من بلغ الأربعين سنة، والأخرى يركب معه أخلاط الناس، وكان عمر إذا أراد الحج والعمرة خرج معه قاضيه حتى إذا بلغ الشجرة رده، وأجازه بمائة دينار وحلته التي عليه.
قال محمد بن رشد: إنما كان يختص في إحدى ركبتيه بمن بلغ الأربعين سنة؛ لأن الأربعين سنة هي سن الاستواء التي قال الله عز وجل فيها: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ} [القصص: 14] أي تناهى شبابه وتم خلقه واستحكم عقله {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14] بدليل قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] فأراد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يختص في ركبته الواحدة بهم أن يتمكن مما يريده من تفقد أحوالهم؛ وليتمكنوا هم أيضا مما يريدونه من طلب حوائجهم، وكان إذا خرج إلى الحج والعمرة يخرج معه قاضيه إلى الموضع الذي ذكره ليوصيه في مشيه معه إليه بما يصنع بعده، ثم يرده ويجيزه بما كان يجيزه به لتبسط به نفسه، ويقوى بذلك على التفرغ للإمرة، وبالله التوفيق.
[تعريف البضع والأشد]
في البضع والأشد قال مالك: بلغني أن البضع ما بين ثلاث سنين إلى تسع(17/556)
سنين، وقد طرح يوسف في الجب وهو غلام، والأشد الحلم.
قال محمد بن رشد: ما قاله مالك ما بين ثلاث سنين إلى تسع سنين فيما بلغه، يريد والله أعلم فيما بلغه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في تفسير قوله عز وجل: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3] {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تغلب الروم فارس؛ لأنهم أهل كتاب كلهم، وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس الروم؛ لأنهم أهل أوثان كلهم، وكانت فارس قد غلبت الروم، فلما أنزل الله عز وجل: {الم} [الروم: 1] {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] قال أبو بكر الصديق للمشركين: إن الروم ستغلب فارس وراهنهم في ذلك على ست سنين، وذلك قبل أن يحرم الخطار، فأخبر أبو بكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما راهن عليه المشركين من أن الروم ستغلب فارس إلى ست سنين، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ألا احتطت فيه فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع» ، وقد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: البضع ما بين الواحد إلى الأربعة، وقال الخليل بن أحمد: هو ما بين الثلاث إلى العشرة، والصحيح ما في الحديث من أنه ما بين الثلاث إلى التسع.
وأما قوله بأن يوسف طرح في الجب وهو غلام فهو نص ما في القرآن، قال الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ} [يوسف: 19] .
وأما الأشد فمعناه الشدة والقوة في البدن، وقد اختلف في حده، فقيل الحلم وهو الذي ذهب إليه مالك؛ لأنه الحد الذي تكتب له فيه الحسنات وعليه السيئات، وقيل العشرون عاما، وكان ابن عباس يقول الأشد ثلاث(17/557)
وثلاثون، والاستواء الأربعون، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون، وبالله التوفيق.
[ما روي عن يوسف عليه السلام]
في ما روي عن يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن يوسف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما انتقمت لنفسي من شيء أتى إليها، فذلك اليوم زادي من الدنيا أي أجر اليوم الذي ألقاه فيه إخوته في الجب هو زاده إلى الآخرة؛ إذ لم ينتقم لنفسه منهم فيما فعلوه به من ذلك.
ومعنى قوله: وإن عملي قد لحق بعمل آبائي فألحقوا قبري بقبورهم.
قال محمد بن رشد: معنى قوله والله أعلم، فذلك اليوم زادي من الدنيا، أي أجر اليوم الذي ألقاه فيه إخوته في الجب هو زاده إلى الآخرة إذ لم ينتقم لنفسه منهم فيما فعلوه به من ذلك، ومعنى قوله والله أعلم: وإن عملي قد لحق بعمل آبائي يريد النبوءة التي لحق بهم فيها، وبالله التوفيق.
[فلي الرجل رأس أمه]
في فلي الرجل رأس أمه قال مالك: بلغني أن بعض من مضى كان يفلي رأس أمه فقيل له: ما ترى فيه؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس بذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] ، فإذا جاز للرجل أن يرى شعر أمه جاز له أن يفلي رأسها برا بها، وممن روي ذلك عنه(17/558)
محمد بن الحنفية ومحمد بن علي بن حسين ومروان العجلي وطلق بن حبيب، وكان الشعبي والضحاك وطاوس يكرهون أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وذات محرمه، والصواب إجازة ذلك على ما قاله مالك وسائر فقهاء الأمصار، وقد أجازوا للرجل أن يغسل ذوات محارمه إذا لم يكن عنده نساء يغسلنها، وفليه رأس أمه وهي حية أخف من غسلها وهي ميتة، وبالله التوفيق.
[قتل محمد بن أبي بكر الصديق]
في قتل محمد بن أبي بكر الصديق قال مالك: بلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكر قدم مصر فكلم عمرو بن العاص في أمر محمد بن أبي بكر أن يدخل في أمره ألا يقتل، فقال عمرو: ما كنت أنهى ولا آمر، وأبى أن يدخل في أمره.
قال محمد بن رشد: ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الصحابة له، أن علي بن أبي طالب ولى محمد بن أبي بكر مصر فسار إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا فهزم محمد فدخل في خربة فيها حمار ميت، فدخل في جوفه، فأحرق في جوف الحمار بعد، وقيل: أُتي به عمرو بن العاص فقتله صبرا، وروي عن عمرو بن دينار قال: أتي عمرو بن العاص بمحمد بن أبي بكر أسيرا فقال: هل معك عهد؟ هل معك عقد من أحد؟ قال: لا، فأمر به فقتل، وهذا الذي ذكره أبوه عمر هو نص ما ذكره خليفة بن خياط في تاريخه، فإن صح ما ذكره مالك من أن عمرو بن العاص قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: إذ سأله أن يدخل في أمره ألا يقتل: ما كنت أنهى ولا آمر، وإنما أمر به فقتل على ما ذكر عمرو بن دينار فلم يقتله برأيه والله أعلم، وإنما قتله بأمر معاوية له بذلك من أجل أنه حقق عليه والله أعلم ما نسب إليه من المشاركة في دم عثمان من نسبه، فقد قيل: إنه دخل عليه فيمن دخل فأخذ بلحيته وأشار بعينه على من كان معه فقتلوه، وقد نفى ذلك عنه جماعة ممن حضر الدار منهم(17/559)
كعب مولى صفية بنت حيي، قال لما دخل على عثمان كلمه بكلام فخرج عنه، ولم يند من دمه بشيء، فقتله رجل من أهل مصر، يقال له جبلة بن الأهيم، وهو الصحيح والله أعلم؛ لأنه كانت له عبادة وفضل واجتهاد في الخير، وكان علي بن أبي طالب يثني عليه ويفضله، وكان في حجره إذ تزوج أمه أسماء، وكان على رجالته يوم الجمل، وشهد معه صفين، وبالله التوفيق.
[غزو النساء]
في غزو النساء قال مالك: كان النساء يخرجن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوه يسقين الماء، ويداوين الجرحى.
قال محمد بن رشد: لا خلاف في جواز خروج النساء في الغزو مع الجيش المأمون ليخدمن الغزاة، ولا سهم لهن من الغنيمة، واختلف هل يحبين منها دون قسم؟ فلم ير ذلك مالك، واستحبه ابن حبيب، وقد مضى الكلام على هذا قبل هذا في هذا الرسم، وبالله التوفيق.
[ما جاء عن ابن عمر من أنه كان يؤثر]
فيما جاء عن ابن عمر من أنه كان يؤثر
السائل بما حضر ولا يرده خائبا قال مالك: بلغني أن ابن عمر أهدي إليه في بعض المناهل حوت عظيم فوضع بين يديه، فجاءه سائل فقال له: تعالى خذه، فأخذه السائل فجعله في ثوبه، ثم خرج به على ظهره، طفق ولده يتبعونه بأبصارهم، فلما رأى ذلك ابن عمر منهم قال لهم: إنكم ستشبعون من غيره، قال مالك: بلغني أن ابن عمر مرض فاشتهى عنبا، فأتته امرأته بعنقود فجاء سائل فأعطاه إياه، ثم إنهم اتبعوا(17/560)
السائل فاشتروه منه، ثم أتوا به، فأتاه السائل الثانية فأعطاه إياه أو أكل منه وأعطاه.
قال محمد بن رشد: في هذا من الفضل لعبد الله بن عمر ما لا يخفى؛ لأنه آثر السائل على نفسه وبنيه بما كان عنده ولم يشح عليه بذلك، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقد اتبعه رجل في الطواف حول البيت فرآه يكثر من قوله: اللهم قني شح نفسي، فلما فرغ قال له الرجل: رأيتك تطوف فتقول: اللهم قني شح نفسي، قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، ولا شك في أن الله قد أجاب دعاءه في ذلك بدليل ما روي من أنه حج ستين حجة، وأعتق ألف رأس، وحبس ألف فرس واعتمر ألف عمرة، وكان لا ينام من الليل إلا قليلا، وبالله التوفيق.
[ما جاء مما يدل على أن الاسم هو المسمى]
فيما جاء مما يدل على أن الاسم
هو المسمى قال مالك: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انظروا كيف صرف الله عني أذى قريش وسبها يشتمون مذمما وأنا محمد» قال مالك: ختم الله به الأنبياء وختم به الكتاب وختم بمسجده هذه المساجد ".
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث دليل واضح على ما ذهب إليه أكثر أهل السنة من أن الاسم هو المسمى حقيقة؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخبر أن الله صرف عنه أذى قريش وسبها، إذ سبوا مذمما الذي هو ليس باسم له، ولم يسبوا محمدا الذي هو اسم له، فلو كان الاسم غير المسمى(17/561)
لما لحقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبهم إذا سبوا مذمما أو محمدا؛ إذ لا يلحق أحدا أذى بسب غيره.
وفي هذا بين أهل الحق اختلاف.
قد ذهب أبو الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض كتبه إلى أن الاسم ليس هو المسمى.
وللقاضي أبي بكر الباقلاني في ذلك تفصيل في أسماء الله عز وجل، قال: ما كان منها يعود إلى نفسه كشيء وموجود وقديم وذات وواحد وغير لما غايره، وخلاف لما خالفه، أو إلى صفة من صفاته: ذاته كعالم، وقادر، ومريد، وسميع، وبصير، فهي هو الله عز وجل وما كان يعود منها إلى صفة فعل: كخالق، ورازق، ويحيي ويميت، وما أشبه ذلك فهو غيره؛ لأنه قد كان تعالى موجودا متقدما عليها ومع عدمها.
والصحيح أن الاسم هو المسمى جملة من غير تفصيل، قال الله عز وجل: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] فأخبر أنهم يعبدون أسماءهم وإنما عبدوا الأشخاص لا الكلام، والقول الذي هو تسميته، فدل ذلك دليلا ظاهرا على أن الأسماء التي ذكرها هي المسميات، وقال عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] ومعناه سبح ربك الذي خلق فسوى، وتبارك ربك ذو الجلال والإكرام، فأسماء الأشياء ذواتها، والذوات أيضا أسماء، والأسماء هي المسميات وعين المسميات، فمن لم يلح له الفرق بين الاسم والتسمية وقال: إن الاسم هو التسمية قال: إنه هو(17/562)
غير المسمى، إذ لا اختلاف في أن التسمية غير المسمى، فهذه هي نكتة الاختلاف في الاسم هل هو المسمى أم لا؟
فعلينا أن نبين الفصل بين الاسم والتسمية؛ ليصح لنا ما صححناه من أن الاسم هو المسمى، فالتسمية هي الكلام والقول الذي به يتحرك اللسان، والاسم هو المفهوم من التسمية، فإذا سألت الرحمن الرحيم، أو دعوت السميع القريب المجيب فقد دعوت وسألت المسمى بما سميته به من الرحمن الرحيم والسميع القريب المجيب وهو الله رب العالمين، وكذلك إذا قلت: لقيت زيدا أو خالدا أو عالما أو كلمتهم أو صحبتهم كنت قد أخبرت حقيقة لا مجازا بلقائك وتكلمك وصحبتك لأعيانهم وأشخاصهم وذواتهم المسمين بأسمائهم التي سميتهم بها لا لغير أشخاصهم وأعيانهم، ومن لم يبن له الفرق بين الاسم والتسمية وقال: إن الاسم هو التسمية، وإنه غير المسمى حمل كل ما جاء من الإفصاح بأن الاسم هو المسمى على المجاز في القول، فقال: معنى قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] أي ما تعبدون من دونه إلا أشخاص أسماء سميتموها، وكذلك يقولون في قول القائل: سألت الرحمن الرحيم معناه سالت ربي المسمى بالرحمن الرحيم وكذلك يقولون في قول الرجل لقيت زيدا أو كلمته أو صحبته معناه: لقيت المسمى بزيد أو كلمته أو صحبته، ولا يصح أن يعدل بالكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة، فلم يأت من قول من قال من أهل السنة: إن الاسم غير المسمى ببدعة إلا أنه أخطأ خطأ ظاهرا وجهل جهلا لائحا؛ إذ لم يفترق عندهم الاسم من التسمية حتى قالوا: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال نار احترق فوه، ومن قال: زيدا وجد زيدا في فيه، وهذا جهل؛ إذ لا يوجد في فم الذي قال نارا إلا التسمية التي هي القول لا الاسم الذي هو المفهوم منه على ما بيناه، ولو وجد اسم النار في فيه لاحترق فوه.(17/563)
وأما أهل الاعتزال فيقولون: إن الاسم غير المسمى على أصولهم في أن أسماء الله عز وجل وصفاته غيره؛ لأنها عندهم محدثة مخلوقة، وأنه تعالى كان بغير اسم ولا صفة حتى خلق خلقه، فخلقوا له أسماء وصفات؛ لأنهم يقولون: إن الاسم هو التسمية، وإن الوصف هو الصفة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وبه التوفيق لا رب غيره.
وقول مالك متصلا بهذا الحديث: ختم الله به الأنبياء، وختم به الكتاب، وختم بمسجده هذه المساجد، ليس له تعلق به، وإنما ورد من حيث نقل على سبب غيره، والمعنى فيه بين؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخر الأنبياء، ختم الله به النبيين، وكتابه الذي أنزل عليه آخر الكتب؛ إذ لا نبي بعده.
وقوله: ختم بمسجده هذه المساجد إشارة منه إلى المسجد الحرام ومسجد إيليا، ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدث المساجد الثلاثة التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد إيليا، أو بيت المقدس» وآخرها، وبالله التوفيق.
[قدر القراءة في الصلوات]
في قدر القراءة في الصلوات قال مالك: حدثني سميى مولى أبي بكر أنه قال له يوما، وقد كان كف بصره وأسفر عن الصلاة عن وقتها الذي كان يصليها فيه فقرأ فيها ببراءة، قال مالك: وكان حزم يطيل القراءة في(17/564)
الظهر، قيل له: قدر كم؟ قال: الكهف وما أشبهها، فقيل له: أفيقرأ المسافر بسبح، وويل للمطففين؛ فإن الأكرياء يسفرون بهم؟ قال: لا بأس بذلك. فقيل له: فإذا زلزلت وما أشبهها؟ قال: هذه قصار جدا، كأنه يقول: لا.
قال محمد بن رشد: كذا وقع الأكرياء يسفرون بهم، وهو خطأ وصوابه: فإن الأكرياء يسرعون بهم، وكذا وقع في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة.
وقوله: وأسفر عن الصلاة عن وقتها الذي كان يصليها فيه معناه أخرها عن الوقت الذي كان من عادته أن يصليها فيه؛ لأنه أخرها حتى أسفر؛ إذ لو أسفر لما أمكنه أن يقرأ فيها ببراءة.
والتطويل في الصبح والظهر مستحب، وهما سيان فيما يستحب فيهما من التطويل، ألا ترى أنه استخف في المدونة للمسافر في الصبح من التخفيف القدر الذي استخفه هاهنا في الظهر، ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول قراءة من الثانية في الصبح والظهر، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطيل أول ركعة من الظهر وأول ركعة من الغداة» .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الاختيار في الظهر دون الصبح أن يكون الركعتان الأوليان متساويتين في القراءة [كما أن الركعتين الأخيرتين متساويتان في القراءة] ويستحب أن لا يقرأ في الصبح والظهر في مساجد الجماعات بدون طوال سور المفصل، ويقرأ في المغرب بقصارها وفي العشاء الآخرة بوسطها، واختلف في العصر فقيل: إنها والمغرب سيان في قدر القراءة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وقيل: إنها والعشاء الآخرة سيان فيما يستحب فيهما من قدر القراءة.(17/565)
واختلف في حد المفصل، فقيل: إنه من الحجرات، وقيل: إنه من سورة ق، وقيل: إنه من سورة الرحمن، روي ذلك عن ابن مسعود، والصحيح قول من قال: إنه من سورة ق لأن الحجرات مدنية، والمفصل بمكة، روي عن ابن مسعود أنه قال: أنزل الله عز وجل على رسوله المفصل بمكة فكنا حججا نقرأه لا ينزل غيره، ومن الدليل على ذلك ما روي عن أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: كيف كنتم تحزبون القرآن؟ قال: كنا نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وفي بعض الآثار، كيف كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحزب القرآن؟ فذكر نحوه؛ لأن القرآن يأتي على هذا سبعة أحزاب بعدد الأيام، المفصل منها حزب من أول سورة ق؛ ولأن الستة أحزاب تتم إذا عدت السور بسورة الحجرات، ويحتمل أن تكون سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود بعد سورة الحجرات، وبالله التوفيق.
[التأني والعجلة]
في التأني والعجلة قال مالك: بلغني أنه كان يقال: التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما عجل امرؤ فأصاب، وتأيد آخر فأصاب إلا كان الذي تأيد أصوب رأيا، ولا عجل فأخطأ وتأيد آخر فأخطأ إلا كان الذي تأيد أيسر شأنا.
قال محمد بن رشد: قوله: بلغني أنه كان يقال التأني من الله والعجلة من الشيطان، معناه بلغني أنه كان يقال في الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأن مثله لا يكون رأيا والله أعلم، وما فسره به من قوله: وما عجل امرؤ فأصاب إلى آخر قوله بين صحيح؛ لأن الحظ فيما ينوب من أمور الدنيا ألا يعجل فيها ولا يقدم عليها إلا بعد تقديم استخارة الله عز وجل فيها.(17/566)
وقد أمر الله عز وجل نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بمشورة أصحابه في الأمور والتثبت فيها، فقال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] روي عن أم سلمة أنها قالت: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة، فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصفوا له حتى صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا بذلك وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] » ، ومن هذا المعنى قول ابن عباس: القصد والتؤدة وحسن السمت جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوءة، وقد روي مرفوعا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأن التؤدة التأني في الأمور والتثبت فيها، وأما القصد فمعناه الاقتصاد في النفقة، وفي معناه جاء الحديث «ما عال من اقتصد» ، وأما حسن السمت فالوقار والحياء وسلوك طريقة الفضلاء، وبالله التوفيق.(17/567)
[سيرة عمر في الناس في سني الرمادة]
في سيرة عمر في الناس في سني الرمادة قال مالك: بلغني أن أول ما أغيث الناس في زمن عمر بن الخطاب في الخريف، فقال له رجل: ما كنت فيها بابن ثأداء فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله، وضربه بالدرة وكتب إلى عمرو بن العاص وغيره يا غوثاه، فبعثوا إليه بالإبل عليها الدقيق والأكسية، قال: وإن كان عمر لينفخ تحت قدورهم حتى إن كان الدخان يخرج من خلل لحيته قال: لا تشبعونهم فإنهم كالشن البالي، ولكن قليلا قليلا حتى ينتعشوا ويقووا، قال: وكان يأتي بالبعير عليه الدقيق إلى أهل البيت فيقول: كلوا لحمه، وائتدموا شحمه، والْتَحِفُوا بهذا العباء، وكلوا هذا الدقيق.
قال محمد بن رشد: قول الرجل لعمر بن الخطاب: ما كنت فيها بابن ثأداء، معناه ما كنت في هذه السنين بابن امرأة ضعيفة مسكينة، أي لم تضعف عن إغاثة الناس وإحيائهم وإقامة أرماقهم حتى جاء الله بالفتح من عنده، ومنه المثل السائر تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، أي لا ترضى أن تكون ضئيرا لقوم إلا المرأة الدنية المسكينة.
وإنما ضربه لمدحه إياه في وجهه، فقد جاء النهي عن ذلك، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احثوا التراب في وجه المداحين» أي وبخوهم وقبحوا إليهم قولهم حتى يذلوا ويكونوا في الذلة كمن لصق بالتراب، ومنه الحديث «تربت يمينك ومن أين يكون الشبه» ، وبالله التوفيق.(17/568)
[إمضاء أقضية الأمراء]
في إمضاء أقضية الأمراء قال مالك: إن أبان بن عثمان أراد أن ينقض قضاء عبد الله بن الزبير فيما قضى به ابن الزبير، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، فكتب إليه عبد الملك بن مروان: إنا لم ننقم على ابن الزبير فيما قضى به، وإنما نقمنا عليه لما أراد من الإمارة، فإذا جاءكم كتابي هذا فَأَمْضِه ولا ترده فإن نقض القضاء عناء معني.
قال محمد بن رشد: قول عبد الملك إنا لم ننقم على ابن الزبير فيما قضى به إلى آخر قوله، يدل على أن القاضي لا تنقض أحكامه إذا لم يعرف بالجور فيها، وإن كان غير مرضي في أحواله، وهو مذهب أصبغ من أصحابنا خلاف قول ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون، وقد مضى بيان هذا والقول فيه مستوفى في رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسير المسافر الميلين والثلاثة بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر]
في مسير المسافر الميلين والثلاثة
بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أنه كان يسير الميلين وثلاثة بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر.
قال محمد بن رشد: إنما كان يفعل ذلك إذا زالت الشمس وبينه وبين المنهل الذي يريد النزول فيه الميلان والثلاثة؛ لمشقة النزول والركوب.(17/569)
وأما لو كان في مشي متصل لنزل للصلاة في أول وقتها؛ لأن وقتها المستحب وإن كان متسعا إلى آخر القامة فأوله أفضل، سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الأعمال فقال: «الصلاة لأول وقتها» ، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمرو بن العاص]
قال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمرو بن العاص وكان عمرو عاملا على البحرين في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأنه قال له: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد توفي فالحق ببلدك وإلا فعلنا وفعلنا يتواعده، فقال له عمرو: لو كنت في حفش أمك لدخلنا عليك فيه.
قال محمد بن رشد: القائل لعمرو هذا قرة بن هبيرة بن سلمة بن قشير، كان ارتد وأتي به موثقا إلى أبي بكر مع عيينة، وشهد عليه بذلك عمرو بن العاص، فأراد بقوله هذا أنه لا يفلته ولا ينجو منه حتى يقيم عليه حد الله عز وجل، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين، وبالله التوفيق.
[خشية عمر بن عبد العزيز]
في خشية عمر بن عبد العزيز
وقال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز صلى فقرأ بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ، فلما بلغ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] خنقته العَبْرة فتردد عليها فلم يستطع أن ينفذها فتركها وقرأ والسماء والطارق.(17/570)
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن عبد العزيز نهاية في الخوف لله عز وجل، ومن بلغ هذا الحد فهو من أهل الجنة بفضل الله، قال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقد روى الصلت عن ابن القاسم أنه لا يطلق على من حلف بالطلاق أنه من أهل الجنة، وسئل مالك عن ذلك فتوقف وقال عمر بن عبد العزيز إمام هدى أو قال رجل صالح، وفضائله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كثيرة لا تحصى، وقول ابن القاسم بالصواب أولى؛ لأن الأمة قد أجمعت على الثناء عليه والشهادة له بالخير، [وهي معصومة قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» ] ، وقال: «أنتم شهداء الله في الأرض، فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار» وقد مضى هذا في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[سرور المستفتي إذا أفتاه المفتي بما يحب]
في سرور المستفتي إذا أفتاه
المفتي بما يحب وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد أن سعيد بن المسيب إذا جاءه الرجل يسأله فأفتاه بما يحب دعا له(17/571)
فيضحك ابن المسيب ويقول: أفتيته بما يحب.
قال محمد بن رشد: ضحك ابن المسيب من دعائه له إذا أفتاه بما يحب بخلاف ما لو أفتاه بما يكره وهو في فتواه إياه لم يقصد وجهه، وإنما فعل في الوجهين جميعا ما يجب عليه أن يفعله، ولا يجوز له أن يتعداه، وهذا أمر قد جبل عليه الناس، حكى ابن حبيب أن أعرابيا سأل مالكا عن ناقة له نفرت فانصرفت فقال لها: تقدمي وإلا فأنت بدنة، فقال له أردت زجرها بذلك لكي تمضي؟ فقال: نعم، فقال: لا شيء عليك، فقال: رشدت يا ابن أنس، وذلك من قول مالك خلاف رواية أبي زيد عن ابن القاسم في سماعه من كتاب النذور، وقول ابن القاسم هذا هو الذي يأتي على أصل مذهب مالك في أن اليمين بكل ما لله فيه طاعة تلزم كالنذور، ووجه قول مالك أنه لم ير ذلك يمينا لأن الرجل إنما يحلف على ما يملك أو على من يعقل فصرف ذلك إلى معنى النذر فلم يوجب عليه إخراجها إذ لم تكن له نية في ذلك، وإنما قصد زجرها لا القربة إلى الله بإخراجها، وهو الأظهر لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، وبالله التوفيق.
[أحاديث ابن وهب وأحاديث الإسكندراني في علي بن زياد]
أحاديث ابن وهب وأحاديث
الإسكندراني في علي بن زياد [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما] .
وحدثني محمد بن أحمد العتبي عن عيسى بن دينار عن عبد الله بن وهب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا(17/572)
أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: النبييون والصديقون ورجل زار أخاه في الله عز وجل، ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الولود الودود العوود التي إذا أساءت أو أساء إليها زوجها وضعت يدها في يده وقالت اعف أو اصنع ما بدا لك» .
وعنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يزور الأعلون من أهل الجنة الأسفلين، ولا يزور الأسفلون الأعلين إلا من كان يزور في الله في الدنيا، فذلك يزور في الجنة حيث يشاء» .
وحدثني يحيى بن سليم الطائفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأنس: «يا أنس، سلم على أهلك يكثر خير بيتك، وسلم على من لقيت تكثر حسناتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، وصل بالليل والنهار تحفظك الحفظة، ولا تنم إلا وأنت طاهر فإنك إن مت مت شهيدا ووقر الكبير وارحم الصغير والقني غدا» .
قال وحدثني عن علي بن زياد الإسكندراني عن أبى رافع يرفع الحديث، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خرج عيسى ابن مريم يمشي حتى انتهى إلى مفرق ثلاثة طرق، فركع ركعتين وجلس، فأتاه إبليس فسلم عليه فقال له عيسى: يا إبليس إني سائلك عن خطتين فهل أنت صادقي فيهما؟ قال: يا روح الله سلني عما بدا لك، قال: ما الذي يسل جسمك؟ وما الذي يقطع ظهرك؟(17/573)
قال: أما الذي يسل جسمي فصهيل فرس في سبيل الله في قرية من القرى أو حصن من الحصون، ولست أدخل دارا فيها فرس في سبيل الله، وأما الذي يقطع ظهري فالرجل يصلي الصبح ثم يذكر الله حتى تطلع الشمس، فقال له عيسى: فإني أسألك بالحي الذي لا يموت ما ثواب ذلك؟ قال سأجيبك يا روح الله، ووالله لا أخبر به آدميا بعدك أبدا، والحي الذي لا يموت لذلك أحب إلى الله من جبلي ذهب وفضة يقسمان في سبيل الله» .
وحدث عن علي بن زياد يرفع الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن أصلي الصبح ثم أجلس في المسجد فأذكر الله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أشد على جياد الخيل في سبيل الله حتى تطلع الشمس» .
وحدث علي بن زياد عن سعيد بن عبد الله عن القاسم عن القرظي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن أصلي الصبح فأذكر الله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق الرقاب حتى تطلع الشمس» .
قال: وحدثني عن علي بن زياد، عن أشياخ لهم، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا سرية فغنمت ورجعت، فقال ناس ما أعظم ما غنمت هذه السرية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم ممن هو أعظم غنيمة وأوشك رجعة"؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: رجل توضأ ثم غدا فصلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى إذا طلعت عليه الشمس ركع ما قدر الله له ركعتين أو أربعا ثم انصرف، فذلك أعظم غنيمة وأوشك رجعة، ذلك غنم الجنة» .(17/574)
وحدثني علي بن زياد عن أبي العباس عن أنس بن عياض أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أخبركم بساعات من ساعات الجنة؟ الظل فيها ممدود والعمل فيها مقبول والرحمة فيها مبسوطة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال من أذان صلاة الصبح إلى طلوع الشمس» .
قال محمد بن رشد: هذه الأحاديث بينة كلها في المعنى ليس فيها ما يخفى، وبالله التوفيق.
[من لا غيبة فيه]
فيمن لا غيبة فيه قال: قال عيسى لا غيبة في ثلاث: إمام جائر، وفاسق معلن، وصاحب بدعة.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن في هؤلاء غيبة لأن الغيبة إنما هي بأن يذكر من الرجل ما يكره أن يذكر عنه لمن لا يعلم ذلك منه، والإمام الجائر والفاسق المعلن قد اشتهر أمرهما عند الناس، فلا غيبة في أن يذكر من جور الجائز وفسق الفاسق ما هو معلوم من كل واحد منهما، وصاحب البدعة يريد ببدعته ويعتقد أنه على الحق فيها وأن غيره على الخطأ في مخالفته في بدعته فلا غيبة فيه لأنه إن كان معلنا بها فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستترا بها فواجب أن يذكر بها ويحفظ الناس من اتباعه عليها، وبالله التوفيق.
[ما يحتج به على القدرية]
فيما يحتج به على القدرية قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب الله تبارك وتعالى لهؤلاء القدرية لعلما بينا علمه من علمه وجهله من جهله، لقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163](17/575)
ثم قال مالك: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] فأخبر نوح بما لم يكن بأنه فاجر كفار لما سبق من الله تبارك وتعالى في ذلك وقدر عليهم، قال مالك: وما رأيت أهله من الناس إلا أهل سخافة عقل وخفة وطيش.
قال محمد بن رشد: الآيتان جميعا بينتان في الرد على المكذبين بالقدر لأن الله عز وجل أخبر في الآية الأولى التي نزع بها عمر بن عبد العزيز أنهم لا يفتنون عن دين الله ويردونه إلى ما يعبدونه من دون الله إلا من هو صال الجحيم بما سبق عليه من قدر الله، وسواء كان الخطاب في قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] للمشركين الذين يعبدون الأوثان، أو لبني إبليس وهم الجنة الذين تقدم ذكرهم في التلاوة على اختلاف أهل التأويل في ذلك، الحجة في ذلك على أهل القدر قائمة؛ لأن المعنى في ذلك أنهم لا يفتنون ويضلون كانوا المشركين أو الشياطين إلا من قد سبق عليه القدر بأنه يصلى الجحيم.
وأخبر نوح بالآية التي نزع بها مالك أن قومه إن تركهم الله ولم يهلكهم بدعائه عليهم إذ دعا عليهم، ولا يكون ذلك إلا وقد أذن الله له في الدعاء عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] أي إنهم إن ولدوا وليدا فأدرك كفر وهو شيء علمه من قبل الله عز وجل فقوله له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36](17/576)
فالحجة بها بينة واضحة أيضا على أهل القدر المكذبين به، ولا يكونون إلا أهل سخافة عقول كما قاله مالك، إذ لو كانوا ذوي عقول وافرة لما خفيت عليهم هذه الحجج الظاهرة: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] ، وبالله التوفيق.
[لعب الرجل مع امرأته بالأربعة عشر]
في لعب الرجل مع امرأته بالأربعة عشر وسئل مالك عن الرجل يلعب مع امرأته في البيت بالأربعة عشر، قال: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] .
قال محمد بن رشد: الأربعة عشر قطع معروفة كان يلعب بها كالنرد وهو النردشير الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله، ومن لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير» ، وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطر لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله فيه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وأما اللعب بشيء من ذلك كله(17/577)
على غير وجه القمار فلا يجوز لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» فعم ولم يخص قمارا من غيره، فمن أدمن اللعب بشيء من ذلك كله كان قدحا في إمامته وشهادته، وقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وبلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها عندهم النرد فأرسلت إليهم: لئن لم تخرجوه لأخرجنكم من داري وأنكرت ذلك عليهم، ذكر ذلك مالك في موطئه.
ولا فرق في ذلك كله بين لعب الرجل به مع أجنبي في بيته أو في غير بيته وبين لعبه به مع أهله في بيته إن كان على الخطار والقمار، فذلك حرام بإجماع، وإن كان على غير القمار فهو من المكروه الذي تسقط شهادة من أدمن باللعب به، وهو الذي قال مالك فيه في هذه الرواية: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب لقول الله تبارك وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فهذا من الباطل، وبالله تعالى التوفيق.
[وجه تفريق الصدقة]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا في
وجه تفريق الصدقة قال مالك: بلغني أن طاوسا بعث مصدقا، وأنه أعطي نفقة يتجهز بها لخروجه، وكان مما يفعل أن يعطوا ما يتجهزون به، فأخذها فوضعها في كوة، ثم خرج فقسم كل شيء هنالك ولم يأت بشيء، فلما رجع سألوه فقال: إني قد قسمتها فكأنهم كرهوا ذلك فقالوا له: اردد إلينا الدنانير التي أعطيناك، فقال: هي في الكوة لم آخذ منها شيئا، فأخذوها، قال: وقال مالك بلغني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذ بن جبل إلى اليمن على الصدقات فرجع من اليمن بثيابه كما خرج لم يرجع بشيء من(17/578)
الصدقة، قسمها هنالك» قال: وقال مالك: حدثني يحيى بن سعيد أنه كان مع ابن زرارة باليمامة مصدقا وأن عمر بن عبد العزيز كتب إليهما في أول عام أن اقسما نصف الصدقة، ثم كتب إليهما في العام الثاني أن اقسماها كلها، فقلت لمالك أفترى ذلك؟ قال: نعم، هو الشأن أن تقسم في مواضعها التي أخذت فيهم وفي غيرهم، فقيل له: أفرأيت رجلا قدم قرية فأخذ منهم زكاتهم أترى أن يقسمها فيهم؟ قال: نعم وفي غيرهم.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه؛ لأن الشأن في قسم الصدقات أن تقسم في البلاد التي أخذت فيها، فإن فضل عن مساكنها فضل منها تنقل إلى أقرب البلدان إليهم، فقد تقل الصدقات في البلد ويكثر فيه المساكين، وقد تكثر فيه الصدقات ويقل فيه المساكين فيجتهد الإمام في ذلك كما فعل عمر بن عبد العزيز إذ كتب في العام الأول إلى ابن زرارة وصاحبه أن يقسما نصف الصدقة حيث قبضاها، وفي العام الثاني أن يقسماها كلها.
والصدقات كلها من العين والمواشي والحبوب في ذلك سواء، وإذا حمل الطعام من البلد الذي لا مساكين فيه أو ما فضل عن المساكين الذين هم فيه إلى البلد الذي يقسم فيه فيكرى عليه منه أو يبيعه الإمام ويشتري بثمنه طعاما مثله في البلد الذي يقسمه فيه إن رأى ذلك أرشد من الكراء عليه، فينظر في ذلك باجتهاده، وقد قيل: إن الأحسن أن يتكارى عليه من الفيء لا منه، والقولان في رسم العشور من سماع عيسى من كتاب زكاة الحبوب على ما بيناه هناك، وبالله التوفيق.
[سهم المؤلفة]
في سهم المؤلفة
قال: وسئل مالك عن سهم المؤلفة أترى أن يقسم على(17/579)
سهمان الصدقة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: يريد بالاجتهاد لا بالسواء، فإن رأى أن يجعله في صنف واحد كان ذلك له إذ الزكاة على مذهبه إنما توضع في الأصناف المذكورين في الآية بالاجتهاد، ويتبع في ذلك الحاجة في كل عام، ولا يقسم بينهم أثمانا على السواء هذا مذهبه الذي لم يختلف فيه قوله ولا خالفه فيه أحد من أصحابه، وقيل يجعل نصف ذلك السهم لعمار المساجد ونصفه على سائر الأصناف السبعة.
والمؤلفة قوم من صناديد مضر كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يعطيهم الزكاة يتآلفهم على الإسلام ليسلم بإسلامهم من وراءهم، منهم أبو سفيان بن حرب.
واختلف في الوقت الذي بدأ فيه باستيلافهم، فقيل قبل أن يسلموا لكي يسلموا، وقيل بعد ما أسلموا كي يحبب إليهم الإيمان، وكانوا على ذلك إلى صدر من خلافة أبي بكر، وقيل إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي سفيان قد أعز الله الإسلام وأغنى عنك وعن ضربائك إنما أنت رجل من المسلمين وقطع ذلك عنهم.
واختلف هل يعود ذلك السهم إن احتيج إليه أم لا يعود؟ فرأى مالك أنه لا يعود وهو مذهب أهل الكوفة، وقد قيل: إنه يعود إن احتيج إليه ورأى ذلك الإمام وهو قول ابن شهاب وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الشافعي.
[التفكر في أمر الله]
في التفكر في أمر الله قال: وقال مالك: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر، فقيل له: أفترى التفكر من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين، قال الله عز وجل:(17/580)
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] .
قال محمد بن رشد: أم الدرداء هي زوجة أبي الدرداء، ولذلك سئلت عما كان أكثر شأنه إذ هي بصحبتها له ليلا ونهارا أعلم بحاله، اسمها خيرة، وهي صحابية من خيار النساء وفضلائهن وعقلائهن: وذوات الرأي منهن مع العبادة والنسك، روت عن النبي عليه السلام وعن زوجها أبي الدرداء، وروى عنها جماعة من التابعين.
والتفكر من الأعمال كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو من أشرف الأعمال؛ لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف الجوارح، ألا ترى أنه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من الوضوء والصلاة والصيام والحج وسائر الطاعات إلا مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية لله عز وجل في فعلها، وقد قال سعيد بن المسيب في الصلاة فيما بين الظهر والعصر: ليست هذه عبادة، إنما العبادة الورع عما حرم الله، والتفكر في أمر الله، يريد أنها ليست بأشرف العبادات وإنما أشرفها وأكبرها وأقربها وسيلة إلى الله مع الورع عما حرم الله التفكر في أمر الله، وإنما قال ذلك؛ لأن الله أثنى على المتفكرين في آياته، وأمر بالاعتبار في مخلوقاته في غير ما آية من كتابه على وحدانيته وعظمته وقدرته من ذلك قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] الآية: و {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] الآية وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] الآية وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190](17/581)
وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] الآيات إلى آخرها وقوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] إلى قوله: {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] وما أشبه ذلك في القرآن كثير لا يحصى، فالاعتبار في آيات الله التي أمرنا بالاعتبار فيها والتفكر في أمرها والاستدلال بها على وحدانيته وعظمته وقدرته، واستشعار اليقين بما وعد به من أطاعه من الثواب وأوعد به لمن عصاه من أليم العذاب من أكبر العبادات والأعمال وأقربها وسيلة إلى الله عز وجل ذي العظمة والجلال.
وحكى يحيى بن يحيى عن البكاء وكان فاضلا، قال: كنت مع ابن شريح بالقيروان، فقلت: لأرمقن الليلة صلاته. فتبعته بعد صلاة العشاء فدخل بيته وتوسدت عتبته فرأيته دخل مسجده واستقبل القبلة وجلس كذلك، فسمعته حينا بعد حين يدعو كالمتفكر فيما جلس، فلم يزل كذلك شأنه حتى طلع الفجر، فقام فركع ركعتين ثم خرج إلى المسجد فرأيت يحيى يعجبه ذلك كثيرا ويقول: بالتفكر يستدل على حسن الأعمال، وبالله التوفيق.(17/582)
[ما جاء فيمن أخاف أهل المدينة]
قال: وسمعت مالكا يذكر أن «جابر بن عبد الله كان قد كف بصره، وأنه خرج متوكئا على يد رجل يريد حاجته حتى كان بالحرة فنكبه حجر، فقال جابر: لعن الله من أخاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي» .
قال محمد بن رشد: إنما قال جابر بن عبد الله ما قاله مما كان عنده عن النبي عليه السلام فيمن أخاف أهل المدينة إنما تذكر لما صار بالحرة ما جرى على أهل المدينة فيها يوم الحرة من الوقيعة التي دارت عليهم، وما انتهى إليهم في ذلك اليوم مسلم ابن عقبة، وإلى جيش يزيد بن معاوية من تخويف الناس، إذ دخل المدينة ودعا الناس إلى مبايعة يزيد بن معاوية على أنه حول له، وقتل من قتل على ذلك صبرا، وقد مضى ذكر ذلك في آخر رسم نذر سنة، عند قول مالك، عن سعيد بن المسيب: خلا مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أيام لم يجمع فيه من حين كان يوم قتل عثمان ويوم الحرة ويوم آخر نسيته وبالله تعالى التوفيق.
[خوف دعاء الرجل الصالح]
في خوف دعاء الرجل الصالح قال: وقال مالك: دخل سعيد بن المسيب مع سعد بن أبي وقاص على مروان فكلمه في شيء فأغلظ عليه القول، فقال: قال ابن المسيب: فلقد كرهت دخولي معه لما رأيت من غلظة كلامه. فقال مروان: إن القول ما أقول، فرفع سعد يديه ليدعو على مروان، وعلى سعد رداء قصير، فوثب إليه مروان فأخذ بذراعيه(17/583)
فقال: لا أقوله، القول ما قلت يا أبا إسحاق لا أخالفك، فقال سعدا لو أنك ما فعلت ما زلت أدعو عليك حتى يسقط ردائي.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا وجه للقول فيه، وبالله التوفيق.
[تأهب سعيد بن المسيب لحديث النبي عليه السلام]
في تأهب سعيد بن المسيب لحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وما جرى له مع نافع بن جبير في
مرضه قال: وقال مالك: بلغني أن رجلا دخل على سعيد بن المسيب فسأله عن حديث، فجلس يحدثه وكان مضطجعا، فقال له الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال له سعيد: إني كرهت أن أحدثك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنا مضطجع، قال: وقال مالك: ودخل عليه مالك بن جبير بن مطعم وهو مريض ولم يطعم منذ ثلاثة أيام، فقال له أهله: إنه لم يطعم منذ ثلاثة أيام. قال: فكلمه فقال له سعيد: وكيف يأكل إنسان على هذه الحال؟ فقال له: لا بد لصاحب الدنيا ما كان فيها أن يطعم، قال: فما زال به حتى حسا حسوا ثم قال له: سل الله العافية فإني أرى الشيطان قد كان يغيظه مجلسك من المسجد، فقال لي ابن المسيب: اللهم سلمني وسلم مني.
قال محمد بن رشد: هذا مما يستحسن من تعظيم حق النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في التحدث بحديثه، وقد كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحدث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلا وهو على وضوء، وروي أن هارون الرشيد قصد مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في منزله فأوقفه على بابه ثم أذن له، فعاتبه على ذلك وقال له. لم تأتنا، فإذا جئناك حجبتنا، فقال له: علمت أنك أتيت لحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -(17/584)
فأردت أن أتأهب له، وما جرى له مع نافع بن جبير بن مطعم دال على ما- كان عليه من الفضل وملازمة الجلوس في المسجد، وبالله التوفيق.
[الله يظهر على عبده ما يستخفى به من عبادته إياه]
في أن الله يظهر على عبده
ما يستخفى به من عبادته إياه قال: وسمعت مالكا يقول: بلغني أن الحسن كان يقول: ابن آدم، اعمل وأغلق عليك سبعة أبواب يخرج الله عملك للناس.
قال محمد بن رشد: معنى قول الحسن مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» ومن هذا المعنى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عن ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء، وبالله التوفيق.
[اهتمام عمر بن الخطاب بأمور المسلمين]
في اهتمام عمر بن الخطاب
بأمور المسلمين قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول: إني لأضطجع على فراشي فما يأتني النوم وأقوم إلى الصلاة فما يتوجه لي القرار من اهتمامي بأمر الناس، قال مالك: كان يريد عمر ابن الخطاب أن يطاع الله فلا يعصى.(17/585)
قال محمد بن رشد: إنما بلغ عمر بن الخطاب إلى هذا الحد من الاهتمام بأمور المسلمين لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته» الحديث، وقد قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو مات جمل بشط الفرات ضياعا لخشيت أن يسألني الله عنه، وبالله التوفيق.
[ما يقول من سمع المؤذن]
ما جاء فيما يقول من سمع المؤذن
قال: وسئل عن الحديث أن يقول كما يقول المؤذن، أيقال فيه حي على الصلاة؟ قال: إن الذي يقع في قلبي من تفسير الحديث إنما يراد به إلى أشهد أن محمدا رسول الله، فقيل له: أفيقال ذلك في المكتوبة؟ قال: لا، ولكن يقوله في النافلة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أن معنى الحديث إذا أذن المؤذن فقل مثل ما يقول، إنما ذلك إلى هذا الموضع، أشهد أن محمدا رسول الله فيما يقع بقلبي، زاد فيها، ولو فعل ذلك رجل لم أر به بأسا، فقيل معناه لو اقتصر على هذا لم أر به بأسا، وقيل معناه لو قال مثل ما يقول المؤذن في بقية أذانه الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لم أر به بأسا، والتأويل الأول أحسن؛ لأن قوله: الله أكبر الله أكبر إذا قال ذلك المؤذن لا يقال فيه لا بأس به، وإنما يقال فيه إنه مستحب من الفعل، وإنما الكلام هل هو مستحب أو واجب وجوب السنن بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» ، وعلى هذا اختلف فيمن كان جالسا فسمع مؤذنا يؤذن فقال مثل ما قال، ثم أذن غيره هل يجب عليه أيضا أن يقول مثل ما قال أو لا يجب ذلك عليه؟ إذ قال مثل قوله إذ سمع المؤذن الأول.(17/586)
وأما قوله حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يقوله، إذ ليس بتكبير ولا تهليل ولا ذكر الله، وإنما هو دعاء إلى الصلاة، وهو ليس بمناد للصلاة ولا داع إليها، وكان ميمون بن مهران يقول: إذا قال المؤذن حي على الصلاة حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكانت عائشة تقول مثل ما يقول المؤذن فإذا قال حي على الصلاة كفت فلم تقل شيئا مثل ما ذهب إليه مالك، وقال ابن حبيب: قل لا حول ولا قوة إلا بالله عند حي على الصلاة حي على الفلاح ثم الرجوع إلى أن يقول مثل ما يقول المؤذن في بقية أذانه أفضل لمعنى الحديث إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن.
وقوله: إنه يقول مثل ما يقول المؤذن في النافلة دون المكتوبة هو مثل ما في المدونة، وقال ابن وهب إنه يقول مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة، وروى مثله أبو المصعب عن مالك، واختاره ابن حبيب، وقال سحنون لا يقول مثل ما يقول لا في المكتوبة ولا في النافلة، وبالله التوفيق.
[ما هو قلب الشيخ فيه شاب]
فيما هو قلب الشيخ فيه شاب حدثني مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن شيخ من أهل الطائف أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قلب الشيخ شاب في اثنتين، حب الحياة، وحب المال» .
قال محمد بن رشد: ما أخبر به النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن الشيخ لا يشيخ أمله في حب الحياة وحب المال هو موجود معلوم من أحوال الشيوخ، والأمل الذي جبل الله تعالى عليه الخلق هو سبب ما قدره الله عز وجل(17/587)
وأراده من عمارة الدنيا، إذ لو انقطع الأمل في الدنيا بالفكرة في الموت وما بعده لما استقام فيها عيش، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البهائم: «لو علمت من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا» وبالله تعالى التوفيق.
[حكايات عن سعيد بن أبي هند وعبد الوهاب بن بخت]
حكايات عن سعيد بن أبي هند وعبد
الوهاب بن بخت قال: وسمعت مالكا ذكر أن سعيد بن أبي هند كان رجلا قد سرد الصيام، وإنما سحوره إنما كان في سكرجة، فكانت امرأته ربما كلمته في ذلك، فيقول اللهم أرحني منها، فقيل له: ما تفسير ذلك؟ فقال يريد أن يستريح من الدنيا، قال مالك: كان عبد الوهاب ابن بخت إذا مر بالسقيا يرفع يديه ويقول: الحمد لله الذي لم يجعلك لي، ولم يكن هو أحق بشيء من ماله في السفر من رقيقه، قال: ولقد بلغني أنه حين خرج إلى الغزو فانبعثت به راحلته قال: عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، فاستشهد، قال: وقال مالك: كان ابن أبي هند قد سرد الصيام فلما مرض دخل عليه يحيى بن سعيد فقال له: لو أفطرت، فقال: ليس هذا حين الترك.
قال محمد بن رشد: قد فسر مالك معنى قول سعيد بن أبي هند اللهم أرحني منها أن معنى ذلك بالموت، فيستريح من الدنيا، ومن أراد(17/588)
الراحة من الدنيا وأحب لقاء الله عز وجل أحب الله لقاءه على ما جاء في الحديث الصحيح، من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله عز وجل: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقائه، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه» وإن كان قد قيل في هذا الحديث: إن المعنى فيه عند المعاينة، فهو قبلها أبلغ في محبة لقاء الله عز وجل.
وإنما حمد الله عبد الوهاب إذ لم يجعل السقيا له، إذ لو كانت له لم يأمن على نفسه الفتنة بها والاشتغال بالنظر فيها على الإقبال على عبادة ربه. وقد كان أبو طلحة الأنصاري يصلي في حائطه فطار دبسي فطفق يتردد يلتمس مخرجا، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه بصره ساعة ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى؟ فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله فضعه حيث شئت.
وقوله حين انبعثت به راحلته في خروجه إلى الغزو: عسى أن يهديني ربي سواء السبيل معناه عسى أن يبعثه الله على الطريق المستقيم إلى الجنة، فأجاب الله دعاءه بأن استشهد في غزوته تلك؛ لأن الشهادة هي الطريق القاصدة إلى الجنة، وبالله التوفيق.
[الخصال التي تصلح أن تكون في القاضي]
في الخصال التي تصلح أن تكون
في القاضي
قال: وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: لا يصلح للقاضي أن يقضي إلا أن يكون عالما بما كان قبله من الأمر مستشيرا لذوي الرأي.(17/589)
قال محمد بن رشد: هاتان الخصلتان من الخصال التي يستحب أن تكون في القاضي، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز منها خمس خصال بهاتين الخصلتين، وهي أن يكون عالما بالفقه والسنة ذا نزاهة عن الطمع، مستخفا بالأئمة يريد أنه يدير الحق على من دار عليه ولا يبالي بمن لامه على ذلك، وقيل معناه مستخفا بالأئمة أي لا يهابهم في القضاء بالحق وإن كرهوا ذلك منه، حليما على الخصم، مستشيرا لأولي العلم، وهي كثيرة منها أن يكون من أهل البلد ممن يسوغ له الاجتهاد، معروف النسب ليس بابن لعان ولا ولد زنى، غنيا ليس بفقير ولا محتاج، نافذا فطنا غير مخدوع لعقله ولا محدود في قذف ولا زنى ولا سرقة، وروي عن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يصلح أن يلي القضاء إلا من كان حصيف العقل شديدا في غير عنف لينا في غير ضعف، قليل الغرة بعيد الهيبة لا يطلع الناس منه على عورة.
فهذه الخصال المستحسنة ينبغي توخيها وبعضها أكثر من بعض، فيقدم الذي يجتمع فيه منها أكثرها، وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع فيه منها خصلتان رأيت أن يولى: العلم والورع، قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم وورع فعقل وورع، فبالعقل يسأل، وبالورع يقف، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده، يريد بالعقل العقل الحصيف، وأما العقل الذي يوجب التكليف فهو مشترط في صحة الولاية كالإسلام والحرية والبلوغ والذكورية والتوحد فإن ولي من عدم خصلة من هذه الخصال الست لم تنعقد له الولاية، ومن الخصال خصال ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أنه يجب عزله عنها بعدم شيء منها، وهي أن يكون سميعا بصيرا متكلما.
واختلف في العدالة، فقيل: إنها مشترطة في صحة الولاية كالإسلام(17/590)
والحرية وسائر الشروط المشترطة في صحة الولاية، وقيل: إنها ليست مشترطة في صحة الولاية إلا أن عدمها يوجب عزله عن الولاية.
واختلف في الأمية، فقيل: إنه لا يجوز أن يولى القضاء وإن كان النبي أميا لأن النبي ليس كغيره، وقيل ذلك جائز إذ لا يلزمه قراءة العقود ولا كتاب المقالات وله أن يستنيب في ذلك غيره، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن الخطاب]
قال: وقال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: أكون في منزلة لا أخاف في الله لومة لائم، قال عمر إن وليت من أمر الناس شيئا، وإلا فأمر بالمعروف وانه عن المنكر وأقبل على نفسك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء في بلال]
قال مالك: بلغني أن بلالا قال لأبي بكر لما ولي: ائذن لي نخرج إلى الشام في الجهاد، فقال أبو بكر: لا، فقال له بلال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله فخل سبيلي، فقال له أبو بكر: قد خليتك.
وسئل مالك هل أذن بلال لأحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: ما أذن لأحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد سمعت أنه أذن لعمر بن الخطاب حين دخل الشام،(17/591)
سأله ذلك فقام فأذن فبكى الناس وذكروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبكوا لذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي أنه أذن لأبي بكر حياته، ذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة أن ابن شيبة ذكر عن حسين بن علي، عن شيخ يقال له الحفصي عن أبيه عن جده قال: أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أذن لأبي بكر حياته، ولم يؤذن في زمن عمر، فقال له عمر: ما منعك أن تؤذن؟ قال: إني أذنت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يا بلال ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله، فخرج فجاهد» ويقال إنه أذن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذ دخل الشام مرة فبكى عمر وغيره من المسلمين، وبالله التوفيق.
[ما يسود الرجل به قومه]
فيما يسود الرجل به قومه قال: وقال مالك: بلغني أن معاوية بن أبي سفيان قال للأحنف بن قيس: بم شرفت قومك وأنت لست بأشرفهم ولا بأسنهم ولا بأيسرهم؟ فقال: إني لا أتناول ما كفيت، ولا أضيع ما وليت، فقيل له أو قال: لو وجدت الناس كرهوا شرب الماء ما شربته فقال: قد سمعت وليس هذه تشبه هاتين.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أتناول ما كفيت هو من معنى قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وقوله ولا أضيع ما وليت هو من معنى قول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34](17/592)
والخصلة الثالثة هي من معنى قول النبي عليه السلام: «مداراة الناس صدقة» وصدق مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه ليست تلحق بالأولين، فمن ترك ما لا يعنيه ووفى بما يلزمه الوفاء به وسالم الناس فقد حاز محاسن الأخلاق ومكارمها، واستحق بذلك السؤدد والشرف، وبالله التوفيق.
[تحري وقت قتال العدو]
في تحري وقت قتال العدو قال: وسألته هل بلغك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتحرى قتال العدو بعد زوال الشمس؟ فقال: ما بلغني وما كان قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر إلا في أول النهار حين قالوا وخرجوا بمساحيهم ومكايلهم، فقالوا: محمدا والخميس وما كان قتالهم يوم أحد إلا في أول النهار.
قال محمد بن رشد: روي «عن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر» وروي عنه أنه «قال غزوت مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل إلى العصر ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل، قال: وكان يقال عند ذلك تهيج ريح النصر ويدعو المؤمنون في صلاتهم» فهذا هو المروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا خرجه الترمذي لأنه كان يتحرى قتال العدو بعد زوال الشمس فلا يقاتل قبله، هذا الذي قال مالك إنه لم يبلغه والله أعلم.
[مخالطة اليتيم في النفقة]
17 -(17/593)
في مخالطة اليتيم في النفقة قال: وسئل مالك عن اليتيم يكون عند الرجل فيأخذ نفقته فيريد أن يخلطها بنفقته ويكون طعامهم واحدا كيف ترى فيه؟ قال:
لما أخبرك بالشأن فيه، إن كان يعلم أنه يفضل عليه وأن الذي ينال اليتيم من طعامه هو أكثر وأفضل من نفقته فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان لا ينال من ذلك الذي هو أفضل فلا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا صحيح بين أخذه من قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] أي يعلم من يخالط اليتيم لينفعه بما يصيب اليتيم من طعامه زائدا على ما يصيب هو من طعام اليتيم، أو لينتفع هو بما يصيب من طعام اليتيم زائدا على ما يصيب اليتيم من طعامه.
وقد اختلف في السبب الذي من أجله سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اليتامى فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فروي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية. انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم،(17/594)
وشرابهم بشرابهم، وقد روى أن اتقاء مال اليتيم واجتنابه كان من أخلاق العرب، كانوا لا يأكلون معهم في قصعة واحدة ولا يركبون لهم بعيرا ولا يستخدمون لهم خادما، فلما جاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سألوه عن ذلك فقال الله عز وجل: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] أي إن تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة منكم لشيء من أموالهم خير لكم عند الله لما لكم في ذلك من الثواب عنده وخير لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، ثم قال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] أي إن تخلطوا أموالكم بأموالهم في المطاعم والمشارب وغير ذلك فينتفعون بمخالطتكم إياهم عوضا من قيامكم على أموالهم فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا.
وقد اختلف أهل العلم فيما يحل للولي من مال يتيمه لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] ، بعد إجماعهم على أن أكل مال اليتيم ظلم من الكبائر لا يحل ولا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .
فأما الفقير المحتاج فلا اختلاف في أنه يسوغ له أن يأكل من مال يتيمه بعد اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه، على ما جاء عن ابن عباس من قوله للذي سأله هل له أن يشرب من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتلط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب.(17/595)
وأما إن لم يكن له فيه خدمة ولا عمل فلا يسوغ له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن ولا قدر ولا قيمة مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، ومثل الفاكهة من حائطه على ما قاله في أول سماع أشهب من هذا الكتاب.
ومن أهل العلم من أجاز له أن يأكل منه على سبيل السلف.
ومنهم من أجاز له أن يأكل منه ويكتسي بقدر حاجته وما تدعو إليه الضرورة، وليس عليه رد ذلك.
وأما الغني فإن لم يكن له في ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه فليس له أن يأكل منه إلا ما لا قدر له ولا بال، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه، والثمر يأكله من حائطه إذا دخله.
واختلف إذا كان له فيه خدمة وعمل فقيل: إن له أن يأكل منه بقدر عمله فيه وخدمته له، وقيل ليس ذلك له لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] .
[قول عمرلأسيد بن الحضير في ما كان يكسوه إياه]
في قول عمر لأسيد بن الحضير في ما كان
يكسوه إياه قال: وحدثني مالك عن أسيد بن الحضير أن عمر بن الخطاب كان يكسوه الحلة فيبيعها ويشتري دونها ويشتري بفضل ذلك رقبة يعتقها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فاشتد عليه ذلك، وقال: نكسو أحدهم الحلة ليعرف بها منزلته وفضله ثم يبيع ذلك،(17/596)
لينتهين عن ذلك أو لأتركنه فقال أسيد: يا عمر لأن أحدنا قدم لآخرته منعته حقه؟ قال: فقال عمر: لا والله ليعطين حقه.
قال محمد بن رشد: الحلل الثياب المبطنة أكثرها عندهم من البرود اليمانية، وأحب عمر بن الخطاب أو يلبس الحلل من كان يكسوه إياها وكره أن يستبدلها بأدنى منها لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي رآه قشف الهيئة: هل لك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال، قال: " فلير عليك مالك» ، وقال في صاحب جابر بن عبد الله الذي رآه يرعى ظهره وعليه بردان له قد خلقا «فقال لجابر بن عبد الله: أما له غيرهما؟ فقال: بلى، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، فقال: فادعه فمره فليلبسهما، فدعاه فلبسهما ثم ولى يذهب [فقال رسول الله] ، ما له ضرب الله عنقه؟ فسمعه الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في سبيل الله، فقتل الرجل في سبيل الله» وقال عمر بن الخطاب إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم.
ومضى قول عمر: لينتهن عن ذلك أو لأتركنه، أي لأتركن أن أكسو الحلل لمن يبيعها ولا يلبسها وأعطيه عوضها منها وأكسوها لمن يلبسها ولا يبيعها، وذلك بين من قوله: لا والله ليعطين حقه.
ولبس الثياب الحسان للجمال بها مباح جائز قال الله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية، وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنا قد وسع الله علينا فننال من كسوة وعطر ما لو شئنا اكتفينا بدونه، فما تقول؟ فقال:(17/597)
أيها الرجل إن الله أدب أهل الإيمان فأحسن أدبهم فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وإن الله ما عذب أقواما أعطاهم الدنيا فشكروه، ولا عذر قوما زوى عنهم الدنيا فعصوه.
وقال بعض الحكماء: البسوا ثياب الملوك وأشعروا قلوبكم الخشية، وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يلبس الخز وسالم ابن عبد الله بن عمر يلبس الصوف وكانا يتجالسان في المسجد فلا ينكر واحد منهما على صاحبه لباسه، وقد كره العلماء من اللباس الشهرتين: وذلك الإفراط في البذاذة وفي الإسراف والغلو. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إن قوما جعلوا خشوعهم في لباسهم وكبرهم في صدورهم وشهروا أنفسهم بلباس هذا الصوف حتى إن أحدهم لما يلبس من الصوف أشد كبرا من صاحب المطرف بمطرفه، وقال رجل لإبراهيم النخعي: ما ألبس من الثياب؟ فقال: ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند السفهاء ولهلال ابن العلاء وكان عالما:
أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها ... زين الرجال بها تهاب وتكرم
ودع التواضع في اللباس تحريا ... فالله يعلم ما تكن وتكتم
فدني ثوبك لا يزيدك زلفة ... عند الإله وأنت عبد مجرم
[السرف في الإنفاق]
حكاية عن عمر بن الخطاب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: لخرق الرجل أشد على من عدمه إنه ليستفيد المال بعد العدم، والخرق لا يقوم له شيء.
قال محمد بن رشد: قد بين عمر معنى قوله بما لا مزيد عليه؛ لأن الخرق السرف في الإنفاق الذي قد ذمه الله عز وجل، بدليل قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] .(17/598)
[وقاية العرض بالمال]
في وقاية العرض بالمال قال [مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب هو] سمعت مالكا يقول: إن رجلا من أهل الفقه كانت عنده وديعة ليتيم كان يليها وإنها ضاعت، فباع مالا له ببضعة عشر ألفا ثم أداها، قيل له أفرأى الناس عليه ذلك؟ قال: لا، لم يروا ذلك عليه، ولكنه تطوع بذلك كراهية القالة والتماس تقوى الله وأن لا يجاحد لأحد شيئا، وما كان ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه من فعل أهل النزاهة والفضل، وبالله التوفيق.
[التطاول في البنيان من أشراط الساعة]
في أن التطاول في البنيان من
أشراط الساعة قال: وقال مالك: بلغني أن من أشراط الساعة التطاول في البنيان ولقد أنكر الناس حين بنى عثمان داره هذا البناء ولقد أصاب الناس مطر في ذلك الزمان، فجاءه بعض من يعنيه أمره حين أصبح سأله عن بنيانه، كأنه خاف أن يكون قد انهدم عليه بنيانه.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مكروه، مذموم، بدليل ما جاء فيه أنه من أشراط الساعة، ولذلك أنكر الناس على عثمان حين بنى داره هذا البناء على ما ذكره مالك في هذه الرواية، وقد روي من رواية أنس بن مالك أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه؟ فقال له أصحابه: هذه لرجل من الأنصار، فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(17/599)
الناس أعرض عنه، صنع ذلك به مرارا حتى عرف الرجل الغضب والإعراض عنه شكى ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أدري ما حدث لي وما صنعت، قالوا خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى قبتك، فسأل لمن هي، فأخبرناه، فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فلم يرها، فقال: ما فعلت القبة التي كانت هاهنا؟ فقالوا شكى صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: أما إن كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا إلا ما لا» يريد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ما إلا ما بني في غير ظلم ولا اعتداء بدليل ما روي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء كان أجره له جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن» ، فلا يجوز الاعتداء في البناء وهو التطاول فيه والعلو والسرف، وإنما يجوز منه ما كان بوجه السداد على قدر الحاجة.
والتطاول في البنيان من أشراط الساعة التي قد أعلم الله أنها قد جاءت بقوله عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] معناه فما ينظرون إلا قيام الساعة بالنفخة الأولى التي أخبر الله أنه يطعن بها أي يموت من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أن تأتيهم فجأة فقد جاء أشراطها.
وأشراطها التي قد جاءت كثيرة.
فالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أشراطها قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة، أو جمع بين أصابعه الوسطى والسبابة على ما جاء في ذلك عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(17/600)
وانشقاق القمر في حياته - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ما جاءت به الآثار من أشراطها قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .
ورمي الشياطين بالشهب في سماء الدنيا من أشراطها.
ومن أشراطها التي قد رأيناها أكبرها أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويخرب العامر ويعمر الخراب وتشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال. ويكثر النساء حتى تكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وأن يطلب العلم عند الأصاغر، وأن يوسد الأمر إلى غير أهله، فقد جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سئل متى الساعة؟ فقال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ومن أشراطها: أن يظهر الفحش والتفحش وقطيعة الرحم، ويسوء الجوار ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وأن يرى رعاء الشاء على رؤوس الناس، وأن يرى الحفاة العراة الجوع يتبارون في البنيان، وأن تلد الأمة ربتها وربها، وقد روي أن من أشراط الساعة أن يظهر العلم ويفيض المال، ويكثر التجار، وأن من أشراطها أن تقاتلوا قوما ينتعلون الشعر، وأن تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة فهذه الأشراط، وما روي مما هو في معناها أمارة تدل على قربها.
وأما أشراطها التي تكون بين يديها فعشرة، منها خمسة وقع العلم بها لتواتر الآثار بها، وهي يأجوج ومأجوج، والدابة، والدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها.
وأما الخمسة الأخرى: فخسفا بالمشرف، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، والدخان، ونار تخرج من قعر عدن تميل معهم إذا مالوا وتروح معهم إذا راحوا، روي «عن أبي سريحة، قال: أشرف علينا رسول الله(17/601)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غرفة فقال: ما تذكرون؟ ما تقولون؟ قال: قلنا يا رسول الله الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات، فذكر هذه العشرة» والدخان الذي ذكر فيها هو غير الدخان المذكور في سورة الدخان قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] لأن ذلك الدخان قد مضى على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن قريشا استعصت وكفرت فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والميتة، وقد كان الرجل يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد، فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فكشف عنهم وقال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] فعادوا في كفرهم فأخذهم الله في يوم بدر، وقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] في هذا الحديث بيان واضح أن الدخان المذكور في الآية قد مضى، إذ لو كان في القيامة لم يكشف عنهم، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: خمس قد مضين، الدخان والقمر والدوم واللزام، وبالله التوفيق.
[تعريف المدية]
في أن المدية هي السكين قال مالك: وبلغني أن أبا هريرة قال: ما كنا نسمي السكين إلا المدية حتى أنزل الله في كتابه سكينا.(17/602)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه وبالله تعالى التوفيق.
[تذكية ما يجعل في الترياق]
في تذكية ما يجعل في الترياق
من الأفاعي قال: وذكر لمالك أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الذين يعملون الترياق ألا يجعلوا فيه إلا ذكيا، فقيل له: أفترى لها ذكاة؟ قال: نعلم لمن ابتغى ذلك منها، فلها ذكاة إذا أصاب الموضع يريد المذبح.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن كل ما له لحم ودم سائل من الخشاش والدواب لا يؤكل إلا بذكاة لقول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] الآية وإنما اختلف في الخشاش التي ليس لها لحم ولا دم سائل، فقيل: لها حكم دواب البحر أنها تؤكل بغير ذكاة، وإنها لا تفسد ما مات فيه من طعام أو إدام، وهو قول عبد الوهاب في التلقين، وقيل: إنه لا يؤكل شيء من ذلك إذا احتيج إليه إلا أن يذكي بما يذكى به الجراد من قتلها بقطع رؤوسها أو أرجلها أو طرحها في المرعف أحياء، وفي التذكية للجراد اختلاف، إذ قد قيل: إنها من صيد البحر على ما جاء عن كعب من قوله والذي نفسي بيده إن هي إلا نثرة حوت ينثره كل عام مرتين وقيل: إن أخذها ذكاتها.(17/603)
[ما جاء من الأحاديث بخلاف ما عليه العمل]
في ما جاء من الأحاديث
بخلاف ما عليه العمل قال: وقال مالك: كان رجال من أهل العلم يتحدثون بأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون: ما نجهل هذا، ولكن مضى العمل على غير هذا، قال مالك: كان القاسم بن محمد لا يكاد يرد على أحد في مجلسه شيئا، قال: فتكلم ربيعة يوما فأكثر فصمت عنه، قال يحيى: فانصرف وانصرفت معه فتوكأ علي ثم قال: [لا أبا لشأنك] أرأيت ما كان يذكر هذا منذ اليوم؟ أين كان الناس عنه أترى الناس كانوا غافلين عما كان؟ يقول، يريد بذلك استنكارا لما كان من القول.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن العمل المتصل بالمدينة مقدم على أخبار الآحاد العدول؛ لأن المدينة دار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وبها مات وأصحابه متوافرون، فيبعد أن يخفى الحديث عنهم ولا يمكن أن يتصل العمل به من الصحابة إلى من بعده على خلافه إلا وقد علموا النسخ فيه، وكذلك القياس عنده مقدم على خبر الآحاد إذا لم يمكن الجمع بينهما، والحجة في ذلك أن خبر الواحد يجوز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولا يجوز على القياس من الفساد إلا وجه، وهو أن هذا الأصل هل هو معلول بهذه العلة أم لا؟ فصار أقوى من خبر الواحد، فوجب أن يقدم عليه، وبالله التوفيق.(17/604)
[التعوذ بكلمات الله]
في التعوذ بكلمات الله وذكر حديث النبي عليه السلام في أعوذ بكلمات الله التامات، فقالوا له: ثلاثا؟ فقال: ما سمعت إلا كذا، وثلاث أفضل.
قال محمد بن رشد: قوله وذكر حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، يريد ذكر مالك حديثه الذي رواه في موطئه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن «رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمن أي شيء؟ قال: لدغتني عقرب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما أنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك» فقالوا له: هل في الحديث أما أنك لو قلت ثلاثا حين أمسيت؟ فقال: ما سمعت إلا كذا، أي ما سمعت في الحديث ثلاثا وثلاث أفضل.
وليس في قوله أعوذ بكلمات الله التامات دليل على أنه له عز وجل كلمات غير تامات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه صفة من صفات ذاته، يستحيل عليها النقص.
وفي الحديث بيان واضح على أن كلماته عز وجل عند مخلوقاته، إذ لا يستعاذ بمخلوق، وهذا هو قول أهل السنة، والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات ذاته قديم غير مخلوق لأن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والنطق به عبارة عنه، قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس،(17/605)
وتقول: في نفسي كلام أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي يسمعه منه فهو عبارة عنه، وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم من قراءة القارئ لا نفس قراءته التي تسمعها؛ لأن نفس قراءته التي تسمعها محدثة لم تكن حتى قرأها فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته عن الحق، وبالله التوفيق.
[بر الرجل بأمه]
في بر الرجل بأمه
قال مالك: بلغني أن طلق بن حبيب كان برا بأمه وأنه لم يتقدمها قط في مسير، ولم يكن قط في أعلى منزل وهي أسفل منه، وأنه دخل عليها يوما فإذا هي تبكي من امرأته، فقال لها: فيم أبكتك؟ فقالت له: يا بني أنا أظلم منها، وأنا بدأتها، قال: لقد صدقت ولكن لا تطيب نفسي أن أحبس امرأة بكيت منها، وأنه وسعيد بن جبير ورجالا كانوا معهم طلبهم الحجاج فدخلوا الكعبة فأخذوا منها فقتلهم الحجاج.
قال محمد بن رشد: فعل طلق بن حبيب هذا نهاية منه في البر بأمه امتثالا منه لما أمر الله به من ذلك، قال الله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] أي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وأمر بالوالدين إحسانا أي برا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . قال مجاهد: إن بلغا أن يخريا أو يبولا فلا تقذرهما كما كانا لا يقذرانك وأنت صغير، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وإن وجدت منهما ريحا يؤذيك فلا تقل لهما أف، والأظهر أن معناه ولا تنفخ إن رأيت ما تكره، إظهارا منك لهما أنك تكره ذلك منهما، ومعنى وقل لهما قولا كريما أي لينا سهلا وقال عروة بن الزبير في قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24](17/606)
معناه لا تمتنع من شيء أحباه، وروى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى بعض أهل بيته فكان فيما أوصاه: «أطع والديك وإن أمراك أن تخرج عن كل شيء لك فافعل» .
[السلام من الصلاة]
في السلام من الصلاة قال مالك: حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي أنه كان يسلم في الصلاة على يمينه وعلى شماله، لا يدري ابن أبي حازم إماما كان أو غيره.
قال محمد بن رشد: السلام الواجب الذي يخرج به المصلي من صلاته ويتحلل به منها تسليمة واحدة قبالة وجهه يتيامن بها قليلا الإمام والمأموم والفذ في ذلك سواء، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم» وعلى المأمون أن يرد على الإمام يشير إلى جهته به وأن يرد أيضا على من على يساره إن كان على يساره أحد فسلم عليه، هذا هو قول مالك في الذي رجع إليه، وقد قيل وهو مذهب سهل بن سعد الساعدي على ما جاء عنه في هذه الرواية، وقد كان مالك يقول به ثم رجع عنه إن الإمام والفذ يسلم كل واحد منهما تسليمتين، الواحدة منهما واجبة عليه ينوي بها الخروج من الصلاة والتحلل منها قبالة وجهه ويتيامن بها قليلا، والثانية عن يساره سنة واجبة.
وروى أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة عن يمينه، فسلم يوما من صلاته ثم التفت فرأى الناس مالوا عن يمينه، فقال: ما بال الناس؟ قيل يا رسول الله: مالوا عن يمينك رجاء بركة سلامك، فسكت، فلما صلى الصلاة التي تليها سلم عن يمينه وعن يساره(17/607)
تسليمتين، فاعتدلت الصفوف بعد ذلك» .
فإن نسي التسليمة الأولى وسلم الثانية وانصرف لم تجزه صلاته وإن نسي الثانية وسلم الأولى لم يكن عليه شيء.
ويسلم المأموم على هذا القول تسليمات ثلاث واحدة قبالة وجهه واجبة عليه يتحلل بها عن الصلاة، وثانية عن يساره سنة وإن لم يكن على يساره أحد ثم يرد على الإمام ثالثة يقول كل واحد منهم في ذلك كله: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم، وبالله التوفيق.
[طلاق المولى]
في طلاق المولى وحدثني ابن أبي حازم، عن يحيى بن سعيد، عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون لا يدخل على مول طلاق حتى يوقف.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور من قول مالك الذي عليه جميع أصحابه أنه لا يقع عليه طلاق وإن مرت به سنة حتى يوقف، فإما فاء وإما طلق، وهو قول جمهور الصحابة، قال سهيل بن أبي صالح عن أبيه: سألت اثني عشر من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإما فاء وإما طلق ولم يؤمر بالفيئة بعدها، وهو قول ابن شبرمة، وروي مثله عن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وقال أهل العرف يقع على المولي طلقة بائنة بانقضاء الأربعة الأشهر، وهذا الاختلاف مبني على اختلافهم في تأويل قول الله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] هل المراد في ذلك بالأربعة الأشهر، أو فيما بعدها، ورواية أشهب عن مالك في كتاب الإيلاء قول رابع في المسألة، واختلف على المشهور في المسألة من أنه لا يقع عليه طلاق حتى يوقف إن وقف فأبى أن(17/608)
يفيء، فقيل تطلق عليه طلقة رجعية، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، وقيل يحبس حتى يفيء أو يطلق.
[ارتداد العرب بعد موت النبي عليه السلام]
ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا قال مالك: بلغني أن أبا هريرة تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] ثم قال والذي نفسي بيده إن الناس اليوم ليخرجون من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لما رأى من ارتداد العرب بعد موت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومن خروج الخوارج المارقين عن الدين الذين أعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخروجهم عن المسلمين، وبالله التوفيق.
[أعطى في صدقة الماشية أفضل من السن الواجبة عليه]
فيمن أعطى في صدقة الماشية أفضل من
السن الواجبة عليه قال مالك: وحدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بعث رجلا مصدقا فأتى الرجل فإذا عليه بنت مخاض، فقال: والله ما كنت أول من أعطى ما لا يحلب ولا يركب، فأعطاه كبيرة فأبى أن يأخذها وقال: لم أؤمر بذلك، فأقبل الرجل مع الذي بعثه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر للنبي الذي عرضه عليه، فأمره النبي فأخذها منه، قال: ودعا فيها بالبركة في إبله قال فنمت وكثرت، قال: فإنه تعرف فيها دعوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى اليوم» .
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث: إن الأسنان المحدودة في الأخذ من الماشية في الزكاة ليست بحد لا يزاد عليه ولا ينقص منه كعدد(17/609)
ركعات الصلاة وإنما هي حد في أن لا يؤخذ من أحد أعلى منها إلا عن طيب نفس، وهذا ما لا اختلاف. فيه، وقد مضى هذا السماع من كتاب زكاة المواشي، وبالله التوفيق.
[تحريض زيد بن ثابت للأنصار على نصر عثمان رضي الله عنه يوم الدار]
في تحريض زيد بن ثابت للأنصار على
نصر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الدار قال مالك: بلغني أن زيد بن ثابت قال للأنصار: يا معشر الأنصار، انصروا الله مرتين في فتنة عثمان، أمرهم أن يقاتلوا معه، فقال له رجل من الأنصار من كبرائهم: إنا نخشى أن نقول كما قال من كان قبلنا: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] .
قال محمد بن رشد: كان الأنصار قد انتدبوا إلى نصر عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، روي أن زيد بن ثابت قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا، فكفوا عن القتال دونه لما لزمهم من طاعته وتوقعوا في ذلك الحرج، ولذلك قال قائلهم في هذه الحكاية ما قال والله أعلم، وكذلك سائر الصحابة إنما توقفوا عن نصرته والقتال دونه من أجل عزمه عليهم في ذلك روي عن محمد بن سيرين قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاك في السلاح، حتى دخلوا الدار فقال عثمان أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فخرج ابن عمر والحسن والحسين، فقال ابن الزبير ومروان: ونحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح، وروي عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: إنا معك في الدار(17/610)
عصابة مستنصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال: أذكر الله رجلا إهراق في دمه أو قال دما وقال سليط بن أبي سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارنا، وروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء، من كف يده وسلاحه، ثم قال: قم يا ابن عمر فاجر بين الناس، فقام ابن عمر وقام معه رجال من بني عدي ابن سراقة وابن مطيع، ففتحوا الباب وخرج، ودخلوا الدار فقتلوا عثمان رحمة الله عليه ورضوانه.
[ما ترك عثمان عليه من الدين رضي الله عنه]
في ما ترك عثمان عليه من الدين
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني أن عثمان بن عفان قضي عنه ثلاثون ألف درهم.
قال محمد بن رشد: ما ترك عثمان على نفسه من الدين معدود من فضائله؛ لأنه إنما احتاج إلى التداين مع سعة ماله لبذله إياه في طاعة ربه من صلة الرحم وفعل المعروف على المعهود منه في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقد جهز جيش العسرة في غزوة تبوك بتسعمائة وخمسين بعيرا وأتم الألف بخمسين فرسا واشترى بئر رومة، وكانت ركية ليهودي يبيع للمسلمين ماءها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة، فأتى عثمان اليهودي فساومه بها فأبى أن يبيعه كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم فجعله للمسلمين فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبي قرشيا، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، قال: بلى لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم ليومين، فلما رأى ذلك اليهودي قال: أفسدت علي ركيتي فاشتر النصف الآخر، فاشتراه(17/611)
بثمانية آلاف درهم» .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يزيد في مسجدنا؟ " فاشترى عثمان موضع خمس سوار فزاده في المسجد» وفضائله أكثر من أن تحصى وهو من أصحاب حراء، وبالله التوفيق.
[ما أوصى به معاوية في ماله]
فيما أوصى به معاوية في ماله قال مالك: بلغني أن معاوية لما حضرته الوفاة أمر بماله أن يقسم بشطرين.
قال محمد بن رشد: إنما فعل ذلك تأسيا بعمر بن الخطاب في مشاطرته لعماله فذلك معدود في فضائله.
[ما ذكر عن أبي الدرداء]
فيما ذكر عن أبي الدرداء قال مالك: وبلغني أن أبا الدرداء قال: وراءنا عقبة كؤود أنجى الناس فيها أخفهم حملا.
قال محمد بن رشد: عنى أبو الدرداء بالعقبة الكؤود الصراط الذي على شفير جهنم يجوزه الناس بقدر أعمالهم، فيتفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم على قدر خفة ظهورهم من الذنوب، ومنهم من يوبقه عمله.
في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة «أن الناس قالوا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها،(17/612)
فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فيدعوهم ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم، قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم أحد قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله عز وجل الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء» الحديث بطوله.
وهذا الحديث من مشكل الحديث، فقوله أولا فيه يأتيهم الله فيقول أنا ربكم معناه فيأتيهم خلق من خلق الله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، خرج مخرج واسأل القرية أي أهلها، ويحتمل أن يكون معناه فيأتيهم الله بخلق من خلقه فيقول، ومعلوم أيضا أنه جائز في اللسان العربي أن تقول ضرب السلطان وكتب ونادى في الناس وإن لم يفعل هو بنفسه شيئا من ذلك، وقد قال بعض العلماء: إن هذه آخر محنة الله يمتحن بها عباده، فيثبت المؤمنين منهم بالقول الثابت.
ومعنى قوله إنهم يقولون إذا جاء ربنا عرفناه، أي إذا تجلى لنا ربنا بإنعامه علينا بخلقه فينا إدراك رؤيته عرفناه، وهذا معنى قوله: فيأتيهم الله(17/613)
لأن الإتيان الذي هو الانتقال من موضع إلى موضع مستحيل في صفة الله تعالى، وقد رأيت لبعض من تكلم على معنى هذا الحديث أن قوله فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عائد على المنافقين دون المؤمنين وأن قوله: فيقولون وأنت ربنا عائد على المؤمنين دون المنافقين وهو تأويل خطأ فاسد بين الفساد، لا يصح بوجه مع بعده على لفظ الحديث. والله أعلم فهذا مثل صحيح ضربه الله عنه، وبالله التوفيق.
[ما كتب به عمر بن الخطاب إلى الأجناد في أمر الأسواق]
فيما كتب به عمر بن الخطاب إلى
الأجناد في أمر الأسواق قال مالك: كتب عمر بن الخطاب إلى الأجناد: إن الله قد أغنى بالمسلمين فلا تجعلوا النصارى في أعمالكم، يريد بذلك ألا يكونوا جزارين ولا صرافين ويبيع المسلمون لأن الله أغنى بالمسلمين وكثروا في أهل الإسلام ما أجزأ من بياعاتهم.
قال محمد بن رشد: إنما كتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما كتب به من هذا لعلمه أنه مسئول عن رعيته، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته» الحديث، وإذا وجب على الإمام النظر لرعيته فيما يدخل عليهم به الضرر [في دنياهم كان النظر فيما به عليهم الضرر] في أديانهم أوجب، فمنع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يكون النصارى في أسواق المسلمين جزارين أو صرافين؛ لأن الجزارين من النصارى وإن كانت تحل ذبائحهم لقول الله عز وجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، فلا ينبغي للمسلم أن يأتمنه على تذكية ما غاب عليه ويتخذه في ذلك إماما، والصرافين يستبيحون الربا ويستحلونه، فإذا(17/614)
كانوا في أسواق المسلمين وقع الجهال منهم معهم فيه، إذ لا يمكنهم التوقي منهم لجهلهم، وذلك ضرر بعامة الناس، فوجب النظر في ذلك لهم بما يقطعه عنهم من منعهم من الأسواق، فقد قال سحنون لهذه العلة: يمنع من السوق كل من لا يبصر البيع من المسلمين، وبالله تعالى التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بني ليكون أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأة صالحة.
قال محمد بن رشد: هذه وصية جيدة مفيدة وحكمة حسنة بليغة لأن النساء مما زين للناس من شهوات الدنيا قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14] الآية، فالمرأة الصالحة هي للرجل دنيا وآخرة لأنه يستعف بها ويستمتع منها ويؤجر على القيام عليها، والخليل الصالح يحمل خليله على الخير ويعينه على الطاعة ويريه مراشدة في أموره فمنفعته أعم من منفعة المرأة إذ من الناس من يستغني عن المرأة ولا يحتاج إليها، ولذلك قدمه عليها والله أعلم.
[النذر قبل الاحتلام]
في أن النذر قبل الاحتلام لا يلزم قال مالك: كان حلف عبد الله بن أبي حبيبة في الجرو القثاء بعد أن احتلم.
قال محمد بن رشد: قوله كان حلف عبد الله بن أبي حبيبة تجاوز في اللفظ؛ لأنه لم يكن حلف وإنما كان نذر على ما ذكر عنه في موطئه من أنه قال: قلت لرجل وأنا حديث السن: ما على الرجل أن يقول علي(17/615)
مشي إلى بيت الله ولم يقل علي نذر مشي، فقال لي رجل: هل لك أن أعطيك هذا الجرو لجرو قثاء في يده، وتقول علي مشي إلى بيت الله، قال: فقلت نعم فقلته وأنا يومئذ حديث السن، ثم مكثت حتى عقلت، فقيل لي: إن عليك مشيا فجئت سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك فقال: عليك مشي، فمشيت، فعبر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الحكاية عن النذر بالحلف لاستوائهما عنده في الوجوب؛ لأنه إنما قصد إلى الإعلام بأن من لم يحتلم فلا يلزمه النذر ولا اليمين، وقوله صحيح لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» فذكر فيهم الصبي حتى يحتلم، فلا اختلاف أعلمه في أن الصبي لا يلزمه بعد بلوغه ما نذره على نفسه قبل بلوغه إلا أنه يستحب له الوفاء به.
وأما اليمين فقد قال ابن كنانة إنها تلزمه قبل البلوغ إذا حنث فيها بعد البلوغ وهو شذوذ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المشرك إذا نذر نذرا في حال الكفر يلزمه الوفاء به بعد الإسلام لما روي من أن «عمر بن الخطاب قال للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "فِ بنذرك» ، وهو عندنا وعند أكثر أهل العلم على أن ذلك على الندب لا على الوجوب، ومما يدل على ذلك أيضا أن "فِ" لا يستعمل إلا فيما ليس بواجب، يقال وفي بالوعد وأوفى بالحق والنذر، فيلزم من أوجب على الكافر الوفاء بالنذر بعد الإسلام أن يوجب على الصغير الوفاء به بعد البلوغ، بل هو أحق أو يجب عليه على مذهبه؛ لأن الصغير وإن كان لا تكتب عليه السيئات فتكتب له الحسنات على الصحيح من الأقوال، والكافر لا تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات، وبالله التوفيق.(17/616)
[صاحب المنزل أولى بالإمامة فيه]
في أن صاحب المنزل أولى بالإمامة فيه قال مالك: لم أزل أسمع أن صاحب المنزل أولى بالتقدم في الصلاة في منزله، ولقد بلغني أن رجلا من أهل الفضل والفقه إن كانوا لينزلون بالرجل في منزله فيقدمونه لأنه منزله، ولم أزل أسمع أن صاحب الدابة أولى بصدرها من الذي يردفه، قال: ورأيته يستحسنه.
قال محمد بن رشد: المعنى في كون صاحب المنزل أحق بالإمامة فيه من غيره هو أنه ليس لأحد أن يصلي في منزل غيره حتى يأذن له في الموضع الذي يصلي فيه منه، «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مالك: أين تحب أن أصلي؟ فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه» فإذا لم يكن لأحد أن يتقدم في منزل رجل إلى موضع الإمام منه إلا بإذنه، وكان هو أحق بالصلاة في ذلك الموضع من غيره ثبت أنه أحق بالإمامة فيه.
غير أنه يستحب له إذا كان في القوم أحق بالإمامة منه أن يقدمه، وكذلك صاحب الدابة هو أولى بصدر دابته إذا احتاج الرجل أن يركب معه عليها إلا أن يأذن له في ركوب مقدمها؛ لأن الذي يركب مقدمها هو الذي يملكها، وهو الذي يحكم له بها لو تداعى فيها مع الذي يركب مؤخرها، فليس لأحد أن يزيله عن هذه المرتبة إلا باختياره، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة وبالله تعالى التوفيق.
[صفة النحر والذبح]
في صفة النحر والذبح
قال مالك: تنحر البدن قياما أحب إلي، وكأني رأيته وجه الأمر فيها، قال: والغنم والبقر تضجع وتذبح، قال: ويلي الرجل نحر بدنته وذبح ضحيته أحب لي، ويقول بسم الله والله(17/617)
أكبر، وإن أحب قال: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وكره أن يقول اللهم منك وإليك وعابه وشدد الكراهية فيه، وقال: إذا أعتق قال اللهم منك وإليك، وإذا تصدق قال اللهم منك وإليك، فكره ذلك ولم يره من العمل ولم يستحسنه.
قال محمد بن رشد هذا كله مثل ما في المدونة.
وإنما استحب أن ينحر البدن قياما وقال: إنه وجه الأمر فيها كما قال في الحج الثالث من المدونة إنه الشأن اتباعا لظاهر قول الله عز وجل: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت إلى الأرض، ولم ير ابن القاسم في المدونة بأسا أن تنحر معقولة إن امتنعت، ولم يحفظ عن مالك هل تنحر معقولة أو تكون أيديها مصفونة، وقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أي مصطفة لا يدل على كونها معقولة، فلذلك لم يستحب ابن القاسم أن تعقل إذا لم تمتنع، وقد قرئ فاذكروا اسم الله عليها صوافن أي على ثلاثة قوائم معقولة إحدى يديها، واستحب ذلك بعض العلماء، وقد قرئ صوافي أي صافية خالصة لله.
واستحب أن يلي الرجل نحر هديه وذبح ضحيته تواضعا لله وتأسيا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فإن ذبح له غيره بأمره أجزأه عند مالك، قال ابن عبد الحكم في مختصره: وقد قيل لا يجزيه، والأول أحب إلينا، وإن ذبحها له نصراني أو يهودي فلا تجزيه إلا عند أشهب، وقد مضى دليل قوله في سماع أشهب من كتاب الضحايا.
واستحب في صفة التسمية على الذبيحة أن يقول باسم الله والله أكبر لأنه الذي مضى عليه عمل الناس، قال ابن حبيب في الواضحة: فإن قال باسم(17/618)
الله والله أكبر وحده اكتفي بذلك، وكذلك لو قال لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله لاكتفي بذلك؛ لأنه إنما أمر أن يسمي الله فكيف ذكر له فقد سماه.
وأجاز أن يقول مع التسمية صلى الله على رسول الله وكره أن يقول معهما محمد رسول الله وظاهر المدونة أنه كره الأمرين جميعا وما في الواضحة أبين؛ لأن الصلاة على النبي دعاء له فلا وجه لكراهيته بخلاف إذا ذكر اسمه بغير دعاء ذلك مكروه؛ لأن الذبح إنما هو لله تعالى وحده، فلا يذكر هناك إلا اسم الله وحده كما أمر حيث يقول: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] .
وتسمية الله سنة في الذكاة وليس بشرط في صحتها؛ لأن معنى قول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أي لا تأكلوا الميتة التي لم يقصد إلى ذكاتها لأنها فسق.
ومعنى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] أي كلوا مما قصد إلى ذكاته، فكنى عز وجل عن التذكية بذكر اسمه كما كنى عن رمي الجمار بذكره حيث يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ومن الدليل على أن مراد الله عز وجل بما لم يذكر اسمه عليه ما لم يقصد إلى ذكاته قوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] يريد ما فصل(17/619)
وبين بقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] فبين بتسميته لهذه الأشياء التي حرمها في هذه الآية جميعا أنها هي التي نهي عن أكلها؛ لأنها فسق بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فمن ترك التسمية ناسيا أكلت ذبيحته.
وأجاز ابن حبيب أن يقول مع التسمية اللهم منك وبك ولك، أي منك الرزق وبك الهدي ولك النسك، وحكاه عن علي بن أبي طالب، وربيعة ابن أبي عبد الرحمن، وهو قول حسن، وكره ذلك مالك في هذه الرواية وشدد الكراهية في ذلك وقال في المدونة: إن ذلك بدعة، فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه إنما كره التزام ذلك على وجه كونه مشروعا في ذبح النسك كالتسمية، فمن قاله على غير هذا الوجه في الفرط لم يكن عليه إثم ولا حرج وأجر في ذلك إن شاء الله.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال مالك: بلغني أن لقمان الحكيم قال لابنه: اجعل خطيئتك بين عينيك فأما حسناتك فَالْهَ عنها فقد أحصاها من لا ينساها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الوصية بين لأن الخطيئة قد استوجب عليها عقاب الله إلا أن يغفرها له، فواجب عليه أن يجعلها نصب عينيه فيستغفر الله منها ولا يلهى عنها.(17/620)
[قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس]
في قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس قال مالك: بلغني أن القاسم بن محمد قضى ركعتي الفجر بعد أن حلت السبحة.
قال محمد بن رشد: هكذا يستحب لمن نسي ركعتي الفجر رجاء أن يدرك بقضائهما ما جاء فيهما من الفضل، فقد جاء فيهما أنهما خير من الدنيا وما فيها.
وقد اختلف فيهما، فقيل: إنهما من السنن لمداومة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليهما، وقيل: إنهما من الرغائب، واختلف في ذلك قول مالك، فعلى القول بأنهما سنة لا يجزيان بغير نية، وبالله التوفيق.
[الموضع الذي يجوز للرجل فيه قبول الفدية من امرأته]
في بيان الموضع الذي يجوز للرجل
فيه قبول الفدية من امرأته قال ابن القاسم: قال مالك: حدثني هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة أنه كان يقول: إذا لم تؤت المرأة من قبل زوجها حل له أن يقبل منها الفداء.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على مذهب مالك وجميع أصحابه، لا اختلاف بينهم في أن الزوج لا يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إلا إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه، لقول الله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وإنما له أن يعظها، فإن اتعظت وإلا هجرها في المضجع، فإن(17/621)
اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن طاعت فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] الآية فإن هي بذلت له على الفراق شيئا حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله تعالى فيها، ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا زنت زوجته أو نشزت عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وذهب إلى أن الفاحشة المبينة هي الزنا خاصة، فلم يبح له ذلك إلا إذا زنت.
ومنهم من ذهب إلى أن الفاحشة المبينة هي النشوز والبذاء باللسان، فلم يبح له ذلك إلا إذا نشزت عنه وبذت عليه بلسانها.
ولم يبح ذلك له مالك ولا أحد من أصحابه بحال لأن الاستثناء عندهم في قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] استثناء منفصل غير متصل بمعنى لكن، فتقدير الكلام لكن إن أتين بفاحشة مبينة من نشوز وبذاء أحل لكم ما ذهبتم به من أموالهن إذا كان عن طيب أنفسهن لأن الله تعالى لم يبح للزوج شيئا من مال زوجته إلا عن طيب نفس منها، فقال عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] الآية وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منه إليهن ضرر ولا تضييق، وبالله تعالى التوفيق.(17/622)
[المحرم بالحج يصيب امرأته]
في المحرم بالحج يصيب امرأته وحدثني عن ابن شهاب عن عبد الله بن عباس أنه قال في رجل أصاب امرأته وهو محرم بالحج: إنهما ينفدان لوجههما ثم يحجان من قابل وعليهما الهدي.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن عباس هذا أنه لا يفرق بينهما في بقية حجهما هذا الذي أفسداه ولا في حج قابل، خلاف ما ذهب إليه مالك من أنهما إذا أحرما بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما فلم يجتمعا في منزل ولا مسير على ما روي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب، والوجه في ذلك مخافة أن يكون اجتماعهما ذريعة إلى إفساد حجهما الثاني.
ومن أهل العلم من قال إنه يفرق بينهما من حين أفسد حجهما إلى عام قابل، وإنما يفسد حجهما بإجماع إذا وطئ ما بينه وبين أن يقف بعرفة.
واختلف إن وطئ بعد أن وقف بعرفة وقبل أن يرمي جمرة العقبة فقيل قد أفسد حجه وهو قول مالك في موطئه، وقيل عليه عمرة وهدي وحج تام، روى أبو المصعب، وابن أبي حازم عن مالك إلى أنه رجع إلى هذا القول، وقال أبو المصعب: إن كان وطؤه بعد طلوع الفجر من ليلة النحر فعليه العمرة والهدي، وإن كان وطؤه قبل طلوع الفجر من ليلة النحر فقد أفسد حجه.
وأما إن وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل أن يطوف طواف الإفاضة فحجه تام، وعليه عمرة وهدي قولا واحدا وبالله تعالى التوفيق.(17/623)
[الأجراس في أعناق الإبل والدواب]
في كراهية الأجراس في أعناق الإبل والدواب وحدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم بن عبد الله أنه مر على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال لهم سالم: إن هذا ينهى عنه، فقالوا له: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا صغير فليس به بأس، فسكت سالم.
قال: وسألت مالكا عن الأكرياء يجعلون الأجراس في الحمير والإبل التي تحمل القرط وغيره فقال: ما جاء في هذا إلا الحديث الواحد، وتركه أحب إلي من غير تحريم له.
قال محمد بن رشد: يريد بالحديث الواحد والله أعلم الحديث الذي ذكره بعد هذا من أن الملائكة لا تصحب عيرا وقد تقدم الكلام على هذا قبل هذا في أول رسم فلا معنى لإعادته وبالله تعالى التوفيق.
[الخلاخل للنساء في أرجلهن]
في الخلاخل للنساء في أرجلهن وسئل مالك عما يكون في أرجل النساء من الخلاخل، قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث، وتركه أحب إلي من غير تحريم له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة والله أعلم أن مالكا إنما سئل عما يجعله النساء في أرجلهن من الخلاخل وهن إذا مشين بها سمعت قعقعتها فرأى ترك ذلك أحب إليه من غير تحريم؛ لأن الذي يحرم عليهن إنما هو ما جاء النهي فيه من أن يقصدن إلى إسماع ذلك وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال: قال الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31](17/624)
ومن هذا المعنى ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة استعطرت فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية» والله الموفق.
[العير التي فيها الجرس]
ما جاء في العير التي فيها الجرس وحدثني مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن سالم بن عبد الله عن أبي الجراح مولى أم حبيبة أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة» .
قال محمد بن رشد: هذا هو الحديث الذي أشار إليه مالك في المسألة التي قبل هذه المسألة والله أعلم، وهو حديث خرج الترمذي من رواية أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس ولا كلب» " أو كما قال، وبالله التوفيق.
[الصلاة إلى المصحف]
في كراهة الصلاة إلى المصحف وإلى قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: أكره أن يوضع المصحف في القبلة ليصلى إليه.
قال مالك: وإنما بنى عمر بن عبد العزيز القبر هذا البناء حين كان الناس يصلون إليه وجعلوه مصلى، فأنا أكره أن يجعل المصحف في القبلة ليصلى إليه، ولا أحب ذلك، وأما إن كان موضعه أو ذلك الموضع أحفظ له أو معلق له ليس يجعل لمكان الصلاة إليه فلا أرى بذلك بأسا.(17/625)
قال محمد بن رشد: أما الصلاة إلى قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فهو محظور لا يجوز، لما جاء عن النبي. - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فبناه عمر بن عبد العزيز محددا على هيئته لا يمكن من صلى إلى القبلة استقباله. وأما المصحف فكره القصد بالصلاة إليه على ما قاله في هذه الرواية، ومثله في المدونة سواء؛ لأن ذلك بدعة وبالله تعالى التوفيق.
[لباس الثوب المعصفر بالزعفران]
في لباس الثوب المعصفر بالزعفران قال مالك: رأيت ابن هرمز يلبس المعصفر بالزعفران.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف في لباس الثوب المعصفر والمزعفر للرجال، فأجازه جماعة ولم يروا به بأسا، منهم عبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي، وأبو وائل الشقيق بن مسلمة، وزر بن حبيش، وعلي بن حسين، ونافع بن جبير بن مطعم وقال محمد بن سيرين: كان المعصفر لباس العرب ولا أعلم شيئا هدمه في الإسلام، وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة، ونحوه لمالك في موطئه، قال في الملاحف المعصفرة في البيوت للرجال وفي الأفنية: لا أعلم من ذلك شيئا حراما، وغير ذلك من اللباس أحب إلي.
وكره بعض العراقيين المعصفر والمزعفر للرجل لما روي عن أنس بن مالك من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره أن يتزعفر الرجل» ولما روي عن عبد الله بن عمرو قال رآني النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعلي ثوب معصفر فقال: «ألقها فإنها ثياب الكفار» ولما روي «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داخر فالتفت إلي(17/626)
وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال: ما هذا؟ فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنورهم فقذفتها فيه، ثم أتيته من الغد، فقال: " يا عبد الله ما فعلت الريطة؟ فأخبرته، فقال: ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء» وبالله تعالى التوفيق.
[ما جاء من أن كل شيء إذا تم نقص]
فيما جاء من أن كل شيء إذا تم نقص قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب نزل بالأبطح فنظر إلى القمر في ليلة البدر، فقال: إن كل شيء إذا تم نقص، وإن هذا القمر قد تم فهو ينقص بعد هذه الليلة، وإني لأرى الإسلام إلا وقد تم وإني لأراه الآن سينقص.
قال محمد بن رشد: فكان الأمر في الإسلام على ما قاله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زال ينقص إلى يومنا، وهو بعد في نقص كما سبق في أم الكتاب أسأل الله العصمة برحمته.
[الأمر بإتقان العمل]
في الأمر بإتقان العمل وحدثني العتبي عن سحنون عن ابن القاسم عن مالك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «إن الله يحب إذا عمل العبد عملا أن يحسنه أو أن يتقنه» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله وبه التوفيق.
[التكبير في أيام منى]
في التكبير في أيام منى وقال مالك في حديث عمر في التكبير في أيام منى بعد زوال الشمس، فإذا كبر تلك الساعة خمر الناس الأمتعة لرمي الجمار.
قال محمد بن رشد: قوله في حديث عمر يريد حديثه الذي ذكره في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر حين ارتفع النهار شيئا فكبر فكبر الناس بتكبيره ثم خرج حين زاغت(17/627)
الشمس فكبر فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت فيعرف أن عمر قد خرج يرمي.
وقول مالك في تفسير الحديث فإذا كبر تلك الساعة خمر الناس الأمتعة لرمي الجمار، يريد أن أهل منى الحجاج كانوا إذا كبر عمر بعد زوال الشمس علموا أنه قد خرج يرمي فخرجوا هم ليرموا مؤتمين في ذلك به وتركوا أمتعتهم في منازلهم التي كانوا نزلوها، وجمعوها في موضع واحد وخمروها أي غطوها بالأكسية وشبهها حرزا لها في حين مغيبهم عنها.
وقوله في الحديث فكبر فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت ليس معناه أنه كان يكبر تلك الساعة ليتصل التكبير حتى يبلغ البيت، وإنما هو إخبار بأن تكبير الناس بتكبيره كان يتصل حين يبلغ البيت وإن كان لم يكبر هو ذلك، وإنما كثر تلك الساعة ليعلم بوقت الرمي وأنه خرج ليرمي ليخرج من كان حاجا إلى الرمي، وكان يكبر إذا ارتفع النهار شيئا وبعد ذلك إذا ارتفع النهار ويكبر الناس بتكبيره لقول الله عز وجل {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] وقد روي أنه كان يكبر في قبته بمنى فيكبر أهل المسجد ويكبر أهل الأسواق فترتج منى تكبيرا وبالله تعالى التوفيق.
[منع الرجل جاره أن يغرز خشبه في جداره]
[في الأمر بأن لا يمنع الرجل جاره أن يغرز خشبه في جداره] وسئل مالك عن الحديث في الخشبة في حائط جاره، فقال مالك: ما أرى محمله إلا على وجه الأمر فيه من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على وجه المعروف، وأما أن يقضى به فلا أرى بذلك بأسا.(17/628)
قال محمد بن رشد: الحديث الذي سئل عنه مالك هو حديثه في الموطإ، عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره» ، وهذا معلوم من مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذلك من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على الحض والندب وفعل معروف بجاره، لا على الوجوب والإلزام، وابن كنانة يحمله على الوجوب ويقضي به للجار على جاره، وقول مالك أظهر لأن النهي إنما يحمل على التحريم أو الوجوب إذا لم تقترن به قرينة تدل على أن المراد به الكراهية أو الندب، ومن الدليل على أن المراد به كراهة المنع والندب إلى الإذن هو أنه إذن في حق الإذن لأن الحائط ماله وملكه وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» ، وهذا عموم فلا يخصص منه غرز الخشب في الجدار إلا بيقين في النهي عن المنع؛ لأن النهي قد يراد به الكراهة، وقد يراد به التحريم، ولو كان من حق الجار أن يغرز خشبة في جدار جاره لقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس للجار أن يمنع جاره خشبة يغرزها في جداره، ولما قال «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» إذ ليس من حق الكلام أن يقال للرجل فيما يفعله لغيره لا تفعله إلا فيما له أن يفعله به، ألا ترى أنك تقول للرجل: لا تضرب عبدك، إذ له أن يضربه، ولا تقل له: ولا تضرب أباك إذ ليس له أن يضربه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ففهم من قوله كراهة المنع لا تحريمه، إذ لو كان المنع حراما لكان من حق الزوجة أن تخرج إلى المسجد دون إذن زوجها شاء أو أبى، وقد كانت زوجة عمر بن الخطاب(17/629)
تستأذنه في الخروج إلى المسجد فيسكت، فتقول والله لأخرجن إلا أن تمنعني فلا يمنعها، وبالله التوفيق.
[ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطل بالخطرة التي لا تملك]
في ما جاء من أن النية الصحيحة لا تبطل بالخطرة التي لا تملك وحدثني أبو عبد الله العتبي عن عيسى بن دينار عن ابن وهب عن عطاء الخراساني أن «معاذ بن جبل قال: "يا رسول الله: إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من القتال طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء، ومنهم من يقاتل احتسابا، فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟ فقال: يا معاذ بن جبل، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» .
قال محمد بن رشد: هذا حديث فيه نص جلي على أن من كان أصل عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضره الخطرات التي تقع في القلب ولا تملك، على ما قاله مالك، خلاف ما ذهب إليه ربيعة، وذلك أنهما سئلا عن الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق السوق، فأنكر ذلك ربيعة من سؤال السائل ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير.
وقال مالك: إذا كان أول ذلك وأصله لله فلا بأس به إن شاء الله قال عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وقال عمر بن الخطاب لابنه: لأن تكون قلتها أحب إلي من(17/630)
كذا وكذا إذ اخبره بما كان وقع في قلبه من أن الشجرة التي مثلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجل المسلم وسأل أصحابه عنها فوقعوا في شجر البوادي، هي النخلة، قال مالك: فأي شيء هذا إلا هذا وإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك، وذلك من وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل، فمن وجد ذلك فلا يشغله عن التمادي عن فعل الخير ولا يؤيسه من فعل الخير، وليدفع الشيطان من نفسه ما استطاع ويجرد النية لله، فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو يعمل به يد» .
وهذا الحديث يروى عما حدثت به أنفسها بالنصب وعما حدثت به أنفسها بالرفع، والصحيح في المعنى رواية من روى أنفسها بالنصب، والمعنى في ذلك أن الله تجاوز لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم عما حدثت به أنفسها ما يقصد منها إلى ذلك واكتساب له؛ لأن التجاوز إنما يكون فيما لو لم يتجاوز عنه لأخذوا به وأما ما حدثت به أنفسها من الخطرات الغالبة لهم التي لم يكن منهم فيها اكتساب لها ولا قصد إليها فليسوا بمؤاخذين بها، قال عز وجل: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، وبالله التوفيق.(17/631)
[كتاب الجامع السادس] [التأكيد في الخروج إلى الصلاة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
كتاب الجامع السادس ومن كتاب القبلة في التأكيد في الخروج إلى الصلاة وحدثني العتبي عن عيسى بن دينار قال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب أرسل إلى سليمان بن أبي خيثمة فوجده راقدا فقال: أشهدت الصلاة؟ قال: كنت أشتكي، ولولا رسولك جاءني ما خرجت، فقال عمر: إن كنت خارجا لدعوة أحد فاخرج إلى الصلاة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن إجابة الداعي إلى الصلاة بقوله: حي على الصلاة حي على الصلاة في أذانه للصلاة آكد من إجابة داعي الأمير لشيء من أمور الدنيا. وبالله التوفيق.(18/5)
[النصيحة من الدين]
ومن كتاب شك في طوافه في أن النصيحة من الدين قال ابن القاسم قال مالك ورفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» .
قال محمد بن رشد: قوله الدين النصيحة معناه عماد الدين النصيحة، خرج مخرج واسأل القرية، يريد أهل القرية، لأن حقيقة الدين إنما هو الإسلام والإيمان، قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . والنصيحة لله هي القيام بفرائضه، والتزام أوامره واجتناب زواجره؛ والنصيحة لكتابه هو تأويله على ما تأوله عليه أهل الحق من سلف المسلمين، وترك ما صار إليه من التأويل أهل الزيغ من الملحدين؛ والنصيحة لرسوله في حياته بذل الجهد في طاعته ونصرته، وبعد وفاته القيام بإحياء سنته والتزام ما شرعه لأمته، والنصيحة لأئمة المسلمين التزام الطاعة لهم وحضهم على الخير وتحذيرهم مما سواه، والنصيحة لعامة المسلمين هو أن يريهم المراشد في أمور دينهم ودنياهم.(18/6)
[كراهة ترك العمل في يوم الجمعة]
في كراهة ترك العمل في يوم الجمعة قال مالك: كان بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكرهون أن يترك يوم الجمعة العمل لئلا يصنعوا فيه كما فعلت اليهود والنصارى في السبت والأحد.
قال محمد بن رشد: هذا لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بمخالفة أهل الكتاب وينهى عن التشبه بهم. روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وأنه قال: «ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لأهل الكتاب،» وأنه قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر» . ومثل هذا كثير.
[ما جاء في أمة النبي عليه السلام]
ُ - قال مالك: كان عيسى ابن مريم يقول: أمة محمد حكماء علماء كأنهم من الفقه أنبياء. قال مالك على إثر ذلك: إن كان عيسى ابن مريم قاله ما أراهم إلا صدر هذه الأمة.(18/7)
قال محمد بن رشد: إخبار عيسى ابن مريم هذا من زمانه لا يصح أن يكون إلا بوحي من الله عز وجل، وذلك ثناء منه عز وجل عليهم بذلك، وقد أثنى عليهم في غير ما آية من كتابه، فقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] . الآية. فقوله عز وجل: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] إلى آخر الآية يشهد بصحة قول عيسى ابن مريم المذكور فيهم. وقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] .
[صفة مسجد النبي عليه السلام وحنين الجذع إليه]
في صفة مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وحنين الجذع إليه قال مالك: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مسجدي على عريش كعريش موسى» . «وكان يخطب على جذع حتى عمل له هذا المنبر من طرفاء الغابة، فلما خطب عليه وفقده الجذع حن فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده عليه فسكن» .
قال محمد بن رشد: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسجدي على عريش يريد أن سقفه بالجرائد فوق الجذوع بغير طين أو بقليل من الطين، فكان إذا كان المطر يكف أي يهطل في المسجد على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وقد أريت هذه الليلة - يريد ليلة القدر - فأنسيتها ولقد رأيتني أسجد في صبحها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر. قال أبو سعيد: فأمطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف(18/8)
المسجد. قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة ليلة إحدى وعشرين من رمضان» .
وحنين الجذع الذي كان يخطب إليه إذ صنع له المنبر يخطب عليه معلوم، رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبي بن كعب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وجماعة سواهم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق كثيرة بمعان متفقة وألفاظ متفارقة، في بعضها «أنه خار كخوار الثور حتى ارتج المسجد منه جزعا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزل إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه سكت، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» . وفي بعضها «أنه جأر أو خار حتى تصدع وانشق فأمر نبي الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فدفن تحت المنبر» على ما روي. وقد روي أن أبي بن كعب أخذه لما غير المسجد وهدم فكان عنده في بيته حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. وهذا علم جليل من أعلام النبوة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي أكثر من أن تحصى.
[كلام الإمام في الخطبة]
في كلام الإمام في الخطبة قال: وقد كان بعض الأمراء يرسل ليلة الجمعة هل أتكلم مع(18/9)
الخطبة بشيء؟ فقيل له: فماذا قلت؟ قال: قلت نعم إذا كان من الأمر الذي يأمر به وينهى عنه يريد بذلك وجه الحق، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب تكلم مع خطبته بكلام.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن للإمام أن يتكلم يوم الجمعة وهو على المنبر بغير الخطبة ولا يكون بذلك لاغيا. قال فيها: وكذلك لا يكون لاغيا من رد على الإمام إذا كلمه وهو يخطب، وهو أمر لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب. والحجة في إجازة ذلك ما يروى عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن بشير قال: «جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس فقد آذيت وآنيت» .
قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام. وما روي عن جابر بن عبد الله قال: «جاء سليك الغطفاني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فقعد قبل أن يصلي فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أركعت ركعتين قال: لا قال: قم فاركعهما» . وهذا نص في جواز تكلم الإمام على المنبر يوم الجمعة بغير الخطبة، وفي جواز الرد عليه لمن كلمه. وتأول أصحابنا أنه إنما أمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركعتين في ذلك الوقت ليري الناس حاجته فيتصدقون عليه، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري «أن رجلا دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فناداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما زال يقول: ادن حتى دنا فأمره فركع ركعتين قبل أن يجلس وعليه خرقة خلق ثم صنع مثل ذلك في الثانية فأمره بمثل ذلك، ثم صنع مثل ذلك في الجمعة الثالثة فأمره بمثل ذلك وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للناس تصدقوا، فألقوا الثياب فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ(18/10)
ثوبين الحديث.» وذهب أهل العراق أنه لا يجوز للإمام أن يتكلم في خطبته لغير الخطبة ولا لأحد ممن كلمه أن يرد عليه، وقال يحتمل أن يكون ما جاء في هذه الآثار كان الكلام حينئذ في الخطبة مباحا كما كان في الصلاة، ثم نسخ بنسخه في الصلاة؛ ويحتمل أيضا أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع خطبته ليعلم الناس كيف يفعلون إذا جاءوا إلى المسجد ثم استأنفها، لا أنه تكلم فيها ثم تمادى عليها، وهو بعيد. والله أعلم وبه التوفيق. وقد مضى هذا في أول سماع أشهب من كتاب الصلاة.
[ما جاء في أبي عبيدة بن الجراح]
قال وسمعت مالكا يقول: «أتى أهل نجران إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلموا وقالوا: يا رسول الله لو بعثت معنا من يفقهنا ويعلمنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنا أبعث معكم القوي الأمين فتطاول أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل رجل يرجو أن يكون هو وأحبوا ذلك، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة بن الجراح معهم» .
قال محمد بن رشد: أبو عبيدة بن الجراح من كبار الصحابة وفضلائهم وأهل السابقة منهم، وأحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة. وقال أبو بكر الصديق يوم السقيفة: رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر أو أبا عبيدة. وقال عمر إذ دخل عليه الشام وهو أميرها:(18/11)
أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا. ويروى أنه قال: كلنا غيرته الدنيا غيرك يا أبا عبيدة. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» . والمعنى في هذا أنه في أرفع مراتب الأمانة، ولا أحد أرفع مرتبة منه فيها، ولا يمتنع أن يكون غيره من الصحابة في مرتبته من الأمانة. وهذا مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي ذر: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر،» لأن المعنى في ذلك أنه في أعلى مراتب الصدق، فلا ينتفي أن يكون في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هو في الصدق مثله، وإنما ينتفي أن يكون غيره أعلى مرتبة منه في الصدق. وبالله التوفيق.
[الحكم في البعير الضال]
في الحكم في البعير الضال قال مالك: أرسل الحسن بن زيد يسألني عن رجل أصاب ثلاثة أبعرة ضالة فقال إنها قد أكلتني، فاستشارني فيها، فأمرته أن يأمره أن يرسلها حيث أصابها.
قال محمد بن رشد: ثبت «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال في ضالة الإبل: ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتكل الشجر حتى يلقاها ربها» . والاختيار فيها أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت، جاء ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأخذ به مالك في أحد قوليه، وهو قوله في هذه الرواية وفي المدونة وفي رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب اللقطة؛ وقيل إنها تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت(18/12)
ووقف ثمنها لصاحبها، فإن لم يأت وأيس منه تصدق به عنه، جاء ذلك عن عثمان بن عفان، وروي ذلك عن مالك أيضا قال: من وجد بعيرا ضالة فليأت به الإمام يبيعه ويجعل ثمنه في بيت المال، يريد بعد أن يعرفه. قال أشهب في مدونته: وإن كان الإمام غير عدل فليتركه حيث وجده. وإنما اختلف الحكم في ذلك بين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان لاختلاف الأزمان لفساد الناس، فكان الحكم فيها في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وخلافة عمر بن الخطاب أن لا تؤخذ، فإن أخذت عرفت، فإن لم تعرف ردت حيث وجدت؛ ثم كان الحكم فيها في زمن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ظهر من فساد الناس أن تؤخذ وتعرف فإن لم تعرف بيعت ووقفت أثمانها. وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيه اليوم إن كان الإمام عدلا، وإن كان الإمام غير عدل يخشى عليها إن أخذت لتعرف تركت ولم تؤخذ.
وإن كان إنما يخشى على ثمنها إن بيعت أخذت فعرفت فإن لم تعرف ردت حيث وجدت. وقد مضى هذا كله بزيادة عليه في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الأقضية. وبالله التوفيق.
[الإقبال على الدعاء]
في الإقبال على الدعاء
قال مالك: جاء رجل إلى عامر بن عبد الله بن الزبير وهو يدعو فجلس إليه ومعه دراهم وكتاب فصول عنده، ثم كلمه الرجل فأخذ الدراهم فجعلها تحت رجله ثم أقبل على الدعاء، فلما فرغ كلمه الرجل قال: فما استطعت أن تكلمني ثم تقبل على صلاتك، فقال: هذه أخذة الشيطان، إني قد جربت هذا، يأتي الرجل فأكلمه ثم يأتي آخر حتى يذهب الدعاء. ورأيته يدعو وعليه إزار وقطيفة في الشتاء كلما وقعت جبذها على منكبيه، وكان من دعائه: يا باقي يا دائم يا حي لا يموت لا تبطل دعائي ولا تضيع مسألتي.(18/13)
قال محمد بن رشد: قد بين عامر بن عبد الله بن الزبير الوجه الذي من أجله لم يترك ما كان فيه من الدعاء، وتكلم الرجل بما لا مزيد عليه مما حذره وخافه. وأما قوله في دعائه يا حي لا يموت فصحيح جيد لا اختلاف فيه، لأن الحي اسم من أسماء الله عز وجل. قال الله عز وجل: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] وقال: {الم} [آل عمران: 1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] . وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] . وكذلك قوله: يا باقي، لأن الباقي أيضا اسم من أسماء الله تعالى في سورة البقرة، وفي سورة الرحمن قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] .
وأما قوله يا دائم ففي الدعاء به اختلاف، إذ قد قيل إنه لا يجوز أن يسمى الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله وأجمعت الأمة على تسميته به. والصحيح جواز الدعاء بيا دائم، لأن الدائم بمعنى الباقي وبمعنى الأخير في قوله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وبالله التوفيق.
[الصلاة في البرانس]
في الصلاة في البرانس وسئل مالك عن الصلاة في البرانس هي من لباس المصلين وكانت من لباس الناس وما أرى بها بأسا، فاستحسن لباسها وقال: هي من لباس المسافر للبرد والمطر. قال ولقد سمعت عبد الله بن(18/14)
أبي بكر وكان من عباد الناس وأهل الفضل وهو يقول: ما أدركت الناس إلا ولهم ثوبان برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، ولقد رأيت ناسا يلبسون البرانس، فقيل له ما كان ألوانها؟ قال: صفر.
قال محمد بن رشد: البرانس ثياب في شكل الغفائر عندنا مفتوحة من أمام تلبس على ثياب في البرد والمطر مكان الرداء، فلا تجوز الصلاة فيها وحدها إلا أن يكون تحتها قميص أو سراويل، لأن العورة تبدو من أمامه وهو في البرانس العربية، وأما الأعجمية فلا خير في لباسها في الصلاة ولا في غير الصلاة لأنها من زي العجم وشكلهم. وأما الخمائص فهي أكسية من صوف رقاق معلمة وغير معلمة يلتحف فيها، كانت من لباس الأشراف في أرض العرب.
فقوله برنس يغدو به يريد يلبسه على ما تحته من الثياب، وخميصة يروح بها يعني يلتحفها على ما عليه من الثياب والله أعلم. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء قال مالك: وبلغني أن أبا سلمة رأى رجلا قائما عند المنبر وهو يدعو ويرفع يديه فأنكر عليه وقال: لا تقلصوا تقليص اليهود، فقيل له: ما أراد بالتقليص؟ فقال رفع الصوت بالدعاء ورفع اليدين.
قال القاضي: إنما كره رفع الصوت بالدعاء لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» . وقد روي أن قول الله عز وجل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110](18/15)
نزلت في الدعاء. وأما رفع اليدين عند الدعاء فإنما أنكر الكثير منه مع رفع الصوت لأنه من فعل اليهود، وأما رفعهما إلى الله عز وجل عند الرغبة على وجه الاستكانة والطلب فإنه جائز محمود من فاعله، وقد أجازه مالك في المدونة في مواضع الدعاء وفعله فيها، واستحب في صفته أن يكون ظهورهما إلى الوجه وبطونهما إلى الأرض. وقيل في قول الله عز وجل: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] إن الرغب يكون بطون الأكف إلى السماء والرهب بطونها إلى الأرض. وقد وقع لمالك في رسم المحرم من السماع في كتاب الصلاة أنه لا يعجبه رفع اليدين في الدعاء، ومعنى ذلك الإكثار منه في غير مواضع الدعاء حتى لا يختلف قوله، والله أعلم.
[السدل في الصلاة]
في السدل في الصلاة وسئل مالك عن السدل في الصلاة قال: لا بأس بذلك. فقيل له هل رأيت أحدا يفعل هذا؟ فقال نعم. فقيل له أعبد الله بن حسن؟ قال نعم وغيره، وقد رأيته يفعله، وقد رأيت عبد الله بن حسن يجعل طنفسة في المسجد يصلي عليها، وقد كان كبر، فكان يقوم عليها ويسجد ويضع يديه على الحصباء.
وسئل ابن القاسم عن ذلك فقال لا بأس بذلك إذا وضع جبهته ويديه على تراب أو نبات من الأرض، فقيل له مسجد الجماعة؟ فقال نعم
قال محمد بن رشد: صفة السدل أن يسدل الرجل طرفي ردائه بين يديه فيكون بطنه وصدره مكشوفا، وقد أجاز ذلك في المدونة وإن لم يكن(18/16)
عليه إلا إزار أو سراويل تستر عورته. وحكى أنه رأى عبد الله بن الحسن وغيره يفعل ذلك. ومعنى ذلك إذا غلبه الحر، إذ ليس من الاختيار أن يصلي الرجل مكشوف الصدر والبطن، وهو ظاهر هذه الرواية. وفي هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة ما ظاهره أن ذلك لا بأس به إذا كان عليه مع الإزار ثوب غيره يستر به سائر جسده.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي هريرة وأبي جحيفة «أنه نهى عن السدل في الصلاة» فكره بذلك بعض أهل العلم أن يسدل الرجل في صلاته وإن كان عليه مع الإزار قميص وقال ذلك فعل اليهود، فهي ثلاثة أقوال: الجواز وإن لم يكن عليه إلا إزار، والمنع وإن كان عليه مع الإزار قميص يستر به جميع جسده، والفرق بين أن يكون عليه مع الإزار قميص يستر به سائر جسده وبين ألا يكون عليه مع الإزار قميص يستر به جميع جسده. وأما إن لم يكن عليه قميص ولا إزار فلا يجوز السدل في الصلاة بإجماع، لأن عورته تبدو من أمامه.
وإنما كانت الطنفسة تجعل له في المسجد ليصلي عليها رفقا به لكثرة اتقائه من حر الأرض وبردها، فكان يصلي ويسجد على الحصباء ويضع يده عليها، وذلك جائز، فقد كان يطرح لعقيل بن أبي طالب في زمن عمر بن الخطاب طنفسة إلى جدار المسجد الغربي يجلس عليها ويجتمع الناس إليه، وكان نسابا عالما بأيام العرب. والصلاة على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم جائزة، وإنما يكره السجود عليها، من أجل أن الصلاة شأنها التواضع، فالمستحب فيها أن لا يسجد إلا على الأرض أو ما يشاكل الأرض من الحصر التي تصنع مما تنبته الأرض. ومثل هذا في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.(18/17)
[المحافظة على الصلاة في الجماعة]
في المحافظة على الصلاة في الجماعة وسئل مالك هل بلغك عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا ذكر له الخروج إلى البادية قال: فأين صلاة العشاء؟ قال نعم، قد بلغني أن سعيد بن المسيب كان إذا ذكرت له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء.
قال محمد بن رشد: إنما كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول ذلك إشفاقا على فوات الصلاة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لما جاء من أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
وخص صلاة العشاء بالذكر لما جاء من الفضل في شهودها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونها» أو نحو هذا. وقال عثمان بن عفان: من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام نصف ليلة، وذلك لا يكون إلا عن توقيف، إذ لا مدخل في ذلك للقياس ولا يقال مثله بالرأي. ولعله أراد أن أهل البادية كانوا لا يصلون العشاء والصبح في جماعة، أولا يرى لنفسه اختيارا أن يأتم بأئمتهم لجهلهم بالسنة. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة. وبالله التوفيق.
[كراهة التروح بالمراوح في المسجد]
في كراهة التروح بالمراوح في المسجد وسئل مالك عن المراوح أتكره أن يروح بها في المسجد قال نعم إني لأكره ذلك.(18/18)
قال القاضي: هذا كما قال لأن المراوح إنما يتخذها أهل الطول للترفه والتنعم، وليس ذلك من شأن المساجد، والإتيان إليها بالمراوح من المكروه البين. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة. وبالله التوفيق.
[التسع آيات التي أوتيها موسى عليه السلام]
ُ - قال مالك: التسع آيات التي آتاهن الله تبارك وتعالى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، ويده، والبحر، والجبل.
قال محمد بن رشد: قد روي هذا عن ابن عباس من رواية عكرمة عنه، إلا أنه جعل مكان البحر والجبل السنين والنقص من الثمرات، فقال في تفسير التسع الآيات: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص من الثمرات، فالتسع الآيات التي أعلم الله عز وجل في كتابه أنه آتاها موسى بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] ، هي معجزات، وتخويفات وإنذارات. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] فقالوا: هذه مما سحرنا به هذا الرجل فقالوا يا موسى {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132] أي بمصدقين، فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقفل والضفادع والدم آيات مفصلات، يعني بائنات بعضها من بعض بين كل عذابين شهر، قاله بعض أهل التفسير.(18/19)
أما الطوفان فمطروا الليل والنهار ثمانية أيام ولياليهن لا يرون فيها شمسا ولا قمرا، فصرخ الناس إلى فرعون وخافوا الغرق، فأرسل فرعون إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأتاه، فقال: يا موسى اكشف عنا هذا فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فأقلعت السماء ونشفت الأرض ماءها وأنبتت من الكلأ والزرع ما لم يروا مثله في مصر قط، فقالوا: لا والله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل، ولقد فزعنا من أمر كان خيرا لنا، فنكثوا وعصوا. فأرسل الله عز وجل عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، وبقي الجراد عليهم ثمانية أيام ولياليهن لا يرون الأرض، وركب الجراد بعضه بعضا ذراعا. وفي تفسير مجاهد أن الجراد أكل مسامير أبوابهم وثيابهم، فصرخ أهل مصر إلى فرعون، فأرسل إلى موسى فقال: أيها الساحر {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134] ، فدعا موسى ربه جل وتعالى، فأرسل الله عز وجل ريحا شديدا فاحتملت الجراد فألقته في البحر فلم يبق في الأرض منها جرادة. فنظر أهل مصر فإذا هم قد بقي لهم بقية من زرعهم وكلئهم ما يكفيهم عامهم ذلك، فقالوا: إنه قد بقي لنا ما يكفينا هذه السنة، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عز وجل عليهم القمل.
قال مجاهد: هو الدبا فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته. فصرخوا إلى فرعون فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: يا موسى اكشف عنا هذا الدبا فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأمات الدبا فلم يبق منه واحدة. فلما نظر القوم أنه لم يبق لهم شيء يعيشون به قالوا: يا موسى هل يستطيع ربك أن يفعل بنا شرا مما فعل، فوالله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم الضفادع فدبت في أرضهم وبيوتهم ومخادعهم وظهور(18/20)
بيوتهم حتى جعل الرجل يستيقظ وعليه منهن ما لا يحصى، فصرخوا إلى فرعون فأرسل إلى موسى فأتاه فقال: ادع لنا ربك فليهلك هذه الضفادع من أرضنا ونؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا موسى ربه فأذهب الضفادع من أرضهم فأماتها، ثم أرسل مطرا فاحتملها فألقاها في البحر. فقالوا: لا والله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عز وجل عليهم الدم فجرت أنهارهم دما وركاياهم فلم يكونوا يقدرون على الماء وأنهار بني إسرائيل تجري ماء عذبا طيبا، فإذا دخل الرجل من آل فرعون في أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه دما والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر منه على شيء. فمكثوا ثمانية أيام ولياليهن لا يذوقون الماء حتى بلغهم الجهد. فصرخ أهل مصر إلى فرعون إنا قد هلكنا وهلكت دوابنا وماشيتنا من الظمأ. فأرسل فرعون إلى موسى فدعاه فقال يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الرجز ونعطيك ميثاقا {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134] . فدعا موسى ربه فكشف عنهم فشربوا الماء، ثم عادوا إلى كفرهم فقالوا: والله لا نؤمن لك ولا نرسل معك بني إسرائيل. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 135] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136] .
وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] ، يعني أرض الأردن وفلسطين، وقيل أرض الشام. وقال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] قيل معناه ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وما ورثهم فيها، وقيل وعد الله لهم بالجنة لما صبروا على دين الله.
وقد جاء في التسع الآيات التي ذكر الله عز وجل أنه آتاها موسى - عليه(18/21)
السلام - إنما عنى بها عبادات تعبده بها لا ما آتاه من المعجزات والإنذارات. روي «عن صفوان بن عسال المرادي أنه قال: قال رجل من اليهود لآخر اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له الآخر: لا تقل هذا النبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين. فانطلقا إليه وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تفروا من الزحف، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، وعليكم يهود أن لا تعدوا في السبت؛ فقالوا: نشهد إنك رسول الله.» وفي بعض الآثار: «فقبلوا يديه ورجليه وقالوا نشهد أنك نبي، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داوود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود.» قال الطحاوي: وهذا أولى مما رواه عكرمة عن ابن عباس في أن الآيات التسع إنذارات وعدات، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[الأقبية للجواري وخروجهن بالأزر في الأسواق]
في الأقبية للجواري وخروجهن بالأزر في الأسواق وسئل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية، قال ما يعجبني ذلك، فإذا شدته عليها كان أخرج لعجزتها، ولقد نهيت عنه محمد ابن إبراهيم، ورأيت عنده وصائف قد ألبسهن ذلك. وسئل عن خروج الجواري في الأسواق بالأزر، فقال ما يعجبني ذلك وأرى ذلك من الباطل.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة لبس الوصائف القباطي بين على ما ذكره للعلة التي وصفها. وأما خروجهن إلى الأسواق بالأزر فمعناه أن يلتحفن فيها كالتحاف الحرائر، فكره ذلك من أجل تشبههن بالحرائر اللواتي(18/22)
أمرهن الله أن يدنين عليهن من جلابيبهن. وقد رأى عمر بن الخطاب أمة لابنه عبيد الله قد تهيأت بهيئة الحرائر، فدخل على حفصة ابنته فقال لها: ألم أر لأخيك جارية تجوس بين الناس وقد تهيأت بهيئة الحرائر وأنكر ذلك.
قال عبد الملك في الواضحة: وما رأيت أمة بالمدينة تخرج وان كانت رائعة إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر مجسم لا تلقي على رأسها جلبابا لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت اليوم جارية رائعة مكشوفة الرأس في الأزقة والأسواق لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك، وتلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به من الحرائر، وتضرب إن خرجت مجردة. قاله مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب النكاح، يريد بمجردة مكشوفة الظهر والبطن. وأما خروجها مكشوفة الرأس فهو سنتها على ما تقدم، وبالله التوفيق لا شريك له.
[شرب الماء الذي يسقاه الناس في المساجد والأسواق]
في شرب الماء الذي يسقاه الناس في المساجد والأسواق وسئل مالك عن الماء الذي يسقي الناس في المساجد والأسواق أترى للأغنياء أن يجتنبوا شربه؟ قال: لا، ولكن يشربون أحب إلي، إنما جعل للعطشان. ولقد كان سعيد بن عبادة اتخذ سقاية يسقي فيها الناس، فقيل له: أفي المسجد؟ فقال: لا ولكن في منزله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن قصد ساقيه به معلوم، لأنه يوجد في الغني كما يوجد في الفقير لاستوائهما في الحاجة إلى شربه،(18/23)
وقد يعدمه الغني في وقت الحاجة إلى شربه ولا يجد من يشتريه منه، أولا يكون بيده حاضرا ما يشتريه به كما يعدمه الفقير سواء، وبالله التوفيق.
[زهد عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم]
في زهد عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال مالك: إن مما تحدث به الناس أن عيسى ابن مريم كان يقول: ما للذهب عندي فضل على الحجارة.
قال محمد بن رشد: إنما لم يكن للذهب فضل عنده على الحجارة وإن كان الذهب من شهوات الدنيا التي قد زين حبها للناس فقال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 14] الآية لأنه اختار عليها ما أنبأ الله عز وجل عباده أنه خير منها بقوله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] .
[تفسير المزجاة]
في تفسير المزجاة قال مالك في تفسير {بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88] قال: إني أقول فيها الجائزة تجوز بكل مكان فهي المزجاة.
قال محمد بن رشد: أكثر أهل التفسير على خلاف هذا التفسير في مزجاة. منهم من قال يسيرة، ومنهم من قال مقاربة ردية، وكانوا لا يأخذون(18/24)
في الطعام إلا الجياد. وقيل ببضاعة مزجاة أي خبيثة رديئة لا تجوز إلا بوضيعة. وقيل كان معهم متاع الأعراب من سمن وصوف وما أشبهه. وأصله من التزجية، وهي الدفع والسوق. يقال: فلان يزجي العيش أي يدافع بالقليل ويكتفي به. فالمعنى إنا جئنا ببضاعة إنما ندافع بها ونتقوت ليست يتسع بها. وقيل في قولهم وتصدق علينا معناه بما بين الكيلين، وقيل معناه تصدق علينا بأخينا. وبالله التوفيق.
[ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكة]
فيما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند دخوله مكة قال مالك: «لما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح وسارت الجنود بين يديه، أكب على واسطة الرحل ثم قال: الملك لله الواحد القهار. فقال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ابن أخيك ملكا عظيما، فقال له العباس: إنه ليس بالملك ولكنها النبوءة» .
قال محمد بن رشد: إنما أكب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على واسطة الرحل تواضعا لله، وقال ما قال تعظيما لله. والمعنى في ذلك بين، وبالله التوفيق.
[قول أسيد بن الحضير لو كنت في دهري]
في قول أسيد بن الحضير قال: وسمعت مالكا يذكر أن أسيد بن الحضير قال: لو كنت في دهري كما أنا في ثلاثة مواضع: إذا قرأت سورة البقرة من جوف الليل، وإذا كنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/25)
فسمعته يحدث، وإذا كنت في جنازة، فإني إذا شهدت جنازة لم أحدث نفسي إلا بما يقول الميت وما يقال له.
قال محمد بن رشد: هذا مما كان عليه السلف الصالح من تعظيم الموت بالسكينة والكآبة عند حضور الجنازة حتى لقد كان الرجل يلقى الخاص من إخوته في الجنازة له عنده عهد فما يزيده على التسليم ثم يعرض عنه كأن له عليه موجدة اشتغالا بما هو فيه من شأن الميت، فإذا خرج من الجنازة ساءله عن حاله ولاطفه وكان منه أحسن ما كان لعهده. فيكره الضحك في الجنازة والاشتغال فيها بالحديث والخوض في شيء من أمور الدنيا. وقد مضى هذا في كتاب سماع أشهب من كتاب الجنائز، وبالله التوفيق لا شريك له.
[كراهة الحلف بغير الله عز وجل]
في كراهة الحلف بغير الله عز وجل وسئل عن الذي يحلف بحياتي، فكره ذلك وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . وإنما هذا من حلف النساء والضعفاء من الرجال أن يقول بحياتي وما أشبه ذلك فكرهه.
قال محمد بن رشد: يكره الحلف بغير الله عز وجل من جهة النهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ومن جهة المعنى أيضا. وذلك أن الحلف بالشيء تعظيم للمحلوف به، ولا ينبغي أن يعظم شيء سوى الله عز وجل وبه التوفيق.(18/26)
[السجود على الثوب من الحر]
في السجود على الثوب من الحر قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب سجد على ثوبه من شدة الحر، وبلغني أن ابن عمر كان يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: الاختيار أن يسجد الرجل على الأرض أو على ما شاكل الأرض من الحصر التي تعمل مما تنبته الأرض بطبعها، لأن الصلاة شأنها التواضع لله عز وجل. فإن سجد الرجل على ثوبه من حر أو برد أجزاه ولم يكن عليه شيء، ولا اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.
[جود أبي الدرداء]
في جود أبي الدرداء وسمعت مالكا يذكر أن أبا الدرداء قال: إني لبخيل إن كان لي ثلاثة أثواب ألا أقرض الله عز وجل أحدها. وسمعت مالكا يذكر أن قوما أضافهم أبو الدرداء فلما أصبحوا قالوا لو ذهبنا إلى أبي الدرداء نثني عليه ونذكره بما أولانا، فجاؤوه فذكروا له وقالوا له لم تلحفنا لحفا فوجدنا البرد، فقال: ليس علينا إلا لحاف واحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين. قال الله عز وجل: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] وقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وبالله التوفيق.(18/27)
[كراهة عمر رضي الله عنه البنيان]
في كراهة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - البنيان قال وسمعته يذكر أن أبا الدرداء بنى منزلا له بحمص، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: أما كان في بناء الروم وفارس ما يكفيك؟ فأخرجه عمر من حمص إلى دمشق.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مذموم، وقد جاء أنه من أشراط الساعة، فعاتب عمر أبا الدرداء على ما بناه، إذ خفي عليه ما جاء في ذلك مع مكانه من العلم، فإنه كان فقيها عالما حكيما. روي عن مسروق أنه قال: شافهت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدت علمهم إلى ستة: عمر، وعلي، وعبد الله، ومعاذ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وكان قاضيا لمعاوية في خلافة عثمان. وقد روي أن عمر أمر أبا الدرداء على القضاء، وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب. فيحتمل أن يكون أخرجه من حمص إلى دمشق واليا إلى القضاء بها، فكان أميرها إذا غاب وأراد بذلك تأديبه على ما بيناه من قول مالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه. وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا القول في البنيان وما يجوز منه وما لا يجوز، وبالله التوفيق.
[إهلال عيسى ابن مريم عليه السلام بالحج]
في إهلال عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحج وقال مالك في تفسير قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في عيسى ابن مريم حاجا أو معتمرا أو ليتنهما قال يقرنهما أو عمرة بعد حجه مرة.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا الحديث في رسم مرض فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(18/28)
[حكم الشعر والشعراء]
في الشعر والشعراء وسئل مالك عن إنشاد الشعر، قال: يخفف ولا يكثر، ومن عيبه أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] . قال مالك: وقد بلغني أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري أن اجمع الشعراء واسألهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفته، وأحضر لبيدا لذلك. قال فجمعهم فسألهم فقالوا: إنا لنعرفه ونقوله، وسأل لبيدا عنه فقال: ما قلت بيت شعر منذ سمعت الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: {الم} [البقرة: 1] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
قال محمد بن رشد: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، والإكثار منه والاشتغال به مذموم. وكفى من ذمه قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] أي الشياطين الذين يغوونهم ويزينون لهم المكروه من القول، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] أي من القول يهيمون، {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] يمدحون ويذمون ويصفون ما تميل إليه أهواؤهم فيغلون. وقد «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثرثارين إنهم أبغض الخلق إلى الله» لما في البلاغة والتفيهق من تصوير الباطل في صورة الحق. ولهذا المعنى «قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذ مدح عمرو بن الأهتم الزبرقان بن بدر ثم ذمه في مجلس واحد بكلام بليغ استمال به النفوس وقال: أرضاني فقلت: أحسن ما علمت، وأسخطني فقلت: أسوأ ما علمت، ولقد(18/29)
صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية: إن من البيان لسحرا» أي إن من بعض البيان لسحرا، فالحظ لمن كان من أهل الشعر وسهل عليه القول أن يتركه ويشتغل بما سواه من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وما يعنيه من أمر دينه ودنياه. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وهذا الذي أراده عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الشعر، ولذلك كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يجمعهم ويسألهم عن الشعر ويحضر لبيدا لذلك ليسمعوا قوله له توبيخا لهم. وكان لبيد بن ربيعة العامري الشاعر من فحول الشعراء شريفا في الجاهلية والإسلام، ممن سلم فحسن إسلامه. وقيل إنه لم يقل منذ أسلم شعرا إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقد قيل إن هذا البيت لغيره، وإن الذي قاله هو في الإسلام هو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
» وهو شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله في الإسلام، والله عز وجل أعلم، وذلك قوله:
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المجاهل
وكان لبيد هذا من المعمرين، مات وهو ابن مائة وأربعين سنة، وقيل(18/30)
ابن مائة وسبع وخمسين سنة في أول خلافه معاوية، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له.
[الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل]
في الدراهم لا تغير لما فيها من أسماء الله عز وجل وسئل مالك عن تغيير الدراهم لما فيها من كتاب الله، قال مالك: كان أول ما ضربت الدراهم على عهد عبد الملك بن مروان والناس متوافرون، فما أنكر ذلك أحد، وما علمت أن رجلا من أهل الفقه أنكره ولا أرى به بأسا. قال مالك: ولقد بلغني أن ابن سيرين كان يكره أن يبيع بها أو يشتري بها، وما ذلك من شأن الناس وما أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: إنما لم ينكر سلف الإسلام الدنانير والدراهم المضروبة لما فيها من أسماء الله عز وجل. وأجازوا البيع والشراء بها وإن كان ذلك يؤدي إلى أن يمسها الطاهر والنجس واليهودي والنصراني، من أجل ما فيها من المنفعة العامة لجميع المسلمين، لأنهم يميزون بالسكك طيب الذهب والفضة ويعرفون بها مقدار فضل بعضها على بعض في الطيب، فتصح فيها البيوع فيما بينهم، لأن النقر والاتبار من الذهب والفضة لا يميز الخالص منها من غير الخالص إلا الصيارفة والخاص من الناس بعد الاختبار.
فلو قطعت السكك وحمل الناس على التبايع بأتبار الذهب والفضة لفسد كثير من بيوعهم ووقع فيها فيما بينهم الغش والخديعة. ويكره للرجل في خاصة نفسه أن يشتري بالدنانير والدراهم المضروبة شيئا من اليهود والنصارى لما فيها من أسماء الله عز وجل، فقد كره ذلك مالك في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة، وأعظم أن يعطاها نجسا. فمن امتنع من ذلك تعظيما لأسماء الله عز وجل أجر، ومن فعله لم يأثم لما في ذلك من الحاجة. وقد(18/31)
أجيز في موضع الضرورة أن يعطوا الآية والآيتين من القرآن على باب الدعاء، كما كتب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية وبالله التوفيق.
[الاستعداد لخروج الدجال]
في الاستعداد لخروج الدجال قال مالك: بلغني أن الناس كانوا يعدون الإبل والخيل لمكان الدجال يخرجون عليها.
قال القاضي: إنما كانوا يتأهبون لذلك لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مما يؤذن بقرب خروجه. من ذلك حديث أبي عبيدة بن الجراح خرجه الترمذي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إنه لم يكن نبي بعد نوح إلا وقد أنذر الدجال قومه وإني أنذركموه، ووصفه لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لعله سيدركه بعض من رآني وسمع كلامي. قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: مثلها، يعني اليوم، أو خير» . ومن ذلك حديث النواس بن سمعان الكلابي خرجه الترمذي أيضا وقال فيه حديث حسن صحيح غريب قال: «ذكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فانصرفنا من عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم رحنا إليه فعرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قال: قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، قال غير الدجال أخوف عليكم. إن يخرج عليكم وأنا فيكم فأنا(18/32)
حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطيط الشعر عينه قائمة شبيه بعبد العزى بن قطن، فمن رآه منكم فليقرأ فواتح سورة الكهف. قال: يخرج ما بين العراق والشام، فقال: قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله إن أتى اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا ولكن قدروا له. قال: قلنا يا رسول الله فما سرعته في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله فينصرف عنهم فتتبعه أموالهم فيصبحون ليس بأيديهم شيء، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيستجيبون له ويصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم كأطول ما كانت ذرى وأمده خواصر وأدره ضروعا.
قال ثم يأتي الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فينصرف منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلا شابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء بين مهرودتين واضعا يده على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمال كاللؤلؤ. قال: ولا يجد ريح نفسه أحد إلا مات، وريح نفسه منتهى بصره. قال: فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. قال: فيلبث كذلك ما شاء الله. قال: ثم يوحي الله إليه أن أحرز عبادي إلى الطور فإني قد أنزلت عبادا لا يدان لأحد بقتالهم. قال(18/33)
ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم كما قال عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] ، قال: فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشرب ما فيها، ثم يمر بها آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء. [ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمرا] ، ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم اليوم. قال: فيرغب عيسى ابن مريم وأصحابه إلى الله، قال: فيرسل الله إليهم النغف في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة. قال: ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه فلا يجد موضع شبر إلا وقد ملئت من جيفهم ونتنهم ودمائهم. قال: فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت، قال: فتحملهم فتطرحهم بالنيل، قال: [ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجفانهم سبع سنين] . قال: ويرسل الله عليهم مطرا لا يكن منه بيت وبر ولا مدر، قال فيغسل الأرض قال: فيتركها كالزلفة قال: ثم يقال للأرض أخرجي ثمرتك ودري بركتك، فيومئذ يأكل العصابة الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن الفئام من الناس ليكتفون باللقحة من الإبل وإن القبيلة(18/34)
ليكتفون باللقحة من البقر، وإن الفخذ ليكتفون باللقحة من الغنم. فبيناهم كذلك إذ بعث الله ريحا فقبضت روح كل مؤمن ويبقى سائر الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة.» وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاجتهاد في العبادة قال: وسمعت مالكا يقول: لما دخل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذين قطعوا بالمناشر وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد وصفهم الله عز وجل في كتابه بما يشهد لهم بصحة قول هذا الرجل فيهم، وذلك قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] إلى قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وكان من شأن أصحاب عيسى ابن مريم الحواريين فيما ذكر أن اليهود لما ظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ابن مريم إذ تآمروا على قتله فألقى الله عز وجل شبهه على رجل من أصحابه فقتلوه وصلبوه، ورفع الله عز وجل عيسى إليه، أقبلوا على أصحابه الحواريين يقتلونهم ويعذبونهم بأنواع ليرعوهم عن الإيمان. وبالله التوفيق.(18/35)
[حكم الأجراس في أعناق الإبل والحمير]
في الأجراس في أعناق الإبل والحمير وسئل مالك عن الأجراس تعلق في أعناق الإبل والحمير فكره ذلك، فقيل له فالقلائد؟ فقال: ما سمعت بكراهيته إلا في الوتر. قال ابن القاسم: لا بأس به في غير الوتر.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم حلف فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها]
في الاعتبار بطلوع الشمس وغروبها وسمعت مالكا يقول: كان بنجران رجل يصيح كل يوم:
قطع البقاء مطالع الشمس ... وطلوعها من حيث لم تُمسِ
وغروبها حمراء قانية ... وطلوعها صفراء كالورس
فاليوم أعلم ما يجيء به غد ... ومضى بفعل قضائه أمس
قال محمد بن رشد: قوله، والله أعلم، ما يجيء به غد، معناه الإنكار والتقرير على ذلك، إذ لا يمكن أن يقول ذلك أحد ولا يدعيه، وبالله التوفيق.
[نزول عيسى ابن مريم]
في نزول عيسى ابن مريم قال: وسمعت مالكا يذكر: بينما الناس ببلد إذ يسمعون الإقامة يريدون الصلاة فتغشاهم غمامة فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب، وأن الله(18/36)
عز وجل رفعه إليه. «وأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إخبارا وقع العلم به أنه ينزل في آخر الزمان حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» . وفي بعض الآثار: «فيهلك الله في أيامه الملل كلها فلا يبقى إلا الإسلام وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسد مع الإبل والنمور مع البقر والذياب مع الغنم والغلمان مع الحيات فلا يضر بعضهم بعضا» .
[صفة الأمر بالمعروف]
في صفة الأمر بالمعروف وسمعت مالكا يقول: كان سعيد بن جبير يقول: إن لم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر حتى لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد إذا بشيء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب والخطايا، فقد ذكر الخضر لموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: واستكثر من الحسنات فإنك مصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا، وهو نبي مرسل، فكيف بمن دونه من الناس، فليس من شرط الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يكون معصوما.
وشرائط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ثلاثة: أحدها: أن يكون عارفا بالمعروف والمنكر، لأنه إذا لم يكن عارفا لم يأمن أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف، الثاني: أن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي ذلك إلى قتل نفس؛ والثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع، فإن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يلزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالشرطان الأولان شرطان في الجواز، وهذا الشرط الثالث شرط في الوجوب.(18/37)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الأعيان بالشرائط المذكورة، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقال عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل» . كان إذا عمل العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعزيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم صرف قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لساني نبييهم داوود وعيسى ابن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] وبالله التوفيق.
[الدعاء بالموت]
في الدعاء بالموت وسئل مالك عن الذي يدعو بالموت فقال: ما أحب ذلك.
وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8](18/38)
قال ولعله يكون على حالة يرجوها أو يكره مصيبة فما أحب ذلك له.
قال محمد بن رشد: روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وليقل اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» فلا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت لضر نزل به. وأما إن كان على حال يرجوها وخاف الفتنة على نفسه في الدين فالدعاء بالموت مخافة الفتنة في الدين جائز، قد قال عمر بن الخطاب بالأبطح حين صدر من منى: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرط ولا مضيع. ودعا عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على نفسه بالموت مخافة التضييع فيما يلزمه القيام به من أمور المسلمين ورغبة فيما عند الله عز وجل وحبا في لقائه، على ما مضى في رسم البر. ولم يحب مالك في هذه الرواية للرجل أن يفعل ذلك. ووجه قوله ما يرجوه مع طول الحياة من أعمال البر لا سيما الصلاة، فقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأخوين اللذين توفي أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة فذكرت فضيلة الأول عنده فقال: ألم يكن الآخر مسلما؟ قالوا: بلى يا رسول الله وكان لا بأس به، فقال: وما يدريكم ما بلغت به صلاته، وإنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون يبقي ذلك من درنه فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته» . ومن الحظ للرجل أن يدعو إذا خاف التقصير في العمل أن يجعل مكان دعائه لنفسه بالموت أن يطول الله عز وجل عمره ويحسن عمله، لأن الخير كان للإنسان في أن لا يخلق، فإذا خلق أن(18/39)
يتوفى صغيرا، فإذا لم يتوف صغيرا فأن يطول عمره ويحسن عمله. وهذا مذكور في مناجاة موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وبالله التوفيق.
[رد حكيم بن حزام العطاء]
في رد حكيم بن حزام العطاء قال مالك: «إن حكيم بن حزام سأل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن خيرا لك ألا تأخذ من أحد شيئا، قال: ولا منك يا رسول الله قال: ولا مني» . قال: فكان عمر بن الخطاب يعطيه عطاء فيأبى أن يقبله، فكان عمر يشهد عليه، فكان حكيم بن حزام يقول: قد رددته على من هو خير منك. قال مالك: إنه إنما كان نهي عمر بن الخطاب حكيم ابن حزام أن لا يبيع حتى يستوفيه إنما هو في الطعام.
قال محمد بن رشد: إنما رد حكيم بن حزام عطاءه على عمر لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا قال: ولا منك يا رسول الله قال: ولا مني» . والمعنى في ذلك وإن كان جائزا أخذه لأنه حقه من بيت المال، فإذا تركه ولم يأخذه من الإمام العادل فقد آثر به على نفسه سواه ممن يعطاه. ويكره للرجل أن يأخذ من أحد شيئا وإن كان من غير مسألة، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اليد العليا خير من اليد السفلى» . وقول مالك إن نهي عمر بن الخطاب لحكيم بن حزام أن لا يبيع ما ابتاعه حتى يستوفيه إنما هو في الطعام، هو نص الحديث في الموطأ أن حكيم بن حزام(18/40)
ابتاع طعاما أمر به عمر بن الخطاب للناس فباع حكيم ابن حزام الطعام قبل أن يستوفيه فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال: لا تبع طعاما ابتعته حتى تستوفيه. وهو مذهب مالك أن ما عدا الطعام من المكيل والموزون يجوز بيعه قبل استيفائه. وما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من «نهيه عن ربح ما لم يضمن» معناه عنده في الطعام. وقد مضى الوجه في ذلك في غير ما موضع من الديوان، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء]
في تفسير قَوْله تَعَالَى يؤتي الحكمة من يشاء قال مالك في تفسير: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال التفكر في أمر الله والاتباع له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم البر فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة]
في رجوع الرجل على صدور قدميه في الصلاة قال مالك: ما رأيت أحدا ممن كنت أقتدي به يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: معناه فيما بين السجدتين، وهو كما قال لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في(18/41)
التشهد. وقد رأى المغيرة بن حكيم عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك له فقال: إنها ليست سنة الصلاة وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي. وقال في حديث آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى والسنة إذا أطلقت فهي سنة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى تضاف إلى غيره كما قيل قبل سنة العمرين.
والرجوع على العقبين بين السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل الحديث. وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليته ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله عليه السلام من شظف العيش]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من شظف العيش قال مالك: بلغني أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «إن كنا لنقيم شهرا وما نوقد نارا، فقيل لها فما كنتم تعيشون به قالت: التمر، وكان جيران لنا من الأنصار لهم الغنم فكانوا يبعثون إلينا بالقدح والقدحين» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى والقول فيما يتعلق بذلك في بيان الأفضل، من الفقر أو الغنى في رسم نذر سنة.(18/42)
[من يعد في جملة الملوك]
فيمن يعد في جملة الملوك وحدثني مالك عن عبد ربه بن سعيد أنه قال: يقال من كان له بيت يأوي إليه وخادم تخدمه وزوجة فهو من الملوك الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] .
قال محمد بن رشد: هذا صحيح في المعنى، لأن هذا هو الذي يحتاج إليه في الدنيا، وما زاد عليه فهو في غنى عنه. وذلك مروي عن ابن عباس في تفسير الآية قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] الزوجة والخادم والبيت. وقال الحسن: الرجل ملك في بيته لا يدخل عليه إلا بإذن، فمن له مسكن وزوجة وخادم وما يقوم به في الإنفاق على نفسه وزوجه وخادمه فهو من الملوك، إذ لا حد لما زاد على ذلك. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه له قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» . فكيف لمن له مسكن وزوجة وخادم.
[التفاضل بين الأنبياء]
في أن بعض الأنبياء أفضل من بعض قال مالك: إن موسى قال يا رب ما لإبراهيم وإسحاق ويعقوب لا تذكر إلا ذكروا ولا يذكرون إلا ذكرت ولا أذكر كما يذكرون؟ قال إن إبراهيم ما عدل بي شيئا قط إلا اختارني، وإن(18/43)
إسحاق جاد لي بنفسه فهو بما وراءها أجود، وإن يعقوب لم أبتله ببلاء إلا ازداد حسن ظن بي.
قال القاضي: في هذه الحكاية في سماع أشهب بعد هذا: قيل لمالك وما معنى قوله إذا ذكرت ذكروا فإن ذكروا ذكرت، قال: إذا ذكر الصالحون إنما يذكرون بذكر الله عز وجل وبطاعتهم له. ومعنى هذا الذكر الذي أراد في الملأ الأعلى عند الملائكة والله أعلم. وفيه أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] . وفي قوله إن إسحاق جاد لي بنفسه يدل على أنه هو الذبيح لا إسماعيل. وقد اختلف في ذلك حسبما يأتي القول به بعد هذا في هذا الرسم إن شاء الله، وبه التوفيق.
[مس المرأة فرجها]
في مس المرأة فرجها وسئل مالك عن مس المرأة فرجها، أترى عليها فيه وضوءا إذا مسته؟ فقال: ما سمعت فيه بوضوء. فقيل له: فالرفغين والشرج والعانة؟ قال ما سمعت فيه بوضوء، وإنما سمعت في الذكر، وإني لأكره لمثل هذا أن يمس على وجه التقذر. وقد كان بعض الملوك وأصاب الناس الطاعون فطعنت امرأة من أهل بيته، فقال: أين طعنت؟ فقال رجل تحت إبطها، فدخل عليه عمر بن عبد العزيز فسأله أين طعنت؟ فقال: تحت يدها كراهة أن يذكر إبطها، وكان يجتنب ما يكره من الكلام ويتبع حسن الكلام كأنه رأى الفرج والعانة والشرج والتنكب عنها من هذه الناحية.(18/44)
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في مس المرأة فرجها، فروي عنه في ذلك أربع روايات: سقوط الوضوء، واستحبابه، وإيجابه، والرابعة الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف، وهي رواية ابن أبي أويس عنه.
والاستحباب راجع إلى سقوط الوضوء، فهي ثلاثة أقوال: سقوط الوضوء، ووجوبه، والفرق بين الإلطاف وغيره. وقد تأول أن رواية ابن أبي أويس مفسرة للقولين، وأنه ليس في المسألة إلا قول واحد وهو الفرق بين أن تلطف أو لا تلطف. وكذلك اختلف قول مالك في إيجاب الوضوء من مس الذكر، فروي عنه إيجابه، وسقوطه، واستحبابه، والفرق بين أن يكون ناسيا أو متعمدا. وقد ذكرنا الاختلاف في هذا محصلا مبينا في غير هذا الكتاب. ولا اختلاف في أن الوضوء لا يجب من مس شرج ولا رفغ ولا عانة، وإن كان يكره ذلك للتقذر، والشافعي يوجب الوضوء من مس الدبر تعلقا بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مس فرجه فقد وجب عليه الوضوء» ، وبالله التوفيق.
[يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في الطريق]
في الذي يسمع كلام الإمام في الخطبة وهو في الطريق قال مالك: بلغني «أن عبد الله بن رواحة أقبل إلى المسجد يوم الجمعة، فسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول وهو على المنبر للناس: اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في الطريق فجلس مكانه في الطريق لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجلسوا» .
قال القاضي: في هذا دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن(18/45)
يترك الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في الخطبة وكان بموضع يمكن أن يسمع منه كلام الإمام؛ وقد قيل إن الإنصات لا يجب عليه حتى يدخل المسجد، وهو قول ابن الماجشون ومطرف؛ وقد قيل إنه يجب عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيها الجمعة من ضيق المسجد، وبالله التوفيق.
[وصف بعض شجرة الجنة]
في وصف بعض شجرة الجنة قال مالك: بلغني أن في الجنة شجرة يسير الراكب تحتها مائة عام.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا إلا الإعلام بعظيم قدرة الله تعالى وما أعده لأوليائه في دار كرامته. وقد جاء «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال حاكيا عن ربه: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وبالله التوفيق.
[فضل صدقة المقل]
في فضل صدقة المقل قال: وحدثني مالك أن أبا هريرة كان يقول: سبق صاحب الدرهم صاحب مائة ألف درهم، فقيل لأبي هريرة لم ذلك؟ قال: يكون له مائة ألف درهم لا يتصدق منها ولا يكون لهذا إلا درهم واحد فيتصدق به.(18/46)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن صاحب مائة ألف درهم إذا لم يتصدق منها إلا بما وجب عليه فيه من الزكاة فقد سبقه في الأجر صاحب الدرهم إذا تصدق بدرهمه كله. ولو تصدق صاحب الألف درهم بدرهم سوى الزكاة لكان صاحب الدرهم قد سبقه لتصدقه بدرهمه الذي لا مال له سواه، بدليل ثناء الله عز وجل على من جاد بما عنده من اليسير فقال عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . ولو لم يتصدق صاحب الدرهم بشيء من درهمه لكان صاحب المائة الألف الدرهم قد سبقه في الأجر بتأدية زكاة ماله. وهذا يدل على فضل الغنى على الفقر، وقد مضى القول في هذا في رسم نذر سنة، وبالله التوفيق.
[تقديم الخطبة في العيد قبل الصلاة]
في تقديم مروان الخطبة في العيد قبل الصلاة قال مالك: خرج مروان يوم العيد إلى المصلى ومعه أبو سعيد الخدري فلما أتيا المصلى مضى مروان ليصعد المنبر، قال: فأمسك أبو سعيد بثوبه وقال الصلاة، فاجتبذ مروان منه جبذة شديدة حتى نزع ثوبه من يده فقال: قد ترك ما هنالك يا أبا سعيد، فقال أبو سعيد: أما ورب المشارق لا تأتون بخير منها.
قال القاضي: أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد معاوية، وقيل عثمان أول من فعل ذلك، كان لا يدرك عامتهم الصلاة، فبدأ بالخطبة حتى يجتمع الناس. وروى ابن نافع عن مالك ما يدل على ذلك قال: السنة أن تقدم الصلاة قبل الخطبة، وبذلك عمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو(18/47)
بكر وعمر وعثمان صدرا من ولايته. ومن قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة في العيد مروان فإنما أراد بالمدينة لأنه كان أميرا عليها لمعاوية، ويدل على ذلك قوله لأبي سعيد الخدري قد ترك ما هنالك. قال ابن حبيب في الواضحة: وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين هشام بن عبد الملك، أراد أن يؤذن الناس بالأذان لمجيء الإمام، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بها بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة، وذلك حين كثر الناس فكان يخفى عليهم مجيء إمامهم وفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه. قال ولم يرد مروان وهشام إلا اجتهادا فيما رأيا، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[الإتمام بمنى]
في الإتمام بمنى قال مالك: حج معاوية بن أبي سفيان فصلى بمنى ركعتين فكلمه مروان في ذلك وقال له: أنت القائم بأمر عثمان تصلي ركعتين وقد كان عثمان صلى أربعا، فقال ويلك أنا صليتها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، فلم يزل به مروان حتى صلى أربعا.
قال القاضي: أما إتمام عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمنى فقد روي «أن الناس لما أنكروا عليه الإتمام قال لهم: إني تأهلت بمكة وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من تأهل في بلدة فهو من أهلها» . ولعله تأول أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقصر بمنى إلا من أجل(18/48)
أن إقامته بمكة لم تكن إقامة تخرجه عن سفره ولذلك قصر بها. وأما معاوية بن أبي سفيان فالوجه فيما ذكر عنه في هذه الرواية، والله أعلم، أنه كان مقيما بمكة فقصر بمنى لأنه تأول أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بها وقد كان مقيما بمكة، فلم يزل به مروان حتى صرفه عن تأويله على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان مقيما بمكة إلى أنه إنما قصر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه لم يكن مقيما بمكة إقامة تخرجه عن سفره.
فالاختلاف هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيما بمكة قبل خروجه من مكة إلى منى أو غير مقيم هو أصل الاختلاف في هذه المسألة، فذهب مالك إلى أنه قصر بمنى وقد كان مقيما بمكة، وذهب أهل العراق إلى أنه إنما قصر بمنى من أجل أنه لم يكن مقيما بمكة. والصحيح ما ذهب إليه مالك لأنه قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بمكة إلى يوم التروية وذلك أربع ليال، ثم خرج فقصر بها. وقد مضى هذا المعنى في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[مسح الوجه باليدين في الدعاء]
في مسح الوجه باليدين في الدعاء وسئل مالك عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء وقد بسطها قبل ذلك، فأنكر ذلك وقال: ما أعلمه.
قال محمد بن رشد: إنما أنكر ذلك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه رآها بدعة، إذ لم يأت بذلك أثر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولا مدخل فيه للرأي، وإنما أخذ ذلك من فعله والله أعلم للحديث الذي جاء «عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبي وجع قد كاد يهلكني فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد. قال ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل(18/49)
عني ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم؟» ولحديث عائشة «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. قالت: فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيمينه رجاء بركتها» .
[الانتعال قائما]
في الانتعال قائما وسئل مالك عن الانتعال قائما فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، إذ لا وجه لكراهة ذلك إلا ما يخشى على فاعله من السقوط إذا قام على رجله الواحدة ما دام ينتعل الثانية، فإذا أمن من ذلك وقدر عليه جاز له أن يفعله ولم يكن عليه فيه بأس، وإن خشي أن يضعف عن ذلك كره له أن يفعله، لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي الزبير عن جابر بن عبد الله «أنه نهى أن ينتعل الرجل قائما» وهو نهي أدب وإرشاد لهذه العلة، والله أعلم وبه التوفيق.
[أهل الجيش أحق بغنيمتهم]
في أن أهل الجيش أحق بغنيمتهم قال مالك: إن عمر بن الخطاب أتاه سفطا حلي من فارس فأراد أن يقسمه هاهنا في المدينة، فرأى في منامه أن الملائكة تدفع في صدره عنها، فلما استيقظ قال: ما أرى هذا يصلح أن أقسمه هاهنا، فبعث به إلى الجيش الذين افتتحوا ذلك الموضع أن يباع ثم يقسم(18/50)
بينهم، وأمرهم ألا ينقصوا من أعطية أهل الكوفة أعطياتهم وأعطيات عمالهم، فاشتراها ابن حريث بذلك كله، فبلغني أنه باع أحدهما بما اشتراهما به وربح الآخر.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن الله عز وجل لما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] دل على أن الأربعة الأخماس الباقية للغانمين، فعصم الله عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الخطأ بما أراه الله في منامه مما نبهه على النظر الذي رأى به أن أهل الجيش أحق بأن يقسم بينهم بالسهمان (كذا) يريد بعدما أخرج الخمس منهما ورأى ذلك زيادة لهم على أعطياتهم فأمر أن لا ينقصوا منها شيئا بسببها لأنها غنيمتهم، وبالله التوفيق.
[تسارع الناس إلى ما نهوا عنه]
في تسارع الناس إلى ما نهوا عنه قال مالك: قالت عائشة لو نهي الناس عن جاحم الجمر لقال قائل: لو ذقته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن الناس إذا نهوا عن شيء أتاهم الشيطان فوسوس إليهم في ذلك وزين لهم فعل ما نهوا عنه حتى يوقعهم في الإثم والحرج، كما فعل بأبويهم آدم وحواء إذ قال لهما ربهما: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19] ، أي لا يفتنكما، فوسوس لهما الشيطان وقال لهما:(18/51)
{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] أي إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، فإن أكلتما منها كنتما ملكين من الملائكة وكنتما من الخالدين ولم تموتا أبدا، وحلف لهما أنه ناصح لهما {فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . وبالله التوفيق.
[تبدية الرجل أخاه على نفسه في الكتاب إليه وهو أصغر منه]
في تبدية الرجل أخاه على نفسه في الكتاب إليه وهو أصغر منه وسئل مالك عن الرجل يبدأ باسم أخيه قبل اسمه وهو أصغر منه، قال: نعم إذا كان أهلا لذلك. فقيل له: إن قوما يذكرون أن فيه حديثا أن الرجل يبتدئ باسمه قبل اسم أخيه، قال: لا شك أن هذا من الشيطان، وقال إذا كتب الرجل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فيكتب إلى أبي فلان أو لفلان، وقال ذلك واسع.
قال محمد بن رشد: أنكر مالك الحديث الذي ذكره أنه جاء في أن يبدأ الرجل إذا كتب إلى أخيه باسمه قبل اسم أخيه، ورأى أن التزام ذلك على كل حال كان أخوه أصغر منه أو أكبر من الشيطان. والاختيار عنده إذا كتب إلى أخيه وهو أصغر منه أن يبدأ بنفسه فيقول في الكتاب إليه: من فلان إلى فلان، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كبر كبر» فإذا بدأ به بدأه على نفسه لكونه أهلا(18/52)
لذلك لدينه وفضله لا لغرض من أغراض الدنيا فلا بأس بذلك، لأن الرجلين إذا كان أحدهما أسن والآخر أفضل فالأفضل أحق بالتقديم من الأسن. وإنما يجب تقديم الأسن إذا استويا في الفضل، لأن زيادة السن زيادة في الفضل.
فإن كتب الرجل إلى من هو دونه في السن والفضل فبدأه في الكتاب على نفسه تواضعا لله ومخافة أن يكون عند الله أفضل منه فقد أحسن. وأما إذا كتب إلى رجلين وأحدهما أفضل وأسن فواجب عليه أن يقدم منهما الذي هو أفضل وأسن، فإن استويا في السن قدم الأفضل، فإن استويا في الفضل قدم الأسن، وإن كان أحدهما أفضل والآخر أسن قدم الأفضل، وبالله التوفيق.
[اشتراط ما في بطن الفرس العقوق إذا حبس في السبيل]
في اشتراط ما في بطن الفرس العقوق إذا حبس في السبيل وقد كره مالك أن يحمل على الفرس العقوق في سبيل الله عز وجل ويشترط ما في بطنها.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك لأنه قد أبقى لنفسه منفعة فيما سبله في السبيل وهو إرضاعها ما في بطنها إذا أنتجته حتى يستغني عنها، فإن وقع ذلك نفذ ومضى وكان له شرطه، ونقص بذلك حظه من الأجر، إلا أن يكون كان حمل عليه في السبيل رجلا بعينه على القول بأن المحمول عليه يستحقه ملكا بالغزو عليه، فيكون الحكم في ذلك حكم مسألة الفرس الواقعة في كتاب الهبة والصدقة من المدونة في باب الرجل يهب النخل للرجل ويشترط تمرها لنفسه سنين على أحد التأويلين فيها، وبالله التوفيق.(18/53)
[إنزاء الحمر على الخيل]
في إنزاء الحمر على الخيل وسئل مالك هل ينزى على الفرس العربية الحمار؟ قال: نعم لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية علي بن أبي طالب أنه قال: «نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن تحمل الحمر على البراذين» وهو نهي أدب وإرشاد، بدليل ما روي «عن ابن عباس أنه قال: ما اختصنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمر على الخيل» . وروي «عن علي بن أبي طالب أنه قال: أهدي إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بغلة فركبها فقلت: لو حملنا الحمر على الخيل كان لنا مثل هذا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» ومعناه الذين لا يعلمون قدر الثواب في ارتباط الخيل في سبيل الله فيزهدون في ذلك، فكان فيما اختص به بني هاشم من ذلك زيادة في الترغيب لهم على سائر الناس، لأن الخيل كانت فيهم قليلة على ما روي، فأحب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تكثر عندهم. فقول مالك في هذه الرواية لا بأس بذلك معناه لا إثم فيه ولا حرج، وتركه مرغب مندوب إليه، لما في ارتباط الخيل من الأجر، وبالله التوفيق.
[الرهبان في أرض العدو]
في الرهبان في أرض العدو وسئل مالك عن الرهبان في أرض العدو، قال: أرى أن لا يهاجوا وأن يتركوا.(18/54)
قال محمد بن رشد: لا اختلاف أحفظه في مذهب مالك أن الرهبان لا يقتلون ولا يسبون ولا تضرب عليهم الجزية إذا كانوا معتزلين لأهل دينهم في ديارات أو صوامع، لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الرهبان وعن قتل أصحاب الصوامع» . وإنما اختلف في النساء الرواهب هل يسبين أم لا، فقيل: إنهن تبع لرجالهن في أنهن لا يسبين، وقيل: إنهن يسبين وهو قول سحنون. وقد مضى القول على هذا في أول سماع أشهب من كتاب الجهاد. واختلف أيضا في أموال الرهبان هل يترك لهم أم لا. وقد مضى القول على هذا في رسم التمرة من هذا السماع من كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.
[الذبيح من هو من ابني إبراهيم عليه السلام]
في الذبيح من هو من ابني إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن الذي فدي من الذبح، قال إسحاق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الغلام الذي أمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبحه، فقال قوم: هو إسحاق، وقال آخرون: هو إسماعيل. فأما من قال إنه إسحاق فعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وكعب الأحبار، وجماعة من التابعين. وأما من قال إنه إسماعيل فعبد الله بن عمر، ومحمد بن كعب، وسعيد بن المسيب، وجماعة من التابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. قال الفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل، وذلك أن الله عز وجل قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ثم قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 110] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 111] قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] ، أي على إسماعيل وعلى إسحاق، كنى عنه لأنه قد تقدم(18/55)
ذكره، ثم قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات: 113] فدل على أنهما ذرية إسماعيل وإسحاق. وليس يختلف الرواة أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بثلاث عشرة سنة. وأيضا فقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أن أعرابيا قال له: يا ابن الذبيحين» يعني إسماعيل وأباه عبد الله، لأن عبد المطلب كان نذر إن بلغ ولده عشرة أن ينحر منهم واحدا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح على أن يذبح من قد خرج قدحه، وكتب اسم كل واحد على قدح، فخرج قدح عبد الله، ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه، ففداه بعشرة إلى أن تمت مائة، فخرج القدح على الجزور فنحرها وسن الدية مائة. ومن الحجة لهذا القول أن الله عز وجل قال حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] ، يقول: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] يقول بابن وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبحه وله من الله عز وجل هذا الوعد. وقال أبو جعفر الطبري: الذي يدل عليه ظاهر التنزيل قول من قال هو إسحاق، لأن الله عز وجل قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدا صالحا بقوله: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ، فإذا كان المفدى بالذبح من ابنيه هو المبشر به وكان الله تعالى قد بين في كتابه أن الذي بشر به هو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وكان كل موضع من القرآن يبشره إياه بولد فإنما هو يعني به إسحاق، كان بينا أن يبشر إياه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن. قال: وأما الذي اعتل به من اعتل في أنه إسماعيل فإن الله عز وجل قد كان وعد إبراهيم بأن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي تقدم،(18/56)
فإن الله تعالى ذكره إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير نكير أن يكون قد كان ولد لإسحاق فيها أولاد فكيف الواحد. فمن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق قال: كانت فيه أخبار لأن الأول قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ، ولما استسلم الذبيح واستسلم إبراهيم لذبحه قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] .
قال محمد بن رشد: وقول أبي جعفر الطبري: إن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يسأل ربه أن يهب له من الصالحين إلا وهو لا ولد له، إذ لم يكن له من الصالحين. فعلى ما ذهب إليه إسحاق أكبر من إسماعيل، خلاف ما قاله الفضل من أن الرواة لم يختلفوا في أن إسماعيل أكبر من إسحاق. والذي ذهب إليه الفضل من أنه إسماعيل هو الأظهر، وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا. والله أعلم.
[الحصا يخرج بها الرجل من المسجد]
في الحصا يخرج بها الرجل من المسجد وسئل مالك عن الرجل يخرج من المسجد بحصاة، أترى أن يطرحها؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن الحصاة الواحدة لا يضر المسجد إخراجها منه ولا ينفعه ردها فيه، فلا بأس أن يطرحها ولا يردها، وبالله التوفيق.
[البيتوتة في المسجد]
في البيتوتة في المسجد وسئل مالك عن البيتوتة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال لا بأس بذلك.(18/57)
قال محمد بن رشد: معناه فيمن لم يكن له منزل يبيت فيه، وأما من له منزل فيكره له المبيت فيه. وكذلك قال مالك في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وهذا المعنى متكرر في مواضع من كتاب الصلاة، ومضى الكلام عليه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم منه، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل وجعلنا لهم لسان صدق عليا]
في تفسير قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] وسئل مالك عن تفسير قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] ، قال: كقوله للعبد الصالح النبي: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .
قال محمد بن رشد: قوله {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] يريد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. قال الله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49] ، يقول الله عز وجل فلما اعتزل إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قومه وعبادة ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان أنسنا وحشته من فراقهم وأبدلناه منهم من هو خير منهم وأكرم علينا منهم، فوهبنا له ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب بن إسحاق - صلى الله عليهم وسلم - {وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49] يقول وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء، {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} [مريم: 50] أي ورزقنا إبراهيم وإسحاق(18/58)
ويعقوب من رحمتنا. وكان الذي وهب لهم من رحمته ما بسط لهم في عاجل الدنيا من سعة رزقه وأغناهم بفضله. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50] يقول: ورزقناهم الثناء الحسن والذكر الجميل من الناس. وإنما وصف جل وعلا اللسان الذي جعل لهم بالعلو لأن جميع أهل الملل يحسن الثناء عليهم، والعرب تقول: جاءني لسان فلان يعنون ثناءه أو ذمه، ومنه قول الشاعر، قيل هو عمرو بن الحارث، وقيل هو أعشى باهلة:
إني أتاني لسان لا أسر بها ... من علو لا عجب فيها ولا سخر
يروى:
لا كذب فيها ولا سخر
جاءت مرخمة قد كنت أحذرها ... لو كان ينفعني الإشفاق والحذر
فتفسير مالك لذلك بقوله: إنه مثل قول الله للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] تفسير صحيح. ومن ترفيع ذكره في الدنيا الشهادة بالرسالة في الأذان للصلوات إلى يوم القيامة، وبالله التوفيق.
[التسمي بجبريل]
في التسمي بجبريل وسئل مالك عن الرجل يسمى جبريل، فكره ذلك ولم يعجبه وقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] وهذه الأمة الذين اتبعوه.(18/59)
قال محمد بن رشد: إنما كره أن يسمى الرجل جبريل لأن جبريل هو الروح الأمين الرسول من عند الله بالوحي إلى الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فإذا تسمى الرجل بجبريل كان سببا إلى أن يقول الرجل: جاءني جبريل ورأيت جبريل وأشار علي جبريل برأي كذا في كذا، وهذا من الكلام الذي يستشنع سماعه.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية سمرة بن جندب أنه قال: «لا تسم غلامك رباحا ولا أفلح ولا بشيرا ولا يسارا يقال: ثم فلان فيقال: لا» . فإذا كرهت التسمية بهذه الأسماء ونحوها فأحرى أن تكره التسمية بجبريل لما ذكرناه من نحو هذا، وليس شيء من ذلك كله بحرام، وإنما هو مكروه فتركه أحسن والله أعلم. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن ينهى عن التسمية بنافع ويسار وبركة من أجل أن يقال: هاهنا بركة فيقال: لا، فسكت عن ذلك ولم ينه عنه حتى قبض، فدل ذلك على أن النهي لم يلحق التسمية بهذه الأسماء.
وقوله {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] إلى آخر قوله، معناه الحض على الاقتداء بهم في ترك التسمية بذلك، وبالله التوفيق.
[دخول آكل الكراث للمسجد]
في دخول آكل الكراث للمسجد وسئل مالك عن الكراث يؤكل فيأتي آكله إلى المسجد، فقال إنه ليكره كل ما آذى الناس، وإن الناس في ذلك لمختلفون، منهم من لا يوجد له من ذلك شيء رائحة وإن أكله، ومنهم من يكون له رائحة إذا أكله.
قال محمد بن رشد: قوله إنه ليكره كل ما آذى الناس هو مثل ما في(18/60)
رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في هذا: وما أحب له أن يؤذي الناس، وذلك تجوز في الكلام، لأن إذاية الناس لا تجوز، فلا يصح أن يقال فيها إنها مكروهة. وقد نص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على أن العلة في منع آكل الثوم من دخول المسجد إذاية الناس، فإذا كان الكراث أو البصل تؤذي روائحها الناس فلا يجوز لآكلها دخول المسجد قياسا على الثوم لوجود العلة فيهما، وذلك بين من قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الصلاة، قال: والكراث والبصل إن كان يؤذي ويضير (كذا) فهو مثل الثوم ولا يقرب المسجد أصلا، وبالله التوفيق.
[الأفضل من صلاة النافلة أفي البيت أم في المسجد]
في الأفضل من صلاة النافلة أفي البيت أم في المسجد وسئل عن الصلاة في النوافل في البيوت أحب إليك أم في المسجد؟ قال: أما في النهار فلم يزل من عمل الناس الصلاة في المسجد يهجرون ويصلون، وأما الليل ففي البيوت. قال وقد كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي الليل في بيته. قال مالك: يستحب للذي يصلي بالليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن. وقد كان الناس إذا أرادوا سفرا تواعدوا لقيام القراء وبيوتهم شتى، فكانت تسمع أصواتهم بالقرآن، فأنا استحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة بالنهار في المسجد على صلاتها في البيت، لأن صلاة الرجل في بيته بين أهله وولده وهم يتصرفون ويتحدثون ذريعة إلى اشتغال باله بأمرهم في صلاته. ولهذه العلة كان السلف يهجرون ويصلون في المسجد. فإذا أمن الرجل من هذه العلة فصلاته في بيته أفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(18/61)
«أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» لأنه حديث صحيح محمول على عمومه في الليل والنهار مع استواء الصلاة في الإقبال عليها وترك اشتغال البال فيها. وقد سئل مالك في أول رسم حلف من سماع ابن القاسم في كتاب الصلاة عن الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوافل، أفيه أحب إليك أم في البيوت؟ فقال: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي "، يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة، يدل هذا من قوله أن الصلاة بالنهار في البيوت لغير الغرباء أحب إليه من الصلاة في المسجد.
ومعنى ذلك إذا أمنوا من اشتغال بالهم في بيوتهم بغير صلاتهم. وأما إذا لم يأمنوا ذلك فالصلاة في المسجد أفضل لهم، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ركع ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه» . وإنما كانت صلاة النافلة للغرباء في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل منها لهم في بيوتهم بخلاف المقيمين، لأن الصلاة إنما كانت أفضل في البيوت منها في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وفي جميع المساجد من أجل فضل عمل السر على عمل العلانية. قال الله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعة يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر فيهم من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ومن تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» . والغرباء لا يعرفون في البلد فلا يذكرون بصلاتهم في المسجد. فلما لم يكن لصلاتهم في بيوتهم قربة من(18/62)
ناحية السر وجب أن تكون صلاتهم في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل، لما جاء من «أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» . فعلى هذا تتفق الروايات ولا يكون فيها تعارض ولا اختلاف.
ووجه استحباب مالك للذي يصلي الليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن ليشيع الأمر ويعلو ويكثر فيرتفع عنه الرياء، ويحصل بفعله الاقتداء، فيحصل له أجر من اقتدى به، وذلك من الفعل الحسن لمن صحت نيته في ذلك. وقد مضى هذا في هذا الرسم في هذا السماع من كتاب الصلاة.
[الدعاء في الركوع والسجود]
في الدعاء في الركوع والسجود وسئل مالك عن الدعاء في الركوع، قال: لا أحب ذلك، قيل ففي السجود؟ قال: نعم، قد دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ساجد.
قال محمد بن رشد: كره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدعاء في الركوع، والله أعلم، لوجهين: أحدهما الحديث المأثور عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عباس أنه قال: «ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» . والثاني: أنه قد يوافق في دعائه ما في القرآن فيكون قد خالف ما نهى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قراءة القرآن في الركوع. ولا اختلاف في أنه لا تجوز قراءة القرآن في الركوع، واختلف في(18/63)
قراءته في السجود، فروي عن مالك إجازة ذلك إذ لم يأت النهي إلا في الركوع، ولم يجز ذلك غيره لحديث ابن عباس المذكور. ولكراهة الدعاء في الركوع وجه بين من جهة المعنى، وهو أنه إذا كان من حسن الأدب فيمن كانت له إلى كبير حاجة ألا يبدأ بطلبها حتى يقدم الثناء عليه قبل ذلك، تعين في حق الله عز وجل أن لا يدعوه في السجود حتى يقدم التعظيم له في الركوع، وبالله التوفيق.
[معنى قول عمر سجدة يحاجني بها عندك]
في معنى قول عمر: سجدة يحاجني بها عندك وسئل مالك عن قول عمر بن الخطاب: اللهم لا تجعل قتلي عن يدي رجل سجد لك سجدة يحاجني بها عندك، قال يريد بذلك أنه ليس لغير أهل الإسلام حجة عند الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في تفسير مالك لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أراد ألا يقتله إلا كافر ليكون مخلدا في النار، لأنه إن قتله مؤمن سجد لله سجدة لم يخلد في النار وخرج منها بإيمانه بعد أن يناله ما يستوجبه من العقاب على قتله. وقد قيل إنه إنما أراد ألا يقتله أحد من أهل القبلة بتأويل يستحل به قتله فيكون له بذلك عند الله عذر بسبب أنه لم يقتله إلا وهو يعتقد الطاعة لله عز وجل بقتله فيخف عنه دينه، فهذا أظهر.
[شأن عمر بن الخطاب مع الهرمزان وجفينة]
في شأن عمر بن الخطاب مع الهرمزان وجفينة
قال مالك: قدم بالهرمزان وجفينة على عمر بن الخطاب فأراد ضرب أعناقهما فكلمهما فاستعجما عليه، فقال: لا بأس عليكما. ثم أراد عمر أن يقتلهما فقالا له: ليس ذلك لك قد قلت لا بأس عليكما.(18/64)
قال محمد بن رشد: الهرمزان سيد تستر حاصرها أبو موسى الأشعري حتى دخل المدينة فتحصن الهرمزان في قلعة له بها وحصره أبو موسى فيها حتى نزل على حكم عمر. روي عن أنس قال: حاصرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم عمر، فلما انتهى إليه قال له عمر: تكلم، قال: كلام حي أو كلام ميت، قال: تكلم فلا بأس. قال: إنا وإياكم معاشر العرب ما خلى الله بيننا وبينكم كنا نقصيكم ونقتلكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان. قال عمر: يا أنس ما يقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين يقول: تركت بعدي عددا كثيرا وشوكة شديدة فإن تقتله يئس القوم من الحياة ويكون أشد لشوكتهم. قال عمر أستحيي قاتل البراء بن مالك ومجزأة ابن ثور. فلما خفت أن يقتله قال: قلت: ليس إلى قتله سبيل قد قلت له تكلم فلا بأس، فقال: لتأتيني بمن يشهد به غيرك، فلقيت الزبير فشهد معي، فأمسك عنه عمر وأسلم وفرض له. وروي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: أطافوا بالهرمزان فلم يخلصوا إليه حتى أمنوه ونزل على حكم عمر، فبعث به أبو موسى وأصحابه إلى عمر، وبالله التوفيق.
[ما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز عامله في أمر الزكاة]
فيما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز عامله في أمر الزكاة قال: وسمعت مالكا يذكر أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه: إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة ورغبوا في ذلك لموضع عدلك، وأنه قد اجتمع عندي زكاة كثيرة، فكأن عمر كره ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه ما وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا فاقتسمها. قال ابن القاسم: قال عمر: وأي رأي لي فيها حتى كتب إلي.
قال محمد بن رشد: في هذا فضل عمر بن عبد العزيز - رضي الله(18/65)
عنه - وقوله: وأي رأي لي فيها يريد أنه لا رأي لأحد في ذلك مع السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الصدقة أن تؤخذ من الأغنياء فتفرق على الفقراء، وبالله التوفيق.
[ابتداء الكاتب باسم المكتوب إليه قبل اسمه]
في ابتداء الكاتب باسم المكتوب إليه قبل اسمه قال: وحدثني مالك أن رجلا أتى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فسألها الكتاب إلى زياد، فكتبت إليه وبدأت باسمها، فسألها الرجل أن تبتدئ باسمه فإنه أقضى لحاجته، ففعلت وبدأت باسمه. وبدأ ابن عمر عبد الملك بن مروان باسمه قبل اسمه، فقيل له: إن الناس يذكرون في ذلك أحاديث ويرفعونها، فأنكرها إنكارا شديدا وقال: قد سمعت يقولون: الحسن وغيره، وهذا من الباطل.
قال محمد بن رشد: قد مضى قبل هذا في هذا الرسم الكلام على هذا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[وصف الرجل نفسه بما هو عليه]
في وصف الرجل نفسه بما هو عليه قال ابن القاسم: وحدثني مالك عن قول سعيد بن عبد العزيز ما أبقى ذكر جهنم في صدري للدنيا حزنا ولا فرحا. قال مالك: ما يعجبني أحد يقول مثل هذا في نفسه. قال ابن القاسم وكان حدثه به سليمان بن القاسم أنه بلغه أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال هذا القول.
قال محمد بن رشد: هذا مكروه للرجل كما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأن الله عز وجل قد نهى عن ذلك بقوله:(18/66)
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] .
روي عن أبي بكرة أنة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقولن أحدكم قمت رمضان كله» . وروي عن الحسن أن رجلا قال عند ابن مسعود: لقد قرأت القرآن البارحة فقال: ما يقول؟ فأخْبَروه، فقال: فأخْبِروه أن حظه من ذلك الذي تكلم به. وبالله التوفيق لا شريك له.
[ما جاء في قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة]
فيما جاء في قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة قال مالك: قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة قبل أن يستقيم الناس على أحد، فكان قد تكلم الناس في ذلك، فكان عثمان يقول: لا يقتل أبوه اليوم ويقتل هذا غدا، فتلكم في أمره فأرسل، فقيل لمالك: فعثمان أرسله؟ فقال: لا، أرسل قبل أن يلي.
قال محمد بن رشد: حكى ابن عبد البر في كتاب الصحابة عن الحسن أن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان، فلما ولي علي خشيه على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين. قال ابن عبد البر: وقصته في قتل الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة فيها اضطراب. وهذا الذي قاله ابن عبد البر من أن عثمان عفا عنه هو الذي يدل عليه قوله في الرواية: فكان عثمان يقول: لا يقتل أبوه اليوم ويقتل هذا غدا. ومعنى عفوه عنه أنه جعل ذلك دية، كذلك وقع في مصنف عبد الرزاق من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب - أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال حين قتل عمر: انتهيت إلى الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم بحي فبغتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له(18/67)
رأسان نصابه في وسطه، فقال عبد الرحمن: فانظر بما قتل به عمر، فنظروا فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن. قال: فخرج عبيد الله بن عمر مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال: اصحبني تنظر إلى فرس، وكان الهرمزان بصيرا بالخيل، فخرج يمشي بين يديه، فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله فقتله. ثم أتى جفينة، وكان نصرانيا، فدعاه فلما أشرف له علاه بالسيف فصلب بين عينيه، ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي بالإسلام فقتلها، فأظلمت المدينة على أهلها.
ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول: والله لا أترك في المدينة شيئا إلا قتلته وغيرهم، كأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون له: ألق السيف ويأبى ويهابونه أن يقربوا منه، حتى أتاه عمرو بن العاص فقال: أعطني السيف يا ابن أخي، فأعطاه إياه. ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه فتناصبا حتى حجز الناس بينهما، ثم ثار إليه سعد بن أبي وقاص فتناصبا حتى حجز الناس بينهما. فلما ولي عثمان قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق، يعني عبيد الله بن عمر، فأشار إليه المهاجرون أن يقتله، وقال جماعة من الناس: أقتل عمر أمس، وتريدون تتبعون به ابنه اليوم، أبعد الله الهرمزان وجفينة، قال: فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر لك ولك على الناس من سلطان، إنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك، فاصفح عنه يا أمير المؤمنين. قال: فتفرق الناس على خطبة عمرو، وودى عثمان الرجلين والجارية. وقال معمر عن الزهري: لما ولي وبايعه أهل الشورى خرج وهو أشدهم كآبة، فأتى منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فخطب فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس بكلام بليغ ثم قال لهم: قولوا فيما أحدث عبيد الله بن عمر، فقالوا: القود ونادى جمهور الناس من وراء ذلك: لعلكم تريدون أن تتبعوا عمر ابنه، الله الله، أبعد الله الهرمزان وجفينة، فلم يقل عثمان لهؤلاء ولا لهؤلاء شيئا وتمثل ببيتين فهم الناس عنه أنه سيقيد منه، فانصرفوا وهم(18/68)
مؤمنون بذلك. وروي أنه لما ولي أدى الهرمزان وجفينة وأبي قد جعلها دية. وقد روي أن عثمان أقاد ابنه منه فعفا عنه، وأنه لما بلغه خوض الناس في هرمزان قال: أيها الناس، القتل على وجهين، فالإمام ولي قتل الباغي والعاري والمفسد دون الآباء والأبناء وسائر الإخوة والأولياء، وولاية ما كان في السائرة فان شاءوا تركوا وإن شاءوا باعوا وإن شاءوا قتلوا، ليس إلا المعونة وحبس الجاني، ثم دفع عبيد الله إلى ابن الهرمزان. وروي أن صهيبا قال له: ما تقول في عبيد الله بن عمر؟ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، كتاب الله بينكم فيه حلاله وحرامه، فمن أتى حدا من حدود الله عز وجل فأراد أحد أن يعلم ما رأينا فيه فلينظر فيه ثم ليعلم منتهى إلى الكتاب ثم نقيمه فيه والله، فتفرق الناس وهم على اليقين من قتله فأقاده.
روي عن سيف عن أبي منصور قال: سمعت القناديان يحدث عن قتل أبيه قال: كانت العجم بالمدينة سرح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: آنس به، فرآه رجل. فلما أصيب عمر قال قد رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله، فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك فأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله. قال: فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم إلى قتله، قالوا: نعم وسوءا لعبيد الله، فقلت لهم: أولكم أن تمنعوه؟ فقالوا: لا وسبوه، فتركته لله ولهم، فاحتملوني فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم، وبالله التوفيق.
[موت عمر في يومه الذي طعن فيه]
في أن عمر مات في يومه الذي طعن فيه قال: وسمعت مالكا يذكر أن عمر مات من يومه الذي طعن فيه(18/69)
قال محمد بن رشد: روي عن عمر بن ميمون قال: شهدت عمر يوم طعن وما منعني أن أكون في الصف المقدم إلا هيبته، وكان رجلا مهيبا، فكنت في الصف الذي يليه. فأقبل عمر فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فناجى عمر قبل أن تستوي الصفوف ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب فإنه قد قتلني، وماج الناس وأسرعوا إليه، فخرج عليه ثلاثة عشر رجلا فانكفأ عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر، فماج الناس بعضهم في بعض حتى قال قائل: الصلاة عباد الله، طلعت الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بأقصر سورتين في القرآن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، واحتمل عمر ودخل عليه الناس، فقال لعبد الله بن عباس: أخرج فناد في الناس، أعن ملأ منكم هذا؟ فخرج ابن عباس فقال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله، والله ما علمنا ولا اطلعنا. وقال: ادع لي الطبيب، فدعي الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ فقال: النبيذ، فسقي نبيذا فخرج من بعض طعناته، فقال الناس: هذا دم هذا صديد، فقال: اسقوني لبنا، فسقي لبنا فخرج من الطعنة، فقال له الطبيب: ما أرى أن تمسي، فما كنت فاعلا فافعل، وذكر تمام الخبر في الشورى وتقديمه لصهيب في الصلاة. وقد روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: غدوت مع عمر بن الخطاب إلى السوق وهو متكئ على يدي، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال: ألا تكلم مولاي يضع عني من خراجي؟ قال: كم خراجك؟ قال دينار، قال ما أرى أن أفعل، إنك لعامل محسن وما هذا بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحا؟ قال: بلى، قال فلما ولى قال أبو لؤلؤة: لأعملن لك رحا يتحدث بها ما بين المشرق والمغرب، قال: فوقع في نفسي قوله. قال: فلما كان في النداء لصلاة الصبح وخرج عمر للناس يؤذنهم الصلاة وقد اضطجع له أبو لؤلؤة عدو الله، فضربه بالسكين، وذكر تمام الخبر. ولما أخبر بمن قتله قال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد رجل(18/70)
يحاجني بلا إله إلا الله. وبالله التوفيق.
[اللعب بالشطرنج]
في اللعب بالشطرنج وسئل مالك عن لعب الشطرنج فقال: إن لكل عمل جزاء، فما ترى جزاء هذا؟ ثم قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله. وقد مضى الكلام على هذا المعنى في آخر رسم طلق بن حبيب مستوفى ولا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة]
في وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة وسئل مالك عن وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة أترفع إلى الصدر أم توضع دون ذلك؟ فقال: ليس فيه حد، وإنما يصنع مثل هذا في الصلاة التي يطول فيها، ولم ير أنه يصنع في الصلاة المكتوبة. قال ابن القاسم: بلغني أنه قال في النافلة ترك ذلك أحب إلي، ولكن الذي جاء إنما هو في النافلة، ولم يعجبه ذلك في المكتوبة. قال أشهب: لا بأس به في المكتوبة والنافلة، وقد جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه رئي واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة» وقد جاء عنه أنه قال: «استراحة الملائكة في الصلاة وضع اليمنى على كوع اليسرى في الصلاة» .(18/71)
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن وضع اليد اليمنى على اليسرى هل ترفع إلى الصدر أو توضع دون ذلك، إذ قد قيل في قول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] المراد بذلك وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة تحت النحر، وفي ذلك غير قول. قال بعض أهل التأويل: حضه على المواظبة على الصلاة المكتوبة وعلى الحفظ عليها في أوقاتها بقوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} [الكوثر: 2] وبوضع اليمنى على اليسرى عند النحر في الصلاة بقوله {وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أي واضممها إلى صدرك.
وقال بعضهم: إنما عنى بذلك فصل لربك المكتوبة، وبقوله وانحر نحر البدن بمنى. وقال أنس بن مالك: إنما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحر يوم العيد قبل أن يصلي العيد فقال الله له {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، فأمره أن يصلي ثم ينحر. وقال محمد بن كعب القرظي: إنما قيل له ذلك لأن قوما كانوا يصلون وينحرون لغير الله، فقيل له: اجعل صلاتك ونحرك لله إذ كان من يكفر بالله يجعله لغيره. وقال الضحاك: بل المعنى في ذلك فادع ربك واسأله. وقال بعضهم: المعنى في ذلك واستقبل القبلة بنحرك.
وفي وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة خلاف، والذي يتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك جائز في المكتوبة والنافلة ولا يكره فعله ولا يستحب تركه، وهو قول أشهب في هذه الرواية وقول مالك في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة؛ والثاني أن ذلك مكروه فيستحب تركه في الفريضة والنافلة إلا إذا طال القيام في النافلة فيكون فعل ذلك فيها جائزا غير مكروه ولا مستحب، وهو قول مالك في هذه الرواية وفي المدونة، والثالث أن ذلك مستحب فعله في الفريضة والنافلة مكروه تركه فيهما، وهو قول مالك في رواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة.(18/72)
[قول الحسن في الصراف]
في قول الحسن في الصراف قال مالك كان الحسن يقول: إن استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه.
قال محمد بن رشد: إنما قال الحسن ذلك لأن الغالب على الصيارفة العمل بالربا، فيستحب تجنب أكل طعامهم أو شرب شرابهم، وإن لم يعلم حال الذي يطعمه الطعام أو يسقيه الشراب منهم لأنه يحمل على الغالب من أهل صناعته حتى يعلم أنه ممن يتوقى الربا في عمله بالصرف، فقد قيل إن معاملة من خالط الحرام ماله من ربا أو غيره لا تحل ولا تجوز، فكيف بأكل طعامه أو شرب شرابه.
والصحيح أن ذلك مكروه وليس ذلك بحرام. ولنا في هذا المعنى مسألة جامعة من أراد الشفاء منها طالعها. وحكى ابن حبيب عن السكن بن أبي كريمة قال: صلينا مع أبي زبير الأيامي الجمعة، فلما خرجنا من المسجد مر بدار فاستسقى، فأتي بقدح، فقال: لمن هذه الدار؟ فقالوا: لفلان الصيرفي، فرده ولم يشرب منه. قال: وسمعت أصبغ يكره أن يستظل بظل الصيرفي قال عبد المالك: لأن الغالب عليهم الربا، وهو نحو ما ذكرناه في معنى قول الحسن، وبالله التوفيق.
[ما يحذر من عقوبة الله عند فساد الأعمال]
فيما يحذر من عقوبة الله عند فساد الأعمال قال مالك: زلزلت الأرض على عهد عمر بن الخطاب، فصعد المنبر عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد أحدثتم ولقد عجلتم ولئن عادت لأخرجن من بين أظهركم.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك عمر لقول الله عز وجل:(18/73)
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . فلما زلزلت الأرض على عهده وقد تغيرت أحوال الناس عما كانت عليه في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خشي أن يكون ذلك تخويفا من الله عز وجل وإنذارا بهلاكهم إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى ما كانوا عليه من الأحوال المستقيمة، وبالله التوفيق.
[كراهة الصيد]
في كراهة الصيد قال مالك: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسلم عليه كأنه لم يعرفه، فانتسب وكان له موضع فقال لابن المسيب: إني أخرج إلى الصيد فأكون فيه، فقال له ابن المسيب: الصيد لا خير فيه وهو يلهيك.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك أن الصيد مكروه لما فيه من الالتهاء به إلا لمن كان عيشه منه أو قرم إلى اللحم. واستخفه لأهل البادية لأنهم من أهله وأن ذلك شأنهم، ورأى خروج أهل الحاضرة إليه من السفه والخفة، ولم يجز قصر الصلاة لمن خرج مسافرا إلى الصيد على وجه التلهي لأنه سفر مكروه، لما في ذلك من اللهو والطرب وإتعاب البهائم في غير وجه منفعة. وأباحه محمد بن عبد الحكم لعموم قول الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] على الوجه المباح، وبالله التوفيق.(18/74)
[وجوه من الحكمة لبعض الحكماء]
في وجوه من الحكمة لبعض الحكماء قال مالك: قال حكيم من الحكماء: إذا صليت فصل صلاة مودع يظن أنه لا يعود، وإياك والطمع وتطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى. واعلم أنه لا بد من قول وفعل، فإياك وما يعتذر منه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، لأن الرجل إذا صلى الصلاة لا يدري هل يتراخى به الأجل إلى وقت صلاة أخرى، فينبغي أن يستشعر فيها الخوف لله والفكرة في الوقوف بين يدي خالقه، فإنه إذا فعل ذلك خشع في صلاته وكان من المفلحين الذين قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] . وإذا كثر طمع الرجل وتطلبه للحاجات فهو بذلك في حكم الفقير وإن كان ذا مال، إذ ليس الغنى من الكثرة، وإنما الغنى غنى النفس، لأن فائدة المال في الدنيا أن يستغني به عن الناس، فإذا لم يستغن به عن الناس فهو في حكم الفقير. وإذا استغنى الفقير عن الناس بغنى نفسه فهو في حكم الغني بالمال. وما يعتذر منه من قول أو فعل من الحظ أن يجتنب، إذ لا يدري المعتذر من الشيء هل يقبل فيه عذره أم لا، وبالله التوفيق.
[ما يكره أن تستر به البيوت من الثياب]
فيما يكره أن تستر به البيوت من الثياب وقال مالك: دخل أبو أيوب صاحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيتا قد ستر بثياب جنادية، فقال: لا أطعم فيه طعاما حتى أخرج منه، فخرج ولم يطعم.(18/75)
قال محمد بن رشد: الثياب الجنادية يحتمل أن تكون ثياب حرير قد ستر بها البيت أي فرش بها. والحرير لا يحل للرجال لباسه ولا الجلوس عليه، إذ الجلوس في معنى اللباس عند عامة العلماء، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه. ويحتمل أن تكون الثياب الجنادية ثيابا من غير حرير فيها صور فَكَرِهَ أبو أيوب الدخول في البيت والأكل فيه لما جاء من أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو تصاوير، شك إسحاق في قول الراوي للحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد اختلف أهل العلم فيما ليس له ظل قائم من الصور على أربعة أقوال: أحدها إباحة ذلك سواء كان التصوير في جدار أو ثوب مبسوط أو منشور، والثاني تحريم ما كان من الصور في الجدار والثوب المنصوب وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط الذي يوطأ ويتوسد، والرابع تحريم ما كان منها في الجدار خاصة وإباحة ما كان منها في الثوب المبسوط أو المنشور، وبالله التوفيق.
[إباحة تعجيل السير في السفر]
في إباحة تعجيل السير في السفر قال مالك: سار ابن عمر من مكة إلى المدينة في سفر سائره ثلاثة أيام، وأن سعيد بن أبي هند سار في ثلاثة أيام، وكان من خيار المسلمين وعبادهم، ولقد كان يقعد هو وموسى بن هبيرة ونافع مولى بن عمر بعد الصبح حتى يقوموا وما كلم أحد منهم صاحبه، يذكرون الله. ثم قال: لا خير في كثرة الكلام، واعتبروا ذلك بالنساء والصبيان، إنما هم أبدا يتكلمون لا يصمتون.(18/76)
قال محمد بن رشد: أجاز مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يسرع الرجل في السير في سفره لحاجة تعرض وإن تجاوز في ذلك المراحل المعهودة في المشي، ولم ير عليه حرجا في إتعاب دابته في ذلك، واستدل على جواز ذلك بسير عبد الله بن عمر من مكة إلى المدينة في ثلاثة أيام وهي مسيرة عشر مراحل على السير المعتاد، وأن سعيد بن أبي هند قد فعل ذلك على خيره وعبادته وفضله، وأنه كان من اجتهاده في العبادة يقعد مع أصحابه في المسجد بعد الصبح وما يكلم أحد منهم صاحبه اشتغالا بذكر الله، لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أخبركم بساعة من ساعات الجنة الظل فيها ممدود والعمل فيها مقبول والرحمة فيها مبسوطة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من أذان صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.» وإذا جاز للرجل حمل المشقة على نفسه في إسراع السير جاز له أن يحملها على دابته، لما أباح الله عز وجل من تسخيرها وعدد النعمة بذلك على عباده فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] . ومما يدل من الحديث على أنه يكره له أن يفعل ذلك من غير حاجة ويجوز له أن يفعله لحاجة قوله في الحديث الصحيح المأثور حديث الموطأ: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها فإذا كانت الأرض جذبة فانجوا عليها بنقيها وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار» الحديث. ولا خير في الكلام كما قال مالك، لأن كلام المرء كله محصى عليه ومسئول عنه. قال الله عز وجل:(18/77)
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وجاء عن عيسى ابن مريم أنه كان يقول: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فان الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية. وكانت عائشة زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول ألا تريحون الكتاب.
[التنفل بالصيام في السفر]
في التنفل بالصيام في السفر وسئل مالك عن التنفل بالصيام في السفر فقال: حسن.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله، لأن التطوع بالصيام جائز في الحضر والسفر، إذ ليست الإقامة شرطا في صحة الصيام. وإنما أباح الله عز وجل للمسافر الفطر في رمضان تخفيفا ورحمة، والصيام فيه أفضل، وقد قيل إن الفطر به أفضل. وشذت طائفة من أهل الظاهر فقالت: إن الصيام في السفر كالفطر في الحضر، وبالله التوفيق.
[قول الحسن في الصراف]
في قول الحسن في الصراف فقيل لمالك لما حدث حديث الحسن إذا استسقيت فسقيت من بيت صراف فلا تشرب، قال فقال بكير: رب صراف خير من الحسن. قال مالك: ليس كما قال بكير، إنما ينظر إلى الأمر الذي شمل الشيء كثرته فيجتنب لذلك.(18/78)
قال محمد بن رشد: قد مضى فوق هذا بيسير القول في قول الحسن فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق..
[اختلاف الحكم في القضاء]
في اختلاف الحكم في القضاء قال: قال مالك: كتب ابن حريم الجحمي إلى عمر بن الخطاب لا تقضين في أمر واحد بقضائين فيختلف عليك أمرك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا عندي أنه أمره أن لا يقضي فيما سبيله الاجتهاد إلا بعد بلوغه الغاية في الاجتهاد، لأنه إن قضى في أمر قبل أن يبلغ غاية الاجتهاد فيه سيقضي مرة أخرى فيه بقضاء آخر يؤديه إليه بلوغ الغاية في الاجتهاد، فأمره أن يفعل أولا ما يفعل آخرا حتى لا يختلف عليه أمره، والله أعلم وبه التوفيق.
[سيرة معاذ بن جبل وعمله على الصدقة]
في سيرة معاذ بن جبل وعمله على الصدقة لعمر بن الخطاب قال مالك: إن عمر بن الخطاب بعث معاذ بن جبل مصدقا وحمله على بعير، فلما رجع رد البعير إلى عمر ورجع إلى أهله بثوبه، فقالت له امرأته: ما جئتنا بشيء، فقال: إنه كان معي حافظان يحفظان علي. فلما قال هذا معاذ خرجت امرأته إلى عمر بن الخطاب فقالت له: يا أمير المؤمنين أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا مصدقا؟ قال: بلى، قالت: أفجعل معه حافظا؟ قال: لا، قالت: فإنه قد ذكر لي أنه كان معه حافظان يحفظان عليه، فقال عمر: وأنا معي حافظان يحفظان علي.(18/79)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين من عدل وفضل معاذ، وأنه فعل الواجب من قبض الواجب قبض الصدقات من الأغنياء وتفريقها على الفقراء ورجع دون شيء كما خرج، وبالله التوفيق لا شريك له.
[ورع عمر بن عبد العزيز]
في ورع عمر بن عبد العزيز قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يكتب في أمور الناس على الشمع، فإذا كتب لنفسه دعا بمصباحه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين من ورعه وفضله، وبالله التوفيق لا شريك له.
[سن معاذ بن جبل]
في سن معاذ بن جبل وقال مالك: توفي معاذ بن جبل وهو ابن اثنين وثلاثين سنة.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه توفي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، [وقيل توفي وهو ابن ثمان وثلاثين سنة] ، وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار، وشهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها. وكان سمحا لا يمسك، فلم يزل يدان حتى أغلق ماله كله في الدين، فبعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الجند من اليمن، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قسم اليمن على خمسة رجال، واليا ومعلما وجعل إليه قبض(18/80)
الصدقات من العمال الذين باليمن، «وقال له حين وجهه بم تقضي؟ قال: بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال فبما في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسوله.» وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنه أعلمهم بالحلال والحرام، وإنه يأتي يوم القيامة أمام العلماء برتوة» . ولما قدم من اليمن بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره منه، فقال أبو بكر: إنما بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليجبره، ولست بآخذ منه شيئا إلا أن يعطيني، فانطلق إليه عمر إذ لم يسعده أبو بكر فكلمه في ذلك وأبى قال: وإنما بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليجبرني. ثم لقي معاذ عمر فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به، إني رأيت في المنام أني في حومة ماء قد حسبت الغرق فخلصتني منه يا عمر. فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك له وحلف أنه لا يكتمه شيئا، فقال أبو بكر: لا نأخذ منك شيئا قد وهبته لك، فقال عمر: هذا حين حل وطاب، واستعمله عمر على الشام حين مات أبو عبيدة فمات من عامه ذلك في طاعون عمواس بدعائه ربه في ذلك. روي عن ابن شهاب قال: أصاب الناس طاعون بالجابية فقام عمرو بن العاص فقال: تفرقوا عنه فإنما هو بمنزلة(18/81)
نار، فقام معاذ بن جبل فقال: لقد كنت نبيا ولأنت أضل من حمار أهلك، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هو رحمة لهذه الأمة» . اللهم فاذكر معاذ وآل معاذ فيمن تذكر بهذه الرحمة. وروى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي ومسروق، ولفظ الحديث لفروة الأشجعي قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، فقلت يا أبا عبد الرحمن: إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فأعاد قوله إن معاذا. فلما رأيته أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت، فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى به، والقانت المطيع لله، وكذلك كان معاذ بن جبل معلما للخير مطيعا لله عز وجل ولرسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ويكنى معاذ أبا عبد الرحمن بابن كان له، وقيل إنه لم يولد له قط، وبالله التوفيق.
[الشفعة على قدر الحصص]
في أن الشفعة على قدر الحصص قال مالك حدثني ابن الدراوردي عن سفيان الثوري أن علي بن أبي طالب قضى أن الشفعة بين الشركاء على قدر حصصهم.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك وجميع أصحابه وعامة العلماء أن الشفعة على قدر الأنصباء، خلاف ما ذهب إليه أبو حنيفة أنها على عدد الرءوس. والحجة لمالك ومن قال بقوله أن الشفعة لما كانت تجب بالملك وجب أن يكون على قدر الأملاك كالعلل، ولما كانت لرفع المضرة عن الإشراك وكانت المضرة عليهم على قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة(18/82)
التي ترفع الضرر عنهم على قدر حصصهم، وهذا بين والحمد لله وبه التوفيق.
[بيع كتابة المكاتب]
في بيع كتابة المكاتب قال: حدثني ابن القاسم عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه كره أن يباع كتابة المكاتب ويقول وهو خطار إن عجز كان عبدا له، وإن أدى كان له أربعة آلاف درهم.
قال محمد بن رشد: الغرر في هذا بين كما قاله، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانا واتباعا على غير قياس. وله وجه وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده الذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدري هل يؤدي ما كتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقا له، وذلك جائز، لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من كتابته» .
[المكاتب بين الشريكين يقاطعه أحدهما]
في المكاتب بين الشريكين يقاطعه أحدهما وحدثني عن ابن القاسم ابن الدراوردي عن أنس عن أبي يحيى أن رجلا من قريش أرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن عبد بين رجلين مكاتب، فقاطع أحدهما على نصيبه ويمسك الآخر، ثم(18/83)
إن المكاتب مات وترك مالا، فقال سعيد: للذي تمسك بالكتابة بقية كتابته ثم يقتسمان ما بقي بعد ذلك بينهما.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح مثل قول مالك في موطئه إذا كانت مقاطعته له بإذن شريكه. وقد وقع في رواية يحيى فيه أن الذي قاطع بالخيار بين أن يتمسك بقطاعته وبين أن يرد نصف ما أخذ من القطاعة ويكون المال بينهما، وأن الذي تمسك بالكتابة إن كان الذي قبض ما قاطع عليه شريكه أو أفضل فالميراث بينهما، لأنه إنما أخذ حقه، وهو غلط. وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم الكيس من سماع يحيى من كتاب المكاتب فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في العبادة]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاجتهاد في العبادة قال: وحدثني ابن القاسم عن مالك قال: لما دخل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشر وصلبوا على الخشب بأشد اجتهادا من هؤلاء.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فوق هذا في هذا الرسم والكلام عليه، وبالله التوفيق.
[القصد والتؤدة والسمت]
في القصد والتؤدة والسمت قال ابن القاسم: قال مالك بلغني أن ابن عباس قال: التؤدة والقصد والسمت جزء من كذا وكذا جزءا من النبوءة.(18/84)
قال محمد بن رشد: معنى القصد الاقتصاد في الإنفاق، وفي معناه جاء الحديث: «ما عال من اقتصد» . والتؤدة التأني في الأمور والتثبت فيها. وأما السمت فمعناه السمت الحسن، وهو الوقار والحياء وسلوك طريقة الفضلاء، وبالله التوفيق.
[قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه]
في قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه قال ابن القاسم: قال مالك إن عمر بن عبد العزيز قال للقاسم بن محمد وهو يريد العمرة: إن معنا فضلا من أمتعة وأزواد، فقال القاسم: إني امرء لا آخذ من أحد شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا فوق هذا في هذا الرسم أنه يكره للرجل أن يصف عن نفسه ما هو عليه من الأحوال المحمودة، فليس في قول القاسم بن محمد إني امرؤ لا آخذ من أحد شيئا ما يدل على جواز ذلك، لأنه إنما قاله معتذرا لعمر بن عبد العزيز مخافة أن يظن به أنه يكره الأخذ منه دون من سواه لشيء يعتقده فيما عرض عليه، وأخبره بعادته لئلا يستوحش من قبله، وبالله التوفيق.
[وصية معاذ بن جبل]
في وصية معاذ بن جبل وحدثني عن ابن القاسم عن مالك أن معاذ بن جبل قال لرجل إنه لا غنى بك عن نصيبك من دنياك، وأنت إلى حظك من آخرتك أحوج، فإذا عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا فخذ بحظك من آخرتك فإنه ستمر عليك حوائجك من دنياك ثم تنظمها لك انتظام الرمية ثم تزول بها معك حيث زلت.(18/85)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الوصية بين لأن حظ الدنيا فان وحظ الآخرة باق، فمن الحظ للرجل أن يقدم ما يبقى على ما يفنى. وبالله التوفيق.
[التحذير من الفتنة]
ومن كتاب أوله الشريكان يكون لهما مال في التحذير من الفتنة قال: وسمعت مالكا يذكر «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذكر فتنة فقالوا: يا رسول الله ما النجاء منهما؟ قال: ترجعون إلى أمركم الأول» .
قال محمد بن رشد: الفتن على وجوه: فمنها في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعذبون ليرتدوا عن دينهم، فذلك قول الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي العذاب؛ ومنها أن يفتن الله قوما أي يبتليهم؛ ومنها ما يقع بين الناس من الحروب وغير ذلك، وهذه الفتنة هي التي أشار إليها في هذا الحديث، والله أعلم، وعنى بها ما جرى بين الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من الخلاف الذي أدى إلى مقاتلة بعضهم بعضا. قال سفيان: سمعت حذيفة يقول: «بينما نحن جلوس عند عمر بن الخطاب إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن عن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن(18/86)
بينك وبينها بابا مغلقا. قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا بل يكسر. قال عمر: إذا لا يغلق أبدا، قال: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر بن الخطاب يعلم؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقا فسأله فقال من الباب؟ فقال عمر» : ومنها الفتنة بالنساء. يقال قد فتن بالمرأة إذا تعشقها؛ ومنها الإضلال، قال الله عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] ، أي بمضلين؛ ومنها الحرق بالنار، تقول فتنته بالنار أي أحرقته فيها، وفي القرآن {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي يحرقون. والفتان الشيطان، وفتانا القبر منكر ونكير. قال الأصمعي: يقال فتنه ولا يقال أفتنه. وقال أبو عبيد: أفتنه بالقبر لغة بني تميم.
وقوله: ترجعون إلى أمركم الأول معناه إلى ما كنتم عليه في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من التواخي في ذات الله والاعتصام بكتاب الله، وبه التوفيق.
[ما قاله النبي عليه السلام حين خرج من جوف الليل]
فيما قاله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من جوف الليل وحدثني عن يحيى بن سعيد لا أعلمه إلا مسندا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنه خرج ذات ليلة من جوف الليل فنظر في أفق السماء فقال: كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة أيقظوا صواحب(18/87)
الحجر» . قال سحنون: يعني بأيقظوا صواحب الحجر أيقظوا نسائي كي يسمعن.
قال محمد بن رشد: قول يحيى بن سعيد في هذا الحديث لا أعلمه إلا مسندا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - معناه لا أعلمه إلا مسندا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن ابن شهاب «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من الليل فنظر في أفق السماء فقال: ماذا فتح الله الليلة من الخزائن وما وقع من الفتن، كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة أيقظوا صواحب الحجر.» وأسنده معمر عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من الفتنة» فذكره. وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أعلم فيه بما كان بعده مما فتحه الله على أمته من بلاد الكفار بالمشرق والمغرب وصار إليهم من أموالهم، فهي الخزائن التي فتحها الله عز وجل على أمته، وبما وقع بعده من الفتن من قتل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى يومنا هذا الذي لا يحيط به إلا علمه، ولن يزال الهرج إلى يوم القيامة. وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإيقاظ أزواجه كيلا يكن من الغافلين عند ذكر الله عز وجل في مثل هذه الليلة التي أنزل الله فيها ما أنزل، ولعلها كانت ليلة القدر الليلة المباركة التي قال الله عز وجل {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] .(18/88)
[الذين أنزل الله عز وجل فيهم لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم]
في الذين أنزل الله عز وجل فيهم {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] قال: وسمعت مالكا يذكر «أن رجلا قال على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن قراءنا هؤلاء أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنا وأجبننا عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] » «قال عبد الله بن عمر بصرت عيناي ذلك الرجل وهو يجري تحت ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنكف رجليه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عز وجل {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] » .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[كراهة الفطر فيمن أصبح صائما متطوعا]
في كراهة الفطر فيمن أصبح صائما متطوعا قال مالك: بلغني أن رجلا له شرف صنع صنيعا ودعا فيمن دعا حسين بن رستم الأوانة وكان صائما وأنه لما خلا الناس من عنده قال له: ألا ندعو لك بطعام؟ فقال إني صائم، فجعل يردد على حسين ويريده على الفطر ويقول: إنك ستصوم يوما آخر مكانه، فقال له حسين إني بيت الصيام وأنا أكره أن أخلف الله ما وعدته، وقال(18/89)
يقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فإنك لن تجد فقد شيء تركته لله عز وجل.
قال محمد بن رشد: إنما قال ما قال وأبى أن يجيبه إلى ما أراده عليه من الفطر، لأنه رأى ذلك من المشتبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه» لاختلاف أهل العلم في جواز الفطر لمن أصبح صائما متطوعا، ولما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مما يدل على جوازه والمنع منه، من ذلك أنه قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل أو فليدع؛» وروي «وإن كان صائما فلا يأكل» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تصوم امرأة وزوجها شاهد يوما من غير شهر رمضان إلا بإذنه» . وهذا يدل على أن الفطر لا يجوز لها ولا يجوز لزوجها أن يفطرها. وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عند أم هانئ وأتي بشراب فشرب منه ثم أعطاه أم هانئ فشربت ثم قالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك، فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ فقالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعا» .
فهذا يدل على جواز الفطر لمن أصبح صائما. وقد جاء «أن حفصة وعائشة أهدي لهما طعام فأفطرتا فدخل عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك حفصة فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقضيا يوما(18/90)
آخر مكانه» . فاحتمل أن يكون ذلك على الوجوب وأن يكون على الندب. وكان ابن عباس يجيز الفطر لمن أصبح صائما متطوعا؛ وكان عبد الله بن عمر لا يجيزه ويشدد ذلك فيقول ذلك الذي يلعب بصومه، وإلى قوله هذا ذهب مالك فقال: إنه لا يفطر، فإن أفطر من غير عذر فعليه القضاء، «لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة وحفصة: اقضيا يوما مكانه آخر» .
وقال مطرف: إن حلف عليه أحد بالعتق أو بالطلاق أن يفطر فليحنثه ولا يفطر إلا أن يرى لذلك وجها، وإن حلف هو فليكفر ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر فليطعهما وإن لم يحلفا عليه إذا كان ذلك رقة منهما لإدامة صومه. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصيام.
[معاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية]
في معاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية قال: وسمعت ابن هرمز يقول: إنا أخذنا أشياء برأينا وإن معاقلة الرجل المرأة إلى ثلث دية الرجل إنما أخذناه من الفقهاء.
قال محمد بن رشد: قوله إنا أخذنا أشياء برأينا معناه أخذناه بالاستنباط والنظر وهو القياس على الأصول. قال الله عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقوله إن معاقلة المرأة الرجل إلى ثلث ديته إنما أخذناه من الفقهاء، يريد أن الفقهاء سبقونا فيه إلى الاستنباط بالاجتهاد، وأخذناه منهم واتبعناهم عليه. ووجه هذا من طريق الاعتبار والنظر أن الله تبارك وتعالى ساوى بين الرجل والمرأة في الأصل والمبدأ إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما(18/91)
بعد الثلث، فقال النبي المعصوم عن ربه عز وجل: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يأتي الملك فيقول أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد فينفخ فيهما الروح» فيقع الفصل من الله بالتذكير إن شاء ذكرا وإن شاء أنثى. بعد هذا الأمر المشترك فيه وهو من العام ثلثه. وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 8] الآية. وبين الاعتبار من قَوْله تَعَالَى في الآيتين إحداهما {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، والثانية قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أن أمد الغيض وهو النقصان من الأمر المعلوم في العادة وهو تسعة أشهر في الأغلب والأكثر، ثلاثة أشهر، وأن الولد يصح نسبه لستة أشهر. فإذا اعتبر الزيادة بالنقصان اعتبارا عدلا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا منها ثلاثة أشهر. وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة أشهر تمام العام.
وقد تقدم أن الأربعة الأشهر المشترك فيها ثلث العام. فكما اشتركا من العام وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلثه في الخلقة، ثم وقع الفصل بعد الثلث وانفرد الذكر بتذكيره والأنثى بتأنيثها، فكذلك يشتركان في المعاقلة في الثلث، ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى عقل نفسه كما رجع بعد ثلث العام إلى صورة نفسه. وحسبك بهذا بيانا واضحا ودليلا مرشدا، وبالله التوفيق.
[الدين هو الحسب]
في أن الدين هو الحسب وحدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد العتبي عن عيسى أنه قال: بلغني «أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(18/92)
وسلم - فوجد في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمان الحبر وصهيبا وبلالا وسالما مولى أبي حذيفة فقال لهم: يا معشر العلجة كأنكم من الأوس والخزرج، وسعد بن أبي وقاص يصلي ويسمع كلامه، فعجل [فسلم] ثم قام إلى الأعرابي فلببه بردائه وقال: يا عدو نفسه تقول هكذا لأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أفارقك حتى أوقفك على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذهب به سعد إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر سعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمقالته فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا، يريد غضبانا، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الرب واحد والدين واحد والأب واحد ومن أسرع به عمله لم يبطئ به حسبه ومن أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه، ومن دخل هذا الدين فهو من العرب. فقال سعد: ما أصنع بهذا يا رسول الله، فقال: ادخره إلى النار» . فلقد رأيته ارتد مع مسيلمة فقتل معه.
قال محمد بن رشد: هذا حديث بين المعنى يشهد بصحته قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . ومن هذا المعنى قول عمر ابن الخطاب كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه. فإنما يكون للحسب مزية مع الاستواء في العلم والفضل. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.» وبالله التوفيق.(18/93)
[اجتماع العلم والحلم]
في اجتماع العلم والحلم قال: وسمعت موسى يذكر أن بعض أهل العلم كتب إلى بعض إخوانه: اعلم أن الحلم لباس العلم فلا تعرين منه.
قال محمد بن رشد: هذه استعارة حسنة، وحكمة بالغة، فينبغي لمن أوتي حظا من العلم أن لا يعري نفسه من الحلم، وبالله التوفيق.
[ما يبدأ به الداخل في مسجد النبي عليه السلام]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه فيما يبدأ به الداخل في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن الرجل يدخل مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالمدينة، بأي شيء يبدأ، بالسلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أم بركعتين؟ قال: بل بركعتين، وكل ذلك واسع. قال ابن القاسم: وأحب إلي أن يركع.
قال محمد بن رشد: وجه توسعة مالك في البداية بالسلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل الركعتين قوله في الحديث قبل أن يجلس، فإذا سلم ثم ركع الركعتين قبل أن يجلس فقد امتثل أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالركوع قبل الجلوس ولم يخالفه. ووجه اختيار ابن القاسم البداية بالركوع قبل السلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قوله في الحديث: «إذا دخل فليركع» والفاء في اللسان للتعقيب يدل على الثاني عقيب الأول بلا مهلة، فكان الاختيار إذا دخل أن يصل ركوعه بدخوله وألا يجعل بينهما فاصلة من الاشتغال بشيء من(18/94)
الأشياء. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[الأفضل في الحج بين القفل والجوار]
في الأفضل في الحج بين القفل والجوار وسئل مالك عن الحج، القفل أعجب إليك أم الجوار؟ فقال ما كان الناس إلا على الحج والقفل، ورأيته يريد أن ذلك أعجب إليه. فقلت: فالغزو يا أبا عبد الله فإن ناسا يقولون ذلك، فلم يره مثله وقال: قد كانت الشام حين فتحت وكانت مجال حرب فأقام فيها غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو أيوب، ومعاذ، وبلال، وأبو عبيدة.
قال محمد بن رشد: استحب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القفل من الحج على الجوار اتباعا للسلف، وله وجه من جهة المعنى، وهو أن الحج فرض واجب، والجوار مستحب وليس بواجب، فاستحب أن يفرق بين الواجب وغير الواجب بفعل مباح، كما استحب الأكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وكما استحب جماعة من العلماء للمعتدة من الوفاة أن تتطيب إذا انقضت عدتها، كما فعلت أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان، وزينب بنت جحش حين توفي أخوها بعد ثلاث، وقالتا: والله ما لنا بالطيب من حاجة غير أنا سمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحق لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وليس ذلك في الغزو والرباط لاستوائهما في أنهما غير واجبين، لأن الجهاد يسقط الوجوب فيه عن الناس بقيام من قام به، لأنه فرض على الكفاية، وبالله التوفيق.(18/95)
[طواف المريض بالبيت راكبا]
في طواف المريض بالبيت راكبا قال مالك: «حدثت أم سلمة أنها اشتكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تطوف من وراء الناس راكبة» .
قال محمد بن رشد: زاد في هذا الحديث في الموطأ قالت: «فطفت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور» وكانت صلاة الصبح بدليل حديث البخاري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها ولم تكن طافت بالبيت وأرادت الخروج: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون» ففعلت ذلك ولم يصل حتى خرجت. ولا اختلاف بين أهل العلم في أن المريض يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة راكبا ومحمولا، إلا أن مالكا استحب له أن يعيده إن صح.
وإنما اختلفوا في الصحيح فقال: إنه يعيد إن كان قريبا، وإن رجع إلى بلده كان عليه الدم، وهو مذهب أبي حنيفة؟ وقال الشافعي يجزيه طوافه ولا دم عليه، وحجته حديث أبي الزبير عن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف في حجة الوداع بالبيت بين الصفا والمروة على راحلته» ليراه الناس وليشرف لهم لأن الناس غشوه.
وقال أيؤثر إن طاف راكبا أو محمولا من غير علة ولا عذر لم يجزه طوافه وكان عليه أن يعيد، بمنزلة من صلى وهو صحيح قاعدا. وقياسه الطواف على الصلاة بعيد، لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من حديث جابر وغيره، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على راحلته» والاستنابة في(18/96)
ذلك جائزة إلا أن يعلم أن ذلك خصوص له أو يثبت أنه إنما فعله من عذر على ما روى عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلم بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى» .
[الحج بثمن ولد الزنى]
في الحج بثمن ولد الزنى وسئل مالك هل يحج بثمن ولد الزنى؟ قال: أليس من أمته ولدته له من زنى؟ قال: نعم، قال لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يجوز أن يحج بثمن ولد الزنى وأن يعتق في الرقاب الواجبة وإن كان الاستحباب عنده غير ذلك.
روى أشهب عنه في سماعه من كتاب العتق أنه استحسن ألا يعتق في الرقاب الواجبة وقال: قال الله عز وجل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] يعمد الرجل إذا أراد أن يعتق أعتق هذا العبد، وإذا أراد أن يتصدق تصدق بهذا الطعام. وإنما منع ذلك من منعه ولم يجزه لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «ولد الزنى شر الثلاثة» وأنه قال: «لا يدخل الجنة ولد زنية» وأنه «سئل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عتق ولد الزنى فقال: لا خير فيه نعلان يعان بهما أحب إلي من عتق ولد الزنى» . وليست(18/97)
الأحاديث المذكورة على ظاهرها. فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولد الزنى شر الثلاثة» فالمعنى فيه أنه قصد بذلك لرجل بعينه كان يؤذي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: أما إنه مع ما به ولد الزنى، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هو شر الثلاثة» . وقد سئل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن ذلك قال: بل هو خير الثلاثة، قد أعتق عمر بن الخطاب عبيدا من أولاد الزنى، ولو كان خبيثا ما فعل، وهو كما قال، لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . وقد قيل: المعنى في ذلك أنه حدث من شر الثلاثة أبوه وأمه والشيطان الذي أغواهما، لا أنه في نفسه شر، والأول أولى، لأن ذلك مروي عن عائشة.
وأما قوله: «لا يدخل الجنة ولد زنية» فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنى حتى ينسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه وتحقق به، فيقال لمن كثر منه الحذار ابن حذار، ولمن كثر منه السفر ابن سبيل، وللمتحققين بالدنيا بنو الدنيا، ومثل هذا كثير. وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عتق ولد الزنى لا خير فيه، وبالله التوفيق.
[تغطية الرجل لحيته في الصلاة]
في تغطية الرجل لحيته في الصلاة وسئل مالك عن الرجل يصلي فيغطي لحيته بثوبه، قال ذلك مكروه وشدده لحديث سالم أنه كان يجبذ الثوب جبذا شديدا.
قال محمد بن رشد: حديث سالم بن عبد الله هو الحديث الذي رواه عن عبد الرحمن بن المجبر أنه كان يرى سالم بن عبد الله إذا رأى(18/98)
الإنسان يغطي فاه وهو يصلي جبذ الثوب عن فيه جبذا شديدا حتى ينزعه عن فيه، فتغطية الأنف والفم في الصلاة مكروه. وأصل الكراهية فيه أنهم كانوا يلثمون ويصلون على تلك الحال فنهوا عن ذلك. روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا يضعن أحدكم ثوبه على أنفه وهو في الصلاة فإن ذلك خطم الشيطان» فرأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - تغطية اللحية مكروها كتغطية الفم والأنف لقرب ما بينهما. وقال ابن الجهم: إنه كره تغطية الأنف في الصلاة ليباشر الأرض بأنفه عند سجوده كما يباشرها بجبهته، وليس ذلك بتعليل صحيح، لما جاء من النهي عن تغطية الفم في الصلاة وهو مما لا يباشر الأرض، وبالله التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء وسئل مالك عن رفع اليدين في الدعاء، فقال: ما يعجبني ذلك. فقيل له: فرفع اليدين في الصلاة عند التكبير؟ فقال: لقد ذكر عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفعل ذلك إذا كبر وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا ركع، وما هو بالأمر العام، كأنه لم يره من العمل المعمول به، فقيل له: فالإشارة بالأصبع في الصلاة؟ فقال: ذلك حسن. ثم قال على إثر ذلك حجة لتضعيف رفع اليدين في الصلاة أنه قد كان في أول الإسلام أنه من رقد قبل أن يطعم لم يطعم من الليل شيئا، فأنزل لله تبارك وتعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187](18/99)
فأكلوا بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: كره مالك رفع اليدين في الدعاء، فظاهره خلاف لما في المدونة، لأنه أجاز فيها رفع اليدين في الدعاء في مواضع الدعاء كالاستسقاء وعرفة والمشعر الحرام والمقامين عند الجمرتين على ما في كتاب الصلاة الأول منها، خلاف لما في الحج الأول من أنه لا يرفع يديه في المقامين وعند الجمرتين. ويحتمل أن تتأول هذه الرواية على أنه أراد الدعاء في غير مواطن الدعاء فلا يكون ذلك خلافا لما في المدونة، وهو الأولى، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم شك في طوافه. وأما رفع اليدين عند الإحرام في الصلاة فالمشهور عن مالك أن اليدين ترفع في ذلك، وقد وقع في الحج الأول من المدونة في بعض الروايات أن رفع اليدين في ذلك عنده ضعيف.
ووقع له في سماع أبي زيد من كتاب الصلاة إنكار الرفع في ذلك، وإلى هذا ينحو قوله في هذه الرواية، لأنه احتج فيها بما دل أن الرفع أمر قد ترك ونسخ العمل به كما نسخ تحريم الأكل في رمضان بالليل بعد النوم.
والصحيح في المذهب إيجاب الرفع في ذلك بالسنة، فهو الذي تواترت به الآثار، وأخذ به جماعة فقهاء الأمصار. وروى ابن وهب وعلي، واللفظ لعلي، أنه سئل عن المرأة أعليها رفع يديها إذا افتتحت الصلاة مثل الرجل، فقال: ما بلغني أن ذلك عليها وأراه يجزئها أن ترفع أدنى من الرجل. وأما رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه فمرة كرهه مالك، وهو مذهبه في المدونة ودليل هذه الرواية وما وقع في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة وحكاية فعل مالك ذلك؛ ومرة استحسنه ورأى تركه واسعا، وهو قول مالك في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب، وروى مثله عنه محمد بن يحيى السمائي؛ ومرة قال: إنه يرفع ولم يذكر في ترك ذلك سعة، وهو قوله في رواية ابن وهب عنه؛ ومرة(18/100)
خير بين الأمرين. والأظهر ترك الرفع في ذلك، لأن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر كانا لا يرفعان أيديهما في ذلك وهما رويا الرفع عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، فلم يكونا ليتركا بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما رويا عنه إلا وقد قامت الحجة عندهما بتركه. وقد روي أيضا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الرفع عند القيام من الجلسة الوسطى وعند السجود والرفع منه، وذهب إلى ذلك بعض العلماء، ولم يأخذ مالك بذلك ولا اختلف فيه قوله، وبالله التوفيق.
[ما ينسب من القول إلى الشيطان]
فيما ينسب من القول إلى الشيطان وسمعت يذكر ليس من أحاديث الفقه أنه يقال قال الشيطان لن ينجو مني ابن آدم أن يكسب مالا من غير حقه أو يضعه في غير حقه أو يمنعه من حق.
قال محمد بن رشد: لما كان لا يخلص أحد من هذه الثلاثة الأشياء التي يغوي فيها الشيطان ويبوء بما يتم له من أمله بطاعة الناس له فيها، جاز أن يقال على ضرب من المجاز إنه قال ذلك القول وإن لم يصح بأثر ثابت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قاله، لأنه يعلم أنه يقول ذلك في نفسه ويعتقده، فقد يقال فيمن يعلم من أخلاقه الرغبة وقلة الإسعاف وترك المسامحة تألى فلان بأن لا يسامح أحدا في شيء من ماله، أي أنه بمنزلة من حلف على ذلك وإن كان لم يحلف عليه، وبالله التوفيق.
[ما بناه أبو الدرداء بحمص]
فيما بناه أبو الدرداء بحمص وقال في حديث أبي الدرداء حين بنى بحمص جناحا إنه(18/101)
أخرجه منها، قال: أخرجه عمر إلى دمشق أدبا له. قال مالك: والذي أحدث أبو الدرداء إنما أحدث جناحا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: أما كان لك فيما بنت الروم وفارس ما يكفيك؟.
قال محمد بن رشد: عاتبه عمر لما بنى ما لم تكن له به حاجة إليه. وقد مضى هذا المعنى في رسم شك قبل هذا، وبالله التوفيق.
[سيرة عمر رضي الله عنه في سيره في أسفاره]
في سيرة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سيره في أسفاره قال: وسمعت مالكا يذكر أن عمر بن الخطاب كان إذا سافر والأرض مكلية لم يمر بالمناهل كراهية أن يعلف، قال: يرعى في الكل ولا يشتري من المناهل.
قال محمد بن رشد: هذا من فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نظر صحيح، لأنه يحوط بذلك ماله ويحسن إلى إبله، لأن الرعي في الكل أحب إليها من العلف، وقد «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينزل الدواب في السفر منازلها» لترعى الكلأ وأمر أن ينجى عليها بنقيها إذا كانت الأرض مجدبة، وبالله التوفيق.
[الذي يرى الدم في ثوبه في الصلاة]
في الذي يرى الدم في ثوبه في الصلاة وسئل مالك عن الرجل يصلي فيرى في ثوبه الدم القليل الذي ليس مثله تفسد الصلاة به أن لو فرغ منها، أترى أن ينزع ثوبه في الصلاة أم يصلي كما هو؟ قال: بل أرى أن يصلي كما هو، وأرجو أن(18/102)
يكون خفيفا، وذلك حديث القاسم حين نزع قميصه يوم الجمعة والإمام يخطب لدم رأى فيه، ولم يحد لذلك الدم الذي نزع القاسم بن محمد قميصه منه حدا.
قال محمد بن رشد: إنما رأى أن يصلي بالثوب الذي رأى به الدم اليسير وهو في الصلاة ولا ينزعه لما في ذلك من الاشتغال بذلك في صلاته، وإن كان الاختيار أن يغسل اليسير من الدم ولا يصلي به. وإنما يختلف إذا رأى في ثوبه وهو في الصلاة دما كثيرا أو نجاسة فقيل: إنه يقطع وإن كان إماما استخلف، وهو المشهور في المذهب؛ وقيل إنه يختلعه إذا كان عليه ثوب غيره ويتمادى على صلاته كما فعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في النعل التي أعلم في الصلاة أن فيها نجاسة.
قال ذلك ابن القصار، وقد قاله ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب الصلاة في الذي يقطر عليه نجس وهو في الصلاة، ولا فرق بين المسألتين في القياس، لأنه قد حصل حامل نجاسة في صلاته، وإن فرق بين المسألتين يحصل في المسألة ثلاثة أقوال: القطع، والخلع، والفرق بين أن يعلم في الصلاة أن في ثوبه نجاسة أو تقطر عليه النجاسة وهو فيها.
ولا اختلاف فيما أعلم فيمن علم أن في ثوبه نجاسة والإمام يخطب أنه يخلع ثوبه إن كان عليه ثوب غيره كما فعل القاسم بن محمد. وقد اختلف في قدر الدرهم من الدم فروى علي بن زياد عن مالك أنه يسير، وقال ابن حبيب إنه كثير، وبالله التوفيق.
[أرباب العلم هم الذين يعملون بما علموا]
في أن أرباب العلم هم الذين يعملون بما علموا قال: وسمعته يذكر أن عبد الله بن سلام قال لكعب الأحبار: من أرباب العلم؟ قال الذين يعملون بعلمهم. قال: فما نفاه من قلوبهم؟ قال: الطمع.(18/103)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح، لأن من لم يعمل بعلمه لم ينتفع به وكان حجة عليه، فليس من أهله على الحقيقة، إذ هو دون مرتبة الجاهل. وقوله: فما نفاه من قلوبهم، معناه ما نفى انتفاعهم به من قلوبهم بترك استعمالهم، إذ لا ينتفي العلم عن قلوبهم بالطمع، وإنما ينتفي به استعماله، وبالله التوفيق.
[كراهة القناع لغير حر أو برد]
في كراهة القناع لغير حر أو برد قال مالك: بلغني أن سكينة ابنة حسين أو فاطمة بنت حسين رأت بعض ولدها مقنعا رأسه فقالت له: اكشف عن رأسك، فإن القناع ريبة بالليل مذلة بالنهار. وقال مالك: وأما من تقنع من حر أو برد فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأنه إذا تقنع بالليل استراب منه من لقيه مخافة أن يكون تقنع لسوء يريد أن يفعله من اغتيال أو شبه ذلك، وإذا تقنع بالنهار لم يكرمه من لقيه ولا وفاه حقه ولا عرف منزلته واضطره إلى أضيق الطرق وذلك إخلال به.
[عمرو بن العاص أسن من عمر بن الخطاب]
في أن عمرو بن العاص أسن من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال: وسمعت مالكا يذكر أن عمرو بن العاص قال: إني لا أعرف الليلة التي ولد فيها عمر بن الخطاب، ولقد جئتهم تلك الليلة بسراج أوقدته لأهله وهو يقول ولد للخطاب غلام.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا أكثر من المعرفة بأن عمرو بن(18/104)
العاص أسن من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبالله التوفيق.
[صاع النبي ومده عليه السلام]
في صاع النبي ومده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وسألت مالكا عن صاعه ومده الذي يعطيه الناس أهو صاع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ قال: كذلك يقول.
قال محمد بن رشد: في هذه المحافظة على صاع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومده لما يلزم من معرفة نصاب الزكاة وقدر الكفارات وزكاة الفطر، فالمد زنته رطل وثلث، قيل بالماء وقيل بالوسط من القمح؛ والصاع أربعة أمداد؛ والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية بوزن زماننا الذي هو دخل أربعين ومائة في مائة كيلا خمسة عشر درهما وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءا في الدرهم، وذلك أن الأوقية من الوزن القديم الذي هو دخل مائة وعشرة في مائة كيلا اثنا عشر درهما، وبالله التوفيق.
[التكبير عند رمي الجمار]
في التكبير عند رمي الجمار وسئل مالك عن التكبير عند رمي الجمرتين الأوليين، قال: نعم، فقيل له أيرفع صوته؟ قال: نعم، ويكبر عند الجمار كلها، وعند الصفا والمروة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا - في المدونة أنه يكبر عند رمي الجمار، قال فيها مع رمي كل حصاة تكبيرة. وكذلك كان يفعل عبد الله بن عمر. ذكر مالك في موطئه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكبر عند رمي الجمرة كلما رمى بحصاة. وإنما قال إنه يرفع صوته بالتكبير، لأن رفع الصوت بالتكبير والتلبية في الحج من شعار الحج. وقد كان عمر بن الخطاب(18/105)
يكبر في أيام منى إذا ارتفع النهار ستا وبعد ذلك وإذا زاغت الشمس، فكبر الناس بتكبيره حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت، فيعرف أن عمر قد خرج. وقوله: إنه يكبر على الصفا والمروة هو مثل ما قاله في المدونة من أنه استحب للحاج أن يقطع التلبية إذا أخذ الطواف بالبيت حتى يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، ثم يعود إلى التلبية حتى يعود من منى إلى عرفة، وبالله التوفيق.
[ركوب البحر]
في ركوب البحر وقال مالك في حديث عمرو بن العاص حين أشار على عمر بن الخطاب في ركوب البحر قال: دود على عود، إن ضاعوا غرقوا، وإن بقوا فرقوا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم من هذا السماع فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[السجود في المفصل]
في السجود في المفصل قال: وحدثني ابن القاسم عن مالك بن أنس أن عمر بن عبد العزيز أمر محمد بن قيس القاضي أن يخرج إلى الناس فيأمرهم أن يسجدوا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] قال ابن القاسم: سألت مالكا عنه فلم ير العمل به، وهو رأي لا في النافلة ولا غيرها.
قال محمد بن رشد: عزائم سجود القرآن عند مالك إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء، فالتي ليست من العزائم عنده آخر الحج، وسجدة والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. وإنما لم يرها من العزائم لما جاء فيها من الاختلاف، فقد روي أنه ليس في الحج إلا(18/106)
سجدة واحدة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة. وذهب ابن وهب إلى أنها كلها من العزائم، وروي ذلك عن مالك، وهو اختيار ابن حبيب. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: عزائم السجود أربعة: الم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك. وقال بعض العلماء الذي يوجبه النظر أن يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الخبر ولا يسجد من ذلك فيما جاء على سبيل الأمر، لأن ما جاء منها على سبيل الأمر يحمل على السجود الواجب في الصلاة المفروضة. وعلى هذا يأتي مذهب مالك إذا اعتبرته، لأن جميع ما لم ير فيه السجود جاء على سبيل الأمر، وجميع ما رأى فيه السجود جاء على سبيل الخبر.
فإن قيل: سجدة إذا السماء انشقت جاءت على سبيل الخبر ولا يسجد فيها عنده.
قيل له الوعيد المذكور فيها يقوم مقام الأمر. فإن قيل سجدة حم السجدة على سبيل الأمر ويسجد فيها عنده. قيل له: المعنى فيها الإخبار عن فعل الكفار الذين لا يسجدون لله ويسجدون للشمس والقمر، والنهي عن التشبه بهم في ذلك، لأن الأمر لمجرد السجود لله فيحمل على سجود الصلاة، ويدل على ذلك قوله في آخر الآية: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لأن المعنى في ذلك فإن استكبر الكفار عن السجود لله، فالذين عنده لا يستكبرون عن ذلك. وقد اختار بعض العلماء السجود عند قوله: وهم لا يسئمون ليكون عند ذكر الإخبار على الأصل الذي ذكرناه.(18/107)
[الصلاة في الثوب الواحد]
في الصلاة في الثوب الواحد قال: وحدثني عن ابن القاسم عن مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر أن في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر مالك في موطئه عن هشام بن عروة عن أبيه «عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد مشتملا به في بيت أم سلمة واضعا طرفيه على عاتقيه» يريد مخالفا بينهما: طرف ثوبه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرف ثوبه الأيسر على عاتقه الأيمن، فإن كان الثوب قصيرا اتزر به على ما ذكره مالك في موطئه أنه بلغه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب أحد ملتحفا فإن كان الثوب قصيرا فليتزر به» وبالله التوفيق.
[السلام على النبي عليه السلام]
في السلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسئل مالك عن السلام على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: إذا دخل وخرج وفيما بين ذلك، يريد في الأيام.
قال محمد بن رشد: قوله إذا دخل وخرج معناه إذا دخل في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإذا خرج منه، لأن المعنى فيما سئل عنه مالك من كيفية السلام على النبي - عليه السلام إنما هو كيف يسلم عليه من زاره للسلام عليه، وبالله التوفيق.(18/108)
[من قال هلك الناس فهو أهلكهم]
فيما جاء من أن من قال هلك الناس فهو أهلكهم قال مالك في تفسير حديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» قال فهو أقساهم وهو أرداهم.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحديث صحيح، ومعناه عند أهل العلم جميعا إذا قال ذلك احتقارا لمن في زمنه وإزراء عليهم بنفسه. وأما إذا قال ذلك تحزنا على فقد الخيار من الناس وخوفا على من بقي منهم لقلة الخير فيهم فليس ممن عني بالحديث. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: لن يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس كلهم في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.
[قسمة قريظة والنضير]
في قسمة قريظة والنضير قال مالك: قسمت قريظة بالسهمان، فأما النضير فإنها صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار: سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، والحارث بن الصمة. قال: وسمعت مالكا يقول: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن معاذ حين حكم على بني قريظة: لقد حكمت فيهم بحكم الله» .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قريظة والنضير في رسم نذر سنة فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(18/109)
[أول من جعل قاضيا بالمدينة]
في أن عمر بن عبد العزيز أول من جعل قاضيا بالمدينة قال: وسمعت مالكا قال: أول قاض كان بالمدينة إنما جعله عمر بن عبد العزيز، ولم يكن بها قبل ذلك قاض.
قال محمد بن رشد: يريد أن الخلفاء وأمراءهم فيها كانوا هم الذين يقضون بين الناس، وبالله التوفيق.
[الجمع بين الصلاتين في السفر]
في الجمع بين الصلاتين في السفر. وسئل مالك عن القوم في السفر يرتحل بهم بعد الزوال، أترى أن يجمعوا الصلاتين الظهر والعصر؟ قال: لا أرى ذلك لهم، وكره أن يجمعوا تلك الساعة. قال ابن القاسم: قد قال قبل ذلك لا بأس به إذا عجل السير به، وهو رأيي، وذكره عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال ابن القاسم: وأحب ما فيه إلي، وذلك الذي سمعت من مالك أن يجمع المسافر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، وإن جمع بعد الزوال أجزأ ذلك عنه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يرتحل بعد الزوال من المنهل إنه لا يجمع تلك الساعة وكرهه، يريد وإن جد به السير، بدليل قوله: وقد قال قبل لا بأس به إذا عجل به السير. والمشهور المعلوم أن ذلك جائز وإن لم يجد به السير، فهي ثلاثة أقوال. وأما جمع المسافر في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر فذلك جائز إن جد به السير، وقيل: إن ذلك جائز له وإن لم يجد به السير.(18/110)
[تفسير قول الله عز وجل إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس]
في تفسير قول الله عز وجل: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11]
قال مالك في هذه الآية {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] قيل له: أهي هذه المجالس؟ قال: نعم، ومجلس النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: قد قيل في تأويل الآية إنها في القتال، كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكون مستقبل العدو، فكانوا يرجون الشهادة فكان يجيء الرجل يرجو الشهادة فيقول: افسحوا فلا يوسعون له ويرجون مثل الذي يرجو، فأنزل الله عز وجل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] ، يقول: إذا قيل انهضوا لقتال عدوكم فانهضوا، يبين هذا قوله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] والمقاعد هي المجالس، وهذا تفسير الحسن. وقال غيره المراد بالمجلس في قوله عز وجل: {تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11] مجلس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] معناه وإذا قيل ارتفعوا إلى الصلاة أو إلى ما سواها من الخير فانشزوا أي فارتفعوا. والذي ذهب إله مالك في هذه الرواية من أن المراد بالمجلس في الآية مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسائر مجالس الخير والذكر أولى، لأن الألف واللام في قوله في المجلس قد تكون للعهد، وهو أن يكون جرى في مجلس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من ترك التوسع فيه لمن جاء إليه سببا نزلت الآية من أجله، وقد تكون لاستغراق الجنس فإذا لم يثبت السبب وجب أن يحمل على استغراق الجنس، ولو ثبت السبب لوجب أن(18/111)
تحمل الآية على استغراق الجنس لوجود معنى السبب في غير مجالس النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو يقع على من يريد من المجلس مثل ما أراد أهله منه بالتوسيع له فيه. وقد تشرع الشرائع لمعان فتبقى الشرائع مع ارتفاع المعاني، من ذلك زكاة الفطر، وغسل الجمعة، والرمل في الطواف فكيف بما كان المعنى موجودا فيه؛ فلا اختلاف في وجوب التوسع في مجالس الخير والذكر إلى يوم القيامة، وإنما يرجع الاختلاف إلى هل وجب ذلك بتناول لفظ الآية له أو بالقياس على ما يتناول لفظها، وبالله التوفيق.
[تحدث المشركون في يوم أحد من أن النبي عليه السلام قتل]
فيما تحدث المشركون في يوم أحد من أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قتل وقال في حديث أبي سفيان لعمر بن الخطاب يوم أحد: ناشدتك الله أقتل محمد؟ قال لا، قال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة. قال ابن القاسم: فاختلف الناس فيما نال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كسر رباعيته وما أصيب به في وجهه، فقال بعض الناس: أصابه بذلك عتبة ابن أبي وقاص، وقال بعضهم: أصابه ابن قميئة.
قال محمد بن رشد: لما غزا كفار قريش النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالمدينة، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة، وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن ونزلوا قرب أحد على شفير الوادي مقابل المدينة، رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، فأشار على أصحابه ألا(18/112)
يخرجوا إليهم وأن يتحصنوا بالمدينة، فإن قربوا منها قوتلوا على أفواه الأزقة، ووافق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، وأبى أكثر الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة. فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزيمتهم دخل بيته فلبس لامته وخرج، فندم قوم ممن كان ألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخروج وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل» فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، وتهيأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقتال وهو في سبعمائة والمشركون في ثلاثة آلاف منهم مائتا فارس. فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الرماة عبد الله بن جبير ورتبهم خلف الجيش وأمره أن ينضح المشركين لئلا يأتوا من ورائهم. وظاهر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ بين درعين وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزم المشركون واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى، فذكر أميرهم عبد الله بن جبير أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهم أن لا يزولوا، فلم يلتفتوا إلى قوله وقاموا ثم كر المشركون فتولى المسلمون وثبت من أكرمه الله بالشهادة، ووصل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهشمت البيضة رأسه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجازاه عن أمته أفضل ما جزى به نبيا من(18/113)
أنبيائه عن صبره. وكان الذي تولى منه ذلك عمرو بن قميئة، وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم ابن شهاب هو الذي شج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جبهته، وأكتب الحجارة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سقط في حفرة. وكان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على جنبه، فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام، فتحدث المشركون أنه قتل، وزعم ذلك عمرو بن قميئة، ولذلك سأل أبو سفيان عمر بن الخطاب عن ذلك على ما جاء في هذه الرواية، وبالله التوفيق.
[الصلاة في سقائف مكة فرارا من حر الشمس]
في الصلاة في سقائف مكة فرارا من حر الشمس وسئل مالك عن الرجل يصلي في السقائف بمكة من الشمس وبينه وبين الناس فرج، قال: أرجو أن يكون ذلك واسعا، وليس كل الناس سواء، وحر مكة شديد. وقد وضع عمر بن الخطاب ثوبه فسجد عليه من شدة الحر، فقيل له فإن رجلا يطيق أن يصلي في الشمس ويحمل ذلك أترى أن يتقدم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: خفف مالك للرجل أن يصلي وحده في السقائف ويترك التقدم إلى الفرج التي في صفوف الناس لموضع الضرورة، ولو فعل ذلك من غير ضرورة لكان قد أساء وصلاته تامة على المشهور من قول مالك.
وقد روى ابن وهب أن من صلى خلف الصفوف وحده أعاد أبدا، وذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم لما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مما قد ذكرناه في أول رسم شك في طوافه في هذا السماع من كتاب الصلاة. ولو كان معه في السقائف غيره لم يكن منفردا فيها وحده لكانت صلاته جائزة بإجماع، وكلما كثر عدد القوم الذين يكونون معه في السقائف(18/114)
كانت الكراهية له معهم في الصلاة وترك التقدم إلى الفرج التي في الصفوف أخف. فقد روى أشهب عن مالك في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة أنه سئل عمن دخل من باب المسجد فوجد الناس ركوعا وعند باب المسجد ناس يصلون ركوعا وبين يديه الفرج أيركع مع هؤلاء الذين عند باب المسجد أم يتقدم إلى الفرج؟ قال: أرى أن يركع مع هؤلاء الذين عند باب المسجد فيدرك الركعة، إلا أن يكونوا قليلا فلا أرى أن يركع معهم، ويتقدم إلى الفرج أحب إلي. وأما إذا كانوا كثيرا فأرى أن يركع معهم. ففي هذا دليل على ما قلناه. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع في كتاب الصلاة. والصلاة في السقائف بصلاة الإمام فرارا من الحر بخلاف الطواف فيها فرارا من الحر. قال ابن القاسم في المدونة يعيد الطواف إن طاف فرارا من الحر، فإن طاف فيها فرارا من زحام الناس فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق.
[يطلق الأمة ثلاثا ثم يشتريها]
في الذي يطلق الأمة ثلاثا ثم يشتريها هل تحل له بملك يمينه؟ قال مالك في حديث زيد بن ثابت في الذي يطلق الأمة البتة واشتراها إنها لا تحل له، قال: فقد سئل عن ذلك غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم، فكلهم يقول: لا تحل له.
قال محمد بن رشد: هذا هو مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه أن ما حرم بالنكاح حرم بالملك، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وإسحاق وأحمد. وقال ابن عباس وطاووس والحسن: إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين، لقول الله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3](18/115)
وهو بعيد. قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ليس على عمومه، فكما تخصص من ذلك. ذوات المحارم من النسب والرضاع فكذلك تخصص من ذلك المحرمات بالطلاق ثلاثا إلا بعد زوج، لقوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . واختلف الصحابة ومن بعدهم هل تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثا بوطء سيدها إياها. روي أن عثمان بن عفان سئل عن ذلك وعنده علي وزيد بن ثابت، [فرخص في ذلك عثمان وزيد بن ثابت] قالا هو زوج، فقام علي مغضبا كارها لما قال، وقال: ليس بزوج، وهو قول عبيدة، ومسروق، والشعبي، وإبراهيم، وجابر بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي الزناد؛ وعليه جماعة فقهاء الأمصار. وروي عن الزبير بن العوام مثل قول زيد بن ثابت إن وطء السيد إياها يحلها لزوجها الذي بت طلاقها إذا وطئها وطئا لم يرد به مخادعة ولا إحلالا. وقال عطاء: إن اشتراها الزوج فوطئها ثم أعتقها جاز له نكاحها. وروي مثل هذا عن زيد بن ثابت، وروي عنه من وجوه أنها لا تحل حتى تنكح زوجا غيره، وهو الصحيح عنه. وبالله التوفيق.
[سيرة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري في قراءة القرآن]
في سيرة معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري في قراءة القرآن وفضل معاذ بن جبل قال مالك: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن جبل وعبد الله بن قيس وهو أبو موسى، فقال معاذ لأبي موسى: ما فعلت بالقرآن؟ قال مالك: أراهم شغلوا بتعليم الناس، فقال أبو(18/116)
موسى: أما أنا فأتفوق القرآن تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا، فقال معاذ أما أنا فأنام أول الليل وأقوم أخره وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. قال: وسمعت مالكا يقول: بلغني أن معاذ ابن جبل إمام العلماء بربوه.
قال محمد بن رشد: في فعل أبي موسى جواز قراءة القرآن في الأسواق والطرق، وقد اختلف في ذلك قول مالك، فكرهه في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وحكى ابن حبيب عنه من رواية مطرف إجازة ذلك واحتج بقول أبي موسى: فأما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وعلى كل حال. ويدل على جواز هذا أيضا ما وقع في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه كان في قوم وهم يقرؤون القرآن فذهب لحاجته ثم رجع وهو يقرأ القرآن الحديث ". والكراهة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها تنزيه القرآن وتعظيمه بأن لا يقرأ في الطرق والأسواق لما قد يكون فيها من الأقذار والنجاسات، والثاني أنه إذا قرأه على هذه الحال لم يتدبره حق التدبر، والثالث أن يخشى ما يدخله في ذلك مما يفسد نيته، وهو الذي يدل عليه استدلال مالك لذلك في هذا الرسم من كتاب الصلاة، لقول الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وبالله التوفيق.(18/117)
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم قال مالك: وقد كان الرجل يقدم من البلد إلى البلد يسأل عن علم القضاء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن العلم لا يحصل إلا بالعناية والملازمة والبحث والنصب، والصبر على الطلب، كما حكى الله عن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال للخضر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69] وأنه قال لفتاه: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] . وقال سعيد بن المسيب إن كنت لأرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي، وبذلك ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة» وبالله التوفيق لا شريك له.
[كراهية أن يقال الزيارة في البيت الحرام وفي قبر النبي]
في كراهية أن يقال الزيارة في البيت الحرام وفي قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: أكره أن يقال: الزيارة لزيارة البيت، وأكره ما يقول الناس زرت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأعظم ذلك أن يكون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يزار.(18/118)
قال محمد بن رشد: ما كره مالك هذا، والله أعلم، إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة. فلما كانت. الزيارة تستعمل في الموتى. وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل هذه العبارة في النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كما كره أن يقال أيام التشريق واستحب أن يقال الأيام المعدودات كما قال الله عز وجل، وكما يكره أن يقال العتمة ويقال العشاء الآخرة، ونحو هذا؛ وكذلك طواف الزيارة كما استحب أن يسمى بالإفاضة كما قال الله عز وجل في كتابه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] فاستحب أن يشتق له الاسم من هذا. وقيل: إنه إنما كره لفظ الزيارة في الطواف في البيت والمضي إلى قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما للزائر من الفضل على المزور في صلته بزيارته إياه، ولا يمضي أحد إلى قبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليصله بذلك ولا لينفعه، وكذلك الطواف بالبيت، وإنما يفعل ذلك تأدية لما يلزمه من فعله ورغبة في الثواب على ذلك من عند الله عز وجل، وبالله التوفيق.
[وسم الدواب والغنم في وجوهها]
في كراهة وسم الدواب والغنم في وجوهها قال مالك: لا بأس بالوسم للحمير والبغال إذا لم يكن في الوجه، فإنه يكره أن يوسم في الوجه. قيل له: فالغنم في الأذن؟ قال: إنه يكره أن يوسم في الوجه. قال ابن القاسم: وقد قال مالك قبل ذلك لا بأس به في الأذن.
قال محمد بن رشد: كره مالك أن توسم الدواب والإبل والبقر في وجوهها لنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن المثلة، ولم ير به بأسا فيما عدا وجوهها من أجسادها. ولما لم يكن إلى وسم الغنم في أجسادها سبيل من،(18/119)
أجل أن الشعر يغشاها فتغيب السمة أجاز أن توسم في آذانها للحاجة إلى سماتها، والمعنى في هذا بين.
[تفسير الصلاة الوسطى]
في تفسير الصلاة الوسطى وسئل مالك عن تفسير هذه الآية فيما كانت تكتب عائشة وحفصة: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، أهي صلاة العصر أو غير صلاة العصر؟ قال: بل هي غير صلاة العصر.
قال محمد بن رشد: فيما جاء عن عائشة وحفصة من أن كل واحدة منهما أملت على كاتب مصحفها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر - بالواو على العطف - دليل واضح في أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر كما قال مالك، والذي ذهب إليه أنها الصبح، ودليله عن ذلك أن قبلها صلاتين من الليل مشتركتي الوقت وبعدها صلاتين من النهار مشتركتي الوقت، وهي واسطة فيما بين ذلك منفردة بوقتها لا يشركها فيه غيرها من الصلوات؛ وأيضا فإنها صلاة يضيعها الناس كثيرا لنومهم عنها وعجزهم عن القيام إليها، فخصت بالتأكيد لهذه العلة. وقد قيل إنها العصر، وهو قول أكثر أهل العلم.
والحجة لهم ما روي من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم نارا» كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي الصلاة التي فتن عنها نبي الله سليمان بن داوود - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - حتى توارت الشمس(18/120)
بالحجاب، قال الله عز وجل: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 31] {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] إلى قوله {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] وقال من ذهب إلى هذا في قراءة عائشة وحفصة: وصلاة العصر - بالواو - إن معنى ذلك وهي صلاة العصر، كقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وقد روي عنها والصلاة الوسطى صلاة العصر - بغير واو - على البدل.
وقد قيل إنها الظهر بدليل أنها تصلى في وسط النهار، وليس ذلك بصحيح، لأن لفظ وسطى إنما يحتمل أحد معنيين: إما موسطة بين أخواتها من الصلوات، وإما فاضلة، من قولهم كان فلان وسط القوم أي أفضلهم. قال الله عز وجل: {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي خيارا عدولا. وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي أعدلهم وأفضلهم {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] .
وقيل: إنها المغرب بدليل أنها ثلاث ركعات لا نظير لها من الصلوات.
وقيل: إنها الجمعة. ورأيت لبعض العلماء أنها العتمة فيما أظن، وهذا كله، والله أعلم، على أن الله خصها بالذكر وأبهمها ليكون ذلك سببا للمحافظة عليها كلها كليلة القدر، وبالله التوفيق.(18/121)
[السلام بين الركعتين والركعة في الوتر]
في السلام بين الركعتين والركعة في الوتر قال مالك: بلغني أن معاذا القارئ كان يوتر ويسلم في ركعتين.
قال محمد بن رشد: اختلف الناس في الوتر، فقيل إنها ركعة واحدة، وقيل: إنها ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، وقيل: إنها ثلاث ركعات يسلم في الاثنتين منهن وفي أخراهن على ما جاء عن معاذ في هذه الحكاية. وذهب مالك إلى أنه ركعة واحدة عقب شفع أدناه ركعتان على ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عمر أنه قال: «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى» . وقد جرى به العمل عندنا بقرطبة على قديم الزمان في الجامع وفي سائر المساجد في رمضان على ما جاء عن معاذ، وبالله التوفيق.
[ما يستحب من تواضع الخلفاء]
فيما يستحب من تواضع الخلفاء قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا قدما من سفر ودنيا من المدينة أردفا خلفهما غلامين. فقيل له فما الذي ترى أنهما أرادا بذلك؟ قال: التواضع في رأيي وأن لا يكونا كغيرهما من الملوك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين: من تواضع لله رفعه الله وبه التوفيق.(18/122)
[الصلاة في ثوب واحد]
قال مالك: ولقد حدثني نافع أن عبد الله بن عمر كساه ثوبين، قال فدخل علي وأنا أصلي في ثوب واحد، فقال له: فأين ثوبك؟ فقال له: تركته، فقال: فخذ ثوبك فإن الله أحق من تجمل له.
قال محمد بن رشد: قد تقدم الكلام على هذا مستوفى في صدر رسم من مرض وله أم ولد، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[العمل أثبت من الأحاديث]
في أن العمل أثبت من الأحاديث قال مالك: أدركت بعض أهل العلم ممن كنت أقتدي به وهو يقول: إني لأراه ضعيفا لمن يخبر بالشيء ويقول حدثني فلان، فلا يعجبني ما قال، لأن المعنى في ذلك من الأحاديث.
قال محمد بن رشد: قوله إني لأراه ضعيفا لمن يخبر بالشيء، أي بالشيء فيما استمر عليه العمل فيعوض ذلك بما عنده من الأحاديث. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[الحض على من يصحب ويستشار]
في الحض على من يصحب ويستشار وحدثني عمر بن الخطاب قال: لا تصحب فاجرا لكي لا تتعلم من فجوره، ولا تفش إليه سرك، وشاور في أمرك الذين يخافون الله. قال مالك: وأخبرني رجل عن ابن سيرين أنه نزل به(18/123)
شيء في خاصته وأمر رجلا أن يلقى فلانا وفلانا ويستشيرهم له في ذلك وأمره ألا يستشير غيرهما، فقلت لمالك: رجاء علم ذلك عندهما؟ قال: بل رجاء أن يتوقع في ذلك الأمر لفضلهما فرجاء بركة ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه لا ينبغي لأحد أن يصحب إلا من يقتدى به في دينه وخيره، لأن قرين السوء يردي ويندم على اتخاذه خليلا. قال الله عز وجل: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [فصلت: 25] الآية، وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] الآية. وقيل إن هذه الآية نزلت في أبي بن خلف، كان يأتي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا باتباعه يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، هو عقبة بن أبي معيط، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا. وقد قال الحكيم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتدي
ولا ينبغي لأحد أن يستشير في شيء من أموره إلا من يخاف الله من أهل الثقة والأمانة مخافة أن يغشه ولا ينصحه. وينبغي له أن يتوخى في ذلك أهل الفضل والدين تبركا بهم ورجاء أن يوفقوا فيما يشيرون به عليهم بفضلهم، وبالله التوفيق.
[سن النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر]
في سن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأبي بكر وعمر قال مالك: بلغني أن أبا بكر وعمر بلغا من السن سن النبي(18/124)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توفى وهو ابن ستين سنة، وأبو بكر وعمر ابني ستين سنة.
قال محمد بن رشد: قد ذكر البخاري من رواية الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين. وقد روى حميد عن أنس قال: توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن خمس وستين سنة. وروى عن ربيعة في الموطأ: أنه توفي وهو ابن ستين سنة كما قال مالك في هذه الرواية. واختلفت الرواية في ذلك أيضا عن ابن عباس فروي عنه أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين، وروي عنه أنه توفي وهو ابن خمس وستين سنة. ولم يختلف أهل العلم بالأثر والسير في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولد عام الفيل إذ ساقته الحبشة إلى مكة يهدمون البيت.
واختلف في سنه يوم نُبِّئَ، فقيل أربعون، وقيل ثلاث وأربعون. واختلف أيضا في مقامه بمكة بعد أن نُبِّئَ إلى أن هاجر منها إلى المدينة، فقيل عشر سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة.
فمن قال إنه نُبِّئَ وهو ابن أربعين وإنه أقام بمكة عشر سنين قال: إنه توفي وهو ابن ستين؛ ومن قال إنه نُبِّئَ وهو ابن ثلاث وأربعين وأقام بمكة عشر سنين، أو إنه نُبِّئَ وهو ابن أربعين وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قال: إنه توفي وهو ابن ثلاث وستين. والرواية بأنه توفي وهو ابن خمس وستين سنة تقتضي أنه نُبِّئَ وهو ابن أكثر من أربعين وأنه أقام بمكة أكثر من عشر سنين. وأصح ما في هذا، والله أعلم، أنه توفي وهو ابن ستين سنة على ما روى(18/125)
ربيعة عن أنس في الموطأ، بدليل ما روي عن عائشة أنها كانت تقول: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة ابنته في مرضه الذي مات فيه مما سارها به وأخبرت به عائشة بعد وفاته، قالت عائشة: أخبرتني أنه أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله وأخبرني أن عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبا على ستين» . وعن زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» لأن ما قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مبلغ سنه يقضي بصحة قول من قال من أصحابه في ذلك كقوله، وبالله التوفيق.
[ثناء مالك على سليمان بن يسار وعبيد الله بن عتبة بن مسعود]
في ثناء مالك على سليمان بن يسار وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وفي بر العالم وخدمته قال مالك: كان سليمان بن يسار من علماء أهل هذه البلدة بالسنين، ولقد كان يكون في مجلسه، فإذا كثر الكلام فيه قام منه وإنه لمجلسه، ولقد كان الناس يحبون الخلوة والانفراد من الناس، ولقد كان أبو النضر يفعل ذلك في مجلس ربيعة، كان يأتي ربيعة فإذا كثر الناس وكثر الكلام قام.
قال مالك كان عبيد الله بن عتبة بن مسعود من علماء الناس، وكان رجلا إذا دخل في صلاته فقعد إليه أحد لم يقبل عليه حتى يفرغ من صلاته على نحو ما كان يريد من طولها، وأن علي بن أبي حسين كان من أهل الفضل، وكان ربما جاءه فجلس إليه فيطول في(18/126)
صلاته ولم يلتفت إليه، فقال له علي بن حسين وهو من هو منه، فقال لا بد لمن طلب هذا الأمر أن يعنى به. وقد كان ابن شهاب يصحب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود حتى إن كان لينزع له الماء.
قال محمد بن رشد: كان سليمان بن يسار يقوم من مجلسه إذا كثر الكلام فيه، لأن كثرة الكلام إن كان في العلم خفي معه الصواب. والمراء في العلم لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته؛ وإن كان في غير العلم فهو اللغط - الذي ينبغي أن يتنزه عنه. وإنما كان عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود لا ينصرف من صلاته لمن يجلس إليه حتى يتمها على ما كان نوى من طولها، لأنه إذا كان نوى قدرا من الطول في الصلاة انبغى له أن لا يرجع عما نواه من ذلك إلا لعذر، لأنه شيء وعد الله عز وجل به من نفسه فلا ينبغي لأحد أن يخلف وعده، فإن فعل فقد بخس نفسه حظها، وإن كان لا إثم عليه في ذلك ولا حرج، لأن الذي يجب عليه إنما هو أن يتمها ولا يقطعها لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وقد قال في هذا المعنى فيمن افتتح صلاة النافلة قائما هل له أن يتمها جالسا، فأجاز ذلك ابن القاسم ولم يجزه له أشهب، وبالله التوفيق.
[تواضع الأمراء وما يستحب من فعل الخير]
في تواضع الأمراء وما يستحب من فعل الخير قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعثمان بن عفان كانا ينزلان بالمعرس، فإذا دنوا ليدخلا المدينة لم(18/127)
يبق أحد منهم إلا أردف غلاما خلفه، وكان عمر وعثمان يردفان، فقلت له: يا أبا عبد الله إرادة التواضع؟ قال: نعم، والتماس أن يحمل الراجل، وذكر ما أحدث الناس من أن يمشوا غلمانهم وعاب عليهم ذلك.
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع الأمراء، ومن تواضع لله رفعه الله، وترك احتقار يسير الأجر، لقول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . وقد مضى هذا فوق هذا، وبالله التوفيق.
[أول من استقضى]
في أول من استقضى وسئل مالك من أول من استقضى؟ فقال معاوية بن أبي سفيان، فقيل له: فعمر؟ فقال لا، فقال له رجل من أهل العراق: أفرأيت شريحا؟ قال: كذلك يقولون. ثم قال لهم: كيف يكون هذا أيستقضى بالعراق ولا يستقضى بغيرها؟ قالوا له: أما مكانه فكان يجري، قال فالشام واليمن وغير ذلك من البلدان لم يستقض فيها واستقضى بالعراق، قال: ليس كما تقولون.
قال محمد بن رشد: هذا بين من قول من قال إن معاوية لم ينقص قاضيا، وهو نحو ما مضى في رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس، وخلاف ما يدل عليه ما تقدم في رسم طلق بن حبيب. وقد مضى الكلام على ذلك في الموضعين.(18/128)
[لم يفرض للمولود حتى يفطم]
في أن عمر كان لا يفرض للمولود حتى يفطم قال مالك: كان عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، فسمع ليلة بكاء صبي فقال: ما له؟ فقالوا: أرادوا فطامه، فقال عمر: كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض للمولود بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في المدونة أكمل منها هاهنا: قال كان عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، فمر ليلة فسمع صبيا يبكي فقال: مالكم لا ترضعونه؟ فقالوا: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم، وإنا فطمناه، فقال عمر: قد كدت والذي نفسي بيده أن أقتله، ففرض من ذلك اليوم للمولود مائة درهم. والمعنى في هذا بين منه فضل عمر وإشفاقه على رعيته وتوسعته عليهم في العطاء، وبالله التوفيق.
[حمل عمر وعثمان الدرة والنهي عن القصص]
في حمل عمر وعثمان الدرة، والنهي عن القصص وفي أول من جعل المصحف وجعل القاضي قال مالك: كان عمر وعثمان يحملان الدرة، فقيل له: لم؟ قال: يضربان الناس. قال مالك: ولقد بلغني أن عثمان مر بقاص يقص لا أدري تميم يقص أو غيره، فقال له: غدوة وعشية وعشاء قال: فضربه بالدرة وأنكر القصص [الذين] في المساجد. قال: إن أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف، وأول من جعل القاضي معاوية.(18/129)
قال محمد بن رشد: إنما كان عمر وعثمان يحملان الدرة تواضعا منهما ليؤدبا بها بأنفسهما من استحق الأدب، كما فعل عثمان بالقاص الذي أكثر القصص وذلك خلاف السنة، فقد «كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يتخول الناس بالموعظة مخافة السآمة عليهم» . وقوله: وأنكر القصص الذين في المساجد إنما هو من قول مالك في الحكاية لا من قول عثمان.
وقوله إن أول من جعل مصحفا، يريد أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح بالمسجد مثلما يصنع عندنا إلى اليوم. وقد مضى الكلام قبل هذا بيسير فيمن أول من استقضى، وبالله التوفيق.
[كراهة التمضمض في المسجد]
في كراهة التمضمض في المسجد قال مالك وذكر حديث القاسم بن محمد أن رجلا تمضمض وهو صائم والقاسم ينظر إليه ثم مجه في المسجد، وهو شيء يفعله الناس أن يتمضمضوا قبل أن يفطروا، فعاب ذلك عليه. فقيل له إنه بلغني فيه ما هو شر منه وكأنه يريد أن يحاجه، فقال القاسم: إن ذلك ما لا يجد الناس منه بدا. ثم قال مالك: وليس الشيء الذي لا يجد الناس منه بدا مثل الذي يجدون منه بدا.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين، لأن الله عز وجل قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] فينبغي أن ترفع وتنزه من أن يلقى فيها شيء مما يستقذر وإن كان طاهرا، فلا يتمضمض ولا يتنخم فيها ولا يبصق فيها. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(18/130)
«التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن تواريه» «ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل القملة في المسجد وأمر بإخراجها منه» فلا يقتل الرجل القملة في المسجد ولا يطرحها فيه، فإن قتلها أخرجها منه ولم يدفنها فيه لنجاستها، بخلاف التفل. وقتل البرغوث فيه أخف، وبالله التوفيق.
[الصلاة في المقبرة]
في الصلاة في المقبرة
وسئل مالك عن الصلاة في المقبرة التي قد درست، قال: لا بأس بذلك. قيل له: فبين القبور على الأرض؟ قال: لا بأس بذلك، إنما هي مثل غيرها من الأرضين. قال ابن القاسم: ولا أرى بأسا أن تجمع الصلاة في وسط القبور المكتوبة وغيرها. قال ابن القاسم: وقد أخبرني مالك أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يصلون في المقبرة.
قال محمد بن رشد: لما سئل مالك عن الصلاة في المقبرة التي قد درست فقال: لا بأس بذلك، فقيل له: فبين القبور على الأرض، أي إذا لم تكن دارسة، قال: لا بأس بذلك إنما هي مثل غيرها من الأرضين. فالصلاة في المقابر التي للمسلمين على ظاهر هذه الرواية وما جاء في المدونة جائزة، عامرة كانت أو دارسة، وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة. وسواء على ظاهر هذه الرواية كان فيها نبش أو لم يكن فيها نبش. وقال عبد الوهاب: إنما تجوز الصلاة فيها إذا لم يكن [فيها] نبش. والاختلاف في هذا جار على الاختلاف في الميت هل ينجس بالموت أم لا، وقد مضى الكلام على هذا(18/131)
مستوفى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز. والنهي الوارد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن الصلاة في المقبرة، من أهل العلم من لا يصححه، ومنهم من يصححه ويحمله على عمومه في جميع المقابر، ذهب إلى هذا بعض أصحاب الحديث، ورأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - العمل مقدما عليه فقال: قد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلون في المقابر، على أصله في أن العمل مقدم على أخبار الآحاد. وقال ابن حبيب في النهي معناه في مقابر المشركين لأنها من حفر النار، وقوله أولى الأقوال، لأن العموم يحتمل الخصوص، فيخصص من عموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المقابر مقابر المسلمين بعمل الصحابة، ويبقى الحديث محكما في مقابر المشركين. فإن صلى رجل في مقابر المسلمين وفيها نبش أعاد في الوقت على القول بأن الميت ينجس، بالموت، وإن صلى في مقابر المشركين العامرة أعاد في الوقت وبعده، جاهلا كان بأن الصلاة لا تجوز فيها أو عالما بذلك، وإن كان ناسيا أو لم يعلم بأنها مقبرة المشركين أعاد في الوقت على حكم المصلي بثوب نجس أو على موضع نجس، لأنها تنجس بعمارتهم. هذا معنى قول ابن حبيب في الواضحة؛ وإن كانت دارسة فلا إعادة عليه، وبالله التوفيق.
[ما كتب به عمر بن عبد العزيز من كسر معاصر الخمر]
فيما كتب به عمر بن عبد العزيز من كسر معاصر الخمر قيل لمالك: بلغك أن عمر بن عبد العزيز كتب في كسر معاصر الخمر؟ قال: نعم، قيل: معاصر المسلمين وأهل الذمة؟ قال: لا أرى ذلك إلا في معاصر المسلمين.
قال محمد بن رشد: قوله في أن المعاصر التي كتب عمر بن عبد العزيز أن تكسر لا أراها إلا في التي للمسلمين صحيح، لأن معاصر أهل(18/132)
الذمة لا يجب كسرها عليهم، لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعون من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين. وقد مضى هذا في هذا الرسم [من هذا السماع] من كتاب السلطان وفي رسم القبلة منه، وبالله التوفيق.
[بعض ما يحكى عن عيسى ابن مريم]
فيما يحكى عن عيسى ابن مريم أنه كان يقول وحدثني العتبي عن عيسى بن دينار عمن حدثه أن عيسى ابن مريم كان يقول: إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولن تبلغوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، فطوبى لمن كان نظره تعبدا ونطقه تذكرا وصمته تفكرا.
قال محمد بن رشد: هذا كله كلام صحيح قائم من كتاب الله عز وجل. وقوله: لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون قائم في غير ما آية من كتاب الله عز وجل، من ذلك قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وقوله ولن تبلغوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، قائم من غير ما آية أيضا، من ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى قوله {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى قوله {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] . وأمر الله عز وجل بالاعتبار بمخلوقاته في غير ما آية من كتابه فقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقال(18/133)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ومن مثل هذا كثير. وأمر بالتفكر فقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .
انتهى السادس والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.(18/134)
[كتاب الجامع السابع] [ترك الكلام في المشكلات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما اللهم عونك.
كتاب الجامع السابع ومن كتاب قطع الشجر في أرض العدو، وفي ترك الكلام في المشكلات قال ابن القاسم: قال مالك كان الربيع بن خيثم يقول: ما علمت فقله، وما استؤثر عليك بعلمه فكله إلى عالمه.
قال محمد بن رشد: هذا أخذه، والله أعلم، من قوله عز وجل في المتشابهات {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] . وقد اختلف في المتشابهات التي عناها الله عز وجل بقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فقيل: هي ما استأثر الله عز وجل بعلمه مما لا سبيل لأحد إلى معرفته، نحو الخبر عن وقت نزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك مما لا يعلمه أحد إلا الله. وكذلك الحروف المقطعة مثل الم، والمص، وما أشبه ذلك. فعلى هذا القول لا يعلم تأويل المتشابهات إلا الله، ويكون الوقف عند آخر قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وقيل بل المتشابهات المشكلات من الأحكام(18/135)
التي لا نص فيها في الكتاب، وإنما جاءت فيه مجملة غير مفسرة ولا مبينة. فعلى هذا يعلم الراسخون في العلم تأويل المتشابهات بما نصب الله عز وجل [لهم] من الأدلة على معرفتها، وبينه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منها، لأن الله عز وجل يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] والمعنى في ذلك أنه عز وجل نص على بعض الأحكام وأحال على الأدلة في سائرها، فعلى هذا يكون الوقف في الآية عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون مع العلم بتأويله {آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] . وقد مضى القول في تفسير هذه الآية في رسم البز، وبالله التوفيق.
[إخبار الرجل عن نفسه بما فعله من طوافه على نسائه]
في جواز إخبار الرجل عن نفسه بما فعله من طوافه على نسائه وقال مالك: قدم ابن عمر من سفر، فلما أصبح أخبرهم أنه طاف من ليلته على إحدى عشرة امرأة.
قال محمد بن رشد: هذا جائز أن يذكره الرجل على سبيل الشكر لله بما منحه الله من الصحة وأعطاه من القدرة على الاستمتاع الذي يلذ به ويؤجر عليه، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عطاء بن يسار في قصصه]
قال مالك: كان عطاء بن يسار رجلا كثير الحديث، فجلس(18/136)
إليه أصحاب له، وكان رجلا قاصا، وربما ترك أصحابه ومجلسه وجلس إلى غيرهم، فإذا قالوا له: لم تركتنا؟ قال: ما تركتكم ملالة لكم ولكن لتستريحوا وتتحدثوا بينكم ولا تملوا.
قال محمد بن رشد: هذا كان عطاء يفعله لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يتخول الناس بالموعظة مخافة السآمة عليهم» وبالله التوفيق.
[وجوب حمد الله على كل حال]
في وجوب حمد الله على كل حال وفي قول أبي الدرداء في شداد بن أوس قال مالك: دخل أبو الدرداء على رجل وهو يموت، فجعل الرجل يحمد الله، فقال له أبو الدرداء قد أصبت، إن الله إذا قضى أمرا أحب أن يرضى به. قال مالك قال أبو الدرداء: إن الله يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم، ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم، وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن آتاه الله العلم والحلم. قال مالك: وكان أبو يعلى ابن عم حسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال محمد بن رشد: قول أبي الدرداء للذي سمعه يحمد الله وهو يموت أصبت إن الله يحب إذا قضى أمرا أن يرضى به من حكمه التي هو موصوف بها. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيه: «عويمر(18/137)
حكيم أمتي» فهو من الفقهاء العقلاء الحكماء، شهد ما بعد أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحدا. وأمره عمر بن الخطاب على القضاء، وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب. وقيل بل استقضاه عثمان، وتوفي في خلافة معاوية قبل موته بسنتين. ومحبة الله عز وجل للشيء ترجع إلى إرادته مثوبة العبد عليه. وقال ابن عبد البر: لم يكن أبو يعلى شداد بن أوس ابن عم حسان بن ثابت كما قال مالك، وإنما كان ابن أخيه، وبالله التوفيق.
[صفة الريح التي أرسل الله على عاد]
في صفة الريح التي أرسل الله على عاد قوم هود قال مالك: حدثني زيد بن أسلم قال: فتح على قوم هود من الريح مثل حلقة الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض أو نحو ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق والسداد.
[كراهية طول البناء]
في كراهية طول البناء قال مالك: مر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على منزل طويل البناء، فلما رآه طويل البناء جلس في ظله حتى جاء صاحبه فقال له: ما حملك على أن أطلت هذا البناء؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أطلته أشرا ولا رياء غير أني كنت ببلد يطيلون البناء فاتخذت مثله، قال: أظن الأمر على ما قلت، ولكن أقصره لا يتأسى بك أحد حتى ترده مثل الناس.
قال محمد بن رشد: التطاول في البنيان مكروه، وقد جاء أنه من(18/138)
أشراط الساعة، وقد مضى الكلام على ذلك في رسم أخذ يشرب خمرا، ومضى الكلام في إنكار عمر بن الخطاب على أبي الدرداء ما بناه بحمص في رسم شك في طوافه ورسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، فلا وجه لإعادة شيء من ذلك،. وبالله التوفيق.
[أول من اضطرب من الأئمة البناء]
في أن عثمان أول من اضطرب من الأئمة البناء قال مالك: أول من اضطرب من الأئمة البناء عثمان بن عفان، وقال: إني أستحيي من الغسل فأحب أن أتخذ ما يكنني من ذلك.
قال محمد بن رشد: معناه أنه أول من اضطرب البناء من الأئمة في سفره إلى الحج وغيره، وبالله التوفيق.
[لم يعذب الله قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم]
في أن الله لم يعذب قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم قال مالك: لم يعذب الله قوما إلا نجى منهم من يخبر عنهم، قال: فنجت امرأة من قوم عاد يقال لها: هريمة فسئلت: أي عذاب الله أشد؟ فقالت: كل عذاب الله شديد، وسابقة الله ليلة لا ريح فيها، قالت: والله لقد رأيت العير بأحمالها ما بين السماء والأرض.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والتكلم عليه في أول رسم من السماع فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.(18/139)
[ما جاء في صفة البعث في القبور]
قال مالك: بلغني أنه إذا كان قبل الساعة أمطرت السماء أربعين ليلة حتى تنفلق الأرض عن الهام كما تنفلق عن الكمأة، قال والهام: رؤوس الناس.
قال محمد بن رشد: ليس في هذا ما يخفى فيحتاج إلى بيانه، وبالله التوفيق.
[ما جاء في كثرة قوم نوح]
قال مالك: بلغني أن قوم نوح ملئوا الأرض حتى ملئوا السهل والجبل، فما يستطيع هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء ولا هؤلاء أن ينزلوا إلى هؤلاء، فلبث نوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ينبت الشجر مائة عام لعمل السفينة ثم جففها مائة عام وقومه يسخرون منه في ذلك إذا رأوه يصنع ذلك حتى كان من قضاء الله عز وجل فيهم ما كان.
قال محمد بن رشد: جاء في التفسير أن الله عز وجل لما أوحى إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] دعا فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية وقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 27] أي وبوحينا {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38] وكان يصنع بيده فيقولون له استهزاء به كنت نبيا فصرت(18/140)
نجارا، قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] ، أي انبعث الماء منه، وفي التنور غير قول: قيل عين ماء كانت بالجزيرة يقال لها التنور، وقيل كان التنور في أقصى داره، وقيل التنور أعلى الأرض وأشرفها. {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] ، منهم، أي الغضب وهو ابنه الذي غرق، {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود: 40] ، قيل أربعون رجلا وأربعون امرأة، وقيل: لم ينج معه في السفينة من أهله إلا امرأته وثلاثة بنين له: سام وحام ويافث ونساؤهم، فجميعهم ثمانية، فسام أبو العرب ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش، وبالله التوفيق.
[قول عبد الوهاب بن بخت]
في قول عبد الوهاب بن بخت قال مالك: كان عبد الوهاب بن بخت له فضل وصلاح يقول: ما أحب أن أسير ليلة في طلب دنيا لا يعنيني غيرها وأن لي الدنيا.
قال محمد بن رشد: إنما كان يقول ذلك، والله أعلم، لقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] ، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدي المرضي وحسن الخلق]
فيما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهدي المرضي وحسن الخلق قال مالك: «ما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما» .(18/141)
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في الموطأ بكماله لمالك عن هشام عن عروة عن عائشة قالت: «ما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها» .
قال محمد بن رشد: «سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن خلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كان خلقه القرآن» فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختار إذا خير في أمرين أيسرهما، لقول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ودين الله يسر، والحنيفية سمحة. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى شدائده» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة» .
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينتقم لنفسه لقول الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] . ومن هذا في القرآن كثير. وقد كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينتقم لنفسه لو شاء لكنه تأدب بأدب الله عز وجل في ترك الانتقام لنفسه، وهو في ذلك بخلاف غيره من الأمراء والخلفاء والقضاة والحكام، لا يجوز لأحد منهم أن يحكم لنفسه على أحد بحد ولا(18/142)
أدب ولا مال، بل لا يجوز له أن يحكم بشيء من ذلك على أحد لأحد ممن لا تجوز شهادته له من أب أو ابن أو زوجة، ولا على من بينه وبينه عداوة وعلى أجنبي، وبالله التوفيق.
[صاحب الشمال يكتب ما لا يكتب صاحب اليمين]
في أن صاحب الشمال يكتب ما لا يكتب صاحب اليمين
قال: وحدثني عيسى بن دينار عن ابن وهب أن رجلا كان يسوق حمارا فعثر فقال له: تعست، فقال صاحب اليمين ما هي بالحسنة فأكتبها، وقال صاحب الشمال ما هي بالسيئة فأكتبها، فنودي صاحب الشمال أن اكتب [كل] ما ترك صاحب اليمين.
قال محمد بن رشد: في قول صاحب اليمين ما هي بالحسنة فأكتبها وقول صاحب الشمال ما هي بالسيئة فأكتبها دليل على أنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات، وأما المباح الذي ليس بسيئة ولا حسنة فلا يكتبه صاحب اليمين ولا صاحب الشمال. فمعنى ما نودي به صاحب الشمال، والله أعلم، أن يكتب كل ما ترك صاحب اليمين فلم يكتبه من أجل أنه سيئة عنده، فصار صاحب اليمين هو القاضي على صاحب الشمال فيما يقول إنه سيئة. والتعس: السقوط، فالدعاء به على الحمار سيئة لا حسنة كما قال صاحب اليمين، وبالله التوفيق.
[ما يصاب به الأنبياء عليهم السلام]
فيما يصاب به الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قال ابن القاسم: حدثني سليمان بن القاسم أنه مات في(18/143)
مسجد الخيف، يريد مسجد منى، أربعة آلاف من الأنبياء ما قتلهم إلا القمل والجوع.
قال محمد بن رشد: هذا مما يصاب به الأنبياء ليجازوا بالصبر عليه والتسليم لأمر الله والرضا بقدره، وبالله التوفيق.
[ما يجوز للرجل من قسمة ماله بين ورثته في صحته]
ومن كتاب الرطب باليابس ما يجوز للرجل من قسمة ماله بين ورثته في صحته قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: بلغني أن سعد بن عبادة قسم ماله بين ورثته ثم غزا فمات وولدت جارية له غلاما لم يعلم به، فلما سمع أبو بكر ذلك انطلق إلى ابنه فقال له: إن سعد بن عبادة قسم ماله ولا علم له بهذا الحمل، وقد ولد له غلام ولا شيء له فقاسموه، فقال قيس بن سعد: هذا أمر شديد لم يكن ليرد أمر سعد، ولكن ما أعطاني فهو له فهذا خير له، فقال أبو بكر قد رضيت وإنما طلب ذلك طلبا وكان سعد صنع ذلك في صحة منه.
قال محمد بن رشد: وقول مالك وابن القاسم: وإنما طلب ذلك طلبا صحيح، لأنه إذا كان إنما فعل ذلك في صحته لا يدخل في ذلك الاختلاف فيمن نحل بعض أولاده دون بعض جميع ماله، لأنه فعل ما يجوز له من التسوية بين بنيه ولم يتعد إذ لم يعلم بالحمل.
[مرور المجتاز في المسجد]
ومن كتاب أوله السلف في الحيوان والطعام المضمون في مرور المجتاز في المسجد قال مالك: بلغني أن سالم بن عبد الله كان يمر بالمسجد ولا(18/144)
يركع فيه. قال مالك: ما زال ذلك من شأن الناس يمرون ولا يركعون. قال مالك: وقد بلغني أن زيد بن ثابت مر من المسجد ولم يركع، ثم رجع فكره أن يمر به الثانية، ولم يره يعجبه ذلك من فعل زيد في ترك المرور. فقال ابن القاسم: ولا أعلم إلا أني رأيت مالكا مر فيه ولم يركع.
قال محمد بن رشد: قوله عن زيد بن ثابت ثم رجع فكره أن يمر به الثانية، يدل على أنه لم يرجع عن قوله الأول إلا أنه يكره أن يمر به ولا يركع. وإنما كره أن يتكرر ذلك الفعل منه، فأباحه في المرة الأولى وكرهه في الثانية، خلاف قوله في المدونة إنه رجع في ذلك عن الإجازة إلى الكراهة. فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: الإجازة، والكراهة جملة من غير تفصيل، والفرق بين الأولى والثانية فيجوز في الأولى ولا يجوز في الثانية، وهو دليل قول زيد بن ثابت في هذه الرواية، وقد روى أشهب عن مالك نحو هذا القول، قال: سئل مالك عن مرور المرء في المسجد حين يخرج منه إلى حاجته ولا يركع فيه، قال: لقد كان يفعل ذلك، وإنه ليكره الإكثار منه. قيل له: فالمرة والمرتين؟ قال: أرجو ألا يكون به بأس، وهو القول الرابع، وبالله التوفيق.
[الركوع بعد صلاة الجمعة في المسجد]
في الركوع بعد صلاة الجمعة في المسجد قال مالك: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى يوم الجمعة انصرف ولم يركع» وإنه ليستحب للأمراء أن يفعلوا ذلك، أن يصلوا في منازلهم ركعتين إذا انصرفوا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في صدر رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(18/145)
[الدخول على أهل الحجر]
في الدخول على أهل الحجر وسئل مالك عن أهل الحجر يأتيهم الرجل هل ترى له بأسا؟ قال: إن كان يأتيهم ليعتبر ويتفكر فما أرى بذلك بأسا، وإن كان يأتيهم للتعجب والنظر فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[كراهة تعلم كتاب العجم وتعليمهم الخط]
في كراهة تعلم كتاب العجم وتعليمهم الخط قال مالك: أكره للرجل المسلم أن يطرح ابنه في كتاب العجم أن يتعلم الوقف كتاب العجمية، وأكره للمسلم أن يعلم أحدا من النصارى الخط وغيره.
قال محمد بن رشد: الكراهية في هذا كله بينة. أما تعليم الرجل ابنه كتاب العجم فللاشتغال بما لا منفعة فيه ولا فائدة له عما له فائدة ومنفعة، مع ما فيه من إدخال السرور عليهم بإظهار المنفعة في كتابهم والرغبة في تعلمه، وذلك من توليهم، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . وأما تعليم المسلم النصراني فلما فيه من الذريعة إلى قراءتهم القرآن مع ما هم عليه من التكذيب له والكفر به. وقد قال ابن حبيب في الواضحة: إن ذلك ممن فعله مسقط لإمامته وشهادته. وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان، وفي سماع أشهب من كتاب الجعل والإجارة، وبالله التوفيق.(18/146)
[الذي يذكر وهو في صلاة العصر أنه كان قد صلى]
في الذي يذكر وهو في صلاة العصر أنه كان قد صلى وسئل مالك عن الرجل يصلي العصر لنفسه ثم ينسى أنه صلى فيقوم فيصلي الثانية، فيركع ركعة ثم يذكر أنه قد صلى. قال: أرى أن يضم إليها أخرى، فقلت: يا أبا عبد الله أتكون صلاة بعد العصر؟ قال: قد كان المنكدر يصلي وقد كان عمر ينهى عن ذلك. وقد جاء فيها بعض ما جاء في الشيء إذا كان صاحبه لا يريد به خلاف السنة، وإنما كان على غير خلاف رأيت أن يفعل ذلك للذي جاء فيه من الرخصة، وإنما كره من ذلك ما كان صاحبه يتعمد به خلاف الحق.
قال محمد بن رشد: النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس نهي ذريعة، وإنما حقيقة الوقت المنهي عن الصلاة فيه عند الطلوع وعند الغروب. ألا ترى أن رجلين لو كان أحدهما قد صلى العصر والثاني لم يصلها لجاز للذي لم يصل العصر أن ينتفل ولم يجز ذلك للذي صلى والوقت لهما جميعا وقت واحد، فإنما نهي الذي صلى العصر عن الصلاة بعد العصر حماية للوقت المنهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام.
وروي عن المقدام بن شريح قال: «قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعني بعد الظهر والعصر، قالت: كان يصلي الظهر بالهجير ثم يصلي بعدها ركعتين ثم كان يصلي العصر ثم يصلي بعدها ركعتين. قال: فقلت: أنا رأيت عمر يضرب رجلا رآه يصلي بعد العصر، فقالت: لقد صلاهما ولكن قومك أهل اليمن قوم أهل طعام فكانوا إذا صلوا(18/147)
الظهر صلوا بعدها إلى العصر، فإذا صلوا العصر صلوا بعدها إلى المغرب فقد أحسن» .
فلما كان هذا الرجل الذي صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه قد صلى العصر في وقت ليس بمنهي عن الصلاة فيه لأن الصلاة فيه حرام وجب أن يتم ركعتين ولا يبطل عمله، لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فهذا وجه قول مالك والله أعلم.
ولو ذكر ذلك قبل أن يركع لكان الأظهر أن يقطع على قياس قوله في رسم أوله مرض بعد هذا. ولو ذكر قبل أن يركع من صلاة يصلى بعدها لجرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم وأشهب في كتاب الصيام من المدونة في الذي يظن أن عليه يوما من رمضان فيصبح صائما ثم يعلم أنه لا شيء عليه، وبالله التوفيق.
[كتب القرآن أسداسا وأسباعا]
في كتب القرآن أسداسا وأسباعا وسئل مالك عن القرآن يكتب أسداسا وأسباعا في المصاحف، فكره ذلك كراهة شديدة وعابه وقال: لا يفرق القرآن وقد جمعه الله، وهؤلاء يفرقونه، لا أرى ذلك.
قال محمد بن رشد: أنزل الله تبارك وتعالى القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شيئا بعد شيء حتى كمل الدين واجتمع القرآن جملة في الأرض كما أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوجب أن يحافظ على كونه مجموعا. فهذا وجه كراهية مالك لتفريقه، والله أعلم وبالله التوفيق.(18/148)
[السلام على أهل القدر]
في السلام على أهل القدر وسئل مالك عن أهل القدر أيسلم عليهم؟ قال: لا يسلم عليهم. قال ابن القاسم: وكأني رأيته يرى ذلك في أهل الأهواء كلهم ولم يبينه. قال: قال ابن القاسم: وذلك رأيي أن لا يسلم عليهم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يسلم على أهل القدر ولا على أهل الأهواء كلهم، يريد الذين يشبهون القدرية من المعتزلة والروافض والخوارج، إذ من الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أن معتقده كافر، ومنه ما هو هوى خفيف لا يختلف في أنه ليس بكفر. ويحتمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم على وجه التأديب لهم والتبري منهم والبغضة فيهم [لله تعالى] لا أنهم عنده كفار بمآل قولهم، ويحتمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم لأنهم عنده كفار بمآل قولهم، فقد اختلف قوله في ذلك: فله في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين ما يدل على أنهم كفار عنده بمآل قولهم، وله في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب منه ما يدل على أنهم ليسوا عنده بكفار، وذلك أنه قال فيهم: إنهم قوم سوء، فلا يجالسون ولا يصلى وراءهم.
وله مثل ذلك في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب في الواقفية والإباضية، لأنه سئل فيه عن الصلاة خلفهم، فقال: لا أحب، وعن السكنى معهم؟ فقال: ترك ذلك أحب إلي. وقد مضى في المواضع المذكورة الكلام على هذا مستوفى مشروحا مبينا فتركت ذكره هاهنا اكتفاء بذلك، وبالله التوفيق.(18/149)
[خطبة الرجل على خطبة أخيه]
في خطبة الرجل على خطبة أخيه وفي كتاب الطلاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطب أحد على خطبة أخيه» . وعن أبي الرجال عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مثله. وعن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة مثله.
قال محمد بن رشد: ليس هذا الحديث على ظاهره في العموم، ومعناه إذا ركنا وتقاربا وسميا الصداق، وهو قول ابن نافع، وظاهر قول مالك في الموطأ، وظاهر ما في رسم التسمية من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ وقيل: إذا ركنا وتقاربا وإن لم يسميا الصداق، وهو قول ابن حبيب، وحكاه عن ابن المطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب.
واختلف إن خطب الرجل على أخيه في الموضع الذي لا يجوز له فأفسد عليه وتزوج هو، فقيل: النكاح فاسد لمطابقة النهي له يفسخ قبل الدخول وبعده ويكون فيه الصداق المسمى، وقيل: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، وقيل: يمضي النكاح ولا يفسخ وقد حرج وأثم وظلم الذي أفسد عليه، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفره ويتحلل الرجل، فإن حلله وإلا ترك المرأة وطلقها، فإن لم يتزوجها الرجل تزوجها هو بعد إن شاء.
وكذلك لا يجوز للرجل أن يسوم على سوم أخيه في البيع، لأجل النهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم القسمة من سماع عيسى من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.(18/150)
[عزل الرجل]
في العزل وعن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يعزل.
قال محمد بن رشد: يحتمل أن يكون ابن عمر كان لا يعزل ولا يكره العزل، ويحتمل أن يكون كان لا يعزل لأنه يكره العزل وهو الأظهر، لأن ذلك معلوم من مذهبه. وقد اختلف الصحابة في ذلك فمن بعدهم، فمنهم من كرهه لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عنه فقال: «ذلك الوأد الخفي» ولما روي عنه من كراهة نزع الماء عن محله في العشرة الأشياء التي كان يكرهها.
والذي عليه جمهور الصحابة إباحة العزل، وقد ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فقال بعض من عنده: إن اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى، فقال علي بن أبي طالب: إنها لا تكون موءودة حتى تمر عليها التارات السبع، وتلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] إلى آخر الآية، فقال له عمر بن الخطاب: صدقت أطال الله بقاءك. ويقال: إن أول من قال في الإسلام أطال الله بقاءك عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في هذه الحكاية.
والذي عليه جمهور العلماء بالأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة إباحة العزل على «حديث أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء وأردنا أن نعزل فقلنا: نعزل ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: ما عليكم ألا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة(18/151)
إلا وهي كائنة» . فالرجل يعزل عن أمته بغير إذنها، ولا يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها ولا يعزل عن زوجته الأمة إلا بإذن مواليها، وقد قيل إنه لا يعزل عنها إلا بإذنها. وقال الشافعي: له أن يعزل عن زوجته الأمة بغير إذنها وبغير إذن مواليها.
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم قال مالك: بلغني أن رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارتحل من المدينة إلى مصر إلى رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأله عن حديث واحد عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى قبل هذا في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[الحض على التفقه في كتاب الله عز وجل]
في الحض على التفقه في كتاب الله عز وجل
قال مالك: كتب إلى عمر بن الخطاب من العراق يخبرونه أن رجالا قد جمعوا كتاب الله، فكتب لهم عمر أن افرض لهم في الديوان وأعطهم. قال: فكثر من يطلب القرآن، فكتب إليه من قابل إنه قد جمع القرآن سبعمائة رجل. قال عمر: إني لأخشى أن يسرعوا في القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين فكتب أن دعهم لا تعطهم شيئا.(18/152)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا يحتاج إلى تفسير، وبالله التوفيق.
[محبة الناس لابن عمر]
في محبة الناس لابن عمر قال: وحدثني عمير الأعرج عن مجاهد قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر، قال فكان الناس يتلقونه ويدعون له ويسلمون عليه ويحبونه. قال: فكان ابن عمر يضحك. قال: فلما انصرفنا قال ابن عمر [إن الناس] ليحبوني حتى لو كنت أعطيهم الذهب ما زادوا على ذلك.
قال محمد بن رشد: محبة الناس لعبد الله بن عمر من محبة الله على ما جاء في الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال لجبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» . وإذا أبغض الله العبد قال مالك: لا أحسب إلا أنه قال في البغض مثل ذلك.
[الغسل في الفضاء]
في الغسل في الفضاء وسئل مالك عن الغسل في الفضاء فقال: لا بأس بذلك، فقيل له: يا أبا عبد الله إن فيه حديثا، فأنكر ذلك وقال تعجبا ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ ورأيته يتعجب من الحديث إنكارا له.(18/153)
قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك الغسل في الفضاء إذا أمن أن يمر به أحد هو أن الشرع إنما قرر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون من سواهم من الملائكة، إذ لا تفارقه الحفظة الموكلون عليه منهم في حال من الأحوال. قال الله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] لهذا قال مالك تعجبا: ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرق في حق الملائكة بين الفضاء وغيره، فأنكر الحديث لما كان مخالفا للأصول، لأن الحديث إذا كان مخالفا للأصول فإنكاره واجب إلا أن يرد من وجه صحيح لا مطعن فيه فيرد إليها بالتأويل الصحيح.
وقد روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف» ويكره التجرد لغير ضرورة ولا حاجة في الفضاء وغير الفضاء، ففي رسالة مالك إلى هارون الرشيد: إياك والتجرد خاليا فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، وذكر في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حديثا، وبالله التوفيق.
[القصر والفطر في الغزو]
في القصر والفطر في الغزو
قال مالك: كان سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الأسود والمسور بن مخرمة بالشام، فدخل عليهم رمضان، فكان عبد(18/154)
الرحمن والمسور يصومان ويتمان، وكان سعد يقصر ويفطر، فقيل له تقصر وتفطر ويصومان ويتمان؟ فقال سعد نحن أعلم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنهم كانوا في الغزو ينوون الإقامة بموضعهم الذي كانوا فيه، فكان عبد الرحمن والمسور يتمان ويصومان لنيتهم الإقامة، وكان سعد يفطر ويقصر وإن نوى الإقامة لكونه في بلد العدو، إذ ليس على يقين من إقامته، إذ قد يأتي من الأمر ما يزعجهم عن موضعهم، وهذا هو مذهب مالك أن نية الإقامة في بلد العدو لا يعتبر بها، وبالله التوفيق.
[ولاء السائبة لجميع المسلمين فلا عاقلة له]
في أن ولاء السائبة لجميع المسلمين فلا عاقلة له قال مالك: حدثني أبو الزناد عن سليمان بن يسار أن سائبة كان يلعب مع ابن رجل من بني عائذ، فقتل السائبة ابن العايذي، فجاء أبوه إلى عمر بن الخطاب يطلب دية ابنه، فقال له عمر: ليس له موال، فقال له العايذي: أرأيت لو أن ابني قتله، فقال عمر ابن الخطاب إذا تخرجون ديته، فقال: فهو كالأرقم إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم.
قال محمد بن رشد: يروى العابذي والعايذي، والصواب والعايذي بالياء المعجمة باثنتين والذال المعجمة بالواحدة. ومعنى سائبة أنه كان أعتق سائبة، وكذلك وقع في الموطأ أن سائبة أعتقه بعض الحجاج. وفي هذا أن من أعتق عبده سائبة بأن يقول له: اذهب فأنت سائبة، أن ولاءه(18/155)
للمسلمين. وقد اختلف في عتق السائبة، فقيل: إنه جائز وقيل: إنه مكروه، وقيل: إنه غير جائز. فعلى القول بأنه جائز أو مكروه يكون ولاؤه للمسلمين، وعلى القول بأنه غير جائز يكون ولاؤه لمن أعتقه.
وقد قيل: إن من قال لعبده أنت سائبة لا يكون بذلك حرا إلا أن يريد الحرية. وقد مضى تحصيل هذا الاختلاف في آخر سماع أشهب من كتاب العتق. ويحتمل أن يكون هذا الرجل الذي قتل ابن العائذي أعتقه رجل من الحاج غير معروف فيكون ولاؤه لجمع المسلمين ولا تكون له عاقلة من أجل أنه لا يعرف معتقه، لا من أجل أنه أعتق سائبة، وهو الأظهر والله أعلم.
وقول أبي المقتول هو إذا كالأرقم يريد الحية التي إن تركتها لسعتك فقتلتك، وإن قتلتها قتلتك، يريد كما جرى للفتى الذي كان مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخندق وهو حديث عهد بعرس، فاستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحدث بأهله عهدا، فأتاها فوجدها قائمة بين الناس فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة، فقالت له: لا تعجل حتى ترى ما في بيتك، فدخل فإذا بحية منطوية على فراشه فركز فيها رمحه ثم خرج بها فنصبه في الدار، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتا، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الفتى أو الحية، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» وبالله التوفيق.
[كراهة الإمساك عن الكلام في الصيام]
في كراهة الإمساك عن الكلام في الصيام قال ابن القاسم: وحدث مالك عن نافع أن مولاة لصفية صمتت يوما لا تتكلم، فقالت لها صفية: تكلمي فإن هذا قد نهي عنه.(18/156)
قال محمد بن رشد: قول صفية محمول على أنها أخبرت بذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن قول "الصاحب نهينا عن كذا وكذا وأمرنا بكذا مما يدخل في المسند، لأن صفية هذه إن لم تكن صفية بنت حيي زوج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فهي صفية بنت أبي عمير الثقفية زوج عبد الله بن عمر، وهي صحابية روت عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وروى عنها نافع هذا مولى عبد الله بن عمر، ولا حجة في جواز ذلك بما في كتاب الله عز وجل من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] ، أي صمتا، {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، لأن ذلك كان من شرع بني إسرائيل، كان الرجل منهم إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام إلا من ذكر الله، وذلك منسوخ في شرعنا ممنوع فعله فيه بنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس أنه قال: «لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا من بعد ملك، ولا رضاع بعد الفطام، ولا يتم بعد احتلام، ولا نذر في معصية، ولا صمت إلى الليل، ولا وصال، ولا يمين للمرأة على زوجها ولا للولد على والده ولا للمملوك على سيده» الحديث وقع بكماله في المبسوطة.
وروي عن قتادة أنه قال: إنما كانت آية جعلها الله عز وجل لمريم - عَلَيْهَا السَّلَامُ - يومئذ. وإذا شئت رأيت امرأة سفيهة تقول: أصوم صوم مريم ولا نتكلم في صومها. وقد اختلف أهل التأويل في القائل لمريم {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] ، فمنهم من قال قاله لها الملك عن الله عز وجل،(18/157)
ومنهم من قال قاله لها ابنها عيسى: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - بدليل قوله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي} [مريم: 24] الكلام إلى آخره، لأن رجوع الفاعل المضمر من فناداها إلى أقرب مذكور في الآية وهو عيسى أظهر من رجوعه إلى الملك الذي هو أبعد مذكور منه فيها. وهذا على قراءة من قرأ فناداها من تحتها بالخفض في الحرفين جميعا، وأما على قراءة من قرأ من تحتها بالفتح في الحرفين جميعا فلا إضمار في الكلام، والمنادي عيسى ابن مريم بلا احتمال، وبالله التوفيق. لا شريك له.
[الاحتباء في صلاة النافلة]
في الاحتباء في صلاة النافلة قال مالك: بلغني عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب أنهما كانا يصليان محتبئين، يريد في النوافل.
قال محمد بن رشد: إلى هذا ذهب مالك فقال: لا بأس أن يصلي الرجل محتبئا في النافلة، وإن كان الاختيار عنده لمن صلى فيها جالسا أن يصلي متربعا كما يصلي في الفريضة إذا لم يقدر على القيام فيها، خلاف ما ذهب إليه زفر من أن جلوسه في موضع القيام كجلوسه في التشهد.
والذي ذهب إليه مالك أولى لوجهين: أحدهما: أن يفرق بين جلوسه في موضع الجلوس وبين جلوسه في موضع القيام، كما يفرق بين إيمائه للركوع وإيمائه للسجود بأن يجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع؛ والثاني: ما روي «عن عائشة أنها قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعا» وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أنه قال: «صلاة القاعد على(18/158)
النصف من صلاة القائم غير متربع» ليس بحديث صحيح، وما روي عن ابن مسعود من أنه قال: لأن أجلس على رضفتين أحب إلي من أن أتربع في الصلاة، يحتمل أن يكون معناه في التربع في الجلوس للتشهد. وبالله التوفيق.
[ما جاء في الذين قتلوا ببئر معونة]
ودعاء رسول الله على الذين قتلوهم
وحدثني عيسى بن دينار عن مالك قال: «دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الذين قتلوا أهل بئر معونة ثلاثين غداة يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله. قال أنس: فأنزل الله عز وجل في ذلك قرآنا ثم نسخ بعد ذلك بلغوا قومنا عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.» قال ابن القاسم: وسمعت في تفسير هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] {فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] إلى آخر الآية، وفي الحديث أنهم لما دخلوا الجنة قالوا: يا ليت قومنا يعلمون بما أكرمنا الله، فقال الله تبارك وتعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآية.
قال محمد بن رشد: جميع الأموات يحيون بعد موتهم لمسائلة منكر ونكير، ويعرض على كل واحد منهم مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل النار فمن أهل النار، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، يقال له:(18/159)
هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة: فالفرق بين الشهداء وبين أهل الجنة من سواهم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وينعمون على ما جاء في الحديث من أن أرواح الشهداء تسرح في ثمار الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وسائر أهل الجنة من المؤمنين - أحياء إلى يوم البعث، لا يرزقون ولا يتنعمون، وبالله التوفيق.
[نهي السُّؤَّال عن السؤَال في المسجد]
في نهي السُّؤَّال عن السؤَال في المسجد وسئل مالك عن السؤال الذين يسألون في المسجد ويلحون في المسألة ويقولون للناس قد وقفنا منذ يومين ويذكرون حاجتهم ويبكون، قال: أرى أن ينهوا عن ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لأن المساجد إنما وضعت للصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء لله عز وجل فينبغي أن ينهى فيها عما سوى ذلك من اللغط ورفع الصوت وسؤال السؤال الذين يلحون، لأن ذلك مما يشغل المصلين، وبالله التوفيق.
[ما جاء عن عمر بن الخطاب في قول الرجل لامرأته حبلك على غاربك]
فيما جاء عن عمر بن الخطاب في قول الرجل لامرأته حبلك على غاربك وسئل مالك عن حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حبلك على غاربك، فقال: قد قاله عمر بن الخطاب وأحلفه. قال مالك أما أنا فأرى أن قد بانت منه، ما يريد الذي قال: حبلك على غاربك إلا الطلاق، وما أراه يمسك شيئا. قال ابن القاسم: يريد مالك البتة. قال ابن القاسم وذلك رأيي إذا كان قد دخل بها. قال(18/160)
مالك: وإن لم يكن دخل بها نوي فإن لم تكن له نية فهي البتة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة أنه لا ينوى في هل أراد الطلاق أو لم يرده ولا في عدد الطلاق إلا إن كان لم يدخل بها. وقد وقع في بعض روايات العتبية من رواية أشهب عن مالك مثل هذا، زاد ولو ثبت عندي أن عمر بن الخطاب قال ذلك ما خالفته، ولكنه حديث جاء هكذا. وإنما قال فيه هذا لأنه عنده بلاغ مالك أنه بلغه أنه كتب إلى عمر بن الخطاب من العراق أن رجلا قال لامرأته حبلك على غاربك فكتب عمر بن الخطاب إلى عامله أن مره يوافني في الموسم فبينا عمر يطوف بالبيت إذ لقيه الرجل فسلم عليه فقال له عمر من أنت؟ فقال الرجل أنا الذي أمرت أن أجلب عليك، فقال له عمر أسألك برب هذه البنية ما أردت بقولك حبلك على غاربك؟ فقال الرجل لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صدقتك، أردت بذلك الفراق، فقال عمر بن الخطاب هو ما أردت. والظاهر من حديث عمر أنه نواه في الوجهين جميعا، لأنه لما قال أردت بذلك الفراق، قال له هو ما أردت. وليس بنص في واحد من الوجهين، إذ لا يدرى ما كان يقول له لو قال له لم أرد بذلك الفراق وإنما أردت بذلك وجه كذا وكذا لشيء يذكره مما يحتمله كلامه، وماذا كان يقول له لو قال أردت بذلك واحدة أو اثنتين لاحتمال أن يكون فهم من قوله أردت بذلك الفراق أنه أراد بذلك الفراق بتاتا ولذلك قال له: هو ما أردت.
فأما تنويته في هل أراد بذلك الطلاق أم لا فالذي يأتي على مذهب مالك وأصحابه أنه لا ينوى في ذلك لأنه من صريح كنايات الطلاق، كمن قال لامرأته: أنت بائنة مني ثم قال: إنما أردت أن بيني وبينها فرجة في الجلوس في ذلك الوقت، وكمن قال لها: أنت طالق ثم قال: إنما أردت أنها طالق من وثاق(18/161)
ولم تكن قبل ذلك في وثاق. وأما تنويته في عدد ما أراد من الطلاق فيتخرج ذلك على قولين في المذهب، إذ لا فرق في المعنى بين قوله حبلك على غاربك أو قد سرحتك لأنه إذا سرحها فقد ألقى حبلها على غاربها، وإذا ألقى حبلها غاربها فقد سرحها. وقد قالوا في سرحتك إنه ينوى في المدخول بها أو غير المدخول بها، فإن لم تكن له نية فهي ثلاث، وقيل: إنها واحدة في التي لم يدخل بها إذا لم تكن له نية.
[هبة الثواب]
في هبة الثواب قال مالك عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: من وهب هبة فهو أحق بهبته حتى يثاب بها.
قال محمد بن رشد: معناه في هبة الثواب، بدليل قوله في الموطأ: من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها.. وقد اختلف في هبة الثواب هل من حق الواهب أن يمسكها حتى يقبض ثوابها كالسلعة المبيعة التي له أن يمسكها حتى يقبض ثمنها، أوليس له ذلك ويلزمه أن يدفعها إليه ثم يطلبه بثوابها؟ فقيل من حقه أن يمسكها حتى يأخذ ثوابها، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب هذا في هذا الحديث؛ وقيل: ليس له أن يمسكها ويلزمه أن يدفعها ثم يطلبه بثوابها، وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب في حديث الموطأ. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم في هل تدخل الهبة بالعقد في ضمان الموهوب له أم لا، والقول في هذه المسألة مستوفى في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.(18/162)
[المبيت على ظهر المسجد]
في المبيت على ظهر المسجد قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يبيت على ظهر المسجد مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تبيت معه امرأة كراهية لذلك.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان أن لظهر المسجد من الحرمة ما لداخل المسجد، وبفعل عمر بن عبد العزيز هذا احتج مالك في المدونة في أنه لا يجوز لأحد أن يبني مسجدا ويبني فوقه بيتا يرتفق به، وقال: إنه يورث البنيان الذي تحت المسجد ولا يورث البنيان الذي فوقه، وبالله التوفيق.
[قبلة النبي عليه السلام ومصلاه في مسجده]
في قبلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومصلاه في مسجده قال مالك: ليس العمود المخلق قبلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولكنه كان أقرب العمد إلى مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقبلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سواء كان بين المنبر وبين جدار المسجد ممر الرحل مسجدا فقدمه عمر إلى موضع خشب المقصورة، ثم قدمه عثمان إلى موضعه الذي هو عليه، فلم يقدم بعد.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم نذر من هذا السماع من كتاب الصلاة أن مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو العمود المخلق خلاف قول مالك هاهنا، ورأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هناك صلاة النافلة في مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أفضل من الصلاة في سائر المسجد. قال: وأما الفريضة فيتقدم إلى أول الصف أحب إلي. وقد مضى القول على ذلك هنالك.(18/163)
وأما قوله إن قبلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة النبي " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سواء، فالمعنى في ذلك أن عمر بن الخطاب إذ زاد في قبلة المسجد جعل المحراب في الزيادة بإزاء المحراب القديم وفي قبلته غير مشرق عنه ولا مغرب، وأن المنبر قبل أن يزاد في قبلة المسجد كان بينه وبين جدار القبلة ما قاله، فلما زيد في قبلة المسجد لم ينقل المنبر عن موضعه فبعد عن جدار المسجد، وكذلك زاد بعده عن جدار القبلة إذ زاد عثمان أيضا في قبلة المسجد، وبالله التوفيق.
[الصلاة في سقائف المسجد فرارا من الحر]
في الصلاة في سقائف المسجد فرارا من الحر
قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يصلي إذا اشتد الحر في سقائف المسجد، يخرج من المقصورة إلى خارج يصلي فيه لموضع الحر، فقلت لمالك: أفترى بذلك بأسا؟ قال: لا بأس أن يخرجوا إذا كان في المسجد سعة لمن يصلي فيه إذا اشتد الحر.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من التوسعة في الصلاة بسقائف مكة فرارا من الحر، وقد مضى من القول على ذلك ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[من أحرم من التنعيم يسعى الأشواط الثلاثة]
في أن من أحرم من التنعيم يسعى الأشواط الثلاثة قال ابن القاسم: قال مالك: حدثني هشام بن عروة أن عبد الله بن الزبير أحرم من التنعيم وسعى الأشواط الثلاثة حين طاف(18/164)
بالبيت، قال مالك: وذلك رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك أن الرمل في الحج في الطواف الأول الذي يصل به السعي بين الصفا والمروة وفي العمرة، أحرم بهما من الميقات أو مما دونه سنة، واختلف قوله إن تركه أحد ناسيا أو جاهلا، فقال مرة إنه يعيد إن كان قريبا، فإن طال كان عليه الدم، وقال مرة لا يعيد وإن كان قريبا وعليه دم، ومرة لم ير عليه شيئا، وبالله التوفيق.
[اليمين مع شهادة المرأتين في الدين]
في اليمين مع شهادة المرأتين في الدين قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: تجوز شهادة المرأتين في الدين مع يمين صاحب الحق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن المرأتين عدل الرجل فيما تجوز فيه شهادتهن مع الرجل وهو المال، لقول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فكما يستحق المال على مذهب مالك ومن تبعه على القضاء باليمين مع الشاهد فكذلك يستحق باليمين مع الشاهدتين، وبالله التوفيق.
[دية عين الأعور]
في دية عين الأعور قال مالك: كان سليمان بن يسار وربيعة [بن أبي(18/165)
عبد الرحمن] يقولان في دية عين الأعور إذا فقئت عينه ألف دينار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن منفعة الأعور بعينه الواحدة كمنفعة الصحيح بعينيه جميعا، فوجب أن يكون له في عينه الباقية ما للصحيح في عينيه جميعا. وقد اختلف على قياس هذا في الأعور العين اليمنى يفقأ عين الصحيح اليسرى أو الأعور العين اليسرى يفقأ عين الصحيح اليمنى على ثلاثة أقوال: أحدها أنه ليس له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على شيء، والثاني أنه يخير بين أن يقتص أو يأخذ دية عينه خمسمائة دينار، والثالث أنه مخير بين أن يقتص أو يأخذ دية عين الأعور التي ترك ألف دينار. وقد مضى في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الجنايات توجيه كل واحد من هذه الأقوال، وبالله التوفيق.
[ترك حلق الشعر وتقليم الأظفار إذا أهل هلال ذي الحجة]
فيما جاء في ترك حلق الشعر وتقليم الأظفار إذا أهل هلال ذي الحجة
قال مالك: بلغني أن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تقول: إذا استهل ذو الحجة فلا يأخذ أحد من شعره ولا من أظفاره. قال مالك: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قول أم سلمة هذا مروي عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي» . وفي بعض الآثار عنها(18/166)
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» . وإنما لم ير بهذا بأسا لأنه عارضه عنده حديث عائشة إذ قالت ردا لقول ابن عباس: «من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي: ليس كما قال ابن عباس: أنا قلدت قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي ثم قلدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده [ثم بعث بها] فلم يحرم عليه شيء مما أحله الله له حتى نحر الهدي» لأنه إذا لم يحرم على الذي بعث بالهدي شيء مما أحله الله له حتى ينحر الهدي، فأحرى ألا يحرم على الذي يريد أن يضحي أو عنده ذبح يريد أن يضحي به شيء مما أحله الله له حتى يضحي. وقد جمع بين الحديثين بعض من ذهب إلى الأخذ بحديث أم سلمة بأن قال: معنى حديث عائشة أنه لم يحرم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء مما أحل الله له من أهله حتى نحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار عنها وحرم عليه ما سوى ذلك من حلق الشعر وقص الأظفار على ما جاء في حديث أم سلمة، وبالله التوفيق.(18/167)
[امتشاط الحاد بالحناء واكتحالها بالصبر]
في امتشاط الحاد بالحناء واكتحالها بالصبر قال مالك: بلغني أن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تنهى أن تمتشط الحاد بالحناء، وتكتحل بالصبر.
قال محمد بن رشد: إنما كانت أم سلمة تنهى الحاد عن الاكتحال بالصبر لما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وهي حاد على أبي سلمة وقد جعلت على عينها صبرا، فقال ما هذا يا أم سلمة؟ فقالت: إنما هو صبر يا رسول الله، قال: اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار، فقالت لامرأة حاد على زوجها اشتكت عينها فبلغ ذلك منها اكتحلي بكحل الجلاء بالليل وامسحيه بالنهار» وقالت: تجمع الحاد رأسها بالسدر والزيت، وهو الذي ذهب إليه مالك أنها لا تمتشط إلا بالسدر وما أشبهه مما لا يختمر في رأسها وبالله التوفيق.
[الترغيب في السواك]
في الترغيب في السواك قال: وحدثني عن محمد بن يحيى بن حبان قال: أدركت رجالا من أسلم كانت معهم أسوكة يستاكون بها لكل صلاة.
قال محمد بن رشد: السواك مرغب فيه ومندوب إلية لقول النبي(18/168)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عليكم بالسواك» وقوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» . وقد قال أبو هريرة: «لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء» . والأصبع يجزئ من السواك إذا لم يجد سواكا، قاله مالك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. وقد مضى هناك القول على وجه ذلك وبالله التوفيق.
[البناء في الرعاف]
في البناء في الرعاف قال مالك وبلغني أن ابن عباس كان يبني في الرعاف على ما صلى.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في بناء الراعف وقطعه في رسم طلق بن حبيب. وظاهر قول ابن عباس هذا أنه كان يبني فذا كان أو في جماعة، وفي ذلك بين من اختار البناء على القطع اختلاف، وبالله التوفيق.
[الإبراد في الحر بالصلاة]
في الإبراد في الحر بالصلاة قال مالك: قال عمر بن الخطاب لأبي محذورة: إنك بأرض حارة فأبرد فكأني عندك.
قال محمد بن رشد: إنما أمره بالإبراد وهو التأخير لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من(18/169)
فيح جهنم» وذكر أن النار الحديث. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى، فقال أبو الفرج: اختار مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجميع الصلوات أول أوقاتها إلا الظهر في شدة الحر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة» فقال: إن هذا هو مذهب مالك، ولم يفرق بين الجماعة والفذ على ظاهر الحديث، خلاف ما في المدونة من أنه استحسن أن يصلي الناس، يريد [الجماعة] الظهر في الشتاء والصيف إذا فاء الفيء ذراعا، والمعنى في ذلك أنه تأول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بالإبراد بالصلاة في شدة الحر ليدرك الناس الصلاة، فلما كان المعنى عنده في الأمر بالإبراد الرفق بالناس ليدركوا الصلاة في الجماعة رأى من الرفق بهم أن تؤخر الصلاة في الشتاء أيضا حتى يفيء الفيء ذراعا ليدرك الناس الصلاة على ظاهر ما كتب به عمر ابن الخطاب إلى عماله من أن يصلوا الظهر إذا فاء الفيء ذراعا، فعم ولم يفرق بين الشتاء والصيف، وإن كان الرفق بالناس في ذلك في المصيف أكثر منه في الشتاء. وأما المنفرد على ما في المدونة فأول الوقت أفضل له على ما كتب به عمر إلى أبي موسى الأشعري أن صل الظهر إذا زاغت الشمس، لأن معناه في المنفرد، لئلا يتعارض ما كتب به إلى عماله مع ما كتب به إليه. وقد حمل ابن عبد البر ما في المدونة على أنه استحب للمنفرد والجماعة أن يؤخروا الظهر في الشتاء والصيف إلى أن يفيء(18/170)
الفيء ذراعا، وهو تأويل ليس بصحيح. وقال الليث بن سعد: يصلي الصلوات كلها الظهر وغيره في أول الوقت في الشتاء والصيف، وهو أفضل، وكذلك قال الشافعي إلا أنه استثنى فقال: إلا أن يكون إمام جماعة ينتاب من المواضع البعيدة فإنه يبرد بها يريد في الحر، قال: لأن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بالمدينة لشدة حر الحجاز، ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده، فكان ينتاب من بعد فيتأذون بشدة الحر فأمرهم بالإبراد لما في الوقت من السعة. وقال العراقيون: يصلي الظهر في الشتاء والصيف في أول الوقت، واستثنى أصحاب أبي حنيفة شدة الحر.
فيتحصل في الإبراد بصلاة الظهر في الصيف إلى أن يفيء الفيء ذراعا وهو وسط الوقت، لأن طول المدة من زوال الشمس إلى أن يفيء الفيء ذراعا مثل طولها من حين يفيء الفيء ذراعا إلى آخر القامة لإبطاء الظل بالسير في أول القامة وإسراعه في آخرها، أربعة أقوال: أحدها استعمال الإبراد في الجماعة والانفراد، والثاني ترك الإبراد في الجماعة والانفراد، والثالث ترك الإبراد في الانفراد دون الجماعة، والرابع ترك الإبراد إلا في [الجماعة في] المسجد الذي ينتاب من بعد. وأما الإبراد بالظهر في الشتاء ففي ذلك في الجماعة قولان، وأما المنفرد فلا يبرد قولا واحدا، وبالله التوفيق.
[إطالة صلاة الصبح مع الإسفار]
في إطالة صلاة الصبح مع الإسفار قال مالك: سافر أبو بكر بن عبد الرحمن، وكان قد كف بصره، فصلى الصبح وقد أسفر يقرأ فيها ببراة.
قال محمد بن رشد: معناه أنه أسفر بها عن الوقت الذي جرت عادته أن(18/171)
يصليها فيها من التبكير، لا أنه أسفر بها إلى قرب طلوع الشمس، إذ لو أسفر بها إلى قرب طلوع الشمس لما جاز له أن يقرأ فيها ببراءة، وبالله التوفيق.
[الضحية في السفر]
في الضحية في السفر قال مالك: بلغني أن رجلا كان مسافرا وأنه أدركه النحر في السفر فمر براع على رأس جبل فقال له: عندك شاة تبيعها؟ قال له الراعي: نعم، فاشترى منه شاة ثم قال: أضجعها فاذبحها ثم شأنك بها. قال فقال الراعي: اللهم تقبل مني، قال: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه قال: إنما في هذا الحديث أن ابن عمر ضحى في السفر، وأما المبالغة فيما فعل مع الراعي على طريقة الفقه فلا تجزئ عنه وتجزئ عن الراعي ويضمن قيمتها له فيضحي بغيرها، كمن تعدى على ضحية رجل فذبحها عن نفسه.
وتابعه الفضل على تأويله فقال: بل لا تجزئ عن واحد منهما على أصله المتقدم، وليس ذلك بصحيح، لأن الراعي لم يتعد على ابن عمر في ذبح ضحيته، وإنما ذبحها بأمره وهو حاضر مستنيب له في ذلك، فوجب أن تكون النية في ذلك نيته لا نية الذابح، كمن أمر رجلا أن يوضئه فوضأه فالنية في ذلك نية الآمر الموضأ لا نية المأمور الموضىء. ألا ترى أنه لو نوى فيها لابن عمر خلاف نيته من ذبحه إياها على أنها شاة لحم لم يؤثر ذلك في نيته، وإنما قوله فيما ذبح لغيره وبأمره اللهم تقبل مني، بمنزلة اللهم تقبل مني صلاة فلان وصيامه، فذلك لغو ودعاء غير مقبول. على أنه يحتمل أن يكون الراعي إنما(18/172)
أراد اللهم تقبل مني عملي في ذبحي الذبيحة عنه ومعونتي إياه على نسكه ولا تحرمني الأجر في ذلك [ولعله ظن بجهله أن الأجر في ذلك] له لا لابن عمر إذ تولى هو ذبحها عنه، وفهم ذلك عنه ابن عمر، ولذلك قال: ربك أعلم بمن أنزلها من رأس الجبل. ولو رأى ابن عمر أنها لا تجزئه لما قال للراعي يضحي بغيرها. وهذا كله بين، وفيه دليل لقول أشهب في النصراني أو اليهودي يذبح ضحية رجل بأمره أنها تجزئه وبئس ما صنع. وقد مضى هذا في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا، وبالله التوفيق.
[توقيت عمر ذات عرق لأهل المشرق]
في توقيت عمر ذات عرق لأهل المشرق قال مالك: وقت عمر بن الخطاب ذات عرق لأهل المشرق.
قال محمد بن رشد: في هذا جواز الاجتهاد فيما لا نص فيه، وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما وقت المواقيت لأهل الآفاق وسكت عن العراق، وقت لها عمر باجتهاده ذات عرق، فكان ذلك منه سنة وجب اتباعه فيها، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهتدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» وبالله التوفيق.
[دعاء الملائكة للإنس وعليهم]
في دعاء الملائكة للإنس وعليهم قال مالك: بلغني أن في السماء ملكين يقول أحدهما: اللهم(18/173)
أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا، ويقول الآخر: ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال. قال عيسى قلت لابن القاسم: يريد وجه الفجور؟ قال: نعم وغير ذلك مما يكون بين الرجال ونسائهم في غير وجه الفجور.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، فينبغي لمن أمسك أن يتوقع ذهاب ماله لإجابة دعوة الملك، ولمن أنفق بغير سرف ولا تعد أن يرجو الخلف من الله بإجابة دعوة الملك. وقد أثنى الله عز وجل على من أنفق على عياله وعلى نفسه بغير إسراف ولا إقتار فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ووعدهم بما وعدهم به من قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان: 75] إلى آخر السورة. والويل قيل فيه إنه واد في جهنم يسيل من عصارة أهل النار في النار، فينبغي للنساء والرجال أن يتوقعوا هذا الوعيد حتى لا يتعدى بعضهم على بعض في وجه من الوجوه، وبالله تعالى التوفيق.
[أمر عمر بن الخطاب بكتب الناس للعطاء]
في أمر عمر بن الخطاب بكتب الناس للعطاء قال مالك: قال عمر بن الخطاب لابن الأرقم: اكتب لي الناس، فكتبهم، ثم جاء بهم فقال أكتبتهم؟ قال: نعم قد كتبت المهاجرين والأنصار والمهاجرين من العرب والمحررين، فقال عمر: لعل ثم رجل ليس هاهنا أحد من قومه لم تكتبه فارجع فاكتبه.(18/174)
قال محمد بن رشد: قال في هذه الحكاية من المدونة: ارجع فاكتب فلعلك تركت رجلا لم تعرفه، أراد ألا يترك أحدا. فهذا مما يدل على أن عمر بن الخطاب كان يقسم لجميع المسلمين. وقد قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه حتى لو كان راعيا وراعية بعدن. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يعجبه هذا الحديث، وبالله التوفيق.
[معنى قول الله عز وجل وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا]
في قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]
قال مالك عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: ما رأيت مثل ما ترك الناس من هذه الآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] .
قال محمد بن رشد: روي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تأويل هذه الآية: إن الله عز وجل أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه إذا ما اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله عز وجل حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ وحق على الإمام أن يجاهدهم ويقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله.
وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه. وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل على حمار حتى وقف في مجلس من مجالس الأنصار، فكره بعض القوم موقفه، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول،(18/175)
فقال: خل لنا سبيل الريح من نتن هذا الحمار أف وأمسك أنفه، فمضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغضب له بعض القوم وهو عبد الله بن رواحة، فقال: ألرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت هذا القول؟ فوالله لحماره أطيب ريحا منك فاستبا ثم اقتتلت عشائرهما، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبل يصلح بينهم، فكأنهم كرهوا ذلك فنزلت هذه الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى آخر الآية» فأرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقولها والله أعلم: ما رأيت مثل ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحروب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض، ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان في أن يروموا الإصلاح بينهم، فإن لم يقدروا عليه كانوا مع من يقتضيه نظرهم أنه على الحق منهم على ما تقتضيه الآية.
وإنما أمسك من أمسك منهم عن نصر بعضهم على بعض طلبا للخلاص والنجاة مما شجر بينهم، إذ لم يبن لهم من كان على الحق منهم والله أعلم، فكان فرضهم ما فعلوه من الإمساك، إذ لا يحل قتال مسلم بشك، كما كان فرض كل من قاتل منهم ما فعله من القتال لاعتقاده أنه مصيب باجتهاده، فكلهم محمود على ما فعله: القاتل منهم والمقتول في الجنة. فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم، لأنهم قد أثنى الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله، فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، أي خيارا عدولا. وقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقال(18/176)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» وقال: «عشرة من قريش في الجنة فسمى فيهم عليا وطلحة والزبير» . والذي يقول به أهل السنة والحق أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن اتبعه كان على الصواب والحق، وأن طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما وكان فرضهما ما فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد. ومن الناس من يجعل المسألة من مسائل الاجتهاد ويقول: كل مجتهد فهو مصيب كسائر الأحكام، وليس ذلك بصحيح. ومن أئمة المعتزلة من يقف في علي وطلحة والزبير وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيقول: لا ندري من المصيب منهم من المخطئ؟ ومن الناس من يقول: إن من خالف عليا كان على الخطأ والعصيان إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قبل أن يموتوا، واستدلوا على ذلك برجوع الزبير، وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل، وقول طلحة لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه: امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين. والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده، ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما. وقد مضى هذا في أول هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين، والله الموفق للصواب برحمته.
[معنى قول الله عز وجل نساؤكم حرث لكم]
في معنى قول الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]
قال مالك عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن يهود كانت تقول من وطئ امرأته من ورائها جاء ولده أحول، فأنزل الله تبارك(18/177)
وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] .
قال محمد بن رشد: المعنى في قوله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] أي موضع حرثكم ومزدرع أولادكم. وقد اختلف في معنى قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فقيل معناه كيف شئتم مقبلة أو مدبرة أو باركة في موضع الولد، لأن الوطء لا يكون إلا في موضع الولد، كما أن الحرث لا يكون إلا في موضع الزرع، وهو الذي يدل عليه سبب نزول الآية على ما جاء في حديث جابر المذكور.
وقيل معناه متى شئتم من ليل أو نهار، روي ذلك عن ابن عباس، وروي عنه أيضا أنه قال: معناه {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. وقيل معنى أنى شئتم حيث شئتم إن شئتم في القبل وإن شئتم في الدبر. روى نافع عن ابن عمر أنه قرأ يوما {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] فقال أتدري فيما نزلت هذه الآية؟ قال: قلت لا. قال: أنزلت في وطء النساء في أدبارهن. روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك أنه قال له: يا أبا عبد الله إن الناس يروون عن سالم كذب العلج أو العبد على أبي، فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر مثل ما قال نافع، فقيل له: إن الحارث ابن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: أف أف، أيفعل ذلك مؤمن أو قال مسلم؟ فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. وسيأتي في أول رسم من سماع عيسى القول فيما روي عن مالك في هذه المسألة، وبالله التوفيق.(18/178)
[ما للعبد إذا نصح لسيده]
فيما للعبد إذا نصح لسيده قال مالك: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين» .
قال محمد بن رشد: معناه كان له أجران: أجر في عبادة ربه، وأجر في خدمة سيده. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل آمن بنبيه ثم أدرك النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فآمن به، وعبد عبد ربه ونصح لسيده، ورجل كانت له جارية فأدبها وأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها» . وبالله التوفيق.
[الرضى بقدر الله عز وجل]
في الرضى بقدر الله عز وجل وقال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول ما لي هوى إلا في مواقع حكم الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا رضاه بما يقع من أحكام الله تعالى التي حكم بها وقدرها. ويحتمل أن يكون معنى قوله إنه لا رغبة له ولا هوى في الحكم على أحد إلا بما يوجبه الحكم الذي افترضه الله جل وتعالى على عباده، وبالله التوفيق.(18/179)
[حكم الغيبة]
في الغيبة وفي الحديث سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن معنى الغيبة فقال: إذا قلت ما يكره أن يسمع.
قال محمد بن رشد: الغيبة محرمة بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] . ومعنى لا يغتب بعضكم بعضا لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره القول فيه أن يقال له في وجهه.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغيبة فقال: هو أن تقول في أخيك ما فيه فإن كنت صادقا فقد أغتبته وإن كنت كاذبا فقد بهته» .
وجاء في بعض الآثار «أن امرأة دخلت على عائشة فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أي أنها قصيرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغتبتها» . وقال معاوية بن قرة: لو مر عليك رجل أقطع فقلت: إنه أقطع كنت اغتبته. ومعنى قول الله عز وجل: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] يقول: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه لأن الله حرم ذلك عليكم فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه واكرهوا غيبته حيا كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرم غيبته حيا كما حرم لحمه ميتا، وبالله التوفيق.(18/180)
[ما جاء من أسماء النبي عليه السلام]
فيما جاء من أسماء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وقال مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لي خمسة أسماء أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، يريد يتبعونني، وأنا العاقب» .
قال محمد بن رشد: ليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لي خمسة أسماء دليل على أنه لا أسماء له غيرها، إذ لا ينتفي عنه بذكر بعض أسمائه وإن ذكر عددها سائرها، وهذا كما تقول في فلان ثلاث خصال وهي كذا وكذا فلا تنفي بذلك أن لا يكون له خصال سوى الثلاث التي ذكرتها، لأن أسماءه هذه الخمسة مشتقة من صفاته، فلا يمتنع أن يكون له أسماء سواها مشتقة من صفاته، بل قد جاء ذلك فروي هذا الحديث من رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وزاد فيه: وقد سماه الله عز وجل رؤوفا رحيما. وروي في أسمائه أيضا المقفي، ونبي [التوبة في التوراة] ونبي الملحمة، وسماه الله عز وجل خاتم النبيين. وجائز أن يضاف إلى هذه الأسماء المروية سواها مما هو مشتق من صفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن هذه أيضا مشتقة من صفاته: محمد وأحمد من الحمد، والماحي من أن الله يمحو به الكفر كما قال في الحديث، ويمحو به ذنوب من اتبعه، والحاشر من أن أمته تنحشر إليه يوم القيامة وتتبعه فتكون قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، والعاقب من أنه آخر الأنبياء، والمقفي من أنه قفى من قبله من الأنبياء، وخاتم النبيين مثله في المعنى، وسمي نبي التوبة لأن الله تاب به على من تاب من عباده، وسمي نبي الملحمة لأنه بعث بالقتال على الدين، وبالله التوفيق.(18/181)
[لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول]
في أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يحول عليه الحول قال مالك بلغني عن علي بن أبي طالب أنه قال: ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» وهذا ليس على عمومه في جميع الأموال المستفادة، لأنه يخصص من ذلك الحبوب والثمار لقول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ويخصص من ذلك أيضا على قول مالك ما يخرج من المعدن بالقياس على الحبوب والثمار لأنه يعتمل كما يعتمل الزرع وينبت في الأرض كما ينبت الزرع؛ ويخصص من ذلك أيضا نماء الماشية فتزكى على أصولها ولا يستقبل به الحول، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» . واختلف قول مالك في أرباح الأموال هل تزكى على أصل المال أم لا اختلافا كثيرا، وقد مضى الكلام على هذا في سماع أشهب من كتاب الزكاة، وبالله التوفيق.
[حمل السلاح على المسلمين]
ما جاء في من حمل السلاح على المسلمين قال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله(18/182)
عليه وسلم - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» .
قال محمد بن رشد: قوله ليس منا، معناه ليس على مثل هدينا وطريقتنا، لا أن من حمل السلاح على المسلمين من المسلمين محاربا لهم على أموالهم فإنه يكون بذلك خارجا عن ملة الإسلام، وهذا نحو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» «ومن لم يرحم صغيرنا ولا وقر كبيرنا فليس منا» وما أشبه هذا كثير، وبالله التوفيق.
[تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه]
في تقليد المرأة الهدي وإشعارها إياه وسئل مالك عن رأي ابن شهاب في المرأة تقلد وتشعر، قال مالك أراه خطأ لا يقلد ولا يشعر إلا من ينحر وإني لأحب للمرء أن يتواضع لله ويخضع له ويذل نفسه. كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينحر بدنه، وإن ناسا يأمرون من يذبح لهم، يريد بذلك أهل الطول ويعيب ذلك عليهم. فقيل له يا أبا عبد الله فلو أن امرأة اضطرت [إلى أن تأمر جاريتها تقلد وتشعر، قال مالك إن اضطرت] رأيت ذلك مجزئا، ولا أرى للمرأة أن تقلد ولا تشعر وهي تجد رجلا يقلد لها ويشعر.
قال محمد بن رشد: لما نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/183)
بدنه بيده ولم ينحر أزواجه عن أنفسهن بل نحر هو عنهن كان في ذلك ما قد دل على أن المرأة لا تذبح ولا تنحر إلا أن تضطر إلى ذلك. والتقليد والإشعار من ناحية النحر فلا ينبغي للمرأة أن تفعل شيئا من ذلك إلا من ضرورة، فإن فعلته من غير ضرورة كانت قد أساءت وأكلت ذبيحتها، وهذا ما لا اختلاف فيه أحفظه، وبالله التوفيق.
[النفل من الخمس]
في أن النفل من الخمس قال مالك: بلغني أن الناس كانوا يعطون من الخمس، يعني النفل، قال ابن القاسم قال مالك إنما ينفل من الخمس ولا ينفل أحد من رأس الغنيمة.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه. أن النفل من الخمس، لأن الأربعة الأخماس للغانمين، والخمس مصروف إلى اجتهاد الإمام. وقد اختلف في ذلك اختلافا كثيرا، فقيل إنه لا ينفل إلا من بعد الخمس من الأربعة الأخماس، لأن الخمس عندهم قد صرفه الله إلى المذكورين في الآية فلا يخرج عنهم منه شيء؛ وقيل إن للإمام أن ينفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمسها، ولا يرى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للإمام أن ينفل قبل القتال لئلا يرغب الناس في العطاء فتفسد نياتهم في الجهاد، فإن وقع ذلك مضى للاختلاف الواقع وللآثار المروية فيه.
وأما سلب القتيل فقيل إنه لا يكون للقاتل إلا أن ينفله الإمام إياه إما من الخمس وإما من رأس الغنيمة وإما بعد تخميسها على ما ذكرناه من الاختلاف فيما سوى السلب، وقيل إنه للقاتل حكم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحتاج فيه إلى استئناف أمر من الإمام؛ وقيل: إنه للإمام يخمسه ولا يكون له منه إلا أربعة أخماسه. وقد قيل إن الإمام لا ينفل إلا من خمس الخمس، وهذا يرده «حديث ابن عمر في السرية التي بعثها رسول الله - صلى(18/184)
الله عليه وسلم - قبل نجد، وكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا [أو أحد عشر بعيرا] ونفلوا بعيرا بعيرا» وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا]
في تفسير قول الله عز وجل {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال مالك في قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] قال: القوة على الأداء.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ما هو، فقالت طائفة: المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء وهو قول مالك، وقالت طائفة: الأمانة والدين، وقالت طائفة الصدق والوفاء. وهذه الأقاويل كلها متقاربة في المعنى، وذلك على الندب والإرشاد. وكذلك قول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] هو على الندب لا على الوجوب، ومعناه عند مالك أن يضع عنه من آخر كتابته شيئا يتعجل به عتقه.
والذي يدل عليه أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان رسوله، ولو كان فرضا لكان محدودا، لأن الفروض لا تكون غير محدودة بكتاب أو سنة، فلما لم يحد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل ذلك على أن الناس يؤمرون بذلك ولا يجبرون عليه بالحكم كالمتعة.. وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من كتابته، وقائل هذا القول يرى ذلك واجبا، واختار بعض الناس أن يضع عنه آخر نجم من نجومه. ومنهم من رأى أن يعطيه من سأله من غير الكتابة. وقد قيل إن(18/185)
الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من الزكاة لا للسادة، لقول الله عز وجل: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وقد قيل أيضا إن الخطاب لجميع الناس أن يعينوهم من أموالهم، وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» . وبالله التوفيق.
[بناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بسرف]
في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بنى بميمونة بسرف قال مالك: بنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بميمونة في الثلاثة الأيام أيام القضية، فأبت قريش أن يقروه [يبني بها بمكة] فبنى بها بسرف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إنما بنى بها بسرف في عمرة القضاء عام سبعة وهو بالمدينة قبل أن يخرج على ظاهر ما في حديث الموطأ من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة [قبل أن يخرج» وقيل] بعد أن خرج قبل أن يحرم. وإن قوله في الحديث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة قبل أن يخرج إنما يعود على بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياهما لا على التزويج، وقيل: بعد أن أحرم وهو محرم على ما روي عن ابن عباس،(18/186)
وقيل بعد أن حل من إحرامه على ما روي «عن ميمونة أنها قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسرف» . وإنما بنى بها بسرف لأنه لما أقام ثلاثا على ما كان قاضى عليه أهل مكة أتاه حويطب ابن عبد العزيز في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا لكم فحضرتموه فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنى بها بسرف. وبالله التوفيق.
[تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه]
في تأويل الرجل ما يخبر به على أحسن وجوهه قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثتم بحديث فظنوا به أحسنه.
قال محمد بن رشد: هذا الذي ينبغي لكل من حدث عن أحد بشيء أن يفعله، فقد قال عمر بن الخطاب: لا يحل لمن يسمع من أخيه كلمة أن يظن فيها سوءا وهو يجد لها مصدرا في وجه من وجوه الخير، لأن تأويلها على ظاهرها من الشر ظن، وقد قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالله التوفيق.(18/187)
[بركة الغزو]
في بركة الغزو قال مالك: إن رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد الغزو فقال له أهله لو أقمت فسقيت وديك وأصلحته فإني أخاف أن يموت، قال: فغزا وترك الودي على حاله، فأتى وقد صلح، قال فذكر له أهله، فقال الرجل الغزو يصلح الودي.
قال محمد بن رشد: قوله الغزو يصلح الودي، معناه أن الرجل لا يجد فقد شيء تركه لله، وبالله التوفيق.
[الطاعة لا تجب إلا بالمعروف]
في أن الطاعة لا تجب إلا بالمعروف قال مالك عن [عبد الله بن أبي بكر] عن ابن شهاب أن شداد ابن أوس غطى رأسه فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا بطاعة أطيعوا، وإذ أمروا بمعصية أطيعوا. إنما المنافق كحمل اختنق فمات في ربقه لا يعدو شره ربقه. قال الربق: الذي يجعل للخروف يمنع به الرضاع.
قال محمد بن رشد: شداد بن أوس هذا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار ابن أخي حسان بن ثابت الأنصاري، قال فيه عبادة بن الصامت: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم، وقال أبو الدرداء: إن الله يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم، وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن آتاه الله العلم والحلم. وبكاؤه من حذره على الناس طاعتهم لرؤسائهم في الطاعة والمعصية من الحلم الذي آتاه الله إياه، وتمثيله للمنافق بالحمل الذي يختنق في ربقه فيموت، من العلم الذي آتاه الله إياه، لأنه تمثيل صحيح، لأن المنافق يهلك باعتقاده فلا يتأذى به سواه، إذ لا يظهره كالخروف يموت بربقه إذا اختنق به، فلا يتأذى به سواه، وبالله التوفيق.(18/188)
[الشرب قائما]
في الشرب قائما قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانوا يشربون قياما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال محمد ابن رشد: روي «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه نهى عن الشرب قائما» من رواية أنس بن مالك. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «زجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا شرب قائما» وكره ذلك جماعة من السلف. وقال إبراهيم النخعي: إنما كره الشرب قائما لداء يأخذ في البطن، ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك بأسا إذ لم يصح عنده النهي والله أعلم، فبوب في موطئه باب شرب الرجل وهو قائم، وأدخل في الباب عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير أنهم كانوا يشربون قياما، وعن عائشة وسعد بن أبي وقاص أنهما كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسا. ومن الحجة له على ما ذهب إليه ما روى الشعبي «عن ابن عباس قال: ناولت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إداوة من لبن فشربها وهو قائم» . وروي عن النزال بن سبرة قال: «أتي علي بماء فشرب قائما فقال: إن ناسا يكرهون هذا، وإني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشرب قائما» . وقد روي عن أبي(18/189)
هريرة والحسن الوجهان جميعا: الإباحة والكراهة. «وقال عبد الله بن عمر: كنا نشرب ونحن قيام ونأكل ونحن نمشي على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. وذهب الطحاوي إلى أن المعنى فيما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شربه قائما ونهيه عن ذلك أنه كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي من أجله كره الشرب قائما فنهى عنه إشفاقا منه على أمته وطلبا لمصالحهم، وليس قوله ببين، إذ قد يحتمل أن يكون نهى عن ذلك إشفاقا على أمته لما ذكر له أن ذلك يضر بهم، فلما تحقق أن ذلك لا يضر بهم شرب قائما ولم ينه عن ذلك، فقد كان هم أن ينهى عن الغيلة ثم لم ينه عنها لما ذكر من أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا.
وإذا احتمل أن يكون كل واحد من الحديثين ناسخا للآخر وجب أن يسقطا جميعا ولا يمتنع من الشرب قائما إلا بيقين على ما ذهب إليه مالك، وبالله التوفيق.
[ما يصاب به الرجل يكفر به عنه]
في أن ما يصاب به الرجل يكفر به عنه قال مالك: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار «عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لولا [شيء] سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحببت أن أموت، قيل وما هو؟ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما من شيء يصاب به العبد إلا كفر عنه حتى يلقى الله وليست له خطيئة» .(18/190)
قال محمد بن رشد: يؤيد هذا حديث أبي هريرة عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامته حتى يلقى الله عز وجل وليست له خطيئة» . ومن هذا المعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من يرد الله به خيرا يصب منه» وبالله التوفيق.
[توقي الرجل من أن يظن به سوء]
في توقي الرجل من أن يظن به سوء قال مالك: بلغني أن ابن عمر بن الخطاب خلا بأمة ليطأها فرآه رجال فأتى بها إليهم فقال إنها جاريتي، فقالوا: يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن ومثلك يتهم؟ فقال: إنه يقع في القلب شيء. قال مالك: وذكر ذلك عمن هو خير، يريد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه رجل مع صفية فقال: هي صفية. قال مالك: بلغني أن القاسم بن محمد قال: إني لأريد الحاجة إلى الموضع فما يمنعني منها إلا الموضع الذي أريدها فيه خوفا من أن يظن الناس بي ظنا سيئا. قال مالك: بلغني أن أبا بكر الصديق في الجاهلية صحبه رجل فقام وهو يسير معه حتى انتهى إلى موضع، فقال الرجل الذي استصحبه اعدل بنا إلى هذه الطريق، فقال: وما لهذه؟ قال: فيها مجلس قوم ونحن نستحيي أن نمر عليهم، فقال أبو بكر إن شيئا يستحيى منه لا أحب أن أتبعك فيه.
قال محمد بن رشد: في توقي الرجل من أن يظن به سوء وجهان:(18/191)
أحدهما دفع المكروه عن نفسه بدفع الظنة عنه، والثاني دفع الإثم عن الظان به ظن سوء. فينبغي لمن اتهم بشيء وهو منه بريء أن يبين براءته لمن خشي أن يكون قد اتهمه. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هي صفية على ما حدثت به من أنها جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت ساعة ثم قامت تنقلب، وقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على رسلكما إنما هي صفية ابنة حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» . وبالله التوفيق.
[توبة القاتل]
في توبة القاتل قال مالك: بلغني أن ابن عمر سأله رجل قتل نفسا يريد بذلك هل ترى لي من توبة؟ فقال له ابن عمر: أكثر من شرب الماء البارد. فقيل لمالك: أي شيء أراد بقوله أكثر من شرب الماء البارد؟. قال: يريد بذلك أنه من أهل النار.
قال محمد بن رشد: جميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب قبل المعاينة بإجماع، لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] ، وعسى من الله واجبة؟(18/192)
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وإن لم يتب منها كان في المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] إلا القاتل عمدا فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين: فذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، وذهب جماعة منهم إلى أنه لا توبة له والوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر على ما جاء في هذه الحكاية عنه، وعن ابن عباس وأبي هريرة، وزيد بن ثابت. روي أن سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عن من قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء. وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب.
ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» . وذلك، والله أعلم، أن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق المقتول المظلوم. ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم، وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا أن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه ويحلله من قتله طيبة بذلك نفسه. وكذلك اختلف أيضا في القصاص منه هل يكون له كفارة أم لا على قولين: وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك كله وما نزع به كل فريق منهم من الكتاب والسنة في كتاب الديات من المقدمات، وبالله التوفيق.(18/193)
[المال الحلال يشوبه الحرام]
في المال الحلال يشوبه الحرام قال ابن القاسم قال مالك قال ابن هرمز: عجبا للمرء يرزقه الله المال الحلال ثم يحرمه من أجل الربح اليسير حتى يكون كله حراما.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يحرمه من أجل الربح [يريد من أجل الربح] الحرام الذي هو ربا، مثل أن يكون له على رجل مائة فيؤخره بها على أن يأخذ منه مائة وعشرين. وقوله حتى يكون حراما ليس على ظاهره بأنه يحرم عليه جميعه ولا يحل له منه شيء، لأن الواجب عليه فيه بإجماع من العلماء أن يرد الربح الذي أربى فيه إلى من أخذه منه ويطيب له سائره، لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] . وإنما معنى قوله حتى يكون كله حراما، أي حتى يكون كله بمنزلة الحرام في أنه لا يجوز له أن يأكل منه شيئا حتى يرد ما فيه من الربا، لأنه إن أكل منه قبل أن يرد ما فيه من الربا فقد أكل بعض الربا لاختلاطه بجميع ماله وكونه شائعا فيه. وكذلك على قوله لا يجوز لأحد أن يعامله فيه ولا أن يقبل منه هبة، لأنه إذا عامله فيه فقد عامله في جزء من الحرام لكونه شائعا فيه. وهذا هو مذهب ابن وهب من أصحاب مالك، وهو استحسان على غير قياس، لأن الربا قد ترتب في ذمته وليس متعينا في عين المال على الإشاعة فيه، فعلى ما يوجبه القياس تجوز معاملته فيه وقبول هبته، وهو مذهب ابن القاسم، وحرم أصبغ معاملته فيه وقبول هبته وهديته، وقال: من فعل ذلك(18/194)
يجب عليه أن يتصدق بجميع ما أخذ، وهو شذوذ من القول على غير قياس، وبالله التوفيق.
[لباس الثوب المعصفر بالزعفران]
في لباس الثوب المعصفر بالزعفران قال مالك: رأيت ابن هرمز يلبس الثوب بالزعفران. قال مالك: وبلغني أن عطاء بن يسار كان يلبس الثوبين الرداء والإزار بالزعفران، فإني لألبسه وأستحب ذلك وأراه حسنا، وللأشياء وجوه من ذلك السرف، فلا أحب السرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذا قبل هذا في رسم باع غلاما فلا وجه لإعادته هاهنا، وبالله التوفيق.
[إمساك المخصرة]
في إمساك المخصرة قال مالك: وكان عطاء بن يسار يمسك المخصرة، فقيل له: وما تفسير المخصرة؟ قال: يستعين بها، قال فالرجل إذا كبر لم يكن مثل الشاب يقوى بها عند قيامه. قال مالك: وقد كان بعض الناس إذا كان المطر خرجوا بالعصي يتوكئون عليها حتى إن كان الشباب ليستحبون عصيهم، فلربما أخذ ربيعة من بعض من يجلس إليه العصا فما تزال معه حتى يقوم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.(18/195)
[فضل إطعام الطعام]
في إطعام الطعام قال مالك: كان ابن عمر لا يكاد يوصل إلى طعامه، فقيل له يا أبا عبد الله لم؟ قال: لتضايق الناس عليه وكثرة من يغشاه، ولقد نزل يوما بالجحفة فأتى صبي أسود أغلف عريان سائل فسأله، فقال اقعد فكل، قال فدار فلم يجد موضعا لتضايق الناس على الطعام، فلما رأى ذلك منه ابن عمر دعاه فألصقه إلى صدره، فقال له كل، قال فزعم الذي حدث قال فلقد رأيته ولقد لصق إلى بطنه.
قال محمد بن رشد: إطعام الطعام من أفعال الأبرار، قال الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] إلى قوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] . وإطعام ابن عمر الطعام من بعض فضائله، فلقد كان من فضلاء الأخيار المجتهدين الأبرار، وبلغ من السن سبعا وثمانين سنة، وأفتى الناس ستين سنة، وحج ستين حجة، وأعتق ألف رقبة، وحبس ألف فرس، واعتمر ألف عمرة، وكان لا ينام من الليل إلا قليلا، وبالله التوفيق.
[السلام على أهل الذمة والرد عليهم]
من سماع أشهب بن عبد العزيز من مالك من كتاب الجامع قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك بن أنس عن السلام على أهل الذمة والرد عليهم، فقال: لا.(18/196)
قال محمد بن رشد: منع في هذه الرواية من أن يسلم على أهل الذمة أو يرد السلام عليهم. فأما منعه أن يسلم عليهم فالوجه أن السلام تحية وإكرام، وقد قال الله تعالى فيه: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، فيحب ألا يكون الكافر أهلا لها، هذا من طريق المعنى. وقد جاء في ذلك الأثر أيضا، روي عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم» . وقد روي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله بمعناه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة.
وأما منعه في الرواية من الرد عليهم، فالمعنى في ذلك ألا يرد عليهم كما يرد على المسلمين، وأن يقتصر في الرد عليهم بأن يقول وعليكم كما جاء في الحديث، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقل عليك» كذا قال في الموطأ: عليك بغير واو، وفي غير الموطأ: وعليك - بالواو - والذي ينبغي في هذا أن يقول في الرد عليه بغير واو. وإن تحققت أنه قال في سلامه السام عليك وهو الموت، أو السلام عليك - بكسر السين - وهي الحجارة، وإن شئت قلت: وعليك - بالواو - لأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا على ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، روي «عن عائشة أن اليهود دخلوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا السام عليكم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/197)
عليكم، فقالت عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عائشة عليك بالحلم وإياك بالجهل، فقالت: يا رسول الله أما سمعت ما قالوا؟ فقال: أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا» . وإن لم تتحقق ذلك قلت وعليك - بالواو - لأنك إن قلت عليك بغير واو وكان هو قد قال السلام عليكم كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه. ومن أخطأ فسلم على اليهودي أو النصراني ابتداء فلا يستقيله، قال ذلك في الموطأ، ومعناه أنه لا يلزمه أن يقول له أخطأت في سلامي عليك فلا تظن أني قصدتك بسلامي وأنا أعلم أنك لست بمسلم، فسمى ذلك استقالة لأنه إذا فعل ذلك فقد رجع في إكرامه له بالسلام وبطلت غبطة الذمي بذلك.
وقد قال الداودي إنه لا يستقيله من أجل أنه لا يلحقه بسلامه عليه بركة فيسأله أن يرد ذلك عليه، وليس ذلك بشيء. وقد قيل إنه يقال في الرد على الذمي عليك السلام - بكسر السين - وعلاك السلام أي ارتفع عنك. ومن أهل العلم من أجاز أن يبدأ أهل الذمة بالسلام، وهو خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالله التوفيق.
[الخضاب بالسواد]
في الخضاب بالسواد وسئل مالك عن الخضاب بالسواد، فقال: ما علمت فيه النهي، وغيره أحسن منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم حلف ألا يبع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له(18/198)
[والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه]
في والي اليتيم هل يأكل من مال يتيمه؟ وسئل مالك عن اليتيم يكون عند الرجل وله مال وكرمات أيأكل من ماله؟ قال: لا يأكل من ماله، فأما الفاكهة فهذا خفيف. قيل له: إبل يقوم عليها أينتفع بظهرها ويشرب من لبنها؟ قال: لا ينتفع بظهرها، فأما أن يشرب من لبنها فلا بأس بذلك، وذكر الحديث الذي جاء عن ابن عباس قال: إن كنت تليط حوضها.
قال محمد بن رشد: الحديث الذي جاء عن ابن عباس هو قوله للذي سأله هل يشرب من لبن إبل يتيمه: إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. واتفق أهل العلم جميعا على تحريم أكل مال اليتيم ظلما وإسرافا وعلى أن ذلك من الكبائر، لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] وقوله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] واختلفوا في القدر الذي يجوز للأوصياء من ذلك ويسوغ لهم لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] فذهب مالك وأصحابه -(18/199)
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلى أنه لا يجوز للوصي أن يأكل من مال يتيمه إلا بقدر اشتغاله به وخدمته فيه وقيامه عليه إن كان محتاجا إلى ذلك. قال محمد بن المواز في كتابه عمن حكاه عنه من أهل العلم على ما جاء عن عبد الله بن عباس في الحديث المذكور فوق هذا.
وأما إن كان غنيا عن ذلك فلا يفعل لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] وقيل إن للغني أن يأكل منه بقدر قيامه عليه وخدمته فيه وانتفاع اليتيم به في حسن نظره له، فإن لم يكن له في ماله خدمة ولا عمل سوى أنه يتفقده ويشرف عليه لم يكن له أن يأكل منه إلا ما لا ثمن له ولا قدر لقيمته، مثل اللبن في الموضع الذي لا ثمن له فيه على ما قاله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الوصايا، ومثل الفاكهة من ثمر حائطه على ما قاله في هذه الرواية، ولا يركب دوابه ولا ينتفع بظهر إبله ولا يتسلف من ماله. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن لوالي اليتيم إذا كان فقيرا أو احتاج أن يأكل من مال يتيمه بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه، لقول الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] . واختلف في معنى ذلك فقيل هو أن يأكل من ماله بأطراف أصابعه ولا يكتسي منه؛ وقيل: هو ما سد الجوع ووارى العورة، ليس لبس الكتان ولا الحلل؛ وقيل هو أن يأكل من ثمره، ويشرب من رسل ماشيته لقيامه على ذلك، وأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض؛ وقيل: إن له أن يأكل من جميع المال وإن أتى على المال ولا قضاء عليه، وقيل: معنى قوله عز وجل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] هو أن يأخذ من ماله قدر قوته قرضا، فإن أيسر بعد ذلك قضاه، وروي هذا القول عن سعيد بن المسيب، وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيته، وبالله التوفيق.(18/200)
[ما وصف به شعيب النبي عليه السلام]
فيما وصف به شعيب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك وذكر الأنبياء فقال: شعيب خطيب القوم أو قال خطيب الأنبياء.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قاله فيه، لحسن مراجعته لقومه وبيانه لهم ووعظه إياهم، وذلك بين مما قصه الله عز وجل علينا من أمره لقوله في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: 85] الآيات إلى قوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93] ومما قصه تعالى علينا على أمره بقوله في سورة هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] الآيات إلى قوله: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 93] الآية، وبالله التوفيق.
[كراهة القصص]
في كراهة القصص قال: وسئل عن الجلوس إلى القصاص فقال: ما أرى أن يجلس إليهم وإن القصص لبدعة.
قال محمد بن رشد: كراهة القصص معلومة من مذهب مالك(18/201)
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، روي عن يحيى بن يحيى أنه قال: خرج معي فتى من طرابلس إلى المدينة فكنا لا ننزل منزلا إلا وعظنا فيه حتى بلغنا المدينة، فكنا نعجب بذلك منه، فلما أتينا المدينة إذا هو قد أراد أن يفعل بهم ما كان يفعل بنا، فرأيته في سماطي أصحاب السفط وهو قائم يحدثهم ولقد لهوا عنه والصبيان يحصبونه ويقولون له أسكت يا جاهل، فوقفت متعجبا لما رأيت، فدخلنا على مالك فكان أول شيء سألناه عنه بعد أن سلمنا عليه ما رأينا من الفتى، فقال مالك: أصاب الرجال إذ لهوا عنه، وأصاب الصبيان إذ أنكروا عليه باطله.
قال يحيى: وسمعت مالكا يكره القصص، فقيل له يا أبا محمد فإذ تكره مثل هذا، فعلى ما كان يجتمع من مضى؟ فقال: على الفقه، وكان يأمرهم وينهاهم، وبالله التوفيق.
[إطلاء الجنب]
في إطلاء الجنب وسئل مالك أيطلي الجنب؟ فقال: نعم وإن وجه النورة لوجه النقاء والطهور.
قال محمد بن رشد: المعنى في ذلك بين لا وجه للكراهة فيه، وبالله التوفيق.
[قول أهل النار سواء علينا أجزعنا أم صبرنا]
في قول أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] قال: وسمعته يتلو هذه الآية: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] ثم قال: زعم زيد بن أسلم أنهم صبروا مائة(18/202)
عام ثم بكوا مائة عام ثم قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] قال محمد بن رشد: قول زيد بن أسلم لا يكون إلا عن توقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ لا مدخل في ذلك للرأي، وفي التلاوة بإثر ذلك {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} [إبراهيم: 22] أي لما حق العذاب على الكافرين، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] . جاء في التفسير أن إبليس يقوم بهذا الكلام خطيبا بإذن الله وبئس الخطيب، إذا فصل بالقضاء أهل الجنة من أهل النار توبيخا لأهل النار.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عقبة بن عامر الجهني أنه قال: «إذا بعث الله الأولين والآخرين فقضى بينهم وفرغ من القضاء قال المؤمنون قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا إلى ربنا؟ قال: انطلقوا بنا إلى آدم فإنه أبونا وخلقه الله بيده وكلمه، فيأتونه أن يشفع لهم فيقول آدم عليكم بنوح فيأتون نوحا فيدلهم على إبراهيم ثم يأتون إبراهيم فيدلهم على موسى ثم يأتون موسى فيدلهم على عيسى، ثم يأتون عيسى فيقول هل أدلكم على النبي الأمي، فيأتون فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيفور ريح مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى أتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظهر قدمي، ثم يقول الكافرون: هذا وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أتت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيفور ريح مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم، ثم يقول عند ذلك:(18/203)
{إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] الآية» وبالله التوفيق.
[حلق القفا ووسط الرأس للمحاجم]
في حلق القفا ووسط الرأس للمحاجم قال وسألته عن الذين يحتجمون فيحلقون مواضع المحاجم في القفا ووسط الرأس، فقال: لا أحبه، وإني لأكرهه، وما فعلته قط ولا هممت، ولقد سمعت من يقول هذا من فعل النصارى. قلت له: كيف أصنع؟ قال احتجم بالحطمى.
قال محمد بن رشد: كره حلق موضع المحاجم من وسط الرأس ومن القفا لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن القزع» وهو حلق بعض الرأس دون بعض، فعم ولم يخص حالا من حال، ولما فيه من التشبه بالنصارى، وبالله التوفيق.
[المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا]
في المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا وسئل مالك عن المعتم لا يجعل تحت ذقنه منها شيئا فكرهه.
قال محمد بن رشد: إنما كره ذلك مالك لمخالفة فعل السلف فيه.
قال ابن حبيب في الواضحة: ولا بأس أن يصلي الرجل في داره وبيته بالعمامة(18/204)
يلفها ولا يلتحي بها، فأما في الجماعات والمساجد فلا ينبغي ترك الالتحاء بها فإنه يقال إنها من بقايا عمل قوم لوط، وبالله التوفيق.
في المعانقة والمصافحة وتقبيل الرجل
ابنته وأخته عند القدوم من سفر
وسئل مالك عن الذي يقدم من سفر فتتلقاه ابنته فتقبله، قال: لا بأس بذلك، وقيل له فأخته وأهل بيته؟ قال: لا بأس به، قلت له: لا بأس بذلك كله يا أبا عبد الله؟ قال لي: نعم، إنما هي على وجه الرحمة ليس قبل لذة.
قال: وسئل عن تعانق الرجلين إذا قدم من سفر. قال: ما هذا من عمل الناس. قيل له فالمصافحة؟ فكرهها وقال هي أخف. قال: وسئل عن معانقة الرجل أخته إذا قدم من سفر، قال ما هذا من عمل الناس. قال: وسئل مالك عن معانقة الرجلين أحدهما صاحبه إذا التقيا أترى بها بأسا؟ قال: نعم. قيل له فالمصافحة؟ قال ما كان ذلك من أمر الناس وهو أيسر. قال: وسمعته يقول إنما أفسد على الناس تأويل ما لا يعلمون.
قال محمد بن رشد: أجاز للذي يقدم من سفر أن تتلقاه ابنته أو أخته فتقبله ولم ير بذلك بأسا لأن ذلك على سبيل الرحمة لا يراد به لذة ولا ينقض الوضوء على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الوضوء، وقال في أهل بيته مثل ذلك، ومعناه في ذوي المحارم منهن، لأن أهل بيت الرجل هم المنتسبون إلى من يتنسب إليه ذلك الرجل من رجل أو امرأة، فمنهم بنات الأعمام وهن كالأجنبيات في أنه لا يجوز تقبيلهن على وجه الرحمة. وكره في(18/205)
هذه الرواية المصافحة والمعانقة إلا أنه رأى المصافحة أخف من المعانقة، وهي رواية ابن وهب عنه، والمشهور عن مالك إجازة المصافحة واستحبابها فهو الذي يدل عليه مذهبه في الموطأ بإدخاله فيه عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» والآثار فيها كثيرة منها حديث البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مُسْلِمَيْنِ يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا» . وإنما المعلوم من مذهب مالك كراهية المعانقة، ومن أهل العلم من أجازها، منهم ابن عيينة، ووجه كراهيتها أنها لم ترو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن السلف بعده، ولأنها مما تنفر عنها النفس في كل وقت، إذ لا تكون في الغالب إلا لوداع أو من طول اشتياق لغيبة أو مع الأهل أو ما أشبه ذلك. وتفارق المصافحة لوجود العمل بها. ووجه إجازتها اعتبارها بالمصافحة. وقد روي من حديث أبي ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصافحه فجاء مرة فالتزمه، وهذا يمكن أن يكون فعله مرة ولم يداوم عليه، وبالله التوفيق.
[كراهة طرح القمل في النار]
في كراهة طرح القمل في النار قال: وسئل عن طرح القمل في النار، فقال: إن الرجل في السفر يشتغل حتى يتفلى بالليل على النار لا يجد من ذلك بدا، قال: لا وهذه مثلة وإني أكرهه. وقد نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلسعته نملة فقتل نملا كثيرا فأوحى الله إليه: أفلا نملة واحدة؟ قال مالك: فلله حق في عباده وفي بايت من هذه الدواب.(18/206)
قال محمد بن رشد: إنما لم يجز طرح القمل في النار لأن ذلك تعذيب لها، وقد نهي عن تعذيب الحيوان، هذا معنى قوله وهذه مثلة، لأن المثلة تعذيب للدابة الممثل بها، وقد جاء النهي عنها. روي «عن سمرة بن جندب قال: ما خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهانا فيها عن المثلة» . وقتل القمل بالنار تعذيب لها يوجب أن يدخل ذلك تحت النهي عن المثلة. وقد روي في بعض الآثار: «لا يعذب بالنار إلا رب النار» فما جاز قتله من الدواب، لإذايتها لم يجز قتله إلا بوجه القتل الذي لا مثلة فيه ولا عذاب.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» ووجه استدلال مالك فيما أوحى الله به إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيما قتل من النمل أن العتاب يكون في التعدي في صفة القتل كما يكون في التعدي في القتل، وبالله التوفيق.
[ما يبقى من الثمر في الثمار بعد الجذاذ]
فيما يبقى من الثمر في الثمار بعد
الجذاذ، ومن السنبل في الفدان بعد الحصاد وسئل عن الثمار تجذ ثم يخلى عنها فيكون فيها الشيء(18/207)
المعلق. فقال: إن كان يعلم أن أنفسهم طيبة له بأخذه إياه فليأخذه. قال: وسئل عن الزرع يحصد فتبقى منه السنبل والشيء الذي يخلى عنه أهله أيأكله؟ فقال: لا يأكل إلا ما يعلم أنه حلال، وقد كان يقال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال. وتحصيل القول في ذلك أنه إن علم أن صاحبه قد تركه لمن أخذه من غني أو فقير جاز له أن يأخذه غنيا كان أو فقيرا، وإن علم أن صاحبه قد تركه للمساكين لم يجز له أن يأخذه إلا أن يكون مسكينا. وإن لم يعلم هل تركه صاحبه على أن يعود إليه أو على إلا يعود إليه لم يحل له أن يقدم على أخذه دون أن يستأذنه، وإن غلب على ظنه أن صاحبه قد تركه لمن أخذه ولم يعلم ذلك يقينا فهذا يكره له أخذه ويقال له: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وبالله تعالى التوفيق.
[المسافر هل له أن يصيب مما مر به من الثمار]
في المسافر هل له أن يصيب مما مر به من الثمار قال: وسئل الحسن أيجوز للمسافر أن يصيب من الثمار؟ قال: إن كان ضرورة وإلا فلا. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ففي هذا بيان، وليس شيء من الأشياء أيسر من اللبن يحلب بكرة ويرجع عشية، والثمر لا يرجع حتى إلى عام قابل.
قال محمد بن رشد: وهذا معلوم من مذهب مالك أنه لا يجوز له أن يصيب من الثمار كما لا يجوز له أن يحلب من لبن الشاة إذا لم يضطر إلى(18/208)
ذلك، فإن اضطر أكل من الثمار ولم يأكل الميتة، ولا ينبغي أن يختلف في هذا، إذ من أهل العلم من يجيز له أن يأكل من الثمر من غير حاجة، وإنما اختلف إذا اضطر فوجد مالا لرجل غنما أو ضالة إبل ووجد الميتة، هل يأكل منها أو يأكل من الميتة؟ فقيل: إنه يأكل منها ولا يأكل من الميتة، وقيل: إنه يأكل من الميتة ولا يأكل منها. واختلف إن لم يجد الميتة وخشي على نفسه إن لم يأكل منها، فقيل إنه يأكل منها ما يرد به جوعه ولا غرم عليه فيه، وقيل: إنه لا يأكل منها إلا على سبيل السلف؛ فيتحصل في المسألة أربعة أقوال: أحدها المساواة بينهما، والثاني: أن الأولى له إذا وجدهما أن يأكل الميتة، والثالث: أن الأولى إذا وجدهما أن يأكل المال، والرابع أن لا يأكل المال بحال إلا على سبيل السلف. وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.
[يمر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه هل يأكل من ثمره]
في الذي يمر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه
هل يأكل من ثمره؟ وكيف إن أطعمه حارسه؟ قال: وسئل عمن مر على جنان أبيه أو أمه أو أخيه أيأخذ منه ما يأكل؟ قال: لا يأكله إلا إن كانوا أذنوا له. قيل له: أرأيت إن أطعمني حارسه أو باعني؟ قال: إن كنت تعلم أنه قد أذن له فنعم، قيل له: فكيف نعلم ذلك؟ قال ذلك يختلف أن يقول له أصحاب الحوائط إلى جنبه حين يسألهم قد رأيناه يبيع ويصنع وتكون هيئة القيم شبه ذلك فذلك لا بأس به أن يشتري منه، وأما العبد الأسود الذي يستخفي فلا خير فيه.(18/209)
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مجالسة القدرية والحجة عليهم]
في مجالسة القدرية والحجة عليهم وسألته عن مجالسة القدرية وكلامهم، فقال لي: لا تكلمهم ولا تقعد إليهم إلا أن تجلس إليهم تغلظ عليهم. قلت: إن لنا جيرانا لا أكلمهم ولا أخاصمهم، فقال: لا تجالسهم عادهم في الله، يقول الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] فلا توادهم. قال مالك: ما أبين هذا في الرد على أهل القدر، {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] وقَوْله تَعَالَى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزال. قال: وسئل عن عيادة أهل القدر، قال: لا تعودوهم ولا تحدث عنهم الأحاديث.
قال محمد بن رشد: نَهْيُ مالكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الرواية عن أن يجالس أهل القدر أو يؤاخوا أو تحمل عنهم الأحاديث يدل على أنه لم يرهم كفارا بمآل قولهم الذي يعتقدونه ويدينون به، مثل قوله في هذا السماع من كتاب المحاربين والمرتدين: إنهم قوم سوء فلا يجالسون ولا يصلى وراءهم، خلاف قوله فيهم في أول سماع ابن القاسم منه. وقد مضى هنالك(18/210)
من القول فيهم ما فيه كفاية، والحجة عليهم فيما يعتقدونه بالآيتين المذكورتين بينة ظاهرة، لأن الله أعلم فيهما بما يكون من عباده وهم يقولون إنهم خالقون لأفعالهم فلا يعلم الله ما يفعلونه مما لا يفعلونه حتى يفعلوه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وقال مالك: كان لقمان الحكيم يقول لابنه: يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسِ الْفُجَّارَ وَلَا تُمَاشِهِمْ اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فَيُصِيبَكَ مَعَهُمْ. يَا بُنَيَّ جَالِسِ الْفُقَهَاءَ وَمَاشِهِمْ عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَكَ مَعَهُمْ.
قال محمد بن رشد: قد بين لقمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لابنه في وصيته وجه ما أمره به ونهاه عنه، فمن الحظ لكل مسلم أن يلتزم وصيته ويحافظ عليها، وبالله التوفيق.
[مقالة عمر التي خطب بها في آخر العام الذي توفي فيه]
في مقالة عمر التي خطب بها في آخر
العام الذي توفي فيه قال: وسمعته يحدث عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقول لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ولعلها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به(18/211)
راحلته، ومن لم يعقلها ولم يعها فلا أحل له أن يكذب علي، فسألته أنا فرد الحديث علي.
قال محمد بن رشد: قوله قد قدر لي أن أقولها، معناه قد قضى الله بذلك في سابق علمه، فهو إيمان منه بالقدر، خلاف ما يذهب إليه القدرية مجوس هذه الأمة. وإنما قال: ولعلها بين يدي أجلي أي قرب أجلي، لأن كعبا قال له: والله لا ينسلخ ذو الحجة حتى يرحل، حكى ذلك الداودي.
وقوله فرد الحديث علي، معناه فأعاده علي. والحديث محفوظ عن ابن شهاب من رواية مالك، حدث به عنه عن عبد الله بن عمر، عن ابن عباس أنه كان يقرئ ابن عوف، قال ولم أر أحدا يجد من القشعريرة عند القراءة ما يجد. قال: فجئته فالتمسته يوما فلم أجده، فانتظرته حتى جاء من عند عمر، فقال لي: لو رأيت رجلا قال لعمر كذا وكذا وهو يومئذ بمنى آخر حجة حجها عمر، قال لو قد مات عمر بايعت فلانا، فقال عمر إني لقائم العشية في الناس فأحذرهم هؤلاء الذين يغصبون هؤلاء الأئمة أمرهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل ذلك يومك هذا، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، فأخشى إن قلت فيهم [اليوم] مقالة أن يطيروا بها ولا يضعوها على مواضعها، أمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم وتقول ما قلت متمكنا فيعُوا مقالتك ولا يضعوها إلا على مواضعها، فقال عمر: والله لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، وجاء يوم الجمعة فهجرت عمي لما أخبرني ابن عوف، فوجدت سعيد بن زيد قد سبقني بالتهجير فجلس إلى جانب المنبر،(18/212)
فقلت لسعيد بن زيد وعمر مقبل: أما والله ليقولن أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقلها أحد قبله، فقال سعيد: وما عسى أن يقول؟ فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذن، فلما سكت قام عمر فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني قائل لكم مقالة قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن الله عز وجل بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، وأخشى إن طال زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله عز وجل، فتترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف. ثم إنا كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تطروني كما أطري ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» ثم إنه بلغني أن منكم من يقول والله لو قد مات عمر لبايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة فإنها قد كانت فلتة كذلك، إلا أن الله قد وقى شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه قد كان من خبرنا حين توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا وتخلفت الأنصار عنا بأسرها واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فبينا نحن في منزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا برجل ينادي من وراء الجدار: اخرج إلي يا ابن الخطاب، فقلت إليك عني فأنا عنك متشاغل، فقال: قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوا من قبل أن يحدثوا أمرا يكون بينكم وبينهم فيه(18/213)
حرب، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء الأنصار، فانطلقنا نؤمهم ولقينا أبا عبيدة بن الجراح فأخذ بيده أبو بكر ومشى بيني وبينه حتى إذا دنونا منهم لَقِيَنَا رجلان صالحان فذكر لهما ما صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم فإذا هم جميعا في سقيفة بني ساعدة، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ فقال: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: هو وجع. فلما جلسنا تكلم خطيب الأنصار فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا. وكنت رويت مقالة أعجبتني أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكنت أدري من أبي بكر بعض الجد. فلما أردت أن أتكلم تكلم أبو بكر وهو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك كلمة أعجبتني في ترويتي إلا تكلم بمثلها أو أفضل منها في بديهته حتى سكت، فتشهد أبو بكر وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، أيها الأنصار، فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش: هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق إلا أن تتغير نفسي عند الموت، فلما قضى أبو بكر مقاله قال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خِفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا(18/214)
أبا بكر [أبايعْك] فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون والأنصار، فمررنا على سعد بن عبادة فقال قائل من الأنصار قتلتم سعدا. فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر، والله ما رأينا فيما حضرنا من أمرنا أمرا كان أقوم من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم قبل أن تكون بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فسادا. فلا يغترن امرؤ أن يقول كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها. ألا وإنه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر الحديث.
وقوله فيه إن ابن عباس كان يقرئ ابن عوف، معناه أنه كان يقرأ عليه ليتعلم منه. والقشعريرة: رعدة كانت تأخذه من الوجل والخوف. قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] وقال: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] .
وقول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لا تفعل، بمعنى الرأي يشير به لا بمعنى النهي.
وقوله يا أمير المؤمنين توقير له، وكذلك ينبغي أن يفعل بأئمة العدل.
وقول القائل لو قد مات عمر بايعت فلانا، يريد رجلا لا يستحق الخلافة، ولذلك أنكر عمر قوله ووعد أن يقول مقالة يحذر الناس فيها من الذين يريدون أن يغتصبوا الأئمة أمرهم.(18/215)
وقوله: لا يغترن امرؤ أن يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة: يقول لا يحدث نفسه أن يفعل مثل ذلك فيتم له فإن هذا لا يكون، لأن الله تعالى إنما وقى شر ذلك وإن كانت فلتة لما بان به أبو بكر من الفضل الذي لا ينازع فيه.
وقوله: تنقطع دونه الأعناق: يقول ليس أحد يرفع رأسه إلى مساواة أبي بكر.
وقوله كان من خيرنا معناه كان خيرنا، ومن صلة، مثل قوله عز وجل: {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص: 81] ، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 20] .
وقوله: إن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، يريد قوله في حديث الموطأ: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله عز وجل فتترك فريضة أنزلها الله عز وجل، فإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف» . وقد اختلف في قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، وقيل: كان ذلك قرآنا يتلى على ظاهر قول عمر ثم نسخ خطه وبقي حكمه، فقيل: لم يكن قرآنا وإنما كان وحيا أوحي به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يتلى على أنه وحي لا على أنه قرآن، وهذا هو الذي نختاره، إذ لو كان قرآنا لم يخل أن يكون محكما أو منسوخا، ولا يصح أن(18/216)
يكون محكما إذ لو كان محكما لثبت بين اللوحين ولما صح سقوطه، لأن الله عز وجل قد حفظ القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، ولا يصح أن يكون منسوخا لوجهين: أحدهما وجوب العمل به، والثاني إرادة عمر أن يكتبه في المصحف، إذ يبعد أن يريد أن يكتب في القرآن ما ليس من القرآن. فإذا بطل أن يكون محكما وأن يكون منسوخا بطل أن يكون قرآنا، فإنما كان وحيا يتلى أنزله الله تعالى على نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيانا لمجمل كتابه، فهم عمر بن الخطاب أن يكتبه في عرض المصحف على أنه وحي وبيان لمجمل كتاب الله لا على أنه قرآن، ثم لم يفعل لما خشي أن يظنه الجاهل قرآنا. وإنما قال عمر ابن الخطاب: الرجم في كتاب الله عز وجل حق، من أجل أن الوحي قد بين أن مراد الله عز وجل بقوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] هو الرجم، وأن الحكم الذي يتعلق بالمحصنات في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] هو الرجم، والله أعلم. وقد قيل إنه كان يقرأ وحيا فظنه عمر قرآنا، قاله إسماعيل القاضي، وهو بعيد، لأن عمر لا يصح عليه أن يظن قرآنا ما ليس بقرآن، لأن من علامات القرآن أنه محفوظ معلوم لا يصح الشك فيه ولا الارتياب في شيء منه.
وفي هذا الحديث وجوه من الفقه، منها:
أن الإمامة تنعقد وتتم برجل واحد من أهل الحل والعقد إذا عقدها الرجل على صفة ما يجب أن يكون عليه الأئمة، ويجب أن يحضر العقد له نفر من المسلمين، وقد قيل إن أقل ما يجب أن يحضره أربعة نفر سوى العاقد والمعقود له قياسا على فعل عمر في الشورى، وهذا لا يلزم، لأن عمر لم يقصد(18/217)
بجعلها شورى في تحديد عدد الحاضرين للعقد، وإنما جعلها فيهم دون غيرهم لأنهم أفاضل الأمة، وقد أخبر بذلك عمر عن نفسه: أما إنه لو حضرني سالم مولى أبي حذيفة لرأيت أني قد أصبت الرأي وما تداخلني فيه الشكوك، يريد في أخذ رأيه ومشورته.
وفيه أن الإمامة فرض، وقد قال بعض الناس إنها سنة، واحتج من ذهب إلى ذلك بأن الأمة بقيت بلا خليفة من وقت وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن استخلف أبو بكر، ومن وقت موت عثمان إلى أن بويع لعلي. قال: ولم يكن الله سبحانه ليجمع الأمة على تضييع فريضة. واحتج من رآها فريضة بأن الفروض تقام بها وبأنه أمر لا يوجد السبيل إلى تركه، قال: وليس إن بقي الناس وقتا من النهار بلا خليفة تعطلت الفروض، إذ لم يضع فيه فرض ولا حق لم يدرك في غيره.
وفيه دليل أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يعهد، ولو عهد لاحتج به أبو بكر.
وفيه النصيحة لأهل الإسلام والقيام بالحق في العسر واليسر.
وفيه إقرار عمر لأبي بكر الصديق بأنه أفضل منه وأقوى على الأمر منه.
وقوله: نزونا على سعد، يعني الوثوب لتبادرهم إلى بيعة أبي بكر. وقوله: قتل الله سعدا فإنه رأس فتنة، يعني أنه لو تم ما(18/218)
اجتمعت الأنصار إليه كانت فتنة، لأن العرب لا تقر بذلك لهم. وقوله قتل الله سعدا ليس على معنى الدعاء، وإنما هو بمعنى الذم والإنكار لفعله، وربما قالت العرب ذلك في المدح للرجل عند الإعجاب بفعله، يقولون: أجاد قاتله الله، وكان سعد سيد الخزرج وأحد النقباء، شهد أحدا وما بعدها. وقد روي من الطرق الصحاح أنه لم يقل أحد منهم لأحد إلا خيرا، وإن بويع لخليفة بعد آخر قتل الآخر، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب قال: إذا بويع خليفة فإن بويع آخر فليقتل الثاني. وإنما قال ذلك لأن بيعة الثاني تجر إلى فساد.
وقد أباح الله القتل بالفساد بقوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] ، وقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الآية. وفي الحديث أيضا غير ما وجه، من ذلك فضل التهجير إلى الجمعة، وأن المؤذن يؤذن الجمعة بعد جلوس الإمام على المنبر، وأن يمين المنبر ما بين المنبر والمحراب وهو أشرف أماكن المسجد، وبالله التوفيق.
[قول العالم لا أدري فيما لا يدري]
في قول العالم لا أدري فيما لا يدري وقال [في] رجل [قال] لعبد الله بن عمر: كيف تقول في ودية بوديتين، فسكت عنه، ثم أعاد عليه فقال ابن عمر ودية(18/219)
بودتين وودتين بودية لا علم لي. قال: وسئل ابن عمر عن فريضة فقال لا علم لي، فقال السائل: إذا لم تعلم وأنت صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وابن عمر بن الخطاب، فمن يعلم؟ فقال ابن عمر: من علمه الله عز وجل إياها، ثم دله ابن عمر على رجل فذهب إليه. قال: وقال مالك عن يحيى بن سعيد إن أبا بكر الصديق كان يقول: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت على الله ما لا أعلم.
قال محمد بن رشد: كان يلزم العالم أن يقول لا أدري إذا سئل عما لا يدرى، فإن الذي يجهل من العلم أكثر من الذي يدري. قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] . ولا ينبغي أن يتكلم في شيء من العلم إلا بعد روية وتدبر. وقد قال بعض العلماء: إذا علمت فقل، وما أستؤثر عليك بعلمه فكله إلى عالمه، وبالله التوفيق.
[العزلة عن الناس وكراهة الدخول في الفتن]
في العزلة عن الناس وكراهة الدخول في الفتن قال: وقال يحيى بن سعد إن رجلا يدعى بأبي الجهيم عمي وترك مجالسة الناس واعتزلهم، فقيل له: ألا تجالس الناس؟ فقال: إني وجدت قرب الناس من الشر. قال: وكان عبد الله بن عمرو بن العاص جليسا - لأبي الجهيم يتحدثان، فكان من عبد الله ما كان، فسأل عنه فأخبر فحلف ألا يكلمه أبدا. فلما قدم عبد الله أتاه(18/220)
فسلم عليه فكلمه فلم يكلمه، فقال عبد الله: قد علمت لم فعلت. هذا فاعتذر، فقال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: أطع أباك» .
قال محمد بن رشد: أبو الجهيم هذا هو، والله أعلم، أبو الجهيم أيضا من الصحابة. روي عنه أنه قال: «أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو بئر حمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[شيئا] حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد السلام عليه» . ويحتمل أن يكون أبا جهيم عبد الله بن جهيم الذي روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «المار بين يدي المصلي أنه لو علم ما عليه في المرور بين يديه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» .
وعبد الله بن عمرو بن العاص مشهور من فضلاء الصحابة وعلمائهم، قرأ الكتب واستأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن يكتب حديثه فأذن له، «قال: يا رسول الله، أكتب كما أسمع منك في الرضا والغضب، قال: نعم فإني لا أقول إلا حقا» . وقال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب(18/221)
ولا أكتب. وكان يسرد الصوم ولا ينام [من الليل] فشكاه أبوه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لعينك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا قم ونم وصم وأفطر صم ثلاثة أيام من كل شهر فإنه صوم الدهر. قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم يزل يراجعه في الصيام حتى قال له لا صومَ أفضلُ من صومِ داوودَ كان يصوم يوما ويفطر يوما» . فتمادى على ذلك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونازل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قراءة القرآن من شهر إلى سبع وراجعه في ذلك بقوله: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: لا تقرأه في أقل من سبع وبعضهم يقول في أقل من خمس. والذي عتب عليه فيه أبو جهيم وحلف من أجله ألا يكلمه شهوده صفين مع معاوية. وقد اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وأنه إنما شهدها لعزم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أطع أباك» .
وروي عنه أنه يقول: ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني لم أحضر شيئا منها، وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه، إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية، وجعل يستغفر الله من ذلك ويتوب إليه، ولم يدخل فيما دخل إليه من ذلك إلا وهو يرى باجتهاده أنه سائغ له، ثم رأى البصيرة في خلاف ذلك فندم واستغفر الله مخافة أن يكون قصر في الاجتهاد، فهو محمود في كلتا الحالتين إن شاء(18/222)
الله. وقد مضى هذا بمعناه في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عبد الله بن عمر]
قال: وقدم عبد الله بن عمر الجحفة وبها ابن عامر بن كريز فوضع ابن عمر طعاما فكان يأكل، فقال ابن عمر لطباخه احمل إليه طعاما فوضعه بين يديه، فلما أكل لونا أتاه بلون آخر، فذهب ليأخذ الذي بين يديه ليرفعه، فقال له ابن عامر ما تريد؟ فقال: أرفع هذا وأضع هذا، فقال له ابن عمر: صبه عليه، فصبه، ثم أتاه أيضا بلون آخر فقال أيضا: صبه عليه فصبه، ثم ذهب الطباخ إلى ابن عامر فقال له: هذا الأعرابي فعل كذا وكذا، فقال: انظر ما أمرك به فاصنعه.
قال محمد بن رشد: هذا بين من تواضع عبد الله بن عمر وفضله وتركه لسير الملوك المترفين في الدنيا، وبالله التوفيق.
[التلطف في سؤال العالم]
في التلطف في سؤال العالم ومن المتظاهرتين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أزواجه قال مالك عن أبي النضر عن علي بن حسين عن ابن عباس أنه أراد أن يسأل عن اللتين تظاهرتا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/223)
من أزواجه، فأخبر أن عمر بن الخطاب يعلم ذلك، فأقام سنة يريد أن يسأله عن ذلك ويهابه إن سأله حتى سافر معه سفرا فرآه ابن عباس جالسا تحت شجرة فأتاه فحادثه ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أسألك عن شيء منذ سنة، فقال عمر: ما لك لم تسأل؟ فقال: خفت أن تعاتبني، فلما كان الآن قلت: إن عاتبني عاتبتني خاليا، فقال عمر: سل، فقال ابن عباس: من اللتان تظاهرتا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه؟ فقال عمر: عائشة وحفصة.
قال محمد بن رشد: كانت حفصة مصافية لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكانتا متظاهرتين متعاونتين على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاء عن ابن عباس أنه قال: «كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع نسوة ولكل واحدة منهن بيت وحجرة، ولكل امرأة منهن يوم وليلة من نفسه» .
فلما كان يوم عائشة الذي يأتيها فيه زارت حفصة أباها عمر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فاغتنم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلوة بيتها فدعا جاريته مارية القبطية إلى بيت حفصة. فلما جاءت حفصة أبصرت بابها مغلقا فأحست أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، فجلست حتى فتح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الباب، فقالت: قد عرفت من معك، فقال لها لتكتمن علي، فقالت: نعم، قال: فإنها علي حرام، يعني مارية، وأخبرك أن أبا بكر سيملك أمر أمتي من بعدي، وأن أباك من بعده، فانطلقت إلى عائشة فأخبرتها بما استكتمها، ونزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأخبره بذلك، فغضب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أتته عرفها ما فعلت، فقالت يا رسول الله من أنبأك أني قلت هذا لعائشة؟ قال أنبأني العليم الخبير. فأتته عائشة فقالت: يا رسول الله هذا فعلت في يومي، فأما أيام نسائك فتتمها، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أخبرك بهذا؟ قالت: حفصة، فطلق حفصة تطليقة واعتزل نساءه في مشربة مارية، فمكث تسعة(18/224)
وعشرين يوما ينتظر ما ينزل فيهم، وماج الناس في ذلك، وأتى عبد الله بن عمر أخته فوجدها تلطم وجهها، فقال لها مالك؟ فقالت: طلقني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجع إلى أبيه فأخبره بذلك. فلما مضت تسع وعشرون ليلة نزلت هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، أي من نكاح مارية، {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] الآية. وكذلك روى قتادة أنه قال: حرم جاريته فكانت يمينا. وقال بعضهم: حلف وحرم، وقال إسماعيل فقد يمكن أن يكون حرمها بيمين بالله.
وروي أنه حرمها، فقالت: يا رسول الله، كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف بالله ألا يصيبها. وجاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة وابن أبي مليكة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فأجمعت عائشة وحفصة - رحمهما الله - أن تقولا له إنا نشم عليك ريح المغافير. والمغافير: صمغ متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة، واحدها مُغْفور - مضموم الميم - فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له: إني أشم منك ريح المغافير، فحرم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شرب العسل، وقيل: إنه حلف على ذلك. ولعل القصتين جميعا قد كانتا، إلا أن أمر الجارية أشبه، لقوله سبحانه {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ولقوله عز وجل: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] فكان ذلك في الأمة أشبه، لأن الرجل يغشى أمته في سر ولا يشرب العسل في سر، وفي تحريم الأمة مرضاة لهن. وفي الصحيح من الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يطلق واحدة من نسائه، «وأن عمر بن الخطاب لما قيل له إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق نساءه دخل على حفصة فإذا هي تبكي، فقال: أطلقكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: لا أدري، وهو ذا معتزل في هذه المشربة، فاستأذن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(18/225)
وسلم - في الحجرة، قال فقلت: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ قال: لا» وكان أقسم ألا يدخل على نسائه شهرا، فعاتبه الله عز وجل في ذلك وجعل له كفارة في حديث طويل من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب، قال الزهري: فأخبرني عروة «عن عائشة قالت: فلما مضت تسع وعشرون دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا عائشة إني ذاكر لك شيئا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: ثم قرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] الآية، فقلت: أفي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» . وفي حديث آخر أنها قالت له: «يا رسول الله، لا تخبر أزواجك أني أخبرتك فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنما بعثني الله معلما ولم يبعثني معنتا» وبالله التوفيق.
[أحكام التناجي]
في التناجي وسئل عن الأربعة يكونون جميعا يتناجى ثلاثة دون واحد فقال: قد نهي أن يترك واحد، لا أرى ذلك ولو كانوا عشرة أن يتركوا واحدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنما نهي الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الواحد من أجل أن ذلك يحزنه على ما جاء في حديث ابن مسعود، ويحزنه ويسوؤه على ما جاء في حديث ابن عمر. فإذا تناجى الجماعة دون الواحد كان ذلك على الواحد أشد في الإساءة والحزن وأبين في سوء الأدب معه وقلة المراعاة له. وقد روي أن عبد الله بن عمر حدث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون(18/226)
الثالث» فقيل له فإن كانوا أربعة قال: لا بأس بذلك، معناه لا بأس أن يتناجى الاثنان منهم دون الاثنين وإن كان الاثنان لا يتناجيان. وأما أن يتناجى منهم الثلاثة دون الواحد فلا يجوز لوجود معنى الكراهية في ذلك التي من أجلها كان النهي.
وقد قيل إن ذلك إنما يكره في السفر وحيث لا يعرف المتناجيان ولا يوثق بهما ويخشى الغدرة منهما. ومن حجة من ذهب إلى ذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان دون صاحبهما» وهذا لا حجة فيه، إذ ليس في النهي عن ذلك في السفر ما يدل على إباحته في الحضر، فالصواب أن تحمل الأحاديث التي ليس فيها ذكر السفر على عمومها في السفر والحضر.
ويحتمل حديث عبد الله بن عمر الذي فيه ذكر السفر على تأكيد النهي عن ذلك في السفر، بدليل قوله فيه: لا يحل. فإذا خشي المتناجيان دون صاحبهما أن يظن بهما أو يخشى منهما أنهما يتناجيان في غدره فلا يحل لهما أن يتناجيا دونه، كان ذلك في السفر أو في الحضر. وإذا أمن ذلك فهو مكروه لهما من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، كان ذلك أيضا في السفر أو الحضر، وبالله التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وقال لقمان الحكيم لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.(18/227)
قال محمد بن رشد: قد تقدم قبل هذا من وصيته مثل هذا، فمن الحظ لكل مسلم الأخذ بوصيته والمحافظة عليها.
[كراهة سفر المرأة مع غير ذي محرم منها]
في كراهة سفر المرأة مع غير ذي محرم منها وسئل عن المرأة تسافر مع غير ذي محرم، قال: إن ذلك ليكره أن تسافر يوما وليلة مع غير ذي محرم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ذلك ليكره لفظ وقع منه على سبيل التجاوز، بل لا يحل ذلك [لها] ولا يجوز، لورود النص في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» . واختلف أهل العلم في المرأة الصرورة إذا لم يكن لها زوج يحج بها ولا ذو محرم تحج معه هل يسقط عنها فرض الحج أم لا؟ فذهب مالك إلى أنه لا يسقط عنها وتخرج في جماعة من النساء وناس من المؤمنين لا تخافهم على نفسها، بدليل إجماعهم على أنها إذا أسلمت في بلد الحرب تجب عليها الهجرة إلى بلد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم، فهذا مخصوص من عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإجماع، وحجها مع غير ذي محرم إذا لم يكن لها ذو محرم تحج معه مخصوص بالقياس على ما أجمعوا عليه، وذلك صحيح. وخالفه في ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فقالوا: يسقط الفرض عنها بعدم ذي المحرم. وقد اختلف في حد السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم، فقيل البريد فما فوقه،(18/228)
وقيل اليوم، وقيل يوم وليلة، وقيل ليلتان، وقيل ثلاثة أيام، وأتت بذلك كله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآثار. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه قال: «لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم» فتعلق قوم بعموم هذا الحديث فقالوا: لا تسافر المرأة سفرا قريبا ولا بعيدا إلا مع ذي محرم منها، وبالله التوفيق.
[طرح البرغوث والقملة في النار]
في طرح البرغوث والقملة في النار وسئل عن طرح البرغوث والقملة في النار، فقال: لا، إن ذلك ليكره.
قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا قبل هذا والتكلم عليه فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عيسى ابن مريم]
قال مالك: كان عيسى ابن مريم يقول: سيأتي قوم حكماء علماء، كأنهم من الفقه أنبياء. قال مالك: فإن كان قاله فأراهم صدر هذه الأمة.
قال محمد بن رشد: هو كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بدليل ما جاء في كتاب الله عز وجل من صفتهم، قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] الآية.(18/229)
وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي خيارا عدولا، وقال عز وجل لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ولا يؤمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور إلا أولي العلم والنهى والديانة والفضل، وبالله التوفيق.
[صفة أرباب العلم]
في صفة أرباب العلم قال: وقال سأل عبد الله بن سلام كعب الأحبار من أرباب العلم الذين هم أهله؟ قال: هم الذين يعملون بما يعلمون، قال: صدقت، قال: فما نفاه من صدورهم بعد أن علموا؟ قال: الطمع، قال: صدقت.
قال محمد بن رشد: قوله: إن أرباب العلم هم الذين يعملون بما يعلمون صحيح بين في المعنى، لأن من لم يعمل بما علم لم ينتفع بعلمه وهو في التمثيل كرجل بيده مال لغيره أذن له في إنفاقه فلا يقال فيه إنه ربه إذ لا ينتفع بشيء منه.
وقد جاء في الحديث: «من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه» لأن علمه يكون عليه حسرة وندامة. وأما قوله: إن الطمع ينفيه من صدورهم، فمعناه أن الحرص على بلوغ شهوات الدنيا يدخلهم في المكروه فيذهلون به عن التوقي [مما يجب عليهم التوقي] منه، فإنه ينفي(18/230)
عن صدورهم بالطمع استعمال العلم لا العلم، فهو مجاز من القول. وقد مضى هذا في رسم المحرم من سماع ابن القاسم. وبالله التوفيق.
[التحدث بالأحاديث المختلفة]
في كراهة التحدث بالأحاديث المختلفة قال: وقال مالك لم يكن بالمدينة إمام أخبر بحديثين مختلفين.
قال محمد بن رشد: يريد بحديثين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما ولا ينسخ أحدهما بالآخر، لأن ما هذا سبيله من الأحاديث فالأصح في النقل منهما هو الذي يجب أن يحدث به وبالله التوفيق.
[ترك إحفاء الشوارب]
في ترك إحفاء الشوارب قال: وسئل مالك عن من أحفى شاربه، قال: يوجع ضربا، وليس حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإحفاء. قال: وكان يقال ويبدو حرف الشفتين الإطار. وقال لمن يحلق شاربه هي بدع تظهر في الناس. وذكر زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب كان إذا أكربه أمر نفخ، قال فجعل رجل يراده وهو يفتل شاربه بيده، فلو كان محفيا ما وجد ما يفتل، هذه بدع قد ظهرت في الناس.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سئل عن(18/231)
تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[السفر في طلب العلم]
في السفر في طلب العلم وقراءة القرآن في الطرق قال: وسمعت أن ابن المسيب قال: إن كنت لأسير في الحديث الواحد مسيرة الأيام والليالي. قال مالك: وكان سعيد بن المسيب يختلف إلى أبي هريرة بأرضه بالجشرة، فقال: جئت أبا هريرة بالجشرة فرأيته جاء من الغائط وإنه ليحدر سورة آل عمران حدرا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على السفر في طلب العلم في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، ومضى القول فيه أيضا في قراءة القرآن على كل حال، وبالله التوفيق.
[العلم يذهب بذهاب العلماء]
ما جاء من أن العلم يذهب بذهاب العلماء
قال أشهب: وأخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينتزع العلم انتزاعا من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا ذهب العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» .(18/232)
قال محمد بن رشد: هذا مما أخبر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سيكون فكان على ما أخبر، والله ولي العصمة والتوفيق برحمته.
[يخرج بالشيء إلى المسكين فلا يجد]
في الذي يخرج بالشيء إلى المسكين فلا يجده وسئل عن الرجل يخرج بشيء إلى المسكين ليعطيه إياه فيجده قد ذهب، قال: يعطيه غيره.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سأل تأخير صلاة العشاء في الحرس فأغنى ذلك عن إعادته هنا؟ وبالله التوفيق لا شريك له.
[التحذير من اتباع الهوى والزيغ البعيد]
في التحذير من اتباع الهوى والزيغ البعيد قال: وقال عمر بن عبد العزيز: أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد.
قال محمد بن رشد: إنما حذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اتباع الهوى لقول الله عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] الزيغ البعيد هو الإغراق في القياس والغلو في الدين، وكلاهما مذمومان لأنك لا تكاد تجد الإغراق في القياس إلا مخالفا للسنة، والغلو في الدين منهي عنه، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] . وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(18/233)
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: وقال عمر بن عبد العزيز: إني لست بمبتدع، ولكني متبع، ولست بقاض ولكني منفذ، ولست بخير من أحدكم إلا أني أثقلكم حملا.
قال محمد بن رشد: إنما قال، والله أعلم، لست بمبتدع ولكني متبع جوابا لمن سأله الحكم بخلاف ما مضى عليه العمل. ومعنى قوله لست بقاض ولكني منفذ، أي لست أقضي بحكمي وإنما أنفذ ما أمرني به ربي في كتابه وعلى لسان رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقوله: لست بخير من أحدكم إلا أني أثقلكم حملا تواضع منه وفضل - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه التوفيق.
[وصية لقمان لابنه]
في وصية لقمان لابنه قال: وكان لقمان يقول لابنه: يا بني اتق الله جهدك.
قال محمد بن رشد: وصيته هذه لابنه مثل ما أمر الله تعالى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، وقيل: إنها ليست بناسخة لها وإنما هي مبينة لمعناها، لأن تقوى الله حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وبالله التوفيق.(18/234)
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: وقال مالك: دخل زياد مولى ابن عباس، وكان رجلا صالحا غير عالم بحال الولاة والهيبة وعليه جبة صوف، على عمر بن عبد العزيز فقال: السلام عليكم، ثم جلس، ثم استفاق فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: إني لم أنكر الأولى وليس بها بأس، ولقد أصبحت يا ابن زياد خلوا مما أنا فيه وأراك دينا. قال: وكان عمر بن عبد العزيز قد أسكن بعض ولده نواحي أبلة، فكتب إليه يسأل لهم سيجانا وأقداحا وأشياء مما يحتاجون إليها، فكتب إليه عمر أن عليك لهم بطيقان يلبسونها في الشتاء ويفترشونها في الصيف، وعليك بأقداح الفخار فإنها تجزئ من غيرها.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين في فضل عمر بن عبد العزيز وتواضعه، إذ لم ينكر على زياد ترك تخصيصه بالسلام وتسميته إياه بما خصه الله به من الإمارة على العادة في ذلك، وزهده في الدنيا وتقلله منها، بدليل ما أمر به لبنيه من الطيقان وأقداح الفخار، وبالله التوفيق.
[التسمي بياسين]
في التسمي بياسين قال: وسألته أينبغي لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي، لقول الله عز وجل: {يس} [يس: 1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 3] يقول هذا أسمى بياسين.(18/235)
قال محمد بن رشد: قيل في ياسين إنه اسم من أسماء الله عز وجل وإنه أقسم به وبالقرآن الحكيم، وقيل إنه اسم من أسماء القرآن أقسم الله به أيضا. على هذين القولين لا يجوز لأحد أن يتسمى بياسين. وروي عن ابن عباس أنه قال: معنى ياسين يا إنسان بالحبشية، فعلى هذا يجوز أن يتسمى الرجل بياسين.
وقال مجاهد هو مفتاح افتتح الله عز وجل به كلامه، فعلى هذا تجوز التسمية به أيضا. ولهذا الاختلاف الحاصل في ياسين كره مالك لأحد أن يتسمى به، وبالله التوفيق.
[المرأة تموت بجمع]
في المرأة تموت بجمع قال: وقال مالك في المرأة تموت بجمع هي التي ولدها في بطنها.
قال محمد بن رشد: المرأة تموت بجمع هي أحد الشهداء السبعة سوى المقتول في سبيل الله، على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك. واختلف في المرأة تموت بجمع: فقيل هي المرأة تموت وولدها في بطنها على ما قاله مالك وهو المشهور من الأقوال، وقيل هي المرأة البكر التي تموت قبل أن تطمث، وقيل هي المرأة التي تموت بالمزدلفة حاجة، لأن جمعا من أسماء المزدلفة، وبالله التوفيق.
[تفسير الأب وإرم ذات العماد]
في تفسير الأب وإرم ذات العماد قال: وسئل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31](18/236)
ما الأب؟ فقال هذا لعمر الله التكلف، وقال يقال: إن إرم ذات العماد هي دمشق.
قال محمد بن رشد: الذي قيل في الأب أنه ما تأكله البهائم من العشب والنبات، والفاكهة ما يأكله الناس من ثمر الأشجار كلها: النخل والرمان وغيرهما من الأشجار. وذهب أبو حنيفة إلى أن الرطب والرمان ليسا من الفاكهة، واحتج بقول الله عز وجل: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، ولا حجة له في ذلك، لأنه إنما أعيد ذكرهما وإن كانا من الفاكهة تأكيدا لهما لشرفهما على سائر الفواكه، مثل قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعاد ذكر جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما.
وأما قوله في إرم ذات العماد إنه يقال إنها دمشق، ففي ذلك اختلاف كثير: قيل في إرم إنها اسم بلد، فقال قوم: هي الإسكندرية، وقال قوم: هي دمشق، وقيل بل إرم أمة، وقيل بل هي قبيلة من عاد، وقيل بل إرم اسم رجل هو جد عاد فعاد هو عاد بن عوص ابن إرم؛ وقيل بل هو أبوه فهو عاد بن إرم. وقال الفضل: أكثر الكوفيين لا يجوز أن يكون إرم اسما لأرض ولا لمدينة من جهة إجماعهم على صرف عاد، فلا تكون الأرض ولا المدينة نعتا للإنسان ولا لقبيلة، ولا يجوز أن ينسب إليها وهو منون. قال: وأيضا فإن كانت دمشق فمحال أن لا يكون في البلاد مدن مثلها، وإن كانت أرض فمحال أن تكون أرض ليس مثلها أرض في البلاد. والذي أراه، والله أعلم، أن إرم جد عاد(18/237)
كان شديدا فتشبهوا به فصار إرم نعتا لهم كاللقب، كما يقال: زيد أسد وعمرو نعجة. ومعنى ذات العماد أنهم كانوا أهل عمود أي أخبية وماشية، فإذا كان الربيع انتجعوا، وإذا هاجت الأرض وجف العشب رجعوا إلى منازلهم. والعماد جمع عمد، وعمد جمع عمود. وقيل معنى ذات العماد أي ذات العدة وكانوا أعطوا بسطة في الخلق لم يعطها غيرهم: كان الرجل منهم في غاية القوة وكان أطولهم ستين ذراعا وأقصرهم اثني عشر ذراعا. وقال بعض نقلة الأخبار إنه كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستون ذراعا، وجلهم ما بين المائة إلى الثمانين. وقوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8] على هذا القول راجع إلى القبيلة لما كان فيهم من الشدة وعظم الخلق. قال أبو جعفر الطبري: ومن ذهب إلى أن إرم اسم لبلدتهم وقال: إن الهاء في مثلها لذات العماد فقد غلط، لأن العماد واحد مذكر، والتي للأنثى، ولا يوصف المذكر بالتي، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل الذي لم يخلق مثلها في البلاد، وبالله التوفيق.
[مخالطة اليتيم في النفقة]
في مخالطة اليتيم في النفقة قال: وسألته امرأة فقالت: أخذت صبية يتيمة احتسبت فيها الأجر، فيدها مع يدي ويد بناتي لست أضن عنها بشيء، فربما سألني عنها السائل فأعطاها الدراهم فأشتري لها بها الشيء، فربما لم يكن عندي ما أطعم ولدي فأطعمهم من الذي اشتريت لها، وربما أكلت منه إذا لم يكن بيدي ما أشتري به، فقال لها: أنا أخبرك عن ذلك، إن كان ما تنال منك الجارية مثل الذي تصيبين مما أخذت لها أو أكثر فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لقول الله عز وجل في(18/238)
اليتامى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] . وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم.
[ما يجازي الله به الصادق في الدنيا]
فيما يجازي الله به الصادق في الدنيا قال: وسمعت أنه قال ما حرف إنسان قط صدوق وليس من أهل الكذب.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف وإن صح بمعناه في الغالب. وقد مضى هذا في رسم الشجرة قبل هذا من سماع ابن القاسم.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: وقال اقتتل غلمان لسليمان بن عبد الملك وغلمان لعمر بن عبد العزيز، فضرب غلمان عمر غلمان سليمان فحمل سليمان وقيل له: هذا ما صنعت، شبرته وفعلت به، فدخل عليه عمر فقال له سليمان: ما هذا؟ ضرب غلمانك غلماني وأهلي، فقال له عمر ما علمت هذا قبل مقالتك الآن، فقال له: كذبت، فقال له عمر: يقال لي كذبت وما كذبت منذ شددت علي إزاري، وإن في الأرض من مجلسنا هذا لسعة، ثم خرج من عنده وتجهز يريد الخروج،(18/239)
فسأل عنه سليمان حين استبطأه فقالوا: إنه يريد الخروج إلى مصر وقد تجهز، فأرسل إليه أن ارجع وادخل علي، وقال للرسول: قل له إذا جاءني لا يعاتبني فإن في المعاتبة فجاءه عمر فقال له سليمان: ما همني أمر قط إلا خطرت فيه على بالي. وقال عن عمه أبي سهيل قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فوعظته وقلت له حتى رق وقام من مجلسه فتنحى ناحية ما على أرض فلم يعجل عليه مزاحم ثم أخذ وسادة فأدناها منه فأخذها عمر فرمى بها.
قال: وكان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم أرضني بقضائك وأسعدني بقدرك حتى لا أحب تأخير شيء عجلته ولا تعجيل شيء أخرته. قال وقال: قام عمر بن عبد العزيز إلى مصلاه من مجلسه فذكر سهيل بن عبد العزيز وعبد الملك ومزاحما، فقال اللهم إنك قد علمت ما كان من عونهم لي ومعونتهم إياي فأخدتهم فلم يزدني ذلك لك إلا حبا، ولا لي فيما عندك إلا شوقا، ثم رجع إلى مجلسه.
قال محمد بن رشد: هذه الحكاية كلها عن عمر بن عبد العزيز شاهدة له بما هو معلوم مشهور من خيره وفضله رحمة الله عليه ورضوانه، والشبر: العطاء، يقال: شبرت الرجل وأشبرته إذا أعطيته، وشبرت المرأة صداقها أعطيتها إياه. فمعنى الكلام هذا ما صنعت أعطيته الجاه والأثرة والمنزلة والمكانة حتى استطال غلمانه على غلمانك. والتشديد في شبرت بمعنى التكثير، كما تقول ضربت وقتلت. ووقع في بعض الكتب: هذا ما فعلت سبرته، وهو غلط لا معنى له والله أعلم، وقد رأيت لبعض أهل اللغة أن التشبير بمعنى التعظيم يقال شبر فلان إذا عظم، وشبرته إذا عظمته. وهذا أشبه بمعنى الحكاية، لأن القائل قال له لما حمل، أي غضب، لإنداره أعوانه(18/240)
على أعوانه: هذا ما صنعته بنفسك، لأنك شبرته أي عظمته وفعلت وفعلت حتى استطال أعوانه على أعوانك، وبالله التوفيق.
[الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد]
في الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد قال: وسألته عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان منها من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإني أكره ذلك وأكره أن يزاد فيها وينقص، وما كان من غير قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا أرى بذلك بأسا إذا كان المعنى واحدا. قيل له: أرأيت حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزاد فيه الواو والألف والمعنى واحد، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: التقديم والتأخير في الأحاديث والزيادة في ألفاظها والنقصان منها وتبديلها بما كان في معناها مكروه في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجائز في حديث غيره للفقيه العالم بمعنى الكلام الذي يؤمن عليه الغلط في ذلك بأن يظن أن المعنى سواء وليس بسواء. والدليل على ذلك أن الله تعالى قد ذكر قصص الأنبياء في القرآن متكررة في مواضع بألفاظ مختلفة وزيادة في بعضها على بعض، فلم يكن ذلك اختلافا من القول ولا تعارضا فيه لاتفاق المعنى في ذلك كله. وقد استدل بعض من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز «بحديث البراء بن عازب قال: قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك [اللهم] ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك مت على.(18/241)
الفطرة. واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال: فرددتها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما بلغت اللهم آمنت. بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت.» وليس ذلك باستدلال صحيح، لأن المعنى في ذلك مختلف من أجل أن قوله: ونبيك الذي أرسلت يجمع النبوءة والرسالة، ففيه زيادة بيان على رسولك الذي أرسلت، لأن الرسل من الملائكة وليسوا بأنبياء، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا، ونبيك الذي أرسلت. ولمخافة الغلط في مثل هذا على الفقيه كره له أن يسوق شيئا من حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المعنى. وأما إن كان المحدث ليس بفقيه ممن تخفى المعاني عليه فلا يسوغ له أن يحدث على المعنى، إذ قد يسوق الحديث على المعنى الذي ظهر إليه وهو مخطئ في ذلك، مثل الحديث: «إن الله خلق آدم على صورته» ظن بعض الرواة أن الهاء من قوله على صورته عائدة على الله عز وجل. فساقه على ما ظنه من معناه فقال فيه: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى أن يتزعفر الرجل» فساقه بعض الرواة على المعنى فيه عنده فقال فيه إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التزعفر، فدخل في عموم قوله الرجال والنساء، ومثل ذلك كثير. وأما زيادة الألف والواو فيما لا يشك فيه أنه يغير المعنى في حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو خفيف كما قاله مالك، وبالله التوفيق.
[فضل طاووس وما كان عليه]
في فضل طاووس وما كان عليه قال: وكان طاووس يرجع من الحج فيدخل بيته فلا يخرج منه(18/242)
حتى يخرج للحج من قابل. قال: وكان طاووس يطعم الطعام فيدعو هؤلاء المساكين أصحاب الصفة، فقالوا له: لو صنعت طعاما دون هذا، فيقول إنه لا يكاد يجدونه.
قال محمد بن رشد: فيما كان يفعله طاووس من التزامه داره للسلامة من مواقعة الآثام بمخالطة الناس، وإنما كان يطعم المساكين طيب الطعام لأنه هو الذي يحب ويتمنى، ووعد الله تعالى عليه الجزاء الجزيل حيث يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] إلى قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12] الآيات إلى آخرها.
[تعليق الأقناء في المساجد]
في تعليق الأقناء في المساجد وسئل عن الأقناء التي تعلق في المساجد، فقال: بلغني أنها كانت تعلق في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيعطى منها المساكين.
قال محمد بن رشد: الأقناء: العراجين، واحدها قنو، ويجمع على أقناء وقنوان. قال الله عز وجل: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99] زاد في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة أنه إنما كان يفعل ذلك لمكان من كان يأتي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد الإسلام، فكان لموضع ضيافتهم فيأكلون منه، وأراه حسنا أن يعلق فيه. فقيل له: أفترى لو(18/243)
عمل ذلك في مساجد الأمصار؟ فقال: أما كل بلد فيه تمر فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم ولم ير مالك بأسا. بأكل الرطب التي تجعل في المسجد مثل رطب ابن عمير وقد جعل صدقة. وفي هذا دليل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المسجد ويبيتوا فيها ويأكلوا فيها ما أشبه التمر من الطعام الجاف كله. وقد مضى هذا المعنى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي غير ما موضع، وبالله التوفيق.
[حديث عبد الله بن عمرو في الفتنة]
في حديث عبد الله بن عمرو في الفتنة
قال: «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو بن العاص: كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم فاختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. قال: فكيف بي؟ قال عليك بخاصتك وإياك وعوامهم» .
قال محمد بن رشد: وقع هذا الحديث في سماع أشهب من كتاب التجارات إلى أرض الحرب بزيادة فيه: قال لي «فانظر لنفسك وعليك بالبين المحض» . وفي هذا الحديث علم جليل من أعلام النبوءة، لأنه أعلم فيه عبد الله بن عمرو بن العاص بما يكون بعده من الفتن، وحذره ألا يدخل منها في مشكل. وقد دخل فيها بما أداه إليه اجتهاده مع عزم أبيه عليه في ذلك، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أطع أباك» فشهد مع معاوية حرب صفين على ما ذكرناه قبل هذا في هذا الرسم: ثم ندم بعد ذلك لما ظهر إليه من البصيرة في خلاف رأيه الأول، فاستغفر الله عز وجل من ذلك مخافة أن يكون(18/244)
قد قصر أولا في اجتهاده مع قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: فانظر لنفسك وعليك بالمحض البين، وبالله التوفيق.
[فضل عبد الله بن الأرقم]
في فضل عبد الله بن الأرقم قال: وقال عبد الله بن الأرقم وهو يموت: ألا أخبركم برأي الرجل الصالح في، قال عمر بن الخطاب: لو كان لك [مثل] سابقة القوم ما قدمت عليك أحدا. قال: وكان عمر بن الخطاب يقول: ما رأيت رجلا قط أخشى لله من عبد الله بن الأرقم. قال مالك: ذكر لي زيد بن أسلم قال: «كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاب فقال من يجيب عني؟ فقال عبد الله بن الأرقم: أنا، فأجاب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضي ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - فقال عمر: أصاب ما أراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يزل ذلك في نفس عمر فلما ولي ولاه بيت المال.
قال محمد بن رشد: عبد الله بن الأرقم هذا هو عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف القرشي الزهري، أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم لأبي بكر بعده، واستكتبه أيضا عمر، فلما ولي ولاه بيت المال، وعثمان بعده وأعطاه ثلاثمائة درهم، فأبى أن يأخذها وقال: إنما عملت لله فأجري على الله. وبلغ(18/245)
من أمانته عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويأمره أن يطينه ويختمه ولا يقرؤه لأمانته عنده. وبالله التوفيق.
[شبه سالم بن عبد الله بأبيه]
في شبه سالم بن عبد الله بأبيه، وأبيه بأبيه عمر قال: وقال سعيد بن المسيب، كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم بن عبد الله أشبه ولد عبد الله به. قال مالك: ولم يكن أحد في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والقصد والعيش منه، كان يلبس الثوب بالدرهمين، ويشتري الشمال يحملها. وقال مالك قال سليمان بن عبد الملك لسالم بن عبد الله ورآه حسن السحنة: أي شيء تأكل؟ قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته، فقال له: أوتشتهيه؟ فقال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
قال محمد بن رشد: إنما أراد أن كل واحد منهما كان أشبه بأبيه من سائر إخوته في خيره وفضله ودينه وبالله التوفيق.
[ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم]
فيما كان يدعو به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال مالك: قال يحيى بن سعيد: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك(18/246)
المنكرات، وحب المساكين وإذا أردت في قوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» .
قال محمد بن رشد: يروى: وإذا أدرت، والمعنى في ذلك سواء، لأنه إذا أراد الفتنة فقد أدارها، وإذا أدارها فقد أرادها. والفتنة على وجوه: فمنها ما كان في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تعذيبهم ليرتدوا عن دينهم، فذلك قول الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي العذاب أشد منه؛ ومنها أن يفتن الله قوما أي يبتليهم، ومنها ما يقع بين الناس من الخلاف والحروب؛ ومنها الفتنة بالنساء، تقول قد فتن بالمرأة إذا تعشقها؛ ومنها الإضلال، قال الله عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] أي بمضلين؛ ومنها الفتنة بالنار، تقول: فتنته بالنار أي أحرقته بها، وفي القرآن {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي يحرقون. والفتان: الشيطان الذي يصد الناس عن دينهم ويغويهم، وفتانا القبر منكر ونكير، فينبغي أن يستعاذ بالله عز وجل من الفتنة على الوجوه كلها تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فعل الخيرات وترك المنكرات بين لا إشكال فيه. وأما دعاؤه في حب المساكين فالمعنى فيه، والله أعلم، حب المسكنة، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» . ومعناه الذليل المتواضع لله الذي لا جبروت فيه ولا كبرياء، لا المسكين الفقير من المال، فقد استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفقر المنسي(18/247)
والغنى المطغي، فأغناه الله عز وجل الغنى الذي ليس بمطغ وعدد النعمة عليه بذلك فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] . وقد مضى التكلم على الفقر والغنى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[ما روي عن داود النبي عليه السلام في قلة المال وكثرته]
فيما روي عن داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قلة المال وكثرته قال: وقال لي: سمعت أن داود النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. قال مالك: قال ذلك الرجل: إن كان يغنيك ما يكفيك، فأقل عيشها يغنيك.
قال محمد بن رشد: في قول هذا الرجل زيادة لم تقع هاهنا وهي: وإن كان لا يغنيك ما يكفيك، فليس في الدنيا شيء يغنيك. والمعنى في هذا كله بين، لأن كثرة المال الذي يلهي مذموم، فقد استعاذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الغنى المطغي فلا إشكال في أن القليل الذي يكفي خير منه، لأن فيه الاستغناء عن الناس، والسلامة من أن يلهيه المال ولا يقوم بحقوق الله عز وجل فيه. ومن كان معه من المال ما يقوم به ويغنيه عن الناس وعن الكدح في معيشته فهو من الأغنياء، وبالله التوفيق.
[فضل ابن المنكدر وثنائه بالعلم على سعيد بن المسيب]
في فضل ابن المنكدر وثنائه بالعلم على سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار قال مالك: وكان محمد بن المنكدر سيد القراء لا يكاد يسأل عن حديث أبدا إلا يكاد يبكي.(18/248)
قال محمد بن رشد: وكان سعيد بن المسيب عالما بالبيوع، وكان أشبه أهل المشرق به محمد بن سيرين، فقيل له: سليمان ابن يسار؟ قال: لم أسمع عن سليمان بن يسار.
قال القاضي: البكاء من خشية الله لا يكون إلا مع حقيقة العلم بالله، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] . وقال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وقد كان سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار فرسي رهان في العلم والفضل، واختلف أيهما أعلم. وقيل: إن العلم كان لسليمان بن يسار، والذكر كان لسعيد بن المسيب، وبالله التوفيق.
[أخذ الأحاديث عن الثقة إذا لم يكن حافظا]
في أخذ الأحاديث عن الثقة إذا لم يكن حافظا وسئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح أتؤخذ عنه الأحاديث؟ قال: لا، فقيل: يأتي بكتب فيقول قد سمعتها وهو ثقة أتؤخذ منه؟ قال: لا تؤخذ منه، أخاف أن يزاد في كتبه بالليل. قال: وذكرت عنده كثرة الكتب فقال: ما شأن أهل المدينة ليست لهم كتب، مات ابن المسيب، والقاسم بن محمد ولم يتركا كتابا، ومات أبو قلابة فبلغني عنه أنه ترك حمل بغل كتبا.(18/249)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، أنه إذا كان لا يحفظ فلا يؤخذ عنه ما جاء به من الأحاديث في الكتب، وقال: إنه سمعها على فلان وإن كان ثقة للعلة التي ذكرها من أنه يخشى أن يكون قد زيد فيها أو غير بعض معانيها إلا أن تكون الكتب بخط يده فترتفع هذه العلة ويؤخذ عنه ما في الكتب إذا كان ثقة مأمونا.
وهذا فيما جاء به من الكتب التي لا تعرف وقال إنه سمع ما فيها من فلان. وأما الدواوين المشهورة كالبخاري ومسلم وشبههما، فإذا قال إنه سمعها من فلان جاز أن تحمل عنه عن ذلك الرجل، ولا فائدة في رواية الأحاديث إلا التفقه فيها والعمل بها. وكان العلم في الصدر الأول وفي الثاني في صدور الرجال، ثم انتقل بعد ذلك إلى جلود الضان وصارت مفاتيحه في صدور الرجال، فلا معنى لرواية الأحاديث إلا التفقه فيها، ولا بد لمريد التفقه فيها من مطرق يفتح عليه معانيها، وبالله التوفيق.
[إعراض العالم عن جفاء السائل]
في إعراض العالم عن جفاء السائل وقال مالك: وقال رجل كالبدوي للقاسم بن محمد: أنت أعلم أم سالم؟ قال هذا سالم، فإن تأته لم يخبرك إلا بما أحاط به علما.
قال محمد بن رشد: لما سأل السائل القاسم بن محمد عمالا يعنيه مما لا يتحقق معرفته أعرض عن جوابه على ذلك، وبالله التوفيق.
[جواز لباس المظال]
في جواز لباس المظال قال: وسئل عن لباس المظال، فقال ما كانت من لباس الناس، وما أرى بلباسها بأسا.(18/250)
قال محمد بن رشد: يريد بالمظال القلانس الذي لها ظل تقي من الشمس، فلم ير بلباسها بأسا وإن لم تكن من لباس السلف للمنفعة بها، وبالله التوفيق.
[الذي يسمع الخير ويقبله]
في الذي يسمع الخير ويقبله قال: وسمعت ربيعة يقول: ليس الذي يقول الخير ويفعله خيرا من الذي يسمعه ويقبله حين يسمعه.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إنه ليس خيرا منه لأنه لا يكون قابلا له إلا أن يفعله، فإن لم يقدر على فعله لحائل يحول بينه وبين فعله جوزي بنيته، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة» . وقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] فأعلم عز وجل باستواء المجاهدين مع القاعدين من ضرر في الأجر، وبالله التوفيق.
[العامي لا يسعه أن يقلد إلا من يفتي بعلم]
في أن العامي لا يسعه أن يقلد إلا من يفتي بعلم قال مالك: وسأل رجل عبد الله بن عمر عن شيء فقال لا أدري، فقال له رجل تعال ما سألت عنه؟ فقال: سألت عن كذا(18/251)
وكذا، فقال له: وهو كذا وكذا، فقال له [ابن عمر] أخبرت الرجل بعلم علمته؟ قال: لا، قال: فبماذا؟ قال: برأيي. فأرسل ابن عمر خلف الرجل إنه إنما أفتاك بغير علم، فانظر لنفسك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال ابن عمر، لأن فرض العامي هو أن يسأل عالما. وإنما اختلف هل له أن يقلد من شاء من العلماء أو ليس له أن يقلد إلا أعلمهم يجتهد في ذلك، وبالله التوفيق.
[المرأة كالضلع]
ما جاء في أن المرأة كالضلع قال مالك: وحدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها استمتعت وفيها عوج» .
قال محمد بن رشد: إنما قال فيها إنها كالضلع من أجل أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ولم يرد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن النساء كلهن على هذا، وإنما أراد أن هذا هو الغالب من أحوالهن وصفاتهن، فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» وإنما أراد أن هذا هو الغالب من أحوالهن، إذ قد يوجد من النساء من ترى لزوجها ما يفعل بها من خير وتقر به على كل حال ولا تكفره، وبالله التوفيق.(18/252)
[وصف عبد الله بن عمرو لأهل الأمصار]
في وصف عبد الله بن عمرو لأهل الأمصار قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لأهل العراق إنهم أطلب الناس لعلم وأتركهم له؛ ولأهل المدينة أسرع الناس إلى فتنة وأضعفهم عنها؛ ولأهل الشام أطوع الناس للمخلوق وأعصاهم للخالق؛ ولأهل مصر أكيسهم صغارا وأحمقهم إذا كبروا.
قال محمد بن رشد: [هذا] إنما قاله على ما اختبر في الغالب من أحوالهم على مر الأعوام، ولا غيبة بذلك فيهم، إذ لم يعين أحدا منهم بما وصف جملتهم به، وبالله التوفيق.
[التوسع في الإنفاق]
في التوسع في الإنفاق قال: وأخبرني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» . قال أشهب قلت: قال الله، قال مالك: ليس هذا هكذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال الله: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» .
قال محمد بن رشد: قد علم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل ذلك إلا عن الله عز وجل أنه قاله، فليس على الراوي في زيادة مثل هذا في الحديث على ما سمعه شيء، ولكنه استحب أن لا يحدث بالحديث إلا على ما سمعه قطعا للذريعة مخافة أن يتجرأ أحد بذلك أن يزيد في(18/253)
حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يظن أنه معناه. وفي الحديث استحباب التوسع في الإنفاق على العيال من غير إسراف، وأن الله يخلف على فاعل ذلك. وقد أثنى عز وجل على المنفقين من غير إسراف ولا إقتار فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وبالله التوفيق.
[ما ذكر في موسى عليه السلام]
فيما ذكر في موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال: وكان يحيى بن سعيد يقول: «كأني أنظر إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعليه ثوبان أخضران منهبطا من ثنية هرشا لما مضى» .
قال محمد بن رشد: [سقط] ، قال مالك لما مضى في بعض الكتب، وهو صحيح في المعنى، لأن يحيى بن سعيد إنما قال ذلك تحقيقا لما أخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، وذلك كما يقول الرجل: فلان فعل كذا وكذا أمس كأني أنظر إليه يفعله تصديقا لما أخبر به عنه. وقد عرضت الأمم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرآها على ما كانت عليه.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما فقال: عرضت علي الأمم ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل هذا موسى في قومه» وبالله التوفيق.(18/254)
[ما يحذر من قرب الساعة والتصديق بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام]
فيما يحذر من قرب الساعة والتصديق بنزول عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: وكان أبو هريرة يلقى الفتى الشاب فيقول: يا ابن أخي إنك عسى أن تلقى عيسى ابن مريم فأقرأه مني السلام.
قال محمد بن رشد: قد أعلم الله عز وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن عيسى ابن مريم ما قتل ولا صلب وأن الله رفعه إليه. وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إخبارا متواترا وقع العلم به أنه سيهبط في آخر الزمان حكما عدلا مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال، فوجب التصديق على كل مسلم بذلك كما فعل أبو هريرة، وبالله التوفيق.
[مناولة الرجل ما سقي من الشراب لجلسائه]
في مناولة الرجل ما سقي من الشراب لجلسائه قال مالك: سمعت أن عمر بن الخطاب سقي شرابا فيه عسل فذاقه ثم قال: من يأخذ هذا بشكره فناوله إنسانا.
قال محمد بن رشد: السنة أن يناول الرجل الشراب لمن على يمينه على ما جاء من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن» . وأنه «أوتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال: لا والله يا(18/255)
رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يده» . فيحتمل أن يكون عمر بن الخطاب إذ أوتي بالشراب لم يكن أحد ممن معه على يمينه، ولذلك قال ذلك القول. وفي قوله شراب فيه عسل دليل على أن الشراب لم يكن من عسل وإنما كان من غير العسل وفيه عسل. وخلط العسل بشراب غير العسل منهي عنه، والنهي إنما هو في خلطه فإذا خلط لم يلزم هرقه وجاز شربه.
وقوله في حديث عمر: وذاقه، يدل على أنه لم يشربه، وذلك، والله أعلم أنه لما وجد فيه طيب العسل ترك شربه لئلا يستجاز [شربه إياه و] خلطه، وبالله التوفيق.
[كراهة الاستدانه بالديون]
في كراهة الاستدانه بالديون قال مالك وحدثني عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه أن رجلا من جهينة يقال له: الأسيفع كان يشتري الرواحل بالدين فيغلي بها فيسبق الحاج فأفلس، فقال عمر بن الخطاب إن الأسيفع أسيفع جهينه رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح قدرين به، فمن كان له عليه شيء فليأتني بالغداة نقسم بينهم ماله، وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب.
قال محمد بن رشد: قوله ادان معرضا معناه ادان مع كل من وجد وأمكنه مداينته. وقوله قدرين به، معناه قد غلب عليه الدين. قال الله عز(18/256)
وجل: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، وذلك أنه كان يشتري الرواحل بالدين ويسرع السير ليبيعها بالموسم بالربح، فأخطأه ذلك وباع بالخسارة فغلبه الدين وقوله إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب، يروى حرب، وحرب- بإسكان الراء وفتحها- فالحرب القتال، والحرب الهلاك. فيقول إن الدين يكون آخره إلى منازعة وخصام، ومرافعة إلى الحكام، أو إلى هلاك ماله. وقد استعاذ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدين فقال: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» ولذلك نهى عنه عمر بن الخطاب فقال: وإياكم والدين. وقد جاءت آثار كثيرة في التشديد في الدين وأن صاحبه يوم القيامة محبوس بدينه دون الجنة، فقيل معنى ذلك فيمن تداين في سرف وقمار، وقيل بل كان ذلك في أول الإسلام قبل أن تفتح الفتوحات وتفرض على الناس الزكوات، فلما أنزل الله عز وجل براة ففرض فيها الزكاة وجعل للغارمين فيها حقا، وأنزل آية الفيء والخمس فجعل فيهما حقا للمساكين وابن السبيل قال حينئذ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فعلي» . فمن تداين فيما يحتاج إليه وهو يرى أن ذمته تفيء بما تداين به فليس بمحبوس دون الجنة بدينه إن مات ولم يترك مالا؛ لأن على الإمام أن يؤديه عنه من بيت المال، ومن سهم الغارمين من الزكوات، أو من جميعها إن رأى ذلك على مذهب من رأى أنه إن جعل الزكاة كلها في صنف واحد أجزأ. وقد قيل إنه لا يجوز أن يؤدى دين الميت من الزكاة، فعلى هذا القول إنما يؤدي الإمام دين من مات وعليه دين من(18/257)
الفيء الحلال للفقير والغني، وبالله التوفيق.
[حفظ ابن شهاب]
في حفظ ابن شهاب قال: حدثنا ابن شهاب حديثا فقلت أعد علي، فقال: لا، فقلت أما كان يعاد عليك؟ قال لا، فقلت له: فكنت تكتب؟ فقال لا، فخليت سبيله.
قال محمد بن رشد: المعني في هذا بين والحمد لله وبه التوفيق.
[القراءة في الحمام]
في القراءة في الحمام وسئل مالك عن القراءة في الحمام، [فقال: القراءة بكل مكان حسنة، ليس الحمام بموضع قراءة، فإن قرأ الإنسان الآيات فليس بذلك بأس، وليس الحمامات من بيوت الناس الأول.
قال محمد بن رشد: كره القراءة في الحمام] إذ لا ينفك عن النجاسة في أغلب الأحوال، كما كره قراءة القرآن في الأسواق والطرق من أجل ذلك، واستحب أن ينزه القرآن عن أن يقرأ إلا في مواضع القراءة إلا أن يكون الشيء اليسير أو مثل الغلام يتعلم القراءة على ما يأتي له بعد هذا. وقد أجاز ذلك بكل حال في أحد قوليه، واحتج بقول أبي موسى: أما أنا فأتفوقه تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا [وعلى جنب] وعلى كل حال. وقد(18/258)
تقدم ذكر ذلك في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[ضرب الأجل لأهل الحرب إذا قدموا للتجارة]
في ضرب الأجل لأهل الحرب إذا قدموا للتجارة وسئل مالك عن اليهود والنصارى والمجوس إذا قدموا المدينة أيضرب لهم أجل؟ فقال نعم يضرب لهم أجل ثلاث ليال يتسوقون وينظرون في حوائجهم، فقد ضرب ذلك لهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال رئيس اليهود له حين أجلاهم: أتجلينا وقد أقرنا محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؟ فقال عمر: أتراني نسيت قوله لك: كيف بك إذا رقصت بك قلوصك ليلة بعد ليلة. قال إنما كانت هزيلة من أبي القاسم، فقال له عمر كذبت.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يضرب لهم أجل ثلاث ليال، يريد ثلاث ليال بأيامهن، فلا يحسب عليهم يوم ورودهم. وإنما رأى أن يضرب لهم ثلاث ليال لأن ذلك هو مقدار السفر وما فوق ذلك إقامة، بدليل قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» إلا أن لا تتم حوائجهم وما يحتاجون إليه في بيعهم وشرائهم في ثلاث ليال فيزاد في الأجل قدر ما يحتاجون إليه ولا تتم حوائجهم فيما دونه. وقد مضى حديث إجلاء عمر اليهود وما قاله له رئيسهم في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(18/259)
[ما روي عن كعب]
فيما روي عن كعب قال مالك: وذكر أن حديث كعب حين جاء إلى عمر بن الخطاب بالمصحف فقال له أهذه التوراة؟ أن زيد بن أسلم الذي حدثه بذلك عرض عليه عرضا.
قال محمد بن رشد: كعب هذا، والله أعلم، هو كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع الحميري من آل ذي رعين من حمير، وقيل من ذي الكلاع من حمير، يكنى أبا إسحاق، وأسلم في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وتوفي في آخر خلافة عثمان. وكان عالما بالتوراة لأنه كان حبرا من أحبار اليهود وإن كان عربي النسب، فكثير من العرب تهود وكثير منهم تنصر، فكان كثيرا ما يحدث منها. فمعنى قوله في المصحف لعمر بن الخطاب أهذه التوراة؟ والله أعلم، أهذه توراتكم التي هي عندكم بمنزلة التوراة عند اليهود، وبالله التوفيق.
[مشي موسى عليه السلام مع المرأتين إلى أبيهما شعيب عليه السلام]
في مشي موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مع المرأتين
إلى أبيهما شعيب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال وبلغني أن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين جاءته إحدى المرأتين فقالت {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] مشى خلفها ثم قال لها: امشي خلفي فإني عبراني لا أنظر في أدبار النساء، فإن أخطأت فصفي لي فمشى بين يديها وتبعته.(18/260)
قال محمد بن رشد: مشيه خلفها من أمانته التي وصفه الله عز وجل بها حيث قال في كتابه: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] . وقوته أنه استوهب الرعاء دلوا فوهبوه إياه فنزعه وحده، وكان لا ينزعه إلا عشرة رجال. وقيل أربعون رجلا، فدعا فيه بالبركة فكفى ماشيتهما، فذلك قَوْله تَعَالَى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، وقيل إنه رفع من على فم البير صخرة كانت عليه وحده، وكان لا يرفعها إلا عشرة رجال، وقيل أربعون رجلا.
في نقل لفظ الحديث على المعنى
وقال مالك: ما لفظ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس كما لفظ غير النبي، فإذا كان المعنى واحدا وما لفظ النبي فينبغي للمرء أن يقوله كما جاء.
قال محمد بن رشد: قوله فإذا كان المعنى واحدا، معناه فلا بأس به إذا لم يكن من لفظ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد مضى الكلام على هذا فوق هذا في هذا الرسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[النظر إلى المجذوم]
في النظر إلى المجذوم وسئل مالك أتكره إدامة النظر إلى المجذوم؟ قال: أما في(18/261)
الفقه فلم أسمع بكراهيته، ولا أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا مخافة أن يفزع ويقع في نفسه من ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: النهي الوارد عن ذلك هو من معنى «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي جاءته فقالت: يا رسول الله: دار سكناها والعدد كثير والمال وافر، فقل العدد وذهب المال، [فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] دعوها ذميمة» فأمر رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتركها لما وقع في نفوسهم من أن ذهاب مالهم وقلة عددهم كان بسبب سكناهم الدار، فخشي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم إن تمادوا في السكنى فيها فذهب من مالهم بعد شيء أو نقص من عددهم أن يقوى في نفوسهم ما كان وقع فيها من ذلك. ومن معنى قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء» بعد أن قال «لا عدوى ولا هام ولا صفر» فنهي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحل الممرض الذي إبله مرضى على المصح الذي إبله صحاح مخافة أن تمرض إبله بقدر الله عز وجل فيظن أن ذلك بسبب ورود الإبل المراض عليها وأنها هي التي أعدتها، وبالله التوفيق.
[الحجامة يوم السبت والأربعاء]
في الحجامة يوم السبت والأربعاء وسئل مالك عن الحجامة يوم السبت والأربعاء فقال: لا أرى(18/262)
بأسا بالحجامة يوم السبت والأربعاء، والأيام كلها سواء، وإني لأكره أن يترك الحجامة على هذا، قالوا لا يحتجم يوم كذا وكذا، ولا يسافر يوم كذا وكذا، والأيام كلها لله عز وجل. قال: وكانت عائشة زوج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقول: لو نهي الناس عن جاحم الجمر لقال قائل فإني أحب أن أذوقه.
قال محمد بن رشد: أما تشاؤم من تشاءم بالسبت، والله أعلم، فلم يحتجم فيه من أجل أن أهل السبت تعدوا فيه فمسخهم الله قردة وخنازير، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وتشاؤم من تشاءم بالأربعاء ولم يحتجم فيه ولا سافر فيه من أجل ما روي من أن الأيام النحسات المشؤومات التي قال الله عز وجل فيها: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] كان أولها يوم الأربعاء إلى الأربعاء ثمانية أيام التي قال الله عز وجل فيها: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] . والأيام كلها لله، فلا ينبغي أن يتشاءم بشيء منها، ولا يمتنع في شيء منها في شيء من الأشياء كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وفيما أغري الناس من مثل هذا وشبهه قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لو نهي الناس عن جاحم الجمر لقال قائل لو ذقته، تريد أن الناس إذا نهوا عن شيء فيما يضر بهم في دينهم أو دنياهم زينه لهم إبليس ووسوس إليهم فيه حتى يوقعهم في المكروه، وكذلك لا ينبغي أن يتوخى في الحجامة أياما بأعيانها. وقال سئل مالك فيما يأتي في هذا السماع عن الحجامة لسبع عشرة(18/263)
وخمس عشرة وثلاث عشرة، فقال: أنا أكره هذا ولا أحبه، وكأنه يكره أن يكون لذلك وقت، وبالله التوفيق..
[حمل الصبيان على الخيل في الرهان]
في حمل الصبيان على الخيل في الرهان وسئل مالك عن حمل الصبيان الصغار على الخيل يجرونها في الرهان، فربما سقط أحدهم فمات، قال: أكره أن يحمل على الخيل الصبيان الصغار. قلت له: أفترى أن يشهد؟ فقال: لا أدري، أما أنا فلا أرى حملهم ولا أراه.
قال محمد بن رشد: أما حمل الصبيان على الخيل يجرونها في السباق وقد يموت في ذلك بعضهم، فالمكروه في ذلك بين. ومن حمل صبيا في ذلك على فرسه فهو لما أصابه في ذلك ضامن، ولا بأس بالمسابقة بين الخيل لما جاء من «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع» . وذلك نحو ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وذلك نحو ميل، روى ذلك عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر، وكان ممن سابق بها. والمسابقة في ذلك جائزة على الرهان وعلى غير الرهان. والرهان فيها على ثلاثة أوجه: وجه جائز باتفاق، ووجه غير جائز باتفاق، ووجه مختلف في جوازه. فأما الجائز باتفاق فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جُعلا لا يرجع إليه بحال ولا يخرج من سواه شيئا، فإن سبق مخرج الجعل كان الجعل للسابق، وإن سبق هو صاحبه ولم يكن معه غيره كان الجعل طعمة لمن(18/264)
حضر؛ وإن كانوا جماعة كان الجعل لمن جاء سابقا بعده منهم. وهذا الوجه في الجواز مثل أن يخرج الإمام الجعل فيجعله لمن سبق من المتسابقين، فهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم أجمعين. وأما الوجه الذي لا يجوز باتفاق فهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين إن كانا اثنين، أو كل واحد من المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا على أنه من سبق منهم أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه إن لم يكن معه سواه، أو أجعال أصحابه إن كانوا جماعة، فهذا لا يجوز بإجماع؛ لأنه من الغرر والقمار والميسر والخطار المحرم بالقرآن؛ وأما الوجه المختلف فيه فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين، أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة، جعلا ولا يخرج من سواه شيئا على أنه إن سبق أحرز جعله، وإن سبقه غيره كان الجعل للسابق، فهذا الوجه اختلف فيه قول مالك، وهو على مذهب سعيد بن المسيب جائز. ومن هذا الوجه المختلف فيه أن يخرج كل واحد من المتسابقين جعلا على أن من سبق منهما أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه على أن يدخلا بينهما محللا لا يأمنا (كذا) أن يسبقهما على أنه إن سبقهما أخذ الجعلين جميعا، فهذا الوجه أجازه سعيد بن المسيب ولم يجزه مالك ولا اختلف فيه قوله كما اختلف في الوجه الأول الذي قبله؛ لأنه أخف في الغرر منه، ويجمع بينهما في المعنى أن حكم مخرج الجعل مع صاحبه في تلك في حكم مخرج الجعل مع المحلل في هذه، وسواء كان مع الجماعة المتسابقين محلل واحد أو مع الاثنين المتسابقين جماعة محللون، الخلاف في ذلك كله، إلا أنه كلما كثر المحللون وقل المتسابقون كان الغرر أخف والأمر أجوز. وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق فذلكم القمار» وهو حجة لابن المسيب، وبالله التوفيق.(18/265)
[حلاق الصبيان قُصَّة وقَفا]
في حلاق الصبيان قُصَّة وقَفا وسئل عن حلاق الصبيان قصة وقفا، قال: ما يعجبني، فقلت له: فمن الجواري [والغلمان] فقال: ما يعجبني من الجواري ولا من الغلمان، إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه فليحلقوه كلّه. وقد كلمت في ذلك بعض الأمراء [وأمرته] أن ينهى عن ذلك، فسئل عن القصة وحدها بلا قَفَا، فقال: مثل ما قال في القُصّة والقَفَا.
قال محمد بن رشد: حلاق الصبي قصة وقفا هو أن يحلق وسط رأسه ويبقى مقدمه مقصوصا على وجهه ومؤخره مسدولا على قفاه. وحلاقه قصة بلا قفا هو أن يحلق وسط رأسه إلى قفاه ويبقى مقدمه مقصوصا على وجهه، وذلك كله مكروه للصبيان كما قال، لما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن القزع» وهو حلق بعض الرأس دون بعض، فعم ولم يخص صغيرا من كبير. ولم يكره مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القصة للصغيرة إذا لم يحلق بعض رأسها على ظاهر هذه الرواية كما كره للكبيرة، ففي كتاب جامع المسائل والحديث لأصبغ قال: سمعت ابن القاسم يقول: كره مالك القصة للمرأة كراهية شديدة، قال وكان فرق الرأس أحب إلى مالك فيما أظن. وإنما كره مالك، والله أعلم، لما جاء من أن أهل الكتاب كانوا يسدلون شعورهم، وكان المشركون يفرقون، فكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصيته ثم فرق بعد. وروى عيسى عن ابن(18/266)
القاسم عن مالك قال: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهشام بن عروة يفرقون رؤوسهم، وكانت لهشام جمة إلى كتفيه. وروي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون كل من لم يفرق شعره. وقد روي أن «شعر رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان دون الجمة وفوق الوفرة» . وروي «أنه كان إلى شحمة أذنه» وروي «أنه كان بين أذنيه وعاتقه» . وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر أحسن من جزه وإحفائه. وذهب الطحاوي إلى أن جزه وإحفاءه أحسن من اتخاذه واستعاله، واحتج بما روي من أن «أبا وائل بن حجر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد جز شعره فقال له: هذا أحسن» قال: إن ما قال فيه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنه أحسن فلا شيء أحسن منه، ومعقول أنه قد صار إليه وترك ما كان عليه قبل ذلك، إذ هو أولى بالمحاسن كلها من جميع الناس. وهذا في الرجال، وأما المرأة فلا اختلاف في أن جز شعرها مثلة. وفي كتب المدنيين سئل ابن نافع هل كره للمسلمة أن تفرق قصتها كما يصنع نساء أهل الكتاب؟ قال: لا، وبالله التوفيق.
[البِرِّ المحمود]
في البِرِّ المحمود قال أشهب: أخبرني مالك قال، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال: لم يعرف البر في عمر ابن الخطاب ولا في ابنه حتى يقولا أو يفعلا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنهما كانا لا يظهران من فعل الخير أكثر مما كانا يقولانه أو يفعلانه، وفي هذا الحضُّ على تجنب الرياء، وبالله التوفيق.(18/267)
[ثناء ابن شهاب على عبد الله بن أبي بكر]
في ثناء ابن شهاب على عبد الله بن أبي بكر قال مالك: أخبرني ابن غزية قال، قال ابن شهاب: من بالمدينة يفتي؟ فأجابه فقال ابن شهاب ما ثم مثل عبد الله بن أبي بكر، ولكن إنما يمنعه أن يرفع ذكره مكان أبيه أنه حي.
قال محمد بن رشد: عبد الله بن أبي بكر هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أحد شيوخ مالك الذين روى عنهم وعول عليهم، وكفى في الثناء عليه قول ابن شهاب هذا فيه، وبالله التوفيق.
[وقت تحويل القبلة]
في وقت تحويل القبلة قال مالك: أقام الناس يصلون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم أمروا بالبيت. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في صلاتكم إلى بيت المقدس. قال مالك: فإني لأذكر بقراءة هذه الآية قول المرجئة إن الصلاة ليست من الإيمان وقد سماها الله عز وجل من الإيمان.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] في صلاتكم إلى بيت المقدس أي في صلاتكم إلى بيت المقدس، إذ ليس في التلاوة: في صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنما ذكره مالك على التفسير لما في التلاوة؛ لأن الصلاة إنما تكون صلاة يثاب المصلي عليها إذا قارنها الإيمان، فلما كانت الصلاة لا تصح إلا بمقارنة الإيمان لها، وكان جل الثواب عليها للإيمان الذي قارنها بدليل قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(18/268)
وسلم-: «نية المؤمن خير من عمله» لزم أن يقال فيها إنها إيمان، إذ لا يصح أن يفارقها الإيمان، فالحجة على المرجئة صحيحة من جهة التلاوة؛ لأن الله عز وجل سمى الصلاة إلى بيت المقدس إيمانا، بدليل أنها نزلت فيها، ومن جهة المعنى الذي ذكرناه أيضا. وعلى طريق التحقيق الصلاة ليست بإيمان منفردة، وإنما هي [إيمان] بالقلب وعمل بالجوارح، فلا يطلق عليها أنها إيمان إلا على ضرب من المجاز، إذ ليست بإيمان منفردة ولا يصح أن يقال فيها إنها غير الإيمان إذ لا يفارقها الإيمان، فهي كالصفة من الموصوف القديم لا يقال فيها إنها هو ولا إنها غيره، فقول المرجئة إن الصلاة ليست من الإيمان باطل بين البطلان، وبالله التوفيق.
[حكاية عن أبي بكر الصديق]
قال مالك: ولما أنزل الله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال أبو بكر الصديق والذي بعثك بالحق إن كنت لفاعلا.
قال محمد بن رشد: لا شك أن أبا بكر الصديق من القليل الذين استثنى الله عز وجل في الآية، فلا أحد أحق بهذه الصفة منه، ويمينه على ذلك برة، وفي هذا حجة لرواية ابن الماجشون عن مالك فيمن حلف في أمر قد سلف لو كان كذا وكذا لفعلت كذا وكذا مما يمكنه فعله أن لا حنث عليه، خلافا لقول أصبغ إنه حانث إذ لا يدرى هل كان يفعل أو لا يفعل. وقد مضى هذا في رسم مرض من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.(18/269)
[التثبت في القول]
في التثبت في القول وقال مالك: كان ذلك الرجل يقول: ما علمت فقل، وما استؤثر به عنك فكله إلى عالمه؛ لأنا في العمد أخوف عليكم مني في الخطأ.
قال محمد بن رشد: هذا مثل أن يسأل رجل تفسير آية من القرآن لا يعلم لها تأويلا فيقول فيها برأيه، فقد كان أبو بكر الصديق يقول: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت على الله ما لا أعلم، وبالله التوفيق.
[إقادة الإمام من نفسه]
في إقادة الإمام من نفسه قال مالك: قال رجل لعمر بن الخطاب: هل لك يا أمير المؤمنين في رجل قد رقدت حاجته وطال مقامه، فقال عمر بن الخطاب من زيدها؟ فقال أنت. فغضب عمر فضربه بالدرة، فقال: عجلت يا أمير المؤمنين علي قبل أن تنظر في أمري، فإن كنت ظالما أخذت مني، وإن كنت مظلوما رددت علي، فقال له عمر: صدقت، فقال هاك فاستقد، فقال لا أفعل، فقال لتستقدن أو لتفعلن ما يفعل المنتصف من حقه. قال قد عفوت. قال عمر: أنصفت من نفسي قبل أن ينصف مني، ثم بكى عمر حتى لو كنت بالأراك لسمعت حنين ابن الخطاب.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(18/270)
[حكاية لكعب الأحبار مع عمر بن الخطاب]
قال وقال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب: في التوراة ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، فقال له عمر، إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه.
قال محمد بن رشد: مضت هذه الحكاية في أول رسم تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم أكمل مما وقعت ها هنا، ومضى الكلام عليها هناك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[إيثار الرجل نفسه في الطعام والكسوة على رقيقه وعياله]
في إيثار الرجل نفسه في الطعام والكسوة على رقيقه
وعياله قال: وسمعته وسئل أيصلح أن يأكل الرجل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه أو يلبس ثيابا لا يكسوهم مثلها؟ فقال: إني والله لأراه من ذلك في سعة، ولكن يحسن إليهم ويطعمهم. فقيل له: أرأيت ما جاء من حديث أبي الدرداء؟ فقال كان الناس يومئذ ليس لهم ذلك القوت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة في موطئه: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» الحديث. ومعنى قوله فيه بالمعروف أي من غير إسراف ولا إقتار، وعلى قدر سعة مال السيد وما أشبه حال العبد أيضا، فليس حال العبد الأسود(18/271)
الوغد الذي هو للخدمة والحرث كالعبد النبيل التاجر الفاره فيما يجب لهما على سيدهما من الكسوة سواء، قلا يلزم الرجل أن يساوي بين نفسه وعبده في المطعم والملبس على ما ذهب إليه بعض أهل العلم لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون» . وقد روي عن أبي اليسر الأنصاري وأبي ذر من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهما كانا يفعلان ذلك، وهو محمول منهما على الرغبة في فعل الخير لا على أن ذلك واجب عليهما، إذ لم يقل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعموهم مثل ما تأكلون واكسوهم مثل ما تلبسون، وإنما قال: مما تأكلون ومما تلبسون، فإذا أطعمه وكساه بالمعروف من بعض ما يأكل من الخبز والإدام ويلبس من الصوف والقطن والكتان، فقد شاركه في مطعمه وملبسه، وامتثل بذلك قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالله التوفيق.
[موت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا]
في أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات شهيدا
من الأكلة التي أكل بخيبر قال وقال مالك، قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما زلت ضمنا من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر فهذا أوان [وجدت] انقطاع أبهري» . قال مالك: كانت يهودية سمته فيها.(18/272)
قال محمد بن رشد: اليهودية التي سمته بخيبر زينب بنت سلام بن مشكم أهدت له- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة مصلية وسمت له منها الذراع، وكان أحب اللحم إليه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها وقال هذا العظم يخبرني أنه مسموم، ودعا اليهودية فقال: ما حملك على هذا؟ فقالت أردت أن أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك فلم يقتلها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكل من الشاة معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من أكلته تلك، وبالله التوفيق.
[اكتحال الرجل بالإثمد]
في اكتحال الرجل بالإثمد وسئل عن اكتحال الرجل بالإثمد فقال: ما يعجبني وما كان من عمل الناس وما سمعت فيه بنهي.
قال محمد بن رشد: إنما كرهه وإن كان لم يسمع فيه بنهي لأن الإثمد مما تكتحل به المرأة للزينة، فيكره للرجل أن يتشبه في ذلك بالمرأة، كما يكره للمرأة أن تتشبه بالرجل، فقد قيل من شر النساء المتشبهة بالرجال، وبالله التوفيق.
[السلام على اللعاب بالكعاب والشطرنج]
في السلام على اللعاب بالكعاب والشطرنج قال وسئل عن التسليم على اللعاب بالكعاب والشطرنج والنرد، فقال: أما هم من أهل الإسلام؟ إذا بولغ في ذلك ذهب(18/273)
كل مذهب وإني لأكره أن أقول أن لا أسلم على أهل الإسلام، وليأتين عليهم يوم يستخفون به يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] ويقول الله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فإنما أمر بشهادة من يرضى، فقيل له أفترى شهادتهم جائزة؟ فقال أما من أدمنها فلا أرى شهادتهم عاملة، لقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فهذا كله من الضلال.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يترك السلام على اللعاب بالكعاب والنرد والشطرنج وأشباههم من أهل المجون والبطالات والاشتغال بالسخافات، إذ لا يخرجهم ذلك عن الإسلام، وإن كانوا يعودون بذلك غير مرضيي الأحوال، فلا تجوز شهادتهم؛ لأن الله عز وجل يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . ومعنى ذلك في السلام عليهم إذا مر بهم في غير حال لعبهم، وأما إذا مر بهم وهم يلعبون فلا ينبغي أن يسلم عليهم، بل يجب أن يعرض عنهم، فإن في ذلك أدبا لهم، ومتى سلم عليهم وهم يلعبون استخفوا بالمسلم عليهم وارتفعت بذلك الريبة عنهم، وبالله التوفيق.
[أكل الرجل مما تصدق به على ابنه]
في أكل الرجل مما تصدق به على ابنه قال وسألته عن الرجل يتصدق على ولده بالغنم [وبالضأن، أيلبس من صوفها] ويشرب من لبنها؟ فقال لا، فقلت له: إنه(18/274)
يبيع ذلك، أفترى أن أشتري ذلك بما يبيعه له من غيره، فقال: ترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: لم يجز في هذه الرواية أن يكتسي من صوف الغنم التي تصدق بها على ابنه ولا أن يشرب من لبنها، معناه وإن كان كبيرا برضاه. وأجاز ذلك في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، معناه في الكبير إذا رضي بذلك. وأما الصغير فلا. قاله محمد بن المواز، ورواه عن مالك. وأما شراء غلة ما تصدق به على ابنه فهو خفيف على ما قاله في الرواية [من أن ترك] ذلك أحب إليه. وأما شراؤه ما تصدق به عليه فقيل ذلك جائز في العبد وشبهه، قال ذلك في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وقيل إن ذلك لا يجوز لا في مثل الجارية تتبعها نفسه، وهو الذي في المدونة، وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من ذلك للأب وللأجنبي في الأصل والغلة في رسم الشجرة من الكتاب المذكور، فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك، وبالله التوفيق.
[تحلية المصاحف]
في تحلية المصاحف قال وسئل عن الحلية للمصحف، فقال لا بأس به وإنه لحسن، إن عندي مصحفا لجدي كتبه إذ كتب عثمان المصاحف، عليه حلية كبيرة من فضة، كذلك كان ما زدت فيها شيئا.
قال محمد بن رشد: ظاهر الرواية إجازة تحلية المصحف بالذهب والفضة؛ لأنه سأله عن تحلية المصحف عموما فقال لا بأس به، وهو دليل ما(18/275)
في الموطأ. وذكر ابن المواز عن مالك مثله، وذكر ابن عبد الحكم في المختصر الكبير من قول مالك أنه قال لا يعجبني، وبالله التوفيق.
[قراءة القرآن في الطريق]
في قراءة القرآن في الطريق قال وسئل مالك عن قراءة القرآن في الطريق، قال الشيء اليسير، قال فأما الذي يديم ذلك فلا، وإن ذلك ليختلف، يكون الغلام يتعلم القرآن، فأما الرجل يطوف بالكعبة يقرأ القرآن وفي الطريق فليس هذا من الشأن الذي مضى عليه أمر الناس.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في قراءة القرآن في الطريق قبل هذا في هذا الرسم وفي رسم المحرم من سماع ابن القاسم وفي غير ما موضع. وإنما كره قراءة القرآن في حال الطواف بالكعبة إذ لم يكن ذلك من فعل الناس، والرشد في الاقتداء بأفعال السلف، وبالله التوفيق لا شريك له.
[البلاء موكل بالقول]
في أن البلاء موكل بالقول
قال مالك: كان ابن مسعود يقول إن البلاء موكل بالقول.
قال محمد بن رشد: يريد أن الرجل إذا قال لا أفعل كذا وكذا معتقدا أنه لا يفعله لقدرته على الامتناع منه قد يعاقبه الله عز وجل بأن يوقعه في فعل ذلك. وبيان هذا التفسير قوله في غير هذا الحديث: «إني لا أقول لا أعبد هذا الحجر، إن البلاء موكل بالقول» وبالله التوفيق.(18/276)
[كشف الفخذ]
في كشف الفخذ وسئل مالك عما جاء من النهي عن كشف الفخذ، أترى بذلك بأسا إذا كان الرجل عند أهله؟ قال لا والله.
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الفخذ عورة» من رواية جماعة، منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، ومحمد بن جحش، وابن جوهر، وابنه جرير. وجاء عنه ما دل على أنه ليس بعورة، من ذلك حديث عائشة «أنه كان مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه» ومن رواية أنس بن مالك «أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض فخذه مكشوف، فدخل عليه أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو على حاله تلك لم ينتقل عنها، حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: إلا أستحيي ممن استحيت منه ملائكة السماء.» وذكر البخاري في حديث أنس بن مالك «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما دخل القرية قال الله أكبر» الحديث. ثم قال وحديث [أنس أشد، وحديث] جوهر أحوط حتى يخرج من اختلافهم. والذي أقول به أن ما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفخذ هل هو عورة أو ليس بعورة(18/277)
ليس باختلاف من القول، ومعناه أنه ليس بعورة يجب سترها فرضا كالقبل والدبر، وأنه عورة يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها، فلا ينبغي التهاون بذلك في المحافل والجماعات ولا عند من يستحي منه من ذوي الأقدار والهيئات، فعلى هذا تستعمل الآثار كلها، واستعمالها أولى من اطراح بعضها، وبالله التوفيق لا شريك له.
[سبل شيئا في السبيل فأراد أن يخرج قيمته]
فيمن سبل شيئا في السبيل فأراد أن يخرج قيمته وسئل مالك عن امرأة خلعت خلخالها في سبيل الله فأرادت أن تخرج قيمته في سبيل الله وتحبسه، فقال: لا، بل تمضي ما جعلت لله عليها وتعمل بقيمته خلخالين جديدين، ثم احتج بحديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمر الفرس الذي قال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تشتره ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» .
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وزاد فيه قال سحنون: إنما يكره هذا من أجل الرجوع في الصدقة. ولمالك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور فيمن قال لشيء من ماله دابة أو عبد أهديك إنه مخير في قيمته أو ثمنه، فذهب بعض أهل النظر إلى أن ذلك مخالف لهذه الرواية [في الخلخال] ولما ما في المدونة من أنه من أهدى عبده يخرج بثمنه هدايا؛ لأن الظاهر منه أنه لا يجوز له أن يمسكه ويخرج قيمته من أجل الرجوع(18/278)
في الصدقة كما قال في هذه الرواية. والذي أقول به أنه لا اختلاف في شيء من ذلك، وإنما اختلف الجواب في ذلك لافتراق المعاني، فإذا أهدى ما يهدى بعينه أو جعل في سبيل ما ينتفع به فيه بعينه لم يجز أن يمسكه ويخرج قيمته؟ وإذا أهدى ما لا يهدى بعينه وإنما سبيله أن يباع ويشترى بثمنه هدي جاز أن يمسكه ويخرج قيمته؛ وإذا جعل في السبيل ما لا ينتفع به فيه بعينه وهو مما يمكن أن يدفعه كما هو لمن يبيعه وينفقه في السبيل كره له أن يمسكه ويخرج قيمته من ناحية الرجوع في الصدقة، ولم ير ذلك حراما إذ لا ينتفع به الذي أعطيه في السبيل بعينه ولا بد له من بيعه، وبالله التوفيق.
[خلق النبي صلى الله عليه وسلم]
في خلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: «وسئلت عائشة عن خلق النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره، فقالت: كان خلقه وأمره القرآن واتباعه» .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه كان يعفو ويصفح ويحسن ويعرض عن الجاهلين ولا ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ولقوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ولقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] ولقوله في الزناة: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] الآية، وقوله في المحاربين:(18/279)
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] الآية إلى قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية، وبالله التوفيق.
[ترك الرجل ما لا يعنيه]
في ترك الرجل ما لا يعنيه قال: دخل رجل على ابن عمر فوجده يخصف نعله، فسأله فأخبره، ثم قال: مالك تخصف نعلك اشتر غيرها، فقال له ابن عمر: ألهذا جئت؟ قال إنما أنا رسول.
قال محمد بن رشد: إنما وبخه عبد الله بن عمر على قوله بقوله ألهذا جئت؟ لأن ما قاله له مما لا يعنيه، وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وبالله التوفيق.
[تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الضيافة]
في تفسير حديث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الضيافة قال وسئل مالك عن تفسير حديث النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في «الضيف جائزته يوم وليلة، قال يكرمه ويتحفه ويخصه يوما وليلة، وثلاثة أيام ضيافة، وما بعد ذلك صدقة» .
قال محمد بن رشد: الضيافة مرغب فيها ومندوب إليها وليست بواجبة في قول عامة العلماء، إلا أنها من أخلاق المؤمنين وسجاياهم وسنن(18/280)
المسلمين. وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا خير فيمن لا يضيف وأول من ضيف الضيف إبراهيم خليل الرحمن- عَلَيْهِ السَّلَامُ -» - قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، وضيافته ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك فهو صدقة.» ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، معناه أن المؤمن ينبغي له في مكارم الأخلاق ومحاسنها أن يكرم جاره وأن يكرم ضيفه فيتحفه ويخصه يوما وليلة ويطعمه ما يأكل ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة، أي غير واجبة عليه في مكارم الأخلاق. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: إكرام الضيف يوم وليلة، وضيافته ثلاثة أيام، فإن أضافه بعد ذلك فرضي فهو دين عليه. وسئل الأوزاعي عمن أكرم ضيفه خبز الشعير وعنده خبز البر أو أطعمه الخبز والزيت وعنده اللحم، فقال هذا ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الأخر. وقد روي عن الليث بن سعد أنه كان يقول: الضيافة حق واجب، فكان يحتمل أنه يكون أراد أنها حق واجب في مكارم الأخلاق ومحاسنها، إلا أنه قد روي عنه إيجابها ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيده، وذهب إلى ذلك قوم واحتجوا بما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليلة الضيافة حق على كل مسلم فإن أصبح بفنائه فإنه دين له إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه.» «وروي عن عقبة بن عامر الجهني قال: قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فنمر(18/281)
بقوم لا يقرون فماذا ترى؟ فقال لنا رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا حق الضيف الذي ينبغي» . وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما ضيف نزل بقوم فأصبح محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه.» فقيل معنى هذه الآثار في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، ثم أتى الله عز وجل بالخير والسعة فصارت الضيافة جائزة مندوبا إليها محمودا فاعلها عليها. وقيل معناها في المارين بقوم في بادية لا يجدون من ضيافتهم بدلا ولا يجدون ما يبتاعونه مما يغنيهم عن ذلك.
ومعنى ما دل من الأحاديث على أنها غير واجبة في الذي يستغني عن الضيافة ويقدر على أن يتعوض منها بابتياع ما يغنيه عنها. فقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته» الحديث، فلا يكون بين الأحاديث على هذا تعارض. وإلى نحو هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وروي عنه أنه قال: ليس على أهل الحضر ضيافة، يريد لأن المسافر يجد في الحضر مندوحة عن الضيافة لوجوده حيث ينزل ما يبتاع، وكذلك قال سحنون إنما الضيافة على أهل القرى، وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر. وقد روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر» إلا أنه حديث غير(18/282)
صحيح، رواه ابن أخي عبد الرزاق عن عمه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وهو متروك الحديث فقيل إنه من وضعه والله أعلم. وقيل إن حق الضيف على من منعه قراه عتب ولوم، وقال ذلك مجاهد في معنى قول الله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . وبالله التوفيق.
[إجلاء عمر رضي الله عنه يهود نجران وفدك]
في إجلاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
يهود نجران وفدك قال وقال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهود نجران وفدك. فأما يهود نجران فخرجوا منها ليس لهم من التمر ولا من الأرض شيء، وأما يهود فدك فكان لهم نصف الأرض ونصف النخل؛ لأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صالحهم على نصف الأرض ونصف النخل، فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف النخل ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها.
قال محمد بن رشد: وكذلك أجلى يهود خيبر، ذكر ذلك مالك في موطئه عن ابن شهاب أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع(18/283)
دينان في جزيرة العرب،» فأجلى يهود خيبر. قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك، فذكر نص قوله هنا إلى آخره. وقد مضى في رسم نذر من سماع ابن القاسم بقية القول في ذلك، وبالله التوفيق.
[سبب تسمية أبي بكر الصديق بالصديق]
في سبب تسمية أبي بكر الصديق بالصديق قال مالك: قال المشركون لأبي بكر: إن صاحبك- يعنون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزعم أنه أسري به في ليلة من مكة إلى بيت المقدس ورجع من ليلته وأنه رأى عيرا على بعير منها غرارتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، فقال أبو بكر: إن كان قاله فصدق، فبذلك سمي الصديق.
قال محمد بن رشد: الأحاديث التي تخرج على التفسير لقول الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، أي إلى بيت المقدس، وإنما سماه الأقصى لأنه الأبعد عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأدنى منه مسجد الكعبة، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] أي بما أجرينا حوله من الأنهار، وأنبتنا فيه من الثمار، {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] كثيرة، منها حديث أم هاني بنت أبي طالب «أن رسول الله - صلى- الله عليه وسلم- صلى في بيتها تلك الليلة العشاء الآخرة قالت فصليت معه ثم نمت فتركته في مصلاه فلم أنتبه حتى أنبهني لصلاة الصبح قال قومي يا أم هاني أحدثك العجب فقلت كل حديثك عجب بأبي أنت وأمي فقام فصلى(18/284)
الغداة وصليت معه فلما انصرف قال أتاني جبريل وأنا في مصلاي هذا فقال اخرج يا محمد فخرجت إلى الباب فإذا ملك واقف على دابة فقال اركب فركبت دابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل خطوها مد البصر ثم سار بي نحو بيت المقدس وهو المسجد الأقصى من مكة فإذا أتيت على واد طالت يداها وقصرت رجلاها وإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتى انتهيت إلى بيت المقدس فبشرني فيه إبراهيم خليل الرحمن وموسى وعيسى ابن مريم - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - في نفر من الأنبياء فأممتهم وصليت بهم في مسجد بيت المقدس العشاء الآخرة. قال ولقد صليت الغداة كما ترين في بيتك وإذا عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجل ربعة دون الطويل وفوق القصير عريض الصدر ظاهر الدم جعد الشعر تعلوه صهوبة يشبه عروة بن مسعود الثقفي من أمتي.
وأما موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرجل طويل آدم جعد الشعر كأنه من رجال أزد شنوءة، وإذا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه خَلْقه خَلْقي وخُلُقه خُلُقي.
قالت: ثم أخذ إزاره فاتزر به فقلت: أين تريد يا رسول الله، فقال: أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بذلك فقالت: إذا يكذبونك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: أمرت بذلك فأخذت بإزاره وإنه لقائم فقال: والله لأحدثنهم إني أمرت بذلك فخرج نحوهم وأمرت جارية لي فقلت: اتبعي ابن عمي فانظري ماذا ترد عليه قريش، فاتبعته ثم رجعت فأخبرتني أنه انطلق حتى وقف على نادي قريش في المسجد وفيهم مطعم بن عدي ونوفل فقال لهم: يا معشر قريش قد صليت العشاء الآخرة بهذا الوادي هذه الليلة ثم صليت ببيت المقدس ولقد رجعت فصليت بالوادي، فقال له مطعم: أتحدثنا أنك ذهبت مسيرة شهر ذاهبا ومسيرة شهر مقبلا مسيرة شهرين في ليلة واحد؟ فقال: أما والله أن لو كنت شابا لأخذتك بيدي ثم قام إلى حوض له على زمزم أعطاه إياه عبد المطلب فهدمه. قالت له قريش: عجلت على ابن أخيك فلعله أن يكون صادقا دعنا حتى نسأله عن آية ما يقول، فإن لنا ركابا بالشام نسأله عنها فإذا أخبرنا بما تعرف ونعرفه كنت لم تعجل عليه وإن لم يفعل عرفنا باطله، ثم(18/285)
قالوا: أخبرنا يا محمد عن عيرنا فهي أهم علينا من قولك هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت على عير بني فلان. وهي بالروحا وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء وقد عطشت فأخذته فشربته ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ قالوا له: هذه آية. قال: ومررت بعير بني فلان وفيها فلان وفلان وهما راكبان على قعود لهما فنفر مني القعود فرمى بفلان فانكسرت يده، فسلوهما عن ذلك، قالوا: وهذه آية. قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن، قال: مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عددها وأحمالها وهيئتها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك. قال: ثم مثلت له مكانه فقال: نعم هيئتها كذا وعددها كذا وفيها فلان وفلان ويقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم غدا عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية. ثم خرجوا نحو وهم يقولون والله لقد فصل بيننا وبين محمد حتى أتوا جبلا بكذا فجلسوا عليه وجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل منهم: والله إن الشمس قد طلعت وقال آخر: وهذه الإبل قد طلعت يقدمها جمل أورق فيها فلان وفلان كما قال، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سمعنا بهذا قط إن هذا سحر مبين» فرموه بالسحر وصدقه أبو بكر فسمي الصديق من أجل ذلك، وبالله التوفيق.
[الصبغ بالسواد]
في الصبغ بالسواد وسئل عن الصبغ بالسواد فقال: ما علمت أحدا ممن مضى كان يصبغ به، وما بلغني فيه نهي، وغيره من الصبغ أحب إلي منه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا متكررا في أول السماع،(18/286)
ومضى الكلام عليه مستوفى في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[تعليم الصبي الصغير]
في تعليم الصبي الصغير قال: وسمعته وسئل عن صبي ابن سبع سنين جمع القرآن، قال: ما أرى هذا ينبغي.
قال محمد بن رشد: إنما قال مالك: إنه لا ينبغي هذا من أجل أن ذلك لا يكون إلا مع الحمل عليه في التأديب والتعليم وهو صغير جدا وترك الرفق به في ذلك، وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» وبالله التوفيق.
[هيئة دخول النبي عليه السلام مكة عام الفتح]
في هيئة دخول النبي عليه
السلام مكة عام الفتح وزعم يحيى بن سعيد «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين دخل مكة عام الفتح دخلها في عشرة آلاف أو اثني عشر ألفا، أكب على واسطة رحله حتى كادت تنكسر ثم قال: الملك لله الواحد القهار» .
قال محمد بن رشد: إنما أكب- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على(18/287)
واسطة رحله تواضعا لله عز وجل وشكرا له على نصره إياه وإظهار دعوة الإسلام. وقد مضى في رسم البز ذكر غزوة فتح مكة والسبب في ذلك فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[ما أشير به على عائشة من أن توصي بأن تدفن مع النبي عليه السلام]
فيما أشير به على عائشة من أن توصي
بأن تدفن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال مالك: كان في موضع النبي وأبي بكر وعمر فضل من ورائهم، فقيل لعائشة لو أمرت إذا مت أن تدفني فيه، فقالت إني إذا لمبتدية به.
قال محمد بن رشد: خشيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إن أوصت بذلك أن ينفس عليها ذلك فيذهب إلى المنع من ذلك ويأبى من عهدت إليه بذلك إلا إنفاذ عهدها فيقع في ذلك حرب وقتال، ولذلك قالت عائشة إني مبتدية إذا بعمل، والله أعلم.
[الدخول في الحروب الواقعة بين الصحابة رضي الله عنهم]
في الدخول في الحروب الواقعة بين الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال مالك: سأل رجل أبا موسى الأشعري: أرأيت إن خرجت بسيفي أضرب به ابتغاء وجه الله حتى ألقاه؟ فقال له ذلك لك، فقال له ابن مسعود: انظر ما تفتي به ليخرجن من هذه الأمة كذا وكذا كلهم يريد وجه الله لا يدرك رضوانه.
قال محمد بن رشد: إنما تقاتلت الطائفتان من الصحابة على ما تقاتلت عليه من الخلافة؛ لأن كل واحدة منهما اعتقدت الحق [إنما كان(18/288)
معها، وأن الواجب عليها هو الذي فعلت، فلمن كان على الحق منهما] والصواب أجران أجر لاجتهاده وأجر لموافقة الحق، ولمن لم يكن على الحق منهما أجر واحد على اجتهاده، فهذا وجه ما أفتى به أبو موسى الأشعري الرجل الذي سأله عما سأله عنه؛ لأنه لا يخلو في قتاله مع إحدى الطائفتين أن يوافق التي هي على الحق أو الأخرى، فإن وافق التي هي على الحق كان له أجران، وإن وافق الأخرى كان له أجر واحد. ورأى عبد الله بن مسعود وجه الخلاص له التورع عن القتال مع واحدة من الطائفتين مخافة الوقوع في الإثم بالتقصير في الاجتهاد والخطأ من أجل ذلك. والذي عليه أهل السنة والحق أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هو كان على الحق لما كان عنده في ذلك عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما لو علمه غيره لسلم له الأمر، والله أعلم وبه التوفيق.
[الحديث هل يؤخذ به دون أن ينظر فيه]
في الحديث هل يؤخذ به دون أن ينظر فيه قال وسئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه به ثقة من أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتراه من ذلك في سعة؟ فقال لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابين جميعا، ما الحق والصواب إلا واحد.
قال محمد بن رشد: قوله إن من حدث بحديث أسنده إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس في سعة من الأخذ به حتى يصيب الحق في ذلك، يريد بأن يعلم أن العمل على ظاهر الحديث، إذ قد يكون منسوخا بحديث غيره أو يكون ظاهره مخالفا للأصول فيتأول على ما يوافق الأصول، أو(18/289)
يعارضه القياس أو يخالفه العمل المتصل، إذ لا يمكن أن يتصل العمل من السلف بخلاف الحديث المرفوع إلا وقد علموا النسخ فيه وقامت عندهم الحجة بتركه. وأما قوله ما الحق إلا واحد إلى آخر قوله، فيحتمل أن يعاد إلى ما سأله عنه من الأخذ بالحديث المروي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون أن ينظر فيه إذا كان العلماء قد قالوا بخلافه، فيكون قوله صحيحا لا اختلاف فيه، إذ لا يجوز لأحد أن يقول أنا آخذ بما روي عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان العلماء قد خالفوه ولم يأخذوا به؛ لأنهم لن يتركوه إلا لما هو أولى منه. وأما إن اختلف العلماء في الأخذ به لتقديمه على القياس وعمل أهل المدينة وفي تركه لتقديم القياس وعمل أهل المدينة عليه فاختلافهم فيه كاختلافهم من جهة النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع. وقد اختلف هل كلهم مصيب عند الله؟ أو لا يدرى هل أصاب أحدهم الحق عند الله أو أخطؤوه جميعا. وقد تؤول القولان جميعا على مذهب مالك ورويا أيضا عن أبي حنيفة وعن أبي الحسن الأشعري، والصحيح [عنه] أن كل مجتهد مصيب، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، وعليه أصحاب الشافعي، وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمر الله تعالى بشيء وبتعبده به وهو خطأ عنده، وبالله التوفيق.
[ما توقعه الأنصار من إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة]
فيما توقعه الأنصار من إقامة النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد قال: لما فتح الله عز(18/290)
وجل على رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وقام على الصفا كأنه يدعو، قالت الأنصار وهم قد أحدقوا به أو غيرهم من أصحابه، أنا الشاك، قالوا أتراه إذ فتح الله عليه وأقر عينه مقيما بأرضه. فلما فرغ رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ما قلتم؟ قالوا قلنا كذا وكذا، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم.
» قال محمد بن رشد: إنما لم يقم رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة؛ لأنها الأرض التي هاجر منها لله عز وجل، فلم يكن ليرجع فيما قد تركه لله تعالى. وقد قال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار،» وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع: «لا يقيمن مهاجر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث» وبالله التوفيق.
انتهى الجزء السابع والحمد لله.(18/291)
[كتاب الجامع الثامن] [ما روي أنه من أشراط الساعة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله كتاب الجامع الثامن
فيما روي أنه من أشراط الساعة قال مالك: وحدثني عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله.
[العبد يسأل الرجل ألا يشتريه]
في العبد يسأل الرجل ألا يشتريه قال وسمعته يسأل عن الذي يريد شراء العبد فيسأله بالله ألا يشتريه، قال أحب إلي ألا يشتريه، فأما أن يحكم عليه بذلك، فلا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه يستحب ذلك له ولا يحكم عليه، كما أن العبد إذا سأل سيده أن يبيعه يستحب له أن يجيبه إلى ما سأله من بيعه إياه ولا يحكم عليه بذلك إذا لم يضر به في ملكه إياه، وبالله التوفيق.
[وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه]
18 -(18/293)
في وصية عمر من كان له رزق في شيء أن يلزمه قال وقال مالك، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كان لرجل في شيء رزق فليلزمه. قال مالك: يريد التجارات.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر على هذا، والله أعلم، إلا وقد خشي على من هيأ الله له رزقا في شيء فلم يعرف حق الله تعالى فيما هيأ له منه فتركه إلى غيره أن لا يجار له في ذلك. وما خشيه عمر فينبغي لكل مسلم أن يخشاه، فإنه كان ينطق بالحكمة. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ضرب بالحق على قلب عمر ولسانه، فكان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه» . وقد مضى هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[لدهن والمشط للعجائز]
في الدهن والمشط للعجائز قال مالك: كان طاوس يجعل للعجائز الدهن ويدعوهن فيأمرهن فيدهن ويمتشطن.
قال محمد بن رشد: إنما كان طاوس يفعل ذلك ويأمر العجائز به لئلا يظن أن ذلك لا يجوز لهن إذ قد انقطعت حاجة الرجال منهن، والنظافة من الدين، وإصلاح الشعر ودهنه من السنة. ذكر مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال لرسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن لي جمة أفأرجلها؟ فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم وأكرمها» فكان(18/294)
أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين لما قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم وأكرمها. وعن عطاء بن يسار قال: «كان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاح رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان» . وبالله التوفيق.
[ما أوصى به عمر بن عبد العزيز]
فيما أوصى به عمر بن عبد العزيز قال مالك: قيل لعمر بن عبد العزيز: أوص يا أمير المؤمنين، قال مالي ما أوصي فيه إلا صغار ولدي إلى كبارهم.
قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم؛ لأنه قد كانت تقدمت وصيته [بما كان أوصى به، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: - «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته] عنده مكتوبة» إذ لم يكن ممن يفرط فيما حض النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه. وبالله التوفيق.(18/295)
[عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قتلا في شهر واحد]
في أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان
قتلا في شهر واحد قال وقال مالك: قتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في ذي الحجة.
قال محمد بن رشد: إعلام مالك بأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قتلا في شهر واحد يدل على أن معرفة سير الصحابة ومناقبهم وأسنانهم ووقت وفاتهم مما يستحب معرفته من العلوم. ولما كانا على وتيرة واحدة من الخير والدين والعدل والفضل اتفق قتلهما شهيدين في شهر واحد، فقتل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وقيل لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر؟ وقتل عثمان بن عفان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوم الجمعة لثمان ليال خلت من ذي الحجة يوم التروية، وقيل لسبع عشرة ليلة خلت منه أو ثمان عشرة ليلة خلت منه، وقيل لليلتين بقيتا منه، سنة خمس وثلاثين، وبويع يوم السبت غرة المحرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاثة أيام بإجماع الناس عليه، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياما. واختلف في سنه يوم قتل، فقيل كان ابن تسعين سنة، وقيل ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل ابن ست وثمانين سنة، وقيل ابن اثنتين وثمانين سنة، وقيل ابن ثمانين سنة، والله أعلم وبه التوفيق.(18/296)
[أثرة الأنصار بالتولية]
في أثرة الأنصار بالتولية وقال عمر بن الخطاب: لئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى أمير إلا أنصاري.
قال محمد بن رشد: إنما قال ذلك لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصى بهم أن يعرف لهم حقهم فيحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وبالله التوفيق.
[إتيان الأمراء]
في إتيان الأمراء وقال مالك: وقيل لأبي الدرداء أنت صاحب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاوية يردك، فقال: اللهم عفوا، من يأت أبواب السلاطين يقم ويقعد.
قال محمد بن رشد: إنما كان يرده [إذا وافقه في شغل لا يقدر معه على ما يريد من الانفراد به وإكرامه، لا أنه كان يرده] من غير عذر لقلة اهتباله به، بل لا شك في أنه كان عارفا بحقه. وقوله من يأت أبواب السلاطين يقم ويقعد، معناه أن هذا يعتريه لكثرة اشتغال السلاطين بما عصب بهم من أشغال المسلمين، وبالله التوفيق.(18/297)
[كراهية حلية الحديد للصبيان]
في كراهية حلية الحديد للصبيان قال مالك: وكانت عائشة تعظم أن يجعل على الصبي حديد.
قال محمد بن رشد: هذا منهي عنه؛ لأن الحديد حلية أهل النار في النار، وبالله التوفيق.
[جواز تعليق الحرز عليهم]
في جواز تعليق الحرز عليهم قال وسئل مالك عن تعليق الحرز على الخيل فتجعل في خيط فتعلق برقبته، فقال ما أرى بذلك بأسا، إذا كان يجعل للزينة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من إجازة تعليق الحرز وشبهه من الأحراز على أعناق الصبيان للزينة. وإنما اختلف في جواز تعليق الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله عز وجل وما هو معروف من ذكره وأسمائه للاستشفاء بها من المرض، أو في حال الصحة لدفع ما يتوقع من المرض والعين. فظاهر قول مالك في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال لا بأس بذلك للمرضى، وكرهه مخافة العين وما يتقى من المرض للأصحاء. وأما التمائم بغير أسماء الله عز وجل وبالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجوز بحال للمريض ولا للصحيح، لما جاء من أن من تعلق شيئا وكل إليه ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. ومن أهل العلم من(18/298)
كره التمائم ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال، لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض ومنعها في خال الصحة لما يتقى منه أو من العين على ما روي عن عائشة أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة، وبالله التوفيق.
[تفقد عمر بن الخطاب لإبل الصدقة]
في تفقد عمر بن الخطاب لإبل الصدقة قال مالك: وحدثني عن القاسم بن محمد عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أنه قال: أمرني عمر بن الخطاب أن أعرض عليه إبل الصدقة، قال فمرت عليه كلها حتى مرت عليه ناقة عشراء في أخراهن فأخذ بخطامها ثم قال: من ارتحل هذه؟ فقلت أنا، ولو أعلم أنه يبتغي أن يعطيها غيري لفعلت، فجمع يدي إلى عنقي ثم علاني بالدرة ثم قال: أنت لعمر الله، ثم قال: ألا بكر بوال أو ناقة شصوص، ثم قال: ارتحل ما أمرتك وحط راحلتك عن هذه.
قال محمد بن رشد: الناقة العشراء هي الناقة الحامل التي قد أتى على حملها عشرة أشهر، وهي لا تؤخذ في الصدقة، فالمعنى فيها أن أهلها طاعوا بها في الزكاة. ويحتمل أن تكون بقيت في إبل الصدقة حتى حملت، فقد مر على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة فرأى فيها شاة حافلا ذات ضرع عظيم، فقال عمر ما هذه الشاة؟ فقالوا شاة من الصدقة، فقال عمر ما أعطى(18/299)
هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. ولما كان أسلم يقوم على الصدقة ويتفقدها ويسير معها كان له أن يرتحل بعيرا منها، فنهى عمر بن الخطاب أن يرتحل خيارها، وأمره بارتحال الدون منها؛ لأن ذلك يكفيه، فليس له أكثر من ذلك، وبالله التوفيق.
[الناس يستقيمون باستقامة أئمتهم]
في أن الناس يستقيمون باستقامة أئمتهم
قال مالك: وقال عمر بن الخطاب وهو يموت: اعلموا أنه لا يزال الناس مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم.
قال محمد بن رشد: هذا بين؛ لأن الأئمة إذا كانت مستقيمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فاستقام الناس باستقامتهم؟ وإذا لم تكن مستقيمة لم تأمر بمعروف ولا نهت عن منكر، فعم الناس الفساد. وقد قال ابن مسعود: ما من عام إلا والذي بعده شر منه ولم تؤتوا إلا من قبل أمرائكم، وليس عبد الله أنا إن كذبت. وقال الله عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 67] وبالله التوفيق.
[ما يلزم الرجل من التثبت في أمره بأن يسأل من تثق به نفسه]
فيما يلزم الرجل من التثبت في أمره
بأن يسأل من تثق به نفسه قال مالك: وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: إذا جعل(18/300)
الرجل قاضيا أو أميرا أو مفتيا فينبغي له أن يسأل [عن نفسه] من يثق به. فإن رآها لذلك أهلا دخل فيه وإلا لم يدخل فيه.
قال محمد بن رشد: في المدونة أنه قال للذي سأله فقال له إن السلطان قد استشارني، أفترى أن أفعل؟: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل، وهي زيادة صحيحة بينة؛ لأنه هو أعرف بنفسه، فإذا لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رآه الناس أهلا لذلك. وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رأى هو نفسه أهلا للفتوى؛ لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك. وقد مضى هذا في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[كراهة الشدة في الأمور والغلظة فيها]
في كراهة الشدة في الأمور والغلظة فيها قال مالك: الغلظة مكروهة لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين والحمد لله.
[ما يلزم الإمام من تفقد من يمر عليه]
فيما يلزم الإمام من تفقد من يمر عليه قال وقال مالك: مر على عمر بن الخطاب حمار عليه لبن فطرح عنه منه أكثره ورآه يثقله.(18/301)
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب: ورآه يقتله، والمعنى في هذا بين؛ لأنه يكره له أن يثقله لما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف» . وروي عنه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» . ولا يجوز له أن يثقل عليه تثقيلا يقتله به، وهو آثم إن فعله، وبالله التوفيق.
[الشيء لا يستقيم على أصل غير مستقيم]
في أن الشيء لا يستقيم على أصل غير مستقيم قال وقال مالك: قال ربيعة قال لي أبو واثلة يا ربيعة أقول لك شيئا، كل بان على أساس أعوج لم يستقم بنيانه.
قال محمد بن رشد: هذا أصل صحيح يصحب في كل شيء: من قاس على أصل فاسد لم يصح قياسه. ومن عمل على غير نية لم ينتفع بعمله، ومن نظر على غير اعتقاد صحيح لم يصح نظره، وبالله التوفيق.
[اشتغال الإمام بأمور المسلمين عن التفقه]
في اشتغال الإمام بأمور المسلمين عن التفقه وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: من كان له شغل عن هذا(18/302)
الأمر، يريد الفقه، فإنه قد كان من شغلي الذي كتب الله لي أن ألزم عاملا منه بما علمت أو مقصرا عما قصرت، فما كان من خير علمته فبتعليم الله ودلائله وإليه أرغب في بركته، وما كان من سوى ذلك فأستغفر الله لذنبي العظيم.
قال محمد بن رشد: معنى قول عمر هذا أنه أشفق من الاشتغال بأمور المسلمين عن التفقه، وخشي التقصير فيما اشتغل به من ذلك، فاستغفر الله تعالى منه، وبالله التوفيق.
[كراهة الرفع في الأنساب]
في كراهة الرفع في الأنساب قال وسئل عن هذه النسبة التي ينتسب الناس حتى يبلغوا آدم، أتكره ذلك؟ فقال: نعم أكره ذلك. قلت فينتسب حتى يبلغ إسماعيل وإبراهيم؟ فقال ومن أخبره بما بينه وبين إبراهيم؟ فقال لا أحب ذلك، قال وأنا أكره أن يرفع إلى أنساب الأنبياء كلهم، وليس الأنبياء كغيرهم. يقول إبراهيم بن فلان بن فلان، ما قرر له هذا ومن يخبره ذلك.
قال محمد بن رشد: المعنى في كراهة ذلك بين، إذ لا يعلم شيء من هذه الأنساب البعيدة من وجه يوقن بصحته، فلا يأمن من حدث بشيء من ذلك من أن يحدث بكذب، وبالله التوفيق.(18/303)
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك؛ دخل عمر بن عبد العزيز على فاطمة امرأته في كنيسة بالشام، فطرح عليها حلق ساج عليه، ثم ضرب على فخذها فقال: يا فاطمة لنحن في دانق أنعم منا اليوم، فذكرها ما قد نسيت من عيشها، فضربت يده ضربة فيها عنف فنحتها عنه فقالت: لعمري لأنت اليوم أقدر منك يومئذ، فأسكته ذلك فقام يريد أخذ الكنيسة وهو يقول بصوت حزين يا فاطمة إني أخاف النار، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، بصوت حزين، فبكت فاطمة وقالت: اللهم أعذه من النار.
قال محمد بن رشد: في هذا ما هو معلوم من ورع عمر وفضله وخوفه لله عز وجل- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبه التوفيق.
[حلف ألا يشارك رجلا]
فيمن حلف ألا يشارك رجلا قال وسئل مالك عمن حلف ألا يشارك رجلا سماه في شيء كذا وكذا، فأرسل إليه أن يبعث إليه بأربعة أعبد له يعينونه [على ذلك، حتى إذا كان الغد بعث إليه بأربعة أعبد يعينونه] مكانه، قال إن كان إنما أراد أن لا يعاونه فلا أحب ذلك.
قال محمد بن رشد: خشي عليه الحنث إذا كان أراد أن لا يعاونه مخافة أن يكون عمل عبيده له في اليوم الثاني أكثر من عمل عبيده له في اليوم الأول فقال لا أحب ذلك ولم يحققه عليه، إذ لم يعنه إلا بعدد ما أعانه به من(18/304)
العبيد، ولو أعانه بأكثر من عبيده لحقق عليه الحنث والله أعلم. ولو لم تكن له نية لم يجب عليه حنث، إذ ليس ما فعل بمشاركة، ولو شاركه في غير الشيء الذي حلف ألا يشاركه فيه لم يحنث أيضا إذا لم تكن له نية، وبالله التوفيق.
[تواضع عمر بن الخطاب وسيرته وورعه]
في تواضع عمر بن الخطاب وسيرته وورعه قال: وقال مالك، كان عمر بن الخطاب ينفخ لهم تحت القدر حتى إن الدخان ليخرج من تحت لحيته. قال مالك: وكان عمر بن الخطاب لا يدخل عليه مال ليلا، لا يدخل عليه إلا نهارا، فقلت له: ولم؟ قال يريد أن تكون سنة لا يدخل ليلا لئلا يسرق منه، الليل أخفى. قال مالك: ورأى عمر بن الخطاب لابنه عبيد الله إبلا فقال: من أين لك هذه؟ قال اشتريتها عجافا فعلفتها حتى سمنت، فقال عمر أفي الحمى؟ قال نعم، فقال انظروا إلى الثمن الذي اشتراها به فبيعوها وأعطوه إياه، فما فضل فاطرحوه في بيت المال.
قال محمد بن رشد: لما كان الحمى إنما حماه لجميع المسلمين لم ير أن يسوغ ابنه شيئا منه دون جميع المسلمين امتثالا لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، وبالله التوفيق.(18/305)
[للقاضي حقا على الناس كما لهم عليه حق]
في أن للقاضي حقا على الناس كما لهم عليه حق قال مالك: وسأل عمر بن عبد العزيز رجلا عن أمر الناس وعن القاضي، فقال: إنه ينبغي أن تؤدي الرعية إلى الراعي حقه، وينبغي للراعي أن يؤدي إلى الرعية حقوقهم عليه غير مسؤول لذلك ولا منزور به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: فحق الناس على القاضي أن يعدل فيهم ولا يشح بذلك عليهم حتى يسألوه إياه، وحقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه فيما أمرهم به من الحق ويشكروه على ذلك، وبالله التوفيق.
[قلة الإنصاف في الناس]
في قلة الإنصاف في الناس قال مالك: ليس في الناس شيء أقل من الإنصاف.
قال محمد بن رشد: قال مالك: هذا لما اختبره من أخلاق الناس.
وفائدة الإخبار به التنبيه على الذم له لينتهي الناس عنه فيعرف لكل ذي حق حقه، وبالله التوفيق.
[التثبت في الاجتهاد]
في التثبت في الاجتهاد قال مالك: وكان عمر بن الخطاب يقول: أشيروا علي في كذا وكذا، ثم يقول ارجعوا إلى منازلكم فبيتوا ليلتكم فتمكنوا في(18/306)
ذلك عن طمأنينة، فإن ذلك أحرى وأيسر إذا كان المرء على فراشه.
قال محمد بن رشد: ما حض عمر عليه من هذا يلزم امتثاله، فلا ينبغي لمن استشير في شيء من أمور الدنيا أو سئل الجواب في نازلة من الفقه تحتاج إلى نظر أن يجيب في ذلك إلا بعد روية وتثبت، وإن أمكنه تبييت ذلك حتى يفكر في ذلك بالليل على فراشه إذا خلا سره فهو أحسن، وبالله التوفيق.
[معنى النهي عن إضاعة المال]
في معنى النهي عن إضاعة المال وسئل عن معنى ما جاء في الحديث تكره إضاعة المال، قال: ألا ترى قول الله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] وهو منعه من حقه ووضعه في غير حقه.
قال محمد بن رشد: الحديث بكراهة إضاعة المال هو حديث المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.» ومن إضاعة المال منعه من حقه ووضعه في غير حقه كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -(18/307)
لأنه إذا حبسه ولم يؤد منه حقا ولا فعل فيه خيرا فقد أضاعه، إذ لا منفعة فيه على هذا الوجه في دنيا ولا أخرى، فكان كالعدم سواء، بل يزيد على العدم بالإثم في منعه من حقه. وكذلك إذا وضعه في غير حقه فقد أضاعه إذ أهلكه فيما لا أجر له فيه إن كان وضعه في سرف أو سفه، أو فيما عليه فيه وزر إن كان وضعه في فساد أو حرام.
ونفقة المال على ستة أوجه، الثلاثة منها إضاعة له: أحدها نفقته في السرف، والثاني نفقته في السفه، والثالث نفقته في الحرام؛ والثلاثة منها ليست بإضاعة له، وهي نفقته في الواجب، ونفقته لوجه الله فيما ليس بواجب، ونفقته لوجوه الناس رغبة في اكتساب الثناء والمجد والشرف. فقد قال بعض الحكماء:
ما ضاع مال أورث المجد أهله ... ولكن أموال البخيل تضيع
وقد قيل في معنى كراهة إضاعته في الحديث أنه إهماله وترك المعاهدة له بالقيام عليه والإصلاح له حتى يضيع، كدار يتركها حتى تنهدم، أو كرم يتركه حتى يبطل أو حق له على رجل [ملي] بينه وبينه فيه حساب فيهمله حتى يضيع وما أشبه ذلك، وهذا أظهر ما قيل في معنى الحديث. ويحتمل أن يحمل على عمومه في هذا وفي إمساكه عن النفقة التي يؤجر في فعلها ولا يأثم في تركها، كصلة الرحم والصدقة المتطوع بها، وفي نفقته في الوجوه المكروهة كالسرف وشبهه. ويحمل قول مالك في تفسير الحديث: وهو منعه من حقه، أي من حقه الواجب عليه في مكارم الأخلاق كصلة الرحم وشبه ذلك؛ لأن منعه من الواجب لا يقال بأنه مكروه كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وكذلك يحمل قوله: ووضعه في غير حقه [أي في غير حقه] من وجوه السرف والسفه، لا من الفساد والحرام؛ لأن وضع المال(18/308)
في الفساد والحرام لا يقال فيه إنه مكروه كما جاء في الحديث، وإنما هو محظور. وقيل في معنى النهي عن إضاعة المال إنه فيما ملكت يمينه من الرقيق والدواب أن ينفق عليهم ويحسن إليهم ولا يتركهم فيضيعون. والصواب أن ذلك [ليس] مما جاء في الحديث؛ لأن الحديث إنما جاء بلفظ الكراهة، والمكروه ما تركه خير من فعله، فيؤجر في تركه ولا يأثم في فعله. وترك الرجل النفقة على رقيقه ودوابه حتى يهلكوا ويضيعوا محظور وليس بمكروه؛ لأنه مسؤول عنهم، وبالله التوفيق.
[الشرب قائما]
في الشرب قائما قال وقال مالك: سمعت أن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانا يشربان قائمين، قال مالك: وما أرى بذلك بأسا، يشرب المرء كما يحب، وإن المسافر ليشرب وهو يتبع دابته.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والكلام عليه في رسم السلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.
[الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة]
في الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة
قال وسألته عن القدح تكون في أذنه الحلقة من الفضة أيشرب فيه؟ قال. ما يعجبني، وإن أحب إلي أن يترك ذلك. فقلت له: فالمرآة تكون فيها الحلقة من الفضة أينظر فيها الوجه؟ فقال ما يعجبني، وترك ذلك أحب إلي.(18/309)
قال محمد بن رشد: قياس هذا قياس العلم من الحرير في الثوب، كرهه مالك وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر ابن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجازه على قدر الأصبعين والثلاثة والأربعة، وقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان. وقد مضى هذا في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان]
في أن الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان قال مالك: وكان يقال إن الإنسان ليخطئ الخطيئة تكون خيرا فينيب إلى الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قد يكون الخير سببا للشر، والشر سببا للخير. قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .
[النظر إلى شعور نساء أهل الذمة]
في النظر إلى شعور نساء أهل الذمة
من اليهود والنصارى
قال وسألته عن النظر إلى شعور مصر افتتحت عنوة، فقال ما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: النظر إلى شعور أهل الذمة الأحرار(18/310)
المصالحين أو المستأمنين لا يجوز، فقوله لا يعجبني معناه أنه لا يعجبني أن يستخف ذلك للضرورة التي ذكرت من أنة لا يوجد بد من اتخاذهن اضطرارا، فلما قال له ما ذكر من أن مصر فتحت عنوة لم [يعجبه أن] يستخف ذلك أيضا فيهن، إذ قد قيل إنها إنما فتحت صلحا، فهن على هذا أحرار، وإن كانت افتتحت عنوة فقد قيل في نساء أهل العنوة ورجالهم إن لهم حكم الأحرار، فكره أن يستخف ذلك فيهن، لقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» . وقد مضى في سماع عيسى وسحنون من كتاب التجارات إلى أرض الحرب الاختلاف في أهل العنوة هل يحكم لهم بحكم الأحرار أو بحكم العبيد، وفي رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد ذكر الاختلاف في افتتاح مصر، وبالله التوفيق.
[ما جاء مما هو من أشراط الساعة]
فيما جاء مما] هو من أشراط الساعة قال وكان يحيى بن سعيد يقول: لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق.
قال محمد بن رشد: قوله حتى يتسافدوا في الطريق، أي حتى يقرب الأمر من ذلك على عادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما قرب منه. وقد جاء ذلك في القرآن قوله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ؛ لأن معناه قاربن بلوغ أجلهن؛ لأن(18/311)
العدة إذا انقضت لم يكن للزوج أن يمسك. وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، وكان ابن أم مكتوم لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح» . فالمعنى في ذلك أن الساعة لا تقوم حتى يكثر الفجور وترتفع الرقبة عن الفجار فيراودون النساء في الطرق على أعين الناس وهم يشهدون، فسمي المعنى الذي يدعو إلى السفاد سفادا لقربه من ذلك. وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روي: «أيما امرأة استعطرت ومرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية» فسماها- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زانية لقربها من ذلك في فعلها ذلك. فقول يحيى ابن سعيد هذا نحو ما مضى في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من قول ابن محيربز: إن من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت فلا يشك من يراه أنه يدخل لسوء إلا أن الجدار تواريه. وقد مضى الكلام على ذلك في موضعه، وبالله التوفيق.
[خصاء الغنم والإبل والبقر]
في خصاء الغنم والإبل والبقر قال وسئل عن خصاء الغنم والإبل والبقر، قال لا بأس بذلك.(18/312)
قال محمد بن رشد: إنما جاز ذلك ولم يكن من المثلة المنهي عنها لما في ذلك من إصلاح لحومها، بخلاف المثلة بشيء من الحيوان عبثا لغير وجه صلاح ومنفعة، وبالله التوفيق.
[كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا]
في كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا
لا يشوبه شيء من أمر الآخرة قال مالك: وسمعت رجلا من أهل الفضل والصلاح يقول: ما أحب أن أسافر ليلة في طلب شيء من الدنيا لا أخلطه بغيره وإن لي مرغوبا فيه.
قال محمد بن رشد: مثل أن يسافر في طلب جاه أو حظوة عند السلطان أو ليفيد مالا وهو مستغن عنه لا ينوي أن يفعل خيرا منه. وأما من سافر في تجارة ليستعين بما يفيد فيها على ما يلزمه من النفقة على عياله ويكف بها وجهه عن السؤال، فهو مأجور على نيته في ذلك. يشهد لهذا ما جاء من قول عمر بن الخطاب بعد هذا أنه قال: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أموت على فراشي. وسيأتي القول عليه إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[تأدب الرجل مع من يؤاكله]
في تأدب الرجل مع من يؤاكله قال مالك: وزعم لي يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب وغيره أن عمر بن الخطاب قال: كنت بأرض الحبشة في الجاهلية،(18/313)
فأصابني جوع شديد، فرمي بي إلى إنسان منهم فجاءني بحديد قد عصر وجعل في رأسه ثقب فيه سمن، فجعلوا يأخذون منه مثل النواة ويدخلون طرفها في ذلك السمن ثم يبتلعونه، فخيرت نفسي بين أن آكل وأشبع فأفتضح، أو أصنع كما يصنعون، فاخترت أن أصنع كما يصنعون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها وفي معنى القران المنهي عنه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[تفسير النسيء]
في تفسير النسيء
قال وسئل مالك عن النسيء فقال: هو صفر والمحرم، يحلونه عاما ويحرمونه عاما.
قال محمد بن رشد: قوله يحلونه عاما ويحرمونه عاما، معناه أنهم كانوا يحلون المحرم عاما ويحرمون مكانه صفرا، ثم يرجعون في العام الثاني إلى تحريم المحرم وتحليل صفر، ثم في العام الذي بعده إلى تحليل المحرم وتحريم صفر. وكانوا يسمون المحرم وصفرا الصفرين، فكانوا يحرمون الصفر الأول في عام والصفر الثاني في عام. فتأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من الأشهر الحرم سنة وسنة لا إلى صفر الذي هو من غير المحرم، هو النسيء الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ} [التوبة: 37] . يقول الله عز وجل إن تأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من(18/314)
الأشهر الحرم سنة إلى شهر صفر زيادة في كفرهم، وإن كانوا قد واطئوا العدة بتحريمهم أربعة أشهر لم ينقصوا من عددها شيئا؟ هذا قول الكلبي. وقال الحسن: كانوا يجعلون الأشهر الحرم في عام متوالية فيحرمون ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، وصفرا، ويقولون قد أنسأنا العام رجبا فلا يحرمونه فيه، وفي عام على منزلتها يحرمون ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ورجبا. والأربعة الأشهر الحرم من السنة التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] منها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، كذا جاء في الأثر عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد جاء عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو الحجة، وذو القعدة والمحرم» . فعلى هذا تكون الأشهر الحرم من عامين. وقال الكوفيون: هي من سنة واحدة، وأولها المحرم. والقول بأن أولها رجب وأنها من سنتين أولى الأقوال بالصواب؛ لأن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة في ربيع الآخر، فأول شهر كان بعد قدومه المدينة من الأشهر الحرم رجب. وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم وتحرمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه، وبقيت حرمتها في الإسلام في تحريم القتال وغير ذلك، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] لأنه عظم القتال في الشهر الحرام في هذه الآية، ثم نسخ ذلك في براءة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وبقوله تعالى:(18/315)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] الآية، فأباح قتلهم وقتالهم في كل موضع وفي كل وقت من شهر حرام أو غيره، وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك والأوزاعي وابن المسيب، فبقيت حرمة الأشهر الحرم في تعظيم الذنب فيها، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] . وفي تعظيم الأجر والثواب في العمل الصالح فيها. وذهب عطاء ومجاهد إلى أن الآية محكمة، وإلى أن القتال في الأشهر الحرم لا يجوز، والجماعة على خلاف ذلك.
وقد قيل في النسيء إنه ما كان أهل الجاهلية عليه من أنهم كانوا يحجون في كل عامين شهرا، فكانت حجة أبي بكر بعد أن نزل فرض الحج قبل أن ينسخ النسيء فوقعت حجته في ذي القعدة الآخر من العامين، ثم حج رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يسلم- حجة الوداع في العام المقبل في ذي الحجة، وأنزل الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، يريد لا ينتقل عنها، فنسخ النسيء وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وبالله التوفيق.
[قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد]
في قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد
قال مالك: وحدثني زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر بن(18/316)
الخطاب: أرأيت إن حملت لهم بيضاء مضر حتى أضعها لهم بالجار أتراهم يقبلونها مني أم يكلفوني [أن أحملها لهم] إلى المدينة؟ فقيل له: بل يقبلونها، فقال لئن بقيت إلى رأس الحول لأحملنها لهم، فحملها. قال مالك: فكان عمر بن الخطاب أول من حملها في البحر إليهم، ثم كانت تحمل فتقسم بين الناس، فكان يؤثر بها في زمان بني أمية، فلما كان عمر بن عبد العزيز قسمها بالسواء بين الناس، فيقول القرشي أنا آخذ ومولاي سواء، فيأبى أخذها.
قال محمد بن رشد: اختلفت سيرة الخلفاء بعد رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قسم مال الله الذي افترضه لعباده على أيدي خلفائه في الفيء وما ضارعه الذي ساوى فيه بين الأغنياء والفقراء، فساوى أبو بكر بين الناس فيه ولم يفضل أحدا بسابقه ولا قدم، فكلمه عمر بن الخطاب في ذلك فقال له: تلك فضائل عملوها لله، وثوابهم فيها على الله، وهذا المعاش الناس فيه أسوة، وإنما الدنيا بلاغ. وفاضل عمر بعد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بين الناس، وفرض لهم الديوان على سوابقهم في الإسلام وفضلهم في أنفسهم. ثم ولي عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد عمر، فسار في ذلك بسيرة عمر، ثم ولي علي بالعراق بعد عثمان فأخذ بفعل أبي بكر، فساوى ولم يفضل. ثم ولي عمر بن عبد العزيز فأخذ بالأمرين جميعا: فرض العطاء ففاضل فيه بين الناس على قدر شرفهم ومنازلهم من الإسلام، وقسم على العامة على غير ديوان العطاء فساوى في ذلك بين الناس على ما جاء عنه في هذه الرواية. وهذا الاختلاف في الاجتهاد إنما هو فيما فضل من المال بعد سد الثغور، وأرزاق العمال والقضاة والمؤذنين وعطاء المقاتلة وما ينوب(18/317)
المسلمين ويحتاج إليه من الزيادة في الكراع والأسلحة. ولا يخرج عن قوم من فيئهم إلا ما فضل عن نوائبهم، وبالله التوفيق.
[آخر ما يبقى في الأمة]
في آخر ما يبقى في الأمة قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد أنه سمع أن آخر ما يبقى في هذه الأمة الصلاة، وأول ما ترتفع منها الأمانة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف. إذ لا مدخل للرأي فيه، وبالله التوفيق.
[ما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال]
فيما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال قال وسألته عن قول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قيل وقال وكثرة السؤال» . قال أما قيل وقال فهذه الأخبار في رأي وهذه الأرجاف- أعطي فلان كذا وكذا ومنع فلان، لقول الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] ، فهؤلاء يخوضون. وأما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه، قد كره رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل وعابها وقال، قال الله عز وجل: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ، فلا أدري أهو هذا أم هذا السؤال مسألة.
قال محمد بن رشد: الذي جاء عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/318)
في قيل وقال قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» فقيل وقال مصدران من القول، يقال قلت قولا وقيلا وقالا، ومعناه الخوض فيما لا يعني من القول؛ لأن قول الإنسان محصي عليه. وقد جاء أن ما لا يكتبه صاحب اليمين يكتبه صاحب الشمال على ما مضى القول فيه في رسم قطع الشجرة من سماع ابن القاسم. وقد كانت عائشة ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول: ألا تريحون الكتاب؟ وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وأما السؤال الذي جاء الحديث في كراهيته فهو محتمل أن يكون المراد بذلك كثرة السؤال للناس لأن ذلك مكروه مذموم، قال الله عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ، وقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت يا رسول الله وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم؟» وأنه قال: «من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا» وأنه قال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا(18/319)
رسول الله: وما غناه؟ قال: خمسون درهما أو حسابها من الذهب؟» وأنه قال: «من سأل وله عدل خمس أواق فقد سأل إلحافا.» وهذا المقدار أولى المقادير بالاستعمال في تحريم الصدقة؛ لأن الآثار لا تحمل على التعارض، وتحمل على أن بعضها ناسخ لبعض. وإذا حملت على ذلك فالأولى أن يجعل الأقل من المقادير الأربعة منسوخا بالذي يليه، والذي يليه منسوخا بالذي يليه، ليكون الأقل من المقادير الذي هو أثقل منسوخا بالأكثر الذي هو أخف تخفيفا من الله ورحمة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك السؤال عن المشكلات التي لا يحتاج إليها ولا تعبد أحد بمعرفتها، وعما ينسخ من خفيات المسائل التي يغلب على الظن أن مثلها لا ينزل؛ لأن الاشتغال بذلك مكروه لأنه مما لا يعني. ولما كان هذا من المحتمل قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أدري أهو مسألة الاستعطاء أو ما كنتم فيه مما أنهاكم عنه منذ اليوم، وبالله التوفيق.
[ما جاء في تفسير قول الله تعالى إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم]
فيما جاء في تفسير قول الله تعالى:
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} [الأعراف: 163] الآية قال مالك: زعم ابن رومان في قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] قال كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت الآخر، فأخذ لذلك رجل منهم خيطا ووترا فربط حوتا منها في الماء(18/320)
يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه فجاءوه فسألوه عن ذلك فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه. فلما كان يوم السبت الآخر فعل مثل ذلك، ولا أدري لعله قال ربط حوتين، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذهما فاشتواهما فوجد الناس ريحيهما، فجاءوه فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع، فقالوا له وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم، فعدا إليهم جيرانهم ممن كان حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو ممن كان يعرفه قبل ذلك فيتمسح به.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] ، أي شارعة ظاهرة، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] ، ابتلاء من الله عز وجل ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، أي ليعلم وقوع الطاعة منهم والمعصية، إذ قد علم أنها ستقع منهم. والقرية قيل فيها إنها أيلة [مدينة] بيت المقدس بساحل البحر. وكان الله عز وجل قد حرم على اليهود صيد الحوت في يوم السبت ابتلاء لهم قبل عقوبته لهم بخطيئة كانت منهم. وقيل إنهم قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها،(18/321)
كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على سائر الأيام والسبت أفضل الأيام كلها؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال عز وجل لموسى: دعهم وما اختاروه لا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ولا يفعلون فيه شيئا، فكانت الحيتان تأتيهم فيه شارعة ظاهرة كما قال عز وجل وتغيب عنهم في سائر الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء. وفي تعديهم في السبت غير قول: قيل إنهم كانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر الأيام ويقولون لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه يوم السبت، وإنما نفعله في غيره، وقيل إن سفهاءهم عدوا فاصطادوا فيه وملحوا وباعوا ولم تنزل بهم عقوبة، فاستشروا وقالوا إنا نرى السبت قد حل وذهبت حرمته، وإنما كان يعاقب به آباؤنا في زمن موسى، ثم استسن الأبناء بسنة الآباء وكانوا يخافون العقوبة ولو كانوا فعلوا لم يضرهم شيء، فعملوا بذلك سنين حتى أثروا منه وتزوجوا النساء واتخذوا الأموال، فوعظتهم طوائف من صالحيهم وحذروهم عقاب الله عز وجل على ذلك، فقالوا: قد عملنا ذلك سنين فما زاد الله إلا خيرا، ولئن أطعتمونا لتفعلن كما فعلنا، إنما حرم هذا على من قبلنا، فقالوا ويلكم لا تغتروا ولا تأمنوا بأس الله، وهذه معذرة إلى ربكم، إما أن تنتهوا فتكون لنا أجرا، أو تهلكوا فننجوا من معصيتكم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أي تركوا، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وهو مسخهم قردة. قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] .(18/322)
قال قتادة: وبلغنا أنه دخل على ابن عباس وبين يديه المصحف وهو يبكي وقد أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] فقال: قد علمت أن [الله أهلك الذين أخذوا] الحيتان ونجى الذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يواقعوا المعصية.
وقال الحسن: وأي نهي يكون أشد من أنهم أثبتوا لهم الوعيد وخوفوهم العذاب فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] بالله التوفيق.
[شرب أبوال الأنعام في الدواء]
في شرب أبوال الأنعام في الدواء قال وسئل مالك عن شرب أبوال الأنعام في الدواء، قال: لا بأس بذلك، ولا بأس بشرب أبوال الأنعام البقر والغنم. قيل له فأبوال الأتن؟ قال لا خير فيه. قيل له فأبوال الناس؟ قال لا خير فيه. قيل له: فالشاة تحلب فتبول في اللبن؟ قال أرجو أن لا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بشرب أبوال الأنعام في الدواء. والدليل على ذلك ما جاء في «الرهط العرينيين الذين قدموا(18/323)
على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستوخموا المدينة فأمرهم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرجوا في لقاحه فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا حتى إذا صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود» الحديث وقاس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المشهور عنه أبوال سائر ما يؤكل لحمه في الطهارة على أبوال الأنعام [ويأتي بعد هذا في رسم الأقضية من هذا السماع أنه فرق بين أبوال الأنعام وأبوال سائر ما يؤكل لحمه] من الحيوان. وتأول ابن لبابة أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في نجاستها للحديث الذي جاء في إجازة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب أبوال الإبل للرهط العرينيين. والقياس إذا قيست عليها في الطهارة أن تقاس عليها في إجازة التداوي بشربها؛ لأن العلة في إجازة التداوي بشرب أبوال الأنعام طهارتها. ووجه التفرقة وقياس مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال بني آدم في النجاسة، فأبوال الأتن نجسة إذ لا تؤكل لحومها، فلا يجوز التداوي بشربها. وما اختلف في جواز أكله اختلف في نجاسة بوله حملا على ذلك. وذهب أبو حنيفة إلى أن الأبوال تابعة للدماء في النجاسة لا للحوم، فرأى أبوال الأنعام وغيرها نجسة فأبعد في القياس وخالف الأثر. وأما الألبان فهي تابعة للحوم في الطهارة، فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانها نجسة قياسا على لبن الخنزيرة، فألبان الأتن نجسة. وقد قال يحيى بن يحيى في سماعه من كتاب الوضوء أن من أصاب ثوبه لبن حمارة فصلى به أنه يعيد في الوقت كمن صلى بثوب نجس، إلا أنه قد جوز التداوي بها مراعاة للخلاف في جواز أكل لحومها، حكى ذلك ابن حبيب عن مالك وسعيد بن المسيب والقاسم ابن محمد وعطاء. وروي إباحة التداوي بها عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/324)
وإلى إجازة ذلك ذهب ابن المواز أيضا. وروى زياد عن مالك في لبن الحمارة أنه لا بأس به، فيحتمل أن يريد أنه لا إعادة على من صلى به في ثوبه أو بدنه، ويحتمل أن يريد أنه لا بأس بالتداوي به لمن احتاج إليه. وقد مضى الكلام على هذه المسألة أيضا في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب من كتاب الصيد والذبائح، وفي رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وفي سماع يحيى من كتاب الوضوء، وبالله التوفيق.
[قراءة القرآن بالألحان]
في قراءة القرآن بالألحان وسئل عن القراءة بالألحان، فقال ما يعجبني لأن ذلك يشبه الغناء ويضحك بالقرآن ويسمى ويقال فلان أحسن قراءة من فلان. قال مالك: ولقد بلغني أن الجواري قد علمن ذلك كما يعلمن الغناء، قال ولا أحب ذلك على حال من الأحوال في رمضان ولا في غيره، أين القراءة التي يقرأ هؤلاء من القراءة التي كان يقرؤها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: وإني لأكره التطريب في الأذان، ولقد هممت أن أكلم أمير المؤمنين في ذلك لأني كنت أسمعهم يؤذنون.
قال محمد بن رشد: كراهة مالك قراءة القرآن بالألحان بينة؛ لأن ذلك يشبه الغناء على ما قال. وقد سئل في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن النفر يكونون في المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا، يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال هذا يشبه الغناء، فقيل له: أفرأيت الذي قال عمر لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فقال: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها، والله ما سمعت هذا قبل هذا المجلس. وإنما اتقى مالك من حديث عمر بن الخطاب هذا وما أشبهه أن يتحدث به فيكون(18/325)
ذلك ذريعة إلى استجازة قراءة القرآن بالألحان تلذذا بحسن الصوت. وأما استدعاء رقة القلوب وشدة الخشوع في سماع قراءة القرآن من الحسن القراءة المحسن للتخشع في قراءته فلا مكروه في ذلك. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن» أي ما استمع لشيء ما استمع لنبي يحسن صوته بالقرآن طلبا لرقة قلبه بذلك. وعلى هذا يحمل ما جاء عن عمر بن الخطاب في قوله لأبي موسى الأشعري [ذكرنا ربنا أنه إنما أراد أن يسمع القرآن لحسن صوته ليخشع بذلك قلبه، وقد «قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي موسى الأشعري] تغبيطا بما وهبه الله عز وجل من حسن الصوت: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» . وقد قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» فقيل معناه ليس منا من لم يحرص على سماع القراءة الحسنة ويتلذذ بها لما يجد من الخشوع عندها كما يلتذ أهل الأغاني بأغانيهم؛ وقيل معناه من لم يستغن به أي من لم ير أنه أفضل حال من الغني بغناه؛ وقيل معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أبي مليكة أحد رواة الحديث: فمن لم يكن له حلق حسن؟ قال يحسنه ما استطاع. وقد مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الصلاة زيادات في هذا المعنى، وبالله التوفيق.(18/326)
[التحذير من سماع أقوال أهل البدع]
في التحذير من سماع أقوال أهل البدع قال مالك: وقال ذلك الرجل لا تمكن زائغ القلب من أذنك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين أنه يحذر أن يسمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم، وكفى من التحذير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه ابن غائم في ذلك من قوله: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق وفي كمه بضاعة أما كان يحترز بها منه خوفا أن يغتاله فيها، فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به، وبالله التوفيق.
[الحض على اتباع الأمر الأول]
في الحض على اتباع الأمر الأول قال مالك: وكان وهب بن كيسان يقعد إلينا ولا يقوم أبدا حتى يقول لنا: اعلموا أنه لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله. قلت يريد ماذا؟ فقال لي: يريد في رأيي الإسلام.
قال محمد بن رشد: المعنى في قوله أنه لا يعز الإسلام في آخر الزمان إلا بما عز في أوله من الجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته على السنة والحق، وبالله التوفيق.
[توقي الرجل أن يظن به سوء]
في توقي الرجل أن يظن به سوء قال وسمعت ربيعة يقول: سأل رجل أبا بكر الصديق أن(18/327)
يصحبه إلى حاجة، فخرج معه في طريق، فقال الرجل لأبي بكر حد بنا عن هذه الطريق لطريق آخر، فإن على طريقنا مجلسا فيه ناس فنستحيي أن نمر بهم، فقال له أبو بكر أتيتني في أمر تستحيي منه، لا أذهب معك أبدا فيه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية والقول فيها في رسم السلف في الحيوان والمتاع المضمون، وبالله التوفيق.
[كراهة طول الكمين]
في كراهة طول] الكمين قال مالك: رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي وقد أطال كميه، فانتظره حتى قضى صلاته ثم دعاه فقال ما تريد؟ قال: مد يديك، فمد يديه، فقطع فضل كميه [عن يديه] بشفرة معه ثم أعطاه إياه، فقال انتفع بهذا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم قبل هذا، وبالله التوفيق.
[كراهة غضارة العيش]
في كراهة غضارة العيش قال مالك: وزعموا أن بعض أصحاب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زرعت الحنطة بالمدينة كره ذلك، فقلت لمالك ولم؟ قال: كان الناس يأكلون الشعير، فكره ذلك لغضارة العيش.(18/328)
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى فيما كان عليه أصحاب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شظف العيش في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[محبة الرجل أن يرى في شيء من أعمال البر]
في محبة الرجل أن يرى في شيء من أعمال البر قال مالك: سمعت ربيعة يسأل عن المصلي لله ثم يقع في نفسه أنه يحب أن يعلم ويحب أن يلقى في طريق المسجد ويكره أن يلقى في طريق غيره، فلا أدري ما أجابه ربيعة، غير أني أقول: إذا كان أصل ذلك وأوله لله فلا أرى بذلك بأسا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحا وإن هذا ليكون من الشيطان يتصدق فيقول له إنك لتحب أن يعلم ذلك ليمنعه ذلك. قلت له: إذا كان أصل ذلك لله لم تر به بأسا؟ قال: إي والله ما أرى به بأسا، قد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما شجرة لا يسقط ورقها شتاء ولا صيفا، فقال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقولها، فقال له عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا.» فأي شيء هذا إلا هذا، وإنما هذا أمر يكون في القلب لا يملك. وقال الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] ، وقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في قول مالك مكررا في رسم(18/329)
العقول من هذا السماع وكتاب الصلاة، ومضى من قول ربيعة خلافه في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الصدقات والهبات، والتكلم على ذلك كله في المواضع المذكورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[صفة الأمر بالمعروف]
في صفة الأمر بالمعروف قال مالك: قال ربيعة سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا ينهى عن المنكر ولا يأمر بالمعروف حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إنه ليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون القائم بذلك سالما من مواقعة الذنوب والخطايا إذ لا يسلم أحد من ذلك، وقد قال الله عز وجل لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي وصية الخضر لموسى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: واستكثر من الحسنات فإنك لا بد تصيب السيئات، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل شرا. هذا في الأنبياء فكيف بمن دونهم من الناس. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الأعيان، لقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] فيجب على كل أحد في خاصة نفسه أن ينكر من المنكر ما اطلع عليه مما مر به واعترضه في طريقه بثلاثة شرائط: أحدها أن يكون عالما بالمنكر؛ لأنه إن لم يكن عالما بذلك لم يأمن أن يأمر(18/330)
بمنكر أو ينهى عن معروف؟ والثاني أن يأمن أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك؟ والثالث أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر ونافع؛ لأنه إذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي. فالشرط الأول والثاني مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب. وأما الانتداب إلى ذلك والقيام بتفقده وتغييره فلا يجب على أحد في خاصة نفسه سوى الإمام، وإنما يستحب له ذلك إذا قوي عليه. وذلك بين من قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رسم الأقضية الثالث من هذا السماع من كتاب السلطان. وإنما وجب ذلك على الإمام واستحب لمن سواه إذا قوي عليه لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] . ومضى قول سعيد بن جبير والقول عليه قبل هذا في رسم القبلة من سماع ابن القاسم، وما زدته هاهنا تتميم له. ومضى أيضا في الرسم المذكور في كتاب السلطان زيادات في هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[كراهة الإسراع في تعلم القرآن دون التفقه فيه]
في كراهة الإسراع في تعلم] القرآن دون التفقه فيه قال مالك: وسمعت أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب أنه قد قرأ القرآن رجال، فكتب إليه عمر أن افرض لهم وأعطهم وزدهم، ثم كتب إليه أبو موسى الأشعري: إنا لما(18/331)
فعلنا ذلك أسرع الناس في القراءة حتى قرأ سبعمائة، فكتب إليه عمر أن دع الناس، فإني أخاف أن يقرأ الناس القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين. قال مالك: وإنما قال ذلك مخافة أن يتأولوه على غير تأويله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن التفقه في القرآن بمعرفة أحكامه وحدوده ومفصله ومجمله وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه آكد من حفظ سواده، فيكون من حفظ سواده ولم يتفقه فيه ولا عرف شيئا من معانيه كالحمار يحمل أسفارا. وقد أقام عبد الله بن عمر على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها؛ لأنه كان يتعلمها بفقهها ومعرفة معانيها، وبالله التوفيق.
[الذي يقول إنه سيد قومه]
في الذي يقول إنه سيد قومه قال مالك: قال يحيى بن سعيد: دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فقال له: من سيد قومك؟ قال أنا، فسكت عنه عمر ثم قال له: لو كنت سيدهم ما قلته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن الرجل إنما يسود قومه بالتواضع فيهم، والبر بهم، والترفيع لهم، وترك التكبر عليهم، والاعتناء بأمورهم، والتهمم بأحوالهم؛ فإذا اعتقد أن له فضلا عليهم سادهم به فهو أدناهم مرتبة. قال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» . وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من(18/332)
سماع ابن القاسم القول في الأحنف بن قيس وقد قال له معاوية بما شرفت قومك ولست بأشرفهم ولا بأسنهم ولا. بأيسرهم؟ قال: إني لا أتناول ما كفيت، ولا أضيع ما وليت، وقال: لو وجدت الناس كرهوا شرب الماء ما شربته. وبالله التوفيق.
[أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم سلمة حين دخل بأم سلمة]
في أمر رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بابنة أم سلمة حين دخل بأم سلمة قال مالك: لما «دخل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أم سلمة وعمار بن ياسر على الباب، ذهب رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ليدنو منها، فبكت الصبية، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذيها فلما أخذتها وهدأتها ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليدنو منها فبكت الصبية فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] خذيها، فسمع عمار بن ياسر فنادى نحن نأخذها، فأمر له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها» .
قال محمد بن رشد: إنما أمر له بها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه من ولاتها؛ لأنها مخزومية بنت أبي سلمة بن عبد الأسد الذي كان زوجا لأم سلمة قبل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وعمار بن ياسر مولى لبني مخزوم؛ لأن أباه ياسرا تزوج أمة لبعض بني مخزوم فولدت له عمارا. وذلك أنه قدم مكة مع أخوين له يقال(18/333)
لهما الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لهما سمية، فولدت له عمارا، فأعتقه أبو حذيفة. فمن هاهنا هو عمار مولى بني مخزوم، فهو مولاهم وحليف لهم، وأبوه عربي لا يختلفون في ذلك، وبالله التوفيق.
[الكاسيات العاريات ولبس الرجال الرقيق من الثياب]
في الكاسيات العاريات،
ولبس الرجال الرقيق من الثياب قال: وسألته عن حديث أبي هريرة: «كاسيات عاريات مائلات مميلات» فقال: أما كاسيات عاريات فلبس الرقاق، وأما مائلات مميلات فمائلات عن الحق مميلات من أطاعهن عن الحق من أزواجهن وغيرهم. قال وسألته عن لبس الرجال الرقاق من الثياب، فقال: لباس الرجل كله يصير إلى الإزار، فلو لم يكن على الرجل إلا إزار لم يكن بذلك بأس. فإذا كان الإزار رقيقا والقميص رقيقا فلا خير في ذلك، وإذا كان الإزار ثخينا والقميص رقيقا فلا بأس بذلك إذا كان قصدا ولم يكن على وجه السرف.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم على حديث أبي هريرة المذكور وقوله «كاسيات عاريات مائلات مميلات» الحديث، فأغنى ذلك عن إعادته هنا مرة أخرى. وقول مالك في لبس(18/334)
الرجال الرقيق إن الأمر يرجع في ذلك إلى الإزار صحيح؛ لأن بدن الرجل ليس بعورة. فإذا اتزر بإزار ثخين جاز أن يلبس الثوب الرقيق الذي يصف؛ لأن بدنه ليس بعورة، بخلاف المرأة التي هي كلها عورة فجاء فيها الحديث، وبالله التوفيق لا شريك له.
[السكنى في الأرض التي يعمل فيها بغير الحق ويسب فيها السلف]
في كراهة السكنى في الأرض التي يعمل فيها
بغير الحق ويسب فيها السلف قال وسمعته يقول: ما تنبغي الإقامة بأرض يعمل فيها العمل بغير الحق والسب للسلف. قال أبو الدرداء لمعاوية حين قال سمعت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية ما كنت أرى بمثل هذا بأسا، قال أبو الدرداء: أخبرك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتخبرني عن رأيك، لا أساكنك بأرض أنت فيها، فخرج عنه. قال مالك: فالناس كانوا يخرجون من الكلمة، وهذا يقيم على هذا من العمل بغير الحق به والسب للسلف، وقد قال الله عز وجل: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] .
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم تفسير قوله عز وجل: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] . والمعنى في كراهة السكنى في الأرض التي يعمل فيها بغير الحق ويسب فيها السلف بين؛ لأن العمل بغير الحق وسب السلف من المناكر التي يجب تغييرها والنهي عنها، فإذا لم ينه عنها واشتهر العمل بها لم يأمنوا أن تحل العقوبة بجميعهم. فقد جاء: إن الله لا يعذب العامة بذنوب الخاصة(18/335)
ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم. وقول معاوية لأبي الدرداء حين باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل هذا: ما كنت أرى بمثل هذا بأسا، لم يقصد بذلك مخالفة ما قاله النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما تأول قوله على أنه إنما نهى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفاضل في بيع العين بالعين والتبر بالتبر والمصوغ بالمصوغ، فأجاز التفاضل بين العين والتبر وبين العين والمصوغ وبين التبر والمصوغ، وهو شذوذ وخلاف للجمهور؛ لأنهم حملوا نهيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفاضل بين الذهبين وبين الورقين على عمومه. فسأل صائغ عبد الله بن عمر فقال له: إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل بذلك قدر عمل يدي، فنهاه عن ذلك وقال: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. ففهم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدينار بالدينار لا فضل بينهما» [أن الدينارين المصوغين من الذهب لا فضل بينهما] وحكم أن ذلك عهد من النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم. وقد جاء بيان ذلك فيما جاء من أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا، وكل أربعة بثلاثة عينا، فقال لهما رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربيتما فردا» وبالله التوفيق.(18/336)
[يكتب إلى أصغر منه هل يبدأ به]
في الذي يكتب إلى أصغر منه هل يبدأ به؟ قال: وسئل عن الذي يبدأ في الكتاب بأصغر منه ولعله ليس بأفضل منه، أترى بذلك بأسا؟ فقال لا والله ما أرى بذلك بأسا، أرأيت إذا وسع له إذا جاء فجلس، أو لو سقي فأعطاه إياه، وقال إن أهل العراق يقولون لا تبدأ بأحد قبلك وإن كان أكبر منك أو أباك فعيب ذلك من قولهم عيبا شديدا. قال مالك: جاء رجلان فأراد أحدهما أن يتكلم عند النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أصغر، فقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبر كبر للذي هو أكبر منه.» قال وسمعت أن أبا بكر الصديق حين جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبيه فقال له: «لو تركت الشيخ في منزله لجئناه» .
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، وفي موضعين من رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[الحجامة وتساوي الأيام فيها]
في الحجامة وتساوي الأيام فيها
قال مالك: وتحدث أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(18/337)
قال: «إن كان دواء يبلغ الداء فالحجامة تبلغه» . قال مالك: وليس من أيام الجمعة يوم إلا وأنا أحتجم فيه، يوم الجمعة ويوم السبت، ويوم الأربعاء، الأيام كلها لله. من أراد أن يحتجم أو يسافر أو يغرس فلا يتق من الأيام شيئا، فإن الأيام كلها لله، إن هذا الشيطان للإنسان عدو مبين. وسئل مالك عن الحجامة لسبع عشرة وخمس عشرة وثلاث عشرة، فقال أنا أكره هذا ولا أحبه، كأنه يكره أن يكون لذلك وقت.
قال محمد بن رشد: معنى قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه» أي أن الحجامة من الأدوية التي [قد] تبلغ الداء؛ لأنه قد أعلم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فليس قوله إن كان دواء يبلغ الداء شكا منه في ذلك، وإنما معناه إذا كان الدواء قد يبلغ الداء فإن الحجامة من الدواء الذي قد يبلغ الداء. وقد مضى قبل هذا في هذا السماع القول في التشاؤم بالحجامة في بعض الأيام فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة النبي عليه السلام]
في رفع عمر بن الخطاب صوته في صلاته بسورة
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فوق ما كان يفعل قال وسمعت رجلا صدقا يحدث أن عمر بن الخطاب قرأ(18/338)
سورة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فرفع بها صوته، فقيل له لم رفعت صوتك بهذه السورة؟ فقال: أردت أن أذكرهن العهد. قال مالك: يريد أزواج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت له: أي سورة؟ قال لا أدري أهي الصغرى أو الكبرى.
قال محمد بن رشد: الصغرى هي التحريم، والكبرى هي الأحزاب. وقد مضى في رسم مرض وله أم ولد فحاضت هذا والكلام عليه، وبالله التوفيق.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يقول للناس: أيها الناس، من كان هاهنا من أهل البلدان فليلحق ببلده، فإني أنساه هاهنا وأذكره في بلده، ومن كانت له قبل عامله مظلمة فلا إذن له علي.
قال محمد بن رشد: معنى أنساه هاهنا أي أتركه في العطاء فلا أعطيه مع من هاهنا من أهل البلد شيئا، وأذكره في بلده فأعطيه معهم، يريد أنه لا مزية لهم عنده في ترك بلادهم إلى هذا البلد. وقوله إن من كانت له قبل عامله مظلمة فلا إذن له علي، معناه لا يحتاج إلى الاستئذان، فليدخل علي متى ما جلست للناس دون إذن، وبالله التوفيق.
[الكراهة للمفتي أن يقول فيما يؤديه إليه اجتهاده في تحليل أو تحريم هذا حلال وهذا حرام]
في الكراهة للمفتي أن يقول فيما يؤديه
إليه اجتهاده في تحليل أو تحريم هذا حلال وهذا حرام قال مالك: لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا(18/339)
حرام، ولكن يقال أنا أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا، فكان الناس يكتفون بذلك ويرضون به، وكانوا يقولون إنا لنكره هذا وإن هذا ليتقى، لم يكونوا يقولون هذا حلال وهذا حرام. قال: وهذا الذي يعجبني والسنة ببلدنا.
قال محمد بن رشد: قوله لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا حرام، معناه فيما يرون باجتهادهم أنه حلال أو حرام، إذ قد يخالفهم غيرهم من العلماء في اجتهادهم. فإذا قال المجتهد فيما يراه باجتهاده حلالا أو حراما إنه حلال أو حرام، أوهم السامع بأنه حلال أو حرام عند الجميع، فيحتاج أن يقيد قوله بأن يقول هو حلال عندي أو حرام عندي. وهذا على القول بأن كل مجتهد مصيب للحق عند الله في حق اجتهاده. وأما على مذهب من يرى أن الحق في واحد وأن المجتهد قد يخطئه وقد يصيبه، فلا يصح له أن يقول فيما يؤديه إليه اجتهاده من تحليل أو تحريم هذا حلال أو حرام بحال، إذ لا يدري على مذهبه لعله عند الله بخلاف ما قاله، فالصواب أن يقول أرى هذا مباحا أو أراه محظورا فيما تعبدني الله به في خاصة نفسي وأن أفتي به. وإن علم أن السائل يكتفي منه بأن يقول له فيما يرى أنه لا يحل له أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا، ويكف بذاك عن استباحة ذلك الشيء، ساغ له أن يقتصر على ذلك القول فيه، وبالله التوفيق.
[قول الرجل هلك الناس]
ما جاء في قول الرجل هلك الناس قال وسألته عن قول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال هلك الناس فهو أهلكهم» قال ذلك فيما يرى [والله(18/340)
أعلم] أن يقول ذلك الرجل تفضيلا لنفسه على الناس، يقول هلك الناس فلم يبق غيري. وأما الذي يقول ذلك تحزنا على الناس ويقول هلك أهل هذه القرية وبادوا وذهب خيار الناس، على وجه التحزن، فإن ذلك من كلام الناس وهو حسن.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للحديث صحيح بين لا اختلاف فيه. وقد مضى هذا الحديث والقول عليه في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[تفسير ما جاء في أن من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما]
في تفسير ما جاء في أن «من قال لأخيه
كافر فقد باء بها أحدهما» وسئل عن قول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما» قال: أرى ذلك في الحرورية. فقلت له: أتراهم بذلك كفارا؟ قال لا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: هذا حديث يحتمل وجوها من التأويل: أحدها أن يكون معناه أن من قال لصاحبه يا كافر معتقدا أن الذي هو عليه هو الكفر، فأحدهما على كل حال كافر، إما المقول له إن كان كافرا، وإما القائل إن كان المقول له مؤمنا. لأنه إذا قال للمؤمن يا كافر معتقدا أن الإيمان الذي هو عليه كفر فقد حصل هو كافرا باعتقاده إيمان صاحبه كفرا. والدليل(18/341)
على ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] . وأما إن قال للمؤمن يا كافر وهو يظنه كافرا ولا يعلم أنه مؤمن فليس بكافر وإنما هو غلط. والثاني أن يكون معناه النهي عن أن يكفر الرجل صاحبه باعتقاد ما لا يتحقق أنه باعتقاده كافر؛ لأنه إن لم يكن باعتقاده ذلك كافرا كان القائل له ذلك قد باء بإثم ما رماه به من الكفر. والثالث أن يكون معناه النهي عن أن يظن الرجل بأخيه المسلم أنه يعتقد الكفر ويظهر الإسلام فيقول له يا كافر؛ لأنه إن لم يكن كذلك باء بإثم تكفيره. وقول مالك أرى ذلك في الحرورية يحتمل أن يريد بذلك أن الحرورية التي تكفر المسلمين بالذنوب [من القول] تبوء بذلك إما بالكفر على التأويل الأول إن كانت تعتقد أن الإيمان الذي عليه المسلمون كفر؛ وإما بالإثم على التأويل الثاني إن كانت لا تعتقد إيمان المسلمين كفرا، وهذا هو الأظهر؛ ويحتمل أن يريد أن من يكفر الحرورية من المسلمين يبوء بإثم ذلك إن لم يكونوا كفارا بما يعتقدونه. وقد قال مالك في هذه الرواية لما قيل له أتراهم بذلك كفارا؟ قال لا أدري ما هذا. وبالله التوفيق.
[الثناء لا يكون عاملا إلا بعد المخالطة في السفر والمال]
في أن الثناء لا يكون عاملا إلا بعد المخالطة في السفر والمال قال مالك: كان يقال في الزمان الأول إذا أثنى الرجل على الرجل: أصحبته في سفر؟ أشاركته في مال؟ قال فإن قال لا قيل له فلا تثن عليه.(18/342)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه إن قال إذا سئل هل صحبه في سفر أو شاركه في مال نعم فثناؤه عليه تزكية له، وإن قال لا لم يكن عليه في ثنائه عليه بما ظهر إليه من ظاهر حاله إثم ولا حرج، ولم تصح بثنائه عليه شهادته له بالتزكية، وبالله التوفيق.
[قول القاسم في ربيعة]
في قول القاسم في ربيعة قال مالك: كان القاسم يسأل فيقول: سلوا هذا، يريد ربيعة، فإذا قام قال القاسم: أترون من مضى ضلوا عما يقول هذا، يكره ذلك له.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا، والله أعلم، أنه عاب عليه إجازة بعض ما كرهه من مضى والاحتجاج له، وبالله التوفيق
[قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه من المال]
في قول القاسم بن محمد لعمر بن عبد العزيز فيما عرض عليه من المال قال مالك: دخل عمر بن عبد العزيز [من] مكة، فلقي القاسم بن محمد خارجا إليها، فقال: إن معنا فضولا، فقال القاسم: إني امرؤ لا آخذ من أحد شيئا.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في وجه قول القاسم بن محمد هذا لعمر في آخر رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ذنب المشاركة في القتل]
18 -(18/343)
في الذنوب وذنب المشاركة في القتل قال مالك، وقال القاسم بن محمد: إن الذنوب لاحقة بأهلها [قال مالك] وكان يقال: من لقي الله ولم يشرك في دم مسلم لقي الله خفيف الظهر.
قال محمد بن رشد: قول القاسم بن محمد إن الذنوب لاحقة بأهلها صحيح، يشهد لذلك قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] ، وقوله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18] ومعنى قول القائل من لقي الله عز وجل ولم يشرك في دم مسلم لقي الله خفيف الظهر، أي أن الذنوب وإن عظمت فهي تخف عند إضافتها إلى المشاركة في الدم؛ لأن الله عز وجل يقول: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . وقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . وقال رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» . وجميع الذنوب(18/344)
تمحوها التوبة بإجماع سوى القتل، فإن أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المسلمين اختلفوا في قبول توبة القاتل. وقد مضى الكلام على هذا في رسم يسلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[تواصي أزواج النبي عليه السلام في العسل الذي كان يشربه عند إحداهن]
في تواصي أزواج النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في العسل الذي كان يشربه عند إحداهن قال مالك: «وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينصرف من الصبح فيدخل على حفصة فيسلم عليها وعلى أزواجه كلهن، وكان بيت حفصة أقربها إليه، فكان يجلس عندها ويلعق عسلا كان عندها. فتواصى أزواج النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهن ونفسنها لطول لبثه عندها، فقلن إذا جاء النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقول إنا نجد منك ريح المغافير، فقالت زينب فلقد أردت أن أقوله قبل أن يدخل علي، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريح المغافير، ثم دخل عليهن واحدة بعد واحدة فقلن له ذلك. وكان رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكره أن يوجد منه ريح شيء، فقال والله لا آكله أبدا. فكانت عائشة إذا ذكرت هذا بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبكي ثم تبكي وتقول: منعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا كان يشتهيه.» قال مالك: والمغافير شجرة تنبت بالوادي تشبه ريح العسل.
قال محمد بن رشد: قد جاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة،(18/345)
وابن أبي مليكة، أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فاجتمعت عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن تقولا له إنا نشم منك ريح المغافير. والمغافير صمغ- متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة واحدها مغفور- بضم الميم - فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له إني أشم منك ريح المغافير، فحرم النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب العسل. وقيل إنه حلف على ذلك، وإن قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] نزل في ذلك. وقد ذكرنا هذا قبل هذا في هذا الرسم في هذا السماع، والله أعلم عند من شرب العسل منهما. ويحتمل أن يكون شربه عند كل واحدة منهما من زينب وحفصة، وبالله التوفيق.
[بيان المحروم من هو]
في بيان المحروم من هو وسئل مالك عن المحروم من هو؟ فقال إنه ليقال، هو الفقير الذي لا يسأل ويحرم الرزق. ثم سئل بعد ذلك أيضا فقال: سمعت أنه الفقير الذي يحرم الرزق.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك المحروم بأنه الفقير الذي لا يسأل صحيح؛ لأن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] يدل أن السائل غير المحروم، إذ لا يعطف الشيء إلا على غيره لا على نفسه. وكذلك القانع هو غير المعتر في قوله عز وجل:(18/346)
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] فالقانع الفقير المتعفف الذي يقنع ولا يسأل، والمعتر الذي يعتريك يسألك في كفه. والبائس الفقير في قوله: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] هو الضعيف الفقير. وقيل في الفقير إنه الذي به زمانة. وقد اختلف في الفقير والمسكين في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] فقيل الفقير الذي له البلغة، والمسكين الذي لا شيء له؛ وقيل الفقير الذي لا شيء له، والمسكين الذي له الشيء؟ وقيل الفقير الذي لا مال له وليس به زمانة، والمسكين الذي به زمانة؟ والفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل؟ وقيل الفقير من المهاجرين، والمساكين من غير المهاجرين، وقيل الفقير المسلم، والمسكين من أهل الذمة، وروي ذلك عن ابن عباس، وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل ولا تنس نصيبك من الدنيا]
في تفسير قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] قال: وسئل مالك عن تفسير قول الله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] ما هو؟ [قال وسئل] : عن {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ما هو؟ قال أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه في شيء.(18/347)
قال محمد بن رشد: رد مالك تأويل هذه الآية إلى معنى قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد قيل في معنى قوله: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] أي اعمل في دنياك لأخراك، ولا تترك حظك من الدنيا الذي هو طاعة ربك وعبادته، وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن إليك. وقيل معناه وأحسن في الدنيا بإنفاق مالك الذي أتاكه الله في سبيله ووجوهه، وسع به عليك، وبالله التوفيق.
[تفسير الراسخين في العلم]
في تفسير الراسخين في العلم
قال: وسألته عن تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أيعلم تأويله الراسخون في العلم؟ قال لا، إنما تفسير ذلك أن الله عز وجل قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ثم أخبر فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] هو ليس يعلمون تأويله. والآية التي بعدها أشد عندي قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على الراسخين في العلم من هم، وهل يعلمون تأويل المشتبهات أم لا، في رسم البز من سماع ابن القاسم، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.(18/348)
[الاجتماع في قراءة القرآن]
في الاجتماع في قراءة القرآن قال وسئل عن القوم يجتمعون فيقرؤون القرآن جميعا السورة الواحدة، فقال إني لأكره ذلك، ولو كان بعضهم يتعلم من بعض لم أر بذلك بأسا. قيل له: أرأيت إن كان واحد منهم يقرأ عليهم؟ قال: لا بأس به. قال وسئل عن القوم يجتمعون فيقرؤون السورة الواحدة، فقال لا يعجبني هذا ولا أحبه، ولكن لو قرؤوا على رجل منهم واحد، أو قرأ عليهم رجل منهم لم أر بذلك بأسا. فقيل له لا، بل يقرؤون جميعا على رجل منهم واحد، قال لا يعجبني ذلك وأنا أكره الذي بلغني عن بعض أهل الشام يجتمع النفر جميعا فيقرؤون السورة الواحدة، فقال لا يعجبني هذا ولا أحبه ولكن يقرأ عليهم رجل منهم ويقرؤون عليه واحدا واحدا، أترى الناس اليوم أرغب في الخير ممن مضى؟ لم يكن يفعله أحد فلا يعجبني ولا أحبه. قيل له فهل يجتمعون فيقرأ هذا من سورة وهذا من سورة ومعهم رجل إذا تعايا أحدهم فتح عليه؟ فقال ما يعجبني هذا ولا أحبه، قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وهؤلاء يقرؤون هذا من ناحية وهذا يقرأ من ناحية، هذا يشبه الاستخفاف بالقرآن، والذي بلغني عن بعض الناس من قراءته إياه منكوسا، والآية من هذه السورة والآية من هذه السورة، فلا يعجبني هذا ولا أحبه، ولكن يقرأ كل واحد منهم على رجل أو يقرأ عليهم رجل منهم.(18/349)
قال محمد بن رشد: أجاز أن يقرأ الواحد على الواحد وعلى الجماعة، وهذا هو المختار المستحسن الذي لا اختلاف فيه. وكره أن تقرأ الجماعة على الجماعة وعلى الواحد، وقد اختلف قوله في ذلك: فخففه في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة في رسم سلعة سماها منه. فوجه الكراهة في ذلك أنه إذا قرأت الجماعة على الواحد لا بد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يصغي إليه منهم، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظن أنه قد سمعه وأجاز قراءته، فيحمل عنه الخطأ ويظنه مذهبا له. وكذلك إذا قرأت الجماعة على الجماعة؛ لأن كل واحد من الجماعة التي تقرأ عليها الجماعة لا بد أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ما دام يصغي إلى غيرهم ويشتغل بالرد على من يخطئ منهم. ووجه تخفيف ذلك المشقة الداخلة على المقرئ بإفراد كل واحد من القراءة عليه إذا كثروا، ووجه تحسينه لذلك إنما معناه، والله أعلم، إذا كثر القراء عليه حتى لم يقدر أن يعم جميعهم مع الإفراد، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم، فهذا تأويل ما ذهب إليه مالك، والله أعلم. وأما اجتماع الجماعة في القراءة في سورة واحدة أو في سور مختلفة دون أن يقرؤوا على أحدهم فهو من البدع المكروهة لم يختلف قول مالك في ذلك. وقد مضى الكلام على ذلك في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وفي رسم لم يدرك من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[تفسير الفصيلة]
في تفسير الفصيلة
قال [مالك] وسألته عن قول الله عز وجل:(18/350)
{وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] من هي؟ قال هي أمه.
قال محمد بن رشد: هذا قول الحسن؟ وقيل في فصيلته التي تؤويه إنها أدنى قبيلة منه، قال ذلك أبو إسحاق؛ وقال الكلبي الفصيلة أصغر من الفخذ سميت بذلك حين انفصلت من الفخذ، ثم العشيرة وهم بنو الأب الأدنى الذي يجمعهم. قال والعشيرة كعبد مناف من قريش، والفضيلة كقصي بن كلاب، والفخذ كلؤي بن غالب. وقال أبو عبيدة: فصيلته فخذه. قال أبو جعفر، وابن الكلبي أعلم بذلك منه، وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل اهبطوا مصرا]
في تفسير قوله عز وجل {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61] وسئل عن قول الله عز وجل: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] أي مصر هي؟ قال: هي في رأيي بلاد فرعون.
قال محمد بن رشد: قرأ بعض من شذ عن السبعة مصر - بغير ألف- فعلى هذا لا يشكل أن المراد بها- مصر نفسها، [أي مصر فرعون] ، كما قال مالك، مثل قوله عز وجل: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] ولم يقرأ أحد من السبعة مصر بغير ألف؛ لأن القراءة بذلك تخالف المصحف. وفي القراءة بالألف وجهان: أحدهما أن يراد بها مصر بعينها، أي مصر فرعون كما قال مالك: بجعل مصر اسما للبلد فصرف لأنه مذكر سمي به مذكر، والثاني أن يراد بها مصر من الأمصار لأنكم في البر البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي ولا في الفيافي، وقد قيل إن مصرا هذه الأرض المقدسة، وبالله التوفيق.(18/351)
[تفسير قوله عز وجل كانوا قليلا من الليل ما يهجعون]
في تفسير قوله عز وجل:
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وسئل مالك، عن قول الله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] أهو النوم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: الهجوع: النوم، كما قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فمعنى ما وصفهم الله عز وجل به أنهم كانوا لا ينامون من الليل إلا قليلا لسهرهم فيما يقربهم من ربهم. والتقدير على هذا كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وما صلة لا موضع لها من الإعراب، والقليل منصوب بيهجعون، فالمعنى كانوا يهجعون قليلا من الليل. وقد تكون ما في موضع رفع كأنه قال كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في معنى الآية: كانوا يستيقظون ويصلون ما بين هاتين الصلاتين المغرب والعشاء، قال أي لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون فيها ولو شيئا. فعلى هذا القول تكون ما جحدا، ويكون المعنى الإخبار عنهم بأنهم يسهرون قليلا من الليل ولا ينامونه. والقول الأول أولى؛ لأن الله وصفهم بكثرة العمل وسهر الليل وقيامه في العبادة، وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله عز وجل ولذلك خلقهم]
في تفسير قول الله عز وجل: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] قال وسألته عن قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] أللاختلاف خلقهم؟ فقال:(18/352)
أي خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك صحيح واضح؛ لأن الله تعالى خلق عباده لما يسرهم له مما قدره عليهم من طاعة وإيمان يصيرون به إلى الجنة، أو كفر وعصيان يصيرون به إلى النار، يتبين ذلك من تفسيره قوله إثر ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [هود: 119] أي سبقت كلمة ربك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] أي من كلا الفريقين من الجنة والناس أجمعين، أي من بعضهم لا باستيعاب جميعهم؛ لأن من تدل على التبعيض. وقوله في أول الآية: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] أي على ملة واحدة وهي الإيمان والإسلام مثل قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] . وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] معناه ولا يزال من الناس من أهل ملل الكفر يختلفون فيما يدينون به من أنواع الكفر؛ لأنهم في ريب من أمرهم وشك لتكذيبهم الحق. قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] أي ملتبس، وعامة الناس كفار. فقوله عز وجل: {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] وهم المؤمنون، استثناهم [الله عز وجل] من الناس فعلم بذلك أنهم لم يدخلوا في عموم قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] إذ لم يختلفوا فيما يختلف فيه الكفار من البعث والتوحيد والإقرار للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة. فقول من قال في تأويل قوله عز وجل: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] إنه خلقهم للاختلاف، أو(18/353)
إنه خلقهم للرحمة لا يصح، إذ لم يخلق جميعهم للاختلاف ولا للرحمة، بل خلق الكفار منهم للاختلاف. والعذاب، والمؤمنين منهم للاتفاق والرحمة، وبالله التوفيق.
[المصاحف لا تكتب على ما يخالف هجاء المصحف الأول]
في أن المصاحف لا تكتب على ما يخالف
هجاء المصحف الأول وسئل مالك: أرأيت من كتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحكم الناس من الهجاء اليوم؟ فقال لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى. ومما يبين هذا عندي أنه هكذا أن براءة لما لم يوجد أولها لم يكتب فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لئلا يضع في غير موضعه، والناس كلما كتبوا في الألواح من القرآن من أول السورة أو آخرها كتبوا قبله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ولم يحكم ذلك في المصحف حين لم يجدوا أول براءة. قيل له أفرأيت تأليف القرآن كيف جاء هكذا وقد بدأ بالسور الكبار الأول فالأول، وبعضه نزل قبل بعض؟ فقال: أجل، قد نزل بمكة ونزل عليه بالمدينة، ولكن أرى أنهم ألفوه على ما كانوا يتبعون من قراءة رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت له: أرأيت الذين يتعلمون القرآن في الألواح أترى أن يكتبوا فيها بسم الله الرحمن(18/354)
الرحيم مع أول السورة ثم لا يكتبون بعد ذلك؟ فقال: لا، بل أرى كل ما كتب من القرآن شيئا أن يبدأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأنه مما يتعلمه ليس يجعله إماما، وإنما الذي أكره أن يكتب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة في المصاحف لأنها تتخذ إماما، فلا أرى أن يزاد في المصحف ما ليس فيه. وأما من يكتب في الألواح ما يتعلم فليكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في افتتاح السورة ووسطها وآخرها، كلما افتتح كتاب شيء منها افتتحه بكتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ولا يزال إنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، فأما مصاحف صغار يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين، رأى أن يتبع في كتاب المصاحف هجاء المصحف القديم وأن لا يخالف ذلك، كما اتبع ما وجد فيه من ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة براءة، وكره النقط في الإمام من المصاحف والشكل على ما قاله في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة؛ لأن النقط والشكل مما اختلف القراء في كثير منه، إذ لم يجئ مجيئا متواترا فلا يحصل العلم بأن ذلك نزل، وقد يختلف المعنى [باختلافه فكره أن يثبت في] أمهات المصاحف ما فيه اختلاف. ورخص في صغار المصاحف التي يتعلم فيها الولدان أن تشكل وتنقط، وأجاز لمن كتب القرآن في اللوح أن يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في افتتاح السورة، يريد كانت براءة أو غيرها، وفي وسطها وفي آخرها. وقوله وإنما(18/355)
الذي أكره أن يكتب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة في المصاحف لأنه يتخذ إماما فلا أرى أن يزاد في المصحف ما ليس فيه، معناه في سورة براءة؛ لأن سورة براءة هي التي لم يكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أولها، وأما سائر السور فبسم الله الرحمن الرحيم ثابت في أول كل سورة منها. وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم الوجه في ترك كتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول سورة براءة، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[ما جاء في الحين]
فيما جاء في الحين وسئل عن قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] أهو ما بين أن حمل به إلى أن وضعته أمه؟ فقال: لا، ولكن ما مضى قبل ذلك من الدهر كله، وقبل أن يخلق آدم. وقيل هو حين يعرف وحين لا يعرف. فمن الحين الذي لا يعرف هذا. وقوله عز وجل: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] فهذا الحين الذي لا يعرف ولا يدرى متى هو. والحين الذي يعرف: قوله عز وجل: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] فهذا الحين الذي يعرف، وهو سنة.
قال محمد بن رشد: إنما سأله عن الحين في قوله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] هل هو ما بين أن حمل به إلى أن(18/356)
وضعته أمه من أجل أن الإنسان لم يكن قبل ذلك إنسانا. والتلاوة إنما هي {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] فقول مالك أن الحين ها هنا ما مضى من الدهر كله وقبل أن يخلق آدم، يقتضي أن قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] [مجاز من القول تقديره: هل أتى على عالم الإنسان حين من الدهر] لم يكن شيئا مذكورا خرج مخرج {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية.
وهل هنا ليست استفهاما، وإنما هي بمعنى التقرير والوجوب، فمعنى الكلام على هذا: ألم يعلم الإنسان بالنظر الصحيح أنه قد مضى دهر طويل قبل أن يخلق ولم يكن شيئا مذكورا عند أحد من الخلق؛ لأنه لم يزل في الأزل مذكورا معلوما عند الله أنه سيخلقه. وقد قيل إن المراد بالإنسان ههنا آدم، وبالحين أربعون سنة [وهي المدة التي] كان فيها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طينة لم ينفخ فيه الروح، روي ذلك عن ابن عباس. ومعنى الكلام التقرير والتوبيخ وإقامة الحجة على من أنكر البعث، وكأنه معطوف على خاتمة السورة التي قبلها قوله فيها: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ألم يأت دهر طويل لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا فقال إن من أحدثه بعد أن لم يكن، وكونه بعد عدمه، قادر على إحيائه وبعثه بعد موته، كما قال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] وقوله بعد ذلك: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [الإنسان: 2] أي ولد آدم، {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يعني ألوانا(18/357)
مختلطة، ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، والولد يكون منهما جميعا. وبالله التوفيق.
[الأشد ما هو]
في الأشد ما هو؟ وسئل عن قول الله عز وجل: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] ما الأشد؟ قال: الحلم. وقال مالك: قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: 34] فالأشد ها هنا الحلم. قيل له: فقوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] قال هذا شيء بعد شيء، فالأشد هو الحلم
قال محمد بن رشد: اختلف في الأشد اختلافا كثيرا، فقيل الحلم وهو الذي ذهب إليه مالك وقال به جماعة منهم الشعبي، قال وذلك إذا كتبت له الحسنات وكتبت عليه السيئات؛ وقيل إنه عشرون؛ وقيل إنه ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين؛ وقيل أيضا ما بين سبعة عشر إلى أربعين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: الأشد ثلاثة وثلاثون، والاستواء أربعون، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة.
والأشد جمع، واحده شد في قول الكسائي والفراء، إلا أن الفراء قال: لم أسمعه ولكني قسته على شد النهار وهو ارتفاعه، وبالله التوفيق.(18/358)
[ما جاء عن عمر بن الخطاب في السفر]
قال مالك، وقال يحيى بن سعيد إن عمر بن الخطاب قال: لأن أموت ما بين شعبتي راحلتي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أموت على فراشي.
قال محمد بن رشد: اختار عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السفر للتجارة على القعود؛ لأن الرجل يؤجر على طلب الربح في ماله ليعود به على عياله، أو ليستغني به عن الناس، أو ليفعل به خيرا.
[حكاية عن سليمان بن عبد الملك]
قال مالك: لما حضرت سليمان بن عبد الملك الوفاة دعا بنين له صغارا فعقد عليهم السيوف بحمائلها يريد لهم الخلافة، فرآهم يجرونها، فقال: إن بني صيبة صيفيون، أفلح من كان له ربعيون، ثم قال إن بني صيبة صغار، أفلح من كان له بنون كبار، فقال له عمر بن عبد العزيز: ليس كذلك، قال: قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ، قال صدقت.
قال محمد بن رشد: فاستخلف عمر بن عبد العزيز، وكان استخلافه له فيما ذكر [على ما حكي] عن رجاء بن حيوة. قال: لما وعك سليمان بن عبد الملك جعل العهد بعده- لبعض بنيه، وكان الذي عهد إليه غلاما لم يبلغ الحلم. فقلت يا أمير المؤمنين، إنه مما يحفظ الخليفة في(18/359)
قبره أن يستخلف على المسلمين رجلا صالحا مرضيا، قال صدقت، ومزق الكتاب الذي كان كتب بعهده، ثم قال: فما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت يا أمير المؤمنين هو غائب عنك بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت، فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت أعلمه والله خيرا فاضلا، فقال هو كذلك، وإن وليته - ولن أولي أحدا غيره- ليكونن فتنة ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يكون أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم، قال فجعل يزيد بن عبد الملك بعده فإن ذلك مما يسكنهم، فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، فكتب:
هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليتك الخلافة بعدي، ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم.
وختم الكتاب وجمع أهل بيته، فلما دخلوا عليه وسلموا قال لهم: هذا الكتاب عهدي وهو يشير إليه بيد رجاء بن حيوة، فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا لمن سميت فيه، فبايعوا رجلا رجلا ثم خرجوا والكتاب مختوم في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال لي: إني أخشى أن يكون هذا الأمر أسند إلي فأنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما أعلمتني فنستدرك الأمر في حياته بالاستعفاء، فقلت: والله لا أخبرك بحرف، فذهب علي غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: أنشدك بالله وبما بيني وبينك إلا ما أعلمتني بهذا الأمر، فإن كان لي علمت، وإن كان لغيري تكلمت، فليس مثلي ممن يقصر به، فقلت والله لا(18/360)
أخبرك بشيء مما أسر به إلي، فانصرف وقد يئس وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى. فلما حضرته الوفاة قال: الآن يا رجاء فحولني إلى القبلة، فحولته إلى القبلة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فلما قضى نحبه غمضته وسجيته بقطيفة خضراء، وأرسلت إلي زوجته كيف أصبح؟ فقلت هو نائم وقد تغطى، فنظر رسولها إليه فرجع وأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم، فجعلت على الباب من أثق به ووصيته أن لا يبرح حتى آتيه ولا يدخل على الخليفة أحد، وأرسلت إلى أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت بايعوا، فقالوا قد بايعنا مرة ونبايع أخرى. فقلت هذا عهد أمير المؤمنين أن تبايعوا ثانية لمن سمى في هذا الكتاب، فبايعوا ثانية رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان ورأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات أمير المؤمنين، فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك لا نبايعه أبدا، فقلت إذا والله أضرب عنقك قم فبايع، فقام يجر رجليه فبايع. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه، فكان يرجى لسليمان بن عبد الملك بتوليته [عمر بن عبد العزيز] وتركه ولده أن يؤجر على ذلك ويجازى به. ولما غسل سليمان وكفن صلى عليه عمر بن عبد العزيز، فلما فرغ من كفنه أتي بمراكب. الخلافة فقال: دابتي أوفق لي، فركب دابته وصرفت تلك الدواب. ثم أقبل سائرا فقيل له: تعدل إلى منزل الخلافة، فقال فيه عيال أبي أيوب، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغ له، وبالله التوفيق.(18/361)
[ترك محمد بن مسلمة الدخول في الفتنة]
في ترك محمد بن مسلمة الدخول في الفتنة قال مالك: كان يحيى بن سعيد يحدث أن محمد بن مسلمة صاحب النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيره لما كانت الفتنة اعتزلوا، فنزل محمد الربذة، فجاءه ناس من أهل العراق فجعلوا يحضونه ويقولون: تقوم بالناس وتنظر في أمورهم يحرضونه بذلك، فقال لأحدهم: قم إلى غمد سيفي هذا فسل سيفي منه، فقام فوجده قد كسره قطعة قطعة، فقال: إن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: «إذا رأيت من الأمور فاكسر سيفك على حجر من الحرة والزم بيتك وعض على لسانك» .
قال محمد بن رشد: محمد بن مسلمة هذا الأنصاري الخزرجي من فضلاء الصحابة، شهد بدرا وسائر المشاهد، وهو أحد الذين قتلوا كعب بن الأشرف، واستخلفه رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته على المدينة، فاعتزل الفتنة ولم يشهد الجمل ولا صفين. وروي أنه إنما اتخذ سيفا من خشب وجعله في جفن وذكر أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بذلك. والذي فعل من ذلك هو كان الواجب عليه بما كان عنده فيه عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والذين اعتزلوا الفتنة من الصحابة سواه على ما روي ثلاثة: سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، لم تبن لهم البصيرة في اتباع إحدى الطائفتين فكفوا؛(18/362)
وسائرهم دخلوا فيها بما ظهر لهم من البصيرة باجتهادهم، فكلهم محمود؛ لأنهم فعلوا الواجب عليهم في ذلك باجتهادهم، فلا يتأول على أحد منهم غير هذا، إذ هم خير أمة اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، وأثنى عليهم في غير ما آية من كتابه فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] إلى قوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] وبالله التوفيق لا شريك له.
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال: قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: اشتر لي [ثوب] فرو بدينار، فاشتراه ثم جاءه به فلبسه، ثم قال له: أما زدت شيئا؟ فقال: لا، فقالت امرأته فاطمة بنت عبد الملك: إن عندنا لكذا وكذا فروا يأبى أن يلبس منها شيئا، ومن الأشياء يأبى أن يقرب منها شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا من تواضعه وورعه وقنوعه بالدون من اللباس في خلافته، معلوم من سيرته. فقد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم أنه أمر رجلا يشتري له ثوبا بستمائة درهم للحاف فسخطه، فلما ولي أمر ذلك الرجل أن يشتري له كساء بسبعة دراهم، فلما جاءه به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل، فقال له: إني لأظنك أحمق تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف الذي أمرتني أن(18/363)
أشتريه بستمائة درهم، قال فمضت ساعة ثم قال: أخشى أن لا يشتري أحد ثوبا بستمائة درهم وهو يخاف الله. وترك أيضا في خلافته أن يخدم على ما مضى في الرسم المذكور، فكان يدخل بعد المغرب فيجد الخوان موضوعا عليه منديل فيتناوله فيقربه إليه ويكشف المنديل فيأكل ويدعو عليه من كان معه، وبالله التوفيق.
[ما يروى من الكرامات]
فيما يروى من الكرامات قال مالك: سمعت أن قوما أخذوا شاة فذبحوها فنهاهم عن أخذها رجل، فأبوا إلا أن يفعلوا. فلما ذبحوها كسلوا عن إصلاحها فتركوها، فقال: قد نهيتكم عن ذبحها فأبيتم ثم تركتموها تفسد باطلا، ثم قام هو فأصلحها وعملها لهم حتى فرغ منها، ثم قال لهم: هاكم كلوا وأبى أن يأكل معهم شيئا منها. فقالوا له تعال كل معنا، فأبى أن يفعل وانطلق ينام تحت شجرة، فانتبه وعنده رطب من أرض الروم في أرض ليس فيها رطب.
قال محمد بن رشد: ما فعل الرجل من إصلاح الشاة كيلا تفسد فلا ينتفع بها إن تركت حسن من الفعل يؤجر عليه فاعله عليه؛ لأنه يصير بإصلاحها لهم قد أطعمهم إياها. وأما انتباهه وعنده الرطب فذلك- إن صح- كرامة له. وكرامات الأولياء يصدق بها أهل السنة لجوازها في العقل، والعلم بوجودها في الجملة من جهة النقل المتواتر وإن لم يثبت شيء منها بعينه تواترا في جهة ولي من الأولياء في غير زمن النبوءة، وبالله التوفيق.(18/364)
[ذكر بعض ما جرى يوم الحرة]
في ذكر بعض ما جرى يوم الحرة
قال مالك: قال يحيى بن سعيد: سمعت سعيد بن المسيب يقول: دخل