[: الحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى]
ومن كتاب تأخير صلاة العشاء وسئل مالك عن امرأة نزل بها رجل، فمات، فجاءت، فاتهمت به فجاء وليه يسأل مالكا عن ذلك ويتهمها ويقول إني اتهمتها بوجه لا أستطيع بته.
قال مالك: أرى أن يكشف أمرها فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا ويخلى سبيلها، فقيل له أتهدد؟ فقال: لا أرى ذلك إذا كانت غير متهمة، قال ابن القاسم: فإن كانت متهمة حبست ولم يعجل تسريحها لعلها لا يعثر عليها بشيء، فإن لم يوجد شيء وطال حبسها استحلفت خمسين يمينا وخلي سبيلها.
قال محمد بن رشد: ذهب بعض أهل النظر إلى أن رواية ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية فإن كانت غير متهمة لم أر أن تحبس يوما واحدا مثل قوله في المدونة في الذي يدعي قبل الرجل حدا من الحدود فيقدمه إلى القاضي، ويقول بينتي حاضرة أجيك بها غدا أو العشية إن ذلك إن كان قرينا أوفقه ولم يحبسه إن رأى لذلك وجها وكان أمرا قريبا خلاف قوله في سماع عبد الملك بن الحسن بعد هذا من هذا الكتاب: إن غير المتهم لا يحبس في الدم إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة، والذي أقول به أن ذلك ليس باختلاف من القول، والفرق بين هذه المسألة وبين مسألة سماع عبد الملك أن الطالب في مسألة عبد الملك ذكر أن له بينة على ما ادعاه عليه من القتل وسأل أن يحبس حتى يأتي ببينة، ولم يسأل ذلك الطالب في هذه المسألة، ولو سأل ذلك لكان من حقه أن يحبس اليوم واليومين والثلاثة كما قال ابن القاسم في سماع عبد الملك، لأن الدم شديد يلزم فيه من الشدة والأخذ بالشبهة ما لا يلزم في غيره، وإنما لم ير في مسألة المدونة على المدعي عليه السجن بمجرد الدعوى، وإن قال الطالب: إن له بينة على دعواه لأنه إنما سأله على(15/456)
الحدود لا على القتل، والحدود بخلاف القتل؛ لأنها تدرأ بالشبهات فالحدود التي تدرأ بالشبهات لا يسجن المدعي عليه فيها لمجرد الدعوى على ما قاله في المدونة، والقتل بخلاف ذلك إذا قال المدعي: إن له بينة على دعواه حبس بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إن لم يتهم، وإن كان من أهل التهم حبس الشهر ونحوه، وإن قويت عليه التهمة بما أشبه به عليه معالم يتحقق تحققا يوجب القسامة حبس الحبس الطويل، قال ابن حبيب في الواضحة: حتى يتبين براءته أو يأتي عليه السنون الكثيرة، قال مالك: ولقد كان الرجل يحبس في الدم باللطخ والشبهة حتى إن أهله ليتمنون له الموت من طول حبسه، ويحتمل أن يقول: إنه إن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للمعرفة بحاله لم يسجن بمجرد الدعوى، وإن ادعى الطالب أن له بينة على ما ادعاه على ما قاله مالك في هذه الرواية، وإن كان المدعي عليه القتل ممن لا تقع عليه التهمة للجهل بحاله سجن بمجرد الدعوى اليوم واليومين والثلاثة إذا ادعى الطالب أن له بينة على دعواه على ما قاله في سماع عبد الملك، فهذا وجه يمكن أن يفرق به بين المسألتين ولا يجعل ذلك اختلافا من القول، ويحتمل أن يفرق بين هذه الرواية وبين ما في سماع عبد الملك أنه لم يحقق الدعوى في هذه الرواية وحققه في سماع عبد الملك.
وفي قوله في الرواية إنها لا تهدد إذا كانت غير متهمة دليل على أنها تهدد إذا كانت متهمة، والوجه في ذلك أنها قد تقر إذا هددت فتتمادى على الإقرار بعد ذلك وهي آمنة فتؤخذ به ما لم ترجع عنه، إذ لا يلزمها الإقرار بالتهديد.
وقوله في المتهمة: إنها تستحلف خمسين يمينا ويخلى سبيلها إذا طال حبسها. مثله في سماع أبي زيد وهو مبين لما سكت عنه من ذلك في سماع عبد الملك وبالله التوفيق.(15/457)
[: الكفارة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن امرأة يكون لها الصبي فتصيبه القروح في حلقه فتسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت أترى عليها كفارة؟
فقال: لا، ثم قال أما أن أراه واجبا عليها أو قضاء عليها فلا، وكذلك الطبيب مثلها يسقي الدواء الرجل فيموت، فلا أرى عليه شيئا، وإن كانا موسرين، فإذا أرادا أن يفعلا ذلك من غير أن رآه عليهما واجبا فهو حسن.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير الكفارة واجبة على الأم التي سقت ابنها الدواء فشرق به فمات؛ لأنها فعلت ما يجوز لها من سقيها إياه الدواء فلا فرق بين أن يشرق به فيموت أو بالطعام الذي تطعمه إياه أو بالماء تسقيه إياه.
ولو أخطأت عليه فسقته دواء لا يوافقه فمات منه لوجبت عليها الكفارة، وكذلك الطبيب إذا أخطأ على المريض فسقاه ما لا يوافق مرضه فمات لكانت عليه الكفارة، بخلاف إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات، لأنه إذا سقاه ما يوافق مرضه فمات لم يخط كما لم تخط المرأة على ولدها في سقيها إياه الدواء الذي شرق به فمات.
والدية تابعة للكفارة تجب على العاقلة في المكان الذي تجب فيه الكفارة وتسقط في المكان الذي تسقط فيه الكفارة، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفيا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وتأتي المسألة أيضا في رسم المجالس من سماع أصبغ من هذا الكتاب وبالله التوفيق.(15/458)
[: الحمل الذي يسقط على الجارية]
ومن كتاب باع غلاما وسئل مالك عن الحمل الذي يسقط على الجارية، قال: أراه ضامنا على الجمال إذا كان حرا فعليه، وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته إلا أن يفديه سيده بقيمتها.
قال محمد بن رشد: يريد مسألة المدونة في الجمال الذي حمل على بعير عدلين فسار بهما وسقط الزقاق فانقطع الحبل فسقط أحد العدلين على جارية فقتلها والحمل لغيره ولكنه أجير حمال.
قال مالك: أراه ضامنا ولا شيء على صاحب البعير فبين هاهنا وجه الضمان الذي أجمله في المدونة، فقال: إن كان حرا فعليه، يريد إن كان الجمال حرا فعليه قيمة الجارية وإن كان مملوكا كان ذلك في رقبته، وذلك بين على ما قاله؛ لأن الجناية على العبد والأمة تستوي فيما يلزم من ضمانها العمد والخطأ، ولو كانت الجارية حرة لكانت الدية في ذلك على عاقلة الجمال إن كان حرا وفي رقبته إن كان عبدا يفديه سيده بها أو يسلمه، وقد مضى في آخر الرسم الأول ذكر الاختلاف هل يفديه بالدية حالة أو مؤجلة فلا معنى لإعادته.
[: السن إذا أصيبت فاصفرت]
ومن كتاب سن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن القاسم في السن إذا أصيبت فاصفرت فإنها تعقل بقدر شينها وليس فيها العقل كاملا حتى تسود، وكذلك إذا تغيرت فليس فيها العقل حتى تسود.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم يبين مذهبه في(15/459)
المدونة، إذ لم يعط في المدونة عن هذا جوابا بينا، ورد الأمر فيه إلى النكر فقال: ما سمعنا من مالك إلا إذا اسودت فقد تم عقلها فلا أدري ما الخضرة أو الحمرة أو الصفرة إن كان ذلك مثل السواد؟ فقد تم عقلها وإلا فعلى حساب ما نقص. وقال أصبغ مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية ليس ذلك مثل السواد إنما فيه حكومة باجتهاد الإمام إلا أن له في اخضرارها أكثر مما ناله في احمرارها، وله في احمرارها أكثر مما له في اصفرارها وبالله التوفيق.
[: مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم]
ومن كتاب اغتسل من غير نية وسئل عن الرجل يضرب الرجل الرأس فيمكث مغمورا لا يفيق وقد شهد على ضربه ثم يموت، فقال إذا غمر فكان للموت ثم مات فلا قسامة فيه، وليست القسامة إلا فيمن أفاق أو طعم أو فتح عينه وتكلم وما أشبه ذلك.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة، أنه إذا مات تحت الضرب أو بقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم ولم يفق حتى مات، فهذا الذي لا قسامة فيه، وأما من أكل وشرب وعاش ثم مات بعد ذلك ففيه القسامة؛ لأنه لا يؤمن من أن يكون إنما مات من أمر عرض له مرض أو غير ذلك، وهذا ما لم ينفذ له مقتل وأما إذا نفد له مقتل بما أصيب به فلا قسامة فيه، وإن عاش بعد ذلك وتكلم وشرب وأكل كما أن البهيمة إذا أصاب السبع لها مقتلا فلا تذكى ولا تؤكل باتفاق، وإن كانت الحياة فيها بينة، وإنما اختلف إذا لم يصب لها مقتل إلا أنها قد بلغت من ذلك إلى حد يعلم أنها لا تعيش منه، وقد مضى بيان ذلك والقول فيه وفي المقاتل ما هي مستوفى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا وبالله التوفيق لا شريك له.(15/460)
[: الرجل يقتل الرجل بالعصا]
ومن سماع أشهب وابن نافع عن مالك
قال وسئل مالك عن الرجل يقتل الرجل بالعصا فيمكن منه ولي المقتول أيقتله بالعصا أو بالسيف؟
قال ذلك له، إن شاء قتله بالسيف وإن شاء قتله بالعصا، وقد سمعت ذلك أنه يقتل بالعصا، قيل له: أفله أن يقتله بالعصا؟ قال: نعم إذا ضربه ضربة واحدة يجهز عليه فيها لا يكون شيئا مختلفا يقطع عليه الضرب ولا يجهز عليه، فأما إذا كان هكذا يضرب ضربات فلا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أنه يقتل بمثل ما قتل من عصا أو حجر أو خنق أو تغريق في نهر أو بسم وكذلك النار على قياس قوله في السم خلاف قول أصبغ إنه لا يقاد بالسم ولا بالنار، وسيأتي بيان هذا في سماع عبد الملك، وقال فيها: إنه إن كان ضربه عصوين فضرب القاتل عصوين فلم يمت إنه يضرب بالعصا يريد مع أن يقصد بكل ضربة منها الإجهاز عليه كما قال في هذه الرواية فبعض ذلك يفسر بعضا لا اختلاف في شيء من ذلك، والحجة لمالك فيما ذهب إليه من أن القاتل يقتل بمثل القتلة التي قتل بها اتباع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لأن القصاص إنما أخذ من قص الأثر وهو اتباعه، فكان المعنى أن يتبع الجارح والقاتل فيفعل به ما فعل بالمجروح والمقتول، وقد جاء في السنة بيان ذلك وهو ما روى قتادة عن أنس «أن يهوديا رض رأس صبي بين حجرين فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بين حجرين» وهو ما روى هشام بن زيد(15/461)
عن أنس بن مالك قال: «عدا يهودي في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورض رأسها فأتى بها أهلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في آخر زمن وقد أصمتت فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتلك أفلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قيل لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت برأسها أن لا، فقال لفلان لقاتلها فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض رأسه بين حجرين» وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» لم يأخذ به مالك إما لأنه لم يبلغه، وإما لأنه لم يصح عنده، فاتبع ظاهر قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] مع ما روي من قضاء من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليهودي الذي أمر برض رأسه قصاصا مثل ما فعل بالجارية.
وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «أحسن الناس قتلة أهل الإيمان» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية شداد بن أوس: «إن الله تعالى كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحدد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» لا حجة فيه على مالك؛ لأن المعنى فيه عنده إنما هو فيمن وجب عليه قتل في غير قصاص، وما احتج المخالف من أهل العراق على مالك في هذه المسألة من قوله: أرأيت لو نكح(15/462)
رجل رجلا فقتله بذلك الجب للوالي أن يفعل بالفاعل ما فعل؟ هو من الاحتجاج المرغوب عنه الذي لا يصدق مثله عمن هو من أهل التحصيل لقوله.
وأما قوله: " أرأيت لو رمى إنسان رجلا بسهم فقتله أكان ينصب ثم يرمى حتى يقتل؟ وقد «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا» ونهى عن المجثتة وهي الشاة ترمى بالنبل حتى تقتل، فلا يلزم مالكا لأنه يقول بذلك، وإنما يقول إنه يجهز عليه بمثل القتلة التي قتل دون أن يقصد إلى تعذيبه فلو رمى رجل رجلا بسهم فقتله لكان الواجب في ذلك على مذهب مالك أن يقتل طعنا بمثل السهم الذي رماه به فقتله لا أن ينصب غرضا للسهام، وقد روى عن سحنون أنه قال إذا كان العصا والحجر يجهز قتل بمثله، وإذا كان غير مجهز لم يقتل به وقتل بالسيف، وكان القتل مما يأتي عليه لأن الحجر إذا لم يكن مجهزا فإنما هو عذاب، أرأيت لو أن رجلا رماه رجل بحجر فقتله برمية واحدة أكنت توقفه فيرمى رمية واحدة؟ فإن لم يمت رجم أبدا بالحجارة حتى يموت، لا يكون هذا ولا يقتل به، ولكن إذا كان الحجر مجهزا قتل به وإلا لم يقتل به، وقتل بالسيف، وكذلك العصا وجميع هذا الأصل فاحمله هكذا، وإنما يقتل على مذهب مالك بمثل القتلة التي قتل بها من حجر أو عصا أو غيره من ثبت عليه القتل بذلك، وأما من قتل بقسامة فلا يقتل إلا بالسيف وبالله التوفيق.
[مسألة: اللوث من الشهادة في القسامة أهو الشاهد الواحد العدل]
مسألة قال: وسئل عن اللوث من الشهادة في القسامة أهو الشاهد الواحد العدل؟ فقال: لا والله ما هو باللوث، فقيل له: أهو الشاهد إذا لم يكن عدلا؟ فقال: هاه أرجو ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في الشاهد العدل لا والله ما هو باللوث(15/463)
معناه ما هو باللوث الذي لا تكون القسامة بما دونه، إذ لا اختلاف في أنه لوث تجب القسامة به والقود في مذهب مالك وجميع أصحابه.
وإنما اختلف فيما دونه، فرأى في هذه الرواية الشاهد الذي ليس بعدل لوثا يوجب القسامة، وقد حقق القول بذلك بعد هذا في هذا الرسم، ومعنى ذلك في الشاهد المجهول الحال الذي لا يتوسم فيه جرحة ولا عدالة إذ من أهل العلم من يحمل الشاهد على العدالة حتى تعلم جرحته، وأما الشاهد المعروف بالجرحة أو الذي يتوهم فيه الجرحة فلا يكون على مذهبه في هذه الرواية لوثا، بدليل قوله بعد هذا في العبد إنه لا يكون لوثا يريد وإن كان عدلا، وكذلك الصبي على هذه الرواية لا يكون لوثا، وأما المرأة فقال فيها بعد هذا إنها لوث، وقد روى مطرف عن مالك في الواضحة أن اللوث اللطخ البين مثل اللفيف من النساء والسواد والصبيان قال مطرف: وقد قتل بذلك عندنا بالمدينة، قال مالك: ومثل الرجلين والنفر يشهدون على ذلك وهم غير عدول، قال مالك: والشاهد العدل على اللوث وأحقه، وليست رواية مطرف هذه بخلاف لرواية أشهب، وقد روى ابن وهب عن مالك أن اللوث الشهادة غير القاطعة من شهادة النساء أو شبهها، قال ومثل أن يرى المتهم بحذاء المقتول وقربه وإن لم يكونوا رأوه حين أصابه، وقد حكى الليث عن يحيى بن سعيد وربيعة أنهما قالا: كل ما شهد فيه النساء أو العبيد أو الصبيان أو اليهود أو النصارى أو المجوس من قتل يكون فجأة أو ضرب أو جراح وأشباه ذلك فلا يحضره غير أولئك فإن شهادتهم في مثل هذا لطخ ولوث بين يجب به القتل مع القسامة وبالله التوفيق.
[مسألة: الحمل إذا صاح وجب ميراثه]
مسألة وسئل عن استهلال الصبي فقال: الصياح فإذا صاح وجب ميراثه وتمت ديته وصلي عليه وليس العطاس باستهلال.(15/464)
قال محمد بن رشد: عبد العزيز بن أبي سلمة وابن وهب يريان العطاس استهلالا، وأما الرضاع فهو استهلال إذ لا يمكن أن يرضع إلا بعد أن يستهل، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب الولاء وبالله التوفيق.
[مسألة: أصابها رجل بجرح يكون ثلث ديتها هي أتحمله لها العاقلة]
مسألة وقال ابن كنانة لمالك: الذي كنا نعرف من قولك يا أبا عبد الله أن العاقلة تحمل ثلث الدية دية المجروح كائنا من كان رجل أو امرأة إذا بلغ عقل تلك الجراح ثلث عقل المجروح حملته للعاقلة، وإنه قد حمل هاهنا عنك أنك قلت إن المرأة إذا أصابت الرجل بجرح يكون ثلث ديتها وهو سدس دية الرجل المجروح حملته العاقلة، فقال: لا، لقد كذب من قال هذا، ولقد حمل قولي على غير وجهه، قيل له: أرأيت امرأة أصابها رجل بجرح يكون ثلث ديتها هي أتحمله لها العاقلة؟ قال: نعم في رأيي، قال ابن كنانة- ومالك يسمع- من أصيب من رجل أو امرأة بجرح يكون ثلث ديته حملته العاقلة، فأما أن تصيب المرأة رجلا بجرح يكون ثلث ديتها هي فلا تحمله العاقلة هذا الذي كنا نعرف من قول أبي عبد الله - ومالك يسمع-.
قال محمد بن رشد: هذا الذي أنكره مالك في هذه الرواية وقال فيه: إنه من تأوله عليه فقد حمل قوله على غير وجهه من أن العاقلة تحمل الجناية إذا بلغت ثلث دية الجاني كما تحملها إذا بلغت ثلث دية المجني عليه قد رواه عنه ابن القاسم في المدونة، وأنه قال فيه: إنه بين وإن كان الاعتبار بدية المجني عليه في ذلك أبين، وإنما قال إن ذلك أبين لأن الجناية بالمجني عليه أخص منها بالجاني فيما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مراسل عمرو بن شعيب(15/465)
وعكرمة أن «الجناية إذا بلغت ثلث الدية حملتها العاقلة» ولو قيل إنه إذا جنى أحدهما على صاحبه جناية خطأ لا تحملها العاقلة إلا أن يبلغ ثلث دية الرجل منهما كان الجاني أو المجني عليه لكان الأظهر، لأن الأصل كان أن لا يحمل أحد جناية أحد دم ولا مال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثة في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» فكان وجه النظر في ذلك أن لا يخص منه شيء إلا بسنة قائمة أو إجماع، والإجماع إنما يصح في ثلث دية الرجل منهما فوجب أن لا تحمل العاقلة دون ذلك، ووجه قوله الثاني الذي أنكره في هذه الرواية اتباع ظاهر الحديث بحمله على عمومه إذ لم يخص فيه دية ذكر من دية أنثى وبالله التوفيق.
[مسألة: اللوث الذي تجوز القسامة به من الشهادة]
مسألة وسئل مالك ما اللوث الذي تجوز القسامة به من الشهادة؟ فقال: الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع، قيل لمالك: أترى شهادة المرأة من ذلك؟ فقال: نعم أراه من ذلك، قيل له فشهادة الرجل الذي ليس بعدل من ذلك؟ فقال: نعم أراه من ذلك، قيل له أفترى شهادة العبد من ذلك ولا أرى فقال: لا، ليست شهادة العبد من ذلك ولا أرى شهادة العبد لوثا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة قبل هذا في هذا الرسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: إقرار العبد بقتل العبد عمدا]
مسألة قال مالك وما اعترف به العبد من قتل فإن سيد المعترف يقول(15/466)
لسيد المضروب إنما اعترف عبدي ليذهب من يدي فهات على ضربه عبدك البينة، فأرى أن يكشف عن ذلك وينظر فيه، قيل لمالك: أفترى السيد المقتول أن يحلف ويكون ذلك له؟ قال: لا أرى ذلك له إلا أن يأتي بشبهة، قيل له؟ فإن جاء بشاهد يحلف مع شاهده؟ قال: نعم يحلف ويكون ذلك له، قيل له: أرأيت إن أبى أن يحلف ورد اليمين على سيد العبد المشهود عليه بشاهد واحد يكون ذلك عليه؟ فقال: لا أظن ذلك.
قال محمد بن رشد: إقرار العبد بقتل العبد عمدا يجوز عليه إن أراد سيد العبد المقتول أن يستفيد منه كان ذلك له، ولا يجوز على سيده إن لم يرد أن يستفيد مكانه وأراد أن يأخذه بجناية عبده لأن العبد يتهم على أنه أراد الخروج من ملك سيده إلى الذي أقر بقتل عبده، فلا يكون لسيد العبد المقتول أن يحلف مع إقرار العبد ويستحقه كما قال، إذ لا تجوز شهادته على سيده بأن كان له شاهد على أنه قتل عبده كان له أن يحلف مع شاهده ويستحق العبد إلا أن يشاء سيده أن يفتديه بقيمة العبد المقتول فيكون ذلك له وهذا ما لا اختلاف فيه، ولو لم يمت من ذلك الجرح بفور ذلك وحيي بعده لما استحقه بيمينه مع الشاهد إلا بعد أن يحلف أيضا أنه مات منه على ما قاله في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب الجنايات، وكذلك لو ثبت الجرح بشهادة شاهدين أو أقر به سيد العبد القاتل أو القاتل إن كان حرًّا لم يستحقه إلا بعد أن يحلف أنه مات من ذلك الجرح على ما قاله في رسم المجالس من سماع أصبغ بعد هذا، وفي المدنية خلاف هذا.
وروى محمد بن يحيى السبائي أنه سمع مالكا يسأل عن العبد يجرحه الحر فيقر الحر بجرحه أو تقوم عليه بينة ثم يمكث أياما فيموت العبد فيقول سيده إنه مات من تلك الجراح هل عليه في ذلك يمين أنه مات من ذلك، فقال: إذا أقر بذلك على نفسه أو قامت عليه بينة ثم مات العبد في ذلك فهو(15/467)
ضامن وليس على سيده أن يحلف أنه مات من ذلك الجرح، قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: قد سمعت هذا عنه، وسمعت أنا منه أنه يحلف وهو أحب قوله إلي.
وأما قوله إن أبى أن يحلف ورد اليمين على سيد العبد القاتل إن ذلك لا يكون له، فمعناه إذا لم يحقق عليه الدعوى إن علم أنه قتله فهي يمين تهمة فالاختلاف في لحوق يمين التهمة مرض وجوبها في هذه المسألة في هذه الرواية، فقال: لا أظن ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقتل الرجل وله أولياء كثير فعفا أحد الذين يجوز لهم العفو]
مسألة وقال في الرجل يقتل الرجل وله أولياء كثير فعفا أحد الذين يجوز لهم العفو فلا يكون إلى القتل سبيل، ويكون في ذلك الدية قيل له: بالقسامة؟ قال: بالقسامة وغيرها إذا عفا أحدهم لم يكن إلى القتل سبيل، وكذلك إن نكل أحدهم على القسامة، قال سحنون: وقال ابن نافع: إذا كان نكول الناكل إنما كان على وجه التورع والتحرج حلف من بقي وقتلوا، وإذا كان نكوله على وجه العفو والترك لحقه حلف من بقي وكانت له الدية وهذا الذي أرى.
قال محمد بن رشد: في قول مالك في رواية أشهب هذه التباس والظاهر عندي من معناه ومراده أن عفو أحد الأولياء إذا كانوا في القعدد سواء يبطل ولا تبطل الدية، فإن كان ذلك العفو ممن عفا منهم بعد القسامة كان لمن بقي حظوظهم من الدية، وإن كان قبل القسامة أقسم من بقي وكان لهم حظوظهم من الدية، وكان الشيوخ يختلفون في قول ابن نافع، فمنهم من كان يحمله على التفسير لقول مالك ويقول لا اختلاف في أن نكول الناكل عن القسامة إذا لم يكن على وجه العفو والترك وكان على وجه التورع والتحرج فلمن بقي من الأولياء أن يقسموا ويقتلوا، ومنهم من كان يحمله على الخلاف(15/468)
له، ويقول إذا نكل أحد الأولياء عن القسامة فلا سبيل إلى القتل، وكان لمن بقي حظوظهم من الدية، وابن الماجشون يساوي بين أن يكون العفو قبل القسامة أو بعدها في أن الدية تبطل على كل حال، ولا يكون لمن بقي من الأولياء شيء من الدية، والنكول عن القسامة عند جميعهم كالعفو سواء كل على مذهبه، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، ومن قول ابن القاسم في المدونة أن رجوع أحد الأولياء بعد القسامة وتكذيبه نفسه يبطل حق من بقي من الأولياء بمنزلة إذا عفا أو نكل قبل القسامة وبالله التوفيق.
[: تشرب الدواء وهي حامل فيسقط ولدها]
ومن كتاب العقول قال أشهب: وسئل مالك عن المرأة تشرب الدواء وهي حامل فيسقط ولدها أترى عليها شيئا؟ فقال: ما أرى به بأسا إذا كان دواء يشبه السلامة فليس به بأس إن شاء الله، قد يركب الإنسان الدابة فتصرعه، وقد «كوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بئس الميت ليهود يفتنون به يقولون لم يغن عنه صاحبه» .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله وهو على قياس ما تقدم في رسم البز من سماع ابن القاسم في الصبي الذي تسقيه أمه الدواء فيشرق به فيموت وبالله التوفيق.(15/469)
[مسألة: قتل جنينا في بطن أمه فطرحت ميتا أعليه عتق رقبة]
مسألة وسئل عمن قتل جنينا في بطن أمه فطرحت ميتا أعليه عتق رقبة؟ فقال: ليس ذلك عليه.
محمد بن رشد: زاد في غير هذه الرواية وإن سقط حيا كانت فيه الكفارة، قال أشهب: وعليه الغرة واستحسن مالك في المدونة الكفارة في الجنين إن خرج ميتا وفي الذمي والعبد وفي جنينهما وبالله التوفيق.
[مسألة: فجر فتحمل فتضع فتلقيه في بير أتقتل به]
مسألة وسئل عن المرأة تفجر فتحمل فتضع فتلقيه في بير أتقتل به؟ فقال: إن لذلك وجوها أن ألقته في مهلك مثل البير الكثير الماء أو البحر أو ما أشبه ذلك فمات فما أحقها من أن تقتل، وإن قتلت كانت لذلك أهلا كأنه ينحو إلى أن تقتل ويراه قال أصبغ مثله هذه متعمدة للقتل كما لو ذبحته ذبحا فالغرق مثله، قال ابن القاسم: وإن كانت مثل البئر اليابسة التي يقدر أن يؤخذ منها أو ما أشبه ذلك فهذه لا تقتل إلا أن يكون البئر مهواة لا تدرك ولا تنزل وإن كانت يابسة فأرى أن تقتل.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين مثل ما في المدونة وغيرها من الأب يقتل بابنه إذا عمد لقتله، وإنما لا يقتل به وتغلظ عليه الدية إذا فعل به مثل ما فعل المدلجي بابنه من حذفه إياه بالسيف إذ قد يذهب الرجل على ابنه بالسيف ولا يريد قتله وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يقتل المسلم خطأ على من ديته]
مسألة وسئل مالك عن النصراني يقتل المسلم خطأ على من ديته؟(15/470)
فقال: على أهل دينه من أهل كورته الذين إذا جرحوا نصرانيا أدوا عنه، فكذلك يؤدون عنه إذا جرح المسلم.
قال: أما إذا لم يحمل أهل هذه المعاقل الدية لم يقو عليها رجل واحد قيل له: ربما كانت القرية ليس فيها إلا الذي جرح وحده أو قلة؟ قال: يضم بعض ذلك إلى بعض يحمل ذلك عنه الذين إذا جرح نصرانيا عقلوا عنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين مثل ما في المدونة وغيرها فلا وجه للقول فيه.
[مسألة: نامت مع ولد لها من الليل فتمرغت فأصبح ميتا]
مسألة وسئل عن امرأة نامت مع ولد لها من الليل فتمرغت فأصبح ميتا، ولم تر به أثرا فخافت أن تكون هي قتلته؟ فقال: تكفر بعتق رقبة، قلت له: فما ترى على عاقلتها الدية؟ قال: ومن يطلب ذلك؟ ومن أين يعلم أنها هي قتله قيل له: أفرأيت إن تبين به خضرة من غمها إياها؟ فقال: إن تبين ذلك فعلم أنها قتلته فديته على عاقلتها.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه إن علمت أنها هي قتلته كانت عليها الكفارة واجبة، وإن شكت أن تكون قتلته فالكفارة عليها مستحبة لها، وإن صح أنها قتلته بوجه لا يشك فيه كانت الدية على عاقلتها.
[مسألة: توحر ولدها أوتسقطه فيموت في يدها أترى له عقلا]
مسألة قلت أفرأيت المرأة توحر ولدها أو تسقطه فيموت في يدها أترى له عقلا؟ فقال: لا أرى في هذا عقلا لا على العاقلة ولا على عليها، ولا أرى عليها كفارة والطبيب يداوي الرجل فيموت فلا أرى(15/471)
على عاقلته دية ولا عليه كفارة، وما ذلك بالبين وإن الطبيب ليداوي فيمات من دوائه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم مثل هذا والقول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون أكثره حرا يصاب كم يغرم قاتله]
مسألة وسئل عن العبد يكون أكثره حرا يصاب كم يغرم قاتله؟ قال: قيمة رقيق كله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه لأن الحرية في العبد تبع لما فيه من الرق في جميع الأحكام من الميراث والشهادة والحدود فكذلك إذا قتل يكون على عاقلة قيمته رقيقا كله واختلف قول مالك إذا جنيت عليه جناية فمرة قال جنايته لسيده، ومرة قال تكون لسيده منها بقدر ماله فيه من الرق ويوقف بيده منها قدر ما فيه من الحرية يكون مالا له إن أعتق باقيه كان له، وإن مات قبل أن يعتق باقيه ورث ذلك سيده، والقولان لمالك في المدونة.
وأما إذا جنى هو؛ ففي ماله من الجناية قدر ما فيه من الحرية، وفي رقبته من ذلك قدر ما فيه من الرق يدفعه سيده بذلك أو يفتكه به وبالله التوفيق.
[مسألة: المكاتب يصاب كم يغرم قاتله]
مسألة قيل له: أرأيت المكاتب يصاب كم يغرم قاتله؟
قال: قيمته بما عليه من الكتابة مكاتب بألف دينار أو مائة درهم، وليس قيمته عبدا لو بيع يوم أصيب على هيئته وعليه ألف درهم أو مائة درهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن يقوم على أنه مكاتب عليه من كتابته بقية كذا وكذا على ما يعرف من قدرته على اكتساب المال وبصره(15/472)
بذلك دون ما عليه له، لأن ماله يبقى لسيده، هذا معنى قوله في المدونة: إن المكاتب إذا قتل يقوم على هيئة في الحال التي كان عليها، يريد من قدرته على الاكتساب وبصره بجمع المال، لا من كثرة ماله وقلته، إذ لا يقوم بماله، ولا احتمال الحال المال طرح سحنون في المدونة قوله على الحال التي كان عليها فاللفظة صحيحة وتأويلها ما ذكرناه إلا أن في هذه الرواية أنه يغرم قيمته مما عليه من الكتابة خلاف ما في المدونة من قوله: إنه لا ينظر إلى ما أدى من كتابته ولا إلى ما بقي منها، فيقال على هذه الرواية كم قيمة هذا على أنه مكاتب وقوته على أداء كتابته كذا وكذا وعليه من كتابته كذا وكذا، ولا مال له، ويقال على ما في المدونة كم قيمة هذا على أنه مكاتب وقوته على أداء كتابته كذا وكذا ويسكت عن ما عليه من الكتابة ولا مال له أيضا، إنما يقوم المكاتب بماله في العتق إذا أوصى سيده بعتقه فيجعل في الثلث الأقل من قيمته بماله مكاتبا أو الأقل مما عليه من عدد الكتابة أو من قيمتها على الاختلاف الواقع في ذلك في الجنايات من المدونة، وقد مضى هذا المعنى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب المكاتب.
[مسألة: يكون مع غير قومه في الديوان أيعقل معهم ولا يعقل مع قومه]
مسألة وسألته عن الرجل يكون مع غير قومه في الديوان أيعقل معهم ولا يعقل مع قومه؟ فقال: نعم أرى إذا كان الرجل في الديوان مع غير قومه أن يعقل عنهم ويعقلوا عنه إن كان رجل من الأنصار في قريش عقل عنهم وعقلوا عنه، قلت أفترى أن يعينهم قومهم ممن ليس معهم في الديوان؟ فقال: ما يفعلون ذلك، قلت له: أفتراه؟ قال: نعم ولقد انقطع الديوان وقل.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ظاهر ما في المدونة من قول مالك: إنما العقل على القبائل كانوا أهل ديوان أو غير أهل ديوان فجعل على هذه الرواية أهل الديوان الواحد كالقبيلة من القبائل وإن كانوا من قبائل شتى(15/473)
يعقل بعضهم ما جنى بعض فإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إليهم قومهم من أهل الديوان الأقرب حتى يجتمع منهم من العدد ما يحمل العقل دون مشقة ولا كبر مؤنة لأن طريقها المواساة لحياطة الدماء فهي على ما لا يضر بالمواسي ولا يقع فيه المشاحاة في الغالب، وقد روى عن سحنون أنه إذا كانت العاقلة خمسمائة أو ألفا فهم قليل ويضم إليهم أقرب القبائل إليهم، وقال بعض الشافعين إن الحد في ذلك على وجه النظر باعتبار الحد فيما سواه بما قرره الشرع ربع دينار على المعسر؛ لأنه أول حدود الشيء الخطير؛ لأن اليد لا يقطع فيها، دونه ونصف دينار على الموسر لأنا وجدناه يجب في النصاب من الذهب زكاة، ولا يرى مالك هذا الحد في الدية، وإنما يرى أن يفرض بالاجتهاد على العاقلة على الموسر بقدره وعلى المعسر بقدره في ثلاث سنين، قال في كتاب ابن سحنون: وإذا وقعت الدية على أهل إبل فرضت على جميعهم ولا يقدحون حتى يشترك النفر في النفر، وأنكر قول الشافعي لا يزاد فيها على نصف دينار ولا ينقص من ربع دينار، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتقام الحدود في الحرم]
مسألة وسألته أتقام الحدود في الحرم؟ قال: نعم ويقتل بقتل النفس في الحرم؟
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه بين فقهاء الأمصار، لأن حرم الله أحق ما أقيمت فيه حدود الله، وكذلك قال في سماع أبي زيد، وسنذكر هناك ما يؤثر فيه من الخلاف عن السلف وبالله التوفيق.(15/474)
[: ستحق دمه بقسامة فقدم ليقتل فقال رجل أنا قتلته]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
قال عيسى وسئل ابن القاسم عن رجل استحق دمه بقسامة فقدم ليقتل، فقال رجل: أنا قتلته، قال: بلغني عن ربيعة أنه قال: يقتل هذا بالقسامة وهذا بالإقرار، ولست آخذ به، قال ابن القاسم لم يقتله اثنان، وإنما قتله واحد، فيقال لهم: اقتلوا أيهما وخلوا سبيل الآخر.
قال محمد بن رشد: قد روى عن مالك وابن عبد الحكم وأصبغ؟ مثل قول ربيعة، حكى ابن المواز عنهم في كتابه أن القسامة إذا وجبت في نفر فأقر غيرهم بالقتل أن المقر يقتل بإقراره، ويقسمون على واحد من هؤلاء ويقتل، وحكي عن ابن القاسم مثل قوله هاهنا أنه لا يقتل إلا واحد إما المقر وإما أحد هؤلاء بقسامة، قال ابن المواز: وإذا قتل المقر فقال ابن القاسم مرة بقسامة ومره بغير قسامة، وأنكر ابن المواز وأصبغ قوله بقسامة، وقد قيل إن ذلك ليس باختلاف من قوله، وإنما معناه أنه يقتل بغير قسامة إن لم يكن للمقتول حياة، وإنما وجبت القسامة على غير المقر بشاهد على القتل وبقسامة إن كانت له حياة، وإنما وجبت القسامة على غير المقر بشاهدين على الجرح أو بقول المقتول دمي عند فلان بدليل ما وقع من قوله في رسم العتق بعد هذا من هذا السماع أنهم يقسمون على ذلك إن كانت حياة، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى بعد هذا في النفر يجرحون الرجل فيحمل مجروحا فيموت فتجب القسامة عليهم إنهم لو أقروا بقتله أجمعون لم يكن لهم أن يقتلوا منهم أحدا حتى يقسموا على أيهم أحبوا فقط فيقتلونه، ولا يكون لهم أن يقتلوا واحدا بالقسامة وسائرهم بالإقرار، قال وكذلك إذا لم يقر إلا واحد قال أنا قتلته لم يكن لهم أن يقتلوه حتى يقسموا عليه، ولا أن يقسموا على غيره ويقتلوا المقر بإقراره، ليس لهم أن يقسموا إلا على واحد منهم فيقتلونه كما لو لم يقروا ولم(15/475)
يقر واحد منهم فسواء على مذهب ابن القاسم كان المقر بالقتل من الذين وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم ليس للأولياء أن يقتلوا المقر بإقراره ويقسموا على أحد ممن بقي، وسواء أيضا على مذهب ربيعة وما حكى ابن المواز عن مالك، وابن عبد الحكم، وأصبغ كان المقر بالقتل، ممن وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم لهم أن يقتلوا المقر بإقراره ويقسموا على واحد ممن بقي فيقتلوه، وهو قول المغيرة في المجموعة، وفرق سحنون بين أن يكون المقر بالقتل من الذين وجبت عليهم القسامة أو من غيرهم فاختار قول ابن القاسم إذا كان المقر بالقتل من غير الذين وجبت عليهم القسامة واختار قول المغيرة، ومن قال بقوله إذا كان المقر بالقتل ممن وجبت عليه القسامة وقال: ليس قول ابن القاسم هاهنا شيئا وقد كان من مضى يقتلون بالقسامة النفر جميعا حتى كان معاوية ابن أبي سفيان أو عبد الملك فحكم أن لا يقتل بالقسامة إلا واحدا فرأى مالك وأصحابه ذلك واستحسنوه.
فإذا أقروا بالقتل جميعا قتلوا جميعا كما قال المغيرة، وإن أقر واحد منهم قتل المقر، وأقسموا على واحد من الباقين وقتلوه، وكذلك إن أقروا جميعا إلا واحد منهم قتلوا جميعا بالإقرار وأقسموا على المنكر وقتلوه إن شاءوا، والذي قال مالك في موطئه: إنه لم يعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد، وإذا حملنا ما حكى ابن المواز عن ابن القاسم في المقر على نفسه بالقتل إنه يقتل قال مرة بقسامة ومرة بغير قسامة على ظاهره من أنه اختلاف من قوله فالاختلاف من قوله إنما يصح ويشبه إذا كانت للمقتول حياة فأقر القاتل أنه قتله ومن جرحه مات كان المقر بالقتل من وجبت عليه القسامة بقول المقتول أو بشاهدين على الجرح أو لم يكن منهم وكان من غيرهم، وأما إذا لم يكن للمقتول حياة، فأقر القاتل أنه قتله قتلا مجهزا؛ فإنه يقتل بغير قسامة قولا واحدا لا يصح في ذلك اختلاف، كان المقر بالقتل ممن وجبت عليه القسامة بشاهد على القتل أو من غيرهم والفرق بين الموضعين بين، ألا ترى أنه من أقر أنه قتل رجلا قتلا مجهزا لا يقبل رجوعه ومن أقر أنه جرح فلانا ومات من جرحه ثم رجع عن(15/476)
إقراره يقبل رجوعه لأنه يقول كنت ظننت أنه مات من جرحي ثم تحققت أنه لم يمت منه، وهذا الذي ذكرناه من أنه يقبل. رجوع المقر بالقتل في هذا الموضع منصوص عليه لمالك في كتاب ابن المواز، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يقتل النصراني ثم يسلم]
مسألة وقال في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم: إنه يقتل وأخبرنا يحيى بن يحيى قال: سألت ابن القاسم عن النصراني يقتل النصراني ولا ولي له إلا المسلمون ثم يسلم القاتل أترى أن يقتل به؟ فقال: العفو عن قتل هذا أحب إلي من قتله، وذلك أن حرمته إذا أسلم أعظم من حرمة الكافر الذي قتل، فلو كان للمقتول أولياء كان لهم القود لأنهما كانا على دين واحد يوم قتله. فإذا كان أمره إلى الإمام فالعفو عنه أعجب إلي وإن كان القود قد لزمه.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم: إنه يقتل، وإن لم يكن للنصراني المقتول أولياء إلا المسلمون، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه: إن إسلامه لا يمنعه من القتل ولا يبريه منه، ويقتل مكانه؛ فعلى هذا لا يجوز للإمام إذا لم يكن له أولياء إلا المسلمون أن يعفو عنه إذا كان له مال على غير شيء، وهو القياس لوجوب القود، ويجوز له أن يصالحه على مال يأخذه منه للمسلمين، وإن كان أقل من الدية على القول بأن القاتل لا يجبر على غرم الدية، وأما على القول بأنه يجبر على غرم الدية فليس له أن يعفو عنه على أقل من الدية إذا كان بها مليا، وأمَّا على قوله في رواية يحيى عنه؛ فيجوز له أن يعفو عنه على غير شيء يأخذه منه، وإن كان له مال؛ لأنه استحب العفو عنه لحرمة إسلامه بخلاف المسلم يقتل المسلم الذي لا ولي له إلا المسلمون، هذا لا يجوز للإمام أن يعفو عنه إلا على شيء يأخذه منه نظرا للمسلمين كالوصي على الصغير لا يجوز له أن يعفو عن دم أبيه، ويجوز أن يعفو عنه نظرا ليتيمه على(15/477)
الدية أو على أقل منها على الاختلاف الذي ذكرناه في القاتل هل يجبر على غرم الدية أم ولا؟ وسيأتي هذا في رسم أبي زيد وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته فلان قتلني وناس معه]
مسألة قال: وسئل عن رجل قال عند موته فلان قتلني وناس معه، قال: يقسمون على الذي سمى ويقتلونه إن شاءوا.
وأما قوله وناس معه فإن عرفوا وأثبتتهم البينة أنهم ضربوه معه أقسموا على أيهم شاءوا منهم.
قال محمد بن رشد: القسامة في العمد تجب بأحد ثلاثة أشياء على اتفاق، وبأحد وجهين على اختلاف.
فأما الثلاثة الأشياء التي تجب القسامة بكل واحد منها باتفاق فهي أن يقول الميت دمي عند فلان أو يشهد على قتله رجل واحد أو على جرحه رجلان.
وأما الشيئان المختلف في وجوب القسامة بكل واحد منهما أن يشهد رجل واحد على الجرح أو شاهد واحد على إقرار القاتل بالقتل فإذا وجبت القسامة على الجماعة بأحد هذه الأشياء التي تجب القسامة بها أو باختلاف على القول بوجوب القسامة به فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يقتل بها إلا واحد منهم، واختلف هل لأولياء المقتول أن يقسموا على جميعهم أو على من شاءوا منهم، ثم يقتلون واحدا ممن أقسموا عليه أو ليس لهم أن يقسموا إلا على الذي يقتلونه، وهو مذهب ابن القاسم ونص قوله في هذه الرواية وغيرها، وقول مالك في موطئه: ولم نعلم قسامة قط كانت إلا على رجل واحد.
وإذا أقسموا عليه قالوا في قسامتهم عليه لمات من ضربه ولا يقولوا من ضربهم، وروى ذلك ابن القاسم عن مالك في المجموعة والواضحة، قال(15/478)
عبد الملك إذ لا يدرى هل مات من فعلهم كلهم أومن فعل واحد منهم فلا بد لهم لأن يقسموا على الذي يريدون أن يقتلوه؛ لأنه مات من فعله، هذا معنى قوله: وقيل: لهم أن يقسموا عليهم كلهم أنه مات من فعله ثم يقتلون ما شاءوا منهم وهذا الاختلاف إنما هو إذا احتمل أن يكون مات من فعل بعضهم دون بعض، فإذا لم يحتمل ذلك مثل أن يصبوا عليه صخرة وهم جماعة تعاونوا على رفعها إذ لا يقدر بعضهم على ذلك فلا اختلاف عندي في أنهم يقسموا عليهم كلهم ثم يقتلون ما شاءوا، وإن كان ظاهر ما في المدونة أنهم لا يقسمون إلا على واحد منهم، فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره لأنه بعيد.
وقد قيل إنهم يقتلون كلهم بالقسامة إذا كان القتل على هذا الوجه، وهو قول سحنون، وقد كان من مضى يقتلون بالقسامة النفر جميعا حتى كان معاوية بن أبي سفيان أو عبد الملك، فحكم أن لا يقتل بالقسامة إلا واحد فرأى ذلك مالك وأصحابه، وقع ذلك في كتاب سحنون وفي الموطأ ما يرد ذلك، وهو قول مالك: ولم يعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد وبالله التوفيق.
[مسألة: توبة القاتل]
مسألة وسئل عمن كتب إليه والٍ في قتل رجل فقتله ثم أراد التنصل والتوبة فعرض نفسه على أولياء المقتول وأخبرهم، فقالوا له لسنا بقاتليك، إنا نخاف إن قتلتاك عاقبة ذلك ممن وراءك يعنون الموالي فعرض عليهم الدية فأبوا أن يقبلوها.
قال: أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم وأن يعتق الرقاب وأن يبكي وأن يتقرب إلى الله بالدعاء والرغبة إليه ويلحق بهذه الثغور، ويحج ويكثر من العمل الصالح ما استطاع، فإن لم يقبل الدية فليعتق وليصنع هذا، ويمكن من نفسه ويتصدق بما استطاع ويكثر الحج والغزو وإن استطاع أن يلحق بهذه الثغور ويكون فيها أبدا حتى يموت(15/479)
بها فهو أحب إلي وما الدية عندي بالقوي.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف ومن بعدهم من الخلف في قبول توبة القاتل، وإنفاذ الوعيد عليه على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة أنهم قالوا لمن سألهم عن ذلك هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟ وإن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، وإن ابن عباس سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من ذلك: ماذا تقول؟ فأعاد عليه قوله، فقال ماذا تقول مرة أو ثلاثا، ثم قال: ويحك وأنى له بالتوبة؟. وإلى هذا ذهب مالك فيما روي عنه من أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روى من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» وذلك - والله أعلم - لأن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق للمقتول المظلوم، ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم، وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه، ويحلله من قتله إياه طيب بذلك نفسه، ومنهم من ذهب إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، ومن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم من السلف، وخص مالك في هذه الرواية للقاتل أن يعتق الرقاب ويبكي ويتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ويلزم الثغور والجهاد دليلا على الرجاء عنده في قبول توبة القاتل خلاف ما روي عنه من أن إمامته لا تجوز وإن تاب، ولكلا المذهبين وجه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة في ذلك، فقل ما تجدهم يختلفون إلا فيما يتعارض فيه(15/480)
الحج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة أن لا يصح له متاب إن واقعه فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب، ولمن واقعة أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا يأس من رحمته فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل قال له لا توبة له، وإن تبين له من أنه قد قتل قال له توبة، وإن هذا لحسن من الفتوى، وأما من قال إن القاتل مخلد في النار أبدا فقد أخطأ وخالف السنة لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما اكتسب من صالح أعماله؛ لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن مات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسناته، فإنه يقول وقوله الحق {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] ومن مثل هذا في القرآن كثير.
واختلف أهل العلم أيضا في القصاص من القاتل هل يكفر عنه إثم القتل أم لا. على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه يكفر عنه بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الحدود كفارات لأهلها» فعم ولم يخص قتلا من غيره، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يكفره عنه؛ لأن المقتول مظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما هو منفعة للأحياء عن القتل، وهو معنى قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من(15/481)
حديث عبادة: «الحدود كفارات لأهلها» ويبقى الحديث مخصصا فيما هو حق الله تعالى لا يتعلق فيه حق المخلوق وفي قول مالك في هذه الرواية دليل على القولين جميعا قوله في أولها أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم يدل على أن القتل يكون كفارة له لأنه رآه حقا لأولياء المقتول تنوب عنه الدية إذا رضوا بها، وقوله في آخر المسألة وما الدية عندي بالقوي يدل على أنها لا تنوب مناب القصاص منه في الانتفاع به في الآخرة وبالله التوفيق.
[مسألة: نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ]
مسألة قال سحنون وعيسى: قال ابن القاسم: إذا نكل المدعى عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم، ولا يستحلف هو، وفي سماع عيسى فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم فليس يبريهم إلا اليمين لو كانوا عشرة آلاف، فمن حلف منهم سقط عنه بقدر ما يصيبه، ومن نكل غرم ما يقع عليه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في رواية سحنون وعيسى عنه إذا نكل المدعي عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم يريد بالمدعي عليهم العاقلة كلها.
وقوله ولا يستحلف هو معناه ولا يستحلف هو وحده بل يحلف مع جميع العاقلة فيما يجب عليه من الدية، كما يحلف كل واحد منهم فيما يجب عليه منها.
وقوله في رواية عيسى عنه وحده فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم يريد أن حظ من نكل عن اليمين من الورثة من الدية قد وجب على جميع العاقلة ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف منهم سقط عنه ما يصيبه من ذلك،(15/482)
ومن نكل غرم ما يصيبه منه، ومن حلف من أولياء الدم وهم الورثة فقد استحق ما يجب له من الدية على جميع العاقلة والمدعي عليه كرجل منهم، وإنما يستحق منهم ما يجب له من الدية بعد أن يستكملوا جميع الأيمان، لأن من نكل من الورثة عن اليمين فهو بمنزلة من غاب لا يستحق من حضر حظه من الدية حتى يحلف جميع الأيمان، فإذا جاء من غاب حلف ما يجب عليه من الأيمان واستحق حظه من الدية، وإن نكل عن اليمين فكما قال في الرواية يكون حظه من الدية على جميع العاقلة، ولو كانوا عشرة آلاف والمدعي عليهم كرجل منهم فمن حلف منهم سقط عنه ما يجب عليه من ذلك، ومن نكل غرم ما يجب عليه منه، فليس قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه بخلاف لما قبله من رواية سحنون وعيسى عنه، وإنما تكلم أولا على نكول الورثة، وتكلم آخرا على نكول العاقلة أيضا بعد نكول الورثة فقال إن جميع العاقلة والمدعى عليه الدم يحلفون في جميع الدية، ولو كانوا عشرة آلاف إذا نكل جميع الورثة وفيما بقي من الدية، ولو كانوا عشرة آلاف أيضا إذا نكل بعض الورثة وحلف بعضهم.
وفي سماع سحنون خلاف هذا القول أنه لا يحلف من العاقلة في الوجهين جميعا إلا خمسون رجلا يمينا لأنها جميع أيمان القسامة، فإن حلف منهم خمسون رجلا برئوا وسقطت الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف معهم من الدية ووجبت الدية كلها على من بقي منهم إلا أن يأتوا بمن يحلف ما بقي من الخمسين يمينا، ولو حلف منهم تسعة وأربعون رجلا يمينا وبقيت يمين واحدة من الخمسين يمينا كانت الدية كلها على من لم يحلف حتى يأتوا منهم بمن يحلف اليمين الباقية من الخمسين، هذا معنى قوله في سماع سحنون مفسرا، وله فيه قول آخر مثل ما في هذه الرواية أن جميع العاقلة والمدعي عليه الدم يحلفون كلهم إذا نكل الورثة عن اليمين، وفي المسألة قول ثالث أنهم إن نكلوا لم يكن لهم شيء، وإن نكل بعضهم وحلف بعض لم يكن لمن نكل منهم شيء، ولا ترجع الأيمان على العاقلة(15/483)
لأن الدية لم تجب عليهم بعد، وإنما تجب بالفرض وهو قول ابن الماجشون، وفي المسألة قول رابع " أنهم إن نكلوا حلف المدعي عليه الدم وحده، فإن حلف سقطت الدية عنه وعن جميع العاقلة، وإن نكل لزمه ما يلزم واحدا من العاقلة ولم يلزم العاقلة بنكوله شيء؛ لأن نكوله كالإقرار والعاقلة لا تحمل الإقرار، لأنه بنكوله شاهد على العاقلة، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وفي المسألة قول خامس أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية قاله ربيعة، وهو قول على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعدين وبالله التوفيق.
[مسألة: نكل ولاة الدم في العمد]
مسألة وفي سماع سحنون قال ابن القاسم: إذا نكل ولاة الدم في العمد ردت الأيمان على أولياء القاتل، فإن حلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا برئ، ولم يكن على المدعي عليه أن يحلف معهم، ولا يجبر هؤلاء على الأيمان إلا أن يتطوعوا، فإن لم يجدوا خمسين رجلا ووجدوا أقل من ذلك العدد حلفوا خمسين يمينا إذا أطاعوا بحملها كلها وردت عليهم حتى يستتموا، فإن أبوا أن يحملوها كلها، وقالوا نحن نحمل بعضها واحمل أنت بقيتها، فليس ذلك لهم إما حملوها كلها ولا يكون على المدعي عليه منها شيء، وإما أن تسقط عنهم ويحملها المدعى عليه كلها وحده ويبرأ، فإن أبى سجن حتى يحلف، قال ابن القاسم ولا يحلف عنه أقل من رجلين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال:
أحدها - هذا وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
والثاني - أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف(15/484)
فيهم المتهم، فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول ابن القاسم في المجموعة.
والثالث - أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول، وهذا قول مطرف في الواضحة وظاهر ما في رسم أول عبد من سماع يحيى وما في المدونة من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، وهذا القول أظهر الأقوال من جهة القياس، لأن المدعي عليه حقيقة هو الذي يدعى عليه القتل ويطلب منه القصاص ويتعلق به حكم بالنكول، فوجب أن يكون هو الذي يحلف وحده لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» .
وللقولين الآخرين حظ وافر من النظر، وهو أنه لما كانت الدماء تقع فيها الحمية والعصبة صار عصبة المقتول هم الطالبون بدم المقتول بحق التعصيب لا بحق الوراثة، وصار عصبة القاتل هم المطلوبون معه لتعصبهم له ودفاعهم عنه، ووجب أن ترجع الأيمان إذا نكل عنها عصبة المقتول على عصبة القاتل إذ هم المطلوبون بما فعل وليهم، بدليل «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للحارثيين في قتيلهم الذي قتل بخيبر أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فلما قالوا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف نحلف ولم نشهد ولم نحضر؟ قال فتبريكم يهود بخمسين يمينا» فعمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالأيمان لما كانوا هم المدعى عليهم بأن صاحبهم قتل، فرأى ابن القاسم في الرواية الواحدة من حق القاتل أن يستعين في الأيمان بعصبة الذابين عنه المتعصين له المناصبين دونه كما كان من حق القريب من عصبة المقتول أن يستعين في الأيمان بالبعيد منهم.
ورأى في الرواية الأخرى من حق عصبة القاتل إذا ردت عليه الأيمان أن يتحملوها عنه ويحلفوها دونه إن دعوا إلى ذلك لجدهم في الدفاع عنه لما يزعمون من صحة يعنيهم ببراءته من قتله، فإن أبوا أن يحملون عنه جميعا وأرادوا أن يعينوه فيها بأن يحملوا عنه بعضا لم يمكنهم من ذلك لما تبين بمشاحتهم في ذلك من ضعف يقينهم في أنه بريء مما ادعى عليه وبالله التوفيق.(15/485)
[مسألة: كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به]
مسألة وعن الذي يقتل خطأ وبعض العاقلة بأطرابلس وبها قتل وبعضهم بأفريقية وهم كثير والذين بأطرابلس نفر يسير فهل يضم الذين بأطرابلس إلى الذين بإفريقية أو حتى يستوعب الدية بأفريقية، قال: أرى أن يضم بعضهم إلى بعض.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة لأن أفريقية وطرابلس إقليم واحد، فوجب أن يضم من بأفريقية من عاقلة القاتل إلى من بطرابلس منهم، ولو كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل بمصر وقومه بالشام أو بالشام وقومه بالعراق فعقل عنه أقرب القبائل إليه من الإقليم الذي هو من أهله، ولا يضم إليه أحد من عاقلته إذا كانوا في إقليم آخر، هذا قوله في المدونة وهو معنى قوله في هذه الرواية والله الموفق.
[مسألة: عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قتل وله ابنان وترك خمسمائة دينار ناضة وعليه دين خمسمائة دينار وعفا أحد الابنين عن القاتل بلا شيء فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية.
قال ابن القاسم يقسم الخمسمائة الدين على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة التي أخذ، هذا وهو مائتان وخمسون ويكون بقيتها له خاصة، فلا يدخل عليه فيها أخوه لأنه عفا، وتكون المائتان والخمسون الباقية تمام الدية في الخمسمائة الناضة، ويكون بقية الخمسمائة الناضة ميراثا بين الابنين، قال: وإن كانت الثلث والثلثين فعلى هذا الحساب، قال: وقد بلغني(15/486)
ما فسرت لك في هذه المسألة عن مالك إلا في القود.
قال محمد بن رشد: قوله: فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية صحيح على مذهبه وروايته عن مالك إنه إذا عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة فلمن لم يعف حظه من الدية، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب قبل هذا.
وقوله: إن الخمسمائة الدين تقسم على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة الدية، ويكون بقيتها له خاصة لا يدخل عليه فيها أخوه الذي عفا ويكون نصفها في الخمسمائة الناضة، ويكون الباقي منها ميراثا بين الابنين صحيح على ما قاله، لأنه يجب على كل واحد منهما من الدين بقدر ما صار له من المال، فالذي عفا لم يصر له إلا مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة والذي لم يعف صار له مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة وخمسمائة حظه من الدية، فذلك سبعمائة وخمسون ثلاثة أمثال ما صار للذي عفا فيجب عليه من الدية ثلاثة أرباعه ثلاثمائة وخمسة وسبعون فتبقى له ثلاثمائة وخمسة وسبعون، ويجب من الدين على الذي عفا ربعه مائة وخمسة وعشرون فيبقى له مائة وخمسة وعشرون، فهذا بيان ما قاله، وبالله التوفيق.
[: جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه]
ومن كتاب العرية وسئل عن رجل جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه.
قال: أرى نصف الدية على عاقلة الجارح، قلت بقسامة أم بغير قسامة؟ قال أرأيت قسامة في نصف دية؟(15/487)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن جرح الرجل له وضرب الدابة إياه كان في فور واحد ومات لحينه، فحمل أمره على أنه مات من الأمرين جميعا لاحتمال موته من كل واحد منهما احتمالا واحدا، لا يمكن أن يغلب أحدهما على صاحبه، ولابن القاسم في المجموعة أن في ذلك القسامة، قال: وهو كمرض المجروح بعد الجرح، يريد أن أولياء الميت يقسمون لمات من جرح الرجل إياه ويستوجبون جميع ديته على العاقلة إن كان الجرح خطأ أو الاستفادة منه إن كان الجرح عمدا، فإن لم يقسموا على هذا القول لم يكن لهم شيء.
قال: ومن شج موضحة فتراخى به برؤه حمى سقط عليه جدار فقتله أو قتل إن له نصف عقل الموضحة وذلك عندي من أجل أنه لا يدري لعله إنما مات من الموضحة ولو جرحه أولا ثم ضربته ذلك فلم يدر من أي الأمرين مات لكانت في ذلك القسامة والدية في الخطأ أو القصاص في العمد قولا واحدا؛ لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر بمنزلة إذا جرح ثم مرض فمات وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يجرح ثم يمرض فيموت]
مسألة قال وفي كتاب الصلح في الرجل يجرح ثم يمرض فيموت إن فيه القسامة.
قال محمد بن رشد: الدية على العاقلة في الخطأ، والقصاص في العمد، وهذا ما لا اختلاف فيه، لأنه لوحيي بعد الجرح حياة بينة ثم مات من غير أن يمرض لكان هذا هو الحكم فيه فكيف إذا مرض؟ وهذا إذا أثبت الجرح بشهادة شاهدين، وصفة اليمين في هذا أن يحلفوا لمات من الجرح الذي أصابه به لا من المرض الذي دخل عليه بعد ذلك، وسيأتي في أول نوازل سحنون الاختلاف ما إذا لم يشهد على الجرح إلا شاهد واحد ونتكلم على معناه - إن شاء الله -.(15/488)
[مسألة: رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا]
مسألة وقال في رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا.
قال: ذلك جائز وتكون وصاياه فيمن يؤخذ من ديته وتكون الدية كغيرها من ماله.
قلت: أرأيت إن أوصى بالدية كلها لقوم بعد أن تقبض وليس له مال غيرها أتجوز وصيته فيها كلها كما كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية؟ فقال: لا يجوز له إلا في الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا إن وصاياه تكون فيما يؤخذ من ديته، وهو مثل ما قاله في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الوصايا، وإنما يصح ذلك على قياس القول بأنه إذا عفا عنه على الدية أو أوصى أن يعفا عنه على الدية إن ذلك يلزمه، وأما على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه وهو المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فلا يدخل فيها الوصايا، وإن أوصى أن تقبل، إذ ليس على يقين من أنه يرضى بذلك، كما لو قال: إن قبل ولاتي ديتي فوصيتي فيها، إذ ليس على يقين من قبول ولاته لديته.
وإنما لم تجز وصيته بالدية كلها إذا لم يمكن له مال غيرها، وإن كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية من أجل أن الدية ليس بمال للميت، غير أن السنة قد أحكمت أن يحكم لها بحكم مال الميت إذا قبلت، فلما لم تكن مالا للميت قبل أن تقبل كان للميت أن يعفو عنها، ولما صار حكمها إذا قبلت حكم مال الميت وجب أن لا تجوز وصيته، إذا أوصى بها لقوم إلا أن يحملها ثلثه، فإن لم يحملها ثلثه جاز لهم منها ما حمله الثلث وبالله التوفيق.(15/489)
[مسألة: اتبعه الناس وهو قاتل فاقتحم بيتا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو]
مسألة وعن رجل قتل إنسانا في وسط الناس، فاتبعه الناس وهو هارب فاقتحم بيتا، ودخلوا البيت بإثره فإذا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو.
قال إن حلف كل واحد منهم خمسين يمينا أنه لم يقتله كان العقل عليهم ثلاثتهم، وإن نكل أحدهم كان العقل على من نكل.
قلت له: فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم بغير قسامة أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة، إنما هو جواب قلت له فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم غير قسامة لا جواب لقوله أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ لأنه لم يقع على ذلك جواب.
والجواب على ذلك إنما هو أنه لا يقسم على من نكل لأن اليمين في هذا لا ترجع في النكول على أولياء المقتول؛ لأن القتل قد ثبت على أحدهم من غير تعيين، فإن حلفوا كلهم أو نكلوا كلهم كانت الدية عليهم جميعا، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين كانت الدية على من نكل منهم واحدا كان أو اثنين، ولا يمين في شيء من ذلك كله على أولياء القتيل، وإيجاب القسامة على كل منهم هو على ما تقدم في تأخير العشاء من سماع ابن القاسم في أن المتهم بالدم يستحلف خمسين يمينا، لأن كل واحد منهم متهم بالدم إذ لم يعلم من هو القاتل منهم، هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وسحنون يقول: إنه لا شيء عليهم، وشهادة البينة أنهم رأوه دخل فيهم ولا يعرفونه بعينه باطل.(15/490)
[مسألة: قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما]
مسألة وسألته عن رجل قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما أو قتلا جميعا أو مات أحدهما وبقي الآخر وكان الذي قتلهما رجل واحد أو رجلان قتل كل واحد منهما رجل قبل أن يعلم بعتق واحد منهما، فقال السيد حين قتل الواحد، وبقي الآخر: إن المقتول هو الذي كنت أعتقته، وقال القاتل: أنت كاذب ومدعي الدية ومدرئ عن نفسك عتق هذا الباقي فلا يقبل قولك.
قال ابن القاسم القول قول السيد ويكون على القاتل قيمته عبدا ويصدق فيما زعم أنه كان أعتقه ولا يصدق في الدية، ويسترق الباقي منهما إذا ادعى السيد أن المقتول هو الذي أراد بالعتق، قال سحنون في العتق مثله إن القول قوله بعد أن يحلف بالله ما أردت إلا الميت ثم لا يكون للآخر من العتق شيء، وإن قال أردت الباقي حلف وعتق أيضا من جميع المال، وقال سحنون: ولو كان هذا القول منه في الصحة مثبتا بالبينة ثم قال في مرضه لم أكن أردت واحدا منهما بعينه عتق هذا الباقي من رأس المال وفيه تنازع، وهذا أصح ما نعلمه وبالله التوفيق.
قال عيسى: وقال لي: فقس ذلك بالرجل يقول إحدى امرأتي طالق فتموت إحداهما فيدعي الزوج أن الميتة هي التي أراد بالطلاق أن القول قوله ويمسك الباقية.
قال: ولو قال أيضا في العبدين لم أكن أعتقت بعد واحدا منهما حتى قتل إن الباقي من العبدين يعتق عليه، وتكون دية المقتول قيمة عبد.(15/491)
قلت فلو قتلهما جميعا رجل واحد؟ فقال: إن السيد قد كنت أعتقت أحدهما كان على القاتل قيمتهما أيضا عبدين، ولو قال السيد: لم أكن أعتقت واحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبيدا أيضا؛ لأنهما عبيد حتى يعتق أحدهما بعد قوله أحدكما حر، قال: وسواء قتلهما واحد أو قتل كل واحد منهما رجل إن قال: لم أكن أعتقت منهما أحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين وقال قد كنت أعتقت أحدهما كان أيضا على ذلك لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين.
قلت أرأيت إن كان قال ذلك في وصية قال أحد عبيدي حر فقتل أحدهما أو جميعا قتلهما رجل واحد، وقتل كل واحد منهما واحد قيل أن يقوما ويعتقا.
قال ديتهما أبدا دية عبيد حتى يحكم فيهما بالعتق لأنهما لا يعتقان حتى يقوما، وإن قتل أحدهما أو مات وبقي الآخر فإنه يعتق في ثلث ما بقي، ويكون الذي مات منهما أو قتل كمن لم تكن فيه وصية، وهو بمنزلة الذي يقول عبد من رقيقي حر ثم يموتوا كلهم إلا واحدا أو مات منهم يكون كمن لم تكن فيه وصية ويعتق هذا الباقي في ثلث ما بقي من مال الميت.
قال محمد بن رشد: تلخيص هذه المسألة أنه إن قتل أحدهما فقال أردت بالعتق الذي قتل أو الذي بقي صدق في الوجهين جميعا مع يمينه، لأنه إن قال: أردت الميت؛ اتهم على أنه أراد إرقاق الباقي، وإن قال: أردت الباقي اتهم على أنه أراد أن يجر إليه ميراث الميت بالملك، إن كان له ورثة أحرار، وإن قال لم أرد واحدا منهما لم يكن له أن يجعل العتق لمن مات أو أعتق الباقي على كل حال، هذا هو قوله في هذه الرواية وفي رسم الصبرة من سماع يحيى من(15/492)
كتاب العتق، وسواء قال: لم أرد واحدا منهما في صحته أو في مرضه على ما قاله سحنون، وقد حكى أن في ذلك اختلافا إذا قاله في مرضه، ويحتمل أن يكون الاختلاف الذي أشار إليه أن يعتق هذا الباقي، ويكون ما زادت قيمته على قيمة الميت في ثلثه.
وأما إن قتلا جميعا قتلهما رجل واحد أو رجلان فلا يصدق في أنه أراد واحدا منهما، ويكون على عاقلتهما قيمتهما عبدين، وإن كان قال ذلك في وصيته فقتلا جميعا كان على قاتلهما قيمتهما عبدين لأنهما عبدين حتى يقوما في الثلث، وإن قتل أحدهما أو مات فعتق الباقي منهما في الثلث وهو مما لا اختلاف فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: جنين النصرانية من العبد النصراني]
مسألة وسئل عن جنين النصرانية من العبد النصراني.
قال: هو حر ديته دية جنين الحر.
قلت فما دية جنين الحر المسلم من النصرانية إذا طرح أو العبد المسلم من النصرانية قال دية جنين الحرة من الحر المسلم نصف عشر دية أبيه المسلم، ودية جنين النصرانية الحرة من العبد المسلم نصف عشر دية المسلم الحر، وهو بمنزلة أن لو كان أبوه حرا؛ لأنه على دين أبيه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله؛ لأن الولد تبع لأبيه في الدين ولأمه في الحرية وبالله التوفيق.(15/493)
[: شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله]
ومن كتاب أوصى
أن ينفق على أمهات أولاده قال: ومن شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله أو قتل: إن له عقل الموضحة.
قال محمد بن رشد: في المجموعة أن له نصف عقل الموضحة وقد ذكرنا ذلك في رسم العرية، وما في هذه الرواية من أن له عقل الموضحة أظهر، لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر، ووجه ما في المجموعة أنه لما سقط عليه الجدار أو قتل قبل أن يبرأ من الموضحة لم يدر من أي الأمرين مات، وإن كان من الموضحة فلا يجب فيها شيء لأن الموت يأتي عليها، وإن كان من الأمر الآخر فالعقل فيها لازم فيجعل فيها النصف من أجل الشك، وهو ضعيف وبالله التوفيق.
[: يجرح فيعتقه سيده وهو مجروح ثم ينزى في جرحه فيموت]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك وسئل عن العبد يجرح فيعتقه سيده وهو مجروح ثم ينزى في جرحه فيموت، قال: قال مالك: عقله عقل حر الدية كاملة قلت: كان عمدا أو خطأ؟ قال: نعم كان عمدا أو خطأ، قلت بقسامة أم بغير قسامة؟ قال: بل بقسامة، وكيف يستحق دم من قد عاش صاحبه إلا بقسامة، قلت له: فما باله لا يقتل به في العمد؟ قال: القتل عظيم للشبهة التي دخلته، ولو قال قائل ديته دية عبد لكان له مطعن فلا أرى له في العمد والخطأ إلا الدية، فلو كان الجارح أنفذ مقاتله فأعتقه سيده على تلك الحال قال أليس يورث بالحرية قلت: بلى. قال فسواء أنفذ مقاتله أم لا أرى فيه الدية كاملة.(15/494)
قال محمد بن رشد: لأشهب في كتاب ابن سحنون أن ديته دية عبد لسيده وهو القياس، لأنه وإن كان مات وهو حر فإنما مات من الجرح الذي أصيب به وهو عبد، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذا استحسان لأنه هو راعي حاله يوم الجرح فيوجب القيمة لسيده، ولا يوم الموت فيوجب القصاص على قاتله وأوجب الدية كاملة في ماله مع القسامة إذا ثبت الجرح أو بقول المقتول بعد عتقه أو بعد إسلامه على ما قاله في سماع سحنون يريد في العمد والخطأ لأن أصل الجناية في حال الرق والعاقلة لا تحمل الجناية على العبد، فكما لا يقتص من الجاني من أجل أن الجناية بحال الرق، فكذلك لا تكون الدية في الخطأ على العاقلة من أجل أن أصل الجناية في حال الرق، ولو لم يمت العبد بعد العتق من ذلك الجرح إلا أنه تراقى إلى مأمومة أو إلى شيء آخر فأما إذا تراقى إلى شيء آخر مثل أن يجرحه موضحة أو يقطع أنفه وهو عبد فيذهب من ذلك بعد عتقه عينه أو ما أشبه ذلك فللسيد في الموضحة نصف عشر قيمته، وفي قطع أنفه ما نقص من قيمته، وللعبد في ذهاب عينه دية عين حر خمسمائة في مال الحر أيضا إن كان الجاني حرا وفي رقبة العبد إن كان الجاني عبدا يخير سيده بين أن يفتكه بذلك أو يسلمه إلا أن يشاء السيد القصاص إن كانت الجناية عمدا والجاني عليه عبد فلا يكون له إلا ذلك وليس له هو قصاص فيما تراقى إليه جرحه بعد العتق للشبهة في ذلك بكون الجرح في حال الرق، كما لا يقتص منه في العمد إذا آل الجرح بعد العتق إلى النفس للشبهة التي دخلته، وأما إذا تراقى إلى زيادة في الجرح لا إلى شيء آخر مثل أن يجرحه وهو عبد موضحة فتصير بعد عتقه منقلة أو مأمومة أو منقلة فتصير مأمومة وما أشبه ذلك ففيه اختلاف قيل: إنه يكون عليه لسيده عقل موضحة العبد نصف عشر ثمنه، ويكون له هو ما بين الموضحة والمنقلة أو المأمومة من دية الحر بمنزلة إذا تراقى إلى شيء آخر، وهو قول سحنون في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم وأحد قولي مالك في أول سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات في أن من(15/495)
جرح موضحة فصارت منقلة يقتص له من الموضحة، ويكون له عقل ما بين الموضحة والمنقلة، ويأتي على قياس القول بأنه ليس له إلا عقل المأمومة أن يكون للسيد إذا اعتق عبيده بعد أن جرح موضحة فصارت منقلة عقل منقلة، وقال ابن الماجشون على جارحه دية منقلة حر يريد للعبد المعتق فحكم للمجروح بمال آل إليه المجروح من المنقلة، وهذا القول الثالث أبعد الأقوال، لأنه جعل تراقي الجرح بعد إلى العتق إلى مأمومة كتراقيه إلى الموت على مذهب ابن القاسم الذي يرى في ذلك الدية دية الحر كاملة.
وأما قوله إذا أنفذت مقاتله وهو عبد ثم أعتق إن فيه الدية كاملة؛ لأنه يورث بالحرية ففيه نظر، والقياس أن تكون قيمته لسيده وميراثه له بالرق، وقد روى عن سحنون فيمن انفذت مقاتله أن وصيته لا تجوز وقع ذلك من قوله في الجهاد من النوادر، فعلى قوله لا يرث ولا يورث، وقال غيره إن وصية جائزة وقد أوصى عمر حين طعن فجازت وصيته فقول ابن القاسم في هذا يأتي على قياس رواية أبي زيد فيمن أنفذ مقاتل رجل ثم أجهز عليه آخر إن الآخر يقتل به ويعاقب الأول.
فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال بالتفرقة بين أن يعتق العبد أو يسلم النصراني قبل أن تنفذ مقاتله أو بعد أن أنفذت مقاتله وبالله التوفيق.
[: حبس الرجل في القتل فعفي عنه بعد التثبت]
ومن كتاب لم يدرك وقال إذا حبس الرجل في القتل فعفي عنه بعد التثبت بالبينة أو بالقسامة جلد مائة واستقبل به حبس سنة من يوم يجلد ولا يحسب في السنة ما حبس قبل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الحبس الذي حبس قبل(15/496)
العفو حق للولي والحبس الذي بعد العفو حق لله فلا يدخل أحدهما في الآخر وبالله التوفيق.
[مسألة: الثور العقور إذا عرف بالعداء على الناس]
مسألة وقال في الثور العقور والجمل الضول والكلب العقور أو شيء من العجماء إذا عرف بالعداء على الناس أمر صاحبه بذبحه وتقدم إليه، فإن عقر أحدا بعد التقدم فهو ضامن له في ماله. قلت فلو كان الثور قد قتل رجلا بعد التقدم إلى سيده ولم يشهد على قتله إلا شاهد واحد هل يحلف ورثة الميت مع شاهدهم ويستحقون الدم؟ قال: نعم يحلفون يمينا واحدة كما يحلف في الحقوق، ويستحقون الدم مع شهادة شاهدهم، وقال لا يكون شيء مما عدوا به على الناس على العاقلة، وإنما ذلك في ماله خاصة وإن بلغ الدية كاملة.
قال محمد بن رشد: قوله إن عدا بعد التقدم إليه فهو ضامن يريد وإن كان التقدم إليه بالجيران دون السلطان، وهو مثل ما في المدونة خلاف ما في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب السلطان أنه لا يضمن إلا أن يتقدم إليه في ذلك بالسلطان، وقد قيل إنه ضامن وإن لم يتقدم إليه ولا أشهد عليه، قاله أشهب وسحنون في الحائط إذا بلغ مبلغا يجب عليه هدمه فتركه، وكذلك يلزم على قياس قولهما في الكلب العقور والجمل الصؤول أنه لا ضمان على صاحبهما بحال، وإن تقدم إليه، فهو قول رابع في المسألة، وقد مضى هذا في سماع يحيى وعبد الملك من كتاب السلطان.(15/497)
وقوله إنه لا يكون على العاقلة من ذلك شيء وإن كان المعقور حرا خلاف قول ابن وهب في سماع زونان من كتاب السلطان إن ذلك على العاقلة إن بلغ الثلث فصاعدا، وقول ابن القاسم أظهر أن لا يكون على العاقلة من ذلك شيء لأن العاقلة لا تحمل العمد وهذا فيه شبه من العمد؛ لأنه متعد في حبس هذا الحيوان المؤذي حيث لا يجوز له.
وقوله: إنه يستحق ذلك باليمين مع الشاهد الواحد كالحقوق صحيح على قوله في أنه لا يكون على العاقلة من ذلك شيء، ولا يحلف على قياس قوله مع قول العقور، وحكى ابن مزين عن أصبغ أن ذلك لا يثبت إلا بشهادة شاهدين وأنكر رواية عيسى هذه، ويأتي على قياس قول ابن وهب أن يستحق ذلك بما يستحق به دم الخطأ من القسامة وغير ذلك، روى عيسى عن ابن القاسم أنه إن قتل رجل الجمل الصؤول بعد التقدم إلى صاحبه فذكر أنه أراده وصال عليه فلا غرم عليه فيه، ويقبل قوله في ذلك، يريد مع يمينه بغير بينة إذا كان بموضع ليس يحضره الناس، وهذا على ما مضى تحصيل القول فيه في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع في الذي يدعي ضياع ما أؤتمن عليه مما لا يغاب عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوما أقسموا على رجل فقال أنا قتلته]
مسألة وسألته عن الرجل يقتل فيدعي دمه قبل رجل صالح فيصالح عليه ورثته على شيء يدفعه إليهم، ثم يقوم رجل فيقول أنا قتلته.
قال: إن شاء ولاة الدم تماسكوا بصلحهم وأمضوه وإن شاءوا قتل الذي أقر لهم وفسخ الصلح، قلت: وكيف يكون الصلح أبعد أن تثبت لهم القسامة؟ قال: وإن لم تثبت لهم القسامة إذا قال لهم المدعي عليه ما تصنعون بالبينة وطلبها؟ صالحوني فإذا صالحهم جاز الصلح فهم مخيرون في أن يمضوا الصلح وفي أن يقتلوا الذي أقر لهم.(15/498)
قلت بقسامة أو بغير قسامة؟ قال: بغير قسامة قلت: فلو أن قوما أقسموا على رجل، فقال أنا قتلته؟ قال: ما أخذت الأول إلا من هذا، هم مخيرون إن شاءوا قتلوا الذي أقسموا عليه، وإن شاءوا الذي أقر لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في أول سماع عيسى، إذ لا فرق بين أن يقر الرجل بقتل الرجل بعد أن صالحوا غيره، أو أقسموا عليه أو وجبت لهم القسامة عليه، فلا معنى لإعادة شيء منه.
[مسألة: أصاب الكلب العقور في الموضع الذي لا يجوز اتخاذه قبل التقدم إليه]
مسألة قال ابن القاسم: وما أصاب الكلب العقور في الموضع الذي لا يجوز اتخاذه قبل التقدم إليه فصاحبه ضامن.
قال محمد بن رشد: هذا بين أن الاختلاف الذي ذكرناه فيما تقدم في هذا الرسم إنما هو إذا اتخذه في الموضع الذي يجوز له فيه اتخاذه والله الموفق.
[: نصراني حر قتل عبدا مسلما عمدا]
ومن كتاب سلف دينارا وقال في نصراني حر قتل عبدا مسلما عمدا، قال فيه اختلاف، ورأى أن يقتل به، قال سحنون أرى عليه قيمته وهو سلعة من السلع.
قال محمد بن رشد: قوله وأرى أن يقتل به معناه إذا أراد سيد العبد المقتول أن يستفيد منه، وأما إن أراد أن يضمنه قيمة عبده ولا يقتله به فلا اختلاف في أن ذلك له، وإنما الاختلاف إذا أراد أن يقتله، فقيل: إن ذلك ليس له وهو الأظهر من جهة اتباع ظاهر ما في القرآن، وذلك أن الله تعالى قال(15/499)
في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فعم ولم يخص مسلما من كافر، والمعنى في قوله كتب عليكم القصاص أن كتب عليكم الحكم به، فوجب أن يحمل على عمومه في الكافر والمسلم، وقال عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] والولي المختص بالرجل هو العاصب والذي له الميراث والعبد لا عاصب له يرثه؛ لأن ميراثه لسيده الذي يملك رقبته وهو ماله، وقيل إن ذلك له، وهو الأظهر من جهة المعنى، وذلك أن القصاص إنما يكون في الموضع الذي تتكافأ فيه الدماء بالحرية والإسلام أو يكون دم المقتول أعظم حرمة من دم القاتل بحرية أو إسلام؛ لأنه إذا كان المسلم يقتل بالمسلم لتكافئ دمائهما بالحرية فالنصراني أحق أن يقتل به لنقصان مرتبته عن مرتبة المسلم، وإذا كان الحر يقتل بالحر لتكافئ دمائهما بالحرية، فالعبد أحرى أن يقتل به لنقصان مرتبته عن مرتبة الحر، فإذا قتل النصراني الحر العبد المسلم فللنصراني مزية على العبد بالحرية، وللعبد عليه مزية بالإسلام، وحرمة الإسلام أعظم من حرمة الحرية، فوجب أن يقتل به ويجعل الآية في قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] مخصوصة على المسلمين المخاطبين بها، بدليل قوله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 178] .
وقوله: في آخر الآية الأخرى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] يحتمل أن يدخل فيه السيد؛ لأنه أحق بعيده، وهو يرثه فيكون له بمنزلة العاصب للحر، وهذا القول أظهر وهو قول ابن القاسم أيضا بعد هذا في هذا الرسم، وقول أشهب في سماع عبد الملك والله أعلم.(15/500)
[مسألة: القصاص من حق أولياء المقتول]
مسألة وقال ابن القاسم إذا تساوق النصراني إلى حكم المسلمين في قتل وقع بينهم، فقال النصراني القاتل: ليس في ديننا قتل ولا قود.
قال: لا يقبل منه في ذلك لأنه من الفساد وعلى حكم المسلمين أن ينظر في ذلك، فإن شهد عنده على القتل شهيدا عدل من المسلمين مثل من شهد عليه قال عيسى: يسلم إلى أولياء النصراني فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا استحيوه، فإن عفوا رأيت الإمام أن يضربه مائة ويسجنه سنة.
قال محمد بن رشد: قول عيسى مفسر لقول ابن القاسم، لأن القصاص من حق أولياء المقتول، وضرب مائة وسجن سنة حق لله تعالى لا يجوز العفو عنه، والمسألة بينة صحيحة لا اختلاف فيها؛ لأن القتل العمد من التظالم الذي يجب على الإمام الحكم فيه بين أهل الذمة، وإنما اختلف فيما لم يكن من التظالم كالربا وشبهه من طلاقهم وحدودهم هل يجب على الإمام الحكم بينهم فيه إذا ارتفعوا إليه وحكموه، فقيل إن ذلك يجب عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقيل إن ذلك لا يجب عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وقد مضى الكلام في الاختلاف في تأويل الآيات في هذا واختلاف العلماء في الحكم في ذلك لاختلافهم في تأويلها مستوفى في رسم لم يدرك من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب فلا معنى لإعادته.(15/501)
[مسألة: إذا قتل اليهودي الحر أو النصراني عبدا مسلما]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا قتل اليهودي الحر أو النصراني عبدا مسلما قتلا به، وإن قتل العبد المسلم النصراني الحر أو اليهودي الحر لم يقتل به وخُيِّرَ صاحبه في أن يفتكه بديته أو يسلمه فيباع له، وقال غيره: لا يقتل واحد منهما؛ لأن العبد مال من الأموال ولكن يضرب ويغرم قيمة العبد.
قال محمد بن رشد: غير ابن القاسم هو قول سحنون الذي تقدم في أول الرسم، وقد مضى الكلام فوق هذا في قتل النصراني الحر العبد المسلم وتوجيه الاختلاف فيه فلا وجه لإعادته.
وأما إذا قتل العبد المسلم النصراني الحر فلا اختلاف في أنه لا يقتل به إذ لا تتكافأ دماؤهما؛ لأن حرمة الإسلام أعظم من حرمة الحرية، فهي جناية من العبد يخير سيده في إسلامه فيها فيباع له إذ لا يمكن النصراني من ملك العبد المسلم أو افتكاكه بها كما قال، وكذلك إذا جرحه يخير السيد في افتكاكه بالجناية أو إسلامه بها إلا أنه يختلف إن أسلمه بها فكان ثمنه أكثر من الجناية فقيل إنه يكون له ثمنه كله، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية، قال وكذلك قال مالك، وروى محمد بن صدقة عن مالك مثل ذلك، وقال مطرف وابن الماجشون في ثمانية أبي زيد إذا أبى سيده أن يفتديه بيع وأعطي النصراني من ثمنه دية جرحه فإن فضل فضلٌ فهو لسيده، قال أصبغ بن الفرج: وقد كان مالك يقول هذا في موطئه، ثم رجع عنه وقال يعطى ثمنه كله للنصراني، وهو أصوب القولين عندنا وبالله التوفيق.
[مسألة: المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ]
مسألة وسئل عن المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ.(15/502)
قال: إن كان قتله خطأ عتق في ماله ولم يعتق في ديته، وكانت الدية عليه دينا، وليس على عاقلته منها شيء لأنه إنما صنع ما صنع وهو مملوك قال أصبغ، وهذا إذا حمله الثلث، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه مبلغ الثلث، وكان عليه من الدية بقدر ما عتق منه، ويؤخذ من ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال ولا يدخل فيما يؤخذ منه من الدية ولا يعتق فيها منه شيء، قال عيسى: قال ابن القاسم: وإن كان قتله عمدا قتل به، فإن كان استحياه الورثة بطل تدبيره وكان عبدا مملوكا قلت لسحنون: فلو فعلت ذلك أم الولد لسيدها خطأ؟ قال: تعتق في ماله، وتكون الدية عليه دينا تتبع به في ذمتها، ولا يكون على عاقلتها منها شيء، وإن كانت قتلته عمدا قتلت به إلا أن يستحييها الورثة على أمر يصطلحون به.
قال محمد بن رشد: أما مسألة المدبر يقتل سيده عمدا أو خطأ فكما قال: لا اختلاف فيه، وقول أصبغ تفسير له، وقد مضت المسألة في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب المدبر.
وأما قول سحنون في أم الولد تقتل سيدها خطأ إنها تعتق في رأس ماله، وتكون الدية عليها دينا تتبع به في ذمتها، ولا يكون على عاقلتها منه شيء ففيه اختلاف، حكى ابن حبيب عن أصبغ عن ابن القاسم أنها تعتق، ولا تتبع هي ولا عاقلتها بشيء بخلاف المدبر، وقال أصبغ من رأيه: إنها تتبع مثل قول سحنون، فغلب ابن القاسم في حقها حكم الحرية فلم يلزمها الدية لأن ما جنى الحر خطأ فهو على العاقلة لا عليه، ولم يوجب على عاقلتها شيئا إذ لا تحمل العاقلة إلا جناية من قد بتلت حريته، ويلزم على قياس قوله أن يلزمها من الدية ما يجب عليها منها مع العاقلة، وأما أصبغ وسحنون فغلبا في أمرها حكم الرق على حكم الحرية لأن أحكامها أحكام أمة حتى يموت سيدها، والجناية منها عليه متقدمة على موته منها، فأشبهت عندهما المدبر يجني على(15/503)
سيده ثم يعتق في الثلث أن الورثة يتبعونه بما بقي عليه من جنايته بعد خدمته ولا يشتبهان؛ لأن أم الولد لا تتبع بما جنت على سيدها، وقد قال غير ابن القاسم في المدونة: إن المدبر لا يختدمه سيده بالجناية ولا يتبع بعد عتقه بها، فكيف بأم الولد.
واختلف أيضا في المكاتب يقتل سيده فيستحيى، فقال ابن القاسم إنه لا يتبع إلا بالكتابة، وقال عبد الملك جنايته على سيده كجنايته على أجنبي إما ودي الدية معجلة وإلا عجز.
وأما جناية المعتق إلى أجل ثم يخرج حرا ويتبع بما بقي، وقال عبد الملك: يتبع بجميع الدية ولا يحتسب على الورثة بخدمته وبالله التوفيق.
[: إذا وقع الذباب على الدابة فنفخت إنسانا]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وقال ابن القاسم إذا وقع الذباب على الدابة فنفخت إنسانا لم يكن على راكبها شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مثل ما في المدونة وغيرها، لأن ما لم يكن له فيه سبب فهو هدر لأن جرح العجماء جبار بالسنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.(15/504)
[مسألة: أصاب رجلا بجراح فأراد أن يصالحه في الجراحات بشيء]
مسألة وسئل عن رجل أصاب رجلا بجراح فأراد أن يصالحه في الجراحات بشيء يعطيه عن الجراح والموت إن كان.
فقال لا يصلح الصلح على وضع الموت، ولكنه يصالحه على شيء معلوم ولا يدفع إليه شيئا فإن برئ كان له ما صولح عليه، وإن مات كانت فيه القسامة والدية إن كان خطأ بعد أن يقسموا أو القتل إن كان عمدا.
قال محمد بن رشد: لم يجز ابن القاسم في هذه الرواية الصلح في جراحات العمد، والخطأ عليها وعلى ما تراقت إليه من موت أو غيره جملة من غير تفصيل.
وفي ذلك تفصيل.
أما جرح الخطأ فيما دون الثلث كالموضحة وشبهها فلا اختلاف في أن الصلح فيها على ما تراقت إليه من موت وغيره لا يجوز، لأنه إن مات كانت الدية على العاقلة فهو لا يدري يوم صالح ما يجب عليه مما لا يجب، فإن وقع الصلح على ذلك فسخ متى ما عثر عليه، فإن برئ كانت عليه دية للموضحة، وإن مات كانت الدية فيه على العاقلة بقسامة.
وأما جرح الخطأ فيما فوق الثلث فيتخرج جواز الصلح فيه على ما يتراقى إليه من موت أو غيره على قولين أحدهما أن ذلك لا يجوز، وهو قوله في هذه الرواية وظاهر ما حكى ابن حبيب في الواضحة إذ لم يفرق في جرح الخطأ بين أن يكون أقل من الثلث أو أكثر منه، والثاني أن ذلك جائز إذ لا غرر فيه؛ لأن دية الجراح إنما تجب على العاقلة كما يجب عليه دية النفس، فكأنه إنما صالح عن العاقلة.(15/505)
وأما جرح العمد فيما فيه القصاص فالمصالحة فيه على وضع الموت جائزة على ظاهر ما في الصلح من المدونة، وما نص عليه ابن حبيب في الواضحة خلاف قوله في هذه الرواية، والجواز فيها أظهر لأنه إذا كان للمقتول أن يعفو عن دمه قبل موته جاز أن يصالح عنه بما شاء.
وأما جرح العمد الذي لا قصاص فيه فلا يجوز الصلح فيه على وضع الموت، حكى ذلك ابن حبيب في الواضحة ولا أعرف فيه نص خلاف.
وأما الصلح فيه على الجرح دون وضع الموت فأجازه ابن حبيب فيما له دية مسماة كالمأمومة والمنقلة والجائفة، قال في موضع واحد: إن الصلح فيه جائز على ما تراقى إليه مما دون النفس، وقال في موضع آخر لا يجوز إلا فيه بعينه على ما تراقى إليه من زيادة ولم يجزه فيما لا دية له مسماة إلا بعد البرء، فهذا تحصيل الاختلاف في هذه المسألة.
واختلف إذا صالحه على الجرح الخطأ أو العمد خاصة فنزي في جرحه فمات على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أولياء المجروح بالخيار بين أن يتمسكوا بصلحهم وبين أن يردوا ما وقع به الصلح فيقسموا ويقتلوا في العمد ويأخذوا الدية في الخطأ من العاقلة، وهو قول أصبغ في الواضحة.
والثاني: أنه ليس لهم أن يتمسكوا بالصلح لا في العمد ولا في الخطأ إلا برضى القاتل، لأن من حقه أن يقول في العمد قد عادت الجناية فليس لكم أن تتمسكوا بالصلح، لأنه إنما لهم القسامة والقود، هو قول أشهب على أصله في أن من قطعت يده فنزي فيها فمات أن أولياء القتيل إنما لهم أن يقسموا ويقتلوا، وليس لهم القود في الجرح إن أبوا من القسامة، لأن الدم آل إلى النفس كما أن من حقه أن يقول في الخطأ قد عادت الجناية إلى النفس، ووجبت الدية على العاقلة بقسامتكم فردوا عليَّ مالي.
والثالث: الفرق بين العمد والخطأ وهو مذهب ابن القاسم وظاهر قوله في المدونة وفي رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا فيخير ورثة المقتول في العمد بين أن يتمسكوا بالصلح وبين أن يردوه ويقسموا(15/506)
فيقتلوا على أصله في أن من قطعت يده فنزي فيها فمات أن الورثة بالخيار بين أن يقسموا ويقتلوا وبين أن يقطعوا يده ولا يقسموا ولا يخيروا في الخطأ، فيردون على الجارح ما أخذ منه في الصلح ويقسمون فيستحقون الدية على العاقلة، وبالله التوفيق.
[: قتل عمدا وله مائة دينار وعليه مائة دينار وقد أوصى بوصايا]
وفي كتاب جاع فباع امرأته قلت: فلو قتل عمدا وله مائة دينار وعليه مائة دينار، وقد أوصى بوصايا فعفا عن القاتل فأخذت الدية.
قال: يقضي المائة الدين من المائة التي علم، وتكون الدية خالصة لورثة المقتول وتسقط الوصايا.
قلت: فلو كان ترك مائة دينار وخمسة وأربعين دينارا وعليه مائة دينار دين وأوصى بوصايا ثم طرأ له مال بعد الموت؟ قال يقضي المائة من هذا المال الذي علم به، وينظر إلى ما فضل وذلك خمسة وأربعون دينارا فتكون لأهل الوصايا خمسة عشر دينارا يتحاصون فيها على قدر وصاياهم، إلا أن يكون في الوصية عتق فيبدأ به في الخمسة عشر دينارا على أهل الوصايا، ويكون لورثة الميت ثلاثون دينارا، ويكون المال الطارئ لأهل ميراثه لا يدخل فيها شيء من وصاياه إلا أن يكون تدبيرا فإن كان مدبر ووصايا فإن المدبر يعتق بعد إخراج الدين فيما علم وفيما لم يعلم.
وتفسير ذلك أنه لا ينظر في ثلث هذا المال الذي علم به بعد إخراج الدين منه، فإن كان ثلثه مائة دينار وثلث المال الطارئ مائتان قسمت قيمة المدبر على الثلث والثلثين فعتق ثلثاه في ثلث الطارئ(15/507)
وثلثه في ثلث المال الذي علم به، فإن فضل من ثلث المال الذي علم به بعد عتق ثلث المدبر فيه شيء كان ما فضل لأهل الوصايا، وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم، وإن أحاط الذين بجميع المال الذي علم به سقطت الوصايا، ورجع المدبر فعتق به في ثلث المال الطارئ أو ما حمل منه الثلث.
قال ولو كان الدين أكثر من المال الذي علم به الميت قضى صاحب الدين المال الذي علم به الميت، ورجع فتقاضى بقية حقه من المال الطارئ، ثم كان المدبر في ثلث ما بقي من المال الطارئ وسقطت الوصايا.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه الرواية بين تدبير الصحة والمرض، وقال إنه يدخل فيما علم الميت من المال، وفيما لم يعلم بظاهر قوله: إن المدبر في المرض يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال، وهو نص قوله في رسم المدبر من سماع أصبغ من كتاب المدبر، ونص قوله أيضا في المدنية من رواية عيسى عنه خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال إلا المدبر في الصحة.
واختلف في المبتل في المرض هل يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال أم لا؟ فالمنصوص عليه لابن القاسم في رسم المدبر من سماع أصبغ من كتاب المدبر أنه لا يدخل فيما لم يعلم به من المال بخلاف المدبر في المرض، وقد مضى هناك الكلام إذا اجتمعا جميعا على هذا القول وللميت مال قد علم به ومال لم يعلم به، فلا معنى لإعادته.
وسائر ما ذكره في هذه الرواية من أن الوصايا لا تدخل فيما يطرأ(15/508)
للميت من مال لم يعلم به صحيح لا اختلاف فيه.
وما ذكره من أنه إذا كان على الميت من الدين مثل ما ترك من المال وطرأ له مال لم يعلم به أن الدين يخرج من المال الذي علم به، ولا يكون لأهل الوصايا شيء من المال الذي لم يعلم به، بين لا إشكال فيه والحمد لله.
[مسألة: قتل عبدا وله وليان وترك مائة دينار وعليه مائة دينار دينا]
مسألة قلت: فلو أن رجلا قتل عبدا وله وليان وترك مائة دينار وعليه مائة دينار دينا، فعفا أحد الوليين عن الدم والدية وأخذ الذي لم يعف منها من الدية خمسمائة دينار؟
قال: تفض المائة الدين على المائة التي مات عنها الميت وعلى الخمسمائة التي أخذت من الدية، فيصيب كل مائة من الدين ما أصابها عنده، ثم يرجع الذي لم يعف فيقاسم صاحبه ما بقي من المائة التي مات عنها الميت بعد إخراج سدس المائة الدين منها.
وتفسير ذلك أن حسابها يقوم من اثني عشر سهما، ألا ترى لو أن الميت لم يكن عليه دين، وقد مات عن مائة دينار لكان لهذا الخمسمائة دينار من الدية خالصا، وكان له نصف المائة التي مات عنها، فصار له إذا ضمت الخمسمائة إلى المائة، ثم قسمت صار للذي لم يعف أحد عشر جزءا من اثني عشر جزءا، وللذي عفا جزء من اثني عشر جزءا، وذلك خمسون دينارا، فأحببنا أن نفرق بهذا ما يرجع به هذا الذي عفا على الذي كان لم يعف في الخمسمائة التي أخذ من الدية إذا قضيت هذه المائة الدينار التي مات عنها هذا(15/509)
الغريم، فقلنا تقسم الخمسمائة على اثني عشر جزءا، فيكون للذي لم يعف أحد عشر جزءا، ويصير للذي عفا جزء، فيصير له في الجزء من الخمسمائة دينار من الاثني عشر جزءا أحد وأربعون دينارا وثلثا دينار.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: فيصير له في الجزء من الخمسمائة دينار من الاثني عشر جزءا تقديم وتأخير يحصل منه بعض إشكال، وصوابه فيصير له من الخمسمائة في الجزء من الاثني عشر. وهي مسألة صحيحة مثل التي تقدمت في آخر أول رسم من هذا السماع، ومضى بيانها هناك على ما نزلها فيه من الدين كان خمسمائة، والذي ترك الميت من الناض خمسمائة، وهذه ذكر فيها أن الدين مائة، والذي ترك الميت من الناض مائة، فهي على قياس تلك سواء، لأن الواجب فيها أن يكون على كل واحد منهما من المائة الدين بقدر ما يجب له من المال، والذي يجب للذي عفا من الابنين خمسون دينارا لا أكثر نصف المائة الناضة التي ترك المتوفى، ويجب للذي لم يعف خمسمائة، وخمسون نصف المائة الناضة التي تركها المتوفى، والخمسمائة التي صارت له من الدية إذا لم يعف كما عفا أخوه، فيجب على الذي عفا من الدين بقدر ما صار له من المال، وذلك نصف سدسه: ثمانية وثلث، يبقى له من الخمسين أحد وأربعون وثلثان؛ ويجب على الذي لم يعف من الدين بقدر ما صار له أيضا من المال، وذلك خمسة أسداسه ونصف سدسه: أحد وتسعون وثلثان، يبقى له من الخمسمائة وخمسين أربعمائة وثمانية وخمسون وثلث، فإن قبض صاحب الدين المائة الناضة في دينه وبقيت بين الابن الذي لم يعف الخمسمائة التي صارت له من الدية، رجع عليه الذي عفا بالواجب له من الخمسمائة إذ قد أخذ صاحب الدين المائة الناضة، وذلك أحد وأربعون وثلثان كما قال في الرواية، ويبقى للأخ الآخر من الخمسمائة أربعمائة وثمانية وخمسون وثلث، وبالله التوفيق.(15/510)
[مسألة: الدين يخرج من رأس المال والمدبر لا يخرج إلا من الثلث]
مسألة قلت: فلو قتل وله وليان وله مدبر، فعفا أحد الوليين عن الدم والدية، وأخذ الآخر الدية خمسمائة دينار، ولم يترك إلا المدبر وحده.
قال: (كذا) مخالف للدين، لأن الدين يخرج من رأس المال، والمدبر لا يخرج إلا من الثلث. ويقال للذي عفا كم كان يكون لك من هذا المدبر لو لم يكن دية ولا غيره ولم يترك مالا سواه؟ قلنا له: ثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار، لأن قيمة المدبر مائة دينار، قلنا: فالمدبر سيتم عتقه في الخمسمائة دينار، فيعتق المدبر ويرجع هذا على صاحبه الذي لم يعف وأخذ الخمسمائة دينار بثلاثة وثلاثين وثلث دينار، ولا يكون سبيله هاهنا سبيل الذي مر كما قال من قال بفض قيمة المدبر على الخمسمائة دينار، وهذا خطأ، لا يكون الذي عفا أحسن حالا إذا لم يعف صاحبه وأخذ الدية منه لو قتلاه جميعا، ولم يأخذا دية، ألا ترى أنهما لو قتلاه لم يكن له إلا ثلاثة وثلاثون وثلث، ولصاحبه ثلاثة وثلاثون وثلث، ويعتق منه ثلاثة وثلاثون وثلث؟ فهذا أبين من ذلك، وهو الصواب - إن شاء الله -.
وهذا كله إذا كان القتل عمدا، لأن العمد لم يعف الذي عفا عن مال وإنما عفا عن دم، فلذلك جاز عفوه ولم يضمن الدين.
وأما إذا كان خطأ فليس لأحد عفو حتى يخرج الدين ويخرج ثلث ما(15/511)
بقي بعد الدين للمدبرين ولأهل الوصايا وإن أحاطت وصاياهم بذلك أو بما أحاطت منه، ويكون ما بقي ميراثا لورثته يجوز عفوهم وقضاؤهم فيه، وأما إذا كان القتل عمدا فعفوا عن جميع الدم والدية فليس لأهل الدين ولا للمدبرين ولا لأهل الوصايا قليل ولا كثير، لأنهم إنما عفوا عن دم ولم يعفوا عن مال.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: هذا مخالف للدين؛ لأن الدين يخرج من رأس المال والمدبر لا يخرج إلا من الثلث، صحيح في أنهما يفترقان في أن أحدهما من الثلث والآخر من رأس المال، إلا أنهما وإن افترقا في هذا فهما يجتمعان في أنهما جميعا مفضوضان على ما علم به الميت من المال وعلى ما لم يعلم به مما أخذه أحد الوليين من الدية، فالقياس في المدبر أن يكون سبيله سبيل الدين، كما قاله بعض من قاله، فيفض قيمة المدبر على الخمسمائة دينار يريد وعلى قيمته، فإن كانت قيمته في التمثيل مائة عتق منه سدسه في قيمته وخمسة أسداسه في الخمسمائة، فيرجع الذي عفا على الذي لم يعف وأخذ الخمسمائة بخمسة أسداس قيمة المدبر، ولا يمتنع أن يكون الذي عفا في هذا أحسن حالا إذا لم يعف صاحبه وأخذ الدية منه أو قتلاه جميعا، ولم يأخذا دية ولو عفيا جميعا ولم يأخذ واحد منهما دية كما لم يمتنع أن يكون في الدين أحسن حالا إذا أخذ أحدهما دية منه إذا قتلا جميعا، ولم يأخذا دية ألا ترى أنه لو ترك مائة وعليه دين مائة إن قتلاه جميعا لم يحصل له من المائة شيء؛ لأن الدين يكون أولى بها وأن أخذ أحدهما دية كان الدين مفضوضا على المالين فيحصل له نصف ما بقي منهما بعد ما نابهما من الدين، فقول المخالف هذا القياس، وقول ابن القاسم استحسان.
وقوله: وهذا كله إذا كان القتل عمدا إلى آخر المسألة صحيح بين لا إشكال فيه ولا موضع للقول، لأن الدية في الخطأ واجبة.(15/512)
فعفو المقتول خطأ عن دمه وصية منه بالدية يكون في ثلثه، وعفو من عفا من الورثة هبة لما وجب له منها بالميراث، وكذلك إن عفوا كلهم فلا يصح عفوهم إلا بعد أداء الدين وتنفيذ الوصايا.
وأما دية العمد فليست بواجبة فعفو الميت عن دمه جائز، وكذلك عفو الأولياء وعفو من عفا منهم.
فإن أوصى الميت بقبول الدية ورثت عنه على سبيل الميراث وأخرجت منها الديون وجرت فيها الوصايا، وإن عفا الأولياء فيها أو أحدهم على حظه منها دون من سواه كان حكمها أو حكم ما أخذ منها حكم مال طرأ للميت تؤدي منه الديون، ولا يدخل فيها من الوصايا إلا المدبر حسبما تقدم في المسألة التي قبل هذه وبالله التوفيق.
[: الأب والبنات إذا اجتمعوا في دم العمد]
ومن كتاب الجواب وسألته عن الأب والبنات إذا اجتمعوا في دم العمد فكان ما تقدم في المسألة التي قبل هذه بقسامة أو بينة من أولى بأخذ القود أو بالعفو؟ عن الجدود والأخوات على مثل ذلك؟
قال ابن القاسم: قال مالك: إذا اجتمع البنون والبنات في دم العمد وإن كان ببينة فلا كلام مع البنين فيه في عفو ولا قيام بالدم، والبنون أولى بذلك كله، وكذلك الإخوة والأخوات سواء يجرون إذا اجتمعوا مجرى البنين والبنات في ذلك كله لا اعتراض للأخوات مع الأخوة إذا كانوا كلهم في القعدد سواء في عفو ولا قيام، قال ابن القاسم: وإذا اجتمع الأب والبنات فلا عفو للبنات إلا به، ولا له إلا بهن، وأي الفريقين قام بالدم فهو أولى به الأب كان أو البنات، وإن كان الأب والأم فقط فلا حق للأم معه ولا كلام في عفو(15/513)
ولا قيام، والأب هو أولى، وإذا كان الأب والإخوة والأخوات فعلى مثل ذلك أيضا لا اعتراض لهم معه بوجه من الوجوه في عفو ولا قيام والأب هو أولى، وإذا كان الأب والولد الذكور فلا حق للأب معهم في عفو ولا قيام بوجه من الوجوه، وهم أولى، والجد مع الإخوة يجري مجرى أخ إن عفا جاز عفوه عليهم والجد مع الأخوات أخ لا كلام لهن معه في عفو ولا قيام، وهو أولى بالعفو والقيام، قال عيسى: يعني إذا عفا الجد أنه لا سبيل للأخوة إلى الدم غير أن لهم نصيبهم من الدية، قال: والجد والبنات بمنزلة الأب والبنات لا عفو لهن إلا به ولا له إلا بهن ومن قام بالدم فهو أولى، والجد والولد الذكور لا كلام له معهم في ذلك بوجه من الوجوه ولا عفو ولا قيام، وهم أولى بذلك منه، والأم والإخوة لا عفو لها إلا بهم ولا لهم إلا بها، وأيهم قام بالدم فهو أولى الأم أو الأخوة والأم والأخوات والعصبة إن اجتمعت الأم والعصبة على العفو جاز ذلك، وإن كره ذلك الأخوات، وإن اجتمع الأخوات والعصبة على العفو وأبت الأم فالأم أولى بالقتل، وتقتل ولا ينظر إلى عفو الأخوات إذا أبت الأم لأن الأم أقعد من الأخوات وأقرب، وإنما الدم للأقعد فالأقعد والبنات والأم والعصبة إن عفا البنات والعصبة جاز على الأم وإن كرهت، وإن عفت الأم والعصبة لم يجز إلا بالبنات، ولا تجري الأم هنا مجرى ابنة عفت؛ لأن البنات أقعد وأقرب من الأم، وإن عفت واحدة من البنات وواحد من العصبة جاز على من بقي وسقط القتل، والبنات والأخوات إذا اجتمعن فلا كلام للعصبة معهن ولا حق في قيام ولا عفو لأنهن قد أحرزن الميراث كله، وذلك إذا كان القتل ببينة، فأما إن كان بقسامة فلا حق للنساء فيه بوجه من الوجوه ولا كلام لأنهن لا يحلفن فيه، وإنما العصبة هي(15/514)
التي تستحقه بأيمانها، والجدة لا تجري مجرى الأم في شيء من الأشياء مما يكون لها في عفو ولا قيام لا جدة الأم ولا جدة الأب.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في هذه المسائل كلها أن ترتيب الولاة في القيام بالدم كترتيبهم في ميراث الولاء وفي الصلاة على الجنائز وفي النكاح لا يشد عن ذلك على مذهب ابن القاسم إلا قوله في الجد مع الإخوة إنه بمنزلتهم في العفو عن الدم والقيام به.
فأحق الناس بالقيام بدم الرجل ولده ثم ولد ولده، ثم أبوه ثم ولد الأب وهو الأخ، ثم ولذ الأخ ثم الجد ثم ولد الجد وهو العم، ثم ولده هكذا أبدا، فلا حق في القيام بالدم لأب مع الولد ولا مع ولده لولد الولد مع الولد ولا للأخ مع الأب ولا لولد الأخ مع الأخ، ولا للعم مع الجد ولا لولد العم مع العم.
فإذا اجتمع الأولياء في درجة واحدة بنون أو إخوة أو بنو أخوة أو أعمام أو بنو أعمام فعفا أحدهم ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها - أن عفو من عفا منهم يبطل الدم والدية كان عفوه قبل القسامة أو بعدها.
والثاني - أن عفوه يبطل الدم ولا يبطل الدية كان العفو أيضا قبل القسامة أو بعدها.
والثالث - أنه إن كان قبل القسامة أبطل الدم والدية، وإن كان بعد القسامة أبطل الدم، وكان لمن بقي حظه من الدية حسبما مضى بيانه في آخر أول رسم من سماع أشهب.
وأما النساء فلا حق لمن لا ميراث لها منهن في القيام بالدم كالعمات وبنات الإخوة وبنات الأعمام ومن أشبههن من القرابات ولا لمن يرث منهن ممن لو كان في مرتبتها رجل لم يرث بالتعصيب، وهن الأخوات لأم ولا لمن يرث منهن، ولو كان رجل في مرتبتهما ورث في حال دون حال، وهن الزوجات والجدات لأنهن لا يرثن إن كن من قوم المتوفى، وكذلك الأم عند ابن الماجشون وسحنون، لأنها قد تكون من قوم آخرين خلاف مذهب ابن القاسم في أن لها حقا في الدم لكونها بمنزلة الأب في القرب.
وأما ما يرث منهن لو كان في مرتبتها رجل ورث مثل البنات والأخوات(15/515)
والأمهات فلهن في القيام بالدم حق، ولا يخلو أمرهن من ثلاثة أحوال:
أحدها - أن يكن مع من هو بمنزلتهن من الرجال كالبنات مع البنين، والأخوات مع الإخوة أو الأب مع الأم أو مع من هو أقرب منهن كالأخوات مع البنين.
والثانية - أن يكون مع من هو أبعد منهن إلا أنه وارث معهن كالبنات مع الأب والأم مع الإخوة.
والثالثة - أن يكون أيضا مع من هو أبعد منهن إلا أنه لا ميراث له معهن كالبنات والأخوات مع العصبة.
فأما إذا كن مع من هو بمنزلتهن أو أقرب منهن كالبنات مع البنين أو الأخوات مع الإخوة أو مع البنين فلا حق لهن مع الرجال في عفو ولا قود، والرجال أحق منهن بالقيام بالدم والعفو عنه.
وأما إذا كن مع من هو أبعد منهن إلا أنه وارث معهن كالأم مع الإخوة، والبنات مع العصبة فمن قام بالدم منهن كان أولى ممن عفا، إن عفت الأم فالإخوة أحق بالقود، وإن عفا الإخوة فالأم أحق بالقود، وإن عفا البنات فالعصبة أحق، وإن عفا العصبة فالبنات أحق بالقود إلا أن يكون بعض النساء أقرب من بعض كالأم أو البنت مع الأخوات والعصبة أو كالبنت مع الأم والعصبة، فيكون للأقرب منهن العفو إذا اجتمعت على ذلك مع العصبة.
وأما إن كن مع أبعد منهن إلا أنه لا ميراث له معهن كالأخوات والبنات مع العصبة، فإن اجتمعت البنات والأخوات على القتل أو العفو فهن أولى بذلك من العصبة لانفرادهن بالميراث دونها، فإن افترقن فأراد بعضهن القتل وبعضهن العفو رجع الأمر إلى العصبة فيما أرادوه من قتل أو عفو هذا كله سواء على مذهب ابن القاسم في المدونة ثبت الدم ببينة أو بقسامة وفي ذلك ثلاثة أقوال - قد مضى تحصيلها في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم.
أحدها - قوله في هذه الرواية إن الدم إذا استحق بقسامة فلا حق للنساء في ذلك مع العصبة في عفو ولا قيام، لأنها هي التي استحقته بأيمانها، واختلف في الجد مع الأخوة، فذهب ابن القاسم إلى أنه بمنزلة أخ عفا منهم جاز عفوه على من(15/516)
بقي، وأنه أحق من بينهم قياسا على الميراث، وذهب أشهب إلى أن الإخوة وبنيهم أحق من الجد وهو الأظهر، لأن ترتيب الولاة في الدماء إنما هو على حسب ترتيبهم في ميراث الولاء لا في ميراث المال ولا مدخل للزوج في ذلك بسبب الميراث بإجماع.
وأما قول ابن القاسم في هذه الرواية إن الجدة لا تجري مجرى الأم في شيء من الأشياء، مما يكون لها في عفو ولا قيام لا جدة الأب ولا جدة الأم فهو على ما قسمناه من أنه لا حق في الدم لأحد من النساء إلا لمن يرث منهن ممن لو كان في مرتبتها رجل وارث، وابن الماجشون وسحنون يقولان إن الأم كالجدة لا حق لها في الدم مع العصبة لأنها من قوم آخرين وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول الرجل من إحدى الطائفتين أنا قتلته من غير طائفته]
مسألة وسألته عن الطائفتين يقتتلون فيفترقون على قتلى وجرحى فيقول الرجل من إحدى الطائفتين أنا قتلته من غير طائفته ما الأمر في ذلك؟
قال ابن القاسم ولاة المقتول مخيرون إن شاءوا قتلوه بإقراره، وإن شاءوا تركوه وألزموهم الدية، لأنه يتهم بإقراره في طرح الدية التي قد وجبت عليه وعلى طائفته وأصحابه.
قال محمد بن رشد: الجواب في هذه المسألة بين صحيح، والتعليل ضعيف إذ لو اتهم في إقراره لما ألزمه وهو له لازم على كل حال إن شاء ولاة المقتول أن يأخذوه به ويقتلوه كان ذلك لهم على ما قال، وإنما هو مقر على نفسه وشاهد بالبراءة لغيره فيلزمه إقراره على نفسه ولا تجوز شهادته بالبراءة للطائفة التي نازعت المقتول من قبله لأنه ليس بشاهد على فعل، وإنما هو شاهد على نفي فعل والشهادة بالنفي ليست بعامله.(15/517)
[مسألة: لا قسامة فيمن قتل بين الصفين]
مسألة وإن افترقوا عن قتيل وزعم المقتول أن دمه قبل رجل من الطائفة التي نازعوه ونازعوا أصحابه، وأنه هو الذي ضربه أو قتله أو يشهد لهم بذلك شاهد واحد عدل كانت فيه القسامة مع شهادة الشاهد ومع قول المقتول أيهما كان، وإنما تفسير قول مالك لا قسامة فيمن قتل بين الصفين، إنما ذلك إذا لم يكن بكلام من المقتول، ولا بشهادة شاهد، وكان بدعوى من ولاة المقتول بأن يقولوا فلان قتله لرجل من غير طائفته، أو يقولوا إنما جاء قتله من قبل هذه الطائفة التي قاتلوه، لأنه يعلم أنهم الذين قاتلوه وقاتلوا أصحابه، فلم يمحضهم قتله فنحن نريد أن نقسم ونقتل واحدا منهم فليس لهم ذلك، ولا قسامة فيمن قتل بين الصفين إلا بكلام من المقتول إن سمى من قتله أو يقوم شاهد عدل على من قتله منهم، قال سحنون: قال: لي ابن القاسم فيمن قتل بين الصفين فشهد على قتله رجل واحد أو على إقراره فلا قسامة فيه.
قال سحنون وسألت ابن القاسم عمن يوجد قتيلا بين الصفين، قال مالك لا قسامة فيه وديته على الذين نازعوهم، قيل له: على عواقلهم أو في أموالهم؟ قال بل في أموالهم، قيل له: فإن عرف من قتله منهم أيقتل به؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: القتيل الذي وجد بين الصفين إنما كانوا قوما يقاتلون على تأويل]
مسألة قيل له فإن كان القتيل الذي وجد بين الصفين إنما كانوا قوما(15/518)
يقاتلون على تأويل؟ قال: فليس على الذين قتلوه قتل وإن عرفوا، قيل له فديته هل عليهم منها شيء؟ قال: لما سقط القتل عنهم سقطت الدية عنهم، وليس أهل التأويل كغيرهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الأثر من كتاب الجهاد من المدونة من قول ابن شهاب: هاجت الفتنة الأولى فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فكانوا يرون أن يهدر أمن الفتنة فلا يقام على أحد قصاص ولأحد في سبي امرأة مست ولا يرى بينها وبين زوجها ملاعنة يريد إن نفى ولدها ولا يرى أن يقفوها أحد إلا جلد الحد، ومثله روى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه لا يقتل به ولا يقاد منه، ومن أهل العلم من يرى أنه يقاد به ويقتص منه، وهو قول أصبغ ومذهب عطاء، وهذا الاختلاف في القصاص منه سواء تاب أو أخذ قبل أن يتوب، ولا يقام عليه حد الحرابة وإن أخذ قبل أن يتوب ولا يؤخذ ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه، وأما من أوسر منهم في الحرب وهي قائمة لم يظهر بعد على أهل رأيه فللإمام أن يقتله إن رأى ذلك، لما يخاف من أن يعين مع أصحابه على المسلمين.
وإن كان ذلك بعد انقطاع الحرب والظهور على أهل رأيه فإنه لا يقتل، وحكمه حكم البدعي في جماعة المسلمين، الذي لا يدعوا إلى بدعته يستتاب في قول مالك، فإن تاب، وإلا قتل وهو قول مطرف وابن عبد الحكم وأصبغ، وقال ابن الماجشون وسحنون ينهي عن بدعته ويؤدب عليها ويستتاب ويقبل منه ما أظهر من قليل التوبة وكثيرها، ولا يقتل وهو قول عطاء وبالله التوفيق.(15/519)
[: يطلب الرجل بالسيف فيعثر المطلوب قبل أن يضربه فيموت]
ومن كتاب باع شاة وسألته عن الرجل يطلب الرجل بالسيف فيعثر المطلوب قبل أن يضربه فيموت قال: أرى أن يقتل به، وقال أبو حمزة عن المخزومي مثله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وهو بين لا أعرف فيه نص خلاف في المذهب، ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى لأنه من شبه العمد الذي اختلف في وجوب القصاص منه على ما مضى في أول سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: رمي بحجرعمدا فيتقيه المرمى فيرجع الحجر فيصيب آخر فيقتله]
مسألة وسألته عن الرجل يرمي بحجر عمدا فيتقيه المرمى فيرجع الحجر فيصيب آخر فيقتله.
قال: إن كان إنما اتقى عن نفسه من غير أن يرد الحجر بشيء فعقله على الرامي، وإن كان دفع الحجر عن نفسه بشيء فرده حتى أوقعه على غيره فديته على المرمي وليس على الرامي شيء.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المجموعة من رواية علي بن زياد عن مالك، قال فيمن رمى رجلا بحجر فاتقاها بيده فرجع الحجر فأصاب رجلا فعلى الذي رده العقل، وهو من الخطأ، وقال أصبغ في الواضحة: بل ذلك على الرامي دون المرمي وأن دفع الرمية، إذ لا يتقي الرمية إلا بدفعها، وكما لو طلبه بسيف فهرب منه فوقع على صبي فقتله أو على شيء فكسره، فذلك على طالبه وهو من الخطأ إلا أن يعثر المطلوب نفسه فيموت فيكون فيه القود، وكذلك دافع الحجر عن نفسه بشيء بيده أو رجع الحجر عنه لشأنه(15/520)
فأصاب رجلا غير المرمى فذلك من الخطأ وهو على الرامي فإن أصاب المرمي فهو من العمد إلا أن يكون الحجر قد كان قد مغره وانكسر حده قبل أن يرده فيكون على المرمى، وكذلك لا اختلاف أيضا إذا اتقى الحجر، ولم يرده أنه على الرامي، وإنما الاختلاف إذا دفعه من نفسه في اتقائه إياه وكيف ما كان فهو من الخطأ إلا أن يكون المرمي هو الذي مات فهو من العمد وبالله التوفيق.
[: حلفتا خمسين يمينا فأخذتا ثلثي الدية ثم نزعت إحداهما]
ومن كتاب العلق وسألته عن امرأة أقسمت خميس يمينا في قتل خطأ فأخذت قدر حصتها من الميراث ثم أنها نزعت وندمت وردت ما أخذت على الذي أقسمت عليه ثم أتت أخت لها فقالت: أنا أقسم بقدر نصيبي من الميراث.
قال: أرى أن تحلف بقدر مالها من الميراث، لأن يمين الأولى حكم قد مضى لا ينقضه نزعها، ألا ترى لو أنهما حلفتا خمسين يمينا فأخذتا ثلثي الدية ثم نزعت إحداهما لم يقل للباقية استكملي خمسين يمينا وإلا فردي ما أخذت لأنه حكم قد مضى.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه ولا اختلاف وبالله التوفيق.
[مسألة قال عند موته قتلني فلان]
مسألة وسئل عن رجل قتل خطأ فقال فلان قتلني خطأ، وقال الرجل بل قتلته عمدا أو قتلني عمدا، وقال الرجل بل قتله خطأ.(15/521)
قال: قال مالك: فيمن قال عند موته قتلني فلان خطأ إنه يقسم عصبته مع قوله ويستحق الدية ولا يتهم لأنه لو قال قتلني عمدا أقسم مع قوله وقتل، قال ابن القاسم: وقد أخبرني من أثق به أنه كان قوله قديما أنه لا يقبل قوله لموضع التهمة أن يكون إنما أراد غناء ولده، فسئل عن ذلك فرجع، فقال أرى أن يقسم مع قوله ويستحق الدية، قال ابن القاسم فأما القاتل بالعمد فأرى الورثة بالخيار إن أحبوا أقسموا وأخذوا الدية، وإن أحبوا قتلوا بالإقرار، ويقسمون على ذلك إن كانت حياة.
قال محمد بن رشد: القسامة في العمد مع قول المقتول دمي عند فلان لم يختلف بأنه يلزمه ويؤخذ به بإقراره قيل بقسامة وقيل بغير قسامة، ومعنى ذلك إذا كانت للمقتول حياة، وأما إذا لم تكن له حياة فيقتل بإقراره دون قسامة قولا واحدا أو قد قيل إن ذلك ليس باختلاف من القول، وإنما معناه أنه يقتل بقسامة إذا كانت الحياة له حياة، وبغير قسامة إذا لم تكن له حياة، وقد مضى هذا في أول السماع، فإذا قال الرجل قتلني فلان عمدا أو أقر القاتل بذلك، فإن لم تكن له حياة قتل بإقراره دون قسامة قولا واحدا، وإن كانت له حياة قيل يقتل بغير قسامة وقيل بقسامة وهو قوله في هذه الرواية، وقسامتهم إنما هي أن يحلفوا لقد مات من الجرح الذي أقر القاتل به، بخلاف قسامتهم يقول المقتول قتلني فلان، لأنهم يقسمون مع قوله أنه جرحه وأنه مات من جرحه.
وأما القسامة في الخطأ مع قول المقتول قتلني فلان خطأ فالمشهور من قول مالك أنه لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة، وقد حكى ابن القاسم فيما بلغه عنه على ما وقع في هذه الرواية أن قوله لا يقبل لموضع التهمة أن يكون أراد غناء ولده، وهو قول ابن وهب وابن أبي حازم من أصحاب مالك، وقد قال محمد بن المواز لم تثبت عندنا الرواية في منع القسامة مع قوله إلا في(15/522)
قول الرجل أنا قتلت فلانا خطأ، وأما قوله قتلني فلان خطأ أو عمدا فما علمنا فيه اختلافا من قول مالك وأصحابه كلهم إلا ابن وهب.
واختلف إذا قال الرجل قتلت فلانا خطأ: فقيل إنه لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة إذا لم يتهم أن يكون أراد غناء ولد المقتول على ما قاله في المدونة، وقيل إن الدية تكون عليه في ماله لأن العاقلة لا تحمل الإقرار قيل بقسامة وقيل بغير قسامة، وذلك إذا كانت للمقتول حياة، وأما إذا لم تكن له حياة فالدية عليه في ماله دون قسامة قولا واحدا هو الذي يجب أن يحمل عليه ما وقع من ذلك في كتاب الصلح من المدونة مجملا، وهذا الذي ذكرناه أصل هذه المسألة التي تنبني عليه، فإذا قال الرجل قتلني فلان خطأ، وقال فلان بل قتلته عمدا فعلى المشهور من المذهب أن قول المقتول قتلني فلان خطأ لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة، يكون عصبة المقتول بالخيار بين أن يقتلوه بإقراره دون قسامة إن لم تكن له حياة، أو مع القسامة إن كانت له حياة على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك، وبين أن يقسموا مع المقتول فتكون الدية على عاقلته.
وإذا قال قتلني فلان عمدا، وقال فلان بل قتلته خطأ فعلى القول بأن قول الرجل قتلت فلانا خطأ لوث يوجب القسامة والدية على العاقلة يكون الأولياء مخيرين بين أن يقسموا مع قول المقتول فيقتلوا القاتل وبين أن يقسموا مع قوله فتكون لهم الدية على عاقلته، وعلى القول بأن قول الرجل قتلت فلانا خطأ يوجب الدية عليه في ماله يكون الأولياء مخيرين بين أن يقسموا مع قول المقتول فيقتلوا القاتل وبين أن يلزموا القاتل الدية في ماله بإقراره بالقتل دون قسامة إن لم تكن له حياة أو مع قسامة إن كانت له حياة على ما ذكرنا من الاختلاف في القسامة في ذلك، فهذا بيان وجه القول في هذه المسألة مستوفى.(15/523)
[مسألة: ادعى أن رجلا سقاه سما]
مسألة وسئل ابن كنانة عن رجل ادعى أن رجلا سقاه سما وأشهد رجالا وقال لهم اشهدوا أن فلانا سقاني سما، وهو في جوفه فإن مت فدمي عنده، هل تكون القسامة في ذلك؟ قال: لا تكون القسامة في مثل هذا إلا في الضرب المشهود عليه أو الإشارة البينة من الجراح والضرب.
قال محمد بن رشد: قول ابن كنانة هذا في أن التدمية لا تكون عاملة إلا مع الشهادة على الضرب أو الآثار البينة منه أو من الجراح خلاف قول ابن القاسم في سماع أبي زيد ودليل قوله في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى وقول ابن كنانة إلا في الضرب المشهود عليه يريد الضرب الذي يثبت بالشهادة، فلو شهد على قوله شاهد واحد أنه ضربه فمات من ضربه، ولم يظهر به أثر منه أو أنه سقاه سما فمات منه ولم يظهر لذلك أثر من قيء أصابه منه لم يكن في ذلك قسامة كما لا يكون القسامة بذلك مع قول المقتول، وقال أصبغ: إن القسامة منه تكون في ذلك مع قول المقتول كما تكون فيه مع الشاهد الواحد.
فاحتجاج أصبغ لا يلزم ابن كنانة وإنما يلزم من يفرق بين الوجهين.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها - أن القسامة لا تكون إذا لم يكن بالمقتول أثر لا بشهادة واحد ولا بقول المقتول، وهو قول ابن كنانة.
والثاني - أن القسامة تكون لأولياء المقتول في الوجهين جميعا، وهو قول أصبغ.
والثالث - أنهم يقسمون في ذلك مع الشاهد الواحد ولا يقسمون فيه مع قول المقتول، وإذا أعملت، التدمية على نص رواية ابن زيد ودليل رواية يحيى دون أثر من جرح أو ضرب يكون بالمدمي فإنما تعمل بعد موته في إيجاب قتل(15/524)
المدمى عليه بالقسامة، وأما في حياته فلا يلزم المدمى عليه بالتدمية سجن لأنه يتهم أن يكون أراد سجنه بدعواه.
وقول ابن كنانة في أن التدمية لا تعمل أصلا أظهر من قول ابن القاسم للاختلاف في أصل التدمية إذ لم يتابع مالكا على قوله في إيجاب القود بها إلا أصحابه وبالله التوفيق لا شريك له وصلى الله على من لا نبي بعده.
انتهى كتاب الديات الأول بحمد الله تعالى(15/525)
[: كتاب الديات الثالث] [: أيلزم القاتل عمدا من أهل الذهب والورق إذا قتل]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم وأشهب وابن نافع من كتاب الصبرة قال يحيى: وسألت أشهب عن تغليظ الدية في مثل ما فعل المدلجي بابنه أيلزم القاتل عمدا من أهل الذهب والورق إذا قتل(16/5)
أجنبيا أن تغلظ عليه بقدر فضل ما بين أسنان دية الخطأ من الإبل؟ فقال: نعم إذا قتل الرجل الرجل عمدا فقبلت منه الدية، وهو من أهل الذهب والورق، نظرت إلى قيمة أسنان دية الخطأ، ثم قيمة أسنان دية العمد؛ فإذا عرفت ما بينهما من الفضل فإن كان خمس الدية أو سدسها أو عشرها أو جزءا من أجزاء الدية كائنا ما كان ذلك؛ فإنه يزاد على قاتل العمد بقدر ذلك مع الألف دينار إن كان من أهل الذهب أو الاثنا عشر ألف درهم إن كان من أهل الورق، فهذا تغليظها في هذا الوجه، وهو على قياس تغليظ الدية في مثل ما حكم به عمر بن الخطاب في المدلجي في ابنه، وعلى هذا الحساب تغليظ عقل الجراح في العمد إلا أن يصطلحوا على أمر يجوز بينهم، وسألت ابن نافع عنه فقال: لا تغليظ عندنا إلا في مثل ما صنع عمر بن الخطاب بالمدلجي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول مسألة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: النفر يجرحون الرجل فيحمل مجروحا فيموت]
مسألة وقال في النفر يجرحون الرجل فيُحمل مجروحا فيموت فتجب القسامة عليهم: إنهم لو أقروا بقتله أجمعون لم يكن لهم أن يقتلوا منهم أحدا حتى يقسموا على أيهم أحبوا فقط، فيقتلونه، ولا يكون لهم وسائرهم بالإقرار، قال: وكذلك إذا لم يقر منهم إلا واحد قال: أنا قتلته لم يكن لهم أن يقتلوه حتى يقسموا عليه، ولا أن يقسموا على غيره، ويقتلوا المقر بإقراره، وليس لهم أن يقسموا إلا على واحد منهم فيقتلونه كما لو لم يقروا أو لم يقر أحد منهم.(16/6)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أيجوز للإمام أن يعفو عن القاتل]
مسألة وسئل على المسلم يقتل المسلم عمدا الذي لا ولي له إلا المسلمون أيجوز للإمام أن يعفو عن القاتل؟ قال: لا ينبغي له أن يهدر دم المسلم، ولكن يستقيد منه، قيل فالنصراني يقتل النصراني عمدا الذي لا ولي له إلا المسلمون ثم يسلم القاتل أترى أن يقتل به؟ قال: العفو عن مثل هذا أحب إلي من قتله، وذلك أن حرمته إذا أسلم أعظم من حرمة الكافر المقتول، قال: ولو كان للمقتول أولياء كان لهم القود؛ لأنهما كانا على دين واحد يوم قتله، فإذا صار أمره إلى الإمام فالعفو عندي أعجب إلي وإن كان القود قد لزمه، قيل له أفيعفو على أخذ الدية للمسلمين أو بغير دية.
قال محمد بن رشد: لم يجب عما سأله عنه من العفو الذي اختاره هل يكون على أخذ الدية للمسلمين أو بغير دية، والجواب عن ذلك على قوله أن يعفو عندي بغير دية للمسلمين، والدليل على أن ذلك مذهبه في هذه الرواية تفرقته فيها بين المسلم الذي يقتل المسلم ولا ولي له إلا المسلمون وبين النصراني يقتل النصراني ثم يسلم القاتل ولا ولي للمقتول إلا المسلمون، فقال في المسلم يقتل المسلم الذي لا ولي له إلا المسلمون إنه لا يجوز للإمام أن يعفو عن القاتل، وقال في النصراني يقتل النصراني ثم يسلم القاتل ولا ولي للمقتول إلا المسلمون: العفو أحب إليه فيه، فلو كان لا يجوز له أن يعفو عنه إلا على الدية لكان ذلك كالمسلم يقتل المسلم سواء؛ إذ ليس للإمام أن يعفو عنه إلا على دية يأخذها منه للمسلمين إن رأى ذلك على وجه نظر لهم، وعلى ما(16/7)
تقدم من قوله في رواية عيسى عنه في أول سماعه لا يجوز له أن يعفو عنه إلا على الدية يأخذها منه إن كان له مال، وقد مضى بيان هذا هنالك وبالله التوفيق.
[مسألة: ارتحل عن البلدة التي وجبت فيها الدية على الجاني قبل فرضها]
مسألة وسألته عن عاقلة الرجل من أهل المدينة يقع عليهم عقله فيرتحل منهم رجال من أهل المدينة إلى مصر بعد وجوب الدية عليهم وقبل أن تقسم، أو يرتحل رجال من أهل مصر من قبيلتهم وقد وقعت الدية على أهل المدينة قبل ارتحال المصريين إليهم ولم يقسم بعد عليهم، قال: لا ينظر إلى ارتحال بعضهم إلى بعض قبل أن يقسم عليهم، فإنا نقول: إنما تجب الدية على من يوجد بالبلد الذي تجب على أهله يوم يقسم، وليس يوم يقع الحكم على العاقلة بغرم الدية. قلت: وما أسقطها على المرتحل وقد وجبت على عاقلته وأهل بلده قبل أن يرتحل عنهم؟ فقال: لأنها ليست بدين واجب عليه، ألا ترى أن الغرماء لا يحاصهم طالب الدية وهم يُبَدَّوْنَ عليه؟ (قلت: أرأيت من مات من بعدما تقسم الدية) ويعلم ما وجب عليه أيؤخذ ذلك من رأس ماله؟ قال: لا أرى ذلك على ورثته ولا في ماله واجبا؛ لأنه ليس يجب كوجوب الدين فيتبع به بعد موته، قلت: ولم لا نجعله في ماله بعد إخراج دينه كما تفرضها على الحي الذي لا دين عليه وقد كانت وجبت عليه وعرف ما كان يلزمه من الغرم مع عاقلته؟ قال: لا أرى أن تؤخذ من ماله، ولكن يرد غرم ذلك إلى بقية العاقلة، قلت: أيقسم عليهم أجمعين أم يجزأ على(16/8)
أهل الغنى منهم، ويرى أن يؤخذ ذلك الجزء الذي يقتضي من عام قابل؟ فقال: أعدل ذلك ألا يؤخر لقابل من الجزء الأول بشيء، ولكن يجبر غرم ذلك على أهل الغنى من العاقلة.
قال محمد بن رشد: أما من ارتحل عن البلدة التي وجبت فيها الدية على الجاني قبل فرضها فلا اختلاف أحفظه في أنه لا شيء على المرتحل قبل فرضها إلا أن يرتحل فرارا منها فيلحقه حكمها حيث كان، وذلك يروى عن ابن القاسم وغيره، وكذلك من مات قبل فرضها لم يلزمه شيء من حكمها، ومن ارتحل إلى ذلك البلد من قبيل الجاني قبل فرض الدية لزمه حكمها، وإن كان ارتحاله بعد وجوبها، فإن ارتحل إليه بعد فرضها لم يلزمه شيء من حكمها؛ لأن الحكم في الدية أن تفرض على من كان في بلد الجاني من قبيلته يوم فرضها حيا بالغا ذكرا عاقلا غير مجنون، وأما إذا وضعت ووظفت فلا يسقط عمن غاب أو ارتحل ما صار عليه منها، ويؤخذ به حيثما كان.
واختلف إن أعدم على قولين، أحدهما: أنها تسقط عنه بالعدم ولا يحاص بها الغرماء ويرد ذلك على بقية الغرماء العاقلة أو يجزأ على الأغنياء منهم على ما اختاره ابن القاسم في هذه الرواية، والثاني أنه يتبع بما لزمه منها في ذمته ولا يرجع ذلك على العاقلة، وهو مذهب ابن الماجشون وسحنون.
واختلف إن مات على ثلاثة أقوال، أحدها قوله في هذه الرواية: إنها لا تؤخذ من ماله وإن كان له مال، ويرد غرم ذلك على بقية العاقلة أو يجزأ على أهل الغنى والوفر منهم، والثاني: أنها تؤخذ من ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أو كان له مال وعليه دين يستغرق ماله سقطت، ولم يحاص بها الغرماء، وجزئت على بقية العاقلة أو على أهل الغنى منهم، والثالث: قول ابن الماجشون وسحنون أن الدية إذا فرضت على العاقلة فقد وجبت على من فرضت عليه كثبات الدين لا يسقط بموت ولا فلس، فيتبع بها العديم في ذمته(16/9)
ويحاص لها الغرماء في الموت والفلس، ولا يؤتنف ذلك في حكم بعدم أحد ممن فرض عليه ولا بموته ولا بيسر من لم يفرض عليه شيء منها لعدمه وبالله التوفيق.
[: وجبت لهم القسامة على نفر فأقسموا على أحد منهم ثم ادعوا أنه شبه لهم]
ومن كتاب يشتري الدور والمزارع قال: وسألته عن أولياء مقتول وجبت لهم القسامة على نفر فأقسموا على أحد منهم ثم ادعوا أنه شُبِّهَ لهم، وأنهم أيقنوا أن أحد الباقين كان هو الذي تولى أشد ما كان بصاحبهم من الجراحات، وأرادوا أن يقسموا عليه ويتركوا الأول أذلك لهم؟ فقال: أما الثاني فلا سبيل إليه بعد تركهم إياه ولا حين خيروا، وأما الأول فإن كانوا أبروه حين زعموا أن الآخر بصاحبهم فلا سبيل لهم إليه أيضا ولا يقسموا على واحد منهم وإن كانوا إنما أرادوا أن ينتقلوا إلى الآخر غضبا عليه وندامة على فوت قتله ولم يبروا الأول وأوقفوا أمره لينظروا، هل يمكنون مما دعوا إليه أم لا؛ فلهم أن يقتلوه بقسامتهم إن أحبوا؟
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله إن تبين أحد الأمرين من إرادتهم بإفصاح منهم به، وأما إن أشكل ذلك ووقع التداعي بينهم فيه فالقول قولهم مع أيمانهم أنهم لم يبروا الأول ويكون لهم أن يقتلوه بقسامتهم، وبالله التوفيق.(16/10)
[مسألة: يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين ويأبى الآخر]
مسألة وسئل عن الرجل يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين على الدية وعفوا عن دمه، وأبى أولياء الآخر إلا أن يستقيدوا، فقال: القود لمن أحب أخذه، ولا يمنع من قتله الولي الذي لم يرد إلا القتل من أجل ما رضي به الذين صالحوا عن صاحبهم، ولكن إن استقادوا بطل صلح الذين صالحوا؛ لأنهم إنما صالحهم للنجاة من القتل، فإذا أبى الآخرون إلا القود فلا يجمع عليه القتل وذهاب المال في أمر لم يدخل عليه فيه مرفق.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات وهي ثابتة في هذا الرسم بعينه، من كتاب الدعوى والصلح، وقد مضى هناك الكلام عليها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: العبد يقتل أباه الحر عمدا فيسلمه سيده إلى أولياء المقتول فيستحيوه]
مسألة وسئل عن العبد يقتل أباه الحر عمدا فيسلمه سيده إلى أولياء المقتول وهم إخوة العبد القاتل أو ولده فيستحيوه أيعتق عليهم؟ قال: لا يعتق عليهم، ولكن يباع فيعطون ثمنه، قيل له فإن جرحه عمدا فأسلمه إليه سيده أيسترقه أبوه؟ فقال: بل يعتق عليه سواء جرحه عمدا أو خطأ، قلت فإن قتله خطأ فأسلمه إلى وارثه وهو ممن إذا ملكه عتق عليه؟ قال: يعتق عليه لأنه يقدر في الخطأ ولا يقدر في العمد، قلت له: أفيرث إذا أعتق؟ قال: لا، ألا ترى إن ملكه قد كان بيد سيده حتى أسلمه بعد موت المقتول، قلت:(16/11)
أرأيت إن لم يكن للمقتول مال؟ وأنتم إنما رأيتم أنه إذا أسلم في العمد لم يعتق لما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل مَن قتل» وقال مالك: يرث من المال في الخطأ ولا يرث في العمد ولا من المال، قلت: فإذا قتل عمدا فأسلم إلى من إذا ملكه عتق عليه فإن عتق فكأنه قد ورث؛ لأن فك رقه إنما كان فيما ملك عنه المقتول، فإذا صار يعتق فيه فكأنه قد ورث منه قلت: فالذي يقتل خطأ ولا مال للمقتول فأسلم إلى من إذا ملكه عتق عليه فقلت يعتق في الخطأ أفما تراه الآن قد عتق في دية المقتول وهو لا يرث من الدية وإن كان القتل خطأ؟ ألا ترى أن المقتول لم يورث (شيئا عن دية فلما أسلم هذا العبد ... للقاتل صار هو دية المقتول؟ فإذا أعتق على الذي أسلم إليه إنما هو كمن ورث دية من قتل خطأ، قال سحنون: وكذلك أخبرني ابن القاسم في العبد يقتل ابنه الحر كما فعل المدلجي بابنه فإن الجناية في رقبته، قلت لابن القاسم: فإن أسلمه مولاه أيعتق عليه؟ قال: لا، ولكن يباع (فيكون ثمنه لورثة) ابنه قلت له: فإن جرح ابنه فأسلمه سيده لجنايته؟ قال: يعتق لأنه حكم لأن سيده كان مخيرا، قلت وكذلك لو أنه قتل ابنه خطأ فأسلم إلى ورثته ابنه، قال: كذلك يعتق عليهم، وكل من فعل هذا فأسلم إلى بعض من إذا ملكه عتق عليه، فهو يعتق؛ لأن ذلك حكم وقع؛ لأن سيده كان مخيرا في حبسه ودفع الأرش، فلما كان دفعه إلى (أولياء المقتول حكما) عليهم بأخذه فإذا أخذوه حكم عليهم بحريته.(16/12)
قال محمد بن رشد: إنما لم يعتق العبد على ورثة أبيه الحر إذا قتله عمدا فأسلم إليهم وهو ممن يعتق عليهم؛ لأنه لم يجب لهم رقبة العبد، وإنما وجب لهم قتله بأبيهم إن كانوا ولده، أو بأخيهم إن كانوا إخوته، فإن لم يريدوا أن يقتلوه بيع لهم وأعطوا ثمنه، وقال إنه يعتق عليهم إن كان قتله خطأ من أجل أن رقبة العبد هي الواجبة لهم؛ إذ لا قصاص في الخطأ، فإن أخذوها في الجناية على أبيهم عتق عليهم، فهذا هو وجه تفرقته بين العمد والخطأ في القتل، ألا ترى أنه لما كانت الجراح لا يجب فيها دم العبد، وإنما تجب فيها للمجروح رقبته إلا أن يفتكها سيده بدية الجرح استوى في ذلك العمد والخطأ، وتفرقته بين العمد والخطأ بقوله؛ لأنه يعذر في الخطأ ولا يعذر في العمد يرجع إلى هذا الذي ذكرناه من الفرق بين العمد والخطأ في القتل؛ لأن قوله: لأنه يعذر في الخطأ ولا يعذر في العمد إنما معناه أنه في القتل الخطأ يعذر فلا يقاد منه، فيجب لهم فيه رقبة العبد، وفي العمد لا يعذر فيقاد منه فلا يجب لهم فيه إلا دم العبد، ولو كانت العلة في أنه يعتق في الخطأ أنه يعذر فيه، وفي أنه لا يعتق في العمد أنه لا يعذر فيه لافترق العمد من الخطأ في الجراح أيضا.
ولم يبين يحيى بن يحيى هذا الفرق وظن أن العلة في أنه لم يعتق عليه في العمد من جهة أن القاتل عمدا لا يرث من قتل، فاعترض على ابن القاسم بقتل الخطأ إذا لم يكن للمقتول مال بقوله: قلت أرأيت إن لم يكن للمقتول مال، وأنتم إنما رأيتم أنه إذا أسلم في العمد لم يعتق لما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل من قتل» إلى قوله: إنما هو كمن ورث دية من قتل خطأ، فلم يجبه على اعتراضه بشيء، والجواب عن ذلك أن نقول له: إنما لم نقل إنه لا يعتق من أجل ما مضى من السنة أنه «لا يرث قاتل من قتل» وإنما قلنا ذلك من أجل أنه لا يجب لهم رقبة العبد، وإنما يجب لهم دمه، وقول سحنون(16/13)
وكذلك أخبرني ابن القاسم في العبد يقتل ابنه الحر كما فعل المدلجي بابنه فإن الجناية في رقبته يريد أن القتل كان يجب عليه لأنه من العمد؛ لأن القود صرف عنه في السنة فرأى أن يعتق عليهم العبد إذا أسلم إليهم لأنهم كأنهم إنما وجب لهم دمه لا رقبته إذ كان القياس أن يقتل لولا ما جاء فيه من السنة في تغليظ الدية وترك القود، وهذا من ابن القاسم في هذا الموضع استحسان، وكان القياس أن يعتق عليه لأنه أشبه بالخطأ منه بالعمد، لارتفاع القود فيه.
وقد قال محمد بن مسلمة تفسير قول ابن القاسم إن الجناية في رقبته أن سيده مخير في أن يفتكه أو يسلمه، فإن اختار فكه افتكه بدية التغليظ إن كان من أهل الإبل فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وإن كان من أهل الورق أو الذهب جبر عليه ما بين دية الخطأ من الإبل وبين دية التغليظ يغرمه مع الورثة من الذهب أو الورق، فإن أسلمه لم يعتق عليه في قول ابن القاسم، وفي قول سحنون وأشهب يعتق كأنه من الخطأ عندهما ليس من العمد إذا كان الورثة ممن يعتق عليهم، وإن كان فيهم من يعتق عليه وفيهم من لا يعتق عليه عتق نصيب من لزمه عتقه منهم ورق سائره للورثة، وهو قول المغيرة في التغليظ والعتق وقول محمد بن سحنون إن ما فعل المدلجي بابنه من العمد عند ابن القاسم، ولذلك لم ير أن يعتق عليه، ومن الخطأ عند أشهب وسحنون فلذلك لا يعتق عليهم عندهما فيه نظر إذ لا اختلاف بين ابن القاسم وغيره في أنه عمد لا أنه من العمد الذي قد أحكمت السنة صرف(16/14)
القود فيه وتغليظ الدية فراعى ابن القاسم الأهل في وجوب القصاص فيه استحسانا، وراعى أشهب وسحنون ما أحكمته السنة من أنه لا قصاص فيه لأنه إذا لم يكن فيه قصاص وجب لهم ملكه إذا أسلم إليهم فوجب عتقه عليهم وهو القياس أنه لا فرق في وجوب ملكه إذا أسلم إليهم بينه وبين الخطأ المحض، وهو القياس وبالله التوفيق.
[: من لا وارث له إلا جماعة المسلمين يقتل أحدهم فلا يشهد على قتله إلا رجل واحد]
ومن كتاب المكاتب قال وسألته عن المنبوذ أو من لا وارث له إلا جماعة المسلمين مثل مسألة أهل الذمة وأشباههم يقتل أحدهم خطأ أو عمدا فلا يشهد على قتله إلا رجل واحد أيقسم على ذمه من قام بذلك من المسلمين أم هل ينبغي للإمام أن يأمر من يقوم به ويستحقه بالقسامة؟ فقال: لا يستحق دم من لا وراث له إلا جماعة المسلمين إلا بشهيدي عدل لا يستحق بالقسامة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ لا يحلف أحد عن أحد ولو كان للمقتول خطأ وارث معلوم مع جماعة المسلمين مثل الزوجة أو الابنة أو الأخت أو الأم لحلف الوارث المعلوم خمسين يمينا واستحق حقه من الدية وبطل الباقي منها وبالله التوفيق.
[مسألة: جنين النصرانية يطرحه المسلم فيستهل صارخا]
مسألة وسئل عن جنين النصرانية يطرحه المسلم فيستهل صارخا أيكون فيه القسامة؟ قال: لا قسامة لليهود ولا للنصارى ولا تجب دياتهم إلا بالبينة.(16/15)
قال محمد بن رشد: قوله ولا تجب دياتهم إلا بالبينات ظاهر أن دية الجنين تبطل إذا استهل صارخا وإن كانت البينة على ضرب بطن أمه، وأن النصراني إذا قتل فأتى ولاته بشاهد من المسلمين عدل أنهم لا يحلفون مع شاهدهم، ويحلف المشهود عليه خمسين يمينا ويبرأ من الدية خلاف ما في المدونة من أنهم يحلفون مع شاهدهم يمينا واحدة ويستحقون ديته ويحلفون في الجنين إذا استهل صارخا يمينا واحدة لمات من ذلك ويستحقون ديته، ولو شهد على مذهبه في المدونة على الضرب شاهد واحد لحلفوا على الضرب وعلى أنه مات منه يمينا واحدة أيضا وخلاف ما في سماع سحنون بعد هذا من أن النصراني إذا ضرب فقال: فلان قتلني ثم مات لم يكن فيه شيء لا بقسامة ولا بيمين إلا أن يقوم شاهد واحد فيحلف ولاته يمينا واحدة ويأخذوا الدية، قال: وإلى هذا رجع، وهو خلاف لما في كتب المسائل، فيحتمل أن يكون الذي في كتب المسائل أنهم لا يحلفون مع شاهدهم ويحلف المشهود عليه خمسين يمينا مثل قول أشهب وظاهر هذه الرواية، ويضرب المشهود عليه مائة ويسجن سنة عند أشهب حلف أو نكل وعند ابن القاسم وإن غرم الدية بيمين أولياء المقتول، ولم ير ابن الماجشون ضرب مائة وسجن سنة إلا على من أشاطت القسامة بدمه فعفي عنه أو أقسم على غيره فترك هو، والمغيرة يقول: إنهم يحلفون مع شاهدهم خمسين يمينا ويستحقون ديته وهو قول ثالث في المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجل عدل على جرح رجل فمات من ذلك الجرح]
مسألة قلت: فجنين الحرة المسلمة يطرح فيستهل ويشهد على الاستهلال امرأتا عدل ولا يشهد على ضربها إلا رجل واحد عدل(16/16)
أتجب القسامة لأوليائه بشهادة واحد على الضرب؟ قال: لا وكذلك لو شهد رجل عدل على جرح رجل فمات من ذلك الجرح لم تجب فيه قسامة وإن صح المجروح حلف مع شاهده واقتص.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا قسامة مع الشاهد الواحد على الجرح خلاف نص قوله في المدونة، وفي نوازل سحنون بعد هذا القولان جميعا، فعلى القول بأنه يكون في ذلك القسامة يحلفون لقد جرحه ولقد مات من جرحه، ولا يحلفون مع الشاهدين على الجرح إلا لقد مات من ذلك الجرح، وأما مع الشاهد على القتل فيحلفون لقد قتله خاصة، فتفترق الثلاثة الوجوه في صفة الأيمان، وتختلف أيضا في القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل عمدا، فقال أشهب في ذلك القسامة، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه لا قسامة في ذلك، ومثله في آخر سماع سحنون، وهو ظاهر ما في المدونة، إلا أن سحنون أصلح ما في المدونة ورده إلى مثل قول أشهب لأن ابن القاسم قال فيها: وهذا عندي مخالف للدم، زاد سحنون في ذلك دم الخطأ على سبيل التفسير لقوله، وذلك خلاف المنصوص له في كتاب ابن المواز من أن القسامة لا تكون مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل في العمد، وإذا قاله في العمد فأحرى أن يقوله في الخطأ، وقد اختلف أيضا قوله في القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بقتل الخطأ، وقع اختلاف قوله في ذلك بعد هذا في سماع سحنون، وإذا قال بالقسامة مع الشاهد الواحد في قتل الخطأ فأحرى أن يقول ذلك في العمد.
فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: إيجاب القسامة مع الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل عمدا أو خطأ، والثاني: لا قسامة في ذلك لا في العمد ولا في الخطأ، والثالث: الفرق بين العمد والخطأ، وإلى هذا ذهب سحنون وعليه أصلح ما في المدونة، وهو الأظهر من الأقوال إذ قد قيل إن إقرار القاتل(16/17)
بالقتل خطأ ليس بلوث يوجب القسامة، فكيف إذا لم يثبت قوله وإنما شهد به شاهد واحد، وأما القسامة مع الشاهد على القتل أو الشاهدين على الجرح أو على قول المقتول دمي عند فلان فلا اختلاف في المذهب في وجوب القسامة بذلك في العمد والخطأ، وقد مضى بعض هذا في أول رسم من سماع عيسى.
وأما قوله: وإن صح المجروح حلف مع شاهده ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: هذا وهو قوله في كتاب الأقضية من المدونة. والثاني: أنه لا يقتص في الجراح مع الشاهد الواحد وهو قوله في كتاب الشهادات منها، وكل جرح لا قصاص فيه فإنما هو مال فلذلك جازت فيه اليمين مع الشاهد، والثالث: الفرق بين صغار الجراح وكبارها، وهو قول سحنون ومذهب ابن الماجشون وبالله التوفيق.
[مسألة: يجرحان رجلا أحدهما عمدا والآخر خطأ فتقوم عليهما البينة بذلك فيموت المجروح]
مسألة وسألته عن الرجلين يجرحان رجلا يجرحه أحدهما عمدا والآخر خطأ فتقوم عليهما البينة بذلك فيموت المجروح، قال: يخير الأولياء فإن شاءوا أقسموا على الجارح عمدا فقتلوه وأخذوا من الجارح خطأ عقل الجرح الذي جنى، وإن شاءوا أقسموا على الجارح خطأ وأخذوا الدية تامة من عاقلته واستقادوا من الجارح عمدا مثل الجرح الذي بصاحبهم، وليس لهم أن يقسموا عليهما فيستقيدوا من الجارح عمدا ويأخذوا الدية من عاقلة الجارح خطأ ولكنهم يخيرون فيما فسرت لك.(16/18)
قلت: فإن لم يثبت الجرحان على الرجلين إلا أن الميت ادعى أن فلانا جرحه عمدا وأن فلانا جرحه خطأ بجرحين كانا به؟ فقال: أمره فيما يدعي عند موته مثل الذي تثبته البينة من أمر جرحيه - فيما فسرت لك سوى إن أقسموا على الجارح عمدا قتلوه وأخذوا عقل الجرح خطأ، وإن أقسموا على الجارح خطأ أخذوا الدية من عاقلته واقتصوا من الجارح عمدا بمثل جرحه.
قال محمد بن رشد: أما إذا قامت البينة على الجرحين فقوله إن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا على الجارح عمدا فيقتلوه ويأخذوا من الجارح خطأ عقل الجرح الذي جنى، وبين أن يقسموا على الجارح خطأ فيأخذوا الدية من عاقلته ويقتصوا من الجرح صحيح على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك في أن من قطع يد رجل عمدا فنزا فيه فمات أن الأولياء مخيرون بين أن يقسموا فيقتلوه، أو لا يقسموا فيستقيدوا منه بقطع يده، ويأتي فيها على قياس قول أشهب في أنه ليس للولاة أن يقتصوا منه بقطع يده إلا باختياره لأن الجناية قد عادت نفسا بما قاله في سماع أبي زيد أنهم إن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر، وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة يريد على العاقلة، وبرئ الآخر، وأما إذا لم تكن بينة على الجرحين وإنما كان ذلك بدعوى من الميت فقوله: إن ذلك بمنزلة البينة على الجرحين مخالف للأصول؛ لأن الجراح لا تستحق بالقسامة منها في العمد، ولا الدية في الخطأ، وهو نص قوله في المدونة إن الجراح ليس فيها قسامة، والصحيح فيه ألا سبيل إلى القصاص من الجرح ولا إلى أخذ الدية فيه، وإنما لهم الخيار في أن يقسموا على من أحبوا فإن أقسموا على المتعمد قتلوه ولم يكن على الآخر شيء ولا على عاقلته وإن أقسموا على المخطئ أخذوا الدية من عاقلته ولم يكن على الآخر شيء لأنه لا تكون قسامة في جرح فيستحقون بها أرشه أو القود منه بجرح صاحبهم، قاله محمد بن المواز،(16/19)
وعاب رواية يحيى هذه وعابها أيضا يحيى بن يحيى، ولو شهد على كل واحد من الجرحين شاهد واحد لكان الحكم في ذلك على ما اخترناه وصححناه في الوجهين المتقدمين أن يكون الأولياء مخيرين، فإن أقسموا مع الشاهد على جارح الخطأ استحقوا الدية على عاقلته ولم يكن لهم على جارح العمد شيء إذ لا يقتص باليمين مع الشاهد إلا المجروح وأما ورثته فلا وإن أقسموا على جارح العمد قتلوه بقسامتهم وحلفوا مع شاهدهم على الجرح الخطأ فاستحقوا أرشه لأنه مال من الأموال كدين ثبت للميت بشاهد واحد فيستحقونه مع أيمانهم مع شهادته.
[مسألة: يجرح الرجل عمدا فيصالحه ثم ينزى في جرحه فيموت]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يجرح الرجل عمدا فيصالحه على شيء غرمه ثم ينزى في جرحه فيموت فيقول وليه: إنما كان صالحك في الجراح ولم يصالحك في دمه قال: أرى القود يجب لهم إن أقسموا إذا كان المقتول إنما صالحه بعد ثبوت الجرح عليه بإقرار أو بينة، ويرد عليه ما كان أخذ منه في الصلح، قال: وإن كان الجرح خطأ وكان قد صالحه فيما كان وجب عليه من عقل الجرح ثم نزي في جرحه فمات أقسموا لمات من ذلك الجرح وتمت لهم الدية على العاقلة ويرد على القاتل ما كان غرم بالصلح.
قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أنه خير ولي المقتول في العمد بين التمسك بالصلح أو الرجوع إلى القود ورد ما أخذ بالصلح ولم يخيره في الخطأ إذ من حق القاتل أن يرد إليه ما أخذ منه في الصلح لأن الجرح قد آل إلى النفس ووجبت فيه الدية على العاقلة وهو ظاهر ما في المدونة،(16/20)
وأشهب لا يوجب له الخيار في العمد ولا في الخطأ، وحكى ابن حبيب في الواضحة أن له الخيار في العمد والخطأ"، وقد مضى بيان القول في هذا في رسم أسلم من سماع عيسى.
[: تحمل العاقلة مما يبلغ ثلث العقل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عما تحمل العاقلة مما يبلغ ثلث العقل أذلك إذا بلغ عقل ما جنى الجاني ثلث عقل نفسه، أم ثلث عقل المجني عليه فإنه قد يختلف أحيانا فيكون الجاني رجلا والمجني عليه امرأة وتجني المرأة على الرجل فقلت: إلى ثلث عقل أيهما ينظر؟ أم لا تحمل العاقلة إلا أن تبلغ الجناية ثلث عقل الرجل ولا ينظر في ذلك إلى عقل الجاني والمجني عليه؟ فقال: إنما الأمر فيه أن ينظر إلى عقل المجني عليه إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة، فإذا بلغت الجناية ثلث عقل المجني عليه حملت ذلك عاقلة الجاني. قلت: أرأيت إن كان المجني عليه مجوسيا أو نصرانيا أو يهوديا فبلغ عقل ما أصابه به المسلم ثلث عقل المجوسي والنصراني واليهودي أتحمل ذلك العاقلة؟ فقال: هذا مما لا تحمله العاقلة قل ما أصاب به المسلم المجوسي أو النصراني أو اليهودي أو كثر بلغ قتله فما دونه.
قلت له: ولم لا تحمل عاقلة المسلم ما جنى على أهل الكتاب ولا مجوسي؟ قال: لأن حالهم في ذلك عندنا كحال العبيد إلا أن دياتهم قد مضت السنة بنصها وفرضها وتسميتها بهم على ما مضى من دياتهم، ولا تحمل عاقلة مسلم أصابهم بقتل فما دونه.(16/21)
قال محمد بن رشد: هذه المسألة لابن نافع لا لابن القاسم والله أعلم؛ لأنها في الأصل: وسألت ابن نافع في أولها وقلت لابن نافع في آخرها، وقد قال في أول السماع إنه لابن القاسم وأشهب وابن نافع.
وقوله فيها إن الأمر في ذلك أن ينظر إلى عقل المجني عليه إن كان أحدهما رجلا والآخر امرأة، فإذا بلغت الجناية ثلث ديته حملته عاقلة الجاني هو القول الذي قال به مالك في أول رسم من سماع أشهب وأنكر أن يكون قال إنه إن بلغت الجناية ثلث دية أحدهما حملته عاقلة الجاني، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وقلنا: إنه كان الأظهر ألا تحمل عاقلة الجاني جنايته إلا أن تبلغ ثلث ديتهما جميعا وبينا الوجه في ذلك فلا معنى لإعادته.
وأما قوله: إنه لا تحمل عاقلة الجاني من المسلمين ما جنى على يهودي أو نصراني أو مجوسي قل ذلك أو كثر لأن أهل ذمتنا بمنزلة عبيدنا، فهو خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها وهو بعيد أيضا إلا أن يتأول على أنه إنما أراد أهل الذمة من أهل العنوة دون أهل الصلح فيصح قوله ويخرج على أحد قولي ابن القاسم في أنهم كالعبيد المأذون لهم في التجارة فلا يحرم تزويج إمائهم، وهو قوله في سماع سحنون عنه، وأما على قوله بأنهم أحرار فالقياس بأن تحمل عاقلة الجاني من المسلمين ما جنى عليهم إذا بلغ ذلك ثلث دية المجني عليه أو الجاني على الاختلاف المذكور إلا أن يقال إنها لا تحمل شيئا من ذلك مراعاة للقول بأنهم عبيد، فيكون لذلك وجه، فتأويل قول ابن نافع هذا على أنه إنما تكلم على أهل الذمة من أهل العنوة أولى من حمله على ما لا يصح وبالله التوفيق.
[مسألة: يرمى بقتل الرجل وتقوم عليه بذلك بينة]
مسألة قال وسألته عن الرجل يرمى بقتل الرجل وتقوم عليه بذلك بينة أو ثبت عليه لوث تجب به القسامة أو يرميه المقتول بدمه فيأتي(16/22)
المتهم ببينة عدول يشهدون أنه قد كان معهم في اليوم الذي قتل فيه القتيل ببلد ناء بعيد لا يرى أن يبلغ المتهم من ذلك الموضع إلى الموضع الذي قتل فيه القتيل من ليلته ويرجع، فقال: أما إذا رماه بدمه أو لم يثبت عليه إلا لوث وكان الذين شهدوا له أنه كان معهم بمثل الموضع الذي وصفت عدولا فإن ذلك يدرأ عنه القسامة، قال يحيى: ولم يجبني في الذي تقوم البينة عليه بالقتل ومعاينة الضرب.
قال محمد بن رشد: أما التدمية والشبهة التي توجب القسامة فلا اختلاف في سقوطها بالشهادة للمدعى عليه أو المتهم بأنه كان في ذلك اليوم بغير ذلك البلد كما قال في هذه الرواية، ويحتمل أن يكون ابن وهب لأنه كذلك وقع في أصل السماع، ومثله في نوازل سحنون من كتاب الشهادات.
وأما الذي تقوم عليه البينة بالقتل أو معاينة الضرب فالمشهور في المذهب أن ذلك أعمل من شهادة من شهد له أنه كان في ذلك اليوم في ذلك البلد، وهو قول ابن الماجشون وسحنون في نوازله من كتاب الشهادات وقول أصبغ في نوازله منها أيضا، وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الشهادة تبطل بذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم يريد والله أعلم إذا كانت مثلها في العدالة أو أعدل منها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى مستوفى في الموضعين المذكورين من كتاب الشهادات فلا معنى لإعادته.
[: تكون به جراحات فيقول بي فلان وفلان ثم ينص ما أصابه به كل رجل منهم]
ومن كتاب أول عبد
وسئل عن الرجل تكون به جراحات وآثار ضرب فيقول بي فلان وفلان ثم ينص ما أصابه به كل رجل منهم فيقول: أما فلان فطعنني بالرمح وضربني فلان بالسيف وضربني فلان بالعصا فأوضحني،(16/23)
وخنقني فلان فمن فعل هؤلاء أموت إن مت مما ترون بي، ثم يموت فيوجد بعض تلك الجراحات قد أثخنته وبلغت مقاتله وشأن الخنق خفي أيجوز للأولياء أن يقسموا على من أحبوا؟ وكيف إن قال الميت أشدهم ألما الخنق أو الركض الذي فيه بي فلان، أو قال ضربة فلان بلغت مقاتلي أو طعنة فلان أو نص ما صنع به كل واحد منهم ولم يذكر مبلغها منه؟ قال: إذا لم يرم بدمه واحدا دون دوم واحد ولكن نص ما جرحه به كل واحد منهم فإنه ينظر إلى ما جرحه به كل رجل منهم، فإن وجد جرح أحدهم قد أنفذ مقاتله دون ما صنع به أصحابه لم يكن لهم أن يقسموا إلا عليه وحده، ولا خيار لهم في أن يقسموا على غيره، وإن وجدوا مقاتله قد أنفذها جراحات اثنين أو ثلاثة أو أجمعين أقسموا على من أحبوا ممن رئي أنه قد بلغ مقاتله فلم يدر من جرح أيهم مات، ولم يكن لهم الخيار في أن يقسموا على من جرحه جراحات لم توهنه ورئي أن جراحات غيره كانت أخلص إلى نفسه وأنفذ لمقاتله قال: وإن كانت كلها منفذه لمقاتله أو كلها [غير موهنة له] فيما يرى حتى لا يدرى من فعل أيهم مات أقسموا على من أحبوا من جميع القوم وقتلوه، قلت: أرأيت من برئ من أن يقسم عليه حين رئي أن جرح غيره أنفذه أيجب عليه ضرب مائة سوط وسجن عام كما يجب على الذين يجب عليهم القسامة؟ فيقسم الأولياء على أحدهم ويضرب الآخرون مائة مائة ويسجنون عاما.
قال محمد بن رشد: قوله إذا نص ما أصاب به كل واحد منهم من(16/24)
طعن برمح وضرب بسيف وركض وخنق أنه إن لم يرم واحد منهم دون غيره لم يكن لهم أن يقسموا إلا على من أنفذت جراحه مقاتله دون غيره ممن وصف ما أصابه به من الخنق والركض الخفي الشأن الذي لا يظهر يدل على أنه لو رمى بدمه الذي ركضه أو الذي خنقه لم يكن لهم أن يقسموا على سواه، وذلك مثل ما في سماع أبي زيد من أن التدمية بالركض والخنق وشبهه مما لا أثر له عاملة، وهو مذهب أصبغ قال: وقد قال مالك في الذي يلكز أو يضرب بالعصا أو يرمي بالحجر: إن فيه القسامة والقود إن كان عمدا بلا استثناء من ملك إن كان لذلك أثر أو جرح، والغالب من معرفة الناس أن اللكزة والعصا لا تجرح، وكذلك الركضة توهن داخل الجوف ولا تجرح، خلاف ما تقدم من قول ابن كنانة في آخر رسم العتق من سماع عيسى، وقد مضى هناك زيادة بيان فيه تتميم للمسألة.
ولم يجبه فيما سأله عنه من هل يجب على من برئ من أن يقسم عليه حين رئي أن جرح غيره أنفذ مقاتله ضرب مائة وسجن سنة أم لا؟ والجواب أن ذلك يجب عليهم؛ لأن الذي رماهم به من التعاون على قتله بالطعن والضرب والخنق لو قامت عليه البينة لقتلوا به جميعا، فإذا لم يكن إلا قوله فلم يمكنوا من القسامة [إن على واحد منهم وجب أن يضرب سائرهم مائة مائة ويسجنوا حولا كاملا إذ من أهل العلم من يرى أنهم يقتلون كلهم بالقسامة] كما كانوا يقتلون كلهم لو قامت على ذلك من فعلهم بينة. وبالله التوفيق.
[مسألة: دمي على رجل ثم برأه ودمي على غيره]
مسألة وسئل عن الرجل يضرب فيسأل من به؟ فيقول: فلان وفلان ثم(16/25)
يقيم أياما فيقال له اتق الله ولا ترم بدمك بريئا فيقول بي فلان وفلان لغير الذين سماهما أولا بدمه، ولا يذكر تبرية الأولين أيخير الورثة بين أن يقسموا على من أحبوا من الأولين والآخرين؟ فقال: لا ولكن يكون قوله الذي رجع إليه تكذيبا لقوله الأول فتسقط القسامة عن الأولين والآخرين بما تبين من وهمه فيمن يرميه بدمه وجهالته بموضع حقه، ثم لا يقسم على دم مثل هذا إلا بلوث من بينة وهذا عندي بمنزلة رجل يرمي بدمه رجلا ثم يبرؤه ويرمي به آخر فتسقط القسامة عن الأول والآخر.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم وأشهب أنه إن دمي على رجل ثم برأه ودمي على غيره أو دمي على غيره ولم يبرئه أو دمي على جماعة ثم برأ بعضهم أو دمي على رجل ثم دمي عليه وعلى غيره أو قال لا أدري من بي لأني كنت سكرانا ثم دمي على رجل أن القسامة تبطل في ذلك كله، وقال أصبغ إلا إذا دمي على رجل ثم دمي عليه وعلى غيره فقال: إن كان لم يقل أولا ليس بي غيره فيقبل قوله الآخر، وقال ابن الماجشون يؤخذ بقوله الآخر في ذلك كله ولو لم يقبل قوله الآخر ما قبل قوله الأول وهو بعيد يرده ما روي عن أنس بن مالك قال «عدا يهودي في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها فأتى بها أهلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتلك فلان؟ لغير الذي قتلها فأشارت برأسها أي لا، فقيل لرجل آخر غير الذي قتلها فأشارت برأسها أي لا، فقال فلان لقاتلها فأشارت أي نعم، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض رأسه بين جرحين» لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أعمل قولها إذ(16/26)
لم تضطرب فيه عند الاختبار، وإذا كان الشاهد تسقط شهادته باضطرابه فيها وشهادته بها بعد إنكاره لها حسب ما مضى القول فيه في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات فأحرى أن ترد تدمية المدمى باضطرابه فيها وقوله بها بعد إنكاره لها، ورأى أصبغ تدميته على الرجل ثم تدميته عليه وعلى غيره إذا لم يقل أولا ليس بي غيره من ناحية زيادة الشاهد في شهادته، فأجازها وإن كان ذلك لا يقبل إلا من المبرز في العدالة، فقول ابن القاسم أظهر والله أعلم؛ لأن التدمية أضعف من الشهادة وأما إذا قال بي فلان أو فلان على الشك منه في أحدهما فلا اختلاف في أن تدميته تبطل ولا يكون للأولياء أن يقسموا على واحد منهما وبالله التوفيق.
[مسألة: تجب لهم القسامة بالشاهد العدل فينكلون عن الأيمان]
مسألة قال يحيى: قلت له فالقوم تجب لهم القسامة بالشاهد العدل فينكلون عن الأيمان ويردونها على القاتل فيحلف ويبرأ ثم يجدون شاهدا آخر؟ قال: هم مثل الذي فسرت لك من أمر طالب الحق يشهد له عليه شاهد واحد فينكل عن اليمين ويرد اليمين على المطلوب ثم يجد شاهدا آخر أنه لا حق له ولا لأهل القسامة إذا عرضت عليهم حقوقهم بأيمانهم مع شاهدهم فنكلوا، قلت: أرأيت أهل القسامة لو لم تجب لهم إلا بقول المقتول فنكلوا ثم وجدوا شهداء على قاتل صاحبهم أيستحقون دمه بالشهداء أم لا حق لهم إذا نكلوا عن القسامة؟.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن نكول الأولياء على القسامة بالشاهد الواحد وردهم الأيمان على المدعى عليه بمنزلة نكول صاحب الحق عن اليمين مع شاهده ورده اليمين على المطلوب، وإذا كان بمنزلته وجب أن يدخل في مسألة القسامة من الاختلاف ما ذكرناه في رسم أول عبد من سماع(16/27)
يحيى من كتاب الشهادات في مسألة صاحب الحق ينكل عن اليمين مع شاهده فيرد اليمين على المطلوب فيحلف ثم يجد شاهدا آخر أو شاهدين سوى الأول، ولم يجب إذا نكلوا عن اليمين مع قول المقتول وردوا الأيمان على القاتل فحلف ثم وجدوا شهودا على القاتل هل يكون لهم القيام بهم أم لا ولا فرق بين المسألتين يدخل فيهما من الاختلاف ما دخل في الذين نكلوا عن القسامة مع الشاهد فردوا الأيمان على المدعى عليه وفي الذي نكل عن اليمين في حقه مع شاهده فردها على المطلوب، إلا أنهم لم يجدوا إلا شاهدا واحدا على القتل، فلا يضاف إلى قول المقتول، إذ ليس بشاهد وإنما هو لوث أوجب القسامة لأوليائه على مذهب مالك وأصحابه.
[مسألة: كيف يحلف أهل القسامة]
مسألة قلت له كيف يحلف أهل القسامة أعلى البت أم على العلم؟ وكيف تكون أيمانهم؟ قال يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو لمات من ضرب فلان بالبت لا يجزيهم أن يدخلوا في أيمانهم علمنا ولا ظننا ولا رأينا ولا شيئا غير أن يبتوا الحلف لمات من ضربه وتنتهي أيمانهم في ذكر الله والحلف باسمه تبارك وتعالى إلى أن يقولوا بالله الذي لا إله إلا هو وليس عليهم أن يقولوا الرحمن الرحيم ولا الطالب الغالب المدرك ولا شيء غير ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله في أهل القسامة إنهم يحلفون لمات من ضرب فلان معناه إذا كانت القسامة بشاهدين على الضرب، وأما إذا كانت بشاهد واحد على الجرح على القول بوجوب القسامة بذلك فيحلفون لقد جرحه ولقد مات من جرحه، وكذلك إذا كانت القسامة بقول المقتول وقد حيي حياة بينة، وإما إن كانت بقوله وهو في غمرة الموت أو بشاهد واحد على القتل فيحلفون لقد قتله أو لقد جرحه الجرح الذي مات منه لا أكثر، قال ابن حبيب ويحلفون على قوله لقد ضربه ولمات من ضربه إن كان سمى ضربا، ولقد قتله(16/28)
ولمات من قتله إن كان سمى الميت قتلا، وسواء كان به أثر أو لم يكن، وأما قوله في أيمانهم إنها تنتهي من ذكر اسمه إلى أن يقولوا بالذي لا إله إلا هو فهو قوله في المدونة المشهور من مذهبه وقد قيل إنه يزيد في يمينه عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وهو قول ابن كنانة في المدنية، وفي كتاب ابن شعبان أن من حلف على المنبر فليقل ورب هذا المنبر، وقد روى ابن القاسم وابن وهب من مالك أن الحالف في القسامة يقول بالله الذي أحيى وأمات ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة، والزيادة على بالله الذي لا إله إلا هو عند من رأى ذلك إنما هو استحسان، إذ لم يختلف في أن من لم يزد على ذلك شيئا تجزيه يمينه، فالاختلاف إنما هو هل تستحسن الزيادة أم لا؟ واستحسانها أحسن، وأما إذا لم يزد على بالله أو قال والذي لا إله إلا هو فلا تجزيه اليمين، قاله أشهب في الحالف والذي لا إله إلا هو.
ولا يحلف في القسامة إلا قائما مستقبل القبلة، ويستحب أن يكون ذلك في دبر صلاة العصر، وأما في الحقوق فقيل إنه يحلف قائما مستقبل القبلة وهو قول ابن الماجشون، وقيل إنه يحلف قائما وليس عليه أن يستقبل القبلة وهو ظاهر ما في المدونة وما في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب الأقضية، وقيل ليس عليه أن يحلف قائما وهو قول ابن كنانة وبالله التوفيق.
[مسألة: لم يكن للمقتول عمدا عصبة ولا وارث]
مسألة قلت: أرأيت إن لم يكن للمقتول عمدا عصبة ولا وارث أتقسم القبيلة التي هو منها وهو معروف الانتماء إليهم يعقل معهم ويعقلون معه؟ قال: لا قسامة لهم ولا لأحد إلا بوراثة بنسب ثابت أو مولى ولاء أهل نعمته عليهم، ولا يقسم الموالي الأسفلون ولا تقسم القبيلة التي لا تستوجب ميراثه بالانتماء إلى أب يلقاهم عنده بالبينة العادلة.(16/29)
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله، ولا اختلاف فيه أحفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: تقول دمي عند فلان ثم تطرح جنينا ميتا]
مسألة وسألته عن المرأة تقول: دمي عند فلان ثم تطرح جنينا ميتا، فقال: إن ادعت دمها عمدا قتل بالقسامة، قلت أرأيت إن ضربها رجل عمدا فثبت عليه الضرب فطرحت جنينها ثم ماتت أيجب عليه عقل الجنين مع القود إذا سقط ميتا أو إذا ثبت عليه ضربها بالبينة خطأ فسقط ميتا ثم ماتت أيكون عليه عقله مع عقلها أو هل تكون الغرة في خاصة ماله أو على العاقلة؟ وكيف في ثبوت الضرب عليه عمدا أو خطأ بالبينة إن طرحت جنينها حيا فاستهل ثم مات؟ فقال: إذا ثبت عليه أنه ضربها خطأ فطرحت جنينها، ثم ماتت كان عقلها على عاقلته إذا أقسم أولياؤها لماتت من ضربه، ويحلف ورثة الجنين يمينا وحده لمات من ضربه إياها ثم يكون عليه لهم الغرة في خاصة ماله إذا طرحته ميتا، فإن طرحته حيا ثم مات كانت في الأم قسامة وفي الجنين أيضا قسامة، وكان عقلاهما تأمين على عاقلة الضارب، قال فإن قامت عليه البينة أنه ضربها عمدا فطرحت جنينها ميتا ثم ماتت أقسم عليه أولياؤها واستحقوا دمها، وحلف ورثة الجنين يمينا واحدة فأغرموه الغرة في ماله واستقيد منه بدم الأم، وإن طرحت حيا فاستهل ثم مات؛ فإن كان ضربه إياها عمدا في بعض جسدها كانت في الجنين القسامة واستحق بذلك عقله في ماله وأقسم أولياء المرأة على ضاربها عمدا فقتلوه، وإن كان ضرب بطنها حتى رأى الشهود أن عمد القتل الجنين فطرحته حيا واستهل ثم مات كانت فيه(16/30)
القسامة وفي أمه كذلك، ووجب القتل على الضارب لأولياء المرأة وأولياء الجنين يعفون إن أحبوا أو يقتلون ولا يضر أولياء الجنين عفو أولياء المرأة، ولا يضر أولياء المرأة عفو أولياء الجنين وأولياء كل واحد منهما أحق بالاستقادة لدم صاحبهم إلا أن يعفو من أولياء كل واحد منهما واحد ممن يجوز له العفو فلا سبيل إلى القتل.
قلت فلم رأيت عقل الجنين في مال الضارب حين ثبت عليه أنه ضرب أمه عمدا في بعض الجسد فطرحته حيا ثم مات؟ قال: لأن الضرب إذا كان عمدا فصار منه هلاك الجنين ولم يعمد لقتل الجنين بخاصة فهو عندي بمنزلة الذي يقطع أصبع الرجل عمدا فيشل يده ثم يستقاد منه بقطع الأصبع فلا تشل يد المستقاد منه، فإنه يعقل للمجروح الأول عقل شلل اليد ويكون ذلك في خاصة مال الجارح.
قلت: أرأيت ما كان مثل هذا مما يجب في خاصة مال الجاني؟ من أي أسنان الإبل يؤدي أمن أسنان العمد الأربعة أم من أسنان الخطأ الخمسة؟.
قال محمد بن رشد: دية جنين الحرة المسلمة أو النصرانية من المسلم إذا ضربت أو ضرب بطنها فألقت جنينها ميتا وهي حية غرة عبد أو وليدة على ما جاءت به السنة، وقال أشهب: إذا ماتت من الضربة ففي جنينها الغرة خرج قبل موتها أو بعد موتها، وهو قول ربيعة والليث وقيمة الغرة على مذهب مالك خمسون دينارا أو ستمائة درهم وهو من الجراح ويستوي فيه العمد والخطأ؛ لأنه أقل من ثلث الدية فلا تحمله العاقلة، ولو كان الجاني عليه من المجوس لافترق فيه العمد من الخطأ لأنه أكثر من ثلث دية الجاني فيكون في الخطأ على عاقلته، ولا يثبت بالقسامة مع قول أمها، وإنما يثبت بشاهدين(16/31)
على الضرب أو بشاهد واحد مع يمين كل واحد من الورثة لأنه مال من الأموال والذي يأتي في هذا على معنى ما في المدونة إذا تدبرته، والذي في هذه الرواية من أنه لا يستحق ورثة الجنين الغرة إلا بأيمانهم لمات من ضربه أظهر فإن لم يشهد على الضرب إلا شاهد واحد حلف الورثة على الضرب، وعلى أنه مات منه على هذه الرواية، وعلى معنى ما في المدونة إنما يحلفون على تحقيق ما شهد به الشاهد من الضرب خاصة إذ لوثبت الضرب لاستحقوا الغرة على معنى ما فيها دون يمين، هذا الذي رجع إليه مالك من أن دية الجنين لورثته، وقد كان يقول أولا إنها لأبويه خاصة على الثلث والثلثين فأيهما خلا بها كانت له كلها ولا شيء فيها لأحد من سائر ورثته، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار، وقال ربيعة إنه للأم خاصة؛ لأنه عضو من أعضائها وجرح من جراحها، فإن ماتت هي من الضرب كان فيها الدية في الخطأ على العاقلة والقصاص في العمد بالقسامة مع قولها أو مع شهادة شاهدين على الضرب أو شهادة شاهد واحد على الاختلاف في القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح، وكذلك إن استهل الجنين بعد خروجه فمات كانت فيه الدية في الخطأ على العاقلة والقصاص في العمد إلا أنه لا يثبت بالقسامة مع قول أمه، وإنما يثبت بالقسامة مع شاهدين على الضرب لمات منه، وقد قال بعض المدنيين عن مالك: إنه لا قسامة فيه إذا استهل فمات مكانه وإنما تكون فيه القسامة إذا عاش ثم مات أو بشاهد واحد على الضرب على القول بأن القسامة تكون مع الشاهد الواحد على الجرح.
هذا إذا كان الضرب في البطن، وأما إذا كان في سائر أعضائها فقيل إنه لا قصاص في ذلك وإنما فيه الدية في مال الجاني، وهو قوله في هذه الرواية، ومثله في المدونة من قول ابن القاسم قال: لا يكون العمد في المرأة إلا أن يضرب بطنها خاصة تعمدا، فهذا الذي يكون فيه القصاص بقسامة،(16/32)
إلا أن سحنون علم عليه فقال ليس من الأمهات، وهذا القول ينحو إلى القول بشبه العمد الذي قال به أكثر أهل العلم ورواه العراقيون عن مالك لأنه عمد في الضرب وخطأ في القتل إذ لم يقصد الضارب في غير البطن إلى قتل ما في البطن وشبه ذلك في هذه الرواية بما شبهه به، وهو بشبه العمد أشبه، وقيل: إن فيه القصاص إذا علم أن سقوطه كان من الضربة كانت في بطنها أو في ظهرها أو في أي عضو ما كان من أعضائها وقع ذلك لابن القاسم في النوادر، وهو القياس على أصل مذهب مالك في أن شبه العمد باطل.
ولما سأله عن الدية هل تكون في ماله مربعة أو مخمسة لم يجبه على ذلك، والجواب في ذلك أنها تكون في ماله مربعة كدية العمد إذ لا مدخل للخطأ في ذلك، بل لو قيل إنها تكون مثلثة لأنها دية شبه العمد عند من رآه من أهل العلم حسبما ذكرناه في أول سماع ابن القاسم لكان له وجه، فقوله في أول المسألة في المرأة تقول دمي عند فلان وتطرح جنينا ميتا إنها إن ادعت دمها عمدا قتل بالقسامة، يريد وإن ادعته خطأ كانت ديتها على العاقلة بقسامة أيضا، وسكت عن الجنين إذ لا يجب فيه شيء بالقسامة على ما ذكرناه خرج ميتا أو استهل صارخا إذ لا يقبل قول الأم في قتل ابنها، وقد أتى ما ذكرناه على سائر المسألة، وقد مضى في رسم المكاتب القول فيما يستحق به دية جنين النصرانية فلا معنى لإعادته.
واختلف في جنين الأمة فقيل فيه عشر قيمة أمه، وهو قوله في المدونة، وقيل ما نقصها وهو قول ابن وهب، وكذلك جنين أم الولد من غير سيدها ففيه الغرة كجنين الحرة من زوجها وبالله التوفيق.(16/33)
[مسألة: يجرحه جرحا يبلغ مقاتله ثم يعدو عليه رجل آخر فيجهز عليه]
مسألة وسألته عن الرجل يشق بطن الرجل عمدا أو يجرحه جرحا يبلغ مقاتله ثم يعدو عليه رجل آخر فيجهز عليه، قال: يستقاد من الأول الذي بلغ مقاتله ويعاقب الثاني الذي أجهز عليه، ولا يقتل به إلا الأول، وأما الثاني فلا قتل عليه ولكن ليفظع في عقوبته فقد اجترم عظيما، قال وإنما ينظر في هذا إلى ما بلغ منه فإن أنفذ مقاتله حتى لا تعود له حياة لترجى كان أمره على ما وصفت لك وإن أكل وشرب وتكلم، قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن الرجل يضرب الرجل للبطن فيشق أمعائه أو يضربه ضربة يعلم أنه لا يحيى من مثلها ثم يجهز عليه آخر. قال: يقتل الأول ويعاقب الثاني وكذلك كل من ضرب ضربة يعلم أنه لا يحيى من مثلها ثم أكل بعد ذلك أو تكلم ثم مات فإنه قاتله يقتل بلا قسامة.
قال محمد بن رشد: في سماع أبي زيد بعد هذا أن القاتل الآخر هو الذي يقتل، ولا يكون على الأول إلا الأدب، وإيجاب القود على الأول أظهر، ولو قيل إنهما يقتلان جميعا لأنهما قد تشاركا في قتله لكان لذلك مطعن، ووجه رواية أبي زيد أنه بعد إنفاذ مقاتله معدود في جملة الأحياء يرث ويورث ويوصي بما شاء من عتق وغيره، فوجب أن يقتل قاتله وإن علم أن حياته لا تتمادى به كما لو قتل من بلغ به المرض مع الكبر إلى حال يعلم أنه لا تتمادى حياته معه، وقد روي عن سحنون أن وصية من أنفذت مقاتله لا تجوز، فعلى قوله لا يرث ولا يورث ولا يقتل به قاتله، وعلى رواية أبي زيد يرث ويورث ويقتل به قاتله ولم يتكلم ابن القاسم في هذه الرواية هل يرث بعد إنفاذ مقاتله ويورث أم لا؟ والقياس على قوله في أنه يقتل الأول به ألا يرث ولا يورث، والمنصوص من قوله على ما مضى في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى أنه يرث ويورث، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال بالتفرقة(16/34)
بين القصاص والموارثة وهي أحسن الأقوال والله أعلم.
[مسألة: الميت أحق بدمه من الأولياء]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يقتله النفر عمدا فيعفو قبل موته عن بعضهم أو يأخذ الدية من بعضهم ويأمر بقتل بعضهم، فقال: عفوه جائز ومن عفا عنه أيضا على أخذ الدية منه فذلك جائز له ولازم للذي صالحه على غرم الدية، قلت: أرأيت إن مات فأراد الورثة العفو عن الذي أمر ألا يعفى عنه يكون لهم العفو وقد كان أمر بقتلهم إن مات من جراحاته التي أصابوه بها؟
قال محمد بن رشد: لم يقع على هذه المسألة جواب. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ أنه لا عفو للأولياء إلا أن يستحقوه بقسامتهم فيكون العفو إليهم، وقوله صحيح بين؛ لأن الميت أحق بدمه من الأولياء فلما لا يكون لهم أن يقتلوه إذا عفا عنه لا يكون لهم أن يعفوا عنه إذا أوصى ألا يعفى عنه، فإذا مات ولم يعف ولا أوصى بعفو ولا قتل نزل ورثته في ذلك بمنزلته فكانوا مخيرين بين القتل والعفو بدليل قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] . وقد ذكر فضل عن أشهب أنه لا عفو للولاة إذا أقسموا، وهو بعيد إذ لا فرق بين أن يجب القود بإقامة البينة على القتل أو بالقسامة في جواز العفو لهم وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لا تقسموا إلا على فلان]
مسألة قلت: أرأيت إن لم يثبت الدم بقسامة أله أن يقول: لا تقسموا إلا على فلان فيلزمهم ألا يقسموا على غيره؟ قال: ما أرى ذلك إلا(16/35)
له لأنه أعلم بأشدهم ضربا له وأيهم كان أشد عليه فلا أرى إذا قال لا تقسموا إلا على فلان أن يقسموا على غيره.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله واحتج به فلا وجه للقول فيه.
[مسألة: قال لا تقسموا إلا على فلان وضعوا القسامة عن سائرهم]
مسألة قلت أرأيت إن قال دمي خطأ عند فلان وفلان وفلان فسمى رجالا وقال: لا تقسموا إلا على فلان وضعوا القسامة عن سائرهم؟ فقال: إن كان ثلث المقتول يسع ما كان يصير من الدية على الذين أمر بوضع القسامة عنهم لم يكن للورثة أن يقسموا إلا على الذي أمر الميت أن يقسم عليه ويكون لهم على عاقلته بقدر ما كان يصير عليه من الدية بالقسامة لو أقسموا عليهم أجمعين، وتسقط القسامة عن الآخرين ويسقط عنهم ما كان يجب عليهم من الدية بالقسامة، قال: وإن لم يسع ذلك الثلث خير الورثة فإن أحبوا أن يقسموا على الذي أمر به وحده ويحوزوا وصية صاحبهم، فيسقطون من الدية ما كان يصير على الذين أمر الموصي ألا يقسموا عليهم، فذلك لهم وإن أبوا ذلك لضيق الثلث أقسموا عليهم أجمعين وتحاص الذين أوصى لهم المقتول ألا يقسم عليهم في الثلث ثم يوضع عن كل واحد منهم مما وجب عليه من الدية بقدر ما نابه من الثلث، وكان ما بقي على عواقلهم أجمعين وثبت على الذي أمر أن يقسم عليه ما ينوبه من جميع الدية على كل حال إن أقسموا عليه وحده أو عليهم أجمعين.
قلت: أرأيت إن قال الورثة لا نقسم إلا عليهم أجمعين وسع ذلك الثلث أو لم يسع، فإذا ثبت الدم أسقطها عن الذين وضعت(16/36)
عليهم القسامة ما وجب عليهم من الدية أذلك لهم؟ وهل لعاقلة الذي يقسم عليه وحده إذا كان بعد ثبوت الدم لا يصير عليه إلا أقل من ثلث الدية أن يقولوا: لا نغرم شيئا إلا الذي وجب على صاحبنا لم يبلغ الثلث، والدم لم يرم به هو وحده، وأنتم لم تحلفوا على جميع من وجب لكم عليه القسامة.
قال محمد بن رشد: قوله إنه إذا كان ثلث المقتول يسع ما يصير على الدية على الذين أمر بوضع القسامة عنهم لم يكن لهم أن يقسموا إلا على الذي أمر الميت أن يقسم عليه خلاف ما في سماع سحنون أنهم يقسمون على جميعهم، وليس لهم أن يقسموا على بعض دون بعض، فإذا أقسموا على جميعهم نظر حينئذ إلى الذين أمر ألا يقسم عليهم، فإن كان ثلث ماله يحمل ما يقع عليهم من الدية لم يكن عليهم شيء، يريد وإن لم يحمل ذلك ثلث ماله سقط عن كل واحد منهم ما حمل الثلث من ذلك، وكان الباقي على عاقلة كل واحد منهم.
ووجه هذا الاختلاف أنه حمل قوله في هذه الرواية على أنه إنما أمر بالقسامة على بعضهم من أجل أنهم كانوا أشد عليه فيما أصابوه به فوجب ألا يتعدى بالقسامة من أمر أن يقسم عليه؛ لأنه أعرف بقدر ما أصابه به كل واحد منهم، وحمل قوله في رواية سحنون على أنه إنما أراد الإحسان إلى الذين أوصى ألا يقسم عليه منهم مع تساويهم فيما أصابوه به، فلم يكن له أن يكلف الورثة القسامة على بعضهم دون بعض مع تساويهم فيما أصابوه به فتكون أيمانهم على ذلك أيمان غموسة، ولو بين فقال لا تقسموا إلا على فلان فإن الذي أصابني هو به أشد مما أصابني سائرهم لم يكن لهم أن يقسموا إلا عليه(16/37)
قولا واحدا، ولو بين أيضا فقال: لا تقسموا إلا على فلان وإن كان هو وغيره سواء فيما أصابوني به لم يلزم الورثة وصيته بذلك وكان لهم أن يقسموا عليهم كلهم قولا واحدا والله أعلم.
وتفسير ما ذكره من التحاص إذا كان ثلث ماله لا يحمل ما يصير من الدية على الذين أوصى ألا يقسم منهم إلا على واحد ويكون المقتول قد ترك من المال سوى الدية مائتي دينار فمال الميت على هذا ألف دينار ومائتا دينار، وثلثه أربعمائة دينار والموصى لهم تسعة أنفس بتسعمائة دينار فيتحاصون في ثلث الميت فيصير لكل واحد منهم أربعة أتساع ما عليه من الدية فيسقط عن كل واحد منهم أربعة أتساع المائة التي عليه وعلى عاقلته، ويكون عليه وعلى عاقلته خمسة أتساع المائة التي كانت عليه وعليهم؛ لأنه كرجل منهم فيما يلزمهم.
وقوله في الرواية قلت: أرأيت إن قال الورثة: لا نقسم إلا عليهم أجمعين إلى آخر قوله لم يقع عليه فيها جواب، وذلك يجري على ما تقدم من الاختلاف، فلا يكون ذلك لهم على هذه الرواية ويكون ذلك لهم على ما في سماع سحنون وبالله التوفيق.
[مسألة: أولياء الدم الذين وجبت لهم القسامة يغيب بعضهم]
مسألة وسألته عن أولياء الدم الذين وجبت لهم القسامة يغيب بعضهم أيقسم من حضر منهم؟ فقال: إذا كان الذي غاب من أهل القعدد ممن يجوز عفوه على من حضر لو ثبت لهم دم وممن لو حضر فنكل ردت القسامة بنكوله على المدعى عليه فمن غاب من هؤلاء انتظر أبدا حتى يقدم فيقسم أو يعرف نكوله، ولا سبيل إلى القتل دون ذلك وإن أقسم من حضر ممن هو من الميت بمنزلته، وإنما يؤمر من حضر منهم أن يقسم وإن غاب صاحبه؛ لأنه إن نكل من عاجل سقطت القسامة عنه وعمن حضر من أصحابه أو غاب، وردت الأيمان على(16/38)
المدعى عليه، وإن حلف الحضور ولم ينكل أحد منهم فذلك أمر قد احتيطت فيه لأولياء الدم لما يخاف عليهم من الموت قبل أن يقدم صاحبهم الغائب خوفا من أن يقدم ليقسم فيوجد هؤلاء قد ماتوا أو لا يوجد أحد يقسم معه فيبطل الدم، ولكن يتعجل القسامة ممن حضر ثم يحبس القاتل حتى يقدم على الغائب فيقسم أو يعرف نكوله ولا يعجل في القتل دون قدومه وإن كان الحضور الذين أقسموا اثنين فصاعدا، فليس ذلك بالذي يوجب لهم القتل بقسامتهم دون حضور الغائب منهم، قال: ولو كان الغائب منهم ممن لو حضر فثبت الدم لم يجز عفوه وإن نكل لم تسقط القسامة بنكوله حلف الحضور الذين هم أقعد واستحقوا الدم، وإن لم يكن الحاضر الأقعد إلا واحدا فوجد ثانيا فما فوقه ممن تجوز له القسامة حلف واستحق الدم ولم ينتظر الغائب، وإن كان في القعدد مثل الذي يستعين بقسامته الأقعد الحاضر مثل أن يكون الأقعد الحاضر ابن المقتول والمستعان به أخ أو ابن عم والغائب أيضا ابن عم أو أخا، فهذا الذي لا ينتظر وإن حضر فنكل لم يضر نكوله ابن المقتول إذا جاء بثاني فما فوقه من إخوة الميت أو بني عمه أو عصبته يقسمون معه.
قلت: أرأيت إن نكل أخو المقتول أن يحلف مع ابن أخيه فحلف مع ابن المقتول عم المقتول أو ابن عم أو مولاه الذي أعتقه أتسقط القسامة بنكول هذا الذي هو أقعد من الذين يريدون أن يقسموا مع ابن المقتول؟ فقال: لا تسقط قسامتهم ما لم ينكل الأقعد دنيا الذي يجوز عفوه على من معه وهو أطرف منه، ولكن يقسم هو والأطرف ولا ينظر إلى نكول الأوسط.(16/39)
قال محمد بن رشد: قوله فمن غاب من هؤلاء انتُظر أبدا حتى يقدم، ظاهره وإن كان بعيد الغيبة، وهو ظاهر ما في المدونة أيضا بخلاف الصغير، وقد قيل: إنه ينتظر الصغير كالغائب، وقال سحنون إن قرب بلوغ الصغير أو مغيب الغائب انتظر، وإن بعد الغائب ولم يقرب بلوغ الصغير لم ينتظر واحد منهما، فحمل المسألتين بعضهما على بعض، والقياس أن ينتظر الصغير وإن بعد بلوغه والغائب وإن بعدت غيبته.
وقوله: وردت الأيمان على المدعى عليه ظاهره أنه هو يحلف وحده إذا ردت عليه الأيمان، ومثله في المدونة، وهو نص قول مطرف، وقد مضى الاختلاف في هذا وتوجيهه في أول رسم من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته وسائر ما ذكره في المسألة بيّن لا إشكال فيه ولا وجه للقول.
[مسألة: يقول دمي عند أبي خطأ أوعمدا]
مسألة وسألته عن الرجل يقول دمي عند أبي خطأ أو عمدا، قال: أما الخطأ فإن الورثة تستوجب عقله على عاقلة الأب بقسامتهم والقسامة تجب لهم على الأب بقول ابنه: دمي عند أبي خطأ، وأما قوله دمي عند أبي عمدا فإنه إن لم يفسر العمد وأبهمه رأيت أن يقسموا على قوله فإن استحقوا دمه درأ عنه القتل لإبهام ابنه العمد الذي رماه به وأغلظت عليه الدية كما صنع عمر بالمدلجي، وكانت في خاصة ماله.
قال: وإن قال أضجعني وذبحني ذبحا وأخذني فبقر بطني وما أشبه هذا مما لو صنع مثله فأثبتته عليه بينة أقيد منه (و) يقتل به، فإن القسامة تقسم على الأب بقول ابنه ويستحقون الدم، فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على المشهور من قول مالك في(16/40)
أن القسامة تكون في الخطأ بقول المقتول قتلني فلان خطأ، وقد مضى الاختلاف في ذلك في رسم العتق من سماع عيسى ولا اختلاف في المذهب في أن قول المقتول قتلني فلان عمدا لوث يوجب القسامة والقود، وإذا وجب به القود في الأجنبي. فأحرى أن يجب به في الأب إذا بين في تدميته عليه أنه قصد إلى قتله بالوجوه التي ذكرها وشبهها.
[مسألة: من تغلظ عليه الدية أيرث من المال]
مسألة قلت: أرأيت الأب أو كل من تغلظ عليه الدية إذا غلظت عليه أيرث من المال؟ بمنزلة من قتل وليه خطأ أم لا يرث من المال ولا من الدية؟
قال محمد بن رشد: لم يقع لهذه المسألة جواب، والجواب فيها ما وقع من قوله في المدونة أنه لا يرث من ماله قليلا ولا كثيرا لأنه من العمد، وليس من الخطأ، ولو كان من الخطأ لحملته العاقلة، وقد مضى في أول سماع ابن القاسم، الاختلاف في كونها على العاقلة، ولا يدخل الاختلاف في الميراث من ذلك، والله أعلم.
[مسألة: الكبير يقول دمي عند فلان يرمي به صبيا]
مسألة وسألته عن الرجل الكبير يقول: دمي عند فلان يرمي به صبيا قال: يقسم القسامة مع قوله، ويكون العقل على العاقلة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن عمد الصبي خطأ وبالله التوفيق.(16/41)
[: يقول قتلني فلان وقتل فلانا لرجل آخر]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: قتلني فلان وقتل فلانا لرجل آخر، قال: يقبل قوله في نفسه وفي غيره، وتكون القسامة مع قوله في غيره إذا كان عدلا، وليس مثل الرجل يقول: قتلني فلان وقتل ابني أن قوله لا يقبل في ابنه ويقبل في نفسه، قلت وإن قال قتلني خطأ وقتل فلانا عمدا فسكت.
قال محمد بن رشد: الفرق بين أن يقول: قتلني فلان وقتل فلانا وبين أن يقول: قتلني وقتل ابني بين؛ لأنه شاهد لنفسه مدع دعوى قد أحكمت السنة إسقاط التهمة عنه فيها، فوجب أن تجوز شهادته مع ذلك لغيره، إذ لو شهد لغيره دون أن يشهد لنفسه لجازت شهادته له وألا تجوز لابنه إذ لو شهد لابنه دون أن يشهد لنفسه لم تجز شهادته له.
وأما إذا قال قتلني فلان خطأ وقتل فلانا عمدا فسكت عن الجواب في ذلك، وذلك يتخرج على الاختلاف في إعمال قوله قتلني فلان خطأ؛ لأنه إذا لم يتهم في قوله قتلني فلان خطأ وأعمل وجب إعمال قوله وفلانا عمدا، وإذا اتهم في قوله قتلني فلان خطأ في أنه أراد غنى ولده فلم يجز قوله، وجب ألا يعمل قوله وقتل فلانا عمدا؛ لأنها شهادة واحدة، فإذا سقط بعضها للتهمة سقطت كلها على المشهور في المذهب، وقد مضى في نوازل أصبغ من كتاب الشهادات تحصيل القول فيما يجوز فيه بعض الشهادة إذا رد بعضها مما لا يجوز وبالله التوفيق.
[مسألة: على من تكون الدية]
مسألة وسئل عن الرجل يجرح النصراني أو العبد ثم يسلم النصراني ويعتق العبد ويقول هذا العبد بعد العتق والنصراني بعد الإسلام دمنا(16/42)
عند فلان أن أولياء النصراني إن كان له أولياء مسلمون أو العبد كذلك إن كان له أولياء أحرار من ولد وإلا فمواليه أقسموا واستحقوا الدية في النصراني وفي العبد ألف دينار (أ) واثنا عشر ألف درهم تكون للورثة الذين أقسموا.
قلت على من تكون الدية أعلى العاقلة أم في مال الجاني؟ قال: بل في مال الجاني.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم أنه لا قسامة في ذلك فإن ثبت الجرح حلف ورثته يمينا واحدة واستحقوا الدية في ماله، وهو قول له وجه؛ إذ لا يستحق بذلك الدم فيجب فيه القصاص في العمد أو الدية على العاقلة في الخطأ، وإنما يستحق به مال، وقوله إن الجناية في مال الجاني يريد كانت الجناية عمدا أو خطأ، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم بع من سماع عيسى لتكررها هناك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال الرجل دمي عند فلان قتلني خطأ]
مسألة وسألته عن القسامة وما تفسيرها إذا قال الرجل: دمي عند فلان قتلني خطأ فقيل لولاته وهم ورثته: أقسموا فأبوا وردوا الأيمان على المدعى عليهم من هؤلاء الذين ترد عليهم الأيمان المدعى عليهم أو العاقلة التي تحمل عقل الجناية؟ فقال لي: ذلك على المدعى عليهم الدم وعاقلتهم الذين يجب عليهم العقل، قلت فيحلف منهم خمسون رجلا أو يحلفهم كلهم؟ فقال لي: يحلف خمسون رجلا، قلت: فإن أبوا وتقدم عشرة وحلفوا؟ فقال لي: يبرأ هؤلاء ويكون العقل على من بقي، قلت: ما معنى هذا يبدؤون ويكون العقل على من بقي أيسقط خمس الدية لأن عشرة حلفوا؟ أو يسقط عنهم ما يقع عليهم على قدر العاقلة وكثرتهم؟ فقال لي غير القول الأول إن مالكا(16/43)
قال لي هو مثل الحق، فإذا نكل أولياء الدم عن القسامة فهو حق قد وجب على عاقلة المدعى عليه، فليس يبرئهم إلا اليمين ولو كانوا عشرة آلاف، ومن حلف منهم سقط عنه بقدر ما يصيبه، ومن لم يحلف غرم بقدر ما يقع عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يضرب ثم يسلم فيقول قتلني فلان]
مسألة قال ابن القاسم في النصراني يضرب ثم يسلم فيقول قتلني فلان فقال: يقسم ورثته ويأخذون الدية، وليس لهم أن يقتلوا، وكذلك العبد يجرح ثم يعتق فيقول: فلان قتلني مثله، وأما النصراني لو ضرب فقال: فلان قتلني ثم مات فليس له فيه شيء لا بقسامة ولا بيمين إلا أن يقوم بشاهد واحد فيحلف أولياؤه يمينا واحدة ويأخذون الدية وهو خلاف لما في كتاب المسائل رجع إلى هذا، ورجع إلى أن قال إذا قال الرجل قتلت فلانا خطأ أنه لوث، فإن شهد على إقراره رجل أنه أقر أقسم مع شاهده ثم ترك هذا وقال: لا يجوز حتى يشهد على إقراره شاهدان ورجع في مسألة أم الولد عما في كتاب المسائل.
قال محمد بن رشد: قوله في النصراني يسلم والعبد يعتق بعد الجناية على كل واحد منهما، قد تقدم في هذا الرسم قبل هذا، ومضى الكلام عليه في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى.
وأما قوله في النصراني يضرب فيقول: فلان قتلني ثم يموت إنه ليس فيه قسامة ولا يمين فهو أمر لا اختلاف فيه، وأما إذا كان لولاته شاهد على قتله فقوله: إنهم يحلفون مع شاهدهم يمينا واحدة ويأخذون الدية مثله في المدونة،(16/44)
وهو خلاف ظاهر ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته ومضى الكلام أيضا في القسامة مع إقرار القاتل بقتل الخطأ ومع الشاهد الواحد على إقراره بذلك فلا معنى لإعادته، ومسألة أم الولد التي أشار إليها وذكر رجوعه عما قال في كتب المسائل فيها هي مسألة أم الولد تقتل سيدها والله أعلم، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال قتلني فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ]
مسألة [قال وسمعت أشهب يقول إذا قال: قتلني فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ وقال رجلان من ولاته قتل عمدا وقال الآخرون وهم اثنان أيضا قتل خطأ وهم في القعدد سواء أقسموا كلهم واستحق الذين أقسموا على الخطأ نصف الدية على العاقلة، واستحق الذين أقسموا على العمد نصف الدية في ماله.
[قال أشهب وكذلك لو قال اثنان منهم: قتل عمدا، وقال الآخرون: لا علم لنا أو نكلوا حلف الذين ادعوا العمد واستحقوا نصف الدية في ماله] .
وإنما نكولهم عن الأيمان عن القسامة قبل أن يجب لهم الدم كعفوهم عنها لو وجبت للميت فيصير لمن بقي نصيبهم من الدية ويسقط القتل، قلت لأشهب: فإن قال دمي عند فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ أو شهد بذلك شاهد ولم يقل عمدا ولا خطأ وللميت بنات وعصبة فقال البنات: قتل عمدا وقال العصبة: خطأ؟ قال: فإن البنات لا يقسمن في العمد، ولا يكون لهن إلى الدم سبيل ولكن يقسم(16/45)
البنات والعصبة فيكون للعصبة ثلث الدية على عاقلته، ويكون للبنات ثلث الدية في مال الجاني خاصة لأنهن يزعمن أنهم لا شيء لهن على العاقلة، وقلت لأشهب إنه يزعمن أنهن لا حق لهن في ماله وإنما حقهن في دمه؟ قال: إنه لما لم يكن لهن إلى القتل سبيل كان بمنزلة ما لو استحقوه ثم عفا بعض من يجوز له العفو وصار نصيب من بقي في ماله، فكذلك إذا لم يكن إلى الدم سبيل لأن البنات لا يقسمن في العمد ليقتلن، إنما أقسمن واستحققن الدية في ماله ولم يكن لهن على العاقلة شيء.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا إنه إن قال بعض الأولياء: قتل عمدا، وقال بعضهم: قتل خطأ وهو في القعدد سواء أقسموا كلهم واستحق الذين أقسموا على الخطأ نصف الدية على عاقلته، والذين أقسموا على العمد نصف الدية في ماله خلاف قول ابن القاسم في المدونة أنهم إن حلفوا كلهم كانت لهم دية الخطأ بينهم كلهم الذين ادعوا العمد والذين ادعوا الخطأ، ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه قول أشهب أن المقتول لما أبهم الأمر في تدميته عليه فلم يقل عمدا ولا خطأ كان القول قول كل طائفة من الولاة فيما ادعوه من عمد أو خطأ إن حلفوا جميعا فإن نكل بعضهم أو قالوا لا علم لنا حلف من ادعى المعرفة منهم على ما يدعيه من عمد أو خطأ وكان القول قولهم في حظهم من الدية على القاتل في ماله إن ادعوا العمد وحلفوا عليه على أصله في أن نكول بعض الأولياء في العمد لا يبطل حق من لم ينكل من الدية، وعلى العاقلة إن ادعوا الخطأ وحلفوا عليه ولم يكن للذين نكلوا أو قالوا: لا علم لنا شيء، ولو كان بعضهم أقعد من بعض على مذهب أشهب لكان القول قول الذين هم أقعد فيما ادعوه من عمد أو خطأ يحلفون عليه ويستحقونه إما على العاقلة وإما في ماله، ولا سبيل لهم إلى القول على حال إذ لم ينص الميت على عمد ولا خطأ، ولا شيء للأبعد معهم في ذلك، ووجه قول ابن(16/46)
القاسم أن الميت لما أبهم التدمية وجب أن تحمل على الخطأ؛ لأنه الأقل حتى يعرف الأكثر على الأصل في براءة الذمة فكان لمن ادعى الخطأ من الولاة أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة، فإن حلف الذين ادعوا العمد شاركوهم في الدية؛ لأنهم مقرون لهم بدخولهم معهم فيها وإن أبوا أن يحلفوا وقالوا: لا علم لنا لم يكن للذين ادعوا الخطأ وحلفوا عليه إلا حظهم من الدية، وإن نكل الذين ادعوا الخطأ وقالوا: لا علم لنا، لم يكن للذين ادعوا العمد أن يحلفوا على ما يدعونه من العمد إذ لم يقل ذلك الميت، بل لو قال ذلك الميت لم يكن لهم أن يحلفوا ويستحقوا الدم ولا الدية على مذهبه إذا نكل بعضهم عن اليمين أو عفا عن الدم، ولا فرق بين أن يعفوا على الدم أو [يقر] أنه خطأ، وهذا إذا كانوا في قعدد واحد، فإن لم يكونوا في قعدد واحد وكان الذين ادعوا الخطأ أقرب حلفوا واستحقوا الدية على العاقلة ولم يكن للذين هم أبعد منهم شيء؛ إذ لا دخول لهم معهم في الدية، وإن كان الذين هم أقرب هم الذين ادعوا العمد لم يكن لهم أن يقسموا على العمد إذ لم يقل ذلك الميت وإن كانوا بنات وعصبة فادعوا كلهم الخطأ حلفوا واستحقوا الدية على العاقلة، وإن ادعى البنات الخطأ والعصبة العمد حلف البنات واستحققن ثلثي الدية على العاقلة ولم يكن للعصبة شيء، وإن ادعى العصبة الخطأ حلفوا عليه واستحقوا ثلث الدية على العاقلة ولم يكن للبنات شيء؛ لأنهن ادعين العمد ولا قسامة لهن فيه هذا الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم في المدونة وهو أظهر من قول أشهب، وقد كان القياس أن يبطل الدم ولا يكون في ذلك قسامة لا لمدعي الخطأ ولا لمدعي العمد؛ لأن العاقلة تنازع مدعي الخطأ تقول لهم ليس لكم أن تقسموا على الخطأ إذ لم يقل ذلك الميت والقاتل ينازع مدعي العمد يقول لهم: ليس لكم أن تقسموا على العمد إذ لم يقل ذلك الميت.(16/47)
وكذلك القياس أن تبطل شهادة الشاهد إذا شهد بالقتل ولم يقل خطأ ولا عمدا خلاف قول أشهب في مساواته بين ذلك وبين قول الميت دمي عند فلان ولم يقل عمدا ولا خطأ، وأما قول أشهب إنه إذا كان له بنات وعصبة فادعى البنات العمد والعصبة الخطأ إن البنات لا قسامة لهن في العمد ولكن يقسمن على ما ادعين وتقسم العصبة على ما ادعت من العمد ويكون للعصبة الثلث ثلث الدية على عاقلته ويكون للبنات ثلثا الدية في مال الجاني خاصة لأنهن يزعمن أنهن لا شيء لهن على العاقلة فقد وجهه بما ذكره من التوجيه وهو ضعيف ولو ادعى على مذهبه البنات الخطأ والعصبة العمد لحلف البنات واستحققن ثلثي الدية على العاقلة، وحلف العصبة واستحقوا الثلث في مال القاتل، والصحيح ما ذكرناه من مذهب ابن القاسم في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: ما أصيب من أصابع المرأة خطأ شيئا بعد شيء]
مسألة وقال أشهب في المرأة تقطع أصبعيها عمدا فتقتص أو تأخذ لذلك شيئا ثم يقطع ما بقي من أصابعها خطأ بقطع الثلاثة معا أو واحد بعد واحد أن لها في ذلك عشر عشر وإن كان في الأصبعين الأولين خطأ فإذا استكملت من ذلك الكف ثلث الدية دية الرجل رجعت إلى النصف.
قال محمد بن رشد: اختلف فيما أصيب من أصابع المرأة خطأ شيئا بعد شيء على ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا يضاف شيء من ذلك إلى شيء، ويكون لها في كل أصبع عشر من الإبل كالرجل سواء إلا أن يقطع لها في مرة أربع أصابع فترجع في ذلك إلى عقل نفسها ويكون لها عشر من(16/48)
الإبل وهو قول المغيرة وعبد العزيز بن أبي سلمة قالا: لا تضم مصيبة إلى مصيبة والثاني أن لها أيضا في كل أصبع يقطع لها عشرا إلا أن ينقطع لها في مرة أربع أصابع فترجع فيها إلى عقل نفسها فحينئذ يكون لها في الأصبع الخامسة خمس على حساب عقلها، وهذا القول حكاه ابن الماجشون عن مالك ونفى عنه ما سواه، والقول الثالث أنه يضاف بعض ذلك إلى بعض فإذا اجتمع من ذلك الدية رجعت إلى عقل نفسها فيكون لها على هذا القول وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها في الأصبع الأولى عشر، وفي الثانية عشر، وفي الثالثة عشر، وفي الرابعة خمس، وفي الخامسة خمس، واختلف على هذا القول هل يحسب عليها ما قطع من أصابعها عمدا فاقتصت به أو أخذت له عقلا، فقال أشهب في هذه الرواية: إنه يحسب عليها ويكون لها في الثلاثة الأصابع ثلاثون من الإبل قطعت معا أو شيئا بعد شيء، كما لو أصيب الأصبعان بأمر من السماء، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك لم يختلف في ذلك قوله، وقد روي عن أشهب أنه يحسب عليها من أصابها ما أصيبت عمدا، وهو قول سحنون وأبي إسحاق والبرقي ولم يروا ذلك بمنزلة ما ذهب بأمر من السماء، هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: دية التغليظ أتكون في المال أم على العاقلة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن دية التغليظ مثل ما صنع عمر بالمدلجي أتكون في المال أم على العاقلة؟ قال: بل في المال وتكون حالة ولا تكون في ثلاث سنين.
قال محمد بن رشد: هذا مذهبه في المدونة وروايته عن مالك، وقد روي عنه أنها على العاقلة كدية الخطأ مؤجلة وقيل إنها على العاقلة(16/49)
حالة، وقيل: إنها في ماله. إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال، وقد مضى هذا في أول سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: دية العمد إذا قبلت ولم يشترطوا فيها شيئا]
مسألة قال ابن القاسم: ودية العمد إذا قبلت لم تكن في ثلاث سنين وكانت حالة.
قال محمد بن رشد: قد قيل في دية العمد إذا قبلت ولم يشترطوا فيها شيئا سن بها سنة دية الخطأ في التأخير، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه، وقول ابن القاسم في رواية حسين بن عاصم عنه، وأما إذا صولح القاتل على دنانير أو دراهم أو عروض فلا اختلاف في أنها تكون حالة وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أقسموا على فلان ولا تقسموا على من بقي]
مسألة وسئل عن ثلاثة نفر ضربوا رجلا عمدا فقال: أقسموا على فلان ولا تقسموا على من بقي، قال: ذلك له ألا يقسموا إلا على من قال؛ لأنه لو لم يقل لم يكن لهم أن يقسموا إلا على واحد يختارونه فهو أولى بدمه وبالخيار، قلت له وإن كان خطأ؟ [قال: وإن كان خطأ] فإن الذي يقع بالقلب أن ذلك لا يقبل منه ويقال للورثة أقسموا عليهم كلهم وليس لكم أن تقسموا على بعض دون بعض، فإن أقسموا نظر إلى الذين قال: لا تقسموا عليهم فإن كان ثلث ماله يحمل ما يقع عليهم لم يكن عليهم شيء، وكذلك لو قال: لا تقسموا على أحد قيل لهم أقسموا إن أحببتم فإن أقسموا فكان ثلث ماله يحمل الدية كان كالوصية تجوز في ثلثه مع غيره من الوصايا.(16/50)
قلت: أرأيت لو لم يقل شيئا فقال أولياؤه نحن نقسم على واحد ونترك البقية؟ قال: ليس ذلك لهم وهو لا يدري من ضرب من مات منهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في أول رسم عبد ابتاعه من سماع يحيى فلا معنى لإعادته والله الموفق.
[مسألة: شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات]
مسألة قال: وقال ابن القاسم فيمن قتل بين الصفين إذا شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات بعد ذلك بأيام فإن فيه القسامة، قال ابن القاسم: وإن شهد على قتله رجل واحد أو على إقراره رجل واحد فلا أرى فيه القسامة، قيل له فالرجل يقول: قاتلت فلانا وفلانا وأثرت فيهما ثم يموت هل تكون فيه قسامة؟ قال: لا، من قبل أنه بمنزلة من قتل بين الصفين؛ ولأنه زعم أنه قاتلهما وهو كشاهد، ولا يشهد لنفسه، وليس هو بمنزلة من يقول: ضربني فلان وفلان؛ لأنه لما قال قاتلتهما كان بمنزلة من قتل بين الصفين.
قال محمد بن رشد: قوله فيمن قتل بين الصفين إنه إذا شهد رجلان على رجل أنه جرح فلانا ثم مات من تلك الجراحات بعد ذلك بأيام فإن فيه القسامة خلاف قوله عقيب ذلك وأن شهد على قتله رجل واحد فلا أرى فيه القسامة إذ لا فرق في القسامة بين الشاهدين على الجرح وبين الشاهد على القتل فمرة رأى القسامة فيمن قتل بين الصفين بكل واحد من الوجهين وبقول المقتول دمي عند فلان، ومرة لم ير القسامة فيمن قتل بين الصفين بواحد من الوجهين ولا بقول المقتول دمي عند فلان، ومرة رآها بالشاهد على القتل والشاهدين على الجرح ولم يرها بقول المقتول دمي عند فلان، وقد مضت(16/51)
هذه المسألة في رسم الجواب من سماع عيسى ومضى الكلام عليها مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، وأما شهادة الشاهد الواحد على إقرار القاتل بالقتل فلم ير في هذه المسألة الرواية بذلك قسامة وقد مضى بيان الاختلاف في ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى وبالله التوفيق.
[مسألة: قال شجني فلان ولم يسمع ذلك عنه إلا رجل واحد]
مسألة قال ابن القاسم: وأما إذا قال الرجل: شجني فلان ولم يسمع ذلك عنه إلا رجل واحد فشهد على ما سمع منه ذلك الرجل وحده، قال لا يقسم مع شهادة هذا وحده، ولا تكون قسامة حتى يشهد على قوله رجلان؛ لأن الذي قال فلان ضربني كأنه وقف موقف شاهد فلا يقسم على [الذي ادعى عليه حتى يشهد على قوله رجلان، وكذلك إذا قال فلان قتلني.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لا إشكال فيه ولا اختلاف.
[مسألة: يضربه القوم فيحمل فيقيم أياما فيموت فيقرون أن من ضربهم مات]
مسألة قال ابن القاسم: في الرجل يضربه القوم فيحمل فيقيم أياما فيموت فيقرون أن من ضربهم مات أنه لا قتل عليهم لأنهم كذبة لا يصدقون.
قال محمد بن رشد: إنما قال إنهم لا يقتلون جميعا بإقرارهم أن من ضربهم مات لاحتمال أن يكون إنما مات من ضرب بعضهم لا من ضرب جميعهم أو من شيء عرض له غير ضربهم فلا يقتل واحد منهم إلا بالقسامة يقسم الأولياء على أحدهم أنه مات من ضربهم ويقتلونه، وكذلك لو كان الذي ضربه واحدا فعاش بعد ضربه إياه ثم مات فأقر أن من ضربه مات لم(16/52)
يقتل بإقراره إلا مع القسامة على هذه الرواية وعلى ما تقدم في رسم الصبرة من سماع يحيى، وعلى قول المغيرة واختيار سحنون يقتل المقر أن من ضربه مات بغير قسامة وإن أقروا كلهم أن من ضربهم مات قتلوا بغير قسامة فعلى قول المغيرة يقتل المقر أن من ضربه مات بغير قسامة إلا أن يرجع عنه فيقبل رجوعه لأنه يقول ظننت أنه مات من ضربي ثم تحققت أنه لم يمت منه، وقد حكى ابن المواز أن قول ابن القاسم قد اختلف في ذلك، فمرة قال: إنه يقتل بقسامة، وقال مرة بغير قسامة، فقوله: إنه يقتل بغير قسامة هو مثل قول المغيرة، والأولى ألا يحمل ذلك على أنه اختلاف، وأنه إنما قال إنه يقتل بغير قسامة إذا لم تكن له حياة، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع عيسى.
[مسألة: شهدا على رجل بقتل خطأ فأخذ الأب من العاقلة الدية ثم جاء ابنه حيا]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن شاهدين شهدا على رجل بقتل خطأ فأخذ الأب من العاقلة الدية ثم جاء ابنه حيا، قال يرد الدية التي أخذ من العاقلة لأنه وإن كان شهد له بمال فقد جاء من ينتزعه من يديه؛ لأنه لا شيء له أصلا، وقد يتقن إن شهد له به ليس كما شهد، قيل له: فإن وجد الأب عديما؟ قال: يغرمه الشاهدان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض، الروايات وهي ثابتة في كل رواية في الرسم الأول من سماع أصبغ وهي صحيحة بينة لا إشكال في أن الأب يرد ما قبض إذ قد تبين أنه قبض ما لم يجب له.
وأما قوله إنه يغرم الشاهدان إن وجد الأب عديما فهو بيّن إن كانا شهدا بزور إذ لا اختلاف في أن الشاهد يضمن ما أتلف بشهادته من المال إذا تعمد الزور وأما إن كانا شبه عليهما فقد قيل إنهما لا يضمنان وقد مضى تحصيل(16/53)
القول في هذا في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات، وإذا غرم الشاهدان للعاقلة في عدم الأب كان لهما أن يتبعا الأب بذلك وبالله التوفيق.
[: يجرحه الرجل فينزى في جرحه فيموت فيقوم لأوليائه شاهد واحد]
من نوازل سحنون وسئل سحنون عن الرجل يجرحه الرجل فينزى في جرحه فيموت فيقوم لأوليائه شاهد واحد أن فلانا جرحه ليس مع الشاهد غيره هل تثبت القسامة لهم؟ قال: نعم، بمنزلة ما لو شهد لهم على القتل، وقد قال لا تجب القسامة بالشاهد الواحد على الجرح حتى يشهد على القتل بعينه.
قال محمد بن رشد: وإذا ثبتت لهم القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح على القول بوجوب القسامة وهو الذي في المدونة فيقسمون لجرحه ولمات من جرحه، وقد مضى القول على هذه المسألة وما يتعلق بها في رسم المكاتب من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: جرح في منازعة لا يدري من جرحه]
مسألة قال سحنون في قوم وقعت بينهم منازعة فدخل رجل يحجز بينهم فأصابه جرح لا يدري من جرحه؟ وكيف إن قتل؟ قال سحنون: إن جرح أو قتل فعلى الفريقين في القتل الدية على العاقلة وفي الجراح في أموالهم إلا أن يبلغ الثلث فيكون على العاقلة.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لا إشكال فيه في القتل أو الجراح إذا كان مما تحمله العاقلة لأنه يدري أنه لم يفعله غيرهم، فيفرق العقل على قبائلهم أجمعين، وأما الجرح فيما دون الثلث فيكون في أموال جميعهم إن حلفوا كلهم أو نكلوا كلهم عن اليمين، وإن حلف بعضهم ونكل(16/54)
بعضهم عن اليمين برئ من حلف منهم وكان عقل الجرح على من نكل منهم وبالله التوفيق.
[مسألة: الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا فيقتل رجلا مسلما خطأ]
مسألة وأخبرنا أبو إسحاق بن أبي الفياض البرقي قال: سمعت أشهب يقول في الحربي ينزل بأمان طالبا الفدا أو نازلا للتجارة فيقتل رجلا مسلما خطأ، قال: يحبس ويرسل إلى أهل موضعه وكورته التي هو بها يعلمهم بما أحدث صاحبهم وبالذي يجب عليهم في أحكام المسلمين فإن حملوا جنايته فبسبيل ذلك وإن أبوا لم يكن على الجاني إلا بقدر ما كان يصيبه لو أطاعوا بحملها على قدر الاجتهاد، قال سحنون: فسألت عنها أشهب فقال: الدية على الحربي في ماله، وليس على أهل بلده من ذلك شيء، وفي رواية أبي زيد قال سئل ابن القاسم عن حربي دخل بأمان فقتل رجلا من المسلمين خطأ، قال: ديته على أهل دينه يريد الحربيين.
قال محمد بن رشد: رواية أبي زيد عن ابن القاسم مثل رواية البزي عن أشهب خلاف رواية سحنون عنه ولكلا القولين وجه، فوجه قول ابن القاسم ورواية البزي عن أشهب أن السنة قد أحكمت أن الدية في قتل الخطأ على العاقلة فإذا أبى أهل الحرب من أن يؤدوا عنه ما يجب عليهم في ذلك عندنا لم يلزمه هو إلا ما يجب عليه في خاصته، ووجه قول أشهب في رواية سحنون عنه أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد وأن تكون جنايته عليه في ماله عمدا كانت أو خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فخرج عن ذلك بالسنة(16/55)
المسلمون، ومن تجري عليه الأحكام من أهل الذمة والمصالحين، وبقي من كان من لا يجري عليه أحكامنا من أهل الحرب على الأصل في كونه مطلوبا بجنايته، وأيضا فإنا ما أمَّناه على أن تمضي جنايته هدرا، فهذا القول أظهر والله أعلم.
[مسألة: قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه]
مسألة وكتب إلي سحنون من طرابلس ما تقول- والى الله حفظك - في رجل قتل مرتدا عمدا ماذا يجب عليه؟ قال سحنون: من قتل مرتدا عمدا فلا غرم عليه لديته ولا شيء، وسواء قتله مسلم أو نصراني ولا دية عليه ولا قتل، وقد كان عبد العزيز يقتل المرتد ولا يستتيبه، ويذكر ذلك عن معاذ بن جبل ويقول غير أن السلطان يؤدب القاتل لما افتات عليه؛ لأن مثل هذا، الحكم فيه بيد السلطان، قال أبو إسحاق البرقي: عقله في الخطأ والعمد عقل مجوسي في نفسه وجميع جراحاته، وكذا قال أشهب وابن القاسم، وأخبرني بعض أصحابنا عن أصبغ مثله، وسأل عنها سحنون وذكر له رواية البرقي عن ابن القاسم وأشهب أنهما قالا: عقله عقل مجوسي فاذكر روايته عنهما وقال: سألت عنها أشهب غير مرة فقال لي: عقله عقل الدين الذي ارتد إليه.
قال محمد بن رشد: أما سحنون فقد بين وجه قوله أنه استحسان مراعاة لقول من لا يرى استتابته ويوجب عليه القتل ما لم يرجع إلى الإسلام والقياس على القول بوجوب استتابته ما رواه سحنون عن أشهب أن عقله عقد الدين الذي ارتد إليه؛ لأنه إن كان ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فقد قتل نصرانيا(16/56)
محرم القتل أو يهوديا محرم القتل فوجبت عليه الدية نصراني أو يهودي، وإن كان ارتد إلى المجوسية فقد قتل مجوسيا محرم القتل فوجبت عليه دية مجوسي، ووجه القول بأن ديته دية مجوسي هو أنه لما كان لا يقر على الدين الذي ارتد إليه وإن بذل الجزية عليه لم يعتبر به فكأن قاتله قد قتل كافرا محرم القتل فوجب أن يكون عليه أقل ديات الكافر وهى ديات المجوس؛ لأن الأقل واجب، وما زاد عليه مشكوك فيه، فوجب ألا يجب الزيادة على القاتل إلا بيقين وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له أقتلنى فقتله]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يقول يا ليتني أجد من يقتلني فقال له رجل: أشهد لي على نفسك أنك قد وهبت لي دمك وعفوت عني وأنا أقتلك، فأشهد له على ذلك فقتله، فقال لي قد اختلف في ذلك بعض أصحابنا وأحسن ما رأيت في ذلك أنه يقتل القاتل؛ لأن المقتول عفا عن شيء لم يجب له، وإنما يجب لأوليائه ولا يشبه من قتل فأدرك حيا فقال أشهدكم أني قد عفوت عنه.
قيل له: فلو أنه قال: اقطع يدي فقطع يده؟ قال: لا شيء عليه لأن هذا ليس بنفس وإنما هو جرح.
قال محمد بن رشد: قد بين سحنون وجه ما اختاره من الاختلاف الذي ذكره، وهو أنه عفا عن شيء لم يجب له بعد، فلم يلزم، وفي المسألة ثلاثة أقوال أحدها قول سحنون هذا، والثاني أنه لا شيء على القاتل لأن المقتول قد عفا له عن دمه فسقطت عنه التبعة فيه على القول بجواز إسقاط(16/57)
الحق قبل وجوبه، والثالث أنه لا يقتص منه لشبهة عفو المقتول له عن دمه وتكون عليه الدية في ماله، وهذا القول أظهر الأقوال والله أعلم.
[: يوقد تحت قدره فمات الصبى دون أن يره]
من سماع محمد بن خالد وسؤاله ابن القاسم قال محمد بن خالد: وسأل رجل ابن القاسم فقال له إني رجل أطبخ هذا القصب السكر، وإني جعلت حوالي قدري قصبا فسترته عن الناس، وإن صبيا قام خلف القصب ولا علم لي به فكنت أوقد تحت قدري ففارت القدر بما فيها، فأصاب الصبي ما خرج منها فمات فقال له ابن القاسم: لا أرى عليك شيئا، قال محمد بن خالد: ونزلت.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى عليك شيئا يريد لا في ماله ولا على عاقلته، وهو صحيح؛ لأنه فعل ما يجوز له، فلم يكن منه جناية على الصبي بعمد ولا خطأ على معنى ما قاله في المدونة في الذي يرسل النار في أرضه وأرض جاره بعيدة مأمونة من هذا النار فتحاملت النار أو حملتها الريح إلى أرض جاره فلا شيء عليه فيما أحرقت فيه، ولو كانت أرض جاره قريبة غير مأمونة من هذه النار لكان ما أحرقت فيه من الناس من الخطأ الذي [يكون على العاقلة على ما قاله في المدونة، والخطأ في الجنايات على الأحرار ينقسم على قسمين، خطأ لا شبهة فيه للعمد، وخطأ فيه شبهة للعمد فأما ما كان من الخطأ الذي] لا شبه فيه للعمد فهو على العاقلة باتفاق إلا فيما دون الثلث.
وأما ما فيه شبهة العمد فيفترق فيه الحكم بحسب قوة الشبهة وضعفها.(16/58)
فمنها ما تقوى فيه الشبهة فتكون الدية فيه في مال الجاني، وذلك كالشاهدين يشهدان بالزور فيقتل المشهود عليه بشهادتهما، وقد قيل إن القصاص يجب عليهما، ولذلك وجه وهو أنهما بشهادتهما قد أكرها الحاكم على قتله، وقد مضى تحصيل في ذلك في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات.
ومنه ما تضعف فيه الشبهة فتكون فيه الدية على العاقلة كالذي يرسل النار في أرض قريبة من أرض جاره فيحرق فيها ناسا.
ومنه ما تكون الشبهة فيه دون القوية وفوق الضعيفة فيختلف في الدية فيه هل تكون على الجاني في ماله أو على العاقلة كالطبيب يغر من نفسه فيخطئ على المريض فيموت من علاجه، وقد مضى تحصيل القول في ذلك في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وكالكلب العقور يعدو على الناس بعد التقدم إليه فيه حسبما مضى القول فيه في رسم لم يدرك من سماع عيسى قبل هذا من هذا الكتاب وبالله التوفيق.
[: يقول هذا قاتل أخي ويسأل القاضى أن يسجنه]
من سماع عبد الملك من ابن القاسم قال عبد الملك: سئل ابن القاسم عن الرجل يتعلق بالرجل فيقول هذا قاتل أخي أو ابن عمي أو قريب لي فيأتي به إلى القاضي فيسأله أن يسجنه حتى يأتي بالبينة إلى ثلاثين ليلة أو أكثر من ذلك أو أقل فهل يسجن له بقوله حتى يستبرئ أمره والمدعى عليه من أهل الريبة والتهمة أو لا يكون من أهل الريبة والتهمة؟ قال ابن القاسم: إن كان المدعى عليه من أهل التهم والريبة رأيت أن يحبس ويضرب للمدعي أجل شهر أو نحوه ليس الشهر للمتهم المريب بكثير وإن كان(16/59)
غير متهم فلا يكون له أن يحبس بقوله إلا الأمر القريب اليوم واليومين والثلاثة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يقتل العبد المسلم]
مسألة وسألت أشهب عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به، قيل: فإن قال السيد لا أريد القتل وأنا أريد أن آخذ قيمة عبدي؟ قال: ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سلف دينارا من سماع عيسى قبل هذا فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يفر من موت إلى موت أيسر منه]
مسألة وأخبرني من أثق به من أصحابي عن ابن وهب أو عن أشهب أنه سأل عن الرجل يخرج بكفه ريشته فيذهب لذلك بعض كفه ويخاف على ما بقي من يده منها فيقال له: اقطع يدك من المفصل قال إن كان ذلك أمرا مخوفا يخاف عليه الموت من قطعه لم ينبغ له أن يقطع وإن كان أمرا لا يخاف عليه الموت فلا أرى بأسا.
قال محمد بن رشد: إما إذ لم يخف إذا لم يقطع يده من المفصل إلا على ما بقي من يده فلا يجوز أن يقطع يده من المفصل [إذا كان ذلك أمرا يخاف عليه منه الموت، وأما إن خشي إن لم يقطع يده من المفصل أن(16/60)
يتراقى أمر الريشة إلى أن يموت منها فله أن يقطع يده من المفصل وإن كان ذلك أمرا مخوفا إذا كان الخوف عليه من الريشة أكثر وقد أجاز مالك في المدونة لأهل السفينة من المسلمين إذا أحرقها العدو أن يطرحوا بأنفسهم في البحر وإن علموا أن في ذلك هلاكهم وقال لا بأس بذلك إنما فروا من الموت إلى الموت فإذا أجاز أن يفروا من الموت إلى الموت فأحرى أن يفروا من الموت إلى ما يرجى فيه الحياة ويخاف فيه الموت، ولم يجز له ربيعة أن يفر من موت إلى موت أيسر منه، فلا اختلاف بينهم في أنه يجوز له أن يفر من أمر يخاف فيه الموت إلى أمر يرجو فيه النجاة وإن لم يأمن فيه الموت وبالله التوفيق.
[مسألة: جريحا يقال له من جرحك فيقول ما أعرفه ثم يقول فلان]
مسألة وسألت ابن وهب عن الذي يوجد جريحا فيقال له: من جرحك؟ فيقول: ما أعرفه غلبني السكر وظلام الليل ثم يسأل بعد يوم أو يومين فيقول: فلان جرحني هل يقبل ذلك منه؟ قال: لا يقبل قوله وقد نزلت هذه عندنا فرأينا ألا يقبل قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى، وأن المخالف في ذلك ابن الماجشون ويرد قوله الحديث المأثور في ذلك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: النصراني يقتل العبد المسلم]
مسألة وسئل وأنا أسمع عن النصراني يقتل العبد المسلم، قال: يقتل به.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة فوق هذا وفي رسم سلف من سماع عيسى ومضى الكلام عليها هناك فلا معنى لإعادته.(16/61)
[مسألة: يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة]
مسألة وسألته عن الذي يغرق رجلا فيهلك أترى أن يقتل بتلك القتلة؟ قال: نعم، قلت له: فالذي يقتل بالسم هو عندك مثله؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله هو عندك مثله يريد أنه يقاد منه بالسم كما يقاد منه في التغريق بالتغريق، وهو نص قوله في المدونة: إنه يقاد منه بالسم إذا قتله بالسم، وقد تأول ابن أبي زيد هذه المسألة وحملها على غير ظاهرها، يعني يوجب القود بغير السم، وهو من التأويل البعيد، وكذلك حمل أصبغ قول مالك في الواضحة على غير ظاهره لأنه حكى عنه أنه قال: يقتل من سقي السم، فقال هو: غير أنه لا يقاد من ساقي السم بالسم ولا من حرق رجلا بالنار لم يقتل بالنار؛ لأنهما من المثل ولكن يقتل بالسيف، فقول أصبغ خلاف لقول ابن القاسم وروايته عن مالك في القود بالنار وبالسم؛ لأنه إذا قيد على مذهب مالك من القاتل بالسم بالسم فأحرى أن يقاد من القاتل بالنار بالنار، وقد مضى الكلام على هذا في أول سماع أشهب مستوفى فلا معنى لإعادته.
[: قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الحدود قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن قتل وله وليان فقام أحد الوليين على القاتل فقتله، فقال: ليس عليه قتل ويغرم لصاحبه لأنه الذي أبطل حقه لعله يعفو عنه، يقول لعله كان يصالح عليه ويأخذه، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: قال إنه يغرم لصاحبه، ولم يقل ما يغرم له؟(16/62)
والذي يغرم- على مذهبه في أن القاتل لا يجبر على غرم الدية- نصف ما يرى أنه كان يرضى أن يصالح به عن نفسه، ولا يقتل، وعلى مذهب أشهب يغرم له نصف الدية إن كان القاتل مليا بالدية، أو نصف ما كان له من المال إن لم يكن مليا بها وبالله التوفيق.
[مسألة: الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه]
مسألة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن شهد عليه شاهدان أنه قتل ابنه عمدا فأسلم إلى الولي وهو الأب فقتل ثم جاء ابنه فإذا هو حي، قال: يغرم الشاهدان الدية، وليس على الأب شيء؛ لأنه إنما هو دم شهد له به فأخذه، وقاله أصبغ وخطأ من الشاهدين، وهو كالرجوع فأراه إن تعمدا في أموالهما، وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما، قيل له: فإن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أيضا؟ قال: يغرم الأب إنما شهد له بدم ولم يشهد بمال فأخذ في ذلك الدم مالا فهو يرده، قيل فيوجد معدما أيؤخذ من الشاهدين؟ قال: لا أرى عليهما شيئا، وقاله أصبغ وهو الحق إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قوله إن الأب إذا اقتص من الذي شهد له عليه بقتل ابنه ثم جاء ابنه أنه لا شيء على الأب معناه إن ادعى أنه لم يعلم وظن أن الشاهدين شهدا بحق وصدّقه ورثة المستقاد منه في دعواه، فإن لم يصدقوه(16/63)
وادعوا عليه أنه علم كذب الشهود لزمته اليمين في ذلك باتفاق إن حققوا عليه الدعوى في ذلك، وعلى اختلاف إن لم يحققوا عليه الدعوى وأرادوا أن يحلفوه بالتهمة في ذلك فإن نكل عن اليمين حلف ورثة الميت إن كانوا حققوا عليه الدعوى ولزمه غرم الدية مع الشاهدين يكون كل واحد منهم حميلا عن صاحبه بما يجب عليه منها.
وأما قوله: إن الغرم على الشاهدين فإن تعمدا ففي أموالهما وإن شبه عليهما فعلى عواقلهما فهو خلاف قوله في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات إن ذلك في أموالهما تعمدا الزور أو شبه عليهما، وفي المسألة قول ثالث أنهما إن تعمدا اقتص منهما، وإن شبه عليهما كانت الدية في أموالهما، وهو قول ابن نافع وأشهب، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وقول رابع أنهما إن تعمدا كانت الدية في أموالهما وإن شبه عليهما كان ذلك هدرا، وهو قول ابن الماجشون والمغيرة وابن دينار وابن أبي حازم وغيرهم.
وأما قوله إنه إن صالح الأب من ذلك على مال ثم قدم ابنه أن الأب يغرم ما أخذ إن كان له مال، فإن لم يكن له مال اتبع به دينا ولم يكن على الشاهدين شيء فهو على قياس قوله في أن القاتل لا يلزمه غرم الدية إلا برضاه، ويأتي على قياس قول أشهب وأحد قولي مالك في أنه مجبور على غرم الدية أن يرجع على الشاهد في عدم الأب فيغرمان ويتبعان الأب وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا]
مسألة وسئل ابن القاسم عن شاهدين شهدا على قتل رجل خطأ فأخذ الأب الدية من العاقلة ثم جاء ابنه حيا، قال: يرد الدية الذي أخذ من العاقلة لأنه وإن كان شهد له بمال فقد جاء من ينتزعه من يديه؛ لأنه لا شيء له أصلا وقد تبين أن ما شهد به ليس كما شهد، قيل: فوجد الأب معدما، قال: يغرمه الشاهدان.(16/64)
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في آخر سماع سحنون والكلام عليها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله]
مسألة وسألت أشهب عن الذي يضرب فيذهب عقله أيستأنى بذهاب عقله؟ قال: نعم، قلت كم؟ قال: سنة، قلت فإن أخذ العقل بعد السنة ثم رجع إليه عقله؟ قال: حكم قد مضى، أو قال مضى ما مضى أي لا يرد شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يستأنى بذهاب العقل سنة صحيح كما قال، والوجه في ذلك أن تمر عليه الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه ولم يرجع إليه عقله حكم له بعقل عقله وهو الدية كاملة، ولا اختلاف في أنه ينتظر به سنة كما قال؛ إذ ليس في ذلك معنى سوى الرجاء في رجوع عقله إليه باختلاف الأربعة الأزمنة عليه، وإنما اختلف في الجراح، فقيل إنه ينتظر بها سنة وإن بريت قبل السنة، فإن أتت السنة عليها ولم تبرأ انتظر برؤها بعد السنة وهو مذهبه في المدونة، فقال ابن حبيب ينتظر بها بروها، فإن بريت [قبل السنة لم ينتظر تمامها إلا أن تبرأ على عثل فإن برئت على] عثل انتظر بها إتمام السنة ولا ينتظر بها بعد السنة، ويحكم فيها بالقود إذا انقضت السنة، وإن لم تبرأ فإن ترامى الجرح إلى ذهاب عضو آخر نظر فيه كما كان ينظر فيه لو حكم بالقود بعد البرء، وقول أشهب في هذه الرواية إنه لا يرد العقل برجوع عقله إليه بعد الحكم مثله قال في كتاب ابن المواز في الذي ضربت عينه فنزل الماء فيها أو ابيضت فأخذ الدية ثم بريت بعد ذلك إنه لا يرد شيئا، وهو اختيار ابن المواز إذا كان القضاء بذلك بعد الاستقصاء والأناة فلم ير بين(16/65)
المسألتين فرقا، ورأى القضاء بذلك حكما وقع باجتهاد صحيح، فلا يرد، وأما ابن القاسم فقال في المدونة، في الذي ابيضت عينه أو نزل الماء فيها فحكم له بالدية ثم برئت أنه يرد ما أخذ، فقيل إنه هو الذي يأتي في مسألة العقل على مذهبه، وأنه لا فرق عنده بين المسألتين، وقيل إن المسألتين مفترقتان عنده وإن مذهبه في مسألة العقل كقول أشهب؛ لأن العقل يذهب حقيقة ثم يعود بعد ذهابه، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه لم ينقض الحكم فيه لرجوعه، وأما البصر فقد يستره ساتر دون أن يذهب حقيقة، فإذا حكم بالعقل فيه لذهابه في الظاهر ثم رجع علم أنه لم يكن ذهب حقيقة وإنما كان ستره ساتر، فانكشف برجوعه خطأ الحكم بالدية، فوجب ردها.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أنه يرد الدية في المسألتين، والثاني أنه لا يردها في واحدة منهما، والثالث الفرق بينهما فيردها في رجوع البصر ولا يردها في رجوع العقل، ولا اختلاف بينهم في أنه إذا عاد البصر أو العقل قبل الحكم لا يقضى له بشيء.
وحكم السمع يذهب ثم يعود قبل الحكم أو بعد الحكم حكم البصر على ما ذكرناه فيه.
وأما الكبير تصاب سنه فيقضى له بعقلها ثم يردها صاحبها فثبتت فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها، هذا مذهب ابن القاسم وقول أشهب في كتاب ابن المواز وروايته عن مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الجنايات.
والأذن بمنزلة السن في ذلك لا يرد العقل إذا ردها بعد الحكم فتثبتت واستمسكت، وإنما اختلف فيهما إذا ردهما فثبتتا واستمسكتا وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال: أحدها: قوله في المدونة إنه يقضى له بالعقل فيهما جميعا إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبدا، وقال أشهب إنه لا يقضى له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم، والثالث: الفرق بين السن والأذن فيقضي(16/66)
بعقل السن وإن ثبتت، ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتها، وإن لم تعد لهيئتها عقل له بقدر ما نقصت، وهو قول ابن القاسم في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الجنايات، ولا اختلاف بينهم في أنه يقضى له بالقصاص فيهما وإن عادا لهيئتهما فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتهما فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك وإن لم يعودا أو قد كانت عادت سن الأول أو أذنه فلا شيء له، وإن عادت سن المستقاد منه أو أذنه ولم تكن عادت سن الأول ولا أذنه غرم العقل قاله أشهب في كتاب ابن المواز وبالله التوفيق.
[مسألة: أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم]
مسألة قال أصبغ: وسألت أشهب عن أهل مكة والمدينة أهم أهل ذهب أو ورق أو إبل في الدية إذا وقعت عليهم؟ قال: لا بل هم أهل ذهب وقال أصبغ: هم اليوم أهل ذهب.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا إشكال فيه؛ لأن أهل الإبل إنما هم أهل البوادي وأهل العمود، وأما أهل الأمصار والمدن فهم إما أهل ذهب أو أهل ورق، وقول أصبغ هم اليوم أهل ورق دليل على أن أحوال البلاد في ذلك قد تنتقل، وكذلك أهل الأندلس هم اليوم أهل ذهب وقد كانوا في القديم أهل ورق على ما يوجد في وثائقهم وقاله أهل تواريخهم وبالله التوفيق.(16/67)
[: قول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين]
ومن كتاب المجالس قلت: أرأيت أن أقمت شاهدا واحدا على قول ولي إن فلانا ضربه ومن ضربه يموت أيجب به القسامة؟ قال: لا، ولا يكون ذلك بأقل من شاهدين لأن الميت غائب، وقول الغائب لا يثبت في شيء من الأشياء إلا بشاهدين، قلت: أيجب على المرمى بالدم بهذه الشهادة حبس؟ قال: لا يلزمه بهذه الشهادة شيء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر سماع سحنون وهو مما لا إشكال فيه ولا اختلاف.
[مسألة: العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في السفيه إنه يعقل مع العاقلة وقال في موالي القبيل إنهم يعقلون مع القبيل.
قال محمد بن رشد: العقل على الرجال الأحرار البالغين من القبيلة، ويعقل السفيه والمولى عليهم معهم، ويؤخذ من ماله ما نابه من العقل، ويعقل عن الموالي الأسفلين المنعم عليهم بالعتق، وجميع القبيلة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مولى القوم منهم» واختلف هل يعقل المولى الأسفل مع القبيلة التي مواليه منها ما جناه مواليه وسائر أهل القبيلة أم لا؟ فقال في هذه الرواية في موالي القبيل أنهم يعقلون مع القبيل، وخالف في ذلك سحنون فقال إنه لا يعقل مع الجاني مواليه الذين أنعم هو عليهم لأنهم لا يرثونه، ويعقل عنه مواليه الذين أنعموا عليه وقومهم، هذا نص قوله، وإلى هذا ذهب محمد بن المواز فقال أجمع العلماء أن الموالي من أسفل لا يعقلون(16/68)
مع من أعتقهم، قال: وهو معنى قول ابن القاسم، وليس قول ابن المواز بصحيح، بل يعقلون معهم على مذهب ابن القاسم، وهو نص قوله في هذه الرواية، وله مثله في جنايات العبيد من المدونة، ومثله لابن كنانة في المدونة، والذي في كتاب جنايات العبيد من المدونة هو قوله في المبتل في المرض إذا لم يكن لسيده أموال مأمونة إن جنايته جناية عبد لأن العاقلة لا تحمل له جريرة حتى يحمل هو مع العاقلة ما لزم العاقلة من الجراير، واعتلال سحنون في ذلك بأنهم لا يرثونه ليس بصحيح إذ ليس العقل مرتبطا بالميراث؛ لأن الرجل يعقل عمن لا يرثه من عشيرته، وكما لا يعقل عنه من لا يرثه من قبيلة مولاه فكذلك يعقل هو عمن لا يرثه من مواليه وسائر قبيلته والعقل في هذا بخلاف القيام بالدم لا اختلاف في أنه لا حق للمولى الأسفل في القيام بالدم والقسامة فيه، ولا عقل على النساء ولا على العبيد ولا على الصبيان والمجانين.
[مسألة: طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه]
مسألة قال أصبغ في طبيب مسلم أو نصراني سقى رجلا مسلما دواء فمات منه ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله.
قال محمد بن رشد: قوله ليس عليه شيء إلا أن يعرف أنه سقاه شيئا أراد به قتله معناه إذا لم يخطأ ولا غر من نفسه وهو محمول على أنه لم يخطأ حتى يتبين خطأه، وعلى أنه لم يغر إذا أخطأ حتى يعلم غروره، وظاهر قوله أنه لا شيء عليه وإن أخطأ وغر حتى يعلم أنه أراد بما سقاه قتله، وإنما حمل قوله في هذا على ظاهره فيكون معنى قوله: إنه ليس عليه شيء أي ليس عليه شيء في ماله وإنما تكون الدية في ذلك على عاقلته إلا أن يعلم أنه سقاه شيئا أراد به قتله فيقتل به؛ إذ لا خلاف في أن الدية على عاقلته إذا أخطأ ولا ما إذا غر من نفسه، فقيل إن الدية في ماله وهو ظاهر قول مالك في رسم(16/69)
كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وقيل إنها على العاقلة، وهو قول عيسى بن دينار هناك وظاهر قول أصبغ هاهنا وبالله التوفيق.
[مسألة: عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا]
مسألة قيل لأصبغ: أرأيت عبدا لامرأة ذات زوج ضرب بطن سيدته وهي حامل فألقت جنينا ميتا؟ قال: تخير المرأة بين أن تدفع إلى زوجها ما يصيبه من دية الجنين وتحبس العبد، وبين أن تدفع جميع العبد إليه، قيل له ولم ودية الجنين بين أبيه وأمه؟ فلم لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية الجنين أو تسلم ثلثيه إن أحبت؟ [قال: لا يكون لها ثلث العبد وتخير في افتكاك ثلثيه من زوجها بثلثي دية أجنبي، مع أن السيد يخير] قال: لا يكون لها ذلك لأن جناية العبد على سيدته هاهنا كجنايته على سيدته وعلى أجنبي معها وقد قال ابن القاسم في العبد يجني على سيده وعلى أجنبي معه أن السيد يخير، بين أن يفتكه كله بدية جناية الأجنبي وبين إسلامه كله في جناية الأجنبي ولا يقاصه بجنايته، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه وبالله التوفيق.(16/70)
[مسألة: الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده]
مسألة قال أصبغ قال ابن القاسم في الرجل يدعي قبل الرجل أنه قتل عبده فيقر المدعى عليه أنه رماه أو ضربه ويقول: لم يمت من ذلك، ويدعي الرجل أنه مات منه، قال ابن القاسم: يحلف المدعي يمينا واحدة لمات منه ويستحق ثمنه، قال ابن القاسم: وكذلك لو ثبت أنه ضربه أو رماه ثم مات أنه يحلف يمينا واحدة ويستحق ثمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها وعلى ما فيها من الاختلاف في أول رسم من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[: عبد وحر اصطدما فماتا جميعا كيف يحكم فيهما]
من نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ عن عبد وحر اصطدما فماتا جميعا كيف يحكم فيهما؟ قال: يكون في مال الحر قيمة العبد يدفع إلى سيده، ثم يقال لسيد العبد افتك قيمته بدية الحر أو أسلمها، فإن أسلمها لم يكن لولاة الحر غيرها وإن افتداها، افتداها بجميع الدية.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا في هذه المسألة يأتي على ما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من أن سيد العبد يخير في جنايته على الحر بين أن يسلمه بها أو يفتديه بها مؤجلة في ثلاث سنين لا حالة؛ لأن معنى قوله وإن افتداها، افتداها بجميع الدية معناه في ثلاث سنين، إذ لو لم تكن مؤجلة لوجب أن يكون مقاصة بالقيمة كما قال في المدونة، وقد مضى هذا مبينا في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن مت من جراحاتي ففلان غلام فلان بي]
مسألة وسئل عن الرجل يقول: إن مت من جراحاتي ففلان غلام فلان(16/71)
بي، فيوجد لفلان ذلك غلام يسمى بذلك الاسم فيقر السيد باسمه بهذا الاسم ويزعم أنه لا غلام له غيره يسمى بهذا الاسم أو يزعم أنه كان له غلمان يسمون بهذا الاسم وليسوا اليوم في ملكه، أو يزعم في بعض من هلك من غلمانه أن هذا اسمه كذا وكذا لذلك الاسم الذي سماه المجروح، ولا يعلم ذلك إلا بقول السيد أو يرمي رجلا حرا ويسميه باسمه واسم أبيه ولا يعرفه الشهداء ويذكر مسكنه فيوجد في ذلك الموضع الذي سماه له مسكن ذلك الاسم وتلك النسبة أو لا يوجد بموضعه ذلك الاسم ولا تلك النسبة، وعلى من يرى طلب أنه ليس بهذا الموضع أحد غير هذا فنحن نقسم عليه، ويقول الآخر لا علم لي، فكيف إن كان لرجل غريم غائب أو أبق له عبده فأثبت دينه وصفة غريمه أو عبده عند القاضي فكتب له كتابا باسمه وحليته كلها على حال ما ثبت عنده ليطلبه به فتوجد تلك الصفة فأنكر أن يكون غريمه أو أن يكون عبده وهو عبد لرجل آخر بالمكان الذي وجد به، على من ترى طلب أنه ليس بذلك المكان من يسمى بذلك الاسم وعلى تلك الحلية أعلى المدعي أو على المدعى عليه أم يكون كشف ذلك على السلطان؟ وهل تأخذ بهذا القول أنه إن لم يوجد بذلك المكان مثله أن ذلك يلزمه إلا أن يأتي بالمخرج، فإنه بلغني عن عبد الملك أنه قال في العبد: إنه توضع قيمته ثم يأخذه فيسيره به إلى موضع شهوده، فإن عرفوه بعينه أخذوه وإلا رده، فإن رأيت قوله حسنا أرأيت إن وضع قيمته فأخذه فوجد شهوده قد ماتوا أيكون له شيء أم لا؟ قال أصبغ لا أرى أن يعبأ بقول السيد، وأرى أن يقع على ذلك الغلام الذي يعرف في ملكه بذلك(16/72)
الاسم يوم قال المجروح مثل ما قال، ويوم ادعى أنه جرحه ولا يلتفت إلى ما قبل ذلك من دعوى السيد ولا الغلام إلا بأمر يعرف سببه فإن عرف السبب أنه قد كان يوم الجراح له مثل ذلك أشكل ذلك حينئذ وكف عنه حتى يقع على واحد معروف، وإلا فهو هو إذا لم يكن غيره من السبب ومعرفة الناس ولا بشبهة يذكر غير ذكر السيد والعبد، وكذلك أمر الحر في الحقوق وغيره يقع ذلك على المنسوب المعروف في موضعه وفي صفاته إذا لم يكن في الحارة أو في البلدة غير ذلك، فإن كان وأشكل ترك حتى يعرف ويستثبت، وهذا يجزيك من جميع مسألتك التي طولت فيها وأكثر.
قال محمد بن رشد: لم يأت أصبغ في هذه المسألة بجواب بين عما يسأله عنه إذا وجد في ملك الرجل الذي ذكر أنه قتله غلامه عبد يسمى بذلك الاسم فأنكر السيد أن يكون هو المدعى عليه وزعم أنه قد كان له عبيد يسمون بذلك الاسم أو وجد بالبلد الذي ادعى أن فيه الحر الذي دمى عليه رجل يسمى بذلك الاسم وينتسب بتلك النسبة فأنكر أن يكون هو المدعى عليه أو وجد بالبلد الذي ادعى أن فيه غريمه رجل يسمى بذلك الاسم فأنكر أن يكون هو غريمه على من يكون طلب أنه ليس بهذا الموضع أحد غير هذا يسمى بهذا الاسم أعلى المدعي أم على المدعى عليه لأنه قال: إن التدمية تلزم للغلام الذي يعرف في ملكه بذلك الاسم يوم دمى عليه، ولا يلتفت إلى قول السيد إلا بأمر يعرف سببه فيشكل الأمر حينئذ ويكف عنه حتى يعرف بعينه، قال وكذلك أمر الحر في الحقوق وغيره يقع ذلك على المنسوب المعروف في موضعه إذا لم يكن فيه غيره فإن كان فيه غيره أشكل الأمر وترك حتى يستثبت فيه، هذا معنى قوله وفيه دليل على أن على المدعى عليه أن يثبت أن في البلد سواه من يتسمى بذلك الاسم وينتسب إلى ذلك النسب، فإن لم يثبت ذلك لزمته التدمية إن كان مدعى عليه، أو الحق إن كان مطلوبا بحق، وهو(16/73)
مذهب أشهب وقول ابن القاسم في المدنية، وقيل: إن على الطالب أن يثبت أنه ليس بالبلد سواه من يتسمى بذلك الاسم وينتسب إلى ذلك النسب يريد على العلم، فإن لم يثبت ذلك لم يلزم هذا شيء، وهو الذي يدل عليه قول ابن وهب في سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الأقضية، وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى هناك وفي رسم العتق من سماع عيسى من الكتاب المذكور فلا معنى لإعادته.
[مسألة: العبد يسلم للقتل ثم يستحيى]
مسألة قال أصبغ: اختلف قول ابن القاسم في العبد يسلم للقتل ثم يستحيى فمرة قال: لا يكون ماله تبعا له لأن إسلامه للقتل وإن استحيي كقتله، ومرة قال: يكون ماله تبعا له إذا استحيي، قال أصبغ: والقول الأول أحب إلي ألا يكون ماله تبعا له إذا استحيي، ثم رجع أصبغ وقال: إنه يسلم بماله؛ لأنه لما عفا عنه كان بمنزلة الخطأ وسواء قتل عبدا أو حرا أو كان جرحا أو نفسا قال أشهب: يؤخذ بماله في العمد والخطأ إلا أن يستقاد منه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم الأول الذي رجع عنه أصبغ أظهر من القول الثاني الذي رجع إليه؛ لأنه لما أخذه ليقتله وقد علم أنه إذا قتله يبقى ماله لسيده فإذا استحياه بعد أن أخذه ليقتله فقد رضي أن يأخذه في جنايته دون ماله، إلا أن يفتديه منه سيده بجنايته فعلى القول الأول يكون سيده مخيرا بين أن يسلمه دون ماله أو يفتكه بجنايته، وعلى القول الثاني يكون مخيرا بين أن يسلمه بماله كما لو استحياه قبل أن يأخذه ليقتله، وبين أن يفتكه وماله بجنايته، والحكم في مال العبد الجاني أن يكون معه في الجناية وكذلك ما أفاد بعد هذا أو كسب، قال ذلك ابن القاسم في المجموعة، قال سحنون: وقال غيره إن كان ماله عينا لم يخير سيده ووديت من ماله إن حملها وأما إذا لم(16/74)
يحملها أو كان عينا غائبا أو عرضا فيخير سيده، ومذهب ابن القاسم أن يخير سيده على كل حال وإن كان ماله عينا يفي بالجناية والله أعلم.
[: الذي يطرح جنين الأمة ما عليه]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد بن أبي الغمر سئل ابن القاسم عن الذي يطرح جنين الأمة ما عليه؟ قال: عشر ثمن أمه، قيل له أرأيت إن استهل صارخا حين طرح؟ قال: يغرم ثمنه على قدر الرجاء فيه والخوف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا خرج ميتا ففيه عشر ثمن أمه لا اختلاف في ذلك في المذهب، قال ابن نافع عن مالك: زادت عشر قيمتها على الغرة أو نقصت، وسواء كان أبوه حرا أو عبدا لأنه تبع لأمه، قال ذلك مالك في المجموعة وابن القاسم وأشهب، ومذهب الشافعي في ذلك كمذهب مالك، وقال أبو حنيفة إن كان ذكرا ففيه نصف قيمته لو كان حيا، وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية، وذكر عن أبي يوسف أن فيه ما نقص من أمه كما يكون في جنين البهائم، وقال حماد: فيه حكومة وهو نحو قول أبي يوسف وقال سعيد بن المسيب فيه عشرة دنانير، وأما قوله إذا استهل صارخا أن فيه قيمته على الرجاء والخوف ففيه نظر، إذ لا يقوم على أنه يعيش أو يموت وقد خرج مطروحا بالجناية على أمه وإنما يقوم فيقال كم كانت تكون قيمته اليوم لو وضعته أمه من غير جناية عليه؟ فتكون عليه قيمته بالغة ما بلغت وبالله التوفيق.
مسألة وسئل عن رجل كان له ابن يجري الخيل فأتاه رجل فسأله إياه أن يجري فرسه فأذن له فوقع من الفرس فمات الصبي، قال: لا(16/75)
نرى على الذي حمله شيئا إلا عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لأنه من الخطأ، وأما الدية فلا أرى عليه دية لأنه بمنزلة رجل عفا عن ديته فهو إذا أذن له أن يحمله على فرس فهلك فهو من الخطأ، وهو بمنزلة ما لو عفا عن ديته لأن الدية إنما تصير إليه وحده.
[قال محمد بن رشد: معناه إذا لم يكن له أم وذلك بيّن من قوله: لأن الدية إنما تصير إليه وحده] ولو كانت له أم لكان على عاقلته ثلث ديته لأمه وبالله التوفيق.
[مسألة: جرح رجلا جرحا فترامى جرحه فمات]
مسألة وعن رجل جرح رجلا جرحا فترامى جرحه فمات فاستحق وليه الدم فعفا عنه على أن يخرج من ذلك البلد فإن وجده فيه قتله فخرج ثم إنه وجده فيها قال: أرى أن يقتل به.
قال محمد بن رشد: زاد ابن حبيب فإن شرطوا إن لم يفعل أو فعل ثم عاد فله الدية، فإن كان الذي قد ثبت حين الصلح فذلك جائز في القود والدية، وإن كان لم يثبت لم يجز إلا أن يقولوا فإن لم يفعل أو فعل فعاد فنحن على حجتنا في الدم وكذلك الجراحات مثله وبالله التوفيق.
[مسألة: طلب غريقا فلما أخذه خشي على نفسه الموت فسرحه]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل طلب غريقا فلما أخذه خشي على نفسه الموت فسرحه، قال: لا شيء عليه، ولو أنه ذهب يعلمه العوم فلما خشي على نفسه سرحه قال: فذلك عليه، يريد الدية.(16/76)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله في الوجهين جميعا؛ لأن الذي ذهب يعلمه العوم غره بما فعل، فوجب عليه الضمان بتسريحه إياه حين خشي على نفسه الموت، وهو من الخطأ، فقوله فذلك عليه يريد الدية على العاقلة والله أعلم، وأما الذي طلب الغريق لينجيه فلما خشي على نفسه سرحه فلم يغره بشيء، وإنما أراد الخير فيما فعل فلم يكن في تسريحه شيء، إذ لو لم يطلبه ولا أخذه لغرق أيضا، فلم يضره فيما فعل وبالله التوفيق.
[مسألة: يقتل فيوجد بمكة فيقوم أولياؤه أترى أن يقتل في الحرم]
مسألة وعن الرجل يقتل فيوجد بمكة فيقوم أولياؤه أترى أن يقتل في الحرم؟ وقد قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قال: نعم يقتل ولا ينتظر به الفراغ من حجه والحرم أحق ما أقيم فيه حدود الله.
قال محمد بن رشد: مثل هذا ما تقدم من قول مالك في آخر سماع أشهب، ولا أحفظ فيه اختلافا بين أحد من فقهاء الأمصار، وقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] إنما هو إخبار عما كان في جاهليتهم على ما قاله أهل التفسير، لو أن رجلا جرح حرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب ولم يتناول، فأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من حد، من قتل قتل ومن أصاب حدا أقيم عليه، قال الحسن: أصابه فيه أو في غيره، وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب الرجل الحد في الحرم أقيم عليه، وإن أصابه في غيره ثم لجأ إليه فإنه لا يكلم ولا يجالس ولا يؤوى حتى يخرج منه فيؤخذ فيقام عليه الحد، وقيل إنه إذا لجأ إليه أخرج منه فأقيم عليه وبالله التوفيق.(16/77)
[مسألة: يقتل ولا يترك إلا ولدا أصاغر أو لا ولي له إلا السلطان]
مسألة وقال في الذي يقتل ولا يترك إلا ولدا أصاغر أو لا ولي له إلا السلطان قال: يقيم لولده وليا فيجعله خليفة عليهم بعد أبيهم فيكون من ولاة السلطان ذلك من أمرهم بمنزلة الوصي الولي فإن رأى أن يأخذ للأيتام العقل أخذه وإن رأى أن يقتل قتل، ويمضي الذي رأى في ذلك إلا أنه إن عفا عن القاتل بغير شيء يأخذه للأيتام فرأى أن لهم فيه خطأ لم يجز ذلك؛ لأن ذلك ليس فيه نظر للأيتام أن يترك حقهم بغير شيء أخذه لهم، فلا عقل أخذه ولا قود فلا يجوز ذلك، وإن رأى أن يصالح بالدية كاملة صالح، ولا يكون له أن يصالح بدون الدية إن كان مليا بها، فإن لم يكن مليا بها جاز صلحه على ما يرى إذا كان على وجه النظر لهم، وإذا صالح بدونها والقاتل مليء بها لم يجز ذلك، ورجع على القاتل ولم يرجع القاتل على الولي بشيء.
قال محمد بن رشد: أجاز أشهب أن يصالح بأقل من الدية على وجه النظر ما لم يكن يسيرا جدا فتبين فيه المحاباة، وقول أشهب أصح على مذهب ابن القاسم، وقول ابن القاسم أصح على مذهب أشهب، أصل ذلك اختلافهم في القاتل هل هو مجبور على غرم الدية؟ فمن جبره على غرم الدية وهو المعلوم على مذهب أشهب فيلزمه ألا يجيز للوصي أن يصالح بأقل من الدية إذا كان مليا، ومن لم يجبره على غرم الدية وهو المعلوم من مذهب ابن القاسم أجاز صلح الولي بأقل منها لا على وجه النظر لأنه مال لم يملك أخذه وبالله التوفيق.(16/78)
[مسألة: شق جوف رجل حتى بلغ إلى مقاتله ثم جاء رجل آخر فقتل الذي شق جوفه]
مسألة وقال في رجل شق جوف رجل حتى بلغ إلى مقاتله ثم جاء رجل آخر فقتل الذي شق جوفه وكان حينئذ حيا قبل أن يقتل القاتل الآخر، ولا يكون على الذي شق جوفه إلا الأدب فقط، قيل له فإنه لو لم يقتله لم يحيا، قال: وإن.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: استحقت عليها القسامة فجاء رجل آخر فقال أنا والله قتلته]
مسألة وقال في جماعة أربعة أو خمسة شهد عليهم شاهد أنهم قتلوا رجلا فاستحقت عليها القسامة فجاء رجل آخر فقال: أنا والله قتلته إنه لا يقتل واحد منهم إلا بقسامة لا الذي أقر ولا الآخرون إلا بقسامة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة عندي أن المقتول كانت له حياة بعد الجرح، وإنما وجبت لهم القسامة مع الشاهد الواحد على الجرح، ولذلك قال: إنه لا يقتل واحد منهم إلا بقسامة لا الذي أقر ولا الآخر، ولو لم تكن له حياة فقال المقر أنا قتلته قتلا مجهزا لكان لهم أن يقتلوه بلا قسامة، وقد مضى بيان القول في هذا في آخر سماع سحنون وفي أول سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: ضرب رجلا خطأ وجاء آخرفضربه عمدا]
مسألة وعن رجل ضرب رجلا خطأ وجاء آخر فضربه عمدا إن مات مكانه قتل به الذي ضربه عمدا، وكان على الذي ضربه خطأ نصف(16/79)
الدية، وإن عفا عن القاتل عمدا سجن عاما بعد مائة سوط، وإن عاش بعد ضربهما جميعا ثم مات "أقسم ولاته على أيهم شاءوا، فإن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر، وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة وبرئ الآخر، إلا أن يعلم أنه ضربه ضربة لا يموت من مثلها، فإن كان كذلك فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهم إن أقسموا على الذي ضربه عمدا قتل به ولا شيء على الآخر وإن أقسموا على الذي ضربه خطأ كانت عليه الدية كاملة وبرئ الآخر خلاف ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، وذكرنا هناك أن رواية أبي زيد هذه تأتي على أصل أشهب حسبما بيَّناه فلا معنى لإعادته.
وأما قوله إذا مات من الضرب مكانه إنه يقتل به الذي ضربه عمدا ويكون على الذي ضربه خطأ نصف الدية يريد على العاقلة، فهو بيّن لأنهما قد اشتركا جميعا في قتله، ودم الخطأ يتبعض ودم العمد لا يتبعض فإذا قتل الجماعة رجلا قتلوا به جميعا، وإذا قتلوه خطأ لم يكن فيه إلا دية واحدة على عواقلهم أجمعين وبالله التوفيق.
[مسألة: قال والله ما زلت من يوم ركضني فلان منها بشر وما قتلتني إلا ركضته]
مسألة وعن رجل ركض رجلا برجله البطن فمكث أياما فزعم أنه يجد من الركضة على فؤاده أمرا شديدا فمات، قال: ينبغي لمثل هذا أن يخوف ويذكر الله، فإن أصر وقال والله ما زلت من يوم ركضني فلان منها بشر، وما قتلتني إلا ركضته رأيت أن يقسموا معه ويستحقوا دمه إذا كان مضطجعا من يوم ركضه حتى مات، وإن لم يضطجع إذا رئي به ضرر ذلك وشينه كان بمنزلة الاضطجاع.(16/80)
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما تقدم من قول ابن كنانة في آخر رسم العتق من سماع عيسى، ومثل ما تقدم بالدليل من مسألة رسم أول عبد من سماع يحيى وقد مضى الكلام على ذلك هنالك فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الذي يدعي الدم قبله إذا نكل ولاة المقتول عن القسامة]
مسألة وقال في الذي يدعي الدم قبله إذا نكل ولاة المقتول عن القسامة وردوها على أولياء القاتل فحلفوا وبرأوا صاحبهم لم يكن بد من أن يجلد مائة ويحبس عاما.
قال محمد بن رشد: قوله وردوها على أولياء القاتل فحلفوا وبرأوا صاحبهم هو مثل ما في أول رسم من سماع عيسى، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك وذكر ما فيه من الاختلاف وتوجيهه فلا وجه لإعادته
[مسألة: قال عند موته فلان قتلني وناس معه]
مسألة وقال في رجل قال عند موته فلان قتلني وناس معه، قال يقسمون على الذي سمى ويقتلونه، وأما قوله وأناس معه فإن عرفوا وأثبتتهم البينة أنهم ضربوه معه أقسموا على أيهم شاءوا منهم.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من المعلوم من مذهب مالك في غير ما موضع من أنه لا يقتل بالقسامة إلا رجل واحد والله الموفق.
[مسألة: ليس الشهر للمتهم المريب بكثير]
مسألة وقال في رجل اتهم بقتل رجل عمدا فحبس ولا بينة لهم على ذلك فأقر على نفسه أنه قتله خطأ أعليه البينة أنه قتله خطأ أم لولاة المقتول من الدية شيء أم يطال حبسه؟ قال: قال مالك: يطال حبسه لعله يأتي عليه بلطخ، فإن لم يأت عليه بشيء من ذلك أقسم(16/81)
خمسين يمينا وخلي سبيله، ولو أنه أتى بشاهد من أول وهو ممن لا يتهم أنه يريد غنى ولده أقسم ولاة المقتول مع قوله: إني قتلت فلانا خطأ واستحقت الدية كاملة كذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يطال حبسه يريد الثلاثين يوما ونحوها على ما قاله في سماع عبد الملك من أنه ليس الشهر للمتهم المريب بكثير، وقوله لعله يأتي بلطخ يريد بلطخ يكون لوثا فيقسمون معه ويقتلونه أو لا يبلغ أن يكون لوثا فتستحق المرأة الطويلة حتى يتبين براءته وتأتي عليه السنون الكثيرة على ما قاله في الواضحة حسبما بيناه، وقال إنه إن لم يأت عليه بشيء يستحلف خمسين يمينا ويخلى سبيله يريد ولا يكون لهم عليه بإقراره على نفسه بالخطأ دية، ولا شيء؛ لأنهم لما ادعوا العمد فقد أقروا أن حقهم إنما هو في دمه لا في ماله ولا على عاقلته، وقوله ولو أنه أتى بشاهد من أول معناه ولو أن الولاة ادعوا الخطأ من أول ولم يدعوا العمد واستظهروا بشهادته على نفسه بأنه قتله خطأ وهو ممن لا يتهم بأنه أراد غنى ولد المقتول مثل أن يكون صديقا له ملاطفا على ما قاله في المدونة أقسموا مع قوله: إني قتلت فلانا خطأ واستحقوا الدية كاملة ولم يبين هل تكون في ماله أو على العاقلة فقيل: إنها تكون في ماله لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، وقيل إنها تكون على العاقلة، والقولان في كتاب الصلح من المدونة وبالله التوفيق. تم كتاب الديات بحمد الله تعالى وحمد عونه.(16/82)
[: كتاب الجناية الأول] [مسألة: شج رجلا موضحة فصارت منقلة فأراد أن يقتص له من الموضحة]
من سماع عبد الرحمن ابن القاسم من مالك من كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل شج رجلا موضحة فصارت منقلة فأراد أن يقتص له من الموضحة(16/83)
ويأخذ فضل المنقلة فوقف فيها، ثم قال: أكتب إليه إن أراد أن يأخذ عقل المنقلة فذلك له، وذلك أنها إنما صارت منقلة لأن الضربة هشمت العظم والبط لا يأتي منه منقلة، وسكت عن القصاص، قال ابن القاسم: قد كان يقول قبل ذلك يقاد له من الموضحة فإن صارت منقلة فلا شيء له، وإن برأت موضحة ولم تصر منقلة عقل له ما بين عقل الموضحة والمنقلة ورأى أن يعجل فيها كما يعجل في الجراح إذا قطع كفه أو أصبعه فتآكلت أكثر مما قطع منها أقيد مما أصاب منه ثم استؤني به فإن برأت على حالها عقل له ما بينهما، وإن تآكلت أقل مما أكلت يد الأول عقل له على قدر ذلك وإن أكلت مثل أو أكثر من يد الأول لم يكن على الأول شيء، قال ابن القاسم: لم يزل مالك يقول يأخذ عقل منقلة ولا شيء له في القصاص، قال سحنون: وأنا أقول كل من جرح رجلا جرحا مما مثله يفرغ في بعض، مثل أن يجرحه ملطاة فتصير موضحة، أو يجرحه موضحة فتصير منقلة أو يجرحه منقلة فتصير مأمومة، فهذه الجراح كلها مما يفرغ بعضها في بعض، فإذا جرح رجل رجلا بعض ما وصفت لك(16/84)
من هذه الجراح ثم ترامت إلى نحو ما وصفت لك مما يفرغ بعضه في بعض فاحكم له بالجرح الذي ترامى إليه كأن الجارح جرحه إياه، ولا يلتفت إلى الأول، وإذا ترامى الجرح إلى غير ما وصفت له مما لا يفرغ بعضه في بعض مثل أن يجرحه موضحة فيذهب منها عينه أو تشل منها يده فأحكم له بالجرح الأول موضحة كان أو غيره وبعقل اليد والعين جميعا كأن الجارح جرحه إياهما.
قال محمد بن رشد: قوله في أول المسألة في السؤال فأراد أن يقتص له من الموضحة ويأخذ فضل المنقلة معناه فأراد أن يقتص له من الموضحة ويأخذ فضل المنقلة إن برئ المقتص منه من الموضحة دون أن تصير منقلة، وقول مالك: أكتب إليه إن أراد أن يأخذ عقل المنقلة فذلك له، وذلك أنها إنما صارت منقلة؛ لأن الضربة هشمت العظم يدل دلالة ظاهرة أنه خيره بين أن يأخذ عقل المنقلة وبين أن يقتص من الموضحة ويأخذ عقل فضل ما بينهما وبين المنقلة إن لم تصر موضحة المقتص منه منقلة فهو خلاف قوله الثاني الذي حكى ابن القاسم عنه أنه رجع إليه من أنه يأخذ عقل المنقلة، ولا شيء له في القصاص، وهذا القول أقيس على تعليله بأن الضربة هشمت العظم والبط لا تأتي منه منقلة والتخيير بين أن يأخذ عقل المنقلة وبين القصاص استحسان.
وأما قول مالك الأول وما حكى سحنون أنه مذهب ابن القاسم من أن يقتص من الموضحة ويأخذ عقل فضل ما بين الموضحة والمنقلة إن برئ المقتص منه دون أن يترامى أمره إلى منقلة فهو القياس على ما أجمعوا عليه في الذي يترامى جرحه إلى شيء آخر مثل أن يجرحه موضحة فتذهب منها عينه، وكذلك لو جرحه ملطاة فصارت موضحة لكان بالخيار بين أن يقتص من الملطاة وبين أن يأخذ عقل الموضحة على أحد قولي مالك، وعلى قوله الآخر ليس له إلا عقل الموضحة لا القصاص منها، إذ لا يصح القصاص مما آل إليه(16/85)
الجرح وإنما فيه الدية، وعلى قول مالك الأول ومذهب ابن القاسم يقتص له من الملطاة، بأن صارت موضحة وإلا عقل له ما بين الملطاة والموضحة وبالله التوفيق.
[مسألة: لو جرح عبد موضحة فأعتقه سيده بعد الجرح ثم ترامت بعد عتقه إلى منقلة]
مسألة قلت لسحنون: فلو جرح عبد موضحة فأعتقه سيده بعد الجرح، ثم ترامت بعد عتقه إلى منقلة، قال: يكون عليه عقل موضحة عبد وعقل ما بين الموضحة والمنقلة من دية الحر.
قال محمد بن رشد: قوله يكون عليه عقل موضحة عبد يريد لسيده، وقوله وعقل ما بين الموضحة والمنقلة من دية الحر يريد العبد المعتق، وقول سحنون في هذه المسألة هو على قياس قول ابن القاسم وقول مالك الأول في الذي يجرح رجلا موضحة فتصير منقلة أنه يقاد له من الموضحة ويعقل له ما بين الموضحة والمنقلة إن برئ المقتص منه دون أن يصير جرحه بالقصاص منه منقلة خلاف ما اختاره وأخذ به في ذلك من أنه يحكم له بالجرح الذي ترامى إليه كان الجارح جرحه إياه، والذي يأتي في الذي تصير موضحته منقلة بعد العتق على قياس قوله في هذه المسألة أن يكون على الجارح دية منقلة حر لسيد العبد المجروح، فقول سحنون في هذه المسألة معترض لقوله في المسألة المتقدمة وعلى خلاف أصله فيها، وقال ابن الماجشون: على جارحه دية منقلة حر للعبد المعتق يحكم للمجروح بما آل إليه الجرح من المنقلة، وهو أبعد الأقوال؛ لأنه جعل تراقي الجرح بعد العتق إلى ما فوقه كتراقيه إلى الموت على مذهب ابن القاسم الذي يرى في ذلك دية الحر كاملة وقد مضى الكلام على هذا في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من كتاب الديات.(16/86)
[مسألة: من حق الجارح أن يقتص ممن جرحه]
مسألة وقال مالك: إذا اقتص الرجل من الجراح فإني أرى أن يقتص له طبيب وأرى جعله على الذي يقتص له، ومثل ذلك بالدين، قال ابن القاسم وتفسير الدين أن يكون على الرجل الدين فيرسل إليه من يقبضه فعلى صاحب الدين جعله، وليس على الذي عليه الدين شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لأن من حق الجارح أن يقتص ممن جرحه، ولم يمكن من أن يأخذ ذلك بيده مخافة أن يتعدى في القصاص، فوجب أن يكون الجعل في ذلك على الذي كانت عنه النيابة، وقد قيل إن الجعل في ذلك على المقتص منه؛ لأن القصاص حق عليه يجب أن يوفيه لصاحبه فيكون عليه أجرة الذي يقتص منه، كما يكون على المطلوب بمكيل أو موزون أجرة الكيل والوزن، وهو مذهب الشافعي، وفيه بُعد إذ لا يجب على الجارح أن يقتص من نفسه للمجروح، وإنما الذي يجب عليه القصاص أن يمكن من نفسه للقصاص منه فذلك بخلاف توفية الحقوق المكيلة والموزونة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] وبالله التوفيق.
[: ركب ورمحه في يده فأصاب به فرس رجل وهو لا يتعمده]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل مالك عن رجل كان في أرض العدو وأنه دخل وجماعة من المسلمين مضيقا فخاف على نفسه وعلى ميت معه فنزل وأمر أصحابه بالنزول فقالوا له: لا نفعل، فإنا نخشى أن يقطع بنا العدو، فاركب فركب ورمحه في يده فأصاب به فرس رجل وهو لا يتعمده(16/87)
وصاحبه لا يعلم فلم يسيروا إلا يسيرا حتى سقط الفرس وصاحبه يظن أن العدو هم الذين أصابوه أفترى عليه شيئا؟ قال: ما أرى عليه شيئا، وما الدابة عندي بمنزلة الإنسان يصيبه ما لا يستطيع أن يدع سلاحه لموضع خوفه، فلا أرى عليه شيئا في ذلك، قال ابن القاسم: وإن كان أصاب إنسانا فعليه، ولو كان أصاب دابّة في حضر فعليه، قال سحنون: السفر والحضر واحد وعليه الغرم.
قال محمد بن رشد: تفرقة مالك في هذا بين الدابة والإنسان استحسان، والقياس على أصولهم في أن أموال الناس تضمن بالعمد والخطأ قول سحنون، ووجه ما ذهب إليه مالك أنه رآه مغلوبا عليه في هذه الحال، فلم يكن جناية فيها بقصد، فأشبه جناية المجنون فقوله في هذه الرواية على قياس القول بأن ما أصاب المجنون من الأموال هدر، وما أصاب من الدماء يكون حكمه فيها حكم الخطأ، تحمل العاقلة منه ما بلغ الثلث فصاعدا وهو قول ابن القاسم في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقد قيل: إن حكمه حكم الخطأ في الأموال والديات، وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب بعد هذا، وقيل إنه فيما جنى في الأموال والدماء كالبهيمة وبالله التوفيق.
[: العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه]
ومن كتاب القبلة وقال مالك في العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه، قال: إن نقصه ذلك فله ما بين القيمتين كجراحه، وإن لم ينقصه وزاد فيه فإني أرى أن ينظر إلى ما ينقص الخطأ من مثله إذا خصي من أوسط صنفه فيحمله عليه، وإنما يكون ذلك أن ينظر إلى ما نقص الذي زيد فأجعله جزءا من ثمنه، فإن كان(16/88)
عشرا كان له عشر ثمنه ثم على نحو هذا يكون في الأجزاء.
قال محمد بن رشد: أما إذا نقص الخصا من قيمته فلا إشكال ولا اختلاف في أنه يلزم الجاني عليه ما نقص ذلك من قيمته، وأما إذا زاد فيه فقوله إنه ينظر إلى ما نقص الخصا من مثله إلى آخر قوله ففيه إشكال، لقوله إنه ينظر إلى ما نقص الذي زيد فيجعل ذلك جزءا من ثمنه، فإن كان عشرا كان له عشر ثمنه، فقد تأول بعض الناس أن معنى ذلك أنه إن كان زاد الخصا في ثمنه الثلث كان على الجاني ثلث قيمته، وإن كان زاد فيه الربع أو النصف كان عليه ربع قيمته أو نصفها، وإن زاد فيه الخصا مثل ثمنه أو أكثر كان عليه غرم جميع قيمته وهو بعيد في المعنى فلا ينبغي أن يحمل الكلام على ذلك، وإن ساعده اللفظ، وإنما معنى قوله ينظر إلى ما نقص الذي زاد أن ينظر إلى ما نقص منه الخصا الذي زاد في قيمته كمن كان ينقص منه لو لم يرغب فيه من أجل خصائه إذ لا شك في أن الخصا ينقص بعض منافعه فتنقص قيمته من أجل ذلك ويرغب فيه الملوك أيضا فتزيد قيمته لذلك، فقد نفى الزيادة بالنقصان فتكون قيمته مخصيا وغير مخص سواء وقد يكون ما يزيد فيه الرغبة لخصائه أكثر مما ينقص منه الخصا، فتكون قيمته مخصيا أكثر، وقد يكون ما تزيد فيه الرغبة لخصائه أقل مما ينقص منه الخصا، فيكون قيمته مخصيا أقل من قيمته غير مخص فأراد في الرواية أنه ينظر إلى ما نقص منه الخصا لو لم يرغب فيه من أجل خصائه وقد قال سحنون: إنه إن أراد الخصا فإنه ينظر إلى عبد دني، وعبد ممن ينقص مثله الخصا فيقال ما ينقصه المخصي؟ فيقال خمسه فيغرم الجاني خمس قيمة العبد الذي جنى عليه، وفي قوله نظر؛ لأن الخصا ينقص من قيمة العبد النبيل الرائع أكثر مما ينقص من قيمة الوخش، فقول مالك على ما تأولناه عليه هو أصح في النظر، وقد قال ابن عبدوس: إذا لم ينقصه الخصا فلا غرم على الجاني، والذي أقول به في هذا أنه إذا لم ينقصه الخصا فيكون على الجاني جميع قيمته لأن الخصا(16/89)
يقطع النسل وفي ذلك في الحر الدية كاملة، فيكون فيه في العبد قيمته كاملة قياسا على موضحته ومنقلته ومأمومته وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ حلف مع شاهده واستحق دية جرحه إن كان مما فيه دية، وإن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح بمنزلة المال الدين، قال عيسى وسحنون: وذلك إذا كان جرحه أدنى من الثلث، فإن كان جرحه الثلث فأكثر فلا شيء عليه ولا يمين عليه، قال سحنون: وإنما أبطل ذلك عنه لأن الدية قد صارت على غيره.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع شاهده على جرح الخطأ ويستحق ديته صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه مال من الأموال، وقد قال في الشهادات من المدونة وكل جرح لا قصاص فيه فإنما هو مال، ولذلك جازت فيه اليمين مع الشاهد.
وقوله إن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح لا اختلاف فيه إذا كان الجرح له دية وهو أقل من الثلث، وأما إذا كان الثلث فما عدا فقول سحنون إنه لا شيء عليه ولا يمين إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده؛ لأن الدية قد صارت عليه هو على قياس قول ابن الماجشون في أن الأولياء إذا نكلوا عن القسامة في دم الخطأ لم ترجع الأيمان على العاقلة، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده أن ترجع اليمين على الجارح وجميع عاقلته، فمن حلف منهم برئ مما يقع عليه من دية الجروح، ومن نكل غرم ما يجب عليه منها، وعلى قول مالك في رواية ابن وهب أن يحلف الجارح وحده، فإن حلف سقطت دية الجرح عنه وعن العاقلة، وإن نكل عن اليمين لزمه ما يلزم واحدا(16/90)
من العاقلة، وقد مضى في أول سماع عيسى من كتاب الديات تحصيل القول في نكول الولاة عن القسامة في دم الخطأ وهو أصل لهذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها]
مسألة قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها أخذ عقلها وكانت مالا للورثة، قال ابن القاسم: ثم قال بعد ذلك أراه لها؛ لأن أم الولد ليست كغيرها لها حرمة وليست بمنزلة العبد، ولذلك إذا لم يقبضه سيدها حتى مات قال ابن القاسم: وقد رأيت مالكا كأنه يعجبه هذا القول ويستحسنه، قال ابن القاسم: وأنا استحسن قول مالك الذي رجع إليه.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في كتاب ابن المواز إن قوله الأول هو القياس، ونحن نستحسن ما رجع إليه، وكذلك لو أعتقها قبل أن تؤخذ دية الجناية كانت لها، وقال أشهب: بل ذلك للسيد، وقال سحنون في المبسوطة بالقول الأول أقول وهو الفقه فيها، وكذلك يختلف على هذا أيضا إذا جنت هي فتوفي سيدها قبل أن يحكم عليه بالجناية هل تؤخذ من ماله أو تكون عليها، فقال ابن القاسم في المدونة ورواه عن مالك إن ذلك يؤخذ من ماله ولا يكون عليها، وقال غيره فيها إذا لم يقم على السيد بالجناية حتى مات فهي عليها، فاختلاف قول مالك في المسألة الأولى يدخل في هذه، إذ لا فرق بينهما في القياس، ولا اختلاف في أنها إذا ماتت هي قبل أن يحكم على سيدها بما جنت فلا شيء عليه من جنايتها.(16/91)
[: جراح الخطأ التي دون الثلث]
ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا قال ابن القاسم: كل ما كان من جراح الخطأ التي دون الثلث التي يستأنى بصاحبها خوفا أن يأتي فيها أكثر من الثلث مثل اليد يقطع منها الأصبع وما أشبه ذلك فما كان مما يصاب به مما هو دون الثلث أخذ عقله فوضع فإن برئ دفع إليه، وإن نزي فيها حتى يكون ذلك أكثر من الثلث رد إليه وحملته العاقلة وكان الجارح كرجل منهم يعقل معهم كما يعقلون، وما كان مما تحمله العاقلة استؤني به ولم يؤخذ له عقل حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمره، ولأن العاقلة أمر مأمون ولأن الرجل في خاصته يخاف أن يذهب ماله وتلحقه الديون وبرئ فيكون أقل من الثلث فلا تحمل العاقلة شيئا ولا يوجد له مال، وإنما هو بمنزلة سن الصبي التي تنزع قبل أن يثغر، قال سحنون إذا كان الجرح مما تحمله العاقلة فإنه يفرض له ولا يستأنى به في الجرح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة.
قال محمد بن رشد: قوله في جرح الخطأ إذا كان دون الثلث إن عقله يوضع حتى ينظر إلى ما يصير إليه، بخلاف إذا كان أكثر من الثلث لأن العاقلة أمر مأمون صحيح على معنى ما في المدونة؛ لأنه قال فيها في سن الصغير: إنه يوضع على يدي عدل حتى ينظر إلى ما يصير إليه، وأما قول سحنون إن الجرح إذا كان مما تحمله العاقلة إنه يفرض ولا يستأنى به برء الجراح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة فهو خلاف نص ما في المدونة أن دية المأمومة لا تفرض على العاقلة حتى تعرف ما تصير إليه المأمومة لأنها ربما آلت إلى النفس فلم تجب الدية على العاقلة إلا بقسامة ولما سأله فيها عن المعنى في تأخير فرض(16/92)
المأمومة على العاقلة وهي لا بد أن تفرض عليها عاش أو مات قال هذا الذي سمعنا، وإنما هو الاتباع ومع الاتباع قله وجوه صحاح في النظر، منها أن الجرح ربما آل إلى النفس فوجب فرض الدية على العاقلة في ثلاث سنين فإن فرض على العاقلة دية الجرح منجما كما قال قد يحل قبل موته فيؤول ذلك إلى قبض دية النفس من العاقلة قبل وجوبها؛ لأن الحكم فيها أن تفرض بعد الموت بالقسامة في ثلاث سنين فهي تجب لورثته فلا يصح أن تفرض له دية الجرح لا يدري أهل يعيش فتجب له؟ أو يموت فتجب لورثته، وهذه علة بينة صحيحة، وقد أجمع أهل العلم أنه لا يقتص من الجرح إلا بعد البرء فوجب على قياس ذلك ألا يعقل الجرح إلا بعد البرء، وقول سحنون في هذه المسألة بعيد وبالله التوفيق.
[: من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث]
ومن كتاب الرطب باليابس قال ابن القاسم: قال مالك: من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث غرم ثمنه، قيل لسحنون أيأكل ثمنه؟ قال: نعم، ويحج به إن شاء، قال أصبغ: لا يجوز بيع الكلب وإن احتاج صاحبه إلى ثمنه؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن ذلك والناس كانوا يومئذ أحوج إلى إجازته من اليوم فلم يؤذن لهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية إن من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث يغرم ثمنه أي قيمته هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك من قتله كان عليه قيمتها ولا يحل بيعها مثل قول أصبغ خلاف قول سحنون إن بيعها وأكل ثمنها جائز وأجاز ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع شراءها من أجل الحاجة إليها ولم يعجبه بيعها، وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل إن المشتري أعذر في(16/93)
شرائه من البائع؛ لأن الحاجة تدعوه إلى شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن ولا حاجة بأحد إلى بيع ذلك؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه، فحمل مالك نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على عمومه في جميع الكلاب الضارية وغير الضارية التي لم يؤذن في اتخاذها، وجعل سحنون نهيه عليه السلام مخصصا في الكلاب المنهي عن اتخاذها، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» والاقتناء يكون بالاشتراء وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع زيادات في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[: الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة]
ومن كتاب سلعة سماها وسئل مالك عن الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة قال نعم أرى أن يعاقب.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا عقوبة عليه مع القصاص لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فلم يذكر معه زيادة عليه وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وهو الأظهر، ووجه قول مالك هذا في إيجاب الأدب عليه مع القصاص هو الزجر والردع ليتناهى الناس عن الجناية،(16/94)
إذ منها ما لا يجب فيه القصاص، والأول أظهر؛ لأن في حسبه إن برئ الجرح فيقتص منه، إذ لا يقتص منه إلا بعد البرء وقد لا يبرأ إلا في المدة الطويلة ما فيه زجر له ولمن سواه وردع، وأما الجرح الذي لا قصاص فيه مثل المنقلة والمأمومة فيعاقب مع الغرم على ما قاله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود، ولا اختلاف في ذلك.
[مسألة: الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه]
مسألة وقال ابن القاسم في الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه؟ قال: أرى عليه قدر ما شانها به، قلت له: أفرأيت إن صنع بها ذلك بأصبعه؟ فقال: ذلك سواء ليس عليه إلا قدر ما شانها به، وسواء فعل ذلك بها غلام أو رجل أو امرأة ليس لها في ذلك إلا قدر ما شانها به.
قال محمد بن رشد: يريد مع الأدب في ذلك كله، والأدب في الذي فعل ذلك بها بأصبعه أكثر من الذي فعله بالدفعة، ومعنى ما شانها به أي ما نقصها من صداقها بذلك عند الأزواج، ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف إذا فعل الزوج بامرأته ذلك بأصبعه، فقيل إنه يجب عليه بذلك الصداق، وقيل لا يجب به عليه الصداق وإنما يجب عليه ما شانها عند غيره من الأزواج إن طلقها ولم يمسكها على ما مضى من اختلاف قول ابن القاسم في ذلك بين رواية سحنون وأصبغ عنه من كتاب النكاح، وأما إن فعل ذلك الزوج بزوجته بالدفعة فلا يجب عليه بذلك الصداق، وإنما يجب عليه به ما شانها عند غيره إن فارقها ولم يمسكها وبالله التوفيق.
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب القراض قال أشهب وابن نافع، قيل لمالك أليس النصراني بمنزلة(16/95)
العبد يجرح الحر المسلم فلا يكون بينهما قود؟ فقال: إن العبد يؤخذ في ذلك أحيانا عبدا وإن النصراني لا يؤخذ في ذلك عبدا، ففي هذا تسليط للنصراني على المسلمين أن يعمدوا النصراني إلى المسلم فيفقأ عينه ثم يعطيه دراهم يعينه فيها أهل دينه ويحوطونه في ذلك، فأرى أن يجتهد في مثل هذا السلطان الرأي، وقد كان ربيعة وغيره يقولون في مثل هذا النصراني يزني بالمسلمة وما أشبه هذا.
هذا نقض لعهدهم، فقيل لمالك يا أبا عبد الله: أفترى أن يقاد منه؟ فقال: لا أدري الآن، وما هو بمنزلة العبد يؤخذ في ذلك أحيانا رقيقا، والنصراني لا يؤخذ في ذلك رقيقا، وقد يحتمي له أهل دينه فيفقأ عين مسلم فيعطيه دراهم وهو أيسرهما عليه، قال سحنون، قال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل.
قال محمد بن رشد: من شروط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر وبالحرية أو الرق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] يوجب ألا يقتص في الجراح من العبد للحر ولا من الحر للعبد وألا يقتص فيها من النصراني للمسلم ولا من المسلم للنصراني إلا أن مالكا وقف إذا جرح النصراني المسلم فأراد المسلم أن يقتص منه للعلة التي ذكرها وصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام إن رأى يمكنه من القصاص منه أمكنه من ذلك، أو يحكم له بدية جرحه فعل، وصرف مالك الحكم في ذلك إلى اجتهاد الإمام يدل من مذهبه على القول بتصويب المجتهدين، وقال ابن نافع: إن من حق المسلم المجروح أن يقتص من جارحه النصراني إن شاء، ومثله لابن عبد الحكم في المختصر، وقد قال له الدية ولا قود بينهما، فالاختلاف إنما هو إذا أراد المسلم أن يقتص، هل له(16/96)
ذلك أم لا، فمن جعل ارتفاع القصاص بينهما في الجراح عبادة لا لعلة اتباعا لما يدل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولم يوجب للمسلم أن يقتص من النصراني كما لا يوجب للنصراني أن يقتص من المسلم، ومن جعل ارتفاع القصاص بينهما لعلة الحرمة رأى ذلك حقا للمسلم في ألا يقتص منه النصراني لحرمته وفي أن يقتص هو منه إن شاء، إذ لا حرمة له عليه بل له هو الحرمة عليه بإسلامه قياسا على القصاص منه في القتل، وهو قول ابن نافع، ويأتي على مذهبه أن للحر أن يقتص من العبد في الجراح كما يقتص له منه في القتل، وسيأتي في سماع سحنون وعبد الملك من كتاب القذف القول فيما ينتقض به عهد المعاهد مما لا ينتقض به إن شاء الله وبالله التوفيق.
[مسألة: المجنون يكسر أمتعة الناس أعليه غرم]
مسألة قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع قال: سئل مالك عن المجنون المغلوب على عقله يخرج إلى السوق فيكسر أمتعة الناس ويفسد، أترى عليه لذلك غرما في ماله؟ قال: نعم، فقلت له: أفتراه شبيها بجراحه؟ فيكون ذلك خطأ يغرم لمن أصاب بذلك الجرح؟ قال: نعم أراه شبيها به، قيل له وتراه إذا أفاق يتوضأ؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم مرض من سماعه من كتاب طلاق السنة مثل قول مالك هذا، وله في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب خلافه أن ما أصابه المجنون المطبق والصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها من الأموال أنه هدر بخلاف الدماء، وفي كتاب ابن المواز، قول ثالث في المسألة أن ما أصابه في الدماء والأموال هدر كالبهيمة التي جرحها جبار، ولكل قول من الأقوال الثلاثة وجه، وقد مضى بيانه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا اختلاف في أن(16/97)
عليه الوضوء إذا أفاق، وإنما الاختلاف هل عليه الغسل؟ فقال في المدونة إنه لا غسل عليه، وقال ابن حبيب إذا أجنب في جنونه فلا بد من أن يغتسل، وعلى هذا يختلف فيمن لسعته عقرب أو ضرب بسيف فأمنى هل عليه غسل أم لا؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: يستوفي المجروح من مال المدبر]
مسألة وسألت مالكا عن المدبر يجرح رجلا جرحا فيه عقل فيسلمه سيده إلى المجروح فيختدمه بجراحه ثم يموت المدبر ويترك مالا ولم يستوف المجروح دية جرحه كلها من يرث مال المدبر؟ فقال: يستوفي المجروح من مال المدبر بما بقي من عقل جرحه، ثم يكون ما فضل من مال المدبر لسيده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه كما يسلم العبد في الجناية بماله فكذلك يكون ما مات المدبر عنه من مال لصاحب الجناية حتى يستوفي جنايته.
[مسألة: يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يطلبا القود]
مسألة قال: وسألت مالكا عن الرجلين يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يأتيان يطلب كل واحد منهما من صاحبه القود بجراحه كلها أو يطلب ذلك أحدهما أن يقاد منه أو يقاد له، فقال لي: كيف قلت؟ فقلت: يتنازعان فيجرح هذا هذا موضحة، وهذا هذا موضحة، أو يجرح كل واحد منهما صاحبه في جسده فيقولان أو يقول أحدهما أقيدوا مني وأقيدوا منه، فقال لي: يفقأ هذا عين هذا وهذا عين هذا ثم يأتي يطلب فيقول: افقئوا عين الآخر أو عين صاحبي الآخر أفليس ذلك له؟ فقيل لمالك أفيكون في ذلك الدية؟(16/98)
فقال: لا، ولكن قد أخذ لنفسه قوده بيده، فليس بينهما قود فيما قد أخذه لنفسه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوضح كل واحد منهما صاحبه في الموضع الذي أوضحه فيه من رأسه أو جسده أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليمنى أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليسرى أو ما أشبه ذلك فلا إشكال في أنه لا قصاص بينهما إذ قد أخذ قوده بيده، وأما إذا أوضح أحدهما صاحبه في غير الموضح الذي أوضحه فيه، مثل أن يوضع أحدهما صاحبه في رأسه فوضحه هو في جسده، فلكل واحد منهما أن يقتص من صاحبه إن طلبا ذلك، ولمن طلبه منهما إن طلب ذلك أحدهما، وكذلك إن فقأ أحدهما عين صاحبه اليمنى فقأ هو عينه اليسرى إذ لا يقتص يمنى بيسرى ولا يسرى بيمنى، ويجري ذلك على الاختلاف في الأعور يفقأ عين الصحيح وفي الصحيح يفقأ عين الأعور، فيكون لكل واحد منهما أن يقتص من عين صاحبه الآخر في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية عينه التي بقيت، وذلك خمسمائة دينار في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية العين التي يترك، وذلك ألف دينار في قول حسبما يأتي من الاختلاف في ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا؟ قال: بل يقاد له من ملطا، فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت الموضحة؟ فقيل لمالك أيعقل له الموضحة كلها أم ما بين الموضحة والمطا؟(16/99)
قال: لا أدري، قال سحنون: قال عبد الله بن نافع وأرى له عقل الموضحة كلها لأنه ليس دون الموضحة عقل.
قال محمد بن رشد: يدخل هذه المسألة من الاختلاف الثلاثة الأقوال التي تقدمت في أول سماع ابن القاسم في الذي يجرح رجلا موضحة فتصير منقلة، فقوله إنه يقاد له من ملطا فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت له الموضحة، هو على القول في الذي يجرح موضحة فتصير منقلة إنه يقاد له من الموضحة ويعقل له ما بين الموضحة والمنقلة إن لم تصر موضحة المقتص منه منقلة.
وقوله: إن له عقل الموضحة كلها بعيد خارج عن القياس إذ لا يصح أن يأخذ جميع عقل الموضحة إذ قد اقتص من بعضها، وإن لم يكن للمطاء دية مسماة عند مالك فيجب أن ينظر إلى قدر جرح الملطا ما هو من جرح الموضحة؟ فإن كان ثلثه أو ربعه حط من عقل الموضحة ثلثه أو ربعه إذ قد أخذه في القصاص، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، فعلى هذا إذا اقتصر من الملطا ولم تصر موضحة كان له نصف عقل الموضحة، وقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة إذا كانت في الرأس، فعلى هذا يكون له إذا اقتص من الملطا ولم تصر موضحة بعير واحد، إلا أن مالكا لم ير هذا وقال في موطئه: ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل، فيحمل ما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت في ذلك على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوفية ويأتي في هذه المسألة على القول الآخر أنه ليس له إلا عقل الموضحة، وعلى القول الثالث أنه مخير بين أن يقتصر من الملطا ويأخذ عقل الموضحة أو بقية عقلها(16/100)
على ما بيناه من أنه هو القياس وبين أن يأخذ عقل الموضحة ولا شيء له في القصاص.
[مسألة: مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين]
مسألة قال: وسئل مالك عن مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار، فأخذ ولي الأيتام العبد وأعطى المجروح الخمسين والمائة الدينار عقل الجراح، فقال: أخذه لنفسه أو للأيتام؟ فقال: بل لنفسه، قال بئس ولي الأيتام هذا، ولم غرر وليس هذا له ولا نعمة عين، قيل له: أفترده على الأيتام؟ قال: يرفع ذلك إلى السلطان حتى ينظر فيه.
قال محمد بن رشد: قوله فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار هو على مذهبه في أنه ليس فيما دون الموضحة عقل، وقد مضى في المسألة التي قبلها ما في ذلك من الاختلاف بين السلف وقوله: إن ذلك ليس للأيتام ولا نعمة عين، صحيح إذ لا يجوز لولي الأيتام أن يشتري شيئا من متاع أيتامه، فإن فعل نظر السلطان في ذلك كما قال، فإن رآه نظرا للأيتام أمضاه، وإن لم يكن نظرا يوم ابتاعه ولم يره نظرا للأيتام رده وإن كان نظرا يوم ابتاعه وبالله التوفيق.
[: عض رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض]
ومن كتاب الأقضية الثالث قال: وقال مالك: إذا عضّ رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض: إن على المعضوض عقل السن، وهذا من الخطأ، وروى يحيى بن يحيى عن الليث أنه قال: ليس على(16/101)
المعضوض في ثنيتي الذي عضه عقل لأنه كان أظلم وأسوأ.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى عن الليث بن سعد لم تثبت في جميع الروايات وهي مطابقة لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عمران بن الحصين «أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض العجل لا دية لك» فيحتمل أن يكون الحديث لم يبلغ مالكا ويحتمل أن يكون بلغه فرأى القياس المعارض له مقدما عليه على ما حكى ابن القصار من أن مذهب مالك أنه إذا اجتمع خبر الواحد مع القياس ولم يمكن استعمالهما جميعا قدم القياس، والحجة فيه أن خبر الواحد لما جاز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولم يجز على القياس من الفساد إلا وجه واحد وهو هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا فصار أقوى من خبر الواحد فوجب أن يقدم عليه، وجه القياس في ذلك أن هذه جناية من عاقل حديث بفعله ما يجوز له فعله فوجب أن يكون خطأ ولا يكون هدرا، أصله إذا رمى طائرا فأصاب إنسانا، وأولى ما يقال في هذا عندي أنه حديث لا حجة فيه على مالك، إذ ليس هو لأمره من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بإسقاط الدية في مثل هذا الفعل فيجب امتثال أمره على من بلغه إياه، وإنما هو حكاية قضية منه في عين يحتمل أن يكون بمعنى، فلا يصح أن يعدى الحكم إلى غير تلك العين إلا أن يكون المعنى موجودا فيها، ويحتمل أن يكون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما حرم العاض دية ثنيته وإن كانت واجبة له على المعضوض عقوبة له لعضه إياه حين كانت العقوبات على الجنايات في الأموال ثم نسخ ذلك فعادت العقوبات على الجنايات في الأجسام فيعاقب العاض بالأدب على ما يؤدي إليه اجتهاد للحاكم ويكون له دية ثنيته على مذهب مالك وبالله التوفيق.(16/102)
[: اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين]
ومن كتاب العقول والجبائر وسئل عن رجلين اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين ثم تكلم وقد نقص من كلامه، أترى فيه قودا؟ فقال: أحب إلي ألا يقاد منه، ولم أسمع أنه أقيد منه، فلا أرى أن يقاد منه؛ لأنه ليس له قدر يعرف في القصاص أخاف أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه ويستحسف فأحب إلي ألا يقاد منه وأن يعقل.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقاد منه إذ ليس له قدر يعرف في القصاص مخافة أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه يريد أو يذهب منه أكثر مما ذهب من المجني عليه أو أقل يبين مذهبه في المدونة أنه قال فيها: إنه يقاد منه إن كان يستطاع قود ذلك ولا يخاف منه، فبين هاهنا أن ذلك لا يستطاع عليه، وقال أشهب فيه إنه مخوف فلا يقاد منه وقوله: إنه يعقل يريد بقدر ما ذهب من كلامه؛ لأن الدية إنما هي في الكلام، فإن ذهب كلامه كله وجبت له الدية كلها، وإن بقي بعض جارحة لسانه وإن ذهب من كلامه بعضه كان له من الدية بقدر ما نقص من كلامه بعد أن يجرب صدقه فيما يدعي أنه ذهب من كلامه من كذبه ويحلف على ذلك على ما قاله بعد هذا في هذا الرسم، وإنما يقدر نقصان كلامه بالاجتهاد بعد الاختبار والتجربة، ولا ينظر في هذا إلى الأحرف على ما قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم الكبش من سماع يحيى، وقد قيل: إنه يكون له من الدية بقدر ما لم ينطق به من حروف المعجم، وهو بعيد؛ إذ بعض الحروف أخف على اللسان من بعض؛ ولأن فيها أيضا ما لا حظ للسان فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: تعلق أحدهما بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها]
مسألة وعلى رجلين كان بينهما كلام ثم اصطلحا، ثم تعلق أحدهما(16/103)
بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها، فقال: إن لكل شيء سببا فليأت بشيء وإلا فيمين المدعي، وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب.
قال محمد بن رشد: قوله: وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب معناه إذا أتى على دعواه بسبب لا يبلغ أن يكون شاهدا عدلا على دعواه مثل أن يشهد له أنه مشهور بمثل ما ادعى عليه به وما أشبه ذلك، وتحصيل القول في هذه المسألة أنه إن لم يأت على دعواه بسبب ولا شيء فقيل إنه يحلف على تكذيب ما ادعى عليه به، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل إنه لا يمين عليه وهو الذي يأتي على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود في دعوى الفرية، فإن أتى على دعواه بسبب فقيل إنه يضرب وهو معنى قوله في هذه الرواية، وقيل إنه يحلف فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، قاله ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا، قال أصبغ فإن طال سجنه وأبى أن يحلف أدب وخلي إلا أن يكون مبرزا في ذلك فيخلد في حبسه، وأما إن أتى على دعواه بشاهدي عدل فقيل إنه يحلف مع شاهده ويقتص، وقيل لا يحلف مع شاهده ويحلف المدعى عليه فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، والقولان في المدونة، وفرق ابن الماجشون وسحنون في هذا بين الجرح الصغير والكبير، فقالا: إنه لا يقتص باليمين مع شاهده في الجرح الصغير دون الكبير، وقد مضى التكلم على هذا المعنى في رسم القضاء من سماع أشهب من كتاب الشهادات.
[مسألة: ضربت يده بسيف فقطعت إحدى قصبتي يده]
مسألة وسئل عمن ضربت يده بسيف فقطعت إحدى قصبتي يده أترى فيه قودا؟ قال: نعم إن استُطيع ذلك وأرى الأطباء ومن يعرف ذلك يكون هو الذي يلي ذلك.(16/104)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن كل جرح لم يكن متلفا فيقاد منه إلا ألا يستطاع على القود منه.
[مسألة: الكبير تصاب سنه فيأخذ ديتها ثم تثبت]
مسألة وسئل عن الكبير تصاب سنه فيأخذ ديتها ثم تثبت هل يتبع الدية قبله؟ فقال: لا أرى ذلك، إذا يقع في ذلك اتباع وتخليط، وإنما أخذ ذلك حين أخذه بوجه الحق، ولعلها تثبت ليس على مثل حالها.
قال محمد بن رشد: اعتلاله في أنه لا يرد ما حكم له به من دية السن إذا ردها صاحبها فثبتت بقوله ولعلها تثبت ليس على حالها يدل على أن هذه المسألة بخلاف الذي يضرب فتبيض عينه أو ينزل الماء فيه فيأخذ الدية ثم يبرأ بعد ذلك أنه يرد الدية على ما قاله في المدونة؛ لأن بصره قد رجع إليه على ما كان والذي يدل على الفرق بين المسألتين أيضا أن الذي ضرب فابيضت عينه أو نزل الماء فيها لو رجع إليه بصره قبل أن يحكم له بالدية لم يكن له شيء باتفاق، لا من دية ولا من قصاص، والذي قلعت سنه إذا ردها فثبتت يقتص منه في العمد باتفاق، وتكون له الدية في الخطأ على اختلاف، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب الديات وبالله التوفيق.
[مسألة: جرح موضحة فصارت منقلة]
مسألة وسئل عمن جرح موضحة فصارت منقلة، قال: أرى أن يعطى عقل المنقلة فقط، قلت: أرأيت لو أصيبت من ذلك عينه فقال أرى أن يعطى عقل موضحة وعقل العين، قال: وقد كان أصيب بالمدينة رجل بمأمومة فسقطت من ذلك يده ورجله، فقضي له بعقل ذلك كله، عقل المأمومة واليد والرجل، قلت له: أرأيت(16/105)
ذلك؟ قال: نعم رأيت ذلك، قلت له: وأعجبك؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: أما الذي أصيب بمأمومة فذهب منها يده ورجله فلا اختلاف في أن يقضى له بدية ذلك كله وكذلك الذي أصيب بموضحة فذهبت منها عينه لا اختلاف أيضا في أنه يقاد له من الموضحة فإن برأت ولم تذهب من ذلك يمينه كان له عقل العين، وأما الذي أصيب بموضحة فصارت منقلة فقد مضت والقول عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أصاب يد رجل فقطع وهي سومة سليمة فأراد الاستقادة من يده]
مسألة وسئل عمن أصاب يد رجل فقطع وهي سومة سليمة فأراد الاستقادة من يده فأصابوا بها عيبا أو نقصا عثلا أو شلا وفيها استمتاع ومنفعة، فقال الذي أصيبت يده أنا أرضى أن أستقيد من يده هذه الناقصة فقال: أما الذي كان فيها استمتاع ومنفعة فإني أرى ذلك له وأما إذا لم يكن فيها استمتاع ولا منفعة فإني لا أرى ذلك له وأخاف أن يكون من العبث تكون العين بها النقص والضعف فيقول أنا أرضى أن استقيد منها فيكون ذلك له فإذا كانت ذاهبة قائمة فقال أنا أرضى أن استقيد بأبخسها منها لم أر له ذلك؛ لأن ذلك من العبث.
قال محمد بن رشد: أما إذا كانت جل منفعة عين الجاني أو يده باقية فلا اختلاف في أن المجروح بالخيار بين أن يستقيد منها بنقصانها وبين أن يأخذ عقل يده أو عينه.
وأما إذا كانت منفعتها كلها قد ذهبت أو جلها فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال أحدها أن له أن يقتص إن شاء وإن كانت منفعتها كلها قد ذهبت، وهو قوله في رسم المكاتب من سماع يحيى أنه إن شاء اقتص وقطع الشلاء التي فيها حقه، وإن شاء تركها وأخذ العقل، والثاني قول أشهب في(16/106)
المجموعة وكتاب ابن المواز أنه ليس له أن يقتص منها وإن بقي فيها منفعة إذا كانت جل منفعتها قد ذهبت، والثالث قوله في هذه الرواية وهو مذهبه في المدونة أنه إن كانت قد ذهبت منفعتها كلها فليس له أن يقتص، وإن كان بقي فيها منفعة وإن قلت فهو بالخيار بين أن يأخذ العقل أو يقتص.
[مسألة: كل أمر لا يقدر على القود منه]
مسألة قال: وقال مالك: كل أمر لا يقدر على القود منه فليس فيه قود واللسان لا قود فيه فليس فيه قود، ويعقل له ذلك بقدر ما نقص من الكلام، فإذا قطع طرف اللسان فذهب منه الكلام كله ففيه الدية كاملة لا شك فيه، والعين تصاب فتكون قائمة قد ذهب بصرها ففيها الدية كاملة لا شك فيه، والذي قطع لسانه لا يقدر على القود منه وذلك مختلف، أخاف أن يؤخذ من لسانه مثل الذي قطع من لسان هذا فيمنعه ذلك الكلام، قال ويحلف الذي قطع طرف لسانه على ما ذهب من كلامه بعد تجربة ذلك، قال وسئل عن حد ما يعرف به ما ذهب من السمع والبصر إذا ادعى أن قد ذهب كذا وكذا فقال في الذي ادعى أن قد ذهب من بصره كذا وكذا، قال ينصب له شيء ويخلى عن عينه فإذا انتهى بصره ربطت عينه الصحيحة وقيل له انظر بعينك التي أصيبت فينصب له ذلك في موضع، فإذا انتهى ذلك حول ذلك إلى موضع آخر حتى يستوي ذلك، فإن اختلف ذلك لم يصدق، وإن استوى ذلك وثبت أعطي من الدية بقدر ما نقص بصره من الغاية الأولى إلى حيث انتهى بصره حين ربط على عينه الصحيحة فأعطى ذلك وأحلف عليه، وقال في الذي يقول: ذهب من سمعي كذا وكذا قال يتباعد منه إنسان فيصيح به حتى إذا قال قد سمعته تحول له في ناحية أخرى يجرب بذلك سمعه، فإذا اتفق(16/107)
ذلك كان له العقل، وإن اختلف ذلك لم يكن له شيء، وإذا اتفق أعطي من ذلك بقدر ما نقص من سمعه ويستحلف على ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يقاد من اللسان إذ لا يستطاع على القصاص منه مخافة أن يزيد أو أن ينقص هو مثل ما تقدم من قوله قبل هذا، وقوله إنه يحلف على ما ذهب من كلامه بعد تجربة ذلك يبين ما تقدم أيضا، والتجربة في ذلك إنما معناه اختبار دعواه ليعلم صدقه فيه من كذبه، فإن لم يتبين كذبه فيما يدعي حلف مع ذلك لاحتمال أن يكون كذب فلم يتبين كذبه للمختبرين له، وسيأتي في سماع يحيى وجه تقدير ما نقص من كلامه كيف يكون وما يكون له إن شك الشهود في قدر ما نقص من كلامه إن كان الثلث أو الربع.
[مسألة: الصبي المدبر الذي لم يبلغ الخدمة يجرح إنسانا]
مسألة قال وسألته عن الصبي المدبر الذي لم يبلغ الخدمة يجرح إنسانا أيؤخر حتى يكبر ويبلغ العمل؟ فقال: نعم يؤخر حتى يكبر ويبلغ العمل، قيل أرأيت إن مات قبل أن يبلغ العمل أيذهب عقل جرح هذا المجروح؟ فقال: نعم، وكذلك الأمة التي لا عمل عندها إذا كانت مدبرة فجرحت تؤخر حتى تبلغ العمل وتكبر الجارية كيف تؤخر وما ينتظر بها؟ فقال: حتى يموت سيدها فتصيب مالا أو يكون شيء لها ألا ترى عثمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - كيف جمعهما فقال: لا يكلف الصغير ولا المرأة غير ذات الصنعة الكسب.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا وجه للقول وبالله التوفيق.
وسئل فقيل له جاءني صبي قد أثغرت أسنانه كلها إلا سنا واحدة فإنها(16/108)
تتحرك فقلت له أنزعها لك؟ فقال: نعم، فجعلت فيها خيطا ثم نزعتها فأقام ثلاثة أيام وقد كانت برجله قرحة؟ فقال له: أعتق رقبة فإن لم تجد فصيام شهرين متتابعين وما أدري أذلك عليك أم لا؟ إلا أنه إن كان أديته وإلا أجرت.
قال محمد بن رشد: إن علم أنه مات من قلعه لضرسه فالكفارة عليه واجبة، وإن علم أنه لم يمت من ذلك، وأنه إنما مات من القرحة التي كانت برجله أو من شيء عرض له فلا شيء عليه، وإن خشي أن يكون مات من قلعه لضرسه فهو الذي قاله في الرواية من استحباب الكفارة له، فإن كانت عليه وإلا أجر فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قاس أصبع المقطوعة أصبعه وأخذ قياس ما قطع منه]
مسألة وسئل عن طبيب استقاد من أصبع رجل لرجل قطعت أصبعه فقاس أصبع المقطوعة أصبعه وأخذ قياس ما قطع منه فقطع من أصبع القاطع بقدر ذلك القياس، فنقص من أصبع المستقاد منه أكثر من الذي قطع من أصبع المستقيد لطول أصابع المستقيد وقصر أصابع المستقاد منه، فقال: أخطأ وبئس ما صنع، فقلت له فكيف يصنع بمثل هذا؟ فقال: بعض الناس أطول أصابع من بعض فليقس الأنملة التي قطع بعضها، فإن كان ما قطع منها ثلثها أو ربعها قطع من أنملة هذا الثلث أو الربع، فعلى هذا الحساب يكون هذا، كانت أنملة قصيرة أو طويلة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه لأنه كما قطع الأنملة بالأنملة كانت أطول منها أو أقصر فكذلك إذا قطع جزءا منها يقطع من أنملة القاطع مثل ذلك الجزء كان أطول أو أقصر وإنما اختلف في الجرح في الرأس وفي عضو من الأعضاء كالذراع أو العضد ونحوه هل ينظر إلى قدر ذلك الجرح من رأس المجروح وذراعه، فإن كان الثلث أو الربع شيء في(16/109)
رأس الجارح أو ذراعه ثلثه أو ربعه أو ينظر إلى قدر الجرح فيؤخذ في رأس الجارح أو ذراعه ذلك القدر وإن أتى ذلك على رأسه كله أو ذراعه فقال أشهب الحكم في ذلك كالحكم في الأنامل إنما ينظر إلى ما يقع الجرح من رأس المجروح فيؤخذ من رأس الجارح مثل ذلك الجزء، واختلف في ذلك قول ابن القاسم، قال ابن المواز والأمر عندنا كما قال أشهب وقول ابن القاسم قديما إنه يقاس الشق حتى يؤخذ في رأس الجارح بطول الشق وإن استوعب رأس المستقاد منه يريد ولم يف بالقياس، قال فليس عليه غير ذلك وكذلك الجبهة والذراع يريد بطول ذلك ما لم يضق عنه العضو فلا يزاد من غيره، والصحيح عندي قول ابن القاسم هذا لا قول أشهب الذي اختاره ابن المواز؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فوجب أن يقتص من الجارح بمثل الجرح الذي جرحه في طوله وقصره؛ لأن الألم في الجرح إنما هو بقدر عظمه وطوله وقصره لا بقدره من رأس المجروح؛ لأنه إذا شق من رأس الجارح بطول ما شقه من رأس المجروح فقد استويا في الألم وإن كان الجرح من رأس أحدهما ربعه ومن رأس الآخر نصفه، ألا ترى أن الكافر يعظم خلقه في النار ليتضاعف عليه العذاب وبالله التوفيق.
[مسألة: تضرب فتطرح جنينين لم يستهلا]
مسألة وسئل عن المرأة تضرب فتطرح جنينين لم يستهلا، فقال: فيهما غرتان ولو استهلا لكان عليه ديتان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وتستحق الغرتان في مال الضارب بشهادة شاهدين على الضرب أو بشهادة شاهد واحد مع يمين كل واحد من الورثة ويستوي فيه العمد والخطأ؛ لأنه أقل من الثلث فلا تحمله العاقلة، وأما الديتان إذا استهلا فتستحقا في الخطأ على العاقلة بالقسامة مع(16/110)
شاهدين على الضرب باتفاق أو مع شاهد واحد على اختلاف، ويجب في العمد القصاص مع القسامة إن كان الضرب في البطن باتفاق، وإن كان في غير البطن على اختلاف، وقد مضى الكلام على هذا كله مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه من سماع يحيى من كتاب الديات وبالله التوفيق.
[مسألة: ضربوه وشهود ينظرون فتفرقوا وقد شجوه أربع مواضح]
مسألة وسئل مالك عن نفر ثلاثة شرعوا جميعا في ضرب رجل واحد فضربوه وشهود ينظرون فتفرقوا وقد شجوه أربع مواضح، فقال مالك: إن أحب أن يحلف على أيهم شاء أنه شجه تلك الشجاج ثم أقيد منه، وقال ابن القاسم قال مالك: يحلف عليهم كلهم إن شاء ويقتص أو على من أحب منهم، فإن لم يحلف ونكل كانت عقول تلك الشجاج عليهم كلهم فإن كانت الشجاج ملاطي أو يقاد منه مما يكون دون الموضحة فله أن يحلف على أيهم شاء ويستقيد منه، فإن أبى أن يحلف بطل ذلك كله، وإنما يعطى اليمين إذا شهد الشهود أنهم شرعوا فيه، وكذلك لو شرعوا فيه فلم يشج إلا شجة واحدة وشهدوا عليهم بذلك حلف المشجوج على أيهم شاء واستقاد منه إذا لم يثبت الشهود أيهم شجه تلك الموضحة، فإن أبى أن يحلف عقلاه جميعا، قال ابن نافع: كل شيء لا يعقل فليس للمجروح إلا أن يثبت من جرحه فيستقيد، وإن لم يثبت وأبى أن يحلف حلف الجارح، وبرئ.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية إن أحب أن يحلف على أيهم شاء أنه شجه تلك الشجاج ثم يقاد منه هو مثل قول ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا في الفئتين يقران بأصل النايرة بينهما أو يقوم بذلك(16/111)
بينة ولا يشهد على جراحات بعضها بعضا أنه يحلف كل واحد منهما على صاحبه إذا عرف أنه به وأنه الذي جرحه ثم يستقيد منه، وهو الاستحسان على غير حقيقة القياس؛ لأنه مدع على الذي يدعي عليه منهم أنه جرحه، فالقياس ألا يكون له أن يحلف ويستقيد ممن يدعي عليه منهم أنه جرحه إلا بشاهد عدل على أنه هو الذي جرحه، فإن لم يكن عليه شاهد بجرحه إياه حلف المدعى عليه وبرئ ولم يكن على الأخر شيء لأنه لما ادعى على أحدهم أنه هو الذي جرحه فقد برأ الآخر، وكذلك إن نكل عن اليمين على قياس قوله إنه يحلف ويستقيد، يحلف المدعى عليه ويبرأ ولا يكون على الآخرين شيء إذ قد أبرأهما- بدعواه على الثالث وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، فإن لم يحلف ونكل كانت عقول تلك الشجاج عليهم كلهم، لا يصح إذا ادعى على واحد منهم أنه هو الذي جرحه، وإنما يصح ذلك إذا قال لا أحلف لأني لا أدري من جرحني منهم، ولا يكون عقل تلك الجراح عليهم إذا قال لا أدري من جرحني منهم إذا حلف كل واحد منهم أنه ما جرحه أو نكلوا كلهم عن اليمين، وأما إن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين فيبرأ من حلف منهم، وتكون عقول تلك الشجاج على من نكل منهم عن اليمين، وقول ابن نافع في الملاطي التي لا عقل فيها في آخر المسألة وإن لم يثبت وأبى أن يحلف حلف الجارح وبرئ يبين ما قلناه من أنه إذا نكل عن اليمين في المواضح يحلف المدعى عليه ويبرأ ولا يكون على الآخر شيء، وبالله التوفيق.
[: العبد يكون بين الرجلين فيشج العبد أحدهما موضحة]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله استأذن سيده قال عيسى بن دينار وسألت ابن القاسم عن العبد يكون بين الرجلين فيشج العبد أحدهما موضحة أو يشج أحدهما ورجلا آخر(16/112)
موضحتين أو شجهما جميعا موضحة موضحة، قال ابن القاسم: أما إذا أوضح أحد سيده قيل للآخر إن شئت فافتد نصفه بنصف دية الجناية، وإن شئت فأسلمه خالصا وإن جنى على أحد سيديه وعلى أجنبي بموضحتين أو منقلتين أو جائفتين كان العبد بينهما على أربعة أرباع فكان للأجنبي ثلاثة أرباعه، وللسيد ربعه، قلت لعيسى: أرأيت إن أوضح أحد سيديه بموضحة والآخر منقلة؟ قال: يقال للمجروح موضحة إن شئت فافتك نصفك بخمسين دينارا أو إن شئت فأسلمه، ولذلك تفسير.
قال محمد بن رشد: هذا بين كله على ما قاله، وذلك أنه إذا أوضح أحد سيديه بنصف موضحة هدرا لأنها جناية عبده عليه، فلا شيء له فيها، والنصف الآخر جنى عليه نصف شريكه، فوجب أن يكون شريكه مخيرا بين أن يسلم إلى شريكه المجني عليه النصف الذي له من العبد، وبين أن يفتكه بنصف أرش الموضحة كما قال، وأما إذا جنى على أحد سيديه وعلى أجنبي بموضحتين أو منقلتين أو مأمومتين فقوله إن العبد بينهما على أربعة أرباع للأجنبي ثلاثة أرباعه، وللسيد ربعه هو كما قال، وبيان ذلك أن الذي لم يجن عليه العبد من السيدين يخير في نصفه بين أن يسلمه إلى المجني عليهما شريكه والأجنبي فيكون بينهما بنصفين وبين أن يفتكه منهما بنصف جنايته عليهما، وذلك نصف موضحة نصف موضحة على كل واحد منهما إن كان جنى على كل واحد منهما موضحة موضحة ونصف منقلة نصف منقلة إن كان جنى على كل واحد منهما منقلة منقلة فإن أسلم نصفه إليهما ولم يفتكه كان بينهما نصفين لكل واحد منهما ربع العبد فيصير للمجني عليه من الشريكين ثلاثة أرباع الربع الذي صار إليه من شريكه والنصف الذي كان له، ثم يخير في النصف الذي كان له بين أن يدفعه إلى الأجنبي في نصف جنايته عليه موضحة كانت أو منقلة أو مأمومة، فإن دفعه إليه ولم يفتكه بقي في يديه(16/113)
ربع العبد وكان للأجنبي المجني عليه ثلاثة أرباعه كما قال، فهذا تفسير قوله.
وأما إذا أوضح أحد سيديه بموضحة والآخر بمنقلة فقول عيسى إنه يقال للمجروح موضحة إن شئت فافتك نصفك بخمسين دينارا وإن شئت فأسلمه فهو صحيح، والتفسير الذي أراد بقوله ولذلك تفسير هو أن المجروح موضحة يقول للمجروح منقلة قد جرحني كما جرحك فلا مطالبة له قبلي إلا بما زاد جرحك على جرحي، إذ لو جرحك موضحة كما جرحني لم يكن لواحد منا على صاحبه شيء في حصته من العبد، لوجوب التقاصص في ذلك بيننا على ما قاله سحنون وأصبغ وغيرهما من أهل العلم، فوجب أن أقاصك من عقل المنقلة وهو خمسون ومائة بعقل الموضحة وهو خمسون، فتبقى الجناية عليك بمائة جناها عليك العبد الذي نصفه لي ونصفه لك، فلا يجب علي في نصفي إلا خمسون، فأنا مخير بين أن أسلم نصفي من العبد إليك بالخمسين، وبين أن أفتكه بها، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: يخدم الرجل عبدا له إلى أجل ثم يعدو عليه سيده الذي أخدمه فيقتله]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يخدم الرجل عبدا له إلى أجل ثم يعدو عليه سيده الذي أخدمه فيقتله عمدا أو خطأ أو يعدو عليه أجنبي فيقتله، فقال: إن قتله سيده خطأ فلا شيء عليه، وإن قتله عمدا أخرج قيمته فيؤاجر للمخدم منها من يخدمه إلى ذلك الأجل الذي أخدم إليه، فإن انقضى الأجل قبل أن تنفذ القيمة رجع ما بقي منها إلى سيده وإن نفذت القيمة قبل الأجل فلا شيء له غيرها، وإن قتله أجنبي عمدا أو خطأ فالدية للسيد وليس للمخدم منها قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه إن قتله السيد عمدا يأتي بعبد يخدم المخدم مكان العبد الذي قتل، فإذا انقضى أجل الخدمة رجع إليه(16/114)
عبده، وإن مات قبل الأجل لم يكن عليه في بقية الأجل شيء، والقولان في آخر كتاب الأمهات من المدونة، وقد قيل: إنه يشترى بالقيمة عبد يخدم المخدم مكانه، وهو قول المخزومي، وأما إذا قتله خطأ فلا شيء عليه كما قال لأنه أخطأ على نفسه، وأما إذا قتله غيره فسواء كان قتله إياه عمدا أو خطأ، وقد مضت هذه المسألة في رسم يشتري الدور من سماع يحيى من كتاب الخدمة.
[: يصيبه الرجل بموضحة أو منقلة فينزى فيها فيموت]
ومن كتاب أوله أوصى لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألته عن الرجل يصيبه الرجل بموضحة أو منقلة فينزى فيها فيموت وقد شهد على الضربة شهيدان، قال: إن مات في فوره ذلك ولم يعش بعد الضرب كانت له قيمته بلا يمين، وإن عاش بعد الضرب ثم مات فإنه لا يستحق قيمته بشهادة الشاهدين دون يمين، ولكن يحلف يمينا واحدة لمات من ذلك الجرح ويستحق قيمته، فإن نكل عن اليمين لم يكن على الذي جنى عليه إلا قيمة الموضحة أو المنقلة إن كانت منقلة، وقد ذكر بعض الناس أنه يستحقه بغير يمين، ولست أرى ذلك، قال: وكذلك النصراني يصاب بجرح فيشهد شهيدان على الجرح ثم يعيش، بعد ذلك ينزى في جرحه ثم يموت أن ولاته يحلفون يمينا واحدة ويستحقون ديته، ولا يستحقونها أبدا دون يمين إذا عاش بعد الضرب، فإن نكل وليه عن اليمين لم يكن له إلا عقل الجرح إن كان مما فيه عقل، وهذا كله قول مالك،(16/115)
قلت وكذلك النصراني إذا قتل وليه فأتى بشاهد واحد إنما يحلف يمينا واحدة مع شاهده ويستحق ديته؟ فقال: نعم كذلك هو يحلف يمينا واحدة مع شاهده ويستحق ديته، قال: وكذلك للعبد أيضا إذا قتل فأتى بشاهد واحد أنه يحلف مع شاهده ويستحق قيمته، وكذلك قال لي مالك لأنهما إنما يستحقان مالا ولا يستحقان دما، قلت فإن كان أولياء النصراني غير واحد وسادة العبد واحدا فأتى بشاهد واحد أو شهد رجلان على جرحه ثم عاشا بعد ذلك ثم ماتا هل يجزي أن يحلف في كلا الوجهين رجل واحد من أولياء النصراني يمينا واحدة وواحد من أرباب العبد يمينا واحدة ولا يجزي يمين رجل واحد من النصراني حتى يحلف كل من يرث النصراني، يمينا يمينا وكل من له في العبد المقتول شقص يمينا يمينا مع شاهده الواحد أو مع شهادة الشاهدين إذا عاش بعد، قال: لا يجزي إلا أن يحلف جميع أولياء النصراني وجميع أرباب العبد، ومن حلف من أولياء النصراني وأرباب العبد أخذ حقه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصله في المدونة ومذهبه فيها وما يأتي في الرسم الذي بعد هذا وما مضى في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الديات وفي رسم المجالس من سماع أصبغ منه، وقد قيل إن دم النصراني لا يستحق بالشاهد مع اليمين، وهو قول أشهب وظاهر ما في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات، وفي المسألة قول ثالث وهو أن أولياء يحلفون مع شاهدهم خمسين يمينا ويستحقون ديته، وهو قول المغيرة، وقد مضى هذا كله مستوفى في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات، وقوله وقد ذكر بعض الناس أنه يستحقه بغير يمين هو قول مالك في المدنية من رواية محمد بن يحيى السبائي عنه، وقد ذكرنا ذلك أيضا في سماع أشهب من كتاب الديات.(16/116)
[: العبد يقتل العبد ولم يشهد على قاتله إلا رجل واحد]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال عيسى قال ابن القاسم قال مالك في العبد يقتل العبد ولم يشهد على قاتله إلا رجل واحد، قال: يحلف رب العبد المقتول يمينا واحدة مع شاهده ويستحق بذلك العبد القاتل، كان قتله إياه عمدا أو خطأ ولا يقتل العبد القاتل بيمين سيد العبد، ولكن يستحقه بيمينه ويستحييه، وليس له أن يقتله، ولو شهد شاهد على أن عبدا ضرب عبد رجل فنزي في ضربة فمات، وشهد على ضربه رجل عدل ولم يشهد على قتله، قال: يحلف سيد العبد المقتول يمينا واحدة بالله الذي لا إله إلا هو لمات من ضربه ثم يستحق العبد بيمينه ولا يقتله ولكن يسترقه إن أحب.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف يمينا واحدة لمات من ضربه معناه أنه يحلف لضربه ومات من ضربه، وإنما يحلف من ضربه لا أكثر إذا شهد بالضرب شاهدان على ما مضى في الرسم الذي قبل هذا، وقد مضى أيضا من معنى هذه المسألة زيادات في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الديات وبالله التوفيق.
[مسألة: الجارية تقتل رجلا فيبيعها سيدها ويكتم ذلك منها]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الجارية تقتل رجلا عمدا أو خطأ أو تجرح رجلا فيبيعها سيدها ويكتم ذلك منها أو لا يعلم بذلك البائع ولا المشتري حتى تلد من المشتري أولادا ثم يقوم عليها أهل الجناية، قال ابن القاسم أما إذا كان قتلها عمدا دفعت إلى أولياء المقتول فإن قتلوا نظر إلى قيمة ولدها، فإن كان قيمة ولدها مثل الثمن الذي اشتراها به فلا شيء للمشتري على البائع، وإن كان(16/117)
قيمة ولدها أدنى من ذلك الثمن رجع عليه بما بين قيمة ولدها والثمن الذي اشتراها به، وإن كانت قيمة ولدها مثل الثمن أو أكثر لم يرجع الولد عليه بشيء، ولم يرجع البائع على المشتري بفضل قيمة الولد على الثمن، قلت أرأيت إن استحييت أيكون أولياء المقتول مخيرين بين ثمنها الذي باعها به وبين قيمتها يوم يحكم فيها؟ قال: نعم إذا استحيوها فهم مخيرون بين الثمن الذي بيعت به يأخذونه من البائع، وبين القيمة يوم يحكم فيها يأخذونها من المشتري، فإن اختاروا الثمن أخذوه ومضى البيع، ولم يكن لهم على المشتري قليل ولا كثير، وإن اختاروا القيمة أخذوا القيمة من المشتري ورجع المشتري على البائع فأخذ منه الثمن كله، قلت ولا ينظر في قيمة ولدها للبائع إذا استحييت كما ينظر له في قيمتهم إذا قتلت؟ قال: لا ينظر في قيمتهم إذا استحييت وليس يوضع عنه لقيمة ولدها من الثمن قليل ولا كثير، قلت أرأيت إن كانت القيمة التي أخذ من المشتري أقل من الثمن أيرجع المشتري على البائع بجميع الثمن أم بالقيمة التي أخذ منه؟ قال: بل بجميع الثمن الذي دفع إليه لأنه بمنزلة رجل باع جارية ليست له فاستحقت في يد المشتري وقد فاتت عنده فأخذ منه قيمتها، فهو يرجع على البائع بجميع الثمن كانت القيمة أكثر من الثمن أو أقل، قال ابن القاسم: إلا أن يشاء سيد الجارية أن يدفع إليه ألف دينار دية المقتول، ويكون له الثمن كله كان أكثر من الدية أو أقل، قلت: أرأيت إن كان البائع عديما والثمن الذي باعها به أكثر من القيمة؟ فقال: نحن نأخذ القيمة من هذا المشتري ونتبع البائع بما بين الثمن والقيمة أيكون ذلك لهم، قال ابن القاسم: لا يكون ذلك لهم، وإنما لهم أن يختاروا القيمة يأخذونها من المشتري أو الثمن يأخذونه من البائع، فإن اختاروا الثمن لم يكن لهم على(16/118)
المشتري قليل ولا كثير وإن كانت القيمة أكثر من الثمن، وإن اختاروا القيمة لم يكن لهم من الثمن على البائع قليل ولا كثير وإن كان أكثر من القيمة والثمن كله للمشتري يأخذه من البائع إلا أن يشاء البائع أن يدفع إليه الدية ويكون له الثمن كله فذلك له، وليس للمشتري ولا لأهل الجناية من الثمن قليل ولا كثير وإن كان أضعاف الدية إذا رضي البائع أن يدفع الدية، قال وأما إذا كان قتلها خطأ أو جنايتها جراحات فإن الجراحات إذا كانت مما فيه العقل عمدا كانت أو خطأ والقتل خطأ سواء لأنه ليس في شيء من ذلك قصاص، فإنه يقال للبائع اغرم جناتها، فإن غرم جنايتها مضى البيع ولم يكن عليه أكثر من غرم الجناية، وفي سماع أصبغ قال ابن القاسم: فإن أبى أن يغرم الجناية أخذ منه الثمن فأعطيه المجني عليه، إلا أن تكون القيمة أكثر من الثمن فيرجع على المشتري ببقية القيمة عن الثمن لأنه كان له أن يأخذ المبتاع بالقيمة كلها إن شاء؟ قال أصبغ: فإن أخذ بقية القيمة من المبتاع رجع المشتري على البائع بقيمة العيب فقط إذا لم يكن المشتري علم به، وهو ما بين قيمتها جانية وقيمتها غير جانية فيرجع بالذي أصاب العيب إلا أن تكون قيمة العيب أكثر من الذي أخذ من المبتاع في بقية القيمة، فإن كان أكثر فليس له إلا ما أخذ منه؛ لأن الجناية لم تضر به، وإنما يرجع بالعيب حين أضرته الجناية فإذا لم تضره لم يرجع بشيء، فإن كان قيمة العيب أقل لم يكن على البائع غيره مع الثمن الذي أخذ منه، فإن وجد البائع المجني عليه عديما أخذ المشتري بالقيمة كلها ورجع المشتري على البائع بالثمن وبما بين القيمتين على التفسير الذي فسرت لك، والقيمة التي تؤخذ من المشتري أو يؤخذ تمامها إنما هو قيمتها يوم قام المجني عليه ليس قيمتها يوم جنت ولا يوم اشتراها(16/119)
ولا يوم أحبلها لأنها لو ماتت قبل ذلك لم تكن تلزم المشتري، ولو ماتت في يدي البائع ولم يبع لم يضمن من الجناية شيئا.
قال محمد بن رشد: الجارية الجانية هذه تباع فتفوت عند المبتاع بولادة قبل قيام المجني عليه بجناية أصلها في المدونة، وهي مسألة حسنة إلا أن وجوهها غير مستوعبة، وفي بعضها اعتراض واختلاف، منه ما هو منصوص عليه، ومنه ما يتخرج بالمعنى على الأصول، فأما إذا كانت الجناية عمدا فيها القصاص فاقتص أولياء المقتول منها فقتلها فاختلف بماذا يرجع المشتري على البائع؟ فقال في الرواية إنه إن كان في قيمة الولد وفاء بالثمن الذي دفع رجع إليه لم يرجع عليه بشيء، وإذا لم يكن فيها وفاء بالثمن الذي رجع عليه ببقية الثمن، ومعنى هذا عندي إذا كان المشتري قد علم بجنايتها، وأما إن لم يعلم بذلك ودلس له به البائع فينبغي أن يرجع على البائع بجميع الثمن ولا يحاسب فيه بشيء من قيمة الولد وفي محاسبته بقيمة الولد إذا علم بجنايتها نظر؛ لأنه إما أن يحكم للولد بحكم الغلة أو بحكم أمه، فإن حكم له بحكم الغلة وجب له الرجوع بجميع الثمن، وإن حكم له بحكم أمه وجب أن يفض الثمن على قيمة الأم وقيمة الولد يوم البيع، فيرجع على البائع بما ناب الأم من الثمن، وأما إذا لم يرد صاحب الجناية القصاص أو كان القتل خطأ فيحلف البائع ما علم بالجناية أو ما باعها وهو يريد حمل الجناية على ما قاله في المدونة، فإن حلف ورد الدية ثبت البيع وصح له الثمن، وإن أبى أن يؤدي الدية كان أولياء الجناية بالخيار بين أن يجيزوا البيع ويأخذوا الثمن من البائع ويمضي البيع للمشترى وبين أن يأخذوا القيمة من المشتري لفواتها عنده على ما قاله في الرواية، ولم يكن لهم عليه من قيمة الولد شيء لأن الأمة إذا جنت ثم ولدت بعد الجناية لم يدخل ولدها في الجناية، فإن أخذوا القيمة منه رجع بجميع الثمن على البائع ولم يحاسبه البائع في ذلك بقيمة الولد، بخلاف إذا اقتص منها، والفرق بين الموضعين أنها إذا قتلت قصاصا فكأنها باقية على(16/120)
ملك البائع إلى أن قتلت، فكانت له في الولد شبهة وجب أن يحاسب بقيمة الولد من أجلها وإذا لم تقتل وإنما أخذ أولياء الجناية منه قيمتها فالقيمة إنما يأخذونها منه يوم وطئها فحملت، وإذا أخذت القيمة منه يوم حملت وجب أن يرجع على البائع بجميع الثمن ولا يحاسب فيه بشيء من قيمة الولد لأنهم إنما حدثوا بعد موجب القيمة عليه فيها بحملها، وقد قال أصبغ في آخر المسألة: إن القيمة التي تؤخذ من المشتري ويؤخذ منه تمامها إنما هو قيمتها يوم قام المجني عليه ليس يوم جنت ولا يوم اشتراها المشتري ولا يوم أحبلها، فعلى قياس قوله: إذا رجع بالثمن يحاسب فيه بقيمة الولد كما إذا قتلت.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال أحدها أنه يحاسب البائع بقيمة الولد قتلت أو أخذت منه القيمة، والثاني أنه لا يحاسب بقيمة الولد قتلت أو أخذت منه القيمة فيها، والثالث الفرق في ذلك بين أن تقتل أو يؤخذ منه قيمتها، وللمشتري إذا أراد أولياء الجناية أن يأخذوا القيمة منه أن يؤدي إليهم الدية ويرجع على البائع بالأقل من الثمن أو الدية على ما قاله في المدونة ورواية أصبغ عن ابن القاسم في أن لأولياء الجناية أن يأخذوا الثمن من البائع وبقية القيمة من المشتري وبقية الثمن من البائع إن كان الثمن أكثر من القيمة خلاف رواية عيسى عنه في أنهم إذا أخذوا الثمن من البائع لم يكن لهم على المشتري شيء، وإذا أخذوا القيمة من المشتري لم يكن لهم على البائع شيء ورجع المشتري عليه بجميع الثمن، وقول أصبغ: إنهم إن رجعوا على المشتري بما زادت القيمة على الثمن يرجع المشتري على البائع بقيمة العيب إلا أن يكون ذلك أكثر من الذي رجعوا به عليه صحيح على قياس روايته عنه.
وأما قوله إنهم إن رجعوا على المبتاع بالقيمة وهي أكثر من الثمن رجع المبتاع على البائع بالثمن وبما بين القيمتين على التفسير الذي فسرت لك يريد بقوله على التفسير الذي فسرت لك أنه يرجع بالأقل من قيمة العيب وبما زادت القيمة على الثمن، فهو مفسر لروايته عن ابن القاسم ولرواية عيسى(16/121)
عنه، وقد قيل إنه خلاف لرواية عيسى عنه وأن الذي يأتي لروايته عنه إذا رجعوا على المبتاع بالقيمة وهي أكثر من الثمن أن يرجع المبتاع على البائع بما رجع به عليه إن كان دلس عليه بالجناية وإن كان لم يدلس عليه بها لم يكن له أن يرجع عليه إلا بالثمن وبالله التوفيق.
[: حر جرح عبدا فعدا عليه العبد فجرحه والحر البادي]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده وسئل عن حر جرح عبدا فعدا عليه العبد فجرحه والحر البادي، فقال: يأخذ سيد العبد من الحر قيمة دية الجرح الذي جرح عبده ويخير السيد في جرح الحر الذي جرحه عبده إن ما افتداه وإن شاء أسلمه.
قال محمد بن رشد: قوله يأخذ سيد العبد من الحر قيمة دية الجرح يريد إن كان من الجراح التي فيها الديات مثل الموضحة والمنقلة والمأمومة، فيكون عليه في الموضحة نصف عشر ثمنه وفي المنقلة عشر ونصف عشر ثمنه وفي المأمومة ثلث ثمنه، وفي ما سواه من الجراح ما نقص من قيمته، ثم يخير سيد العبد بين أن يسلمه إلى الحر معيبا أو يفتكه منه بدية جرحه؛ لأنه إنما جرحه وهو مجروح قد استوجب سيده دية جرحه، ولو كان العبد هو البادي لخير سيده بين أن يسلمه إلى الحر وما وجب له في جرحه إياه، وبين أن يفتكه منه بما جنى عليه ويقاصه في ذلك بما وجب له عليه في جرحه لعبده، مثال ذلك أن يقطع العبد يد الحر ثم يجرح الحر العبد موضحة فإن سيد العبد يخير بين أن يسلمه إلى الحر بجنايته عليه ولا يتبعه بما جني على عبده، وبين أن يفتديه بنصف الدية يقاصه منها بما وجب له عليه في جنايته على عبده وذلك نصف عشر ثمنه.(16/122)
[مسألة: مقطوع الأصبعين من أصابعه قطع كف رجل تامة الأصابع]
مسألة وقال في رجل مقطوع الأصبعين من أصابعه قطع كف رجل تامة الأصابع مثل تلك اليد: إنه يقطع كفه تلك ويكون عليه عقل أصبعين، فإن قطع أصابع رجل الخمس من مثل تلك الكف قطعت الأصابع التي بقيت في كفه الثلاثة وعقل له أصبعان أيضا، وإن قطعت كفه تلك المنقوصة بالأصابع الباقية وحدها لم يكن له في ذلك كله إلا العقل ولا قود فيه.
قال محمد بن رشد: قوله في مقطوع الأصبعين من أصابعه يقطع كف رجل تامة الأصابع إنه يقطع كفه تلك ويكون عليه عقل أصبعين معناه إن أراد القصاص، فهو على هذه الرواية بالخيار بين أن يقتص ويأخذ عقل الأصبعين الناقصة من المقتص منه، وبين أن يترك القصاص ويأخذ دية هذه كاملة، وقد قيل إنه إنما هو بالخيار بين أن يقتص ولا شيء له، وبين أن يأخذ دية يده كاملة، وهو مذهبه في المدونة وقوله في رسم المكاتب من سماع يحيى بعد هذا، وكذلك إذا نقصت أصابع الجاني أكثر من أصبعين، وأما إذا لم ينقص من أصابعه إلا أصبع واحد فليس للذي جني عليه إلا القصاص لا يكون له أن يستقيد منه ويغرمه عقل أصبعه الناقصة، هذا مذهب ابن القاسم يختلف، ويأتي على مذهب أشهب أنه بالخيار بين أن يستقيد وبين أن يترك القود منه ويأخذ دية يده كاملة، وهو القياس، وسواء كان نقصان ما نقص من أصابعه خلقة أو بأمر من السماء أو بجناية جان عمدا، أو خطأ، وأما إن قطع المقطوع أصبعين أصابع يد رجل الخمس من تلك اليد فإنه يقطع أصابعه الثلاثة الباقية ويأخذ عقل الأصبعين كما قال في هذه الرواية، ولا اختلاف في ذلك، وأما إن كان المجني عليه هو المقطوع بعض أصابعه فإن كان الذي نقص من أصابعه أصبع واحدة فليس له على الذي قطع يده بالأربع الأصابع التي بقيت فيها إلا القصاص وليس عليه أن يغرم شيئا لنقصان أصبعه، هذا مذهب ابن(16/123)
القاسم في رسم المكاتب من سماع يحيى وقوله في المدونة وروايته عن مالك، قال في المبسوطة: وما يحمل ذلك القياس، والقياس في ذلك ما قاله أشهب ألا يكون له القصاص إذا قطعت من يده أصبع واحدة عمدا أو خطأ، قال أشهب: وإنما استحسن على غير قياس إن كان الذي أصيب منه أنملة أو نحوها عمدا أو خطأ أن يكون له القصاص إن أصيب كفه عمدا وإن كان استقاد لتلك الأنملة أو أخذ لها عقلا قال: وإن أصيبت كفه خطأ نقص من الدية قدر الأنملة، وأما إن كان الذي نقص من أصابعه أصبعان فأكثر فلا قصاص له على من قطع كفه بما بقي فيه من الأصابع، وليس له على قاطع إلا عقل ما بقي فيه من الأصابع إلا أن يكون لم يبق في الكف إلا أصبع واحدة، فقيل إنه يكون له مع عقل الأصبع حكومة في الكف، وهو قوله في المدونة، وقال أشهب لا يكون في الكف حكومة ما بقي منها أنملة ويكون لها عقل، واستحسن ذلك سحنون، وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم المكاتب بعد هذا من سماع يحيى، وسواء أيضا كان نقصان ما نقص من أصابعه من خلقة أو من أمر من السماء أو من جناية عمدا أو خطأ، وأما إن أصيبت يده الناقصة أصبع أو أكثر أو أقل خطأ فليس على من أصابها إلا عقل ما بقي من أصابعه ولا اختلاف في ذلك.
[: عبد جرح رجلا ثم أبق]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل ابن القاسم عن عبد جرح رجلا ثم أبق، فقال المجروح لسيد العبد إما أن تدفع إلي قيمة جرحي وإما أن تخلي بيني وبين العبد أطلبه، فإن وجدته فهو لي، قال: لا خير فيه، هذا مخاطرة إن وجده غبن صاحبه وإن دفع إليه قيمة الجرح لم يدر لعل العبد قد مات فلا خير فيه، وقد بلغني أن مالكا قاله.(16/124)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الغرر فيه بين، والواجب في ذلك على قوله أن يرجأ الأمر إلى أن يوجد العبد فيخير سيده بين أن يفتكه أو يسلمه بدية الجرح، واتفاقهم على هذه المسألة يقضي بصحة قول أصبغ فيما اختلفوا فيه من مسألة الرجل يشتري العبد بثمن إلى أجل فيأبق منه ثم يفلس إذ قد قيل: إن البائع بالخيار بين أن يتبع العبد ويطلبه ولا شيء له غيره، وبين أن يحاص بالثمن إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن، وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى ومن كتاب المديان والتفليس، وقيل: إنه يخير بين أن يحاص الغرماء وبين أن يطلب العبد فإن وجده وإلا رجع فحاص الغرماء، وقال أصبغ ليس له إلا المحاصة ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطأ وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب قياسا على هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا جنت المدبرة الصغيرة أو المدبر الصغير]
مسألة وقال ابن القاسم إذا جنت المدبرة الصغيرة أو المدبر الصغير تركا حتى يقويا على الخدمة فيخدمان إلا أن يشاء سيدهما أن يفتكهما.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم العقول والجبائر من سماع أشهب، وهي بينة لا إشكال فيها وبالله التوفيق.
[: مدبر قتل سيده]
ومن كتاب سلف دينارا
وقال في مدبر قتل سيده: إنه إن كان قتله عمدا فلا أرى أن يعتق إن استحيي ولا شيئا منه وكان عبدا لهم مملوكا، وإن كان قتله خطأ(16/125)
فإنه يعتق في مال السيد إن حمله الثلث أو ما حمل منه، ويكون عليه من الدية بقدر ما أعتق منه، ولا يدخل شيء منه في رقبته وهو قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف فيها، وقد مضت بزيادة في معناها في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الديات وفي رسم استأذن من سماع عيسى أيضا من كتاب المكاتب والله الموفق.
[: يجرح الرجل عمدا فيؤخر حتى يبرأ فيقتص من صاحبه ثم ينفجر جرح الأول فيموت]
ومن كتاب الثمرة وقال ابن القاسم في الرجل يجرح الرجل عمدا فيؤخر حتى يبرأ فيقتص من صاحبه ثم ينفجر جرح الأول فيموت، قال ابن القاسم: يقسم أولياؤه أنه مات من جرحه ويقتلون جارحه وإن كان قد اقتص منه ولا يكون له في الجرح شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ إذ ليس الخطأ في القصاص من الجرح بالذي يسقط حق الأولياء فيما يجب لهم من القود بقسامتهم إذ آل الجرح إلى النفس.
[: يجتمع عليه النفر فيقطع يده فلا يدري في الشهود من قطعها]
ومن كتاب البراءة قال: وسألته عن الرجل يجتمع عليه النفر فيقطع يده فلا يدري في الشهود من قطعها ويتعلق المقطوعة يده بواحد ويدعي عليه أو لا يدري هو أيضا من قطعها أو يعمدون لقطع يده جميعا عمدا فيقول المقطوعة يده فلان قطعني لواحد منهم إلا أنهم قد بطشوا به جميعا قال: إن كانوا إنما ضربوه ولم يجتمعوا على قطع يده ولم(16/126)
يثبت الشهود من قطعه منهم وادعى ذلك هو قبل رجل منهم حلف واقتص، وإن لم يثبت من فعل ذلك به ولم يثبت الشهود من هو؟ كان على جميعهم الدية، وإن اجتمعوا على قطع يده فأمسكوه لذلك وقطعه واحد منهم قطعوا به جميعا إذا أمسكوه ليقطعه وعرف ذلك منهم، ورواها أصبغ وقال في الذي ضربوه واجتمعوا عليه لغير القطع ذلك الجواب فيه إذا شهدوا أنه كان سليما حين اجتمعوا عليه فانكشف مقطوعا.
قال محمد بن رشد: أما إذا اجتمعوا لقطع يده وتعاونوا على ذلك فإنهم يقطعون به جميعا، وإن كان الذي ولي القطع واحد منهم لا اختلاف في أن الأيدي تقطع باليد كما أن الأنفس تقتل بالأنفس، فقد قال عمر بن الخطاب: لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وأما إذا لم يجتمعوا على قطعه ولا قصدوا إلى ذلك ففي قبول دعواه على من ادعى منهم أنه هو الذي قطعه نظر، قد مضى بيانه في رسم الجبائر والأقضية من سماع أشهب فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.
[: الأعور يفقأ عين الصحيح]
ومن كتاب القطعان قال عيسى قال ابن القاسم: سألنا مالكا عن الأعور يفقأ عين الصحيح، قال لنا: إن أحب الصحيح أن يقتص اقتص، وإن حلف فله دية عينه خمسمائة دينار، ثم رجع بعد ذلك فقال: إن أحبّ الصحيحُ أن يقتص اقتص، وإن أحب فله دية عين الأعور ألف دينار، قال ابن القاسم: وقوله الآخر أحب إليّ وأحسن ما سمعت في ذلك أن يكون الأعور إذا بقيت عينه مخيرا على الجاني إن شاء فقأ عينه بعينه، وإن شاء أخذ الدية ألف دينار؛ لأنه لا يقتص من(16/127)
عين تشبه عينه؛ لأن عينه كانت بصرَه كله، فلذلك خُيِّر.
وأما إذا فقأ الأعور عين الصحيح فليس للصحيح أن يقتص من عين الأعور؛ لأن العين التي تفقأ خير من عينه، فليس له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على أمر فهو ما اصطلحا عليه؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] قال ابن القاسم: فإن صالحه على الدية مبهمة فإنما له عليه عقل عينه التي بقيت وذلك خمسمائة دينار، ثم رجع ابن القاسم وأخذ بقول مالك الآخر أن يكون الصحيح أيضا إذا فقأ الأعور عينه مخيرا على الأعور في فقئ عينه بعينه، وأخذه بعينه ألف دينار ثمن عينه التي يترك، وقال قياسا على قول مالك هذا الآخر الذي به أخذ.
فإن فقأ الأعور عيني الصحيح جميعا فإنه إن فقأهما في فور واحد فالصحيح مخير إن شاء فقأ عينه وأخذ منه خمسمائة دينار دية عينه الآخر، وإن شاء ترك عينه وأخذ ألفا وخمسمائة دينار؛ لأن الأعور إذا فقأ عين الصحيح كان الصحيح عليه مخيرا في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقل العين التي يترك له، وإن فقأهما في غير فور واحد، فقأهما في أيام مختلفة أو مجالس نظر، فإن كان التي فقأ أولا هي اليمنى وكانت عين الأعور الباقية يمنى كان مخيرا في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقله منه ألف دينار، وإن كان الذي فقأ أولا اليسرى لم يكن له إلا عقلها خمسمائة دينار لأنه لا قصاص بينهما، ثم إن فقأ عينه الآخر بعد ذلك لم يكن له إلا القصاص إلا أن يصطلحا على أمر، وليس هو بمنزلة الصحيح يفقأ الأعور عينه فيخير الصحيح بين(16/128)
أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ ديتها لأن عينه مثل عينه، وإذا فقأ الصحيح عين الأعور كان الأعور مخيرا عليه في أن يفقأ عينه بعينه أو يأخذ ألف دينار لأنه لا يجد عينا تعدل عينه، قال: وإذا فقأ الأعور عين الصحيح اليمنى ثم فقأ بعد ذلك اليسرى فإنه إن شاء فقأ عينه وأخذ منه ألف دينار عقل عينه التي ترك له أيضا؛ لأن الأعور إذا فقأ عين الصحيح خير في أن يفقأ عينه أو يأخذ عقلها، فانظر في الأعور أبدا، فإذا بدأ بالتي فيها القصاص كان الصحيح مخيرا في أن يفقأ عينه أو أن يأخذ منه عقل عينه التي ترك وإن بدأ باليسرى التي لا قصاص له فيها فإنما عقلها خمسمائة دينار فإن بدأ باليمنى كانت له أَلْفَان ألف التي ترك له من عينه وألف آخر في عقل الآخر؛ لأن الأعور إذا فقأت عينه ففيها ألف دينار.
وإذا فقأ الصحيح العينين، عيني رجل جميعا فإن كان في فَوْر واحد فليس له إلا القود، وليس له من الدية شيء إن أرادها، وإن كان مرة بعد مرة كان له في الأولى القصاص، ولم يكن له غير ذلك إن طلبه من الدية، وكان في الأخرى مخيرا إن شاء اقتص منها، وإن شاء أخذ ديتها ألف دينار، ليس له إلا أن يفقأهما جميعا ولا شيء له، أو يفقأ الأولى ويأخذ ألف دينار أو يأخذ ألف دينار ويدعها إن شاء.
قال محمد بن رشد: اختار ابن القاسم من قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح قوله الآخر إن المجني عليه مخير بين أن يفقأ عين الأعور بعينه وبين أن يأخذ دية عين الأعور التي يتركها له ألف دينار، وأخبر أن أحسن ما سمع في ذلك أنه ليس له إلا القصاص من عين الأعور إلا أن يصطلحا على أمر فهي ثلاثة أقوال أحدها قول مالك الأول، أنه مخير بين القصاص وبين(16/129)
أخذ الدية وهو على قياس القول بأن لولي المقتول أن يجبر القاتل على غرم الدية وهو مذهب أشهب وأحد قولي مالك، والقول الثاني أنه مخير بين أن يقتص منه وبين أن يأخذ منه دية العين التي يترك له وهو ألف دينار، وجه هذا القول مراعاة المعنى في إلزام القاتل الدية شاء أو أبى وهو أنه لما ألزمه أن يفدي نفسه من القتل بديتها إذا أراد ولي المقتول أن يأخذها منه ولا يقتله لزمه أن يفدي عينه من القصاص بديتها إذا أراد المجني عليه أن يأخذها منه ولا يقتص منها، ووجه القول الذي أخبر ابن القاسم أنه أحسن ما سمع القياس على أصل مذهبه وروايته من مالك في أنه ليس لولي المقتول أن يجبر القاتل على غرم الدية، وإذا لم يلزمه أن يفدي نفسه من القتل بديتها فأحرى ألا يلزمه أن يفدي عينه من القصاص منها بديتها، فلكل قول من هذه الثلاثة الأقوال وجه حسبما ذكرناه، ثم رجع ابن القاسم أخيرا إلى ما كان اختاره أولا وهو أن يكون الصحيح إذا فقأ الأعور عينه مخيرا بين أن يقتص منه وبين أن يأخذ منه دية العين التي يترك له وهي ألف دينار وإجراء ما ذكرناه من المسائل على قياس ذلك من تلك أنه إذا فقأ عيني الصحيح في غير فور واحد فإن بدأ بالتي فيها القصاص مثل أن يفقأ أولا اليمنى وعينه الباقية هي اليمنى فيكون مخيرا إن شاء أن يقتص من عين الأعور بعينه التي فقأها أولا ويأخذ دية عينه التي فقأها آخرا ألف دينار وإن شاء أن يترك القصاص من عينيه ويأخذ منه ألفي دينار وإن بدأ أولا بالتي لا قصاص فيها لم يكن له إلا خمسمائة دينار في العين التي فقأها أولا إذ لا قصاص فيها ولم يكن له في الثانية إلا القصاص إلا أن يصطلحا على شيء لأنها عين أعور بعين أعور، فلا يجب فيها إلا القصاص كما إذا فقأ الصحيح عين الصحيح لم يجب له إلا القصاص وبالله التوفيق.
[: أصيبت بعض عين رجل فأخذ عقل ما أصيب به منها ثم أتى رجل ففقأ ما بقي]
مسألة قال عيسى: وإن أصيبت بعض عين رجل فأخذ عقل ما أصيب به منها ثم أتى رجل ففقأ ما بقي منها وفقأ الأخرى جميعا معا(16/130)
فإنه ينظر فإن كان الذي أصيب من العين أولا يسيرا اقتص من هذا الذي فقأهما جميعا معا فيفقأ عينيه جميعا إن كان عمدا يكون سبيلهما سبيل الصحيح وإن كان خطأ أخذ في الصحيحة خمسمائة دينار وأخذ في الأخرى ما بقي من عقله إن كان الذي أصابها أمر من السماء كان له ألف دينار فيهما جميعا، وإن كان فقأهما مرة بعد مرة فبدأ بالناقصة فقأهما عمدا فإنه يقتص إن كان الذي نقص منها قليلا، فإن كان ذلك كثيرا فلا قصاص فيها، وإنما له قدر ما بقي من العقل، وإن كان خطأ فله ما بقي من عقلها يسيرا كان النقصان أو كثيرا وإذا أصابها أمر من السماء ففيها القصاص إن كان عمدا أو جميع عقلها إن كان خطأ كان الذي نقص منها قليلا أو كثيرا ثم إن أصيبت الأخرى كان سبيلها سبيل عين الأعور في العمد والخطأ، وإن أصيبت الصحيحة أولا ففيها ما في الصحيحة، ثم إن أصيبت الناقصة بعد ذلك عمدا اقتص إن شاء قليلا كان نقصانها أو كثيرا وإن شاء أخذ عقل ما بقي منها على حساب ألف دينار إن كان الذي نقص منها ربعها كان له فيما بقي منها ثلاثة أرباع ألف دينار.
قال محمد بن رشد: رأيت لبعض أهل النظر أنه قال: تلخيص قول عيسى هذا أنه إن أصيبت بعض العين بأمر من السماء ثم أصيب باقيها بجناية ففيها القود إن كان عمدا أو جميع الدية إن كان خطأ كان الذي نقص منها بأمر من السماء يسيرا أو كثيرا، وأما إذا كان الذي نقص منها بجناية ثم أصيبت باقيها فإن كان أصيب باقيها خطأ ففيها باقي عقل العين كان النقصان يسيرا أو كثيرا، وإن كان عمدا ففيه القصاص إن كان النقصان يسيرا وإن كان كثيرا فله ما بقي من العقل وليس هذا التلخيص بصحيح.
وتحصيل القول في هذه المسألة ملخصا أن العين الناقصة إذا أصيبت عمدا فإن كان النقصان منها يسيرا كان فيها القصاص إلا أن يصطلحوا على(16/131)
شيء إلا أن يكون المجني عليه أعور فيكون بالخيار بين أن يقتص وبين أن يأخذ عقل ما بقي بعدما نقص من عينه، إن كان نقص منها الربع كان له ثلاثة أرباع ألف دينار وإن كان كثيرا لم يكن فيها إلا ما بقي من عقلها سواء كان النقصان منها بجناية أو بأمر من السماء، وإنما يفترق ذلك إذا أصيبت خطأ فإن أصيبت خطأ والنقصان فيها بأمر السماء كان فيها جميع الدية كان النقص فيها يسيرا أو كثيرا إلا أن يكون النقصان قد أتى على أكثرها فلا يكون فيها إلا ما بقي من عقلها.
وإن أصيبت خطأ والنقصان فيها بجناية عمدا أو خطأ ففي ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن فيها ما بقي من عقلها وهو أحد قولي مالك في المدونة، والثاني فيها أن العقل كامل وهو قول ابن نافع على قياس قولهم في السن إذا اسودت إن فيها العقل كاملا، فإن طرحت بعد ذلك كان فيها العقل أيضا كاملا، والقول الثالث الفرق بين أن يقتص للنقصان إن كان عمدا أو يأخذ له دية إن كان خطأ وبين ألا يقتص لذلك ولا يأخذ له دية، فإن لم يقتص لذلك ولا أخذ له دية كان له العقل كاملا، وإن اقتص لذلك وأخذ له عقلا لم يكن له إلا ما بقي من العقل.
[: العبد يطأ أم ولد ابنه أو أمة له بكرا فنقصها ذلك]
ومن كتاب أوله باع شاة وسألته عن العبد يطأ أم ولد ابنه أو أمة له بكرا فنقصها ذلك هل يكون في رقبة العبد من ذلك شيء؟ وما الأمر فيه؟ قال: أرى أن يدرأ عنه الحد وتكون قيمة أم ولد ابنه في رقبته لأنه قد حرمها عليه فتعتق أم الولد على سيدها ويخير العبد في أن يفتكه بقيمة أم الولد أو يسلمه فيعتق على الولد والبكر كذلك، فإن قال قائل فإنا نتهمه أن يكون إنما فعل ذلك ليكون عبدا لابنه فيعتق عليه فليس كذلك،(16/132)
أرأيت لو جدع آذانهم أو قطع أيديهم ألم يكن ذلك في رقبته وتعتق على الابن إن أسلمه سيده، فكذلك ما سرق من مال ابنه أو حرَّمه عليه فهو في رقبته؛ لأنه بلغني عن بعض من أرضى به من أهل العلم أنه قال في الرجل يطأ أم ولد ابنه إنه يغرم قيمتها لابنه وتعتق على ابنه لأنه لا يستطيع وطئها ويدرأ عنه الحد، والحر والعبد في ذلك بمنزلة واحدة، وكذلك من سرق من مال ابنه الحر لم يقطع يده، وكان ذلك في رقبته، فهذا يدلك على الوطئ، قال ابن القاسم: ولو كان وطئ أمة لابنه ليست بكرا لم يكن في رقبته من ذلك شيء، ولو كانت بكرا فنقصها الافتضاض كان ذلك في رقبته.
قال محمد بن رشد: قوله إن العبد يعتق على ابنه الحر إذا أسلم إليه في جناية عليه في بدنه أو فيما استهلك من ماله أو حرمه عليه بالوطء من أمهات أولاده وإمائه، هو مثل ما مضى من قوله في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب الديات حسبما بيناه هناك من وجه قوله، وهو صحيح لأنه إنما يأخذه إذا أسلمه إليه سيده باختياره، ولو شاء لم يأخذه وتركه وأسقط التبعة عنه في جنايته إذ لا يلزم سيده أن يفتكه فإذا أخذه وجب أن يعتق عليه بمنزلة إذا اشتراه، وإن قلت إنه يجب له بنفس جنايته عليه إلا أن يشاء سيده أن يفتكه منه كان أبين لوجوب عتقه عليه إلا أن ذلك لا يصح أن يقال، إذ لو قيل ذلك لوجب أن يعتق عليه بنفس جنايته عليه وألا يكون لسيده أن يفتكه منه بجنايته ولما لم يكن مالكا له بنفس الجناية إلا أن يسلمه إليه سيده وارتفعت التهمة عنه بجنايته على ابنه ولم يكن كالقاتل الذي يقتل وارثه فيتهم أنه إنما قتله ليرثه لأن الميراث يجب له بالموت فاتهم فيه ومنع إياه.
وأما قوله لو وطئ أمة لابنه ليست بكرا لم يكن في رقبته إلا ما نقصها الافتضاض ففيه اختلاف؛ لأنه قد حرمها عليه، فقال إن له أن يحبس كل واحدة منهما ولا يحل له، ويكون ما نقص البكر منهما في رقبته وإن شاء. ألزمه(16/133)
قيمة كل واحدة منهما وكان ذلك في رقبته وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق بالأمة الحامل ويتصدق بجنينها على آخر فتجني قبل أن تضع]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بالأمة الحامل يتصدق برقبتها على رجل ويتصدق بجنينها على آخر فتجني قبل أن تضع، قال ابن القاسم يخير الذي له الرقبة فإن فداها كان الجنين إذا وضعته للمتصدق عليه به، ولا يغرم من الجناية شيئا، وإن أسلمها كانت الأمة وجنينها للمجني عليه، وليس لصاحب الجنين قليل ولا كثير قلت: فإن قال صاحب الجنين إذا أسلمها الذي له الرقبة أنا أفتكها أيكون ذلك له؟ قال عيسى: أرى ذلك له، قلت لابن القاسم أرأيت لو لم تجن الأمة على أحد ولحق الذي له رقبتها دين قبل أن تضع أتباع في دينه ويذهب حق صاحب الجنين؟ قال ابن القاسم: لا تباع في دينه حتى تضع، قلت أرأيت لو أن صاحب الجنين أعتقه ثم جنت على رجل قبل أن تضع كيف يصنع بجنينها إذ لو أعتقت الأم والجنين في بطنها لم يعتق، ثم جنت على رجل قبل أن تضع، قال ابن القاسم أما إذا أعتقت الأمة فإن الجناية تكون دينا عليها تتبع به ويأخذ صاحب الجنين جنينه إذا وضعت وليس لصاحب الجرح فيه شيء، وأما إذا أعتق الجنين والأمة على حالها فجنت قبل أن تضع، قال أصبغ إن كان الجنين إنما صار لصاحبه بعطية من رب الرقبة فأرى إسلامه الأم إسلاما للجنين بمنزلة أن لو أعتقها بطل الجنين وكان حرا ولو افتداها رب الرقبة كان لصاحبه ولم يكن عليه في الجرح شيء وأما إذا كان الجنين صار لربه من عند غير صاحب الرقبة(16/134)
مثل أن يهب لرجل رقبتها ولآخر جنينها قسم الجرح عليها وعلى جنينها، فجنينها منها العشر فيفتدي رب الرقبة بتسعة أعشار الدية ويفتدي صاحب الجنين بعشر قيمة أمه لا بعشر الدية؛ لأنه لو طرح كان على طارحه مثل ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية في الذي يتصدق بأمته الحامل على رجل وبجنينها الذي في بطنها على رجل فتجني جناية قبل أن تضع إن الذي له الرقبة يخير بين أن يفتكها أو يسلمها، فإن أسلمها بطلت الصدقة بالجنين وكان للمجني عليه، هو على قياس قوله بأنه إذا أعتق صاحب الرقبة الأمة كانت حرة وما في بطنها وبطلت الصدقة بالجنين، وقد اختلف قوله في ذلك، فمرة قال هذا، ومرة قال يعتق الجنين بعتقها ويغرم صاحب الرقبة للآخر قيمة الولد يوم يخرج إن خرج حيا، وإن خرج ميتا فلا شيء له، فيأتي على قياس هذا القول أنه إن أسلم الرقبة في الجناية كان الولد للمجني عليه إن خرج حيا وغرم صاحب الرقبة قيمته يوم يخرج للمتصدق عليه، ومرة قال: عتقه موقوف حتى يخرج الجنين فيأخذه المتصدق به عليه وينفذ العتق حينئذ، وهو اختيار محمد بن المواز على هذا القول يأتي قوله في هذه الرواية إنها إذا أعتقت والجنين في بطنها لم يعتق ثم جنت على رجل قبل أن تضع فإن الجناية تكون دينا عليها تتبع به ويأخذ صاحب الجنين جنينه إذا وضعته إذ لا يصح أن تبتل حريتها ويكون ما في بطنها رقيقا للمتصدق به عليه فمعنى قوله أن يكون عتقه موقوفا حتى تضع فيأخذ صاحب الجنين جنينه وتبتل حينئذ حريتها، وتتبع بالجناية دينا ثابتا في ذمتها أو بما بقي منها إن استوفى بعضها من إجارتها في مدة حملها لأنها على هذا القول كالمعتقة إلى أجل فيأتي على قياس هذا القول أن يستأنى بها إذا جنت حتى تضع، فيأخذ صاحب الجنين جنينه ويخير صاحب الرقبة حينئذ بين افتكاكها بالجناية وإسلامها فيها، فقول أصبغ إن الجناية مفضوضة على الرقبة وعلى الجنين قول(16/135)
رابع في المسألة، وكذلك اختلف قول ابن القاسم أيضا هل يباع في دين صاحب الرقبة قبل الوضع أم لا؟ فمرة قال إنها لا تباع في دينه حتى تضع فيأخذ صاحب الجنين جنينه، وهو قوله في هذه الرواية واختيار محمد بن المواز على ما اختاره من أن عتقه موقوف، ومرة قال إنها تباع في دين صاحب الرقبة بما في بطنها كما كانت تباع على سيدها الأول، وهو الذي يأتي على قياس قوله: إن ما في بطنها يعتق بعتقها وإن جنينها يكون للمجني عليه إن أسلمت إليه، فكان القياس أن ينتظر بها في الجناية حتى تضع كما ينتظر بها في الدين حتى تضع، ووجه التفرقة بين بيعها في الدين قبل أن تضع، وإسلامها في الجناية قبل أن تضع هو أن الجناية متعلقة برقبتها، والدين ليس بمتعلق برقبتها وإنما هو في ذمة سيدها، ولو تأخر النظر فيها حتى تضع لكان الولد لصاحبه لا تلحقه الجناية، ويخير صاحب الأم فإما فداها أو أسلمها وحدها، وهذا الخلاف كله إنما هو إذا صار الجنين لصاحب الجنين من غير صاحب الرقبة، وأما إذا صار إليه من عند صاحب الرقبة مثل أن يهب الرجل جنين أمته لرجل فلا اختلاف في أنها إذا جنت يخير صاحب الرقبة بين أن يسلمها بجنايتها فتبطل الهبة في الجنين بذلك، كما أنه لا اختلاف في أنه إن اعتقها سيدها بعد أن وهب جنينها لرجل يعتق ما في بطنها بعتقها وتبطل الهبة في الجنين، ولم يجب في هذه الرواية إذا أعتق صاحب الجنين الجنين فجنت قبل أن تضع، والجواب في ذلك أن الأمر يكون فيه كما لو لم يعتقه، إذ لا عتق لصاحب الجنين في الجنين قبل أن يوضع، وكذلك قال في كتاب ابن المواز، واختلف قول ابن القاسم وأشهب إذا أوصى الرجل بعتق جنين أمته وهي تخرج من الثلث فأعتق الورثة الأم فقال ابن القاسم عتق الميت أولى ولا الولد له، وقال أشهب عتق الورثة أولى ولا الولد والأم لهم، وقول(16/136)
أشهب أظهر إذ لم يختلفوا في أنها إذا أوصى بجنينها لرجل والثلث يحملها فأعتق الورثة الأم أن الوصية بالجنين تبطل وبالله التوفيق.
[: أخدم عبده رجلا كذا وكذا ثم مرجعه إلى فلان بتلا فجرح العبد رجلا]
ومن كتاب العتق قال وسألته عن رجل أخدم عبده رجلا كذا وكذا ثم مرجعه إلى فلان بتلا فجرح العبد رجلا أو جرح، قال قد اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأما رأيي والذي أستحسن فإني أرى دية جراحه وقتله لسيده الأول، وليس لصاحب المرجع شيء، وإنما هو عندي بمنزلة ما لو قال هو حر بعد خدمة فلان، فأرى عقل جراحه لسيده، وقد ذكر عن مالك أنه ليس للسيد الذي بتل له وجعل له المرجع، والقول الأول أحب إليّ أن يكون ذلك للسيد الأول وإن جنى العبد جناية خير المخدم في أن يفتكه ويختدمه، فإن أفتكه اختدمه إلى الأجل الذي له فيه الخدمة ثم أسلمه إلى صاحب البتل، ولم يكن لصاحب الخدمة على الذي بتل له شيء مما أفتكه به من الجناية؛ لأنه إنما طلب الفضل والزيادة التي رجا في الخدمة، ولأنه لو أسلمه كان المبتول له مخيرا فإن أفتكه كانت خدمته له، وإن أسلمه كان المبتول له مخيرا إن أحب أن يفتديه ويكون عبدا له فذلك له، وإن أحب أن يسلمه فذلك له.
قال محمد بن رشد: اختلاف قول مالك في جرح العبد وميراثه إذا مات وقيمته لمن تكون إذا أخدمه سيده رجلا مدة ما ثم جعل مرجع رقبته(16/137)
لغيره، هل يكون لسيده الذي أخدمه أو للذي إليه مرجع الرقبة اختلاف مشهور، وقد تقدم في سماع أصبغ من كتاب الخدمة، وعليه يأتي الاختلاف في مسألة العتق من سماع عيسى من كتاب الخدمة في الذي يخدم عبده فلانا سنة ثم هو لفلان وعليه دين هل يباع عليه في الدين قبل انقضاء السنة أم لا؟ وفي مسألة أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس في الذي يحبس الحبس على رجل فيقول هو لك حياتي ثم هو في سبيل الله هل يكون إذا مات في ثلثه أم ينفذ من رأس ماله حسبما مضى القول فيه مستوفى في الموضعين فلا معنى لإعادته، وأما إذا جنى جناية قبل أن ينقضي أجل الخدمة وتصير لصاحب الرقبة ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها أن الحق في الافتكاك لصاحب الخدمة من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة الذي المرجع إليه، وهو المبدأ بالتخيير وهو قوله في هذه الرواية، والقول الثاني أن الحق في ذلك لصاحب الرقبة الذي المرجع إليه إلا أنه يبدأ صاحب الخدمة بالتخيير من أجل أنه هو المقدم بها على صاحب الرقبة، فإن أفتكه على هذا القول واختدمه لم يكن لصاحب الرقبة إليه سبيل حتى يدفع إليه ما أفتكه به، والقول الثالث الحق في ذلك لصاحب الرقبة الذي المرجع إليه وهو المبدأ بالتخيير، وقد مضى بيان هذا كله وشرحه في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب الخدمة فلا معنى لإعادته.
[مسألة: عبد يجنى عليه في عهدة الثلاث لمن أرش الجناية]
مسألة وسألته عن عبد يجنى عليه في عهدة الثلاث لمن أرش الجناية؟ أو جنى هو على رجل فعلى من دية جنايته؟ أعلى البائع أم على المشتري؟ أو هلك بعض مال [العبد في عهدة الثلاث وقد كان اشتراه] ، بماله فقال المشتري أنا أرده إذ ذهب ماله، قال ابن(16/138)
القاسم قال مالك: إن جنى عليه فعقل جنايته لسيده الذي باعه، والمشتري مخير إن أحب أخذه، وإن أحب تركه وإن تلف ماله أو بعضه فالبيع له لازم ولا يفسخ البيع بينهما لذهاب ماله، قال ابن القاسم: وأما ما جنى العبد فلم أسمع من مالك فيه شيئا إلا أني أرى أن سيده البائع بالخيار إن شاء أسلمه وإن شاء أفتكه، فإن أفتكه كان المشتري على بيعه ولا يضع ذلك منه شيئا إلا أن تكون تلك الجناية عمدا فيكون عيبا حدث إن شاء أخذه وإن شاء رده، بمنزلة العيب الذي يحدث في العهد، وإن أسلمه كان المشتري بالخيار إن أحب أن يفتكه من المجروح بدية الجرح أو يسلمه، فإن أفتكه بدية الجرح نظر، فإن كانت الدية أقل من ثمن العبد أسلم الزيادة إلى البائع، وإن كان كفافا أو أكثر لم يكن للبائع على المشتري شيء.
قال محمد بن رشد: قوله إن عقل ما جني على العبد في عهدة الثلاث للبائع صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الضمان منه، فدية الجرح له، وأما قوله والمشتري مخير إن أحب أخذه وإن أحب تركه ففيه نظر إلا أن يكون البائع قد برأ الجاني من الجرح؛ لأنه إذا أبرأه من الجرح كان ضمانه من المشتري إن أخذه، وصار كمن اشترى عبدا مجروحا فيجوز باتفاق إن لم يكن الجرح مخوفا، وعلى اختلاف إن كان مخوفا، إذ قد قيل إنه لا يجوز شراء العبد المريض المخوف عليه الموت من مرضه حسبما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا من كتاب العيوب، وأما إن لم يبره من الجرح فضمانه من الجاني لأنه إن مات من الجرح لزمه قيمته للبائع وانتقض البيع، فرضى المشتري بأخذه إن صح من جرحه غرر لو عقد البيع على هذا ابتداء لم يجز، لكنه أجازه ابن القاسم لتقدم العقد على صحة، كنحو قوله في الكافر يشتري العبد الكافر من كافر على أنه بالخيار، فيسلم العبد في أيام الخيار: إنه إن اختار الشراء بيع على المبتاع، وإن لم يختره بيع على الكافر، فأجاز(16/139)
للمشتري اختيار العبد بعد إسلامه وهو لا يجوز له ابتداء شراؤه، وقد أنكر ذلك عليه سحنون، وقد مضى على هذا المعنى في سماع سحنون من كتاب العيوب، وأما إن كان العبد هو الجاني فقوله إن البائع مخير بين أن يسلم العبد أو يفتكه، فإن أفتكه مضى البيع ولزم المشتري ولم يكن له أن يرده إن كانت الجناية خطأ، وإن أسلمه انتقض البيع فيه وسقط الثمن عن المبتاع إن كان لم يدفعه ورجع إليه إن كان دفعه إلا أن يشاء المشتري أن يفتكه بجنايته لماله فيه من الحق بشرائه إياه، فيكون ذلك له ويثبت البيع ويؤدي الثمن إن كان لم يدفعه، ولا يرجع على البائع بشيء مما أفتكه به، فإن كان لم يدفع الثمن، وهو أكثر مما أفتكه به أسلم الزيادة إلى البائع، وإن كان ما أفتكه به مثل الثمن أو أكثر منه لم يكن له أن يرجع على البائع بشيء؛ لأنه إنما أفتكه لنفسه على ما قاله في الرواية؛ لأنه إنما تكلم فيها على البائع لم ينتقد الثمن، ولا يصح انتقاده بشرط في العهدة وإن كان قد دفع الثمن للبائع ورجع عليه بالأقل منه أو مما أفتكه به لأنه لو أسلمه ولم يفتكه لرجع عليه بجميع الثمن، فإذا أفتكه بأقل من الثمن لم يكن له أن يرجع عليه إلا بما أفتكه به، هذا بيان ما قاله في الرواية ونص عليه فيها.
وفي قوله إن البائع مخير بين أن يفتكه فيمضي البيع أو يسلمه فينتقض إلا أن يشاء المبتاع أن يفتكه نظر إذ لا يملك البائع إسلامه لما انعقد فيه من البيع الذي لا خيار له في نقضه، وقد قال ابن حبيب من أجل هذا إنه إنما يخير بين أن يسلم الثمن أو يفتكه بعقل الجرح، فإن أفتكه مضى البيع، وإن أسلمه وكان مثل عقل الجرح أو أكثر منه لزمه، وإن كان أقل من عقل الجرح ولم يرض بذلك رجع الخيار حينئذ إلى المشتري في افتكاكه، فإن أفتكه لم يكن له على البائع رجوع بما أفتكه به، وإن أسلمه رجع على البائع بالثمن، هذا معنى قوله.
وقوله إن البائع يخير بين أن يسلم الثمن أو يفتكه بالجناية أظهر من قول ابن القاسم في هذه الرواية إنه يخير بين أن يسلمه الثمن أو يفتكه بالجناية،(16/140)
لأنه إنما يملك الثمن لا الرقبة إذ قد عقد فيها البيع.
وظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية وما حكى ابن حبيب في الواضحة أنه لم ير للمجني عليه خيارا في إجازة البيع وأخذ الثمن إذا لم يفتكه البائع منه بالجناية.
والصحيح في النظر أن له في ذلك الخيار، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الجنايات من المدونة في الذي يبيع العبد بعد أن جنى إذ لا فرق بين أن تكون جنايته قبل البيع أو بعده في عهدة الثلاث، والصحيح في هذه المسألة على ما قاله في المدونة أنه إن أفتكه البائع بالجناية مضى البيع، وإن لم يفتكه بها كان المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن في جنايته، وبين أن يفسخ البيع ويأخذ العبد، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى البيع ولم يكن للبائع في ذلك كلام ولا للمبتاع إذا كانت الجناية خطأ وإن لم يجز البيع وأراد فسخه وأخذ العبد كان للمشتري حينئذ أن يفتكه بالجناية ويمضي البيع فيرجع على البائع، وإن كان قد نقده بالأقل من الثمن أو مما افتداه به، وإن كان لم ينقد رجع عليه البائع بما زاد الثمن على ما افتداه به إن كان افتداه بأقل من الثمن على ما قاله في الرواية، وقد يكون الثمن غير عين طعاما أو عرضا فيظهر وجه تخيير المجني عليه في إجازة البيع وأخذ الثمن في جنايته إذا لم يفتكه البائع منه بجنايته، وأما ما تلف من ماله في عهدة الثلاث فلا إشكال ولا اختلاف في أن البيع لا ينقض من أجل ذلك لأن ماله تبع له إذا استثنى وبالله التوفيق.
[: قطعت يده فأخذ عقلها أو صالح على بعض ديتها ثم تآكلت إلى العضد]
ومن كتاب العرية وقال في رجل قطعت يده فأخذ عقلها أو صالح على بعض ديتها ثم تآكلت إلى العضد، قال لا شيء له إلا ما أخذ؛ لأن عقل اليد قد قبله، وكذلك لو صالح منها على بعض الدية ثم تآكلت إلى العضد لم يكن له أكثر مما أخذ لأن عقل اليد قد صالح عليه.(16/141)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن دية اليد سواء قطعت من الكوع أو من المرفق أو من المنكب سواء، فإذا أخذ دية اليد وقد قطعت من الكوع أو صالح على ذلك فلا شيء له إن نزا فيها بعد الصلح إلى المرفق أو إلى العضد، والعمد والخطأ في ذلك سواء، ولو تآكل الجرح إلى غير ما صالح عليه مثل أن يقطع من يده أربع أصابع فيأخذ ديتها أو يصالح على بعض ديتها ثم يتآكل الجرح بعد الصلح فتذهب الأصبع الخامسة لوجبت له ديتها إذ لم يصالح عليها، ولو قطعت أولا من يده أصبع أو أصبعان فصالح عليهما أو أخذ ديتها ثم تآكلت بعد الصلح فذهب بقية أصابع يده لافترق العمد في ذلك من الخطأ؛ لأنه يجب في الخطأ أن يرد دية الأصبع أو الأصبعين ويكون جميع الدية على العاقلة بعد أن كانت وجبت على الجاني في ماله، ولا يجب في العمد إلا أن يزاد المجروح على ما أخذ بقية دية اليد من مال الجارح، وقد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الديات تحصيل الاختلاف فيمن صالح على قطع يده خطأ أو عمدا ثم نزي فيها فمات فلا معنى لإعادته، ومضى هناك أيضا تحصيل القول فيمن صالح على جرح خطأ أو عمدا عليه وعلى ما يتراقى إليه مما دون النفس أو على ما تراقى إليه وإن تراقى إلى النفس وما يجوز من ذلك مما لا يجوز باتفاق أو على اختلاف.
[: تزويج أبيه له أو وليه المولى عليه وإن كان كبيرا]
ومن كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك قال ابن القاسم في المولى عليه وإن كان كبيرا: إن تزويج أبيه له أو وليه جائز عليه كما يجوز على الصغير ومبارأتهما عليه جائزة ولا يستأمرانه، قلت لابن القاسم وإن زوجه أبوه ولا مال للمولى عليه يوم زوجه أبوه فالصداق في مال أبيه دينا عليه مثل ما يكون عليه في ابنه(16/142)
الصغير إذا زوجه ولا مال له؟ قال: نعم هو بمنزلة الصغير في حالاته كلها إلا في الحدود والقتل، قال: وحاله كلها حال الصبي، ولا يجوز نكاحه ولا عتقه وإن داينه أحد بشيء لم يعد عليه بشيء وذهب ماله هدرا غير أنه إن كسر جرة أو أحرق بيتا أو أحرق ثوبا أو أفسد شيئا فهو في ماله بمنزلة الصبي إذا كان له مال إلا اتبع به دينا عليه، قال وانظر أبدا كل شيء يلزم العبد مما يكون في رقبته سوى النفس والجراحات فهو في مال الصبي والسفيه إن كان لهما مال وإن لم يكن لهما مال اتبعا به دينا عليهما، قلت فالكبير المولى عليه يسرق هل يقطع؟ قال: نعم يقطع إن سرق ويجوز عليه طلاقه.
قال محمد بن رشد: رأى ابن القاسم في هذه الرواية تزويج الأب لابنه البالغ إذا كان في ولايته والوصي ليتيمه البالغ الذي إلى نظره ومخالعتهما عليه بغير أمره جائزة عليه، وهو دليل قوله في النكاح الأول من المدونة إن إنكاحه إياه لا يلزمه إذا كان قد ملك أمره خلاف ماله في كتاب إرخاء الستور من المدونة من أنه لا يجوز إنكاحه إياه ولا مخالعته عليه بغير إذنه، وهو قول ابن الماجشون في الواضحة، ولابن حبيب فيها من رأيه مثل قول ابن القاسم ههنا إن إنكاحهما إياه ومبارأتهما عليه لازمة له بغير إذنه كالصغير، ولا اختلاف في أن تزويجهما للصغير ومخالعتهما عليه لازمة، وإنما اختلف هل يطلقان عليه بغير مخالعة؟ ولا اختلاف في أن طلاقهما على الكبير لا يجوز وإنما اختلف هل يجوز خلعهما عليه ويدخل هذا الاختلاف في لزوم الصداق له إذا لم يكن له مال، فقوله إنه بمنزلة الصغير في حالاته كلها إلا في الحدود والقتل يريد أنه بمنزلة الصغير فيما يجوز عليه من فعل الأب والوصي على قياس قوله في هذه الرواية إنه لا يكون بمنزلته على القول الآخر.
وقوله بعد ذلك وحاله كلها حال الصبي يريد إلا في الطلاق؛ لأن طلاقه لازم له، بخلاف الصبي.(16/143)
وقوله إنه لا يجوز نكاحه ولا عتقه صحيح إلا أن ذلك يفترق إذا وقع، فيرد عتقه على كل حال، وينظر الوصي في نكاحه، فإن رآه نظرا أجازه، وكذلك بيعه وشراؤه.
وأما قوله إنه إن داينه أحد لم يعد عليه بشيء وذهب ماله هدرا فظاهره أن ذلك سواء أنفق ما تداين به في شهواته ولذاته أو في وجود منافعه وما لا بد له منه من مصلحته، إذ لم يفرق بين ذلك، وهو نص قوله في المدنية والمبسوطة خلاف قول ابن كنانة فيهما، وخلاف قول أصبغ في نوازله من كتاب المديان والتفليس، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى.
وأما قوله إنه يلزمه ما أفسد وكسر في ماله بمنزلة الصبي فهو كما قال، ولا اختلاف فيه إذا كان الصبي في سن من يعقل، وأما إن كان في سن من لا يعقل فهو كالمجنون يدخل فيما أفسد من الأموال وجناه من الجنايات ما يدخل في أفعال المجنون وجناياته، وهذا فيما أفسد مما لم يؤتمن عليه، وأما ما أفسد مما أؤتمن عليه ففي ذلك اختلاف.
[: العبد يقتل الحرعمدا فيسلم إلى وليه فيحييه أيباع عليه]
ومن كتاب العشور وسئل عن العبد يقتل الحر عمدا فيسلم إلى وليه فيحييه أيباع عليه؟ قال: لا إلا أن يخاف أن يمثل به بعد أن عفا عنه.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله لا إشكال فيه والحمد لله.
[مسألة: حكم الصبي الذي لا يعقل في جناياته]
مسألة قال وكل ما أصاب المجنون المطبق والمخبول والصبي الصغير الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها من فساد أموال الناس فهو هدر ولا شيء عليهم في أموالهم كانت لهم أموال ولا يتبعون به في ذمتهم إن لم يكن لهم أموال مثل أن يأتي المجنون بنار(16/144)
فيشعلها في بيت أو يهدم بنيانا أو يكسر آنية أو يهرق إداما أو نحو هذا والصبي أيضا مثله فيما أفسد من ذلك مثل أن يأخذ لؤلؤة فيكسرها بحجر أو يأخذ جوهرا فيلقيه في النهر، فجميع ما أصابوه من أموال الناس مثل ما أخبرتك من حرق ثوب أو غيره فهو هدر ولا شيء عليهم، وما أصابوه من قتل أو جرح يبلغ الثلث فصاعدا فهو على عواقلهم، وأما إن كان أدنى من الثلث فهو في أموالهم إن كان لهم أموال، وإلا اتبعوا به دينا مثل الصبي يحبو إلى الرجل النائم فيطعنه أو يقتله أو يفقأ عينه.
قلت فالمجنون هل يعقل ما عليه مع عاقلته؟ قال: لا، وهو بمنزلة الصبي لا يعقل معهم، قال: وكل ما أفسد الصبي الذي قد عقل أو الكبير المولى عليه من أموال الناس وأصابوه برميه تعمد ذلك من حرق ثوب أو كسر آنية وهدم بيت أو إهراق زيت أو غير ذلك من الإدام أو ما أفسد من أموال الناس أو ما أصابوه برمية تعمدوا ذلك أو لم يتعمدوا فذلك في أموالهم إن كان لهم مال وإلا اتبعوا به دينا، قال: وما أصاب الكبير المولى عليه به إنسانا من قتل أو جرح عمدا فإنه يقاد منه، وما أصاب به خطأ فهو على عاقلته إلا أن يكون أدنى من الثلث فهو في ماله.
وما أصاب به الصغير الذي لم يبلغ الحلم وإن كان يعقل به إنسانا من قتل أو جرح عمدا أو خطأ فهو على العاقلة، ولا يقتص منه إلا أن يكون الذي أصاب من ذلك أدنى من الثلث فيكون في ماله إن كان له مال أو يتبع به دينا إن لم يكن له مال.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن حكم الصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها في جناياته على الأموال أو في الجراح والدماء حكم(16/145)
المجنون سواء، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، أحدهما أن جنايتهم على الأموال في أموالهم، وعلى الدماء على عواقلهم إلا أن يكون أقل من الثلث ففي أموالهم، والثاني أن ذلك هدر في الأموال والدماء، والثالث تفرقته في هذه الرواية بين الأموال والدماء حسبما ذكرناه سماع أشهب ولكل قول منها وجه قد مضى بيانه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، وأما إذا كان الصبي يعقل فلا اختلاف في أنه ضامن لما جنى عليه من الأموال بالعمد والخطأ وأن عمده فيما جناه في الدماء خطأ يكون عليه من ذلك من ماله ما كان وعلى عاقلته ما بلغ الثلث فأكثر، وأما الكبير المولى عليه فحكمه في جناياته في الأموال وفي الدماء حكم المالك لأمر نفسه الذي ليس في ولاية يضمن ما استهلكه من الأموال ويقتص منه فيما جناه عمدا في الدماء.
[: يؤاجر عبده سنة فيعتقه قبل السنة]
ومن كتاب إن خرجت وسئل عن رجل يؤاجر عبده سنة فيعتقه قبل السنة، قال: لا يعتقه حتى السنة، قيل له: فكراؤه لمن؟ قال: كراؤه لسيده استثنى مال العبد أو لم يستثنه، قيل له فلو كانت أمة هل كان له أن يطأها؟ قال: لا يطأها، قال أصبغ: لا أرى للسيد من الأجرة إلا ما وجب له قبل العتق كان قد قبضها أو لم يقبضها وسائرها للعبد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يعتق حتى السنة، هو مثل ما في غير موضع من المدونة، ومثل ما في رسم يوصي لمكاتبه من سماع يحيى من كتاب الخدمة، وظاهر قول ابن القاسم أن الكراء لسيده قبضه أو لم يقبضه(16/146)
خلاف قول أصبغ، وأما قوله إنه لا يطأها إن كانت أمة فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنها معتقة إلى أجل، وقال ابن حبيب الإجارة أملك به وهو حر بتمامها ولا يلحقه دين، وأحكامه أحكام عبد، واختلف في إجارته لمن هي؟ فقال مالك السيد فإن أراد حرا بتمام الإجارة صدق والإجارة له قبضها أو لم يقبضها، وإن قال أردت تعجيل العتق فالإجارة للعبد قبضها أو لم يقبضها وفي المدنية لمالك من رواية داود بن جعفر عنه مثل ما حكى ابن حبيب عنه وزاد أنه يحلف إن أراد حرا بتمام الإجارة، وما حكى ابن حبيب عن مالك من أن السيد يسأل هل أراد تعجيل العتق الآن أو تأخيره إلى انقضاء أجل الإجارة يجب أن يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، فإن مات قبل أن يسأل أو سئل- فقال لم تكن لي نية فيتخرج ذلك على قولين، أحدهما أنه محمول على أنه أراد حريته بعد تمام الإجارة ويكون له الإجارة وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية، وظاهر ما حكاه ابن حبيب عن مالك من أنه يصدق إن قال إذا سئل أردت حرا بتمام الإجارة إذ لم يقل يستحلف على ذلك، فالمعنى في قوله أنه رأى له الإجارة إلا أن يقول أردت تعجيل عتقه فيصدق في ذلك على نفسه، والقول الثاني أنه محمول على أنه أراد حريته من الآن فإن ادعى أنه أراد حريته بعد انقضاء أجل الإجارة صدق في ذلك مع يمينه، وهو معنى قول مالك في رواية داود بن جعفر عن مالك، فتحصيل المسألة أن فيها ثلاثة أقوال أحدها أنه يحكم عليه بما ظهر منه من تعجيل حريته ولا يصدق إن قال إنما أردت أنه حر بتمام الإجارة، وهو قول أصبغ، والثاني أنه يصدق مع يمينه أنه قال أردت أنه حر بتمام الإجارة، وهو قول مالك في رواية داود بن جعفر عنه، والثالث أن أمره يحمل على أنه إنما أراد حريته إذا انقضت الإجارة إلا أن يقول أردت تعجيل حريته فيصدق في ذلك على نفسه، وتكون الإجارة للعبد وهو ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية وما حكى ابن حبيب عن مالك، وقال ابن نافع هو حر(16/147)
وعليه أن يخدم وأما في الحد فحده حد عبد، وقول ابن نافع مثل قول أصبغ إذ لا اختلاف بينهم في أنه لا يعتق حتى تنقضي الإجارة وأن أحكامه كلها أحكام عبد في الحدود وغيرها كالمعتق إلى أجل وبالله التوفيق تم كتاب الجنايات الأول بحمد الله.(16/148)
[: كتاب الجنايات الثاني] [مسألة: مدبر جرح عبدا فنزي في جرحه فمات العبد وقد عاش المدبر]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن مدبر جرح عبدا فنزي في جرحه فمات العبد وقد عاش المدبر أيقتل به أم تكون عليه قيمة العبد ويسقط القود عنه؟ فقال إذا جرح المدبر العبد عمدا أو كان الجارح عبدا غير مدبر فالأمر فيهما سواء، إن ترامت بالعبد المجروح جراحته فنزى فيها فمات حلف سيد العبد المجروح بالله يمينا واحدة لمات من تلك الجراح واستحق قيمة عبده على سيد العبد الجارح إلا أن يسلمه إليه، فإن كان عبدا أسلم إليه رقبته، وإن كان مدبرا أسلم خدمته يختدمه بالجرح، وإن لم ينظر في أمره حتى يعتق المدبر بموت سيده كان ذلك دينا على المدبر يتبع به، ويسقط عن ورثة سيده ما كان يلزمه من التخيير في ذلك، وذلك أن الدم لا يستحق إلا بالبينة على القتل والقسامة مع اللوث، والعبيد ليست فيهم قسامة، فمن أجل ذلك لم يستقد من المدبر أو العبد الذي جرح عمدا فنزى في جرحه فمات؛ لأن دمه إنما استحق بيمين سيده وحده مع الجراحات التي كانت تثبت بالبينة.(16/149)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن دم العبد ومن فيه بقية كالمدبر والمكاتب والمعتق إلى أجل لا يستحق بالقسامة فلا يقتص له ممن قتله من العبيد إلا بإقرار القاتل بالقتل أو قيام البينة على القتل المجهز ولو قتل العبد حرا لاقتص منه بالقسامة مع قول المقتول أو مع شاهد على القتل أو بشاهدين على الجرح باتفاق، أو مع شاهد واحد على الجرح أو على إقرار القاتل بالقتل على اختلاف، وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الديات.
[مسألة: الدية كاملة تجب في ذهاب العقل جملة وفي ذهاب الكلام جملة]
مسألة قال يحيى قال ابن القاسم إنما يقدر نقصان الكلام والعقل باجتهاد الناظر على ما يتوهم إذا ما اختبره أياما أهل العدل والتجربة فقالوا إنه ليقع في أنفسنا قد ذهب نصف كلامه أو ثلثه أو ربعه فكان ذلك عندهم بينا بتوهمهم واجتهادهم أعطي على قدر ذلك، فإن شكوا فقالوا هو الربع أو الثلث أعطي على الثلث، وكان الظالم أولى أن يحمل عليه، قال: والعقل كذلك إن قالوا إنه يفيق أكثر نهاره بإفاقته قدر ثلثي نهاره أو ثلاثة أرباعه أو نحو ذلك أعطي على قدر ما رأوه، وإن شكوا احتيط له على الجاني مثل ما وصفت لك في تجربة الكلام، وقد قال بعض الناس على الأحرف في البا والتا وهو أحب ما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: الدية كاملة تجب في ذهاب العقل جملة وفي ذهاب الكلام جملة أيضا، فإذا ذهب بعض العقل أو بعض الكلام أعطى من الدية بقدر ما ذهب من كلامه أو من عقله على ما يقدر ذلك أهل المعرفة والبصر بعد التجربة لذلك وبعد يمينه هو على ذلك على ما مضى في رسم العقول من سماع أشهب، وقوله إنهم إن شكوا في ذلك بين الثلث أو الربع(16/150)
أعطى الثلث وكان الظالم أولى أن يحمل عليه، فالوجه في ذلك أنهم إذا شكوا في قدر ما نقص من عقله أو كلامه فقد شكوا في قدر ما بقي من عقله أو كلامه، فإذا لم يعلموا هل بقي من عقله أو من كلامه ثلثاه أو ثلاثة أرباعه وجب أن يعمل في ذلك على اليقين ويطرح الشك، والذي يوقن به أنه قد بقي من كلامه ومن عقله ثلثاه فيكون له ثلث الدية وأن يؤخذ من الجاني شيء من الدية بشك أولى من أن يسقط من حق المجني عليه شيء من الدية بشك؛ لأنه إن أخذ من الجاني أكثر من دية ما جنى فبجنايته، وإن أسقط من حق المجني عليه شيء فلغير سبب، إذ ليس بجان ولا متعد، ولو كانت الجناية خطأ فشكوا في مقدار ما نقص من كلامه هل هو الثلث أو الربع لكان الأولى ألا يحكم إلا بالأقل، وقول من قال إنه ينظر فيما نقص من كلام المجني عليه إلى عدد الحروف ليس بصحيح لما قاله في المدونة من أن بعض الحروف أثقل على اللسان من بعض، ولأن بعض الحروف لا حظ للإنسان فيها كالبا والميم.
[: يؤاجرعبده سنة ثم يعتقه فيجرح العبد رجلا أو تكون أمة فتلد]
ومن كتاب الصبرة قال وسألته عن الرجل يؤاجر عبده سنة ثم يعتقه فيجرح العبد رجلا أو تكون أمة فتلد بعدما عتقت وقبل أن يجنى، قال: أما العبد فإن سيده يخير بين أن يفتديه ولا غرم عليه فيما أخذ من أجرته للسنة ويكون عتيقا بعد السنة وإن كره افتداه خير المستأجر فإن شاء افتداه واختدمه بقية الأجرة، وإن شاء فسخ الإجارة وحاسب سيده بما مضى منها وقبض منه ما بقي عليه ويكون العبد حرا ساعة تنتقض الإجارة، وذلك أن المستأجر لو لم يجن العبد جناية غير أن سيده أعتقه بعدما أجره منه فشاء المستأجر أن يفسخ الإجارة فعل، وعجلت الحرية للعبد وغرم السيد للمستأجر ما بقي من استكمال(16/151)
أجرته، فإن كان رضي بفسخ الإجارة وقد جنى العبد فهو حر ساعة إذ يفسخ، ويكون عقل ما جنى العبد دينا على العبد يتبع به.
قلت: أرأيت إن افتداه سيده أيكون ما غرم عنه من عقل الجناية دينا له على العبد يتبعه به لأنه افتداه وقد أعتقه؟ قال: وأما ولد الأمة الذين ولدوا بعد العتق وقبل الجناية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر؛ لأن ما قاله في الذي يؤاجر عبده سنة ثم يعتقه فيجرح العبد رجلا من أن المستأجر يخير إذا أبى السيد أن يفتديه بين أن يفتديه بجنايته ويختدمه بقية الأجرة وبين أن تفسخ الإجارة ويحاسب سيده بما مضى منها فيعجل له الحرية ويتبع بما جني دينا ثابتا في ذمته لا يستقيم، ووجه العمل في هذا أن يبدأ بتخيير المستأجر بين أن يفسخ الإجارة وبين أن يتمسك بها، فإن فسخها عجلت له الحرية واتبع في ذمته بالجناية، وإن أبى إلا التمسك بالإجارة كان ذلك له وخير السيد حينئذ بين أن يفتكه بالجناية وتكون له الإجارة، وبين أن يسلم الإجارة للمجني عليه لم يكن له إلا أن يأخذها من جنايته، فإذا انقضت عتق العبد واتبعه بما بقي من جنايته في ذمته، إذ ليس له أن يفسخ الإجارة لتقدمها على الجناية.
وقوله في الرواية إن المستأجر يخير فإن شاء افتداه واختدمه بقية الإجارة، وإن شاء فسخ الإجارة يدل على أنه رأى أن من حق المجني عليه إذا أبى السيد أن يفتكه بالجناية أن يفسخ الإجارة فيؤاجر له من غيره، إذ قد يجد من يؤاجره بأكثر من ذلك، فيكون من حق المستأجر حينئذ أن يفتكه بالجناية ليبقى العبد في إجارته.
ولما سأله في الرواية هل للسيد إذا افتداه بالجناية أن يتبع العبد ذلك في ذمته سكت له عن الجواب في ذلك، والجواب في ذلك أنه ليس له أن يتبعه بذلك لأنه إنما فداه ليستحق بذلك الإجارة إذ ليس يلزمه أكثر من أن يسلمها،(16/152)
ولم يجب أيضا ما يكون حكم ولد الأمة الذين ولدوا بعد العتق وقبل الجناية؟ هل يدخلون في الجناية أم لا؟ ولا إشكال في أنهم لا يدخلون في الجناية؛ لأنهم ولدوا قبلها، ولو ولدوا بعدها لما دخلوا في الجناية على المشهور في المذهب، فكيف إذا ولدوا قبلها، وإنما الكلام هل تعجل حريتهم أو لا يعتقون إلا بعتق أمهم إذا انقضت الإجارة، والذي يوجبه النظر أن تعجل حريتهم لأن الأم إنما منع من تعجيل حريتها ما سبق من الإجارة فيها، والولد لا إجارة فيهم، فوجب أن تعجل حريتهم.
[مسألة: يجني مدبره جناية فيسلمه إلى المجروح فيختدمه بعقل جنايته]
مسألة وقال في الرجل يجني مدبره جناية فيسلمه إلى المجروح فيختدمه بعقل جنايته ثم يبدو للسيد بعد إسلامه إياه أن يفتديه بعقل الجناية أو بما بقي على المدبر من عقل الجناية بعدما خدم المجروح زمانا إن سيده أحق بمدبره متى ما بدا له في افتدائه فإنه يغرم ما بقي على المدبر من عقل الجناية ويكون أحق به، ولا يضره إسلامه إياه أولا، وليس حاله في إسلام المدبر كحال السيد إذا أسلم رقبة عبده الجاني؛ لأن سيد المدبر إنما أسلم خدمته ولم يكن له أن يسلم رقبته ولا يسترق بإسلامه إياه ولا ينتقض بذلك تدبيره، وإنما للمجروح استخدامه بالجراح، فهو إنما يقتضي عقل جرحه مفترقا شيئا بعد شيء، فإذا جمع له ذلك سيد المدبر متى بدا له فلا حجة للمجروح إن أراد التمسك باستخدام المدبر، فلذلك كان سيده أحق به، وأما العبد الذي ليس بمدبر فإذا أسلمه سيده رق للمجروح، وإنما يسلم سيده رقبته، وليس يسلم خدمته، فلذلك كان المجروح الذي أسلم إليه العبد أحق برقبته إذا أسلمه إليه سيده، ولا يجوز للسيد بعد إسلامه أن يقول أنا أفتديه وأكون أحق به.(16/153)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن المجني عليه إذا أسلمت إليه خدمة المدبر لا يستحقها بجنايته، وإنما له أن يستوفى منها جنايته، ألا ترى أنه إن استوفى جنايته من خدمته قبل موت سيده رجع المدبر إلى خدمة سيده، ولو أسلم المجني عليه خدمة المدبر حياة سيده في جنايته على ألا يكون له سواها طالت حياة سيده أو قصرت لكان ذلك من الغدر الذي لا يحل ولا يجوز.
[: تجني أم ولده ثم يتبين أنها أخته من الرضاعة]
ومن كتاب أوله يشتري الدور والمزارع للتجارة وسئل عن رجل تجني أم ولده ثم يتبين أنها أخته من الرضاعة قبل أن يقام عليها بعقل جنايتها وقبل أن يعتقها عليه الإمام على من يكون عقل ما جنت؟ فقال: على سيدها أن يخرج قيمتها، ولا يتبع الأمة بشيء من ذلك؛ لأنه قد وجب عليه افتداؤها، وإنما عتقت عليه للحرمة التي ثبتت لها، فلما تبين أن وطأها لا يحل له ولم يكن بقي له فيها إلا الاستمتاع بها عتقت عليه، ولو أن قائلا قال لا يعتق لكان غير تارك لسنة مضت، فعتقها ليس بالقوي الماضي المجتمع عليه، فلذلك وجب عليه غرم قيمتها، قال سحنون الجناية عليها دينا تتبع به مثل أم ولد النصراني سواء، قال لابن القاسم: فأم ولد النصراني تسلم ثم تجني جناية قبل أن تعتق عليه؟ قال: عقل جنايتها عليها دينا تتبع به؛ لأنه لا ينبغي أن تعتق على سيدها لإسلامها ويغرم عنها عقل جنايتها؛ لأن عتقها لازم ثابت عليه لا(16/154)
ينبغي لها أن ترق له على حال، فلذلك لا تتبع بشيء من جنايتها.
وسئل أصبغ عن أم ولد النصراني تسلم ثم تجرح رجلا قبل أن يحكم السلطان بعتقها، قال: جنايتها دين على سيدها تؤخذ من ماله إن كان له مال وإلا اتبع به دينا ويعتقها عليه السلطان بإسلامها إلا أن يسلم فيكون أولى بها تكون أم ولد على حالها.
قلت ولم جعلت جنايتها دينا على سيدها وأنت تعتقها عليه وتخرجها من يديه؟ قال: من قبل أنها لو ماتت بعد إسلامها وقبل أن يحكم بعتقها لورثها؛ لأنها لن تخرج من رقه بعد، ولو أنه أسلم قبل أن يحكم بعتقها لكان أولى بها، وتكون أم ولده على حالها، ولو قتلت أيضا على تلك الحال كانت قيمتها قيمة أمة لسيدها، فلهذا جعلت الجناية عليه، ولأنه أيضا لا يقدر على إسلامها إلى المجروح لأنها أم ولده ويفتكها كما يفعل بالمسلمة.
قال محمد بن رشد: تفرقه ابن القاسم في هذه الرواية بين جناية أم ولد المسلم قبل أن تعتق عليه بما ظهر من أنها أخته من الرضاعة وبين جناية أم ولد النصراني بعد إسلامها قبل أن تعتق عليه أن أم ولد المسلم يلزم سيدها افتكاكها ولا يصح له إسلامها في الجناية بحال تقدمت جنايتها للمعنى الموجب لعتاقتها من ثبوت كونها أخته من الرضاعة وتأخرت عن ذلك فوجب ألا تنتقل الجناية عنه بما وجب من وجوب عتقها عليه، وأم ولد النصراني لوجب قبل وجوب العتق بإسلامها لم يكن عليه أن يفتديها وكان له أن يسلمها لجنايتها وإن أسلمت،(16/155)
وتكون رقيقا للمجني عليه، قال ذلك أبو زيد في الثمانية إن إسلامها بعد الجناية ليس بالذي يمنعه من إسلامها، وقد قيل إنه إنما له أن يسلمها بجنايتها ما لم تسلم بعد الجناية، فإن أسلمت بعد الجناية عتقت، وكانت الجناية دينا عليها كما لو جنت بعد إسلامها، فوجب إذا جنت بعد إسلامها أن تعتق لإسلامها وتكون الجناية دينا عليها، فهذا وجه تفرقة ابن القاسم بين المسألتين وساوى سحنون بين المسألتين في أن الجناية تكون عليها إذا أعتقت لا على السيد، هذا قوله في هذه الرواية إن الجناية عليها دينا تتبع به مثل أم ولد النصراني سواء، يريد إن أسلمت، وله في كتاب ابنه أنها تتبع بالأقل من قيمتها أو الجناية، وساوى أصبغ بين المسألتين في أن الجناية تكون عليه لا عليها؛ لأنه إذا قال ذلك في أم ولد النصراني تجني بعد أن أسلمت فأحرى أن يقوله في أم ولد المسلم إذا جنت ثم ثبت أنها أخته من الرضاعة، فوجب أن تعتق عليه فإذا جنت أم ولد النصراني ثم أسلمت فقيل إن سيدها يخير بين أن يسلمها فتكون رقيقا للمجني عليه أو يفتكها فتعتق عليه، وهو قول لأبي زيد في الثمانية، وقيل إنها تعتق عليه وتكون الجناية [دينا عليه لا عليها على القاسم تعتق بها عليه لا عليها] وهو قول أصبغ وبالله التوفيق.
[مسألة: تصاب بعض أذنه فيذهب من ذلك بعض سمعه]
مسألة وسئل عن رجل تصاب بعض أذنه فيذهب من ذلك بعض سمعه، فقال: يكون له من عقل السمع بقدر ما نقص سمعه، ومن عقل الذي أصيب من الأذن الاجتهاد، قيل له فإن ذهب السمع واصطلمت الأذن؟ قال: تكون في السمع الدية كاملة ولا شيء في اصطلام الأذن، قيل له: فلم جعلت فيما نقص من الأذن اجتهاد مع(16/156)
غرم العقل على قدر ما نقص من السمع، وإذا ذهب السمع كله سقط عقل اصطلام الأذن كله؟ قال ": أرأيت إن ذهب نصف السمع وجميع الأذن أيسقط عقلها وعقل السمع لم يتم؟ قلت: كأنك إنما رأيت له الاجتهاد فيما جاوز من الأذن قدر ما نقص من السمع إن كان أصيب جميع الأذن وذهب نصف السمع عقلت له بالاجتهاد نصف الأذن وأسقطت النصف الذي أخذ من نصف السمع وإن كان ذهب ثلثا الأذن عقلت له سدس الأذن، فعلى هذا الحساب يعقل له ما أصيب من الأذن فوق ما يعطي من عقل ما نقص السمع، قلت له إن في ذهاب نصف السمع نصف الدية كاملة وهو لو أصيب جميع السمع واصطلمت أذناه لم يكن لهما عقل، وإنما يعطى عقل السمع أفلا يسقط الاجتهاد من الأذن إذا ذهب نصف السمع وإن أصيبت كلها ويجعل جميع الأذن بما أخذ من نصف العقل ولا يجعل فيه الاجتهاد حتى يكون الذي نقص السمع أقل من النصف فينظر حينئذ فيما أصيب من الأذن وما ذهب من السمع فيجتهد فيما أصيب من الأذن فوق قدر ما نقص من السمع.
قال محمد بن رشد: الدية إنما هي في السمع لا في الأذنين، فإن قطعت أذنا الرجل ولم يذهب شيء من سمعه فليس في الأذنين إلا حكومة، وإن ضرب فذهب سمعه ولم تذهب أذناه فله في ذهاب سمعه الدية كاملة، وإن قطعت أذناه وذهب سمعه فله في ذهاب سمعه الدية كاملة، ولا شيء له في قطع أذنيه لأنهما تبع للسمع، وكذلك إن قطعت أنصاف أذنيه وذهب من ذلك نصف سمعه فليس له إلا نصف الدية لما ذهب من نصف سمعه، فإن قطع من أذنيه أكثر مما ذهب من سمعه فله فيما زاد على ما ذهب من سمعه حكومة، مثال ذلك أن تقطع أنصاف أذنيه ويذهب ربع سمعه فله ربع الدية لذهاب ربع سمعه، وله حكومة في نصف ما قطع من أذنيه وهو ربعها لأن(16/157)
النصف الآخر وهو الربع دخل في دية ربع السمع الذي أخذه، فمتى قطع من الأذنين مثل ما ذهب من السمع فأقل لم يكن فيما قطع منهما شيء لدخولهما في دية ربع السمع، ومتى قطع منهما أكثر مما ذهب من السمع كان له في الزائد على ما ذهب من السمع حكومة، هذا الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وإلى هذا يرجع ما في هذه الرواية، ولا يلتفت إلى ما يظهر في ألفاظها من الاضطراب؛ لأنه إنما وقع على غير تحصيل وبالله التوفيق.
[: يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت فتثبت]
ومن كتاب الزكاة قال وسئل عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت فتثبت أيكون له عقلها تاما؟ فقال إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها، فإن كان في ثبوتها ضعف فله بحساب ما يرى من نقص قوتها.
قيل له فالسن تطرح ثم يردها صاحبها فتثبت فقال يغرم عقلها تاما، قيل له فما فرق بين هاذين عندك؟ قال لأن الأذن إنما هي بضعة إذا قطعت ثم ردت استمسكت وعادت لهيئتها وجرى الدم والروح فيها، وإن السن إذا بانت من موضعها ثم ردت لم يجر فيها دمها كما كان أبدا ولا ترجع فيها قوتها أبدا، وإنما ردها عندي بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال، وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبدا.
قال محمد بن رشد: قد قيل أنه لا يقضي له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما وهو قول أشهب، وقيل إنه يقضي له فيهما جميعا بالدية وإن عادا لهيئتهما وهو ظاهر قول ابن القاسم في المدونة، ولا اختلاف بينهم في أنه(16/158)
يقتص من كل واحد منهما في العمد، وهو نص قول ابن القاسم في المدونة وقول أصبغ، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في سماع أصبغ من كتاب الديات.
[: يعدو عليه آخر فيقطع يده المقطوعة بعض أصابعها]
ومن كتاب المكاتب وسئل عن الذي يعدو على الرجل فيقطع بعض أصابعه عمدا أو خطأ فيستقيد أو يأخذ العقل ثم يعدو عليه آخر فيقطع يده المقطوعة بعض أصابعها، فقال إن كان الأول إنما أصاب من اليد أصبعا واحدة فإن المقطوعة يده يستقيد من قاطعها ولا يغرم له شيئا من أجل ما كان نقص من أصابعه، ولا يمنع القود لذلك، وإن كانت يده ناقصة أصبعين فما فوق ذلك لم يكن له أن يستقيد من قاطع يده؛ لأن يده بينة النقصان، فليس له أن يقطع يد القاطع التي لا نقصان فيها.
قلت له: أرأيت إن كان المتعدى عليه إنما أصيب أصبعه خطأ أو عمدا فاستقاد أو أعطي العقل ثم قطعت يده خطأ أيأخذ عقل يده صحيحة أم عقل ما بقي من أصابعه وقد قطعت من الكوع أو من المرفق فكيف إن كان الجاني هو الناقص أصبع من أصابعه أو أكثر من ذلك والمجني عليه صحيح اليد أو يكون الجاني أشد اليد وقد أخذ ممن فعل ذلك به عقلها؟ قال: وأما الذي تصاب يده وهي ناقصة أصبع وقد استقاد ممن كان قطع أصبعه أو أخذ عقلها فليس له على من قطع يده خطأ بعد قطع الأصبع إلا عقل ما بقي من اليد، وذلك عقل أربع أصابع وإن كانت ناقصة أصبعين أو أكثر فليس على قاطع يده بعد نقص أصابعه إلا عقل ما بقي فيها من الأصابع إلا أن(16/159)
يقطعها وقد أصيبت أصابعه كلها فلا يكون على قاطعها إذ ليس فيها شيء من أصابعها إلا حكومة يجتهد فيها الإمام، قال: وسواء قطعها بعد أن ذهب بعض أصابعها من الكوع أو من المرفق أو المنكب ليس فيها إلا عقل ما بقي من أصابعها، قال وإن كان الجاني هو الناقص بعض أصابعه فإن كان ناقص أصبع واحدة فقط فليس للمقطوع يده إلا القود وليس على الجاني أن يستقاد منه ويغرم عقل أصبعه الناقصة، قال: وإن نقصت أصابعه أكثر من أصبع خير المقطوع يده فإن شاء استقاد وليس له مع القود غرم شيء من الأشياء، وإن شاء ترك القود لنقصان يد قاطعه وأخذ العقل كاملا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها وبيان ما يتفق عليه من وجوهها مما يختلف فيه منها في رسم أوصى من سماع عيسى قبل هذا ولا وجه لإعادته.
[مسألة: الفصاص من الجاني الأشل]
مسألة قلت: فإن كان الجاني أشل؟ قال: يخير المجني عليه فإن شاء اقتص وقطع الشلا التي فيها حقه، وإن شاء تركها وأخذ العقل، قد قال ابن القاسم في كتاب الديات من كتاب أمر في الجاني إذا كانت يده شلاء ليس للمقطوعة يده إلا العقل، وليس له إلى قطع اليد الشلا سبيل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام فيها في رسم الجبائر والعقول من سماع أشهب فلا وجه لإعادته.
[مسألة: في يده أصبغ زائدة كم عقلها]
مسألة قلت أرأيت الذي في يده أصبغ زائدة أو في رجله كم عقلها؟(16/160)
قال: إن كانت قوتها تشبه قوة سائر الأصابع فعقلها تام، قلت: ما تمامها؟ أعقل سدس اليد أم يكون عقلها عشر من الإبل؟ قال: بل يكون عشر من الإبل، قلت: إذا يكون عقل الأصابع ستين من الإبل، قال: وإن قلت فإن قطعت يده أيكون عقلها ستين من الإبل كما كان يأخذ في أصابعها كلها أم لا يزاد على خمسين؟ قال: يكون عقلها ستين من الإبل مثل عقل جميع أصابعه الستة، قلت فإن كانت ضعيفة ليست على مثل قوة الأصابع لم يكن فيها إلا حكومة؟ قال: نعم، ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب استأذن سيده، قال عيسى: قلت لابن القاسم فإن قطع ما بقي من الأصابع بعد أن أخذ لها حكومة هل يقاص بما أخذ في الحكومة في دية اليد؟ قال: لا يقاص بالحكومة في دية اليد وعلى من قطع تلك اليد بعد الأصبع الدية كاملة، قلت: فإن قطعت اليد كلها وتلك الإصبع الزائدة فيها هل يكون فيها خمسمائة وحكومة الأصبع؟ قال: لا ليس فيها إلا خمسمائة وليس فيها حكومة، قال عيسى: قلت له فهل فيها قود إذا قطعت عمدا وهي في القوة والمنفعة كغيرها، قال: لا أرى فيها قودا لأنه ليس لها نظير، والعمد والخطأ فيها سواء، قال ابن القاسم وقد بلغني جميع ما فسرت لك في هذه المسألة عن مالك إلا في القود.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن في الأصبع الزائدة عقلها تاما إذا كانت في القوة كسائر الأصابع لأنه ليس ينتفع بها كلها انتفاعا واحدا وإن قطعت نقصت منفعة يده، ولا قصاص فيها إذ لا نظير لها، وأما إن لم تكن منفعتها كمنفعة سائر الأصابع فإنما فيها حكومة إذا أصيبت(16/161)
مفردة، فإن قطعت يده بالإصبع الزائدة التي إنما فيها حكومة فليس له إلا عقل يده دون حكومة للأصبع الزائدة.
وصفة الحكومة في الإصبع الزائدة التي إنما فيها حكومة أن ينظركم ينقص ذهاب الأصبع من قيمته لو كان عبدا فيؤخذ ذلك القدر من ديته، فإن لم ينقص ذلك من قيمته شيئا أو لعله يزيد فيه لكونه بعد اليد فإن كان ذلك، لم يكن فيه شيء إلا الأعب في العمد، ولا يدخل في ذلك من الاختلاف ما في العبد يخصى فتزيد قيمته لمخالفته في المعنى، وقد مضى في رسم القبلة من سماع ابن القاسم ما فيه بيان ذلك.
وقوله في الأصبع السادسة إذا كانت قوتها مثل قوة سائر الأصابع إن العمد فيها والخطأ سواء معناه في ارتفاع القصاص فيه خاصة دية العمد مربعة ودية الخطأ مخمسة، وقد تقطع الأصبع الزائدة مع غيرها مما يبلغ ثلث الدية فيكون العقل في ذلك في الخطأ على العاقلة وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون خلقة يده من أربع أصابع كم عقل أصبعه إذا قطعت]
مسألة قال يحيى: قلت لابن القاسم فالرجل يكون خلقة يده من أربع أصابع كم عقل أصبعه إذا قطعت؟ قال: عشر من الإبل، قلت له: إذا لا يكون في جميع أصابعه إلا أربعون من الإبل؟ قال وإن قلت فعقل يده أيكون قدر ما كان في أصابعه أم يتم عقلها، قال: لا يكون له إلا عقل ما كان يكون في أصابعه الأربع، وذلك أربعون من الإبل، قال: ولو لم يكن له إلا ثلاث أصابع أو أصبعان ثم قطعت يده ما كان عقلها إلا على قدر ما كان يكون في أصابعه الأربع، وذلك أربعون من الإبل إن كن ثلاثا فعقل يده ثلاثون من(16/162)
الإبل، وإن كانت أصبعين فعقل يده عشرون من الإبل، قلت أرأيت الذي يكون خلقته بنقصان الأصابع إذا قطع يد رجل أو قطعت يده عمدا كيف يستقيد أو يستقاد منه؟ قال على نحو ما فسرت لك في الذي نقص أصابعه من جناية، إن كان ناقص أصبع استقاد ممن قطعه ولم يكن لمن قطع يده إلا القود أيضا، وإن كان النقص أكثر من أصبع كان له على قاطعه العقل ولم يستقد، ولا يقطع له يد تامة بيده الناقصة، وإن قطع هو غيره خير المقطوعة يده فإن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله إذ لا فرق في نقصان الأصبع فما زاد على ذلك بين أن يكون نقصانه خلقة أو جناية فيما يجب له أو عليه من القصاص في العمد أو الدية في الخطأ، وقد مضت المسألة فوق هذا في هذا الرسم ومضت أيضا والتكلم عليها في رسم أوصى من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أنملة الأصبع التي ليس فيها إلا أنملتان]
مسألة قلت كم في أنملة الأصبع التي ليس فيها إلا أنملتان؟ قال: قال مالك: فيها نصف عقل أصبع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وفي الأنملة الثالثة التي في الكف حكومة، وقد قيل إن في كل أنملة من أنامل الإبهام الثالث ثلث عقل الإصبع وبالله التوفيق.
[مسألة: يفسد الثوب فسادا يجب عليه ضمانه]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يكسر بقرة الرجل أو شاته فيخاف صاحب البقرة أو الشاة عليها الموت فيذبحها ماذا يجب على(16/163)
كاسرها؟ قال: إن كان كسرها كسرا معطبا يجب من مثله على الكاسر غرم جميع القيمة فأراد ذبحه إياها رضا بحبسها ولا أرى على الذي كسرها غرما قليلا ولا كثيرا، وذلك أن صاحبها كان مخيرا إذا أعطبها الذي كسرها بين أن يأخذ جميع قيمتها ويبرأ منه إليها وبين أن يحبسها ولا يأخذ قدر ما نقص الكسر من ثمنها، فلما كان مخيرا بعد كسرها في حبسها بلا شيء يأخذه معها، أو تركها وأخذ جميع قيمتها فتعدى فذبحها بعد وجوب قيمتها له على كاسرها كان ذلك منه رضا بحبسها فلا أرى عليه شيئا غير شاته، قال: وإن كان الذي أصابها به غير عيب معطب لها فإنما له على الذي أصابها قدر ما نقص العيب من ثمنها فذلك واجب له على الذي تعدى عليها ذبحها سيدها أو تركها، وذلك أنه لم يكن مخيرا بين إسلام قيمتها وأخذها وبين حبسها بلا شيء يأخذه وإنما وجب له ما نقص من ثمنها على كل حال، فذبحه إياها لا يسقط عنه حقه الذي كان وجب له على الذي كان أصاب بالعيب.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة على خلاف المشهور من مذهبه في الذي يفسد الثوب فسادا يجب عليه ضمانه أنه مخير بين أن يضمنه قيمته ويسلمه إليه، وبين أن يمسك ثوبه ويأخذ منه ما نقصه؛ لأن الذي يأتي على قياس قوله هذا في هذه المسألة أن يكون له أن يأخذ منه ما نقصها وإن ذبحها بعد أن كسرها الجاني كسرا معطبا، وإنما يأتي جوابه في هذه المسألة على مذهب أشهب، وما روي عن ابن القاسم من أنه إذا كان الفساد كثيرا فليس له أن يضمنه ما نقص، وإنما له أن يضمنه قيمته أو يمسكه ولا شيء له، وهذا القول قائم لابن القاسم من كتاب الحدود في الحذف، وفي المسألة قول ثالث أنه لا خيار له في التضمين وإن كان الفساد كثيرا، وإنما له ما نقص كان الفساد قليلا أو كثيرا، وهو قول مالك في رسم باع غلاما(16/164)
من سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويقوم من قوله في المدونة: وقد كان مالك يقول يغرم ما نقص ولا يفرق بين قليل ولا كثير.
[: عبد مأذون له في التجارة اشترى جارية مع رجل ثم وطئها العبد فأولدها]
من سماع سحنون من ابن القاسم ونوازل سئل عنها قال سحنون: سئل ابن القاسم عن عبد مأذون له في التجارة اشترى جارية مع رجل ثم وطئها العبد فأولدها، قال: يقال للسيد إما أن تفتك عبدك بنصف قيمة الجارية وإما أن تسلمه وماله لصاحب الجارية.
قال محمد بن رشد: رواية سحنون هذه عن ابن القاسم في أن إيلاد العبد الجارية التي بينه وبين شريكه جناية منه على شريكه في نصفه منها، يخير سيده بين أن يفتكه بنصف قيمة الجارية وبين أن يسلمه وماله لصاحب الجارية خلاف قوله من رأيه في أول نوازله من كتاب الاستبراء أنها ليست بجناية لأنه كان مأذونا له في ذلك أي لما كان مأذونا له في وطء ما ملكت يمينه وكان له شرط في الجارية التي وطىء يقدر بهذه الشبهة ودرأ عنه الحد بها فخرجت من أن تكون جناية، فقال إن الجارية تباع فيما لزمه من نصف قيمتها يوم وطئها، ولا يباع الولد معها إذ ليس بملك له، فإن لم يكن في قيمتها وفاء بما لزمه من نصف قيمتها اتبع بالباقي دينا ثابتا في ذمته ولا يكون في رقبته من ذلك شيء، وهذا أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم هل الشركة شبهة لأحد الشريكين في حظ شريكه حسبما مضى بيانه في سماع سحنون من كتاب المزارعة وبالله التوفيق.
[مسألة: يزعم العبد أنه دفعه إلى سيده أو تلف]
مسألة وسألت أشهب عن العبد يأتي الرجل فيقول له سيدي أرسلني إليك في كذا وكذا فيعطاه، ثم يزعم العبد أنه دفعه إلى سيده أو تلف(16/165)
وينكر ذلك السيد، قال: أراه فاجرا خلابا وأرى ذلك في رقبته كالجناية، ولو كان حرا كان دينا عليه، وفي سماع عيسى من كتاب البراءة أنه لا ضمان عليه، وسألت عنها ابن القاسم فقال لي: إنما هو على أحد وجهين، إذا أقر السيد غرم، وإن لم يقر كان في رقبته لأنه خدع القوم، ولقد سئل مالك عن رجل استأجر عبدا من سيده على أن يبعثه ببعير إلى منهل من المناهل، فذبح العبد البعير بعدما سار به، وزعم أنه خاف على البعير الموت، قال مالك: ومن يعلم ذلك؟ أراه في رقبة العبد، فهذا بمنزلته.
قال محمد بن رشد: وجه رواية سحنون هذه عن أشهب وابن القاسم أن ذلك يكون في رقبة العبد إن أنكر سيده أن يكون بعثه معناه بعد يمينه على ذلك باتفاق إن حقق عليه باعث المال الدعوى بذلك، وعلى اختلاف إن لم يحقق عليه الدعوى بذلك، هو ما قاله في الرواية من أنه خلبه وغره، وفي ذلك اختلاف قد قيل إنه لا يكون إلا في ذمته لأنه دفع إليه باختياره ولو شاء لم يفعل، وقيل إن ذلك يكون في ذمته ولا يكون في رقبته إلا أن بالعدا خلاف ما ذكره من رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب البراءة أنه لا ضمان عليه. وقد سقط في بعض الكتب قوله إنه لا ضمان عليه، والصحيح ثبوته فبذلك تستقيم المسألة، وكذلك وقعت الرواية في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب العارية، ووجه رواية عيسى هذه أنه صدق العبد فيما ادعى من أن سيده بعثه مع يمينه فإذا حلف على ذلك كان بمنزلة إذا كانت له بينة على أن سيده بعثه، واستدل ابن القاسم في رواية سحنون عنه على أن ذلك يكون في رقبة العبد بقول مالك في الذي استأجر عبدا من سيده على أن يبعثه ببعير إلى منهل من المناهل فذبح العبد البعير، ووجه التنظير بينهما(16/166)
استواؤهما في أن صاحب البعير دفع البعير إلى العبد المستأجر باختياره، كما دفع صاحب المال إلى العبد باختيار، ولم يصدق العبد في مسألة مالك فيما زعم أنه خشي على البعير الموت كما لم يصدق العبد في مسألة ابن القاسم فيما زعم من أن سيده أرسله وقد مضى التكلم على هذا كله في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب العارية وفي سماع سحنون منه، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب البضائع والوكالات.
[مسألة: سيد العبد إذا جنى عبده ثم سباه العدو فصار في سهمان رجل]
مسألة قيل لسحنون أرأيت العبد يجني الجناية ويركبه الدين من تجارة وقد كان أذن له فيها سيده فيأسره أهل الحرب ثم يغنمه المسلمون فيصير في سهمان رجل من المسلمين ثم أتى سيده يريد افتكاكه كيف يفتكه؟ فقال لي: يفتكه بالأكثر من أرش الجناية أو مما صار لهذا الرجل في سهمانه، فإن كان الذي صار له في السهمان عشرة دنانير، وأرش الجناية عشرون أفتكه بالأكثر وهو أرش الجناية فيأخذ صاحب السهمان عشرة دنانير، ويأخذ صاحب الجناية عشرة دنانير، وإن كانت الجناية عشرة والذي صار له في السهمان عشرون أفتكه السيد بالأكثر، وذلك عشرون فيأخذها صاحب السهمان، وليس لصاحب الجناية شيء، وكذلك لو أن أم ولده سباها العدو ثم غنمها المسلمون فصارت في سهمان رجل بمائتي دينار ثم سباها العدو ثانية فغنهما المسلمون فصارت في سهمان رجل بمائة دينار ثم سباها العدو ثالثة فغنمها المسلمون فصارت في سهمان رجل بخمسين دينارا ثم يأتي السيد الأول وكل من صارت في سهمانه وهي في يد الذي صارت في سهمانه بخمسين دينارا أن السيد الأعلى أولى بالخيار يأخذها بالأكثر مما صارت به في المقاسم، وهي مائتا(16/167)
دينار، فيعطى الذي هي في يديه خمسين دينارا لأنه أولى بها من غيره، ولأنه أحدثهم ملكا، ثم يعطى الذي يليه مائة دينار ثم يعطى الثالث ما بقي الذي كانت في يديه بمائتي دينار وإن كان أولى من صارت في سهمانه بخمسين دينارا، والثاني بمائة دينار، والثالث بمائتي دينار فإن السيد الأول أولى بالخيار يفتكها بأكثر الأثمان وهي مائتا دينار، فيأخذها من الذي هي في يديه ويسقط حق صاحب المائة والخمسين، وكذلك لو كان في موضع أم الولد عبد فاسلك به مسلك ما وصفت لك حرفا بحرف تصب إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون إن سيد العبد إذا جنى عبده ثم سباه العدو فصار في سهمان رجل إن سيده يأخذه من الذي صار في سهمانه بالأكثر من أرش الجناية أو مما صار به لهذا الرجل في سهمانه خلاف مذهب ابن القاسم على ما حكاه عبد الحق عن بعض شيوخه القرويين من أنه إنما يفتكه على أصل ابن القاسم ومذهبه إن أحب افتكاكه بالثمن الذي المشتري وبالجناية جميعا؛ لأنه إذا أفتكه بالأكثر وكان في العبد فضل كثير كيف يستبد بالفضل؟ ومثل هذا في كتاب ابن المواز أن ربه لا يأخذه حتى يدفع الثمن والجناية، فإن أسلمه فاختلف هل يبدأ صاحب الجناية على المشتري فيدفع إليه الثمن ويأخذ العبد، أو يبدأ المشتري فيدفع الجناية إن شاء ويتمسك بالعبد، وكذلك مذهب ابن المواز في الذي سباه العدو ثالثة أن سيده الأول أحق به بالثمانين جميعا إن أراد أخذه خلاف قول سحنون هذا أنه يأخذه بأكثر الثمنين وخلاف ما في سماع سحنون من كتاب الجهاد أن سيده الثاني أحق به من السيد الأول، وأنه يأخذه بما وقع به في القسم الثاني، وقد مضى هذا في سماع سحنون من كتاب الجهاد.(16/168)
[مسألة: عدا عليه رجل فجرحه جرحا فعفا المجروح عن نصف جرحه]
مسألة قيل لسحنون ما تقول في رجل عدا عليه رجل فجرحه جرحا يمكن فيه القصاص أو لا يمكن، فعفا المجروح عن نصف جرحه هل ترى النصف الباقي يرجع إلى دية أم لا؟ قال: كل جرح لا يمكن فيه القصاص ولا يحكم على الجارح بالقصاص لما يخاف منه فحكمه حكم الخطأ، فإن عفا عن نصفه فله النصف الباقي، وإن أمكن فيه القصاص ويمكن إذا سقط النصف أن يقتص من نصفه اقتص وإن كان لا يمكن إذا سقط نصفه أن يقتص من النصف الثاني فالجارح بالخيار إن شاء أجاز ذلك له فعليه نصف عقل الجرح وإن قال لا أجيز لك عفوا قيل له إما أن تقتص وإما أن تعفو.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة على قياس القول بأنه ليس لولي المقتول أن يجبر القاتل على غرم الدية فيدخل في هذه المسألة الاختلاف بالمعنى من مسألة الأعور يفقأ عين الصحيح حسبما مضى بيانه في رسم القطعان من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: أمر رجلا بقتل عبده فقتله]
مسألة قيل لسحنون إن أصبغ يقول من أمر رجلا بقتل عبده فقتله إن على القاتل قيمته، فقال: ليس هذا القول بشيء لا قيمة على القاتل؛ لأن صاحب العبد هو الذي عرض عبده للتلف فهو بمنزلة مال له عرضه للتلف، والعبد مال من الأموال فليس على من أتلفها بأمر أربابها شيء، ويضرب قاتل العبد مائة ويسجن سنة، ويؤدب السيد الآمر أدبا موجعا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الواضحة مثل قوله ها هنا إلا أنه(16/169)
قال إنما أغرمته القيمة لجرمه، وقال يضرب القاتل والسيد مائة مائة سوط ويسجنان عاما، وقول أصبغ في الواضحة إنما أغرمته القيمة لجرمه ليس بجيد؛ لأن إغرامه القيمة لجرمه على قوله إنما هو من باب العقوبة في الأموال، وإذا عاقب القاتل بغرم ما لا يجب عليه غرمه فالسيد أحق ألا يعطي القيمة لجرمه في الأمر بقتل عبده، فقول سحنون أظهر، ولو قال أصبغ إنما أغرمته القيمة لإسقاط سيد العبد إياها عنه قبل وجوبها له عليه إذ لا تجب عليه إلا بعد قتل العبد لكان ذلك وجها؛ لأن لزوم إسقاط الحق قبل وجوبه أصل مختلف فيه والله الموفق.
[مسألة: جرحا عبدا لرجل جرحه أحدهما موضحة والآخر منقلة]
مسألة قال سحنون لو أن رجلين جرحا عبدا لرجل جرحه أحدهما موضحة والآخر منقلة أو قطع يده فمات العبد ولا يدري أمن أي ضربة مات، قال: يخير في أخذ القيمة من جارحه الأول تامة، ويرجع الأول على الثاني فيأخذ منه ما نقص جرحه من قيمة العبد فيكون له؛ لأنه قد غرم قيمته تامة، أو يأخذ القيمة من الثاني قيمته بالجرح الأول، ويرجع سيد العبد فيأخذ من الجارح الأول ما نقص جرحه.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يخير في أخذ القيمة تامة من جارحه الأول أو ناقصة من الجارح الثاني معناه أنه يصدق فيمن ادعى عليه منهما أنه مات من جرحه مع يمينه، فيكون الحكم فيه على ما ذكر؛ لأن من جرح عبده فحيي بعد الجرح ثم مات لا يستحق سيده قيمته إلا بعد يمينه أنه مات من ذلك الجرح على ما مضى في رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب وفي رسم المجالس من سماع أصبغ من كتاب الديات، وهو نص قول أصبغ في سماعه بعد هذا أنه يحلف على من شاء منهما أنه مات من جرحه ثم يكون الحكم فيه(16/170)
ما ذكره.
فإن قال لا أدري من جرح أيهما مات حلف على ذلك باتفاق إن حققت عليه الدعوى فيه وعلى اختلاف إن لم تحقق عليه الدعوى فيه ووجبت له قيمة عبده على الجارحين جميعا، إذ لا يشك في أنه مات من جرح أحدهما وحصل الدعوى بينهما فيما يجب على كل واحد منهما لأن كل واحد منهما يقول لم يمت من جرحي فلا يلزمني إلا ما يجب علي في جرحي إياه ولا مزية لواحد منهما في دعواه على ما يدعيه من أنه لم يمت من جراحه، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين وكان جرحهما سواء كانت القيمة عليهما بالسواء، وإن اختلفت جراحهما مثل أن يجرحه أحدهما موضحة ويقطع الآخر يده وقيمة العبد مائة وقطع يده ينقص من قيمته نصفها فيكون على الذي قطع يده خمسون نصف قيمته، وعلى الذي جرحه موضحة خمسة نصف عشر قيمته، ويكون الباقي من قيمته وهو خمسة وأربعون عليهما جميعا بالسواء؛ لأن كان واحد منهما يدعي أنها على صاحبه دونه، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين كان القول قول الحالف منهما، فإن كان الحالف هو الذي قطع يده كانت عليه نصف قيمته لقطع يده، وكانت بقية القيمة على صاحبه الذي نكل عن اليمين، وإن كان الذي حلف هو الذي [يدعي على صاحبه دونه] جرحه موضحة كان عليه نصف عشر قيمته وكانت بقية القيمة على صاحبه الذي نكل عن اليمين، فهذا تمام القول في هذه المسألة وقد قيل إنه إذا أبى السيد أن يحلف لم يكن له إلا ديات الجراح لاحتمال أن يكون مات من شيء آخر دخل عليه غير الجرحين، وهو قول أصبغ في سماعه بعد هذا، والذي ذكرناه هو على قياس رواية محمد بن يحيى عن مالك في أن من جرح عبده فمات من جرحه بعد أيام أن سيده يستحق قيمته على الذي جرحه دون يمين وبالله التوفيق.(16/171)
[مسألة: أم الولد إذا جنت جناية فلم يفتدها سيدها حتى جنت جناية أخرى]
مسألة وكتب إلى سحنون من طرابلس ما تقول ولي الله حفظك في أم ولد لرجل جنت على رجلين موضحتين فعلم السيد بأحدهما وغاب الآخر ولم يعلم بالغائب فأسلم السيد قيمة أم ولده إلى هذا الحاضر ثم جنت أيضا على رجل ثالث موضحة فقام الثالث وجاء الغائب الثاني ما ترى على السيد؟ وما يكون للأول من القيمة التي أسلمت إليه؟ وهل يدخل معه فيها الثاني أم لا؟ وما يكون للثالث؟ وكيف يكون الحكم والقضاء؟ فقال سحنون: إن كان قيمتها يوم قام أحد المشجوجين خمسين دينارا فأسلم سيدها خمسين وهي القيمة وهي دية الموضحة ثم قام المجني عليه الثالث وقدم الغائب فإنه يرجع السيد على الأول بخمسة وعشرين دينارا؛ لأنه كان له يوم قام نصف الجناية، ثم ينظر إلى قيمتها اليوم فإن كانت ستين دينارا قيل للثالث قد جنى عليك نصفها المفتك وهو قائم، والنصف الآخر وهو مرتهن بجناية الغائب، فنصف موضحتك في النصف الفارغ ويفتكه منك سيده بخمسة وعشرين دينارا لأن نصف جنايتك أقل من نصف قيمتها، وإنما يفتك السيد أبدا بالأقل، فالنصف الثاني بينك وبين صاحبك على ما بقي لك وله، فالثلاثون بينك وبينه أثلاثا، لك ثلثها وهو عشرة؛ لأن حقك خمسة وعشرون، ولصاحبك عشرون لأن حقه خمسون دينارا وهذا أحسن ما نعرف في ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة قد بين سحنون فيها وجه قوله بما لا مزيد عليه، وذلك أن أم الولد إذا جنت جناية فلم يفتدها سيدها حتى جنت جناية أخرى يلزم سيدها أن يفتديها بالجنايتين جميعا أو(16/172)
يسلم قيمتها إليهما، فتكون بينهما على قدر جناية كل واحد منهما، وإذا جنت جناية فافتداها سيدها ثم جنت جناية أخرى بعد ذلك على سيدها في الجناية الثانية ما كان عليه في الأولى من أن يفتديها بجميع الجناية أو يسلم إلى المجني عليه قيمتها، فهذا هو الأصل الذي بنى عليه سحنون قوله في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: باع عبده بعد أن جنى فحلف أنه لم يرد حمل الجناية]
مسألة وكتب إليه أيضا يسألونه عن رجل تحته جارية لرجل ادعى سيدها أنه باعها منه وقد أولدها وادعى الآخر أنه زوجه إياها وقد كانت الجارية إذ كانت عند سيدها جنت على رجل موضحة فعلم بذلك السيد، ثم إنه باعها فيما زعم ولم يعلم ذلك حتى قام المجني عليه والسيد الأول عديم أو مليء، وكيف إن جنت بعد إذ كانت عند الثاني ما تقول في الوجهين؟ والحكم فيهما من ترى يلزم الجناية؟ وما حال الجارية وولدها؟ قال سحنون: إن كان السيد موسرا وزعم أنه باعها وهو عالم بالجناية حلف بالله ما باعها وهو يريد حمل الجناية، فإن حلف قيل له ليس ما ادعيت من بيعها بالذي يبطل ما وجب في رقبتها من الجناية إذا كان من ادعى عليه جاحدا نافيا لقولك، فأنت بالخيار إن شئت فافتكه بالجناية وأنت على خصومتك، وإن شئت فأسلمها برقبتها، فإن نكل عن اليمين أغرم رأس الجناية وكان على خصومته، وإن كان فقيرا كانت الجارية لصاحب الجناية ولم تكن دعواه تبطل ما وجب في رقبتها، وليس هو ممن يفدي وقد زعم أن مثلها لا يتسلط عليه البيع حين زعم أنها أم ولد رجل، وإذا جنت عند الثاني قيل للسيد أيضا إن شئت فافتك، وإن شئت فأسلم وليس في الولد جناية، وقد ذكر بعض أصحابنا أن الولد أحرار.(16/173)
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه ليس على قياس قول ابن القاسم، وإنما هو على قياس قول غيره في المدونة، وأن الرجل إذا أعتق عبده بعد أن جني وحلف أنه لم يرد حمل الجناية كان للمجني عليه لأنه كذلك يلزم على قياس قوله إذا باع عبده بعد أن جنى فحلف أنه لم يرد حمل الجناية كان العبد للمجني عليه وانتقض البيع فيه خلاف قول ابن القاسم في أن المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن في جنايته، وبين أن يأخذ العبد، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى البيع، وإن أراد أخذ العبد كان للمشتري أن يفتكه منه بجنايته ويرجع على البائع بالأقل من الثمن أو مما أفتكه به، والذي يأتي في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في المدونة وما مضى في رسم شهد من سماع عيسى من هذا الكتاب إذا حلف البائع أنه ما علم بالجناية أو ما باعها وهو يريد حمل الجناية أن يكون على خصومته ابتداء، فإن صح له البيع كان المجني عليه بالخيار بين أن يجيز البيع وبين أن يأخذ قيمتها من المشتري لفواتها عنده بالولادة، فإن أجاز البيع وأخذ الثمن مضى البيع، وإن أخذ القيمة من المشتري انتقض البيع ورجع المبتاع على البائع بجميع الثمن إلا أن تكون الجناية أقل من الثمن فيكون من حق المبتاع أن يؤدي للمجني عليه جنايته ويتمسك ببيعه ويرجع على البائع بما أفتكها به إن شاء وإن لم يصح له البيع وانتقض كان البائع مخيرا بين أن يسلمها في الجناية أو يفتكها بها، فإن أسلمها فيها كانت ملكا للمجني عليه، وإن أفتكها بها عتقت عليه لإقرارها أنها حرة بإيلاد المشتري إياها الذي ادعى أنه باعها منه ويثبت نسب الولد من المشتري ويكونون أحرارا بإقرار البائع أنهم ولد المشتري من أمته الذي ادعى أنه باعها منه هو الذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم، وفي قول سحنون في هذه الرواية، وليس في الولد جناية، وقد ذكر بعض أصحابنا أن الولد أحرار، دليل على أنه لم يرهم أحرارا ورآهم له مماليكا بإقرار أيهم له بملكهم إذ زعم أنه إنما زوجه الأمة ولم يبعها منه ألا تعتق عليه الأمة إذا أفتكها خلاف ما ذكرناه من أنها تعتق عليها إذا أفتكها(16/174)
على مذهب ابن القاسم، وقد مضى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وجه الحكم في التداعي المذكور في الجارية وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد إذا جنى جناية بعد جناية]
مسألة وكتب إليه يسألونه عن رجل أودع رجلا جارية ثم إن المستودع عدا على غلام لرب الجارية فغصبه إياه فجنى العبد عند هذا الغاصب جناية قتل رجلا خطأ ثم قتل الجارية المستودعة خطأ فقام أولياء المقتول وقام رب الجارية يطلبون، قال سحنون: لرب الغلام المغصوب أن يأخذ قيمة غلامه فارغا بلا جناية عليه، وينظر إلى قيمة الجارية والدية، فإن كانتا معتدلتين ألفا ألفا قيل للغاصب الذي صار إليه العبد إنما صار إليك والجنايتان في رقبته، فلك أن تفتدي نصفه بدية المجني عليه أو تسلم نصفه ويبقى لك نصفه بدية المجني عليه أو تسلم نصفه ويبقى لك نصفه، ويقال له أيضا إن شئت أن تفتدي النصف الباقي بقيمة الجارية وهو ألف وإلا فأسلم الباقي في يديك، قيل له أرأيت إن جنى العبد المغصوب على رجل خطأ ثم جنت الجارية على العبد أيضا جناية خطأ فقام أولياء المقتول وقام أولياء الجارية على الغاصب كيف الحكم فيه؟ قال سحنون: إن أخذ المغصوب حقه قيمة غلامه فهو يأخذ قيمته فارغا بغير جناية، قال: يقال لرب الجارية تسلم جاريتك بما نقص العبد أو يفتك فإن سلم فإنه يقال للغاصب قد صار العبد إليك والجارية التي جنت عليه، وهما جميعا مرتهنين بجناية الحر، فإن شئت فأسلم العبد والجارية إلى أولياء الحر المقتول، وإلا فافتكهما جميعا بالدية وهي ألف، فإن أفتك رب الجارية الجارية على نقص العبد وكان الذي نقص(16/175)
العبد ألف دينار فأكثر قيل لرب العبد ادفع ألفا إلى أولياء الجناية فتصير كأنك افتككت العبد بالدية، وإن كان ما نقص العبد أقل من ألف دينار قيل لرب العبد إن شئت فافتك العبد وارشه بالدية، وإن شئت فأسلم العبد وارشه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن العبد المغصوب بجنايته والجناية عليه وفي أن العبد إذا جنى جناية بعد جناية يخير سيده بين أن يفتكه بجميع ما جنى وبين أن يسلمه إلى أولياء الجنايات فيكون بينهم على قدر جناياتهم، وفي أن العبد إذا جنى ثم جني عليه يخير سيده بين أن يفتكه وما أخذ في الجناية عليه بما جنى وبين أن يسلمه وما أخذ في الجناية عليه بما جناه وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد بين شريكين عدا عليه أحد الشريكين]
مسألة وعن عبد بين شريكين عدا عليه أحد الشريكين ففقأ عينه عمدا وأصابه الشريك الآخر بضربة خطأ ففقأ بها عينه الأخرى وكيف إن كان الخطأ أولا والعمد آخرا. إلا أن الشهود لا يعرفون الجاني الأول من الجاني الآخر، ولا الخطأ من العمد، إلا أنهم يشهدون على الفعل، وأنكر السيدان ما شهد به عليهما، وكيف إن أقرا بالخطأ وأنكرا العمد وادعى كل واحد منهما على صاحبه جناية العمد وأقرا بالخطأ ما القول والحكم فيه؟ قال سحنون: سقطت شهادة الشهود وسقطت مسألتك من أن تكون مسألة، وأنا أكره لكم مثل هذا وما قبله من مسائل الطلاق فإن هذا ليس من مسائل الفقهاء، ولكن إن كان أحدهما فقأ العين الأول عمدا وهو معروف ثم فقأ الآخر خطأ وهو معروف قبل أن ينظر في أمر الأول فإن على الأول نصف ما نقصه يوم جنى عليه الآخر وهو مفقوء العين، فيقال ما قيمته مفقوء العين(16/176)
الأول؟ فيقال عشرون، ثم يقام وهو مفقوء الآخر فيقال عشرة، فيرجع الفاقي في الأول على الفاقي الآخر بخمسة، ثم يقال كم قيمته يوم يقام به فيعتق بالمثلة فيقال عشرة فيضمن نصفها ويعتق عليه لأنه إنما يعتق عليه بالمثلة يوم يقام به ليس يوم جني عليه، ويكون عليه نصف قيمة ما نقصته جناية العمد، وإن كان الفاقي الأول خطأ والثاني عمد أغرم الأول للثاني نصف ما نقصه، ثم ينظر إلى قيمته يوم يقام به فيعتق على الممثل به فيغرم نصفه للشريك ويعتق عليه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة سقطت شهادة الشهود وسقطت المسألة من أن تكون مسألة ليس بصحيح إذ لشهادتهم فيما شهدوا به تأثير يوجب إذ قد شهد عليه الشهود أنه هو قطع أحد يديه في المسألة حكما إذا شهدوا أن أحدهما قطع يده عمدا وأن الآخر قطع يده الأخرى خطأ، فإن لم يثبتوا من كان المتعمد منهما أن يكون جرحه أصلا وادعى هو على صاحبه أنه هو قطع يده جميعا لم يصدق واحد منهما في أنه لم يجرحه أصلا، إذ قد شهد عليه الشهود أنه قطع إحدى يديه ولا قبلت دعواه على صاحبه أنه قطع يديه جميعا، إذ قد شهد عليه الشهود أنه هو قطع أحد يديه ويقال لهما قد أحقت الشهادة للعبد العتق بالمثلة على أحدكما، فكان وجه الحكم في ذلك أن يحلف كل واحد منهما على ما ادعاه، فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن اليمين عتق العبد عليهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين عتق على الناكل منهما عن اليمين وغرم نصف قيمته للحالف، ولولا البينة لحلف كل واحد منهما لصاحبه على ما ادعاه عليه وبرئ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين غرم الناكل للحالف نصف ما نقصه قطع يديه جميعا، وإن أقر بالخطأ وأنكر العمد فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه هو الذي جرحه عمدا وأنه هو الذي جرحه أولا أو أنه هو الذي جرحه آخرا لكان وجه الحكم في ذلك أن يحلف كل واحد منهما على ما يدعيه من ذلك، فإن حلفا جميعا أو(16/177)
نكلا عن اليمين جميعا عتق العبد عليهما جميعا بالمثلة التي قد تحققت بالبينة على أحدهما، ولم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين عتق العبد على الناكل منهما عن اليمين، فإن كان هو الأول منهما كان عليه لصاحبه نصف ما نقصته جنايته وكان له هو على صاحبه نصف ما نقصته جنايته أيضا، ويكون عليه نصف قيمته يوم يقام به فيعتق عليه بالمثلة.
وتفسير ذلك أن يقال ما قيمته صحيح العينين يوم جنى عليه الأول؟ فإن قيل مائة قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليد الأول؟ فإن قيل ثمانون غرم الأول للثاني ما بين القيمتين وذلك عشرة دنانير، ثم يقال ما قيمته يوم جنى عليه الثاني مقطوع اليد الأولى؟ فإن قيل سبعون قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليدين جميعا؟ فإن قيل ثلاثون غرم الثاني للأول ما بين القيمتين وذلك عشرون ثم يقال ما قيمته مقطوع اليدين يوم يقام به للعتق بالمثلة فإن قيل عشرون كان على الأول نصفها عشرة دنانير وعتق عليه وكان له ولاؤه، وعلى هذا المثال لا يكون لأحدهما على صاحبه شيء؛ لأن الأول وجب له على الثاني في جنايته عليه عشرون، ووجب للثاني على الأول عشرة في جنايته عليه، وعشرة في تقويمه عليه للعتق، وهذا هو الحكم إذا ثبت أن جناية الأول كانت عمدا وجناية الثاني كانت خطأ وهو معنى ما ذكره سحنون في الرواية.
وإن كان الناكل عن اليمين هو الآخر منهما كان له على الأول نصف ما نقصته جنايته عليه يوم جني عليه، وكان للأول عليه نصف ما نقصته جنايته عليه يوم جني عليه وعتق عليه بالمثلة، فكان عليه بذلك نصف قيمته يوم يقام عليه بذلك.(16/178)
وتفسير ذلك أن يقال ما قيمته صحيح اليدين يوم جنى عليه الأول؟ فإن قيل مائة قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليد الأولى؟ فإن قيل ثمانون كان للثاني على الأول ما بين القيمتين وذلك عشرة دنانير، ثم يقال ما قيمته يوم جنى عليه الثاني مقطوع اليد الأولى؟ فإن قيل سبعون قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليدين جميعا؟ فإن قيل سبعون قيل ما قيمته يومئذ مقطوع اليدين جميعا؟ فإن قيل ثلاثون كان للأول على الثاني ما بين القيمتين وذلك عشرون، ثم يقام يوم يقام عليه للعتق بالمثلة، فإن قيل عشرون كان عليه نصف عشرة دنانير ويعتق عليه، وكان له ولاؤه، فيكون للأول على الثاني على هذا المثال عشرون دينارا، وهذا هو الحكم فيه إذا ثبت أن جناية الأول عليه كانت خطأ وجناية الثاني عمدا، فقول سحنون في الرواية وإن كان الفاقيء الأول خطأ والثاني عمدا غرم الأول للثاني نصف ما نقصته، ثم ينظر إلى قيمته يوم يقام به فيعتق على الممثل به فيغرم نصفه للشريك ويعتق عليه معناه إذا أقيم عليه بالعتق مثل يوم جني عليه، وأما إن تأخر القيام عليه في العتق بالمثلة فعلى ما ذكرناه؛ لأن القيم قد تختلف باختلاف الأيام، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى قبل رجل أنه فقأ عينه خطأ فقال المدعى عليه إنما فقأتهما عمدا]
مسألة وكتب إليه في رجل ادعى قبل رجل أنه فقأ عينه خطأ فقال المدعى عليه إنما فقأتهما عمدا كيف الأمر والحكم فيه؟ قال سحنون لو أن الجاني ساعد المجني عليه في أنه فقأ عينه خطأ ما كان عليه شيء لأن العاقلة لا تحمل الإقرار.
قال محمد بن رشد: قوله إن الجاني لو لو ساعد المجني عليه في أنه فقأ عينه خطأ ما كان عليه شيء لأن العاقلة لا تحمل الإقرار صحيح على(16/179)
ما قاله، وكما لا يلزمه شيء بإقراره بالخطأ كذلك، لا يلزمه شيء بإقراره بالعمد إذ لا يلزمه في العمد إلا القصاص وهو لا يجوز له أن يقتص منه ما دام مقيما على قوله إنه إنما فقأ عينه خطأ، ولو كذب نفسه فرجع إلى قول الجاني إنه فقأها عمدا لجرى ذلك على الاختلاف في الذي يقر للرجل بالحق فينكر ذلك المقر له ثم يرجع إلى ادعاء ما أقر له به، وهذا عندي في الجناية ما دام الجاني على إقراره بالعمد، وأما إن رجع عن إقراره بالعمد قبل أن يقتص منه فلا يقتص منه، بخلاف الحقوق؛ لأن له في الحقوق أن يأخذ منه ما أقر له بلا إذا رجع إلى تصديقه وإن رجع هو بعد ذلك عن إقراره، وأما إذا رجع عن إقراره قبل أن يرجع هو إلى تصديقه فلا شيء للمقر له في الحقوق ولا في القصاص وبالله التوفيق.
[مسألة: ليس على السيد إذا جنى عبده أكثر من أن يسلمه بجنايته]
مسألة وكتب إليه أيضا في رجل شهد لعبد أن مولاه أعتقه فأصاب العبد الشاهد بضربة خطأ فقأ بها عينه كيف الحكم فيه؟ قال سحنون ليس للمجني عليه في العبد شيء والعبد لسيده.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذ ليس على السيد إذا جنى عبده أكثر من أن يسلمه بجنايته، والمجني عليه لا يصح له أن يأخذه لإقراره بأنه حر بما شهد له به من عتق سيده إياه وبالله التوفيق.
[مسألة: يفقأ عين عبده أو عين امرأته فيقولا عمدا ويقول خطأ]
مسألة وكتب إليه أيضا ما تقول في الرجل يفقأ عين عبده أو عين امرأته فيقول العبد والمرأة فعل ذلك بنا عمدا، وقال السيد والزوج بل كنت أؤدبهما فأخطأت من ترى القول قوله؟ قال: القول قول العبد والمرأة لأن العداء قد ظهر، قلت له ولم؟ وقد أذن له في الأدب يؤدب عبده وامرأته رأيت الطبيب إذا قطع فجاوز فقال زلت(16/180)
يدي فأخطأت وادعى عليه العمد، فقال: الطبيب قد ظهر فعله أنه بدا بما يجوز له، وهذا الزوج والسيد لم يظهر لنا منهما غير العداء، ثم قال بعد ذلك: اكتب إليه أنه لا شيء على السيد ولا الزوج حتى تظهر العداء والقول قولهما.
قال محمد بن رشد: أما الطبيب فلا شك ولا اختلاف في أن ما تجاوز فيه محمول منه على الخطأ حتى يعلم خلاف ذلك، أما السيد في عبده والزوج في امرأته فلكلا القولين المذكورين وجه من النظر، والأظهر في السيد أن يحمل أمره في عبده على الخطأ فلا يعتق عليه بما ظهر من التمثيل به إلا أن تعلم أنه قصد التمثيل به، ويباع عليه إن دعا إلى ذلك العبد، وأما الزوج في امرأته فالذي أراه في ذلك ألا يحمل أمره على الخطأ، فيلزم ذلك العاقلة، ولا على العمد فيقتص منه لها، ويجعل ذلك كشبه العمد الذي يسقط فيه القصاص. وتكون فيه الدية على الجاني في ماله، وإن طلبت المرأة أن يفرق بينه وبينها وزعمت أنها تخافه على نفسها طلقت عليه طلقة بانية، وقد مضى هذا المعنى في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى من كتاب العتق وبالله التوفيق.
[: أم ولد النصراني تسلم فتجني من قبل أن تعتق عليه]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم أخبرنا محمد بن خالد قال: سألت ابن القاسم عن أم ولد النصراني تسلم فتجني من قبل أن تعتق عليه أيكون عقل جنايتها عليها تتبع به أم على سيدها؟ فقال: بل عليها وذلك قول عبد المالك بن عبد العزيز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد تقدمت والكلام عليها في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى فلا معنى لإعادته.(16/181)
[مسألة: جرحه رجل عمدا فعقل له جرحه طوله وغوره وكتب له ذلك في كتاب]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل جرحه رجل عمدا فعقل له جرحه طوله وغوره وكتب له ذلك في كتاب ليقتص له من صاحبه إن هو برئ فذهب منه الكتاب الذي فيه معرفة جرحه وقد أصابه من ذلك الجرح عيب أو شلل والبينة لا تثبت طول غوره ولا جرحه، قال يستنزل البينة في معرفة الجرح إلى ما لا يشكون فيه، فيقال لهم قدروا ذلك على الذي ترون وتثبتون معرفته واطرحوا ما تشكوا فيه، فإذا ثبتوا على أمر اقتص المجروح من الجارح ما استقرت عليه معرفتهم، فإن عابه ذلك أو شله كما عاب الأول فذلك القصاص، وإن لم يعبه ولم يشله عقل للأول عيبا وشلله فأخذ ذلك من الجارح، قيل له فهل ينتفع المجروح بشهادة الذي عقل جرحه وعرف طول غوره إذا لم يكن له أحد يعرف قيس جرحه غيره؟ قال: نعم شهادته له تامة إذا كان عدلا مع يمينه.
قال محمد بن رشد: وإذا استنزلت البينة فشهد على ما لا يشك فيه حلف الجارح فيما ادعاه المجروح مما زاد على ذلك فاقتص منه على ما شهدت به البينة، فإن نكل الجارح عن اليمين حلف المجروح على ما ادعى واقتص له منه، وهو قول أشهب، قال أشهب في المجموعة وإذا جرح الرجل الرجل موضحة وعليه بينة لا يدري كم طولها ثبت له موضحة وليس في العمد إلا القود فليوقف الشهود على أقل موضحة، فإن وقفوا عنده ولم يجاوزوه حلف المشهود عليه على ما فوق ذلك وأقيد منه بذلك، وإن لم يحلف حلف الآخر واستقاد على ما ادعى، وقاله سحنون فيمن جرح رجلا عمدا ولو يؤخذ قياس من الجرح حتى يرى فليدع الجارح فيصف قدر ضربته وأين بلغت ويحلف على ذلك ويقتص على ما أقر به، وإن لم يصف وأبى قيل للمجروح(16/182)
صف ولا حلف ويقتص له على ما حلف وبالله التوفيق.
[: يجرح الرجل وليس له شاهد أو يضربه أيستحلف]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم ونوازل سئل عنها قال أصبغ سئل ابن القاسم عن الرجل يجرح الرجل وليس له شاهد أو يضربه أيستحلف؟ قال: لا ينبغي أن يستحلف بقول المجروح والمضروب إلا أن يكون مشهورا بذلك فإن كان كذلك رأيت أن يحلفه، فإن أبى سجن حتى يحلف، وقاله أصبغ وإن طال سجنه ولم يحلف ولم يعثر عليه بشيء عوقب إن أبى ذلك وخلي سبيله إلا أن يكون مبرزا في ذلك فيخلد في حبسه، قال أصبغ المبرز المتردد في ذلك الشيء المصر فيه بالحنث، وقد كتب عمر بن عبد العزيز في بعض هذا المعروف بالسرقة بالمبرز فيها.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات المبر وفي بعضها المبرز ومعنى المبرز في الشيء الظاهر فيه المشهور به، مثل المبر فيه سواء في المعنى، يقال أبر فلان بمعنى ظهر يبر فهو مبر، والمفعول به مبر، ويقال أبر فلان على خصمه بمعنى ظهر، قال طرفة بن العبد:
يكشفون الضر عن ذي ضرهم ... ويبرون على الآلىء المبر
أي يظهرون على الآلئ الظاهر، يمدحهم بذلك، وقد مضى في رسم العقول والجبائر من سماع أشهب قبل هذا تحصيل القول في إيجاب اليمين على الجارح بمجرد دعوى المجروح دون سبب أو بسبب لا يبلغ أن يكون شاهدا عدلا، وكيف إن كان شاهدا عدلا فلا معنى لإعادته.(16/183)
[مسألة: يوضح الرجل موضحة فيقتص له منه فيقصر الذي يقتص له عن حقه]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يوضح الرجل موضحة فيقتص له منه فيقصر الذي يقتص له عن حقه، ثم يعلم بذلك، قال إن علم بحضرة ذلك قبل أن يبرأ أو ينبت اللحم أتم له ذلك، وإن برأت فلا شيء له لتمام ذلك ولا عقل ولا غير ذلك؛ لأنه أمر قد اجتهد فيه وأمكن من حقه واقتص وأتى بمن يقتص له واجتهد، فلا أرى له شيئا، قال أصبغ: لا يعجبني ما قال جملة، وأرى إن كان قصر عن القصاص شيئا يسيرا جدا فالقول ما قال ولا يقاد له ولا يعذب له قبل برءه ولا بعده ولا شيء فيه، وإن كان شيئا كثيرا متفاوقا أو متفاحشا فإنه إن كان في دمه وحرارته اقتص التمام واستتم له، وإن كان قد برد وأخذه الدواء فلا يرجع إليه برأ أو لم يبرأ لأني أخاف أن يكون متلفا أو عذابا أو يجعل الباقي عقلا ولا يبطل كنحو الذي يقتص ثم يترامى، ويبرأ المقتص منه وإن كان هو المقتص لنفسه ممن تأتى له أو يجعله سلطان فذلك سواء.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ حسن ينبغي أن يحمل على التفسير لمذهب ابن القاسم بأن يقسم ما قصر فيه من حقه على ثلاثة أقسام، يسير جدا كالعشر ونحوه، ويسير كالربع وما دون الثلث، وكثير كالثلث فما فوقه، فإن كان يسيرا جدا فلا يقتص له تمام حقه، وإن كان الأمر قريبا قبل أن يبرد ويأخذه الدواء ولا يكون له فيه شيء كما قال أصبغ في اليسير جدا، وإن كان يسيرا كالربع وما دون الثلث فإن كان بفور ذلك قبل أن يبرد ويأخذه الدواء وينبت اللحم اقتص له تمام حقه، وإن كان قد فات ذلك وأخذه الدواء لم يقتص له تمام حقه ولا كان له فيه شيء كما قاله ابن القاسم، وإن كان كثيرا كالثلث وما فوقه اقتص له تمام حقه إن كان بفور ذلك قبل أن يبرد ويأخذه الدواء، وإن فات ذلك ولم يعثر عليه بفوره حتى أخذ الجرح الدواء عقل له(16/184)
تمام حقه كما قال أصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: قطع يد رجل من المنكب ويد آخر من الكف]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عمن قطع يد رجل من المنكب ويد آخر من الكف، فقام به صاحب المنكب فقطع، ثم جاء الآخر أنه لا شيء له؛ لأن القطع الأول يأتي على القود لهما جميعا، وإن قام به صاحب الكف أولا فقطع له، ثم جاء صاحب المنكب لم يكن له إلا أن يقطع ما بقي من العضد فقط، قال أصبغ مثله، وأحب إلي ألا يقطع له لعذابه وقطع أرابه مرتين في فور واحد، ويعقل له ما بقي إلا أن يشاء أن يمكنه من نفسه لذلك ويأبى العقل فليس عليه غير ذلك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: أما إذا قام به صاحب المنكب أولا فقطع له فبين أنه لا شيء للثاني؛ لأن الذي كان حقه فيه قد ذهب، وأما إذا قام به أولا صاحب الكف فقطع له ثم جاء الثاني فقول ابن القاسم الذي قال به أصبغ أولا أنه ليس له إلا قطع ما بقي من العضد هو الصحيح في النظر، وأما ما استحسنه أصبغ ورجع إليه من أنه لا يقطع له ما بقي من العضد ويعقل له ما بقي إلا أن يشاء أن يمكن من نفسه لذلك ويأبى العقل فليس عليه غير ذلك فهو بعيد، وما اعتل به في ذلك من أنه لا يعذب مرتين في قود واحد ليست بعلة صحيحة؛ لأنه قد عذب هو كل واحد منهما بالقطع، فواجب أن يعذب بالقصاص مرتين؛ لأن ذلك حق لرجلين، ولو قال إن الخيار في ذلك للذي قطعت يده من المنكب بين أن يقتص فيقطع ما بقي من العضد وبين أن يأخذ العقل لكان لذلك وجه؛ لأن من حجته أن يقول لا أقطع بقية عضوه بيدي الكامل، ولو قاما معا لكان الأشبه أن يقتص لهما جميعا قصاصا واحدا فيقطع يده لهما جميعا من المنكب؛ لأن القصاص للذي قطع يده من الكوع، وفي ذلك اختلاف، فقد قال أصبغ فيمن قطع أصابع رجل ثم قطع كفه تلك التي(16/185)
قطعت منها الأصابع إنه يقطع أصابعه ثم كفه إذا لم يكن ذلك في ضربة واحدة، وإذا قال ذلك أصبغ في رجل واحد فأحرى أن يقوله في رجلين إذا قاما معا، وإذا قاله في الرجلين إذا قاما معا فأحرى أن يقوله في الرجلين إذا قام صاحب الكف أولا فقطع له، ثم قام الثاني، فقول أصبغ في هذه المسألة يرد ما استحسنه في هذه الرواية، وأما ابن القاسم فقال في الذي قطع أصابع رجل ثم قطع بعد ذلك كفه إنه لا يقطع أصابعه ثم كفه، وقطع الكف يأتي على قطع الأصابع كالذي قتل وقطع إنه لا يقطع ثم يقتل وبالله التوفيق.
[مسألة: يشج الرجل موضحة فيصالحه على موضحة ثم تعود منقلة]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل يشج الرجل موضحة فيصالحه على موضحة ثم تعود منقلة ليس يكون العقل في الجراح ولا الصلح إلا بعد البرء وتبين الجرح، فإن كان هذا قد صالح قبل ذلك فأرى أن يرجع بفضل ما بين الموضحة والمنقلة، فإن مات أقسم أولياؤه أنه مات منها وكان لهم عقله كاملا ويردون ما أخذوا من الصلح. قال محمد بن رشد: قوله إنه يرجع بفضل ما بين الموضحة والمنقلة صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه إنما صالح على الموضحة والعمد والخطأ في ذلك سواء، وهذا الخلاف إذا صالح على قطع يده ثم تآكلت إلى العضو حسبما مضى بيانه في رسم العرية من سماع عيسى، وأما إن مات من ذلك الجرح فيفترق فيه العمد والخطأ على مذهب ابن القاسم، ففي الخطأ يرد أولياؤه على الجارح ما أخذ منه في الصلح، ويقسمون فيستحقون الدية على العاقلة، وهو معنى قوله الذي تكلم عليه في هذه الرواية والله أعلم، وفي العمد يخير ورثة المقتول بين أن يتمسكوا بالصلح وبين أن يردوه ويقسموا فيقتلوا، وقد قيل إنهم يخيرون في العمد والخطأ، وقيل إنهم لا يخيرون(16/186)
في العمد ولا في الخطأ، وقد مضى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب الديات بيان هذا والقول فيه وفي المصالحة على الجرح وعلى ما تراقى إليه مما دون النفس أو عليه وعلى ما تراقى إليه وإن أتى ذلك على النفس فلا معنى لإعادته.
[مسألة: مدبرجرح رجلين موضحتين]
مسألة وسئل أصبغ عن مدبر جرح رجلين موضحتين فدفع السيد إلى أحدهما دية جرحه ولم يعلم بذلك صاحبه ثم مات سيده ولم يترك مالا غيره فعتق ثلثه ورق ثلثاه، فقام المجروح الذي لم يأخذ من المدبر شيئا يطلب دية جرحه، قال: أرى أن يرجع إلى المجروح الذي أخذ من السيد دية جرحه فيؤخذ منه نصف ما بيده ثم يدفع إلى ورثة السيد ثم يخير الورثة في أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي العبد وفي أن يفتدوه بثلثي دية الجرحين، فإن أسلموه إليهما ضرب فيه المجروح الذي لم يأخذ من جرحه شيئا بجميع دية جرحه، وضرب الآخر الذي أخذ نصف جرحه بنصف جرحه الذي لم يأخذ فيه شيئا ثم يرجعان بما بقي لهما من تمام دية جرحيهما على الثلث الذي عتق من المدبر فيتبعانه به في ذمته يتبعه الذي لم يكن أخذ شيئا بثلث دية جرحه، والآخر بسدس جرحه.
قال محمد بن رشد: قوله ثم يخير الورثة في أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي العبد وفي أن يفتدوه بثلثي دية الجرحين غلط ووهم؛ لأن الصحيح في ذلك على قياس قوله أن يخيروا بين أن يسلموا إلى المجروحين ثلثي العبد وفي أن يفتدوه بثلثي ما بقي من دية الجرحين إذ قد تأدى من ذلك إلى أحدهما نصف دية جرحه، والمسألة كلها معترضة لا تصح في النظر، والواجب فيها على ما يوجبه القياس والنظر أن يرجع إلى المجروح الذي أخذ من السيد دية جرحه فيؤخذ منه نصف ما بيده فيدفع إلى المجروح الآخر لا(16/187)
إلى ورثة سيد المدبر لاستوائهما فيما كان لهما على المدبر فإذا رجع بذلك على صاحبه استويا فيما صار إليهما من دية جرحيهما وفيما بقي لهما على المدبر، فيخير الورثة فيما رق لهما من المدبر وهو ثلثاه بين أن يسلموه إلى المجني عليهما في ثلثي ما بقي لهما من دية جرحيهما أو يفتكوه بذلك، فإن أسلموه ما كان بينهما بالسوية ثلثه لكل واحد منهما، وإن أفتكوه بذلك كان ما أفتكوه به بينهما بنصفين، ثم يرجعان بما بقي لهما من تمام دية جرحيهما على الثلث الذي عتق من المدبر فيتبعانه به في ذمته على السواء فيما بينهما إذ لا فضل لأحدهما في ذلك على صاحبه، إذ قد رجع الذي لم يأخذ منهما من السيد شيئا على صاحبه بنصف ما أخذه منه، وهذا بين والحمد لله.
[مسألة: العبد إذا جرح فمات من جرحه بعد أن حيي]
مسألة وسئل عن رجل أوضح عبد رجل، وأن رجلا آخر أوضح العبد فمات ولم يدر من أي الموضحتين مات، قال أصبغ: يحلف سيده على أيهما شاء لمات منها وتكون له قيمته، وإن لم يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يكون له قيمته على الذي حلف أنه مات من جرحه كلام مجمل يفسره ما تقدم من قول سحنون، في سماعه أنه إن كان الأول كان عليه قيمته صحيحا، ورجع هو على الثاني بما نقصه جرحه، وإن كان الثاني كان له عليه قيمته بالجرح الأول، ورجع على الأول بما نقصه جرحه، وقوله إنه إن لم يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح صحيح لاحتمال أن يكون مات من غير الجرحين، ويأتي على ما روي عن مالك من أن العبد إذا جرح فمات من جرحه بعد أن حيي يستحق سيده قيمته على جارحه دون يمين على ما ذكرناه في تفسير قول سحنون المذكور في سماعه وبالله التوفيق.(16/188)
[مسألة: حلف بحرية غلامه ليضربنه فجنى جناية قبل أن يضربه]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل حلف بحرية غلامه ليضربنه فجنى جناية قبل أن يضربه، قال: يخير في افتدائه أو إسلامه، فإن أسلمه رد وعتق عليه مثل البيع، ويرجع المجروح على السيد بقيمته إلا أن تكون القيمة أقل فليس له إلا الأقل من قيمة العبد أو الجناية.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم هذا في هذه الرواية إنه إن أسلمه رد وعتق عليه مثل البيع خلاف مذهبه وروايته عن مالك في المدونة في أن من حلف بعتق غلامه ليضربنه فباعه يرد البيع ويبقى العبد في يده حتى يبر فيه بضربه أو يموت فيعتق في ثلثه مثل قول ابن دينار في كتاب العتق الأول وكتاب الإيلاء منها أنه إذا باعه يرد البيع ويعتق عليه ومثله لمالك في الواضحة من رواية ابن الماجشون عنه، والذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه إن أسلمه في الجناية يرد ويكون عليه للمجني عليه الأقل من قيمته أو الجناية ولا يعتق عليه، فإن لم يبر في ضربه حتى مات عتق في ثلثه ولو لم يعثر على ذلك حتى أعتقه المشتري أو الذي أسلم إليه في الجناية، يعتق في البيع على البائع ورد الثمن على المشتري، وفي الجناية على سيده الذي أسلمه وغرم للمجني عليه الأقل من قيمته أو الجناية على مذهب مالك وابن القاسم لم يختلف في ذلك قولهما وقد مضى من قولنا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب العتق ما فيه بيان هذا لمن تدبره ووقف عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد لرجل جرح رجلين فأسلم إلى أحدهما ولم يعلم بالآخر]
مسألة قال أصبغ سألت عبد الرحمن بن القاسم عن عبد لرجل جرح رجلين فأسلم إلى أحدهما ولم يعلم بالآخر فجرح عند المسلم إليه رجلا فقام عليه هو والأول الذي لم يعلم بجرحه، فقال ابن(16/189)
القاسم يرجع المجروح الذي لم يكن علم به في العبد بقدر جرحه ثم يخير هو والمسلم إليه العبد الأول في أن يفتكاه من الثالث أو يسلماه إليه، فمن شاء منهما أفتك ومن شاء أسلم وليس للسيد الأول الذي كان أسلمه في ذلك شيء، قال ابن القاسم: وإن لم يكن جرح ثالثا حتى قام المجروح الثاني الذي لم يكن علم به فإنه يرجع في العبد بقدر جرحه ولا يكون للسيد فيه افتكاك ما يصيب هذا الثاني من ذلك؛ لأنه لو مات العبد قبل أن يقوم هذا بجرحه بطل جرحه إذا كان السيد لم يكن علم به، قال ابن القاسم ولو كان علم به ثم أسلمه كله إلى الذي قام به دون العبد ثم مات العبد في يدي المسلم إليه كان السيد ضامنا لجرح هذا المجروح؛ لأنه الذي أتلف حقه بإسلامه العبد، قال أصبغ وكذلك قال عبد الله بن نافع وبه أقول.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة إن المجروح الذي لم يكن علم به يرجع في العبد بقدر جرحه ثم يخيران جميعا في أن يفتكاه من الثالث أو يسلماه إليه معارض لما تقدم من قول أصبغ قبل هذا في المدبر يجني على رجلين موضحتين فيدفع السيد إلى أحدهما دية جرحه ولم يعلم بذلك صاحبه حتى مات سيده إن ما وجب للذي لم يعلم به مما دفع السيد إلى المجروح يرجع إلى ورثة سيده، ولا يكون للمجروح الذي لم يعلم به؛ لأنه إذا قال ابن القاسم في هذه المسألة إن المجروح الذي لم يكن علم به يرجع في العبد بقدر جرحه فأحرى أن يقول في مسألة المدبر إن المجروح الذي لم يكن علم به يرجع فيما دفع السيد إلى المجروح الذي علم به فيأخذ منه نصفه على ما قلناه من أنه هو القياس والذي يأتي في هذه المسألة على قياس ما قاله أصبغ في مسألة المدبر أن يرجع نصف العبد إلى السيد؛ لأن المدفوع إليه إنما كان يجب له نصفه، ثم يقال للمدفوع إليه العبد إن شئت فأسلم نصفه الذي بقي بيدك منه إلى الثالث في نصف جنايته، أو أفده(16/190)
بذلك، فإن أسلمه كان قد استوفى نصف جرحه وبقي له نصف جرحه وبقي للذي لم يعلم به وبقي جرحه كاملا، فيخير السيد في النصف الآخر بين أن يفتديه بجميع أرش الثاني وبين أن يسلمه إليهما فيكون بينهما على قدر ذلك، للثاني ثلثاه وللثالث ثلثه إن كانت جراحهما مستوية؛ لأن الثالث قد استوفى نصف دية جرحه، وهذا هو قول سحنون في كتاب ابنه وقول ابن المواز وقول ابن القاسم في هذه الرواية إنه إن لم يكن جرح ثالثا حتى قام المجروح الثاني الذي لم يكن علم به يريد بعد أن أسلمه إلى الأول فإنه يرجع في العبد بقدر جرحه ولا يكون للسيد فيه افتكاك ما يصيب هذا الثاني من ذلك صحيح على قياس قوله إن نصف العبد لا يرجع إليه وأنه يكون للثالث، ويأتي على قول سحنون وابن المواز أنه يكون مخيرا بين أن يسلم إليه نصفه أو يفتكه منه بجميع جنايته، وأما إذا أسلمه كله إلى أحدهما وقد علم بجرح الآخر فمات في يد المسلم إليه فقول ابن القاسم الذي تابعه عليه ابن نافع وقال به أصبغ من أنه يضمن جرح المجروح لأنه الذي أتلف حقه بإسلامه العبد يدل على أنه قد لزمته جنايته بإسلامه إليه وإن جاء الثاني والعبد قائم في يديه لم يفت لم يكن له فيه شيء، وفي المجموعة لابن الماجشون مثل قول ابن نافع ولو كان من حق الثاني إذا جاء بعد إسلامه إلى الأول وقد علم به أن يأخذ نصفه إن ألفاه قائما بيده لوجب ألا يكون على السيد شيء إذا مات موته دون أن يقتله الذي أسلمه إليه كما لو لم يسلمه ومات في يديه وإلا يكون عليه إذا قتله الذي أسلم إليه إلا قيمة نصفه يوم أسلمه إليه.
[مسألة: العبد يجرح فلم يقم به حتى جرح فأخذ السيد عقل جرحه ثم قيم به]
مسألة وسألت ابن القاسم عن العبد يجرح فلم يقم به حتى جرح فأخذ السيد عقل جرحه ثم قيم به، فقال: السيد مخير، إن شاء فداه بعقل الجرح وإن شاء أسلمه وما أخذ من جرحه، قال أصبغ: قلت له فإن جرح آخر بعد ما جرح وأخذ السيد عقل جرحه وذلك قبل(16/191)
أن يقوم به الأول؟ قال: السيد مخير إن شاء أفتكه منهما بأرش جرحهما وإن شاء أسلم العبد إليهما وما أخذ من جرحه فيتحاص فيه الأول والآخر جميعا في رقبته وفي ثمن جرحه جميعا؛ لأنه حكم وقع الساعة، وقد كان يقول قبل ذلك إن الأرش للمجروح الأول خاصة، ويقتسمان العبد على قدر جرحهما، قال أصبغ وأنا أرى أن يكون الأرش للأول وينظر كم هو من العبد إذا اجتمعا، فإن كان سدسا فقد استوفى سدس جرحه، ويضرب بخمسة أسداسه في العبد معيبا، والثاني بجرحه كله.
قال محمد بن رشد: أما إذا جرح العبد ثم جرح فأخذ السيد عقل جرحه ثم قام عليه المجروح فلا اختلاف أحفظه في أن السيد مخير بين أن يفتكه بجنايته وبين أن يسلمه وما أخذ من جنايته، وهذا بين إذا كانت الجناية عليه إنما فيها ما نقص من قيمته مثل أن يقطع يده أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك مما إنما فيه ما نقص من قيمته، وأما إذا كانت الجناية عليه موضحة أو منقلة أو مأمومة فالقياس أن يكون مخيرا بين أن يسلمه والأقل من ما نقصته الجناية من قيمته أو مما أخذ فيها وبين أن يفتكه وما أخذ في جنايته بما جنى.
وأما إذا جنى العبد ثانية بعد أن يجنى عليه وأخذ السيد أرش ما جنى به عليه ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها قول ابن القاسم الثاني الذي رجع إليه أن السيد مخير بين أن يفتكه بأرش الجرحين جميعا وبين أن يسلمه وما أخذ من أرش جرحه، ووجه هذا القول أن أرش الجناية عليه تجبر عيب نقصانه، فكأنه قائم على حاله يخير بين أن يفتكه، وما أخذ من أرش الجناية عليه بالجنايتين، أو يسلمه وما أخذ من أرش الجناية بالجنايتين، والثاني قول ابن القاسم الذي كان يقول به ثم رجع عنه أن الأرش يكون للمجروح الأول خاصة، ويقتسمان العبد على قدر جرحهما معناه إلا أن يفتكه السيد وأرش جرحه بالجنايتين جميعا، ووجه هذا القول أن ما بقي من العبد بعد الجناية عليه(16/192)
مرتهن بالجنايتين جميعا، فيكون بينهما إن أسلمه السيد إليهما وأرش الجرح للأول قد استحقه بتقدم جنايته عليه والثالث قول أصبغ إنه إن أسلمه السيد إليهما تحاصا فيه، الثاني بجميع جنايته، والأول بقدر ما بقي من جنايته، إذ قد أخذ أرش ما نقصت الجناية منه، وهذا قول ابن الماجشون، وإياه اختار ابن المواز، وهو أظهر الأقوال والله أعلم.
[مسألة: الفئتين يقع بينهما الجراحات]
مسألة قال أصبغ وسئل ابن القاسم عن الفئتين تأتيان القاضي كلتاهما مدعية على صاحبتها جراحات بها ومنكرة لما بصاحبتها من الجراحات وهما مقرتان جميعا بأصل النايرة بينهما، قال ابن القاسم: أرى كل واحدة منهما ضامنة لجراح صاحبتها، قلت لابن القاسم: فإن كانت كل واحدة منهما مدعية على صاحبتها الجراحات التي بها ولا يقران بأصل النايرة بينهما؟ قال: فإن قامت بينة على نايرة بينهما ولم يشهدوا جراحات بعضها بعضا فأرى أن يحلف كل واحد منهما على صاحبه إذا عرف أنه به، وأنه الذي جرحه ثم يستقيد منه، قال ابن القاسم: فإن لم يعلم كل واحد منهما صاحبه تحالفوا على الجراحات أنها كانت من الفئة المدعى عليهم وهم جرحوهم فإذا حلف كل الفريقين ضمن بعضهم جراحات بعض، فإن لم تقم بينة بأصل نايرة ولا يقران بها بينهم إلا أن بعضهم يدعي على بعض أنه جرحه من غير قتال كان بينهما أو أصل نايرة ويتبرأ كل واحد منهما من جارحات صاحبه فلا أرى أن يعدى بعضهم على بعض حتى تقوم بينة على أصل النايرة أو يتقاران بذلك، قلت فإن قال أحدهم جرحني صاحبي هذا ثلاث جراحات، وقال صاحبه إنه إنما جرحته جرحتين ولم أجرحه الثالثة قال أرى أن يحلف على الجرح الثالث(16/193)
بالله لجرحه إياه ثم يستقيد منها ثلاثتها، وذلك أنه أقر بجراحه وأنه قاتله.
قال محمد بن رشد: قوله في الفئتين يقع بينهما الجراحات إنهما إذا أقرتا بأصل النايرة بينهما أو قامت على ذلك بينة فإن لمن ادعى منهم أن يحلف على من جرحه ويستقيد منه هو مثل ما تقدم في آخر رسم العقول والجبائر من سماع أشهب وفي رسم البراءة مستوفى في رسم العقول والجبائر من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
وأما قوله فإن لم يعلم كل واحد منهما صاحبه تحالفوا على الجراحات أنها كانت من الفئة المدعى عليهم وهم جرحوهم فالمعنى فيه أن يحلف كل واحد من المجروحين أن جرحه إنما كان من الفئة المنازعة لهم، وأنه لا يعرف من جرحه منهم بعينه، فإذا حلف كل واحد منهم على ذلك من الطائفتين ضمنت كل طائفة منهما جراحات الطائفة الأخرى على عددهم إن أقروا، وإن أنكروا فحلفوا كلهم أو نكلوا عن اليمين وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين برئ من حلف وكانت ديات الجارحات على من نكل منهم إلا أن يكون الذي نكل منهم الواحد والاثنان ومن لا عدد له ممن بدا أنه لا يشبه أن يختصوا هم بجراحاتهم دون من سواهم ممن حلف، فتكون ديات الجراحات عليهم كلهم كما لو حلف جميعهم، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم وقد مضى في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الديات وفي غيره من الأسمعة منه الحكم فيمن قتل بين الصفين، ومضى الكلام على الكلام على ذلك مستوفى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم منه فلا معنى لإعادته.(16/194)
[مسألة: عبد بين رجلين يجرحه عبد لأحدهما]
مسألة قال عيسى عن ابن القاسم في عبد بين رجلين يجرحه عبد لأحدهما: إن سيد الجارح بالخيار إن شاء افتداه بنصف العقل وإن شاء أسلم العبد كله إلى شريكه، قال أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العبد الجاني لما جنى على عبد هو بين سيده وبين رجل آخر كانت نصف جنايته هدرا؛ لأنه لو جنى على عبد هو كله لسيده لكانت جنايته كلها هدرا، فوجب لما جنى على عبد هو بين سيده وبين رجل آخر أن يكون كله مرتهنا بنصف جنايته التي جناها على حظ شريك سيده من العبد المجني عليه، فإن كانت جنايته عليه نقصت في التمثيل من قيمته أربعين كان سيد العبد الجاني بالخيار بين أن يسلمه كله إلى شريكه في العبد المجني عليه وبين أن يفتكه منها بعشرين التي نقصت جنايته عليه من حظه منه، ولو كان العبد الذي بينهما هو الذي جنى على عبد لأحدهما لكان شريكه في العبد الجاني مخيرا بين أن يسلم حظه منه إليه في نصف ما جنى على عبده وبين أن يفديه بذلك، قاله ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وهو بين صحيح لا إشكال فيه وبالله التوفيق.
[مسألة: عبدا بين رجلين جرح عبدا بين أحدهما وبين أجنبي]
مسألة قال ابن القاسم: وكذلك لو أن عبدا بين رجلين جرح عبدا بين أحدهما وبين أجنبي أنه يقال للذي له فيه النصف أفتك نصيبك منهما جميعا بنصف الجرح، وإن شئت فأسلم نصيبك إليهما يقتسمانه، وإن شئت فأفتك من أحدهما نصيبه وأسلم إلى الآخر ما يصيبه من نصيبك، وأما صاحب النصف الآخر الذي جرح هذا العبد عبدا بينه وبين آخر فيقال جرحه نصيبك من العبد باطل كجرحه إياك لو جرحك، وما لك جرحه بعضه بعضا فإن شئت فافتك نصيبك(16/195)
من شريكك في العبد المجروح بنصف دية الجرح أو أسلمه إليه كله ليس لك فيه شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين أيضا على ما قاله، ويزداد بيانا بالتنزيل، مثال ذلك أن يكون عبد اسمه ميمون لزيد وعمر وبينهما بنصفين وقيمته عشرون، ويكون لعمرو منهما عبد بينه وبين خالد رجل آخر اسمه موفق وقيمته أربعون، فيجني ميمون على موفق جناية تنقص من قيمته ثلاثين، فإنه يقال لزيد منهما أفتك نصيبك من ميمون بنصف جنايته التي جنى على موفق وهي خمسة عشر من سيديه جميعا عمرو وخالد، فادفع إلى كل واحد منهما سبعة ونصفا أو أسلم نصيبك إليهما فيكون بينهما بنصفين، وإن شئت أن تفتك نصف نصيبك ممن شئت منهما بسبعة ونصف وتسلم إلى الآخر نصف نصيبك فذلك لك، ثم يقال لعمرو: والنصف الثاني من جناية ميمون على موفق هدر لأن موفقا بينك وبين خالد، فالنصف الذي لك في ميمون مرتهن كله بنصف جنايته على موفق وذلك سبعة ونصف، فإن شئت فأسلم النصف الذي لك في ميمون إلى خالد في سبعة ونصف، وإن شئت فأفتكه بسبعة ونصف، وقد اختلف بمن يبدأ به أولا منهما، فقال أشهب إنه يبدأ بالذي ليس له في المجروح حق، وهو قول ابن القاسم. في هذه الرواية على ما نزلناه من البداية يريد الذي ليس له في موفق شيء، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز أنه يبدأ بالذي له نصف العبد المجروح وهو عمرو على ما نزلناه فيخير أولا بين أن يسلم حظه من ميمون إلى خالد بنصف ما جني على موفق، وذلك سبعة ونصف أو يفتكه بذلك، وذلك يرجع إلى معنى واحد فلا وجه للاختلاف في ذلك.
[مسألة: الصبي الذي لم يثغر ينزع سنه خطأ]
مسألة قال عيسى: قال لي مالك في الصبي الذي لم يثغر ينزع سنه خطأ، قال: أرى أن يؤخذ العقل كاملا فيوضع على يدي ثقة،(16/196)
فإن عادت لهيئتها رد العقل إلى الجارح، وإن هي لم تعد أعطى عقلها كاملا، فإن هلك قبل أن تنبت فالعقل كامل لورثته، وإن نبتت أصغر من قدرها بالتي قلعت منه كان له من العقل قدر ما نقصت فإن نزعت عمدا فإنه يوضع العقل أيضا ولا يعجل القود حتى يستبرى أمرها، فإن عادت لهيئتها فلا عقل ولا قود، وإن لم تعد اقتص منه، وإن عادت أصغر من قدرها أعطى عقل ما نقص، قال ابن القاسم وأرى في قياس قول مالك أنه إذا مات الصبي ولم تعد اقتص منه وليس فيه عقل؛ لأنه إنما استؤني به النبات لرفع القود، فإذا مات فهو بمنزلة ما لو لم ينبت.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إذا مات الصبي قبل أن ينبت سنه إنه يقتص منه وليس فيه عقل معناه أن الواجب في ذلك إنما هو القصاص لا العقل إلا أن يتفقا فيه على شيء، والمسألة كلها صحيحة، وقد وقعت آخر كتاب الجراحات من المدونة في بعض الروايات، وكذلك اللسان إذا قطع فنبت لا دية فيه في الخطأ ولا قود في العمد، وذلك بخلاف سن الكبير تقلع فيردها فتنبت أو الأذن تقطع فيردها صاحبها فتلتئم وتعود إلى هيئتها لا اختلاف في وجوب القصاص في ذلك فيه في العمد ويختلف وجوب الدية فيهما في الخطأ على ثلاثة أقوال قد مضت في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد شاهد أنها موضحة وشهد آخر أنها منقلة]
مسألة قيل لأصبغ ما تقول في رجل شج رجلا موضحة فلما برأت الشجة طلب صاحبها عقلها فشهد شاهد أنها موضحة وشهد آخر أنها منقلة فأي الشاهدين يثبت؟ قال: إن كانت الشجة لم تفت ببرء ولا زيادة ولا نقصان نظر إليها غيرهما من أهل المعرفة والعدالة، فإن(16/197)
فاتت عن ذلك كان للمجروح إن شاء حلف مع شاهد المنقلة وكانت له دية المنقلة، وإن شاء فدية الموضحة بغير يمين؛ لأن الموضحة قد اجتمعت عليها الشهادتان، ولأن المنقلة لا تكون منقلة حتى تكون موضحة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ذلك بمنزلة رجل يدعي على رجل مائة فيشهد له شاهد بمائة وشاهد بخمسين أنه إن شاء أن يحلف مع الذي شهد له بالمائة وإن شاء أن يأخذ الخمسين بغير يمين، بل هي أبين منها، فلا يدخل فيها من الخلاف ما يدخل في الشاهد بالمائة والشاهد بالخمسين وبالله التوفيق.
[مسألة: جرحا عبدا عمدا موضحتين قد شهد بذلك شاهدان فمات ولم يدر من أيهما مات]
مسألة قيل لأصبغ فلو أن رجلين جرحا عبدا عمدا موضحتين قد شهد بذلك شاهدان فمات ولم يدر من أيهما مات؟ قال: إن عرف الضارب الأول فالسيد بالخيار إن شاء حلف عليه يمينا واحدة مع شاهديه أن من ضربته مات فأخذ منه قيمة عبده، ويرجع الضارب الأول على الضارب الثاني فيأخذ منه نصف عشر قيمته وهو قيمة الموضحة، وإن شاء رب العبد حلف على الثاني وأخذ منه قيمة عبده مغصوبا ويرجع سيد العبد على الضارب الأول فيأخذ منه ما نقص العبد الجرح؛ لأنه إنما أخذ من الثاني قيمته مغصوب، والأول قد جرحه موضحة فأخذ منه قيمتها، وإن كان جرحاه في فور واحد ولم يدر الأول من الثاني فعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد أن يحلف كل واحد منهما ما علم أنه الأول.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ إنه يحلف على من شاء منهما أنه مات من جرحه يبين قول سحنون الذي تقدم في سماعه حسبما ذكرناه هناك،(16/198)
وقوله إنهما إن كانا جرحاه في فور واحد لم يدر الأول من الثاني فعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد أن يحلف كل واحد منهما ما علم أنه الأول معناه وبعد يمينه هو أنه لم يمت إلا من جرحيها، فإن لم يحلف لم يكن له إلا ديات المواضح، وقد مضى ذلك من قوله في صدر هذا السماع مضى من قولنا هناك ما فيه بيان له، وقوله بعد أن يحلف كل واحد منهما ما علم أنه الأول، يريد أو بعد أن ينكلا جميعا عن اليمين؛ لأن نكولهما جميعا كحلفهما جميعا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، نظر، فإن كان يجب على الناكل عن اليمين بالمعرفة أنه هو الأول أو أنه هو الثاني أكثر من نصف القيمة كان ذلك عليه.
[مسألة: عبدا جرح عبدا فأقام سيد العبد المجروح شاهدا واحدا]
مسألة قال أصبغ لو أن عبدا جرح عبدا فأقام سيد العبد المجروح شاهدا واحدا: إن سيده بالخيار إن شاء حلف مع شاهده وأخذ قيمة جرح عبده، وإن أراد القصاص حلف العبد مع الشاهد واقتص.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على القول بوجوب القصاص في الجراح باليمين مع الشاهد؛ لأن القصاص إنما هو حق للعبد فلذلك كانت اليمين في ذلك عليه، لا على السيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي تقطع أنملته كيف تكون ديتها على أهل الإبل]
مسألة قال أصبغ سئل ابن القاسم عن الذي تقطع أنملته كيف تكون ديتها على أهل الإبل؟ فقال: أحب إلي أن يأتي بالعشرة من الإبل دية الأصبع كلها على [أسنانها] ، يجبر على ذلك فيكون المقطوع شريكا له فيها بقدر ديته دية الأنملة، ثم يقتسمان بعد أو يبيعان يجبر(16/199)
على ذلك كما لو لم يكن عنده إبل، وكانت عنده دنانير، وهو من أهل الإبل كان عليه أن يأتي بالإبل في الدية شاء أو أبى.
قال محمد بن رشد: قوله أحب إلي أن يأتي بالعشرة من الإبل إلى آخر قوله يدل على أن هذا هو اختياره مما قيل في ذلك، إذ قد قيل في ذلك بالقيمة لضرر الشركة، وهو الذي يأتي على قولهم في الخلطاء يجب عليهم سن واحدة في الزكاة، وعلى ما قاله مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح يتزوج بأرؤس ولا يبين حمران ولا سودان أن عليه نصف القيمتين يريد إذا كان رقيق البلد الذي يتناكحون عليها حمرانا وسودانا وكان قد تزوج بعبد واحد أو بثلاثة أعبد فتكون عليه القيمة في العبد الثالث حسبما مضى القول فيه هناك.
[مسألة: قطع يدا واحدة من عبد لرجل والعبد فاره صناع]
مسألة قال أصبغ قال ابن القاسم فيمن قطع يدا واحدة من عبد لرجل والعبد فاره صناع إنه يضمن قيمته ويعتق عليه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إذا قطع يديه جميعا أو يده الواحدة وهو صناع أنه يضمن قيمته، واختلف في عتقه عليه، فقال في هذه الرواية إنه يعتق عليه وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها إنما يعتق عليه إذا كان فسادا لا منفعة معه فيه، وقال أصبغ عتقه استحسان، وقال ابن الماجشون لا يعتق عليه، وأما إذا قطع يده الواحدة وهو غير صناع فلا يعتق عليه، واختلف فيما يلزمه لسيده على ثلاثة أقوال قد تقدمت في رسم المكاتب من سماع يحيى وفي غير ما موضع من هذا الديوان فلا معنى لإعادته ذلك.
[مسألة: عبد لرجل جرح رجلا جرحا خطأ فباعه سيده]
مسألة وسئل أصبغ عن عبد لرجل جرح رجلا جرحا خطأ فباعه سيده(16/200)
قبل قيام المجروح، ثم جرح عند المشتري رجلا آخر جرحا خطأ أيضا ثم قام المجروحان الأول والثاني، قال يبدأ بالبائع فيقال له افتد من المجروح الأول الذي جنى عليه العبد وهو في ملكك وينفذ البيع بينك وبين المشتري، فإن نفد البيع لم يكن للمبتاع عليه مقال ولا كلام ولا قيمة عيب؛ لأن الجرح خطأ فليس فيه شيء ولا له عيب والاشتراء له لازم ثم يقال للمشتري حينئذ إن شئت فافتك من المجني عليه الآخر عبدك، وإن شئت أسلمه إليه، أنت مخير في ذلك بمنزلة عبد لك جنى جناية وليس فيه قبل ذلك جناية ولا غيرها سواء، فإن أبى البائع الأول أن يفتك بدية الجناية قيل له فأسلم الثمن كله، فإذا أسلمه فهو كإسلام العبد نفسه، ثم قيل للمجني عليه الأول إن شئت فخذ الثمن بدية جرحك وسلم البيع للمبتاع، فإن فعل فهو سبيل ما وصفت لك في افتكاك البائع بدية الجرح سواء، وإن أبى المجروح وقال لا أقبل الثمن قيل للمشتري إن شئت فافد من المجني عليه آخرا والعبد عبدك؛ لأن ما جني العبد وهو عندك فهو في ضمانك، وخذ الثمن كله وافيا وأسلم العبد إلى المجني عليه أولا عند البائع، وإن شئت فافتد منهما جميعا بدية جرحيهما، ويكون لك الثمن كله، والعبد أيضا أي ذلك شئت أن تفعل من هذا فهو لك وإن أبى المشتري أن يفتدي منهما ويسلم له العبد والثمن أو من الآخر الذي جنى عليه وهو عنده ويسلم له الثمن وافيا ويسلم العبد إلى المجروح الأول عن البائع نظر إلى قيمة العبد صحيحا وقيمته وقد جنى الجناية التي جنى عند المشتري، فينظركم بين ذلك؟ فما فضل من قيمة العبد عن دية الجرح كان للمشتري من الثمن بقدره، وذلك أن الجرح الذي جرح العبد آخرا هو له ضامن فهو عليه، والباقي إنما خرج من يديه من العبد باستحقاق الجرح(16/201)
الأول، فهو يرجع به في الثمن، وليس له عليه تمام ما بقي من الثمن عما فضل من قيمة العبد صحيحا وقيمته وقد جرح عند المشتري وهو والعبد نفسه بين المجني عليهما جميعا يقتسمانه بينهما جميعا على قيمة العبد صحيحا وقيمته وفيه جناية على قدر جنايتهما، فيضرب فيه المجني عليه أولا عند البائع بقيمته صحيحا لأنه جرحه وليس لأحد فيه قبله جرح، ويضرب بالثاني بقيمته وقد جرح جرحا قبله على جراحهما ومبلغ ذلك، فعلى هذا يكون إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وقع في سياقة هذه المسألة تطويل وتكرير وتقديم وتأخير، وتلخيصها أن البائع يخير فإن أفتكه بالجناية التي جنى عنده أو أسلم الثمن فرضي به المجني عليه في جنايته لزم المبتاع الشراء ولم يكن له فيه كلام، وكان بالخيار فيما جنى عنده بين أن يفتكه أو يسلمه، فإن أبى البائع أن يفتديه وأسلم الثمن فلم يرض به المجني عليه رجع الخيار إلى المشتري فكان بالخيار بين أن يفتكه بالجنايتين جميعا ويكون له العبد والثمن وبين أن يفتكه بأحد الجنايتين ويسلم العبد في الجناية الأخرى فيسلم له الثمن وإن كان لم يتكلم في الرواية إلا على الوجه الواحد وهو أن يفتكه من الذي جنى عليه وهو عنده ويدفع العبد في الجناية الأولى، فإن أبى المشتري من ذلك كله كان ما ذكر له في الرواية من قوله إنه ينظر إلى قيمة العبد صحيحا وقيمته وقد جنى إلى آخر قوله، وهو كلام فيه التباين، ومعنى ما ذهب إليه فيه أن المبتاع يرجع على البائع من الثمن بالزائد على ما نقصت العبد الجناية عنده؛ لأن ما نقصته الجناية عنده ضمانه منه، فلا رجوع له به على البائع فيسلم إلى المجني عليهما العبد لأنه مرتهن بالجناية التي جناها عنده وما رجع به على البائع لأن ذلك مرتهن أيضا بالجناية التي جناها عند البائع، فيكون(16/202)
ذلك كله بينهما على ما ذكر، ووجه العمل في ذلك [أن يقال كم قيمة العبد سالما من الجنايتين فيقال مائة، ثم يقال كم قيمته بالجناية التي جناها عند البائع؟ فيقال ثمانون، فالذي بين القيمتين على هذا من القيمة الأعلى هو الخمس الذي ضمانه من المبتاع، لا رجوع له بما نابه من الثمن، ويرجع عليه بأربعة أخماس الثمن، فيكون ذلك مع العبد بين المجني عليهما، ولو لم تكن له قيمة بالجناية أصلا لما وجب أن يرجع على البائع بشيء ولو كان العبد وحده بين المجني عليهما جميعا، فهذا بيان هذه المسألة وبالله التوفيق.
تم كتاب الجنايات الثاني بحمد الله.(16/203)
[: كتاب القطع في السرقة] [مسألة: ليس على من سرق من حلي الكعبة قطع]
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب القبلة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال: ليس على من سرق من حلي الكعبة قطع لأنهم يؤذن لهم في دخولها وكل بيت دخل فيه بإذن فسرق منه شيء فلا قطع عليه فيه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيت محجور عن الناس لا يدخل إلا بإذن، فمن سرق ممن أذن له في دخوله لم يكن عليه قطع؛ لأنه خائن وليس بسارق، وسواء كان الذي سرق من الحلي متشبتا بما هو فيه مما حلي به أو موضوعا في البيت غير متشبت بشيء، ولو دخل البيت أحد ممن لم يؤذن له في دخوله مستسرا ليلا أو نهارا فسرق منه شيئا لوجب عليه القطع إذا خرج به من البيت إلى موضع الطواف وإن لم يخرج به عن المسجد؛ لأن حكم البيت الحرام الذي لا يدخل إلا بإذن فيما سرق منه حكم البيت يكون في المسجد مختزن فيه ما يحتاج إليه في المسجد من زيته وفناديله وحصره لا قطع على من دخله بإذن فسرق منه، والقطع واجب على من دخله مستسرا من غير أن يؤذن له فسرق منه ما يجب فيه القطع إذا خرج به من البيت إلى المسجد وإن أخذ فيه قبل أن يخرج منه؛ لأنه إذا أخرجه من البيت إلى المسجد فقد(16/205)
أخرجه إلى غير حرزه، وأما من سرق من المسجد الحرام ليلا أو نهارا أو من سائر المساجد التي تغلق ليلا أو نهارا شيئا مما هو متشبت به كجائزة من جوائزه أو باب من أبوابه أو ثرية من ثرياته المعلقة فيه المتشبتة به أو حصير قد سمر في حائط من حيطانه أو خيط إلى ما سواه من الحصر على ما روي عن سحنون فلا اختلاف في وجوب القطع على من سرق شيئا من ذلك تبلغ قيمته ما يجب فيه القطع، واختلف أن من سرق شيئا من ذلك من موضعه وغير متشبت به كقناديل موضوعة في ثرياته أو حصر موضوعة في مواضعها، فقيل إن مواضعها حرز لها يقطع من سرق شيئا من ذلك إن أزاله عن موضعه وإن أخذ قبل أن يخرج به من المسجد، وقيل إنه لا قطع عليه في شيء من ذلك كله، وإن خرج به من المسجد اختلف في ذلك قول ابن القاسم على ما يأتي في رسم نقدها من سماع عيسى، واختلف في الفطرة توضع في المسجد فقيل إن حكمها حكم حصر المسجد يدخل في ذلك من الاختلاف ما يدخل في حصر المسجد إذا سرقت نهارا، وإلى هذا ذهب أصبغ وهو ظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم نقدها من سماع عيسى بعد هذا؛ لأنه قال إن سارقها يقطع وإن لم يخرج بها من المسجد، ولم يشترط أن يكون عليها حارس، فظاهر ذلك أنه حكم لها بحكم حصر المسجد، وقيل إنه لا قطع على من سرقها نهارا إلا أن يكون عليها حارس، وهو قول مالك في الواضحة، وإياه اختار ابن حبيب؛ لأن المسجد ليس بموضع للفطرة يختص بها كالحصير، ولو أتى رجل بطنفسة إلى المسجد ليصلي عليها لما يقيه من حر أو برد ثم ينقلب بها ولم يضعها في المسجد كسائر حصره فذهب وتركها ناسيا لها أو غير ذلك فلا قطع على من سرقها ليلا أو نهارا وإن كان على المسجد غلق؛ لأن الغلق لم يكن من أجلها ولم يكلها صاحبها إليه، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، وكذلك الفطرة توضع فيه على مذهبه، فيتحصل على هذا في سارق الفطرة من المسجد وفي سارق الحصير منه الذي يضعه الرجل فيه ليصلي عليه ثلاثة أقوال، وأما من فتح المسجد الذي يغلق(16/206)
ليلا بالليل فيسرق منه أو الذي يغلق نهارا في الحين الذي يغلق فيه فسرق منه شيئا من حصره أو قناديله الموضوعة فيه أو المتشبتة فيه فلا اختلاف في وجوب القطع على من سرق من ذلك ما يجب فيه القطع، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: سرق أجنبي من بعض بيوت السكان شيئا]
مسألة وقال مالك في الدار تكون للرجل بابها مفتوح أو لعله لا باب له يدخل بغير إذن قد حجر الرجل على نفسه في ناحية منها وليس لأحد معه فيها شرك فيسرق السارق بعض ما في حجرة من بيوتها فيؤخذ وقد خرج به من البيت إلى الموضع الذي يدخل بغير إذن، قال: لا أرى عليه قطعا حتى يخرج من الدار كلها، ولا أراها كالدار المشتركة، قال ابن القاسم وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الرجل إذا أذن للناس في الدخول إليه في دار سكناه إذنا عاما كالعالم والطبيب أو الرجل يحجر على نفسه في بيت من داره ويترك بابها مفتوحا لمن جاء إليه لما قد يشق عليه من الخروج إلى باب الدار لكل من أتاه وقصده فسرق بعض من دخل الدار من بعض بيوتها التي قد حجرها عن الناس فلا قطع على من سرق منها حتى يخرج بما سرقه منها عن جميع الدار لأن الدار من بقية الحرز وليست كالمحجة وإن كان قد أذن فيها لجميع الناس لأنهم لم يدخلوها إلا بإباحة صاحبها، وإنما لم يسقط عنه القطع إذا خرج بما سرقه عن جميع الدار كالضيف على مذهب ابن القاسم لأن الضيف خصه بالإذن فصار مؤتمنا فيما أخذ وكان له فيما أخذ على مذهبه حكم الخائن لا حكم السارق، فالمسألة صحيحة بينة لا اختلاف فيها بخلاف الدار المشتركة بين السكان فيها خاصة تلك إن سرق بعض السكان فيها من بعض يقطع باتفاق، وإن لم يخرج بما سرقه من(16/207)
الدار ولا دخل به بيته، وإن سرق أجنبي من بعض بيوت السكان شيئا فأخذ في الدار قبل أن يخرج منها، فقيل إنه يقطع، وقيل إنه لا يقطع، من قال إنه لا يقطع في الأول يقول يقطع في الثاني، ومن قال إنه يقطع في الأول يقول أنه لا يقطع في الثاني؛ لأن الصحن حرز عن الأجنبيين وليس بحرز عن السكان إن سرق بعض السكان من الصحن شيئا لم يقطع باتفاق وإن دخل في بيته أو خرج به من الدار، وإن سرق أجنبي من الصحن شيئا فأخرجه من الدار قطع باتفاق، فمن غلب أنه حرز يقول إن الأجنبي إذا سرق من بيت من البيوت شيئا وأخذ في الدار لم يقطع وإن سرق من الصحن شيئا قطع لأن الأول لم يبن به عن الحرز والثاني أخرجه من الحرز، ومن غلب أنه ليس بحرز يقول إن الأجنبي إذا سرق من بيت من البيوت شيئا وأخذ في صحن الدار قطع، وإن سرق من صحن الدار شيئا لم يقطع وإن أخرجه من الدار، وهذا إذا كان ما في الصحن قد نسيه فيه بعض أو وضعه فيه ثم قام عنه وتركه، وأما إن كان جالسا على متاعه الذي وضعه في الصحن إن كان ذلك الموضع الذي وضع فيه المتاع موضعا معروفا له كمعلف الدابة فحكمه في سرقة السارق إياه حكم ما سرق الشراك من بيوت الدار كان من السكان فيها أو من الأجنبيين يبين هذا ما يأتي في رسم أوصى من سماع عيسى من قول مالك في السفيه حسبما سنبينه إن شاء الله.
وأما الدار المشتركة بين السكان فيها المباحة قاعتها لجميع الناس كالفنادق والتي في قاعتها البيع والشراء فهذه إن سرق منها سارق قطع باتفاق وإن أخذ قبل أن يخرج من الدار وبالله التوفيق.
[: الغسال يأخذ ثيابا يغسلها فيخرج إلى البحر]
ومن كتاب شك في طوافه وسئل مالك عن الغسال يأخذ ثيابا يغسلها فيخرج إلى البحر(16/208)
فيغسلها وينشرها يجففها فيسرق منها وهو معها لعمله أن يكون مشتغلا ببعضها يغسله وما أشبه ذلك مما يعالج إلا أنه معها أترى على من سرقها قطعا؟ ففكر فيها طويلا ثم قال: لا أرى في ذلك قطعا، وإنما مثل ذلك عندي الغنم، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أواها المراح أو الجرين» فالغنم قد يكون معها صاحبها يرعاها وهي في الرعي فليس على من سرقها قطع فهذا عندي يشبهه، ولا أرى على من سرقها قطعا، وسئل مالك عن الصباغين الذين يأخذون أمتعات الناس من القطف والثياب الصوف والقطن يصبغونها ألوانا فينشرونها على حبال يمدونها على حوانيتهم في الطرق فيسرق بعض ما على بعض تلك الحبال أترى أن يقطع من سرق مما عليها شيئا؟ قال: ذلك عندنا مثل ما وصفت لك ولا أرى فيها قطعا، ولعله يذهب ويتركها أو يطرحها الريح وما أشبه هذا، فلا أرى في ذلك قطعا.
قال محمد بن رشد: شبه مالك المسألة الثانية بالأولى فلم ير فيها قطعا، وموضع الشبه بينهما أنها في المسألتين جميعا ثياب موضوعة في غير ملك لا حارس عليها؛ لأن الغسال الذي نشر ثيابه يجففها بعد أن غسل بعضها إنما هو مشتغل بغسل ما بقي منها لا يحفظ ما نشر منها، فأشبهت عنده الغنم في الرعي وإن كان معها راع؛ لأن الراعي لا يحوط بحفظها من السرقة لانتقالها بالرعي من موضع إلى موضع كما لا يحوط الغسال بحفظ ما نشر من ثيابه من السرقة لاشتغاله بغسل ما سواها، ولو كان معه من يحفظ كل ما نشر منها ما دام هو يغسل بقيتها لوجب القطع على من سرق شيئا منها، وكذلك(16/209)
الصباغ الذي نشر ثيابه على حبال يمدها في الطريق لو جعل عليها حارسا يحرسها لوجب القطع على من سرق شيئا منها، وقوله في هذه الرواية إن على من سرق شيئا منها القطع إذا لم يكن حارس هو على قياس قوله في المدونة في الذي يسرق ثوب الرجل وهو منشور على حائط بعضه في الدار وبعضه خارج من الدار إنه لا قطع عليه، وقد روي عن مالك في حبل الصباغ والقصار أنه يقطع من سرق منه، قال ابن القاسم: ولا فرق بين حبل قديم وحديث، وأنكر قول من فرق بينهما، قال سحنون: أكثر الرواية يقطعون في الثوب المنشور على الحائط وهو رأيي، ويرد قول ابن القاسم في ذلك قوله في الذي يسرق الثوب الملقى على ظهر البعير إنه يقطع، فالأظهر فيما نشر الصباغ على حباله في الطريق أن يقطع من سرق منها وإن لم يكن عليها حارس؛ لأن وضعه إياها على حباله حرز لها، والأظهر فيما نشر الغسال من الثياب التي غسلها فسرق منها وهو مشتغل بغسل بقيتها ألا قطع على سارقها لأنها في الحال كالمهملة دون حارس، ولو سرق منها سارق شيئا بعد أن أكمل غسل جميعها وجلس يحفظها لوجب أن يقطع يده قولا واحدا وبالله التوفيق.
[: دراهم تكون عندنا تنقص الخروبة والثلاث حبات هل يقطع في ثلاث دراهم منها]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال وسألت ابن القاسم عن دراهم تكون عندنا تنقص الخروبة والثلاث حبات، هل يقطع في ثلاث دراهم منها؟ قال: لا، ولا يقطع إلا في ثلاث دراهم قائمة إذا كانت تنقص خروبة نقصت نحوا من خمس درهم وأحب إلي أن يدرأ الحد بالشبهة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن نقصان خروبة أو ثلاث حبات من كل دراهم نقصان كثير يتفق الموازين على نقصانه، فإنما قال والله أعلم فأحب إلي أن يدرأ الحد بالشبهة إذا كانت تجوز بجواز الوازنة، ولو(16/210)
كانت لا تجوز بجواز الوازنة لسقط الحد على كل حال، ولأصبغ في كتاب ابن المواز أنه إذا نقص من كل درهم مثل الحبتين فيقطع، ومعنى ذلك والله أعلم إذا كانت تجوز بجواز الوازنة؛ لأن الحبة مما يمكن أن تختلف فيه الموازن، فإذا كان النقصان يسيرا تختلف فيه الموازن وتجوز بجواز الوازنة قطع بلا إشكال، وإذا كان النقصان كثيرا يتفق عليه الموازن ولا تجوز بجواز الوازنة لم يقطع بلا إشكال، وإذا كان النقصان كثيرا وهي تجوز بجواز الوازنة أو قليلا وهي لا تجوز بجواز الوازنة فالصواب أن يدرأ الحد بالشبهة على ما قاله في الرواية، وهذا على قياس قولهم في اعتبار النقصان في نصاب الزكاة، فإذا كان النقصان يسيرا وهي لا تجوز بجواز الوازنة وجبت فيها الزكاة، وإذا كان النقصان كثيرا وهي لا تجوز بجواز الوازنة لم تجب فيها الزكاة وإذا كان النقصان كثيرا وهي تجوز بجواز الوازنة أو يسيرا وهي لا تجوز بجواز الوازنة فقيل إن الزكاة تجب فيها، وقيل إنها لا تجب وبالله التوفيق.
[: الدواب التي تكون في الربيع فتسرق منها دابة]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها وسئل مالك عن الدواب التي تكون في الربيع وقومتها معها مقيمون يبيتون معها فتسرق منها دابة وهي على أوتادها مربوطة أترى أن يقطع من سرقها؟ قال: ما أراها إلا من ناحية المرعي وما يعجبني، قال ابن القاسم: وذلك رأيي.
قال محمد بن رشد: روى ابن وهب عن مالك مثله وقال ابن وهب أما أنا فكنت أرى عليه القطع إذا جاء إلى مرابطها بالليل أو النهار فحلها فأرى عليه القطع، ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه الرواية أنها لما كانت في المرعى وكان قومتها ينقلونها من موضع إلى موضع يربطونها فيه للأكل لئلا تشتغل عنه إن كانت مسرحة لم ير(16/211)
تلك المراح حوزا لها، وأشبه كونها مسرحة في الرعي، ووجه قول ابن وهب أن كل موضع يربط فيه فقد صار حوزا لها كالدابة إذا ربطت بالفناء أن ذلك يكون حوزا لها.
[مسألة: سرق من الحمام]
مسألة وسئل عمن سرق من الحمام، قال: إن الحمام ربما أخطأ الرجل وربما اعتلوا ولقد قلت لصاحب السوق آمره أن يضمن أصحاب الحمامات ثياب الناس فيضمنونها أو يأتوا بمن يحرسها، وأمرته أن يضمنهم ثياب الناس الذين يدخلون الحمام، قال سحنون يعني بقوله اعتلوا بقول أحدهم إني ظننت أنه ثوبي.
قال محمد بن رشد: اعتلاله لو سرق من الحمام أنه لا يقطع بقوله إن الحمام ربما أخطأ الرجل وربما اعتلوا يجب أن يحمل على التفسير لما في المدونة وغيرها من أنه لا قطع على من سرق من الحمام ثياب الناس إذا دخل من مدخلهم إلا أن يكون معها من يحفظها قطع سارقها إلا أن يقول أخطأت أو ظننت أنه ثوبي فيصدق في ذلك ولا يقطع إذا أشبه ما يقول ولم يتبين في ذلك كذبه، بدليل قوله في هذه الرواية ولو لم يكن معها من يحفظها فسرق السارق ثوب أحدهم وهو حاضر مع ثيابه قبل أن يتحمم أو بعد أن تحمم لوجب عليه القطع لأن متجرد الحمام مشترك بين جميعهم فلا يقطع من سرق من ثياب أحدهم شيئا إلا أن يكون المسروق منه مع ثيابه على ما قاله في سماع أشهب بعد هذا في القوم ينزلون في المسجد فيسرق السارق متاع أحدهم أنه لا قطع عليه إلا أن يكون مع متاعه، وإذا كان مع الثياب في الحمام من يحرسها فسرقها سارق فلا قطع عليه حتى يخرج بها من الحمام على قياس ما قاله في المسألة الثانية من أول رسم من السماع إذا دخل يتحمم لأنه قد أذن له في ذلك، بخلاف من سرق من المسجد ما يجب فيه القطع عليه أنه يقطع إذا أزال ما سرقه من موضعه وإن لم يخرج به من المسجد، وأما إذا دخل للسرقة(16/212)
وأخذ قبل أن يخرج من الحمام فيجري ذلك على الاختلاف في الأجنبي يسرق من بعض بيوت الدار المشتركة بين السكان، فيؤخذ في الدار قبل أن يخرج منها حسبما مضى بيانه في أول رسم من سماع ابن القاسم هذا وقد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب تضمين الصناع وذكرنا هناك معنى ما ذهب إليه مالك بقوله ولقد قلت لصاحب السوق إلى آخر قوله، فلا معنى لإعادته.
[: القمح الذي يحصد ويوضع في مواضعه أياما لييبس فيسرق منه]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه وسئل عن القمح والفرط زرع أهل مصر الذي يحصد ويوضع في مواضعه الذي يحصد أياما لييبس فيسرق منه أترى على من يسرق منه قطعا؟ قال: إنما جاء الحديث: «فإذا آواه المراح أو الجرين» فهذا ليس بمراح عندي ولا جرين، قلت له: ولا ترى فيه قطعا؟ فقال: ما هو عندي بين، وما هو مراح ولا جرين، ثم قال لي: فأين يدرس؟ قلت له: في الجرين، فقال: هذا بين إذا سرق منه، فكأنه يريد القطع، قال ابن القاسم: إنما يريد الجرين.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية أنه لا قطع في الزرع بعد أن يحصد إذا ترك في موضعه ما لم ينقل إلى الجرين خلاف ما في أول رسم من سماع أشهب من أن الزرع إذا حصد فجمع من الغائط في موضع ليحمل إلى الجرين أن على سارقه القطع، ومن الناس من تأولها فلم يحملها على الخلاف وقال هي رواية ابن القاسم أن الزرع لما حصد ترك في موضعه ولم يضم بعضه إلى بعض، فلذلك لم ير القطع على من سرقه، بخلاف إذا جمع بعضه إلى بعض بعد أن يحصد ليحمل إلى الجرين على ما قاله في رواية أشهب وهو ظاهر من لفظ الرواية لأنه قال فيها: لأنه قد جمع وضم بعضه إلى(16/213)
بعض، والأظهر في المعنى أنه اختلاف من القول، ولا فرق إذا حصد ما لم ينقل إلى الجرين بين أن يجمع بعضه إلى بعض أو لا يجمع، وإلى هذا ذهب ابن المواز واختار رواية ابن القاسم فقال: هذا أحب إلي، فيتحصل في هذا ثلاثة أقوال، أحدها أن يقطع من سرقه بعد أن يحصد ضم بعضه إلى بعض أو لم يضم، والثاني أنه لا يقطع سارقه ضم بعضه إلى بعض أو لم يضم حتى ينقل إلى الجرين، والثالث الفرق بين إن سرق بعد أن يضم بعضه إلى بعض أو قبل ذلك، وهذا الاختلاف كله إنما هو إذا لم يكن عليه حارس، وأما إذا كان عليه حارس فلا اختلاف في أن على سارقه القطع، وكذلك إن كان الزرع في حائط لا اختلاف أحفظه نصا في وجوب القطع على من سرقه بعد أن يحصد وإن كان في موضعه قبل أن ينقل أو يجمع أو بعد ذلك على ما قاله في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى بعد هذا، وقد يدخل في ذلك اختلاف بالمعنى، فقد روى ابن القاسم في الجدع من النخل يقطع ويوضع في الجنان أنه يقطع سارقه، قال وكذا جميع الشجر، قال محمد: وأظنه لا حرز لها إلا حيث ألقيت فيه، ولو كان إنما وضعت لتحمل إلى حرز لها معروف لم تقطع حتى تضم إليه، وهذا أحب إلي، قال وأحب فيه اختلافا، ومالا حرز له كالمقاتي وشبهها فالقطع على من سرقها بعد أن يجمع في الموضع الذي تحمل منه للبيع على ما قاله أصبغ ورواه عن ابن القاسم بعد هذا في رسم الحدود من سماعه، وإذا سرق الزرع في الطريق إلى الجرين فالقطع على سارقه قولا واحدا من أجل كون حامله معه، ومن سرق من ثمر نخلة قبل أن تجد وهي في دار رجل قطع إذا بلغت قيمته على الرجاء والخوف ربع دينار، بخلاف الحوائط والبساتين، قاله في كتاب ابن المواز وبالله التوفيق.(16/214)
[: سرق العبد من مال ابن سيده]
ومن كتاب سعد في الطلاق قال ابن القاسم قال مالك: وإن سرق العبد من مال ابن سيده قطعت يده.
قال محمد بن رشد: رأيت لأحمد بن خالد، قال: أخبرني إبراهيم بن محمد بن باز قال: سئل يحيى بن يحيى عن عبد سرق من مال ابن سيده ما يجب فيه القطع؟ قال فسألته فقال: إن كان في حضانة أبيه فلا قطع عليه وإن كان قد بان عليه فعليه القطع، قال: فأخبرت سعيد بن حسان بقوله فما أعجبه، قال إبراهيم بن محمد: فلما رحلت سألت عنها سحنون بن سعيد فقيه القيروان، فقال لي: كان ابن القاسم يروي عن مالك أن عليه القطع وابن وهب يروي عنه ألا قطع عليه ولكلا الروايتين عن مالك وجه، والأظهر إيجاب القطع عليه؛ لأن القطع معلق بالضمان، ألا ترى أن العبد لما كان إذا سرق من مال سيده لم يقطع فيه من أجل أنه لا يضمنه وجب أن يقطع فيما سرق من مال ابن سيده من أجل أنه يضمنه، ألا ترى لو استهلك مال ابن سيده لكانت جناية في رقبته يدفعه بها سيده إلى ابنه أو يفتديه، فإذا كان لابنه أن يأخذ العبد في جنايته عليه في ماله وجب إذا سرقه أن تقطع يده إذ لا حرمة بينه وبينه يدرأ الحد بها وإنما الحرمة فيما بين مولاه وبينه لأنه ابنه فهو الذي لا يقطع في ماله إن سرقه عبدا كان أو حرا، وهو قول ابن القاسم رواه عنه محمد بن خالد في سماعه بعد هذا من هذا الكتاب؛ لأنه لا يقطع العبد إذا سرق من مال ابنه الحر، قال وكذلك إن سرق من مال ابنه العبد؛ لأن مال ابنه العبد له حتى ينتزعه منه سيده.
واختلف في الجد يسرق من مال ابن ابنه، فقال ابن القاسم لا يقطع، وقال أشهب يقطع ويقطع من سواهم من القرابات، ووجه القول بأنه لا يقطع العبد إذا سرق من مال ابن سيده قوله في الحديث: «أنت ومالك(16/215)
لأبيك» . فلما كان مال الابن كأنه مال الأب لم ير أن يقطع يد عبد الأب فيه، إذ لا يقطع العبد إذا سرق مال سيده، وهو ضعيف؛ لأنه إنما لم يقطع العبد إذا سرق من مال سيده إذ لا يجمع على السيد عقوبتان: ذهاب ماله وقطع يد غلامه، ووجه تفرقة يحيى بن يحيى بين أن يكون الابن في حضانة أبيه أو لا يكون في حضانته هو أنه إذا كان في حضانته فهو الحائز لماله وقد قال في كتاب محمد بن المواز إن العبد إذا سرق من وديعة عند سيده الأجنبي من بيت لم يؤمن على دخوله لم يقطع، وإذا لم يقطع فيما حازه سيده الأجنبي فأحرى ألا يقطع فيما حازه لابنه فهي تفرقة جيدة وبالله التوفيق.
[مسألة: الحرز إنما هو على ما جرت به عادة الناس]
مسألة وقال مالك في مطامر يجعل الناس فيها أطعماتهم يخزنونها فيها، منها ما يغيب ويعفي حتى لا يعرف موضعها بالفلاة وبحضرة الدار، ومنها ما يكون بينا بحضرة أهله فيسرق منه قيمة ثلاثة دراهم أو أكثر، قال مالك: أما ما كان في الفلوات قد عفا عليه وأسلمه صاحبه ولا خفاه فلا أرى فيها قطعا والله أعلم، وأما ما كان بحضرة أهله معروفا بيننا فالقطع على من سرق منه قيمة ثلاثة دراهم فصاعدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحرز إنما هو على ما جرت به عادة الناس أن يحرزوا به امتعاتهم، فمن أسلم طعامه وتركه في الفيفاء قد عفى عليه وأسلمه وأعفاه فليس في حرز إذ ليس يحرز أحد طعامه بهذا، بل من فعل ذلك فقد أهمله وعرضه للتلف.(16/216)
[: لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الحدود قال سحنون أرانا أشهب قال سئل مالك عن الدار المسكونة يكون للرجل فيها الشاة والآخر شاتان فيكون في الدار فيغلق الباب بالليل فيأتي الرجل فيتسور من الجدار وهو قصير فيأخذها فيذهب بها أتراه سارقا؟ فقال: نعم، وعليه القطع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله وفيه النص، وهو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» .
[مسألة: السرقة من مساجد يحرس فيها ليست لها أبواب تغلق]
مسألة وسئل فقيل إن عندنا بالإسكندرية مساجد يحرس فيها ليست لها أبواب تغلق، من شاء دخلها وخرج منها فربما قام بعضنا إلى البحر يتوضأ وسيوفنا معلقة في المسجد وهو مسجد يدخل ويخرج منه بغير(16/217)
إذن فربما خالفنا إليه السارق فيسرق منها والأمير في المسجد يؤخذ وقد خرج من المسجد، فقال: ما أرى عليه قطعا، سرقه وصاحبه ليس عنده وقد تركه هكذا، قيل له ألا ترى عليه قطعا، فقال: ما أرى ذلك إنما سرقه وليس صاحبه عنده، ولو سرقه وصاحبه عنده كان في ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال المسجد مشترك بجميع الناس فنزولهم فيه بخلاف نزول الرفقاء في الأسفار في الصحاري؛ لأنهم إذا نزلوا في الصحراء صار منزل كل واحد منهم حرزا لمتاعه كان معه أو قام عنه وتركه، إذ لا شركة لأحد معه في موضع نزوله، وإذا نزلوا في المسجد لم يكن موضع نزوله حرزا لمتاعه إلا أن يكون معه، فإن كان معه وسرق منه سارق قطع وإن أخذ بما سرق منه قبل أن يخرج من المسجد، والأصل في هذا ما ثبت من أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يد سارق رداء صفوان من المسجد إذ سرقه منه وقد توسده وبالله التوفيق.
[مسألة: السرقة من الزرع يحصد فيجمع من الغائط ليحمل إلى الجرين]
مسألة سئل عن الزرع يحصد فيجمع من الغائط في موضع ليحمل إلى الجرين فربما كان عليه من يحرسه فيجيء السارق يسرق منه قتاتا يجب في قيمتها القطع أترى عليه قطعا؟ فقال: نعم فيما أرى الآن(16/218)
عليه القطع، فإنما هم عندي بمنزلة الزرع إذا آواه الجرين لأنه قد جمع ههنا في الغائط وضم بعضه إلى بعض وصار له حرزا، وربما ترك هناك الزمان الطويل لكثرة ذلك عليهم، قيل له وليس ذلك عندك بمنزلة الزرع القائم ولا في رؤوس الشجر من الثمر بمنزلة ما في أصولها قد حصد ووضع في أصلها فأرى على هذا القطع وأرى الزرع إذا حصد ربما أقام الشهر ونحوه في الغائط قبل أن ينقل لكثرة ذلك عليهم وغلبته إياهم، فهذا بين أن في ذلك القطع، قلت له أترى أن تقطع من سرق من ذلك شيئا يجب فيه القطع كان عنده حارس أو هو حارس عنده، فإنه ربما سرق منه الشيء من الغائط ولا حارس عنده، ومنهم من يحرس ذلك، فقال لي: ومن يستطيع أن يحرس هذه السنة كلها أو ما أقام في ذلك الموضع وهذا أمر يطول، وأرأيت الجرين إذا سرق منه ولا حارس عنده فأرى على السارق فيه القطع وإن لم يكن عنده حارس، فأنا أرى هذا الذي سألت عنه مثل ما سرق من الجرين.
قال محمد بن رشد: قوله إن القطع على من سرق من الجرين كان عليه حارس أو لم يكن، معناه إذا كان بالقرب وفي المواضع المعلومة لها وأما إذا كان في الصحراء فقد قال أشهب إنه لا قطع على من سرق منه إذا لم يكن عليه حارس، وقد مضى بقية القول في هذه المسألة المعلومة في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم.
[: سئل أسرقت قال أي والله لقد سرقت وما عندي مما سرقت إلا هذا الدرهم]
ومن كتاب السرقة وسئل مالك عمن اتهم بالسرقة فأخذ فيها فسئل أسرقت؟ قال: أي والله لقد سرقت، وما عندي مما سرقت إلا هذا الدرهم(16/219)
فهو يقر بالسرقة ولا يعطيهم شيئا إلا الدرهم يقول قد ذهب ذلك كله مني إلا هذا الدرهم، فهو يقر بالسرقة ولا يعطيهم شيئا، قال أما القطع فلا أرى عليه قطعا، لم يأت بشيء يحق ذلك عليه، ولا أراه وجب عليه في هذا قطع، لم يأت بأمر يقين ولا بأمر تعين ولا شهادة عليه ولا هو جاء بمتاع يعرف أنه مسروق منه ولا يعرف الدرهم، فلا أرى عليه قطعا، وأرى أن يعاقب.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا خلاف ظاهر ما في المدونة، ولا اختلاف أحفظه في أنه يقطع بغير تعين إذا أقر قبل أن يؤخذ، ولا في أنه لا يقطع دون تعيين إذا أقر بعد التهديد، وإنما اختلف هل يقطع مع التعيين إذا كان إقراره بعد التهديد ورجوعه عما أقر به على نفسه من السرقة مبني على هذا التقسيم؛ لأنه كلما قوي وجوب القطع ضعف إعمال الرجوع، فإذا أقر على نفسه بالسرقة قبل أن يؤخذ ثم رجع عن إقراره فقيل إنه يقبل رجوعه، وقيل إنه لا يقبل إلا أن يقول إنما أقررت لوجه كذا وكذا، فإن أقر بالسرقة قبل أن يؤخذ وعينها ثم رجع عن إقراره فقيل إنه لا يقبل رجوعه، وقيل إنه يقبل إذا قال أيضا أقررت لوجه كذا وكذا، فإن أقر بالسرقة بعد أن يؤخذ ولم يعين ثم رجع على القول بأنه يقطع دون تعيين قبل رجوعه وإن جحد الإقرار ولم يأت لرجوعه عنه بوجه قولا واحدا وهو ظاهر ما في كتاب ابن المواز، قال ومن أقر بالسرقة بغير محنة ثم رجع فإنه يقال ولا يقطع ويتبع في عدمه، ولو ثبت على إقراره لم يتبع في عدمه وقطع وإن أقر بالسرقة بعد أن يؤخذ وعينها ثم رجع فذلك بمنزلة إذا أقر قبل أن يؤخذ ولم يعين ثم رجع لوجوب القطع في الوجهين جميعا باتفاق، فقيل إنه يقبل رجوعه، وقيل إنه لا يقبل إلا أن يقول إنما أقررت لوجه كذا وكذا، وإن أقر بالسرقة بعد التهديد وعينها ثم رجع عن إقراره على القول بأنه يقطع إذا عين ما سرق فذلك بمنزلة إذا أقر بالسرقة بعد أن يؤخذ ولم يعينها للاختلاف في(16/220)
وجوب القطع عليه في الوجهين جميعا، فيقبل رجوعه وإن جحد الإقرار ولم يأت لرجوعه عنه بوجه يذكره، واختلف على القول بأنه لا يقطع إذا أقر وإن عين إذا كان إقراره بعد التهديد أو الضرب إن تمادى على إقراره وهو آمن فقيل أنه يقطع، وقيل إنه لا يقطع فهذا تحصيل القول عندي في هذه المسألة، وسيأتي طرف منها في رسم نقدها ورسم العتق من سماع عيسى وفي سماع محمد بن خالد وبالله التوفيق.
[مسألة: مسافرين ضربوا أخبيتهم فسرق بعضهم من بعض]
مسألة وسئل عن المسافر ينزل بأرض فلاة فيضرب فيها خباه، فمن متاعه ما يدخله الخباء ومنه ما يكون خارجا منه، وينيخ إبله أفترى على من سرق من متاعه الذي في الخباء أو خارجا منه قطعا، وإن سرق شيئا من إبله المناخة؟ فقال: نعم أرى عليه القطع، ومن الناس من ليس له خباء فأرى القطع على من سرق من إبلهم المناخه معلفة كانت أو غير معلفة إذا كانت قرب صاحبها عندها: أرأيت الذي جاء عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا آواه المراح أو الجرين» أيكون على المراح والجرين حرز.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك أحفظه في المذهب؛ لأنه قد صار الموضع الذي نزل من الفلاة منزلا له وحرزا لمتاعه لا شرك لأحد معه فيه، فوجب القطع على من سرق منه كان حاضرا مع متاعه أو غائبا عنه.
وإن كانوا جماعة مسافرين ضربوا أخبيتهم فسرق بعضهم من بعض قطع، وقاله في كتاب محمد، قال محمد: يريد ما لم يكونوا من أهل خباء واحد وقال مالك في الرفقة ينزلون في الفلاة كل قوم على حدة ويضم كل رفقاء متاعهم على حدة إلا أنهم نزلوا بموضع واحد، فإن سرق بعضهم من بعض(16/221)
فذلك كالدار المشتركة ذات المقاصر، فلا يقطع إن سرق بعضهم من بعض، ومن سرق منهم من غير رفقائه أو من غير أهل خباءه قطع، والخباء نفسه إذا سرق قطع سارقه، قال محمد: وأما أهل السفينة يسرق بعضهم من بعض فلا قطع عليه، وهي كالحرز الواحد إلا أن يسرق منهم أحد من غيرهم مستسرا فليقطع إن أخرج ذلك من المركب ويقطع من سرق السفينة إلا أن تكون مخلاة لا أحد فيها، وقول محمد في أهل السفينة إنه لا قطع في سرقة بعضهم من بعض يريد إذا لم يكن المسروق منه على متاعه على ما حكاه ابن القاسم عن مالك في رسم أوصى من سماع عيسى بعد هذا هو نحو قول مالك في الرفقة ينزل كل قوم من أهلها على حدة ويضم كل رفقاء منهم متاعه على حدة أنه لا قطع في سرقة بعضهم من بعض؛ لأن معناه إذا لم يكن المسروق منه مع متاعه، وأما قوله إن ذلك كالدار المشتركة ذات المقاصر فلا يقطع إن سرق بعضهم من بعض لأن المعروف في الدار المشتركة بين السكان خاصة أن القطع واجب على من سرق منهم من بيت صاحبه حسبما مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: لا قطع على من سرقه في مرات]
مسألة وسئل عن الذي يسرق ما لا يجب عليه فيه القطع فلا يظهر عليه حتى سرق ما لا يجب فيه القطع ثم يظهر عليه وقد اجتمع في ذلك ما يجب فيه القطع، قال: لا أرى عليه قطعا حتى يسرق في مرة ما يجب فيه القطع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مما لا اختلاف فيه لأنه ما يجب فيه القطع محدود، فلا قطع على من سرقه في مرات.(16/222)
[مسألة: يأتي البيت فيه القمح فيسرق منه وينقل بقيته قليلا قليلا]
مسألة قيل له أرأيت الذي يأتي البيت فيه القمح فيسرق منه وينقل بقيته قليلا قليلا ما لا يجب فيه القطع في كل نقلة نقلها إلى خارج فينقله. حتى يجتمع له ما يجب فيه القطع في سرقة واحدة، فقال: أرى على هذا القطع لأنها سرقة واحدة، ولكن ثقل ذلك عليه فحمل من البيت إلى الحجرة ومن الحجرة إلى خارج، فأراه وجب عليه في هذا القطع. قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن السارق إذا وجد الشيء المجتمع في البيت من الطعام أو المتاع الذي لا يقدر أن يخرجه في مرة فجعل ينقله شيئا شيئا أنها سرقة واحدة؛ لأنه إنما خرج بما خرج به مما وجد بنية العودة إلى الرجوع عن الباقي، فوجب عليه في ذلك القطع ولم يصدق في أنها سرقة أخرى بنية ثانية، وما في سماع أبي زيد عن ابن القاسم من أن السارق إذا دخل البيت في ليلة عشر مرات، وكل ذلك يخرج بقيمة درهم، أو درهمين لا قطع عليه حتى يخرج في مرة واحدة بقيمة ثلاثة دراهم ليس بخلاف لقول مالك في هذه الرواية؛ لأن الذي دخل في البيت في ليلة عشر مرات يحتمل أن يكون عاد مرة بعد أخرى لانتقال ما وجد في البيت، ويحتمل أن يكون عاد مرة بعد أخرى ليلتمس ما يسرق سوى ما سرق أولا احتمالا واحدا فصدق السارق في أنها سرقات مفترقات، والذي وجد القمح فجعل ينقله شيئا فشيئا الأظهر أنها سرقة واحدة فلم يصدق السارق في أنها سرقات مفترقات، وقد قال سحنون في الذي يدخل البيت مرات في ليلة واحدة فيجتمع مما خرج به ما يجب فيه القطع أنه يقطع إن كان ذلك في فور واحد فلم يصدق في أنها سرقات مفترقات إذا كانت في فور واحد، وصدقه ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه، وقوله أولى؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأما في مثل القمح(16/223)
وشبهه مما يجده السارق مجتمعا فينقله شيئا بعد شيء فلا ينبغي أن يختلف فيه والله أعلم.
[مسألة: يدخل في الحانوت فيه البز فيسوم به فيسرق المتاع]
مسألة وسئل عن الرجل يدخل في الحانوت فيه البز فيسوم به فيسرق المتاع أعليه القطع؟ فقال: أما الذي يدخل يسوم فيخرج صاحب المتاع فيدعه في البيت أو يأمره فيقول ناولني هذا أو ناولني هذا فلا أرى عليه قطعا، وأما الذي يدخل يسوم فهذا يسوم من ناحية وهذا يسرق من ناحية، فليس هذا على وجه الائتمان فأرى عليهم القطع، وليس على هذا الحديث الناس ربما تكثر المساومة فيجيء هذا فيسرق.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن السارق دخل الحانوت في جملة السوام كأنه منهم ملبسا في ذلك على صاحب الحانوت من غير أن يأذن له في دخوله، فلهذا أوجب مالك عليه القطع ولو أتاه بعينه يسومه فلما أدخله حانوته للسوم سرق منه لما وجب عليه قطع، فهذا معنى ما ذهب إليه مالك في هذه المسألة والله أعلم.
[مسألة: أدخل رجلا منزلا فسرق ما في كمه قطعه أو احتله]
مسألة وسئل مالك عمن أدخل رجلا منزلا فسرق ما في كمه قطعه أو احتله أترى عليه قطعا؟ فقال: قد أدخله منزله وائتمنه، أرأيت لو أن امرأته قطعت ما في كمه أو أجيره؟ وترك القطع في الشيء يشك فيه خير من القطع؛ لأن الذي لا يقضى عليه بالمال إذا رد المال لم يستطع أن يرد يده، وإن الذي يقطع يده لا يقدر على ردها كما كانت.(16/224)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة بين؛ لأن من أؤتمن فسرق ليس بسارق، وإنما هو خائن، وليس عن الخائن قطع، وقول مالك في هذه المسألة يشهد لصحة تأويله في المسألة التي قبلها، ولا إشكال فيما قاله من أن الخطأ في المال أخف من الخطأ في القطع لإمكان رد المال بخلاف قطع اليد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الصبي يكون على الدابة بباب المسجد فيأتي سارق فيقطع الركابين]
مسألة قلت أرأيت الصبي يكون على الدابة بباب المسجد فيأتي سارق فيقطع الركابين؟ قال: أراه سارقا وأرى عليه القطع إن كان الغلام منتبها، وإن كان راقدا فإنه يشبه ألا يكون عليه قطع، وما أدري وإني أراه يشبه الدابة لا يكون معها أحد فتسرق فلا أرى عليه قطعا، وليس ذلك مثل الدابة التي تربط في حرزها؛ لأن الدابة تربط فتسرق منها فأرى على سارقها القطع وأرى النائم يشبه بمن يكون دابته مخلاة فجاء السارق فحل السرج أو قطع الركاب فلا أرى على هذا القطع، قيل: أرأيت الذي تكون دابته يخليها على باب المسجد ويدخل يركع فتسرق أعلى سارقها القطع؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية في الصبي الذي يكون على الدابة إنه إن كان نائما فلا قطع على من سرق الركابين من عليها؛ لأن ذلك يشبه كونها مخلاة، فلم يعتبر كون الصبي على الدابة لكونه نائما، وقال في كتاب اللقطة من المدونة في السارق يسرق من الدار وترك بابها مفتوحا فيسرق منها غيره: إن على السارق الأول ضمان ما أخذه السارق الثاني من الدار من أجل أنه ترك بابها مفتوحا إن لم يكن في الدار أحد وأما إن كان فيها أحد فلا ضمان عليه فيما أخذ منها كان الذي فيها نائما أو غير نائم فساوى في السكان في الدار بين أن يكونوا نياما أو غير نيام في إسقاط الضمان عن الذي(16/225)
ترك بابها مفتوحا، وفرق في الصبي الذي يكون على الدابة بين أن يكون نائما أو غير نائم في وجوب القطع ممن سرق الركابين منها وهو عليها، وإنما فرق بين الموضعين لأن القطع حد من الحدود الذي الحكم فيه أن يدرأ بالشبهات، وتضمين المال ليس من هذا الباب، والمعنى فيه أنه تلف بسببين، أحدهما ترك السارق الباب مفتوحا، والثاني نوم الساكن في الدار عن غلقه، فلا يدخل الاختلاف في هذه المسألة من مسألة المدونة لما ذكرناه من أن الحد يدرأ بالشبهة ويشبه أن يدخل في مسألة المدونة من هذه، فيوجب الضمان فيما أخذ على الذي فتح الباب وتركه مفتوحا إذا كان الساكن فيها نائما؛ لأن النائم في حال نومه كالميت، فلم يكن تضييع، والذي فتح الباب ظالم فهو أحق أن يحمل عليه، وإنما قطع سارق رداء صفوان وإن كان سرق وهو نائم على ما جاء في الحديث من أجل أنه كان توسده، وأما الذي خلى دابته على باب المسجد ودخل للصلاة فيه فلا إشكال في أنه لا قطع على من سرقها؛ لأنها مخلاة في غير حرز وبالله التوفيق.
[مسألة: ما سرق من المحمل وفيه صاحبه أو ليس هو فيه]
مسألة فقيل له أرأيت ما سرق من المحمل وفيه صاحبه أو ليس هو فيه؟ فقال: أرى عليه القطع كان فيه صاحبه أو لم يكن إلا أن يكون مخلا هكذا فلا أرى عليه القطع.
قال محمد بن رشد: المحمل الذي على البعير كالسرج الذي على الدابة، فمن سرقه من عليه أو سرق شيئا قطع إلا أن يكون مخلى في غير حرز ولا حارز فلا يكون على من سرقه أو سرق شيئا منه قطع كما لو سرقه بحمله أو الدابة بسرجها وهي مخلاة وبالله التوفيق.(16/226)
[مسألة: يأتي الشاة وهي في حرزها فلا يدخل عليها ويشير إليها بالعلف حتى تخرج إليه]
مسألة وسئل مالك عن الذي يأتي الشاة بالعلف وهي في حرزها فلا يدخل عليها ويشير إليها بالعلف حتى تخرج إليه، قال: لا أرى عليه قطعا، قال أشهب وابن القاسم: عليه القطع.
قال محمد بن رشد: في سماع أبي زيد من ابن القاسم مثل قوله ههنا ومثل قول أشهب وهو قول ابن الماجشون وأنكر ذلك محمد بن المواز واختار قول مالك ألا قطع عليه، وقول ابن القاسم وأشهب وابن الماجشون في إيجاب القطع هو الأظهر لأنه في معنى من دخل في الحرز فأخرجها منه، إذ لا فرق بين أن يدخل السارق الحرز فيخرج منه المتاع أو يحتال له من خارج حتى يخرجه من حرزه دون أن يدخل الحرز ووجه القول الثاني أنه لم يتحقق أنه هو المخرج لها بإشاراته بالعلف إليها إذ لعله لو لم يشر لها به لخرجت أيضا.
[مسألة: يسرق من دار الرجل ثم يبدو له فيرد السرقة]
مسألة وأرانا أبو إسحاق البرقي قال: سألت أشهب عن السارق يسرق من دار الرجل ثم يبدو له فيرد السرقة في الموضع الذي أخذها منه، قال يقطع؛ لأن القطع قد كان وجب عليه قبل أن يردها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن القطع حد من حدود الله وحق من حقوقه، فلا يسقط برد السارق السرقة إلى موضعها إن كان ذلك قبل أن يرفع أمره إلى الإمام، كما لا تسقط بهبة المسروق إياها له وإن كان وهبها له قبل أن يرفع أمره إلى الإمام، وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفوان بن أمية فهلا قبل أن تأتيني به» إذ أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يد سارق ردائه، فقال: إني لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة؛ لأن المعنى في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهلا قبل أن تأتيني به فهلا تصدقت عليه به قبل أن تأتيني به، وأبو حنيفة يقول إنه إذا ملك السارق السرقة(16/227)
قبل أن يقطع لم يقطع، فيأتي على قياس قوله أنه لو رد السرقة في موضعها قبل أن يقطع لم يقطع، ولو قيل أنه إن رد السرقة في موضعها قبل أن يرفع أمره إلى الإمام أو وهبها له المسروق منه قبل أن يرفع أمره إلى الإمام لم يقطع لكان لذلك وجه، وهو التعلق بظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لصفوان بن أمية فهلا قبل أن تأتيني به لأن الظاهر منه أنه لو تصدق به عليه قبل أن يأتيه به ثم أتاه به لم يقطع يده فيأتي في المسألة على هذا ثلاثة أقوال، أحدها أنه يقطع وإن رد السرقة في موضعها أو وهبها له المسروق منه، وهو مذهب مالك، الثاني أنه لا يقطع إذا ردها في موضعها أو وهبها له المسروق منه، وهو نص قول أبي حنيفة في الهبة، والثالث الفرق بين أن يردها موضعها أو يهبها له المسروق منه قبل أن يرفع أمره إلى الإمام أو بعد أن رفع إليه، وهو قول أبي يوسف في الهبة على ظاهر الحديث.
[: القطع في الحرابة والسرقة لا يتعين في اليد التي لم تقطع دون التي قطعت]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها قال وسألت عن لص أخذ وقد ضرب ضربة بسيف على يده اليسرى فقطعت أو بقيت متعلقة لا ينتفع بها وقد وجب عليه قطع اليد والرجل، قال ابن القاسم: إن كان أصابه ذلك في فوره الذي أخذ فيه لم أر أن يقطع إلا رجله اليمنى وإن كان إنما هو شيء فعله بعد ذلك تلصص فيه لم يكن في فوره ذلك فأرى أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وكذلك السارق يتبعه صاحب المتاع بسيفه فيضرب يده فيقطعها ثم يؤخذ فليس عليه غير ذلك.
قال محمد بن رشد: تفرقته في اللص والسارق يقطع يد أحدهما في فور، وتلصصه أو سرقته في غير فور ذلك لسبب آخر صحيحة لأن القطع في الحرابة والسرقة لا يتعين في اليد التي لم تقطع دون التي قطعت، إذ لو(16/228)
كانت التي لم تقطع شلاء لقطعت في السرقة أو الحرابة الأخرى والرجل الذي يقطع منها، فقول ابن القاسم في هذه المسألة على قياس قول مالك في المدونة في الإمام يأمر بقطع يمين السارق فيخطئ القاطع فيقطع شماله أن ذلك يجزيه ولا يقطع يمينه، وابن نافع يقول لا يجزيه ويكون على القاطع الدية، وتقطع يده اليمنى فيلزم على قياس قوله في هذه المسألة ألا يجزى عنه قطع يده اليسرى وإن كان ذلك في فور تلصصه، وتقطع يده اليمنى والرجل التي تقطع معها، وذلك بخلاف القصاص لو وجب أن يقتص من يمين رجل فقطعت شماله لم يجزه ذلك باتفاق، وفي الواضحة لابن الماجشون مثل قول ابن نافع قال ليس خطأ الإمام ولا خطأ القاطع بالذي يزيل القطع عن الموضع الذي يجب، فتكون الدية في مال القاطع أو الإمام إن كان هو المخطئ، لا على العاقلة، قال: وإلى هذا القول رجع مالك، واختار ابن حبيب القول الأول وحكى في ذلك قضية عن علي بن أبي طالب، واختلف على القول إن سرق بعد ذلك، فقيل تقطع رجله اليسرى، وقيل بل اليمنى ليكون من خلاف وبالله التوفيق.
[مسألة: يسرق ربع دينار تبرا أووزن ثلاثة دراهم كيلا فضة]
مسألة وعن الرجل يسرق ربع دينار تبرا أو وزن ثلاثة دراهم كيلا فضة والفضة والعين ليستا سواء في الجواز، قال ابن القاسم: تقطع يده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن وجوب القطع في السرقة وتحديد ما يجب القطع فيه قد أحكمه الشرع في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل أن تضرب الدنانير والدراهم.
[مسألة: سرق الحصر حصر المسجد]
مسألة وقال ابن القاسم: من سرق الحصر حصر المسجد قطع وإن(16/229)
كان من المسجد الحرام الذي لا أبواب له، وليست الأبواب التي تحرز، ومن سرق الأبواب قطع أيضا، ومن سرق القناديل فإني أرى أن يقطع ليلا سرق ذلك أو نهارا، قد قال ابن القاسم في كتاب أسلم وله بنون صغار في الذي يسرق من حصر المسجد إن كانت سرقته نهارا لم أر عليه قطعا، وإن كان تسور عليها ليلا بعد أن أغلق بابه فأخرج منها ما يكون فيه القطع قطع وقال فيه أيضا في الذي يسرق من المسجد الحرام أو مسجد لا يغلق عليه إنه لا قطع عليه، ومن سرق القناديل قطع، وقال أرى أن يقطع سرقه ليلا أو نهارا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها محصلا مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أقربسرقة بغير محنة ولا شيء ثم نزع]
مسألة وقال مالك فيمن أقر بسرقة بغير محنة ولا شيء ثم نزع، قال: لا أرى أن يقام عليه الحد حتى يعين على ما قال بأمر يقيم عليه، وقال ابن القاسم: هو رأيي، قيل له فإن أخرج الدينار وقال هي هذه؟ فقال ليس هذا بتعيين، ليس في الدينار تعيين، وقد روى عن مالك في كتاب أوله كتب عليه رجل ذكر حق، قال ابن القاسم وسئل مالك عمن اعترف بغير محنة ثم نزع لم أر أن يقال، قال ابن القاسم يريد إذا عين، وبلغني ذلك عنه، وقال أشهب مثل ذلك كله إذا كان إما ما يخاف ولا تؤمن سطواته مثل صاحب الشرط، وهو عندي إكراه وإن لم يمتحن لأنه يرى السياط موضوعة ويخاف، وقال في الدنانير مثله إلا أن يعرف إنما هي بأعيانها.(16/230)
قال محمد بن رشد: قوله فيمن أقر بسرقة بغير محنة ولا شيء ثم نزع، قال لا أرى أن يقام عليه الحد حتى يعين على ما قاله بأمر يقيم عليه معناه إذا كان إقراره بعد أن أخذ إذ لا اختلاف في أنه يقطع إذا أقر وإن لم يعين إذا كان إقراره قبل أن يؤخذ، وفيه تناقض؛ لأن قوله ثم نزع يدل على أنه لو لم ينزع لأقيم عليه الحد وإن لم يعين، وهو قد قال إنه لا يقام عليه الحد حتى يعين على ما قال، وقوله بأمر يقيم عليه يدل على أنه يقبل رجوعه بعد التعيين، وفي ذلك اختلاف، قيل إنه يقبل رجوعه وإن جحد الإقرار أصلا وهو ظاهر قوله بأمر يقيم عليه، وقيل لا يقبل رجوعه إلا أن يقول إنما أقررت لوجه كذا وكذا، وهو قول مالك في كتاب أوله كتب عليه ذكر حق أن من اعترف بغير محنة ثم نزع لم أر أن يقال؛ لأن المعنى في ذلك أنه لا يقال إلا أن يقول إنما أقررت لوجه كذا وكذا، وذلك إذا عين على ما فسره ابن القاسم، وقد مضى القول على هذه المسألة مستوفى في رسم السرقة من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: سرق من القمح يجمع في المسجد لزكاة الفطر]
مسألة وسئل عمن سرق من القمح يجمع في المسجد لزكاة الفطر أيقطع وإن لم يخرج به من المسجد؟ قال: نعم هو قول مالك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله وإن لم يكن عليها حارس فحكم لها بحكم حصر المسجد، وهو قول أصبغ خلاف ما حكاه عن مالك في الواضحة واختاره ابن حبيب، وقد مضى هذا في أول سماع ابن القاسم.
[مسألة: سرق متاعا لرجل ثم قال إنما هو متاع لي استودعته إياه]
مسألة وسئل عمن سرق متاعا لرجل وشهد عليه بذلك ثم قال إنما هو متاع لي استودعته إياه، قال: يقطع ولا يصدق، قيل له ويحلف له صاحب المتاع؟ قال: ما أرى أن يحلف له، قيل له فإن صدقه(16/231)
صاحب الحق وقال هو متاعه؟ قال: لا يقبل منه ويقطع، قال عيسى: أحب إلي إذا صدقه صاحب المتاع ألا يقطع.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يصدق صاحب المتاع في أن المتاع متاع السارق إذا شهد عليه بالسرقة فادعى أن المتاع متاعه هو على قياس قوله في المدونة في الذي يشهد عليه بسرقة مال رجل غائب فيدعي أن صاحب المتاع أرسله عنه فيصدقه في ذلك أنه لا ينظر في قوله ويقطع يده، يريد ويدفع إليه المال بإقراره له به وإن قطعت يده، وقوله ما أرى أن يحلف إذا كذبه صحيح على قياس قوله إنه لا يصدق إن صدقه، وقد قيل إنه يحلف، ووقع في المدونة اختلاف في الرواية إذا نكل عن اليمين على القول بأنه يحلف السارق وأخذ المتاع هل تقطع يده أم لا، وفي بعض الروايات قال أرى أن تقطع يده ويحلف مدعي المتاع، وهو قول أشهب إن يده تقطع وإن حلف واستحق المتاع، وفي بعضها قال أرى أن يحلف مدعي المتاع أن المتاع ليس للسارق، فإن نكل حلف السارق ودفع إليه المتاع ولم يقطع يده، وهو الأظهر؛ لأن الذي يوجبه النظر أن ينظر فيما يدعيه السارق من أن المتاع متاعه، فإن أشبه قوله وصدقه صاحب المتاع لم يقطع يده، وإن كذبه لزمته اليمين، فإن نكل عنها وحلف السارق [استحق] ، المتاع ولم يقطع يده، وإن لم يشبه قوله وصدقه صاحب المتاع لم يصدق وقطعت يده، وإن كذبه لم يلزمه يمين على ما قاله في هذه الرواية، فهذا هو المعنى فيها إن قول السارق لم يشبه فلذلك لم يصدق صاحب المتاع في ألا قطع إن صدقه، ولا أرى عليه اليمين إن كذبه، واستحب عيسى بن دينار أن لا يقطع إذا صدقه صاحب المتاع وإن لم يشبه قوله؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والذي وقع في بعض روايات المدونة من أنه يقطع يده ويحلف المسروق منه، فإن نكل عن اليمين حلف السارق واستحق المتاع وقطعت يده بعيد لأنه يبعد إن أشبه قوله ونكل(16/232)
المدعي فحلف هو واستحق المتاع أن تقطع يده، ويبعد إن لم يشبه قوله أن يجب على المدعي للمتاع يمين وبالله التوفيق.
[: يدخل الحرز أو يدخل دار الرجل فيذبح شاة ثم يخرجها مذبوحة]
ومن كتاب العرية وسئل عن السارق يدخل الحرز أو يدخل دار الرجل فيذبح شاة ثم يخرجها مذبوحة، فقال: إن كان قيمتها مذبوحة ما يجب فيه القطع قطع، فإن كان له مال يوم سرق غرم قيمة الشاة حية، وإن لم يكن له مال قطع ولم يتبع بقيمة الشاة مذبوحة واتبع بما بين قيمتها مذبوحة وقيمتها حية دينا في ذمته كان له مال يوم سرق أو لم يكن له مال؛ لأنه فساد أفسده قبل أن يخرج، فكل ما أفسده السارق في حرز رب المتاع من كسر جرة بزيت أو سمن أو حرق ثوب أو فساد شيء فهو لقيمته ضامن إذا قطع كان له مال أو لم يكن له مال؛ لأنه ليس فيه قطع، وإنما قطع في الذي خرج به، وكذلك لو دخل بيتا فأخذ ثوب وشيء فقطعه خرقا ثم خرج بالخرق وثمن ما خرج به من الحرق ما يجب فيه القطع فإنه إن كان له مال قطع وغرم قيمة الثوب صحيحا إلا أن يشاء رب الثوب أن يأخذ الخرق إذا وجدها في يديه ويرغب فيها، فإن أخذها فلا شيء على السارق، وإن لم يكن له مال اتبع بما بين قيمته صحيحا وقيمته مقطوعا إذا أبى أن يأخذ الخرق كان له مال يوم سرق أو لا مال له، فقس جميع هذه الأشياء على هذا الوجه..
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيما أفسده السارق في داخل الحرز أنه لا يقطع فيه ولا في أنه يضمن قيمته مليا كان أو معدما وإنما اختلف فيما أفسد مما يوصل إلى السرقة ككسر الأقفال وهدم الجدر وما أشبه ذلك،(16/233)
فقال ابن دينار في المدنية إن كل شيء لا يصل إلى السرقة إلا به فكسره أو هدمه فسرق لم أر عليه ضمانا لما فعل إذا قطعت يده، فإن أدرك قبل أن يسرق أو يموت قبل أن يسرق رأيت عليه الضمان، وقال فيها ابن القاسم هو ضامن لما كسر أو هدم أو أفسد قطع أو لم يقطع، وإنما ذلك بمنزلة ما لو دخل بيت رجل فأفسد شيئا وخرج بشيء آخر فهو يقطع فيما خرج به ولا يكون عليه غرمه إلا أن يكون موسرا، وما أفسد مما لم يخرج به فعليه غرمه كان موسرا أو معسرا وقوله في الرواية في الثياب التي خرقها في الحرز وخرج بها مخرقة إنه إن أخذها فلا شيء على السارق هو مثل ما يقوم من كتاب الحدود في القذف من المدونة، ومثل قول أشهب خلاف ماله في كتاب الغضب منها من أنه مخير بين أن يأخذه وما نقصه، أو يضمنه جميع قيمته، وقد قيل إنه ليس له إلا ما نقصه، وهو قول مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب العارية والثلاثة الأقوال كلها قائمة من المدونة، وهذا في الفساد الكثير، وأما الفساد اليسير فلا اختلاف في أنه لا يجب عليه إلا ما نقصه بعد الرفو وبالله التوفيق.
[مسألة: السارق كم من رجل يقوم سرقته أو هل يجوز تقويم واحد]
مسألة وسألته عن السارق كم من رجل يقوم سرقته أو هل يجوز تقويم واحد؟ فقال قال مالك: لا يقوم سرقة السارق إلا رجلان ذوا عدل، قلت فإن دعا رجلين فاختلفا في القيمة، قال: لا يقطع حتى يجتمع رجلان، فإذا اجتمعا على القيمة لم يلتفت إلى من خالفهما، قلت وكذلك العبد الذي يقوم في الحرية وكل ما يحتاج إليه القاضي من التقويم لا يقوم ذلك إلا رجلان؟ قال: نعم لا يقوم ذلك إلا رجلان، قلت فإن دعا أربعة فاجتمع رجلان على قيمة ورجلان على قيمة؟ قال: ينظر القاضي إلى أقرب التقويم إلى السداد.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يقوم سرقة السارق إلا رجلان عدلان نحوه في المدونة، ومعناه في الاختيار وما يستحب له أن يفعل، لا أنه(16/234)
لا يجوز له إلا ذلك؛ لأن كل ما يبتدى القاضي فيه السؤال فالواحد يجزى لأنه من باب الخبر لا من باب الشهادة كالرسول لتحليف المرأة والمترجم له عمن لا يفهم كلامه، والمستنكه لمن استراب في سكره وما أشبه ذلك كثير، فلو اكتفى الإمام في تقويم سرقة السارق بواحد لأجزأه. وأما إذا دعا رجلين فاختلفا في قيمتها فقوله إنه لا يقطع حتى يجتمع على أن قيمتها ما يجب فيه القطع رجلان بين لا يجب أن يختلف فيه، إذ لا يصح أن يعمل قول أحدهما وأما إذا دعا رجلين فاختلفا في قيمتها فقوله إنه لا يقطع حتى يجتمع على أن قيمتها ما يجب فيه القطع رجلان بين لا يجب أن يختلف فيه، إذ لا يصح أن يعمل قول أحدهما وقد خالفه الآخر، إذ لا مزية لأحدهما على صاحبه.
وأما لو دعا أربعة فاختلفوا قال الاثنان منهم قيمتها ثلاثة دراهم، وقال الاثنان قيمتها درهمان لوجب أن يقطع بشهادة اللذين شهدا أن قيمتها ثلاثة دراهم لأنهما أثبتا بشهادتهما حكما نفاه الآخران، فكان من أثبت حكما أولى ممن نفاه ومثل هذا في المدونة، وقوله في هذه الرواية إنه إن دعا أربعة فاجتمع رجلان على قيمة، ورجلان على قيمة إن القاضي ينظر إلى أقرب القيمة إلى السداد لا يعود على مسألة تقويم السرقة، وإنما يعود على تقويم العبد في الحرية وما أشبه ذلك، ونظر القاضي إلى أقرب القيمة إلى السداد هو أن يسأل من سواهم، إذ قد اختلفوا عليه حتى يتبين له السداد من ذلك وذلك يبعد في تقويم السرقة لأن الاثنين قد أوجبا بشهادتهما حكما وهو القطع فوجب أن يعمل قولهما ولا يلتفت إلى من خالفهما كالشهود إذا اختلفوا في شهادتهم ولا مزية لأحد الطائفتين على الأخرى فيما شهدت به، غير أن إحدى الطائفتين أوجبت بشهادتها حكما فإنه يؤخذ بشهادة الطائفة التي أوجبت الحكم منهما على المشهور في المذهب، وقد قيل إنهما إذا تكافيا في العدالة أسقطتا، فعلى هذا إذا دعا القاضي أربعة لتقويم السرقة فاختلفوا في تقويمها قومها الاثنان منهم بثلاثة دراهم والاثنان بدرهمين يسأل الإمام غيرهما ويترك قولهم إذ قد سقط باختلافهم وبالله التوفيق.(16/235)
[: سارق العبد الكبير الأعجمي يقطع سارقه]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه قال وسألته عن العجمية تسرق فتوطأ، فقال: على سارقها الحد والقطع، وقال: إن كان حصنا رجم ولم يقطع لأن القتل يأتي على ذلك كله، وإن كان بكرا قطع وأخذ حد الزنا منه مائة جلدة إن كان حرا ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: قوله في العجيمة إن سارقها يقطع هو مثل ما في المدونة وغيرها من أن سارق العبد الكبير الأعجمي يقطع سارقه، بخلاف العبد الكبير الفصيح؛ لأن العبد الفصيح لا تتأتى سرقته؛ لأنه لجهله وعجومته وقلة مبرزه في حكم البهيمة أو أدنى مرتبة منه، وكذلك الصغير يقطع سارقه حرا كان أو عبدا وقال ابن الماجشون: لا يقطع سارق الصغير الحر إذ ليس بمال وأما وجوب حد الزنا على سارقها إذا وطئها فلا إشكال فيه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 6] الآية.
[مسألة: يسرق من الملاهي]
مسألة وسألت ابن القاسم عما يسرق من الملاهي مثل المزمار والعود والدف والكبر وجميع الملاهي هل فيه قطع إذا كان قيمته ربع دينار؟ قال: إذا كان قيمته ربع دينار بعد أن يكسر أو تكون فيه فضة يكون وزنها ربع دينار ففيها القطع إلا ما كان من الدف والكبر فإنه من سرقهما فإن كان في قيمته صحيحا ما يكون فيه القطع قطع؛ لأن الدف والكبر قد أرخص في اللعب بهما، فكل ما رخص فيه ففيه قيمته صحيحا إذا كان قيمته ربع دينار يقطع.(16/236)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية في الكبر إنه يقطع سارقه في قيمته صحيحا لأنه قد رخص في اللعب به يريد في العرس والملاك خلاف قوله في سماع سحنون من جامع البيوع إن البيع يفسخ فيه ويؤدب أهله، ولا اختلاف في ترخيص اللعب بالدف وهو الغربال في العرس والملاك، واختلف قول ابن القاسم في الكبر فأجازه في رواية عيسى عنه، وفي كتاب النكاح، ولم يجزه في سماع سحنون من كتاب جامع البيوع، وأجاز ابن حبيب المزهر وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النكاح فلا معنى لإعادته.
[مسألة: الكلب يسرق وفي عنقه قدة وثمن القدة ربع دينار]
مسألة قلت فالكلب يسرق وفي عنقه قدة، وثمن القدة ربع دينار قال: إن كان ثمن القدة ربع دينار ففيه القطع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على قياس قوله وروايته عن مالك في أن الكلب لا يجوز بيعه لما جاء من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب فحمله على عمومه في جميع الكلاب ما أذن منها في اتخاذه وما لم يؤذن، وذهب سحنون إلى إجازة بيع الكلب المأذون في اتخاذه وأكل ثمنه، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم؛ لأنهم جعلوا نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ثمن الكلب مخصصا في الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» ، والاقتناء لا يكون إلا بالاشتراء، فعلى قول هؤلاء يقطع سارق الكلب المأذون في اتخاذه إذا كانت قيمته ربع دينار فصاعدا وقد(16/237)
مضى هذا المعنى في كتاب الرطب باليابس من سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات وفيما سواه من المواضع.
[مسألة: سرق النصراني من النصراني مزمارا]
مسألة قلت فإذا سرق النصراني من النصراني مزمارا أيقطع في قيمته صحيحا أو مكسورا؟ قال: بل في قيمته مكسورا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن الله تعالى يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فلا يقطع النصراني في سرقته من النصراني إلا فيما يقطع به المسلم في سرقته من النصراني أو المسلم ألا ترى أنه لو سرق منه خمرا أو خنزيرا لم يقطع فيه وإن كان ذلك مالا لهم يحكم بغرمه على من استهلكه لهم على المشهور في المذهب وبالله التوفيق.
[: سرق جلد ميتة مدبوغا]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال: ومن سرق جلد ميتة مدبوغا إنه يقطع إذا بلغ ما يقطع فيه وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب إن كان فيه من صنعته ما تكون قيمته ثلاثة دراهم قطع وإلا لم يقطع.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يقطع إذا بلغ ما يقطع فيه يدل على جواز بيعه وأنه يطهر بالدباغ طهارة تامة تجيز لبسه والصلاة به وبيعه إذ ضعف عنده الاختلاف في ذلك حتى لم يره شبهة يدرأ الحد عنه بها، والقول الثاني الذي ذكره من غير هذا الكتاب أنه لا يقطع إلا أن تكون قيمة ما فيه من صنعة ثلاثة دراهم هو قوله في المدونة وفيه نظر؛ لأن الصنعة مستهلكة(16/238)
فيه لا يمكن أن تفصل منه فتهلك، ألا ترى أنه لا يجيز على قوله وروايته عن مالك في أنه لا يطهر بالدباغ إلا للانتفاع به ببيعه أصلا ولا بقيمة ما فيه من الصنعة فكان القياس على القول بأنه لا يباع ألا يقطع فيه على حال، ولو قيل إنه لا يقطع على مذهب من يجيز بيعه مراعاة لقول من لا يجيز بيعه لكان لذلك وجه ويتحصل فيه على هذا ثلاثة أقوال وبالله التوفيق.
[: السفينة يركب فيها الجماعة فيسرق بعضهم من بعض]
ومن كتاب أوصى قال ابن القاسم في السفينة يركب فيها الجماعة كل إنسان منهم على متاعه قد أحرزه كله تحته فيسرق بعضهم من بعض قال زعم مالك أنه إن سرق منه وهو عليه قطع، وإن قام فسرق منه وقد قام عنه فلا شيء عليه.
قال محمد بن رشد: السفينة مشتركة بين الركاب فيها، فالحكم في السرقة منها حكم السرقة من صحن الدار المشتركة بين السكان فيها يحاص إن سرق بعض الركاب فيها من متاع بعض وهو على متاعه قطع وإن لم يخرج بما سرق عن السفينة وإن سرقه وهو قد قام عن متاعه لم يقطع وإن خرج به عن السفينة، وإن سرق أجنبي من السفينة شيئا من متاع أحد وصاحب المتاع على متاعه فأخذ قبل أن يخرج بما سرق قبل أن يخرج من السفينة قطع على اختلاف، وإن كان سرقه وصاحب المتاع ليس على متاعه لم يقطع باتفاق، وأما إن خرج بما سرق من السفينة فيقطع كان صاحب المتاع على(16/239)
متاعه إذ سرقه أو لم يكن عليه، وقد مضى بيان هذا في أول سماع ابن القاسم وطرف منه في رسم كتاب السرقة من سماع أشهب وبعض ذلك كله يبين بعضا.
[: اتزر بإزار فأخذ في البيت والإزار عليه ثم أفلت من أيديهم]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وسئل عن سارق دخل بيت رجل فاتزر بإزار فأخذ في البيت والإزار عليه ثم أفلت من أيديهم فخرج من الدار والإزار عليه علم به أهل البيت أو لم يعلموا، قال: لا قطع عليه إذا أخذ فأفلت من أيديهم علم أهل البيت أن الإزار عليه أو لم يعلموا فرواها محمد بن خالد عن ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأنه لم يخرج به على وجه السرقة، وإنما خرج به مختلسا له، فوجب ألا يقطع.
[: يدخل بيت رجل فأكل من الطعام ما يكون ثمنه أكثر من ربع دينار]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسئل عن السارق يدخل بيت رجل فأكل من الطعام ما يكون ثمنه أكثر من ربع دينار فيؤخذ خارجا من الدار، فقال: لا قطع عليه، وعليه العقوبة وغرم ما أكل.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن ما أكله في الحرز فقد استهلكه ولا منفعة له فيه إذا خرج به، بخلاف الدينار يزدرده في الحرز، هذا يقطع فيه إذا خرج به؛ لأنه ليس بمستهلك له بازدراده إياه وبالله التوفيق.(16/240)
[مسألة: يسرق بساطا من بسط المسجد التي تطرح في رمضان]
مسألة وسئل عن السارق يسرق بساطا من بسط المسجد التي تطرح في رمضان، فقال: إن كان عنده صاحبه حين سرقه قطع وإلا فلا قطع عليه لأنا سألنا مالكا عن محارس الإسكندرية يعلق الناس سلاحهم ومتاعهم فيسرق من ذلك شيء، فقال: إن كان صاحبه عنده حين سرقه قطع وإلا فلا قطع عليه، وكذلك الحمام إذا سرق السارق منه شيئا فإن كان عند المتاع الذي سرق حارس قطع وإلا فلا قطع عليه إلا أن يكون أخرجه من وراء الجدار فنقب الجدار حتى سرق المتاع فإن ذلك يقطع كان عند المتاع أحد أو لم يكن، قلت أفترى المسجد حرزا للبساط حتى يخرج؟ قال: إذا احتمله من مكانه قطع وإن لم يخرج به من المسجد لأن المسجد ليس حرازا لشيء.
قال محمد بن رشد: ساوى في هذه الرواية بين البساط الذي يطرحه الرجل في رمضان في المسجد ليصلي عليه ثم يأخذه وبين ثياب الذين يدخلون الحمام في أنه لا قطع على من سرق ذلك إلا أن يكون معها صاحبها أو يكون عليها حارس، وقال في الحصير إنه إذا كان معه صاحبه فالقطع على من سرقه إذا احتمله من موضعه وإن لم يخرج به من المسجد، وسكت في ذلك عن الحمام، وفيه تفصيل قد مضى في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، وهو الفرق بين أن يدخل للسرقة أو ليتحمم ولم يحكم في هذه الرواية للحصير الذي يضعه الرجل في المسجد ليصلي عليه في رمضان ثم يأخذه بحكم حضور المسجد، وقد قيل: إنه يحكم له بحكمها فيدخل ذلك من الاختلاف ما يدخل في الفطرة توضع فيه فتسرق منه، وقد مضى بيان هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وأما ما طرح في المسجد من البسط في رمضان ومن الحصر المحبسة عليه لترفع منه بعد رمضان فلا اختلاف في أن حكمها في السرقة حكم حصور المسجد الثابتة فيه في رمضان وغيره وقد مضى(16/241)
تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع ابن القاسم وبالله التوفيق.
[مسألة: لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل]
مسألة قلت فالراعي يبعد بغنمه فيدركه الليل في موضع لم يكن لها المراح فيجمعها ثم يبيت فيسرق منها، قال: على من سرق منها ما يجب فيه القطع القطع؛ لأن ذلك مثل مراحها، قال وحريسة الجبل كل شيء يسرح للرعي من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك من الدواب ليس على من سرق منها شيئا القطع، وإن كان أصحابها عندها.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله لا اختلاف فيه للنص الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن» ، ومبيت الراعي بماشيته إذا جمعها وبات عليها مراح لها في وجوب القطع على من سرق منها، وإن لم يكن ذلك مراحها المعلوم؛ لأنه بمنزلته في المعنى.
[مسألة: السرقة من حوانيت السوق التي تدخل بغيرإذن]
مسألة وقال في حوانيت السوق التي تدخل بغير إذن ليس على من سرق منها شيئا القطع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من سرق من موضعٍ أُذن له في دخوله فليس بسارق، وإنما هو خائن.
[: سرق من رجل طعاما فلقيه بغيرالبلد الذي سرقه فيه]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال ابن القاسم قال مالك من سرق من رجل طعاما فلقيه بغير(16/242)
البلد الذي سرقه فيه فليس على السارق أن يعطيه إياه إلا بالبلد الذي سرقه منه فيه، قال ابن القاسم قال مالك: إلا أن يتراضيا على مثل ما تراضيا عليه في السلف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه ليس للمسروق منه إلا مثل طعامه في البلد الذي سرق منه وإنما اختلف إذا وجد طعامه بعينه في غير البلد الذي يسرقه منه على ثلاثة أقوال، أحدها أنه ليس له إلا مثل طعامه في البلد الذي سرقه منه، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في سماع سحنون من كتاب الغصب، والثاني أنه مخير بين أن يأخذ طعامه وبين أن يضمنه مثله في البلد الذي سرقه منه فيه وهو قول أشهب في سماع أصبغ من كتاب الغصب، والثالث الفرق بين أن تكون البلد بعيدا أو قريبا وهو قول أصبغ، وقد مضى القول على حكم العروض والحيوان في ذلك في السماعين من الكتاب المذكور فلا معنى لإعادته.
[: يدخل البيت فيأخذ دينارا فيزدرده ثم يخرج من الدار]
من كتاب إن أمكنتني من حلق رأسك وسألته عن السارق يدخل البيت فيأخذ دينارا فيزدرده ثم يخرج من الدار، قال عليه القطع؛ لأنه خرج به وهو شيء يخرج به ويأخذه.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ إذ ليس ازدراده إياه باستهلاك فهو بخلاف الطعام يأكله في الحرز، وقد مضى هذا في رسم أسلم وبالله التوفيق.
[مسألة: ساق غنمه من مراحها إلى مسرحها فسرق منها أحد]
مسألة وسئل عن الراعي يجمع غنمه ثم يسوقها وإيجابها إلى المراح(16/243)
فيسوقها على الطريق قد أخرجها من الرعي فيسرق رجل منها شاة، قال على من سرق منها ما يساوي ربع دينار القطع.
قال محمد بن رشد: وكذلك على قياس قوله لو سرق منها شيء في خروجه بها من مراحها إلى مسرحها، وهي في الطريق قبل أن تصل إلى المسرح، وقال ابن حبيب قال أصبغ ومن ساق غنمه من مراحها إلى مسرحها فسرق منها أحد قبل أن تخرج من بيوت القرية إنه يقطع، وكذلك إذا ردها من مسرحها إلى مراحها فإذا سرق منها بعد أن أدخلها القرية وخالطت البيوت وهو يسوقها فإنه يقطع وإن لم تدخل المراح، وقول ابن القاسم أظهر من جهة المعنى، وذلك أن القطع إنما سقط عن السارق فيها إذا كانت في مسرحها؛ لأن الراعي لها لا يقدر على حفظها؛ لتفرقها في المرعى فصارت مهملة في غير حرز، فإذا جمعها وساقها في الطريق كان كونه معها سائقا لها حرزا لها كالمراح، وقول أصبغ أظهر من جهة الاعتبار بالدليل؛ لأن في قوله في الحديث فإذا آواها المراح فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن دليل على أنه لا قطع فيها قبل أن يأويها المراح، وقول ابن القاسم أولى بالصواب؛ لأن القياس يقدم على الدليل، إذ قد قيل إنه لا يجب الحكم بدليل الخطاب وبالله التوفيق.
[مسألة: الزرع إذا جمع وكان في حظير إن على سارقه القطع]
مسألة وقال إذا كان على النخل أو الزرع حظير فحصد الزرع أو جَدَّ الثمر فجمع في مكان واحد وأغلق عليه الباب فعلى من سرق منه القطع، وأما الذي لا قطع عليه فيه الذي يكون في الفحوص من غير حظير ولا باب يغلق ولا جرين فذلك الذي لا قطع عليه فيه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الزرع أو الثمر إذا جمع أو جد وكان في حظير إن على سارقه القطع وإن ترك بموضعه لم يحمل بعد إلى الجرين لا(16/244)
أعرف فيه نص خلاف، وقد ذكرنا في رسم المحرم أن الخلاف قد يدخل في ذلك في المسألة التي ذكرناها من كتاب محمد وقوله: إنه إذا كان في الفحوص من غير حظير ولا باب يغلق ولا جرين فلا قطع فيه هو مثل ما تقدم في رسم المحرم من سماع ابن القاسم خلاف ما في رسم كتاب الحدود من سماع أشهب، وقد ذكر ابن المواز الروايتين جميعا، واستحسن رواية ابن القاسم وذكر ابن حبيب الروايتين جميعا وقال إن أصبغ أخذ برواية ابن القاسم مثل ما استحسن ابن المواز، وقد ذكرنا فيما مضى من رسم المحرم أن من الناس من ذهب إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، وأن ذلك إنما يرجع إلى الفرق بين أن يجمع الزرع إذا حصد بعضه إلى بعض ويربط على ما قاله في كتاب ابن المواز، وبين أن يحصد ويترك في موضعه دون أن يجمع أو يربط وبالله التوفيق.
[: سرق غزلا فنسجه ثوبا أو سرق لبنا فعمل منه جبنا أو سرق كتانا فغزل منه ثوبا]
ومن سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب العتق قال عيسى وسألت ابن القاسم عن رجل سرق غزلا فنسجه ثوبا أو سرق لبنا فعمل منه جبنا أو سرق كتانا فغزل منه ثوبا أو سرق حنطة فطحنها دقيقا أو عجن منها خبزا أو سرق بيضا فأخرج منها فراخا، أو سرق جلودا فصنع منها فروا يعرف (أهل كل صنف من هذا بأعيانهم أو سرق فضة أو ذهبا فصاغ منها حليا، أو سرق حديدا فعمل منه سيفا، قال: أما الطعام فعليه مثله في جودته وصنفه إن كان يوجد وإلا فقيمته إلا أنه قد دخلني الشك من الدقيق الذي طحن من حنطة مسروقة أن تكون الدقيق له وقد ذكر فيه عن من مضى إلا أني أرى(16/245)
عليه حنطة مثله والخبز عندي قوي بين ألا يكون عليه فيه إلا القمح الذي أخذ، قال وأما الغزل فعليه قيمته، وأما الكتان والحديد فعليه مثله؛ لأن مالكا قال لي في البيع الفاسد في الكتان يرد مثله وما أشبه ذلك مما يوزن، وقال لي في القطن مثله، وهو رأيي، والحديد كذلك؛ لأن هذه الأصناف يوجد مثلها، وإن الحيوان والثياب لا يوجد من شيء منها مثله، وأما الفضة والذهب ففضة وذهب مثلها ولا يأخذها مصوغة.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم في السارق أو الغاصب إذا أفات ما سرقه بعمله فيه أن ذلك إن كان مكيلا أو موزونا فسواء أخرج فيه شيئا من ماله سوى العمل كالسويق يلته بسمن وما أشبه ذلك أو لم يخرج فيه من ماله شيئا سوى العمل كالحديد يعمل منه سيوفا والفضة والذهب يعمل منها حليا وما أشبه ذلك ليس للمسروق منه إلا المثل فيما سرقه له إلا أن يكون العمل يسيرا مثل القمح يطحنه فاختلف في ذلك قوله، مرة قال يأخذه مطحونا ومرة قال ليس له إلا مثل قمحه.
وأما العروض فيفترق الأمر فيها عنده بين أن يخرج فيها شيئا من ماله سوى العمل كالثوب يصبغه وما أشبه ذلك أو لا يخرج فيها شيئا من ماله سوى العمل، فأما ما أخرج فيه من ماله شيئا سوى العمل فمرة قال: هو فوت ليس لربه إلا قيمته، ومرة قال هو مخير بين أن يدفع إليه قيمة الصبغ ويأخذ ثوبته، وبين أن يلزمه قيمته يوم سرق منه، وأما ما لم يخرج فيه شيئا سوى العمل، فإن كان يسيرا أخذه معمولا كالرفو والخياطة في الثوب، وإن كان كثيرا كالخشبة يعمل منها أبوابا أو توابيت وما أشبه ذلك فليس للمسروق منه إلا قيمتها، والغزل عنده كالعرض وإن كان مما يوزن، هذا قوله في هذه الرواية وفي تضمين الصناع من المدونة، وقال غيره فيه: إن عليه في الغزل مثله، هذا تحصيل مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وأشهب لا يفرق في هذا بين المكيل والموزن(16/246)
وبين غيره من العروض ولا بين ما أخرج فيه من ماله سوى العمل أو لم يخرج فيه سواه، ويرى من حق المسروق منه والمغصوب أن يأخذ متاعه معمولا ومصبوغا وملتوتا، ولا شيء عليه في عمل السارق ولا في ما أخرج فيه من ماله، إذ قد افتات فيه ولا يقدر على نزعه منه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس لعرق ظالم حق» .
[مسألة: سارق سرق عصفورا]
مسألة وسألته عن سارق سرق عصفورا أو زعفرانا وسرق ثيابا فصبغها بذلك، ثم أُخذ فقُطعت يده، وأُخذ المتاع وأتى تائبا، قال: إن كان له مال يوم قطع لزمته قيمة الثياب ووزن الزعفران والعصفر في جودته وحاله، وإن لم يوجد له مال ووجد الثياب مصبغة نظر كم ثمن العصفر والزعفران؟ وكم قيمة الثياب؟ فيتحاص صاحب الثياب وصاحب الزعفران على قدر ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها ولا التباس في شيء من معانيها، إلا أنه إن كان له مال لزمه أن يغرم لصاحب الثياب قيمة ثيابه، ولصاحب الزعفران مثل زعفرانه قطعت يده أو أتى تائبا فلم تقطع يده، وإن لم يكن له مال سوى ذلك تحاص صاحب الزعفران وصاحب الثياب فيها على قدر قيمة ما لكل واحد منهما، فإن قطع لم يكن لهما عليه شيء، وإن أتى تائبا ولم يقطع اتبعاه ببقية حقوقهما دينا ثابتا في ذمته وبالله التوفيق.
[مسألة: تى إلى أرض قوم فضرب فيها طوبا بغير إذنهم]
مسألة قلت له: فرجل أتى إلى أرض قوم فضرب فيها طوبا بغير إذنهم أو عمل فيها قلالا بغير إذنهم فأنكروا ذلك وقالوا نأخذ الطوب(16/247)
والقلال أو حفر فيها بئرا بغير إذنهم، قال أما البير فعليه ردها وله نقضها إلا أن يشاءوا أن يعطوه قيمة نقضها ملقى مطروحا، وليس له أن يأبى ذلك، وهو قول مالك، وأما القلال والطوب فلا أرى لهم عليه فيها شيئا، وأراه لمن عمله إلا أن تكون عليهم منه في أرضهم ضرر لما أحدث فيها فعليه أن يكنس ذلك لهم، قال: وإن كان أفسد أرضهم فسادا بينا فعليه قيمة ما أفسد من الأرض.
قال محمد بن رشد: أما البئر فكما قال على المعتدي ردمها وله نقضها إلا أن يشاء رب الأرض أن يعطيه قيمة نقضه منقوضا ويبقى البئر لنفسه على حالها فيكون ذلك له، وأما إن أخذ المعتدي بردم البئر فليس له أخذ النقض بقيمته؛ لأنه إذا نقض كان صاحبه أحق به، وأما الذي عمل القلال والطوب في أرض الرجل فقوله: إنه لا شيء عليه فيها، فمعناه إذا لم يكن للتراب الذي عمل منه الطوب والقلال قيمة، وأما إن كانت له قيمة فعليه قيمته مع كنس الأرض وإصلاحها وتعديلها وردها إلى ما كانت عليه أو غرم قيمة ما أفسد فيها إن لم يمكن إصلاحه وبالله التوفيق.
[مسألة: سرق ولا يمين له ولا يسار هل يقطع رجله]
مسألة قال وسألته عن رجل سرق ولا يمين له ولا يسار هل يقطع رجله؟ قال ابن القاسم: يقطع رجله فإن عاد قطعت رجله الأخرى. قلت له فأيهما يبدأ؟ قال أما أنا فأحب إلي أن يبدأ برجله اليسرى؛ لأنه كانت تقطع أولا يده اليمنى ثم رجله اليسرى؛ لأنه من قول مالك قديما في الرجل يسرق وهو أشل اليد اليمنى أنها تقطع رجله اليسرى واليمنى آخر القطع ثم رجع فقال أرى أن تقطع يده اليسرى وهو أحب قوله إليّ.
محمد بن رشد: اتفق مالك وأصحابه فيما عملت على أن السارق(16/248)
يقطع في السرقة يده اليمنى ثم رجله اليسرى ثم يده اليسرى ثم رجله اليمنى فإن سرق بعد ذلك ضرب وسجن وحبس، وقد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه يقتل بعد الرابعة وليس بالثابت، ولم يقل به أحد من أصحاب مالك غير أبي مصعب، وسواء كانت سرقاته من رجال شتى أو من رجل واحد أشياء شتى أو شيئا واحدا سرقه من رجل واحد بعد أن عاد لحرزه إذا كانت سرقته الثانية بعد أن يقطع في الأولى، وأما إذا سرق سرقات قبل أن يقطع فقطع في أحدها فذلك القطع يجزي لكل سرقة تقدمت كان قد رفع فيها أو لم يرفع، فإن سرق وهو أشل اليدين والرجلين ضرب وحبس، وإن سرق وهو أشل اليدين جميعا أو مقطوع أصابعهما أو أصبعين من كل يد فأكثر، فاختلف هل تقطع رجله اليسرى أو اليمنى فقال ابن القاسم في هذه الرواية إنه يقطع رجله اليسرى لأنها كانت تقطع أولا يده اليمنى ثم رجله اليسرى أو على ما اختاره من قول مالك في السارق يسرق وهو أشل اليد اليمنى إنه يقطع رجله اليسرى على ما كان يقوله أولا ثم رجع إلى أن تقطع يده اليسرى، فعلى قياس هذا القول إذا سرق السارق وهو أشل اليدين قطعت رجله اليمنى، وظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية أن الذي اختاره من قول مالك في السارق يسرق وهو أشل اليد اليمنى أن تقطع رجله اليمنى على القول الذي رجع إليه مالك خلاف اختياره في المدونة، وحكى ابن حبيب عنه قولا ثالثا وهي التفرقة بين أن تكون يده اليمنى شلاء أو مقطوعة في قصاص، فإن كانت شلاء قطعت يده اليسرى وإن كانت قطعت في قصاص قطعت رجله اليسرى، ولا فرق عند مالك بين أن تكون يده اليمنى شلاء أو مقطوعة في قصاص، واختلف قوله في ذلك اختلافا واحدا، واختيار أصبغ أن تقطع يده اليسرى كانت اليمنى شلاء أو مقطوعة في قصاص على القول الذي رجع إليه مالك، قال لا يقطع من السارق رجل ما دام له يد لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقد مضى في أول سماع عيسى(16/249)
الاختلاف إذا أخطأ الإمام أو القاطع على السارق فقطع شماله هل يجتزي بذلك أو لا يجتزي به فيكون على المخطئ عليه الدية في ماله ويقطع يمينه، والاختلاف أيضا على القول بأنه يجتزي بذلك إن سرق بعد ذلك هل تقطع رجله اليسرى أو اليمنى حتى يكون من خلاف فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: أقر بسرقة هل يقطع بغير تعيين]
مسألة وسئل عن رجل أقر بسرقة هل يقطع بغير تعيين حرا كان أو مملوكا؟ وما حد التعيين في ذلك وإن كان إقراره من بعد ضرب، قال: إن جاء تأيبا مستهلا رأيت أن يقام عليه الحد إلا أن ينزع قبل أن يقطع ويسأل كيف سرق، فإن كان في إقراره ما يوجب القطع قطع، فربما أقر الرجل بالسرقة ولا قطع فيها، وأما بعد أن يؤخذ فإني لا أرى أن يقطع إلا بتعيين، قال والحر والعبد في ذلك سواء، والآخر قول مالك فيما أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية إنه إذا أتى تائبا مستهلا يقطع بغير تعيين يبين ما مضى من قول مالك في رسم كتب السرقة من سماع أشهب، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: عبد مملوك أوصي له بعتق فسرق بعد ما مات سيده]
مسألة وسألته عن عبد مملوك أوصي له بعتق، فسرق بعد ما مات سيده وقبل أن يقوم متى يقوم أيوم أوصى له؟ أم يوم مات سيده؟ أو يوم يرجع إلى القيمة؟ قال: إنما يقوم يوم يرفع إلى القيمة وينظر فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله ولا اختلاف فيه لأن المال لو تلف قبل أن ينظر فيه لم يعتق من العبد إلا ثلثه وبالله التوفيق.(16/250)
[مسألة: يدعي قبله السرقة فيصالح على الإنكار لها ثم يأتي رجل فيقر أنه الذي سرقها]
مسألة وقد سئل عن الرجل يدعي قبله السرقة فيصالح على الإنكار لها ثم يأتي رجل فيقر أنه الذي سرقها، قال: إن ثبت على إقراره قطع ثم إن كان مليا أخذ منه المدعي قبله الأول ما صالح به وأخذ المسروق منه تمام قيمة سرقته، وإن كان عديما لم يكن عليه شيء ولم يكن للمصالح الأول أن يرجع على الذي صالحه بما أعطاه لقول المقر الآخر، وإن كان عديما فرجع عن إقراره قبل القطع درء عنه القطع واتبعه المصالح بما صالح به واتبعه المسروق منه بتمام قيمة سرقته وإن أقر بها على الضرب وعينها ثم أنكر فلا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إن ثبت على إقراره قطع يدل على أنه إن رجع لم يقطع، وفي ذلك اختلاف قيل إنه لا يقبل رجوعه إلا أن يقول إنما أقررت لوجه كذا وكذا، والقولان في المدونة، وقوله في آخر المسألة وإن أقر بها على الضرب وعينها ثم أنكر فلا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: قوله إن ثبت على إقراره قطع يدل على أنه إن رجع عنه لم يقطع، وفي ذلك اختلاف؟ قيل إنه لا يقبل رجوعه يدل على أنه يقطع إذا عين على الضرب، وفي ذلك اختلاف، وأما قوله إنه لا يقطع إذا أنكر فلا اختلاف فيه، والأصل في هذا أنه في الموضع الذي يقطع باختلاف يقبل رجوعه فيه باتفاق وفي الموضع الذي يقطع فيه باتفاق يقبل رجوعه فيه على اختلاف وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم كتاب الحدود من سماع أشهب وبالله التوفيق.(16/251)
[: نشر في الدار ثوبا نشره بعض الأشراك فسرقه أجنبي]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: قلت لابن القاسم أرأيت إذا كان في الدار المحجور عن الناس بئر يستقي منه الأشراك فينسى بعض الأشراك على البئر تورا أو قدحا أو شيئا فيسرقه رجل من الأجنبيين فأخرجه من الدار؟ قال: يقطع، وكذلك لو نشر في الدار ثوبا نشره بعض الأشراك فسرقه أجنبي قطع، وأما ما سرقه الأشراك مما ينشر في الدار فليس عليهم قطع؛ لأن ذلك الموضع مباح لهم.
قال محمد بن رشد: قوله فيما نسيه بعض الأشراك في هذا الدار أو نشره فسرقه سارق إنه يقطع إذا أخرجه من الدار ليس بأمر متفق عليه، قد قيل إنه لا يقطع، وكذلك اختلف أيضا إذا سرق أجنبي من بيت من بيوت سكان الدار فأخذ في الدار قبل أن يخرج منها وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أضاف الضيف وأدخله داره فسرق من بعض منازل الدار]
مسألة قلت فالرجل تكون له الدار يكون ساكنا في بعضها وله في بعض حوانيت وليس معه في الدار غيرها وهي محجورة عن الناس فأضاف ضيفا في بعض الحوانيت وبقية الحوانيت مغلقة فيها متاع قد أحرزه فيسرق الضيف من بعض تلك الحوانيت، قال لا يقطع وإن لم يكن فيها نازلا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنها حوانيت تفضي إلى الدار بأبواب فيما بينها وبينها فأضاف ضيفا في حانوت منها وبقية الحوانيت مغلقة دونه فسرق منها، فقوله إنه لا يقطع وإن لم يكن نازلا فيها هو مثل قوله في المدونة في الذي أضاف الضيف وأدخله داره فسرق من بعض(16/252)
منازل الدار التي قد كان خزن فيها متاعه، وأقفل عليه أنه لا قطع عليه؛ لأنه خائن وليس بسارق، وفي ذلك اختلاف قد قيل: إنه يقطع إذا أخرج المتاع من حرزه وصار بيده وإن لم يخرج به من الدار، وهو قول سحنون؛ لأنه أشبه عنده الشركاء في ساحة الدار إذا سرق أحدهم من بيت صاحبه شيئا فخرج بما سرق إلى ساحة الدار، وحكى عبد الحق في المسألة قولا ثالثا تأوله على ما في المدونة، وقال: إنه قول مالك في كتاب ابن المواز، وهو أنه لا يقطع حتى يخرج به من جميع الدار وهو بعيد، إذ قد مضى في المدونة وكتاب ابن المواز على أنه خائن وليس بسارق، ولا يقطع الخائن على حال.
[: العبد يسرق من مال ابنه الحر]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال وسألته عن العبد يسرق من مال ابنه الحر هل عليه قطع؟ قال: لا، قلت له فسرق من مال ابنه العبد؟ قال: يدرأ عنه الحد وفي ذلك أن مال العبد للعبد حتى ينتزعه سيده.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف أحفظه فيه في المذهب لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ، والحدود تدرأ بالشبهات فكما لا يحد إذا وطئ أمته، لا يقطع إذا سرق ماله، ومما يتعلق بهذه المسألة سرقة العبد من مال ابن سيده، وقد مضى الكلام على ذلك في رسم سعد في الطلاق من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وأجاز عبد الله بن عبد الحكم نكاح الرجل أمة ابنه إذا وقع ولم يفسخه، ولم يتابعه على ذلك أحد من أصحاب مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقر بالسرقة فيعينها]
مسألة وسئل عن الرجل يقر بالسرقة فيعينها، والتعيين الإظهار لها هل عليه قطع إن أنكر بعد ذلك؟ فقال: إن كان أقر بها وعينها عند غير(16/253)
السلطان فهو يقطع إذا بلغ ثمنها ما يجب فيه القطع، فإن أقر بها على الضرب وعينها ثم أنكر فلا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان أقر بها وعيَّنها عند غير السلطان فهو يقطع إذا بلغ ثمنها ما يجب فيه القطع كلام خرج على السؤال فلا يقام منه دليل على أنه إذا أقر بالسرقة دون أن يرفع إلى السلطان أنه لا يقطع إلا أن يعين أن الاختلاف في أنه يقطع، وإن لم يعين على ما قاله في رسم العتق من سماع عيسى قبل هذا، وقد مضى الكلام على قوله: فإن أقر بها على الضرب وعينها، ثم أنكر فلا قطع عليه في آخر رسم العتق من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يجعل ثوبه قريبا منه وهو في المسجد فيسرق الثوب]
مسألة وسألته عن الرجل يجعل ثوبه قريبا منه وهو في المسجد ثم يقوم فيصلي فيختله رجل فيسرق الثوب هل عليه قطع؟ قال: نعم، قلت له فمتى يجب عليه القطع إذا هو قبضه أم حتى يتوجه به؟ فقال ابن القاسم: إذا هو قبضه، قال ابن القاسم ولو لم أر عليه القطع إذا قبضه حتى يتوجه به إذا لا يكون عليه القطع حتى يخرجه من المسجد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن المسجد مباح لجميع الناس ليس بحرز للثوب الذي جعله صاحبه قريبا منه، وإنما حرزه كون صاحبه حارسا له فوجب إذا سرقه منه وصار بيده وبان به عنه وهو لا يشعر أن تقطع يده، وإن لم يتوجه به ولا خرج من المسجد كما قاله في المدونة.(16/254)
[: الذي يسرق حريسة الجبل فينضيها وتهزل عنده]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب القضاء قال أصبغ وسمعته في الذي يسرق حريسة الجبل فينضيها وتهزل عنده: إن صاحبها إن أحب أن يُضَمِّنَه إياها يوم أخذها فذلك له، وإلا فليس له إلا دابته يأخذها، قال: وأما السارق إذا أصابها ذلك عنده وقد سرقها غير حريسة فإنه يقطع، فإن كان له مال فإن شاء صاحبها أخذها وإن شاء ضمنه القيمة أيضا، وإن لم يكن له مال فليس له إلا دابته ولا يتبع بشيء ولا يلزمه القيمة وإن كان نقصها من قبله وعمله؛ لأنه لو سرق ثيابا فلبسها فأبلاها أو طعاما فأكله ثم قطع فيه ولم يكن له مال لم يتبع بشيء، قال أصبغ: والأولى في الحريسة إن لم يكن له مال يتبع به؛ لأنه لا يقطع فيه فهي خيانة وله تفسير.
قال محمد بن رشد: قوله في حريسة الجبل إذا أنضاها فهزلت عنده إنه بالخيار بين أن يضمنه قيمتها يوم أخذها أو يأخذها ولا شيء له صحيح على ما قاله؛ لأن حريسة الجبل لا قطع فيها، فحكم السارق لها حكم الغاصب في اليسر والعدم، وكذلك سارق غير الحريسة إذا لم يقطع لمعنى درئ عنه به القطع، فقول أصبغ في سارق الحريسة: إن لم يكن له مال يتبع به؛ لأنه لا يقطع فيه تفسير لقول ابن القاسم، وأما قوله: إنها خيانة وله تفسير، فالتفسير الذي أراد أن نقصانها بالهزال عنده يفترق على ما ذهب ابن القاسم بين أن يكون هذا هزلها بعد أن سرقها أو حدث بها الهزال عنده من غير فعله، فإن كان حدث بها الهزال عنده من غير فعله فربها مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم سرقها أو يأخذها مهزولة كما هي، وإن كان هو أهزلها فربها مخير بين أن يضمنه قيمتها يوم سرقها وبين أن يأخذها وما نقص الهزال منها، وسحنون(16/255)
يساوي بين الوجهين في أنه ليس له إلا أن يضمنه قيمتها يوم سرقها أو يأخذها مهزولة كما هي، والقولان قائمان من المدونة لابن القاسم، وأما إذا سرق الدابة غير حريسة فقُطع فيها وقد هزلت عنده وهو عديم فليس لصاحبها إلا أن يأخذها مهزولة كما هي ولا شيء له في هزالها، وبالله التوفيق.
[: سرق من مقثأة]
ومن كتاب الحدود قال أصبغ: وسئل عمن سرق من مقثأة: إنه لا قطع عليه حتى يأويه جرينه، وهو موضعه الذي يُجمع فيه ليُحمل بعدُ، وقاله أصبغ، وهو قبل ذلك كالتمر المعلق وحريسة الجبل.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن الموضع الذي يجعل فيه ليحمل منه بمنزلة الجرين فيما له جرين وبالله التوفيق.
[مسألة: يرى السارق يسرق متاعه فيأتي بشاهدين لينظرا إليه]
مسألة وقال في الرجل يرى السارق يسرق متاعه فيأتي بشاهدين لينظرا إليه ويشهدا عليه بسرقته فينظران إليه ورب المتاع معهم لو أراد أن يمنعه منعه، قال: ليس عليه قطع، ونحن نقول: إنه قول مالك، قال أصبغ: أرى عليه القطع.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ أظهر؛ لأنه أخذ المتاع مستسرا به لا يعلم أن أحدا يراه لا رب المتاع ولا غيره، كمن زنى والشهود ينظرون إليه ولو شاءوا أن يمنعوه منعوه وهو لا يعلم أن الحد عليه واجب بشهادتهم، ووجه قول ابن القاسم وما حكاه أنه من قول مالك هو أنه رآه من ناحية المختلس لما أخذ(16/256)
المتاع من صاحبه وهو ينظر إليه، وليس بمنزلة المختلس على الحقيقة إذ لم يعلم هو بنظر صاحب المتاع إليه.
[مسألة: دار الرجل حرز لما فيها وإن تركت مفتوحة]
مسألة وسئل عن دار نسي صاحبها أن يغلقها فتبيت مفتوحة فدخل سارق فسرق متاعا في الدار، قال: يقطع، واحتج فقال قد تكون النهار مفتوحة ولكن ليس الدار التي تدخل بإذن وبغير إذن في ذلك سواء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأن دار الرجل حرز لما فيها وإن تركت مفتوحة إذ ليس لأحد أن يدخلها إلا بإذن وإن كانت مفتوحة، بخلاف الدار التي تدخل بغير إذن كما قال، وهي الفنادق تلك التي لا تكون بابها حرزا لما في ساحتها إلا إذا كان مقفولا، فمن فتح بابها بالليل أو حين يغلق فيه بالنهار فسرق منها قطع، فإذا فتح بابها وترك مفتوحا لم يكن على من سرق منها قطع.
[مسألة: الراكب على البعير أو الحارز له حرز له]
مسألة وسمعته يقول في الرجل يغتسل في عسكر له قصير فألقى ثوبه عليه وكان بعضه مدلى إلى خارج فجاء سارق فجبذه من الطريق فقال يقطع، وهذا أبين من الأول.
قال محمد بن رشد: قد قال في المدونة في هذا إنه لا يقطع إذا كان بعضه خارجا من الدار، ولكلا القولين وجه من النظر، فوجه قوله إنه يقطع هو أن العسكر من الدار، فوجب أن يكون حرزا لما عليه كالمحمل الذي هو حرز لما فيه من المتاع، ووجه القول إنه لا يقطع هو أن الرجل لما ألقى ثوبه على الحائط مدلى إلى الطريق فقد أخرجه من الحرز وفارق ما في(16/257)
المحمل؛ لأن الراكب على البعير أو الحارز له حرز له ولما عليه من سرج أو إكاف أو محمل، وقد مضى هذا المعنى في رسم كتاب السرقة من سماع أشهب.
[مسألة: القطع في السرقة حق لله تعالى]
مسألة قال ابن القاسم في سارق سرق لرجل متاعا فتعلق به يريد به السلطان، فطلب إليه السارق أن يصالحه قبل أن يبلغ السلطان فصالحه وخلى سبيله ثم هاجت بين السارق وبين صاحب المتاع بعد ذلك منازعة فرفعه إلى السلطان، قال: يقطع يد السارق في قول مالك، فأما ما كان صالحه عليه فإن كان صالحه على ألا يرفعه إلى السلطان فأرى للسارق أن يرجع عليه بما صالحه به فيأخذه، وإن كان إنما صالحه على متاعه الذي سرق له فلست أرى أن يرجع بشيء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن القطع في السرقة حق لله تعالى، ولا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه عند الإمام إذا انتهى إليه بالصلح على ترك رفع السارق إلى الإمام لا يجوز، ويجب الرجوع بما صولح به على ذلك، بخلاف الصلح على المتاع المسروق، وبالله التوفيق.
[: يخبب الدابة بالعلف فتخرج إليه]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم
وسئل ابن القاسم عن السارق يخبب الدابة بالعلف فتخرج إليه أو يخبب الباز فيجيبه من حرزه أنه يقطع في جميع ذلك، قال أشهب مثله، قيل لأشهب فالمراطن إذا راطن العبد بلسانه أيقطع؟ قال: لا يقطع، قلت فإن دعا صبيا صغيرا فخرج إليه ثم سار به؟ قال: يقطع أيضا.(16/258)
قال محمد بن رشد: المسئول في قوله قلت فإن دعا صبيا صغيرا فخرج إليه ابن القاسم؛ لأن السؤال معطوف على سؤاله عن الذي يخبب الدابة بالعلف فتخرج إليه، وقول أشهب فيما بين ذلك ساقط عند ابن لبابة، وساوى ابن القاسم بين أن يدعو الصبي فيخرج إليه أو يخبب الدابة بالعلف فتخرج من حرزها إليه، ومساواته بينهما صحيحة إذ لا فرق بينهما في المعنى، فيدخل الاختلاف في الذي يخبب الدابة بالعلف فتخرج إليه من حرزها، إذ قد مضى في رسم كتاب السرقة من سماع أشهب عن مالك أنه لا يقطع خلاف قول ابن القاسم وأشهب، وفرق أشهب على ما وقع من قوله هاهنا في غير رواية ابن لبابة بين الذي يخبب الدابة بالعلف وبين الذي يراطن العبد بلسانه، فرأى على مخبب الدابة بالعلف فتخرج إليه القطع، ولم ير ذلك على الذي يراطن العبد بلسانه فيخرج إليه، وكذلك الصبي على قياس قوله إذا دعاه فخرج إليه من حرزه لا يقطع، والفرق على قوله بين الدابة تخرج إليه بإشارته عليها بالعلف وبين الذي يراطن العبد بلسانه أو يدعو الصبي هو أن العبد والصبي لهما عقل ومبرز فهما مكتسبان لخروجهما إذا خرجا باختيارهما، ولو شاءا لم يخرجا، والدابة لا عقل لها ولا مبرز تكون به مكتسبة لخروجها، ولو كان الصبي ابن سنة أو سنة ونصف ونحوها لكان كالبهيمة إذا دعاه فخرج إليه أو أراه الشيء يعجبه فخرج إليه يقطع عند ابن القاسم وأشهب، خلاف قول مالك في رواية أشهب، والصبي الذي له عقل ويمكن أن يخدع فهو كالعجمي الذي يخدع فيهما عند ابن القاسم، قاله هاهنا في الصبي، وقاله في رسم يوصي من سماع عيسى في العجمية، ولا يقطع عند أشهب على ما قاله هاهنا في الصبي، ولا اختلاف في الصبي الصغير الذي لا يعقل إذا دخل إليه فأخرجه من حرزه أنه يقطع إن كان عبدا، وكذلك إن كان حرا إلا عند ابن الماجشون فلا يقطع إذ ليس بمال يتمول، وبالله التوفيق.(16/259)
[مسألة: قال رأيت فلانا سرق ساجا وقال الآخر أشهد أنه سرق رداء]
مسألة قال ابن القاسم: من قال: رأيت فلانا سرق ساجا وقال الآخر أشهد أنه سرق رداء، قال لا يقطع حتى يشهدا جميعا على ثوب واحد أنه سرقه، وإن قال سرق بكرة وقال الشاهد الآخر أشهد أنه سرق عشية وهو ثوب واحد اجتمعا عليه أنه لا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، ولا اختلاف فيه عندي إذ لم يجتمع الشاهدان على سرقة الساج ولا على سرقة الرداء ولا على السرقة بكرة ولا على السرقة عشية فسقط القطع بشهادتهما على المشهود عليه بالسرقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: سرق فراشا لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه نفقة]
مسألة وسئل عمن سرق فراشا لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه نفقة، قال عليه القطع، علم السارق بالنفقة التي فيه أو لم يعلم بها، وكذلك الوسادة والمرفقة، قيل له فسرق عصا محفورة فيها النفقة؟ قال: لا قطع عليه، قيل فخشبة محفورة فيها النفقة؟ قال: لا قطع عليه، وكذلك الحجر، وروايته في معنى قوله، كأنه يرى أن كل من سرق شيئا مما لا يرفع في مثله نفقة وفيه نفقة ألا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل قوله في المدونة سواء، والأصل في هذا أن ما يشبه أن يسترفع فيه الذهب مثل الفراش والوساد والقميص وشبه ذلك فعليه القطع فيما وجد فيه من الذهب وإن لم يعلم به حين سرقه، والمعنى في ذلك أنه لا يصدق أنه لم يعلم به، ويأتي على قول أصبغ في نوازله من كتاب النذور في الذي يحلف ألا يأخذ من فلان درهما فأخذ منه قميصا وفيه درهم وهولا يعلم ثم علم بالدرهم فرده على صاحبه أنه لا شيء عليه ألا يقطع السارق إذا سرق قميصا أو فراشا لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه نفقة لأنه إذا لم(16/260)
يحنث في ذلك فأحرى ألا يقطع فيه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا اختلاف في أنه لا يقيم فيما وجد من الذهب فيما لا يشبه أن يسترفع في مثله الذهب مثل العصا والحجر وشبههم، ولا في أنه لا يقطع في ما العرف فيه أن تسترفع فيه الأذهاب، وإن قال لم أعلم أن في ذلك ذهبا ولا قصدت سرقته لم يصدق في ذلك.
[مسألة: سرقت أوخادمها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهم]
مسألة وسئل عن وال جمع شيئا من الزكاة ليقسمه بين المسلمين فأدخله بيته وأغلق عليه ثم خالفه عبده ففتح الباب فسرق شيئا من ذلك، فقال: عليه القطع، وينبغي أن مالكا قضى به، وكان ذلك العبد ليس يأتمنه مولاه على ذلك البيت ولا يدخله، ولو كان يأتمنه ويدخله ويأتمنه على فتحه ثم سرق لم يقطع.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على قياس قوله في المدونة وقول مالك في الموطأ في الرجل أو خادمه يسرق من مال زوجته من بيت حجرته عليهم أنهما يقطعان، وكذلك لو سرقت المرأة أو خادمها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهم، خلاف قول مالك في كتاب ابن المواز أنه لا قطع في ذلك؛ لأنه رأى ذلك خيانة ولم يرها سرقة كما قال ابن القاسم في المدونة في الضيف، والفرق عنده بين الضيف والزوجين يسرق كل واحد منهم من بيت يحجر عليه أن الإذن في الزوجين محكوم به، فأشبه السكان المتحاجرين في السكنى في دار واحدة، وإذن الضيف ليس بمحكوم به وإنما هو ائتمان منه باختياره، وبالله التوفيق.
[مسألة: سرق الرجل مال ابنه مع أجنبي]
مسألة وقال في ثلاثة نفر يدخلون بيت رجل فسرقوا ما يجب فيه(16/261)
القطع فأخذوا وقطعوا وكان أحدهم مليئا، قال يغرم المليء قيمة ما سرقوا كلهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنهم إذا سرقوا معا فهم كالمحاربين كل واحد منهم ضامن بجميع ما سرقوا جميعا، ولا اختلاف في هذا احفظه، وقال في رجل دخل مع غلامي بيتي فسرق وقال: لا قطع عليهما، وغرم ما سرقا على الحر، وليس على غلامه شيء منه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة، والمعنى في ذلك أن العبد قد أدخله دار مولاه الذي هو غير محجور عليه، فصار بذلك مأذونا له في دخول الدار، فسقط عنه القطع، ووجب عليه غرم جميع السرقة لاشتراكه مع العبد فيها؛ لأن السارقين معا كل واحد منهما ضامن لجميع السرقة، وكذلك إذا سرق الرجل مال ابنه مع أجنبي يسقط القطع عن الأجنبي، ويكون كل واحد منهما ضامنا لجميع السرقة، وكذلك إذا سرق الرجل مال ابنه مع رجل أجنبي يسقط القطع على الأجنبي، ويكون كل واحد منهما ضامنا لجميع السرقة يؤخذ بها المليء منهما عن المعدم، وأما إذا سرق رجل وصبي، أو مجنون سرقة قيمتها ثلاثة دراهم فإن القطع واجب على الرجل قاله في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
[مسألة: القت يحمل إلى الجرين فيمسي عليه الليل فينزل ويبيت عليه]
مسألة قال ابن وهب في الراعي إذا أدركه الليل ولا يبلغ مراحه فيبيت على غنمه وقد جمعها إليه ثم سرق رجل منها شيئا، قال: يقطع من سرق منها شيئا، وقال ابن القاسم مثله، وقال أيضا في القت يحمل إلى الجرين فيمسي عليه الليل فينزل ويبيت عليه إنه يقطع من سرق شيئا من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة وقد تقدمت في رسم أسلم من(16/262)
سماع عيسى ومضى هنالك توجيهها فلا معنى لإعادته.
[مسألة: لا قطع على المختلس]
مسألة وقال فيمن دخل بيت رجل فأخذ ثوبا فاتزر به ثم أخذ في البيت فانفلت منهم وخرج بالإزار وهم لا يعلمون به أنه عليه، قال: لا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى، وهي صحيحة لأنه لم يخرج بالإزار على وجه السرقة إذا أخذوه به قبل أن يخرج من الحرز، وإنما خرج به على وجه الاختلاس، ولا قطع على المختلس.
[مسألة: لا قطع حتى يخرج في مرة واحدة ثلاثة دراهم]
مسألة وقال في السارق يدخل البيت في ليلة عشر مرات، وكل ذلك يخرج بقيمة درهم أو درهمين: إنه لا قطع حتى يخرج في مرة واحدة ثلاثة دراهم فيقطع.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والكلام عليها مستوفى في رسم كتاب السرقة من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: عبيد الخمس يسرقون من الخمس]
مسألة وقال ابن القاسم في عبيد الخمس يسرقون من الخمس: إنهم يقطعون، وإن سرق عبيد الفيء شيئا: إنهم يقطعون أيضا مثل المسألة الأولى سواء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أن ليسوا بملك لرجل معين فيكونون في سرقتهم بمنزلة العبد يسرق من مال سيده، وبالله التوفيق.(16/263)
[مسألة: ربط دوابه لا يحولها من موضعها فيسرق رجل منها دابة]
مسألة وقال في رجل ضرب خباه في قرط وربط دوابه عليها لا يحولها من موضعها فيسرق رجل منها دابة، قال: لا قطع عليه فيها.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.
[مسألة: السارق يسرق من الإمام]
مسألة وقال في السارق يسرق من الإمام: إنه يحكم عليه في القطع ولا يحكم عليه في السرقة، ورواها ابن عبد الحكم عن مالك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله ابن القاسم في هذه الرواية ورواه ابن وهب عن مالك؛ لأن القطع حد من حدود الله وحق من حقوقه واجب على الإمام الحكم به، ولا تهمة عليه في ذلك إذ لا ينجر إليه به منفعة، وأما السرقة فلا يحكم بها لنفسه عليه، إذ لا يجوز حكمه لنفسه كما لا تجوز شهادته لها، فإذا شهد الشهود عليه عنده بالسرقة منه وهو منكر للسرقة ومدع للمتاع أنه ماله وعجز عن المدفع في الشهود الذين شهدوا عليه حكم عليه بقطع يده وترك المال له، إلا أن يقر له به فيأخذه منه، وذهب الطحاوي إلى أنه لا يحكم عليه الإمام بالحد فيما سرق من ماله أو من مال من لا تجوز شهادته له إلا أن يقر بذلك على نفسه، قال: وإنما قطع أبو بكر الصديق الأقطع الذي سرق عقد أسماء زوجته من أجل أنه اعترف بذلك وإن كان في(16/264)
حديث مالك فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به، ففي غيره من الأحاديث أنه اعترف به من غير شك وهو الصواب، وإن كان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد قطع أيدي النفر الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود إلى أرض الشرك وأرجلهم وسمرأعينهم، واللقاح إنما كانت له، لا من الصدقة، بدليل قوله في الحديث: «اللهم عطش من عطش آل محمد» فليس ذلك لأحد بعده؛ لأن ما كان يفعله صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فبأمر الله كان يفعله، فالحاكم به على من يفعل ذلك به وهو الله عز وجل، والقائم به بأمره هو رسوله فإليه أن يفعل ذلك بالبينات والإقرارات جميعا، بخلاف من سواه، هذا معنى قوله مختصرا، والصحيح ما ذهب إليه مالك على ما بيناه من وجه قوله، وبالله التوفيق.(16/265)
[: كتاب الحدود في القذف] [مسألة: قوله إن لم أكن أصح منك فأنت ابن الزانية]
من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب قطع الشجرة
قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك في رجل قال لرجل على وجه المشاتمة يريد عيبه ولا يطعن عليه في نفسه يقول: إن لم أكن أصح منك فأنت ابن الزانية، يقول: أنا أصح منك في الأمور لست أقارب ما تقارب من العيوب، قال: عليه البينة أنه أصح كما ذكر، فإن جاء بالبينة على أمر معروف أنه أصح منه نكل بإذاية أخيه المسلم نكالا شديدا في هذا الوجه، وإن لم يأت ببينة فعليه الحد.
قال محمد بن رشد: إنما أوجب مالك عليه الحد إن لم يأت بالبينة أنه أصح منه؛ لأن كلامه خرج على وجه المشاتمة وهو يقتضي نفيه عن أبيه بشرط كونه أصح منه في الأمور؛ لأن معنى قوله إن لم أكن أصح منك فأنت ابن الزانية، إن كنت أصح مني فأنت ابن الزانية، ولعله قد قال له: فأنا أصح منك فخرج قوله جوابا له على ذلك؟ فوجب عليه الحد كما قال إن لم يثبت أنه أصح منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل إن لم أكن أفضل منك فأنت ابن الزانية]
مسألة وسئل عمن قال لرجل إن لم أكن أفضل منك أو خيرا منك أو نحو(16/267)
هذا فأنت ابن الزانية، من أولى بطلب البينة في مثل هذا؟ القاذف أو المقذوف، قال: بل القاذف.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة كالمعنى في التي قبلها سواء، فلا زيادة على ما قلناه فيها، والله الموفق.
[مسألة: العبد يعتقه سيده عند موته فيقذفه رجل قبل أن يقام عليه في ثلثه]
مسألة قال مالك: أيما أمة قذفت برجل وقد أعتقت في وصية قبل أن يمضيها السلطان أن تخرج وإن كان في المال سعة فلا حد لها حتى تخرج، وقال ابن القاسم: ثم قال لي ذلك مالك غير مرة: إن كان له مال مأمون من عور وأرضين فهي حرة ترث وتورث، قال سحنون: بعد وفاة سيدها، ولم يكن في كتاب عيسى بعد الوفاة، قال ابن القاسم: وعلى من قذفها الحد إذا كان له مال مأمون كما وصفنا، وقال مالك في العبد يعتقه سيده عند موته فيقذفه رجل قبل أن يقام عليه في ثلثه ولسيده مال مأمون من دور وأرضين، قال: لا أرى فيه حدا حتى يقام ويتم حرمته وتجوز شهادته ويوارث أوراثه إن مات منهم ميت، ويرثونه إن مات، قال ابن القاسم: قال مالك: إن كان له مال دورا مأمونة وأرضين رأيت أن يعتق ويرثها ويورث ويضرب له الحد.
قال محمد بن رشد: حكم الموصي بعتقه بعد موت سيده كحكم المبتل في المرض في حياة سيده قبل أن يموت، اختلف قول مالك في ذلك اختلافا واحدا إذا كان له أموال مأمونة، فمرة قال: إنه يكون الموصي بعتقه بموت سيده حرا يرث ويورث، ويجب له الحد وعليه، ويكون المبتل في(16/268)
المرض بنفس تبتيله إياه حرا يرث ويورث ويجب الحدود له وعليه، ومرة قال: لا يكون الموصى له بالحرية حرا بموت سيده وإن كانت له أموال مأمونة حتى يقوم ويعتق، ولا يكون المبتل في المرض حرا بتبتيله إياه حتى يصح أو يموت فيعتق في ثلثه، والقولان في المدونة، وقول سحنون: بعد وفاة سيدها، يريد أن الموصى بعتقها لا يحد من قذفها إذا كانت لسيدها أموال مأمونة إلا إذا كان ذلك بعد وفاة سيدها، وذلك على ما قال لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[: الذي يشتمه خاله أو عمه أو جده]
ومن كتاب سن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك في الذي يشتمه خاله أو عمه أو جده لا أرى عليهم في ذلك شيئا إن كان على وجه الأدب له وكأني رأيت مالكا لا يرى الأخ مثله إذا شتمهم، وسئل ابن القاسم عن العم والجد والخال إذا كان من شتم أحدهم ما يفتري عليه، قال: يحدون إذا طلب ذلك.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم تفسير لقول مالك؛ لأنه إنما يتجافى لهم عن الشتم فيما دون ما يجب فيه الحد إذا كان ذلك منهم على وجه الأدب، ولم ير الأخ في ذلك مثل الجد والعم والخال، يريد إذا كان يقرب منه في السن والحال، وأما إذا كان له عليه من الفضل في السن والسداد والعقل والفضل ما يشبه أن يكون شتمه إياه أدبا منه له فيتجافى عنه في ذلك كالجد والعم والخال، وأما القذف فيحدون له إذا قذفوه كما قاله ابن القاسم، وإنما اختلف في الأب إذا قذف ابنه فاستثقل مالك في المدونة أن يحده، وقال: ليس ذلك من البر، وقال ابن القاسم: يحد له وعفوه عنه جائز عند الإمام، قال في كتاب ابن المواز: ولا تقبل شهادته إن حده لأن الله تعالى يقول: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وهذا يضرب، وهو معنى قول مالك في المدونة: ليس ذلك من البر، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن الأب لا يحد له أصلا، وبالله التوفيق.(16/269)
[: قال يا مجلود قال إن كنت مجلودا فأنت فاسق فأتى عليه بالبينة أنه مجلود]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن رجل قال لرجل يا مجلود، قال: إن كنت مجلودا فأنت فاسق فأتى عليه بالبينة أنه مجلود، أترى عليه شيئا؟ قال بئس ما قال حين قال فاسق ما أخف ما عليه، كأنه رأى أدبا يسيرا لقوله يا فاسق.
قال محمد بن رشد: قوله فأتى عليه بالبينة أنه مجلود يدل على أنه لو لم يأت عليه بالبينة في ذلك لحد، ولما كان قوله: إن كنت مجلودا فأنت فاسق إقرارا منه بأنه مجلود؛ لأنه إنما قاله على سبيل الجواب والرد لقوله، وإنما يسقط عنه الحد بإقامة البينة عليه أنه مجلود في حد، ولو أقام البينة عليه أنه مجلود في غير حد لوجب أن يحلف ما أراد إلا ذلك ويسقط عنه الحد، ورأى في قوله يا فاسق أدبا يسيرا لقوله ذلك في المشاتمة، ولو قال ذلك له ابتداء لوجب أن يكون الأدب في ذلك شديدا، وعلى قدر حال المقول له ذلك وحال القائل، فليس قول الساقط من الناس ذلك للرجل العالم الفاضل كقوله لغير الفاضل، ولو قاله الفاضل للساقط لوجب أن يتجافى له عن ذلك، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» على اختلاف بين أهل العلم في ذلك، إذ قيل إن معنى الحديث فيما لا يتعلق به حق لآدمي ولم يبلغ أن يكون حدا، وبالله التوفيق.
[: يفتري عليه فيريد صاحبه المفترى عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه]
ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن الرجل يفتري عليه فيريد صاحبه المفترى عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه قال: لا أرى أن يستحلف له، من يعلم ما قال؟ قيل له: فإن أتى بشاهد؟ قال: أرى أن يحلف(16/270)
له، قيل له: فإن أبى أن يحلف قال: وهل يستطيع إلا أن يحلف إلا أن أصحابه أخبروني أنه قال يسجن أبدا حتى يحلف، ولم يختلفوا فيه جميعا أنه قال: يسجن حتى يحلف، وهو قولي.
قال محمد بن رشد: قد اختلف إذا لم يكن للمدعي بينة على دعواه على ثلاثة أقوال، أحدها: قوله في هذه الرواية: إنه لا يمين على المدعى عليه، والثاني: قوله في رسم العقول والجبائر من كتاب الجنايات: إن عليه اليمين، والثالث: قول ابن القاسم في أول سماع أصبغ من كتاب الجنايات: إنه لا يمين عليه إلا أن يكون مشهورا بذلك، فإن حلف على رواية أشهب أو على رواية أصبغ إن كان ذلك مشهورا بذلك برئ وإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل ذلك، فإن طال خلي سبيله ولم يؤدب، وقال أصبغ: إنه يؤدب إذا كان معروفا بالأذى وإن كان مبرا في ذلك أي مشهورا به مبرزا فيه خلد في السجن، وكذلك اختلف أيضا إذا كان له شاهد واحد على دعواه على ثلاثة أقوال، أحدها: أن المدعى عليه يحلف وهو قوله في هذه الرواية فإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل، فإن طال فعلى ما تقدم من قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم إذا أوجبت عليه اليمين بالدعوى فنكل عنها، والثاني: إنه إن كان معروفا بالشتم والسفه عزر ولم يستحلف، وإن لم يكن معروفا بذلك استحلف، وهو قول مالك في رسم القضاء لأشهب من سماع أشهب من كتاب الشهادات، إلا أنه ضعف اليمين، والثالث: إنه يحلف مع شاهده ويحد له، روي ذلك عن مطرف وهو شذوذ في المذهب أن يحد في الفرية باليمين مع الشاهد، ويتخرج في المسألة قول رابع: إنه لا يحلف مع شاهده في الفرية ويحلف معه فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب فيه الأدب، وكذلك اختلف أيضا في القصاص من الجراح باليمين مع الشاهد على ثلاثة أقوال وقد مضى هذا كله في الرسم المذكور في سماع أشهب من كتاب الشهادات عليه، وبالله التوفيق.(16/271)
[: قال له الذي تزعم أنه أبوك]
ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا وسئل مالك عن رجلين من بني سلمة وقعت بينهما مشاتمة فقال أحدهما لصاحبه: أبي خير من أبيك وأمي خير من أمك وما أمشى مقنعا رأسي، فقال له الآخر: هلم أباك الذي تزعم أنه أبوك فهذا من يعرف أبي ويعرف أباك ويعرف أمي ويعرف أمك، قال قال مالك: هذا أنكر ما تكلم به حين قال الذي تزعم أنه أبوك، ثم قال ما أرى في مثل هذا كله حدا والعفو في مثل هذا أمثل والصفح أفضل، فأما الحد فلا أراه ولا أرى في مثل هذا حدا.
قال محمد بن رشد: إنما قال إن أنكر ما تكلم به قوله الذي تزعم؛ لأن " زعم " إنما تستعمل في الأشياء المكروهة وفيما يتهم فيه القائل بالكذب، بخلاف قال وذكر، ولما كان لفظ يزعم لا يقتضي تحقيق الكذب عليه فيما زعمه لم ير في ذلك حدا، ورأى التجافي عن العقوبة في مثل ذلك أمثل وأولى من العقوبة فيه؛ لأنه قول خرج منه على سبيل الجواب لتعريضه بالريب في قوله وما أمشي مقنعا رأسي أي: إنك أنت تفعل ذلك، وعبر عن التجافي عن عقوبته بالعفو والصفح تجاوزا واستعارة، إذ ليس تجافي الحاكم عن عقوبة من تلزمه العقوبة عفوا له عن العقوبة ولا صفحا عنها، إذ ليس ذلك إليه، وإنما العفو والصفح للمقول له ذلك القول المؤذى به والله الموفق.
[مسألة: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته]
مسألة وسئل مالك عن تفسير حديث علي بن أبي طالب إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته أي البكر والثيب جميعا إذا أتى بأربعة(16/272)
شهداء خلي سبيله، قال: لا أدري ما هذا لم أسمع فيه شيئا إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له، قال ابن القاسم: أرى إذا قام أربعة شهداء في البكر والثيب يشهدون أنهم رأوه يزني بها ترك، وهذا تفسير الحديث.
قال محمد بن رشد: قوله في الحديث فليعط برمته معناه فليسلم بذاته للقود منه بمن قتل منهما، فنص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنه يقتل إن لم يأت بأربعة شهداء، وسكت عن الحكم في ذلك إن أتى بهم، فاقتضى دليل قوله بحمله على عمومه ألا يقتل إن أتى بأربعة شهداء على معاينة الزنا كان المقتول منهما بكرا أو ثيبا، وقد اختلف في القول بدليل الخطاب ولذلك توقف مالك في ذلك فقال: لا أدري ما هذا لم أسمع فيه شيئا ثم قال بعد ذلك: إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له، فرأى بدليل الخطاب ألا يقتل إذا أتى بأربعة شهداء ظاهره في البكر والثيب مثل قول ابن القاسم، وقد اختلف في ذلك إذا كان المقتول منهما بكرا على أربعة أقوال، أحدها: أنه لا يقتل ويكون دمه هدرا، وهو قول المغيرة وعبد الرحمن، وظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه الرواية، وقاله ابن عبد الحكم إذا علم التشكي منه به قبل ذلك، والثاني: أنه لا يقتل به وتكون الدية فيه على عاقلته، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز وفي المدنية وفي تفسير ابن مزين من رواية أصبغ عنه، والثالث: أنه لا يقتل وتكون الدية عليه في ماله، وهو قول أصبغ من روايته في تفسير ابن مزين، والرابع: أنه يقتل به وهو قول ابن الماجشون، فوجه القول الأول أن من أصابه مثل هذا يدركه من الغضب ما يفقد معه عقله فيكون حكمه في ذلك حكم المجنون الذي لا يعقل، وقد قيل فيه إن جنايته في المال والدم هدر، ويؤيد هذا ما روى حذيفة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: أرأيت لو وجدت مع أم رومان رجلا ما كنت صانعا به؟ قال: كنت صانعا به شرا، قال فأنت يا عمر؟ قال: كنت قاتله، قال فأنت يا سهيل بن بيضاء؟ قال: كنت أقول أو قائلا لعن الله الأبعد(16/273)
والبعد ولعن أول الثلاثة أخبر بهذا، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تأولت القرآن يا ابن بيضاء {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] » الآية وموضع الدليل من الحديث أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم ينكر على عمر بن الخطاب قوله كنت قاتله فدل على أنه رآه معذورا فيما أخبر به من أنه كان يقتله، ومن طريق القياس أن هذا قتل عمد لا قصاص فيه ولم يجب فيه دية، ووجه القول الثاني أنه لما عذر بما أدركه من الغضب وحكم له في ذلك بحكم المجنون كانت الدية على عاقلته إذ قد قيل ذلك في المجنون، ووجه قول أصبغ أن الدية في ماله هو أن الشبهة في درء القود عنه لما لم يكن بينة أشبه شبه العمد عند من يقول به، وهذا هو أظهر الأقوال، إذ قد قيل إنه يقتل به، وممن قال ذلك ابن الماجشون، ووجهه أنه قاتل لمن لم يجب عليه بما صنع قتل فوجب أن يقاد منه، والدليل على ذلك من الحديث ما رواه أبو هريرة من حديث مالك في موطئه «أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم؛» لأن(16/274)
معنى قوله نعم النهي له عن قتله لما تقدم من قوله على ما روي عنه أنه كان يقول لو وجدته لضربته بالسيف غير مصفح إلا أنه يجب عليه أن يخليه معها حتى يخرج فيأتي بالبينة، بل يجب عليه أن يضربه ويخرجه عن منزله ولا يقتله وإن رآه يزني بها وهو محصن إذ لا يصدق في ذلك، وقال ابن الماجشون: إنه إن قتله وأتى بأربعة شهداء على معاينة الفعل وهو محصن عاقبه الإمام لقتل من وجب عليه القتل دون الإمام، ومن قول ابن الماجشون إنه إن قاتله فقطع يده أو رجله فهو هدر إلا أن يقتله فيقتل به إن لم يأت بأربعة شهداء أو أتى بهم وهو بكر غير محصن، وبالله التوفيق.
[: كان بينه وبين قريب له شر وجدته أخت أبيه فقال له إن نسبك مني بعيد]
ومن كتاب سلف في المتاع والحيوان وسئل عن رجل كان بينه وبين قريب له شر وجدته أخت أبيه فقال له إن نسبك مني بعيد هل ترى في هذا شيئا؟ قال مالك: ما أرى في هذا شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله لأنه حفيد عمته فإن كان زوجها من قوم آخرين فلا نسب بينه وبينهم أصلا وإن كان من قومه فنسبه منه بعيد كما قال.
[مسألة: يقول الذي يقول إني فعلت كذا وكذا فهو ابن الزانية]
مسألة وقال مالك في رجل يقول له إنك فعلت كذا وكذا فيقول: الذي يقول إني فعلت كذا وكذا فهو ابن الزانية، فيقول الرجل أنا(16/275)
قلته قال: إن قامت له بينة أنه قاله أخذ منه الحد وإلا فلا حد عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأنه لما قال له إنك فعلت كذا وكذا كان الظاهر من قوله أنه يقول ذلك فصار بقوله الذي يقول إني فعلت كذا وكذا بمنزلة أن لو قال له: إن كنت قلت كذا وكذا فأنت ابن الزانية، فوجب أن يحد إن أثبت أنه قاله، معناه إن قامت أمه بحدها لأنها هي المقذوفة وليس له أن يقوم بحدها إذا كانت حية إلا أن توكله على ذلك.
[: يشج الرجل منقلة ما لا قود فيها أيعاقب مع الغرم]
ومن كتاب مساجد القبائل وسئل عن الرجل يشج الرجل منقلة ما لا قود فيها أيعاقب مع الغرم؟ فقال: نعم، فقيل له كيف ترى عقوبته أيجرد أهلها أم يجلدون بثيابهم؟ قال: بل يجردون، قيل لمالك فالنساء؟ قال: يقعدن، وقد أخذت امرأة جعلت تحت ثيابها قطيفا فنزعت عنها، قيل يا أبا عبد الله نزعت؟ قال: نعم، وأرى أن تنزع إذا كان مثل ذلك، قيل له: أفيجلد الرجل قياما أم قعودا؟ قال: ما أدركت أحدا يضرب إلا قاعدا، وأنكر المد في الحبال، قال مالك: وقد كان يتخذ للنساء قفاف يدخلن فيها فأعجبني ذلك وأرى أن يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يعاقب في الجرح الذي يقتص منه مع الغرم صحيح لا اختلاف فيه، وإنما يختلف: هل يعاقب مع القصاص فيما يقتص منه فيه حسبما مضى القول فيه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات، وما ذكره من أن الرجل يضرب قاعدا ويجرد ولا يمد، ومن أن المرأة لا تجرد إلا أنه ينزع عنها ما يقيها الضرب ومن استحسانه لضرب النساء في قفاف يدخلن فيها وهو نص ما في المدونة في ذلك كله ولا(16/276)
إشكال ولا اختلاف في شيء منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه]
مسألة وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت مزقرة عرض رجل من أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها وكشف ثيابها عنها فامتنعت منه فرمته بحجر فشجته ثم.... فذهب فأتت مروان بن الحكم، وكانت فيه شدة في الحدود، فذكرت ذلك له، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، فقال لها أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأدخلت بيتا ثم قال ايتوني بالمكاريين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه إلا جئتموني به، فأتوه بهم، فجعل يدخل عليها رجلا رجلا، فتقول: ليس هو هذا حتى دخل به عليها مشجوجا، فقالت: هو ذا، فأمر به مروان فحبس فأتاه أبوه فكلمه، فقال مروان:
جانيك يجني عليك وقد ... يعدي الصحاح مبارك الجرب
فلرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال أبوه: ليس كذلك قال الله، إنما قال الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال مروان: لاها الله، إذا لا يخرج منه حتى ينقدها ألف درهم لما كشف منها، قال أبوه هي علي، فأمر به مروان فأخرج.
قلت لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به؟ فقال: ليس(16/277)
هذا عندي من القضاء، ولكنه على غلظة من مروان في الحدود، ولقد كان مروان يؤتى بالرجل قد قبل المرأة فينزع ثنيته، فلم ير مالك مع التهمة البينة أن يؤخذ بها ولكن يطال سجن المتهم رجاء أن توجد عليه بينة.
قال محمد بن رشد: تضمينه هذه الحكاية عن مروان بن الحكم من أنه قضى للمرأة بدعواها على الكري الذي ادعت أنه أرادها عن نفسها وكشف عنها ثيابها بألف درهم بما ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت المظنة عليه لا يأخذ به مالك ولا يرى القضاء به، إذ لا يرى العقوبات في الأموال؛ لأن العقوبات في الأموال أمر قد كان في أول الإسلام، من ذلك «ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة: إنا آخذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» «وما روي عنه في حريسة الجبل: أن فيها غرامة مثيلها وجلدات نكال» «وما روي عنه من أن سلب من أخذ وهو يصيد في الحرم لمن أخذه» كان ذلك كله في أول الإسلام وحكم به عمر بن الخطاب ثم انعقد الإجماع بأن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان، وقد أنكر ذلك على مروان بن عبد الحكم، فقال على سبيل إنكار ذلك عليه: إنه قد كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينتزع ثنيته، وهذه نهاية في الإنكار، والعقوبات على الجرائم عند مالك على قدر اجتهاد الوالي وعظم جرح الجاني وأن يجاوز الحد، وقد أمر مالك صاحب الشرط في الذي وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه فلم يشكوا في المكروه بعينه أن يضربه ضربا مبرحا ويسجنه سجنا طويلا حتى تظهر توبته وتتبين، فسجنه صاحب الشرط أياما قبل أن يضربه فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد عليه ويقول اتق الله فما خلقت النار باطلا، فيقول مالك: أجل وإن الذي ألفي عليه ابنك لمن الباطل، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوط فانتفخ فمات، فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به، فقيل له يا أبا عبد الله إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير، فقال هذا بما أجرم، وما رأيت أنه أمسه من(16/278)
العقوبة إلا بما اجترم، وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة: الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره يؤدب في ذلك باجتهاده، وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح، وله في الواضحة أن أقصى ما يبلغ في الأدب في المعروف بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك، وروي عن أصبغ أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البين الفساد مائتان، وروي عنه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وإن أتى على النفس، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عباس أنه قال: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» وذهب إلى هذا محمد بن سلمة فقال: قد انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] فلم يجعل عليهما أكثر من ذلك، فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوطا، وقد روى عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن مالك أنه لا يتجاوز فيها خمسة وسبعين، وأنه كان يقول: الأدب عندي دون الحد، والمشهور عنه المعلوم من مذهبه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب ابن القاسم، وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب، ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد، وروي ذلك عن الليث بن سعد، وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يبلغ فيه مائة، ومن أهل العلم من رأى أنه لا يضرب في الأدب أكثر من عشرة أسواط على ما روى أبو بردة «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الأدب لا يكون فوق عشرة أسواط» وروي مثله عن أشهب قال لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه، وبالله التوفيق.
[: العسل يخلط باللبن]
ومن كتاب البز وسئل ابن القاسم عن العسل يخلط باللبن فقال: لا بأس به.(16/279)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن النهي إنما جاء في الخليطين من الأشربة التي يصنعها الناس من الأطعمة كالتمر والزبيب والعسل والبر وما أشبه ذلك، وأما اللبن فليس بشراب من صنع آدمي، فلا كراهة في خلطه بالعسل ولا شراب من الأشربة، والأصل في هذا أنه إذا كان الشيئان يصلح أن ينبذ كل واحد منهما فلا يجوز أن يجمعا في الانتباذ ولا أن يخلط شرابهما إذا انتبذ كل واحد منهما على حدة، وإذا كان الشيئان لا يصلح أن ينبذ أحدهما أو كلاهما فلا بأس بخلط شرابيهما، وإنما نهي عن خلط الشرابين إذا اختلف أصولهما ومن جمع الشيئين المختلفين في الإنباذ من باب حماية الذرائع؛ لأن الشدة والإسكار يسرع إليهما بذلك، فمن خلطهما وشربهما في الفور لم يكن عليه في ذلك حرج، وقيل إن النهي في ذلك عبادة لا لعلة، فعلى هذا القول لا يجوز ذلك وإن شربهما بالفور، وأما شراب الورد وشراب السكنجبين وما أشبه ذلك من الأشربة السكرية أو العسلية فالجمع بينهما جائز باتفاق؛ لأن أصلهما جميعا واحد ولا يجوز خلط شراب سكري وعسلي لاختلاف أصلهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا على رجل أنه شرب خمرا فحلف بطلاق امرأته ما شرب خمرا]
مسألة وسئل مالك عن رجلين شهدا على رجل أنه شرب خمرا فحلف بطلاق امرأته ما شرب خمرا، أترى أن يطلق عليه امرأته؟ قال أرى أن يضرب الحد، ولم نر عليه طلاقا، وقد قال: إن هذه وجوه يكون لها تفسير، من الناس من يقول: إنما الخمر من العنب، قيل له أفتقول ذلك؟ قال: وكل خمر فهو خمر إذا أسكر، قيل له: أفتوجب عليه الطلاق؟ قال: لا ولكن أوجب عليه الحد.
قال محمد بن رشد: إنما نواه لأن كل ما أسكر فهو خمر عنده، خلاف ما يذهب إليه أهل العراق في أن الخمر إنما يقع على ما أسكر من(16/280)
العنب، وبعضهم يقول إنه يقع على ما أسكر من العنب والتمر والزبيب النقيع، فلما شهدا عليه أنه شرب خمرا ولم يقولا مم هي الخمر التي شرب كانا بمنزلة أن لو شهدا عليه أنه شرب سكرا، فنواه في أنه لم يشرب الخمر التي هي الخمر عند أهل العراق ولو شهدا عليه أنه شرب خمر العنب فحلف أنه لم يشرب خمرا لطلقت عليه زوجته باتفاق، وقد قيل إنه لا ينوي مع قيام البينة وإنما ينوي إذا جاء مستفتيا، وقيل إنه لا ينوي وإن جاء مستفتيا، وإلى هذا ذهب ابن المواز، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور.
[: يخلط الشيئان للخل]
ومن كتاب أوله سلعة سماها وسئل عن العصير يجعل فيه الشعير وغير ذلك مما يخلل به التماس أن يكون خلا فيخلل، أترى به بأسا؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن النهي إنما هو في خلط الشرابين للشرب إذا اختلفت أصولهما، وفي انتباذ الشيئين المختلفين للشرب، وكذلك خلط ما ينبذ مع الشراب الذي قد نبذ من شيء آخر ليشرب، وأما الخل فليس من ذلك في شيء؛ لأنه ليس بشراب، وإنما هو إدام؛ فجائز أن يخلط الخلان وإن اختلفت أصولهما وأن يخلط الشيئان للخل وأن يخلط مع العصير الذي يراد للخل ما شاء من الأشربة والأطعمة، هذا هو المشهور من قول مالك، وفي ذلك اختلاف حسبما يأتي ذكره في رسم الحدود من سماع أشهب وفي رسم الأشربة والحدود منه أيضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقذف الرجل الغريب فيقول له يا ابن زانية]
مسألة وسئل عن الرجل يقذف الرجل الغريب فيقول له يا ابن زانية(16/281)
وهو غريب لا تعرف أمه ... عليه فيقول السلطان هذا غريب لا تعرف أمه فيستشير في ذلك في أن يقيم عليه الحد أم لا؟ قال مالك أرى أن يضرب الحد إذا كان رجلا مسلما، وقد يقدم الرجل البلد فيقيم فيها سنتين من أهل خراسان وغير ذلك فيقذفه الرجل فيقال له أقم البينة أن أمك حرة أو مسلمة، قال ما أرى ذلك عليه، ولكن أرى أن يضرب من قذفه، والظالم هو الذي يحمل عليه فأرى أن يحد قاذفه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن أم الحر المسلم محمولة على الحرية والإسلام حتى يعلم خلاف ذلك، كما أنه محمول على الحرية حتى يعلم أنه عبد لو قذفه رجل لوجب على قاذفه الحد إلا أن يثبت أنه عبد، وإنما يحد إذا قال له: يا ابن الزانية، إذا كانت أمه قد ماتت أو حاضرة فوكلته، وأما إن كانت غائبة قريبة الغيبة فلا يحد لها إلا بعد الإعذار إليها.
[: قال لرجل يا ابن أمي فقال له الرجل ابن أمك الشيطان]
ومن كتاب باع غلاما وسئل مالك عن رجل قال لرجل: يا ابن أمي، فقال له الرجل: ابن أمك الشيطان، فقال: ليس في هذا فرية، وهذا من كلام أهل السفه، قيل له: أفترى فيه أدبا؟ قال: إنه لخفيف وهو إذا.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه خفيف على ما قال؛ لأن ذلك من قول القائل محال فلا يلحق المقول له بذلك نقص ولا عيب، وبالله التوفيق.(16/282)
[مسألة: رجل من الموالي قال لرجل عربي أنا أقرب برسول الله عليه السلام منك]
مسألة وسئل مالك عن رجل من الموالي قال لرجل عربي، أنا خير منك أصلا وفصلا وأقرب برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك، قال مالك: ما أرى من أمر بين، قيل له: أفترى عليه حدا حين قال: أنا أقرب برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - منك؟ قال: ما أرى من أمر بين والعفو في ذلك أفضل.
قال محمد بن رشد: الأصل النسب، والفصل الحسب، فقوله أنا خير منك أصلا وفصلا بمنزلة قوله أنا خير منك نسبا وحسبا أو أنا أكرم نسبا وحسبا، والحسب قد يراد به النسب، وقد يراد به الدين، بدليل قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه. الحديث، فإذا أفرد الرجل الحسب عن النسب فقال لصاحبه في سبه إياه: أنا خير منك أو أفضل منك أو أكرم منك حسبا، حمل قوله على النسب، وإذا جمعه معه فقال له: أنا خير منك وأفضل منك وأكرم منك حسبا ونسبا، حمل الحسب على الدين، فيتحصل في قول الرجل للرجل: أنا خير أو أفضل منك أو أكرم منك حسبا ونسبا أو أصلا ثلاثة أقوال، أحدها: قول مالك في هذه الرواية وغيرها إنه لا حد عليه؛ لأن ذلك لا يرجع عنده إلا إلى تفضيل العجم على العرب، إن كان القائل من العجم والمقول له من العرب لا إلى نفي المقول له عن نسبه لأن قول المولى للعربي: أنا خير منك بمنزلة قوله: العجم خير من العرب، هذا الذي ذهب إليه مالك، والثاني: إنه إن قال له: أنا أكرم منك أو أفضل منك أو خير منك نسبا، فعليه الحد إن كان قاله عربي لقرشي أو مولى لعربي أو لقرشي، وإن لم يقل نسبا وقال حسبا فعليه الأدب ولا حد عليه، وهو مذهب ابن أبي حازم والثالث: إنه إن قال له: أنا أكرم منك أو أفضل منك أو خير منك نسبا، فعليه الحد وإن لم يقل نسبا وقال حسبا فعليه الحد إلا أن يقول إنما أردت الدين فيحلف على ذلك ويسقط عنه الحد إذا كان يشبه أن يكون كذلك، وإن كان لا يشبه أن(16/283)
يكون كذلك لظهور سفه لم يصدق في ذلك، ووجب عليه الحد، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ فيما حكى ابن حبيب عنهم من أنه إذا قال عربي لعربي مثله أو فوقه أو لقرشي: أنا خير منك، فلا حد عليه، وكذلك إذا قاله مولى لمولى، وإذا قاله مولى لعربي حد للنفي، كأنه قال: لست من العرب حيث فضل عليه المولى، إلا أن يقول: إنما أردت أني خير منك عند الله، فيحلف بالله ما أراد إلا ذلك، ثم لا حد عليه إن كان قائل ذلك مثله يشبه أن يكون كذلك، وإن كان سفيها مثله لا يشبه أن يكون كما قال، لم يقبل قوله، وحمل عليه أنه أراد تنحيته عن نسبه، قالا: ولو قاله ابنا عم من العرب أو من قريش أحدهما لصاحبه كان فيه الحد؛ لأنه لا مذهب له هاهنا إلا النفي إلا أن يقول: أردت أني خير منه دينا ومثله يشبه أن يكون كذلك فيحلف وينجو من الحد، فقول مطرف وابن الماجشون وأصبغ مثل قول ابن أبي حازم في قوله: أنا أكرم منك نسبا، وخلاف له في قوله: أنا أكرم منك حسبا، وقوله في الرواية: والعفو في ذلك أفضل معناه ودرأته الحد في ذلك أولى وأحسن إذ ليس العفو على الحد إلى الإمام، وإنما ذلك لصاحب المقذوف، ولو قال الرجل لصاحبه في مشاتمة: ما لك أصل ولا فصل لم يجب عليه الحد على مذهب مالك، خلاف قول أصبغ وخلاف ما حكى ابن حبيب عن ابن الماجشون من أنه إن قاله لعربي حد، إلا أن يعذر بجهالة، فيحلف ما أراد قطع نسبه ويؤدب، وإن نكل عن اليمين حد، وإن قاله لمولى فلا حد عليه.
[: رجل من العرب ورجل من قريش فادعى كلاهما أنه أفضل من الآخر]
ومن كتاب صلى نهارا
وسئل عن رجل من العرب ورجل من قريش كانا في دعوة في قسمهم وهم حلفاء، فذهب العربي يتقدم القريشي وكلاهما قد صحب أبوه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال القريشي للعربي: لا تتقدمني أنا خير منك وأقرب برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(16/284)
منك، فقال له العربي: بل أنا خير منك وأقرب برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك، فسئل مالك عنه: هل ترى في مثل هذا حدا؟ فقال: ما أرى من حد يثبت، والعفو في مثل هذا أفضل.
قال محمد بن رشد: درء الحد في هذه المسألة بين على ما قاله، إذ لم يزد على قوله أنا خير منك، فلا أعرف في ذلك نص خلاف، ولو قال: أنا خير منك نسبا لوجب عليه الحد عند ابن أبي حازم، وقد مضى في المسألة التي قبل هذه من الكلام ما فيه بيان هذه، وبالله تعالى التوفيق.
[: جلد الحد رجلا قال لرجل إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد]
ومن كتاب طلق قال وحدثني أن مروان بن الحكم جلد الحد رجلا قال لرجل: إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد، قال ابن القاسم، قال مالك: ليس عليه العمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك عليه العمل إذ ليس عنده بتعريض بين، لاحتمال أن يريد أنها تحب الظلم لئلا يبدو قبح صوتها أو سماجة هيئتها أو ما أشبه ذلك من المعاني التي لا يراد بها الزنا، وبالله التوفيق.
[: رائحة الخمرتوجد بالرجل هل يحد]
ومن كتاب اغتسل على غير نية وسئل مالك عن الرائحة توجد بالرجل، قال: إن شهد عليه ذوا عدل أنه شرب مسكرا حد، وإن لم يستيقن وكان من أهل السفه نكل، وإن كان رضا في حاله لم أر عليه نكالا ولا حدا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن شهد عليه ذوا عدل أنه شرب مسكرا(16/285)
حد، معناه إذا كانت الشهادة عليه بذلك دون أن يأمر السلطان باستكناهه لأن الواحد يجزي في الاستكناه إذا أمر الإمام بذلك، ولا اختلاف في مذهب مالك، وجل أهل العلم في أن المسكر من جميع الأشربة خمر يجب الحد على من شربها سكر أو لم يسكر لقول النبي عليه السلام «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وإنما يخالف في ذلك أهل العراق فيرون شرب ما دون السكر من الأنبذة المسكرة حالا، ولا يحرمون اليسير والكثير إلا من خمر العنب أو العنب والتمر على قول بعضهم، وهو من المذاهب المرغوب عنها البينة خطؤها.
[: يقول للرجل يا ابن البربرية وأمه عربية]
ومن كتاب سعد
قال مالك في الرجل يقول للرجل يا ابن البربرية وأمه عربية: إنه يضرب الحد؛ لأنه نفى أمه من أبيها، فإن قال: ليست أمك فلانة، فلا أرى عليه حدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من قال لعربي: يا بربري، وهو يعرف أنه عربي فعليه الحد؛ لأنه قد نفاه عن نسبه، فقوله: إنه يضرب الحد إذا قال له: يا ابن البربرية، وأمه عربية، معناه إذا كان يعرف أن أمه عربية، وإنما وجب الحد في قول الرجل للرجل: ليس أبوك فلانا، ولم يجب في قوله: ليست أمك فلانة لأن نسب الرجل يثبت من أبيه بالحكم وغلبة الظن دون المشاهدة واليقين، ويثبت من أمه بالمشاهدة واليقين، فإذا قال له: لست لأمك لم يغره بذلك ولا كانت عليه فيه غضاضة لأنه يعلم كذبه فيما قاله، وإذا قال له لست لأبيك فقد غره بذلك إذ لا يعلم كذبه قطعا فيما رماه به، وقذف أمه(16/286)
بالزنا، فيجب عليه حدان، حد له لقطع نسبه من أبيه، وحد لأمه لتزنيته إياها، ويختلف هل يجب عليه حد لأبيه أم لا، فلا يجب عليه على مذهب أشهب ويجب عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة في إيجاب الحد على من قال لعبده: لست لأبيك وأبوه مسلم وأمه كافرة، قال: لأنه حمل أباه على غير أمه، وهو بعيد، وقول أشهب أصح، وبالله التوفيق.
[مسألة: منبوذ افتري عليه فقيل له يا ابن الزانية]
مسألة وسئل مالك عن منبوذ افتري عليه فقيل له: يا ابن الزانية، فقال: أرى أن يعزر بإذايته إياه ولا حد على من افترى عليه.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير الحد على من قال لمنبوذ يا ابن الزانية من أجل أن أمه لا تعرف، ولا حد على من قذف مجهولا لا يعرف، وكذلك لو قال له: يا ابن الزاني لم يحد، إذ لا يعرف أبوه، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة: لا حد على من قذف منبوذا بأمه أو بأبيه، وهو معنى قوله في هذه الرواية ولا حد على من افترى عليه، وأما لو قال له: يا ولد زنا، لوجب عليه الحد؛ لاحتمال أن يكون لرشده، وان كان قد نبذ، وأما اللقيط والمجهول فيحد من قذفه بأبيه أو بأمه، قاله ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.
[: ينتهر بالمرأة في الشعر]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك وسئل عن الذي ينتهر بالمرأة في الشعر فيوقف على ذلك، فيقول: قول قلته ليس له عندي أصل أيحد؟ قال: ما رأيت أحدا حد في مثل هذا، ولم يزل الشعراء يقولون، فما رأيت أحدا حد في مثل هذا إلا أن يكون الشيء البين جدا.
قال محمد بن رشد: رأيت لأبي بكر بن محمد أنه قال: المعروف(16/287)
من قول أصحابنا أنه يعتبر شعره، فإن كان فيه تعريض القذف حد، فكأنه تأول عن مالك أنه لا يحد الشاعر إذا عرض في شعره بقذف المرأة، وليس ذلك بتأويل صحيح؛ لأنه قد نص على أنه يحد إذا كان الشيء البين جدا، وإنما شرط ألا يحد حتى يكون الشيء البين جدا؛ لأن للشعراء في أشعارهم استعارات لطيفة ومجازات بعيدة، فلا يتأول عليهم في شيء منها القصد إلى الحقيقة إلا أن يكون ذلك أمرا بينا، فليس قوله بخلاف لأصله في إيجاب الحد في التعريض بالقذف؛ لأنه لا يرى ذلك إلا في التعريض البين الذي يرى في أنه أراد بذلك القذف، لا في الكلام المحتمل، ألا ترى أنه لم ير العمل على فعل مروان في جلده الحد لقائل: إن أمك لتحب الظلم؛ لاحتمال الكلام غير القذف حسبما مضى من قولنا في رسم طلق، فكذلك إذا كان كلام الشاعر في شعره محتملا أن يكون أراد به القذف وألا يكون أراد به القذف لم يحد.
[مسألة: قال لعربي يا مولى أو يا عبد]
مسألة وسئل عن رجل قتل أخوه فجاء أخو القاتل وهو عربي يكلمه في ذلك وهو مغضب فقال له: تنح عني أيها العبد وهو ابن لسوداء أو سندية، ثم قال لم أرد نفيه، وإنما أردت سواده ولونه أترى عليه حدا؟ فقال إني لأرجو ألا يكون ذلك عليه إن شاء الله، قيل له: أترى عليه اليمين ما أراد نفيه؟ قال: ذلك أدنى ما عليه إن لم يكن عليه غير ذلك هو أدنى ما عليه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قوله في المدونة: إنه من قال لعربي: يا مولى أو يا عبد، أنه يحد، بخلاف إذا قال لمولى: يا عبد، وإنما فرق في المدونة بين أن يقول ذلك للعربي أو للمولى؛ لأن العبيد والموالي من العجم، فإذا قال للعربي يا مولى أو يا عبد فقد قطع نسبه؛ لأن ذلك بمنزلة أن يقول له يا عجمي، فما في المدونة أظهر من هذه الرواية، ويحتمل أن يفرق(16/288)
بين المسألتين بما ذكره في المسألة من سواد المقول له: تنح عني أيها العبد هو ابن سوداء أو سندية، لاحتمال أن يكون القائل أراد بقوله ذلك له أنه ابن أمة سوداء من عربي بنكاح، فلم ينفه بذلك عن نسبه من العرب، واستظهر عليه في ذلك باليمين، وبالله التوفيق.
[مسألة: عفو المقذوف عن القاذف]
مسألة وسئل عن رجل نازع رجلا قد كانت أمه أمة فأعتقت وهو لا يعلم فنازعه بعد عتقها فقال له: أخزاك الله وأخزى زانية ولدتك، ولم يكن علم بعتق أمه، فقال: ما أراه إلا وقد فرغ ووجب عليه الحد، قيل له: إنها كلمته، فقيل لها: لم يعلم أنك عتقت حين ذهبت. لتطلب ذلك منه، فقالت: اشهدوا أنه إن حلف في المسجد أنه لم يعلم فقد عفوت عنه، فلما ذهب ليحلف رجعت عن ذلك فأرادت إتباعه بالحد، قال أرى ذلك لها، وأرى أن يحد، قيل له: إنها قد أشهدت أنها قد عفت إن حلف أنه لم يعلم أنها حرة ثم أفسدت فقال: إني لا أرى عفوها في مثل هذا جائزا، قيل له: أرأيت إن تمت على العفو؟ فقال: لا أرى لها في ذلك عفوا وأرى أن يحد ولا يجاز عفوها لأن في ذلك إسقاط شهادته ليس حدها بالحد فليس قبول شهادته وردها بيد هذه المرأة، فلا أرى عفوها جائزا وأرى أن يحد إلا أن تكون امرأة تريد سترا أو يخاف إن كتبت أن يثبت ذلك عليها، فأرى عفوها في مثل هذا جائزا وإلا فإن عليه الحد؛ لأن في ذلك شهادته، فلا أرى أن تقبل شهادته، ولو جاز العفو في مثل هذا لعمد الرجل الموسر الكثير المال فافترى على الرجل المعسر فأعطاه مائة دينار أو مائتي درهم وأبرأه من ذلك الحد، فلا أرى ذلك جائزا عليه وأرى عليه الحد وفي رواية ابن القاسم عن مالك العفو جائز.(16/289)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قذف المرأة بالزنا وهو يظنها أمة وقد كانت أعتقت وهو لا يعلم بعتقها: إن عليه الحد لها، ولا يعذر بجهله بعتقها صحيح لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن الحقوق الواجبة لها بالعتق من الحد والقصاص والميراث وسائر أحكام الحرية لا تسقط بالجهل بها، لو قتلها أحد لقتل بها وإن لم يعلم بحريتها، وكذلك لو شهد بشهادة فردها القاضي إذ لم يعلم بحريته ثم علم بها لأجازها، وإنما اختلف إذا شهد بها عند غيره بعد أن ردها الأول بجهله بحريته، فقيل إنها تقبل منه، وقيل إنها لا تقبل منه؛ لأنها قد ردت، والأصح أن تقبل منه لأن الغيب قد كشف أن ردها أولا لم يكن صحيحا.
وظاهر رواية أشهب هذه أن عفو المقذوف عن القاذف لا يجوز وإن كان عفوه قبل أن يبلغ الإمام، خلاف رواية ابن القاسم عنه، فهي تدل على أن القذف يتعلق به حق الله تعالى، وهو مذهب أبي حنيفة، ويأتي على قياسها أن الإمام يقيم حد القذف على القاذف بقيام من قام به من الناس، وهو ظاهر قوله في المدونة في الذي يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه يقيم عليه الحد إذا كان معه شهود؛ لأن ظاهر قوله أنه يقيم الحد عليه وإن كان المقذوف غائبا، مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وغيره، خلاف ما تأول محمد بن المواز من أن معنى ذلك إذا جاء المقذوف وقام بحقه، وقد قيل: إنه لا يتعلق بالقذف حق لله تعالى فللمقذوف على هذا القول أن يعفو عن القاذف، وإن انتهى الأمر إلى الإمام أراد سترا أو لم يرده، وهو أحد قولي مالك في المدونة، وقد قيل: إنه لا يتعلق به حق لله تعالى حتى ينتهي إلى الإمام إلا أن يريد سترا، وهو أحد قولي مالك في المدونة ومذهب الشافعي، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، ولا اختلاف في أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف هل يتعلق فيه حق لله تعالى أم لا؟ على الثلاثة الأقوال التي ذكرناها، وقد قال عبد الوهاب في المعونة: اختلف عن مالك في حد القذف هل هو من حقوق الله تعالى، أو من حقوق الآدميين، وفائدة ذلك أنه إن كان من حقوق الله فلا(16/290)
يجوز العفو عنه بعد بلوغه إلى الإمام، وإن كان من حقوق الآدميين جاز العفو عنه، والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف وحقوق الله تعالى لا تورث، ولأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي، والله اعلم، هذا نص قوله في المعونة، وفيه نظر فالصحيح ما ذكرناه.
[: المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد الحد كلما أخذ]
ومن كتاب الحدود والأشربة وسألته عن المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد الحد كلما أخذ؟ قال: نعم رأيي أرى أن لو ألزم السجن إذا كان مدمنا خليعا، وقد سجن عامر بن عبد الله بن الزبير ابنا له حتى جمع كتاب الله فيه، فأتى فقيل له: قد جمع كتاب الله فخله، فقال ما من موضع خير له من موضع جمع فيه كتاب الله فأبى أن يخليه فأرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قوله في المدمن على الخمر إنه يجلد الحد كلما أخذ، هو أمر متفق عليه في المذهب، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي أنه يقتل في الرابعة وقول عبد الله بن عمرو بن العاص ايتوني برجل أقيم عليه الحد ثلاث مرات فإن لم أقتله فأنا كذاب، «وما روى عن أبي سليمان مولى أم سلمة أن أبا الرمدا البلوي أخبره أن رجلا منهم شرب الخمر فأتوا به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضربه، ثم شرب الثانية، فأتوا به فضربه، فما أدري قال في الثالثة أوفي الرابعة فأمر به فجعل على العجل ثم ضربت عنقه» تعلق به من شذ من أهل العلم، والذي عليه جماعة العلماء أن ذلك منسوخ، بدليل ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، فأمر في الرابعة بالجلد أيضا ولم يأمر(16/291)
بالقتل» وقد روي عن محمد المنكدر أنه حدث أنه بلغه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في شارب الخمر: إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه، فأتي ثلاث مرات برجل قد شرب الخمر فجلدوه ثم أتي به في الرابعة فجلدوه، ووضع القتل عن الناس» وقد دل على نسخه أيضا قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إيمان، أو يزني بعد إحصان أو يقتل نفسا بغير نفس» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روي هذا الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، واستحسان مالك للخليع المدمن على شرب الخمر أن يلتزم السجن كما فعل عامر بن عبد الله بابنه الماجن نظر صحيح؛ لأنه إذا كان لا يكف عن شرب الخمر ولا يقلع عنه بالحد كلما أخذ فإلزامه السجن أحوط لدينه وأبقى على جسمه، وبالله التوفيق.
[: يخلط الزبيب والتمر للخل]
ومن كتاب الحدود
وسئل عن الذي يخلط الزبيب والتمر للخل، فقال: ما سمعت أنه يكره إلا في الشراب الذي يشرب.
قال محمد بن رشد: قد كره ذلك مالك في مختصر ابن عبد الحكم، والأظهر ألا كراهية في ذلك على ما قاله في هذه الرواية لأن النهي عن الخليطين وعن انتباذ الشيئين معا إنما جاء في الشراب الذي يشرب، والنهي في ذلك إنما هو من أجل أن الشدة والإسكار تسرع إليهما إذا جمعا معا حسبما مضى القول فيه في رسم البز، من سماع ابن القاسم، وهذه العلة معدومة في الخل فوجب ألا يكون في ذلك كراهية، وقد قيل إن النهي في ذلك إنما هو عبادة لا لعلة وهو قول مالك في موطئه؛ لأنه قال فيه: وهو الأمر(16/292)
الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا أنه يكره ذلك لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه، فعلى هذا يكره ذلك في الخل وغيره؛ لأن النهي إذا كان عبادة لا لعلة وجب أن يحمل على عمومه في الخل وغيره مما يشرب أو يتداوى به أو يمتشط به على ما قاله في رسم الأشربة والحدود بعد هذا في النضوح تعمله المرأة من التمر والزبيب لتمتشط به حسبما يأتي القول فيه إن شاء الله.
[مسألة: النبيذ يجعل فيه الدردي دردي النبيذ ليشتد]
مسألة وسئل عن النبيذ يجعل فيه الدردي دردي النبيذ ليشتد، فقال: لا بأس به إلا أن يكون مسكرا، قيل له: إنما هو تفل نبيذ، فقال ذلك النبيذ كان مسكرا، فإذا كان ذلك النبيذ مسكرا فهذا حرام، فروجع فيه وقيل له إن ناسا لا يرون به بأسا، فقال هذا حرام.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب في أن دردي النبيذ المسكر لا يحل أن يجعل في نبيذ ليشتد به؛ لأن النبيذ المسكر بمنزلة الخمر في تحريم قليله وكثيره، فدرديه بمنزلته، وإنما يجوز ذلك على مذهب أهل العراق والذين يرون ما دون السكر من النبيذ المسكر حلالا، وأما دردي النبيذ الذي لا يسكر فجائز أن يجعل في نبيذ غيره ليشتد به إذا كان أصلهما واحدا، وأما إن كان النبيذ من تمر فلا يجوز أن يجعل فيه دردي نبيذ زبيب أو ما أشبه ذلك للنهي الذي جاء في الخليطين، وبالله التوفيق.(16/293)
[: الحدود في الحرم]
من كتاب العقول وسئل مالك أتقام الحدود في الحرم؟ قال: نعم وتقتل النفس بالنفس في الحرم.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا إلى السماع من كتاب الديات، ومضى مثله في سماع أبي زيد أنه يقتص منه في القتل في الحرم، ولا اختلاف في هذا بين أحد من فقهاء الأمصار أحفظه، وإنما يؤثر فيه خلاف عن جماعة من السلف لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقد مضى الكلام على هذا في الموضعين من كتاب الديات.
[: افترى على الرجل فأعطاه مائة دينارفأعفاه من الحد]
ومن كتاب الأشربة والحدود وقال في الكثير المال إذا افترى على الرجل فأعطاه مائة دينار أو مائتي دينار فأعفاه من الحد: ما أرى ذلك جائزا وأرى عليه الحد.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا من قوله في أول رسم من السماع ومضى الكلام عليه مستوفى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تعمل من التمر والزبيب نضوحا تمتشط به]
مسألة وسئل عن المرأة تعمل من التمر والزبيب نضوحا تمتشط به، قال: أرجو ألا يكون به بأس، قيل له: ربما اشتكى الرجل فيشتريه من أجل شكوة فقال: لا خير فيه إذا أرادوا أن يتداووا بما أحل الله، يريد(16/294)
أن يقارب الله ولا أرى بأسا أن تمشط به المرأة، وسئل عن المرأة تجعل في رأسها من نبيذ التمر والزبيب جميعا، فقال: سمعت أنهما لا يخلطان، فلا أرى أن تجعل في رأسها منه شيئا، لقد قام عليها رأسها بالغلاء.
قال محمد بن رشد: في كتاب الأشربة من مختصر ابن عبد الحكم أن النضوح من الخليطين لرأس المرأة مكروه، وفيه أيضا إجازته على ترخيص، والقولان قائمان من هذه الرواية إذا اعتبر الكلام فيها؛ لأنه قال في أولها لا بأس بذلك، وقال في آخرها: فلا أرى أن تجعل في رأسها منه شيئا، فمن جعل النهي عبادة لغير علة وحمل الحديث على عمومه لم يجز ذلك، ومن لم يحمله على عمومه وقال: إن المراد بذلك الشراب الذي يشرب، وعلل النهي بإسراع الشدة والإسكار إلى الشراب بخلطهما أو بخلط أصولهما في الانتباذ أجاز ذلك، وقد مضى بيان هذا وذكره في رسم كتاب الحدود قبل هذا في رسم مسألة الزبيب والتمر يخلطان للخل، ولم يتكلم في الرواية على كراهة امتشاط المرأة بالطعام من أجل حرمته وما في ذلك من السرف والتشبه بفعل الأعاجم لأنه سكت عن ذلك للعلم به، إذ لا اختلاف في كراهته، وقد نص على ذلك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء وفي رسم النذور والجنائز من سماع أشهب منه، ويحتمل أن يكون ما يظهر من التعارض والاختلاف في هذه الرواية يرجع إلى هذا المعنى فيكون الوجه فيها أنه أجاز ذلك في أول الرواية ولم يره داخلا في النهي عن الخليطين، وكرهه في آخرها وإن لم يكن داخلا في النهي عن الخليطين من ناحية حرمة الطعام والشراب، وبالله التوفيق.(16/295)
[مسألة: للشاهد أن يشهد بما علم]
مسألة وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قاء خمرا فقال لأبي هريرة: اشهد أنه قاءها، فقال: ما هذا التعمق؟
قال محمد بن رشد: زاد في رسم الحدود من سماع أصبغ بعد هذا تجوز الشهادة بذلك فلا وربك ما قاءها حتى شربها، وهذا الحديث فيه وجهان من الفقه، أحدهما أن الحاكم لا يقضي بعلمه، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في موضعه، وهو رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الأقضية، والوجه الثاني أنه يجوز للشاهد أن يشهد بما علم من جهة النظر والاستدلال، كما يجوز له أن يشهد بما علمه ضرورة بالعين، لقول عمر بن الخطاب لأبي هريرة: اشهد أنه شربها وهو لم يعاين شربه إياها، وإنما عاين أنه قاءها ولكن يعلم بالنظر والاستدلال أنه لم يقئها حتى شربها، وقد أشبعنا الكلام على هذا في الشهادات من كتاب المقدمات وإنما توقف أبو هريرة عن الشهادة أنه شربها لاحتمال أن يكون لم يشربها باختياره، وإنما أكره عليها فصبت في حلقه ولم ير عمر الشهادة تبطل بهذا الاحتمال؛ لأن أمره يحمل على أنه شربها باختياره إذ لم يدع أنه أكره على شربها وإنما أنكر أن يكون شربها، ولهذا قال له: ما هذا التعمق؟.
[مسألة: الزكوة للخمر تغسل فيجعل فيها الخل]
مسألة وسئل عن الزكوة للخمر تغسل فيجعل فيها الخل، فقال أما الزكوة فلا أرى ذلك لأنها قد تشربت، فلا أرى ذلك ولو غسلت، ولو كان بعض هذه الجرار فغسلها لم أر به بأسا وأخاف ألا يخرج ريحها من الزكوة ليشقها ولا يجعله فيها.(16/296)
قال محمد بن رشد: الفرق بين الجرار والزقاق على ما قاله، فلا إشكال فيه ولا موضع للقول، وبالله التوفيق.
[مسألة: أيحرق بيت الرجل الذي يوجد فيه الخمر يبيعها]
مسألة وسئل مالك أيحرق بيت الرجل الذي يوجد فيه الخمر يبيعها؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: إنما وقع السؤال عن هذا لما جاء من أن عمر بن الخطاب أحرق بيت رجل من ثقيف يقال له رويشد الثقفي كان يبيع الخمر ووجد في بيته خمرا فقال له أنت فويسق ولست رويشدا، فقوله في الرواية إنه لا يحرق بيته هو المعلوم من مذهبه لأنه لا يرى العقوبة في الأموال، إنما يراها في الأبدان، وقد قال في سماع أشهب من كتاب السلطان: وأرى أن يضرب من انتهب ومن أنهب، وقد حكى ابن لبابة عن يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار، واحتج بحديث عمر بن الخطاب في حرقه بيت رويشد الثقفي لبيعه الخمر فيه، وقد حكى يحيى بن يحيى عن بعض أصحابه أن مالكا كان يستحب حرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر، قيل له: فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين، قال: إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بالنار، واحتج بفعل عمر بن الخطاب وهي رواية شهادة في المذهب لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك «ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة " إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» «وما روي عنه في حريسة الجبل أن فيها غرم مثليها وجلدات نكال» «وما روي عنه من أنه من أخذ من يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه» ومن مثل هذا كثير ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، وبالله التوفيق.(16/297)
[مسألة: المجلود في الخمر والفرية أترى أن يحلقوا]
مسألة وسئل مالك عن المجلود في الخمر والفرية أترى أن يحلقوا؟ قال: لا، وأنا أكرهه قيل له: ربما كان الرجل الماجن الخبيث يراد أن يكسر بذلك ويزجر؟ قال: ينبغي أن يتبع الذين مضوا بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] ولم أسمع أحدا منهم رأى أن يحلقوا، وإنما هذه عقوبات وعذاب أحدثها الحجاج، ومثله، قيل له: أترى أن يطاف بهم وبشراب الخمر؟ قال إذا كان فاسقا مدمنا فأرى أن يطاف بهم وتعلن أمورهم ويفضحون.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال في صحة مذهب مالك فيها؛ لأن الذي أنكره من حلق الشعر في العقوبة على من بلغه عنه أنه الحجاج وشبهه قد أنكره ابن عباس على من بلغه عنه ذلك من أهل وقته، فروي عنه أنه كان يقول: إن الله جعل حلق الشعر نسكا وتجعلونه أنتم عقوبة، وإنما كان يقول ذلك والله تعالى أعلم لما وقع في مصنف عبد الرزاق عن ابن عمر قال: شرب أخي عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة عقبة بن الحرث وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا فلما صحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا: طهرنا، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه، قال عبد الله فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت ادخل الدار أطهرك، قال: ولم أعلم أنهما أتيا عمرا فأخبرني أنه قد أخبر الأمير، فقال لا تحلق اليوم على رؤوس الناس، ادخل الدار أحلقك، فدخل الدار قال عبد الله: فحلقت لأخي(16/298)
بيدي، ثم جلدهما عمرو فسمع بذلك عمر فكتب إلى عمرو وأن أبعث إلي بعبد الرحمن على قتبه ففعل ذلك عمرو وذكر باقي الحديث، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من مثل بالشعر فليس له خلاق عند الله يوم القيامة» فقيل إن مثلة الشعر حلقه في الخدود، ويروى عن طاوس أنه قال جعله الله طهرة فجعله الناس نكالا وقيل إن مثلة الشعر نتفه أو تغييره بالسواد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل يا ابن الأسود وأبوه أبيض]
مسألة وسألته عن الذي يقول للرجل يا ابن الأسود وأبوه أبيض، قال: هذا شديد، فأما الذي يقول لابن النبطي يا ابن القبطي- ولابن الأسود يا ابن النوبي فإن هذا أيسر، والأسود والنوبي غريب، وإنما الشديد أن يقول يا ابن الأسود وهو ابن أبيض، قلت: أرأيت إن قال له يا ابن الأبيض وهو ابن الأسود فقال ما أقول في هذا شيئا، ولكن إنما قلت ذلك في الذي يقول لابن الأبيض يا ابن الأسود.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يقول للرجل وهو ابن ابيض يا ابن الأسود إنه شديد، ولم ينص على إيجاب الحد فيه، وفي ذلك اختلاف، قيل إن عليه الحد، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها؛ لأنه حمل قوله على أنه نسبه إلى غير أبيه فرآه قذفا بينا، وقيل لا حد عليه، وهو مذهب أشهب لأنه حمل قوله على أنه وصف أباه بغير صفته كما لو قال له: يا ابن فلان الأسود، وسمى أباه باسمه وهو أبيض، وكذلك لو قال يا ابن الأقطع أو يا ابن الأعرج أو يا ابن اليهودي أو يا ابن النصراني يجري على هذا الاختلاف كان المقول له عربيا أو أعجميا أو مولى الحكم في ذلك كله سواء، وأما إن قال له: يا ابن الحجام أو يا ابن الخياط أو ما أشبه ذلك من الصنائع والأعمال، ففي ذلك أقوال أحدها: أنه يحد كان من الموالي أو من العرب وهو مذهب ابن وهب،(16/299)
والثاني أنه لا يحد كان من الموالي أيضا أو من العرب، وهو مذهب أشهب على أصله في أنه وصف أباه بغير صفته، والثالث أنه يحد إن كان من العرب ولا يحد إن كان من الموالي لأنها أعمال الموالي ويحلف ما أراد بذلك قطع نسبه، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقال في الذي يقول لابن النبطي يا ابن القبطي إنه أيسر ولم ينص على سقوط الحد في ذلك، وقد نص على ذلك في المدونة وغيرها لأن الأجناس كلها ما عدا العرب من البربر والفرس والنبط والقبط وما أشبههم لا يحفظون أنسابهم كما تحفظ العرب أنسابها فلا حد على من نسب أحدا منهم إلى غير جنسه من البيض كلهم باتفاق، وكذلك لا حد فيمن نسب أحدا من جنس من أجناس السود إلى غيره كالحبش والنوبة وما أشبههم باتفاق، واختلف إن نسب أحدا من جنس من أجناس البيض إلى جنس من أجناس السود أو نسب أحد من جنس من أجناس السود إلى جنس من أجناس البيض على ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا حد في شيء من ذلك كله، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، والثاني أن عليه الحد في ذلك كله إلا أن يكون المقول له أسود أو ابن اسود، وإن كان من جنس البيض فيقول له يا ابن النوبي ويا ابن الحبشي، وهو مذهب ابن الماجشون في الواضحة، والثالث أنه إن قال لبربري أو فارسي أو قبطي أو نبطي يا حبشي أو يا نوبي فعليه الحد إلا أن يكون أسود أو في آبائه أسود، وإن قال لحبشي أو نوبي: يا بربري أو فارسي أو يا قبطي أو يا نبطي فلا حد عليه، وهذا يأتي على أحد قولي مالك في المدونة في وجوب الحد على الذي يقول لبربري أو لرومي يا حبشي: إن عليه الحد، ويقوم من تفرقته في هذه الرواية بين أن يقول لابن الأسود يا ابن الأبيض وبين أن يقول لابن الأبيض يا ابن الأسود.
ووجه هذه التفرقة أنه قد يقال للأسود أبيض على سبيل التفاؤل كما سمي اللديغ سليما ويسمى الأعمى أبو بصير، وقال في الرواية في الذي يقول لابن الأسود يا ابن النوبي، إنه أيسر يريد أنه لا حد في ذلك، وسواء على مذهبه(16/300)
كان المقول له ذلك من العرب أو من جنس من أجناس العجم، وأما العرب فإنها تحفظ أنسابها، فمن نسب أحدا من العرب إلى غير العرب أو نسب أحدا منهم إلى غير قبيلته فعليه الحد قولا واحدا، وقريش من العرب والعرب ليسوا من قريش، فمن قال لقريشي يا عربي لم يحد، ومن قال لعربي يا قريشي حد، وكذلك كل قبيلتين من العرب يجمعها أب واحد، يحد من نسب أحدا من القبيلة الأعلى إلى القبيلة الأدنى، ولا يحد من نسب أحدا من القبيلة الأدنى إلى القبيلة الأعلى، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وتلخيصه.
[مسألة: يقول السلطان له لك الأمان وأخبرني]
مسألة وسئل مالك أيكره للسلطان أن يأخذ الناس بالتهمة فيخلو ببعضهم فيقول: لك الأمان وأخبرني، فيخبره؟ فقال: إني والله إني لأكره ذلك أن يقوله لهم ويغرمهم وهو وجه الخديعة.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين؛ لأنه إذا قال له لك الأمان وأخبرني فقد حصل مكرها له على الإخبار فلعله يخبر بالباطل لينجو من عقابه، فإن فعل ذلك الإمام كان فيما أخبره به وأقر به على نفسه كمن أقر تحت الوعيد والتهديد لم يلزمه إقراره، إلا أن يقر لأحد بشيء يعينه، وقد اختلف هل يقطع إذا أقر وعيّن السرقة تحت الوعيد والتهديد حسبما مضى القول فيه في رسم السرقة من سماع أشهب من كتاب السرقة، وستأتي المسألة أيضا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب.
[مسألة: الرجل يقال له يا كلب]
مسألة وسئل عن الرجل يقال له يا كلب، قال ذلك يختلف، إن قال ذلك لذي الفضل والهيئة والشرف في الإسلام أو الرجل الدين لأنه ينبغي أن يوقر ذو الفضل في الإسلام وذلك يختلف عندي في عقوبته إذا قاله للدين، قيل له: أفتروا إذا قاله لذي الهيئة أن يختلف منه(16/301)
ومن غيره فقال لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه، وإن كان غير ذي هيئة جلدوه وما أدري هذا؟ وما أحب أن أحد الناس في مثل هذا.
قال محمد بن رشد في بعض الكتب: أفترى إذا قاله لذي الهيئة أن يختلف منه ومن غيره كما في داخل الكتاب، وفي بعضها: أفترى إذا قاله ذو الهيئة أن يختلف منه ومن غيره، وهو الصحيح في المعنى الذي يدل عليه قوله: لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه، وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه، وإنما توقف مالك، والله أعلم عن الفرق بين ذي الهيئة وغيره، فقال: لا أدري ما هذا مع ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» لوجهين، أحدهما أن المراد في الحديث لذوي الهيئات أهل المروءة والصلاح على ما روى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «تجافوا عن عقوبة ذوي المروة والصلاح» فخشي أن يحمل ذلك على عمومه في أهل الصلاح وغيرهم، والثاني أن التجافي عن ذوي المروءة والصلاح إنما يكون إلى الإمام فيما لا يتعلق به حق لمخلوق، ولم يبلغ أن يكون حدا لأنه إذا بلغ أن يكون حدا فقد خرج به فاعله عن أن يكون من أهل الصلاح إلى أن يكون من أهل الفسق، ومن أهل العلم من رأى أن التجافي فيها كان من ولات ذوي الهيئات إلى الإمام في حقوق الله تعالى وحقوق الناس ولم ير ذلك مالك، ولذلك قال: لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه؛ لأن التجافي عن السب إنما هو إلى المسبوب لا إلى الإمام، فقول الرجل للرجل يا كلب يفترق فيه ذو الهيئة من غيره في القائل والمقول له، فأما إذا كانا جميعا من ذوي الهيئة عوقب القائل عقوبة خفيفة بها، ولا يبلغ به السجن، وإذا كانا(16/302)
جميعا من غير ذي الهيئة عوقب القائل أشد من عقوبة الأول يبلغ به فيها السجن، وإذا كان القائل من ذوي الهيئة والمقول له من غير ذوي الهيئة عوقب بالتوبيخ ولا يبلغ به الإهانة ولا السجن، وإذا كان القائل من غير ذوي الهيئة والمقول له من ذوي الهيئة عوقب بالضرب، فهذا وجه الحكم في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يقول للرجل لا أب لك]
مسألة وسئل عن الرجل يقول للرجل لا أب لك، قال: لا شيء عليه إلا أن يكون أراد نفيا، وإن هذا لمما يتكلم الناس به على الرضى ليستكثر الناس الكلام، فأما إن قال ذلك في غضب ومشاتمة فذلك شديد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه كلام ظاهره السب والمراد به المدح، وذلك مثل قولهم للذي يأتي بالشيء الغريب الحسن: فعل فلان كذا وكذا قاتله الله، ومثله قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له» لا يريد بذلك الدعاء عليه ومثله قوله: تربت يمينك وما أشبه ذلك.
[مسألة: شرب النبيذ إن كان حلوا]
مسألة وسئل مالك: أترى للمرء أن يجتنب شرب النبيذ وإن كان حلوا؟ فقال: لا أرى أن يشرب الرجل النبيذ لا في البيت ولا خارجا وإن كان حلوا فإني لأحب تركه وإني لأنهى أهل المدينة لا يتخذونه ولا ينتبذونه مخافة أن يعرض نفسه لسوء الظن.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الروايات إلا ليتخذونه ولا ينتبذونه ومعناه أن يتخذونه وينتبذونه لأن اللام زائدة، ومثل هذا في(16/303)
الكلام كثير، وفي القرآن قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] معناه: أقسم، وقال: لئلا يكون، معناه: ليكون، وقد بين في الرواية وجه الكراهة في ذلك بما لا مزيد عليه.
[: قال لرجل كذبت وأثمت]
ومن كتاب الأقضية من سماع أشهب وسئل عن رجل قال لرجل: كذبت وأثمت، قال: إن لم يكن كذوبا ولا آثما وكان من مراة الناس، فأرى أن يقرر بالسوط، هذا أشد من الشحيح، الكذب خبيث، وذلك يختلف أن يختصم رجلان فيقول أحدهما لصاحبه في شيء يقول في خصومتهما: كذبت وأثمت، فهذا مخالف للذي يأتي الرجل ليس بينه وبينه عمل فيكذبه، وسئل عمن قال لرجل: إنك لشحيح بخيل، قال: أرى أن ينهى عنه ولا أرى عليه ضربا.
قال محمد بن رشد: قوله أرى أن يقرر بالسوط إذا قال له كذبت وأثمت، معناه إذا قال ذلك له في مشاتمة فهو بمنزلة قوله له يا كذاب، وأما إن نازعه في شيء فقال له: أنت في هذا كاذب آثم فلا يجب عليه في ذلك أدب إلا أنه ينهى عن ذلك ويزجر عنه إن كان لا يتعلق به حق فيما نازعه فيه، ويجري قول الرجل للرجل: يا كذاب، على التفصيل الذي ذكرناه في الرسم الذي قبل هذا في قوله له: يا كلب، وبالله التوفيق.
[: قال لعبده اذهب فقل لفلان إن فلانا يقول لك يا ابن الفاعلة فذهب فقال له]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم قال عيسى: قال ابن القاسم: من قال لعبده أو لرجل أجنبي(16/304)
: اذهب فقل لفلان: إن فلانا يقول لك: يا ابن الفاعلة فذهب فقال له، فقال: إن قامت لأحدهما البينة أنه أمره بذلك، كان الحد على الآمر وليس على المأمور شيء، عبدا كان أو حرا، وإن لم يقيما البينة على أنه أمر واحدا منهما ضرب الذي قال له ذلك الحد.
قال محمد بن رشد: أما إذا أنكر الآمر ولم تقم عليه بينة فلا اختلاف في أنه يحد المأمور، وأما إذا أقر الآمر أو قامت عليه بذلك بينة فاختلف في حد المأمور، قال ابن القاسم في هذه الرواية: إنه لا يحد، وقال مطرف وابن الماجشون: إنه يحد؛ لأنه قد قاله له، وذلك أشد من التعريض، وكذلك إن جاءه من عنده في ذلك بكتاب وهو يعرف ما فيه، ومثله في كتاب ابن المواز، قال: ومن حمل إلى رجل كتابا من رجل وفيه " يا ابن الفاعلة " فدفعه إليه، فإن كان يعرف ما فيه حد، وهو أشد من التعريض، وأما من قال لرجل: إن فلانا يزعم أنك زان، إن قاله له في مشاتمته ومخاصمته حد، وإن أتى بالبينة على قول فلان، وإن قاله مخبرا فلا حد عليه إن أتى بالبينة على قول فلان، قاله ابن الماجشون، ولا اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لعبده أو لرجل حراذهب فاقذف فلانا فذهب فقذفه]
مسألة وإذا قال لعبده أو لرجل حر: اذهب فاقذف فلانا، فذهب فقذفه، فقامت البينة على أنه أمره بالقذف؟ قال: أما في العبد فيضرب العبد وسيده، وأما في الحر فإنه يجلد الذي قذفه وليس على الآمر شيء.
قال محمد بن رشد: قال ابن الماجشون في الواضحة وسواء في عبده قال له " اقذف فلانا " أو قال له: قل " يا ابن الفاعلة "؛ لأن عبده كنفسه لما يلزمه من خوف سيده، وأما في الأجنبي فتفترق ذلك فيه، إن قال له اقذفه، حد المأمور ولم يكن على الآمر حد، وإن قال له قل يا ابن الفاعلة أو يا زان أو يا ولد زنا حدا جميعا، وقوله بين يحمل على التفسير لقول ابن القاسم، ويدخل(16/305)
في العبد اختلاف بالمعنى من قول ابن وهب في تفرقته بين العبد الفصيح والأعجمي إذا قال اقتل فلانا فقتله، فيأتي على قياس قوله: إنه إن كان فصيحا حد هو حد القذف دون سيده، وإن كان أعجميا حد السيد ولم يحد هو، ووجه قوله: إنه لم يعذره إذا كان فصيحا في طاعة سيده فيما أمره به من قتل أو قذف إذ لا يجب عليه طاعته في ذلك، وعذره إذا كان أعجميا بالجهل، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلا حرا أمر رجلا حرا أن يقتل رجلا فقتله]
مسألة ولو أن رجلا حرا أمر رجلا حرا أن يقتل رجلا فقتله قال: يقتل القاتل ويضرب الآمر مائة سوط ويسجن سنة، ولو أنه أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله قتلا جميعا العبد والسيد قيل: فإن كان العبد ليس فصيحا عارفا؟ قال: يقتلان جميعا، وإن كان أعجميا، وقال ليس من أمر عبده بقتل رجل كمن أمر رجلا حرا بقتل رجل في سماع أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم، مثله قال أصبغ، ولم أر ابن القاسم يفرق بين العبد الفصيح والأعجمي، قال يحيى: وسألته عن الرجل يأمر عبده أو ابنه، أو المعلم يأمر صبيانه أو الصانع يأمر متعلمه، أو الإمام يأمر رجلا بقتل رجل والعامل ظالم له، ماذا يجب على الآمر والمأمور؟ قال ابن القاسم: أما السيد في عبده والإمام يأمر بعض أعوانه يقتلان رجلا بغير حق فإنه يقتل الآمر والمأمور، وأما الأب يأمر ابنه أو المعلم للصبيان يأمر بعضهم، أو الصانع يأمر متعلميه فإن كان المأمور قد بلغ الحلم وإن كان في حجر أبيه أو يحضر الكتاب والعمل عند معلمه فإنه يقتل ولا قتل على الآمر ولكنه يبالغ في عقوبته ولا عقل على عاقلته، وروى سحنون عن ابن القاسم إذا كان الغلام قد بلغ الحلم فإنه يقتلان جميعا الآمر والمأمور، قال يحيى(16/306)
قال ابن القاسم: وإن كان الابن صغيرا في حجر أبيه أو صبيان المعلم كذلك لم يبلغوا الحلم ومتعلم الصانع صغيرا أيضا لم يبلغ الحلم ولم تجر الحدود عليهم فمن قتل منهم بأمر من يليه ويلزمه أن يطيعه فإن الآمر يقتل، ويكون على عاقلة الصبي المأمور نصف عقل المقتول، وإن كثر الصبيان المأمورون بالقتل قتل الآمر وقسم العقل على عواقل الصبيان، وإن لم يصر على كل صبي في نصيبه من العقل الأقل من ثلث الدية فإن العاقلة تحمله، ومن سماع أصبغ من ابن القاسم، قال أصبغ: لا أرى أن يقتل أبو الصبي إذا كان الصبي قد بلغ مبلغ العقل مثله يعرف ويتناهى عن ما ينهى عنه بمعرفة مثل اليفاع والمراهق وما أشبه فهو كالخطأ وهو كغير ولده لو أمره بذلك، وهو على عاقلته، ولا قتل على واحد منهم وذلك إذا كان أمره بالقتل بإرسال وأمر يغيب عليه دونه، فأما أن يحضره ويأمره بالقتل وهو مشدد ذلك له إما بإمساك وإما بإشلاء فهو قاتل حينئذ بأمر بين أبا كان أو غيره، كما لو اجتمع اثنان أجنبيان على قتل رجل وقد صمدا لذلك صمدا أو أخذ يباشر الضرب أو الجرح بيده يحد لحديده أو غيره والآخر يقول " اقتل اقتل " قتلا جميعا، وقد نزلت هذه بأصحابنا عندنا ومشايخنا الفقهاء متوافرون فرأوا أن يقتل بقوله " اقتل " إذا كان على هذه الصفة.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة تشتمل على ست مسائل: إحداها: أن يأمر الرجل رجلا حرا أو عبدا لغيره بقتل رجل فيقتله، والثانية: أن يأمر الرجل عبده بقتل رجل فيقتله، والثالثة: أن يأمر الإمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلما فيقتله، الرابعة: أن يأمر الرجل ابنه الذي في حجره ومن بلغ الحلم بقتل رجل فيقتله أو الصانع لمتعلميه والمؤدب لمن يؤدبه والخامسة: أن يكون مراهقا لم يبلغ الحلم مثله يتناهى عما ينهى عنه، والسادسة: أن يكون ذلك في السن في(16/307)
حد الإثغار أو فوقه، فأما إذا أمر الرجل رجلا آخر أو عبدا لغيره بقتل رجل فقتله فلا اختلاف في أنه يقتل القاتل ويضرب الآمر مائة ويسجن سنة، وأما إذا أمر الرجل عبده بقتل رجل فقتله فإنهما يقتلان جميعا عند ابن القاسم، ثم يختلف في ذلك قوله: كان العبد فصيحا أو أعجميا، وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ابن وهب كان يقول من أمر عبده الأعجمي بقتل رجل فقتله فعلى السيد وحده القتل وعلى العبد جلد مائة وحبس سنة، وأما عبده الفصيح فالقتل على العبد وحده ويجلد السيد مائة ويسجن سنة، قال أصبغ: وهو استحسان، وقولنا أن يقتلا جميعا السيد والعبد كان أعجميا أو فصيحا، وأما إذا أمر الإمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلما فقتله فلا اختلاف في أنهما يقتلان جميعا، وأما إن أمر الأب ابنه الذي في حجره وقد بلغ الحلم أو أمر الصانع بعض متعلميه ممن قد بلغ الحلم أو المؤدب بعض من يعلمه ممن قد بلغ الحلم بقتل رجل فقتله، فاختلف في ذلك قول ابن القاسم، روى يحيى عنه في هذه الرواية أنه يقتل القاتل ويبالغ في عقوبة الآمر، وروى سحنون عنه أنهما يقتلان جميعا، وأما إن كان مراهقا لم يبلغ الحلم مثله يتناهى عما ينهى عنه فإن الآمر يقتل ويكون على عاقلة الصبي القاتل نصف عقل المقتول عند ابن القاسم، فإن كثر الصبيان المأمورون كانت الدية على عواقلهم وإن لم يصر على عاقلة كل واحد منهم إلا أقل من ثلث الدية، وقد كان ابن القاسم يقول: إن على عاقلة الصبي الدية كلها. قال أبو محمد: ولا يعجبني، قال أبو محمد: يريد: ولا يؤدب، وقال أصبغ: من رأيه في هذه الرواية لا قتل على واحد منهما، وهو من الخطأ كما لو أمر غير ولده بذلك، قال في كتاب ابن المواز: ويضرب الآمر مائة سوط ويسجن سنة، ويضرب الغلام ضربا صالحا بقدر احتماله إلا أن يكون الأب أو المعلم أو المؤدب مباشرا لذلك ومسددا له ومغريا به فحينئذ يجب القتل عليه، وأما إن كان دون ذلك في السن فلا اختلاف في أن الآمر يقتل، ويكون على عاقلة الصبي الصغير نصف العقل، وبالله التوفيق.(16/308)
[مسألة: وطئ امرأة بملك اليمين ممن تحرم عليه بالرضاعة]
مسألة قال عيسى: قال لي ابن القاسم: كل من وطئ امرأة بملك اليمين ممن تحرم عليه بالرضاعة من أم أو ابنة أو أخت أو ما كان ممن يشبههن فلا حد عليه وإن علم أنهن محرمات عليه؛ لأنهن لا يعتقن عليه إذا ملكهن وهذا ماله يبيع ويحترم ويتصدق ويصنع فيهن ما شاء غير الوطء إلا أن يكون حملهن منه فإنه يلحق فيه الولد ويعتقن عليه ويعجل عتقهن، وذلك أحب ما فيه إلي؛ لأنه ليس له فيهن متعة ولا منفعة، وكل من وطئ امرأة بملك اليمين ممن تحرم عليه بالنسب ولا تعتق عليه إذا ملكها من عمة أو خالة أو بنت أخت أو ما أشبه ذلك فلا حد عليه أيضا وإن علم أنهن محرمات عليه؛ لأنهن لا يعتقن عليه بالملك، ولأنه يجوز له بيعهن واشتراؤهن واختدامهن، وسبيلهن سبيل الأول المحرمات بالرضاع في البيع وغير ذلك إلا أن يحملن فيلحق به الولد ويعجل لهن العتق كالأول، وكل من وطئ شيئا من هؤلاء النسوة المحرمات عليه من النسب أو الرضاعة فإنه إذا أتى شيئا منهن عامدا عالما بالتحريم فعليه العقوبة المملكة ويبعن عليه إذا لم يحملن، وكل من وطئ امرأة بالملك ممن تحرم عليه بالنسب وتعتق عليه بالملك إذا ملكها مثل البنت والأم والأخت والجدة وما أشبههن عامدا عالما فإني أرى أن يقام عليه الحد ولا يلحق به الولد، قال ابن القاسم: إلا أن يعذر بالجهالة، فإن عذر بالجهالة فإنه يدرأ عنه الحد ويلحق به الولد ويعتق عليه.
فإن قال قائل: إن العمة وبنت الأخت ممن لا يعذر أحد فيهن(16/309)
بالجهالة وقد أسقطت عنه الحد بالملك فإنه كما قال، ولكن العمة والخالة وبنت الأخ ممن لا يعتقن عليه، وهن لما يملكهن؛ فلذلك أسقطت عنه الحد بالملك، ولا يجتمع حد وملك، ولو حددته فيهن في النسب لحددته فيما يملك من أخته وأمه في الرضاعة، فهذا وجه ما سمعت في ذلك والله أعلم، قال ابن القاسم: إلا أن يعذر أحد فيمن يعتق عليه بجهالة فأرى أن يدرأ عنه الحد ويلحق به الولد ويعتق عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها لا اختلاف في شيء منها إلا في قوله: إذا وطئ أمة من ذوات محارمه بنسب أو رضاع فحملت منه أنه يعجل عتقها عليه، فمن الناس من يقول: إنه يستخدمها بالمعروف ولا تعتق عليه، وقع ذلك في رسم الفصاحة من سماع عيسى من كتاب الاستبراء من أمهات الأولاد.
واختلف في المذهب في الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له فيتمسك شريكه بنصيبه أو يباع على الواطئ فيما لزمه من نصف قيمتها على الاختلاف في ذلك، هل يعتق على الواطئ نصيبه منها أم لا؟ فقال ابن القاسم في المدونة: إنه يعتق عليه نصيبه منها إذ ليس له استخدامها ولا يعذر على وطئها، وقال غيره فيها: إنه لا يعتق عليه نصيبه لا أن يعتق الشريك نصيبه إذ قد تشتريه فيحل له وطؤها، وعلى قول بعض الناس لا يعتق عليه نصيبه بحال، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال، وبالله التوفيق.
[مسألة: جاءت تدمي فادعت أن رجلا من أهل الفسق اغتصبها]
مسألة وسئل عن شهيدين شهدا على ثلاثة نفر أنهم غصبوا امرأة فذهبوا بها إلى الصحراء، فادعت المرأة أنهم وطئوها كلهم، ثم أبرأت(16/310)
بعضهم قال: تحلف المرأة وتأخذ صداقا صداقا من كل من ادعت عليه أنه وطئها، ويكون القول قولها ولا حد عليهم إلا أن يقروا أولا عليها إذا علم أنها غصبت.
ولو أن امرأة جاءت تدمي فادعت أن رجلا من أهل الفسق اغتصبها لم تأخذ من صداقها شيئا ولو كان أشر من عبد الله الأزرق في زمانه إلا أن يشهد على أخذه إياها، كأنه يقول فتحلف وتأخذ الصداق، قال: وإلا فحسبها أن تدفع الحد عن نفسها بذلك إن جاءت تدمي، قال ابن القاسم: قال مالك: وينظر الإمام في ذلك فإن رآه أهلا للعقوبة عاقبه، قال أصبغ: سألت ابن القاسم فقلت له المغتصبة التي يجب لها الصداق على من اغتصبها هل يجب ذلك لها بشهادة رجلين؟ قال لي لا يجب ذلك عليه إلا بما يجب به الحدود، وذلك أربعة شهداء، وإلا كانوا قذفة يجلدون الحد، قال سحنون، قال ابن القاسم: لو شهد رجلان أنهما رأيا رجلا اغتصب امرأة فأدخلها منزلا وغاب عليها وشهدا على ذلك فادعت المرأة أنه أصابها وأنكر ذلك الرجل حلفت المرأة مع شهادتهما واستوجبت الصداق صداق مثلها ولم يكن عليه في ذلك حد.
قال محمد بن رشد: أما إذا ثبت اغتصابه لها ومغيبه عليها، فلا اختلاف في أن القول قولها في أنه وطئها وتستوجب بذلك صداق مثلها، وكذلك إن كانوا جماعة فادعت ذلك على كل واحد منهم تأخذ من كل من ادعت عليه منهم أنه وطئها صداق مثلها، قيل بيمين وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وقيل بغير يمين وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز وقول مالك في سماع أشهب من كتاب الغصب، ويثبت اغتصابه لها ومغيبه عليها بشهادة شاهدين على ما قاله في رواية سحنون هذه عنه، وقوله في رواية أصبغ هذه عنه أن المغتصبة التي يجب لها الصداق على من اغتصبها لا يجب ذلك(16/311)
لها إلا بما تجب به الحدود وذلك أربعة شهداء معناه على معاينة الوطء، وذلك بين من قوله: وإلا كانوا قذفة يجلدون الحد، فالصداق يجب لها بدعواها مع ثبوت مغيبه عليها، ولا يجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب الحد بأربعة شهداء على معاينة الوطء، وإذا وجب الحد بذلك وجب به الصداق أيضا، وأما إذا ادعت عليه أنه اغتصبها وغاب عليها ولم يعلم ذلك إلا بقولها فيفترق الأمر في ذلك بين أن تأتي متشبثة به وهي تدمي إن كانت بكرا، أو لا تأتي متشبثة به وبين أن تدعي ذلك على من لا يليق به ذلك أو على من يليق به، وقد مضى القول على ذلك مستوفى في أول سماع أشهب من كتاب الغصب فأغنى ذلك عن إعادته.
[مسألة: أتى الحر إلى سيد العبد فقال قذفني أفبأمرك هذا قال نعم]
مسألة وقال ابن القاسم في عبد قذف حرا فأتى الحر إلى سيد العبد فقال: ألا ترى ما فعل لي عبدك قذفني أفبأمرك هذا؟ قال: نعم، عن أمري، قال ابن القاسم: أما في قول مالك فإنه يضرب السيد الحد قال ابن القاسم: وهو رأيي ويضرب العبد أيضا الحد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في هذا الرسم، وقد مضى أنه يدخل في ذلك اختلاف بالمعنى من قول ابن وهب في تفرقته بين أن يكون العبد فصيحا أو أعجميا.
[: السلطان إذا سمع الرجل يفتري على رجل أو رآه على حد من الحدود]
من كتاب العرية قلت: فالسلطان الذي يقيم الحد يسمع رجلا يفتري على رجل أو يراه على حد من حدود الله؟ قال: يرفعه إلى من فوقه ويكون شاهدا، قلت أفيجوز العفو فيه إذا اطلع عليه هذا السلطان قبل أن(16/312)
يرفعه إلى من فوقه؟ قال: نعم العفو فيه جائز؛ لأن ذلك السلطان شاهد وهو كغيره من الشهداء.
قال محمد بن رشد: قوله: إن السلطان إذا سمع الرجل يفتري على رجل أو رآه على حد من الحدود: إنه يرفعه إلى من فوقه ويكون شاهدا، هو مثل ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف في ذلك، إذ لا يقضي القاضي بعلمه لا في الأموال ولا في الحدود، وفرق أهل العراق بين الأموال والحدود، فقالوا: ينفذ الإقرار في ولايته ولا ينفذ الحدود. والإقرار ينقسم على ثلاثة أقسام، فما كان منه قبل ولايته لا يقضي به عند الجميع، وما كان منه في ولايته في غير مجلس الحكم يقضي به عند أهل العراق، وما كان منه في مجلس الحكم بين المتخاصمين يقضي به عند مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون، وهو دليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع منه» ، خلاف مذهب مالك وابن القاسم، وقوله في الرواية: إن العفو يجوز في القذف إذا سمعه الإمام لأنه شاهد، هو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول سماع أشهب فلا معنى لإعادته.
[مسألة: افترى على قوم فلم يقم به حتى أخذ في شرب خمر فجلد الحد]
مسألة وسئل عن رجل افترى على قوم فلم يقم به حتى أخذ في شرب خمر فجلد الحد، قال: إذا جلد الحد في الخمر فقد سقطت عنه كل فرية كانت قبله.
قال محمد بن رشد: هذا مذهبه في المدونة وروايته عن مالك؛ لأنه قال فيها: إنه إذا قذف وسكر أو شرب الخمر ولم يسكر جلد حدا واحدا، فرأى أن حد الشرب والفرية يتداخلان فينوب أحدهما على الآخر؛ لأنهما من جنس واحد، بدليل أن حد الشرب إنما أخذ من حد الفرية بقول علي بن أبي(16/313)
طالب لبعض الصحابة: إذ استشار عمر بن الخطاب في الخمر يشربها الرجل، فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، أو كما قال، وجلد عمر بن الخطاب في الخمر ثمانين، وكذلك إذا قذف الرجل جماعة مفترقين أو مجتمعين فحد لهم أو لأحدهم فذلك لكل قذف تقدم قام طالبوه أو لم يقوموا في مذهب مالك وجميع أصحابه إلا المغيرة - فإنه قال: إن قاموا جميعا فحد فذلك حد لهم أجمعين، وإن قاموا مفترقين حد لكل واحد منهم، وقول المغيرة هو القياس؛ لأنهم قد قالوا: إن القتل يأتي على جميع الحدود إلا الفرية فإنه يجلد فيها ثم يقتل، لما في ذلك من حق المقذوف؛ لأنه تعرض له بذلك فيقال له: إنك كذلك إذ لم تحده، فإذا لم يسقط حد المقذوف بالقتل فأحرى ألا يسقط بحده في الشرب أو بحده لغيره، والحجة لمالك في أنه ليس على قاذف الجماعة إلا حد واحد، أن قاذف المحصنة قاذف للذي زناها، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، فلم يوجب على قاذف المحصنة إلا حدا واحدا، وقد جلد عمر أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة، وسواء على مذهب مالك وأصحابه قذف الجماعة في كلمة واحدة أو مفترقين، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال الشافعي: يحد لكل واحد منهم قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين، وفرق ابن أبي ليلى بين أن يقذفهم في كلمة واحدة أو في مجالس شتى، وقال ابن المواز: ومن قال لجماعة أحدكم زان أو يا ابن زانية فلا يحد إذ لا يعرف من أراد، وإن قام به جماعتهم فقد قيل لا حد عليه، ولو قام به أحدهم فادعى أنه أراده لم يقبل منه إلا بالبيان أنه أراده، ولو عرف من أراد لم يكن للإمام أن يحده له إلا بقيامه عليه، قال: ومن قذف من لا يعرف فلا حد عليه، وقول ابن المواز في الذي قال لجماعة أحدكم زان إلى آخر قوله بين(16/314)
كله إلا ما حكاه من أنه قد قيل: إنه لا يحد وإن قام به جماعتهم، فهو بعيد؛ لأنه يعلم أنه قد قاله لأحدهم، فلا حجة له إذا قام عليه جميعهم، ووجه على ما فيه من البعد أنه لما كان المقذوف لا يعرف من هو منهم لم يحد إنما هو لإسقاط المعرة عن المقذوف والمعرة لم تلحق بواحد منهم بحينه فيحد له ولا لجميعهم إذ لم يقذف إلا واحدا منهم، وأما إذا قام به أحدهم فمن حجته أن يقول: لم أرد إلا سواك ممن لم يقم، وبالله التوفيق.
[: قال لرجل يا زوج الزانية وتحته امرأتان فعفت واحدة وقامت الأخرى تطلب حدها]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه وسألت ابن القاسم عن رجل قال لرجل يا زوج الزانية وتحته امرأتان فعفت واحدة وقامت الأخرى تطلب حدها، قال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا الله هو ما أردت بالقذف إلا التي عفت ويبرأ، فإن نكل قال: يحد إن نكل.
وكذلك لو كانت له امرأة واحدة وقد ماتت له امرأة فقالت، فقامت امرأته الحية بحدها لكان القول قوله مع يمينه أنه إنما أراد التي قد ماتت.
قال ابن المواز: من قال يا قران؛ فعليه الحد إن قامت به امرأته؛ لأن القران عند الناس زوج الفاعلة، قال أبو بكر بن محمد: وقاله ابن القاسم، ولم ير يحيى بن عمر فيه حدا، وقال يعزر عشرين سوطا.(16/315)
وقال يحيى بن عمر فيمن قال لامرأة " يا قحبا ": إنه يحد، ومن رمى امرأته بامرأة ثانية أدب أدبا موجعا، ولعل يحيى بن عمر لم يتحقق أن القران عند الناس زوج الفاعلة كما تحقق عندهم أن القحبا الزانية، وإلا فذلك اضطراب من قوله، وبالله التوفيق.
مسألة قال: وسألته عن الرجل يقذف الرجل المسلم وأبواه نصرانيان فقال: إن كان رجل له هيئة فأرى أن يضرب عشرين سوطا أو أكثر، وإن كان لا هيئة له فأدنى من ذلك.
قال محمد بن رشد: معناه: إذا قال له يا ابن الزاني ويا ابن الزانية، وأما إن قال له يا ولد الزنا أو لست لأبيك أو يا زان فالحد عليه واجب، وبالله التوفيق.
[: يقيم الرجل الحدود على عبيده وإمائه في الزنا]
ومن كتاب أوصى
قال ابن القاسم: يقيم الرجل الحدود على عبيده وإمائه في الزنا ولا يقيمها عليهم حتى يشهد أربعة شهداء سواه، ولا يقيم على أمته إذا كان لها زوج، كان زوجها عبدا أو حرا، إلا أن يكون زوجها عبده فإنه يقيم عليها الحد إذا كان زوجها عبده، قال ابن القاسم: لأنه يقيم عليه وعليها، ولا يقيم على زوجها إذا لم يكن عبده، ولا على أمته إلا السلطان.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح بين على معنى ما في المدونة وغيرها، والأصل في ذلك «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت(16/316)
فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» فالرجل يقيم حد الزنا والقذف والشرب على عبيده وإمائه، كانوا متزوجين أو غير متزوجين إلا أن يكون للأمة زوج حرا أو عبدا لغيره فلا يقيم عليها حد الزنا إلا السلطان؛ لما يتعلق بذلك من حق الزوج، ولا يقيم عليه الحد في السرقة ولا في القتل، وهذا كله ما لا اختلاف فيه.
[: يطؤها بعد التطليقة ويقول ظننت أن الواحدة لا تبينها مني]
ومن كتاب القطعان وسألته عن الرجل يطلق امرأته التي قد دخل بها واحدة فتحيض ثلاث حيض فتبين منه ثم يدخل عليها فيطؤها فيدعي أنه جاهل أو أنه كان رأى أن ذلك يجوز له، وتدعي ذلك المرأة أو لا تدعي جهالة وليس هو من أهلها والمرأة ليست بجاهلة أو هو جاهل والمرأة ليست بجاهلة، فقال ابن القاسم: من كان منهما ممن يعذر بالجهالة لم يكن عليه الحد ومن أقر منهم أنه عالم وأقر بمعرفة ذلك وأن ذلك عليه حرام أقيم عليه الحد، قال: وإن كان ممن لا يعذر بجهالة والمرأة ممن تعذر بالجهالة فإنه يقام عليه الحد ويؤخذ لها من ماله الصداق، وإن كان هو والمرأة عالمين أقيم عليهما الحد ولم يكن لها صداق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة؛ لأنه قال فيها في الذي يطلق امرأته تطليقة قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول: ظننت أن الواحدة لا تبينها مني وأنه لا يبرئها مني إلا الثلاث أو يطلقها ثلاثا فيطؤها في العدة، ويقول: ظننت أنها تحل لي أنه يعذر بالجهالة فلا يحد ولا يكون عليه إلا صداق واحد فكذلك هذا إذا قال: ظننت أنها لا تبين مني بالثلاث حيض فيصدق في ذلك فلا يحد ولا يكون عليه صداق ويلحقه(16/317)
الولد، وكذلك هي لا تحد إن عذرت بالجهالة، ومن لم يعذر منهما بالجهالة لزمه الحد، فإن لم يعذر واحد منهما بالجهالة حدا جميعا ولم يلحق به الولد ولا كان لها صداق، وإن عذرا جميعا بالجهالة لم يحدا ولحقه الولد ولم يكن لها صداق، وإن عذر هو ولم تعذر هي لحقه الولد ولم يلزمه صداق وحدت هي، وإن عذرت هي ولم يعذر هو حد ولم يلحقه الولد ولم تحد هي وكان لها صداق مثلها.
[مسألة: يصب العسل على النبيذ]
مسألة وقال ابن القاسم: لا خير في أن يصب العسل على النبيذ وإن حل شربه وكرهه، قال أصبغ: وذلك إذا كان نبيذا من غير عسل، وأما إن كان نبيذ عسل فلا بأس أن يجعل فيه العسل.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ صحيح مبين لابن القاسم لأنه إنما كره أن يصب العسل على النبيذ الحلال الذي لا يسكر من ناحية ما نهي عنه من خلط الشرابين وانتباذ الشيئين معا، فإذا كان النبيذ من العسل جاز أن يخلط بالعسل لأنه منه، وكذلك يبين قول أصبغ، هذا ما وقع في المدونة من أنه لا يصلح للرجل أن يخلط عسلا بنبيذ فيشربه أن معنى ذلك إذا كان النبيذ من غير عسل، وقد وقع في بعض الروايات " بنبيذه " بإثبات الهاء، فيتأول ذلك على أن الهاء عائدة على الرجل لا على النبيذ فتصح المسألة.
[: قال قائل إن رمى من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل]
ومن كتاب استأذن سيده وسئل عن رجل كان في مجلس فرمي بحجر، فقال: من رماني فهو ابن الزانية، فقال رجل من المجلس أنا رميتك، قال: قال مالك: لا يحد له إلا أن يقيم البينة أنه رماه لأنه مدع الحد. قال ابن(16/318)
القاسم وإن كان أصابه بجرح لزمه الغرم بإقراره ولا يلزم الآخر الحد.
قال محمد بن رشد: المعنى في قوله " من رماني فهو ابن الزانية، الذي رماني فهو ابن الزانية " فيحمل عليه أنه علم الذي رماه فقذفه وأبهمه لقوله من رماني فهو ابن الزانية لينجو بذلك من الحد، فالذي يدعي أنه رماه يقول: إني قصدت بالقذف؛ لأني إنما رميتك فلا يحد له إلا أن يقيم البينة أنه رماه، ولو قاموا به جميعا كل واحد منهم يدعي أنه هو رماه لجرى ذلك على الاختلاف في الذي يقول للجماعة: أحدكم زان؛ فتقوم كلها عليه، وقد مضى القول على ذلك في رسم العرية، ولو قال قائل: إن رمى من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل لم يحد بخلاف من قال: من دخل المسجد فهو ابن الزانية، فقد سئل ابن القاسم عن هذا فقال: سمعت من مالك فيما يشبهه أنه يضرب ثمانين، وهو رأي، والفرق بينهما أن المسجد لا بد للناس من دخوله، والأظهر عندي ألا حد في ذلك أيضا؛ إذ لم يتعين المقذوف، والحد إنما هو لإسقاط المعرة بالقذف عن المقذوف، وبالله التوفيق.
[: الشهادة في الزنا]
ومن كتاب..
قال ابن القاسم في الشهادة في الزنا إنها لا تجوز حتى يشهد أربعة في موضع واحد في يوم واحد في ساعة واحدة.
قال محمد بن رشد: معنى قوله في موضع واحد في ساعة واحدة أن يكون الزاني الذي شهد عليه الأربعة زنا واحد وليس من شرط صحة(16/319)
الشهادة على الزنا تسميته المواضع ولا ذكر اليوم والساعة، وإنما من شرط صحتها عنده ألا يختلف الشهود بذلك، فإنما معنى قوله إن الشهادة لا تجوز حتى يشهد أربعة في موضع واحد في يوم واحد في ساعة واحدة أنها لا تجوز إذا اختلفوا في ذلك، خلاف مذهب ابن الماجشون في إجازتها وإن اختلفوا في ذلك، وأما قوله في موقف واحد فالمعنى في ذلك أن تكون تأديتهم للشهادة عند الإمام في ذلك معا، فإن تفرقوا في تأدية الشهادة بطلت على قوله هذا، وهو قوله وروايته عن مالك في أول رسم من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وقد قيل: إن الشهادة جائزة وإن تفرق الشهود في تأدية الشهادة، وهو مذهب ابن الماجشون، وعليه يأتي ما وقع لابن القاسم في أول رسم المكاتب من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وأما قوله: على صفة واحدة، فهي الصفة التي لا تتم الشهادة إلا بها، وهي معاينة الفرج كالمرود في المكحلة، وقد مضت هذه المسألة والكلام عليها بأوعب من هذا في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات.
[مسألة: الرجل يقول للرجل يا سارق]
مسألة وقال في الرجل يقول للرجل يا سارق، قال: يضربه خمسه عشر سوطا أو نحوها.
قال محمد بن رشد: تحديده للخمسة عشر سوطا أو نحوها هذا ليس له أصل يرجع إليه من الكتاب والسنة؛ إنما هو الاجتهاد، ويختلف باختلاف حال القائل والمقول له حسبما مضى القول فيه في رسم الأشربة والحدود من سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته يا زانية قالت زنيت بك]
مسألة وسئل عن رجل قال لامرأته يا زانية، قالت: زنيت بك، قال ابن القاسم: هي؛ لم تقذفه فليس عليها حد، ويجلد هو الحد إلا أن(16/320)
يلاعن، قال عيسى: لا يعجبني هذا، ولا حد عليه ولا لعان.
قال محمد بن رشد: لم ير ابن القاسم مجاوبتها له بقولها زنيت بك. إقرارا منها على نفسها بالزنا ولا قاذفة؛ لاحتمال أن تريد بقولها " زنيت بك " إصابته إياها بالنكاح، وذلك بين من قوله في سماع يحيى بعد هذا، فلما لم يرها بهذا القول مقرة على نفسها بالزنا ولا مصدقة فيما زناها به منه، قال: إنه يجلد الحد إلا أن يلاعن، وذلك على القول بأن اللعان يجب بالقذف، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة، وقول عيسى: إنه لا حد عليه ولا لعان، المعنى فيه أنه رأى قولها إقرارا منها على نفسها بالزنا وتصديقا له فيما رماها به منه، فأسقط عنه حكم القذف بذلك يريد ويجب عليها بذلك حد الزنا إلا أن ينزع عنه، وحد القذف لزوجها إلا أن يعفو عنها كما لو قال لأجنبية يا زانية، فقالت زنيت بك، حسبما قاله ابن القاسم في سماع يحيى، فلم يفرق عيسى في ذلك بين الزوجة والأجنبية كما فعل ابن القاسم، ولأصبغ في الزوجة قول ثالث في سماع يحيى، وهو أنها تكون في مراجعتها لزوجها بهذا القول قاذفة له غير مقرة على نفسها بالزنا فيحد كل واحد منهما لصاحبه إلا أن يلاعن هو على القول بأن اللعان يكون في القذف، ولأشهب في الأجنبية قول ثان في كتاب ابن المواز، وهو أنها تكون بمراجعتها له بهذا القول مقرة على نفسها بالزنا وقاذفة له إلا أن تنزع عن ذلك فتقول: إنما قلت ذلك على المجاوبة فيحد الرجل ولا تحد هي في قذف ولا زنا، وقول ابن القاسم أظهر أنه يقبل رجوعها في إقرارها على نفسها بالزنا ولا تقبل في قذفها لزوجها، وقد حكى أبو إسحاق عن أشهب في الأجنبية أن قولها له: بك زنيت ليس بإقرار منها على نفسها بالزنا ولا قذف منها للرجل، كأنها قالت إن كان الأمر كما تقول فبك زنيت، وهو يقول ما زنيت بها فكأنها أنكرت أن يكون هناك زنا منها ومنه بحال، وإذا قال أشهب هذا في الأجنبية فأحرى أن يقوله في الزوجة، وإذا قال أصبغ في الزوجة إنه يحد كل واحد منهما لصاحبه فأحرى أن يقوله في الأجنبية، وابن القاسم هو الذي يفرق بين الزوجة والأجنبية على ما تقدم بيانه، وبالله التوفيق.(16/321)
[مسألة: شهد عليه أربعة بالزنا اثنان بالطواعية واثنان بالاغتصاب أنه اغتصبها]
مسألة قال ابن القاسم في رجل شهد عليه أربعة بالزنا شهد اثنان بالطواعية أنها طاوعته، وشهد الاثنان بالاغتصاب أنه اغتصبها، قال: يضرب الشهود ولا يحد الرجل؛ لأن الشهادة قد اختلفت عليه، إلا أن يقر الرجل فإن أقر حد، وإن أنكر جلدوا هم جميعا الشهود، وإن أنكرت المرأة ضربوا الحد، وإن أقر الرجل أقيم عليه الحد بإقراره؛ لأنهم قذفوها فصدقهم واحد ولم يصدقهم الآخر.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة إلا أن في سياقتها إشكالا يرجع في التحصيل إلى أن الشهادة ساقطة فيحد الشهود ولا يجب بشهادتهم شيء على الرجل ولا على المرأة إن أنكر، فإن أقر حد وسقط الحد عن الشهود، وإن أقر أحدهما وأنكر الآخر حد المقر والشهود من أجل إنكار المنكر منهما وسقط الحد من المنكر، وبالله التوفيق.
[: يقر بعد ضرب عشرة أسواط أو بعد حبس سنة]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار
وسئل ابن القاسم عن الرجل يقر بعد ضرب عشرة أسواط أو بعد حبس سنة، قال: لا يلزمه إقراره عدلا كان الوالي أو غير عدل، وربما أخطأ الوالي العدل، وقد قال رجل لعمر بن عبد العزيز: إن ضربتني سوطا واحدا أقررت على نفسي، فقال: ما له قبحه الله، فإذا أقر على خوف لم يلزمه إقراره إلا أن يعين، يعني: يري بعض ما أقر.
قال محمد بن رشد: قوله: إلا أن يري بعض ما أقر به يدل على أن السارق يقطع إذا أقر بالسرقة بعد الوعيد والتهديد وعينها، وقد قيل إنه لا يقطع(16/322)
وإن عينها إذا كان إقراره بها وتعينه لها بعد الوعيد والتهديد، ولا خلاف في أنه يقطع بغير تعيين إذا أقر قبل أن يؤخذ، ولا في أنه لا يقطع دون تعيين إذا أقر بعد أن أخذ، وقد مضى القول في هذه المسألة مستوفى في رسم السرقة من سماع أشهب من كتاب السرقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة تؤخذ مع المرأة تساحقها فتقر أو يشهد عليهما]
مسألة وسئل عن المرأة تؤخذ مع المرأة تساحقها فتقر أو يشهد عليهما، كم يضربان على ذلك وما عقوبتهما؟ قال ابن القاسم: ليس في ذلك إلا اجتهاد الإمام على ما يرى من شنعة ذلك وخبثه.
قال محمد بن رشد: هذا الفعل من الفواحش التي دل القرآن على تحريمها، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] إلى قوله {الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، وأجمعت الأمة على تحريمه، فمن تعدى أمر الله في ذلك وخالف سلف الأمة فيه كان حقيقا بالضرب الوجيع، وليس في ذلك حد يرجع إليه في الكتاب والسنة، وإنما هو الاجتهاد كما قال، وقد روي عن ابن شهاب أنه قال: سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنهما يحدان مائة مائة، وقال أصبغ: يجلدان خمسين خمسين وعليهما الغسل إن أنزلتا، وقاله ابن وهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد رجلان أنهما رأيا رجلا وامرأة تحت لحاف]
مسألة وقال: إذا شهد رجلان أنهما رأيا رجلا وامرأة تحت لحاف أو شهدا أنهما رأيا رجليها على عنقه أو شيئا هو أدنى من أن يرياه مثل المرود في المكحلة عوقب الرجل والمرأة ولم يكن على الشهيدين شيء؛ لأنهما لم يقذفا، ولو قالا: رأيناه يزني بها مثل المرود في(16/323)
المكحلة ضرب كل واحد منهما ثمانين جلدة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن شهادتهما لا تسقط إلا بما يوجب الحد عليهما من الشهادة التامة بالزنا، وإذا لم تسقط شهادتهما وجب بها الأدب عليهما.
[: جاع فباع امرأته من رجل وأقرت له بذلك فوطئها مشتريها ثم عثر على ذلك]
ومن كتاب جاع فباع امرأته
وسألت ابن القاسم عن رجل جاع فباع امرأته من رجل وأقرت له بذلك فوطئها مشتريها ثم عثر على ذلك، قال: وجدت في مسائل بعض أصحابنا عن مالك وهو رأيي أنهما يعذران بالجوع وتكون تطليقة من زوجها بائنة حين أوطأها غيره، ويرجع عليه المشتري بالثمن، قلت: فلو لم يكن بهما الجوع؟ قال فحري إذا أن تحد وينكل زوجها، ولكن قد جاء الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات» ودرء الحد أحب إلي، وقد قال مالك في الرجل يسرق من جوع يصيبه: إنه لا قطع عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهما يعذران بالجوع بين؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأي شبهة أقوى من الجوع الذي قد أباح الله به أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وقد روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا قطع في سنة، وحكى ابن حبيب عن أبي هريرة أنه قال: لا قطع في سنة مجاعة، وذلك للمضطر.(16/324)
وأما قوله في بيعه إياها إنه يكون طلقة بائنة فهو ظاهر قول مالك في رسم يشتري الدور من سماع يحيى من كتاب العتق، ومثله في كتاب الاستبراء من الأسدية على ما وقع في سماع عبد الملك من كتاب طلاق السنة، وهو قول ابن نافع فيه، وقد قيل: إنها تبين منه بالبتة، وهو قول مالك فيما روى عنه محمد بن عبد الحكم، وقد قيل: إنه لا يقع عليه بذلك طلاق ويؤدب على فعله، وترد إليه امرأته، وهو قول محمد بن عبد الحكم وقول ابن وهب في سماع عبد الملك من كتاب طلاق السنة ومثله في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في الذي يزوج امرأته، إذ لا فرق في المعنى بين أن يزوجها أو يبيعها، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى، وأما قوله: إذا لم يكن بهما فحري أن تحد وينكل زوجها ولكن قد جاء الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات» ودرء الحد أحب إلي، فوجه الشبهة في ذلك هو أنها وإن طاعت له ببيعه إياها دون جوع ولا ضرورة فالمشتري يملكها بشرائه إياها ملك الأمة، فتكون في وطئه إياها كالمكرهة، وإن كانت طائعة، إذ لو امتنعت لقدر على إكراهها وهذا نحو ما في رسم حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم من كتاب الحج أن المحرم إذا وطئ جاريته وهي محرمة فعليه أن يحجها ويهدي عنها أكرهها أو لم يكرهها؛ لأن الأمة ليست في الاستكراه مثل الحرة، ومثله ما في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النكاح في الذي تزوج امرأة فأدخلت عليه جارية امرأته فوطئها وهو لا يعلم أنه لا حد عليه، ولا على الجارية خلاف قول ابن الماجشون في الذي زوج ابنته رجلا فحبسها وأرسل إليه بأمته فوطئها أنها تحد إلا أن تدعي أنها ظنت أنها زوجت منه، فيأتي على قول ابن الماجشون أنها تحد إذا طاعت لزوجها ببيعها فوطئها المشتري إلا أن تدعي أن المشتري أكرهها على الوطء، وهو قول ابن وهب في سماع عبد الملك من كتاب طلاق السنة أنها ترجم إن طاوعته على البيع وأقرت أن مشتريها قد أصابها طائعة، وإن زعمت أنه استكرهها برئت من الحد.(16/325)
[: أربعة شهدوا على رجل بالزنا وهم عدول وأحدهم ولد زنا]
ومن كتاب العتق
وسألته عن نفر أربعة شهدوا على رجل بالزنا وهم عدول وأحدهم ولد زنا أو ابن ملاعنة، قال: أما ولد الزنا فلا تجوز له الشهادة في مثل هذا، وأما ابن الملاعنة فتجوز شهادته في القذف وغيره ويضربون جميعا الحد.
قال محمد بن رشد: قوله: إن شهادة ولد الزنا لا تجوز في الزنا هو مثل ما له في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، وهو مذهب سحنون؛ لأنه قال في آخر نوازله منه: إنه لا تجوز شهادة أحد فيما حد فيه من الحدود، وهو أصل قد اختلف فيه قول مالك وقول ابن القاسم وقول أصبغ حسبما بيناه في النوازل المذكورة، وقال في هذه الرواية: إنه إذا كان أحد الشهود الأربعة الذين شهدوا على الزنا ولد زنا لم تجز شهادته ولم يقل ما يكون الحكم فيهم؟ وقد اختلف في ذلك، فقيل: إنهم يحدون كما لو كان أحدهم عبدا، وهو قول أصبغ ومذهب ابن القاسم في المدونة؛ لأنه قال فيها إذا شهد على المرأة أربعة شهود بالزنا أحدهم زوجها جلد الثلاثة ولاعن الزوج، ولا فرق بين المسألتين، وقيل: إنهم لا يحدون بخلاف إذا كان أحدهم عبدا وهو قول ابن أبي حازم في المبسوطة واستحسان ابن القاسم فيها، وأما إن لم يعثر على أنه ولد زنا أو على أنه زوجها حتى يقيم الحد فيدرأ الحد عن الثلاثة ويحد ولد الزنا والزوج إلا أن يلاعن، وقد مضى بقية القول في هذه المسألة في النوازل المذكورة، وبالله التوفيق.
[مسألة: زنى عبده فضربه خمسين ضربة بغير سوط]
مسألة وسألته عن رجل زنى عبده فضربه خمسين ضربة بغير سوط هل يجزيه ذلك من الحد؟ قال: قال مالك: لا يضرب الحد إلا بالسياط.(16/326)
قال محمد بن رشد: سأله في هذه الرواية: هل يجزيه ذلك من الحد فلم يجبه على ذلك، وحكى له ما قال مالك من أن الحدود لا تضرب إلا بالسياط، وقال في سماع أبي زيد بعد هذا: إنه إن ضربه في الزنا بالدرة في ظهره أجزأه، قال: وما هو بالبين، فيحمل قوله في سماع أبي زيد على التفسير لقوله في هذه الرواية؛ لأنه وإن كان الواجب أن تضرب الحدود بالسياط كما قاله مالك فلا يجب أن يعاد عليه الضرب بالسياط إذا ضرب بالدرة؛ إذ قد يكون من الدرر ما هو أوجع من كثير من السياط فلا يجمع عليه حدين، إلا أن تكون الدرة التي ضرب بها لطيفة لا تؤلم ولا توجع فلا بد من إعادة الحد بالسوط، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل من الموالي قال لرجل من العرب لست لي بكفء]
مسألة وسأله عن رجل من الموالي قال لرجل من العرب: لست لي بكفء، هل يكون عليه الحد؟ قال مالك يقول في رجل قال لرجل من العرب وهو من الموالي " أنا خير منك وأقرب نسبا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "، قال: ليس في مثل هذا حد، قال ابن القاسم: وذلك أن يقول الرجل الرومي أنا خير من عربي وأكرم حسبا، فلا يكون في ذلك حد؛ إنما الحد في قذف أو نفي أو تعريض يرى أنه أراد به حدا، وسألته عن رجل قال لرجل في منازعة: إنك لعظيم في نفسك، فقال الآخر: وما يمنعني وأنا معروف الحسب والنسب، فقال له الذي نازعه: إنك لتعرض بي، فاستعدى عليه، فهل يكون عليه في هذا القول حد؟ قال: قال مالك في رجل نازع رجلا فقال أحدهما لصاحبه أنا خير منك وأبي خير من أبيك وأمي خير من أمك، فقال له الآخر: هلم أباك الذي تزعم أنه أبوك، قال مالك:(16/327)
لقد قال قولا عظيما، وما أرى في مثل هذا حدا، قال ابن القاسم: وهذا عندي أشد من مسألتك، ولكن يحلف بالله ما أراد نفيا ولا حد عليه.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير على المولى حدا في قوله للعربي أنا أقرب نسبا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك؛ لأنه رآه كاذبا في قوله إذ جعل الموالي أقرب من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في النسب من العرب لا نافيا له عن أبيه، وابن أبي حازم يقول في المولى يقول للعربي أنا أكرم منك نسبا: إن عليه الحد، ففي هذا عنده أحرى أن يحد، وقد مضى بيان هذا في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، وإنما لم ير عليه الحد أيضا في قوله: وما يمنعني وأنا معروف الحسب والنسب، إذ ليس بتعريض له في نفي حسبه ونسبه؛ لأن كلامه إنما خرج على نفي النقيصة عن نفسه التي ألحقها به في قوله: إنك لعظيم في نفسك، لا على إلحاق النقيصة به في نفسه عن حسبه ونسبه، واستظهر عليه مع ذلك باليمين، وأما المسألة التي احتج بها من قول مالك في الذي نازع رجلا فقال له: أنا خير منك وأبي خير من أبيك، إلى آخر المسألة، فقد مضى الكلام عليها في رسم ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: يقول للمرأة يا زانية فتقول بك زنيت]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم قال يحيى: وسألته عن الرجل يقول للمرأة يا زانية فتقول بك زنيت، فقال: أراها قد أقرت بالذي رماها به، وهي له مع إقرارها على نفسها قاذفة، فإن أقامت على الإقرار رجمت وإن كانت محصنة(16/328)
بعد أن تجلد ثمانين جلدة للفرية التي افترت على الرجل حين قالت: بك زنيت، وإن كانت بكرا جلدت ثمانين للفرية ومائة للإقرار على نفسها بالزنا، وإن لم تقم على الإقرار جلدت حد الفرية ووضع عنها الحد الذي كانت أقرت به على نفسها، قيل له: فإن كان إنما قال ذلك لامرأته فقالت بك زنيت، فقال: لا أرى عليها شيئا؛ لأنه يجوز لها أن تقول: إنما أرادت إصابته إياي بالنكاح، فذلك يدرأ عنها حد القذف ولا تعد بهذا القول مقرة بالزنا مثل الأجنبية، قال أصبغ: ليس قولها تصديقا إنما هو جواب؛ أي إن كنت زنيت فبك إلا أني أرى عليه لها حد الفرية، وله عليها حد الفرية؛ لأن كل واحد منهما قاذف.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في رسم سلف دينارا من سماع عيسى مستوفى فلا معنى لإعادته.
[: الصبية تمكن من نفسها رجلا فيطأها]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم وأشهب قال: وسألت أشهب عن الصبية تمكن من نفسها رجلا فيطأها، قال: إن كان مثلها يخدع فالصداق على الواطئ، وإن كان مثلها لا يخدع وإن كانت لم تحض فلا صداق عليه، قلت: وكذلك الأمة البالغة العذراء إذا أمكنت من نفسها فافتضت؟ قال: لا أرى على الذي افتضها غرما، وعليه الحد، قال سحنون: وكذلك قال غيره في الأمة البالغة.
قال محمد بن رشد: قوله في الصبية إذا كان مثلها يخدع: إن الصداق على واطئها، بين على ما قاله؛ لأنها في حكم المغتصبة ولا اختلاف(16/329)
في ذلك أحفظه، وأما قوله في الأمة البالغة العذراء إذا أمكنت من نفسها فافتضت: إنه لا غرم على الذي افتضها، ففيها ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا غرم على الذي زنا بها طائعة بكرا كانت أو ثيبا وهو قوله في هذه الرواية لأنه إذا لم ير عليه غرما إذا كانت بكرا فأحرى أن لا يكون عليه غرم إذا كانت ثيبا، والثاني أن عليه ما نقصها بكرا كانت أو ثيبا، وهو ظاهر ما في كتاب المكاتب من المدونة، ودليل ما في كتاب الرهون منها، والثالث الفرق بين أن تكون بكرا أو ثيبا، وهو قوله في كتاب الرهون منها، المدونة في بعض الروايات، وأما إذا اغتصبها فلا اختلاف في أن عليه ما نقصها بكرا كانت أو ثيبا كانت صغيرة مثلها يخدع فهي في حكم المغتصبة على ما قاله في الحرة، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: الخليطين من النبيذ إذا تخللا]
مسألة قال ابن القاسم في الخليطين من النبيذ إذا تخللا فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا على قياس ما قاله مالك في رسم الحدود من سماع أشهب من أنه لا بأس أن يخلط الزبيب والتمر للخل وأن ذلك إنما يكره في الشراب الذي يشرب، وقد مضى هناك الاختلاف في ذلك وتوجهه، فعلى القول بأنه يكره خلط التمر والزبيب للخل يكره الخليطان من النبيذ وان تخللا.
[مسألة: النصراني يغتصب الحرة المسلمة فيطؤها فيجب عليه بذلك القتل]
مسألة قال سحنون: وسئل ابن القاسم عن النصراني يغتصب الحرة المسلمة فيطؤها فيجب عليه بذلك القتل أيجزي في ذلك شهادة رجلين؟ فقال ابن القاسم: لا يقتل حتى يشهد عليه بذلك الفعل(16/330)
أربعة شهود أنهم رأوه كالمرود في المكحلة مثل الزنا سواء؛ لأنه لا يستوجب القتل إلا بالوطء، ولا يثبت إلا بأربعة شهداء، قال سحنون: وقد كان ابن القاسم يقول: يجزئ في ذلك شهادة رجلين، ثم رجع إلى هذا.
قال محمد بن رشد: وجه ما كان ابن القاسم يقوله في أنه يجزئ في ذلك شهادة رجلين هو أنه كان يرى اغتصابه إياها وغيبته عليها نقضا لعهده يوجب عليه القتل لما جاء من أن امرأة مرت تسير على بغل فنخس بها علج، فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر أن اصلب العلج في ذلك المكان، فإنا لم نعاهدهم على هذا، إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ووجه القول الذي رجع إليه أنه لا يراه ناقضا لعهده بغصبه إياها حتى يطأها على ما روي من أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا اغتصب النصراني المسلمة نفسها فليقتل فإن ذلك ليس مما صولح عليه، فإنما يقتل إذا اغتصبها فوطئها؛ لنقض العهد لا على حد الزنا، ولا يلحق به الولد وهو على دينه، فإن أسلم هدر عنه القتل، وإن رئي ذلك خوف من القتل إذا ثبت صحة إسلامه، وعليه صداق مثلها أسلم أو لم يسلم؛ لأنه حق للمرأة، قال ذلك ابن حبيب وحكاه عن أصبغ، فلا اختلاف إذا اغتصبها نفسها فوطئها أن ذلك نقض لعهده، واختلف إذا زنى بها وهي طائعة فقال ربيعة: هو نقض لعهده، وقال في سماع عبد الملك بعد هذا: إنه يضرب ضربا يموت منه، وقال أشهب: يضرب الضرب الموجع لما لم يوف لهم بالعهد، ولو وفي لهم بالعهد كان هذا منهم نقضا للعهد، وقال محمد بن عبد الحكم: لا يكون نقضا للعهد وإن وفى لهم بالعهد إذا كان على الطوع، وأما جرح النصراني للمسلم وقذفه إياه فلم يروه نقضا لعهده، وبالله التوفيق.(16/331)
[مسألة: يقدم فيجد مع امرأته ولدا فيقول لها ليس هذا الولد ابني ولا ابنك]
مسألة وقال أشهب في الرجل يقدم فيجد مع امرأته ولدا فيقول لها: ليس هذا الولد ابني ولا ابنك، قال: يحلف بالله ما أراد قذفا ولا شيء عليه، وأما إن كان حاضرا مقرا بالولد ثم قال بعد: ليس هذا الولد مني ولا من امرأتي جلد الحد.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه إذا أنكر الولد الذي وجد معها حين قدم من مغيبه ثم رجع إلى تصديقها والإقرار بالولد أن القول قوله مع يمينه أنه ما أراد بذلك قذفا؛ إذ لم يتقدم له به إقرار قبل أن ينكره، وأما إذا كان حاضرا مقرا بالولد فأنكره، فإنه يجلد الحد ويلزمه، وهذا ما لا اختلاف فيه.
[مسألة: رجل قال لرجل يا ابن الجافي]
مسألة وقال مالك في رجل قال لرجل يا ابن الجافي: أرى عليه العقوبة وإن قال له يا بن الجافي والجافية عوقب وزيد في العقوبة لما سب أمه، وذلك أنه يقول أردت الجفا في الدين.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه؛ لأنه من السب الذي فيه العقوبة على حال القائل والمقول له، وقد تقدم هذا المعنى في رسم الأشربة من سماع أشهب وفي غيره من المواضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني يغتصب الأمة المسلمة]
مسألة وسئل عن النصراني يغتصب الأمة المسلمة، قال: إذا شهد على ذلك أربعة شهداء كان عليه القتل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو قول الليث وابن عبد(16/332)
الحكم لأن لها حرمة الإسلام وإن كانت أمة ويكون في ماله ما نقص من ثمنها بكرا كانت أو ثيبا، روى ذلك ابن وهب عن مالك في سماعه، وبالله التوفيق.
[: قال أردت أن أباك الذي هو أبوك أعتق أمس]
من سماع عبد الملك بن الحسن من أشهب قال عبد الملك: سألت ابن وهب عن رجل من العرب نازع رجلا من الموالي فقال العربي للمولى: إنما أعتق أبوك أمس في زمان كذا وكذا، فقال له المولى مجيبا: أنا أقدم منك ومن أبيك، فهل يجب عليه في مثل هذا القول حد أم لا يكون إلا النكال، قال: ليس عليه حد وإنما هو عندي بمنزلة أن لو قال له: أنا أخير منك، فليس في هذا حد، وكذلك قال مالك في هذا فيما أعلم: وأرى عليه النكال والحبس، وقال: وإن كان إنما أراد بقوله إني أقدم منك في الإسلام هذا وما يشبه فلا حد عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا حد عليه في قوله له: أنا أقدم منك في العتق ومن أبيك، بين لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأنه إنما نفى عن نفسه أن يكون أبوه معتقا فكذبه في ذلك عليها، وأما قوله: إن كان إنما أراد بقوله إني مثلك أي إن أباك أعتق أمس وإني مثلك فعليه الحد، فمعناه: أنه إن قال أردت أن أباك إنما هو الذي أعتق أمس كان عليه الحد، وأما إن قال أردت أن أباك الذي هو أبوك أعتق أمس فلا حد عليه وهو مصدق فيما يذكره من ذلك مع يمينه؛ لأن إرادته لا تعلم إلا من قبله، وأما إذا قال له نصا في منازعة أو مشاتمة إن أباك أعتق أمس وهو عربي فيحد على مذهب ابن القاسم؛ لأنه بمنزلة أن لو قال له إن أباك كان معتقا أو إنه كان نصرانيا أو يهوديا أو أسود أو أقطع أو يا ابن المعتق أو يا ابن النصراني أو اليهودي أو الأسود أو الأقطع، ولا يحد على مذهب أشهب لأنه عنده واصف لأبيه بغير صفته كما لو سمى أباه باسمه فقال له يا ابن فلان(16/333)
الأسود أو الأقطع أو اليهودي أو النصراني، وبالله التوفيق.
[مسألة: البنس يجعل فيه العسل هل تراه من الخليطين]
مسألة وسئل عن البنس يجعل فيه العسل هل تراه من الخليطين الذي كرهه أهل العلم؟ قال: لا بأس به، والبنس بمنزلة الماء.
قال محمد بن رشد: البنس والله أعلم هو شراب الفقع الذي كان يعمل في الأعراس، وهو شراب يصنع من العسل ويجعل فيه خمير القمح وأفاوه الطيب على ما قد ذكرناه في سماع أبي زيد من كتاب بيع الخيار، فسأله: هل هو من الخليطين من أجل ما يضاف إلى العسل من خمير القمح فخففه ولم ير به بأسا ليسارة ما فيه من العجين، فقال: إنما هو بمنزلة الماء الصرف، فجائز أن يضاف إليه العسل، وقوله في هذه الرواية هو على أحد قولي مالك في المدونة لأنه سأله فيها عن النبيذ يجعل فيه العجين أو الدقيق والسويق ليشتد به قليلا أو ليتعجل؛ فقال إنه سأل مالكا عنه فأرخص فيه ولم ير به بأسا، ثم سأله عنه فنهي عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: اللبن يضرب بالعسل]
مسألة وسئل: وأنا أسمع عن اللبن يضرب بالعسل، قال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته.
[مسألة: نصراني زنى بمسلمة]
مسألة وسئل: وأنا أسمع عن نصراني زنى بمسلمة فقال: إن كان طاوعته بذلك ضربت الحد وضرب النصراني ضربا يموت منه، وإن كان اغتصبها نفسها صلب.(16/334)
قال محمد بن رشد: مضى الكلام على هذه المسألة في سماع سحنون مستوفى فلا معنى لإعادته.
[: أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنا فتعلقوا به وأتوا السلطان فشهدوا عليه]
من سماع أصبغ وسؤاله ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنا فتعلقوا به وأتوا السلطان فشهدوا عليه، قال: لا أرى أن تجوز شهادتهم وأراهم قذفة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وقلنا فيها هناك: إنه إنما لم تجز شهادتهم عليه لأن ما فعلوه من أخذه وتعلقهم به ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم ولا يجب عليهم، بل هو مكروه لهم؛ لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصاب من هذه القاذورة شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي صفحته نقم عليه كتاب الله» ، «وقال لهزال: يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك» فلما فعلوا ذلك صاروا طالبين له ومدعين الزنا عليه وقذفة له، فوجب عليهم الحد إلا أن يأتوا بأربعة شهداء سواهم على معاينة الفعل كالمرود في المكحلة ولو كانوا أصحاب شرط موكلين بتغيير المنكر ... أحدهم فأخذوه أو أخذه فجاءوا به وشهدوا عليه لقبلت شهادتهم لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم، وفي الواضحة(16/335)
لمطرف وابن الماجشون وأصبغ أنه إذا شهد أربعة بالزنا على رجل جازت شهادتهم وان كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضه من بعض، ووجه ذلك أنه لما كان ما فعلوه من قيامهم عليه مباحا لهم، وان كان الستر أفضل لم يكونوا خصماء إذ لم يقوموا لأنفسهم وإنما قاموا لله؛ فوجب أن تجوز شهادتهم، ولو كانت الشهادة فيما يستلزم فيه التحريم من حقوق الله كالطلاق والعتق لجازت شهادتهما في ذلك، وإن كانا هما القائمين بذلك؛ لأن القيام بذلك متعين عليهما، وقد قال بعض المتأخرين: إن ذلك لا يجوز على مذهب ابن القاسم، وقوله في هذه المسألة خلاف لمطرف وابن الماجشون وأصبغ، ووجه ذلك بأن كل من قام في حق يريد إتمامه فهو يتهم أن يزيد في شهادته ليتم ما قام فيه، وهو عندي بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الاستنكاه هل يعمل به]
مسألة ومن كتاب الحدود قال أصبغ: وسألته عن الاستنكاه أيعمل به؟ قال: نعم، وذلك رأس الفقه، قال أصبغ: وهو رأيي فيمن استنكر سكره واستكره اختلاطه، وقد حضرت العمري القاضي أمر بالاستنكاه في مجلسه بمحضر جماعة من الناس فيهم أهل العلم والفقه وفيهم ابن وهب فختله المستنكه بالكلام والسؤال والمراجعة والمفاوهة ثم أدخل شق أنفه وشمه في شدقه ثم قطع عليه أنها خمر، قال أصبغ: والأحب إلي أن يكون اثنان كالشهادة، فإن لم يكن إلا واحد(16/336)
أمضي عليه الحد إذا كان الإمام هو الذي يأمر بالاستنكاه حين استرابه ووكله به، فإن كان إنما هو شاهد يؤدي علمه بالاستنكاه منه من قبل نفسه فلا يجوز إلا اثنان؛ لأنهما شهادة مؤداة كالشهادة على الشرب بعينه ( ... ) الاستنكاه والشهادة به، وجوازه أن أبا هريرة قد شهد أنه قاءها ولم يشهد أنه شربها، ثم قال له عمر تجويزا لذلك: فلا وربك ما قاءها حتى شربها، قال أصبغ: سألت ابن القاسم فقلت له: أرأيت الموكل بالمسلحة يمر بالرجل أو يمر به الرجل يتهمه بالشراب أيأمر به فيستنكه؟ قال: إن رأى تخليطا واختلاطا فنعم، قال أصبغ: شبه السكران الذي يخلط في مشيه وكلامه وتكفيه بنفسه وميلانه وعبثه وشتمه، فإن كان كذلك أمر به ولا يسعه تركه؛ لأنه سلطانه، كحد انتهى إلى السلطان فلا يتركه، وإن كان على غير ذلك من الصفة ولم يكن كنحو ذلك تركه، ولم يتحسس عليه، وإن رأى مخرجه مخرج سوء تهمة نظر في مخرجه إن خرج من مخرج سوء فعاقبه على نحوه ولم يبلغ كشفه في الشرب ولا تفتيشه إذا لم يكن كنحو ما وصفنا وكان صاحيا متشكلا.
قال محمد بن رشد: العمري القاضي الذي حكى عنه ما حكاه من الحكم بالاستنكاه هو عبد الرحمن بن عبد الله بن المجير بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، ولاه هارون الرشيد قضاء مصر سنة خمس وثمانين ومائة، ثم شكي به إليه فقال: انظروا كم ولي القضاء من ولد عمر؟ فلم يوجد أحد، فقال: والله لا عزلته، فبقي قاضيا إلى أن عزله الأمين سنة أربع وتسعين، والمسألة كلها صحيحة بينة من قول ابن القاسم وأصبغ لا اختلاف فيها ولا إشكال في شيء من معانيها، وبالله التوفيق.(16/337)
[مسألة: المسلم يقول للنصراني يا ابن الفاعلة فيقول أخزى الله كل ابن فاعلة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن المسلم يقول للنصراني يا ابن الفاعلة، فيقول أخزى الله كل ابن فاعلة، فقال: إن النصراني يحلف بالله ما أراد قذفا، فإن لم يحلف سجن حتى يحلف، قال أصبغ: بل أرى أن يجلد الحد وأرى هذا جوابا في مشاتمة فهو رد عليه وتعريض له، كالذي يقول للمرأة يا زانية فتقول زنيت بك فيكون جوابا وردا لمثل ما قال، فيضرب له الحد، فالنصراني مثله غير أن المسلمين يحدان البادئ والراد عليه، والنصراني والمسلم كذلك يجب عليهما جميعا ويكونان قاذفين جميعا ومشاتمين له، غير أن النصراني لا حد له فيعاقب له قاذفه المسلم فيكون ذلك هو حده، وقد حرمته من الحد وهو يحد للمسلم الحد بعينه كاملا ثمانين سوطا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب في أن الحد يجب بالتعريض البين كما يجب بالتصريح به، فرأى أصبغ قوله هذا في مجاوبته إياه من التعريض البين، ولم ير ذلك ابن القاسم، وقوله أظهر؛ لاحتمال أن يكون أراد بما قاله نفي ما رماه به عن نفسه من أن يكون ابن زانية لا قذفة، فرأى أن يحلف بهذا الاحتمال، وقال: إنه إن لم يحلف سجن حتى يحلف، ولم يقل ما يكون الحكم فيه إن طال الأمر ولم يحلف وذلك يتخرج على قولين، أحدهما أنه يطلق ولا يكون عليه شيء، والثاني أنه يحد إذا طال حبسه وأبى أن يحلف، والأصل في هذا اختلافهم في الكلام المحتمل أن يراد به القذف كقول الرجل للرجل يا خبيث أو يا ابن الخبيثة، فقال ابن القاسم: إنه ينكل إن طال حبسه فلم يحلف، وقال أشهب: إنه يحد إن طال حبسه ولم يحلف، فعلى أصل ابن القاسم في هذا أنه ينكل ولا يحد إذا طال حبسه فخلي سبيله في هذه المسألة؛ إذ لا موضع فيها للنكال، وكذلك إذا حلف ابتداء لا ينكل، ولو قال الشهود الذي شهدوا عليه بذلك تبين لنا من قصده أنه أراد بذلك(16/338)
القذف أو أنه لم يرد بذلك القذف لأعمل قولهم في ذلك وارتفع الخلاف في المسألة؛ لأن هذا مما قد يظهر بصورة الحال حتى يقع العلم به للشاهد، وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يقوم عليه بشاهد واحد بالقذف فلا يحلف ويسجن حتى يحلف]
مسألة وقال في الذي يقوم عليه بشاهد واحد بالقذف فلا يحلف ويسجن حتى يحلف: إنه إذا طال حبسه جدا ولم يحلف فأرى أن يخلي سبيله، قلت: فيؤدب إذا طال ولم يحلف فخلي، أيؤدب له بهذا الشاهد الواحد؟ فقال: أما الأدب في هذا فلست أعرفه، قال أصبغ: وأنا أرى أن يؤدب له إذا كان معروفا بالأذى والفحش والمشارة للناس، وإلا فأدبه حبسه الذي حبس، ولا يؤدب المتساهل للأدب في هذا إلا بعد الإياس من حلفه أو ثباته عليه أو غير ثباته عليه وعند تخليته.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم والكلام عليها هناك فلا معنى لإعادته، وقوله: إنه لا يؤدب في المتساهل للأدب في هذا إلا بعد الإياس من حلفه أو ثباته عليه معناه بعد الإياس من حلفه وثباته عليه فأو هاهنا بمعنى الواو؛ لأنه إنما أراد أنه لا يؤدب إلا بعد الإياس من حلفه ومن ثبات ذلك عليه، وهو معنى قوله أو ثبات ذلك عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل يقول للرجل يا ولد الخبث]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول وسئل عن رجل يقول للرجل يا ولد الخبث، قال: يضرب الحد، ولا يعلم الخبث إلا الزنا، وقاله أصبغ، وذلك إنما مخرجه على القذف، وإنما ولد(16/339)
الخبث ولد الزنا، ليس الخبث بالحديث الذي يذكر إذا كثر الخبث أنه من أشراط الساعة، والخبث في ذلك أولاد الزنا، فإذا قال يا ولد الخبث كان قاذفا له بأنه ولد الزنا، وإنما حرف الناس بذلك الكلام فقالوا يا ولد الخبث وجرت مجرى الخبث في القذف في المشاتمة على اللسان، ومعنى ذلك بينهما الحد، ورواها عيسى بن دينار في كتاب العتق، قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن قال لرجل يا خبيث الفرج أو قال أنا أعف منك فرجا: إن ذلك كله يضرب فيه الحد تاما، وقاله أصبغ إذا كان في مشاتمة أو غضب ورواها عيسى أيضا في كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يقول للرجل يا ولد الخبث: إنه يضرب ثمانين، مثله في كتاب ابن المواز وغيره ولا أعرف فيه نص خلاف، وهو بين في المعنى؛ لأن الخبث اسم الفعل من خبث يخبث فنسبة الرجل إليه (نفي له عن) أبيه، إذ ليس هو بصفة فيقال: إنه إنما وصف أباه بذلك، ومخرجه عند الناس أيضا مخرج القذف على ما قاله أصبغ، فإيجاب الحد فيه ظاهر.
وقوله: ليس الخبث بالحديث الذي ذكر إذا كثر الخبث إنه من أشراط الساعة، والخبث في ذلك أولاد الزنا، معناه: ليس الخبث في قوله الرجل للرجل يا ولد الخبث من الخبث المذكور في الحديث وإن كان المراد به أيضا أولاد الزنا؛ لأنه الخبث بفتح الخاء لا الخبث بضمها، وقد قيل: تفسير الحديث «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» : إنهم شرار الناس، ولو(16/340)
قال له يا خبيث أو يا ولد الخبيثة لم يجب عليه في ذلك حد، قال في المدونة: ويحلف ما أراد بذلك قذفا، فإن أبى أن يحلف ما أراد بذلك قذفا حبس حتى يحلف فإن طال حبسه نكل، وقال أشهب: إنه يحد إذا أبى أن يحلف، ولابن القاسم في المدونة مثل قول أشهب في نظير هذه المسألة: إنه يحد إذا أبى أن يحلف وهو أظهر، وإنما لم يحد في ذلك لأن الخبث قد يكون في الأخلاق والأفعال فيحلف أنه ما أراد إلا ذلك، وأما إذا قال له يا خبيث الفرج فلا إشكال في أنه يحد إذ قد بين أنه أراد بالخبث الزنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قذف رجلا فأتى بشاهدين شهدا أنهما حضراه يضرب الحد في الزنا]
مسألة وسئل عن رجل قذف رجلا فأتى بشاهدين شهدا أنهما حضراه يضرب الحد في الزنا، قال: لا ينفعه، ويضرب الحد والشاهدان جميعا، قال: ولو جاء بأربعة شهداء أنه حد في الزنا سقط عنه الحد.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة يأتي على قياس قول سحنون في آخر نوازله من كتاب الشهادات في أنه لا يثبت كتاب القاضي إلى القاضي في الزنا إلا بأربعة شهداء على رواية مطرف عن مالك في أن الشهادة على الشهادة في الزنا لا تجوز فيها إلا أربعة على كل واحد من الأربعة اجتمعوا في الشهادة على جميعهم أو افترقوا مثل أن يشهد ثلاثة على الرؤية ويغيب واحد فلا تثبت شهادته إلا بأربعة، وابن القاسم يجوز أن يشهد على شهادته اثنان، وهو مذهب ابن الماجشون، فيأتي على قياس قولهما: إنه يجوز أن يشهد على كتاب القاضي في الزنا شاهدان، وإنه إذا جاء القاذف بشاهدين يشهدان أن المقذوف قد حد في الزنا سقط عنه حد القذف، وهو الذي يوجبه القياس والنظر؛ لأن الشهادة قد تمت على الزنا بأربعة شهداء، فلا يحتاج إلا إلى إثبات قول القاضي على كتابه أو على ضربه أنه إنما يضربه في الزنا، فينبغي أن يثبت ذلك من قوله في الزنا بما يثبت في غير الزنا، إذ لا(16/341)
فرق بين الموضعين فيما يلزم الشاهد في تحمل الشهادة، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل قال لرجل من الموالي يا ساقط]
مسألة وسئل مالك عن رجل قال لرجل من الموالي يا ساقط، قال: يضرب الحد، قيل لابن القاسم: فإن لجأ إلى أمر يريده؟ أما أنا فأرى أن يحلف ما أراد نفيه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة أظهر من قول مالك لاحتمال أن يريد يا ساقط المرتبة في النسب، إذ لست من العرب، وحمله مالك على أنه أراد يا ساقط النسب؛ كأنه قال له: لست من الموالي، ولو قال لرجل من العرب يا ساقط لحد على قولهما جميعا والله أعلم.
[مسألة: شهد عليه شاهد بشرب الخمر وشهد عليه آخر بشرب النبيذ المسكر]
مسألة وسمعت ابن القاسم وسئل عمن شهد عليه شاهد بشرب الخمر وشهد عليه آخر بشرب النبيذ المسكر، فقال يضرب الحد ثمانين؛ لأن شهادتهما قد اجتمعت على المسكر.
قال محمد بن رشد: لفق ابن القاسم الشهادة في هذا وإن كان كل واحد من الشاهدين إنما شهد على غير الشرب الذي شهد عليه صاحبه إذ لو شهدا عليه بهذه الشهادة في موضع واحد لبطلت الشهادة وسقط عنه الحد على ما قاله بعد هذا في سماع أبي زيد، وهو مثل قوله في سماع أبي زيد بعد هذا ومثل روايته عن مالك في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الشهادات في أنه إذا شهد رجلان على رجل بطلاق أو فرية أو شرب الخمر في أيام مختلفة فقال هذا: أشهد أنه طلق امرأته أو رأيته يشرب الخمر أو قذف فلانا في شوال وشهد آخر على مثل ذلك إلا أنه قال في رمضان؛ فإنه يضرب في الفرية والخمر وتطلق عليه امرأته، وكذلك رأى ابن القاسم، وإذا لفق ابن القاسم(16/342)
الشهادة في الشرب وإن كان فعلا، ومن مذهبه أن الأفعال لا تلفق من أجل أن الشهادة في هذا على الفعل مسندة إلى القول، وهو المعبر فيها لأنه إنما يحد في الشرب حد القذف من أجل أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى كما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، هذا وجه قول ابن القاسم هذا وروايته عن مالك، والقياس ألا تلفق الشهادة في الشرب؛ لأنه فعل كما لا تلفق في سائر الأفعال، وهو قول محمد بن مسلمة وابن نافع وقد مضى بيان هذا كله في رسم أوصى ورسم العرية ورسم القطعان من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وبالله التوفيق.
[: قولهما إنا رأينا فلانا يزني ومعنا فلان وفلان]
من سماع أبي زيد من ابن القاسم قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجلين شهدا على رجل بالزنا فقالا: معنا شاهدان آخران فلان وفلان، وهما في البلد هل يمكنهما أن يأتيا بهما أم يحدا إذ لم يأتوا جميعا، قال: أرى أن يحدا وذلك لأن قولهما إنا رأينا فلانا يزني ومعنا فلان وفلان، إنما يقولان سلوا فلانا وفلانا عن تصديق ما قلنا، فليس هذا بوجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في أول رسم من سماع عيسى من كتاب الشهادات، وزاد فيها " قد بلغني ذلك عن مالك "، وعلل ابن القاسم تضعيف الشهادة وإيجاب الحد على الشاهدين في هذه المسألة بعلتين، إحداهما تفرق الشهود في الشهادة فقال: ليس وجه الشهادة إلا أن يأتوا جميعا، والثانية قول الشاهدين اللذين شهدا: معنا فلان وفلان لأنهما حصلا قولهما هذا في معنى من قام على رجل في الزنا وشهد عليه في ذلك فلا يجزئه أن يأتي بثلاثة شهود سواه ويحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء، فكذلك(16/343)
هذان يحدان إن لم يأتيا على تصديق شهادتهما عليه إلا بشاهدين، وقوله: فإن قالا نعم ثبتت شهادتهما وإن قالا لا كانا قاذفين، هو من قول ابن القاسم على سبيل الإنكار بعد تمام ما حكى من معنى قولهما، كأنه قال تثبت شهادتهما إذا قالا نعم وإلا كانا قاذفين، هذا ما لا يصلح بل قاذفين على كل حال، وقد قيل: إن الشهادة على الزنا جائزة وإن تفرق الشهود ولم يأتوا معا، وعلى هذا القول يأتي ما وقع لابن القاسم في أول رسم المكاتب من سماع يحيى من كتاب الشهادات وهو قول ابن الماجشون، واختلف أيضا، إن كان الشهود في الزنا هم القائمون على المشهود عليه به، فقال ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب الشهادات: إن شهادتهم لا تجوز، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أن شهادتهم جائزة وإن كانوا هم القائمين بذلك مجتمعين جاءوا أو مفترقين إذا كان افتراقهم قريبا بعضهم من بعض، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل من مشاتمة ما أعرف أباك وهو يعرفه]
مسألة وقال من قال لرجل من مشاتمة ما أعرف أباك وهو يعرفه، قال: يضرب الحد ثمانين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد نفى أن يكون أبوه هو الذي يعرفه، فقد قطع نسبه منه ونفاه عنه.
[مسألة: قالت لابنها لست ابن أبيك]
مسألة وقال في امرأة قالت لابنها لست ابن أبيك، قال: عليها الحد.
قال محمد بن رشد: وهذا بين أيضا كالمسألة التي قبلها بل هي أبين منها في وجوب الحد إذا قالت ذلك له في مشاتمة؛ لأنها إذا قالت ذلك له(16/344)
في غير مشاتمة أشبه قول الرجل في ولده ما أنت لي بابن يريد في عصيانه إياه وما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لجماعة من المسلمين والله ما ترون إلا أني ولد زنا وأنتم أولاد حلال]
مسألة ومن قال لجماعة من المسلمين: والله ما ترون إلا أني ولد زنا وأنتم أولاد حلال معرضا بأشباه هذا، قال: ينظر؛ فإن كانت بينهم عداوة حلف ما أراد حدا، وإن لم تكن عداوة كانت بينهم حلف أيضا، ولم يحد إذا قال ما أردت بذلك فاحشة.
قال محمد بن رشد: قوله " ينظر فإن كانت بينهما عداوة " يقتضي الفرق بين أن تكون بينهما عداوة أو لا تكون، وهو قد ساوى بين ذلك بقوله: إنه يحلف في الموضعين. فآخر كلامه يقضي على أوله، وإنما لم ير عليه الحد إذ ليس بتعريض بين لاحتمال أن يريد: والله ما ترون إلا أني لست ولد حلال كما أنتم، وفي قوله: حلف ولم يحد، ما يدل على أنه إن نكل عن اليمين حد، وفي هذا الأصل اختلاف، فالمشهور من قول ابن القاسم فيه أنه ينكل إذا أبى أن يحلف بعد أن يسجن، وله في بعض المسائل أنه يحد إذا لم يحلف، وهو مذهب أشهب، وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لامرأته قد سرحتك من زنا]
مسألة وقال: من قال لامرأته قد سرحتك من زنا، قال: يحد ولا طلاق عليه.
قال محمد بن رشد: قوله يحد ولا طلاق عليه يريد إلا أن يلاعن على ما قاله في رسم سلف من سماع عيسى، وهذا على أحد قوليه في المدونة في إيجاب اللعان بالقذف، وفي قوله: إنه لا طلاق عليه نظر وكان القياس أن(16/345)
يحد وتطلق عليه امرأته لأن الظاهر من قوله قد سرحتك من زنا أي قد سرحتك من أجل أنك زانية، ومن قال لامرأته قد سرحتك فهي ثلاث في التي قد دخل بها إلا أن ينوي واحدة، وفي التي لم يدخل بها واحدة إلا أن ينوي ثلاثا، وقد قيل: إنها في التي لم يدخل بها ثلاث أيضا إلا أن ينوي واحدة كالتي قد دخل بها، وقد مضى هذا في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، وإنما قال: إنه لا طلاق عليه لاحتمال أن يريد بقوله قد سرحتك من زنا، أي: قد سرحت لك بأنك زانية، وإذا قلنا: إن هذا معنى ما ذهب إليه؛ فيجب على أصولهم أن يحلف ما أراد إلا ذلك، وحينئذ يسقط عنه الطلاق فيجب أن يتأول قوله على ذلك والله الموفق.
[مسألة: رجل قال لرجل يا ساقط]
مسألة وقال في رجل قال لرجل يا ساقط، قال يحلف بالله ما أراد قذفا فإن حلف لم يكن عليه شيء إلا الأدب إلا أن يقول يا ساقط يتتبع الولائم وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قد مضى في آخر رسم الحدود من سماع أصبغ من قول مالك: إنه يحد في قوله يا ساقط إذا قاله لرجل من الموالي، فأحرى أن يحد إذا قاله لرجل من العرب، وقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنه يحلف، ولم يفرق بين أن يكون من الموالي أو من العرب، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون من الموالي أو من العرب، والأظهر أن يفرق بينهما على ما حملنا عليه قوله في رسم الحدود المذكور، وقوله: إلا أن يقول يا ساقط يتتبع الولائم وما أشبهه، يريد: فلا يجب عليه يمين؛ لأنه يجب عليه الحد، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا على رجل أحدهما أنه سكر في رمضان والآخر أنه سكر في شعبان]
مسألة وقال في رجلين شهدا على رجل شهد أحدهما أنه شرب خمرا(16/346)
في رمضان وشهد الآخر أنه شرب المسكر في شعبان، قال: يضرب الحد، قيل له: أرأيت إن شهدا بهذه الشهادة في موضع واحد؟ قال: لا يحد.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في آخر رسم الحدود من سماع أصبغ فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال لرجل يا محدود في الزنا]
مسألة وقال في من قال لرجل يا محدود في الزنا: فإن لم يأت بأربعة شهداء على أن الإمام جلده في زنا جلد الحد.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في آخر رسم من سماع أصبغ فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تقاذفا فأرادا أن يتعافيا قبل أن يبلغا السلطان]
مسألة وسئل عن رجلين تقاذفا فأرادا أن يتعافيا قبل أن يبلغا السلطان، قال: ذلك لهما، وإن لم يتعافيا إلا بعد أن يبلغا السلطان فليس ذلك لهما، فهو بمنزلة السرقة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل أحد قولي مالك في المدونة أن للمقذوف أن يعفو عمن قذفه ما لم ينته الأمر إلى السلطان، فإذا انتهى إليه لم يجز عفوه عنه إلا أن يريد سترا، وقد مضى في أول رسم من سماع أشهب الكلام على هذا المعنى مستوفى، وأنه يتحصل فيه ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا يتعلق بالقذف، حق الله تعالى، فللمقذوف أن يعفو عمن قذفه وإن بلغ إلى السلطان أراد سترا أو لم يرده، والثاني أنه يتعلق به حق الله تعالى فلا يجوز للمقذوف أن يعفو عمن قذفه بلغ السلطان أو لم يبلغ، والثالث قوله في هذه الرواية: إنه لا يتعلق به حق الله تعالى حتى يبلغ إلى السلطان فله أن يعفو إن لم(16/347)
يبلغ إلى السلطان، فإذا بلغ لم يجز له العفو عنه إلا أن يريد سترا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أربعة نفر شهدوا على رجل أنه زنى بامرأة فأخذ الرجل وهربت المرأة]
مسألة وسئل عن أربعة نفر شهدوا على رجل أنه زنى بامرأة فأخذ الرجل وهربت المرأة، قال شاهدان: رأيناه يزني بفلانة التي هربت، وقال الآخران: رأيناه يزني بامرأة، وشهادتهم معتدلة في موضع واحد على أمر واحد إلا أنهما لا يدريان أهي فلانة أو غيرها؟ ولا يعرفان المرأة، قال: يحد الشهود جميعا لأنهم قذفة للمرأة.
قال محمد بن رشد: قوله: يحد الشهود جميعا لأنهم قذفة للمرأة، معناه: يحد الشهود جميعا للرجل؛ لأن شهادتهم عليه بالزنا تسقط بقذفهم للمرأة التي شهدوا أنها زنى بها؛ إذ لم يعينها منهم إلا اثنان، ولو عينوها جميعا أو لم يعينها واحد منهم لجازت شهادتهم في الزنا وحد حد الزنا، وحدت المرأة أيضا إن عينوها جميعا، وإسقاط شهادتهم في الزنا بقذفهم المرأة خلاف المشهور في المذهب من أن شهادة القاذف لا تسقط إلا بعد إقامة الحد عليه، والذي يأتي في هذه المسألة على المشهور في المذهب من أن شهادة القاذف لا تسقط إلا بعد إقامة الحد عليه أن تجوز شهادتهم على الرجل في الزنا فيحد بها حد الزنا، وإن كان الاثنان منهم قاذفين للمرأة التي شهدا أنه زنى بها وعرفاها فهربت، وإن أتت فقامت بحدها عليهما حدا لها، وقد مضت شهادتهما قبل في الزنا على الرجل، وما ذهب إليه ابن القاسم في هذه المسألة من أن القاذف تسقط شهادته بالقذف قبل إقامة الحد عليه مثله لأصبغ في نوازله من كتاب الشهادات، ولابن الماجشون وسحنون وهو مذهب الشافعي قال: هو قبل الحد شر منه بعد الحد؛ لأن الحدود كفارات لأهلها فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وخالفه مالك وأكثر أصحابه وأبو حنيفة وأصحابه، وقد حمل(16/348)
بعض أهل النظر قوله: يحد الشهود لأنهم قذفة للمرأة على ظاهره، واعترض المسألة فقال: انظر قوله: يحد الشهود لأنهم قذفة فإن من أصله ألا يحد في القذف للغائب، وهم إذا لم يحدوا كيف يستجرحوا؟ فتدبر ذلك، والمعنى في المسألة إنما هو ما قد ذكرته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يؤخذ مع المرأة في بيت واحد وهما متهمان]
مسألة وسئل عن رجل يؤخذ مع المرأة في بيت واحد وهما متهمان، قال: يضربان ضربا جيدا وجيعا، قيل له: بثيابهما؟ قال: لا؛ بل على حال تضرب الحدود.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وكذلك قال مالك في الذي يوجد مع قوم يشربون الخمر وهو لا يشرب: إنه يؤدب، وإن قال إني صائم ولا يلتفت إلى قوله.
[مسألة: المرأة في ضرب الحد يكون عليها ثوبان]
مسألة قيل له: المرأة في ضرب الحد يكون عليها ثوبان؟ قال: لا أرى بأسا بثوبين وينزع عنها ما سوى ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها أنه ينزع عنها ما يقيها الضرب ويترك عليها ما سوى ذلك، وقد مضى في مساجد القبائل من سماع ابن القاسم زيادات في هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: شهد أربعة نفر بالزنا على رجل ثم نزع واحد بعدما تمت الشهادة وأنفذت]
مسألة قال ابن القاسم: إذا شهد أربعة نفر بالزنا على رجل ثم نزع واحد بعدما تمت الشهادة وأنفذت: إنه لا يضرب الحد إلا الذي نزع، قيل له: فإن نزع أيضا آخر بعد ذلك من الأربعة وذلك بعدما أقيم عليه الحد؟ قال يضرب الخامس الذي نزع أولا والرابع الذي(16/349)
نزع آخرا، ولا شيء على الثلاثة الذين ثبتوا على الشهادة، وكذلك لو رجم ثم نزع الخامس لم يكن عليه شيء، فإن نزع أحد من الأربعة ضرب الخامس الذي نزع والرابع الذي نزع وكان عليهما ربع الدية.
قال محمد بن رشد: أما إذا رجع الخامس من الشهود في الزنا فسواء كان رجوعه قبل إنفاذ الشهادة بإقامة الحد أو بعد ذلك لا شيء عليه كما قاله ابن القاسم في هذه الرواية، وقد روي عنه أن عليه الحد، ذكر ابن المواز اختلاف قوله في ذلك وأن قول أشهب اختلف في ذلك أيضا، واختار هو قوله هاهنا أنه لا حد عليه، ولا اختلاف في أنه لا شيء عليه من الدية إن كان رجوعه بعد إقامة الحد عليه بالرجم، وأما إن رجع بعد ذلك أحد الأربعة؛ فإن كان ذلك قبل إقامة الحد عليه حدوا كلهم بدليل قوله في هذه الرواية: إنه لا يضرب إذا نزع أحدهم بعدما تمت الشهادة وأنفذت إلا الذي نزع وحده، وقد قيل: إنه لا يضرب إذا نزع أحدهم إلا الذي نزع وحده كان نزوعه ورجوعه قبل إقامة الحد أو بعده، وهو ظاهر قوله في المسألة التي بعد هذه، قيل له: فإن نزع أحد من الشهود الأربعة؟ قال: يضرب الذي نزع، وهو الذي يوجبه النظر؛ لأنه يتهم أن ينزع عن الشهادة ليوجب الحد على من شهد معه، وإنما يحد الشهود كلهم إذا شهد الثلاثة منهم ولم يأت الرابع بالشهادة على وجهها، وإن كان ذلك بعد إقامة الحد عليه حد هو والخامس الذي رجع قبله إن كان لم يحد، ولا حد على الثلاثة الذين ثبتوا على الشهادة، ولا اختلاف في هذا، واختلف فيما يكون عليه وعلى الخامس من الدية إن كان رجوعه بعد أن رجم فقال في هذه الرواية: إنه يكون عليهما ربع الدية، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقيل: يكون عليهما خمسا الدية، وهو قول ابن وهب وأشهب، ولا اختلاف في أن الدية تكون عليهم أخماسا إن رجعوا كلهم، وبالله التوفيق.(16/350)
[مسألة: رجع واحد منهم قبل أن تتم الشهادة على الزنا]
مسألة قال ابن القاسم: ولو أن رجلا قذف رجلا بالزنا فلما أرادوا أن يقيموا عليه حد الفرية قال: أنا آتي بالمخرج مما قلت، فأتى بأربعة شهداء فشهدوا عليه، قال: يضرب المقذوف ولا شيء على القاذف لأنه قد أتى بالمخرج مما قال، قيل له: فإن نزع أحد من الشهود الأربعة؟ قال: يضرب المقذوف ولا شيء على القاذف؛ لأنه قد برئ أولا وتمت الشهادة، فليس نزوع أحد الشهود بالذي يوجب عليه الحد، وقد برئ منه أولا، وكذا لو نزع الأربعة ضربوا كلهم الحد ولا شيء على القاذف.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أتى بأربعة شهداء فشهدوا يضرب المقذوف الذي نزع يريد يحد حد الزنا: الجلد إن كان بكرا أو الرجم إن كان ثيبا، وقوله: ولا شيء على القاذف؛ لأنه قد أتى بالمخرج مما قال وهو كما قال بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] لأن فيه دليلا هو كالنص لإجماع العلماء عليه أنه إن أتى بأربعة شهداء سقط عنه الحد، وأما قوله: إنه إن نزع أحد الشهود الأربعة يضرب الذي نزع ولا شيء على القاذف فمعناه: يضرب الذي نزع وحده ولا شيء على القاذف وذلك إذا رجع واحد منهم بعد أن شهدوا كلهم وتمت الشهادة، وكذلك إن رجعوا كلهم بعد أن شهدوا وتمت الشهادة، وأما إن رجع واحد منهم قبل أن تتم الشهادة مثل أن يشهد ثلاثة فيرجع الواحد منهم ثم يأتي الرابع فيشهد؛ فإنهم يحدون كلهم إذ لم تتم الشهادة ويحد القاذف إلا أن يأتي(16/351)
بأربعة شهداء سواهم؛ لأن الشهادة إذا تمت فقد سقط بتمامها الحد عن القاذف ووجب الحد على المشهود عليه، فإن رجع واحد منهم بعد ذلك أو رجعوا كلهم لم يصح أن يرجع برجوع من رجع منهم عن الشهادة الحد على القاذف الذي قد سقط عنه، ولا أن يحد المشهود عليه وقد رجع بعض الشهود عليه عن الشهادة، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضرب عبده الحد في الزنا بالدرة]
مسألة وقال في رجل ضرب عبده الحد في الزنا بالدرة قال إن كان ضربه بها الظهر أجزأه، وما هو بالبين.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم العتق من سماع عيسى فلا معنى لإعادته.
[مسألة: البكر يزني فيوجد بمكة وهو محرم حاج]
مسألة وسئل عن البكر يزني فيوجد بمكة وهو محرم حاج أترى إذا أقيم عليه الحد أن ينفى وهو محرم ولا يترك يحج؟ قال: نعم ينفى ولا ينتظر به أن يفرغ من الحج.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن التغريب على البكر الزاني من تمام الحد الذي أوجبه الله على لسان رسوله، فتعجيله واجب لا يصح أن يؤخر من أجل إحرامه بالحج ولعله إنما أحرم به فرارا من السجن، وقد كان مالك إذا سئل في شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر السرور، وقال: بلغني أنه يقال: لحد يقام بأرض خير من مطر أربعين صباحا، وإذا سجن في ذلك بما أوجبه الله تعالى عليه على لسان رسوله كان حكمه كحكم المحصر بمرض لا يحل من شيء من إحرامه حتى يطوف بالبيت، فإن بقي على إحرامه إلى حج قابل فحج به لم يكن عليه هدي، وإن حل بعمرة قبل أن يحج كان عليه قضاء الحج وهدي عن تحلله من إحرامه بالعمرة،(16/352)
ينحره في حج القضاء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] الآية فهذا الهدي على مذهب مالك هو الهدي الأول، وعند عروة بن الزبير وجماعة من العلماء أن الهدي الأول غير الثاني، وأن الأول يجب له به لبس الثياب وإلقاء التفث وهو بموضعه إذا وصل الهدي إلى مكة بميعاد يضربه، والثاني لفوات الحج وتحلله بالعمرة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال فمن أكرمني لابني فهو ابن الفاعلة]
مسألة وقال في رجلين كانت بينهما منازعة فقال أحدهما لصاحبه إنما أكرمك لكرامة ابنك، وكثير من جيرتك يكرمونك لولدك قال فمن أكرمني لابني فهو ابن الفاعلة، قال: ينظر فإن كان ذلك أمرا معروفا لا شك فيه إنما يكرم لولده ضرب الحد وإلا فلا شيء عليه، ونزلت.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي في هذه المسألة أن الذي قال إنما أكرمك لكرامة ابنك ادعى لما قال: فمن أكرمني لابني فهو ابن الفاعلة فهو إنما أكرمه لابنه فقال: إن كان ذلك أمرا معروفا لا شك فيه أنه إنما يكرم لولده ضرب الحد أي صدق فيما ادعاه من أنه إنما أكرمه لابنه فوجب عليه الحد دون يمين على ظاهر هذه الرواية؛ لأنها يمين تهمة، وقد سقطت التهمة عنه في ذلك بكون إكرام الناس له بسبب ابنه أمرا معروفا لا شك فيه، وهذا من معنى ما تقدم في رسم استأذن من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل يا مرائي ما ترى عليه]
مسألة وسئل عن رجل قال لرجل يا مرائي ما ترى عليه؟ قال على(16/353)
قدر ما يرى الإمام، أرأيت لو قال رجل لليث بن سعد يا مرائي، وقال لي مثل ذلك أكنت ترى أن يضرب الذي قال لي مثل ربع ما يضرب الذي قال لليث؟ ومن الناس ناس لو قيل لهم ذلك لرأيتهم لذلك أهلا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الإذاية بالشتم فيما دون الحد، العقوبة فيه على قدر حال القائل والمقول له، وضرب ابن القاسم المثل في هذا بنفسه مع الليث بن سعد تواضعا منه وإقرارا بموضع الليث بن سعد من الجلالة والفضل، وله هو من الجلالة والفضل والورع ما يستوجب به قائل ذلك أشد ما يستوجب من قال لأحد من الناس ذلك القول، وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت له امرأته زنيت بجاريتي ثم نزعت وقالت حملتني على ذلك الغيرة]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قالت له امرأته زنيت بجاريتي أو بجارية فلان ثم نزعت وقالت حملتني على ذلك الغيرة، قال: لا حد عليها، وقد قال مالك في امرأة قالت لزوجها رأيتك تلوط بصبي، قال فلم ير عليها الحد.
قال محمد بن رشد: المسألة التي لم ير مالك فيها الحد على المرأة بقولها لزوجها رأيتك تلوط بصبي هي نازلة نزلت في زمنه وقعت في الثمانية بكمالها من رواية مطرف قال: ولقد كانت عندنا بالمدينة امرأة لها زوج فكان يدخل عليها كل يوم ومعه صبي فيرقى به في سطح ويكون معه ويقعد ثم يخرج فيذهب، فكانت امرأته تقول له: ما شأن هذا الصبي يرقى معك إلى السطح كل يوم وكأنها اتهمته؟ فاعتذر لها وقال: هو ابن صديق لي، وإنما(16/354)
أقعد معه أتحدث ومثل ذلك من العذر، وإن زوجها جاء به يوما فصعد به إلى السطح فذهبت.. ما يصنع؟ فوجدته على الصبي فذهبت به إلى الأمير فرفعت ذلك إليه وأعلمته بالقصة، فاستشار الأمير فيها فقهاء المدينة المغيرة وغيرهم، فكلهم قال: أرى أنها قد رمته بحد فنرى عليها الحد ولا نرى عليه شيئا إذ لم يكن إلا قولها واستشار فيها مالكا وبعث إليه بالمرأة فأخبرته بالخبر، فأشار عليه مالك أن يخلي سبيلها وأن يضرب زوجها خمسة وسبعين سوطا، قال: فخلاها وضربه خمسة وسبعين سوطا، وقال أصبغ مثل قول مالك، وقال: هو الحق والصواب إن شاء الله، وإنما أسقط الحد عنها المغيرة وقد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الغيرة ألا تدري أين أعلى الوادي من أسفله» ، قال أصبغ: الغيرة شبه الجنون، ولا أظن ضربه مالك إلا بأمر قد أقر به على نفسه، قال أصبغ: فالغيرة شبهتها التي سقط عنها بها الحد، ولو كانت غير زوجة كان عليها الحد، وبهذا المعنى أسقط ابن القاسم الحد عن التي قالت لزوجها زنيت - بجاريتها أو بجارية فلان - ثم نزعت. والله الموفق.
[مسألة: قال رأيت امرأتي في لحاف واحد مع رجل]
مسألة قال في رجل قال رأيت امرأتي في لحاف واحد مع رجل: إنه يؤدب وكذلك الرجل يقول لامرأته رأيت على بطنها رجلا: إنه يؤدب أدبا شديدا ولا يبلغ به الحد.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال رأيت امرأتي في لحاف واحد مع رجل أو رأيت امرأة أجنبية مع فلان في بيت فبين أنه لا حد عليه، وأما إذا قال رأيت رجلا على بطن امرأتي أو على بطن فلانة - لأجنبية - فإنه يشبه أن يكون ذلك من التعريض الذي يجب فيه الحد، فقد قال في المدونة في الذي قال(16/355)
جامعت فلانة بين فخديها أو في أعكانها: إنه من التعريض الذي يجب فيه الحد، فالذي يجيء على أصله في المدونة، إذا قال رأيت فلانا على بطن امرأتي أو على بطن فلانة - لأجنبية - ألا يؤدب إلا بعد أن يحلف أنه ما أراد بذلك تزنيتها، وإن نكل عن اليمين أدب أدبا شديدا لا يبلغ به الحد وعلى أصل أشهب: يحد إذا نكل عن اليمين، وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ.
[مسألة: قال أنا أقذفك بالزنا إن كنت في عيال زوج أمي]
مسألة وقال في رجل قال لرجل ألا تستحي وأنت في عيال زوج أمك؟ فقال أنا أقذفك بالزنا إن كنت في عيال زوج أمي، قال ابن القاسم: إن وجد بينة أنه في عيال زوج أمه ضرب الحد، وإن لم تكن له بينة أدب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن من قال: إن كان كذا وكذا لشيء يعلم أن ذلك الشيء كذلك ففلان زان أو ولد زنا فعليه الحد فكذلك هذا إذا أثبت المقول له أن القائل في عيال زوج أمه حد له حد القذف لأنه قد حصل قاذفا له بوجود الشرط الذي شرط قذفه به، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يضرب السكران الحد حتى يفيق]
مسألة قال ابن القاسم: لا يضرب السكران الحد حتى يفيق، قيل له: فإن خشي الإمام أن تأتيه شفاعة فيبطل حدا من حدود الله، أترى أن يضربه وهو سكران؟ قال: لا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو لا اختلاف فيه؛ لأن السكران إذا لم يكن معه عقله لا يجد ألم الضرب، ولم يقل إن فعل هل يجزئه من الحد أم لا؟ والذي أقول به: إن كان مستغرقا في السكر قد بلغ منه(16/356)
إلى حد لا يعرف فيه الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا يجزئه، ويحد إذا أفاق، وإن كان ممن يخطئ ويصيب ويميز بعض الميز فلا يعاد عليه الضرب إذا أفاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: حكم دردي النبيذ الذي يسكر]
مسألة وسئل عن عجين عجن بدردي، وذلك أنه لم توجد خميرة تجعل فيه، أترى أن يؤكل؟ قال: يطرح ولا يؤكل، والدردي: الخاتر الذي يكون في قاع القلة من النبيذ.
قال محمد بن رشد: يريد دردي النبيذ الذي يسكر؛ لأن حكم دردي النبيذ الذي يسكر حكم النبيذ المسكر، كما أن حكم دردي الخمر حكم الخمر، فكما لا يجوز أن يعجن العجين بالخمر ولا بدرديه ويطرح إن عجن بذلك، فكذلك يطرح على مذهبه إذا عجن بدردي النبيذ المسكر أو بالنبيذ المسكر، وإنما يخالف في هذا أهل العراق الذين يقولون: إن ما دون المسكر من الأنبذة المسكرة حلال، ويرد قولهم السنة الثابتة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المنقولة نقل التواتر «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ولو لم ترد في ذلك سنة لوجب تحريم قليل الأنبذة المسكرة وكثيرها بالقياس على الخمر لوجود علة التحريم فيها وهي الإسكار الذي يوجب العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله والصلاة، وقد نص الله تعالى على هذه العلة في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] الآية، وبالله التوفيق.
تم كتاب الحدود والقذف بحمد الله.(16/357)
[: كتاب المرتدين والمحاربين] [مسألة: اقتتلت طائفتان من المؤمنين]
من سماع ابن القاسم من مالك بن أنس قال: وحدثني محمد بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة عن عائشة أنها قالت: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات: 9] الآية.
قال محمد بن رشد: روي عن عبد الله بن عباس أنه قال في تأويل هذه الآية: إن الله تعالى أمر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ما اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم بينهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم فهو باغ وحق على الإمام أن يجاهدهم ويقاسمهم حتى يفوا إلى أمر الله ويقروا بحكم الله، وروي أن الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه وروي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(16/359)
أقبل على حمار حتى وقف في مجلس من مجالس الأنصار فكره بعضهم موقفه وهو عبد الله بن أبي بن سلول، فقال له: خل لنا سبيل الريح من نتن هذا الحمار وأمسك بأنفه، فمضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغضب له بعض القوم وهو عبد الله بن رواحة، فقال له: قلت هذا القول؟ فوالله لحماره أطيب ريحا منك، فاستبا، ثم اقتتلت عشائرهما، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأقبل يصلح بينهم فكأنهم كرهوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9] إلى آخر الآية» فأرادت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقولها، والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض، ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يروموا الإصلاح بينهم، فإن لم يقدروا عليه، كانوا مع من رأوا أنه على الحق منهم على ما تقضيه الآية، وإنما أمسك من أمسك منهم عن نصرة بعضهم على بعض طلبا للخلاص والنجاة مما شجر بينهم إذ لم يبن لهم من كان على الحق منهم والله أعلم، فكان فرضهم ما فعلوه من الإمساك، إذ لا يحل قتال مسلم بشك، كما كان فرض كل من قاتل منهم ما فعلوه من القتال لاعتقاد أنه مصيب به باجتهاده، فكلهم محمود على ما فعله، القاتل منهم والمقتول في الجنة، فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي خيارا عدولا، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] ، الآية، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(16/360)
«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ، وقال: «عشرة من قريش في الجنة» فسمى فيهم عليا وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن اتبعه كان على الصواب والحق، وأن طلحة والزبير كانا على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه، إذ هما من أهل الاجتهاد، ومن الناس من يجعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد، ويقول: إن كل مجتهد فيها مصيب كسائر مسائل الأحكام، وليس ذلك بصحيح، ومن أئمة المعتزلة من يقف في علي وطلحة والزبير وعائشة فيقول: لا يدرى من المصيب منهم من المخطئ؟ ومن الناس من يقول: إن من خالف عليا كان على الخطأ والعصيان إلا أنهم تابوا ورجعوا إلى موالاة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل أن يموتوا، واستدلوا على ذلك برجوع الزبير وندم عائشة وبكائها إذ ذكر لها يوم الجمل، وقول طلحة لشاب من عسكر علي وهو يجود بنفسه: امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين.
والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده، فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر واحد لاجتهادهما، وبالله التوفيق.(16/361)
[مسألة: طاعة ولى الأمر]
مسألة قال مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن شهاب: إن شداد بن أوس غطى رأسه فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: إنما أخاف عليكم من قبل رؤسائكم الذين إذا أمروا بطاعة الله أطيعوا، وإذا أمروا بمعصيته أطيعوا، إنما مثل المنافق كالجمل المختنق فمات في ريفه لا يعدو شره ريقه، قال عيسى: قال ابن القاسم: الريق الذي يجعل للخروف يمنع به الرضاع.
قال محمد بن رشد: شداد بن أوس هذا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار ابن أخي حسان بن ثابت الأنصاري قال فيه عبادة بن الصامت: كان شداد بن أوس ممن أوتي العلم والحلم، وقال أبو الدرداء: يؤتي الرجل العلم ولا يؤتيه الحلم ويؤتيه الحلم ولا يؤتيه العلم وإن أبا يعلى شداد بن أوس ممن آتاه الله العلم والحلم، وبكاؤه من حذره على الناس طاعتهم لرؤسائهم في الطاعة والمعصية من الحلم الذي آتاه الله إياه، وتمثيله للمنافق بالجمل الذي يختنق في ريقه فيموت فيه من العلم الذي قد آتاه إياه لأنه تمثيل صحيح؛ لأن المنافق يهلك باعتقاده فلا يتأذى به سواه إذ لا يظهره كالخروف يموت بريقه إذا اختنق به فلا يتأذى به سواه وبالله تعالى التوفيق.
[مسألة: التكذيب برسول الله مضاد للإيمان]
مسألة قال مالك: قال آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] ويقول الله {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الآية، قال مالك: فأي كلام(16/362)
أبين من هذا؟ قال ابن القاسم وروايته تأولها على أهل الأهواء قال ابن القاسم: قال مالك: إنما هذه الآية. لأهل القبلة، قال مالك: كان هاهنا رجل يقول والله ما بقي دين إلا وقد دخلت فيه، يعني الأهواء فلم أر شيئا مستقيما، يعني بذلك فرق الإسلام فقال له رجل: أنا أخبرك، ما شأنك لا تعرف المستقيم لأنك رجل لا تتقي الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال سحنون: بلغني أن الذي قال له ذلك القاسم بن محمد.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية في أهل القبلة يدل على أنه رآهم كفارا بما يؤول إليه قولهم وذلك في مثل القدرية الذين يقولون إنهم خالقون لأفعالهم قادرون عليها بمشيئتهم وإرادتهم دون مشيئة الله، لم يرد الكفر والعصيان من عباده ولا شاءه ولا قدره عليهم، ففعلوه هم بمشيئتهم وقدرتهم وإرادتهم، وفي مثل المعتزلة الذين ينكرون صفات ذات البارئ عز وجل من علمه وكلامه وإرادته وحياته إلى ما سوى ذلك من الأشياء التي تسد عليهم طريق المعرفة بالله تعالى وأشباههم من الروافض والخوارج والمرجئة لأن هؤلاء ونحوهم هم الذين يختلف في تكفيرهم بما لقولهم فيرى من يكفرهم بما لقولهم على من صلى خلفهم إعادة الصلاة في الوقت وبعده ويستتيبهم أسروا بدعتهم أو أعلنوها على ما قاله في رسم يدبر من سماع عيسى، فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بالمرتد، ولا يرى من لا يكفرهم بما لقولهم إعادة الصلاة على من صلى خلفهم ولا استتابهم وإنما يفعل بهم كما فعل عمر بن الخطاب بصبيغ من ضربه أبدا حتى يتوب، ومنهم من يستحب له إعادة الصلاة في الوقت، ومنهم من يفرق بين أن يكون الإمام الذي تؤدى إليه الطاعة أو غيره من الناس حسبما مضى القول فيه في رسم الصلاة الثاني من(16/363)
سماع أشهب من كتاب الصلاة، ومن أهل الأهواء ما هو اعتقادهم كفر فلا يختلف في تكفيرهم، ومنه ما هو خفيف لا يؤدي بمعتقديه إلى الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يلزم على قوله ما هو أغلظ منه وعلى ذلك الأغلظ ما هو أغلظ حتى يؤول به ذلك الأغلظ إلى الكفر فهذا لا يكفر به بإجماع، والكفر بالله الذي هو التكذيب برسول الله أو بشيء مما جاء به عن الله مضاد للإيمان الذي هو المعرفة بالله والتصديق به وبكل ما جاء به رسوله من عنده، فلا يجتمع الكفر والإيمان في محل واحد لتضادهما، وهما من أفعال القلوب، فلا يعلم أحد كفر واحد ولا إيمانه قطعا لاحتمال أن يظن خلاف ما يظهر كالمنافقين والزنادقة وشبههم إلا بالنص من صاحب الشرع على كفر أحد أو إيمانه أو بأن يظهر منه عند المناظرة والمجادلة والمباحثة لمن ناظره أو باحثه ما يقع له به العلم الضروري لأنه معتقد لما يجادل عليه من كفر أو ما يدل عليه من مذهب يعتقده إلا أن أحكامه تجري على الظاهر من حاله، فمن ظهر منه ما يدل على الكفر حكم له بأحكام الكفر، ومن ظهر منه ما يدل على الإيمان حكم له بأحكام الإيمان.
ويدل على الكفر وجهان باتفاق، أحدهما أن يقر على نفسه بالكفر، والثاني أن يفعل فعلا أو يقول قولا قد ورد السمع والتوقيف بأنه لا يقع إلا من كافر فيصير ذلك علما على الكفر، وإن لم يكن كفرا في نفسه، وذلك نحو استحلال شرب الخمر وغصب الأموال واستباحة القتل والزنا والسرقة وعبادة شيء من دون الله والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من كتاب الله وأمثال ذلك مما ورد التوقيف فيه أنه لا يكون إلا من كافر، ووجه ثالث على اختلاف وهو أن يقر - على نفسه باعتقاد - مذهبا يسد عليه طريق المعرفة بالله كنحو ما يعتقده القدرية والمعتزلة والخوارج والروافض، فقيل إنهم يكفرون بذلك، وهو الذي يدل عليه قول مالك في هذه الرواية حسبما ذكرناه، وقوله في آخر كتاب الجهاد في المدونة: إنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا لأن هذا هو حكم المرتد، وقيل إنهم لا يكفرون بذلك وهو الأظهر لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(16/364)
وسلم في الخوارج ويتمارى في الفرق لأنه يدل على الشك في خروجهم عن الإيمان وإذا شك في خروجهم منه وجب ألا يخرجوا إلا بيقين، وبالله التوفيق.
[مسألة: يبيع السلاح لمن يناوئ به أهل الإسلام]
مسألة وقال مالك في الذي يسافر إلى أرض البربر فيدخل بلاد أهل الأهواء فيكون معه السيف والسرج فيريد أن يبيع منهم وهم أصحاب بدع وأصحاب أهواء يقاتل بعضهم بعضا، قال: لا أحب أن يبيع السلاح لمن يناوئ به أهل الإسلام.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أحب، معناه: لا يجوز أن يفعل ذلك، وقد اختلف إن فعل ذلك ومضى وفات ولم يعلم من باعه منه ولا قدر على رده فيما يلزمه فيما بينه وبين ربه في التوبة من ذلك على ثلاثة أقوال، أحدها أنه يلزم أن يتصدق بجميع الثمن وهذا على القول بأن البيع فيها غير منعقد وأنها باقية على ملكه لوجوب رد الثمن على هذا القول إلى المبتاع إن علمه والصدقة عنه به إن جهله كالربا والثاني أنه لا يلزم أن يتصدق إلا بالزائد على قيمته لو بيع على وجه جائز، وهذا على القول بوجوب فسخ البيع في القيام وتصحيحه بالقيمة في الفوات، والثالث أنه لا يجب عليه أن يتصدق بشيء منه إلا على وجه الاستحباب مراعاة للاختلاف، وهذا على القول بأن البيع إن عثر عليه لم يفسخ ويباع على المبتاع، وقد مضى هذا المعنى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب التجارة إلى أرض الحرب.
[: الرد على أهل القدر]
ومن كتاب الحرب
وسمعت مالكا يقول لرجل: سألتني أمس عن القدر؟ فقال له(16/365)
الرجل: نعم، قال: يقول الله تعالى في كتابه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] حقت كلمته ليملأن جهنم منهم، فلا بد من أن يكون ما قال.
قال محمد بن رشد: هذه الآية بينة في الرد على أهل القدر كما قال، وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم ونهاهم عن المعصية ولم يردها منهم، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من المعصية؛ لأن العباد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم، دون إرادة ربهم وخالقهم، وذلك ضلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء؛ لأنهم يلحقون العجز بالله تعالى في أن يكون ما لا يريد، ويريد ما لا يكون، والجهل به أيضا؛ لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم فلا يعلم وقوعها منهم على قولهم حتى يفعلوها، وهذا كفر صريح، وتكذيب لِقَوْلِهِ تَعَالَى في غير ما آية من كتابه، وذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقال: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] والآيات في(16/366)
الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى، وقد قال عون بن معمر: سمعت سعيد بن أبي عروبة - وكان يترهب بمذهب أهل القدر - يقول: ما في القرآن آية أشد علي من قوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] قال: فقلت القرآن يشق عليك؟ والله لا أكلمك أبدا، فما كلمته حتى مات، فرحم الله عون بن معمر، والآثار في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متواترة، لا تحصى، من ذلك قوله: «كل شيء بقدر» وقوله: «لا تسأل المرأة طلاق أختها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: ففيم العمل؟ فقال رسول الله: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار» «وقول آدم لموسى في حديث محاجته: أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق» وبالله التوفيق.
[مسألة: الرحمن على العرش استوى كيف كان استواؤه]
مسألة قال سحنون: وأخبرني بعض أصحاب مالك، أنه كان قاعدا عند مالك، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله: مسألة، فسكت عنه، ثم قال له مسألة، فسكت عنه، ثم عاد عليه، فرفع إليه مالك رأسه(16/367)
كالمجيب له، فقال له السائل: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف كان استواؤه؟ قال: فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه، فقال: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، ولا أراك إلا امرأ سوء، أخرجوه.
قال محمد بن رشد: قد روي عن مالك أنه أجاب هذا بأن قال: استواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، وأراك صاحب بدعة، وأمر بإخراجه، وهذه الرواية تبين معنى قوله: سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول؛ لأن التكييف هو الذي لا يعقل، إذ لا يصح في صفات الباري عز وجل لما يوجبه من التشبيه بخلقه تعالى عن ذلك، وأما الاستواء فهو معلوم غير مجهول كما قال؛ لأن الله وصف به نفسه فقال في محكم كتابه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6] وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] فوجب الإيمان بذلك، وأن يوصف بما وصف به نفسه من ذلك، ويعتقد أنها صفة من صفات ذاته، وهي العلو؛ لأن معنى قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] على العرش علا، كما يقال: استوى فلان على العرش، علا عليه، واستوت الشمس في كبد السماء، علت، ولما كان العرش أشرف المخلوقات وأعلاها وأرفعها مرتبة ومكانا، أعلم الله تعالى عباده بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] أي: علا، فإنه أعلى منه، وإذا كان أعلى منه فهو أعلى من كل شيء، إذ كل شيء من المخلوقات دون العرش في الشرف والعلو والرفعة، فالمعنى في وصف الله عز وجل نفسه بأنه استوى على العرش، أنه أعلى منه ومن كل مخلوق، لا أنه استوى عليه بمعنى الجلوس عليه والتحيز فيه(16/368)
والممارسة؛ لأنه مستحيل في صفات الله تعالى؛ لأنه من التكييف الذي هو من صفات المخلوق، ولذلك قال فيه مالك في الرواية: إنه غير معقول، ولا أنه استوى عليه بمعنى أنه استولى عليه لوجهين، أحدهما: أن الاستيلاء إنما هو بعد المدافعة والمقالبة، والرب تبارك وتعالى منزه عن ذلك، والوجه الثاني: أن الاستيلاء هو القهر والقدرة، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا، قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولا يمتنع أن يكون استواء الله على عرشه من صفات ذاته، وإن لم يصح وصفه بها إلا بعد وجود العرش، كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه، وقد قيل: إن استواء الله تعالى على عرشه من صفات فعله، بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى نفسه به مستويا على العرش، أو بمعنى أنه قصد إلى إيجاده أو إحداثه؛ لأن الاستواء يكون بمعنى الإيجاد والإحداث، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] قصد إلى إيجادها وإحداثها.
وحمل الاستواء فيما وصف الله به نفسه من استوائه على عرشه على أنها صفة ذات من العلو والارتفاع أولى ما قيل في ذلك، والله أعلم.
[: من جعل دينه غرضا للخصومات]
ومن كتاب مرض وله أم ولد قال ابن القاسم: قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر للتنقل، قال مالك: أراه يعني أصحاب الأهواء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لأن من خاصم أهل الأهواء والبدع وجادلهم، يوشك أن يسمع من شبههم ما لا يظهر له إبطاله(16/369)
فينتقل عن اعتقاده إلى ذلك، فلا ينبغي للرجل أن يمكن زائغا من أذنه، ولا ينعمه عينا بالمجادلة في بدعته، وبالله التوفيق.
[مسألة: اصطحبا في سفر فقتل أحدهما صاحبه]
مسألة وقال مالك في رجلين اصطحبا في سفر فقتل أحدهما صاحبه فقال: إن كان قتله على وجه الحرابة أو أخذ متاعه فإني أرى أن يقتل، وإن كان قتله على وجه العداوة أو نائرة، فذلك إلى أوليائه، إن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا عفوا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن القتل على أربعة أوجه خطأ وعمد وشبه عمد وغيلة، فالخطأ فيه الدية على العاقلة، والعمد فيه القصاص للأولياء إلا أن يعفوا على الدية أو بغير دية، وهو أن يقتل قاصدا للقتل على وجه النائرة والعداوة، وشبه العمد قيل فيه الدية ولا قصاص، وقيل فيه القصاص، وهو أن يعمد للضرب فيقتل به غير قاصد للقتل، والقولان لمالك، والمشهور عنه أن فيه القصاص، وقتل الغيلة وهو أن يقتله على ماله، فهذا يجب عليه القتل حدا من حدود الله عز وجل، لا عفو للأولياء فيه، قياسا على المحارب في قوله عز وجل {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة: 33] الآية.
[: نادى رجلا باسمه فقال لبيك اللهم لبيك]
ومن كتاب صلى نهارا
وسئل مالك عن رجل نادى رجلا باسمه فقال: لبيك اللهم لبيك أعليه شيء؟ قال مالك: إن كان جاهلا أو على وجه السفه فلا شيء عليه.(16/370)
قال محمد بن رشد: أما الجاهل فبين أنه لا شيء عليه؛ لأنه لا يدري ما معنى الكلام، وإنما هو شيء حفظه من تلبية الملبين فجرى على لسانه، وأما الذي قاله على وجه السفه فلم ير عليه مالك في ذلك شيئا، فمعناه الذي يقوله على وجه الاستخفاف بالداعي له لإرادته بإجابته إياه بهذا الكلام ضد هذا الكلام الذي لا يليق به معناه، فعرض له بذلك أنه لا شرف له ولا حق ولا كرامة يستوجب بها الإجابة، وأما لو قال ذلك على وجه السفه استخفافا بالتلبية في الحج لوجب عليه الأدب المؤلم، وهو محمول على أنه قاله على وجه الاستخفاف بالداعي، حتى يعلم أنه أراد بذلك الاستخفاف بالتلبية؛ لأن هذا معلوم في كلام الناس أن يراد بالكلام ضد موجبه، فمعناه فيقال لابن الأسود ابن الأبيض، ومنه تسمية الأعمى أبو بصير، والمهلكة الفائزة، ومثل هذا كثير، ولا يحمل على أحد أنه قال لأحد مجدا معتقدا أنه إلهه إلا أن يقر بذلك على نفسه وهو عاقل غير مجنون ولا سكران، وبالله تعالى التوفيق.
[: توعد قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص بعد وفاة النبي]
ومن كتاب طلق بن حبيب قال مالك: بلغني أن رجلا قال لعمرو بن العاص - وكان عمرو عاملا على البحرين في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنه قال له: إن النبي قد توفي فالحق ببلدك، فالحق ببلدك، وإلا فعلنا وفعلنا - يتواعده - فقال له عمرو بن العاص: لو كنت في حفش أمك لدخلنا عليك فيه.
قال محمد بن رشد: القائل لعمرو قرة بن هبيرة بن سلمة، كان ارتد وأتي به موثقا إلى أبي بكر مع عيينة، وشهد عليه بذلك عمرو بن العاص، فأراد بقوله هذا: أنه لا يفلته ولا ينجو منه حتى يقيم حد الله عليه، وبالله التوفيق.(16/371)
[: حراسة القليل من المسلمين]
ومن كتاب ليرفعن أمرا
قال: وسئل مالك عن طريق بخراسان وبه قوم من أهل الكفر قريبا منهم يخرجون إلى تلك الطريق فيقطعون على المضعفين من المسلمين مثل الرجل والقافلة الضعيفة، وإن كانت جماعة لهم قوة لم يقدموا عليهم، وهم ليست لهم من القوة أن يظهروا على ما حاز المسلمون، إلا أنهم يقطعون على هؤلاء، أترى هذا مرابطا؟ قال: نعم، إذا كانوا يقطعون، فإنما مثل هؤلاء مثل اللصوص، فأرى أن يحرس ذلك الموضع، وكأنه رآه مرابطا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه يجب حراسة القليل من المسلمين كما يجب حراسة الكثير، وقد قال تعالى: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا} [المائدة: 32] الآية. فملازمة حراسة هذه الطريق رباط، والأجر في الرباط على قدر الخوف على أهل ذلك الموضع، وقد قال عبد الله بن عمر: فرض الجهاد لسفك دماء المشركين، والرباط لحقن دماء المسلمين، فكان يقول: حقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين، يريد والله أعلم: أن الرباط أحب إليه من الجهاد على غير إصابة السنة، فقد قيل: إنه إنما قال ذلك حين دخل الجهاد ما دخل؛ لأن الرباط إنما هو شعبة من شعب الجهاد، والأجر فيه على قدر الخوف في ذلك الموضع، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكونون على السفر فيلقاهم اللصوص]
مسألة وقال مالك في القوم يكونون على السفر فيلقاهم اللصوص، قال: يناشدونهم بالله، فإن أبوا فيقاتلونهم، وسئل عنها سحنون فقال:(16/372)
أرى أن يقاتلوا ولا يدعوا؛ لأن الدعوة لا تزيد إلا شدة واستئسادا وجرأة، فلا يرى أن يدعوا، ويقاتلوا بلا دعوة.
قال محمد بن رشد: تكلم سحنون على ما يعرف من غالب أمرهم، وتكلم مالك على قدر ما يرجى في النادر منهم، وذلك يرجع إلى أنه إن رجي إن دعوا أو نشدوا أن يكفوا استحب دعاؤهم وترك معاجلتهم بالقتال، وإن تيقن ذلك وجب أن يدعوا، وإن خيف إن دعوا أن يستأسدوا ويعالجوا المسلمين، وجب أن لا يدعوا كما قال سحنون، وأما دعاء أهل الحرب قبل القتال فقد مضى القول فيه مستوفى في أول نوازل أصبغ من كتاب الجهاد، وبالله التوفيق.
[: المراد بالمحارب وحكمه]
ومن كتاب سن في الطلاق
قال مالك: أما المحارب فرجل حمل على قوم بالسلاح على غير نائرة، ولا دخل ولا عداوة، أو قطع طريقا، أو أخاف المسلمين، فهذا إذا أخذ قتل ولا ينتظر به، والإمام يلي قتله، ولا يجوز فيه عفو، وأما المغتال فرجل عرض لرجل أو صبي فخدعه حتى أدخله بيتا فقتله، ثم أخذ متاعه ومالا، إن كان معه المال، إنما يقتله على ذلك، فهذه الغيلة، وهو يعد بمنزلة المحارب، وأما ذو النائرة والعداوة فرجل دخل عليه رجل في حريمه مكابرا له حتى جرحه أو قتله أو ضربه، ثم خرج مكانه ولم ينتهب متاعا، إنما كان ضربه إياه لنائرة كانت بينهما، فهذه النائرة لا يشك فيها أحد، فإذا أخذ هذا فعليه القصاص، والعفو يجوز فيه من أولياء المقتول، فإن عفوا جلد مائة وحبس عاما.(16/373)
قال محمد بن رشد: هذا تقسيم صحيح في قتل العمد على " المشهور في المذهب من أن شبه العمد باطل؛ لأن القتل عمدا ينقسم على ثلاثة أقسام عند من لا يرى القود في شبه العمد، وقد مضى ذلك في رسم مرض وله أم ولد.
وقوله: حتى جرحه أو ضربه، يريد فمات في الحين من ضربه لمن جرحه، وأما إن حيي بعد ذلك حياة بينة فلا يقسم إلا بقسامة أولياء المقتول، وقد مضى بيان ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الديات وفي غير ما موضع منه، وبالله التوفيق.
[: القتل لا يجب إلا بكفر بعد إيمان]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك من مسائل القراض
قال أشهب وابن نافع: سئل مالك عن جارية أطمعت إنسانا في بلع شيئا أذهبت عقله فمرة يفيق ومرة يذهب عقله فيصيح ويرعد، وقد اعترفت بذلك على نفسها وزعمت أنها لا تقدر على حل ذلك عنه؛ لأن ذلك دخل في بطنه، أفتراها بذلك ساحرة تقتل؟ فقال: أراها قد أتت عظيما، فأرى أن لا تترك وأن يرجع أمرها إلى السلطان، وإني لأراها محقونة بكل شر، قيل لمالك: أفترى عليها القتل؟ فقال: لا أدري ما القتل، ولكني أراها قد أتت عظيما، وأنها محقونة بكل شر، فأرى أن يرجع أمرها إلى السلطان، أفعلت هذا الفعل بغيره من الناس قبله؟ فقال السائل: نعم، قال: أرى أن يرفع أمرها إلى السلطان، وأراها محقونة بكل شر، فأما القتل فلا أدري.
قال محمد بن رشد: توقف مالك عن إيجاب القتل على من فعل هذا الفعل بأحد، بقوله: فأما القتل فلا أدري صحيح؛ لأن القتل لا يجب إلا بكفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق على ما قاله في(16/374)
الحديث، أو فساد في الأرض على ما نصه الله في محكم التنزيل، وإنما توقف مالك في هذه المسألة لما خشي أن يكون هذا الفعل من السحر الذي يحكم على فاعله بالكفر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] وليس هذا من السحر بسبيل، إنما السحر ما يفعله الساحر في غير المسحور فيتأذى به المسحور بما يصيبه به من ذهاب عقله، حتى يخيل إليه بأنه يفعل الشيء ولا يفعله، ويتوهم رؤية المستحيلات من الأمور، وإنما هذا من ناحية ما يسقاه الرجل أو يطعم إياه من الأشياء المسمومة، التي تأتي على نفسه أو يصيبه بلاء في جسمه أو اختلال في عقله، فإن أتت على النفس وجب على الفاعل في ذلك القتل، فإن لم تأت على النفس لم يجب عليه في ذلك إلا الضرب والسجن، إلا أن يكون أراد بما سقاه من ذلك ذهاب عقله لأخذ ماله، فيكون ذلك من الغيلة الموجبة للقتل، فيحتمل أن يكون ظن مالك هذا بهذه المرأة ولم يتحققه، ولذلك توقف في قتلها ولم يوجبه.
[مسألة: أخذ المال على سبيل المحاربة]
مسألة وسئل عن رجلين لقيا رجلا نحو عين القسري وفي ثوبه رطب، فسألاه من الرطب فأبى، فأخذاه وكتفاه ونزعا منه الرطب وثوبه، ثم وجد فقال: سألني الأمير عن ذلك، قيل له فما قلت له فيهما؟ فقال: إنه ليقول قاتل حارب، قيل أفترى ذلك؟ قال: إنهما ليشبهان ذلك، وما أرى من أمر بين في القتل والصلب والقطع، قيل لمالك: إن رجلين بالأندلس أخذا ومعهما دابتان فسئلا عنهما، فقالا: أما إحداهما فوجدناها ترعى في فحص فلان فأخذناها، وأما هذه الأخرى فوجدنا عليها رجلا فأنزلناه عنها وأخذناها منه، فقال: هذه مثل الأخرى الذي نزعا منه الثوب والرطب.(16/375)
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك في هذا القتل والصلب والقطع وذهب إلى أن يؤخذ فيه بأيسر عقوبات المحارب، وهو الضرب والسجن؛ لأنه لم يخرج محاربا، ولكنه أخذ مالا على سبيل الحرابة فأشبه المحارب، فهو عند مالك في الحكم بمنزلة الذي يخرج محاربا فيؤخذ في أول خروجه قبل أن يقتل أو يأخذ مالا أو يخيف سبيلا، ووجه الشبه بينهما أن هذا تحققت عليه الحرابة بخروجه محاربا ولم يكن منه شيء من معناها ولا أخذ مال ولا إخافة سبيل، والأول وجد منه معنى الحرابة، وهو أخذ المال على سبيل المحاربة، وليس بما فعل اسم المحارب إذا لم يقصد الحرابة ولا خرج إليها، فسقط عنه بذلك ما يجب على المحارب إذا أخاف السبيل وأخذ المال، فهذا وجه القول في هذه المسألة، والله أعلم.
[مسألة: حدود الله يجب البدار إلى إقامتها]
مسألة قال لنا مالك: أرسل الأمير فسألني عن رجل صحب قوما، فلما حضر غداؤهم جاءهم بسويق معه فصبه مع سويقهم فأكلوا منه وهم أربعة ولم يأكل هو، فلم يلبث رجلان من القوم أن ماتا ولبط بصاحبهما فلم يدر أحيين هما أم ميتين، حتى مثلهما من الغد وأخذ منهم خمسة دنانير، ثم أخذ فسئل عن ذلك فقال: قد فعلت، وإنما هو سويق أعطانيه إنسان، فأخبر أنه يسكر من أكله فأطعمتهم إياه ليسكروا، ولم أرد قتلهم، وإنما أردت أن أخدرهم فآخذ ما معهم، فلما طعموه فمات هذان ولبط بهذين حللت من أكمامهم خمسة دنانير فذهبت بها، ولم أظن أن ذلك يقتل، ولم يكن ذلك الذي أردت، فاعترف على نفسه بهذا بغير ضرب ولا امتحان، فما ترى؟ فقلت لمالك: فهل رأيت فيه يا أبا عبد الله؟ فقال لي: رأيت عليه القتل،(16/376)
فقلت له: أرأيت عليه القتل؟ قال: نعم، رأيت عليه القتل، فقلت له: أرأيت ذلك عليه للحرابة؟ فقال لي: نعم للحرابة، ولما أراد من قتلهم، أرأيت الذي سمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه في الشاة فمات بعضهم، ألم يكن ذلك على هذه القتل؟ فقلت له: إن تلك اليهودية التي سمت لرسول الله أرادت القتل، وهذا لم يرد القتل، فقال لي: ومن يقبل ذلك منه أنه لم يرد القتل؟ فلا يقبل منه ولا يغني ذلك عنه، قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت، وهذا لم يعتذر بعذر فيقول أخطأت وإنه لعظيم أن يفعل هذا بابن السبيل ثم يسلم فاعله هذا مع أخذه أموالهم وأنهما ماتا مكانهما، إني قد كنت قلت للرسول: قل للأمير لا يعجل به، ثم نظرت في ذلك بعد ذهابه فأرسلت إليه فجاءني فقلت له قل للأمير يقتله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، وقد استدل مالك لما ذهب إليه من إيجاب القتل عليه بما ذكر مما لا مزيد عليه، وأما قوله: قد سحرت تلك الجارية سيدتها فأمرت بها فقتلت بها، فلم يقله على سبيل الحجة لإيجابه القتل على الذي أطعم لأصحابه السويق المسموم فمات بعضهم وأخذ منهم الدنانير واعترف بذلك على نفسه، إذ ليس منه بسبيل، وإنما ذكره على سبيل الاغتباط بالفتوى بقتل من وجب عليه القتل؛ لأن حدود الله يجب البدار إلى إقامتها وترك التأني في ذلك، فقال: أمرت بقتل هذا بما وجب عليه من القتل بالحرابة، كما أمرت بقتل تلك بما وجب عليها من القتل بالسحر، فقد كان إذا سئل في شيء من الحدود أسرع الجواب وأظهر السرور بإقامة الحدود، وقد بلغني أنه يقال:(16/377)
لحد يقام بأرض خير له من مطر أربعين صباحا، ولو قال هذا الرجل: ما أردت قتلهم ولا أخذ أموالهم، وإنما هو سويق. لا شيء فيه إلا أنه لما ماتوا أخذت أموالهم لم يكن عليه شيء غير رد المال، قاله في كتاب ابن المواز، وبالله التوفيق.
[: يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم]
ومن كتاب الأقضية الثاني
وسئل مالك عن المسلم يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم، أترى عليه حدا فيما صنع من ارتداده عن الإسلام إلى الكفر؟ فقال: لا أرى عليه حدا إن رجع إلى الإسلام، إنما كان عليه القتل لو ثبت على النصرانية، فأما إذ رجع إلى الإسلام فلا شيء عليه، واحتج في ذلك بآية من كتاب الله، قال سحنون: وكذا لو رجع عن شهادته قبل أن يقضى بها، وإنه يقال: ولا عقوبة عليه وإن كان غير مأمون؛ لأنه لو عوقب الناس بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن شهادة شهد بها على باطل إذا تاب خوفا من العقوبة قياسا على المرتد.
قال محمد بن رشد: أما المرتد فإنما لم يجب عليه حد فيما صنع من ارتداده إذا رجع إلى الإسلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وهذه الآية التي ذكر أنه احتج بها من كتاب الله، والله أعلم، وأما قول سحنون في الراجع عن شهادة شهد بها قبل الحكم وهو غير مأمون: إنه لا يعاقب، فهو خلاف مذهب ابن القاسم؛ لأنه قال في المدونة: ولو ردت لكان لذلك أهلا، واعتلال سحنون لإسقاط العقوبة عنه بما ذكره من(16/378)
أن الشهود لو عوقبوا بالرجوع عن شهادتهم لم يرجع أحد عن شهادة شهد بها على باطل بين، وأما قياسه ذلك على المرتدين فليس بصحيح؛ لأن المرتد إنما سقطت عنه العقوبة بالآية المذكورة، لا من أجل أن معاقبته لو عوقب لم يجترئ أحد على الرجوع إلى الإسلام خوفا من العقوبة؛ لأن القتل يجب عليه بالتمادي على الكفر، فهو أشد من العقوبة التي يخشاها إن رجع إلى الإسلام، فلا تشتبه المسألتان، ولا يصلح قياس إحداهما على الأخرى.
[مسألة: المرتد إلى الإسلام هل له حد يترك إليه]
مسألة وسئل عن المرتد إلى الإسلام هل له حد يترك إليه؟ فقال: إنه ليقال ثلاثة أيام، وأرى ذلك حسنا، وإنه ليعجبني، ولا يأتي من الاستظهار الأخير، وسئل عن قول عمر بن الخطاب: أفلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، هل ترى أن يتربص بالذي يكفر بعد إسلامه كذلك أو يستتاب ساعتئذ؟ قال: ما أرى بهذا بأسا، وليس على هذا أمر جماعة الناس.
قال محمد بن رشد: قوله: وليس على هذا أمر جماعة الناس، يريد في الإيقاف ثلاثا، قاله ابن أبي زيد في النوادر متصلا بقوله، هذا الظاهر من الرواية، ويحتمل أن يريد أنه ليس أمر جماعة الناس على استتابة المرتد، إذ من أهل العلم من يرى أنه يقتل ولا يستتاب على ظاهر قول النبي عليه السلام: «من بدل دينه فاقتلوه» وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في رسم الصلاة من سماع يحيى بعد هذا، واحتج بما روي من أن أبا موسى الأشعري وقف على معاذ بن جبل وأمامه مسلم تهود، فقال له معاذ: انزل يا أبا موسى، فقال: لا والله لا نزلت حتى يقتل هذا، فقال: فلو رأى عليه استتابة ما قاله،(16/379)
وقد قال بعض الرواة عن أبي موسى في هذا الحديث: إنه قد كان استتابه قبل ذلك أياما، وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأنه لم يحفظ عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اختلاف في استتابة المرتد، وإنما اختلفوا في حدها، فمنهم من قال: يستتاب مرة واحدة، ومنهم من قال: شهرا، ومنهم من قال: ثلاثة أيام، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لأحد أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» .. الحديث، فبان بهذا أن الثلاثة أيام في حيز اليسير، فمن ذلك أخذ استظهار الحائض بثلاثة أيام إذا استمر بها الدم، ومنه أخذ الحاكم التلوم في الإعذار ثلاثة أيام، ومنه أخذ تأخير الشفيع بالنقد ثلاثة أيام، ومنه أخذ جواز تأخير رأس مال السلم اليومين والثلاثة، وما أشبه ذلك في غير موضع من العلم كثير، وقد مضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيمن قتل مرتدا عمدا قبل أن يستتاب وتوجيه الاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[: المراد بالقدرية وحكمهم]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل مالك عن القدرية فقال: قوم سوء فلا تجالسوهم، قيل: ولا نصلي وراءهم؟ قال: نعم، وقال سحنون: كان ابن غانم يقول في كراهية مجالسة أهل الأهواء: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق في كمه بضاعة أما كان يختزنها منه خوفا أن يغتاله فيها فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال: فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به، وسئل(16/380)
عن الرجل يكون بينه وبين الرجل من أهل القدر في ذلك منازعة حتى يبقى يأتيه القدري فيأخذ بيده ونتصل إليه، فقال إن كان جاء نازعا تاركا لذلك فليقبل منه ذلك وليكلمه، وإن لم يكن جاء لذلك فإني أراه في سعة من ترك كلامه، قيل له: إنه قد يتشبث ويتعلق ويأخذ بيدي ويسألني الكلام؟ فقال: لا أرى بأسا أن يترك كلامه.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية في أهل القدر إنهم قوم سوء فلا يجالسوا ولا يصلى وراءهم، نص منه على أنهم لا يكفروا باعتقادهم خلاف ظاهر قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الآية، قال: فأي كلام أبين من هذا، قال ابن القاسم: ورأيته تأولها على أهل الأهواء، فالقدرية عند عامة العلماء كفار؛ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى العجز والجهل في قولهم: إن الله لم يقدر المعاصي ولا الشر، وإن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرته ولا إرادته، فنفوا القدرة والإرادة في ذلك عن الله تعالى، ونسبوها لأنفسهم، حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار لكان الله تعالى موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة، وإبليس موصوفا بالقدرة على طرحه في النار، وإن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، وعند بعضهم قوم سوء ضلال لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في عقود الدين؛ لأن الله تعالى أضلهم وأغواهم ولم يرد هداهم وعمى بصائرهم عن الحق ولم يرد شرح صدورهم له، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: 125] الآية، وقد تواترت الآثار بإخراجهم عن الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، من ذلك(16/381)
قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «القدرية مجوس هذه الأمة» «والقدرية نصارى هذه الأمة» وقوله: «صنفان من أمتي ليس لهم نصيب في الإسلام، المرجئة والقدرية،» وقوله: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية، لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا هذه القدرية، فإنها شعبة من النصرانية» ومن مثل هذا ونحوه كثير، وقد نهى مالك عن مجالستهم، وإن لم يرهم كفارا بما لقولهم على هذه الرواية لوجوه ثلاثة، أحدها أنهم إن لم يكونوا كفارا فهم زائغون ضلال يجب التبرؤ منهم وبغضهم في الله؛ لأن البغض في الله والحب فيه من الإيمان، وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا} [المجادلة: 22] الآية، وهم ممن حاد الله ورسوله باعتقادهم الفاسد الذي خرجوا به عن الملة في قول كافة الأمة، والوجه الثاني: مخافة أن يعرض بنفسه سوء الظن بمجالستهم فيظن به أنه يميل إلى هواهم، والثالث: مخافة أن يستمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم، وكفى من التحرير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه مالك في رواية ابن غانم عنه، ونهى عن الصلاة خلفهم على مقتضى هذه الرواية من أنهم كفار؛ لأنهم وإن لم يكونوا كفارا هم زائغون ضلال، وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أئمتكم شفعاؤكم، فانظروا بمن تستشفعون» فإن صلى خلفهم على هذه الرواية أعاد في الوقت، وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: لا إعادة عليه، وهو مذهب سحنون وكبار أهل مذهب مالك، وأما على القول بأنهم يكفرون بما لقولهم فيعيد من صلى خلفهم في(16/382)
الوقت وبعده، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقد فرق في ذلك بين أن يكون هو الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة أو غيره، وقد مضى هذا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقوله في الذي غايظه القدري في منازعته إياه ثم جاءه متنصلا إليه: إنه لا يكلمه حتى يعلم صحة متنصله مما قال وتوبته عنه، وأنه إنما يريد بكلامه معه التثبت في اعتقاد أهل السنة، وأما إن لم يعلم صحة ذلك فله سعة في ترك كلامه كما قال، مخافة أن يظهر له التنصل والتوبة وغرضه أن يسمعه شبهة رجاء أن يشككه في اعتقاده، فمن الحظ له أن لا ينعمه عينا بذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يعذبون الناس في الدنيا]
مسألة وسئل مالك عن عذاب اللصوص بالرهزة بهذه الخنافس التي تحمل على بطونهم، فقال: لا يحل هذا، إنما هو السوط والسجن، وإن لم يجد في ظهره مضربا فالسجن، قيل: أرأيت إن لم يجد في ظهره مضربا أترى أن يسطح فيضربه في أليتيه؟ فقال: لا والله، لا أرى ذلك، إنما عليك ما عليك، وإنما هو الضرب في الظهر بالسوط أو السجن، أرأيت إن مات؟ قال: فقيل له: أرأيت إن مات أيضا بالسوط؟ قال: فإنما عليك ما عليك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه لا يصلح أن يعاقب أحد فيما يلزمه فيه العقوبة إلا بالجلد والسجن الذي جاء به القرآن، وأما تعذيب أحد بما سوى ذلك من العذاب فلا يحل ولا يجوز، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليعذب في الآخرة الذين يعذبون الناس في الدنيا» .
[: المحارب إذا تاب]
ومن كتاب أوله قراض ثم مساقات
وسئل عن المحارب إذا تاب ونزع وظهر لجيرانه وجاء إلى(16/383)
المسجد أترى عليه شيئا أو أحب إليك أن يأتي السلطان؟ قال: بل أحب إلي أن يأتي السلطان.
قال محمد بن رشد: قوله أحب إلي أن يأتي السلطان يدل على أنه ليس بواجب عليه، وأنه إن ترك ما هو عليه ونزع منه وظهر بجيرانه وجاء إلى المسجد فهي توبة شرعية من إقامة حد الحرابة عليه، وإن لم يأت الإمام، وقد اختلف في صفة التوبة التي تقبل منه وتسقط عنه حد الحرابة على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها تصح بأحد الوجهين، إما بأن يترك ما هو عليه ويظهر لجيرانه ويأتي إلى المسجد معهم، وإما بأن يلقي سلاحه ويأتي الإمام، وهو مذهب ابن القاسم، والقول الثاني: أن توبته لا تقبل منه إلا بالإتيان إلى السلطان، فإن لم يأت السلطان وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وشاهد الصلوات معهم لم ينتفع بذلك، وأقام الإمام عليه الحد، وهو قول ابن الماجشون، والقول الثالث: عكس هذا القول، أن توبته لا تقبل منه إلا بترك ما هو عليه، ويظهر لجيرانه ويشاهد الصلوات معهم، فإن لم يفعل ذلك وألقى سلاحه وأتى الإمام أقام عليه الحد، فإن نزع وترك ما هو عليه وظهر لجيرانه وجاء المسجد ثم أتى الإمام بعد ذلك قبل أن يظهر عليه برئ من الحد بإجماع، وقد اختلف فيما تسقط عنه التوبة من الأحكام على أربعة أقوال، أحدها: أنه لا يسقط عنه إلا حد الحرابة خاصة، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الناس من الدماء والأموال، فيضمن الأموال ويكون لأولياء المقتول القصاص منه إن أحبوا، والثاني: أنها تسقط عنه حقوق الحرابة وحقوق الله تعالى من الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولا يسقط عنه ما سوى ذلك من الدماء والأموال، والثالث: أنها تسقط عنه حد الحرابة وحقوق الله والأموال، إلا أن يوجد من ذلك شيء بعينه فيرد إلى أهله، ولا تسقط عنه الدماء، فيكون لأولياء المقتول القصاص، والرابع: أنها تسقط عنه كل شيء من الحدود والدماء والأموال، إلا أن يوجد منها شيء بعينه فيرد إلى أهله، وبالله التوفيق.(16/384)
[: يأخذ الرجل في الليل فيكابره على ثوبه فينتزعه إياه]
ومن كتاب الحدود وسئل عن الرجل يلقى الرجل بعد العشاء، أو في السحر في الخلوة، فيبتزه ثوبه حتى ينتزعه منه، أترى عليه قطعا؟ قال: لا أرى عليه قطعا حتى يكون محاربا أو لصا، فأما الذي يأخذ الرجل في الليل فيكابره على ثوبه فينتزعه إياه، فلا أرى عليه قطعا قد كان عندك حديثا هاهنا، ربما اتبع الرجل في المسجد، فانتزع ثوبه عن ظهره.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن هذا إنما هو مختلس ليس بسارق فيقطع، ولا محارب فيحد حد الحرابة؛ لأن السارق هو الذي يأخذ المتاع من حرزه، والمحارب هو الذي يخرج على الناس ليقطع عليهم الطريق، ويأخذ منهم أموالهم بسلاح، أو بغير سلاح خارج المصر باتفاق، أو داخل المصر على اختلاف.
[: به لمم فقيل له إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه]
ومن كتاب الأقضية وسئل عن رجل به لمم، فقيل له: إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه، فقال له بعض من عندنا: لا تفعل، اصبر واتق الله، وقال له بعضهم: اقتله فإنما هو مثل اللص يعرض يريد مالك فاقتله، فقال: إن أعظمهم عندي جرما الذي مثله باللص، قيل: فما رأيك؟ قال: لا علم لي بهذا، هذا من الطب.
من سماع موسى من ابن القاسم قال العتبي: حدثنا موسى بن معاوية الصمادحي، قال:(16/385)
حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن حسين قال: وجدنا صحيفة مقرونة مع قائم سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن جحد نعمة مولاه، فقد كفر بما أنزل الله، ومن آوى محدثا فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل.
قال محمد بن رشد: قوله: به لمم، أي خبل وصرع، وبه جنون من مس الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، لا يقوم أكلة الربا في الآخرة إلا كما يقوم في الدنيا الذي يصيبه الخبل والصرع من الجنون، وقوله: وقيل له: إن شئت أن تقتل صاحبك قتلناه هو من كذب الذين يعالجون المجانين ومخاريقهم الذين يزعمون أنهم يقتلون بكلامهم وعزائمهم الشيطان الذي يصرع المجنون ويسجنونه إذا شاءوا ويعاقبونه بما شاءوا، وذلك من خرق العادة الذي خص الله به سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بإجابته دعوته في قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ} [ص: 35] الآية.
وقد جاء في الصحيح عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «اعترض لي الشيطان في مصلاي هذا، فأخذته بحلقه فخنقته حتى إني لأحد برد لسانه على ظهر كفي، ولولا دعوة لأخي سليمان قبلي لأصبح مربوطا تنظرون إليه» فإذا لم يقدر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ربطه من أجل دعوة أخيه سليمان {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] فأحرى(16/386)
أن لا يقدر الذي يعالج المجانين على قتل الشيطان بالكلام دون أن يراه، أو يباشر قتله بما أجرى الله العادة من أنه يقتل به الأحياء، فإذا كان قتله إياه من المستحيل المحتم الذي لا يدخل تحت قدرته، لم يصح أن يقال ذلك جائز كما قاله الذي مثله باللص، فأنكر عليه قوله مالك إلا أن ذلك لا يجوز، كما ذهب إليه العتبي بدليل إدخاله على ذلك الحديث الذي ذكره من سماع موسى.
والخبل والصرع والتخبط الذي يعتري المجنون مرض من الأمراض يصيبه من وسوسة الشيطان إياه وتفزيعه له، وترويعه إياه بما يسوله له، ويلقيه في نفسه؛ إذ لا يقدر له على أكثر من الوسوسة التي أمر الله بالاستعاذة منها في سورة الناس، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحمد لله الذي لم يقدر منكم إلا على الوسوسة» وقال: «إن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكأ ولا يكشف أما» ولكون ما يصيب المجنون من الصرع من الأمراض، قال مالك في هذه الرواية: لا أعلم في هذا من الطب، يريد أن الطبيب هو الذي يداوي الأمراض، ويعالج الأدواء بما أنزل الله لها من الدواء، لا هؤلاء الذين يكذبون فيما يزعمون من قتلهم الشيطان، وبالله التوفيق.
[: اشترى جارية مسلمة ولما وجدت معه قال أنا مسلم ثم علم أنه نصراني]
ومن سماع ابن دينار من ابن القاسم وسئل عن نصراني اشترى جارية مسلمة، ولما وجدت معه قال: أنا مسلم، ثم علم أنه نصراني، وقال: أنا نصراني، وإنما قلت: أنا مسلم لمكانها، قال: يؤدب، قيل له: أيبلغ به السبعين؟ قال: الأدب في هذا دون ذلك.(16/387)
قال محمد بن رشد: إنما رأى عليه الأدب في تملكه المسلمة، وعذره في قوله: أنا مسلم، لما خاف العقوبة على اشترائه المسلمة بصدقه في ذلك، ولم يجعل قوله: أنا مسلم، إسلاما يراه بالرجوع عنه مرتدا، وهذا مثل ما في رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، من قول ابن القاسم خلاف قول أشهب: إنه لا عذر له في مثل هذا، ويقتل إن لم يرجع إلى الإيمان، وبالله التوفيق.
[: النصراني واليهودي يتزندق]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليك قال في النصراني يوجد على الزندقة قال: شرك وزندقته.
قال محمد بن رشد: قد قيل في النصراني واليهودي يتزندق: إنه يقتل؛ لأنه خرج من ذمة إلى غير ذمة، وأنه إن أسلم يقتل كالمسلم يتزندق ثم يتوب؛ أنه يقتل ولا تقبل توبته، روي ذلك عن ابن الماجشون وبعض الأندلسيين على ما حكى أبو بكري بن محمد، وذلك ظاهر في المعنى؛ إذ ليس للزنديق ذمة، إذ لا يصح أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنها إنما تؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن، ومن المجوس بالسنة، وفي سماع أصبغ بعد هذا في الساحر من أهل الذمة، إذا عثر عليه أنه يقتل إن لم يسلم، والسحر بمنزلة الزندقة، فيتحصل في النصراني يتزندق ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يترك وزندقته. والثاني: أنه يقتل وإن أسلم. والثالث: أنه يقتل إلا أن يسلم، وأما الزنادقة من المسلمين فالحكم فيهم أن يقتلوا من غير استتابة، بخلاف المرتدين، واختلف في ميراث من تزندق من المسلمين يقتل على زندقته، هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين، أو لورثته من المسلمين؟ وكذلك يختلف في ميراث من تزندق من النصارى واليهود، فقتل على زندقته على قول من يوجب عليه القتل، هل يكون ميراثه لجماعة المسلمين، أو لورثته من أهل الدين الذي كان عليه.(16/388)
[: المرتد يجرح أو يقتل في ارتداده ثم يسلم]
ومن كتاب لم يدرك وسئل عن المرتد يقتل في ارتداده نصرانيا أو يجرحه، قال: إن أسلم لم يقتل به، ولم يستقد منه في جرح؛ لأنه ليس على دين يقر عليه، وحاله في ارتداده في القتل والجراح إن أسلم حال المسلم إن جرح مسلما اقتص منه، وإن قتل نصرانيا لم يقتل به، ولم يستقد منه، قال عيسى: إن ثبت على ارتداده حتى قتل، فالقتل يأتي على ذلك كله.
قال محمد بن رشد: اختلف قول ابن القاسم في المرتد يجرح أو يقتل في ارتداده ثم يسلم، فمرة نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية، ومرة نظر إلى حاله فيهما يوم الجناية، ومرة فرق بين الدية والقود، فنظر إلى القود يوم الفعل، وإلى الدية يوم الحكم، فعلى قوله الذي نظر إلى حاله يوم الحكم في القود والدية قال: إن قتل مسلما قتل به، وإن جرحه اقتص منه، وإن قتل نصرانيا أو جرحه، لم يقد منه في القتل، ولا اقتص منه في الجرح؛ إذ لا يقتل المسلم بالكافر، ولا يقتص له منه في الجرح، وكانت الدية في ذلك في ماله، وإن كان القتل خطأ كانت الدية على العاقلة؛ لأنه مسلم يوم الحكم له عاقلة تعقل عنه جناياته، وهو قوله في هذه الرواية، وفي رسم العتق بعد هذا من هذا السماع، وعلى القول الذي نظر إلى حاله يوم الفعل في القود والدية يقاد منه إن قتل مسلما أو كافرا؛ لأنه كان كافرا يوم الفعل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم، وإن جرح نصرانيا عمدا اقتص منه، وإن جرح مسلما عمدا جرى ذلك على الاختلاف في النصراني يجرح المسلم حسبما مضى القول فيه في أول سماع أشهب، من كتاب الجنايات.
وإن قتل مسلما أو نصرانيا خطأ كانت الدية على المسلمين؛ لأنهم ورثته يوم الجناية، ولا عاقلة له يومئذ، وهو قول ابن القاسم، في رسم الصلاة، من(16/389)
سماع يحيى بعد هذا أنه إن قتل هو خطأ، ودي عنه من بيت مال المسلمين، وعلى هذا القياس يجري حكم جناياته على القول الثالث الذي فرق فيه بين القود والدية، ولا اختلاف فيما قاله عيسى من أن القتل يأتي على ذلك كله إن ثبت على ارتداده حتى يقتل، وبالله التوفيق.
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار
قال ابن القاسم في المرتد إذا تزوج في ارتداده، ثم قتل، وقد دخل بها، فإني أرى أن تعاظ بمسيسه إياها، وليس لها صداق ولا ميراث.
قال محمد بن رشد: إنما لم يوجب لها الصداق، وإن دخل بها؛ لأنه رأى المال، والله أعلم، قد وجب لجماعة المسلمين بارتداده إن قتل على ردته، فهو على ظاهر الرواية محجور عليه في ماله بنفس ارتداده، وإن لم يحجر عليه فيه بعد، فلا يجوز له إذا قتل على ردته بيع ولا شراء، ولا يلحقه فيه المدانية، ولا تجوز له فيه المحاباة، وهو ظاهر ما في النكاح الثالث من المدونة، ونص قول سحنون قال: ما أعرف فيه الحجر وردته حجر، ويصير بالردة ممنوعا من ماله، إلا أن يبايعه أحد في ذمته، وكذلك يجوز له إن تزوج يهودية أو نصرانية في ذمته، كما يجوز مبايعة المفلس ونكاحه في ذمته، قال: وإذا باع المرتد شيئا نظر فيه الإمام، فإن رأى بيع غبطة أمضاه، وإن كان فيه محاباة أوقفه، فإن تاب كان عليه، وإن قتل أبطله، وكذلك إن تزوج وبنى، فإن قتل فلا شيء لها، وإن تاب فلها الصداق، والمعلوم من مذهب ابن القاسم المنصوص له في كتاب ابن المواز، وكتاب ابن سحنون وغيرهما أن ما باع المرتد أو اشترى أو أقر به قبل تحجير السلطان لازم له ما خلا نكاحه، وإن أقام سنين يبيع ويشتري قبل أن يعلم(16/390)
بردته، وما أقر به، أو بايع بعد الحجر عليه لم يدخل في ماله إلا أن يتوب، وروي مثل ذلك عن مالك، وعلى هذا يأتي ما في كتاب ابن المواز من أن المرتد إذا تزوج في ردته، ودخل بها فلها الصداق في ماله إن كان صداق مثلها؛ لأن المعنى في ذلك إذا كان ذلك قبل أن يعلم الإمام بارتداده، فيحبسه للقتل، ويحجر عليه؛ إذ لا اختلاف في أنه ليس لها صداق في ماله إن قتل على ردته أو مات فيها إذا كان تزوجه بعد أن حجر عليه فيه وإن دخل، وإنما الاختلاف إذا تزوج قبل أن يحجر عليه ودخل، فقتل على ردته أو مات فيها، فقيل: إن لها صداقها، إلا أن يكون أكثر من صداق مثلها، وهو المنصوص عليه لابن القاسم، وقيل: إنه لا صداق لها، وهو مذهب سحنون، وظاهر هذه الرواية، وقد ذكرت لأصبغ فردها بالتأويل إلى المعلوم من مذهبه، فقال: ذلك إذا تزوج بعد الحجر عليه، وهو تأويل محتمل ينتفي به الخلاف عن ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا أخفى الرجل دينا فأتى تائبا منه]
مسألة قال ابن القاسم: إذا أخفى الرجل دينا، فأتى تائبا منه قبلت منه توبته ولم يقتل، قال: وإن أخذ على دين أخفاه مثل الزندقة أو اليهودية أو النصرانية، وكان دينا يخفيه قتل ولم يستتب؛ لأن توبته لا تعرف، وإن أنكر ما شهد عليه به لم يقبل إنكاره، وقتل ولم يستتب، وإن ادعى التوبة أيضا لم تقبل توبته.
قال محمد بن رشد: هذا أمر متفق عليه في المذهب، أن المرتد المظهر الكفر يستتاب، وأن الزنديق والذي يسر اليهودية أو النصرانية أو ملة من الملل سوى ملة الإسلام يقتل ولا يستتاب، والشافعي يرى أنهما يستتابان جميعا الذي يعلن الكفر والذي يسره إذا ظهر عليه وحضرته البينة فيه، وعبد العزيز بن أبي سلمة يرى أنهما يقتلان جميعا، ولا يستتاب واحد منهما على ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب.(16/391)
[: من غير دينه فاقتلوه]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وحدثني ابن القاسم، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي: أن أبا بكر الصديق استتاب امرأة من بني فزارة، من قيس يقال لها: أم قرفة، ارتدت عن الإسلام، فلم تتب فضرب عنقها.
قال محمد بن رشد: إنما جاء هذا الحديث حجة على أهل العراق في قولهم المرأة: إن ارتدت تحبس وتكره على الإسلام ولا تقتل. وروي ذلك عن ابن العباس والحسن، وقالوا: إنها إن أسلمت لم تسترق كالرجل يرتد ثم يتوب. وقال الحسن: إن أسلمت كانت أمة للمسلمين، مثل الحرة تسبى.
والصحيح أنها تقتل إن لم تسلم؛ لأن قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غير دينه فاقتلوه» عام يتناول الرجال والنساء، وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الاستتابة في امرأة ارتدت، واستدل أهل العراق لما ذهبوا إليه من أن المرتدة لا تقتل بنهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن النساء من كفار أهل الحرب، وهذا لا حجة فيه؛ لأنهن إنما لم يقتلن لأجل أنهن لا يقاتلن، بدليل قوله في الحديث؛ إذ وقف على المرأة المقتولة ما كانت هذه تقاتل، فالمرأة إذا لم تقاتل لم تقتل، وإذا قاتلت قتلت، وكذلك الرجل أيضا إذا علم أنه ممن لا يقاتل كالرهبان وشبههم لم يقتل، فلا فرق في هذا بين الرجال والنساء إلا أن الرجل محمول على أنه يقاتل حتى يعلم أنه ممن لا يقاتل والمرأة، محمولة على أنها لا تقاتل(16/392)
حتى يعلم أنها تقاتل، وقد ساوى الله عز وجل في القتل بين الرجال والنساء في الزنا مع الإحصان، فلذلك يجب أن يساوي بينهم في الكفر الذي هو أعظم من الزنا وأغلظ منه، وقد مضى الكلام في سبي ذراري المرتدين وأموالهم إذا بانوا بدارهم، في سماع سحنون، من كتاب الجهاد، فلا معنى لإعادته.
[: قال لا أتوضأ وأنا أصلي]
وفي كتاب حمل صبيا قال ابن القاسم: قال مالك: من قال لا يصلي استتيب، فإما صلى، وإما قتل، ومن قال: لا أتوضأ وأنا أصلي، فإما أن يتوضأ وإما قتل، ومن قال: لا أؤدي زكاة مالي، فإنه يؤخذ منه على ما أحب أو كره، ومن قال: لا أحج فأبعده الله، ولا يجبر على الحج.
[: من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج]
ومن مسائل نوازل سئل عنه أصبغ قال أصبغ في الذي يدع الصلاة فيقال له: صل، فيقول: لا أصلي فيقال له: أتجحد؟ أنها ليست عليك مفروضة من الله؟ فيقول: لست بجاحد لها، وأعلم أنها الحق غير أني لا أصلي، قال: أرى أن يقتل إذا قال: لا أصلي، وإن كان غير جاحد لها، فتركه إياها أو إصراره على أنه لا يصلي جحد لها؛ فإن أقام على قوله: لا أصلي قتل، وإن زعم أنه غير جاحد لها، وبلغني عن ابن شهاب أنه قال: إن فات وقتها، ولم يصل ضربت عنقه، وبلغني عن عبد الملك بن عبد العزيز أيضا أنه كان يقول: إذا قال: لا أصلي قتل كما قال أصبغ، قال أصبغ: وأما الزكاة فإن جحدها أيضا قتل، وإن أقر أنها حق عليه، وقال: لا أؤديها أخذت منه إن شاء أو أبى، ولا يقتل بقوله: لا أؤدي؛ لأنه يقدر على(16/393)
أخذها منه صاغرا، وإن دفع من يريد أخذها منه، فإن كان ليس به قوة يدفع بها مثل أن يدفع هو بنفسه ضرب، وأخذت منه كارها، إلا أن يدفع في جماعة، ويمنع بقوة، فإنه يجاهد ويقتل، ومن دفع معه كما فعل أبو بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - حين منع الزكاة، فقال: والله، لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، قال: ولو جحد الوضوء والغسل من الجنابة قتل، وإن لم يجحد الوضوء والغسل من الجنابة إلا أنه قال: أنا أؤمن بالوضوء والغسل، ولا أتوضأ ولا أغتسل قتل أيضا؛ لأن تركه ذلك جحد له، وكذلك لو قال: لا أصوم رمضان، وأصر على ذلك قتل، وإن لم يجحد؛ لأن تركه الصوم الذي فرضه الله عليه جحد له.
قيل: فإن قال: لا أوتر قال: أؤدبه على صلاة الوتر أدبا موجعا، وأضربه حتى يصلي الوتر، قيل: فركعتا الفجر؟ قال: لا، ركعتا الفجر هما أخف شأنا من الوتر، الوتر سنة.
قال محمد بن رشد: أما من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج، أو استحل شرب الخمر، أو الزنا، أو غصب الأموال، أو جحد سورة، أو آية من القرآن، أو ما أشبه ذلك، فلا اختلاف في أنه كافر، وإن قال: إنه مؤمن فيعلم أنه في ذلك كاذب للإجماع المنعقد على أن ذلك لا يكون إلا من كافر، وإن لم يكن شيء من ذلك في نفسه كفرا على الحقيقة، وأما من أقر بفرض الصلاة والصيام والوضوء، وأبى من فعل ذلك، وهو قادر عليه، فقول مالك في هذه الرواية: إنه يستتاب في ذلك كله، فإن أبى في شيء منه أن يفعله قتل، يدل على أنه يقتل على الكفر، فيكون ماله لجماعة المسلمين كالمرتد إذا فتل على ردته؛ لأنه وإن لم يكن نفس الترك لشيء من ذلك كله كفرا على الحقيقة، فإنه يدل على الكفر، ولا يصدق من قال في شيء من ذلك كله: إنه مؤمن بوجوبه عليه إذا أبى أن يفعله، فحكمه حكم الزنديق الذي يقتل على الكفر،(16/394)
ولا يصدق فيما يدعيه من الإيمان.
وإلى هذا ذهب أصبغ في قوله: فإصراره على أن لا يصلي جحد لها، وقد قيل: إنه يقتل على ذنب من الذنوب لا على الكفر، فيرثه ورثته من المسلمين، وهو أظهر الأقوال في هذه المسألة، ومن أهل العلم من رأى نفس الترك للصلاة عمدا كفرا على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك الصلاة فقد كفر» ومن ترك الصلاة فقد حبط عمله، وهو ظاهر قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وذهب ابن حبيب إلى أن من ترك الصلاة وهو متعمد لتركها، أو مضيعا لها، أو متهاونا بها، فهو كافر على ظواهر الآثار الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقاله أيضا في أخوات الصلاة من الزكاة والصيام، واحتج بالمساواة بينها وبينهن بقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة وبين الزكاة، وهو قول شاذ بعيد في النظر خطأ عند أهل التحصيل من العلماء، لأن الدلالة تمنع من حمل الأحاديث على ظاهرها، فالقياس عليها لا يصح، وما قاله أصبغ من التفرقة فيمن منع زكاة ماله بين أن يكون وحده، وبين أن يكون في جماعة، فيمنع من ذلك، ويدفع عنه بقوة صحيح مفسر لقول مالك، لا اختلاف فيه.
وإنما لم يستتب من أبى أن يؤدي زكاة ماله طوعا؛ لأن الواجب أن تؤخذ(16/395)
منه كرها؛ لقول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .
واختلف إذا أخذت منه كرها هل تجزيه أم لا؟ فقيل: إنها لا تجزيه؛ لأنه لا نية له في أدائها، والأعمال لا تصح إلا بالنيات، وقيل: إنها تجزئه لأنها متعينة في المال، وهو الصحيح على مذهب مالك في إيجابها على الصبي والمجنون، وإنما لم يستتب من قال: لا أحج من أجل أن الحج ليس له وقت معلوم، فإذا قال: لا أحج وأبى الحج في هذا العام، فله أن يحج فيما بعده، وكذلك في الذي بعده، وذلك بخلاف الصلاة الذي ينتظر به فيها آخر وقتها إذا أبى من فعلها، فإن مضى الوقت، ولم يصل قتل.
والوقت في ذلك طلوع الشمس للصبح، وغروب الشمس للظهر والعصر، وطلوع الفجر للمغرب والعشاء.
وقول أصبغ في ركعتي الوتر والفجر: إنهما بخلاف الوتر؛ لأن الوتر سنة يدل على أن ركعتي الفجر عنده ليستا بسنة، وأما ركعتا الفجر فيستحب العمل بها خلاف رواية ابن القاسم عنه في رسم مساجد القبائل، من كتاب الصلاة المذكور، وقول ابن القاسم في سماع أبي زيد منه، وما يدل عليه ما في المدونة من أنهما سنة، وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في المعنى الذي من أجله تسمى النافلة سنة، إن كان لكونها مقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، أو لكون الاجتماع لها والجماعة مشروعين فيها، وبالله التوفيق.
[: نصرانى يقول للمسلمين ديننا خير من دينكم]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت وعن رجل من النصارى يقول للمسلمين ديننا خير من دينكم،(16/396)
وإنما دينكم دين الحمير، ونحو هذا من التعريض القبيح، ومثل قول النصراني للمؤذنين إذا قالوا: أشهد أن محمدا رسول الله، كذلك يعطيكم الله، وإذا قال: شتموا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ماذا يجب عليهم في ذلك كله؟ وكيف لو أن رجلا من المسلمين سمع بعض النصارى أو اليهود يشتمون النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بشتم يجب عليهم فيه القتل، فغاظ ذلك المسلم فقتله ماذا عليه في ذلك؟
قال ابن القاسم: أما إذا قال: ديننا خير من دينكم، وما قال للمؤذنين، فأرى أن يعاقبوا فيها عقوبة موجعة، ولا يقصر فيها على السجن الطويل، وأما شتمه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذا شتمه شتما يعرف، قال: قال مالك: أرى أن نضرب عنقه، قال ذلك غير مرة إلا أن يسلم، ولم يقل لي يستتاب، إلا أن محمل قوله عندي إن أسلم طائعا من عند نفسه، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
قال ابن القاسم: ولقد سألنا مالكا عن نصراني كان بمصر، فشهد عليه أنه قال: مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة، هو الآن في الجنة، ما له لم ينفع عن نفسه إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه لو كانوا قتلوه استراح الناس منه، فسألناه عن ذلك، وكتب إلينا بها من مصر، ونحن بالمدينة، فلما قرأته عليه صمت، وقال: حتى أنظر فيها، فلما كان بعد ذلك المجلس، قال لنا: أين كتاب الرجل؟ فقلنا له: هو في المنزل، ونحن نحفظ المسألة، فقال: لقد كنت حين قرأتم علي هممت ألا أتكلم فيه بشيء، ثم تفكرت في ذلك، فإذا أنا أرى أن لا ينبغي الصمت عنه اكتبوا إليه ضرب عنقه، قال ابن القاسم: قال مالك: وإذا شتم المسلم النبي ضربت عنقه، ولم يستتب، قال: وقال عيسى في الذي أغاظ قتل النصراني الذي شتم النبي: إنه إن كان شتمه شتما يجب فيه قتل، وثبت ذلك ببينة، فلا شيء عليه، وإن لم يثبت ذلك أو شتمه شتما،(16/397)
لا يجب عليه القتل، فأرى عليه ديته، ويضرب مائة ويسجن عاما.
قال الإمام القاضي: هذا كله بين لا إشكال فيه؛ إذ لا اختلاف في أن من سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أو عابه، أو نقصه بشيء من الأشياء؛ يقتل، ولا يستتاب مسلما كان أو كافرا أو ذميا، إلا أن يبدو الذمي فيسلم قبل أن يقتل من غير أن يستتاب، فلا يقتل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: من قال: إن إزار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وسخ أراد به عيبه قتل، وروى عنه فيمن عير رجلا بالفقر، فقال له: تعيرني بالفقر، وقد رعى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الغنم؛ أنه يؤدب؛ لأنه عرض بذكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في غير موضعه.
وروى أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل: انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا، فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافرا، قال له: جعلتَ هذا مثلا؛ فعزله وقال: لا تكتب لي أبدا، وهذا لأن الله تعالى أمر بتعزيزه وتوقيره، فمن ضرب به المثل في مثل هذا، فقد خالف حد الله فيما أمر به من تعزيزه وتوقيره، فوجب عليه في ذلك الأدب، وكذلك حكم سائر الأنبياء فيمن شتم أحدا منهم أو نقصه؛ لقوله عز وجل: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، وكذلك حكم من شتم ملكا من الملائكة.
وحكم ميراث من قتل من المسلمين على سب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أو أحد من الملائكة، أو النبيين حكم ميراث الزنديق يكون لورثته على قول مالك في رواية ابن القاسم عنه، وهو مذهب ابن القاسم، ولجماعة المسلمين في قوله على رواية ابن نافع عنه، وهو اختيار ابن عبد الحكم، وكذلك من شتم الله عز وجل يقتل بلا استتابة كالزنديق، إلا أن يكون إنما افترى عليه بارتداده إلى دين دان به، فإن أظهره استتيب، وإن لم يظهره قتل دون استتابة.(16/398)
ومن سبه عز وجل من المعاهدين بغير ما يحله إياه، ويدين به، ويؤخذ منه الجزية على أن يقر عليه، فإنه يقتل ولا يستتاب، لكنه إن أسلم قبل أن يقتل؛ لم يقتل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
[: قال إن الله لم يكلم موسى]
ومن كتاب جاع فباع امرأته قال ابن القاسم: أرى من قال: إن الله لم يكلم موسى أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، أراه من الحق الواجب وهو الذي أدين الله عليه.
قال محمد بن رشد: أما من قال: إن الله عز وجل لم يكلم موسى، فلا إشكال ولا اختلاف في أنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه مكذب لما نص الله تعالى عليه في كتابه من تكليمه إياه حقيقة لا مجازا بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ؛ لأن المجاز لا يؤكد بالمصدر، وأما من قال من أهل الاعتزال والزيغ والضلال: إنه كلمه بكلام خلقه واخترعه في حين تكليمه إياه، ونفى أن يكون كلام الله تعالى صفة من صفات ذاته، وزعم أنه خلق من خلقه، وأن القرآن مخلوق، وأن أسماءه وصفاته محدثة مخلوقة، وأن الصفة هو الوصف، فنفوا أن يكون لله تعالى في أزله كلام أو علم أو قدرة أو إرادة، فأهل العلم في تكفيرهم على فرقتين، منهم من يكفرهم بذلك، وهم الكافة، ومنهم من لا يكفرهم بذلك؛ لأنهم إنما فروا من الكفر؛ إذ ظنوا بإضلال الله لهم أن من أثبت لله عز وجل حياة وكلاما وعلما وإرادة وسمعا وبصرا فقد شبهه بخلقه؛ لأن هذه صفات المخلوقين المحدثين، ومالك ممن اختلف قوله في تكفيرهم حسبما مضى من قوله في أول سماع ابن القاسم من الأقضية الثالث، من سماع أشهب.
والأدلة على إثبات صفات ذاته عز وجل، وأنها قديمة غير مخلوقة ولا محدثة كثيرة ظاهرة بينة لمن شرح الله صدره وهداه، ولم يرد إضلاله وإغواءه،(16/399)
وقد نص على ذلك المتكلمون في كتبهم، وبينوا صحة ما عليه أهل السنة والجماعة من ذلك، فلا معنى للتطويل والإكثار في جلب الأدلة على ما انعقد عليه الإجماع.
[مسألة: الدعاء بيا حنان وبيا سيدي]
مسألة قال: ولا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يشبه يديه بشيء، ولا وجهه تبارك وتعالى بشيء، ولكنه يقول: له يدان كما وصف به نفسه، وله وجه كما وصف نفسه، تقف عندما وصف به نفسه في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مثل له ولا شبيه ولا نظير، ولا يروِيَنَّ لنا أحد هذه الأحاديث: «إن الله خلق آدم على صورته» أو نحوها من الأحاديث، ولكن هو الله الذي لا إله إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفهما {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ولا يصفه بصفة، ولا يشبه به شيئا، فإنه تبارك وتعالى لا شبيه له، وأعظم مالك أن يحدث أحدا بهذه الأحاديث أو يرويها، وضعفه.
قال محمد بن رشد: قوله: لا ينبغي لأحد أن يصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسه في القرآن يريد، أو وصفه به رسوله في متواتر الآثار، واجتمعت الأمة على جواز وصفه به، وكذلك لا ينبغي عنده على قوله هذا أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو سماه به رسوله، أو اجتمعت الأمة عليه، والذي يدل على ذلك من مذهبه كراهيته في رسم الصلاة للرجل أن يدعو بيا سيدي، وقال: أحب إلي أن يدعوه بما في القرآن، وبما دعت به الأنبياء بيا رب، وكره الدعاء بيا حنان، وهذا هو قول أبي الحسن الأشعري، وذهب القاضي(16/400)
أبو بكر بن الباقلاني إلى أنه يجوز أن يسمى الله تعالى بكل ما يجوز في صفته مثل مسير وجليل وحنان وما أشبه ذلك ما لم يكن ذلك الجائز في صفته، مما اجتمعت الأمة على أن تسميته به، لا تجوز كعاقل وفقيه وسخي، وما أشبه ذلك.
وقوله: ولا يشبه يدي ربه بشيء ولا وجهه تبارك وتعالى بشيء، ولكن يقول له يدان كما وصف نفسه، وله وجه كما وصف نفسه، يقف عندما وصف به نفسه في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مثل ولا شبيه، ولا نظير قول صحيح بين لا اختلاف فيه بين أحد من أهل القبلة في أنه لا يجوز أن يشبه يديه ولا وجهه بشيء؛ إذ ليس كمثله شيء كما قال تعالى في محكم كتابه، ولا هو بذي جنس ولا جسم ولا صورة، ولا اختلاف بينهم أيضا في جواز إطلاق القول بأن لله يدين ووجها وعينين؛ لأن الله وصف بذلك نفسه بكتابه، فوجب إطلاق القول بذلك، والاعتقاد بأنها صفات ذاته من غير تكييف ولا تشبيه ولا تحديد؛ إذ لا يشبهه شيء من المخلوقات، هذا قول المحققين من المتكلمين، وتوقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس، وقالوا: لا يجوز أن يثبت في صفات الله ما لم يعلم بضرورة العقل ولا بدليله وتأولوها على غير ظاهرها، فقالوا: المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق، ووجه الأمر ذاته ونفسه، والمراد بالعينين إدراك المرئيات، والمراد باليدين النعمتين، وقَوْله تَعَالَى: {بِيَدَيَّ} [ص: 75] أي ليدي؛ لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى، وهو الذي قاله مالك في هذه الرواية.
وصفات ذات الباري تبارك وتعالى تنقسم على ثلاثة أقسام؛ قسم منها يعلم بالسمع ولا مجال للعقل فيه، وهي هذه الخمس صفات: الوجه، واليدان، والعينان، وقسم منها يعلم بالعقل، وإن ورد السماع بها؛ فإنما هو على معنى تأكيدها في العقل منها، ولو لم يرد بها سمع لاستغنى في معرفتها عنه بالعقل،(16/401)
وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة؛ لأن العلم بالنبوات، لا يعلم إلا بعد العلم بأنه حي عالم قادر مريد، ويستحيل وجود حي بلا حياة، وقادر بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وقسم منها يعلم بالسمع والعقل، فيصح العلم بالنبوات قبلها، ويصح العلم بها قبل النبوات، وهي السمع والبصر والكلام والإدراك؛ لأن الدليل قائم من العقل على أنه عز وجل سميع بصير مدرك، والسمع قد ورد بذلك، ويستحيل وجود سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، ومتكلم بلا كلام، ومدرك بلا إدراك.
وما تضمنته هذه الرواية من كراهية مالك لرواية هذه الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه، وإعظامه أن يحدث بها مثل ما روي من: الله خلق آدم على صورته؛ ونحوها من الأحاديث، فالمعنى من ذلك أنه كره أن تشاع روايتها، ويكثر التحدث بها، فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، وسبيلها إذا صحت الروايات بها أن تتأول على ما يصح مما ينتفي بها عن الله تشبيهه بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء من القرآن والسنن المتواترة والآثار مما يقتضي ظاهره التشبيه، وهو كثير؛ كالإتيان في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210] ، والمجيء في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ، والاستوا في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، والنظر في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] ، والتنزل في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يتنزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ... » الحديث، والنزول والضحك وما أشبه ذلك.(16/402)
والحديث في قوله: «إن الله خلق آدم على صورته» يروى على وجهين؛ أحدهما: «إن الله خلق آدم على صورته» . والثاني: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فأما الرواية: «إن الله خلق آدم على صورته» فلا خلاف بين أهل النقل في صحتها؛ لاشتهار نقلها، وانتشاره من غير منكر لها، ولا طاعن فيها، وأما الرواية: «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» فمن مصحح لها، ومن طاعن عليها، وأكثر أهل النقل على إنكار ذلك، وعلى أنه غلط وقع من طريق التأويل لبعض النقلة توهم أن الهاء ترجع إلى الله عز وجل، فنقل الحديث على ما توهم من معناه، فيحتمل أن يكون مالك أشار في هذه الرواية بقوله وضعفه إلى هذه الرواية، ويحتمل أن يكون إنما ضعف بعض ما تؤول عليه الحديث من التأويلات، وهي كثيرة.
منها أن الهاء من قوله: «إن الله خلق آدم على صورته؛» عائدة على رجل «مر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليه وأبوه أو مولاه يضرب وجهه لطما، ويقول له: قبح الله وجهه، فقال: إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته» وقد «روي أنه سمعه يقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فزجره النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن ذلك، وأعلمه بأنه قد سب آدم؛» لكونه مخلوقا على صفته ومن دونه من الأنبياء أيضا.
ومنها أن الكناية في قوله على صورته ترجع إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون معنى الحديث وفائدته الإعلام بأن الله لم يشوه خلقه حين أخرجه من الجنة بعصيانه كما فعل بالحية والطاووس اللذين أخرجهما منها، على ما روي من أنه سلب الحية قوائمها، وجعل أكلها من التراب، وشوه خلق الطاووس.
والثاني: أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الدهر الذين يقولون: لا إنسان إلا من النطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، ولا دجاجة إلا من بيضة، ولا بيضة(16/403)
إلا من دجاجة لا إلى أول.
والثالث: أن يكون معناه وفائدته إبطال قول أهل الطبائع والمنجمين الذين يزعمون أن الأشياء تولدت بتأثير العنصر والفلك والليل والنهار، فأعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بهذا الحديث أن الله خلق آدم على ما كان عليه من الصورة والتركيب والهيئة، لم يشاركه في ذلك فعل طبع ولا تأثير فلك، وخص آدم بالذكر تنبيها على سائر المخلوقات؛ لأنه أشرفها، فإذا كان الله هو المنفرد بخلقه دون مشاركة فعل طبع أو تأثير فلك، فولده ومن سواهم على حكمه كذلك.
وقد قيل في ذلك وجه رابع: وهو أن فائدة الحديث تكذيب القدرية فيما زعمت من أن صفات آدم منها ما خلقه الله تعالى، ومنها ما خلقها آدم لنفسه، فأخبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بتكذيبهم، وأن الله تعالى خلق آدم على جميع صورته وصفته ومعانيه وأعراضه، وهذا كما تقول: عرفني هذا الأمر على صورته إذا أردت أن يعرفكه على الاستيفاء والاستقصاء دون الاستبقاء.
وقد قيل فيه وجه خامس، وهو أن يكون معناه إشارة إلى ما يعتقده أهل السنة من أن الله خلق السعيد سعيدا، والشقي شقيا، وأن خلق آدم على ما علمه وأراد أن يكون عليه من أنه يعصي ويتوب، فيتوب الله عليه، ففي الحديث دليل على أن أحوال العبد تتغير على حسب ما يخلق عليه، وييسر له من الخير والشر، وأن كل شيء بقضاء وقدر.
وقد قيل: إن الكناية من قوله على صورته راجعة إلى بعض المشاهدين من الناس، وأن المعنى في ذلك والفائدة فيه هو الإعلام بأن صورة آدم كانت على هذه الصورة إبطالا لقول من زعم أنها كانت مباينة لخلق الناس على الحد الزائد الذي يخرج عن المعهود من متعارف خلق البشر؛ إذ لا يأتي ذلك من وجه صحيح يوثق به.(16/404)
ومنها أن الكناية في قوله على صورته راجعة إلى الله عز وجل، وهو أضعف التأويلات؛ لأن الأولى أن يرجع الضمير إلى أقرب مذكور، إلا أن يدل دليل على رجوعه إلى الأبعد، ولا دليل على ذلك إلا ما روي من الله عز وجل: «خلق آدم على صورة الرحمن» وقد ذكرنا أن بعض أهل النقل لا يصحح الرواية لذلك، وأن الراوي لها ساق الحديث على ما ظنه من معناه، وقد قال بعض الناس: إن ذلك لا يصح أيضا من طريق اللسان؛ لأن الاسم إذا تقدم فأعيد ذكره كني عنه بالهاء من غير أن يعاد الاسم، ألا ترى أنك تقول إذا أخبرت عن ضرب رجل لعبده: ضرب زيد غلامه، ولا تقول ضرب زيد غلام زيد؛ لأنك إذا قلت ضرب زيد غلام زيد يفهم من قولك: إنه لم يضرب غلامه؛ وإنما ضرب غلام رجل آخر اسمه زيد، وليس ذلك بصحيح؛ لأن القرآن قد جاء بذلك، قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] ولم يقل إلينا، فإنما يضعف الحديث من جهة النقل.
ومع ضعف رد الكناية من صورته إلى الله تعالى، فلها وجوه كثيرة محتملة ينتفي بها التشبيه عن الله تعالى.
منها أن يكون المراد بالصورة الصفة؛ لأن آدم موصوف بما يوصف الله به عز وجل من أنه حي عالم مريد سميع بصير متكلم، ولا يوجب مشاركته له في تسميته والوصف تشبهه به؛ لأن صفات الله تعالى قديمة غير مخلوقة، وصفات آدم محدثة مخلوقة، ويكون فائدة الحديث على هذا الإعلام بتشريف الله إياه بأن أبانه على سائر الجمادات والحيوانات.
ومنها أن يكون إضافة الصورة إليه إضافة تشريف وتخصيص؛ لأن الإضافة قد تكون بمعنى التشريف والتخصيص على طريق التنويه بذكر المضاف إذا خص بالإضافة إليه، وذلك نحو قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13] فإنها إضافة تشريف(16/405)
وتخصيص وتشريف تفيد التحذير والردع من التعرض لها، ومن ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] ، وقوله في المسلمين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ} [الفرقان: 63] إلى ما وصفهم به، وقول المسلمين للكعبة: بيت الله، وللمساجد: بيوت الله، فشرفت صورة آدم بإضافتها إلى الله عز وجل من أجل اختراعها وخلقها على غير مثال سبق، ثم بسائر وجوه الشرف التي خص بها آدم من فضائله المعلومة المشهورة، فالتشبيه منتف على الله تعالى بهذا الحديث على جميع الوجوه من إعادة الضمير في صورته إلى الله عز وجل، أو إلى آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أو إلى الذي خرج عليه الحديث على ما روي من أنه خرج على سبب، أو إلى بعض المشاهدين، والحمد لله رب العالمين.
وقد ذهب ابن ... إلى التمسك بظاهر الحديث، فقال: إن لله صورة لا كالصور، كما أنه شيء لا كالأشياء، فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها ليست كالصور، قال: إن الله تعالى خلق آدم على تلك الصورة، فتناقض في قوله، وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه، فهو خطأ من القول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه، وبالله التوفيق.
[: من أسر اليهودية أو النصرانية]
ومن كتاب أوله يدير ماله قال ابن القاسم: قال مالك: من أسَرَّ اليهودية أو النصرانية قتل ولم يستتب، قاله ابن القاسم، وقال ميراثه لورثته من المسلمين، ومن كفر برسول الله فأنكره من المسلمين فهو بمنزلة المرتد، ومن(16/406)
عبد شمسا أو قمرا أو حجرا أو غير ذلك، فأولئك يقتلون إذا ظهر عليهم لا يستتابتون إذا كانوا في ذلك مظهرين للإسلام مستسرين بما أخذوا عليه؛ لأن أولئك لا يعرف لهم توبة، ويرثهم في ذلك ورثتهم من المسلمين؛ لأنهم مقرون بالإسلام وبأحكامه، وهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهم على غير الإسلام؛ لأن النفاق الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان إسرار الكفر وإظهار الإسلام والاستخفاء به؛ لأن الله تعالى يقول: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] الآية، ولكن يستخفون بذلك، قال ابن القاسم: ويجوز وصاياهم وعتقهم؛ لأنهم يرثون، قال لي سحنون: سألت ابن نافع عن ميراث الزنديق والمرتد لمن ميراثهما؟ وهل سمعت في ذلك من مالك شيئا؟ فقال ابن نافع: نعم، سمعت مالكا يقول: ميراثهما للمسلمين يسن بأموالهما سنة دمائهما، قال سحنون: فأخبرت بذلك ابن عبد الحكم، فاستحسن روايته فيهما جدا، قال ابن القاسم: وكل من أعلن من أولئك دينه الذي هو عليه وأظهره واستمسك به حتى يقول: هو ديني فاقتلوني عليه أو اتركوني، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وميراثه للمسلمين كافة، ولا يورث بورثة الإسلام، وإنما هو بمنزلة المرتد عن دين الإسلام في جميع ذلك في الاستتابة والميراث، فكل من يستتاب فلم يتب، فلا يرثه ورثته من المسلمين؛ لأنه خرج عن الإسلام ولا يرثه ورثته من الكفار؛ لأنه لا يترك على ذلك الدين ويقتل عليه، وميراثه لجماعة المسلمين بمنزلة الفيء، ولا تجوز وصاياهم ولا عتقهم؛ لأنهم لا يرثون، إنما ميراثهم للمسلمين عامة، ولا(16/407)
يستتاب، فمن استسر دينا، فإن ورثتهم من المسلمين يرثونهم وتجوز وصاياهم وعتقهم.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب في أن ميراث المرتد لجماعة المسلمين مات في ردته، أو قتل عليها بعد الاستتابة، أو دون أن يستتاب على مذهب من لا يرى الاستتابة، وفي كتاب ابن سحنون، وقال أهل العراق: إذا قتل المرتد دفع ماله إلى ورثته من المسلمين، وذكر ذلك عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن المسيب، وقد ثبت في الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» ولا يتوارث أهل ملتين شيئا، وإن عليا لم يرث أبا طالب، وإنما ورثه عقيل وطالب، وأما حجتهم بابن المسيب، فقد روى عنه أهل العراق وأهل الحجاز أنه قال: نرث المشركين ولا يرثونا، وهذا خلاف ثم ناقضوا، فقالوا: إن مات له ولد في حال ارتداده لم يرث منه، ولا فرق بين ذلك، هذا نص ما وقع في كتاب ابن سحنون، فأما قوله: إذ لا حجة لهم في قول ابن المسيب فصحيح؛ لأن مذهبه على ما حكاه عنه أن المسلم يرث الكافر، وهم لا يقولون بذلك فقوله صحيح على أصله؛ لأنه إذا كان يرث عنده الكافر الذي يقر على كفره، فأحرى أن يرث المرتد الذي لا يقر على كفره، وأما ما ألزمهم من التناقض فلا يلزمهم؛ لأنهم لم يجهلوا ماله إذا قتل على ردته لورثته من أجل أنهم حكموا له بحكم الإسلام، فيلزمهم ما ألزمهم من أن يكون له ميراث ابنه، وإنما جعلوا ميراثه لورثته من المسلمين من أجل أنه على دين لم يقر عليه؛ لأنهم لم يحملوا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر؛» على عمومه في المرتد وغيره، بل رأوه مخصصا في الكافر الذي يقر على كفره.
ففي المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: قول مالك والشافعي أنه لا يرث المسلم الذمي ولا المرتد على عموم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» . والثاني: أنه يرث المسلم الذمي والمرتد، وهو قول سعيد بن المسيب، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، روي ذلك عن عمر بن الخطاب أنه(16/408)
قال: أهل الشرك نرثهم ولا يرثونا، والصحيح في الرواية أنه قال: أهل الشرك لا نرثهم، ولا يرثونا، ومن ذهب إلى هذا لم يبلغه الحديث، فقال: إن المسلم يرث الكافر، ولا يرث الكافر المسلم، قياسا على المسلم يتزوج الكافرة، ولا يتزوج الكافر المسلمة، ولا اختلاف في أن الكافر لا يرث المسلم. والقول الثالث: قول أهل العراق: إن المسلم يرث المرتد، ولا يرث الكافر الذي يقر على دينه.
وأما الزنديق ومن أسر الكفر فظهر عليه، فإنه يقتل ولا يستتاب ولا يقبل منه توبته، وإن تاب؛ إذ لا يصدق فيها ويكون ميراثه لورثته من المسلمين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول مالك في رواية ابن نافع عنه، واختيار ابن عبد الحكم.
ووجه قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القتل حد من الحدود يقام عليه بما شهد به عليه من الكفر، ولا يصدق في الرجوع عنه إلى الإسلام؛ إذ لم يكن مقرا بالارتداد، ومراعاة أيضا لقول من يرى أن المرتد يقتل وإن رجع إلى الإسلام على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من غير دينه، فاقتلوه» والميراث بخلاف ذلك؛ لأنه مسلم في ذلك في الظاهر، فلا يحرم الورثة ميراثه إلا بيقين ومراعاة لمن يقول: إن المسلم يرث الكافر بكل حال، فقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر من قول مالك في رواية ابن نافع عنه: يسن بأموالهما سنة دمائهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: استاتبة أهل الأهواء]
مسألة وأما أهل الأهواء الذين هم على الإسلام العارفين بالله، غير المنكرين له مثل القدرية والإباضية وما أشبههم ممن هو على غير ما عليه جماعة المسلمين، والتابعين لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من البدع والتحريف لكتاب الله وتأويله على غير تأويله، فأولئك يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه فذلك سواء؛ لأن إظهارهم ذلك(16/409)
إسرار، وإسرارهم إظهار، فهم يستتابون وإلا ضربت رقابهم لتحريفهم كتاب الله عز وجل، وخلافهم جماعة المسلمين والتابعين لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأصحابه بإحسان، وبهذا عملت أئمة الهدى، وعمر بن عبد العزيز - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قال: الرأي أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا عرضوا على السيف، وضربت أعناقهم، ومن قتل منهم على ذلك، فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون إلا أنهم قتلوا لرأي السوء.
وسئل سحنون عن قول مالك في أهل البدع الإباضية والقدرية وجميع أهل الأهواء: إنه لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك، وأرى أن يصلى عليهم، ولا يتركوا بغير صلاة لذنب ارتكبوه، ومن قال: لا يصلى عليهم فقد كفرهم، وقد جاء الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تكفروهم بذنوبهم، وإنما قال مالك: لا يصلى على موتاهم تأديبا لهم، ونحن نقول ذلك على وجه التأديب لهم، فأما إذا بقوا وليس يوجد من يصلي عليهم، فليس يتركون بغير صلاة، وليصلى عليهم، قيل له: فأهل البدع أيستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما قال مالك؟ قال: أما من كان بين أظهرنا، وفي جماعة أهل السنة، فإنه لا يقتل، وإنما الشأن فيه أن يضرب مرة بعد أخرى، ويحبس وينهى الناس عنه أن يجالسوه، وأن يسلموا عليه تأديبا له، ولا يبلغ به القتل، ألا ترى أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب صبيغا؟ ضربه بجريد وحبسه حتى إذا كادت أن تبرأ الجراح ضربه وحبسه إذا كادت أن تبرأ ضربه وحبسه، ثم قال له صبيغ: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد دواء، فقد بلغت مني الدواء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز علي، فخلى عمر عنه، ونهى الناس أن يجالسوه، فيفعل فيمن كان بين(16/410)
أظهر الجماعة مثل ما فعل عمر بصبيغ ولا يقتل.
فأما من كان من أهل البدع، قد بان عن الجماعة، وصاروا يدعون إلى ما هم عليه، ومنعوا فريضة من الفرائض كان على الإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا قتلوا، ألا ترى أن أبا بكر الصديق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - استتابهم، قال أبو بكر: لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجاهدتهم عليه، فجاهدهم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأمر بجهادهم، وقتلوا على تلك البدعة، فهذا يبين لك جميع ما سألت عنه من أمر أهل البدع، وقد مضت فيهم سنة عمر بن الخطاب فيمن كان بين أظهر الجماعة، وعن أبي بكر الصديق فيمن كان بان عن الدار، ومنع فريضة، ودعا إلى ما هم عليه.
فقيل له: فهؤلاء الذين قتلهم الإمام من أهل الأهواء لما بانوا عن الجماعة ودعوا إلى ما هم عليه، ونصبوا الحرب هل يصلى على قتلاهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التي استوجبوا بها القتل تترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن الزاني المحصن قد وجب عليه القتل بذنبه، والمحارب والقاتل عمدا قد استوجبوا القتل، فإذا قتلوا لم تترك الصلاة عليهم، وليس بذنوبهم التي ارتكبوها واستوجبوا بها للقتل تخرجهم من الأحكام، وأرى أن يصلى عليهم كما يصلى على أهل الإسلام والبدع.
قلت: فما تقول في إعادة الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا يعيد من صلى خلفهم، قيل: لا في الوقت ولا بعد الوقت؟ قال: لا في الوقت، ولا بعد الوقت، وكذلك يقول أصحاب مالك: أشهب، والمغيرة، وابن كنانة وغيرهم، أنها لا تعاد الصلاة خلفهم، وإنما يعيد من صلى خلف نصراني، وإن هذا مسلم، وليس ذنبه يخرجه عن الإسلام،(16/411)
فلما يجوز صلاته لنفسه، فكذلك تجوز لمن صلى خلفه، والنصراني لا تجوز صلاته لنفسه، فكذلك لا تجوز لمن صلى خلفه، وقد أنزله من يقول: إنه يعيد خلفه في الوقت وبعد الوقت بمنزلة النصراني، وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون جماعة المسلمين بالذنوب من القول، وأخبرني ابن وهب عن أسامة بن زيد، عن أبي سهيل بن مالك: أن عمر بن عبد العزيز قال له: ما الحكم في هؤلاء القدرية؟ قال: قلت: يستتابون، فإن تابوا قبل منهم، وإن لم يتوبوا قتلوا على وجه البغي.
وأخبرني ابن وهب، عن مسلمة بن علي، عن الأوزاعي أنه قال في الحروراء: إذا خرجوا فسفكوا الدماء فقتلهم حلال، قال ابن وهب: سمعت الليث يقول ذلك، وأخبرني ابن وهب، عن محمد بن عمرو، عن ابن جريج، عن عبد الكريم: أن الحروراء خرجوا فنازعوا عليا، وفارقوه وشهدوا عليه بالشرك، فلم يبحهم، ثم خرجوا إلى حروراء فأتى علي بن أبي طالب، فأخبر أنهم يتجهزون من الكوفة، فقال: دعوهم ثم خرجوا فنزلوا بالنهروان، فمكثوا به شهرا فقيل له: أغزهم، فقال: لا حتى يهريقوا الدماء ويقطعوا السبيل، ويخيفوا الآمن، فلم يهاجمهم حتى قتلوا، فغزاهم فقتلوا.
قال الإمام القاضي قوله: وأما أهل الأهواء الذين هم على الإسلام العارفين، فهم غير المنكرين له مثل القدرية والإباضية إلى آخر قوله، فمن قتل منهم على ذلك فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون إلا أنهم إنما قتلوا الدائهم السوء يدل على أنه إنما يقتلون عنده إذا أبوا أن يتوبوا على ذنب لا على كفر،(16/412)
والمعنى في ذلك أنه عنده كفر، إلا أنه لما اعتقده على سبيل التأويل والفرار من الكفر حصل الرجاء لهم من الله في أن يتجاوزه عنهم، فأشبه في ذلك الذنب، وإن كان عنده في الحقيقة كفر يجب عليه به من الخلود في النار ما يجب على الكفار، فالفرق بينهم وبين الكفار أنه لا يقطع بخلودهم في النار كما يقطع بخلود الكفار فيه، ومن لا يكفرهم باعتقادهم يقول: إن ذلك ذنب من الذنوب، لا يجب عليهم به الخلود في النار، ولا يجب قتلهم إن استتيبوا فأبوا، إلا أن يبينوا بدراهم، ويدعوا إلى بدعتهم، ويمنعوا فريضة من الفرائض، أو يسفكوا الدماء، ويخيفوا السبيل على ما قاله سحنون، وحكى أنه قول جماعة أصحاب مالك، وهذا في مثل القدرية والإباضية والمعتزلة وشبههم؛ إذ من أهل الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أنه كفر كالذي يقول: إن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب وما أشبه ذلك، ومنه ما هو خفيف لا يختلف في أنه ليس بكفر كالذي يقول: إن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر، وما أشبه ذلك، وقد مضى هذا التفصيل من قولنا في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي غير ما موضع، وسيأتي بيانه أيضا في هذا الرسم بعد هذا، فالكفار يقطع على خلودهم في النار، والقدرية والإباضية والمعتزلة وشبههم من أهل الأهواء لا يقطع بخلودهم فيه، وأهل الأهواء يقطع على أنهم لا يخلدون في النار كالمصرين على الذنوب.
[مسألة: سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه]
مسألة قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: ومن سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو شتمه أو أعابه أو نقصه، فإن كان مسلما قتل ولم يستتب، وميراثه لجماعة المسلمين، وذلك لأن المسلم الذي يدعي الإسلام، ويشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة الزنديق الذي لا تعرف له توبة، فلذلك لا يستتاب؛ لأنه يتوب بلسانه، ويراجع ذلك في قلبه، فلا يعرف له توبة، وأما إذا كان نصرانيا؛ فإنه يقتل إلا(16/413)
أن يسلم؛ لأنه ليس على ذلك عوهد، ولا نعمت عين على شتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو يقتل صاغرا قميئا إلا أن يسلم، فيكون الإسلام توبته، ونزوعا منه عما كان يقول، ومتصلا منه، وليس يقال له: أسلم أو لا تسلم، ولكن يقتل إلا أن يسلم، وكذلك قال لي مالك، قال العتبي: وبلغني عن مالك أنه قال: من السباب سب يجب القتل عليه، ومنه ما لا يجب القتل عليه، وأما قول الذمي من النصراني أو اليهودي: إن محمدا لم يرسل إلينا، وإنما أرسل إليكم، وإنما نبينا عيسى وموسى، وهو أرسل إلينا، وهو نبينا، وما أشبهه، فليس عليهم في ذلك شيء؛ لأن الله تعالى يقول: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية، فأما إن سبوه فيقولون: ليس بنبي، ولم يرسل، ولم ينزل عليه شيء من القرآن، وإنما هو شيء تقولونه، فالقتل على من قال ذلك واجب لا شك فيه، والمسلم إذا قال في النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شبه ذلك، فالقتل عليه أيضا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، وقد تقدم في رسم شهد، من سماع عيسى نحو هذا مما يبين بعضه بعضا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أظهر النبوة في نفسه ودعا إليها]
مسألة قال عيسى: قال ابن القاسم: وأما من تنبأ فإنه يستتاب، فقلت له: أسر ذلك أو أعلنه؟ فقال: وكيف يسر ذلك؟ قلت: يدعو إليه في السر، قال: إذا دعا إليه فقد أعلنه، وليس للإسرار في ذلك وجه،(16/414)
وإن إسرار ذلك إظهاره وعلانيته، وإنه يستتاب في ذلك كله، وميراثه لجميع المسلمين؛ لأنه بمنزلة المرتد؛ لأن من أظهر النبوة في نفسه ودعا إليها فقد كذب بما أنزل على محمد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، والصواب أن يفرق فيها بين الإسرار والإعلان، وأن يكون حكمه إذا دعا إلى ذلك في السر، وجحد في العلانية حكم الزنديق، لا تقبل له توبة إذا حضرته البينة، وهو منكر للشهادة عليه بذلك، وهو قول أشهب فيمن تنبأ من أهل الذمة، وزعم أنه رسول إلينا، وأن بعد نبينا نبي أنه إن كان معلنا استتيب إلى الإسلام، فإن تاب وإلا قتل سأل ابن عبد الحكم عن ذلك أشهب لسحنون، إذ كتب إليه أن يسأله له عن ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: سب أحدا من الأنبياء والرسل]
مسألة
قال: ومن سب أحدا من الأنبياء والرسل، أو جحد ما أنزل عليه، أو جحد منهم أحدا، أو حجد ما جاء به فهو بمنزلة من سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصنع فيه ما يصنع فيه هو؛ لأن الله تعالى يقول: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، وقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] الآية، ثم قال تعالى على إثرها: {فَإِنْ آمَنُوا} [البقرة: 137] الآية، وقال في النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] الآية، ففي هذا كله بيان.(16/415)
قال محمد بن رشد: أما من جحد ما نزل على نبي من الأنبياء مثل أن يقول: إن الله لم ينزل التوراة! على موسى بن عمران، أو الإنجيل على عيسى ابن مريم، أو جحد نبوة أحد منهم فقال: إنه لم يكن بنبي، فإنه كفر صريح إن أعلنه استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وإن أسره حتى ظهر عليه قتل، ولم يستتب؛ لأنه حكمه، وحكم من سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أحد من الأنبياء يقتل بلا استتابة.
فقوله في الرواية، ومن سب أحدا من الأنبياء والرسل أو جحد ما أنزل إليه، أو جحد منهم أو جحد ما جاء به، فهو بمنزلة من سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع فيها ما يصنع فيه سواء، معناه في الذي جحد النبي، أو ما أنزل إليه مستسرا بذلك فعثر عليه، وأما إن كان معلنا بذلك غير مستسر به، فالحكم فيه أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل بسب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أو أحد من الأنبياء، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعراب قطعوا الطريق]
مسألة وسئل ابن القاسم عن اللص يولي مدبرا أيتبع؟ فقال: إن كان قتل فنعم يتبع ويقتل، وإن لم يكن قتل، فلا يعجبني أن يتبع ولا يقتل، قال: والأسير من اللصوص يستتاب، وإلا قتل، وإن يبلغ به الإمام، وهو رأي مالك إذا كان قد استوجب القتل قتل، قلت لابن القاسم: قل يستوجب القتل وإن لم يقتل؟ قال: ذلك أشكل، ولا يقتله إلا الإمام إذا اجتهد الرأي، قلت له: أرأيت إن كان بعضهم قتل؟ فقال: إذا قتل واحد منهم، فقد استوجبوا القتل جميعا، لو خرج مائة ألف فقتل واحد منهم قتلوا كلهم، وسئل سحنون عن اللصوص إذا ولوا أيتبعوا؟ فقال: نعم، يتبعون لو بلغوا برك الغماد، قيل لسحنون: فلو أن لصا أو محاربا عرض لي فجرحته، أو ضربته بشيء فأسقطته،(16/416)
أترى أن أجهز عليه؟ فقال: نعم، فأعلمته بقول ابن القاسم أنه يجهز عليه فلم يره شيئا، وقال: قد حل حين عرض ونصب الحرب وقطع الطريق وأخاف السبيل.
قال محمد بن رشد: جهاد المحاربين عند مالك وجميع أصحابه جهاد، قال أشهب عنه: من أفضل الجهاد وأعظمه أجرا، وقال مالك في أعراب قطعوا الطريق: إن جهادهم أحب إلي من جهاد الروم، وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ومن قتل دون ماله فهو شهيد» فمن قتل دون ماله ومال المسلمين فهو أعظم لأجره، واستحب أن يدعو إلى التقوى والكف، فإن أبوا قوتلوا، وإن عاجلوا قوتلوا، وأن يعطوا الشيء اليسير إذا طلبوا مثل الثوب والطعام وما خف، ولا يقاتلوا، ولم ير سحنون أن يعطوا شيئا، وإن قل، ولا أن يدعوا وقال: هذا أوهن يدخل عليهم، وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف، فهو أكثر لهم وأقطع لطمعهم، ذهب في ذلك كله مذهب ابن الماجشون، وقول مالك أحسن، والله أعلم.
واختلف إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل: له الأمان له، وقيل: لا أمان له، ويقام عليه حد الحرابة، إنما يؤمن المشرك على أن يؤدي الجزية، ويكون على الذمة، وتأمين المحارب إنما هو على أن يعطل حدود الله تعالى في إقامة الحد عليه، وكره ابن القاسم في هذه الرواية أن يتبع اللص إذا ولى مدبرا فيقتل، إلا أن يكون قد قتل، وأن يجهز عليه إذا جرح، ولم يكن قتل، وأجاز ذلك كله سحنون، بل استحسنه، ومعنى ذلك إذا ولى هاربا وأمن رجوعه، وأما إن لم يؤمن رجوعه فلا اختلاف في أنه يتبع ويقتل، وما ذهب إليه سحنون هو القياس، وقول ابن القاسم استحسان.
ولا اختلاف في أنه إذا قتل واحد منهم فقد استوجبوا القتل كلهم.
ولا في أن كل واحد منهم ضامن لجميع ما أخذوا من المال، يتبع من وجد(16/417)
منهم بذلك في ذمته إن لم يكن له مال، إن كان لم يقم عليه حد الحرابة، وإن كان أقيم عليه حد الحرابة، ولم يوجد عنده المال بعينه، فلا يتبع به إذا وفره متصلا، حكمه في ذلك حكم السارق سواء.
والآية في قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة: 33] الآية عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - على التخيير لا على الترتيب، والإمام مخير عنده في المحارب إذا أخاف السبل، ولم يأخذ مالا، ولم يقتل بين أن يقتله وأن يصلبه أو يقطعه بخلاف، أو يجلده أو ينفيه، وليس معنى تخييره في ذلك أن يعمل فيه بالهوى، وإنما معناه أن يتخير من العقوبات التي جعلها الله جزاءه ما يرى أنه أقرب إلى الله، وأولى بالصواب، فكم من محارب لم يقتل هو أضر على المسلمين ممن قتل في تدبيره وتأليبه على قطع طرق المسلمين، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد فيه قتله وصلبه؛ لأن القطع لا يدفع ضرره عن المسلمين، وإن كان ممن لا رأي له، ولا تدبير، وإنما يخوف ويقطع السبيل بذاته، وقوة جسمه قطعه من خلاف ولم يقتله؛ لأن ذلك يقطع ضرره عن المسلمين، وإن لم يكن على هذه الصفة، وأخذ بحضرة خروجه أخذ فيه بأيسر ذلك، وهو الضرب والسجن.
وإن قتل فلا بد من قتله، ويخير بالاجتهاد بين صلبه أو قتله، وإن لم يقتل وأخذ المال، فلا تخيير للإمام في نفيه، وإنما يخير الإمام بالاجتهاد بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، ومعنى ما وقع في المدونة من أن من نصب نصبا شديدا، وعلا أمره، وطال زمانه قتله الإمام، ولم يكن له في ذلك خيار، معناه أن هذا هو الذي ينبغي للإمام أن يختاره، ويأخذ به في مثل هذا، فلا يكون قوله على هذا التأويل خلافا لمذهبه في أن الآية عنده على التخيير.
ويروى برك الغماد بكسر الغين، وبرك الغماد بضمها، وكذلك وقع في الدلائل في حديث أبي بكر أنه خرج مهاجرا قبل أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد، وذكر الحديث، وبالله التوفيق.(16/418)
[مسألة: يقول وهو مغضب لا صلى الله على من صلى عليه]
مسألة ولابن لبابة قال: حدثني عبد الأعلى، عن أصبغ في الرجل يكون له على الرجل دين، فيلزمه حتى يغضب، فيقول له الغريم: صل على محمد، فيقول صاحب الدين وهو مغضب: لا صلى الله على من صلى عليه، هل ترى على هذا القتل، وتراه كمن شتم النبي، وشتم الملائكة الذين يصلون عليه؟ فقال: لا، إذا كان على ما وصفت على وجه الغضب؛ لأنه لم يكن مضمرا على الشتم، وإنما لفظ بهذا على وجه الغضب، ولا يكون عليه القتل.
قال محمد بن رشد: سقطت هذه المسألة من بعض الروايات، ووقعت في بعض الروايات من قول سحنون، قيل له: أرأيت، وكذلك ذكرها ابن أبي زيد في النوادر على أنها من كلام سحنون، وأنها من أصل المستخرجة، ووصل بها قال يحيى وأبو إسحاق البرقي: لا يقتل لأنه شتم الناس، وذهب الحارث وغيره في مثل هذا إلى القتل، وقوله: لا صلى الله على من صلى عليه؛ يحتمل أن يريد به لا صلى الله على من يصلي عليه، فمن حمله على ذلك بدليل قوله صلى عليه؛ لأن قوله: لا صلى الله على من صلى عليه، خرج جوابا عليه لم ير عليه القتل؛ لأنه إنما شتم الناس كما قال أصبغ، وأبو إسحاق البرني، فيما حكى عنهما ابن أبي زيد، ويحمل أن يؤيد بقوله: لا صلى الله على من صلى عليه، ولا صلى الله على من قد صلى عليه، وعلى ذلك حمله الحارث وغيره، فلذلك رأوا عليه القتل ولم يعذره واحد منهم بالغضب كما عذره به أصبغ في الرواية، فلم ير عليه القتل، ويأتي على مذهبه أن عليه الأدب، وكذلك يجب الأدب عليه أيضا على مذهب من يرى أنه إنما شتم الناس؛ لأن في شتم من يصلي على النبي من الناس سبب من الإخلال بحقه، وبالله التوفيق.(16/419)
[مسألة: حكم من شتم نبيا]
مسألة وكل من شتم نبيا قتل، قلت: فإن تاب عن الشتم، وقال: أتوب إلى الله، وأكون كمن أسلم الساعة ولا أعود؟ قال: لا توبة إلا لمن كان نصرانيا، قلت: فإن شتم نبيا غير النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شتم نبيا غيره موسى أو هارون أو عيسى، أو أحدا من الأنبياء؟ قال: عليه القتل، قلت: فإن شتم ملكا من الملائكة؟ قال: عليه القتل.
قلت: فإن شتم أحدا من أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا أو معاوية أو عمرو بن العاص؟ فقال: أما إذا شتمهم، وقال: إنهم كانوا على كفر وضلال قتل، وإن شتمهم بغير هذا كما يشتم الناس رأيت أن ينكل نكالا شديدا.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا إشكال فيه، وقد مضى نحوه في هذا الرسم، وفي رسم شهد، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جبريل أخطأ في الوحي]
مسألة قلت: فإن قال: إن جبريل أخطأ في الوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب إلا أن جبريل أخطأ بالوحي هل يستتاب، أم يقتل ولا يستتاب؟ قال: يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قال محمد بن رشد: هذا من البدع التي هي كفر صريح، فلا يختلف في أن من قال ذلك كافر، فلا يستتاب إلا إذا كان معلنا بذلك، وأما إذا كان مستسرا به، فهو بمنزلة الزنديق يقتل بلا استتابة، بخلاف أهل البدع مثل القدرية والمعتزلة وشبههم، الذين يستتابون أسررا بدعتهم أو أعلنوا بها، فإن تابوا لم يكن عليهم شيء، وإن لم يتوبوا قتلوا على مذهب من يكفرهم بما لقولهم، وضربوا أبدا على مذهب من مر أنهم لا يكفرون بما لقولهم حتى يتوبوا حسبما مضى فوق هذا في هذا الرسم، وبالله التوفيق.(16/420)
[مسألة: زعم أنه نبي يوحى إليه هل يستتاب]
مسألة قلت: فلو أن رجلا تنبأ، وزعم أنه نبي يوحى إليه هل يستتاب؟ قال: نعم، يستتاب فإن تاب من ذلك وإلا قتل.
قال محمد بن رشد: لم يقل هاهنا: إنه يستتاب على ذلك إن استسر به، ودعا إليه في السر كما قال قبل هذا، والصواب أن يحمل قوله هاهنا على أنه أعلن بذلك، ولذلك رأى أن يستتاب، بخلاف إذا دعا إلى ذلك بالسر حسبما ذكرناه فوق هذا من أنه هو القياس.
[مسألة: قول عند العجب بالشيء صلى الله على محمد]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت الرجل يقول عند العجب بالشيء صلى الله على محمد النبي وسلم هل يكره ذلك؟ قال: نعم، مكروه، ولا يجوز أن يصلي على النبي إلا في موضع الاحتساب، ورجاء ثواب الله عز وجل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه، وبالله التوفيق.
[: المرتد عن الإسلام يقتل مسلما أو نصرانيا أو عبدا خطأ أو عمدا]
ومن كتاب العتق قال: وقال مالك في المرتد عن الإسلام يقتل مسلما أو نصرانيا أو عبدا خطأ أو عمدا، أو يجرح بعضهم، أو يسرق، قال: لا يستتاب، فإن لم يرجع للإسلام قتل، فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه إلا الفرية، وإن راجع الإسلام اليم عليه ما يقام عن المسلمين فيما وصفت كله، إن كان خطأ حملته العاقلة عنه إن كان مما(16/421)
تحمل، وإن كان عمدا أقيم ذلك عليه، واقتص منه إن كان الذي أصاب به مسلما، وإن كان نصرانيا حكم بينهما بما يحكم به بين المسلم والنصراني في جميع الأشياء، وكذلك إن قذف أو سرق، [وكل ما كان منه في الارتداد فهو بمنزلة ما كان منه] قبل الارتداد إذا راجع الإسلام.
وإن قذفه رجل في ارتداده، فلا حد على القاذف رجع المرتد إلى الإسلام، أو قتل على ارتداده إن كان إنما قذفه في ارتداده، وإن كان إنما قذفه قبل ارتداده، فإن رجع إلى الإسلام أخذ له بحده، وإن قتل على ارتداده فلا حد له.
وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية.
وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه، فيكون ارتداده تطلقه بائنة.
قال محمد بن رشد: قوله فإن لم يراجع الإسلام قتل فكان القتل يأتي على جميع ما كان منه يريد ويؤخذ من ماله قيمة العبد الذي قتل؛ لأنه إنما سقط عنه بقتله على الارتداد ما كان في بدنه من القصاص في الجرح والقطع في السرقة، ولا يكون ذلك في ماله على قياس قول سحنون الذي يرى أنه محجور عليه في ماله بنفس الارتداد، وإلى هذا ذهب الفضل، وأما جناياته الخطأ التي تحملها العاقلة فاستحسن أصبغ أن يعقلها عنه المسلمون؛ لأنهم يرثون ماله.
وأما قوله: إنه إن راجع الإسلام أقيم عليه ما يقام على المسلمين فيما(16/422)
وصفت كله إلى آخر قوله فهو مثل ما تقدم في رسم لم يدرك من سماع عيسى على قياس القول بأن ما جنى المرتد في حال ارتداده ثم أسلم ينظر فيه إلى حاله يوم الحكم في القود والدية، وقد روى عن ابن القاسم أنه إنما ينظر إلى حاله في ذلك يوم الفعل، لا يوم الحكم، فيقتل بمن قتل مسلما كان أو نصرانيا؛ لأنه كان كافرا يوم الفعل، والكافر يقتل بالكافر والمسلم، وعلى هذا يأتي ما قاله في رسم الصلاة من سماع يحيى بعدها: إنه إن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين؛ لأنهم هم كانوا ورثته يوم الجناية، ولا عاقلة له يومئذ، وقد روى عن سحنون مثل هذا القول وروى عنه أيضا أن دية ما قتل خطأ تكون في ماله؛ إذ لا عاقلة له يومئذ، وهو على خلاف أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداده.
يتحصل في دية من قتل المرتد خطأ إذا أسلم ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك على عاقلته. والثاني: أن ذلك على جماعة المسلمين. والثالث: أن ذلك في ماله، وفي المسألة قول رابع، روي عن أشهب أن ديته على أهل الدين الذي ارتد إليه.
قال أشهب: ولو جنى معاهد على أحد خطأ كانت الدية في ماله، بخلاف الأول، وقع ذلك من قوله في النوادر.
وأما ما جنى خطأ قبل أن يرتد، فإن راجع الإسلام كانت جنايته على العاقلة قولا واحدا، وأما إن قتل على ردته فيتخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أن ذلك على العاقلة؛ لأنه يوم جنى كانت له عاقلة. والثاني: أنها على جماعة المسلمين؛ لأنهم هم ورثته.
وقوله: إن قذفه أحد قبل ارتداده أخذ له بحده إن راجع الإسلام بخلاف إذا قذفه أحد وهو مرتد، هو خلاف ما في المدونة من أنه إذا قذفه وهو مسلم ثم ارتد فهو بمنزلة إذا قذفه وهو مرتد لا يحد إن راجع الإسلام، وعلى هذا(16/423)
الاختلاف يأتي ما قاله سحنون في كتاب ابنه: لو أن رجلا مسلما جنى على مسلم، ثم ارتد المجني عليه عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام، فإن فيه تنازعا بين أصحابنا، ففي قول أشهب: إن لورثته أن يقسموا ويقتلوا الجاني، وفي قول غيره: إن أحبوا أن يقتصوا من الجرح فذلك لهم، وإن أحبوا أن يقسموا ويقتلوا فليس ذلك لهم؛ لأن القصاص قد امتنع بارتداده، وإن أحبوا أن يقسموا ويأخذوا الدية فذلك لهم، فما حكى سحنون عن أشهب يأتي على قياس قول ابن القاسم في هذه الرواية، وما حكى عن غيره ينحو إلى ما في المدونة؛ لأنه جعل ارتداد المجني عليه شبهة يسقط بها القصاص بالقسامة عن الجاني كما يسقط الحد في القذف عن القاذف، وكان القياس على ما في المدونة، ألا يكون لهم أرش الجرح كما لو جرحه وهو مرتد.
وأما قوله: وإن كان حج قبل ارتداده كان عليه أن يحج حج الإسلام ثانية، فهو مثل قوله في النكاح الثالث من المدونة؛ لأن الأعمال تحبط بنفس الكفر، وإن راجع الإسلام على ظاهر قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] .
وقد قيل: إن الأعمال لا تحبط بالكفر إلا مع شرط الموافاة؛ بدليل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} [البقرة: 217] الآية، وهو قول ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية، من كتاب الوضوء؛ لأنه استحب لمن توضأ ثم ارتد، فراجع الإسلام أن يعيد الوضوء ولم يوجب ذلك، وقد زدنا هذه المسألة هناك بيانا، ولهذا الاختلاف أشار في المدونة بقوله: وهذا أحسن ما سمعت [فأسمعت] ، وقال فيها على قياس قوله: إن الحج لا يجزيه أنه لا يلزمه قضاء ما ضيع من الفرائض، وبدليل قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وأوجب أصبغ عليه قضاء ما صنع من(16/424)
الفرائض، وخالفه في ذلك ابن حبيب، وقال فيه وفي الحج كقول ابن القاسم: إنه لا يجزئ الحج ولا يجب عليه قضاء ما ترك وضيع من الفرائض.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يجزيه ما ضيع من الفرائض، ولا يلزمه قضاء ما ترك منها، وهو قوله في المدونة، واختيار ابن حبيب. والثاني: أنه يجزيه ما ضيع ويلزمه قضاء ما ترك وضيع، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في سماع موسى من كتاب الوضوء. والثالث: تفرقة أصبغ بين الوجهين، فلا يجزيه الحج، ويلزمه قضاء ما ضيع، ووجه هذه التفرقة الاحتياط والاسحتسان مراعاة للخلاف.
ومذهب ابن القاسم في ذلك أن الردة تسقط الأيمان بالطلاق وبالعتق وبالظهار، والإحصان لو تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم ارتد أو ارتدت، ثم راجعا الإسلام قريبا بعد الإسلام لم يرجما، فكذلك على مذهبه لو طلقت امرأة ثلاثا، فتزوجها زوج ودخل بها، ثم ارتدت ثم أسلمت، لم تحل لزوجها الذي طلقها ثلاثا حتى تتزوج بعد الردة؛ ولا يسقط الطلاق ولا العتق إذا وقعا بيمين أو بغير يمين، لو طلق رجل امرأة ثلاثا بيمين أو بغير يمين، ثم ارتد ثم تاب لم تحل له إلا بعد زوج، وقال إسماعيل القاضي: إنها تحل له قبل زوج، وهو مذهب أبي حنيفة أن الردة تسقط حد الزنا وشرب الخمر، ولا تسقط حد السرقة، ولا حد القذف.
وقال أصبغ، واختاره ابن حبيب: إنها لا تسقط شيئا من الحدود كما لا تسقط الطلاق ولا العتق ولا اليمين؛ لأنه يتهم على أن يرتد في الظاهر ليسقط ذلك عنه.
واختلف على مذهب ابن القاسم في الظهار، فقيل: إنه يسقط عنه بالارتداد، حنث فيه بالوطء أو لم يحنث على ظاهر ما في المدونة، وقيل: إنه إن حنث سقطت عنه الكفارة بالارتداد، وإن لم يحنث فيه لزمه ولم يسقط عنه.
ولا اختلاف في أنه لا يسقط بارتداده تحصين من حصنه من النساء، ولا(16/425)
تحليل من حلله منهن، مثل أن يتزوج امرأة ثم يرتد وتزني هي، أو يتزوج امرأة مطلقة ثلاثا فيحلها لزوجها ثم يرتد، أن تحليله إياها لزوجها لا يسقط.
وأما قوله: وإن كانت له امرأة حين ارتد لم يرجع إليها إلا بنكاح جديد بعد إسلامه يكون ارتداده تطليقة بائنة، فمثله في المدونة، وقد روي عن مالك أن ارتداده طلقة رجعية يكون أحق بها إن أسلم في عدتها، وقع ذلك في بعض الروايات من كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وقد روى ذلك عن سحنون في ارتداد الزوجة، وفي الثمانية لابن الماجشون أنه فسخ بغير طلاق.
فيتحصل في ارتداده أحد الزوجين ثلاثة أقوال، وسنذكر هذا في رسم الأقضية، من سماع يحيى بعد هذا، وأصبغ يفرق بين أن تكون زوجته مسلمة أو ذمية فيقول: إنه إن كانت زوجته نصرانية فارتد إلى النصرانية؛ أنه يكون أحق بها إن أسلم، وكذلك إن كانت يهودية فارتد إلى اليهودية تكون زوجته إذا أسلم، وبالله التوفيق.
[: نصراني صلى بقوم من المسلمين وهم لا يعلمون]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الصلاة قال يحيى: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول في النصراني يصحب القوم فيصلي بهم أياما، ثم يتبين لهم أمره: إنهم يعيدون كل صلاة صلاها بهم في الوقت وفي غيره، قيل لمالك: أفيقتل بما أظهر من الإسلام عليه، ومن إخفاء الكفر؟ قال: لا أرى ذلك عليه.
وسئل سحنون عن نصراني صلى بقوم من المسلمين وهم لا يعلمون، ثم تبين أنه نصراني، فقال: إن كان النصراني إنما كان في موضع يخاف فيه، فدارى بذلك على نفسه وعلى ماله، فلا سبيل إليه، ويعيد القوم صلاتهم، وإن كان في موضع يكون فيه آمنا، فإنه يعرض عليه(16/426)
الإسلام، فإن أسلم لم يكن على القوم إعادة وصلاتهم تامة، وإن لم يسلم ضربت عنقه وأعاد القوم صلاتهم.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية: إنه لا يقتل بما أظهر من صلواته ظاهره، وإن كان في موضع هو فيه آمن على نفسه، ووجه ذلك أنه رأى صلاته بهم مجونا وعبثا، فيجب عليه بذلك الأدب المؤلم ولا يقتل، وفي الواضحة لمطرف وابن الماجشون مثل قول ابن القاسم في الإعادة أبدا، وقالا: إن ذلك منه إسلام، ولا حجة له إن قال: لم أرد به الإسلام، وسواء على قولهما كان في موضع هو فيه آمن على نفسه، أو في موضع يخاف فيه على نفسه، فدارى بذلك عليها مثل قول أشهب في رسم الأقضية بعد هذا من هذا السماع، وتفرقة من قول ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى، وبين قوله وقول ابن وهب، وفرق سحنون بين أن يكون في موضع هو فيه آمن على نفسه، أو في موضع يخاف فيه على نفسه في هل يعد ذلك منه إسلاما يقتل على الخروج منه إن لم يعد إليه، هو أظهر الأقوال في هذه المسألة على ما تقدم في رسم الأقضية من هذا السماع بعد هذا، وأما تفرقة سحنون في إيجاب إعادة الصلاة على القوم إذا كان في موضع هو فيه آمن على نفسه بين أن يجيب إلى الإسلام أو لا يجيب فهو استحسان، ووجهها أنه إذا لم يجب إلى الإسلام اتهمه فيما أظهر من إسلامه بصلواته، وإذا أجاب إليه لم يتهمه عليه، والقياس إذا عدت صلاته بهم إسلاما يستتاب عليه إن رجع عنه، ألا يجب على القوم إعادة صلاتهم، أجاب إلى الإسلام أو لم يجب.
[مسألة: المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلا]
مسألة قال يحيى: قال ابن القاسم في المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام ثم قتل رجلا: أقيد منه، والعفو للأولياء في ذلك مثله لهم في غيره، وإن ارتد ولحق بدار الشرك، فعدى على رجل من(16/427)
المسلمين فقتله، وكان فيمن يخرج على المسلمين من العدو وفر، ثم ظفر به المسلمون، فعلى الإمام أن يقتله ولا يستبقيه ولا يجعل أمره إلى الأولياء الذين قتل من المسلمين؛ لأن أمره كأمر المحارب الخارج على المسلمين بالسلاح، وهو يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار الإسلام، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم، قال: وإن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين، وإن قتل هو خطأ فعقله لجميع المسلمين، وإن قتل عمدا تعديا عليه في عداوة أو نائرة كان على قاتله العقل في خاصة ماله، ويكون ذلك العقل لجميع المسلمين.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المرتد إذا كان ارتداده في دار الإسلام، ثم قتل رجلا؛ أنه يقاد منه، والعفو فيه للأولياء مثله لهم في غيره صحيح، لا اختلاف في أن الارتداد لا يسقط عليه شيئا من حقوق الناس في الدماء ولا في الأموال، وقد مضى في رسم العتق، من سماع عيسى قبل هذا تحصيل القول فيما يسقط عنه الارتداد مما لا يسقط عنه، فلا وجه لإعادته.
وقوله: إنه إذا ارتد ولحق بدار الشرك، فكان ممن يخرج على المسلمين، ثم ظفر به المسلمون؛ أنه يقتل ولا يستتاب كاستتابة المرتد في دار الإسلام، ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه ما لم يسلم، فإن أسلم لم يقتل وهدر عنه كل ما أصابه من الدماء والأموال في حال ارتداده على ما روى عيسى، عن ابن القاسم، في رسم أسلم وله بنون صغار من كتاب الجهاد، وقد مضى الكلام عليه هنالك.
وقوله: وإن قتل خطأ ودي عنه من بيت مال المسلمين، قد مضى الكلام عليه، وتحصيل القول فيه في رسم العتق، من سماع عيسى قبل هذا، وفي رسم لم يدرك منه، فلا وجه لإعادته.(16/428)
وقوله: وإن قتل عمدا تعديا عليه في عداوة أو نائرة، فالعقل للمسلمين، فهذا أمر لا اختلاف فيه؛ لأن المسلمين يرثونه، فهم يأخذون ديته على مذهب من يوجب فيه دية، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرتد يقتل عمدا]
مسألة قال سحنون في المرتد يقتل عمدا: إنه لا دية له ولا قصاص على قاتله، إلا الأدب من السلطان بما افتات عليه، وقد كان عبد العزيز بن أبي سلمة يقول: يقتل المرتد ولا يستتاب، ويذكر أن أبا موسى الأشعري وقف على معاذ بن جبل، وأمامه مسلم تهود، فقال له معاذ: انزل يا أبا موسى، فقال: لا والله لا نزلت حتى يقتل هذا، فلو رأى عليه استتابة ما قاله، ولو رأيت له الاستتابة لرأيت ذلك في المحارب والزاني المحصن، وذنبهما أيسر خطبا من المرتد.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، تحصيل القول في استتابة المرتد، فلا معنى لإعادته، ومضى في نوازل سحنون من كتاب الديات القول فيما يجب على قاتل المرتد عمدا، لتكرر المسألة هناك، وأن في ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا دية له، وهو قول سحنون، وروي مثله عن أشهب أيضا. والثاني: أن ديته دية مجوسي، وهو قول البرني، وحكاه عن أشهب وابن القاسم، وحكى سحنون عن أشهب أن عقله عقل الدين الذي ارتد إليه، وقد روى عن ابن القاسم مثل ذلك، وذكرنا هناك وجه الاختلاف في ذلك، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: المرتد إذا جرح في ارتداده عمدا أو خطأ]
مسألة قال ابن القاسم: إذا جرح المرتد في ارتداده عمدا أو خطأ، فإن عقل جراحاته للمسلمين إن قتل، وله إن تاب، وعمد من جرحه كالخطأ لا يقتص ممن جرحه، قلت: فإن كان جارحه عمدا نصرانيا؟(16/429)
قال: لا قود؛ لأنه ليس على دين يقر عليه، فعمد من أصابه بجرح خطأ يعقل ولا يقاد، أصابه بالجرح مسلم أو غير مسلم.
قال محمد بن رشد: قوله في المرتد إذا جرح في ارتداده عمدا أو خطأ، إن عقل جراحاته للمسلمين، إن قتل يريد من حساب دية مجوس الدين الذي ارتد إليه على ما تقدم في المسألة التي قبل هذه من الاختلاف في ذلك، ومن لا يرى في المرتد الذي قتل دية، وهو قول سحنون، وأحد قولي أشهب، فلا دية على جارحه في جرحه إذا قتل، وأما إن تاب فجراحاته على حساب الدين الذي ارتد إليه قاله سحنون، ولا أعرف في هذا نص خلاف.
[مسألة: الولاء للمسلمين]
مسألة قلت له: أرأيت ولاء من أعتق من عبيده المسلمين، أيثبت له إذا تاب ولزمه إمضاء عتقهم؟ قال: الولاء للمسلمين؛ لأنه أعتقهم حين لم يكن يثبت له ولاء من أعتق من المسلمين، وكذلك من كاتب من المسلمين إذا أدى ما كوتب به، فولاؤه للمسلمين إذا أدى ما كوتب به فهو للمسلمين، وإن عجز رق له، والكتابة تمضي عليه إذا تاب، وترد إن قتل، قيل له: فالتدبير؟ قال: إذا تاب مضى، وإن قتل رد ولم يجز تدبيره.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيما دبر المرتد قبل ارتداده، أو أولد من إمائه، أو أعتق إلى أجل من رقيقه، أو كاتب في أن ذلك يمضي على المرتد، وإن قتل أو مات في ردته، فتمضي الكتابة على كتابته، ويعتق المعتق إلى أجل إلى أجله، ويعتق المدبر من ثلثه وأم الولد من رأس ماله، ويكون ولاؤهم له إن تاب، ولعصبته من المسلمين إن قتل أو مات على ردته، وقال أشهب: إن مات أو قتل على ردته فولاؤه لجماعة المسلمين، دون مسلمي ولده، قال محمد بن المواز: وقول ابن القاسم أحب إلينا؛ لأنه عقد كان منه في(16/430)
إسلامه وأما وصاياه التي له الرجوع عنها، فلا تجوز ولا تنفذ إن قتل أو مات في ردته، فإن رجع إلى الإسلام جازت وصاياه.
واختلف في أمهات الأولاد فقال ابن القاسم: يرجع إلى وطئهن، وقال أشهب: قد عتقن بارتداده، ولا يرجعن إليه، واختلف فيما فعل من ذلك كله بعد الردة قبل أن يحجر عليه في ماله بنفس ارتداده، فقيل: إن ذلك لا يجوز إن قتل أو مات على ردته، ويبطل تدبيره وعتقه المؤجل وكتابته، ويسترق ما استولد من الإماء، وهو قول أشهب ومذهب سحنون، ومذهب ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأنه قال: إن ذلك يرد كله إن قتل، ويمضي إذا تاب وراجع الإسلام، فيعتق المدبر من ثلثه، ويمضي العتق المؤجل إلى أجله، وتمضي الكتابة على سنتها، ويكون ولاؤهم للمسلمين، وأما أمهات أولاده فيرجع إلى وطئهن على مذهب ابن القاسم، خلاف قول أشهب على ما تقدم، وأما إن فعل ذلك بعد الحجر، فلا يجوز باتفاق إن قتل، واختلف إن تاب وراجع الإسلام، فقيل: إن ذلك لا يجوز أيضا، وقيل: إنه يجوز، وهو اختيار محمد بن المواز.
[مسألة: وقعت له شفعة وهومرتد أيأخذها]
مسألة قيل له: أرأيت إن وقعت له شفعة، وهو مرتد أيأخذها؟ قال: ليس ذلك له، قال العتبي: إن رجع أخذ شفعته.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيما قاله العتبي من أنه أحق بشفعته إذا تاب، ولا في أنه ليس له أن يأخذ بعد أن يحجر عليه، وإنما الكلام هل له أن يأخذ شفعته قبل أن يحجر عليه، فظاهر هذه الرواية أن ذلك ليس له، فإن أخذها كان للسلطان أن يرد فعله في ذلك، وهو قول سحنون على أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداده، وحكى عنه ابن أبي زيد في النوادر على أنه من العتبية في المرتد يحبس، فتجب له الشفعة، قال: هو محجور عليه، فإن تاب فله الشفعة، وإن قتل فهي للسلطان يأخذها إن شاء لبيت المال أو يترك.(16/431)
والمشهور من مذهب ابن القاسم أن أفعال المرتد في ماله ماضية ما لم يحجر عليه برفع أمره إلى السلطان، وسجنه خلاف ظاهر قوله في هذه الرواية، وقد مضى هذا المعنى في المسألة التي قبل هذه، وفي رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا أقيم على المحارب الحد]
مسألة قال سحنون: إذا أقيم على المحارب الحد، فحكمه حكم السارق فيما وجب عليه من الأموال إن كان له وفر، وهو متصل، يؤخذ منه جميع الأموال دية النصراني، وقيمة العبيد واستكراه النساء، وجميع ما استهلك من الأموال، وإن لم يكن له وفر متصل، لم يتبع بشيء إذا لم تقم عليه الحدودات، فحكمه حكم رجل فعل هذه الأشياء، وليس بمحارب يلزمه ذلك في ذمته وماله والقصاص لمن له القصاص.
قال محمد بن رشد.: وقعت هذه المسألة في خارج كتاب ابن لبابة من الأصل، وهي صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في المذهب.
[: النصراني يسلم في أيام شدة وضيق من الخراج ثم يرجع إلى الإسلام]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسأله ابن وهب عن راهب قيل له: أنت رجل فصيح عربي قد عرفت فضل الإسلام وأهله على غيره من الأديان، فما يمنعك من الإسلام؟ فقال: قد كنت مسلما زمانا فعرفت الإسلام، ولم أر دينا أفضل من النصرانية، فرجعت إليها للذي عرفت من فضلها، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إليه فسأله عن قوله، فقال: قد قلت ذلك، ولم أكن مسلما قط، وإنما كان ذلك قولا قلته، فحبسه السلطان، والتمس عليه البينة في إسلامه، فلم يجد بينة تشهد على(16/432)
إسلامه إلا القول الذي أقر به، فماذا يجب عليه؟ قال: لا أرى عليه قتلا ولا عقوبة، ولا يستتاب كمن يعد مرتدا، إلا من شهد عليه أنه رئي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة.
قلت: فإن تشهد وأقر بالنبي، وعرف الفرائض من أداء الزكاة والحج وصيام رمضان فريضة، وتشهد به بعد العلم به، وهو ممن لا يعذر بالجهالة؟ فلم يجب بشيء.
وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال: سمعت مالكا يقول: لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام، يعرف ذلك منه طائعا يصلي مقرا بالإسلام من غير أن يدخل الإسلام هربا من ضيق عذاب عذب به في جزية، أو ما أشبه ذلك، أو يكون حمل من جزيته ما لا طاقة له به فألجأه ذلك إلى الإسلام، فمن ألجئ إلى ذلك منهم لما بلغ به من عذابه في خراجه أو طول سجن، فإنه يقال: إن أسلم إذا عرف ذلك من عذره. قال أصبغ: قال ابن وهب مثله.
وسألت عنها أشهب وقلت له: النصراني يسلم في أيام شدة وضيق من الخراج، ثم يرجع إلى الإسلام، ويرجع ويزعم أن إسلامه إنما كان من ضيق ضيق به عليه، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، فقال لي: بل لو علم ذلك كما قال، وشهد له بذلك غيره، لرأيت أن يقتل إن لم يرجع إلى الإسلام، ولم ير ابن وهب عليه القتل إذا كان عن ضيق أو عذاب أو خوف، وأشارا به جميعا على إسحاق بن سليمان الهاشمي، ونزلت به عندنا في مصر.
قال الإمام القاضي: أما الراهب الذي قال: كنت مسلما زمانا، ثم قال لما وقف على ذلك: ما كنت مسلما قط، وإنما كان ذلك قولا قلته، فقول ابن(16/433)
وهب فيه: إنه لا قتل عليه ولا عقوبة، بين صحيح؛ لأنه شاهد على نفسه بالإسلام، فلا يصح أن يقتل بشهادته على نفسه؛ إذ قد رجع عنها، وقال: إنه كذب على نفسه فيها كما لو شهد عليه شاهدان بالإسلام، ثم رجعا عن شهادتهما، وقالا: كذبنا فيما شهدنا به عليه من ذلك، ولما سأله عمن رضي بالإسلام بعد وقوفه على فرائضه، وأقر بالنبي، وتشهد، ثم رجع عن الإسلام لم يجبه بشيء، ومن مذهبه أنه لا يقتل على الكفر من أنكر الإسلام من أهل الذمة، إذا لم يشهد عليه إلا بالتشهد بالإسلام، وذلك بين من قوله، ولا يستتاب كمن يعد مرتدا إلا من شهد عليه، أنه رئي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة، مثل ما حكى ابن القاسم أنه سمع مالكا يقول: لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام يعرف ذلك منه طائعا يصلي؟ وأصبغ يقول: إنه من أسلم طائعا ثم ارتد بعد طول مكث أو بقرب، صلى وصام ولم يفعل، ثم رجع في موقفه، فيسلك به مسلك من ولد على الفطرة.
والاستتابة ثلاثة أيام يخوف فيها القتل، ويذكر الإسلام ويعرض عليه، ولا اختلاف فيمن اعتقد الإسلام بقلبه أنه مسلم مؤمن؛ لأن الإيمان من أفعال القلوب، ولا في أنه يحكم له بحكم الإسلام بإظهار الشهادة، فيورث به ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وإن مات من ساعته قبل أن يصلي أو يصوم؛ نعم وإن مرت به أوقات صلوات قبل أن يموت، فلم يصل لأن ذلك يحمل منه على التضييع والتفريط الذي لا يخرج من الإسلام والإيمان في قول كافة العلماء، فقول أصبغ: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو القياس.
ووجه ما ذهب إليه ابن وهب ومالك فيما حكى ابن القاسم من أنه لا يستتاب ولا يقتل حتى يصلي؛ اتباع ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من غير دينه فاضربوا عنقه» لأنه لا يستحق أحد التسمية بأنه على دين الإسلام(16/434)
إلا بالتمادي على فعل شرائعه من الصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا» ، ولأنا لسنا على يقين من صحة الشهادة عليه بالإسلام إذا كان منكرا لاحتمال أن الشهود قد شبه عليهم فيما شهدوا به عليه؛ لأن الاختلاف إنما هو إذا كان منكرا لما شهد به عليه من الإسلام، ولو أقر بما شهدوا به عليه من الإسلام، لوجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان لم يصل باتفاق، والله أعلم.
وقول ابن القاسم وابن وهب: إنه يعذر في أنه إنما أسلم لما ذكره من أنه حمل من جزيته ما لا يحتمله وما أشبه ذلك، إذا عرف ذلك من عذره يدل على أنه لا يصدق في ذلك إذا لم يعرف عذره. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في النصراني يسلم ويصلي ويقول: أسلمت مخافة الجزية، أو أن أظلم، قال: يقبل ذلك منه، وليس كالمرتد، ذكر هذه الرواية ابن أبي زيد في النوادر، ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه.
وتحصيل هذا أنها مسألة فيها قولان:
أحدهما أنه لا يعذر، وهو قول أشهب، وحكى ابن حبيب مثله عن مطرف وابن الماجشون.
والثاني: أنه يعذر، واختلف على القول بأنه يعذر هل يصدق في العذر إذا ادعاه على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق، وهو قول ابن القاسم وابن وهب في هذه الرواية. والثاني: أنه يصدق هو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه، ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه، وقد مضى في أول السماع من معنى هذه المسألة، وفي أول سماع عيسى أيضا، فقف على ذلك كله وتدبره، وبالله التوفيق.(16/435)
[مسألة: ارتداد أحد الزوجين يقطع العصمة فيما بينهما]
مسألة قال ابن القاسم في المرتدة: لا تحل لزوجها إذا تابت إلا بنكاح جديد، ولا يحل له وطؤها في ارتدادها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة: أن ارتداد أحد الزوجين يقطع العصمة فيما بينهما، قال فيها: وتكون تطليقة بائنة، وهو معنى قوله في هذه الرواية، وابن الماجشون يرى أن ارتداد أحد الزوجين فسخ بغير طلاق، وقد روي عن سحنون أنها إن رجعت إلى الإسلام كان زوجها أملك بها، ومعناه ما كان في عدتها؛ لأن الوجه في ذلك أنه رأى ارتدادها في ذلك طلقة رجيعة، وهو عن مالك في كتاب أمهات الأولاد من المدونة: أن ارتداد الزوج طلقة رجيعة، يكون أحق بها إن أسلم في عدتها.
فيتحصل في ارتداد أحد الزوجين ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها طلقة بائنة. والثاني: أنها طلقة رجعية. والثالث: أنه فسخ بغير طلاق، وقد مضى هذا في رسم العتق، من سماع عيسى، وروي عن علي بن زياد، عن مالك أنه إن علم أنها أرادت بارتدادها الضرر بزوجها لم يكن ذلك طلاقا، وأمسك امرأته كما كانت، وبالله التوفيق.
[مسألة: ذبيحة المرتد]
مسألة قال: ولا تحل ذبيحة المرتد، ولا يقام عليه حد الزنا، ولا شرب المسكر، فعل ذلك في ارتداده أو قبل ذلك، ولكن يقام عليه حد الفرية والقطع في السرقة، جنى هذين الذنبين في الارتداد أو قبله، قال: وإنما ينظر في هذا كله إذا تاب، قلت له: فإن أصر على الكفر؟ قال: يعفى عنه من القطع ولا يوضع حد القذف.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن المرتد إذا تاب(16/436)
لا يؤخذ من الحدود بما يؤخذ به الكافر حال كفره وهو السرقة والقذف؛ لأن النصراني إذا سرق قطع، وإذا قذف مسلما حد القذف على ما ذهب إليه ابن حبيب، وحكاه عن أصبغ من أنه يؤخذ بالحدود كلها حد الزنا وحد الشرب، وغيرهما من الحدود، وأنه يتهم على أن يظهر الارتداد؛ ليسقط عن نفسه ما وجب عليه من الحدود، وأما إذا قتل على ردته، فالقتل يأتي على جميع الحدود الواجبة عليه حاشى حد القذف، وبالله التوفيق.
[مسألة: قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة]
مسألة قال معن: وكتب إلى مالك من المغرب يسأل عن قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة، ويقولون: ما نجد إلا ركعتين، قال مالك: أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
قال محمد بن رشد: قول معن، وكتب إلى مالك من المغرب ويجحدون السنة أي الطريقة؛ لأن صلاة الظهر والعصر والعشاء الأخيرة أربع ركعات، لا يقال فيها: إنها سنة، بل هي فريضة أحكمتها السنة، وانعقد عليها الإجماع، فمن جحد ذلك كان كافرا كما قال، يستتاب إن تاب وإلا قتل؛ لأنه بمنزلة أن لو جحد فرض صلاة من الصلوات، ويحتمل أن يريد بقوله في السؤال: ويجحدون السنة في تقصير المسافر الصلاة، ويزعمون أنها في الأصل مقصرة، والأول أبين، وهو الذي حفظته في ذلك عن الشيخ ابن جعفر، وبالله التوفيق.
[: لا يجبر الصبي المسبي على الإسلام إذا كان قد عقل دينه]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: قال ابن القاسم: لا يجبر الصبي المسبي على الإسلام إذا كان قد عقل دينه، وأراه قد ذكره عن مالك.(16/437)
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجبر على الإسلام إذا كان قد عقل دينه يدل على أنه يجبر عليه إذا كان لم يعقل دينه، وفي ذلك اختلاف كثير تحصل فيه ستة أقوال؛ أحدها: أنه يجبر عليه جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه لا يجبر عليه جملة أيضا من غير تفصيل. والثالث: أنه يجبر عليه إذا لم يسب معه أحد أبويه، إذا لم يكن معه في ملك واحد، فإن سبي معه أحدهما لم يجبر عليه. الرابع: أنه يجبر عليه، وإن سبي معه أحد أبويه إذا لم يكن معه في ملك واحد. والخامس: أنه يجبر عليه إن لم يسب معه أبوه، ولا يلتفت في ذلك إلى أمه، فإن سبي معه أبوه لم يجبر عليه. والسادس: أنه يجبر عليه، وإن سبي معه أبوه، إذا لم يكن معه في ملك واحد وفرق بينهما السهمان، واختلف على القول بأنه يجبر في الموضع الذي يجبر فيه إن مات صغيرا قبل أن يعقل، هل يحكم له بحكم الإسلام في غسله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين على خمسة أقوال قد مضى تحصيلها في رسم الشجرة، تطعم في سنة من سمع ابن القاسم من كتاب الجنائز.
وأما إذا سبي وقد عقل دينه، فلا أذكر نص خلاف فيما ذكروه من أنه لا يجبر عليه، وقد يدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى على بعد، وهو أن لا يعتبر بكونه ممن يعقل دينه على قياس القول، بأنه لو أسلم في هذه الحال لم يعتبر بإسلامه، فيكون لسيده أن يجبره على الإسلام، والأظهر ما قاله في الرواية من أنه لا يجبر على الإسلام، ولقوله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وبالله التوفيق.
[مسألة: تزوج نصرانية فولدت له أولادا فلما بلغوا قالوا لا نسلم]
مسألة وسئل عن رجل تزوج نصرانية، فولدت له أولادا، فلما بلغوا قالوا: لا نسلم، فماذا ترى عليهم؟ قال: يجبرون على الإسلام على ما أحبوا أو كرهوا، ولا يبلغ بهم القتل.(16/438)
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن أمهم حملتهم على النصرانية حتى بلغوا، ولذلك لم ير أن يبلغ بهم القتل إذا أبوا الإسلام؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه؛» إذ لا اختلاف في أنه لو لم تنصرهم أمهم لكانوا مسلمين بإسلام أبيهم، يقتلون عليه بعد البلوغ إن أبوه؛ إذ لا اختلاف في أن الولد تبع لأبيه في الدين، وبالله التوفيق.
[: المحارب إذا أتى تائبا وقد كان زنى أو سرق]
من سماع عبد الملك بن الحسن قال عبد الملك بن الحسن، سألت أشهب عن المحارب إذا أتى تائبا، وقد كان زنى أو سرق، هل يوضع ذلك عنه؟ فقال: لا يوضع عنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم القراض، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ولد المرتد الصغار إذا أبوا الإسلام إذا كبرواهل يقتلون]
مسألة وسألت ابن القاسم عن ولد المرتد الصغار، إذا أبوا الإسلام إذا كبروا، هل يقتلون؟ وكيف بمن ولد له، وهو في ارتداده هل سبيلهم واحد؟ قال: أما ما ولد له، وهو في الإسلام؛ فإنه يستتاب، ويكره على الإسلام على ما أحب أو كره، ويضيق عليه، ولا يبلغ به القتل إذا كان أبوه قد أدخله في نصرانيته قبل أن يموت، وأما ما ولد له في ارتداده؛ فإنهم إن أدركوا قبل أن يحتلموا أو يحضن إن كن نساء، فإني أرى أن يردوا إلى الإسلام، ويجبروا على ذلك، وإن لم يدرك ذلك منهم حتى يكبروا، أو يصيروا رجالا ونساء، رأيت أن يقروا على دينهم؛ لأنهم إنما ولدوا على(16/439)
ذلك، وليس ارتداد أبيهم قبل أن يولدوا ارتدادهم؛ لأنهم على النصرانية ولدوا، فأحسن ذلك أن يجبروا إذا كانوا صغارا إن أطاعوا، وإن كبروا تركوا على دينهم، وقال ابن كنانة في ولد المرتد إذا قتل: إنه يعقل عنه المسلمون، ويصلون عليه إذا مات، فإن تنصر وعلم بأمره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وإن غفل عنه حتى يشيخ ويتزوج لم يستتب ولم يقتل.
قال محمد بن رشد: إنما قال ابن القاسم في ولد المرتد الصغار الذين ولدوا له قبل ارتداده: إنهم يستتابون إذا بلغوا ويكرهون على الإسلام، ولا يبلغ بهم القتل إذا كان أبوهم قد أدخلهم في نصرانيته؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فرأى لهذا الحديث إدخال أبيهم إياهم في نصرانية شبهة لهم تمنع من قتلهم إن أبوا الإسلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ؛ لأنهم على دين قد أدخلهم أبوهم فيه، فوجب أن لا يقتلوا على التمسك به، وقول ابن القاسم في هذه المسألة يصحح تأويلنا في مسألة سماع محمد بن خالد المتقدمة، وأما ولد الذين ولدوا له بعد ارتداده، فاستحسن ابن القاسم أن يردوا إلى الإسلام إن أدركوا قبل البلوغ، وأرى أن يتركوا على حالهم، إن لم يدركوا حتى يبلغوا من أجل أنهم على الكفر ولدوا، فليسوا بمنزلة أبيهم في الارتداد؛ إذ لم يكفروا بعد إسلام منهم خلاف ما قاله ابن كنانة من أنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا ما لم يشيخوا على الكفر ويتزوجوا عليه.
ووجه ما ذهب إليه ابن كنانة من أنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، وإن(16/440)
كانوا لم يرتدوا من الإسلام إلى الكفر لولادتهم على الكفر هو أنه لما كان الحكم أن يكون الولد تبعا لأبيه في الدين، وكان الأب على دين لا يقر عليه، وجب أن يكون بمنزلته في ألا يقر عليه، وأن يقتل إن أبى الإسلام إلا أن يشيخ ويتزوج، فيترك مراعاة للاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المسلم تكون أمه نصرانية فتسأله السير معها إلى الكنيسة]
مسألة وسئل ابن وهب عن المسلم تكون أمه نصرانية، فتسأله السير معها إلى الكنيسة، فهل ترى له سعة في المسير معها؟ قال: لا أرى بأسا أن يسير بها حتى يبلغها ولا يدخلها الكنيسة، قيل له: فله أن يعطيها نفقة لعيدها؟ قال: نعم، يعطيها نفقة لطعامها وشرابها، ولا يعطيها نفقة لما تعطي لكنيسها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد تقدمت متكررة في هذا السماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وقلنا فيها هناك: إن رأي المسير معها إلى الكنيسة أخف من أن يعطيها ما تعطى فيها؛ لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها، وإعطاؤها ما تعطى فيها منفعة لها، وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها، وفي المبسوطة لمالك أنه لا يسوغ أن يسير معها إلى الكنيسة، والاختلاف في هذا على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بالشرائع أم لا؟ وقد مضى بيان هذا في رسم يسلفون في المتاع والحيوان المضمون، من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور.(16/441)
[: ميراث الذي يرتد عند الموت]
من سماع أصبغ بن الفرج، من ابن القاسم من كتاب الحدود قال أصبغ: سئل ابن القاسم عمن قال في مرضه: لم أكن مسلما قط، وإنما كنت أرى فيها أنه لا يورث إذا مات؛ لأنه بلغني أن مالكا سئل عن رجل كفر عند موته، قال: لا أرى أن يورث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن المرتد في مرضه لا يورث منه ورثته، وزاد فيها قال: لا يتهم هاهنا أحد أن يرتد عن الإسلام في مرضه؛ لئلا يرثه ورثته، قال: وميراثه للمسلمين، وهو بين على ما قاله إذا استتيب، فلم يتب فقتل على ردته؛ لأن القتل يرفع عنه التهمة، وأما إذا لم يقتل ومات من مرضه ذلك، فينبغي أن يورث منه ورثته، إذا اتهم على أنه إنما ارتد على أن لا يرثه ورثته، على ما روي عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكا يقول: الذي يرتد عند الموت لا يرثه ورثته من المسلمين، إلا أن يتهم أنه أراد أن يمنعهم ميراثهم منه، فعلى هذا لا تكون رواية ابن وهب مخالفة لما في المدونة من أن المرتد في مرضه لا يتهم بقطع ميراث ورثته؛ لأنه إنما تكلم فيها على أنه قتل على ردته.
[مسألة: من قتله أمير المؤمنين من الزنادقة]
مسألة قال: وبلغني عن مالك ممن أثق به، وكتب إليه يستفتيه فيمن قتله أمير المؤمنين من أولئك الزنادقة، فرأى مالك أن يورث منهم ورثتهم المسلمون، ورآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد كان رسول الله يعلم أنهم(16/442)
كفار، فورثهم ورثتهم من المسلمين، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حي، وأخبرني ابن أبي زنبر: أن رجلا جاء إلى مالك فقال: إن أبي كان يعبد الشمس، أفترى لي أن أرثه؟ قال: نعم، أرى ذلك، يعني أنه كان يعبد الشمس سرا، ويظهر الإسلام.
قال محمد بن رشد: ما حكى ابن القاسم في هذه الرواية من أنه بلغه عن مالك أن الزنادقة المقتولين على الزندقة، يرثهم ورثتهم من المسلمين، وأنه رآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هو مثل ما تقدم في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، خلاف رواية ابن نافع عن مالك، وقد مضى هناك الكلام على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا مرة أخرى.
[مسألة: الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه]
مسألة قلت: أرأيت الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه؟ قال: إن أسلم لم يقتل، وإن لم يسلم قتل، وهو بمنزلة من شتم النبي من النصارى؛ إن أسلم لم يقتل، وإن لم يسلم قتل.
قال محمد بن رشد: السحر كفر، فهو بمنزلة الزندقة، قال ابن المواز: من قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله، فإذا سحر هو بنفسه، فإنه يقتل ولا يستتاب، والسحر كفر قال تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] ، وقال مالك: هو كالزنديق إذا عمل السحر هو بنفسه؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] ، وقد أمرت حفصة بجارية لها سحرتها أن تقتل فقتلت، قال ابن عبد الحكم وأصبغ: هو(16/443)
كالزنديق، ميراثه لورثته من المسلمين، وإن كان للسحر والزندقة مظهرا استتيب، فإن لم يتب قتل، وكان ماله في بيت المال، ولا يصلي عليه بحال، وأما الذي يسر ذلك إذا قتل فيرثه ورثته، ولا يأمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم علم.
ويقتل الساحر إذا كان من أهل الذمة، إلا أن يكونوا أدخلوا بسحرهم ضررا على المسلمين، فيكون نقضا للعهد، فإن تاب فلا توبة له إلا بإسلام، وقال مالك: وإن سحر بذلك أهل ملته فليؤدب، إلا أن يقتل أحدا فيقتل به، فقوله في هذه الرواية في الساحر من أهل الذمة: إنه يقتل إلا أن يسلم خلاف ما تقدم من قوله في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى في النصراني، لا يؤاخذ على الزندقة؛ أنه يترك وزندقته.
ويتحصل في النصراني يتزندق أو يعثر على أنه ساحر ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يترك، وما هو عليه من الزندقة والسحر، إلا أن يدخل بسحره ضررا على المسلمين، فيكون ذلك نقضا للعهد. والثاني: أنه يقتل إلا أن يسلم، وهو قوله في هذه الرواية. والثالث: أنه يقتل وإن أسلم؛ لأن الزنديق لا تقبل منه توبة، روي ذلك عن ابن الماجشون، وقد ذكرنا ذلك في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى.
وأما الساحر من المسلمين فيقتل سحر مسلما أو ذميا، روى ذلك ابن وهب عن مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الزنديق إذا أقر بالزندقة ثم قال أنا تائب]
مسألة وسئل أصبغ عن الزنديق إذا أقر بالزندقة ثم قال: أنا تائب؟ قال: إن كان إقراره بعدما ظفر به أو ظهر عليه، فلا توبة له، وليقتل قتلا ... إلى النار، ولا يناظر بشيء، وإن كان من قبل نفسه جاء تائبا فعسى.(16/444)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال فيه، والحمد لله.
[مسألة: رجل أيقن برجل أنه زنديق فاغتاله فقتله]
مسألة قلت: فرجل أيقن برجل أنه زنديق، فاغتاله فقتله؟ قال: إن صح له ذلك بالثبت، برئ من السلطان وعقوبته، ولم يكن للسلطان عليه مجاز إلا النهي والتعزير في العجلة قبل أن يثبت للسلطان، فإما قتل أو غير ذلك من العقوبة، فليس عليه إذا صح ذلك على المقتول صحة بينة، وهو محسن فيما بينه وبين الله إذا كان على يقين، لا لبس فيه من أمره وكفره وزندقته، ولعل الولاة تضيع مثل هذا، ولا تصححه، وقد بلغني عن ابن عمر أنه ذكر له أن راهبا يتناول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال: هلا قتلتموه، وأخبرنا سفيان بن عيينة، وبلغني عنه في يهودي تناول شيئا من حرمة الله تعالى غير الذي هو فيه من ذمته، وتحاج فيه آونة فخرج عيينة بالسيف، فطلبه حتى هرب منه، ذكره ابن وهب عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، ولا وجه للقول، وبالله التوفيق.
تم كتاب المحاربين والمرتدين بحمد الله تعالى.
انتهى الجزء السادس عشر من البيان والتحصيل لأبي الوليد بن رشد.(16/445)
[كتاب الجامع الأول] [لباس الحرير للرجال]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الجامع الأول من سماع ابن القاسم، من كتاب أوله مساجد القبائل، قال مالك: رأيت ربيعة يلبس القلنسوة وبطانتها وظهارتها خز وكان إماما.
قال محمد بن رشد: الخز هو ما كان سداه حريرا فالحم بالوبر.
وقد اختلف فيه وفيما كان في معناه من الثياب المشوبة بالكتان والقطن كالمحررات التي سداها حرير وطعمتها قطن وكتان - على أربعة أقوال:
أحدها: أن لباسها جائز من قبل المباح، من لبسها لم يأثم بلبسها، ومن تركها لم يؤجر بتركها، وهو مذهب
ابن عباس وجماعة من السلف، منهم ربيعة على قوله في هذه الرواية؛ لأن لباس القلنسوة لباسهم؛ لأنهم تأولوا أن النهي والتحريم في لباس الحرير للرجال إنما ورد في الثوب المصمت الخالص من الحرير.
والثاني: أن لباسها غير جائز، وإن لم يطلق عليه أنه حرام، فمن لبسها أثم، ومن تركها نجا، إذ قد قيل في حلة(17/5)
عطارد السيراء، التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» - إنها كانت يخالطها الحرير، كانت مضلعة بالقز، وهو مذهب عبد الله بن عمر، والظاهر من قول مالك، وإن كان قد أطلق القول فيه أنه مكروه، والمكروه ما كان في تركه ثواب، وليس في فعله عقاب. إذ قد يطلق فيما هو عنده غير جائز، تحرزا من أن يحرم ما ليس بحرام، والذي يدل على ذلك من مذهبه قوله في المدونة: وأرجو أن يكون الخز في الصبيان خفيفا.
والثالث: إن لباسه مكروه على حد المكروه، من لبسه لم يأثم بلبسه، ومن تركه لم يؤجر على تركه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن ما اختلف أهل العلم فيه لتكافؤ الأدلة في تحليله وتحريمه، فهو من المشبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه» ، وعلى هذا القول يأتي ما حكاه مطرف من أنه رأى على مالك بن أنس كساء(17/6)
إبريسم كساه إياه هارون الرشيد، إذ لم يكن ليلبس ما يعتقد أنه يأثم بلباسه.
والرابع: الفرق بين ثياب الخز وسائر الثياب المشوبة بالقطن والكتان، فيجوز لباس ثياب الخز اتباعا للسلف، ولا يجوز لباس ما سواها من القطن والكتان، بالقياس عليها؛ لأن الخز إنما استجيز اتباعا للسلف؛ لأن لباسه رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال، إذ لا فرق في القياس بين الخز وبين غيره من المحررات التي قيامها حرير ة وطعمها قطن أو كتان؛ لأن المعنى الذي من أجله استجاز لباس الخز من لبسه من السلف أنه ليس بحرير محض، موجود في المحررات وشبهها، فلهذا المعنى استجازوا لبسه لا من أجل أنه خز، إذ لم يأت أثر للترخيص لهم في لباس الخز، فيختلف في قياس غيره عليه. وبالله التوفيق.
[يعاب العالم بما لا يؤثر في عدالته]
خبر: قد يعاب العالم بما لا يؤثر في عدالته قال مالك: بلغني أن رجلا دخل على رجل له قدر، وهو يأكل، فلم يعرض عليه أن يأكل معه، فعاب عليه ذاك ذلك الرجل، فقال: إن في مستمعها أمورا كثيرة وقد يكون في العالم الأمر يعاب به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن هذا مما يعاب به الرجل؛ لأنه من مذموم الأخلاق، وليس من مكارمها ومحاسنها، وإن النقص الذي يعاب به الرجل لا يخلو من أكثر البشر. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاثة: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد» .(17/7)
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية ابنة مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» وليس لهذا العيب تأثير في العدالة؛ لأنه إنما يؤثر فيها العيوب في الأديان، لا في الأخلاق ولا في الأبدان.
[خبر في فضل أبي أيوب الأنصاري وعمر بن عبد العزيز]
وقال مالك: بلغني أن الروم يستصبحون على قبر أبي أيوب الأنصاري. قال مالك: وبلغني أن صالح بن علي مر بموضع قبر عمر بن عبد العزيز، فقيل له: إن هاهنا راهبا قديما فأرسل إليه لعله يعرف موضعه، فقال: عمن تسألني؟ عن قبر الصديق؟
قال محمد بن رشد: أبو أيوب الأنصاري هذا، من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد، عليه نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم المدينة مهاجرا من مكة، حتى بنى مسجده ومساكنه، فانتقل إليها، وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مع علي بن أبي طالب في الحروب كلها، ومات بالقسطنطينية في خلافة معاوية، خرج إليها غازيا تحت راية يزيد فمرض بها، فلما ثقل عاده يزيد، فأوصاهم إذا مات أن يكفنوه ثم يأمر الخيل بالركوب، فيحملوه إلى حيث يقدرون على الوصول إليه فيدفنونه تحت أقدامهم عند مصاقبتهم(17/8)
العدو، ففعلوا، فقبره عند سورها معلوم معظم محفوظ يستصبحون عليه على ما قاله في الرواية، ويستسقون به إذا أمحلوا فيسقون. ويروى أن يزيد أمر الخيل أن تقبل وتدبر على قبره ليعفى أثره، فقال لهم الروم صبيحة دفنهم إياه: لقد كان لكم شأن، فقالوا: نعم صاحب لنا من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي ودفناه حيث رأيتم فوالله لئن نبشتموه، لا يضرب لكم ناقوس بأرض العرب ما دامت لنا مملكة، فما أقدموا على ذلك بل تنافسوا في حفظه، وتبركوا بقبره، وذلك كرامة عظيمة من الله عز وجل. وقول الراهب في عمر بن عبد العزيز عمن تسألني عن قبر الصديق؟ هو من هذا المعنى؛ لأن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء، ووضع له القبول في الأرض، وانطلقت الألسنة بالثناء عليه. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ماذا يتبعه من حسن الثناء» . وبالله التوفيق.
[خبر في صفة الريح التي عذب بها عاد]
قوم هود
قال مالك: وسئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها هريمة: أي عذاب الله أشد؟ قالت: كل عذابه شديد، وسلامة الله ورحمته ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير يحملها الريح فيما بين السماء والأرض، ويقال: ما فتح عليهم إلا مثل حلقة الخاتم،(17/9)
ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض.
قال الإمام القاضي: يشهد بصحة هذه الحكاية قول الله عز وجل: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42]-يريد: ما مرت به- {إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] أي: كالشجر اليابس الهشيم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] يريد: مما مرت به، إذ لم تدمر هودا، ولا من كان آمن به، وذلك أن هودا لما خوف قومه بعذاب الله إن لم يؤمنوا به، سخروا به، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 23] ، أي: لا يعلم متى يأتي العذاب إلا الله {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23] {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فرحوا به لأنهم كانوا في محل وظنوا أنهم يمطرون به، وقالوا: كذب هود كذب هود، فلما خرج نبي الله هود، فشامه، قال لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] فجاءتهم ريح جعلت تلقي الفسطاط، وتجيء بالرجل الغائب، وتذهب بالظعينة حتى ترى كأنها جرادة، تدمر كل شيء مما مرت به، ترمي بعضه على بعض وتهلك. ومما قاله في الحكاية من قوله: ويقال ما فتح عليهم إلا مثل الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكفت الأرض، هو مروي عن ابن عباس. ومثله لا يكون رأيا. قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا. ونزع خاتمه، يريد والله أعلم: فتح الله عليهم من خزائن ريح(17/10)
العذاب بابا إلا بقدر حلقة الخاتم. وبالله التوفيق.
[الإشفاق من استفتاء من ليس من أهل الفتوى]
في الإشفاق من استفتاء من ليس من أهل الفتوى قال مالك: إن ربيعة بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ أقضية نزلت بك؟ قال: لا ولكنه أبكاني أنه اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ. قال: وسمعت مالكا يقول: كان سليمان بن يسار أفقه رجل كان ببلدنا بعد سعيد بن المسيب، والكثير ما كانا يتفقان في القول، فكان إذا ارتفع الصوت في مجلسه، أو كان مرا أخذ نعليه ثم قام.
قال محمد بن رشد: إنما بكى ربيعة من استفتى من لا علم له؛ لأن ذلك مصيبة في الدين، وهي أعظم من المصيبة في المال. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الناس، ولكنه يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» ، فلا يصح أن يستفتى إلا من كان من العلماء الذين كملت لهم آلات الاجتهاد، بأن يكون عارفا بالكتاب، والذي يجب عليه أن يعلم منه ما تعلق بذكر الأحكام من الحلال والحرام، فيعرف مفصله ومجمله، ومحكمه وناسخه ومنسوخه، دون ما فيه من القصص والأمثال، والمواعظ والأخبار، ويحفظ السنن المروية عن النبي في ذلك من بيان الأحكام وناسخها ومنسوخها ويعرف معاني الخطاب وموارد الكلام ومصادره، من الحقيقة والمجاز، والخاص والمفصل والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، ويعرف من اللسان ما(17/11)
يفهم به معاني الكلام ويعرف أقاويل العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وما اتفقوا عليه مما اختلفوا فيه، ويعرف وجه النطق والاجتهاد والقياس، ووضع الأدلة في مواضعها والترجيح والتعليل. وما تضمنته هذه الحكاية من أن سعيد بن المسيب كان أفقه من سليمان بن يسار هو المشهور الذي ذهب إليه مالك ومن أخذ بناحيته. وأما ربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومن أخذ بناحيتهما وأهل الكوفة، فيقولون: سليمان بن يسار أفقههما، وقد قيل: إن الفقه كان له، والذكر لسعيد، فهما جميعا فرسا رهان في الفقه والدين والورع. وما حكاه عن سليمان بن يسار: من أنه كان إذا ارتفع الصوت في مجلسه أو كان مرا أخذ نعليه ثم قام - من أدل الدلائل على ورعه وخيره وفضله؛ لأن رفع الصوت في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكروه حتى في العلم، فقد كان رسول أمير المدينة يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل مجلسه، فيقول له: يا أبا مروان، اخفض من صوتك، وأمر جلساءك يخفضوا من أصواتهم. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وبيعكم وشراءكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم، وجمروها أيام جمعكم، واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» . وبنى عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط وينشد شعرا ويرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة. والمراء في العلم منهي عنه. فقد جاء: أنه لا تؤمن فتنته، ولا تفهم حكمته. وبالله التوفيق.
[رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل ولا حرم إلا ما في كتاب الله]
في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل ولا حرم إلا ما في كتاب الله قال مالك: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال(17/12)
في اليوم الذي توفي فيه، ووقف على بابه، فقال: «إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله، فإني لا أغنيكما من الله شيئا» .
قال الإمام القاضي: هذا حديث يدل على صحته قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فالمعنى في ذلك أن الله عز وجل نص على بعض الأحكام، وأجمل القرآن في بعضها، وأحال على الأدلة في سائرها بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فبين النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ما أجمله الله في كتابه كما أمره به حيث يقول: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فما أحل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أو حرم ولم يوجد في القرآن نصا فهو مما يبين من مجمل القرآن أو علمه بما نصب من الأدلة فيه. فهذا معنى قوله والله أعلم: «لا أحل إلا ما أحل الله في(17/13)
كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه» ، فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
[تفسير قول النبي عليه السلام أمرت بقرية تأكل القرى]
في تفسير قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«أمرت بقرية تأكل القرى» " وسئل مالك: عن تفسير حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بقرية تأكل القرى» قال: يثرب تفتح في رأيي، قال: وأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] قال: يلون المدينة.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك لهذا الحديث بين صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن معناه أمرت بالهجرة من مكة إلى قرية تفتح منها القرى، وهي التي يسميهما الناس يثرب، فكان كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحت عليه وعلى أصحابه بعده منها سائر القرى وهي المدن والأمصار. وتمام الحديث في الموطأ وهو قوله: «يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما تنفي الكير خبث الحديد» فمعنى قوله "يقولون يثرب " أي: يسميها الناس يثرب وهي المدينة، فسماها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وقوله «تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» ليس على عمومه، ومعناه: في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يخرج من المدينة في حياة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ويرغب عن المقام معه إلا مريض(17/14)
الإيمان، وأما بعد وفاته، فقد خرج منها إلى العراق والشام جماعة من جلة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمون الناس القرآن والإسلام؛ لأنهم رأوا ذلك أفضل من المقام بالمدينة بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وإن كان الصلاة في مسجده خيرا من الصلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام لعظم الأجر على تعليم الناس الإسلام والقرآن، والله أعلم.
[مواساة الأنصار للمهاجرين]
في مواساة الأنصار للمهاجرين قال: وسمعت مالكا: «لما قدم المهاجرون على الأنصار، قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: واسوهم، قالوا: يا رسول الله، نقاسمهم الثمر، قال: أَوَغَيْرَ ذلك، قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: يكفونكم المئونة وتقاسمونهم الثمر، قالوا: سمعنا وأطعنا» . قال: إن كان أحدهم لتكون له امرأتان فيخير أخاه في أيتهما شاء. وما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة إلا وما دار من دور الأنصار إلا وفيها الأنصار.
قال محمد بن رشد: في هذا فضل الأنصار في مواساتهم المهاجرين القادمين عليهم، وكفى بالثناء على ذلك قوله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فيما أشار عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن يكفوهم المؤونة، ويقاسموهم الثمر(17/15)
جواز المساقاة على ما ذهب إليه مالك وجميع أصحابه والشافعي، فهو حجة له في إجازتها وتبطل عند أبي حنيفة فيما ذهب إليه من أنها لا تجوز قوله: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ساق يهود خيبر من أجل أنهم كانوا عبيدا للمسلمين، وبالله التوفيق.
[ما يفضل به العراق على الشام]
في ما يفضل به العراق على الشام قال: وسمعت مالكا يقول: أقدم معاوية بن أبي سفيان رجلا من أهل الدين والفضل الشام، فقال: سئل بعد ذلك: كيف وجدت الشام؟ فقال: ما رأيت إلا خيرا، إلا أن ظمأ الهواجر الذي كان يصيبني بالعراق لم أجده، وإني كنت أسمع المؤذنين يتجاوبون عند الصلاة، وإني أسمع هاهنا النواقيس، وإني كنت أجالس أقواما يتخيرون طيب الكلام، كما يتخير أطايب الثمر. قال سحنون: هو عامر بن عبد قيس.
قال محمد بن رشد: فضل العراق على الشام بثلاثة: أحدها: ظمأ الهواجر فيها، وهو شدة ما يصيب الصائم في صيامه فيه من أجل حره؛ لأن العراق بلاد حرارة، والشام بلاد باردة، والأجور في الأعمال على قدر ما يلحق العامل من المشقة فيها، فكأن الصيام في العراق أفضل من الصيام بالشام، ألا ترى أن أجر المتوضئ في الوضوء، في زمان البرد والشتاء أكثر من أجره في زمان الحر والصيف، وذلك بين من قوله في الحديث: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد» ... الحديث، والثاني: كثرة أهل الخير(17/16)
فيه، والثالث: عدم سماع النواقيس فيه، إذ لا أهل ذمة فيه، وإن كان فيسير، بخلاف الشام، والله أعلم.
[فضل سعد بن معاذ]
فيما يروى من فضل سعد بن معاذ قال مالك: مر سعد بن معاذ بعائشة وهي في أطم من الآطام، عليه درع مقلصة مشمرة الكمين، فقالت عائشة: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه، وما رأيت رجلا أجمل منه حاشى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأصيب أكحله، فقال: اللهم إن كانت حرب بني قريظة لم يبق منها شيء فاقبضني إليك، وإن كانت بقيت فأبقني حتى أجاهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعداءه، فلما حكم في بني قريظة، توفي وفرح الناس، وقالوا: نرجو أن تكون قد استجيبت دعوة سعد.
قال محمد بن رشد: سعد بن معاذ من فضلاء الصحابة من الأنصار، رُوِيَ عن عائشة أنها قالت: كان في عبد الأشهل ثلاثة، لم يكن بعد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وهو الذي جاء فيه أنه اهتز العرش لموته. وفضائله أكثر من أن تحصى والآطام الحصون فمروره بعائشة وهي في حصن من الحصون كان في بعض غزواتها مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يقرع بين نسائه عند غزوه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها. ولما رأته في درع مقلصة مشمرة الكمين أعجبها ذلك منه لما فيه مما يبعد(17/17)
الكبر عنه. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين لا ينظر الله عز وجل يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» . وَرُوِيَ عن ابن عباس أنه كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قميص قطني قصير الطول، قصير الكمين. وروي عن أنس قال: قميص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رسغه.
وكان سعد بن معاذ أصيب أكحله يوم الخندق بسهم رمي به، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيمة في المسجد، ونقله إليها ليعوده من قريب، فكان يعوده كل يوم إلى أن نزفه الدم فمات من جرحه بعد الخندق بشهر وبعد قريظة بليالٍ، وكان قد دعا الله قبل موته بما جاء في الرواية. وروي أنه قال في دعائه: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فلما نزل بنو قريظة على حكم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَّمَهُ فيهم فحكم أن تقتل رجالهم ويسبى نساؤهم وذَرَارِيهِمْ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أنفعة» ، وكانوا أربعمائة، فأمر بهم رسول الله صلى(17/18)
الله عليه وسلم فَأُخرجوا وخندق لهم خناديق، وضربت رقابهم فيها، فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه، فمات، فعلم أنه استجيبت دعوته. وبالله التوفيق.
[الالتحاء بالعمامة]
في ترك الالتحاء بالعمامة وسئل مالك: عن العمامة يعتم بها الرجل في بيته عند غسله أو مرضه، ويصلي بها في بيته، لا يجعلها تحت حلقه، قال: لا بأس بذلك، يردده على أنه لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: قوله لا بأس بذلك، أي: لا كراهية في ذلك وأما في المساجد والجماعات، فيكره ترك الالتحاء بها، ويقال: إن ذلك من بقايا عمل قوم لوط، ولما كان التعمم من غير التحاء خلاف شكل العربي المستحسن، كره تركه في المساجد، اتباعا لظاهر قَوْله تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، والمصلي يناجي ربه، ويقف بين يدي خالقه، وهو أحق من تزين له. وقد رأى عبد الله بن عمر مولاه يصلي بغير رداء، فقال له: أرأيت لو كنت مرسلك إلى السوق، أهكذا كنت تمضي؟ قال: لا، قال: فالله أحق من تجمل له.
[لباس القلانس]
في لباس القلانس وسئل مالك: عن القلانس، هل كانت قديمة ومن أول من أحدثها؟ قال: كانت في زمان النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقبل ذلك فيما روي، وكانت لخالد بن الوليد قلنسوة، قاتل بها يوم اليرموك وكان اليوم شديدا، فوقعت(17/19)
من رأسه، فدخل مدخلا متعبا في طلبها حتى أخرجها، فعوتب في ذلك، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين حلق ناصيته، أخذت شعره، فحملته فيها، فلذلك طلبتها.
قال محمد بن رشد: القلانس ما كان لها ارتفاع في الرأس على أي شكل ما كانت. وقد روي عن ابن عمر أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبس قلنسوة بيضاء» . وهو يشهد لما قاله مالك في هذه الحكاية من أن القلانس كانت في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأنها من الزي الحسن، وبالله التوفيق.
[سرد الصيام]
في سرد الصيام قال: وسمعت مالكا يقول: سرد سعيد بن المسيب الصيام، فقيل له: إن قوما يحتجون بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مظعون، فقال: إن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كان إمام المسلمين كان يعمل الأشياء ليوسع على الناس، وقد سرد قوم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: سرد الصيام هو أن يتابع الرجل إياه، فلا يفطر إلا في الأيام المنهي عن صيامها، وذلك صيام الدهر وقد كرهه جماعة من العلماء لحديث أبي قتادة «عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه سئل عن صيام الدهر، فقال: " من فعل ذلك لا صام ولا أفطر، أحب الصيام إلى الله عز وجل(17/20)
صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما» . ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن قوله فيه: «لا صام ولا أفطر» ليس معناه الدعاء عليه، فيقتضي ذلك النهي عن صيام الدهر، وإنما معناه: ما صام وما أفطر؛ لأن الحروف قد يبدل بعضها من بعض، أي: ما صام الصيام الذي أعلى مراتب الصوم، إذ لا يؤمن أن يضعف على التمادي على ذلك، أو على سائر ما كان يفعله من أعمال البر، كالصلاة وقراءة القرآن، وما أشبه ذلك من الأعمال التي قد يضعف عنها بموالاة الصيام.
وذكر في الرواية: أن قوما يحتجون لذلك بقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعثمان بن مظعون، ولم يذكر فيها نص ما قاله له. وفي الصحيح عن أنس بن مالك أنه قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: وأين نحن من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» . فإن كان عثمان بن مظعون أحد هؤلاء الثلاثة رهط، فهذا هو نص الكلام الذي قاله له، وإن لم يكن هو فالكلام الذي قاله له هو ما كان في معناه والله أعلم، يدل على ذلك تأويل مالك له، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعمل الأشياء ليوسع على الناس، وهو تأويل جيد؛ لأن معناه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم ويفطر، وإن كان الأفضل أن يسرد الصيام مخافة أن يسرده الناس، فلا يقدرون على التمادي على ذلك، ويضعفون عن سائر(17/21)
أعمال البر، فلا يختار الرجل أن يترك سرد الصيام إلا مخافة أن يضعف على التمادي على ذلك، وعن سائر أعمال البر؛ لأن الصوم والفطر أفضل من سرد الصيام إذا لم يضعف عن التمادي ولا على شيء من أعمال البر، فهذا معنى ما ذهب إليه مالك. يشهد بصحته قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله لا يمل حتى تملوا، اكلفوا عن العمل ما لكم به طاقة» ، وقوله: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .
[الحجامة والإطلاء يوم السبت والأربعاء]
في الحجامة والإطلاء يوم السبت والأربعاء وسئل مالك: عن الحجامة والإطلاء يوم السبت ويوم الأربعاء؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فتفعله أنت، قال: نعم، وَأُكْثِرُهُ وأتعمده، وليس يوم إلا وقد احتجمت فيه، ولا أكره شيئا من هذا لا حجامة ولا طلاء ولا نكاحا ولا سفرا في شيء من الأيام.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس بالحجامة(17/22)
والإطلاء والنكاح والسفر وغير ذلك من الأشياء في يوم السبت ويوم الأربعاء؛ لأن الامتناع من شيء من ذلك في يوم السبت ويوم الأربعاء، من التطير الذي قد أبطله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «لا طيرة» وبقوله: «لا عدوى، ولا هام ولا صفر» . والأصل في تطير الناس بيوم الأربعاء ما جاء من أن الأيام النحسات التي أهلك الله فيهما قوم عاد بالريح، كانت ثمانية أيام أولها الأربعاء وآخرها الأربعاء. وهي الثمانية الأيام التي قال الله فيها: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ} [الحاقة: 7] ... الآية، والأصل في تطيرهم يوم السبت أن بني إسرائيل عدوا فيه فمسخهم الله قردة وخنازير. قال تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163]
الآية. ولصحة إيمان مالك بالقدر، ومعرفته أن اليوم لا يضر ولا ينفع، وتصديقه بما جاء عن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إبطال التطير، كان لا يكره حجامة ولا نكاحا ولا شيئا من الأشياء في السبت والأربعاء، بل يتعمد ذلك فيهما، وكذا ينبغي لكل مسلم أن يفعل؛ لأن من يتطير فقد أثم. وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طيرة، والطيرة على من تطير» ومعنى قوله "من تطير" أي: عليه إثم ما تطير به على نفسه، يكون قد نفي ذلك في أول الحديث بقوله: «لا طيرة» ، وبالله التوفيق.(17/23)
[بحث عمر بن عبد العزيز عن أقضية عمر بن الخطاب]
في بحث عمر بن عبد العزيز عن
أقضية عمر بن الخطاب قال مالك: وكان عمر يرسل إلى سعيد بن المسيب عن أقضية عمر بن الخطاب.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات: كان ابن عمر، والصواب: كان عمر، يريد بذلك عمر بن عبد العزيز؛ لأنه كان أتبع الناس لعمر بن الخطاب، يسير في سيرته في جميع الأمور، وذلك من جملة فضائله التي تؤثر عنه، وبالله التوفيق.
[صيام أيام الغر]
في صيام أيام الغر وسئل مالك: عن صيام الغر الثلاثة الأيام: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، فقال: ليس هذا ببلدنا وإني لأكره أن يتعمد صيامها، وقال: الأيام كلها لله.
قال الإمام القاضي: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب الصيام. وقد روي فيها وفي الأيام البيض، وهي أول يوم من الشهر، ويوم عشرة، ويوم عشرين، أنها صيام الدهر. وقد روي عن مالك: أنه كان يصوم الأيام البيض. وقد كتب إلى هارون الرشيد في رسالته يحضه على صيام الأيام الغر، ويذكر الحديث فيها. فإنما كره في هذه الرواية صيامها ولم يحض عليها مخافة أن يكثر العمل بذلك لكثرة إسراع الناس إلى الأخذ بقوله، فيحسب ذلك من لا علم عنده من الواجبات. وقد ذكرنا ذلك هناك.
[ركوب البحر]
في ركوب البحر قال: وقال مالك: استأذن معاوية بن أبي سفيان عمر بن(17/24)
الخطاب في ركوب البحر فأبى أن يأذن له، فلما ولي عثمان بن عفان، كتب إليه يستأذنه، فأبى ثم رد عليه، فكتب إليه عثمان: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، فركبه معاوية ومعه امرأته بنت قرطة، قال مالك: سأل عمر بن الخطاب عمرو بن العاص عن البحر فقال: خلق ضعيف، دود على عود، إن ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا، قال عمر: لا أحمل فيه أحدا، فلما كان بعد عمر، حمل فيه، فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاتبع فيه رأي عمر بن الخطاب.
قال محمد بن رشد: البحر على ما وصفه به عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلا شك في أن ركوبه غرر، وقد اختلف القضاء من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، في إباحة ركوبه للناس، فمنع من ذلك عمر بن الخطاب وتبعه في ذلك عمر بن عبد العزيز، وأباحه عثمان بن عفان وبإباحته استمر الأمر بعد خلافة عمر بن عبد العزيز إلى هلم جرا، وهو الأظهر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لأنه يبعد أن يعدد الله من نعمه على عباده ما حظره عليهم. ووجه المنع من ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] لما احتمل أن يكون إخبارا بما يفعلون لا يقتضي الإباحة، وجب أن يمنع من ذلك لما فيه من الغرر، تعلق بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وبظاهر قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، وهذا في ركوبه في الحوائج وطلب المال والتجارة وأما في ركوبه في الجهاد والحج، فلا اختلاف في جواز ركوبه في ذلك، لم(17/25)
يختلف فيه قضاء الخلفاء والله أعلم. لأن السنة قد دلت على جوازه وذلك «قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأم حرام حين نام عندها ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: " ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون لجج هذا البحر، ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» يريد في الجنة، جزاء غزوهم في البحر، يركبون لجه، وإذا جاز في الغزو، فأحرى أن يجوز في الحج. وهذا إذا ركب في إبان ركوبه، وأما في حين ارتجاجه فلا يجوز ركوبه في غزو ولا حج ولا غيره.
وهذا هو معنى قول عثمان بن عفان لمعاوية: إن كنت تركبه بأهلك وولدك، فقد أذنت لك، أي: إن كنت تركبه في إبان ركوبه، وفي حال ترجو السلامة فيه، ولا تكون مغررا بأهلك وولدك، فقد أذنت في ركوبه في هذه الحال، والله أعلم.
[فيما يذكرعن المغيرة بن شعبة في نكاح النساء]
فيما يذكر عن المغيرة بن شعبة في
نكاح النساء قال مالك: قال المغيرة بن شعبة، وكان نكاحا للنساء، وكان ربما اجتمع عنده أربعة، ثم يفارقهن جميعا، قال: كان يقول: صاحب المرأة الواحدة إن مرضت مرض معها، وإن حاضت حاض معها، وصاحب المرأتين ناران تشتعلان.
قال محمد بن رشد: في هذا وصف ما كان عليه المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مما وهبه الله إياه من القدرة على كثرة الاستمتاع بالمباح من النساء، وتلك فضيلة في الدنيا والآخرة؛ لأن الرجل يؤجر في وطء زوجاته(17/26)
وجواريه وفي الاغتسال من وطء كل واحدة منهن كلما وطئها، فهو يستمتع بالحلال، ويؤجر باستمتاعه به، فأي موهبة أعظم من هذه. وبالله التوفيق.
[الأميرين في الغزو أحدهما في البر والآخر في البحر يجتمعان]
في الأميرين في الغزو، أحدهما في
البر، والآخر في البحر يجتمعان
قال مالك: أَمَّرَ عثمان بن عفان - عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، عمرو على البر، ومعاوية على البحر، فإذا اجتمعا فمعاوية الأمير، فلما بلغا رأس مغزاهما أرسل معاوية إلى عمرو أن يأتيه فأبى فأرسل يعزم عليه، فقال عمرو: وأنا أعزم على نفسي ألا آتيك، فقال معاوية: فادن مني على شاطئ البحر، فأتى عمرو على قوس متوكئا عليها، فكلمه ما شاء الله، فقال له معاوية: أشات أنت أم أمه؟ فقيل لمالك: ما أراد أشات أنت؟ قال: يثنون، فقال: أمه؟ فقال: قافلون.
قال محمد بن رشد: وقع في موطأ ابن وهب: أشاتون أم أمه؟ فقال: أمه، فقفلوا جميعا. وإنما لم يأت عمرو معاوية إذ عزم عليه في الإتيان إليه، إذ لم يجب عليه الإتيان إليه من أجل أنه لم يجعل له عليه عثمان بن عفان إمرة إلا إذا اجتمعا. ولعله قد كانت عليه في الإتيان إليه مشقة، ولما سأله أن يدنو منه أجابه إلى ذلك لخفة الأمر عليه. والحكاية كلها بينة، لا إشكال فيها، وفيها إجازة الغزو في البحر وقد ذكرنا فوق هذا أنه مما لا يختلف في جوازه.
[المؤمن إذا غدر]
في أن المؤمن إذا غدر لم يلزم
الوفاء له بالإيمان وسئل مالك: عن أهل قبوس فيما كتب إليه عبد المالك بن(17/27)
صالح إلى مالك من أمرهم، فقال: رأيت لهم عهودا كثيرة من معاوية وعبد المالك وسليمان وغيرهم، فقلت: يا أبا عبد الله، فإن عرف منهم عدو، أترى أن يجلوا؟ قال: إني لا أرى ذلك إن عرف وتبين أن يجلوا منها.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن الوفاء بالأيمان واجب. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» ، وقال: «يجبر على المسلمين أدناهم» . فإذا أمن الإمام أهل البلد أن يقروا ببلدهم لزم ذلك من بعده من الأئمة، ولم يكن له أن ينقضه، فيجليهم عن ذلك البلد إلا أن يحدثوا ما يوجب ذلك عليهم. وبالله التوفيق.
[يوصي أن يحبس جواريه]
في الذي يوصي أن يحبس جواريه
المدة الطويلة وسئل مالك: فقيل له: إن محمد بن سليمان أوصى في جواريه أن يحبسن سبعين سنة، ثم هن أحرار، فسأل أمير المؤمنين عنهن بعض من حضره، فقال مالك: ما رأى في ذلك؟ فقال: منهم من رأى أن يبقين، ومنهم من رأى أن يحبسن، قال مالك: يبعن أو يعتقن.
قال محمد بن رشد: قول مالك: يبعن أو يعتقن، معناه: ينظر السلطان فيه، فإن رأى أن يبعن بعن، وإن رأى أن يعتقن أعتقن وعجل(17/28)
عتقهن، هكذا قال في رسم المُحرم يتخذ الخرقة لفرجه من هذا السماع من كتاب العتق. ووجه النظر في ذلك أن ينظر في ذلك، فمن كان له منهن من السن ما يعلم حقيقة أنها لا تعيش سبعين سنة، بيعت إذ قد علم أن العتق لا يدركها، فهي كمن أوصى لها بعتق بعد موتها، ومن كان لها منهن من السِن ما يمكن أن تعيش إليه عجل عتقها؛ لأن بقاءها سبعين سنة، من الضرر البين بها. وقد زدنا المسألة هناك بياناً، وذكرنا ما فيها من الاختلاف.
وأما قول من قال: إنهن يُبعن أو يحبسنَ جملة من غير أن ينظر إلى أسنانهن يوم أوصى، فلا يصح، إلا أن يستوي أسنانهن في أنه يعلم في أنهن لا يعشن سنة، أو في أنه يشبه أن يعشن أكثر من السبعين، واللَّه الموفق.
[ما يروى من مناقب سعد بن معاذ]
فيما يروى من مناقب سعد بن معاذ
قال مالك: لما كان يوم بدر، قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أشِيرُوا عَلًيّ، فَقَامَ أبُو بَكر، فَتَكًلّمَ ثمَّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَر، فَتَكًلّمَ، ثمَّ قَعَدَ، ثَمّ قَالَ: أشِيرُوا عَلَيَّ، فَقَالَ سَعدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأنَّكَ إِيَّانا تُرُيدُ يَا رَسُولَ اللهِ لَا نَقولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيل: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، وَلَكِنْ اذْهَبَ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُم مُتبِعونَ، لَوْ أتَيْتَ الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاكُم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا مَصَافَّكُم» .
قال محمد بن رشد: هذا المقام المحمود من مناقب سعدٍ المأثورة وهي كثيرة؛ لأنه من فضلاء الصحابة، وكفى من الشهادة لفضله اهتزاز عرش الرحمن لِمَوتهِ. وقد مضى قبل هذا شيء من خبره وقد وقع(17/29)
في البخاري «عَن عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَالَ: شَهدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأسْوَدِ مَشْهَدَاً لأنْ أكُونَ صَاحِبَه أحَبًّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أتَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْم موسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَشِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ، قَالَ: فَرأيْتُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أشْرَق وَجْهُهُ وَسَرَّهُ قولُه» .
[انحياز السرية إلى العسكر]
في انحياز السرية إلى العسكر وسئل مالك: عن القوم يكونون في الغزو فيبعث السرية القليلة نحواً من عشرين أو ثلاثين، فيلقون أضعَافهم من العدو، فيكثرون عليهم، فيريدون أن ينحازوا إلى أصحابهم، أترى لهم في ذلك سَعة؟ قال: نعمٍ. وتأول كتاب الله {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] قيل له: أفترى ذلك واسعاً لهم فيما بينهم وبين ما في القرآن؟ قال: نعم.
قال الإِمام القاضي: هذه مسألة فيها نظر لأنه لم ير لهم سعة في الانحياز إلى أصحابهم، إلا إذا كان الذين لقوا من العدو أكثر من أضعافهم، والذي يدل عليه القرآن، أن للجماعة أن تنحاز إلى فئتها وإن كان العدد الذين لقوا أقل من مثلهم، إذ ليس انحيازهم إلى فئتهم ليكروا ثانية فِراراً. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] الآية، فدل ذلك على أنه ليس بفار من تحيز إلى فئة ليعود، وقد جاء بيان ذلك في السنة، رُوي «عنْ(17/30)
عَبد الله بْنِ عُمَر أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَاصَ النَّاسُ حيْصةً، فَكنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِن الزَّحْفِ، وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ فَلَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَة فَبِتْنَا فِيهَا، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أنْفُسَنَا عَلَى رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ، وَإِلاَّ ذَهَبْنَا، فَأتَيْنَاه قَبْلَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ؟ " فَقُلْنَا: نَحْنُ الفَرَّارُونَ. قَالَ: "بَلْ أنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أنَا فئَتكُم وَأنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ"، فَأتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَيْهِ» . والعكارون هم الكرارون، فالمعنى في ذلك: أنهم لما كروا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو فئتهم ليرجعوا إلى ما يأمرهم به، كان ذلك كرّاً منهم إليه، وعودةً إلى ما كانوا عليه من بذلهم أنفسهم لقتال عدوهم، فاستحقوا بذلك اسم العَكَّارِين، لا الفرَّارِين. وهذا عندي من خواص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يكون الِإمام فئة للسرية إذا خرجت من عنده فأقام هو -يعنِي الِإمام- في بلده، وإنما يكون فئة لها إذا أخرجها من عسكره، فلقيت جماعة، وإن كانت أقل من مثليها فانحازت إلى الفئة التي خرجت منها. والله الموفق.
[عدة أصحاب بدر]
في عدة أصحاب بدر
وسئل عن عدة أصحاب بدر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قال محمد بن رشد: في الصحيح للبخاري عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضع عشرة وثلاثمائة. وقد قيل: إنهم كانوا سبعة عشر وثلاثمائة، ثمانون رجلاً من(17/31)
المهاجرين كلهم شهدها بنفسه، إلا ثلاثة رجال، وهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد فلم يشهدوها بأنفسهم. وضرب لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهامهم وأجورهم، فهم كمن شهدها، واحدٌ وستون رجلًا من الأوس، ومائة وسبعون رجلاً من الخزرج، واثنان من الأوس. ذكر ذلك ابن عبد البر في الدرر في اختصار السير.
[كتاب المغازي]
في كتاب المغازي وسُئل مالك: عن المغازي أَتَرى أَن تكتب؟ فأنكر ذلك وقال: ما أدركت الناس يكتبونها، فقيل له: مَن الناس؟ أهل الفقه؟ فقال: نعم، ولا أرى أَن تكتب، ولا أُحب أن أَكتبها، ولا أبتدع ذلك، وما وجدت الناس أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ والتابعين، القاسم وسعيد وسالم، يكتبونها. ولقد أدركت شيخاً كبيراً قد زاد على المائة خمس سنين ما يقبل منه حديثه، وُيعاب ذلك على من يقبله ويجرح.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره كتاب المغازي بطولها مخافة مواقع الكذب فيها، وإذ ليس في سياقتها بكمالها فائدة، من تحليل أو تحريم، تعبد الناس بحفظه والتفقّه فيه، كالأحاديث المروية عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأحكام، ووقع في بعض الكتب مكان يجرح يطرح، والمعنى في ذلك سواء.(17/32)
[الأمر بإتقان العمل]
في الأمر بإتقان العمل
وحدَّثنا مالك: «أَن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ فَكَأَنَّهُ رأى في لَبنَةٍ خَلَلًا فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُصْلَح، وقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلاً أَنْ يُحَسِّنَهُ أَوْ يُتْقِنَه» .
قال محمد بن رشد: هذا حديث بيِّن المعنى، ليس فيه ما يخفى فيحتاج أَن يُبَيَّن.
[صفة مصحف مالك المكتوب على عهد عثمان]
في صفة مصحف مالك المكتوب
على عهد عثمان
قال ابن القاسم: وأخرج إلينا مالك مصحفاً لجدِّه، فحدَّثنا أنه كتب على عهد عثمان بن عفان، فوجد حليته فضة وأغشيته من كسوة الكعبة، فوجدنا في البقرة: (وَأَوْصَى) وفي آل عمران: (سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) . وفي المائدة: (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) وفيها أيضاً: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) وفي براءة: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وفي الكهف: (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهما مُنْقَلَبًا) وفي قد أفلح: كلها الثلاث لله، وفي طسم " باخِعٌ "(17/33)
(فتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) وفي حمِ عسق (فَيمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وفي الزخرف: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وفي الحديد: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، وفي الشمس وضحاها: (فَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) وفي الطوْل: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) .
قال الِإمام القاضي: ما ذكر ابن القاسم في هذه الحكاية من أنه وجد في المصحف الذي أخرج إليهم مالك لجده المكتوب على عهد عثمان، في البقرة، وفي آل عِمران، وفي المائدة، وفي براءة، وفي الكهف، وفي قد أفلح، وفي طسم، وفي الطول هو كله مثل ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف، وأما الذي ذكر أنه وجده في حم عسق، وفي الزخرف، وفي الحديد، وفي الشمس وضحاها، فهو خلاف ما ثبت بين اللوحين عندنا في المصاحف؛ لأن الذي ثبت عندنا في حم عسق (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وفي الزخرف: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وفي الحديد (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وفي الشمس وضحاها: (فلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) ولا تأثير في هذا الاختلاف، إذ لا يتغير بشيء منه المعنى ولا اختلاف أحفظه في إجازة تحلية المصحف بالفضة، وأما تحليته بالذهب(17/34)
فأجيز وكره، وظاهر ما في الموطأ إجازته، وقد أقام إجازة ذلك بعض العلماء من حديث فرض الصلاة قوله فيه: «فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثم غَسَلَهُ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثمَّ جَاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ ممتلئ حِكْمَةً وَإِيْمَاناً فَأفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثمَّ أطْبَقَهُ» ، والمعنى في إقامة ذلك منه خفي وقد يبثه في موضعه، وبالله التوفيق.
[المعنى الذي من أجله تركت البسملة في براءة]
في المعنى الذي من أجله تركت
البسملة في براءة
قال مالك في أول براءة: إنما ترك من مضى أَن يكتبوا في أولها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فكَأَنَّه رآه من وجه الإتباع في ذلك، وكان في آخر ما أنزل من القرآن، وسمعته يقول: أخبرني ابن شهاب: أن القتل استحر يوم اليمامَة في القراء وحَمَلَة القرآن في خلافة أبي بكر الصديق، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو جمعت القرآن فإني أخاف عليه، أن يذهب، فقال: أفعلُ ما لم يفعل رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يزل يكلمه حتى عطفه بعض العطف، ورأى ما قال، فوقف واستشار أَصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأوا ذلك، فجمعه أَبو بكر، وكتبه في الصُّحف، فلمَّا مات أبو بكر، قبضه عمر، وكان عنده، فلما مات أوصى إِلى حفصة، فقبضته حفصة، وكان عمر أَوصى إِليها وذلك في رأْيي لمكانتها(17/35)
من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبضت حفصة الكتاب، فلما ولي عثمان بن عفان، اختلف الناس في اختلاف القرآن اختلافاً شديداً، حتى إِن كان الرجل ليقول للرجل أَنا أكفُر بالذي تقول، فلما رأى ذلك عثمان بن عفان، بعث إلى حفصة يسألها الكتاب فأتت عليه فأعطاها أيماناً أخذتها عليه لا يزيد فيه حرفاً ولا ينقص منه حرفاً، وأن يردها عثمان بن عفان وجميع القراء، وأرسل إلى البلدان وجميع قراء الناس، حتى إن كان الِإنسان ليأتي بالآية في جريدة فكتبه عثمان بن عفان، وردَّه إليها، وبعث في الأجناد يأمرهم بالقراءة، فلما كان مروان بن الحَكم، أرسل إلى تلك الصحف التي كانت عند حفصة فأَحرقها بالنار.
قال محمد بن رشد: ما تأوّله مالك من أنه إنَّما ترك من مضى أَن يكتبوا في أَول براءة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " من وجه الإتباع، المعنى فيه، والله أعلم: أنه إنما ترك عثمان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وسورة براءة، وإن كانتا سورتيِن، بدليل أن براءة كانت من آخر ما أَنزل الله من القرآن، وأَن الأنفال أُنزلت في سنة أربع، اتباعاً لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر، وكانت عند حفصة. وقَدْ رُوِي عَنِ ابْنِ عًبّاس أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُم أَن عَمَدْتُمْ إِلَى الَأنْفَال، وهي مِنَ المَثَانِيَ وَإِلَى بَرَاءَة وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَارَنْتُم بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُما سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَوَضَعْتمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُوْلُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معنا يَأتِي عَلَيْهِ الزَّمانُ،(17/36)
وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ، يَقُوْلُ: ضَعُوا هذَا فِي السُّورةِ الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: ضَعُوا هَذِه الآيَاتِ فِي السُّورَةِ التِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الَأنْفَالُ مِنْ أَوَائِل مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَة مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ - يَعْنِي نزولَاَ- وَكَانَتْ قَصّتُهَا شَبِيهَةً بِقصَّتِهَا، فَظَنَنْت أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْهَا، وَتُوفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْها فَمِنْ أَجل ذَلِكَ قَارَنْتُ بَيْنَهُمَا ولم أكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْع الطُّوَل.
في حديث ابن عباس هذا عن عثمان بن عفان أنه ظنَّ أَنها منها، ولذلك لم يكتب بينهما " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " وَذلك خلاف لما ذهب إِليه مالك من أنها ليست منها وأنها سورة أُخرى فاتبع ما وجد في المصحف من ترك الفصل بينهما " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وهو الأظهر أنها ليست منها، وأَنَّها سورة أخرى بدليل افتراقهما في النزول، وبدليل ما روي عن أوس بن حذيفة أنه قال: سألتُ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كيف كنتم تحزِّبون القرآن؟ قالوا: كنا نحزِّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، يريدون: وحزب المفصل، إِذ قيل: إن الثلاث سور من أَول القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والخمس سور: المائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، وبراءة، والسبع سور: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحْل، والتسع سور: إِسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحجر، والمؤمنون، والنور، والفرقان، والِإحدَى عشرة الطواسِين، والعنكبوت، والرُّوم، ولقمان، والسجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس والثلاث عشرة: والحاقة،(17/37)
وصاد والزُّمر، وحم، يعني إلى حم، وسورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، والفتح، والحجرات، وحزب المفصل، إلَا أنه لما احتمل أن يكونا سورة واحدة لاشتبَاه قصصهما، وإذ قد يجتمع في السورة الواحدة ما أُنزل في أزمان متباعدة ولم يأت عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نص بأنهما سورتان، ولم يجد عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحف بينهما فصل " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " اتبع ما وجده فيها، فكان إتباعه لذلك في موضع الاحتمال، لا في موضع اليقين. والله أَعلم بالحقيقة في ذلك كيف كان. وقد قيل: إنَّما ترك عثمان الفصل بين السورتين " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "؛ لأنها حروف رحمة، وسورة براءة ليست من جنس ما تراد به الرحمة؛ لأنها إنما هي وعيدات، وتخويفات، ونقض عهود، وِإبانةُ نفاق مَن نافق، وهذا يرده البسملة في: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقيل: إِنَّه إنما ترك الفصل بينهما بـ" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إعظاماً لمخاطبة المشركين به، وهذا يرده ما في كتاب الله من قصة سليمان في كتابه إلى صاحبة سَبَأ وما في سنّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من كتابه إِلى المشركين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وِإنَّما أخذت حفصة الأيمان على عثمان في الصحف أَن لا يزيد فيها ولا ينقص منها؛ لأنها اؤتُمنت عليها، فلم ترد أن يغير شيئاً منها بزيادة ولا نقصان فوفَّى لها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعنها بما وعدها به، وحلف لها عليه، وصرفها إِليها على حالها، بعد أن كتب ما فيها وزاد إليها ما خرج عنها ممَّا ثبت عنده أنَّه قرآن بنقل الكَّافةِ عن الكافة، لا بالشهادة على ذلك، وما جاء من أَن عثمان كان لا يثبت آيةً في المصحف حتى يشهد عنده فيها رجلان، ليس معناه حتى يشهدا عنده أَنَّها من القرآن، وِإنَّما معناه حتى يشهد عنده كل واحد منهما أَنَّه(17/38)
أَخذها عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِن فيه، لا من غيره عنه، وعلى موضعها من السورة التي هي منها مع حصول العلم أنها من القرآن باستفاضة نقل الكافة عن الكافة، فما ذكر من أن الِإنسان كان يأتي بالآية في جريدة، معناه: كان يأتي بالآية فتذكر، ويعلم أنها قرآن فيثبتها في المصحف بعد الشهادة عنده على موضعها من السورة، وعلى سماع من فِي النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وأثبت الآيتين من آخر سورة براءة قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ... إلخ السورة، بشهادة رجل واحد لِما تضمنتهُ مما هو معلوم من صفات النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد مرَّ بي فيما أحسب أَنَّه إِنَّما أَثبتها بشهادة خزيمة بن ثابت إِذ قد جعل رسول الله شهادته كشهادة رجلين. ولما حصل العلم على أَن ما تضمنه مصحف عثمان، هو جميع القرآن لا زيادة فيه ولا نقصان منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] رأى مروان بن الحكم مع استشارته مع علماء عصره أن يحرق الصحف المجموعة من القرآن، في زمن أبي بكر الصدّيق إذ كانت لم تستوعب جميعه، وبالله التوفيق.
[الِإقبال على الذكر بعد الصبح وترك الكلام]
في الِإقبال على الذكر بعد الصبح
وترك الكلام قال مالك: وكان نافع مولى ابن عمر؛ وسعيد بن أَبي هند، وموسى بن ميسرة، يجلسون بعد الصبح يذكرون الله ثم ينصرفون حين السُّبحة وما يكلم أحد منهم صاحبه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في الصلاة الثاني من المدونة بهذا المعنى سواء، وزاد فيها: يفترقون للركوع، يريد أنهم كانوا(17/39)
يجلسون في مواضعهم التي يصلون فيها للذكر، وما يكلم أحدهم صاحبه، فإِذا حلَّت الصلاة تفرقوا لركوع الضحى، ثم انصرفوا وهذا على ما ذهب إليه مالك من أنه يكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، ولا يكره فيما بين ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، لما روي عن عائشة أَنَّها قالت: «إِنَّ النَبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقهِ الأيْمَنِ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً حَدَّثَنِي حَتَّى يَأتِيَهُ ألْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، وَذلِكَ بَعْدَ طُلُوع الْفَجْرِ» . وأهل العراق على ضد قول مالك يكرهون الكلام بعد ركعتيّ الفجر إلى صلاة الصبح، ولا يرون به بأساً بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. وقال أحمد بن خالد: والسنّة ترد ما قالوا. وما قال مالك حديث عائشة هذا يرد ما قاله أهل العراق وحديثه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حًوّلَ وَجْهَهُ إِلَى النَّاس، وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رًؤْيا؟ يرد ما قاله مالك، وَحدُّ المكروه ما كان في تركه ثواب، فإِذا ترك الرجل الكلام بعد صلاة الصبح وأقبل على الذِكر أجر على الذكر، وعلى ترك الكلام، وإن ترك الكلام ولم يذكر الله أجر على ترك الكلام عند مالك، وعند أهل العراق لا يؤجر على الذكر خاصة، إِن ذَكر الله، كما يقول مالك في ترك الكلام بعد ركعتي الفجر إلى صلاة الصبح، وبالله التوفيق.
[الاختيار في قيام رمضان]
في الاختيار في قيام رمضان وسئل مالك: عن القيام في رمضان: أَمع الناس أحبُّ إليك أم ينصرف إلى منزله؟ قال: بل ينصرف إلى منزله، وليس فيه(17/40)
شك، إذا كان ممن يقرأُ القرآن ويقوى عليه، وما قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في بيته. وحدثنا مالك: أن يزيد بن عبد الله بن هُرمز كان ينصرف إلى منزله، ويقوم بأهله، وكان ربيعة بن عبد الرحمن ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالك: الانصراف لمن قوي عليه أفضل.
قال الإمام القاضي: هذا كما قال، والحجة في ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أفْضَلُ الصلاَةِ صَلَاتُكُم فِي بُيُوتِكُم إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ، وقول عمر بن الخطاب إذ جمع الناس على قارئ واحد: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضل مِن الَّتِي تَقُومُونَ. يعني آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله وهذا للرجل في خاصة نفسه، ما لم يكن ذلك سبباً لتعطيل القيام في المسجد؛ لأنها سنة أحياها عمر بن الخطاب لما ارتفعت العلة التي من أجلها ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القيام في رمضان بالناس في المسجد، وذلك «أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثمَّ صًلّى الْقَابِلَةَ، فَكثرَ النَّاسُ، ثًمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أًو الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجُ إلَيْهِم رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلًمّا أَصْبَحَ قال: رَأَيْتُ الَّذِي صَنعْتم فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوج إلَيْكُم إلّاَ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُم» . وَذَلكَ فِي رَمَضَانَ. وَقَد قالت عائشة: «إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَدَع الْعَمَلَ وَهُو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ(17/41)
يَعْمَلَ بِهِ الناسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِم» . ومن أهل العلم من رأى القيام مع الناس في رمضان في المسجد أفضل من الصلاة في البيوت؛ لأنها سنة لا ينبغي تضييعها، وهو قول محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم من أصحاب مالك.
وذهب الليث بن سعد إلى نحو ما اخترناه، فقال: لو أَن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم ولأهليهم حتى تركوا المسجد لا يقوم فيه أحد لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه في رمضان؛ لأن قيام الناس بالمسجد في رمضان من الأمر الذي لا ينبغي تركه، وهو مما سن عمر بن الخطاب وجمعهم عليه.
قال: فأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في داره لأهل بيته، ومن حجة من ذهب إلى هذا قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَاشِدِينَ مِنْ بَعْدي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنوَاجِذِ» .
[حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين]
في حسن الصوت بالقرآن وما يخاف من العين
قال مالك: وكان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن، فصلى بهم يوماً فأصابته العين حين قدم الشام.
قال محمد بن رشد: حسن الصوت بالقرآن موهبة من الله، وعطية؛ لأن حسن الصوت مما يوجب الخشوع ورقة القلوب، ويدعو إلى الخير. وقد قيل في قول الله عز وجل: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] : حسن الصوت، وما يصيب المعين يقول العائن إذا لم يُبرِّك، أمر أجرى الله به العادة في الغالب، مع القدر السابق، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/42)
وسلم: «عَلَامَ يَقْتُلُ أحَدُكُمْ أخَاهُ؟ ألاَ بَرَّكْتَ، إِنَّ الْعَيْنَ حَق» . يريد: إن اللَه قد أجرى العادة به؛ لأن قول العائن هو المُحدِث لما أصاب المعين، وبالله التوفيق.
[في أن صهيبا صلى على عمر بن الخطاب]
وسئل مالك: هل صلى صهيبٌ على عمر؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حقق مالك في هذه الرواية أنه صلى عليه، ومثله في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم من كتاب الجنائز، ووقع في سماع أشهب منه. قلت له: أبلغك أن عمر بن الخطاب صلى عليه صُهيب؟ قال: لم أسمع ذلك، ولكني أظن ذلك، لقول عمر بن الخطاب: يصلي بكم صهيب ثلاثاً، وهو ظني أن صهيباً صلى عليه، وذلك لقوله: يصلي بكم صهيباً، وهو ظن كاليقين؛ لأنه يبعد في القلوب أن يستخلفه على الصلاة أيام الشورى فيصلي عليه غيره، ولم يجتمعوا بعدً على إمام.
وهو صهيب بن سنان الرومي يعرف بالرومي، وهو من العرب؛ لأنه أصابه سبيٌ وهو صغير، فصار أعجمي اللسان. صحب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل أن يوحى إليه، ثم أسلم معه بمكة هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً فهو من المهاجرين الأولين. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِن باللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ،(17/43)
فَلْيُحِبَّ صُهَيْباً حُبّ الْوَالِدَةِ وَلَدَهَا» .
[حكاية عن مروان بن الحكم في شدته في الحدود]
حكاية عن مروان بن الحكم في
شدته في الحدود قال مالك: حدثنا يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت قرقوة عرض لها رجل من أصحاب الحمر، فنزل إليها ثم أرادها على نفسها فكشف عنها ثيابها فامتنعت منه فرمت بحجر فشجته ثم صاحت، فذهب، فأتت مروان بن الحكم، وكانت فيه شدة في الحدود فذكرت ذلك، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، وقال لها: تّعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأُدخلت بيتاً ثم قال: ائتوني بالمكارين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه، إلا جئتموني به، فأتوه بهم فجعل يُدخل عليها رجلًا رجلاً، فتقول: ليس هو هذا حتى دخل عليها به مسجوجاً، فقالت: هو هذا، فأمر به مروان أن يحبس في السجن، فأتى أبوه فكلمه فيه فقال مروان: جانيك من يجني عليك، وقد تُعدي الصحاحَ مَباركُ الجَرب، فقال أبوه: ليس كذلك، إنما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال مروان: لاها الله لا يخرج منها حتى ينفدها الفيد؟ وهم بما كشف منها، فقال أبوه: هي علي، فأمر به مروان فأخرج، فقيل لمالك: أترى هذا من القضاء يؤخذ به؟ قال: ليس هذا عندي من القضاء ولكنه على غلطة من مروان، ولقد كان مروان يُؤتَى إليه بالرجل قد قبَّل المرأة فيَنزع ثَنِيَته.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم مساجد القبائل(17/44)
من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود. وما تضمنته عن مروان بأنه قضى للمرأة بدعواها على الذي ادعت عليه أنه أرادها على نفسها وكشف عن ثيابها بألفي درهم بما ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت الظنة عليه - لا يأخذ به مالك ولا يرى عليه القضاء به، إذ لا يرى العقوبات في الأموال؛ لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مانع الزكاة: أنا آخذها منه، ونظر عزمة من عزمات الإسلام.
وما روى عنه في حريسة الجبل: أن فيها غرامة مثليها. وما روي عنه: من أن سَلَبَ مَنْ أحد وهو يصيد في الحرم لمن أخذه. كان ذلك كله في أول الِإسلام وحكم به عمر بن الخطاب، ثم انعقد الِإجماع بأن ذلك لا يجب، وعادة العقوبات على الجرائم من الأبدان، وقد أنكر ذلك على مروان بن الحكم، فقال على سبيل إنكار ذلك عليه: إنه كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينزع ثنيته. وهذه نهاية في الِإنكار.
والعقوبات في الجرائم عند مالك على قدر عقوبات الوالي وعظم جرم الجاني على أن لا يجاوز الحد، وقد أمر مالك صاحب الشُّرط في الذي وجد مع صبي في سطح، وقد جرده وضمه إليه وغلق على نفسه معه، فلم يشكوا في المكروه بعينه، أن يضربه ضرباً مبرحاً ويسجنه سجناً طويلاً حتى تظهر توبته، وتتبيّن، فسجنه صاحب الشرط أياماً قبل أن يضربه، فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد، ويقول: اتق الله فما خلقت النار باطلاً، فيقول له مالك: أجل وإن الذي أبقى عليك ابنك لمن الباطل، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوط، فانتفخ، فمات، فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به. فقيل له: يا أبا عبد الله، إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير، فقال: هذا بما اجترم، وما رأيت أنه أمسه من العقوبة إلا بما اجترم. وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة: الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره، يؤدب في ذلك(17/45)
باجتهاده وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح، وله في الواضحة: إن أقصى ما يبلغ من الأدب في المعروف بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك.
وروي عن أصبغ: أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البيِّن الفساد مائتان. وروي عنه: أن ذلك إلى اجتهاد الِإمام، وإن أتى على النفس.
وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عباس أنه قال: «مَنْ بَلَغَ حَدَاً في غَيْرِ حَدٍّ فَهُو مِنَ الْمُعْتَدِينَ» . وذهب إلى هذا محمد بن مسلمة، فقال: انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة، فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فلم يجعل عليهما أَكثر من ذلك فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوْطاً.
وقد روى عبْد الله بن مسلمة بن القعب عن مالك: أنه لا يجاوز فيها خمسة وسبعينَ، وأنه كان يقول: الأدب عندي دون الحد. والمشهور عنه المعلوم من مذهبه: أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب ابن القاسم.
وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب، ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد. وروي ذلك عن الليث بن سعد، وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين، وقال ابن أبي ليلى، وابن شُبرمة: لا يبلغ فيه مائة.
ومن أهل العلم من رأى: أنه لا يضرب أكثر من عشرة أسواط. وروي مثله عن أشهب. قال: لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب "كذا" على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه. وقد مضى هذا كله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود.
[فضل الزمن المتقدم على المتأخر]
في فضل الزمن المتقدم على المتأخر قال مالك: قال عبد الله بن مسعود: لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَالَّذِي(17/46)
قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْه، فقال مالك: أراه منذ زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، إن عامنا هذا أخصب وأرخص سعرِاً من العام الماضي، فقال: أيهما أكثر فقهاء وقراء وأحدث عهداَ بالنبوة؟ قال: الذي مضى، قال ابن مسعود: ذلك الذي أردت.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين ليس فيه ما يشكل؛ لأن صلاح الزمن وخيره إنما في صلاح أهله وكثرة الخير فيهم، وفساده وشره إنما هو بفساد أهله وشرهم، وقلة الخير والدعة فيهم، والخير والصلاح في الناس بكثرة علمائهم وخيارهم. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرًونِ قَرْني ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم ثم الَّذِينَ يَلُونَهُم» ، فزمن قرنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير من زمن القرن الذي بعده وزمن القرن الذي بعده خير من زمن القرن الذي يليه، وزمن الذي يليه خير من زمن الذي يليه، وهكذا أبداً؛ لأن الزمن إنما يُمدح بأهله، لا بكثرة الرخاء والخصب فيه، إذ قد يكثر الشر في زمن الرخاء فيكون زمنا مذموماً وتقل المعاصي والشر في زمن قلة الرخاًء والجذب، فيكون زمناً ممدوحاً. فهذا وجه قول ابن مسعود "ما من عام إلا والذي قبله خير منه ". وبالله التوفيق.
[ما يجوز من فتنة المال]
وحدثنا مالك، عن يحيى بن سعيد: أن عمر بن الخطاب لما رأى ما جُلب إليه من المال الذي أفاء الله عليه، فقال: ما ظهر مثلُ هذا قط في أًمةٍ إلا سفكت دماؤها، وقطعت أرحامها، قال مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، وقد كان يجب أن يعيش في الدنيا ويستمتع منها.(17/47)
قال الإِمام القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما ظهر مثل هذا في أمة إلا سفكت دماؤها وقطعت أرحامها، معناه: أن الناس بما ركب الله فيهم من حب المال والرغبة فيه، والحرص عليه، حسبما ذكره في كتابه حَيثُ يَقُولُ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] يتنافسون فيه ويتقاتلون عليه فيسفكون دماءهم، ويقطعون أرحامهم بسببه.
وقول مالك: ولا أرى دعاء بما دعا به إلا لما خاف من الفتن، يريد: دعاءهُ الذي دعا عند صدره: من مِنا؛ إذ أناخ بالأبطح، فكوم كومة بطحاً ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يده إلى السماء، ثم قال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، واستشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. وما قاله مالك من أَنه إنما دعا بما دعا به لما خافه من الفتن - بيِّن، من قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، فإنما تمنى الموت مخافة أن يعيش فيمتحن بالفتن، ويكون منه تضيع أو تفرط فيما يلزمه فيها، إذ هو الخليفة للمسلمين.
وقول مالك: وقد كان يحب أن يعيش في الدنيا، ويستمتع بها، ليس معناه: أنه كان يحب أن يعيش فيها لمجرد التمتع بالشهوات المباحة، وإنما معناه: أنه كان يحب أن يعيش في الدنيا ويستمتع بما يقوى به على طاعة ربه، ويتقرب به إلى خالقه من الصلوات والأعمال الزاكيات، فخيْرُ الناس مَن طال عمره، وحسن عمله؛ لأن زيادة السن زيادة في الفضيلة.
ولهذا يقدم الأسن من الرجلين في الصلاة عند استوائهما في العلم والدين. والدليل على هذا: «قَوْلُ رَسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرَّجُلَيْنِ الأخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بأرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَذُكِرَتْ فَضِيلَةُ الأوَّل عنْدَهُ فَقَالَ: "ألمْ يَكُنْ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ وَكَانَ لَا بَأسَ بِهِ، قَالَ: "وَمَا يُدْرِيكُم مَا بَلَغَتْ بِهِ صلاَتُهُ بَعْدَهُ؟ إِنَّمَا(17/48)
مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَل نَهْرٍ عَذْب غَمْرٍ بِبَلَدٍ أحَدِكُمْ يَقْتَحِم فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبقِي من درَنِهِ؟ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُهُ» . وليس قول عمر: اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، بخلاف لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من قوله: «لاَ يَتَمَنَّينَّ أَحَدُكُم الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ» لأنه إنما دعا بما دعا به، شفقة على دينه، وخوفاً من أن تدركه فتنة تصده عن القيام بأمور المسلمين في دينهم ودنياهم، لما غصب به من الخلافة عليهم. والنهيُ إنما هو عن تمني الموت عند نزول المصائب في الدنيا وحلول البلايا فيها سخطاً بالقضاء وقلة رضا به، وعدم صبر على الأذى والشدة، لا عند الخوف على فساد الدين بحلول الفتن. والله أعلم.
[حكاية من سعد بن معاذ]
قال مالك: وكان من أمر سعد حين مرَّ وعليه الدرع وهو يقول:
مَهْلًا قليلاً نَلْحَقُ الْهَيْجَا حَمَلْ ... لَا بَأْسَ بالْمَوْتِ إِذَا حَلَّ الَأجَلْ
قال محمد بن رشد: حين مر وعليه الدرع المقلصة المشمَّرة الكمين، فقالت: ما أخاف على الرجل إلا من أطرافه. وقد مضى الكلام على هذا في صدر هذا الرسم. وقوله في البيت:
مهلا قليلاً نلحق الهيجا حَمَلْ
معناه الدعاء على أن يمهله الله على ضعفه حتى يلحق الحرب؛ لأن(17/49)
الحَمَل: الصغيرُ من ولد الضأن، وقد يحتمل أن يكون قال ذلك وهو ضعيفٌ من الجرح الذي أصابه بالخندق، فمات منه بعد شهر. وقوله في قسم البيت الثاني:
لَا بَأسَ بِالْمَوْتِ إِذَا حَلٌ الأجَلْ
معناه: لا أكره الموت في سبيل الله، بل أرغبه إذا لم يكن منه بُدٌّ، وحان له الأجل. وبالله التوفيق.
[إجلاء عمر يهود خيبر]
في إجلاء عمر يهود خيبر قال مالك: قال ذلك اليهودي لعمر، وَقَدْ أقَرَّنَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ عُمَرُ: ألَمْ أسْمَعْهُ يَقُولُ لَكَ: كَيْفَ بكَ إِذا رَقَصَتْ بك قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيلةٍ، قال: إِنَّمَا كانت هَزِيلَةً مِنْ أبِي الْقَاسِم، فَقَالَ عُمَرُ: كًلّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْل.
قال محمد بن رشد: القائل ذلك لعمر، من اليهود رجل من كفار أهل خيبر، حين أجلى أهل خيبر عن خيبر بما ثبت عندهُ من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأرْض الْعَرَبِ» - وروي: بِجَزِيرَةِ العَرَبِ، وجزيرة العرب هي منبتهم: مكة والمدينة واليمامة واليمن، وقيل لها جزيرة العرب، لِإحاطة البحر والأنهار بها من أقطارها إلى البصرة، فأبطل عمر احتجاج اليهودي عليهم في إجلائهم عن خيبر، بإقرار النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياهم فيها بما أخبر أنه سمعه من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لأن ذلك يدل(17/50)
على أن إقراره إياهم فيها لم يكن على التأبيد بِحق أوجبه لهم، وإنما كان لمنفعة المسلمين، إلى أن يأمر بإجلائهم فَيُمْتَثَلَ أمرُهُ فيها، وذلك من أعْلام نبوته؛ لأنه أخبر بما كان قبل أن يكون، فكان كما أخبر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك أجلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهود نجران وَفَدَك. فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الأرض والثمر شيء، وأما يهود فَدَكَ فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على ذلك، فأعطاهم عمر قيمته من ذهب وورق وجمال وأقتاب وأجلاهم عنها. وبالله التوفيق.
[السبب التي استحل به رسول الله صلى الله عليه بني النضير]
في السبب التي استحل به رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بني النضير
قال مالك: «جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني النضير يستعينهم في دية فقعد في ظل جدار، فأرادوا أن يلقوا عليه رَحَا. فأخبرهُ الله بذلك، فقام وانصرف، فبذلك استحلهم وأجلاهم إلى خيبر» وصَفيَّةُ من أهلها، سباها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، قال: «فرجع إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلاهم على أن لهم من أموالهم ما حملت الإبل والصفراء والبيضاء والخلقة والدِّنَان وَمِشَكِّ الحمل» . قال: الصفراء والبيضاء الذهب والورق والخلقة السلاح والدنان الفخار ومشك الحمل يستقي فيه الماء جلود يدبغونها بشعرها، «فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ حين رجعَ إليهم: يَا أخَاييثُ يَا وُجُوهَ القِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» .
قال الِإمام القاضي: الدية التي ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/51)
وسلم إلى بني النضير ليستعينهم فيها هي دية الرجلين الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية في منصرفه من بئر معونة، بعد أن أسره عامر بن الطفيل وأطلقه، وذلك أنهما نزلا معه في ظل، فسألهما: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما قتلهما وهو يرى أن قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بئر معُونة، وكان معهما عهد من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم به عمرو فلما قدم على رسول الله وأخبره الخبر، قال: لقد قتلت قتيلين كان لهما جوار، لأدينهما، هذا عمل أبي براء، وذلك أن أبا براء الكلابي، ويعرف بملاعب الأسِنّة، كان قد وفد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاه إلى الِإسلام فلم يسلم ولم ينقد. وقال له: لو بعثت رجالَاَ من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال له النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني أخشى عليهم أهل نجد، فقال: أنا جارٌ لهم، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم جماعة من أصحابه، قيل: في سبعين من خيار المسلمين، فنهضوا حتى نزلوا ببئر معونة، وبعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عدو الله عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه حتى عَدَى عليه فقتله، واستصرخ عليهم قبائل من سليم عُصية ورعل وذكوان فأجابوه وخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فأخذوا سيوفهم، ثم قاتلوا حتى قُتلوا من عند آخرهم إلا من كان منهم غائباً في سرحهم.
منهم عمرو بن أمية، أسروه فأطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جر ناصيته في رقبة كانت على أمه زعم. فلما ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني النضير، وكانت بينه وبينهم موادعة، ليستعين بهم في دية هذين القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية ولهما منهما منه جوار. قالوا له: اجلس يا أبا القاسم حتى تطعم، وترجع بحاجتك، ونقوم نتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، فقعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبي بكر، وعمر وعلي ونفر من الأنصار إلى جدار(17/52)
من جُدرهم فتآمروا على قتله، وقالوا: مَن رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمد صخرة فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك بعضهم وهو عمرو بن جِحاش وأوحَى الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يشعر أحد ممن معه ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وراث عليهم خبره، أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقة المدينة، فقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أبو القاسم قبل أن نقيم له حاجته، ولحق به أصحابه بالمدينة، فأخبرهم بما أوحى الله به إليه ونزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [المائدة: 11] ... الآية، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالتهيؤ إلى قتالهم وخرج بهم إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فتحصنوا منه في الحصون، فحاصرهم ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها. ودسَّ إليهم عبد الله بن أبي ابنُ سلول ومن معه من المنافقين أنهم يقاتلون معهم وينصرونهم، وذلك قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ} [الحشر: 11] إلى قوله: {لا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم فألقوا بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويخليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر.
وذلك معنى قوله في هذه الرواية: وأجلاهم إلى خيبر ومنهم من صار إلى الشام، وكان ممن صار منهم إلى خيبر أكابرهم كحيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فدانت لهم خيبر، فَصفيَّةُ بنتُ حيي بن أخطب من أهل خيبرَ كما قاله مالك في هذه الرواية؛ لأن أباها حيي بن أخطب من بني النضير، احتمل إلى خيبر، فصار من أهلها. وروي عن الحسن قال: بلغني «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجلى بني النضير. قال لهم:(17/53)
" امْضُوا فَهَذَا أوَّلُ الْحَشْرِ وَأنَا عَلَى الأثَرِ» . وأنزل الله تعالى في ذلك في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 2] إلى قوله: {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] . وذلك أن المؤمنين جعلوا يخربونها من ظاهرها وجعلوهم يخربونها من أجوافها لما أيقنوا أن الله أعلم بغلبة المسلمين عليهم فيها. وقد قيل: إنما كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا ببعضها ما هدم المسلمون من حصونهم. والأول أظهر. والله أعلم.
وأنزل في أمرهم: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] يقول عز وجل: لولا أن كتب على اليهود من بني النضير في أم الكتاب الانتقال من موضع إلى موضع، ومن بلد إلى آخر لعذبتهم في الدنيا بالقتل والسباء، لكني رفعت العذاب عنهم في الدنيا بالقتل، وعذبتهم فيها بالجلاء، ولهم في الآخرة عذاب النار مع ذلك.
وأنزل تعالى في أمرهم: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] فكانت بنو النضير صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم تخمس، فكانت منها صدقاتَه، على ما قاله مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، وما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، معناه: ما بقي منها بعض صدقاته، وإنما خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، حاشى سهل بن حنيف وأبي دُجانة، لفقرهما، والحارث بن الصمة؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين، فكانوا يكفونهم المئونة، ويقاسمونهم في الثمر فلما جلا بنو قينقاع وبنو النضير، قال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن(17/54)
شِئْتُم بَقِيتُم عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ، وَقَسَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُم رَجَعَتْ إِلَيْكُم أمْوَالُكُم وَقَسَمْتُ لَهُم دونَكُم» فاختاروا ذلك ففعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد وقع في رسم صلى نهاراً بعد هذا من قول مالك: إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسم قريظة بين المهاجرين، ونفَرٍ من الأنصار، سمعت منه أنهم ثلاثة: سهل بن حُنيف، والحارث بن الصمة، وسماك بن حرشة. قال: فأما النضير فإنها كانت صافية، لم يكن فيها خُمس، وخيبر، كانت صافية إلا قليل منها فتحت عنوة، وذلك يسير، فخمس ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما في المدونة وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الجهاد هو الصحيح؛ لأن ما لَم يُوجَفْ عليه بخيل ولا ركاب، هو الذي لا خمس فيه، ولا حق لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقسمه باجتهاده، فخص بالنضير المهاجرين للمعنى المذكور، إلا ثلاثة من الأنصار، ومنها كانت صدقاته، وكذلك ما كان من خيبر، لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا ركاب، لم يكن فيه خمس، ولا حق لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقطع منه لأزواجه، وأما ما كان منها قد أوجف عليه بالخيل والركاب، فخمَسه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقسمه بين الغانمين، وكذلك قريظة؛ لأنها افتتحت بقتال، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان، أحرزا أموالهما، أحدهما يامن بن عمير وابن كعب بن عمرو بن جحاش. وذكر أنه جعل جعلاً لمن قتل ابن عمه عمرو بن جحاش لما هم به في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[عمر بن عبد العزيز زهده في زهده وخوفه الله]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز في زهده وخوفه الله قال مالك: أمر عمر بن عبد العزيز رجلاً يشتري له ثوباً(17/55)
بستمائة درهم، للحاف، فسخطه، فلما ولى أمر ذلك الرجل، أن يشتري له كساء بسبعة دراهم، فلما جاء به أخذه فلبسه ثم تعجب لحسنه، فضحك الرجل، فقال له عمر: إني لأظنك أحمق، تضحك من غير شيء، قال: إنما ضحكت لمكان اللحاف الذي أمرتني أن أشتريه بستمائة درهم، قال: فصمت ساعة، ثم قال: أخشى ألا يشتري أحد ثوباً بستمائة درهم وهو يخاف الله.
قال محمد بن رشد: هذا من زُهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وخوفه لله نهاية في ذلك. وفضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه مشهورة لا تخفى، قد حصل الإجماع على الثناء عليه والشهادة بالخير له، حتى قال ابن القاسم في رواية الصلت عنه على ما وقع في سماع عبد الله بن الحسن من كتاب الأيمان بالطلاق: إن من حلف بطلاق امرأته أنه من أهل الجنة لا تطلق عليه امرأته. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك. وبالله التوفيق.
[أول ظعينة قدمت المدينة]
في أول ظعينة قدمت المدينة
قال مالك: كان أَول ظعينة قدمت المدينة أُم سلمة، فخرجت وحدها من مكة مهاجرة، فرآها رجل من قريش فتبعها حتى إِذا نزلت حط رحلها ورحل لها، حتى إِذا أَرادت الرحيل تنحَّى عنها، فإِذا همَّت بالرحيل رحل لها، حتى رأى المدينة، فقال لها: هذا الموضع الذي تريدين ثم انصرف.
قال محمد بن رشد: أُم سلمة هذه هي بنت أَبي أُمية بن المغيرة المعروف بزاد الراكب، أحد أَجواد قريش المشهورين بالكرم زوج النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، كانت قبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ تحِت أَبي سلمة بن عبد الأسود فولدت له أَولاداً منهم أبو سلمة الذي كُنيت به، وهاجرت معه إلى(17/56)
أرض الحبشة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة له: أَنها أَولُ من هاجرت مع زوجها إلى أَرض الحبشة. وذكر في كتاب الدرر له: أَن أول من خرج من المسلمين فارّاً بدينه إلى أَرض الحبشة عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رجع أَبو سلمة مع زوجته أم سلمة المذكورة من أرض الحبشة إلى مكة في جملة من رجع إليها، لمَّا كان اتصل بهم من أن قريشاً قد أَسلمت أَو أَكثرها خبراً كاذباً، ثم هاجر أبو سلمة ثانية من مكة إلى المدينة، وحبست عنه امرأته أم سلمة سنة، ثم أَذن لها باللحاق بزوجها، فانطلقت مهاجرة، فكانت أول ظعينة قدمت المدينة على ما قاله مالك في هذه الرواية. والرجل الذي شيعها من قريش حتى رآها تحل المدينة وكان كافراً هو عثمان بن طلحة، وذكر ابن عبد البر في كتاب الصحابة من رواية محمد بن مسلمة المغني عن مالك قال: هاجرت أم سلمة وأم حبيبة إلى أرض الحبشة ثم خرجت مهاجرة إِلى المدينة، وخرج معها رجل من المشركين، وكان ينزل بناحية منها، إِذا نزلت، ويسير معها إذا سارت، ويرحل بعيرها ويتنحَّى إذا ركبت، فلما رأى خيل المدينة قال: هذا الأرض التي تريدين ثمَّ سلَّم عليها وانصرف. والذي في هذه الرواية من أنها إِنما خرجت من مكة مهاجرة يريد بعد رجوعها إليها من أرض الحبشة هو الصحيح، والله أَعلم.
[تفسير بَكّةَ ومكَّة]
في تفسير بَكّةَ ومكَّة
قال: وسئل مالك: عن تفسير مكة وبَكة؟ فقال: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع، يريد القرية.
قال محمد بن رشد: أَراه أخذ ذلك والله أعلم من قوله عزَّ وجلّ؛ لأنه قال في بَكَّة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] وهو إِنَّما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من(17/57)
القرية. وقال في مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] ، وذلك إنَّما كان في القرية لا في موضع البيت.
[ما جاء من أن عبد المطلب حفر بئر زمزم]
فيما جاء من أنَّ عبد المطلب حفر بئر زمزم قال مالك: رأى عبد المطلب أنه يُقال له: احفر زمزم، لا تنزف ولا تهزم، بين فرث ودم، تروي الحجيج الأعظم، في موضع التراب الأعصم. قال: فحفره.
قال الِإمام القاضي: قد جاء في الصحيح: أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كان بينه وبين أهله ما كان خرج بابنه إسماعيل وأمه ومعهم شنة فيها ماء، حتى قدم مكة، فوضعها تحت دوحة فجعلت تشرب من الشنّة ويدرّ لبنها حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحس أحداً فصعدت على الصفا فنظرت فلم تر أَحداً ثم هبطت فلما صارت في الوادي، رفعت رأسها فسعت سعي الِإنسان المجهود، ثم صعدت على المروة، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات وابنها يلتوي من العطش، فلما كان في آخر ذلك، سمعت صوتاً فأصغتَ إليه فقال: قد سمعت أن كان عندك غواث، فإذا جبريل فقال بعقبه هكذا، فاندفق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفن، قال: فقال أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ الْمَاءُ ظَاهِراً» أي: لكانت زمزم عيناً معيناً، فيحتمل أن يكون بعد ذلك قد رفعت السيول فتلقاه الرمل والتراب حتى انطمس وعفا أثره، فكان من عبد المطلب في حفره ما ذكر في هذه الحكاية، والله أعلم.(17/58)
[ما يزع الِإمام الناس]
فيما يزع الِإمام الناس قال مالك: بلغني أَن عثمان بن عفان قال: ما يزع الِإمام الناس أكثر مما يزعهم القرآن، قال: يزعهم يكفهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن الذين ينتهون من الناس عن محارم الناس مخافة السلطان، أكثر من الذين ينتهون عنها لأمر الله، ففي الِإمام صلاح الدين والدنيا، ولا اختلاف بين الأمة في وجوب الِإمامة ولزوم طاعة الِإمام.
[تكنية الصبي]
من تكنية الصبي وسئل مالك: عن الصبي أيُكنَّى؟ قال: لا بأس بذلك، فقيل له: فكنّيت ابنك أبا القاسم، قال: أمَّا أنا فلا أفعله، ولكن أهل البيت يكنّونه فلا أرى بذلك بأساً.
قال محمد بن رشد: قوله في تكنية الصبي: إنَّه لا بأس بذلك - يدل على أن ترك ذلك أحسن عنده، ولذلك قال في تكنية ابنه: أمَّا أنا فلا أفعله. وأهل البيت يكنونه. وإنَّما كان تركه أحسن، لما في ظاهره من الِإخبار بالكذب؛ لأن الصبي لا ولد له يكنى عن اسمه به كما يفعل ذلك من له ولد من الرجال، وجاز، ولم يكن فيه إثم ولا حرج، إِذ لا يقصد بذلك إلى الِإخبار بأنه والد للمكنى باسمه، وإنَّما تجعل الكنية التي يكنَّى بها اسماً علماً له على سبيل الِإكرام له والترفيع به، وبالله التوفيق.
[دليل النبي عليه السلام في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته]
في دليل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هجرته إِلى المدينة وما ظهر في ذلك من معجزاته قال مالك: كان اسم الدليل رقيط، وكانوا أربعة، النَّبي عليه(17/59)
السلام، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولي أبي بكر، والدليل.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في بعض الكتب: رُقيط، وفي بعضها: أُريقط. وقال ابن عبد البر في الدرر له: إِن اسمه عبد الله بن أرقط. ويقال: أريقط. وكان النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قد استأجراه حين خروجهما من مكة ليدل بهما إلى المدينة، وكان معهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، فكانوا في مسيرتهم إلى المدينة أربعة كما قال، وذلك أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لما بايَع أهل المدينة الأنصار، ودخلوا في الِإسلام، وهاجر إليها من هاجر من المسلمين، شق ذلك على قريش، وقالوا: هذا شيء شاغل لا يطاق، فأجمعوا أَمرهم على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عزَّ وجلّ أن يعمي عليهم أثره فطمس اللَّه تعالى على أبصارهم، وخرج وقد غشيهم النوم فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم أن ليس في الدار دَيار، فعلموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فات ونجا وتواعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أَبي بكر الصدِّيق للهجرة، ودفعا راحلتيهما إلى الدليل المذكور، وكان كافراً لكنهما وَثقا به، فاستأْجراه ليدل بهما إلى المدينة، ثم نهضا حتى دخلا الغار بجبَل ثور، وكانت أسماء بنت أَبي بكر تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف فقفا الأثر حتى وقف على الغار، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فانظروا، فنظروا فإِذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، وأمر الله تعالى حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إلى ذلك أيقنوا أن ليس في الغار أحد، فرجعوا، «فقال أبو بكر للنَّبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ لأبْصَرَنا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .(17/60)
فلما مضت لبقائهما في الغار ثلاثة أيام أتاهما الدليل براحِلتيهما وأسماء بسُفرتهما، وكانت قد شقًت نِطاقها، فربطتَ بنصفه السُفرة، وانتطقت النصف الآخر ولهذا سميّت أم النطاقين فركبا راحلتيهما وأردف أبو بكر عامر بن فُهيرة، وتقدمهم الدليل، فصاروا أربعة كما قال في الحكاية، حتى وصلوا إلى المدينة. وروي عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ» . وقد وصف أصحاب السير مراحله في طريقه مرحلة مرحلة، وما كان منه فيها من أعلام نبوَته المعجزات، من ذلك خبره مع سراقة بن مالك بن جعشم وذلك أنهم مروا في مسيرهم بناحية موضع سراقة بن جعشم، فلما رآهم علم أنهم الذين جعلت فيهم قريش ما جعلت لمن أتى بهم، فركب وتبعهم ليردهم بزعمه، فدعا عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم استقلَّت فأتبعها دخان، فعلما أنها آية فناداهم قفوِا علي وأنتم آمنون فوقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فهم به فساخت يدا فرسه، فقال: ادع الله لي فلن تر مني ما تَكره، وأنا أَنصرف عنك الطلب فدعا له فاستقلت فرسه، وسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَن يكتب له كتاباً فأمر أبا بكر فكتب له وانصرف، وجعل يرد كل من لقي يقول لهم: قد كفيتكم هذه الناحية فكان أَول النهار طالباً لرسول الله وآخره معه راداً للطالبين عنه. وخبره مع أُم معبد حين مروا بها في خيمتها في شاتها الحائل على ما هو مشهور معلوم بنقل الثقات وساروا على غير الطريق المعهودة حتى وصلوا إلى المدينة فنزلوا بقباء ضحى يوم الاثنين، وقيل: عند استواء الشمس، لاثنتي عشرة ليلة خلت لربيع الأول، وأول من رآه رجل من اليهود وكان أكثر أهل المدينة قد خرجوا ينظرون إليه، فلما ارتفع النهار وقلصت الظلال، واشتدَّ الحَر يَئِسوا منه وانصرفوا ورآه(17/61)
رجل من اليهود كان في نخل له، فصَاح: يا بني قيلة، هذا جدّكم قد جاء، يعني حظكم، فخرجوا وتلقوه، فقيل: إنَّه دخل معهم المدينة، فقيل: إنًه نزل على سعد بن خيثمة، وقيل: إنَّه نزل على كلثوم بن هرم، وكان فيمن خرج إليه قوم من اليهود كان فيهم عبد الله بن سلام، قال: فلما نظرت إلى وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعت منه: «أَيها النًاسُ أفْشُوا السَّلامَ وَأَطْعِموا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الَأرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللًيْل وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنًةَ بِسَلاَمٍ» .
[ذم الحسد]
في الحسد
قال مالك: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكِبَر والشحّ، حسد إبليسِ وتكبّر على آدم، وشحّ آدم، فقيل له: كلْ من شجر الجنة كلها إلَا التي نهاه الله فشحَّ فأَكل منها.
قال محمد بن رشد: الحسد من الذنوب العظام لأن الله تَعالى نهى عنه وحرمه في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عزَّ وجلّ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] أن يعطيه مثل ما أعطاه لغيره، دون أن تزول(17/62)
النعمة عنه فليس ذلك بمحظور ولا حسد، وإنما هو الغبطة، تقول غبطت الرجل في كذا، وحسدته عليه، فالغبطة مباحة، والحسد محْظور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَسَدَ إِلّاَ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُل آتَاهُ اللًهُ الْقُرْآنِ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْل وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ» معناه لا حسد أصلاً، لكن في هذين الاثنتين تغابطوا فيهما فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع، ومن الناس من ذهب إلى أن قول النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليس على عمومه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد أَباحه في الخير، وقال: «لا حسد إلّاَ في اثنتين» ، والذي ذهب إلى هذا قال: إن الحسد على وجهين: حسد معه بغيٌ، وحسدٌ لا بغي معه. وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِذَا حَسَدْتُم فَلَا تَبْغُوا» .
والبغي والله أعلم هو أَن يريد الإِضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه، فالحسد الذي لا بغي معه جائز، والحسد الذي معه البغي محظور. فالحسد على هذا ينقسم على قسمين: حسد في الخير، وحسد في المال، فالحسد في الخير مرغب فيه، إذ لا بغي فيه، والحسد في المال جائز إذا لم يكن معه بغي، ومحظور إن كان معه بغي، وكذلك الكبر محظور مذموم؛ لأن الكبرياء إِنَّما هي لله تعالى، فمن تكبَّر قصمه الله ومن تواضع رفعه الله.
والشحّ على وجهين: شحّ بالواجبات، وشحّ بالمندوبات، فأما الشحّ بالواجبات فحرام، وأما الشح بالمندوبات فمكَروه. فمن وُقي الشح في الوجهين فقد أفلح، قال عزَّ وجلّ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] .
وقوله في آدم: فشحَّ فأكل منها. معناه: فشحَّ أَن يأكل من ثمر الجنَّة التي أباح الله له الأكل منها إِبقاءً عليها وشحًّا بها، وأكل من التي نهاه الله عنها. والله الموفق.(17/63)
[الأدب في الأكل]
في الأدب في الأكل وسُئل مالك: عن رجل يأكل في بيته مع أهله وولده، فيأكل معهم فيما بينهم، ويَتناول ذلك من أَيديهم، قال: لا بأس بذلك، وسُئل مالك: عن القوم يأكلون في مثل الحرس، فيتناول بعضهم بين يدي بعض، وبعضهم يتوسع لبعض. قال: لا خير في ذلك، وليس هذا من الأخلاق التي تعرف عندنا.
قال محمد بن رشد: إنَّما لم ير بأساً إذا أكل الرجل في بيته مع أهله وولده، مما يليهم؛ لأن الرجل لا يلزمه أن يتأدَّب مع أهله وولده في الأكل، ويلزم أَهله وولده أن يتأدّبوا معه فيه، وعليه هو أَن يأمرهم بذلك على ما جاءت به السنّة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قوله لربيبه عمر بن أبي سلمة: «سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» ، وكذلك الرفقاء إذا اجتمعوا في الأكل يلزم أن يتأدَّب كل واحد منهم في أكله مع صاحبه، فلا يأكل إلَّا مما يليه على ما قاله مالك في القوم يأكلون في مثل الحرس أَو في مثل الجريش على ما وقع في بعض الكتب. وهذا في الطعام الذي صفته واحدة، لا تختلف أغراض الآكلين فيها كالثريد واللحم وشبهه، وأما الطعام المختلف الذي تختلف أغراض الآكلين فيه، فلا بأس أن يتناول بعضهم ما يعجبه منه، وإن كان يلي غيره. وقد جاءت به السنّة. رُويَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عِكْرَاشٍ بْنِ ذُؤيْبِ قَالَ: «بَعَثَنِي بَنُو مرةَ بن عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْتُهُ جَالِساً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ فَأَتَيْتُهُ بِإِبلٍ كَأَنَّهَا عُرُوقُ الأرطى فَقَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤيْبٍ، فَقَالَ: ارْفَعْ فِي النَّسَبِ، فَقُلْتُ: ابْنِ حُرْقُوصٍ بْنِ جعْدةَ بْنِ عَمْرِو بنِ النزال بنِ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ. وهَذه صَدَقَاتُ بَنِي مُرةَ بن عُبَيدٍ، فَتَبَسَّمَ(17/64)
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثمَّ قَالَ: بَل هذه إِبِلُ كرمي ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُوسَمَ بِمِيْسَم إِبِل الصَّدَقَةِ وَتُضَمَّ إلَيْهَا ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَنْزِل أُمِّ سَلَمَةَ زَوْج النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَام؟ فَأَتَتنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدكِ فَأَقْبَلْنَا نأكلُ مِنْهَا فَأكًلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَجَعَلْتُ أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا، فَقَبَضَ رَسولُ اللَّهِ بِيدهِ الْيًسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى. وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثمَّ أَتَتْنَا بِطَبَقٍ فِيهِ ألْوَانٌ مِن رطِبِ أَوْ ثَمْرِ -شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ: رُطَباً كَانَ أَو ثَمْراً؟ - فَجَعَلْتُ آكُلُ مِمَّا بَيْنَ يَدِيَّ فَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْث شِئْتَ ثمَّ أَتَتْنَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ مَسَحَ بِبَلَل كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وذِرَاعَيْهِ وَرَأسهُ ثمَّ قَال: لا يَا عكْرَاشُ هذَا الْوُضوءُ» .
[كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم]
في كراهية التنعُّم وزَيِّ الأعاجم
قال مالك: بلغني أَن عمر بن الخطاب قال: إِيَّايَ والتَّنعّمَ وَزَيَّ الأعَاجِمَ.
قال محمد بن رشد: قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِيَّاي والتنعم، معناه: التحذير من التنعم بالمُباحات في الدنيا، وذلك منه على سبيل التورع فيها، والتقلل منها؛ لأن من تنعم بشيء في الدنيا، فلا بد أن يسأل عن تنعمه، وما يجب لله من الحقوق فيه، قال عزَّ وجلّ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه في الطعام الذي أكلوه عند أَبي الهيثم بن التيهان، وقد صنع لهم(17/65)
خبزاً من شّعير وذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة: «لتسألنَّ عن النعيم هذا اليوم» . ومن حق المسلم الخائف لله، لا يتنعّم في الدنيا، ويطوي بطنه عن جاره وابن عمه، وقد أدرك عمر بن الخطاب جابر بنَ عبد الله ومعه حِمل لحم، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أَمير المؤمنين قدمنا إلى اللحم، فاشتريت بدرهم لحماً فقال عمر: أَمَا يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره وابن عمه؟ أَين تذهب هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، وأمَّا زي العجم فإنَّما نهى عنه عمر بن الخطاب لما فيه من التشبّه بهم، وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم، وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْم كَانَ شَرِيكَ مَنْ عَمِلَهُ» . فزي العجم منهي عنه ملعون لابسه، وكذلك سيوفهم وشكلهم، وجميع زيهم، هو مثله في اللعنة والكراهة، قال ذلك ابن حبيب في الواضحة، فلا يجوز لأحد لبسه في صلاة ولا غيرها، ومن جهِل فلبسه في الصلاة فلا إعادة عليه إذا كان طاهراً وقد أساء. وبالله التوفيق.
[إيثار الرجل المساكين على نفسه]
في إيثار الرجل المساكين على نفسه
بالطيب من الطعام قال مالك: كان طاووس يشتري الجزرة لسُفرتِهِ، فيدفعها إِلَى المساكين قبل أن يذبحها، وكان يعمل الطعام الطيب، ويدعو إليه المساكين، فقيل له: لو دعوت أشراف الناس،(17/66)
فقال: لا، إن هؤلاء لا عهد لهم بمثل هذا، فقيل لمالك: فإِنَّه كان بمصر رجلٌ يسمى مروان اليحصبي يفعل ذلك، فقال: ما أَجود أن يفعل هذا، وأعجبه العمل به.
قال محمد بن رشد: الفضل في هذا بيِّن لا يخفى، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] . وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فإذا أعطى الرجل المساكين فضل الطعام كان له عند الله فضل.
[يَمُد من بسم الله الرحمن الرحيم ما لا يُمَدُّ]
فيمن يَمُد من بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ما لا يُمَدُّ وسئل مالك: عن مد " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، أترى به بأساً؟ قال: لا بأس به، وما الذي يسْأَل عن مثل هذا؟ قال: وسألته عن مد " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قبل أن يجعل السين، قال: ما يعجبني.
قال محمد بن رشد: إذا لم ير بأساً في المد في الخط فيما بين السين والميم من " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأنكر السؤال عنه؛ لأن الجواز فيه بيِّن، بل هو مستحب مستحسن؛ لأن مد الخط في كتاب اسم الله تفخيمٌ له، وتحسين فيه، ومن الحق أن يفخم له عز وجل في الكتاب، ويحسن غاية ما يقدر عليه، على ما جرى به عمل الناس في القديم والحديث، ولا يدمج ويخرج، وأما المد فيما بين الباء والسِّين من اسم الله في الخط،(17/67)
فوجه الكراهة في ذلك، أن الباء ليست من اسم الله، وإنما دخلت عليه للِإلزاق والِإعلام بالبداءة؛ لأن المعنى في ذلك: أستفتح كلامي وفعلي باسم الله، فلا يحسن أن يفرق بينهما بالمد كما يفعل بين الحرفين من الاسم ليحْسن به؛ إذ ليس من الاسم، وبالله التوفيق.
[القران في الثمر]
في القران في الثمر وسئل مالك: عن القران في الثمر، قال: لا خير في ذلك، قال ابن القاسم: يعني أن يكون الإنسان يأكل ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة. قال مالك: خرج عمر بن الخطاب إلى أرض الحبشة في الجاهلية في جهد أصابهم، فاستضاف قوماً من الحبشة فجاءوهُ بخزيرة غير كبيرة، وعلى رأسها شيء من سمن، فطفق أحدهم يدور منها مثل النواة فيأكله، قال عمر: فخيَّرتُ نفسي بين أن آكل كما كنت آكل أو آكل كما يأكلون، فرأيت أن آكل كما يأكلون، فأكلت، وذكر ذلك عند القران في الثمر. قال ابن القاسم: يعني بخزيرة: عصيدة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إنه يأكل الإِنسان ثمرتين أو ثلاثاً في لقمة - تفسير صحيح لا اختلاف فيه وفي صحته، وإنما قال مالك: لا خير في ذلك، للنهي الوارد في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد اختلف في علة النهي عن ذلك، فقيل: إنما نهى عنه لما فيه من سوء الأدب، فعلى هذا لا يجوز لمن واكل قوماً يلزمه أن يتأدب في أكله(17/68)
معهم - أن يقرن دونهم، وإنما يجوز ذلك له مع أهله وولده، إذ لا يلزمه أن يتأدب في أكله معهم على ما مضى فوق هذا من أنه لا بأس إذا أكل معهم أن يتناول مما بين أيديهم، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. وما فعله عمر بن الخطاب مع الذين استضافهم في الخزيرة التي أتوه بها؛ لأنهم لما أتوه بها، فقد أذنوا له في الأكل منها على أي صفة شاء، فرأى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يترك عادته في الأكل، تأدباً معهم. وقيل: إنما نَهى عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يواكله بأكثر من حقه، فعلى هذا يجوز لمن أطعم قوماً وأكل معهم أن يقرن دونهم. وهو قول مالك في رسم الأقضية من سماع أشهب بعد هذا.
وللشركاء في الطعام إذا كان ملكاً لهم، وأطعموا إياه أن يقرن أحدهم إذا استأذن أصحابه في ذلك. وذلك مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية ابن عمر. قال: «نهى رسول اللَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يُقرِن الرجُلُ بَيْنَ الثَّمْرَتَيْنِ حَتَى يَسْتَأذِنَ أَصْحَابَهُ» وبالله التوفيق.
[انتظار الِإمام الناس للخطبة بعد صعوده على المنبر]
في انتظار الِإمام الناس للخطبة
بعد صعوده على المنبر قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فجلس عليه وصمت حتى ذهب الأذان إلى العوالي فأذن الناس بجلوس عمر على المنبر قبل الخطبة حتى جاءوا ثم تكلم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[قال الِإمام القاضي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : إنما جلس عمر على المنبر قبل الخطبة ليعلم الناس أنه يريد أن يخطب عليهم فيجتمعوا لاستماع خطبته. وهذا أحسن من الفعل في الخطبة على الناس لأمر ينزل بهم، لا في خطبة الجمعة؛ لأنه إنما يجلس فيها على المنبر ما دام(17/69)
المؤذنون يؤذنون، على ما أتت به السنة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
[صفة القصد المحمود]
في صفة القصد المحمود
قال: وسمعت مالكاً يذكر القصد وفضله، قال: وإياك من القصد ما تحب أن تُرفع به، فقيل له: لم؟ فقال: ما يعجب به، ولعجب الناس.
قال محمد بن رشد: القصد الاقتصاد في الإنفاق واللباس، وفي معناه جاء الحديث: «ما عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» ، وكفى في بيان فضله ثناءُ الله تعالى على أهله بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وذكر مالك في الموطأ أنه بلغه عن عبد اللهِ بن عباس أنه كان يقول: الْقَصْدُ وَالتُّؤدة وَحُسْنُ السّمت جُزْءٌ مِن خَمْسِةِ وَعِشْرِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوءَةِ. وقد روي عن ابن عباس معناه مرفوعاً إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَيُكْرَهُ مِنَ الْقَصْدِ كَمَا قَال: مَا يُعْجَبُ بِهِ فَاعِلُه فَيُعْجِبُ النَاسَ، وَيَذْكُرونَهُ بِهِ، ويُشَارُ إليه بسببه.
وقد روي عن الحسن قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفى بالمرء مِن الشرِّ أن يشَارَ إليُه بالأصَابع في دينه أَوْ دُنْيَاهُ، إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللَهُ» . وروي عن رجل من الأنصار أنه قال: ما استوى رجلان صالحان، أحدهما يشار إليه، والآخر لا يشار إليه؛ لأن الرجل(17/70)
إذا أُثني بالخير عليه وأُشير به إليه، لا يخلص من أَن يعجبه ذلك، ويُسَر به، ولا ينبغي للرجل أن يسر إلا بما يرجوه مِنَ الثواب عند الله في الدار الأخرى، لا بثناء الناس عليه في الدنيا. وبالله التوفيق.
[القاضي لا يقضي وهو جائع]
في أن القاضي لا يقضي وهو جائع
ولا وهو شبعان جداً قال مالك: إنه يقال: لا يقضي القاضي وهو جائع من غير أن يشبعِ جداً؛ لأن الغضب يحضر الجائع، والشبعان جداً يكون بطيناَ.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأن القاضي لا ينبغي له أن يقضي إلا وهو فارغ البال عما يشغله، ليفهم ما يقضي به، كما لا ينبغي له أن يصلي إلا وهو فارغ البال عما يشغله في صلاته. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُصَلِّين أَحَدُكُم بِحَضْرَةِ الطَّعَام، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُه الأخْبَثَانِ: الْغَائِطُ وَالبَوْلُ» . وبالله التوفيق.
[أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه]
في أحكام ما أحله الله ونهى عنه وعفا عنه قال مالك: يقال: أمرٌ أحله الله فاتبعوه، ونهيٌ نَهى الله عنه فاجتنبوه، وعفو عفا الله عنه فدعوه. قال مالك فيه {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] .(17/71)
قال ابن القاسم: وشذ قوله في هذه الحكاية: أمر أحله الله فاتبعوه، معناه: أمر أحله الله فأحلوه؛ لأن ما أحله الله فهو حلال، يجوز أكله، ولا يجب.
وقوله فيها: عفو عفا الله عنه فدعوه، يدل بحمله على ظاهره، أن المسكوت عنه محظور لا يباح أكله، وإلى هذا ذهب مالك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان؛ لأنه قال فيه في المد الذي يأكله الناس: أنه ينبغي للِإمام أن ينهى الناس عما يضر بهم في دينهم ودنياهم، واحتج للمنع من جواز أكله بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، أما الطين من الطيبات ولم يحمله مالك في هذه الرواية على ظاهره، بل رأى المعنى في قوله: فدعوه اختياراً لا إيجاباً، بدليل قوله فيها: قد رفع اللَّه فيه الحرج عنهم بعفوه عنه؛ لئلا يحرم عليهم إن سألوه عنه فيسوؤهم ذلك، فقول مالك في هذه الرواية: إن المسكوت عنه مباح، وإلى هذا ذهب أبو الفرج.
ووجه القول الأول من طريق النظر: أنه قد ثبت أن الأشياء مِلكُ مالك، والأصل لا يستباح مِلْك أحدٍ إلا بإذنه، ووجه الثاني وأن خلق اللَّه تعالى له دليل على الِإباحة، إذ لا يجوز أن يخلقه عبثاً لغير وجه منفعة.
[امتيار القمح من بلد إلى بلد]
في امتيار القمح من بلد إلى بلد قال مالك: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على(17/72)
أيْلَة كتب إليه: إن قومي يمتارون القمح منها يمتارونه إلى غيرها، وإنه بلغني أن أَمير المؤمنين منع طعاماً أن ينقل. فكتب إليه عمر: ما ظننت أن أحداً أبَه لهذا، وإن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا، فخل بين الناس وبين البيع والابتياِع.
قال مالك: كان مِن العيب الذي يُعاب به من مضى ويرونه ظلماَ عظيماً منعُ التجر.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي والله أَعلم فيما كتب به عامل أيلة إلى عمر بن عبد العزيز أن الناس كانوا يمتارون القمح من أيلة إلى غيرها ليبيعوه بها فهمَّ أن يمنعهم من ذلك لما بلغه أنه منع طعاماً أن ينقل وإنما كان منع والله أعلم مِن نقله للاحتكار، فكتب إليه: ما ظننت أن أحداً أبه لهذا، أي: ما ظننت أن أحداً هم بالمنع من مثل هذا فلا تمنع منه، وخل بين الناس وبينه، فإن الله قد أَحل البيع وحرم الربا، فنقل الطعام من بلد إلى بلد للبيع جائز، وإن أضر ذلك بسعر البلد الذي ينقل منه كان بأن تعلية الأسعار بالبلد الذي ينقل منه ترخيصاً في البلد الذي ينقل إليه.
والمسلمون في جميع البلد أُسوة، ليس بعضهم أحق بالرفق من بعض. وأما نقل الطعام من بلد إلى بلد للاحتكار، ففيه خلاف وتفصيل، قد مضى القول فيه في رسم يسلم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، فلا معنى لإِعادته هنا.
وقول مالك: كان من العيب الذي يعاب به من مضى ويرونه ظلماً عظيماً منع التجر، معناه: شراءُ الطعام للحكرة؛ لأن الحكرة قد أتت آثار في التشديد فيها، فحملها بعض من مضى على عمومها في جميع الطعام، وفي كل الأزمان، ولم ير ذلك مالك.(17/73)
وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من الاحتكار مما لا يجوز منه في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع فأغنى ذلك عن إعادته.
[التسليم لأمر الله والرضا بقدَره]
في التسليم لأمر الله والرضا بقدَره
وسمعت مالكاً: يذكر أن القاسم بن محمد وقف بعرفة ومعه عمر بن الحسين فافتقد عبد الرحمن، فقال القاسم: يا عمر، التمس أخاكَ، فالتمسه فلم يجده، فقال القاسم: قضاء الله خير للمؤمنين.
قال محمد بن رشد: في هذا الرضا بقضاء الله والتسليم له، والِإيمان بالقدر خيره وشره من عقود الِإيمان، فقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتًّى الْعَجْزِ وَالْكَيْس، أَوِ الْكَيْس وَالْعَجْزِ» ، فالتكذيب به كفر وضلال، وقد مضى القول في هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين، فلا وجه لِإعادته.
[لباس الرجل الثوب المصبوغ]
في لباس الرجل الثوب المصبوغ قال مالك: رأيت ابن المنكدر يلبس الثوبين المصبوغين(17/74)
الموردين المتينين بالزعفران، ولقد رأيت في رأسه الغالية، ورأيت ابن هرمز يلبس الثوبين بالزعفران، ورأيت عامر بن عبد الله، وربيعة بن عبد الرحمن وهشام بن عُرْوة يفرقون شعورهم، وكانت لهم شعور، وكانت لهشام جمة إلى كتفيه. قال مالك: إن كان ابن عمر ليتبع أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حتى إن كان يخاف على عقله.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف الماضي في لباس المزعفر والمعصفر من الثياب، لما رُوي: من «أنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أن يَتَزَعْفَرَ الرَجُلُ» وأنه «نَهَى عَنِ المُعَصْفَرِ» . ولما جاء «عن عبد الله بن عمر، وقال: رَآني رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيَّ ثَوْب مُعَصْفَرٌ، فَقَالَ: "ألْقِهَا فَإنَّهَا ثِيَابُ الْكُفّارِ» . «وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ، أنَّهُ قَال: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلاَ أَقُولُ نَهَاكُم عَنْ لِبَاسَ الْمُعَصْفَرِ» .
ولم ير أكثرهم في ذلك بأساً. منهم عبد الله بن عمر والبراء بن عازب وطلحة بن عبيد اللَّه ومحمد بن علي وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وأبو وائل شقيق بن سلمة وزر بن بن حبيش وعلي بن حُسين ونافع بن جبير بن مطعم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم. وقال مالك في الموطأ في الملاحق المعصفرة في البيوت للرجل وفي الأفنية: لا أعلم من ذلك شيئاً حراماً، وغير ذلك من اللباس أحب إلي.
وما حكاه مالك عن عامر بن عبيد الله وربيعة وهشام من أنهم كانت لهم شعور، هو المستحسن عند عامة العلماء، لما في ذلك من الاقتداء بما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فقد روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان يَسْدُلُ شَعَره، وكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُم، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُؤُوسَهم، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْل الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثًمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ رَأَسه. وروي أَن شَعرَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَانَ دونَ الْجُمَّةِ وَفَوْقَ الْوَفْرَة» وروي «عن أنس أنه قِيلَ لَه:(17/75)
كَيْفَ كَانَ شَعَر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: كَانَ شَعراً رَجِلاً لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلاَ بِالسَّبِطِ، بَيْن أُذُنِهِ وَعَاتِقِه» . وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ شَعَرُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُ مَنْكِبَيْه» . وروي عن أنس أيضاً أنه قال: «كَانَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، شَعَرُهُ إلى شَحْمَةِ أُذُنِهِ» .
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن إحفاء الشعر أحسن من اتخاذه؛ لما روي «عن وائل بن حجر قال: أَتَيْنَا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولِي شَعَرٌ طَوِيلٌ فَقَالَ: ذبَابٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي فَذَهَبْتُ فحززته، ثم أَتَيْتُ النَّبَيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: ما عَنَيْتُك، ولَكِنْ هَذَا أَحْسَنُ» . قالَ: وما جعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن كان لا شيء أحسن منه.
ومعقولٌ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صار بعض هذا القول إلى هذا الأحسن وترك ما كان عليه قبل ذلك؛ إذ هو أولى بالمحاسن كلها من دون الناس، وليس حديث وائل بن حجر في هذه بحجة بينة، لاحتمال أن يكون شعره قد طال طولاً كثيراً خرج به عن الحد المستحسن، ولهذا قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاءه وقد حزه: " هَذَا أَحْسَنُ "، ولعله لم يحزه كله وأبقى منه لِمَّةً أو وفرة.
ومن الصحابة من كانت له لمة، ومنهم من كانت له وفرة، ومنهم من حلق، فالأمر في ذلك واسع، وما تظاهرت به الآثار من أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعر طويل أحسن، ففيه الأسوة الحسنة، وقد كان ابن عمر على ما حكاه عنه مالك هاهنا يتبع أمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، حتى إن كان ليخاف على عقله وقد رُئي يدور بناقته في مَوْضِعٍ رَأَى نَاقَةَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دارت به فيه، فقيل له في ذلك، فقال: أحببتُ أن تطأ ناقتي المواضع التي وطئتها ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(17/76)
[تفسير قول الله وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]
في تفسير قول الله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وسئل مالك: عن قول الله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ما تفسيره؟ أن يدعى قبل أَن يَشهد، أو يكون قد أشهد، فقال: إنما ذلك بعدما أشهدوا، وأما قبل أن يشهدوا فأرجو أَن يكون في سعة، إذا كان ثَم من يشهد، وليس كل أمر يجب على الرجل أن يشهد عليه من الأمور أُمور لا يجب على الرجل أن يشهد فيها.
قال محمد بن رشد: قول مالك: قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] . معناه: إذا دعي لأدَاء الشهادة بعدما أشهد، وأما إذا دعي ليشهد فهو في سعة إذا كان ثم من يشهد - صحيح، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى الشهادة أن يجيب دُعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهداً إِلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] إلا من هو شاهد. وهذه المسألة قد مضى القول عليها في أول نوازل سحنون من كتاب الشهادات وتمامه في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى منه.
وقوله: وليس كل أمر يجب للرجل أن يشهد عليه - صحيح؛ لأن مَن دعي أن يشهد على أمر مكروه فيكره له أن يشهد عليه فقد(17/77)
روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي النعمان بن بشير بن سعد؛ إذ أشهده على أنه نَحل ابنه النُّعمان غلاماً له، لَمَّا أَخبرهُ بأنه خصَّ ابنه بنحلة الغلام، دون سائر ولده: «أَشْهِدْ غَيْرِي فَإنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ، ومن دعي إلى أن يشهد على حرام فلا يحل له أن يشهد عليه، ومن دعي إلى أن يشهد على أمر جائز أو مستحب أو واجب، فالإجابة عليه فرض من فروض الكفاية، وبالله التوفيق.
[تقوى الله]
في تقوى الله قال: وسمعت مالكاً يذكر أنَّ رجلاً أمر رجلَاَ بتقوى الله، ثم قال له: إنما هو لحمُك ودمُك.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه؛ لأنه إن اتقى الله سلم من عذاب الله وإن لم يتقه خاف على نفسه وبدنه في الآخرة عقاب الله، وبالله التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مالك: بلغني أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينزعون الدلاء في سقي النخل على ثمره، ثمرة كل دلو.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان ما كان عليه أصحاب رسول(17/78)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التقليل من الدنيا وامتهانهم فيها بإجارة أنفسهم للخدمة والعمل، فذلك جائز لا عيب فيه، ولا غضاضة على من فعله، فقد قالت ابنة شعيب لأبيها في موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ نَبِيِّ إلاَ وَقَدْ رَعَى غَنَماً. قِيلَ لَهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَهِ؟ قَالَ: وَأَنَا» . واستئجار الرجل الرجلَ على سقي النخل كلُ دلو بدرهم إذا لم يواجبه على عدد معلوم، يشبه كراء الدار مشاهرة، له أن يترك متى شاء، ولرب النخل أَن يمنعه من التمادي على السقي إذا شاء ما لم ينقده، فإن نقده عدداً من الثمر لزمهما جميعاً بمنزلة إذا واجبه على عدد معلوم. وبالله التوفيق.
[الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول]
في الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول وذكر مالك: أن الحجاج قال لعبد الله بن عمر في كلام قاله له عبد الله بن عمر إلا يكون ضرب عنقه، فقال له عبد الله: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك.
قال محمد بن رشد: قول عبد الله بن عمر للحجاج فيما كان هم به من قتل عبد الله بن عمر: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك - يدل على ما هو معلوم من مذهب عبد الله بن عمر أن القاتل لا توبة له وأن الوعيد لاحق به؛ لأنه أخبر أنه لو فعل لسقره الله به في جهنم على رأسه، ولم يستثن توبةً ولا غيرها. وقد روي أنه سُئل عن القاتل عمداً هل له من توبة؟(17/79)
قال: ليستكثر من شرب الماء البارد. يريد: أنه لا توبة له، وهو مذهب ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت.
روي أن سائلاً سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريِرة عمن قتل مؤمناً متعمد، أَهل له من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نَفَقاً في الأرض أو سُلًماً فِي السمَاءِ؟
وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كُلُّ ذَنْبِ عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْه إلَّا مَنْ مَاتَ كَافِراً أَوْ قَتَلَ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً» وذلكَ والله أعلم لأن القتل يجتمع فيه حق لله تعالى وحق للمقتول المظلوم. ومن شروط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات عليهم. وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بإذن يدرك المقتول قبل موته، فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبةً بذلك نفسه.
وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة، توبته مقبولة، فممن رُوي ذلك عنه: ابن عباس، وأبو هريرة، وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم، ولكلا القولين وجه من النظر باختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون، إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب. ولمن أوقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره، ولا ييأس من رحمة الله، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .
وكان ابن شهاب إذا سئل: هل للقاتل توبة يتعرف منه(17/80)
هل قتل أم لا؟ ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل، قال: لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل، قال: له توبة، وهو من حسن الفتوى.
ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن أقادوا منه وإلا بذل لهم الدية، وصام شهرين متتابعين، أو أعتق رقبة إن كان واحداً أو أكثر من الاستغفار، ويستحب له أن يلازم الجهاد، ويبذل نفسه لله، وهذا كله مروي عن مالك، وفيه دليل على الرجاء عنده في قبول التوبة.
واختلف أيضاً في القاتل إذا أُقيد منه هل يكون القصاص كفارة أم لا؟ على قولين وقد مضى في كتاب المقدمات القول في أحكام القاتل في الآخرة وفي الدار الدنيا مستوفى، وبالله التوفيق.
[الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار]
في أن الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار قال مالك: سألني صاحب السوق في شغله بأمر الناس وقضائه بينهم، فكأنه رآه من أشغال أهل المدينة بعمله، فقال: إني ما أكاد أن أفرغ، قال مالك: ما ذلك عليك، اقعد للناس في ساعات من النهار، وإني أخاف عليك أن تكثر فتخطئ، ولم يرَ ذلك عليه، أن يتعب نفسه للناس نهاره إلا ساعة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو ممَّا لا اختلاف فيه، إذ لا يلزمه الحمل على نفسه بموالاة الجلوس، وربما كان ذلك سبباً إلى أَن يكل ذهنه فيُخطئ في حكمه، فالحسن أن يجم نفسه في ساعات من النهار، فإن ذلك ممَّا يعينه على ما هو بسبيله، وله أَن يخرج إلى ضيعته يستريح بذلك المرة بعد المرة، ويقيم فيها اليوم واليومين على ما قاله ابن القاسم في رسم الجامع من سماع أَصبغ من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.(17/81)
[التحليل من المظالم]
في التحليل من المظالم وسُئل مالك: عن قول ابن المسيب في فعله: إِنَّه كان يقول: لا أحلل أحداً، فقال: ذلك يختلف، فقلت: يسلف الرجل الذهب فيهلك، ولا وفاء له. قال: أرى أن يحلله، فإِنَّه أفضلِ عندي فإن الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وليس كل ما قال أحد وإن كان له فضل يتبع على ما قال. قيل له: فالرجل يظلم الرجل، قال: لا أرى ذلك، هو مخالف عندي للأول، يقول الله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ} [الشورى: 42] ويقولُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فلا أرى أن يجعل في حل من ظلم.
قال محمد بن رشد: اختلف في التحليل من التباعات والظلامَات على ثلاثة أَقوال: أَحدها: إِن ترك التحليل منها أَولَى وهو مذهب سعيد بن المسيب هذا. والثاني: إِن التحليل منها أفضل. والثالث: تفرقة مالك بين التباعات والظلامات، فوجه القول الأول أَن التباعات والظلامات يستوفيها صاحبها يوم القيامة من حسنات من وجبت له عليه، على ما جاء من أن الناس يقتصُّ بعضهم لبعض يوم القيامة بالحسنات والسيئات وهو في ذلك الوقت مفتقر إلى زيادة حسناته، ونقصان سيئاته، بما له من التباعات والظلامات التي حلَّل منها، وهو لا يدري هل يوازي أجره في التحليل(17/82)
ما يجب له من الحسنات في الظلامات والتباعات، ويزيد عليها أو ينقص منها، فكان الحظ ألَّا يحلل منها. ووجه القول الثاني: أن التحلل إحسان للمحلل عظيم، وفضل يسديه إليه جسيم، ينبغي عليه المكافأة من الله عزَّ وجلّ، وهو تعالى أَكرم من أن يُكافئه بأقل مما وهب، فإنَّه عزَّ وجلّ يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] فهذا القول أظهر والله أعلم.
ووجه تفرقة مالك في هذا بين الظلامات والتباعات ما استدلَّ به قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] فرأَى ترك تحليل المظالم للظالم عقاباً له، هو عليه محمود، لما في ذلك من الِإخافة له، والردع بذلك عن أن يعود إلى مثله، وأما في الدنيا فالعفو والصفح عن الظالم أولى من الانتصار منه بأخذ الحق منه في بدنه أو ما له لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] ولا يعارض هذا قوله عَزَّ وجلّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] ؛ لأن المدحة من الله تعالى، وإن كانت متوجهة بهذه الآية لمن انتصر من بغي عليه بالحق الواجب، ولم يتعد في انتصاره منه وكان مُثاباً على ذلكَ، لما فيه من الردع والزجر، فهو في العفو والصفح أَعظم ثواباً، بدليل قوله بعد ذلك: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] . وقيل:(17/83)
إِنَّ الآية نزلت في الباغي المشرك، وينبغي أن يكون معنى الآية في الانتصار ممَّا فيه حد لله، لا يجوز العفو عنه. والله أعلم.
[أَمر الرجل بالمعروف من يعلم أَنَّه لا يطيعه]
في أَمر الرجل بالمعروف من يعلم
أَنَّه لا يطيعه وسئل مالك: عن الرجل يأمر الرجل بالمعروف، وهو يعلم أَنَّه لا يطيعه، وهو ممَّن لا يخاف، مثل الجار والأخ، قال: لا أرى به بأساً، ولا يشبه ذلك إذا رفق به، فإِنَّ الله ربما نفع بذلك. يقول الله: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] . قال مالك: بلغني أن رجلَاَ من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقع بالشام، وأنه انهمر في الخمر فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2] إلى قوله: {الْمَصِيرُ} [غافر: 3] ، قال: فتركَ ذلك الرجل الخمر فتاب ونزع عنها.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى به بأساً، معناه: جائز له أن يفعله. وإن ظنَّ أنَّه لا يطيعه، إذ لعلَّه سيطيعه فينفع الله بذلك، لا سيّما إذا رفق به، إذ لا يشبه الرفق في ذلك ترك الرفق فيما يرجوه من أن ينتفع بقوله. واستدلَّ على استحباب الرفق في ذلك بقول عمر، مع الذي بلغه عنه أنه انهمر في الخمر من أصحاب النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ وعظه بما كتب له من كتاب الله، ولم يُغلظ عليه بالقول. وفي قوله: لا بأس أن يأمره بالمعروف وإن علم أنه لا يطيعه نص منه على أَنَّه لا يلزمه ذلك، وهو صحيح؛ لأنَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة شرائط: شرطان(17/84)
في الجواز، أحدُهما: أن يكون ممَّن يعرف المعروف من المنكر، إذ لا يأمن إذا كان جاهلا بذلك أن يأمر بمنكر أو ينهَى عن معروف. والثاني: أن يأمن، أن يغلب على ظنّه أن نهيه عمَّا نهى عنه من المنكر، لا يؤدي إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر، فيؤدّي إلى قتل نفس، وشرط ثالث في الوجوب بعد حصول شرطي الجواز، وهو أن يعلم أَو يغلب على ظنه أَن أمره بالمعروف مؤثر في فعله، وداع إليه، وأن نهيه عن المنكر مُزيلٌ له أَو لبعضه، فإذا علم ذلك أو غلب على ظنه، وجب عليه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه، لم يجب ذلك عليه، وكان في سعة من تركه. وهذا هو معنى قول مالك في هذه الرواية: لا أرى به بأساً حسبما بيناه. وقد مضى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب السلطان تمام القول مستوفى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالله التوفيق.
[تقبيل العبد أو المولى ليد مولاهُ أو سيّده]
في تقبيل العبد أو المولى ليد
مولاهُ أو سيّده وسُئل مالكٌ: عن الرجل يقدم من السفر فيتناوَل غلامه ومولاه يده فيقبلها. قال: ترك ذِلك أحب إِليّ، وذكر له حديث سالم "شيخ يقبل شيخاً" فأَنكره إنكاراَ شديداً، قال: فَإِيَّاكم مثل هذه الأحاديث أن تهلكوا فيها.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره مالك أن يقبل يد الرجل مولاه أو غلامه في سلامه عليه عند قدومه من سفر أو شبهه، وإن كان له عليه حق صار به دونه في الكفاءة والمرتبة والحرمة، فقال: ترك ذلك أَحبّ إليّ من أجل أنه قد يكون أكرم منه عند الله إن كان أَتْقَى منه لله بنص قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] إذ قد جمعته وإيَّاه حرمة الِإسلام،(17/85)
فصار بذلك وليّاً له، وأخاً فيه. قال عزَّ وجلّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . والنّبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أحق أن تكون التحية له بتقبيل يديه، إذ هو سيد الخلق أجمعين، ورسول رب العالمين، الشافع يوم القيامة فيِ المُذنِبِين، لو كان ذلك ممَّا يُستحق في الشرع، فإذا لم تكن التحية له إلاَّ بما شرعه الله من السلام، وجب أن يستوي في ذلك الفاضل والمفضول، والعبد وسيده، والمولَى ومولاه.
وِإنَّما ينبغي أن يفعل ذلك المولى بمولاه، والعبد بسيده، فلا ينهاه إذا لم يكن مسلماً. فقد روي عن صفوان بن عسال المرادي، قال: «قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... لا تقل نبيّ، إنَّه لو سمعه كان له أربعة أعين، فأَتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألاه عن تسع آيات بيّنات، فقال لهم: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حًرّمَ اللَّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَىٍ السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تأكلُوا الرِّبا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُم خَاصَّة الْيَهُودِ أن لَا تَعْدُوا يَوْمَ السَّبْتِ". فَقَامُوا فَقبَّلُوا يَدَهُ. وفي بعض الأحاديث: فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَا: نَشْهَد أَنكَ نَبِيُّ اللَّهِ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ» . قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح.
وأَما حديث سالم الذي أَنكره إذ ذكر له، فهو ما روي أن عبد الله بن عمر كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر، قَبَّلَ سَالِماً، وَقَالَ: شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخاً. وإنَّما ذكر له والله أَعلم، لما جرى من ذلك القبلة، لا على سبيل الحجة في جواز تقبيل العبد والمولى يد سيده أو مولاه لافتراق المعنى في ذلك؛ لأن تقبيل العبد أو المولَى يد سيده أو مولاه على سبيل التعظيم،(17/86)
وتقبيل الرجل لابنه الكبير وما أشبهه من ذوات المحارم من النساء، على سبيل المحبة والمودة والحَنان والرحمة، كتقبيل الطفل الصغير، فذلك بخلاف تقبيل الرجل يد سيده ومولاه، وِإنَما أَراد عبد الله بن عمر بقوله: "شيخ يقبل شيخاً" الِإعلام بأن ذلك جائز على هذا الوجه، لا على وجه مكروه.
وقد جاء ذلك عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. روي عن عائشة من روايةِ محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عنها قالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامِ إِلَيْهِ رَسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُريَاناً يَجُر ثَوْبَهُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرياناَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . وَقَالَ فيه الترمذي: إِنَّه حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري من غير هذا الوجه. وجاء أيضاً «عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنهُ اعْتَنَقَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ» . فيجب أن يُتَأَوَّل ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تقبيله لزيد بن حارثة، وما روي عن عبد الله بن عمر من تقبيله لابنه سالم، أنَها إِنَّما كانت فيما بين العينين أَو الرأس، أو الخدين، لا في الفم. ولما كان الأظهر في القبلة إِذا أطلقت أنها في الفم، أنكر مالك حديث سالم في تقبيل عبد الله بن عمر إِيَّاه، وقوله: "شيخ يقبل شيخاً"، وقال: "إِيَّاكم أَن تهلكوا في مثل هذه الأحاديث"، فنهى أَن يُتحدث بها، تحذيراً منه أَن يحملها الجاهلُ على ظاهرها فيستبيح بها أَن يقبل الرجل وليهُ أو قريبه أَو صديقه أَو ولده الكبير في فمه، فيتراقى ذلك في الناس إلى ما لا يصلح، وهذا من نحو ما مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين، لا يروي لنا أَحد هذه الأحاديث: «إنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورتِهِ» أَو نحو هذا من الأحاديث، وأعظم أن يتحدث بها أَحد أو يرويها لِما يخشى من أَن يحملها الجاهل على ظاهرها من تشبيه الله بخلقه(17/87)
فيهلك بذلك، ومالك يكره للرجال المعانقة والقبلة فيما بين العينين، ويرى ما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك خاصاً له. روي عن علي بن يونس المدني قال: كنت جالِساً عند مالك، فإِذا سفيان بن عُيينة بالباب يستأذن، فقال مالك: رجل صاحب سنة، أدخلوهُ، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال مالك: وعليكم السلام يا أَبا محمد ورحمة الله وبركاته، فصافحه مالك، وقال: يا أَبا محمد لولَا أنها بدعة لعانقناك، فقال سفيان بن عيينة: عانق خيرٌ منك ومنا النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قال مالك: جعفر، قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد، ليس بعامٍّ. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، أَفَتَأذن لي أَن أُحدث في مجلسك؟ قال: نعم، يا أَبا محمد. قال: حدَّثني عبد الله بن طاوس عن أَبيه، عن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بن أبي طالبِ من الحبشة، اعتَنَقَهُ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبلَ بين عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: " جَعْفَر أَشْبَهُ النَّاس بِي خَلْقاً وَخُلُقَاً يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْتَ بِأَرْض الْحَبَشَةِ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأسِهَا مِكتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجَلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بًرُّهَا فَأَقْبَلَتْ لِتَجْمَعَهُ مِنَ التُّرَابِ، وَهِيَ تَقُولُ: وَيْل لِلظالِم من دَيَّانِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِم مِنَ الْمَظْلوم يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ للَظّالِم إِذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقالَ النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "لَا يُقَدسُ اللَهُ أُمَّة لَا يَأْخَذُ ضَعِيفُهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَير متمتع ".» ثمَّ قَالَ سُفْيَانُ: قَدِمْتُ لِأصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأُبَشِّرَكَ بِرُؤْيَا رَأَيْتُهَا، ثمَّ قَالَ مَالِكٌ: قَامَتْ بِشَارَتُكَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ سُفْيَانُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ فَأقْبَلَ النَّاسُ يَهرعون من كُلِّ جِانبٍ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَردّ بِأَحْسَنِ رَدٍّ، قالَ(17/88)
سُفيَانُ: فَأُتِيَ بِكَ واللَّهِ أعْرِفُكَ فِي مَنَامِي كَمَا أعْرِفُكَ فِي يَقَظَتِي، فَسًلّمْتَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْكَ السلاَمَ، ثُمَّ رَمَى في حَجْرِكَ بِخَاتَمٍِ، ثُمّ نَزَعَهُ مِنْ أصْبُعِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فيمَا أعْطَاكَ. فَبكى مالك بُكَاءً شديداَ. قال سفيان: السلام عليكم. قال: خارج الساعة؟ قال: نعم، فودَّعه مالك وخرج. وأمَّا القُبلة للرجل في الفم من الرجل، فلا رخصة فيها بوجه ولا على حال إن شاء اللَه.
[ضحك النبيّ عليه السلام سُروراً بما أعطى الله أمته]
في ضحك النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُروراً بما أعطى الله أمته
قال مالك: «وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَهِ تَبسَّمَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا يضحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: " لِهَذَا المُؤمِنِ يُصِيبُهُ مَا يُحِبُّ فَيُشْكَرُ اللَّهَ فَيَكُونُ خَيْراً لَهُ» .
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا الحديث قول الله عزَّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] ... الآية، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَن أختَبِئَ دَعْوتِي شَفاعَةً لأِمَّتِي» . والله الموفق.
[مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى]
في مشي عيسى ابن مريم على الماء
وإحيائه الموتى قال مالك: بلغني أن عيسى ابن مريم قال له رجل من(17/89)
أصحابه: إنك تمشي على الماء، فقال له عيسى: وأَنت إِن كنت لم تخط خطيئة مشيت على الماء، فقال له الرجل: مَا أَخطأت خطيئة قط. فقال له عيسى: فامش، فمشى ذاهباً وراجعاً، حتى إذا كان ببعض البحر إِذا هو قد غرق، فدعا عيسى فأخرج، فقال له عيسى: ما لك ذهبت ورجعت فغرقت؟ أَليس زعمت أنك لم تخط خطيئة قط؟ فقال: ما أخطأتَ شيئاً قط، إِلَّا أَنَّه وقعِ في قلبي أَنِّي مثلك.
قال مالك: وبلغني أن عيسى ابن مريم أتته امرأتان فقالتا له: ادع الله يخرج لنا أَبانا فإِنَّه مات ونحن غائبتان عنه، قال: فأين قبره؟ فأشارتا إليه في قبره، فدعا فأُخرج، فإذا هو ليس هو، قال: ثم دلَّتاه على قبر آخر فخرجَ فإذا هو هو، والتزمتاه، ثم قالتا له: اتركهُ يكون معنا. قال: كيف أتركه وليس له رزق يعيش فيه؟
قال الِإمام القاضي: مشيُ عيسى ابن مريم على الماء معجزة من معجزاته، وكذلك مشي الرجل من أَصحابه على الماء بحضرته إلى أن غرق بما حدث به نفسه من معجزاته أَيضاً؛ لأن ما كان من الآيات الخارقة للعادات في زمن نبي من الأنبياء، لبعض أصحابه فهو معدود في جملة معجزاته، والخطيئة التي غرق من أَجلها صاحب عيسى ابن مريم هي مما قد يجاوز الله لهذه الأمة بفضله عن مثلها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَجَاوَزَ اللَّهُ لأِمَّتِي عَمَّا حًدّثْت بِهِ نَفْسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ» . ويروى الحديث: "مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَهَا" بالنصب، "وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا" بِالرفع، فمن رواه "ما حدثت به أنفسُها" بالرفع، قال: الخواطر التي ببعض الرجل من غير قصد منه إِليها ولا اختيار لها، مثل قوله عزَ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ،(17/90)
وبدليل ما روي «أن أَصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنا يُحَدِّثُ نَفْسَه بِالشَيْءِ؛ لأن يَكُونَ حُمَمةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَالْحَمْدُ لَلّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» . قالوا: وإن كان في الحديث: إن أحدنا يحدث نفسه، وإنَا نحدث أنفسنا، فإن جواب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهم بقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ» هو المعتمد، وفيه الحجة لقوله فيه: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان، أي: إن التوقِي من أَن ينطق بما غلب على نفسه من خطوات الشيطان أو يعتقده - هو من صريح الإيمان الذي يثاب عليه فاعله.
ومن روى: "ما حدثت به أنفسها" بالنصب، قال: معناه: ما يهمُ به العبد باختياره من المعاصي أن يفعله، ثم لا يفعله، فتجاوز الله لأمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك.
واستدلَّ من ذهب إلى هذا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تجاوز الله"، والتجاوز لا يكون إلَّا عمَّا كان للإنس فيه كسب باختياره له.
وبما رُوي عن النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّه قال: «قَالَ اللًهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةِ فَاكْتبُوهَا عَلَيِهِ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْراً وَإِذَا هًمّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا تَكْتُبُوها عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ خَشْيَتِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً» . وقد رأيت لبعض أهل الأصول من المتكلمي: أَن الهموم بالسيئة خطية، وأَرى(17/91)
هذا القائل ذهب في الحديث إلى رواية من رواه "حدثت به أنفسُها" بالضم، والله أَعلم. وأما إحياء عيسى الموتى فليس من فعله، ولا داخلٌ تحت قدرته، وِإنَّما هو أمر كان يفعله الله دليلَاَ على صدقه فيما يُخبر به عن الله، ومصداق ذلك في كتاب الله عزَّ وجلّ: {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] ، وذلك بين أيضاً في هذا الحديث، وقوله فيه: فدعاه فأخرج، فلم يكن له في ذلك إلّاَ إجابة الدعوة، وبالله التوفيق.
[فضائل عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: جاء مسلمة بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز وهو مريض يموت، فاستأذن عليه، فمنع، فألقى بنفسه، فقعد، ثم قال: لا أبرح حتى يؤذن لي، فأذن له فدخل، وقيل له: أقل المكث، فقال: لقد لَيَّنْتَ لنا قلوباً كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكراً.
قال مالك: وبلغني أن هشام بن عبد الملك قال له: إنا لا نعيب أبانا ولا نضع شرفنا في قومنا، فقال له عمر: ومن أعيبُ ممن عابه القرآن؟
قال مالك: كتب عمر بن عبد العزيز: إن من قطع به من الجزية، فأسلفوه من مال المسلمين، قال مالك: وبلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يغاضب بعض أهله، فكان له نساء، فكان يأتيها في ليلتها فيبيت في حجرتها وتبيت هي في بيتها، فقيل له: أفترى ذلك؟ فقال: نعم، وكذلك في كتاب اللَّه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز ترك أن يخدم، فكان يدخل بعد المغرب، فيجد الخوان موضوعاً عليه منديل، فيتناوله فيقدمه (كذا) إليه فيكشف المنديل ويأكل، ويدعو عليه من كان معه.(17/92)
قال محمد بن رشد: هذا كله بيِّن لا إشكال فيه، فيه الإِقرار لعمر بن عبد العزيز بالفضل، وتواضعه هو في تناوله أخذ طعامه هو بيده، وعدله بين نسائه فيما يلزمه فيه العدل بينهن من المبيت في بيت كل واحدة منهن في ليلتها وإن كان واجداً عليها.
وقد مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح ما يلزمه في العدل بينهن مما لا يلزم، وفي رسم الأقضية الثاني، ورسم الطَّلاق من سماع أشهب فيه. فلا معنى لذكره هنا، وفيه اهتباله بالوصية لأهل الذمة بأن يسلف من احتاج منهم من بيت مال المسلمين، معناه: إذا كان شيء يرجوه. وأما من افتقر منهم واحتاج ولم يكن له شيء يرجوه، فالواجب أن ينفق عليه من بيت مال المسلمين. وباللَّه التوفيق.
[افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم]
في افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم
قال: وحدثنا ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: يقال: رُبَّ نائم مغفور له، وقائم مشكور، ودائب مضيع، وساع لغيره.
قال محمد بن رشد: النائم المغفور له هو الذي يكتب له أجر عمله بالنية، فيغفر له بذلك. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنَ امْرِئ تَكُونُ لَهُ صَلاَةً بِلَيْلٍ يَغْلُبُه عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ أجْرُ صَلاَتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهَا صدَقَةً» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته بالمدينة: «إن بالمدينة أقْواماً مَا سِرْتُم مَسِيرةً وَلَا قَطَعْتُم وَادِياً -أو كما قال- إِلَّا وَهُمْ مَعَكُم". قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "حَبَسَهُم الْعُذْرُ» . وقال اللَّه عز وجل:(17/93)
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ... الآية. فدل ذلك على استوائهم في ذلك مع أولي الضرر.
والقائم المشكور هو الذي يعمل العمل على سنته، والدائب المضيع هو الذي يعمل العمل على غير السنة، والساعي لغيره كثير، فترى الرجل يسعى في طلب الرزق، ولعله لا يتوقى فيه ولا يؤدي حق اللَّه منه فيصير لوارثه، فيفعل الخير منه، ويؤدي حق اللَّه فيه فيؤجر، وينعم فيما قد سعى له غيره فيه، فإنما للرجل من ماله ما لبِس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق في طاعة اللَّه فأمضى اللَّه.
قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلّاَ مَا تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ، أوْ أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ماله؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنّا أَحَدٌ إِلَّا ماله أحَبُّ إِلَيْهِ مِن مَال وَارِثِهِ. قَالَ: "اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ؟ " قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "مَا مِنْكُم مِن رَجُلٍ إِلّاَ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِن ماله"، قَالًوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنَّمَا مَالُ أحَدِكُم ما قدًّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ» ، ومعنى هذا الحديث: إِن ما ترك الرجل من مال لوارثه ولم ينتفع به في حياته، فكأن لم يكن له بمال؛ لأن ملكه إياه في حياته منتف عنه في الحقيقة، وإنما انتفى عنه في الحقيقة الانتفاع به، وباللَّه التوفيق.
[يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض]
فيما يعطي اللَّه في الدنيا لمن يحب ولمن يبغض قال: وحدثنا ابن القاسم عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، قال: يقال: "إِنَّ اللَّه يحب العبد حتى يبلغ من حبه إياه إن يسكنه في(17/94)
أَعلى غُرف الجنة، ثم يعمد إلى خير ما يعلم له من الدنيا فيكون ما يكره ذلك العبد، فيكثر له منه حتى إن الناس لا يرحمونه، وإن الله ليرحمه به، وإن الله ليبغض العبد حتى يبلغ من بغضه له ما يسكنه في أسفل درك جهنم، ويعطيه من الدنيا شر ما يعلم فيكون ما يحب ذلك العبد، فيكثر له منه ".
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون رأياً، ومصداقه في كتاب اللَّه، قال اللَّه عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .
[نهي النساء عن لباس القباطي]
في نهي النساء عن لباس القباطي قال مالك: وبلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لباس القباطي، قال: فإن كانت لا تشف، فإنها تصف.
القباطي ثياب ضيقة تلصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة جسم لابسها من نحافته، وتصف محاسنه، وتبدي ما يستحسن منه مما لا يستحسن، فنهى عمر بن الخطاب أن يلبسها النساء امتثالاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ، واللَّه أعلم.
[ما ذكر في قتل يحيى بن زكريا]
فيما ذكر في قتل يحيى بن زكريا
قال مالك: وبلغني أن يحيى بن زكريا إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمن طويل، وجد دمه يفور لا يطرح عليه سقي تراب، ولا شيء إلا فار وعلا عليه، فلما رآه(17/95)
دعا بني إسرائيل وسألهم، فقالوا: لا علم لنا، هكذا وجدناه. وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم: أنهم هكذا وجدوه. قال بخت نصر: هذا دم مظلوم ولأقتلن عليه، فقتل سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ بعد ذلك.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الحكاية: إِن يحيى بن زكرياء إنما قتل في امرأة ولم يبينِ كيف كان سببه مع المرأة التي قتل من أجلها؟ فرُوي عَنِ ابْنِ عًبّاس «أن رَسولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أسْرِي به رَأى زَكَرِيَّاءَ فِي السمَاء، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَه: يَا أبَا يَحْيى، أخْبِرْنِي عَنْ قَتْلِكَ، وَكَيْفَ قَتَلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: يَا مُحَمَدُ، أخْبِرُكَ أنَّ يَحْيىَ كَانَ خَيْرَ أهْل زَمَانِهِ وَأجْمَلَهُم وَأصْبَحَهُم وَجْهاً. وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَهُ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَعَصَمَهُ اللَّه، وَامْتَنَعَ مِنْهَا، فَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْله، وَكَانَ لَهُم عِيد يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنةٍ، وَكَانتْ سُنَّةُ الْمَلِكِ معه إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ وَلَا يَكْذِبُ، فَخَرَجَ إِلَى الْعِيدِ، فَقَامَتِ امْرَأتُهُ فَشَيَّعَتْه، وَكَانَ بِهَا مُعْجَباً وَلَم تَكنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ لَها الْمَلِكُ: سَلِي حَاجَتَكِ، فَمَا تَسألِيني شَيْئاً إِلَا أعْطَيْتُكِ، فَقَالَتْ: دَم يَحْيىَ، فَقَالَ: سَلِي غَيرَهُ، قَالَتْ: هُوَ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ لَكِ، فَبَعَثَ إِلَى يَحْيىَ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَأنَا إِلَى جَنْبِهِ أصَلِّي فَذُبحَ فِي طَسْتٍ فَحُمِلَ رأسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا، قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ؟ قَالَ: ما أبطلت مِنْ صَلاَتِي، فَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا فَوَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَلما أمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بالْمَلِكِ وَأهْلَكَ بَيْتَهُ وَحَشَمَهُ، فَلَمَا أصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَدْ غَضِبَ إلهُ زَكَرِيَّاء لِزَكَرِيَّاءَ، فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضبَ لِمَلِكِنَا فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّاءَ، فَخَرَجُوا فِي طلَبي لِيَقْتُلُونِي فَجَاءَنِي النذِيرُ، فَهَرَبْتُ مِنْهُم وَإِبْلِيسُ أمَامَهُم يَدُلُّهُم عَلًيّ فَلًمّا تخَوّفْت أَن يَلْحَقُونِي عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ، فَنَادتني: إليَّ إِلَيَّ، فَانْصَدَعَتْ لِي، فْدَخَلتُ فِيهَا وَأخَذَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَاء لي وَالْتَأمَتِ الشَّجَرَةُ فَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي خارِجاَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فجاءَت بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ إِبْلِيس: دَخَلَ فِي هَذِهِ(17/96)
الشَجَرَةِ، وَهَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ دَخَلَهَا بِسِحْرِه، فَقَالَ: نَحْنُ نَحرِقُ الشَّجَرَةَ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: بَلْ شقُوهَا، فَشَقُّوها فانْشَقَقْتُ مَعَ الشَجرةِ بِالمِنْشَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: يَا زَكَرِياءُ، هَلْ وَجَدْتَ مسا أوْ وَجَعاً؟ قَالَ: لَا، إِنمَا وَجَدْتُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، جَعَلَ اللَهُ رُوحي فيهَا» .
وقد جاء في بعض الأخبار: أن سبب طلبهم ليقتلوه حين هرب منهم، فانصدعت له الشجرة، هو أن مريم لما حملت قالوا: ضيع بنت سيدنا في كفالته إياها حتى زنت. وروىِ عن ابن عباس: أن الذي انصدعت له الشجرة فدخل فيها هو أشعب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قبل عيسى، وأن زكريا مات موتاً. فاللَّه أعلم.
وقد جاء في بعض الأخبار: أن يحيى بن زكريا كان تحت يدي ملك، فهمت بنت الملك بأبيها، وقالت: لو تزوجت أبي فيجتمع لي سلطانه دون نسائه إن تزوجني، ودعته إلى نفسها، فقال: يا بنية، إن يحيى بن زكريا لا يُحل لنا هذا. فقالت: من لي بيحيى بن زكريا، ضيف عليَ، وحال بيني وبين تزويجي أبي، فأغلب على ملكه ودنياه دون نسائه، فتحيلت لقتل يحيى وأمرت اللعاب، فقالت: ادخلوا على أبي فالعبوا فإذا فرغتم فإنه سيحكِّمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا ثم لا تقتلوا غيره، وكان الملك إذا حدث فكذب، أو وعد فأخلف، خُلع واستبدل غيره، فلما لعبوا وكثر عجبه منهم، قال: سلوني، قالوا: نسألك دم يحيى بن زكريا، قال: سلوني غير هذا، قالوا: لا نسألك غيره، فخاف على ملكه إن هو خالفهم أن يستحل بذلك خلعه، فبعث إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، فذبحوه ثم جروا رأسه، فاحتمله الرجل في يده، والدم في الطَّست معه حتى وقف على الملك ورأسه في يد الذي يحمله، والرأس يقول: لا يحل لك ما تريد. وروي عن كعب(17/97)
نحو من هذا، إِلاَ أنه قال: لما قتل يحيى أقبل رأسه ينحدر ويقول بين يدي ظهراني الناس: لا يحل لك ما تريد من نكاح أختك، قال كعب: كانت أخته. وقال غير كعب: كانت بنت أخيه.
وقد جاء: أنها كانت زوجة أخيه؛ لأن ذلك في زمن لم يكن للرجل منهم أن يتزوج امرأة أخيه بعده. وإذا كذب متعمِّداً لم يول الملك فمات الملك. وأراد الملك أن يتزوج امرأة الملك الذي مات، وكان أخاه، فسألهم فرخصوا له، فسأل يحيى بن زكريا، فأبى أن يرخص له، فحقدت عليه امرأة أخيه، وجاءت بنت أخي الملك الأول إليه، فقال: سليني اليوم حكمك، فقالت: حتَى أنطلق إلى أمي، فأتت أمها فقالت: قولي له: إن أردت أن تفي لنا بشيء، فأعطني رأس يحيى بن زكرياء، قال: قولي غير هذا خير لك، قال: فلبث وكره أن يخالفها فلا يولى الملك. فدفع لها يحيى بن زكريا فذبحته فناداها مناد من فوقها: يا ربة البيت الخاطئة العادية، أبشري فإنك أول من يدخل النار، وخسف بابنتها وجاءوا بالمعاول، فجعلوا يِحفرون عليها، وتدخل في الأرض حتى ذهبت.
ولما كثر الفساد في بني إسرائيل، وجاهرَوا بالمناكر، وعلوا في الأرض واستكبروا فيها كما أخبر اللَّه عز وجل بقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] ... الآية - انتقم منهم بما سلط عليهم. ويقال: إنه كان من فسادهم الثاني قتل يحيى بن زكرياء، فبعث الله عليهم بخت المجوسي، فسبى وقتل منهم سبعين ألفاً وخرَّب بيت المقدس، وحرق التوراة. وكان من شأنه في دم يحيى الذي وجده نصر البابلي يفور ما ذكر في الحكاية.
وجاء في بعض الأخبار: أن الذنوب والمعاصي لما كثرت في بني إسرائيل، بعث الله لهم نبيّاً يقال له أرمياء، فلما أنذرهم بعذاب اللَّه لهم على طغيانهم وعصيانهم، وأنه مُهلكهم ومُخلي الأرض منهم، وقعوا به فضربوه وحبسوه، فَأنجز اللَّه وعده، وسلط عليهم بخت نصر، ولم يزل أرمياء محبوساً حتى جاء بخت نصر فيما لا يحصى من العدد، فحاصرهم(17/98)
حتى مات من مات منهم في الحصَار، إلى أن نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم كل قتلة، منهم من حرق بالنار، ومنهم من بطح على وجهه ومشيت عليه الخيل والدواب، وصفد الأحبار والرهبان، وسبى النساء والولدان، وحرق التوراة، وخرب المسجد.
وجاء في بعض الأخبار: أن رجلًا من علماء أهل الشام وجد نعت بخت نصر في الكتاب: إنه غلام يتيم، وله أم وله دواته ينزل ببابل وهو من أهلها، فقدم الرجل بابل، فطلبه وسأل عنه حتى عرفه بالنعت، وكان فقيراً يسرق الفراريج في صغره، فقال العالم ذات يوم: إنك ستملك الشام، فتظهر على الناس فاكتب لي ولقومي أماناً، فقال: لا أدري ما هذا الذي تذكر؟ فلم يزل به حتى كتب له ولقومه أماناً، فلما شب قطع الطريق واجتمع الناس إليه فأرسل إليه ملك فارس جيشاً فهزمهم، ثم أرسل إليه جيشاً آخر فهزمهم، ثم سار إلى فارس، فغلب عليها، ثم لبث ما شاء اللَه أن يلبث، ثم توجه إلى الشام، فلما دنا من الشام، خرج العالم إلى مقدمته، فقال: إن الملك عندي بصحة، فجعل قوم يدفعه إلى قوم حتى دخل عليه، فقال له: هل تعرفني؟ فقال: ما أعرفك. فقص عليه العالم القصة، فقال: ما أدري ما هذا الذي تقول، ما هذا إلا مال ورثتهُ عن آبائي، فلم يزل به حتى أقر له، ووفى بأمانه، وأمنه، وقال: لا تخبر أحداً.
فلما ظهر على الشام إذا هو بدم يحيى بن زكريا يفورُ، فقال: لأقتلن على هذا الدم حتى يسكن، فقتل عليه سبعين ألفاً، فجعل لا يسكن حتى جاء قاتله، فقال: هذا الدم لا يسكن أبداً حتى تقتلني، فأنا الذي قتلته، فسكن الدَم وظهر على الشام وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. وبالله التوفيق.
[التوقي في حمل الحديث]
في التوقي في حمل الحديث
قال مالك: وبلغني أن ابن سيرين كان يقول: إنما هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تحملون دينكم. قال: وكان يحدث بالحديث ثم يتركه، ويقول لأصحابه: قد تركت حديث كذا وكذا فاتركوه.(17/99)
قال محمد بن رشد: قوله: فانظروا عمن تحملون دينكم - يدل على أنه لا يجب قول خبر الراوي والعمل به، إلا بعد أن ينظر فيه، فتعرف عدالته، بأن يكون مجتنباً للكبائر متوقياً للصغائر.
هذا أحسن ما قيل في حدِّ العدالة؛ لأن من واقع كبيرة من الكبائر، فهو فاسق محمول على الفسق حتى تعلم توبته منها، ومن لم يتوق من الصَّغائر، فليس بعدل حتى تعلم توبته منها؛ لأن متابعة الصغائر كمقارفة الكبائر، والشافعي يشترط المروءة في جواز الشهادة، ولا تصح العدالة إلا بعد الإِسلام والبلوغ. فهذه الثلاثة أوصاف مشروطة في العدالة، فمن ظهر فسقه لم تقبل روايته، ومن ظهرت عدالته، قبلت روايته إجماعاً.
واختلف إذا جهلت حاله، فلم يعلم منه فسق ولا ظهرت منه عدالته، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يحمل على العدالة، وتقبل روايته، وكذلك قالوا في الشهادة على الأموال خاصة، دون الشهادة على ما سواها من الحدود والأبضاع وشبهها. واستدلوا لِما ذهبوا إليه من ذلك بقول عمر بن الخطاب: "الْمُسْلِمُونَ عُدولٌ بَعْضُهم عَلَى بَعْضٍ " ... الحديث، ولا حجة لهم في ذلك، إذ ليس على ظاهره؛ لأن معناه: إنما هو أن المسلمين هم الذين تجوز شهادتهم على بعضهم، لا الكفار، بدليل قوله: "وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لا يُؤسر رَجَلٌ فِي الإِسْلاَم بِغَيْرِ الْعُدًول". والذي ذهب إليه مالك وجمهور العلماء أنه لا تقبل روايته، ولا تجوز شهادته إلا بعد أن تعرف عدالته؛ لقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إذ لا يُرضى إِلاَّ من عرف بالعدل والرضا.
وقد مضى الكلام على هذا مستوعبا في سماع سحنون من كتاب الشهادات، وأما تحمُّل الخبر والشهادة فلا يشترط في صحته إلا الميز والضبط خاصة، لا الإِسلام، ولا البلوغ، ولا العدالة، ولا الحرية.(17/100)
وتَرْكُ ابن سيرين للحديث بعد أن حدث به قد يكون لنسخٍ بلغه فيه، أو لشيء اتصل به عن روايته، واللَّه أعلم.
[حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
في حفظ قبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال مالك: انهدم حائط بيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز، واجتمع رجالات قريش، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم، أمر مزاحماً أن يدخل يخرج ما كان فيه فدخل فَقَمَّ ما كان فيه من لبِنٍ أو طحين وأصلح في القبر شيئاً كان أصابه حين انهدم الحائط ثم خرج وستر القبر، ثم بنى.
قال محمد بن رشد: إنما ستر عمر بن عبد العزيز القبر إكراماً له وخشي لما رأى الناس قد اجتمعوا أن يدخلوا البيت فيتزاحموا على القبر فيؤذوه بالوطء لتزاحمهم عليه رغبةً في التبرك به، فأمر مزاحماً مولاه بالانفراد بالدخول فيه، وقمه وإصلاح ما انثلم منه بانهدام الحائط عليه. وإنما ستر القبر على الناس وبنى عليه بيتاً صيانة له مخافة أن ينتقل تُرابه ليستشفى به، أو ليتخذ مسجداً يصلى فيه، فقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا تَجّعَلْ قَبْرِي وَثناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْم اتَّخَذُوا قُبورَ أنْبِيَائِهم مَسَاجِد» . وباللَّه التوفيق.
[حرمة ظهر المسجد]
في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد قال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يفرش له على ظهر المسجد في الصيف فيبيت فيه ولا تأتيه فيه امرأة. ولا تقربه وكان فقيهاً.(17/101)
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن لظهر المسجد من الحرمة ما للمسجد، ألا ترى أنه لم يجز في المدونة للرجل أن يبني مسجداً ويبني فوقه بيتاً يرتفق به. واحتج للمنع بفعل عمر بن عبد العزيز هذا. وقال: إنه لا يورث المسجد ولا البنيان الذي يكون على ظهره، ويورث البنيان الذي يكون تحته، وإنما اختلف هل لما فوق المسجد من ظهره حكم المسجد في جواز صلاة الجمعة فيه؟ على قولين: أحدهما: قوله في المدونة: إنه يعيد مَن فعل ذلك ظهراً أربعاً، وأشهب يكره ذلك ابتداء ولا يرى عليه إعادة إن فعل، في وقت ولا غيره، وهو اختيار أصبغ. وفي كتاب السرقة من المدونة دليلٌ على هذا القول، وهو قوله فيه في الذي ينشر ثيابه على ظهر بيته وهو محجورٌ عن الناس، فيسرقها سارق: إنه يقطع. وفي المبسوطة لأنس بن مالك، وعروة بن الزبير: أنهما كان يصليان الجمعة بصلاة الِإمام في بيوت محمد بن عبد الرحمن وبينها وبين المسجد الطريق، وذلك خلاف مذهب مالك وأصحابه.
[غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء]
في غسل اليد قبل إدخالها في الوضوء قال مالك: قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا قَامَ أحَدُكُمْ مِن مَنَامِهِ، فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا" فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ أصْنَعُ بِهَذَا الْمِهْرَاس؟ فَقَالَ أبُو هُرَيرَة: أفٍّ لَكَ» .
قال محمد بن رشد: لما أمره في الحديث أن يُفرغ عَلى يديه الماء قبل أن يدخلهما ليه، سأله كيف يصنع بالمهراس الذي لا يُمكنه أن يفرغ منه(17/102)
على يديه، وتأول عليه أبو هريرة أنه لم يسأله مستفهماً، وإنما سأله معارضاً للحديث، يقول: كيف يأمره أن يفرغ على يده من الماء قبل أن يدخلهما فيه، وقد يكون المهراس، فلا يمكنه أن يفرغ على يده منه؟ ولذلك قال له: أفٍّ لك، أي: لا تعارض الحديث، يريد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله. وهذه الزيادة وقعت في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء. ومضى الكلام على هذه المسألة في غير ما موضع من الكتاب المذكور. وتحصيل القول في ذلك: أن الماء إذا وجده القائم من نومه في مثل المهراس الذي لا يمكنه أن يفرغ منه على يديه ليغسلهما، فإن أيقن بطهارة يده أدخلها فيه، وإن أيقن بنجاستها لم يدخلها فيه، واحتال لغسلها، بأن يأخذ الماء بفيه، أو بثوب، أو بما قدر عليه. وإن لم يوقن بنجاستها ولا بطهارتها، فقيل: إنه يدخلها في المهراس، ولا شيء عليه؛ لأنها محمولة على الطهارة، وهو قول مالك في آخر سماع أشهب من كتاب الوضوء. وقيل: إنه لا يدخلها فيه، وليحتلْ لغسلها بأخذ الماء بفيه، أو بما يقدر عليهِ، وهو ظاهر قول أبي هريرة في هذه الرواية. وأما إِن قام من نومه، فوجد الماء في إناء يُمكنه أن يفرغ منه على يديه في الماء، فلا يدخل يديه في الماء حتى يغسلهما، فإن أدخلهما فيه قبل أن يغسلهما فالماء طاهر إن كانت يده طاهرة، ونجس إن كانت يده نجسة على مذهب ابن القاسم: يتيمم ويتركه، فإن لم يعلمِ بيده نجاسة فهي محمولة على الطهارة، لا تفسد عليه المَاء، وسواء أصبح جنباَ أو غير جنب، خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من تفرقته بين الوجهين.
[تفسير مائلات مُميلات]
في المائلات المميلات وسئل مالك: عن تفسير مائلات مُميلات. قال: مائلات عن الحق، مميلات مَن أطاعهن.
قال محمد بن رشد: يريد: سئل عن تفسير ما جاء في الحديث من قوله "مَائِلَات مميلات"، وهو حديث وقع في الموطأ بكماله موقوفاً على أبي(17/103)
هريرة قال: «نسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلاَت لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَريحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمَائَةِ عَامٍ» . ومثله لا يكون رأياً. وقد رواه عن مالك مرفوعاً عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد اللَّه بن نافع الصائغ. والكاسيات العاريات من النساء هن اللواتي يلبسن الرقيق من الثياب التي تصف وتشف ولا تستر، فهنَّ في الحقيقة لابسات، وفي المعنى: عاريات.
وقوله: «إِنًهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَهوَ يُوجَدُ مِن مَسِيرَة خَمْسِمائَةِ عَام» - مَعناه: إِن هذا هو جزاؤهن عند اللَّه عز وجل على هذا الفعل، إن جازاهن عليه ولم يغفره لهن، فإنه عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وليس معنى قوله "إِنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ" على التأبيد، وإنما معناه: إِنَّهنَّ لا يدخلن فيها إلا بشفاعة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المذنبين.
[الخروج من المسجد بعد الأذان]
في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان قال مالك: بلغني أن رجلًا قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد بن المسيب وأذن المؤذن فأراد أن يخرج من المسجد، واستبطأ الصلاة، قال له سعيد: لا تخرج، فإنه بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه، أصابه أمر سوء. قال: فقعد الرجل، ثم إنه استبطأ الِإقامة، قال الرجل: ما أظنه إلا قد حبسني فخرج،(17/104)
فركب راحلته فصرع، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: ظننت أنه يصيبه ما يكره.
قال محمد بن رشد: قول سعيد: وقد بلغني أنه من خرج بعد المؤذن خروجاً لا يرجع إليه أصابه أمر سوء - معناه: إن ذلك بلغه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إذ لا يقال مثله بالرأي، وهي عقوبة معجلة من اللَه عز وجل للخارج بعد الأذان من المسجد على أن لا يعود إليه لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي حضر وقتها.
قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، وأمّا إن خرج راغباً عنها وآبياً من فعلها فهو منافق. وقد قال سعيد بن المسيب: بلغني أنه لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء، إلى حد يريد الرجوع إليه، إلا منافق. وباللَّه تعالى التوفيق.
[ما كان عليه أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في حياته]
فيما كان عليه أصحاب رسول اللَّه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته
إلى أن توفي في التقلل في الدنيا
وترك التنعُّم فيها والرضا بالدون من العيش قال: وسمعت مالكا، يقول: سمعت أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس بالمدينة منخل ينخل به، فقيل لبعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف كنتم تفعلون؟ قالوا: نطحن الشعير ثم ننفضه ثم ننفخه، فما طار طار، وما بقي بقي.
قال الِإمام القاضي: في هذا دليل على أن أحوال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تتسع بالوفر والغنى في حياته، كما اتسعت بعد وفاته(17/105)
مما أفاء الله عليهم من الغنائم والفتوحات، التي وعدهم الله بها حيث يقول: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] ، فكثرت أموالهم من ذلك واتسعت أحوالهم، وصاروا أهل ثروة وغنى، منهم الزبير بن العوام، بلغت تركته خمسين ألف ألف ومائتي ألف، بعد أن ودَى عنه ابنه عبد الله ما كان عليه من الدين، وذلك ألف ألف ومائتا ألف، باع فيه بعض ما كان تخلفه من الأموال، وقطع من الغابات التي كان تخلفها ميراثاً قطعة لعبد الله بن جعفر في أربعمائة ألف كان له عليه، فباعها ابن جعفر بستمائة ألف، ربح فيها مائتي ألف، وفضلت من الغابة بعدما باع منها مائة ألف، فقوم على معاوية، وأخبر بذلك، وعنده عمرو بن عثمان، ومنذر بن الزبير وعبد الله بن ربيعة، فقال عمرو بن عثمان: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال منذر بن الزبير: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال عبد الله بن ربيعة: قد أخذت منها سهماً بمائة ألف، وقال معاوية: قد أخذت السهم الباقي ونصف السهم بمائة ألف وخمسين ألفاً، وكان له أربع زوجات، وأوصى بثلث ماله، فأخرج الثلث، وأصاب كل امرأة من نسائه، ألف ألف ومائتا ألف وكانوا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في كلتا الحالتين محمودين؛ لأنهم صبروا في حالة الفقر على ضيق العيش، وشكروا الله على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم من القليل كما وصفهم الله به؛ حيث يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل. وشكروا الله في حال الغنى على ما آتاهم الله من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من اللازمات، وتطوعوا لوجه الله تعالى بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله(17/106)
عز وجل، وقد اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال: فمنهم من ذهب إلى أن الغنى أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن الفقر أفضل. ومنهم من توقف في ذلك، ولم ير المفاضلة. وهذا فيمن كَان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقهُ الواجب عليه في الغنى فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى، ومن كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل؛ لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب ما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الرضا والصبر، على ما قسم له، والشكر لله على ذلك، والتصرف والخدمة فيما يحتاج إليه من كسوته ونفقته، ونفقة من يلزمه الِإنفاق عليه، فيؤجر على ذلك كله، ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه، قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] إلى قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . والشكر لله تعالى على ما أتاه من فضله فيؤجر على ذلك كله. والذي أقول به في هذا تفضيل الغنى على الفقر وتفضيل الفقر على الكفاف، وإنما قلت: إن الغنى أفضل من الفقر، لقوله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى، لكان تعالى يأمرنا أن نسأله تفضيل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم(17/107)
من المعنى، وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى، وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل بيْن ما يُعبد الله به من الغنى، وما يعبد الشيطان به من الفقر، وقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] وَقَوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وما أشبه ذلك من الآيات كثير، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حين قيل له: ذهب الأغنياء بالأجور: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] ، وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَالُ أبِي بَكْرِ» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ ضَمِنْتُ لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إِنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيرٌ(17/108)
مِنْ أنْ تَذَرَهُم عالة يَتَكًفّفُونَ النَّاسَ» . وأمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقبول ما أتى من غير مسألة، ونهيه عن إضاعة المال، وعن الوصية بما زاد على الثلث. وما أشبه ذلك من الأحاديث التي يكثر عددها ولا يمكن حصرها، ولأن الفقير يؤجر من وجهين: أحدهما: الصبر على الفقر والفاقة، مع الرضا بذلك، والشكر لله تعالى عليه، والثاني: تصرفه وعمله فيما يعيد به على نفسه ما لا بد له منه من نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.
والغني يؤجر من وجوه كثيرة، منها الشكر لله عز وجل على ما أتاه من فضله، ومنها الصبر على ما يعطيه من ماله لوجه الله عز وجل في الواجب عليه من الزكاة، وفيما سِوى ذلك من القربات ومن الِإنفاق على ما يجب عليه الِإنفاق عليه من الزوجات والبنين الصغار والآباء والأمهات المعدمِين، مع حبه له، وشحه عليه.
قال عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] ... الآية، وقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ثناءً منه عز وجل بذلك عليهم. وقد يتزوج الغني الزوجتين والثلاث والأربع، ويتسرى الِإماء ذوات العدد، فيستمتع بوطئهن، ويؤجر بذلك فيهن. والفقير لا يقدر على شيء من ذلك، وما فضل على الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه باستمتاعه به في الرفيع من اللباس الطيب، والطعام الحسن، والحسن من الركوب، والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، أولى من ترك ذلك وإمساك المال، إذ لا أجر في مجرد إمساك المال، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير يريد أن يفعله منه. وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحَسَن؛ لأن الله يحب أن يرى أثر(17/109)
نعمته على عبده. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب جابر بن عبد الله لما لبس الثوبين الجديدين بأمره له بذلك ونزع الخفين: "مَا لَهُ ضَرَبَ اللهُ عُنُقَه، أَلَيْسَ هَذَا خَيْرٌ لَهُ؟» وقال عمر بن الخطاب: إنِّي لأحِبَ أنْ أنْظُرَ إلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَاب. وقال: إِذا أوسعَ اللهُ عليكم فَأوْسِعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ.
ويؤجَر عَلى التوسعة على أهله في الِإنفاق. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتَّى مَا تَجْعَل فِي فِي امْرَأتكَ» . ففي هذا كله بيان واضح على أن وجود المال خير من عدمه؛ لأنه إذا عدِمه لم ينتفع بعدمه، وإذا وَجَدَه انتفع بوجوده، إما باستمتاع مباح غير مكروه لا أجر له فيه، وإما باستمتاع مندوب إليه فيه أجر إلى ما يفعل منه من الخير الواجب والتطوع، وإنما قُلت: إن الفقر أفضل من الكفاف؛ لأن الذي عنده الكفاف، إنما يؤجَر على شكر نعمة الله عليه فيما أعطاه من المال الكفاف الذي لا فضل فيه عما يحتاج إليه، فأغناه ذاك عن الكدْح والتصرف فيما يحتاج إليه.
والفقير يؤجر من وجهين، حسبما ذكرناه، واستدل من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغني بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ولا دليل لهم فيه؛ لأن الأغنياء يشاركونهم في الصبر، والأجور في الأعمال على قدر النيات فيه.(17/110)
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن اللهَ قَدْ أوْقَعَ أجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نيَّتِهِ» ، ومقدار النيات لا يعلمها إلا المجازي عليها. روي: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. ولا دليل فيه أيضاً، إذ ليس على عمومه؛ للعلم الحاصل بأن طائفة من أغنياء المسلمين كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان يدخلون الجنة قبل كثير من الفقراء وأنهم أفضل من أبي ذر، وأبي هريرة، ولأن السبق إلى الجنة لا يدل على زيادة الدرجات فيها، وكذلك ما روي من كون "الفقراء أفضل أهل الجنة" لا دليل لهم فيه، إذ ليس لهم فيه في الحديث أنهم أكثر أهل الجنة وأفقرهم، وإنما كانوا أكثر أهل الجنة؛ لأن الفقراء في الناس أكثر من الأغنياء، فالمحمودون منهم أكثر من المحمودين من الأغنياء، وليس الكلام في أي الطائفتين أكثر، وإنما هو في أيهما أفضل، أي: أكثر ثواباً.
وقد بينا وجه كثرة الثواب في ذلك، وأقوى ما يحتج به من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى، هو أن الفقراء أيسر حساباً وأقل سؤالاً، إذ لا بد أن يسأل صاحب المال من أين كسبه؟ وهل أدى الحق الواجب عليه فيه أم لا؟ وسأل أيضاً عن تنعُّمه فيه بالمبَاح من المطاعم والملابس، بنص قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] ، وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأصحابه: «لَتُسْألُنّ عَنْ نَعِيم هَذَا الْيَوْم» ، في طَعَامٍ صنَعَهُ لَهُم أبُو الْهَيْثَم بن التَّيْهان: خبز شَعيرِ ومَاءٍ مُسْتَعْذَب. وهذا لا حجة لهم فيه أيضاً؛ لأن السؤال عن ذلك كله لا(17/111)
يضرهم إذا أتوا بالبراءة منه. بل يؤجرون على ما يذكرونه من فعل الواجب عليهم فيه، ولا خفاء في أن من وجب لله عليه شيء، فسُئل: هل عمله أم لم يعمله؟ فوجد قد عمله، أفضل ممن لم يجب عليه، ولا سئل عنه؛ لأنه يؤجر على ما عمل من الواجب، كما يؤجر على ما عمل من التطور. وإنما توقف على المفاضلة بين الفقر والغنى من لم يفصل أحدهما على صاحبه، والله أعلم. من أجل أن لكل طائفة منها معنى تؤجرُ عليه دون الأخرى، والأجور في ذلك على قدر النيات في ذلك المعنى، ولا يعلم قدرها إلا المجازي عليها، فوجب الوقوف عن ذلك؛ لاحتمال أن يؤجر الفقير على معنى واحد، لقوة نيته فيه أكثر مما يؤجر الغني على معان كثيرة، لضعف نيته فيها.
وهذا صحيح مع التعيين، فلا يصح أن يقال: إن أَجر فلان في غناه لكثرة ما يفعل منه من الخير - أكثر من أجر فلان في فقره ورضاه بما قسم الله له من ذلك، ولأن أجره في فقره ورضاه بما قسم الله له منه أكثر من أجر فلان في غناه على ما يفعل منه من الخير.
وأما في الجملة فالغنى أفضل من الفقر لما بيناه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأما من فضل الكفاف على الفقر والغنى، فلا وجه له في النظر والله أعلم. وأما الفقير الذي لا يقدر أن يقومَ بما يحتاج إليه حتى يسأل، فالغني أفضل منه قولاً واحداً، والله أعلم؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السًّفْلَى» ؛ لأن اليد السفلى هي السائلة، والعليا النافقة، وقد استعاذ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الفقر المُنسى، كما استعاذ من الغني المطغي. وباللَّه التوفيق.
[ما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه]
حكاية عن عمر بن عبد العزيز فيما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه وسمعت مالكاً يذكر: أن عمر بن عبد العزيز قام إليه رجلٌ فذكر(17/112)
مناقب أبيه، فقال: شهد بدراً والعقبة وما أشبه ذلك، ثم قام إليه رجل آخر من أهل الشام، فقال: إن أباه شهد الزاوية، وكان مع الحجاج بن يوسف، فقال عمر: كم من شيء يفرح به صاحبه، وهو عليه وَبالٌ يوم القيامة، ثم قال عمر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
قال محمد بن رشد: هذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الرجل إنما يتشرف بمناقب أبيه على الحقيقة، ويجب أن يفرح بها إذا كانت مما يُقربه إلى الله تعالى؛ لأنه يرجو أن يلحقه الله بدرجته لِتقر به عينه، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، وبالله التوفيق.
[تحفظ الرجل بدينه]
في تحفظ الرجل بدينه وسمعته يذكر: أن رجلاً من الحكماء قال: ما كنتَ لاعباً لا بدَّ أن تلعب به، فلا تلعب بدينك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يسامح أحداً في شيء من دينه إن لم يكن عليه في مسامحته فيه إثم، وإن سامحه في ماله أو فيما هو ... وذلك أن يصبح الرجل صائماً متطوعاً فيريده رجل من الفقراء في صنيع يصنعه، فقد قال مطرف: إنه إن حلف عليه بالطلاق والعتق ليفطرن فأعنته، ولا يفطر وإن حلف هو فليكفر، ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر فليطعهما وإن لم يحلفا عليه، إذا كان ذلك رِقَّةً منهما عليه لاستدامة صومه. وقد مضى الكلام على هذه(17/113)
المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الصيام. وبالله التوفيق.
[الارتزاق من الصدقات]
في الارتزاق من الصدقات قال مالك: كان أرزاق عمال المدينة من الصدقات، وكان أبو بكر بن محمد يذكر إنما هي غفلة، وفرض له رزقه سبعة وثمانين ديناراً وثلث دينار من فَدَك.
قال محمد بن رشد: قوله: كان أرزاق عمال أهل المدينة من الصدقات، معناه، والله أعلم: أن الأموال من الصدقات وغيرها كانت مختلطة. فإذا ارتّزق منها وهي مختلطة كان بعض رزقه من الصدقات إذا لم يخرج في غيرها من وجوه الصدقة عوض ما أعطي منها، واستجازة ذلك غفلة؛ كما قال أبو بكر بن محمد، إذ لا يتحقق السلامة من ذلك، ويحتمل أن يكون إنما كانوا يرزقون من الصدقات، وبتأويل أنهم كانوا أمهر عمالًا ينظرون في جميع الأمور من الصدقات وغيرها، وأما لو لم يكن لهم نظر عليها ولا عمل فيها لما جاز أن يرزقوا منها؛ لأن الصدقات إِنما هي لمن فرضها الله لهم في كتابه بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، لا يجوز أن يخرج عنهم إلى غيرهم. والأمراء والكتَّاب والعُمال وجُباة الأموال إنما يُرزقون من بيت المال. وبالله التوفيق.
[كراهية طول الكمين]
في كراهية طول الكمين قال ابن القاسم: بلغني أن عمر بن الخطاب قطع كُم رجل إلى قدر أصابعه بشفرة، ثم أعطاه فضل ذلك، وقال له: خذ هذا فاجعله في حاجتك.
قال الإِمام القاضي: إنما فعل عمر بن الخطاب هذا؛ لأنه رأى(17/114)
أن الزيِادة في طول الكمين على قدر الأصابع مما لا يحتاج إليه، فرآه من السرَف، وخشي أن يدخل عليه منه عجب، وفي مثل هذا قالت عائشة: ما أخَافُ عَلَى الرًجُل إلاَّ مِنْ أَطْرَافِهِ؛ إذْ مَر عليها سعدُ بن معاذ وَعَلَيْهِ دِرْع مقلصة مشمرة الكمين، على ما مضى في أول السماع. وقد تكلمنا على ذلك هنالك. والله الموفق.
[ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شظف العيش]
فيما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شظف العيش وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عمر بن الخطاب، قال وهو بمكة: لقد رأتني وما لِيَ من طعام غير أن خالاتٍ لي كنَّ يحفنَّ حفنة حفنة من زبيب.
قال محمد بن رشد: هذا من معنى ما تقدم القول فيه قبل هذا، فلا معنى لِإعادته، وبالله التوفيق.
[طول الرداء]
في كراهية طول الرداء
قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز على اليمن، وأنه ارتدى ببُردة، وكانت طويلة فانجرت من خلفه، فقيل له: ارفع ارفع، فرفع فانجرت بين يديه. قال: هكذا الشيء يجعل بغير قدره.
قال محمد بن رشد: إنما قيل له: ارفع؛ لما انجرت خلفه، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مَنْ جَرَّ إزَارَه بَطَراً» ، فطول الرداء مكروه، مخافة أن يغفل عنه فيجره من خلفه. وقد(17/115)
جاء النهي عن ذلك لمن فعله بَطراً، فالتوقي من ذلك على كل حال من الأمر الذي ينبغي. وبالله التوفيق.
[تفسير وَقُدُورٍ راسِيَاتٍ]
في تفسير {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]
وسئل مالك: عن تفسير {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، قال: لا تحمل ولا تحرك. بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] ، قال مالك: يريد أثبتها. وسئل مالك: عن تفسير {كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] ، قال: كالجوبة من الأرض فيما أرى.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للقدورِ الَرّاسِيَاتِ التي لا تحمل ولا تحرك بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] أثبتها تفسير صحيح نحو تفسير السدي؛ لأنه قال فيِ {رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] : معناه ثابتات في الأرض، عظام تنقر من الجبال بأثافيها، فلا تحول عن أماكنها. وقال مجاهد في تفسير قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] معناه: وصحاف كالحياض، وهو نحو تفسير مالك في هذه الرواية، وقوله عز وجل في أول الآية: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] ، يعملون له ما يشاء من مساجد. وقيل: من مساجد وقصور.
وقوله: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] يُرِيدُ تصاوير من نحاس ولم تكن الصور يومئذ. وروي: أن سليمان أمر الشيطان ببناء بيت المقدس، فقالوا له: زوبعة الشيطان وله عين في جزيرة في البحر يردها كل سبعة أيام، فأتوها فنزحوها، ثم صبوا فيها خمراً فجاء لورده، فلما أبصر الخمر قال في كلام له: ما عليك، إنك إذا شربك صاحبك تظهرين عليه عذره في أساجيع له لا أذوقك اليوم، فذهب ثم رجع لظمأٍ آخر، فلما رآها قال كما قال أول مرة ثم ذهب ولم يشرب حتى جاء لظمأٍ لإِحدى وعشرين ليلة، فقال: ما علمت أنك لتذهبن الهم في سجع له، فشرب منها فسكر، فجاءوا إليه فأروهُ خاتم(17/116)
شجرة فانطلق معهم إلى سليمان، فأمرهم بالبناء، فقال زوبعة: دلوني على بيض الهدهد، فدل على عشه، فأكب عليه جمجمته، يعني زجاجة، فجاء الهدهد فجعل لا يصل إليها، فانطلقت، فجاء بالماس الذي يثقب به الياقوت، فوضعه عليه فقط الزجاجة نصفين، ثم ذهب ليأخذه، فأزعج بالماس إلى سليمان، فجعلوا يستعرضون الجبال، كأنما يخطون في نواحيها في نواحي الجبال في الطين، قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، أيَ: توحيداً. وقال بعضهم: لما نزلت لم يزل إنسان منهم قائماً يصلي. قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أي: أقل الناس المؤمن.
[رقية البثرة الصَّغيرة مخافة أن تعظم]
في رقية البثرة الصَّغيرة
مخافة أن تعظم قال مالك: بلغني أن عائشة كانت ترى البثرة الصغيرة في بدنها فتلح عليها بتعويذ، فيقال لها: إنها صغيرة، فتقول: إن اللَّه يعظم ما يشاء من صغير، ويصغر ما يشاء من كبير.
قال محمد بن رشد: فعل عائشة هذا مطابق لما تواترت به الآثار عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. من ذَلِكَ «حَدِيثْ عُثْمَان ابْنِ أبي الْعَاص أنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبِهِ وَجَعٌ قَدْ كَادَ أَن يُهْلِكَهُ، فَقَالَ لَه رَسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مًرّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعَزّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِه مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ". قَالَ: فَقُلْتُ ذلك، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزلْ آمُرُ بها أهلي وغيرهم» . وحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/117)
وسلم: «كَانَ إذَا اشْتَكَى يقْرأُ بِالْمُعَوِّذَاتِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَتْ: فَلًمّا اشْتَدَ وَجَعُهُ كُنْت أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَلَيهِ بِيَمِينِه، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» .
ولا يكون التعويذ والرقية في المرض، إلا بكتاب الله على ما جاء في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. واختلف في رقية أهل الكتاب، فأجاز ذلك الشافعي إذا كانت بكتاب الله؛ لحديث يحيى بن سعيد عن عمر عن عائشة: أن أبا بكر الصديق دخل عليها يوماً وهي تشتكىِ، ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. وكره ذلك مالك؛ إذ لا يدري أَهَلْ ترقى بكتاب الله أو بغير ذلك مما يضاهي السحر؟ وقوله من طريق النظر أظهر، والله أعلم.
وقد مضى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة - القول في تعليق التمائم على المريض وعلى الصحيح؛ مخافة المرض مستوفى، فلا وجه لإعادته، والله أعلم.
[صفة نعل النبي عليه السلام]
في صفة نعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وسئل مالك: عن نعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التي رآها كيف حدُّوها؟ قال: رأيتها إلى التدوير ما هي وتخصيرها في مؤخرها وهي مخصرة ومعقبة من خلفها، قلت: كان لها زمامان. قال: ذلك الذي أظن، قال: وكانت عند آل ربيعة المخزوميين من قبل أم كلثوم أمهم.
وسمعت مالكاً يذكر: أن عند آل عمر بن الخطاب فراش من شعر وجرس، وكان ذلك الفراش لحفصة، قلت له: ما قصة الجرس؟ قال: لا أدري إلا أنه بلغني كذلك.(17/118)
قال محمد بن رشد: ليس في هذه الحكاية ما يشكل، فتكلم عليه حامي الحرمين الذي سئل عن قصته، فقال: لا أدري والأجراس كانت تعلق في أعناق الِإبل لتعرف مواضعها بأصواتها إن شدت أو ضلَت.
وتأول مالك: أنهم إنما كانوا يعلقونها عليها من أجل العين، وبوَّب على ذلك في موطئه " باب في نزع المعاليق والجرس "، وأدخل عليه ما حدَّثه عبدُ اللَّه بن أبي بَكْر عن عبَّاد بن تميم «أن أَبَا بَشيرِ الأنصارِي أَخبرَهُ: أَنه كَانَ مَعَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غَزَواته، قَالَ: فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولاً، قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أَبي بَكرِ: حسبت أَنَّهُ قَالَ، وَالنَّاسُ في مَقِيلِهِم: "لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدةٌ مِنْ وَتَرِ أَو قِلاَدةُ إلَّا قُطِعَتْ» .
فرأَى مالك الأجراس دَاخلة في عموم ما أَمر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقطعه من أعناق الِإبل، وتأول أن ذلك إنما كانوا يفعلونه من أجل العين، وتابعه على تأويله جماعة من أهل العلم، فلم يجيزوا أَن يعلق على الصحيح من بني آدم ولا من البهائم شيء من العلائق خوف نزول العين.
وقد مضى الكلام مستوفى على هذا المعنى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ومعنى السؤال في هذه الحكاية عن قصة الجرس، إنما هو لِمَ كانوا يحبسونه ويرفعونه، وقد جاء النهي في استعماله فلم يجبه على سؤاله. والجواب فيه أن استعماله وإن كان لا يجوز ففي حبسه منفعة، وهو أنه يذكر به العهد القديم، ويتراحم من أجله على من قد مات من السلف الكريم. والله أعلم.(17/119)
[مناقب مصعب بن عمير]
خبر في منقبة مصعب بن عمير قال مالك: إن مصعب بن عمير كانت عليه جبة من صوف مرقوعة بفروة، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه إلى المدينة يدعو الناس إلى الِإسلام، ويعلمهم القرآن وأنه حين قتل كانت تّلك الجبة عليه.
قال محمد بن رشد: مصعب هذا القرشي العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان من جلة الصحابة وفضلائهم، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، كان يُدعى القارئ. وقيل: إنه أول من دخل المدينة من المهاجرين، وأول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، ثم قدم بعده المدينة عمرو بن أم كلثوم، ثم عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود، وبلال، ثم أَتى عمر ابن الخطاب في عشرين راكباً، ثم هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقدم المدينة، وكان مصعب بنُ عمير هذا فتَى مكة شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكره فيقول: «مَا رَأَيْت بِمًكّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً وَلَا أَرَقَّ حُلّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِن مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْر،» فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو إلَى الإسْلَام فِي دار ابْن الأرْقَم، فَأسْلَمَ، وَكَتَمَ إسْلاَمَهُ خَوْفاً مِن أمِّهِ وَقَوْمِهِ وَكان يَخْتَلِفُ إلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرّاً فَبَصرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ بِهِ قَوْمَهُ وَأُمَّهُ، فَأَخَذُوه فَحَبَسًوهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوساً عِنْدَهُم حَتَّى خَرَجَ مُهَاجِراً وَاسْتُشْهِد يَوْمَ أُحُدِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نَمِرَةٌ، كَانُوا إذَا غَطُّوا بِهَا رَأسَهُ خَرَجَت رِجْلاَهُ، وَإذَا غَطُّوا بِهَا رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأسُهُ، وَهِى الْجُبّة الْمَرْقُوعَةُ بِالْفَرْوَةِ. عَلَى مَا قَالَه فِي هَذِه الْحِكَايَةِ، وَاللَّه أعلم. فَأَمَرَهُمّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/120)
وَسَلَّم أَن يغَطُّوا بهَا رَأسَه وَيَجْعَلْوا عَلَى رِجْلَيه من الِإذْخِرِ. وبالله التوفيق.
[الصيام قبل الاستسقاء]
في الصيام قبل الاستسقاء وسئل مالك: عن الصيام قبل الاستسقاء مما يعمل به، فقال: ما سمعت إنكاراً على من عمله.
قال الإمام القاضي: الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده، وإذا هو أمر أحدثه بعض الأمراء استحسنه كثير من العلماء، فعله موسى بن نصير بإفريقية، حين رجع من الأندلس فاستحسنه الخزامي وغيره من علماء المدينة.
وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: استحب للِإمام أن يأمر الناس قبل بروزه للمصلى بهم أن يصبحوا صياماً يومهم ذلك. ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، آخرها اليوم الذي فيه يبرزون - كان أحب إلي.
والمعلوم من مذهب مالك إنكارُ هذه الأمور المحدثات كلها، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء والدعاء عند خاتمة القرآن. فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله: ما سمعت إنكاراً على مَن عمله، أن يكون انتهى كلامه -أي: مالك - إلى قوله: ما سمعت، أي: ما سمعت أن ذلك يفعل، ويكون إنكاراً على من عمله من قول ابن القاسم. أخبر أن مالكاً أراد بقوله: ما سمعت الِإنكار على، فيكون ذلك مطابقاً لمذهب ابن القاسم، ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك فيقتضي جواز ذلك عنده إذ قد نفى أن يكون سمع الإِنكار على من عمله. والأول من التأويلين أولى. واللَّه أعلم.
وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب(17/121)
الصيام؛ لتكرَّر المسألة هناك. وبالله التوفيق.
[اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس]
في اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلًا من مال الله يعطيها الناس، يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال اللَّه؛ لأن أولى ما صرف فيه مال اللَّه ما يستعان به على أداء فرائض اللَّه، فينبغي للأئمة أن يأنسوا في ذلك بفعله. فقد قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنواجذِ» وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الحج لتكرر الحكاية عن عمر بن الخطاب فيه، وباللَّه تعالى التوفيق.
[ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في زينب زوجته]
ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
في زينب زوجته قال مالك: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنسائه: «أوَّلُكُنَّ يَلْحَقُنِي أطْوَلُكُنّ بَاعاً» ، قال: فكن يتطاولن حتى ينظرن أيهن أطول؟ حتى هلكت زينب، وكانت امرأة صناعاً، عظيمة الصدقة، فلما ماتت عرفن أن رسول اللَّه أراد بذلك الصدقة، وأنها قالت: إِني أرى عمر بن الخطاب سيبعث إلي بكفني وكانت قد(17/122)
أعدت لها كَفَناً، فإن بعث إلي بشيء فتصدقوا به. قال: وكان عمر أول من جعل عليها هذا النعش الذي جعل على النساء سترها به.
قال الِإمام القاضي: ويروى أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطْوَلُكُن يَداً أسْرَعُكنً لَحَاقاً بِي» والمعنى في ذلك سواء؛ لأنه أراد طول اليد والباع بالصدقة، وذلك من الاستعارات البليغة الحسنة، وفيه فضل الصدقة وعلَم من أعلام النبوءة؛ لأنه أخبر بمن يموت بعده أولاً من نسائه، فكان كما قال، ولم يصرح باسمها لما كان عليه من الخلق الكريمة، مخافة أن يعلمها بما تشفق منه وتكرهه؛ لأن المؤمن يكره الموت لشدته، ويخاف تعجيله، ويود تأخيره رجاءَ الازدياد من الأعمال الصالحات.
وقد «قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأخوين اللذين تأخرت حياة أحدهما، فذكرت فضيلة الأول عند رسول اللَّه، فقال: "أَلَمْ يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ فَقَالوا: بَلَى كَان لَا بَأسَ بِهِ. قَالَ: فَمَا يُدْرِيكم مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَته؟ إِنَّمَا مَثَلُ الصّلاَةِ كَمثَل نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ يَقْتَحِمُ فِيه أحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مًرّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِن دَرَنِهِ، فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُه» .
وقد روي عن شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب لقاء اللَه أحب اللَه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه ". قال شريح: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديثاً إن كان ذلك فقد هلكنا، قالت: وما ذلك؟ قلت: " من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَه لقاءه» ، فبينتَ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن ذلك إنما هو عند المعاينة وحضور الموت، وحين لا تقبل توبة التائب، إن لم يتب قبل ذلك. وزينب هذه بنت جحش تزوجها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من الهجرة، وقيل: في سنة ثلاث،(17/123)
وكانت قبله تحت زيد بن حارثة الذي كان تبَنَاهُ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ... الآية، وذلك أن المنافقين تكلموا في ذلك لما تَزوجها، فقالوا: تزوجِ حليلة ابنه، وقد كان ينهى عن ذلكـ فأنزل الله هذه الآية، أنزل قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]
الآية، وقال: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] . فدعي من يومئذ زيد بن حارثة، وكان يدعى زيد بن محمد، وكانت زينب تفخر على نساء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بأن اللَّه زوجه إياها، تقول: إِن آباءَكن أنكحوكن، واللَه أنكحني من فوق سبع سماوات. وتوفيت سنة عشرين من خلافة عمر. وهي السنة التي افتتحت فيها مصر. وقيل: توفيت في سنة أحد وعشرين، وهي السنة التي افتتحت فيها الإسكندرية، واللَّه أعلم.
[الاختيار للذبائِح]
في الاختيار للذبائِح قال مالك: ولقد أخبرني شيخ من بني عبد الأشهل، قال: أدركت الناس يختارون لذبائحهم.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الصيد والذبائح ساقها فيه على أن الاختيار للمرأة إذا اضطرت إلى ذكاة ذبيحة وعندها نصراني أن تذكيها ولا تكلها إلى النصراني. ووجه اختيار أهل الفضل للذبائح صحيح؛ لأن الفاسق وإن كانت تؤكل ذبيحته، لكن لا ينبغي أن يؤتمن ابتداء على الذبح، مخافة أن يقصر فيما يلزمه فيه، فيكتم ذلك، ولا يعلم به. وذلك مأمون من أهل الفضل.
وقد مضى في الرسم المذكور من الكتاب المذكور بيان القول فيمن تجوز ذبيحته ومن لا تجوز ومن تكره.(17/124)
[الشكر على الطعام والشراب]
فيما يلزم من الشكر على الطعام والشراب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب أتى قُباء فاستسقى فسُقي عسلًا، فقال: من يأخذه يشكر عليه، فقال رجل: أنا، فأعطاه إياه.
قال الِإمام القاضي: معنى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من يأخذه يشكر عليه - أي: من يأخذه يشكر الله تعالى على النعمة به حق شكره. وقد «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه في الطعام الذي صنعه لهم أبو الهيثم بن التَيِّهان والماء الذي استعذبه لهم: " لَتُسْألُنّ عَن نَعِيم هذا الْيَوْم» ، أي: هل أديتم الواجب عليكم من الشكر للَّه تعالى، وباللَّه التوفيق.
[إجابة عبد اللَّه بن الأرقم عن النبي عليه السلام]
في إجابة عبد اللَّه بن الأرقم عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
قال مالك: بلغني «أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليه كتاب، فقال: " مَنْ يُجِيبُ عَنِّي؟ " فقال ابن الأرقم: أنا. فأجاب عنه، فأتى به النبي فأعجبه وأنفذه» فكان عمر يعجبه ذلك، ويقول: أصاب ما أراد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يزل في قلبه، حتى لما ولي استعمله على بيت المال. فقال عمر: ما رأيت أحداً أخشَى للَّه منه، حاشَى رسول اللَّه.
قال الإِمام القاضي: عبد اللَّه بن الأرقم هذا القرشي الزهري أسلم(17/125)
عام الفتح، وكتب للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم لأبي بكر، واستكتبَه أيضا عمر، واستعمله على بيت المال وعُثمان بعده أيضاً سنين حتى استعفاه من ذلك فأعفاه. وروي أنه أعطاه ثلاثمائة درهم، فأبى أن يأخذها. وقال: إنما عملت للًه، وإنما أجري على اللَّه.
وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن عُثمان أجاز عبد الله بن الأرقم، وكان له على بيت المال بثلاثين ألفاً، فأبى أن يقبلها. وروي: أنه بلغ من أمانته عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ويأمره أن يطبعه ويختمه من غير أن يقرأه النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأمانته عنده.
[أشد البَلاءِ مَا هو]
في أشد البَلاءِ مَا هو؟ قال مالك: كان يقال: من أشد البلاء الِإملاء في المعاصي.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] فلا شيء أشدُ على العبد من الازدياد في الِإثم الموجب لسخط الرب؛ لأن العبد إذا ابتلي في ماله أو جسمه، إِن رضي بقدر اللَّه وصبر واحتسب - أُجِرَ، وإن سخط ولم يصبر ولا احتسب ثم مع ذهاب ماله وفقدان صحته، لم يتكرر عليه الِإثم كما يتكرر على من أملي له في المعاصي، وباللَّه التوفيق.
[إقادة الِإمام من نفسه]
في إقادة الِإمام من نفسه
قال مالك: بلغني أن أبا بكر لما تولى أمر الناس ضرب رجلًا ثم ندم، فقال: ما لي وما لهذا؟ لأردنها عليه، فلما سمعت عائشة أرسلت إلى عمر، فجاءَه، فقال: ما لَكَ؟ قال: قد ضربتُ رجلًا وقد واللَّه أعلم؛ لأن اللَّه قال فيها: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ،(17/126)
كنت مُعافى من هذا أن أضرب أحداً أو أشتمه. فقال له عمر: كذلك الإمام. قال: ومَا المَخرج؟ قال: تأتي الرجل فتسأله أن يجعلك في حل، فأتاه فأحله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه ضربه أدباً بالاجتهاد في غير حد، فخشي أن يكون قد أخطأ في الاجتهاد، فتجاوز في الضرب، وضربه فيما كان يجب التجاوز فيه، وترك الأدب بالضرب. وهذا على طريق التواضع والورع والخوف للَّه والتنحي من المتشابه، لا على سبيل الوجوب؛ لأن للإمام أن يؤدب الجناة بالضرب، كما يؤدب الرجل عبده وأمته، وكما يؤدب الرجل زوجته بالضرب، فلا يكون عليه في ذلك حرج، لقوله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فالِإمام مأجور على اجتهاده وإن أخطأ فيه. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِن اجْتهَدَ الْحَاكِمْ فَأخطَأ، فَلَهُ أجْرٌ، وَإِن أجْتَهَدَ فَأصابَ فَلَهُ أجْرَانِ» . وباللَّه التوفيق.
[اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان]
في اختلاف قدر الِإطعام باختلاف البلدان سمعت مالكاً يقول: إن أنس بن مالك كانت له مكيلةٌ بالعراق، فأطعم عشرة، ثم جاء هاهنا، يريد المدينة، فكال بها فأطعم عشرين.
قال محمد بن رشد: يريد أنه أطعم بالمدينة عشرين مسكيناً من(17/127)
المكيلة التي كان يطعم منها بالعراق عشرة مساكين، وذلك في كفارة اليمين. وذلك يختلف باختلاف عيش أهل البلد، وذلك حجة لقول مالك في المدونة.
وأما عندنا هاهنا فليكفر بِمدِّ النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الأيمان باللَّه. وأما أهل البلدان فإن لهم عيشاً غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم، ولا ينظر في البلدان إلى مد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فيجعله مثل ما جعلته في المدينة.
[تفسير السبع المثاني]
في السبع المثاني قال: وسمعت مالكاً يقول: السبع المثاني أُم القرآن.
قال محمد بن رشد: قول مالك في السبع المثاني هي أم القرآن هو قول جمهور العلماء. وروي عن ابن عباس في قول اللَّه عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] ، قال: فاتحة الكتاب. قيل لها ذلك لأنها تُثَنَّى في كل ركعة.
وقد قيل في فاتحة الكتاب: إنها السبعُ المثاني والقرآن العظيم. وذلك مروي عن ابن عباس، وبيِّنٌ من حديث أبَي بن كعب في الموطأ: «أن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَادَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ مِن صَلَاتِهِ لَحِقَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى يَده، يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "إِنِّي لأرْجُو أن لَا تخْرُجَ من الْمَسْجِد حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً، مَا أنْزَلَ الله في التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الإِنْجِيل مِثْلَهَا"، فَجَعَلْتً أبْطِئُ فِي الْمَشي، رَجَاءَ ذَلِكَ، ثُمَّ قلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، السّورةَ الَّتِي وَعَدْتَنِي، قَالَ: كَيْفَ تَقْرَأ إِذَا افْتَتَحْتَ؟ قَالَ: بِقَرَاءةِ "الْحَمْدُ لِلّهِ" حَتَّى أتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، فَقَالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هِيَ هذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي"(17/128)
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ.» على ما جاء في حديث أبي قال: المعنى في ذلك، أنها تعدل القرآن في الثواب، كما تقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ ثلث القرآن في الثواب.
وقد مضى الكلام في معنى ذلك مجرداً في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من كتاب الصلاة من سماع ابن القاسم. وقيل لها سبعٌ، لأنها سبع آيات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] آية. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] آية. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] آية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] آية. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] آية. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] آية. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] آية. ومن جعل بِاسْم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم آية من الحمد، وأوجب قراءتها في الصلاة. وهو مذهب الشافعي لم يعد الَذِينَ أنْعَمت عَلَيْهِم. وباللَّه التوفيق.
[إقامة قبلة مسجد النبي عليه السلام]
في إقامة قبلة مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: سمعت أن جبريل هو الذي أقام لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلة المسجد مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مسجد المدينة.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله: إنه أقام له قبلة المسجد، أي أعلمه بحقيقة، سمت القبلة، وأراه إياها وذلك واللَّه أعلم حين حولت القبلة إلى الكعبة. وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، ثم حولت القبلة إلى المسجد الحرام، قبل بدر بشهرين. قال عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144] إلى(17/129)
قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . فتحول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاته إلى الكعبة، وأقام له جبريل قبلة مسجده، وأراه السمت إليها، فقِبلتُه قُبالة الميزَاب، على ما قاله في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ولم يختلف في أن صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كانت إلى بيت المقدس، حتى حولت القبلة وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروي أنها كانت إلى الكعبة، وروي أنها كانت إلى بيت المقدس، وأنه كان يصلي إلى بيت المقدس، الكعبة بين يديه وباللَّه التوفيق.
[ضرب الرجل امرأته]
في كراهية ضرب الرجل امرأته قال مالك: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أُحب أن أَرى الرجل ثامراً فريض عصبه رقبته على امرأته يقاتلها» .
قال الإمام القاضي: هي قوله يقتبها أي يكثر منازعتها وضربها وهذا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطابق لما أنزل الله في كتابه العزيز من قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] لأن من أكثر من ضرب امرأته لم يعاشرها بالمعروف كما قال الله عزَّ وجلَّ. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبة بعرفة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّكُم أَخَذْتمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمِ عَلَيْهَنّ أَلَاّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُنَّ أَحَداً تَكْرَهُونَ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباَ غَيْرَ مُبْرِّحٍ وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ» .(17/130)
[: تفسير إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل]
في تفسير: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْل والحضِّ على مداومة العمل وسُئل مالك عن تفسير: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] قال: هي قيام الليل، وهي بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا: قد نشأ فلان. قال: وحدَّثنا مالك قال أبو هريرة: الغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ وَشَيْء مِن الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا. فقيل له وما المدلج إلى الصلاة؟ يعني صلاة الصبح.
قال محمد بن رشد: قول مالك في ناشئة الليل قيام الليل، مروي عن ابن عباس روي عنه أنَّه قال: نَاشِئَةُ اللَّيْل هِيَ مَا وَرَاءَ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، وَأنه قال: الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ نَاشِئَةُ اللَيْل. وروي مثله عن قتادة. وقال مجاهد: ساعة تسجد من الليل فهي ناشئة، وسكت مالك عن تفسير بقية الآية فقوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6] . تُقرأ على وجهين: وطْئاً وَوِطَاء. فقيل معناه: أَثبت في القلب، وقيل معناه: أَشد في تواطئ القلب. وقيل معناه فراغ القلب. وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] معناه وأَصوب قيلًا. وأَصدق في التلاوة. وأَجدر أَلَّا يلبس عليك الشَيطان تلاوتك. قال: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} [المزمل: 7] أي فراغاً طويلًا لحوائجك. قال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8] وقول أبي هريرة: الْغُدُوُّ وَالرَّواحُ وَشَيْء مِنَ الدُّلَج وَالْقَصْدَ تَبْلُغُوا ادأبُوا على هذه الأعمال، وهي صلاة الصبح، وصلاة الضحى والرواح إلى سائر الصلوات في الجماعات، تبلغوا بها وإن قلت إلى ما تريدون من مرضات ربكم، يقول ولا تحملوا على أنفسكم بكثرة العمل فتقطعون عنه. يشهد بصحة قوله قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَمل حَتَى تَمَلُّوا أكْلُفُوا مِنَ الْعَمَل مَا لَكُم بِهِ طَاقَةٌ» وكان أحبّ(17/131)
العمل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ الذي يدوم عليه ما حبه، وقال: «إِنَّ المُنبِت لَا أرضاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أَبْقَى» والله أعلم.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء قال مالك: رأَيت عامر بن عبد الله بن الزبير يرفع يديه وهو جالس بعد الصلاة يدعو فقيل له: أَترى بذلك بأساً؟ قال لا أرى بذلك بأساً.
قال الإمام القاضي: إجازة مالك في هذه الرواية لرفع اليدين في الدعاء عند خاتمة الصلاة نحو قوله في المدونة لأنه أَجاز فيها رفع اليدين في الدعاء، في مواضع الدعاء، كالاستسقاء، وعرفة، والمشعر الحرام، لأن ختمة الصلاة موضع للدعاء. واختلف قوله في المدونة في المقامين عند الجمرتين، فرآه في كتاب الصلاة من مواضع الدعاء ترفع الأيدي فيهما ولم يره في كتاب الحج الأول من مواضع الدعاء التي ترفع الأيدي فيها. وسئل في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن رفع اليدين في الدعاء، فقال: ما يعجبني فظاهره خلاف لما في هذه الرواية ولما في المدونة وقد يحتمل أن يتأول ذلك على أنه إنَّما أراد الدعاء في غير مواضع الدعاء، ولذلك قال: إِنَّه لا يعجبه رفع اليدين في ذلك.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم المحرم المذكور من كتاب الصلاة وفي رسم شك في طوافه منه وبالله التوفيق.
[ترك الاهتمام بهَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ]
في ترك الاهتمام بما يأتي قال مالك: قال عيسى ابن مريم: لَا تَحْمِلُوا هَمَّ سَنَةٍ عَلَى يَوْمٍ حَسْبُ كُلِّ يَوْم بِمَا فِيهِ.(17/132)
قال الإمام القاضي: وصية عيسى ابن مريم بما أوصى من هذا حكمة، إذ لا يدري المهتم بما يحتاج إليه في السنة، هل يعيش إلى تمام السنة أم لا؟ فاهتمامه بما يخاف من الموت قبل السنة آكَدُ عليه من الاهتمام بما يحتاج إِليه في السنة وبالله التوفيق.
[أي المواضع أَفضل من مسجد النبي عليه السلام للصلاة]
في أي المواضع أَفضل من مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للصلاة؟ وسُئل مالك عن الصلاة في مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيّ المواضع أَحبُّ إليك؟ قال: أَمَّا النافلة، فمُصلَّى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وأَما الفريضة، فالتقدم إلى أول الصف أَحب إلي.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة في مصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للتبرك بموضع صلاته، ورأَى للصلاة في ذلك الموضع فضلاً على سائر المسجد. ومن الدليل على ذلك، «أَنَّ عُتبان بنَ مَالكِ، قَالَ لِرَسُول اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يا رَسولَ اللَّه. إِنهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَالْمَطَرُ، وَأَنَا رَجَلٌ ضَرِير البَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيتي مَكَاناً أَتَخِذُهُ مُصًلّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: " أَيْنَ تُحِبًّ أَنْ أصَلِّيَ؟ " فَأَشَارَ لَهُ إِلَى مَكَان مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» فإذا كان ذلك الموضع من بيته بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه صلاة واحدة أَفضل من سائر بيته، وجب أن يكون الموضع الذي يواظب على الصلاة فيه من مسجده أفضل من سائر المسجد بكثير وإنما قال: إنَّه يتقدم في الفريضة إلى أَول الصف، يريد إلى أَول(17/133)
الصفوف، وهو الصف الأول، لأن فضل الصف الأول معلوم بالنص من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فهو أولى مما علم فضله بالدليل ومُصلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من مسجده هو العمودُ المخلق قاله ابن القاسم في رسم نذر سنه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة وبالله التوفيق.
[ما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد]
فيما يلزم في التثبت في مسائل الاجتهاد وتقديم اجتهاد أهل المدينة
قال مالك: وبلغني أن ابن مسعود كان يُسأل عن المسألة فيفكر فيها شهراً ثم قام فقال: اللَّهم إن كان صواباً فمن عندك، وإن كان خطأً فمن عند ابن مسعود يسأل عن الشيء بالعراق، فيقوم فيه، ثم يقدم المدينة، فيسأل، ثم يجد الأمر على غير ما قال، فإِذا رجع لم يحط رحلته، ولم يدخل بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك.
قال محمد بن رشد: المسألة التي فَكّر فيها شهراً ثم أَجاب فيها، فقال ما قال، هي مسألة الرجل يموت عن زوجته قبل الدخول وقبل أَن يفرض لها هل لها مع الميراث صداق أم لا؟ وهي مسألة اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم فروي «أن ابن مسعود سُئل عنها فقال: ما سًئلت منذ فارقت النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن شيء أَشد علي من هذه المسألة. سألوا غيري، فَترددُوا فِيها شهراً وقالوا: من نسأل؟ أنتم جلة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه البلد، فقال: سأقول فيها رأْيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني والشَّيطان. أرى لها مهر امرأة من نسائها لا وكْس ولا شطط. ولها الميراث، وعليها العدة. فقال معقل بن سنان وفي بعض الآثار معقل بن يسار وفي بعضها أيضاً فقام ناس من أشجع،(17/134)
فقالوا: نشهد أَن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قضى فيها مثل الذي قضيتَ في امرأة منا يقال لها: يرْوع بنت واشق، قال فرأيت ابن مسعود لم يفرح بشيء مثل ما فرح يومئذٍ» . وقال عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، لا صداق لها. ولها الميراث على ما وقع في الموطأ من أَن ابنة لعُبيد اللَّهِ بْنِ عمر، كَانَتْ تَحْتَ ابْن لِعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، فمَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَلَمْ يُسَم لَهَا صَدَاقاً فَابْتَغَتْ أمُّهَا صَدَاقَهَا وَهِيَ بِنْتُ زَيْدٍ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ، وَلَوْ كَانَ لَهَا صَدَاقٌ، لَمْ تُمْسِكْهُ، وَلَم نَظْلِمْهَا فَأبَتْ أمها أنْ تَقْبَلَ ذلكَ، فَجَعَلُوا بَيْنَهُم زَيْدَ بْنَ ثَابِتَ فَقَضَى أنْ لَا صَدَاقَ لَهَا، وَلَهَا الْمِيرَاثُ. فأخذ مالك والليث بن سعد والأوزاعي بمذهب ابن عمر. وهو قول ابن شهاب ومذهب أهل الحجاز. وأَخذ أَبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي بما روي عن ابن مسعود، وجاء عن النبي عليه السلام في يروع بنت واشق. واختلف قول الشافعي في ذلك، فروي عنه مثل قول مالك، وروي عنه مثل قول أَبي حنيفة، وذكر المزني عنه أَنَه قال: إِن ثبت حديث يروع، فلا حجة لأحد معَ السنة، وإن لم يثبت فلا مهر لها. ولها الميراث. وقال مسروق لا يكون ميراثاً حتى يكون مهراً يريد والله أَعلم وجوب المهر لوجوب الميراث.
وقد تعلق من ذهب إلى أَن الحق عند الله فيما لا نص فيه من مسائل الاجتهاد. وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه بقول ابن مسعود: هذا إن يكن صواباً فمن الله، وإن(17/135)
يكن خطأً فمن ابن مسعود ولا تعلق له في ذلك، لاحتمال أن يريد إصابة النص إن كان في النازلة نص لم يعلم به، كحديث يروع بنت واشق في نازلتِه. والصواب أَن كل مجتهد مصيب عند الله تعالى.
وقد بينا هذه المسألة بياناً شافياً في كتاب الأقضية من مختصر كتاب الطحاوي في شرح مشكل الحديث والشيء الذي سُئِل عنه بالعراق فقال فيه: ثم قدم المدينة فوجد الأمر بخلاف ما قال، فلما رجع لم يحط رحلته ولا دخل بيته، حتى أتى الرجل، فأَخبره بذلك، هو أَنه سئل عن نكاح الأم بعد الابنة إن لم تمس الابنة، فأَرخص في ذلك فلما قدم المدينة سأَل عن ذلك فأُخبر أن الأمر بخلاف ما قال، وأَن الشرط إنَّما هو في الربائب، لا في أُمهات النساء، فرجع الكوفة، فلم يدخل منزله حتى أتى الرجل الذي رخص له في ذلك، فأمره أن يفارق امرأَته على ما وقع من ذلك في الموطأ وقد روي إجازة ذلك عن علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت. وقال به من شذَّ من العلماء. وله وجهان من التأويل: أَحدهما أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عائد على الربائب وعلى أُمهات النساء، بإِضمار أَعني إذ لا يجوز في العربية أَن يكون اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ. نعت لأمهات الربائب، وبنات الأمهات، لأن بنات الأمهات مخفوض بالإِضافة، وأُمهات الربائب مخفوض بمن، ولا يجوز أَن ينعت بنعت واحد، ما عمل فيه عاملان. والوجه الثاني أن يجعل قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] شرط لاتصال الكلام، فيبيح نكاح الأم إذا لم يدخل بالبنت، ويبيح نكاح الربيبة إذا لم يدخل بالأم، فالقياس عليها. وبدليل قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إذ لا تكون الربيبة في حجره حتى يدخل بأُمها، لأن من ذهب إلى هذا يجعل قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] كلاماً متصلًا(17/136)
تاماً، فيصح رد قوله: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] إِلَى أول الكلام وهو قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] أَوْ إِلَيهما جميعاً بإِضمار أَعني على ما ذكرناه. والذي قال به عامة العلماء وفقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأَبو حنيفة، إِن الأم مبهمة لا شرط فيها، وإن الشرط إِنَّما هو في الربائب، فلا يحل نكاح الأم إذا تزوج البنت، وإن لم يدخل بها هو الصحيح، لِأنَّ الظاهر أن الكلام يتم في قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ويحسن الوقف عليه ثم يبتدأُ بقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] الآية.
[ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام]
في ما ذكر من خلاء مسجد النبيّ عليه السلام
قال مالك: بلغني أَن سعيد بن المسيب قال: خلاء بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أيام، لم يجمع فيه من حين كان: يوم قُتل عثمان، ويوم الحَرة، ويوم آخر قال مالك: أُنسيته.
قال محمد بن رشد: أما قتل عثمان رضي الله عنه وما وقع يوم قتله ممَّا أدى إلى الاشتغال عن إِقامة الصلاة في المسجد على العادة، فهو معروف، وأمَّا يوم الحَرة فإنه كان في خلافة يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين من الهجرة وذلك أَن أهل المدينة خلعوا طاعة يزيد بن معاوية، وكان القائم بذلك عبد الله بن حنظلة. وكان قد وفده أمير المدينة عثمان بن محمد إلى يزيد بن معاوية فيمن وفد إليه مع بنين ثمانية، فأعطاه مائة أَلف، وأعطى كل واحد من بنيه عشرة ألف درهم، سِوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ فقال: أَتيتكم من عند رجل والله لو.(17/137)
لم أَجد إلاَّ بنيَّ هؤلاء، لجاهدته بهم، قالوا: سمعنا أَنَّه أجازك وأكرمك وأعطاك، فقال: قد فعل، ولكني ما قبلت ذلك منه، إِلّاَ أن أتقوَى به عليه، وحض الناس فبايعوه، ودعوا إلى الرضى والشورى، وأَمَّرُوا على قريش عبد الله بن مطيع العدوي وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة الغسيل وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي، وأَخرجوا أمير المدينة ومن كان بها من بني أُمية، فبلع ذلك ابن عباس وهو بالطائف، فقال: أميران؟، هلك القوم. وكتب مروان إلى يزيد بالذي كان من أمر القوم، فأَمر بقُبة فضربت له خارجاً من قصره، وقطع البعوث على أَهل الشام، وولَّى عليهم مسلم بن عقبة، وبعث أَهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين أهل الشام، فصبوا فيها زقاً من قطران، وغوروه، فأرسل الله عليهم ماء السماء، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أَهل المدينة بجموع كثيرة، وبهيئةٍ لم يُر مثلها فلمَّا رآهم أَهل الشام، هابوهم وكرهوا قتالهم فأمر مسلم بسريره، فوضع بين الصَّفين، ثم أَمر مناديه: قاتلوا عني ودعوا، فشدَّ الناس في قتالهم، وانهزم أهل المدينة وعبد الله بن حنظلة متسانداً إِلى بعض بنيه يغط نوماً، فنبَّهه ابنه، فلما فتح عينه، ورأى ما صًنع، أَمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فلم يزل يقدمهم واحداً بعد واحد حتى أَتى القتل على جميعهم، فكسر هو جفن سيفه، وقاتل حتى قتل. ودخل مسلم بن عقبة المدينة، ودعا الناس إلى البيعة على أَنهم خَوَلٌ ليزيد ابن معاوية، يحكم في أَهليهم ودمائهم وأموالهم ما شاء، حتى أَتى يزيد بن عبد الله بن زمعة أَسيراً، وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفيّاً له فقال: بايع على أَنك خَوَلٌ لأمير المؤمنين، يحكم في دمك وأَهلك ومالك، فقال أُبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين، يحكم في دمي وأَهلي، فقال: اضربوا عنقه، فوثب مروان فضمه إليه، فقال: يبايعك على ما أَحببت، فقال: والله ولا أقيلها إِيَّاه أبداً وقال: إن تنحا وإلّاَ فاقتلوهما جميعا. فتركه مروان وضربت عنق ابن زمعة. وقتل معقل بن سنان الأشجعي صبرا(17/138)
ومحمد بن أَبي حذيفة العدوي صبراً ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي صبراً. وانتهى عدد من مثل ذلك اليوم من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل، وستة رجال. هذا كله على ما ذكره بعض المؤرخين والله أعلم بصحة ذلك. فهذه المحنة هي التي أوجبت ذلك اليوم خلاء مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من التجميع كاليوم الذي قتل فيه عثمان. والله أسأله العصمة والغفران برحمته. وقد وقع في رسم مرض بعد هذا من قول ابن القاسم: إِنَّه سمع مالكاً يقول: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل كلهم قد جمعوا القران. قال ابن القاسم: شككت أنه قال: كان فيهم أربعة أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
واليوم الثالث الذي ذكر مالك أَنَّه أنسيه. قال محمد بن عبد الحكم هو يوم خرج بها أَبو حمزة الخارجي وكان خروجه فيما ذكروا في خلافة مروان آخر خلفاء بني أُمية الذي خلفه أَبو العباس السفاح من بني العباس في سنة ثلاثين ومائة قال خليفة ابن خياط في تاريخه: سار أَبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة. يريد المدينة، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري، وجعل على مقدمته بلج بن عقبة السعدي، وخرج أهل المدينة فالتقوا بقُديدٍ يوم الخميس لتسعة خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، وبلج في ثلاثين ألف فارس، فقالوا لهم: طريقنا تأتي هؤلاء الذين بغوا علينا، وجاروا في الحكم، ولا تجعلوا أخذنا بكم، فإنَّا لا ندري قتالكم، فأبوا وقاتلوهم،، فانهزم أَهل المدينة، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين: اتبع هؤلاء القوم، وأجهز على جريحهم، فإن لكل زمن حكماً والأثخان في هؤلاء أمثل. قال: ما أرى ذلك، وما أَرى أَن أُخالف من مضى قبل. ومضى أَبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، سنة ثلاثين ومائة. ففي يوم دخوله إياها والله أعلم خلا مسجد النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أن يجمع فيه وأصيب من قريش يومئذٍ ثلاثمائة رجل، ومن آل الزيبر، اثنا عشر رجلَاَ، فما سمع الناس بواكي أَوجع(17/139)
للقلوب من بواكي قديد، ما بقي بالمدينة أَهل بيت إلَّا وفيهم بكاء. وقالت نائحة تبكيهم:
ما للزَّمَانِ وَمَاليه ... أفْنى قُديدٌ رِجالِيهْ
فَلأَبْكِينَّ سرِيرةً ... وَلأبُكِينَّ عَلَانِيَهْ
[تشميت العاطس]
في تشميت العاطس
وسُئل مالك عن العاطس إذا لم يحمد الله أَو لم يسمعه أَيَشمته؟ قال: لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله. قيل له: فإنه ربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فأَسمع القوم يشمتونه؟ قال: إِذا سمعت الذين يلونه يشمَتون فشمته.
قال الإمام القاضي: إِنما قال: إنه لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله لما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من أنه قال: «إِذَا عَطَسَ أحَدُكُم فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ ". وإذا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَقًلْ لَه، يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُم اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم» . وروي عنه أنه قال: «إذا عَطَسَ أحَدُكُم فليحْمِدْ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ يَرْحَمُكَ اللهُ وَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ» . وقال مالك: إن شاء قال العاطس في الرد على من شمته: يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالَكم. وهو قول الشافعي أي ذلك قال فحسن، وقال أصحاب أبي حنيفة يقول: يغفر الله لنا ولكم، ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يهديكم اللهُ ويصلح بالكم. وهذا شيء قالته الخوارج لأنهم لا يستغفرون(17/140)
للناس. والصحيح ما ذهب إليه مالك من أنه يرد عليه بما شاء من ذلك إذ قد جاء عن النبي الأمران معاً. وقد اختار الطحاوي وعبد الوهاب وغيره، يهديكم الله ويصلح بالكم على قوله: يغفر الله لنا ولكم. لأن المغفرة لا تكون إلا من ذنب، والهداية قد تعري من الذنوب. والذي أقول به: إن قوله: يغفر الله لي ولكم أولى إذ لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب، وصاحب الذنب محتاج إلى الغفران، لأنه إِن هدي فيما يستقبل ولم يغفر له ما تقدم من ذنوبه، بقيت التَبَاعات عليه فيها، وإن جمعهما جميعاً. فقال: يغفر الله لنا ولكم، ويهديكم ويصلح بالكم كان أحسن وأولى إلا في الذمي إذا عطس، ويحمد الله فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال له: يهديك الله ويصلح بالك، لأن اليهودي والنصراني لا تغفر له السيئات، حتى يؤمن. ومما يدل على هذا ما رُوي: مِنْ «أن الْيهودَ كَانُوا يَتَعَاطَسونَ عِنْدَ النَّبيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجَاءَ أنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُم اللهُ، فَيَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم.» واختلف في تشميت العاطس فقيل: هو واجب على كل من سمعه كرد السلام، وقيل هو ندب وإرشاد وليس بواجب. ولا اختلاف في أنه لا يجب تشميت العاطس إذا لم يحمد الله. وإنما أمر العاطس أن يحمد الله لما في العطاس من المنفعة ما لم يكن مضنوكاً على ما دل عليه قوله في الحديث: «إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثمَّ إِن عَطسَ فَشَمِّتْه، ثَمّ إن عَطِسَ فَشَمِّتْهُ ثم إِنْ عَطَسَ فَقل: إنك مضْنُوكٌ. وقال عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بَكْر: لاَ أدرِي أبَعْدَ الثّالِثَةِ أو الرابِعَةِ.» ويقال: تشميت، وتسميت، وقال الخليل تسميت العاطس لغة في تشميته. وقال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة، وجنبك ما يشمت به عليك. وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن وبالله التوفيق لا إلهَ إلا هو رب العرش العظيم.(17/141)
[كتاب الجامع الثاني] [قراءة الطالب على الراوي]
ومن كتاب أوله حلف أن لا يبيع سلعة سماها في العرض على العالم هل يقال فيه حدثنا؟ وسئل مالك فقيل له: أرأيت ما عرضنا عليك القول فيه حدثنا قال: نعم، قد يقول الرجل يقرأ على الرجل: أقرأني فلان وإنما قرأ عليه. ولقد قال ابن عباس: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف، فقيل له: أفيعرضِ الرجل أحب إليك أم تحدثه؟ قال: بل يعرض إذا كان مثبتاَ في قراءته، وربما غلط الذي يحدث أو سها، إِن الذي يعرض أحب إلي وأعجب في ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا معلوم من مذهب مالك، إِن قراءة الطالب على الراوي أصح له من قراءة الراوي عليه، لأن الطالب إذا كان هو القارئ فيها وغلط رد عليه الراوي بعلمه، مع حضور ذهنه أو من بحضرتّه، وإذا كان الراوي هو القارئ لم يرد عليه الطالب، إِما لجهله، وإِما لمهابته الشيخ، وإِما لأنه صادف موضع اختلاف، فيظن ذلك له مذهباً يحمله عنه. وروى ابن أبي أويس عنه أنه قال: السماع عندنا على ثلاثة أضرب: أولُها قراءةٌ على العالم، والثاني قراءة العالم عليك، والثالث أن يدفع(17/143)
العالم إليك كتاباً قد عرفه، فيقول: اروه عني. والذي عليه الجمهور أن قراءة الطالب على العالم مقدمة على قراءة العالم على الطالب، وروى علي وابن عباس أنهما قالا: قراءتك على العالم، كقراءة العالم عليك، وهو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً، فهي ثلاثة أقوال. وأهل العراق لا يجيزون الرواية عن العالم حتى يكون هو القارئ وقد قال بعض الحفاظ: لا يختلف أهل الحديث في أن أصح مراتب السماع، قول العالم: سمعت فلاناً قال: سمعت فلانا، ولا فرق في حكم اللسان بين أن يقول سمعت فلاناً أو حدثني أو أخبرني، أو أنبأني أو خَبَّرني أو قال لي، أو ذكر لي، وإنما تفترق هذه الألفاظ عند المحدثين في استعمالها من جِهة العرف والعادة، لا من جِهة موضع اللسان. وروي عن ابن وهب أنه قال: يقال فيما هو قراءة عن العالم: أخبرنا وفيما هو سماع من لفظ العالم: حدثنا فكأنه أراد أن يعرف بهذا من حديثه، ما هو سماع عن الراوي مما هو قراءة عليه واختار ابن إسحاق بن رَاهويه وجماعة من أصحاب الحديث، أخبرنا في الوجهين جميعاً. وقالوا: أخبرنا أعم في التحديث من حدَّثنا. وهذه الألفاظ كلها في السماع من العالم حقيقة، وفي القراءة عليه مجازاً.
والحقيقة فيه أن يقول: قرأت على فلان، لأن العدول من الحقيقة إلى المجاز فيما لا يلتبس فيه المعنى جائز سائغ موجود في القرآن وفي السنن وفي الآثار. وساغ المجاز في هذا لما كان الحكم فيما هو سماع وفيما هو قراءة سواء من جهة أنه إذا قرأ على العالم فقد أقر به وأمره بنقله عنه، إذا(17/144)
سمعه منه، وكذلك الإِجازة، وإن كانت على مراتب، أعلاها المناولة، وأدناها أن يقول له: ما صح عندك من حديثي فارْوه عني من غير أن يعين له شيئاً يستوي مع السماع من العالم والقراءة عليه في إقراره وأمره بنقله عنه، فجاز أن يقول فيه: حدثنا وأخبرنا مجازاً ومن المحدثين من ذهب إلى أنه يقول في الِإجازة: أنبَأنا ليفرق في ذلك بين الِإجازة وبين السماع والقراءة.
وقد قيل إِنه يجوز لمن أتى إلى العالم بجزءٍ فسأله هل هو من حديثه؟ فأخذه فنظره، وقال له: نعم هو من حديثي: إِنه يجوز له أن يحدث به عنه وإِن لم يقل له حَدث به عني. وكذلك لو رآهُ ينظر في جزء، فقال له ما هذا الجزء؟ فقال: جزء من حديثي عن شيوخي فسرقه الطالب واستحسنه من غير علمه، لجاز له أن يحدث به عنه. ونظير هذا: أن يأتي الرجل بذكر حقّ إلى رجل، فيقول له: أتعرف هذا الصك؟ فيقول: نعم هو دين علي لم أؤده بعد، فإِنه يصح له أن يشهد بما فيه، وإِن لم يقل له: اشهد به على اختلاف في هذا في مذهبنا. وبالله التوفيق.
[تفسير قول الله تعالى وَلْيُوفوا نُذُورَهُم]
في تفسير قول الله تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وسئل مالك عن تفسير قول الله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] قال هو رميُ الجمار. من كلام العرب أن يسمعوا العقل النذر، يريدون بذلك العدد.
قال محمد بن رشد: إِنما تأول مالك إِن مراد الله بقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو رمي الجمار، من أجل أن الوفاء بالشيء لا يكون إلا بإِكماله إلى آخره. ورمي الجمار هو آخر عمل الحج مع الطواف الذي ذكره الله معه فقال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] واستدل على ذلك بأن(17/145)
العرب تسمي العقل نذرا. وهو العدد الذي يجب في الجراح. يريد فكذلك رمي الجمار، سماه الله نذراً، لأنه عددٌ واجب رميه في الحج.
وقد مضى في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرار المسألة هناك. وبالله التوفيق.
[تفسير قوله عز وجل سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ]
في تفسير قوله عز وجل:
{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وسئل مالك عن هذه الآية {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] قال: سواء في الحق والسعة. والباد: أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم. وكانت الفساطيط تضرب في الدور. ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس.
قال محمد بن رشد: تأويل مالك لهذه الآية، على أن حق أهل مكة وغيرهم ممن يقدم عليهم من الناس في دور مكة، سواءٌ. واستدلاله على ذلك بما ذكر بأن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الحاج يدل على أنها لا تباع ولا تكرى، خلاف ظاهر أقوال ابن القاسم في كتاب كراء الأرضين، وكتاب الحوائج من المدونة ولما ذكر فيهما من نفاق كراء الدور بها في أيام الموسم.
وليس في الآية بيان يرفع العذر، لاحتمال رجوع الضمير من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] على المسجد المذكور، دون سائر البلاد. على ما قاله جماعة المفسرين. والأصل في اختلاف أهل العلم في هذه المسألة خلافهم في افتتاح مكة في ذهب إلى أنها افتتحت عنوة. قال: إن دورها لا تباع ولا تكرى. وهو قول أبي حنيفة وجماعة سواء ويشهد لهذا القول ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(17/146)
وسلم قال: «مَكَّة كُلُّها مُبَاح لا تُبَاعُ وَلا تُؤَاجَرُ» ومن ذهب إلى أنها مؤمَّنة. والأمان كالصلح، وأن أهلها مالكون لرباعها. وأجاز لهم بيعها وكراءها. وهو قول الشافعي. ولا خلاف عند مالك وأصحابه في أنها افتتحت عنوة. إلا أنهم اختلفوا، هل من بها على أهلها فلم تقسم كما لم يُسبَ أهلُها لما عظم الله من حرمتها؟ أو هل أقرت للمسلمين؟. فعلى هذا جاء الاختلاف في جواز كرائها في المذهب، فروي عن مالك في ذلك ثلاثة روايات: إحداها المنع. والثانية الِإباحة. والثالثة كراهية كرائها في الموسم خاصة.
وقد مضى هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك.
[حرق ما التبس من كتب الخصوم]
في استحسان حرق ما التبس من كتب الخصوم قال مالك: وقد كان قاض في زمن عثمان وأنه رُفع إليه كتب قد تقادم أمرها والتبس الشأن فيَها، فأخذها فأحرقها بالنار. فقيل لمالك: فَحَسَنٌ ذلك، قال: نعم. هذه الأمور لا أرى ما هي.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الكتب إنها كتب في الخصومات، طالت المحاضر فيها والدعاوي، وطالت الخصومات حتى التبس أمرها على الحكام، فإذا احرقت قيل لهم: بينوا الآن ما تدعون، ودعوا ما تلبسون به من طول خصوماتكم، ووثقوا العمل علي وهو حسن من الحكم على ما استحسنه مالك.
وقد مضى هذا في الرسم من هذا السماع من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك.(17/147)
وإنما أمر بحرق الكتب، ولم يأمر بخرقها وتمزيقها، صيانة لما وقع من أسماء الله فيها كما فعل عثمان بالصحف، إِذ جمع القرآن. وبالله التوفيق.
[بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجمله الله في القرآن والصلاة والزكاة]
في بيان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجمله الله في القرآن والصلاة والزكاة قال مالك: الحج كله في كتاب الله تعالى والصلاة والزكاة ليس لهما في كتاب الله تفسير. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن ذلك.
قال محمد بن رشد: ظاهر قول مالك هذا إن الحج كله في كتاب الله تعالى مفسر، وإن الصلاة والزكاة ليستا مفسرتيْن فيه، وأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فسرهما وليس ذلك بصحيح، بل ما أتى في القرآن من ذكر الحج مفتقراً إلى التفسير والبيان الذي فسرهُ به رسول الله وبين مراد الله تعالى فيه قولاً وعملًا، كافتقار الصلاة والزكاة إلى ذلك سواء، ولو تركنا وظاهر ما في القرآن من أمر الحج لما صح لنا منه امتثال أمر الله تعالى به، إذ لم يبين فيه شيئاً من صفة عمله وترتيبه في أوقاته التي لا يصح إلا فيها، وشرائطه التي لا يتم إلا بها وسنته التي لا يكمل إِلّا بها، فليس الكلام على ظاهره، وإنما معناه الذي أراده به أن الحج كله في كتاب الله تبارك وتعالى، والصلاة والزكاة، تََم الكلام هاهنا، ثم ابتدأ فقال ليس لها أي لجميع ذلك في كتاب الله تفسير.
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك، ويبين تأويلنا هذا ما في كتاب محمد بن المواز من قوله: وكذلك الحج والزكاة ونزل وجوبهما في القرآن مجملاً، وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أراد منه وفسره وبينه. وقوله في الرواية أيضاً ليس لها ولم يقل لهما، وقد نقل ابن أبي زيد هذه الرواية بالمعنى على ظاهرها نقلا غير(17/148)
صحيح فقال فيها: الحج كله في كتاب الله تعالى. وأما الصلاة والزكاة فذلك مجمل فيه ولهذا وشبهه رأى الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات والفروع. وقد تقدم هذا كله في هذا الرسم من هذا السماع لتكرر المسألة هناك.
[الركوع بعد صلاة الجمعة]
في الركوع بعد صلاة الجمعة
قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد الجمعة في المسجد وأما غيره فليركع إن شاء.
قال الإمام القاضي: إنما قال مالك: ليس من السنة أن يركع الِإمام بعد الجمعة في المسجد لما بلغه من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، وإذا دَخل بيته ركع ركعتين» وقع له ذلك في المدونة قال فيها: وينبغي للإِمام اليوم إذا صلى الجمعة أن يداخل منزله ويركع ركعتين، ولا يركع في المسجد.
وقال في هذه الرواية فيمن عدى الِإمام: إنه يركع إن شاء، فظاهر قوله فيها إباحة الركوع له دون كراهة، خلاف ما في المدونة من كراهة ذلك له، لأنه قال في كتاب الصلاة الأول منها: أنه لا يتنقل في المسجد، لكراهة ذلك بدليل قوله في كتاب الصلاة الثاني منها: أحب إلي أن ينصرف ولا يركع في المسجد. قال: وإِن ركع فواسع، لأنه إذا استحب ترك الركوع، فقد كره الركوع.
وقوله: وإن ركع فواسع، يريد: إِنه لا إِثم عليه ولا حرج إن فعل، فعلى ما في المدونة. إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل أجر في قعوده، لأن حد المكروه ما في تركه ثواب، كما أن حد المندوب ما في فعله ثواب.
وعلى ما في هذه الرواية، إِن صلى أجر في صلاته، وإن قعد ولم يصل لم يؤجر في قعوده. وقد كان من أدركنا من الشيوخ يحملون ما في كتاب الصلاة الأول من المدونة على ما في كتاب الصلاة الثاني منها، ويقولون: قوله: وإن ركع فواسع، يدل على أنه لم يكره له(17/149)
الركوع مثل ظاهر هذه الرواية، وليس ذلك بصحيح، لما بيناه من أنه إذا استحب ترك الركوع فقد كره الركوع. وذهب الطحاوي إلى أنه يجوز أن يتنفل بعد الجمعة في المسجد أربعاً ولا ينتفل بعدها ركعتين، وينتفل ركعتين في بيته بعد صلاة الجمعة على تصحيح أحاديث رواها في ذلك.
[إمامة الأعمى]
في إمامة الأعمى وسئل عن الأعمى يؤُم الناس، قال: نعم قد أمّ على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعمى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في قوله الأول من كتاب الصلاة من المدونة قال: لا بأس أن يُتخذ الأعمى إماماً. وقد أمّ على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أعمى ابن مكتوم، وإنما لم ير مالك في ذلك بأساً، من أجل أن حاسة البصر لا تعلق لها بشيء من فرائض الصلاة، ولا بسنتها ولا بفضائلها، بل ربما كان بصره سبباً لاشتغاله عن الِإقبال عليها. فقد جاء «أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُعل في نعليه شِراكان جديدان، فأمر أن يُنزعا وترد فيهما الحلقتان اللتان كانتا فيهما. قيل: لِمَ يا رسول اللَّه؟ قالَ: إنِّي نظرت إليهما في الصلاة» . وصلى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خَمِيصَةٍ شَامِيةٍ، لَهَا عَلَمٌ، فَلَمَا انْصَرَفَ مِنْ الصلَاةِ رَدَّهَا إِلَى مُهْدِيهَا إِلَيْهِ أبي جهْم وَقَالَ: «إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلاَةِ فَكَادَ يَفْتِننُي» . وإذا خشي النبي(17/150)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - الفتنة في صلاته بالنظر فيها؟ إلى ما يروق منظره، فغيره بذلك أولى. ولهذا المعنى كره العلماء تزويق المساجد. وكذلك سائر الحواس الخمس، لا تعلق لها بشيء من الصلاة حاشى السمع، فإِن الأصم لا ينبغي أن يُتخذ إماماً راتباً، لأنه قد يسهو فيسبح له، فلا يسمع، فيكون ذلك سبباً لِإفساد الصلاة.
وإنما كره أن يتخذ الأعمى إماما راتباً مَن كرهه. واللَّه أعلم. من أجل أنه قد يتوضأ بماءٍ غير طاهر، يصلي بثوب نجس، وهو لا يعلم، إذ لا يبصر النجاسة، ولا تغير لون الماء، وأما نقصان الجوارح كاليد والرجل فلهما تعلق بالصلاة، ولذلك اختلف في إمامة الأشل، والأقطع، وقد مضى الكلام على هذا في سماع زونان من كتاب الصلاة.
[الحض على الصدق وما جاء فيه]
في الحض على الصدق وما جاء فيه قال: وسمعت مالكاً يقول: قال عمر بن الخطاب: عليك بالصدق ولو ظننت أنه مُهلك.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن ظننت أنه مهلك. معناه: وإن خشيت ذلك، ما لم تتيقنه، لأن الظن قد يكون بمعنى الشك، وبمعنى اليقين، وذلك لما يلزم الرجل أن يصدع فيه بالحق، لما يرجو في الصدق من الصلاح، ويخاف في الكذب من الفساد، كالكلام عند السلطان وشبه ذلك، فهذا الذي ينبغي فيه الصدق، وإن ظن أن في ذلك هلاكه، ما لم يتيقن الهلاك في الصدق فيه فيسعُه السكوت عليه. ولا يحل له الكذب فيه، إِلَا أن يضطر إلى ذلك بالخوف على نفسه، وإنما يلزمه الصدق وإن خاف على نفسه فيما عليه من الحقوق، كالقتل والسرقة والزنا. وشبه ذلك. والكذب ينقسم على أربعة أقسام: كذب لا يتعلق فيه حق لمخلوق، وهو الكذب فيما لا مضرة فيه، ولا يقصد به وجهاً من وجوه الخير، وهو قول الرجل في حديثه كان كذا وكذا، وجرى كذا وكذا، لِما لم يكن ولا جرى، فهذا الكذب محرم في الشريعة بإجماع العلماء، وهو الذي جاء فيه عن النبي عليه السلام: " إن(17/151)
الْمُؤْمِنَ الممدُوحَ إيمَانُه لَا يَكُونُ كَذَّاباً " وهو الذي يغلب عليه. الكذب حتى يعرف وقد كان جباناً وبَخِيلاً. وعن ابن مسعود: إنهُ لَا يَزالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَتُنْكَثُ في قلبه نُكْثَةٌ سَوْدَاءُ حًتّى يَسْوَدً قَلْبُه فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِن الْكَذَّابينَ. والتوبة منه بالإِقلاع عنه والاستغفار منه. وكذب يتعلق به حق لمخلوق، وهو أَن يكذب الرجل على الرجل، فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل، أو قال ما لم يقل، وهو أشد من الأول، لأن التوبة منه لا تصح، إلا أن يحلله صاحبه، أو يأخذ حقه منه. وكذب فيما لا مضرة فيه على أحد، ويُقصد به وجه من وجوه الخير، وهو الكذب في الحرب والِإصلاح بين الناس وكذب الرجل لامرأته فيما يَعِدُها ليستصلحها، فهذا كله جوزته السنة.
وقيل: إنه لا يباح فيه إلا معاريض الكلام، لا النص بالكذب. والأول أصح، لأن التصريح بالكذب في ذلك جائز، يدل عليه قوله عز وجل حكاية عن إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله في قصة يوسف: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] وقد قيل: إن معاريض القول جائزة في كل موضع، لما جاء عن بعض السلف إن فيها مندوحة عن الكذب، والذي أقولُ به: إن ذلك مكروه، لما فيه من الألغاز على المخاطب، فيظن أنه قد كذبه، فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن، وكذبه في دفع مظلمة عن أحد، مثل أن يختفي رجل عنده ممن يريد قتله أو ضربه، فيسأل هل هو عنده أو يعلم مستقره؟ فيقول: ما هو عندي ولا أعلم مستقره. فهذا الكذب واجب، لما فيه من حقن دم الرجل، أو الدفع عن بشرته. وباللَّه التوفيق.(17/152)
[حكم دخول الأسواق]
في جواز دخول الأسواق وكراهية ترديد اليمين قال: وسمعت مالكاً يذكر، قال: كان ابن عمر ربما أتى السوق وجلس فيه،، وأنه قعد يوماً ورجل يبيع شيئاً، وهو يحلف ويردد، وابن عمر يَسمعه. فقال له: اتق اللَّه، ونهاه، فإن هذه سبعون يمينا. فقال: لا واللَّه رداً على ابن عمر فقال: هذه إحدى وسبعون.
قال محمد بن رشد: أما دخول الأسواق والجلوس فيها فلا اختلاف أن ذلك مباح غير محظور، ولا مكروه. وكفى من الدليل على ذلك، قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] رداً لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية وإنما نهى ابن عمر الرجل عن ترْدِيد الأيمان ووعظه في ذلك، لأن من ردد الأَيمان وأكثر منها لم يسلم من مواقعة الحِنث فيها والتقصير في الكفارة، وأن يحلف على ما لم يفعله يقيناً فيأثم في ذلك كله.
وأما حلف الرجل على شيء أن لا يفعله فلا كراهية في ذلك، لأن اللَّه أمر نبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحلف باسمه في غير ما آية فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] وقال: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيراً ما يحلف " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ "، وَلَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ فلا وجه لكراهية ذلك، لأن القصد إلى الحلف بالشيء تعظيم له، فلا شك في أن في ذكر اللَّه عز وجل على وجه التعظيم له أجراً عظيماً.
وقد مضى هذا المعنى في آخر رسم الجنائز والذَّبائح والنذور، من(17/153)
سماع أشهب من كتاب النذور في تكلمنا على ما وقع هناك من أن عيسى بن دينار كان يقول: يا بني إسرائيل، إن موسى كان ينهاكم أن تحلفوا باللَّه إِلاَ وأنتم صادقون ألا وإني أنهاكم أن تحلفوا باللَّه كاذبين أو صادقين واللَّه أعلم.
[تعجيل ما اجتمع عند العامل من زكاة الفطر]
في الأمر بتعجيل ما اجتمع عند العامل
من زكاة الفطر قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يخبره أنه اجتمع عنده من زكاة الفطر شيء كثير، وأن ذلك لما رجوا من عدل أمير المؤمنين فكتب إليه عمر إنهمِ لم يخبروني وإياك كما رجوا، فإذا جاءك كتابي هذا فإن جاءك ليلا فإن استطعت ألا تصبح حتى تقسمه فافعل، وأي شيء رأيي فيه حين تكتب إلي فيه؟ قال سحنون: يقال: إنه عثمان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في كتاب زكاة العين في رسم الرطب باليابس من هذا السماع على خلاف ما وقعت هاهنا إذ لم يذكر هناك كون الزكاة مجتمعة عند العامل من زكاة الفطر ونص الرواية هناك قال: وسمعت مالكاً يذكر أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه إن الناس قد أسرعوا في أداء الزكاة فرغبوا في ذلك لموضع عدلك، وأنه قد اجتمعت عندي زكاة كثيرة فكأن عمر كره ذلك من كتابه لمدحه، فكتب إليه: ما وجدوني وإياك على ما رجوا وظنوا، فاقسمها. قال ابن القاسم: وقال عمر: وأيُّ رأيٍ لي فيها حين تكتب إلي؟ وهذا أصح مما وقع هاهنا لأن زكاة الفطر، الحكم فيها أن تجمع قبل يوم الفطر فتفرق يوم الفطر. لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أغْنُوهُم عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْم» . فلو كان المجتمِع عنده من(17/154)
زكاة الفطر نبه عمر على تأخير تفريقها عن يوم الفطر وأما سائر الزكوات فلا حد في وقت تفريقها إلَّا أن الواجب فيما اجتمع فيها تعجيل تفريقها على ما أمر به عمر بن عبد العزيز وباللَّه التوفيق.
[الِإقبال على الذكر والتسبيحِ في الصلاة]
في الِإقبال على الذكر والتسبيحِ
في الصلاة قال مالك: كان عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود وعامر بن عبد اللَّه، لا ينصرفان من صلاتهما لأحد يجلس إليهما قلت له: أفيحسب ذلك له؟ قال: نعم إِلا أن يأتيه الرجل إلى الحاجة الخفيفة، تكون به إليه أو الرجل يسأله عن المسألة تنزل به، فهذا، وما أشبهه أرى أن ينصرف فيه. وأما غيره فلا.
قال محمد بن رشد: إنما كانا يفعلان ذلك، لما جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «مَنْ سَبحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبرَ ثَلَاثاً وَثَلاَثِين، وَحَمِدَ ثَلَاثاً وَثًلاَثِينَ، وَكمّلَ الْمِائَةَ بِلاَ إِلَهَ إِلَا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غفِرتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ-» ، ولما يُرجى من قبول الدعاء، عند خاتمة الصلاة، فهو حسن من الفعل، والاقتداء بهما في ذلك خير. وبالله التوفيق.
[يقول للرجل في منازعة ما يشبه أن يريد به القذف]
في الذي يقول للرجل في منازعة ما
يشبه أن يريد به القذف وسئل عن رجل كانت بينه وبين رجل محاورة فقال: واللَّه لأجلدنك حدين. أترى هذا فرية؟ قال: أرى أن يحلف بالله ما(17/155)
أردت فرية وما أردت إلا كذباً، فإن حلف قال: رأيت أن يؤدب له.
قال محمد بن رشد: قال: إنه إن حلف أدب، وهو صحيح، لأنه سب يشبه أن يكون أراد به القذف. فإن حلف أنه لم يرد القذف، لم يسقط عنه الأدب الذي يجب عليه في السب، ولم يقل إن نكل عن اليمين: ما يكون الحكم فيه، والحكم في ذلك أن يسجن حتى يحلف، واختلف إن طال سجنه ولم يحلف فقيل إنه يؤدب ولا يحد، يريد أدَباً فوق الأدب الذي يؤدب إذا حلف وهو مذهب ابن القاسم. وقيل إنه يحد إذا طال سجنه ولا يحلف.
وقد مضى هذا المعنى في رسم الحدود من سماع أصبغ من كتاب الحدود في القذف وفي غير ما موضع واللَّه الموفق.
[ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي عليه السلام إياه بالعطاء]
ما جاء عن صفوان بن أمية في تأليف النبي
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - إياه بالعطاء قال مالك: بلغني «أن صفوان بن أمية وكان من المؤلفة قلوبهم وكان شريفاً. قال: لقد حضرت حُنْيْنا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أحد من الخلق أبغضَ إلي منه. فما زال يعطيني حتى ما كان أحد من الخلق أحب إِلي منه» .
قال محمد بن رشد: في هذا بيان موضع العطاء والإِحسان من النفس، وما له فيه من التأثير، ولعلم اللَّه عز وجل بذلك جعل للمؤلفة قلوبهم سهماً من الصدقة، ليسلموا فيسلم بإسلامهم مَن وراءهم. واختلف في الوقت الذي بُدئ فيه بائتلافهم، فقيل: قبل أن يسلموا لكي يسلموا، وقيل: بعد ما أسلموا كي يحبب إليهم الِإيمان، فكانوا على ذلك إلى صدرٍ من خلافة أبي بكر الصديق، وقيل إلى صدر من خلافة عمر، ثم قال لأبي(17/156)
سفيان: " قدْ أغْنَى اللهُ عنكَ وعن ضرَبَائِك ". إنما أنت رجل من المسلمين. وقطع ذلك عنهم. واختلف هل يعود ذلك إليهم إن احتيج إليه أم لا يعود إليه؟ فرأى مالك أنه لا يعود. وهو مذهب أهل الكوفة. وقيل: إنه يعود إن احتيج إليه ورأى ذلك الِإمام وهو قول ابن شهاب وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الشافعي والله أعلم.
[التوقي في الحديث عن النبي عليه السلام]
في التوقي في الحديث عن
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب شيع قوماً خارجين إلى العراق، فقال لهم خيرا، ثم أوصاهم بما أوصاهم به، وقال لهم: أقلوا الحديثَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا شريككم في ذلك في الأجر، قال: لا ولكن أنا أفعل ذلك أنا أقل الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قال محمد بن رشد: المعنى عندي فيما أمر به عمر بن الخطاب في إقلال الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مع أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتبليغ عنه وقوله: «لِيُبَلِّغ الشَّاهِد الْغَائِبَ» وقوله: «بَلِّغوا عَنِّي وَلوْ آيَةً» هو أنه لما كان للصاحب أن يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا لِما لم يسمعه منه، وإنما حدثه به غيره من الصحابة، فكان بمنزلة ما سمعه منه، من أجل أن الجرحة مرتفعة عنهم، خشي أن يكون الذي سمع الحديث من(17/157)
النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد نقله إلى غيره من الصحابة على المعنى، ولا يستوي جميعهم في ذلك، لتباينهم في العلم، فأمر ألا يحدث الصاحب بالحديث الذي لم يسمعه من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلا أن يكون الذي حدثه به عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من فقهاء الصحابة، مخافة أن يكون نقله على المعنى الذي عنده، وليس كما ظنه. وفي الاحتياط في الانتقاء في ذلك بالاجتهاد تقليل الحديث عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كما أمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا شاركهم في إقلال الحديث، فقد شاركهم في الأجر على ذلك وباللِّه التوفيق.
[معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع من البيع في يوم الجمعة]
في معاقبة من لم يشهد الجمعة والمنع
من البيع في يوم الجمعة وسئل مالك عن إمام بلد يأمر إذا فُرغ من صلاة الجمعة من يخرج، فمن وجد لم يحضر الجمعة، ربطه بعمد المسجد، فأنكر ذلك، ورأى أنه قد أخطأ، فقيل له: أفَيُمنعُ السوق قبل الأذان يوم الجمعة؟ قال: لا قد قال ذلك الرجل الصالح، حين جاء ولم يغتسل كنت في السوق، فأنت تعلم أن الأسواق قائمة على عهد عمر بن الخطاب، ورأى أنه أخطأ حين جاء إلى الجمعة ولم يغتسل، فإنما ذهب إلى السوق في حاجته، فأنت تعلم أن الأسواق كانت قائمة في زمن عمر بن الخطاب والذاهب إلى السوق عثمان، ولا أرى أن يمنع أحد يوم الجمعة الأسواق، يريد إلى انتصاف النهار قال ابن القاسم: وكذلك قال لنا مالك.
قال محمد بن رشد: إمام البلد الذي سئل مالك عن فعله أنكره، ورأى أنه قد أخطأ، هو عمر بن عبد العزيز واللَّه أعلم لأن هذه الحكاية ذكرها سحنون في نوازله من كتاب الشهادات وزاد فيها وعوقب. وقال: أراه عمر بن عبد العزيز. قال أصبغ: بل لا شك فيه أنه عمر بن عبد(17/158)
العزيز، وإنما رأى مالك أن فعله خطأ وأنكره، لوجهين: أحدهما: أنه لم يرَ أن يعاقب من وجد لم يشهد الجمعة، إذّ لعله قد كان له عذر منعه من شهودها يتوالى ذلك من فعله ويتكرر، فيتبين أنه قصد إلى ترك شهودها بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثلاث مًراتٍ مِن غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا علة، طَبَعَ اللَّه عَلَى قَلْبِهِ بِطَابع النِّفَاقِ» . والثاني: معاقبته على ذلك بربطه بسارية المسجد، إذ لم يتخذ المسجد لذلك، وإنَّما ينبغي أن يؤدب على ذلك بالسجن أو الضرب. وقوله: إنه لا يمنع السوق قبل الأذان يوم الجمعة إذا نوديِ بالصلاة، فوجب أن لا يمنع فيما قبله، واحتجاجه على ذلك بأن الأسواق كانت قائمة في زمن عمر بن الخطاب إلى حين أذان الجمعة بالحديث الذي ذكره صحيح. وباللَّه تعالى التوفيق.
[العمل بالصرف]
في العمل بالصرف وسُئل مالك عن العمل بالصرف هل يكره للرجل أَن يعمل به؟ قال: نعم، إلَّا أن يكون في ذلك يتقي الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن الرِّبا في الصرف كثير لدخوله في أَكثر وجوهه، فالتخلص منه عسير، لا يسلم من عمل به، إلًا(17/159)
أن يتقي الله ويتحفظ فيه وقليل ما هم، ولذلك كان الحسن يقول: إن استقيت ماءً فسقيت من بيت صراف فلا تشربه. وكره أَصبغ أن يستظل بظل الصيرفي. قال ابن حبيب: لأن الغالب عليهم الربا. ولذلك استحب مالك في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصرف للرجل أن يصرف من التجار إن وجد صرفا ومن أَهل الصيانة.
[الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم]
في النهي عن الاهتمام بهمِّ السّنَةِ في اليوم قال مالك بلغني أَن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تحملوا هَم سَنةٍ على يوم، حَسْبُ كل يوم بما فيه، قيل له: وما تفسير ذلك عندك، قال: يَقول: لا تهتموا برزق السنة وطلبه ولكن يوماً بيوم.
قال محمد بن رشد: وقد مضى هذا متكرراً في الرسم الذي قبله والكلام عليه فلا وجه لإِعادته.
[الشروط في النكاح]
في كراهية الشروط في النكاح قال مالك: وأشرت على قاض منذُ دهْرِ أَنِ أنْهَ الناس ألَّا يتزوجوا بالشروط، ولا يتزوجوا إلَّا على دين الرَجلِ وأمانته وأنه كتب في ذلك كتاباً وصيحَ به في الأسواق، وعابها عيباَ شديداً.
قال محمد بن رشد: يريد الشروط اللازمة بيمين، كطلاق الداخلة، وعتق السُّرِية، وما أشبه ذلك. فهذه الشروط التي يكرهها مالك، فإِذا وقع النكاح عليها مضى ولم يفسخ قبل الدخول ولا بعده، ولزم الشرط، ووجه الكراهية في ذلك، أن المرأة قد حطَّت من صداقها بسبب الشروط، ولا تدري هل يفعل الزوج ذلك أَم لا؟ فأَشبه ذلك الصداق(17/160)
الفاسد. وقد روي عن سحنون لهذه العلة، أَنَه نكاح فاسد، يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده، ويكون فيه الصداق المسمى، وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه الشروط في صدقاتهم على الطوع، وذلك إذا وقع الشرط في أَصل النكاح على تسمية الصداق. وأَما إذا نكحها نكاح تفويض على الشرط، فلا اختلاف في أَن النكاح لا يفسد.
وقد مضت هذه الحكاية متكررة والكلام عليها باستيعاب من هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب السلطان.
[ما يستحب من مكارم الأخلاق]
في ما يستحب من مكارم الأخلاق قال مالك: لقد أَدركت بعض من مضى، وإِنَّه لتكون تحته المرأة ما له بها حاجة، يمنعه الحياء والتكرم أَن يطلقها ويطلع أحد منهما على مثل ما اطلع عليه. وفي حديث ابن عمر قال: «إنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَبِرَ ذَهَبَ حُسامُهُ، كَمَا يَذْهَبُ حُسَامُ السَّيْفِ» . قال مالك: الحسام الغيرة. قال: وهو في السيف حده. وكان رجل يسائله عن بيت بعض أَهله، قال: قال مالك: أراها صفية. قال: هذا منزلُها.
قال محمد بن رشد: معنى هذا أن ابن عمر لما أرى الرجل منزل زوجته صفية. قال هذا القول، كأَنه يقول: لو كنت في غير هذا السِّن لكرهت سؤالك. وبالله التوفيق.
[فضل عُمر بن حُسين وعبادته]
في فضل عُمر بن حُسين وعبادته
قال مالك: كان عمر بن حسين من أَهل الفضل والعلم، وكان عابداً، ولقد أَخبرني رجل أَنَّه كان يسمعه في رمضان يبتدئ(17/161)
القرآن في كل يوم إِذا راح فقيل له: أكان يختم؟ قال: نعم في رأيي في يومه وليلته. وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء انصرف فإذا كان في ليلة ثلاث وعشرين قائماً مع الناس، لم يكن يقم معهم غيرها، فقيل له: فالرجل المحصي يختم القرآن كل ليلة، قال: ما أَجود ذلك إن القرآن إمامٌ لكل خير.
قال الإمام القاضي: استحبَّ مالك في هذه الرواية قراءة القرآن كله في كل يوم وليلة، ولمن قدر على ذلك، على ما روي عن عمر بن حسين وقال: ما أَجود ذلك، إن القرآن إمامٌ لكل خير وقد ذكر في موطئه عن يحيى بن سعيد أَنَّه قال: كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلًا قال: أخبرني بالذي سمعت من أَبيك فقال: أَخبرني أَبي أَنَه أتى زيد بن ثابت، فقال: كيف ترى في قراءة في سبع؟ فقال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أَو عشرين، أحب إليَّ، وسألني لم ذلك؟ قّال: فإني أسلك، قال زيد: لكي أتدبره وأقف عليه وإنَّما رأى زيد بن ثابت قراءة القرآن في شهر أَو عشرين يوماً أحب لله من قراءته في سبع. وإن كان للقراء بكل حرف من القرآن عشر حسنات بالألف من الحمد عشر حسنات وباللام عشر حسنات، وبالحاء عشر حسنات، لأن الحسنة قد تضاعف إلى سبعمائة فرجا أَن تكون حسناته إِذا قرأ القرآن في شهر أَكثر من حسناته إذا قرأه في سبع، لتضعيف الحسنات له في قراءته من أَجل تدبره. وبالله التوفيق.
[من أين يستحب للداخل مكة أَن يدخلها وأن يخرج منها]
قال مالك: بلغني أَن ابن عمر، دخل مكة من عقبة كَدَاء(17/162)
وخرج من كُدى.
قال محمد بن رشد: كَداء هي الثنية التي بأَعلى مكة بشرقها وكُدى هي الثنية التي بأَسفلها بغربيها وذلك مما يستحب للحاج أَن يفعله لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله دخل مكة يوم الفتح، وفي حجته وفي عُمَره الثلاث من العقبة كداء، وهي الثنية التي بأعلى مكة. وخرج من الثنية السفلَى التي يُقال لها عقبة كُدى. وقال: «خُذُوا عَنَي مَنَاسِكَكُم» . وبالله التوفيق.
[ضحَّى بالليل]
فيمن ضحَّى بالليل وسُئل مالك عن رجل قدم على أَهله من الليل بعد يوم النحر، فوجد عندهم ضحية قد أَعدوها، فضحى بها بالليل، قال أَرى أن يعود بضحية أُخرى. وقال في الحديث الأضحى يَوْمَانِ بَعْدَ يَوْم الأضْحَى وَلَيْسَ يُضحَّى بِلَيْل. قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] . ولم يذكر الليل، فأَرى عليه الِإعادة وإن الذي يفتِي أن يضحي بالليل، قد جارَ جوْراً بعيداً.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في المدونة وغيرها من أن من ضحى بالليل أَعاد وروي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ ضحَّى لَيْلاً أعَادَ وَمَنْ ضحَّى قَبْلَ الِإمَام أعَادَ» . وكذلك الهدايا، لا تنحر ولا(17/163)
تذبح بالليل، ومن فعل ذلك لم يجزه، لا اختلاف في هذا إلَّا ما قاله أَشهب في الهدي إن نحره في الليل إذا لم يكن في ليلة النحر أَجزأه والله أعلم.
[تحديد يوم الحج الأكبر]
في يوم الحج الأكبر وسُئل عن يوم الحج الأكبر، فقال: هو يوم النحر.
قال محمد بن رشد: اختلف أَهل العلم في قوله عزّ َوجلّ: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] هل الأكبر نعت لليوم، أو للحج؟ واختلف الذين قالوا: إنَه نعت للحج، فمنهم من قال: إنَّما قيل له الأكبر لأن ثمَّ حجاً أصغر، وهو العمرة، ومنهم من قال: إنما قيل له الأكبر، لأنه عنى به حج أَبي بكر، إذ وقع في ذي القعدة، على ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء، وقد كان الحج في العام الذي قبله في ذي القعدة أيضاً فسماه الله الأكبر، لأن الأكبر من الحجتين الواقعتين في ذي القعدة.
وقيل: إن حجة أبي بكر وقعت في ذي الحجة، فسمَّاها الله الأكبر، لاستدارة الزمن إليه وثبوت الحج فيه إلى يوم القيامة واختلف الذين قالوا: إن الله نعت اليوم أيضاً، فمنهم من قال: إنَّه يوم عرفة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الحج عَرَفَة» . ولأن من فاته الوقوف بعرفة، فقد فاتّه الحج. ومنهم من قال: إنَّه يوم النحر، وإلى هذا ذهب مالك، وهو أَظهر الأقوال، لأن المراد به المجتمع الأكبر، ولأن رسول الله(17/164)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر أميراً على الحج سنة تسع، والنسيء قائم، والمشركون يحجون مع المسلمين، وكان قريش ومن ولدته قريش، يقفون بالمشعر الحرام يوم عرفة، ويقف سائر الناس بعرفة، ثم يجتمعون كلهم يوم النحر بمنى، فأَمر الله تعالى نبيّه عليه السلام أن يؤذن الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين يوم الحج الأكبر أي يوم اجتماعهم الأكبر وهو يوم النحر، ليسمع جميع الناس النداء، فيبلغ شاهدهم غائبهم، فكان مما أوذنوا به ألَّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وتليت عليهم سورة براءة إنذاراً لهم، وإعذاراً إليهم.
وقد مضى هذا كله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحج لتكرر المسألة هناك وبالله التوفيق.
[الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط]
في الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط قال: وسُئل مالك عن الرقى بالحديد والملح وعقد الخيط، فكره ذلك كله، وكان العقد عنده في ذلك أَعظم كراهية فقيل له: فالشيء ينجم، ويجعل عليه حديدة، قال: أما التنجيم فأَرجو أَن يكون خفيفاً، إنَّه ليقع في قلبي إنَّما التنجيم لطول الليل.
قال الإمام القاضي: كراهة مالك للرقى بالحديد والملح، وعقد الخيط بينه، لأن الاستشفاء لا يكون بما سوى كلام الله تعالى وأسمائه الحسنى، وما يعرف من ذكره جلَّ جلاله، وتقدست أسماؤه، ورأى العقد في الخيط، أشد في الكراهة، لأن العقد في الخيط من ناحية السحر الذي أمر الله تعالى بالاستعاذة منه بقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] واستحبَّ التنجيم إذ ليس فيه أكثر من التبرك بالنجوم، لما جعل الله فيها من المنفعة لعباده باهتدائهم بها في ظلمات البر والبحر.(17/165)
وقد مضى في رسم الصلاة الأول من سماع أَشهب من كتاب الصلاة زيادات في هذا المعنى، لها بيان. وبالله التوفيق.
[ما جاء عن معاذ بن جبل من عدله بين نسائِه]
فيما جاء عن معاذ بن جبل من عدله بين نسائِه قال مالك: حدَّثني يحيى بن سعيد أَن معاذ بن جبل كانت له امرأتان وأنهما هلكتا في طاعون جميعاً فأَسهم بينهما أَيَّهما تدفن قبل.
قال محمد بن رشد: هذا لا يلزم، لأن العدل بينهما إنّما يجب لهما عليه في حياتهما، بدليل قوله عزَّ وجلّ: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] فإنَّما فعل ذلك تحريَاَ للعدل بينهما على وجه الاستحباب، وقد كان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا كان يَوم إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء. ذكر ذلك مالك عنه في رسم الطلاق من سماع أَشهب، من كتاب النكاح، وإنما كان يفعل ذلك تحرياً للعدل والمساواة بينهما، من غير أن يكون ذلك واجباً عليه. لا بأس على الرجل أَن يتوضأ من ماء المرأة من زوجاته، ويشرب من بيتها الماء، ويأكل من طعامها الذي ترسل إِليه في يوم غيرها، من غير أَن يتعمد بذلك ميلاً، وأن يَقف ببابها، فيتفقد من شأنها وحالها، ويسلم من غير أن يدخل عليها أَو يجلس عندها.
وقد ذكرنا في رسم الطلاق المذكور من سماع أشهب من كتاب النكاح الحجة في جواز ذلك، من السنَة وبالله التوفيق.
[صبغ الشعر]
في صبغ الشعر وسُئل مالك عن الصبغ بالحنّا والكتم. قال ذلك واسع.(17/166)
وأَما السواد فما سمعت فيه شيئاً. وغيره من الصباغ أَعجب إليّ منه.
قال محمد بن رشد: أما صبغ الشعر وتغيير الشيب بالحنا والكتم، والصفرة، فلا اختلاف بين أَهل العلم في أن ذلك جائز، وإنَّما اختلفوا هل الصبغ بذلك أحسن، أو ترك الصبغ جملة أحسن؟، بدليل هذه الرواية أن ترك الصبغ أحسن، لأنه لما وسع في الصبغ دلَّ على أن تركه عنده أحسن. ودليل ما في الموطأ أن الصبغ بذلك أحسن، لأنه قال فيه: إن ترك الصبغ كله واسع إن شاء الله، ليس على أحد فيه ضيق. ودليل هذا ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنِّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُم» وما ذكره في موطئه عن أبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ. قَالَ: وكَانَ جَليساً لَهُم، وَكَانَ أَبْيَضَ اللِّحْيَة والرأس قَالَ: فَغَدا عَلَيْهِم ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ حَمَّرَهَا فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: هذَا أَحْسَنُ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي عَائِشَة زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ جَارَتَهَا نُخَيلَةَ فَأَقْسَمَتْ عَلًيّ لأصْبُغَنَّ، وَأَخْبَرَتْنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ يَصْبُغُ. وفي هذا الحديث بيان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصبُغ قاله مالك، إذ لو صبغ لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرَّحمن.
وقد «سُئل أنس بن مالك عن الخضاب فقال: خضب أبو بكر بالحنا والكتم، وخضب عمر بالحنا قيل له: فرسول الله، قال: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء» وسُئل سعيد بن المسيب، أَخضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: " لم يبلغ ذلك ". وروي «عن أَبي الدرداء أَنَّه قال: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يخضب، ولكنه قد كان فيه شعرات بيض، فكان(17/167)
يغسلها بالحنا والسدر» وما في كتاب الحج من الموطأ من قول عبد الله بن عمر وأَما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبغ بها، فأَنا أحب أَن يصبغ بها. قيل: في الثياب، وقيل معناهُ في الخضاب. وكان مالك لا يخضب، وروي أن بعض ولاة المدينة قال له: ألا تخضب يا أبا عبد الله، فقالَ له: لم يبق عليك من العدل إلَّا أن أخضب. وكان الشافعي قد عجل به الشيب فكان يخضب. وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من العلماء، لما رُوي من أَنَه «جِيءَ بأَبِي قُحافة إِلَى النَّبِيَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ الْفَتْح. وكَأَنَ رَأسَهُ ثَغَامَة فقال: اذهْبُوا بِهِ إِلَى بَعْض نِسَائِهِ، فَغَيِّرُوهُ، وَجَنِّبُوهُ السوَادَ» . وقد سُئل سعيد بن جبير عن الخضاب بالوسمة فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور، ثم يُطفِئه بالسواد، وقد خضب بالسواد جماعة، منهم الحَسن، والحسين، ومحمد، بنو علي بن أَبي طالب، ونافع بن جُبير، وموسى بن طلحة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعقبة بن عامر، وكان عقبة ينشد في ذلك.
تخَضَّبُ أَعْلاها وَتَأبَى أُصولها ... وَلَا خَيْرَ فِي الأعْلَى إِذَا فَسَدَ الأصْلُ
وكان هُشيم يخضب بالسواد، فأَتاه رجل فسأله عن قول الله عزَّ وجلّ: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] فقال له: إِنه الشيب. فقال له السائل: فما تقول فيمن جاء النذير من ربه فسود وجهه، فترك الخضاب. وبالله التوفيق.(17/168)
[غضب سعيد بن المسيب على ابن شهاب]
في غضب سعيد بن المسيب على ابن شهاب قال بلغني أَن سعيد بن المسيب غضب على ابن شهاب، وقال: ما حكمك علي أن حدثت عني بحديثي ابن مروان؟ فما زال حتى ترضاه. فقلت له: أهو حديث أُمهات الأولاد؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: حديث أمهات الأولاد الذي عاتبه على أن حدَّث به، عنه عبد الملك بن مروان هو ما كان حدث به بأنَّ عمر بن الخطاب قضى بأن أُمهات الأولاد، متعة لساداتهنً ما عاشوا، ثم هنَّ بعد موتهم أحرارٌ من رءوس أموالهم، بعد مشورة من حضره من بقية العشرة والمهاجرين والأنصار، فيحتمل أن يكون مذهبه في أُمهات الأولاد خلاف ذلك، ولذلك عاتبه على أَن حدَثه بحديثه، لأنه قضى بما حدَّثه به، ورآهُ حجة، لانعقاد الِإجماع عنده على ذلك من الصحابة، ولم ير ذلك هو حجة إذ قد رَجع علي بن أبي طالب حين أفضت إليه الخلافة عن ذلك، فبطل الإِجماع على مذهب من يرى أَن الإِجماع لا ينعقد إلًا بعد انقراض العصر، وإذا بطل الإِجماع وسع الخلاف، فرأَى سعيد حكم ابن مروان بما حكم به خطأ أَوجبه عليه ما حدث به عنه، فلذلك عاتبه على ذلك، وغضب عليه من أجله. وهذا على أن الحق في واحد، ولو كان عنده كل مجتهد مصيب، لما عاتب ابن شهاب على أَن حدثه بحديثه. وبالله التوفيق.
[وضع الحكمة عند من لا يعقلها]
في كراهية وضع الحكمة عند من لا يعقلها قال وحدَّثني مالك أَنَّه بلغه أَن لقمان قال لابنه: لا تضع الحكمة عند من لم يعقلها، ولا يعيها ولا يعمل بها، فإن مثل ذلك كمثل الذي يتغنى عند رأس الميت. فقيل له ما تفسيره؟(17/169)
قال: الذي يتغنى عند رأس الميت من السفه، وإن الذي يضع الحكمة عند غير أَهلها هو الأمر الذي لا ينبغي.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، لا يحتاج إلى بيان والله الموفق.
[أغضبته امرأته فطلّقها البتة]
حكاية فيمن أغضبته امرأته فطلّقها البتة وحدَثني سحنون عن ابن القاسم عن مالك عن ربيعة أن رجَلَا كان من أَشراف الناس، وأَنَّه كان بينه وبين امرأته عتاب في جوف الليل، فلما أصبحت وخرج زوجها إلى الصبح، جمعت عليها ثيابها وخرجت، حتى أتت امرأة مروان بن الحكم، فذكرت ذلك لها، فلما دخل مروان من الصلاة ذكرت امرأته له شأنها، فقال لها: وأين هي؟ فقالت: هي في الحجاب، فأَرسل مروان إلى زوجها فوادعه في ذلك، فقال للرسول الساعة؟ ما له؟ قال: لا أدري إلَّا أنه أمرني أن أدعوك، فخرج حتى دخل عليه فذكر له شأنها فقال له الرجل: وما يدريك؟ أنه كان بيني وبينها أمر، قال: هي أخبرت بذلك، قال: فأين هي؟ قال: هي في الحجاب قال: فإنها طالقة البتة. قال مروان: ما هذا الذي دعوتك له، فقال: أَما إذا بلغت هذا فهي طالق البتة.
قال محمد بن رشد: هذه حكاية ليس فيها معنى يحتاج إلى شرحه وبيانه. والله الموفق.
[الركوع بعد صلاة الجمعة]
في الركوع بعد صلاة الجمعة قال: وحدثنا سحنون عن ابن القاسم، عن مالك عن نافع، عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد(17/170)
الجمعة شيئاً حتى ينصرف» .
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام قبل هذا من هذا الرسم على هذه المسألة فلا معنى لِإعادته وباللَّه تعالى التوفيق.
[تعريف النجش]
في النجش قال مالك: قال نافع: عن ابن عمر: إِن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عن النَّجْش» .
قال محمد بن رشد: النجش هو أن يعطي الرجل العطاء في السلعة، لا يريد شراءها، ليغتر بذلك غيره. فإن فعل ذلك غيره ليس من قبل البائع، ولا كان له فيه سبب، لزم المشتري الشراء، وباع الناجش بالِإثم، وإن كان البائع هو دسَّ من زاد في السلعة، أو كان له فيه سبب، مثل عبده أو أجيره أو شريكه أو ما أشبه ذلك، فالمشتري بالخيار في السلعة، ما كانت قائمة، إن شاء التزمها بالثمن الذي كان اشتراها به، وإن شاء ردها، وإن فاتت في يده، ردت إلى القيمة، وإن كانت أقل من الثمن. قاله ابن حبيب في الواضحة.
وقد مضى هذا في هذا السماع من كتاب السلطان وباللَّه تعالى التوفيق.
[الحض على حياطة الدين]
في الحض على حياطة الدين وحدثني سحنون عن ابن القاسم عن مالك أن عطاء بن يسار كان يقول: دينَكم دينَكم فأما دُنياكم فلا أوصيكم بها أنتم عليها(17/171)
أحرص وأنتم بها مستوصون.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن لا يفتقر إلى كلام وباللَّه التوفيق.
[لباس الخز]
في لباس الخز، والشرب في القدح المضَبّب بالفضة وسئل مالك عن لباس الخز فقال: أما أنا لا يعجبني، ولا أحرمه. فقيل له: فالقدَح تكون فيه الحلقة من الفضة أو تضبيب في شفته؟ قال: ما يعجبني أن يشرب فيه وهذا ليس من عمل الناس ولا يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام مستوفى على لباس الخز محصلاً غاية التحصيل في أول مسألة من سماع ابن القَاسم، فلا معنى لإِعادته. وأما الحلقة من الفضة، تكون في القدح والتضبيب في شفتهِ، فقياسه قياس العلم من الحرير في الثوب، كرهه مالك، وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه على قدر الأصبعين والثلاث والأربع. وقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان، وسيأتي التكلم على هذا في سماع أصبغ وباللَّه تعالى التوفيق.
[النفخ في الطعام والشراب]
في النفخ في الطعام والشراب وسئل مالك عن النفخ في الطعام أتكرهه كما تكره النفخ في الشراب؟ قال: نعم هو مكروه.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله لأن المعنى الذي جاء من أجله النهي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن النفخ في الشراب وهو مخافة أن يتطاير من ريقه فيه شيء، فيتقزز ذلك من سواه موجود في الطعام. وقد روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نصاً، روِي عن عقيل «عن ابن شهاب قال: بَلَغَني أن(17/172)
رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهى عَنِ النفْخ فِي الطعَام وَالشرَابِ» وباللَّه تعالى التوفيق.
[رفع اليدين في الدعاء]
في رفع اليدين في الدعاء
وسئل عن رفع اليدين في الدعاء فكره ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المُحرِم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. وقد مضى في الرسم الذي قبل هذا الكلام على هذا مستوفى فلا معنى لِإعادته.
[لبس الخز]
في لبس الخز قال مالك: وذكر لبس الخز فقال: قوم يكرهون لباس الخز ويلبسون القلانس من الخز، تعجباً من اختلاف رأيهم. وإنما كره لباس الخز لأن سداه حرير.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة أول رسم من سماع ابن القاسم حسبما ذكرناه فوق هذا فلا معنى لِإعادته.
[عدد مَن قتل من الأنصار يوم أحُد ويوم حسر أبي عبيد ويوم اليمامة]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق في عدد مَن قتل من الأنصار يوم أحُد ويوم جسر أبي عبيد ويوم اليمامة قال مالك: حدثني يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب(17/173)
قال: قتل من الأنصار في ثلاث معارك، سبعون يوم أحد، ويوم جسر أبي عبيد ويوم اليمامة.
قال محمد بن رشد: كانت الوقْعة بأحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاثٍ من الهجرة. وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عشية يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خَلَتْ من شوال، وكانت الوقْعة يوم السبت بعده، وكانت اليمامة في سنة إحدى عشرة من الهجرة في خلافة أبي بكر الصديق. روي أن أبا بكر الصديق وجه خالد بن الوليد إلى اليمامة، وأمره أن يصمد لمسيلمة الكذاب، فلما دنا من اليمامة نزل وادياً من أوديتهم، فأصاب فيها مُجاعة بن مرارة، في عشرين رجلاً كانوا خرجوا في طلب رجل من بني نمير فقال لهم خالد: يا بني حنيفة، ما تقولون؟ قالوا: نقول: منَّا نبي ومنكم نبي. فعرضهم خالد على السيف، فقتلهم إلا مجاعة، فاستوثق منه بالحديد، ثم سار، فاقتتلوا، فكان أول قتيل من المشركين رحال بن عُنفوة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانكشف المسلمون، ثم تداعوا، فقال ثابت بن قيس بن شماس: بِئسَ ما عودتم به أنفسكم يا معشر المسلمين، اللَّهم إني أبرا إليك مما يصنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل.
وروي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: جاء المسلمون حتى بلغوا الرِّحال، فقال ابن العوام: يا أيها الناس قد بلغتم الرحال، فليس لأحدٍ مفر عن رحله، فارجعُوا فرجعوا، فهزم اللَّه المشركين، وقتل مسيلمة. وكانت وقعة جسر أبي عبيدة في آخر شهر رمضان، وأول شوال، من سنة ثلاث عشرة، في صدر خلافة عمر بن الخطاب. وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث أبا عبيد بن مسعود الثقفي إلى العراق، فلقي جابان بيْن الحرة والقادسية، ففض جمعه، وأسره، وقتل أصحابه. ففدى جابان نفسه، ثم أغار على تلك النواحي، وبعث البعوث في تلك الجهات فسبوْا ومثَّلُوا، فلما رجع المشركون منهزمين إلى مليكهم شتمهم وأقصاهم ودعا بهمان ذا الحاجب وعقد له على اثني عشر ألفاً وأعطاه سلاحاً كثيراً. وحمل معه من آلة الحرب أوقاراً ودفع إليه الفيل الأبيض، وبلغ(17/174)
أبا عبيد مسيرهم، فعبر الفرات، وقطع الجسر، وأقبل ذو الحاجب فنزل، وبينه وبين أبي عبيد الفرات، فأرسل إليه، إما أن تعبُر إلينا أو نعبُر إليك، فقال أبو عبيد: نعبُر إليكم، فعقد له ابن صلوتا الجسر، وعبر، فالتقوا في مضيق، وقدم ذو الحاجب جاليوس معه الفيل الأبيض، فاقتتلوا قتالاً شديداً وضرب أبو عبيد مشفر الفيل، وضرب أبو محجن عرقوبه، وقُتل أبو عبيد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد كان قال: إن قُتلت فعليكم فلان، وإن قُتل فعليكم فلان، وإن قُتل فعليكم فلان. فقُتل جميع الأمراء، وأخذ المثنى بن حارثة الراية، واستحرَّ القتل في المسلمين، فمضوا نحو الجسر، حتى انتهوا إليه، وقد سبقهم إليه عبد اللَّه بن يزيد الخَطي، ويقال: عبد بن يزيد الثقفي، فقطع الجسر، وقال: قاتلوا عن دينكم، فاقتحم الناس الفرات فغرق ناس كثير، ثم عقد المثنى الجسر، وعبر المسلمون، واستشهد يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة، وقيل: أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وانحاز بالناس المثنى بن حارثة الشيباني. وباللَّه التوفيق.
[ما وعد به عمر رضي اللَّه عنه من المساواة بين الناس في العطاء]
في ما وعد به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من المساواة بين الناس في العطاء قال: وحدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال: لَئِن بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ، لألْحِقَنَّ أسْفَلَ النَّاس بِأعلَاهُمْ.
قال الإمام القاضي: كان أبو بكر الصديق يساوي بين الناس في قسم مال اللَّه عليهم، ولا يفضل أحداً في العطاء بسابقةٍ ولا قِدَم، فكلمه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال: تلك فضائل عملوها لله، وثوابهم فيها على اللَّه. وهذا المعاش الناس فيه أسوة، وإنما الدنيا بلاغ. وقسم عمر بن الخطاب بعد أبي بكر، ففاضل بين الناس، وفرض لهم الديوان على سوابقهم في الِإسلام وفضلهم على أنفسهم، وكان يقول: الرجل وبلاؤه،(17/175)
والرجل وسابقته. وظاهر قول عمر هذا: لئن بقيت إلى قابل، لألحقن أسفل الناس بأعلاهم، إنه رجوع منه عن مذهبه الذي كان يسير به من تفضيل أهل السوابق والفضل في العطاء على من لا سابقة له في العطاء، ولا فضل معلوم، إلى مذهب أبي بكر في المساواة بينهم. وذهب ابن حبيب إلى أن معنى قوله عنده التسوية على جميع الناس من المال، حتى يصير نصيب أدنى المسلمين لكثرة ما أفاء اللَّه به عليهم، مثل ما يصيب أعلاهم منه، يوم قال هذا القول، ولم يرد أن يرد الأعلى إلى الأسفل، وإنما تأول قوله على هذا، لأنه اختار مذهبه على مذهب أبي بكر وأخذ عثمان بِفعْل عمر، وأخذ علي بالعراق بفعل أبي بكر، ساوى ولم يفضل، ثم وليَ عمرُ بن عبد العزيز، فأخذ في ذلك باْلأمْرَينِ جميعاً، وذلك أنه فرض العطاء، ففاضل فيه بين الناس على قدر شرفهم، ومنازلهم في الإِسلام، وقسم قسمين على العامة على غير ديوان العطاء، فساوى بين الناس في ذلك، واختار مالك فعل أبي بكر الصديق. فقال: يبدأ بالفقراء ثم يساوي بين من بقي، إلا أن يشاء الإِمام أن يحبسه لنوائب الِإسلام. ومعنى قوله: يساوي بينَ من بقي، أن يعطي الصغير قدر ما يغنيه، والكبير قدر ما يغنيه، والمرأة قدر ما يغنيها، فإن فضل شيء ورأى الِإمام أن يحبسه لنوائب الإِسلام حبسه وإن رأى أن يرده عليهم رده. وقال: قد يُجيز الإمام الرجل بالجائزة، لوجه يراه قد استحق به الجائزة. وباللَّه التوفيق.
[إقادة الإِمام من نفسه]
في إقادة الإِمام من نفسه
قال: وبلغني أن عمر بن الخطاب ضرب رجلًا بالدِّرَة، ثم قال عمر للرجل: اسْتَغْفِرْ لِي، فقال الرجل: أنت استغفر لي، فأنا ظالم، ثم قال عمر: أولا عِلْمَ لَكَ بِنَزَوَاتِ الْإِمَارَةِ أوِ الْمُلْكِ؟ قال مالك: حدثني عاصم بن عبيد اللَّه بن عاصم، أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، نَزَلَ يَوْماً بِطَرِيقِ مَكَّةَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّت(17/176)
الشَّمْسُ، خَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا، فَطَرَحَ عَلَيْهِ ثَوْبا يَسْتَظلَّ بهِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ في رَجُلٍ قَدْ رَثَدْتَ حَاجَتَه، وَطَالَ انْتِظَاره؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ رَثَدَهَا؟ فَقَالَ: أنْت فما زال القول والمراجعة حتى ضربه بالمحقنة، فأخذ الرجلِ بثوب عمر، وقال: عجلت علي قبل أن تنظر، فإن كنت مظلوماَ رددتني إلى الحق، فقال عمر: صدقت، ثم أخذ عمر بثوب الرجل ثم أعطاه الدِّرة، فقال له: اسْتَقِدْ مِنِّي. فقال الرجل: ما أنا بفاعل، فقال له عمر: واللَّه لتفعلنَّ أو لتفعلن ما يفعل المنصف من حقه. قال الرجل: فإني أعفو قال: فالتفت عمر إلى الرجل من أصحابه، فقال: أنصفت من نفسي قبل أن ينتصف مني. وأنا كاره فلو كنت بالأراك لسمعت خنين ابن الخطاب.
قال محمد بن رشد: هذا من عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهاية في الخوف والورع للَّه تعالى، إذ لم يضربه متعدياً عليه فيكون القود منه واجباً، وإنما ضربه بالاجتهاد الذي رأى به أن الضرب يجب عليه فإن كان أصاب في اجتهاده، فله أجران، وإن كان أخطأ فله أجر والضرب مع الخطأ في الاجتهاد خطأ والخطأ لا قصاص فيه، إِلَّا أنه خشي أن يكون قد قصر فيما يلزمه، فيكون مسئولاً عن ذلك، فتورع بما فعل لئلا يبقى عليه سؤال ولا تبعة يوم القيامة، والخنين بالخاء المعجمةَ يريد البكاء وقيل الخنين الغنة التي تصير في صوت الباكي، من تردد البكَاء يقال فيه خَنً يَخِنُّ خَنِيناً. وقيل: الخَنين الضحك إذا خرج جافياً والخُنَة ضرب من الغُنَة يقال امرأة خناء وغناء. وباللَّه تعالى التوفيق.(17/177)
[صفة إشعار البُدْن في الحج]
في صفة إشعار البُدْن في الحج قال: وحدثني عن ابن القاسم عن نافعِ عن أبي نعيم عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه كان يُشعر بُدْنهُ من الشقين جميعاً إذا كانت صعاباً مقرنة موثقة.
قال محمد بن رشد: زاد في هذا الحديث في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج. وَإِنًمَا كَانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُ هَذَا ليدللها بِذَلِك، وَلَيْسَ لأنَّ ذَلِكَ سُنَةُ إشْعَارِهَا، وَإِنَّمَا سُنةُ إِشْعَارِهَا، صَعْبَةً كَانَتْ أو دُلُلًا مِن الشَق الأيْسَرِ. وقوله: وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليدللها بذلك يدل على أنه يشعرها من الشقين جميعاً معاً خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعاً أي من أيَ الشقين أمكنه ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصاً من رواية مطرف عن العمري عن نافع عن ابن عمر. وزاد في صفة الإِشعار أنه طولًا في سنامها وفي المدونة عرضاً وقوله: إِن السنة في الإِشعار أن تكون في الشق الأيسر، هو مثل ما في المدونة. وقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الإِشعار في الشق الأيمن. وروي هذا كله في كتاب الحج. ووجه الإِشعار في الشق الأيسر وفي الأيمن وباللَه التوفيق.
[تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً]
في تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً
وسئل مالك عن قول اللَّه تعالى: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] قال المراغم الذهاب في الأرض، وَسَعَةً، سعة البلد.(17/178)
قال محمد بن رشد: قوله: المراغَم الذهاب في الأرض بين في المعنى. يقول: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 100] أي ومن يهاجر في سبيل الله قومه وأهله، ويخرِج عنهم، ولا يبالي بأن يُعادوه، يجد في الأرض مراغماً كثيراً أي مضطرباَ ومطلَباً وتحولًا وسعةً في البلاد، وقيل: في الرزق، وقيل: في إظهار الدين، لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره، والمراغم والمهاجر واحد، تقول: راغمت وهاجرت، وأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغماً لهم، أي مغاضباً ومهاجراً أي مقاطعاً من الهجران، فقيل للمذهب مراغم، وللمصير إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هجرة لأنها كانت بهجرة قومه. وباللَه تعالى التوفيق.
[أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء]
في أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء
قال: وحدثني مالك عن نافع عن ابن عمر أَنه كَانَ يَمسحُ رَأسهُ بالْمَاء، وَيُدْخِلُ أصْبَعَهُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي أُذُنِهِ.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وابن القاسم وجميع أصحابهما أن الأذنين يستأنف لهما الماء، فمسحهما مع استئناف الماء لهما سنة، والمنصوص عليه عن مالك أن الأذنين من الرأس، ويستأنف لهما الماء، فإنما السنة على هذا في استئناف الماء لهما، لأن بلة اليد تذهب في مسح الرأس، فيستأنف أخذ الماء لهما سنة. وقد قيل في غير المذهب: إنهما من الرأس يمسحان معه، ولا يستأنف لهما ماء. وقيل: إنهما من الوجه، يغسلان معه. وقيل: إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس. والصواب ما ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث، قوله: «إذَا(17/179)
تَوَضَّأ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ خَرَجَ الْخَطَايَا من فِيهِ» إلى قوله: «فَإِذَا مَسَحَ رَأسَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأسِهِ حَتَى تَخْرُجَ مِنْ آذُنَيْهِ» وبالله تعالى التوفيق.
[التكبير في العيدين]
في التكبير في العيدين وحدثني عن نافع عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر قال: التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولَى سَبْعاَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وفِي الآخِرَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
قال محمد بن رشد: وقف نافع عن نافع هذا الحديث عن ابن عمر، وأسنده عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وروي أيضاً عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبر في العيدين في الأضحى والفطر، في الركعة الأولى سبعاَ قبل القراءة، وفي الركعة الأخيرة خمساً قبل القراءة، على ما وقع في رسم من بعد هذا.
وهذا أمر متفق عليه في المذهب، في أن التكبير في صلاة العيدين سبعاً في الأولى بتكبيرة الإِحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الإِحرام، وفي خارج المذهب في ذلك اختلاف كثير في عدد التكبير، وفي موضعه، لاختلاف الآثار في ذلك، عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعن جماعة من أصحابه، فروي عن النبي عيه السلام من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن التكبير في العيدين سبع في الأولى وخمس في الآخرة سوى(17/180)
تكبيرة الصلاة. وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن التكبير فيهما أربعٌ أربعٌ، مثل تكبير الجنائز، وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يكبر في النحر خمس تكبيرات: ثلاثٌ في الأولى واثنتين في الثانية، وأنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن. وفي موضع التكبير ثلاثة أقوال:
أحدها: مذهب مالك أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الآخرة قبل القراءة، فلا يوالي بين التكبيرتين، ولا بين القراءتين.
والثاني: أنه يكبر في الأولى والثانية بعد القراءة، فيوالي بين التكبير، ولا يوالي بين القراءة، وهو الذي مضى عن علي بن أبي طالب.
والثالث: أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الثانية بعد القراءة، فيوالي بين القراءة، ولا يوالي بين التكبير. وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد على ما روي من أن عمر بن الخطاب وعبد الله اجتمع رأيُهما في تكبير العيدين على تسع تكبيرات. خمس في الأولى، وأربع في الآخرة. وبالله التوفيق.
[من أسباب السعادة]
فيما يقال فيه: إنه من السعادة
قال مالك يقال: من السعادة المرأة الصالحة، والمسكَنُ الوَاسع، والدابة الصالحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن، لأن من اجتمعت له هذه الثلاثة الأشياء، فقد سلم في دنياه.
[براءة هل يقال فيها بسم الله الرحمن الرحيم]
في براءة هل يقال فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال وسئل مالك عن براءة يقرأ فيها بسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ(17/181)
الرَّحِيم قال مالك: تقرأ كما أُنزلت ليس فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع مستوفى فلا معنى لِإعادته وبالله تعالى التوفيق.
[التحري في الشهادة]
في التحري في الشهادة قال مالك: قال عمر بن الخطاب لرجل: أتشهد أنه شرب خمراً قال: أشهد أنه قاءها. قال عمر: هذا التعمق، يعني في الشهادة.
قال محمد بن رشد: في هذا: إنه يجوز للرجل أن يشهد بما علمه من جهة النظر والاستدلال كما يجوز له أن يشهد بما علمه ضرورة بالعيان، لأن عمر بن الخطاب أمر الرجل وهو أبو هريرة أن يشهد أنه شربها وهو لم يعاين شربه إياها، وإنما عاين أنه قاءها، فلما توقف عن الشهادة بذلك، قال له: ما هذا التعمق؟ يعني في الشهادة.
وقد مضى هذا الوجه الذي توقف أبو هريرة من أجله على الشهادة أنه شربها في رسم الأشربة والحدود من سماع أشهب من كتاب الحدود في القذف، وهو يحتمل أنه لم يشربها باختياره، وإنما أكره عليها، فصُبت في حلقه، ولم ير عمر الشهادة تبطل بهذا الاحتمال، لأن أمره يحمل على أنه شربها باختياره، إذ لم يدَّع أنه أُكره على شربها، وإنما أنكر أن يكون شربها. وفي قول عمر لأبي هريرة: أتشهد أنه شربها؟ دليل بين واضح على أن القاضي لا يقضي بعلمه. وبالله تبارك وتعالى التوفيق.
[فضل الشهادة في سبيل الله]
في فضل الشهادة في سبيل الله قال مالك: وحدثني يحيى بن سعيد «أن رجلَاَ يسمى حارثهّ(17/182)
استشهد يوم بدرٍ وأن أمه حزنت عليه، فاجتمع إليها النساء يعزينها وقلن ما لك لا تبكين على حارثة؟ فقالت: لا أبكي عليه حتى يأتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله، فإن كان في الجنة لا أبكي عليه، وإن كان غير هذا فسترين بكائي، قال: فعجلت فلقيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند بير أبي عنبة عند الحرة، فقالت: يا رسول الله: أَقُتِلَ حَارِثَة؟ قال: نَعَمْ، قالت: أفي الْجَنَّةِ هُو؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أمَّ حَارِثَةَ، إنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ وإنَّهُ فِي الْفِرْدَوْس الأعْلَى.» قال مالك: «إن عبد الله بن عمرو بن حرام أبا جابر بن عبد الله صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان استشهد يوم أحد، وأنه كان عليه دين قد رهقه فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا كان الجداد فآذني فأَذنته فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده ودعا فيه فكال منه لأهل دينه وبقي بعد ذلك مثل الذي كان فيه قبل قضاء الدين» .
قال محمد بن رشد: حارثة المذكور في الحديث الأول هو حارثة بن سُراقة بن الحارث الأنصاري من بني النجار، شهد بدراً فكان أول قتيل قتل فيه، رماه حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، فأَصاب حنجرته فقتله. وفيه أن منزلة الشهيد في سبيل الله، أرفعُ المنازل في الجنة عند الله. قال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169](17/183)
الآية. وبير أبي عنبة على ميل من المدينة خرجت إلى النبي فتلقته عند البير المذكور. وأما حديث عبد الله بن حرام ففيه علم جليل من أعلام نبوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأنه كان عليه من الدين أكثر مما في الحائط من الثمر بكثير، لا يشك في ذلك، فكال منه لأهل دينه جميع ديونهم وبقي بعد ذلك من الثمر مثل ما كان فيه قبل قضاء الدين ببركة دعاء النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وفي قوله: فكال منه لأهل دينه وبقي منه بعد ذلك مثل الذي كان فيه بعد قضاء الدين، تقديم وتأخير، وصواب الكلام دون تقديم ولا تأخير فكال منه لأهل دينه، وبقي منه بعد ذلك بعد قضاء الدين مثل الذي كان.
ففي بعض الآثار: وَبَقِيَ لَنَا خَرْص نَخْلِنَا كَمَا هُوَ. وفي بعضها: وَفَضِلَ مِنْة مِثْلُ ثَمَرِ النَّخْل فِي كلِّ عَامٍ. والحديث يروى من وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة، وعلى المعجزة في ذلك متفقة. منها ما روي «عن جابر بن عبد الله أن أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً وَعَلَيْهِ ديْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حقُوقِهِم. قَالَ جَابِرٌ: فَأَتَيْتُ النَّبيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُم أَنْ يَقبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلٍّلُوا أَبِي فَأبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَائِطِي وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُم وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَاه عَلَيَّ حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْل وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ» . الحديث، وفي هذا الحديث من الفقه أنه من كان له على رجل مكيلة ثمر فجائز له أن يأخذ منه فيما له من المكيلة ثمراً جِزافاً في رءوس النخل إذا كان قد استجد وحان قِطافه، إذا لم يشك أن ذلك مما كان له من المكيلة، ويحلله من بقية حقه، وهو مذهب مالك. ومن أهل العلم من يخالفه في ذلك وبالله التوفيق.(17/184)
[سؤال الِإمارة]
في النهي عن سؤال الِإمارة قال مالك: سمعت وكان مما يحدث به الناس أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «لَا تَسَل الْإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تعَنْ عَلَيْهَا وَإِنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا عَنْ مَسألَتِهَا تُوكَلْ إلَيْهَا» .
قال محمد بن رشد: الذي قال ذلك له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عبد الرحمن بن سَمُرة، كذلك في البُخاري عنه. والمعنى في هذا الحديث بيِّن. فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن يولى القضاء من أراده، وإن اجتمعت فيه شروط القضاء، مخافة أن يوكل إليه، فلا يقوم به، ولا يقوى عليه. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَ» ونظر عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى شاب في وفد وفدَ عليه، فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء فقال له عمر: كدت أن تغُرنا بنفسك، إن الأمر لا يقوَى عليه من يُحبه.
[ما يُحذَّر من فساد الزمان]
فيما يُحذَّر من فساد الزمان قال مالك: يوشك أن يأتي على الناس زمان يَقل فيه الخير في الدين، ويقل فيه الخير في الدنيا.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا قول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ُثَم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» وقال(17/185)
عبد الله بن مسعود: ما من عامٍ إلا وَالذي بعده شر منه. واللَّه أعلم. وبه التوفيق.
[صفة السوائب والبَحائر]
في السوائب والبَحائر قال: وحدثني عيسى عن ابن القاسم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أوَّلُ مَن نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغيًرَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ عَمْرُو بنُ لحَيّ. وَلَقَدّ رَأيْتُه في النَّارِ يَجُرُّ قُصْبَهُ يُؤذِي أهْلَ النَّارِ بِرَائِحَتِهِ. وأوَّل مَنْ بَحّرَ الْبَحَائِرَ رَجُلٌ مِن بَنِي مُدْلِجٍ، عَمَدَ إِلى نَاقَتَيْنِ لَهُ فَجَذَعَ أذناهما وَحَرَّمَ ألكانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا فَشَربَ ألْبَانَهُمَا وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَقَدْ رَأيْتُهُ وإياهُمَا يخْبِطَانِهِ بِأخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا» .
قال محمد بن رشد: قد اختلف في صفات المسميات بهذه الأسماء. وما السبب الذي من أجله كانت العرب تفعل ذلك. فروي عن أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأكثمَ بن الجَوْن الخُزاعي، يَا أكثمُ رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحيِّ يَجُرّ ُقُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأيْتُ مِن رَجُلٍ أشْبَهَ مِنْ رَجلٍ منك به وَلَا به منك. قالَ أكثمُ: أَيَضُرّنِي شَبَهُهُ يَا نَبِيَّ الله قَالَ: لاَ لِأنًكَ مُؤْمِن وَهُوَ كَافِر وَإِنًهُ كَانَ أوّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الأوْثَانَ وَسَيَبَ السَّائِبَةَ فِيهِمْ» وَإِن ذلك الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر، سيبت فلم تُركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى تشق أذنها ثم خلى سبيلها مع أمها في الِإبل، فلم يُركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها(17/186)
فهي البَحِيرة، ابنة السائبة، والوصيلة إن الشاة إذا أنتجت عشرة إناث متتابعات، في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكر منهم، دون إناثهم، إِلَا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم، والحامي إن الفحل إذا تم له عشر إناث متتابعات، ليس فيهن ذكر، قالوا: حما ظهره فلم يركب، ولم يجز وَبره ويخلى في إبله يضرب فيها، ولا يتبع به لغير ذلك. قال اللَّه لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] الآية، وقال قتادة: البحيرة من الإِبل، كانت الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كانت الخامسة ذكراً كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكوا أذنها ثم أرسلوها فلم ينحروا لها ولداً. ولم يشربوا لها لبنَاَ ولم يركبوا لها ظهراً.
وأما السائبة فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم، فلا تمنع حوضاً أن تشرع فيه، ولا مرْعى أن ترْتع فيه، والوصيلة الشاة كانت إذا وَلدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.
وقالوا أيضَاَ: إن الوصيلة: الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جدْياً وإن كان عناقَاَ استحيوها، وإن كان جَدياً وعناقاً استحيوهما كليهما، وقالوا: إن الجدي وصلته أخته فحرمته علينا. وجملة القول في هذه الآية: إن القوم كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، اتباعاً منهم لخطوات الشيطان، فوبخهم اللَّه بذلك. ولا يضر الجهل بكيفية ذلك. واختلف في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] في المعني بالذين كفروا، وبالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] فقيل: الذين كفروا هاهنا أهل الكتاب، والذين لا يعقلون أهل الأديان، وقيل هم أهل ملة واحدة. والمفترون المبتدعون والذين لا(17/187)
يعقلون، الأتباع، وقيل هم مشركوا العرب، لأن الابتداء كان فيهم فالخبر بهم أولى من غيرهم إذا لم يكن عَرَضَ في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. والقُصْب: المِعَي في قوله: يجر قُصْبه والجمع الأقصاب، والبَحِيرة المشقوقة الأذن، والبَحْر الشقّ. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النًارِ يَجُر قُصْبَهُ وفِي أهْلَ النارِ بِرَائِحَتِهِ» . معناهُ: أنه عرضت عليه النار في الدنيا ممثلة، فرآه فيها ممثلًا في الدنيا على الحال التي تكون عليها في الآخرة، لأن الآخرة هي دار الجزاء والعقاب التي يصير الناس فيها فريقين: فريقٌ فِي الْجَنَةِ، وَفَرِيقٌ فِي السعيرِ. وباللهَ التوفيق.
[أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم]
فيمن هو أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْثاً وَأمَرَ عَلَيْهِم أسَامَهَّ بْنَ زَيدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إمَارَتِهِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِن تَطْعَنُوا فِي إمَارَتِهِ، فَقَدْ كنْتُم تَطْعَنُونَ فِي إمَارَةِ أبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَأيْمُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقاً بِالِإمَارَةِ وَإِن كَانَ لَمِنْ أحَبِّ الناس إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بَعْدَه» .
قال محمد بن رشد: قَدْ روي «أنَّ عَلِيّاً سَألَ النَّبَي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أيُّ النَّاس أحَبُّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أسْألُكَ عَنِ النِّسَاءِ، وَإِنَّما أسْألُكَ عَنِ الرِّجَال، قَالَ: مَنْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأنْعَمْت عَلَيْهِ(17/188)
أسَامَةُ بْنُ زَيْدِ. قَالَ عَلِيّ: ثَم مَنْ؟ فَقَالَ: ثُمَّ أنْتَ، فَقَالَ الْعَباسُ شِبْهَ الْمُغْضَبِ: ثمَّ مَنْ يَا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ثمَّ عَمَي، فقَالَ: جَعَلتَ عمكَ آخِرَ الْقَوْم، فَقَالَ: يَا عَباسُ، إِنَّ عَلِياً سَبَقَكَ بِالْهِجرَةِ» . ورُوي «أن عَمْرو بْنَ العاص سَأل النبيَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ أحَبّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنَ الرجَالِ، قَالَ أبُوهَا. قُلْتُ: ثَُم مَنْ؟ قَالَ: عُمَرَ بْنُ الْخَطّابِ، فَعَدَ رِجالاً.» وَرُوي أنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتَ عَنْ أَي أصْحَابِ رَسُول اللهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أحبّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أبُو بَكرِ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَ أبو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجرَاحِ. وَرويَ عنها أنَّهُ ذُكِرَ لَهَا عَلِيٌّ فَقَالَتْ: مَا رَأيْتُ رَجلا كَانَ أحَبَّ إِلَى رسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ وَلَا امْرَأةٌ أحَب إلَى رَسُول اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ امرأَتهِ.
والحكم في هذه الأحاديث أن لا تحمل على التعارض، وأن تصحح بِأن يُقال: إِن أهل بيت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أحب إليه ممن سواهم، وإن أحب أهل بيته إليه من النساء، فاطمة، ومن الرجال علي بن أبي طالب، ثم العباس، لأن ما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقديمه أسامة على علي في محبته إياه كان واللَّه أعلم إذ كان من أهل بيته، تبنَّى ابنه زيداً لأنه كان اْبن ابنه، فلما نسخ اللَّه ذلك بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] فخرج عن أن يكون من أهل بيته، ذهب المعنَى الذي من أجله تقدم في محبته، فعادت المحبة إلى من ذكر بعده، وهو علي بن أبي طالب، وأن أحب، من سِوى أهل بيته إليه من النساء، عائشة، ومن الرجال أبوها، ثم عمر بن الخطاب، ثم أبو عبيدة بن الجراح واللَّه الموفق.(17/189)
[ما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب ذنباً بخلاف مَن سواه]
فيما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب ذنباً بخلاف مَن سواه وحدثني ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: ما من الناس أحد إلا يلقى اللَّه يومَ القيامة ذا ذنب، إلا يحيى بن زكرياء، فإن اللَّه تعالى ذكر يحيى فقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] قال: ثم ذُبح ذبحاً قال: ثم تناول سعيد بن المسيب شيئا من الأرض صغيراً فقال: لم يكن ذَكَرُه إِلا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: الحديث مرفوع إلى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومثله لا يكون رأْيا. رواه سعيد بن المسيب عن ابن العاص سمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولهُ ذَنْب إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يِحْيَى ابْنِ زَكَرِياء» وذكر الحديث. وفي قوله: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِن يَحْيَى ابْنِ زَكَرِيًاءَ دليل ظاهر على أن الأنبياء غير معصومين من الذنوب الصغائر، إذ لا اختلاف أنهم معصومون من الكبائر.
ويدل على ذلك من القرآن قوله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد قيل: إِنهم معصومون من الصغائر والكبائر، وأن الخطاب في قوله تعالى للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمراد به أمته. والمعنى في ذلك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] . في الدين لتهتدي به أنت والمسلمون فيكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم. والأظهر أن الخطاب في ذلك للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأن المعنى فيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] . إِنا حكمنا لك حكماً(17/190)
يبين به لمن سمعه أو بلغه أنا قضينا لك بالنصر والظفر على من خالفك، وناصبك من كفار قومك، لتشكر ربك على ذلك وتسبحه وتستغفره فيغفر لك بفعلك ذلك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وقيل: عَنَى بالفتح، فتح مكة، فيغفر له على شكره ذلك ما تقدم من ذنبه قبل الفتح وما تأخر عنه، وقيل: ما تقدم من ذنبه قبل الرسالة، وما تأخر عنها. وقيل: ما تقدم من ذنبه يوم بدر، وما تأخر عنه يوم حُنْينٍ، وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدرٍ أنه جعل يدعو ويقول: «إِنْ تَهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدُ فِي الأرْض أبَداً» فأوحى اللَّه إليه من أين تعلم أنه إن أهلكتُ هذه العصبة لا أعبد في الأرض؟ فكان هذا الذنب المتقدم، وأما الذنب المتأخر، فيوم حُنيْنٍ لَما انهزم الناس، «قال لعمِّه الْعبّاس، ولابن عَمِّه أبي سفيان: ناوِلاني تحفْاً مِنْ حَصَاةِ الْوَادي فَنَاوَلَاهُ فَأخَذَهُ بِيَدِه وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْكُفّار، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، لَا ينصَرُونَ، فَانْهَزَُم الْمُشْرِكُونَ عَن آخِرِهِم، وَلَمْ يَبْقَ أحدٌ إِلّاَ امْتَلَأتْ عَيْنَاهُ رَمْلاً وَحَصاً ثمَّ نَادى أصْحَابَه، فَرَجَعُوا فَقَالَ لَهُم عِنْدَ رُجُوعِهِم: لَو لَمْ أرْمِهِم لَمْ يَنْهَزِمُوا فَأنْزَلَ اللًهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] » . فكان هذا هو الذنب المتأخر. واللَه أعلم.
والذي أقول به: إِن الأنبياء معصومون من القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر، إلا أنهم يؤاخذون لمكانهم ومنزلهم بما ليس بكبائر ولا صغائر، في حق من سواهم. وهذا نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ» فسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذه بما ليس في وسعه، ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان الله قد تجاوز لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286](17/191)
ونحو ما كان من شأنه مع ابن أم مكتوم حتى عاتبه اللَّه على ذلك بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2] ، إلى قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] والحَصور الذي لا يقدر على جماع النساء. ومنه حصر الخطيب في خطبته، والقارئ في قراءته. ومنه حصر العدو. وقوله: ذُبح ذبحاً قد مضى الكلام على السبب الذي من أجله ذبح في رسم نذر سنة قبل هذا فلا معنى لإِعادته.
[أشراط الساعة]
فيما هو من أشراط الساعة
وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر بن مُحيريز، قال: من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت، فلا يشك من يراه أنه يدخل لسوء إِلَاّ أن الجُدُر تواريه.
قال محمد بن رشد: يريد: إِن من أشراطها المؤذنة بقربها، أن يكثر الفسوق في الناس، ويشتهر المتهمون به، فإذا رُئي الواحد منهم يدخل البيت الذي يتهّم أهلُه بالمكروه، لم يشك رائيه أنه يدخله لسوء يريده لغلبة ظنه بذلك، وهي كثيرة. من ذلك أن يؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وأن يوسَّد الأمر إلى غير أهله وأنْ تَلِدَ الأمةُ رَّبَّتَها. على ما أتت به الروايات عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وهي أكثر من أن تحصى.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أشراطها، إذ لا نبي بعده قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُعِثْتَ أنَا وَالساعَةَ كَهَاتيْنِ وَأشَارَ بِأصْبُعِه الْوُسْطَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ» . وأما الأشراط(17/192)
الكبار التي بين يدي الساعة، فمنهما الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وباللَّه التوفيق.
[ما أعلم النبي عليه السلام به من الفتنة التي تكون بعده]
فيما أعلم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - به من الفتنة التي تكون بعده
قال مالك: «ذكر النبي عليه السلام فتنة، فقالوا: يا رسول اللَّه ما النجاةُ منها؟ فقال: " تَرْجِعُوَنَ إِلَى أمْرِكُمُ الأوَّل» . قال مالك: «قال النبي عليه السلام لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: " يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ الناس قَدْ مَرِجَتْ عُهُودهم وَأمَانَتُهُم وَاخْتَلَفُوا وَشَبَّكَ بَيْنَ أصابِع يَدِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَدَعُ عوَامَّهُم وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ» .
قال محمد بن رشد: في هذا علم من أعلام نبوة النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لأنه أخبر بما كان بعده من الفتون والاختلاف، ودل على وجه السلامة من ذلك بقوله: «تَرْجِعُونَ إِلَى أمْرِكُم الأوَّل» . يريد التمسك بكتاب الله. وباللَّه التوفيق.
[ترك تولي الولاية للرَّجُل]
في أن ترك تولي الولاية للرَّجُل خير له قال مالك: دعا عمر بن الخطاب رجلاً ليوليه ولاية فأبَى فجعل عمر يديره عليها، فقال الرجل: نَشَدْتُكَ باللَّه أي ذلك تعلم أنه خيرٌ لي؟ قال: تركها خير لك.
قال محمد بن رشد: في رواية أخرى قال: فاعفني، قال: قد فعلت. وإنما رأى عمر بن الخطاب ترك الولاية خيرا له، وإن كان في العمل(17/193)
فيها بالصواب أجر عظيم، مخافة أن لا يتخلص في عمله، ويضعف عن إقامة الواجب عليه فيها، ولا يعدلُ بالسلامة شيء. وإذا كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: وددت أني أَنجُو مِنْ هَذَا الأمْرِ كَفَافَاً لَا لِي وَلَا عَلًيّ، فكيف بمن بعده من الناس؟ وبالله التوفيق.
[ترك عمرما كان أراده من كتاب الأحاديث]
ومن كتاب أوله حلف ليرفعنَّ أمراً إلى السلطان في ترك عمر ما كان أراده من كتاب الأحاديث. قال مالك: كان عمر بن الخطاب قد أراد أن يكتب الأحاديث، أو كتب منها ثم قال: كتاب مع كتاب الله تعالى لا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا والله أعلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أراد أن يكتب الأحاديث المأثورة عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ليجعلها أصلاً يحمل الناس عليها في الآفاق، كما يفعل بالقرآن، فتوقف عن ذلك، إذ لا يقطع على صحة نقل الأحاديث عن النبي عليه السلام، كما يقطع على صحة نَقل التواتر، فقامت الحجة فَرأى أن يكل أمر الأحاديث إلى الاجتهاد، والنظر في صحة نقلها، ووجوب العمل بها، وأما أن يكتب الرجل الحديث قد رواه لِيَتَذَكَّرُه ولا ينساه، فلا كراهة في ذلك.
وقد «حدَث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث، فجاء رجلٌ من أهل اليمن فقال: " اكتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه، فقال: اكْتُبُوا لأِبِي فلانٍ ".» وقال أبو هريرة: مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي، إلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أكْتُبُ.
ولولا أن العلماء قيدوا الحديث ودنوه وميزوا الصحيح منه من السقيم، لدرس العلم وعمي أمر الدين. فالله يجازيهم على اجتهادهم في ذلك بأفضل جزاء المحسنين. وبالله التوفيق.(17/194)
[القلائد في أعناق الإبل والأجراس]
في كراهة القلائد في أعناق الإبل والأجراس وسئل مالك عن كراهية القلائد في أعناق الإبل أهو مثل الجرس؟ قال: لا الجرس أشدُّ. قيل له: لم كُره الجرس؟ قال: لا أراه كُرِه إلا لصوته. ذلك الذي يقع في قلبي.
قال محمد بن رشد: تعليق الأجراس والقلائد، وهي التمائم بما ليس فيه ذكر اللَّه، في أعناق الإبل مكروه عند عامة العلماء، لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئهُ، مِن «أَنَّ رَسُولَ اللًّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بَعَثَ فِي بَعْض أسْفَارِه رَسُولاً، وَالنَّاسُ فِي مَقِيلِهِم، أَلَّا يبْقى فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدَة مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادةِّ إلاَ قُطِعَتْ. فعمَّ ولم يخص جرساً من غيره» . ورأى مالك الجرس أشد، لما فيه من الِإذاية بصوته.
وفي رسم باع غلاماً بعد هذا عن سالم بن عبد الله أنه مر على عير لأهل الشام، وفيها جرس، فقال لهم سالم: إن هذا نهي عنه فقالوا له: نحن أعلم بهذا منك إنما يُكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا صغير، فليس فيه بأس، فسكت سالم. وإذا كان الجرس إنما يكره لصوته كما قال مالك، فلا شك في أنه كلما عظم فهو أشد كراهية. ويحتمل أن يكون وجه الكراهية فيه شبهه بالناقوس الذي يضرب به النصارى. وقد جاء عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «الْعِيرُ الَّتِي فِيهَا الْجَرَسُ، لَا تَصْحَبُهَا الْمَلاَئكَةُ» وقع هذا بعد هذا في رسم باع غلاماً المذكور. وقوله في الحديث قِلاَدة مِنْ وَتَرٍ أو قِلاَدَة(17/195)
شك من المحدث. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه إنما تكره القلادة من الوتر خاصة، لأن البهيمة قد تختنقُ بها في خشبة أو شجرة، والخيط ينقطع سريعاً، فلا تختنق به. وأما الحديث الذي جاء: «قلدوا الْخَيْلَ وَلَا تُقلَدُوهَا الأوتار» . فمعناه لا تركبوها في الدخُول وطلب التراث. وأما التميمةُ بذكر الله وأسمائه، فأجازها مالك مرة في المرض، وكرهها في الصحة، مخافة العين، أو لِما يُتقى من المرض، وأجازها مرةً بكل حال، في حال الصحة والمرض. ومن أهل العلم من كره التمائم في كل حال، كان فيها ذكر أو لم يكن، وفي كل حال، كان ذلك في حال الصحة أو المرض لما جاء في الحديث، مِنْ أن «من تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إلَيْهِ، وَمَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أتَمً اللَّهُ لَه وَمَنْ عَلَّقَ وَدَعةَ فلا وَدَعَ اللهُ لَهُ» . ومنهم من أجازها على كل حال في حال المرض، ومنع منها في حال الصحة. لما روي عن عائشة من أنها قالت: ما عُلَقَ بَعْدَ نُزُول الْبَلَاء فَلَيْسَ بِتَمِيمَةٍ.
وقد مضى هذا والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا. وبالله التوفيق.
[حكم الخضاب]
في الخضاب قال مالك في قول عائشة: إنَّ أَبَا بَكْرِ كَانَ يَصْبُغُ، من الدلائل على أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصبُغ ولو كان يصبغ لبدأت به.
قال محمد بن رشد: يريد لبدأتْ به ولَذكرتْه لعبد الرحمن بن(17/196)
الأسود بن عبد يغوث حين أرسلتْ إليه جاريتها نُخَيْلَةَ، تَعزمُ عليه أَن يصبُغ، وتخبرُه أن أبا بكر الصديق كان يصبُغ.
وقد مضى هذا كله والكلام عليه مستوفى في الرسم الذي قبل هذا وبالله التوفيق.
[تفسير الفَدادين والداء العًضال]
في تفسير الفَدادين والداء العًضال وما جاء من أن بخيبر وادياً قد سال ناراً وسئل مالك عن تفسير الفدَّادِين قال: هم أهل الجفا. قال مالك: وقد سألت عنهمِ، فقيل ليِ: هم أهل الجفا وقال مالك: إنه يقال: إن بخيبر وادياَ قد سال ناراَ.
وسئل مالك عن الداء العُضال فقال: هو الهلاك في الدين.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للفدادين يريد الفدادين المذكورين في حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رَأسُ الْكُفْرِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْل ألْخَيْل وَالِإبِل وَالْفدَّادينَ مِنْ أَهْل الْوَبَر. وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْل الْغَنَم» . صحيح وتفسيره أيضا للداء العضال يريد المذكور في حديث مالك: أنَّهُ بَلَغَهُ أَن عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ أَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ كَعْبُ الأحْبَارِ: لَا تَخْرجْ إلَيْهَا يَا أمِير الْمُؤمِنِين، فَإنَّ بِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ السِّحْرِ، وبِهَا فَسَقَةُ الْجِنِّ، وبِهَا الدَّاءً الْعُضَالُ. صحيحِ أيضاً بيِّن، لا إشكال فيه. وما ذكره من أنه يقال: إن بِخيْبَرَ وادياً قَدْ سَالَ نَاراَ، فالمعنى في ذلك إن صح أنه كان فيما خلا من الأمم السالفة عقوبة لأحد، أو معجزة لنبي. وبالله التوفيق.(17/197)
[حديث عيينة بن بدر]
في حديث عيينة بن بدر قال ابن القاسم: سأَلنا مالكاً عن حديث عيينة بن بدر حين دخل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد عنده امرأة يقال لها: أمُّ مسلمة، وهو الحديث الذي قال فيه عيينة ما هذه الحُميراء؟
قال محمد بن رشد: عيينة بن بدر هذا هو عيينة بن حصن بن بدر الفزاري يكنى أبا مالك، أسلم بعد الفتح وشهد الفتح مسلماً. وهو من المؤلفة قلوبهم. وكان من الأعراب الجفاة. وحديثه الذي سأل ابن القاسم مالكاً عنه هو ما روي أنهُ «دَخَلَ عَلَى النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِغَيْرِ إِذْنٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَيْنَ الِإذْنُ؟ فَقَالَ: مَا اسْتَأذَنْتُ عَلَى أَحَدٍ مِن مُضَر وَكانَت عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَالِسَةً فَقَالَ: مَنْ هَذهِ الْحُمَيْرَاءُ؟ فَقَاَلَ: أُمُ الْمُؤمِنِين، فَقَالَ أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَنْ أَجْمَلَ مِنْهَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا يَا رَسُولَ الله فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ وَهًوَ عَلَى مَا تَرَيْنَ سَيِّدُ قَوْمِهِ» .
وفي حديث آخر أَنَهُ دَخَلَ عَلَى رَسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ قَبْل أَن يَنْزِلَ الْحِجَابُ، وعِنْدَهُ عَائِشَةُ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ. قَالَ أَفَلَا أَنْزِلُ لَكَ عَن أُمِّ المُؤْمِنينَ فَتنْكِحُهَا فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَحْمَقٌ مُطَاعٌ يعني في قومه وكان لعيينة هذا ابنُ أخ له دين وفضل من جلساء(17/198)
عمر بن الخطاب. يقال له الحر بن قيس. فقال لابن أخيه: ألا تدخلني على هذا الرجل؟ قال: إني أخاف أن تتكلم بكلام لا ينبغي. فقال: لا أفعل فأدخله على عمر فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تقسم بالعدل، ولا تعطي الجزل، فغضب عمر غضباً شديداً حتى هم أن يوقع به. فقال ابن أخيه: يا أمير المؤمنين: إن الله يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قال: فخلى عنه عمر. وكان وقافاً عند كتاب الله. وإنما سأل ابن القاسم مالكاً عن حديث عيينة المذكور. والله أعلم هل بلغه أم لا؟ لما فيه من جهله على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، وحِلْمِه عليه. وبالله التوفيق.
[اللِّقْحَة الصَفِيّ]
في اللِّقْحَة الصَفِيّ هي الغَزيرَة الكثيرة اللبن.
قال محمد بن رشد: قول مالك في اللقحة الصفي: إنها الغزيرة الكثيرة اللبن صحيح، لأن ذلك مفسر في الحديث: حديث أبي هريرة رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اله قال: «نِعْمَ المنيحَة اللَّقْحَةُ الصَفِيُ، والشَّاةُ الصَّفِيُّ تَغْدُو بِإنَاءٍ وَتَرُوحُ بآخَر» ومعنى الصفي المختارة، لأن صاحب اللقاح والغنم، يصطفي لنفسه غزار اللبن منها أي يختارها. فإذا منح جاره وابن عمه ما يصطفيه ويختاره، فنعمت المنحة هي، كما جاء في الحديث قَال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] الآية والله أعلم وبه التوفيق.(17/199)
[حكاية عن عمر بن عبد العزيز]
قال مالك: لما قدم على عمر بن عبد العزيز ابن زرارة قال: يا أمير المؤمنين: جئتك من عند قوم أحوج الناس إلى معروفك وصلتك، قال: أجل يا ابن زرارة إلا من كان من أهل قسطنطينة.
قال محمد بن رشد: يريد والله أعلم بقوله: إلا من كان من أهل قسطنطينة إلا من كان من أسرى المسلمين بقسطنطينة فإنهم لا يحتاجون من صلتي ومعروفي إلى أكثر مما أصلهم وإنما هذه من أمرهم. فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كتب إلى الأسرى بقسطنطينة لَسْتُم أسرى ولكنكم حُبسَاء في سبيل الله ولست أقْسِمُ شيئاً إلا خصصت أهلكم بمثله. وقد بعثت إلى كل شخص منكم خمسة دنانير، وبعثت أن يُفادَى كبيركم وصغيركم فأبشروا وبالله التوفيق.
[التلبية في الحج في القفول]
في النهي عن التلبية في الحج
في القفول قال مالك: كان رجل من أهل العراق يُحرم بالحج إذا قفل فلقيه مولى لابن عباس، أراه عكرمة، وكان مفوهاً. فقال له: لم فعلت هذا؟ إني أظنك رجلِ سوء يقول الله في كتابه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وأنت تلبي راجعا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لأن المدعوّ إنما يجيب الدعاء حتى يصل إليه ولا وجه لِإجابته في انصرافه عنه. وذلك ازدراءٌ من فعله، ولذلك قال عكرمة لمن رآه يلبي في رجوعه من الحج، أراك رجل سوء لأن(17/200)
إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما دعا الناس إلى الحج كما أمره عز وجل حيث يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] من عرفة فإليها تنهي غاية الملبي. وأجاز مالك لمن أبقَ غلامه، أو ذهب بعض متاعه في ذهابه إلى الحج، فرجع في طلبه أن يلبي في رجوعه في طلبه، لأنه في حكم الذاهب، وقد مضى في هذا الرسم من هذا السماع في كتاب الحج. وبالله التوفيق.
[التحذير من الأهواء]
في التحذير من الأهواء
قال مالك: كان هاهنا رجل يقول: ما بقي من دين إلا وقد دخلت فيه يعني الأهواء فلم أر شيئاً مستقيماً، يعني بذلك فرق الِإسلام، فقال له الرجل: أنا أخبرك ما شأنك لم تعرف المستقيم، إِنك رجل لا تتقي الله. يقول الله في كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] .
قال محمد بن رشد: أهل الأهواء على ثلاثة أقسام: قسم يكفرون بإجماع وهم الذين اعتقادهم كفر صريح، كالذين يقولون: إِن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان النبي علي بن أبي طالب. وقسم لا يكفرون بإجماع وهم الذين لا يؤول قولهم إلى الكفر إلا بالتركيب، وهو أن يقال: إذا قال كذا وكذا، فلزمه عليه كذا أو كذا وإذا قال كذا وكذا لزمه عليه كذا وكذا، حتى يؤول بذلك إلى الكفر. وقسم يختلف في تكفيرهم وهم الذين يعتقدون مذهباً يسد عليهم طريق المعرفة بالله تعالى، كنحو ما يعتقده القدَرية والمعتزلة والخوارج، والروافض. فروي عن مالك أنهم يكفرون بمآل قولهم. قاله في أول سماع ابن القاسم من كتاب المحاربين والمرتدين، فيستتابون على هذا القول كالمُرْتَدِّ وقيل: إنهم لا(17/201)
يكفرون بمآل قولهم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في المثل الذي ضربه فيهم. وتتمارَا في الفرق، لأنه يدل عن الشك في خروجهم عن الِإيمان، وإذا شك في خروجهم عن الِإيمان وجب ألا يحكم بكفرهم إِلا بيقين فيضربون على هذا القول، كما فعل عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بصبيغ ولا يقتلون. وبالله التوفيق.
[ما كان عليه الناس من ضيق العيش في أول الأمة]
فيما كان عليه الناس من ضيق
العيش في أول الأمة قال مالك: كان الناس في أول هذه الأمة، ليس لهم غداءٌ ولا عشاء، إن وجد شيئاً أكل وإلا ترك. يعني في أوَّل الساعة.
قال محمد بن رشد: الغداء والعشاء نهاية الترفه في الدنيا ولذلك قال عز وجل في أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] أي إِن الذي بين غدائهم، وعشائهم في الجنة قدر ما بين غداءِ أحدنا وعشائه في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار. وهذا مثل قوله عز وجل: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] و {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] يعني من أيام الدنيا وبالله التوفيق.
[حسن الصوت بالقرآن]
في حسن الصوت بالقرآن وسئل مالك عن النفر يكونون في المسجد، فيحف أهل المسجد، فيقولون لرجل حَسَن الصَّوت اقرأْ علينا. يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال: إِنما هذا يشبه الغناء، فقيل أفرأيت(17/202)
الذي قال عمر لأبي موسى؟ ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فقال: إِن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنَا أتقيها، ووالله ما سمعت هذا قط قبل هذا المجلس، وكره القراءة بالألحان. وقال هذا عندي يشبه الغناء، ولا أحِبُّ أن يعمل بذلك. وقال: إِنما اتخذوها يأكلون بها، ويكسبون عليها. قال: وسئل مالك عن النفر يتحلقون في السورة الواحدة، فكره ذلك، وقال: لا يعجبني هذا من العمل. قال ابن القاسم فهو رأيي.
قال محمد بن رشد: إنما كره مالك للقوم أن يقولوا للحسن الصوت: اقرأ علينا، إذا أرادوا بذلك حسن صوته كما قال، لا إذا قالوا ذلك له استدعاءً لرقة قلوبهم بسماع قراءته الحسنة. فقد روي أن رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا أذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أذِنَ لِنَبيٍّ يَتَغنَّى بالقرآن» أي ما استمع لشيء يحسن صوته بالقرآن طلباً لرقة قلبه بذلك.
وقد كان عمر بن الخطاب إِذَا رَأى أبا موسى الأشعري قال: ذَكّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأ عِنْدَهُ. وكان حسن الصوت، فلم يكن عمر ليقصد الالتذاذ بحسن صوته، وإنما استدعى رقة قلبه بسماع قراءته للقرآن، وهذا لا بأس به، إذا صح من فاعله على هذا الوجه. وقول مالك: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقنها، إنما اتقى أن يكون التَّحدثُ بما روي عن عمر بن الخطاب من هذا ذريعةً لاستجازة قراءة القرآن بالألحان ابتغاء سماع الأصوات الحسان، والالتذاذ بذلك، حتى يقصد أن يقدم الرجل للِإمامة لحسن صوته، لا لما سوى ذلك، مما يجب أن يرغِّب في إِمامته لأجله، فقد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتّاً» . فذكرها أحدها: «نشْوا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمون أحَدَهُم لِيُغَنِّيَهُم، وَإِنْ كَانَ(17/203)
أقَلَّهُم فِقْهاً» . فالتحذيرُ إنما وقع في الحديث لِإيثارهم تقديم حَسَنِ الصوت على الكثير الفقه، فلو كان رجلان مستويَيْن في الفضل والفقه، وأَحدهما أحسن صوتا بالقراءة، لَما كان مكروهاً أن يقدم الأحسن صوتاً بالقراءة، لأنها مزية زائدة محمودة، خصه الله بها. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي موسى الأشعري تغْبيطاً له بما وهبه الله من حسن الصوت، «لَقَدْ أوتِيتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آل دَاوودَ» .
وأما ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالْقُرْآنِ» . فقيل معناه: من لم يستغن بالقرآن أي من لم ير أنه به أَفضل حالاً من الغناء بغناه. وقيل: معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أَبي مليكة: أحَدِ رُواة الحديث: فمن لم يكن له حلق حسن. قال: يحسنه ما استطاع والتأويل الأول أولى، لأن قوله في الحديث. «لَيْس منَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» يدل على أنه من لم يفعل ذلك فهو مذموم، وليس من ابتغى ثواب الله من غير أن يحسن به صوته مذموماً على فعله.
وقد مضى هذا في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة لتكرر المسألة هناك. وإِنما كره مالك لقوم يتحلقون في السورة الواحدة، لأنه أَمر مبتدع، ليس من فعل السلف، ولأنهم يبتغون من الألحان وتحسين الأصوات بموافقة بعضهم بعضاً، وزيادة بعضهم في صوت(17/204)
بعض، على نحو ما يفعل في الغناء فوجه المكروه في ذلك بيِّن. وقد مضى هذا في رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة. وبالله التوفيق.
[نهي عمر للمهاجرين أن يتخذ مالا خلف الروحا]
في نهي عمر للمهاجرين أن يتخذ مالا خلف الروحا قال مالك: قال عمر بن الخطاب: لَا يَتَّخِذْ أحدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَالًا خَلْفَ الرَّوْحَا، فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُل مُعَلَّقٌ بِمَالِهِ.
قال محمد بن رشد: إِنما قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا لأنه استحب للمهاجرين المقام بالمدينة التي هاجروا إليها فالمهاجر لا يجوز له المقام بمكة لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُقِيمًنّ مُهَاجِرٌ بِمَكَةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ فَوْقَ ثَلَاثٍ» . ويستحب له المقام بالمدينة وترك الخروج منها إلى غيرها على ما يدل عليه قول عمر في هذا الحديث. وبالله التوفيق.
[وقت فتح خيبروالخندق والفتح]
في وقت فتح خيبر والخندق والفتح قال مالك فتحت خيبر على رأس ستِّ سنين، والخندق على أربع، والفتح على ثمان.
قال محمد بن رشد: قوله في خيبر إنها فتحت على رأس ستِّ سنين صحيح. كذا قال أهل السير. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من الحُديبية إلى المدينة، مكث بها ذا الحجة، وبعض المحرم، ثم خرج في البقية منه غازياً إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة، إلا شهر وأيام، وكان الله عز وجل قد وعده إياها وهو بالحُديبية. فأنزل عليه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] الآية. فلم يختلف أهل العلم أنها(17/205)
البيعة بالحُديبية وكانت الشجرة سمرة بالحديبية. وأما قوله في الخندق: إِنه كان على أربع، فهو خلاف ما قاله أهل السير من أنه كان في شوال من السنة الخامسة. وكان سببه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أجلَى بني النضير خرج نفر من سادات اليهود منهم حُيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، حتى قدموا مكة، فدعوا قريشاً إلِى حرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجابهم أهل مكة إِلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان، فدعوهم فأجابوهم، فخرجت قريش يَجرهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان يقودهم عُيينة بن حصين الفزاري، فأقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم إليه، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه، وعمل المسلمون في الخندق، ونكص المنافقونَ وجعلوا يتسللون لِوَاذاً فنزلت فيه آيات من القرآن وكان من فرغ من المسلمين من حصته، عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق، وكانت فيه آيات بينات، وعلامات للنبوءة مذكورات.
وأما قوله في الفتح: إِنه كان على ثمان، فهو صحيح، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَما انصرف من عمرة القضاء سنة سبع، أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم، وصفر، وشهري ربيع، ثم بعث - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جمادى الآخرة من السنة الثامنة الأمراء إلى الشام، وأمَّر على الجيش زيد بن حارثة مولاه.
وقال: إِن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، وشيعهم وودعهم، ثم انصرف ونهض، وكان من أمرهم ما هو مذكور في السيَر. ثم أقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة بعد بعث موتة، جمادى ورجب، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية، تركتً ذكره احتصاراً.
وخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عشرة آلاف، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان خروجه لعشر خلون من رمضان من سنة ثمان كما قال مالك في الرواية. وبالله تعالى التوفيق.(17/206)
[لباس الحرير في الجهاد]
في لباس الحرير في الجهاد
قال مالك: وسئل عن رجال بالإسكندرية يتهيئون يوم العيد بالسلاح، ويلبسون عليها ثياباً من حرير، ليتهيَّبوا بها العدو. قال مالك: ما يعجبني لبس الحرير، ولم ير ابن القاسم بأساً أن يتخذ منها راية في أرض العدو.
قال محمد بن رشد: أما اتخاذ الراية من الحرير فلا اختلاف في جواز ذلك، وأما لباسه عند القتال، فقد أجازه جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك لِما في ذلك من المباهاة بالِإسلام، والِإرهاب على العدو، ولما يقي عند القتال من النبل وغيره من السلاح، وهو قول محمد بن عبد الحكم. وحكاه ابن سفيان عن مالك من رواية عيسى عن ابن القاسم عنه، فإن استشهد وهو عليه، نزع عنه على مذهب من لا يجيز له لباسه في الجهاد.
وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الجهاد لتكرر المسألة هناك.
[شراء اللحم يأخذ منه كل يوم رطلاً أو رطلين والثمن إلى العطاء]
في شراء اللحم يأخذ منه كل يوم رطلاً أو رطلين والثمن إلى العطاء وحدثنا مالك عن عبد الرحمن بن المحبر عن سالم بن عبد الله، قال: كنا نبتاعٍ اللحم من الجزارين بسعر معلوم، نأخذ بكل يوم رطلين أَو ثَلاثةً نشترط عليهم أَن ندفع الثمن إلى العطاء قال: وَأنا أرى ذلك حَسَناً. قال مالك: وما أرى به بأساَ. وذلك إذا كان الطعام معروفاً، وإن كان الثمن إلى أجل فلا أرى به بأساً.
قال محمد بن رشد: قوله: كنا نبتاع اللحم من الجزارين بسعر(17/207)
معلوم، نأكل كل يوم رطلين أو ثلاثة، نشترط عليهمِ أن ندفع الثمن إلى العطاء. يدل على أن ذلك كان معلوماً عندهم مشهوراَ من فعلهم، لاشتهار ذلك من فعلهم، سميت بيعة أهل المدينة، وهذا أجازه مالك وأصحابه، اتباعاً لما جرى عليه العمل بالمدينة بشرطين: أحدهما أن يشرع في أخذ ما سُلم فيه، والثاني أن يكون ذلك أصل المسلم إليه على ما قاله غير ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب السلم والآجال، فليس ذلك بسلم محض، ولذلك جاز تأخير رأْس المال فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة، ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله.
وقد روي عن مالك أنه لم يجز ذلك، ورآه ديناً بدين. وقَال: تأويل حديث ابن المحبر أن يجب عليه ثمن ما يأخذ كل يوم إلى العطاء، وهو تأويل سائغ في الحديث، لأنه إِنَّما سمى فيه السوم ولم يأخذه في كل يوم، ولم يذكر عدد الأرطال التي اشترى منه، فلم ينعقد بينهما في ذلك بيع على عدد مسمّى، من الأرطال، فكلما أخذ منه شيئاً وجب عليه ثمنه إلى العطاء ولا يلزم واحداً منهما التمادي على ذلك، إذا لم يعقد بيعهما على ثمن معلوم مسمى من الأرطال، وإجارة ذلك مع تسمية عدد الأرطال التي يأخذ منها في كل يوم رطلين أو ثلاثة، على الشرطين المذكورين هو المشهور في المذهب. وقوله في هذه الرواية: وَأَنا أرى ذلك حسناً، معناه: وأنا أجيز ذلك استحساناً اتباعاً لعمل أهل المدينة. وإن كان القياس بخلافه. وبالله التوفيق.
[حكاية عن سعيد بن المسيب]
قال مالك: بعث رجلٌ إلى سعيد بن المسيب بخمسة آلاف درهم، وكان أموياً، فجاءه الرسول وهو يحاسب غلاماً له في نصف درهم، يذكر أنه له قِبَله، فعرض عليه الخمسة الآلاف فأبى أن يقبلها، فعجب الرسول منه فقال: أنا أعطيك خمسة آلاف وأَنت تحاسب في نصف الدرهم، قال: النصف درهم هو أحب إلي من هذه الخمسة الآلاف.(17/208)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إن النصف درهم أحب إليه من هذه الخمسة الآلاف. لأن الأمير الذي أعطاه الخمسة الآلاف لم يكن الخليفة أو أميراً مفوضا إليه قسمةُ مال الله بين الناس وإِجازةُ من يستحق الجائزة منهم، فلا يجوز له الأخذ منه، وإِن كان للخليفة أو من فوض إليه الخليفة أمر مال الله، فتَرْكُه خير من أخذه، وإن كان المجبى حلالاً وعدل في قسمه بين الناس، لأنه إذا تركه، ليعطى لمن هو أحوج إليه منه فقد أجر في ذلك، مع قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحكيم بن حزام: «إِن خَيْراً لِأحَدِكُمْ أن لَا يَأخُذَ مِن أحَدِ شَيْئاً، قَالَ: وَلَا مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: وَلَا مِنَي» وتركه لمحاسبة غلامه بما له عنده، من إضاعة المال المنهي عنه.
[علم الحرير في الثوب]
في علم الحرير في الثوب وسُئل مالك عن الملاحف يكون فيها العلم من الحرير قدر الأصبع والأصبعين والثلاثة، فكره ذلك، وقال: لا أحب لباسها.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في آخر رسم حلف قبل هذا فلا معنى لإِعادته.
[ما يلزم المستشار من النصح]
فيما يلزم المستشار من النصح قال عيسى: وأَخبرني ابن القاسم عن يحيى بن زكريا، «أَن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له رجل أَشِرْ عَلي. قال ابن القاسم لا أَعلمه إِلا قال لي فحَسَرَ رسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَقَال: "الْمُسْتَشارُ أَمينٌ» .(17/209)
قال محمد بن رشد: في هذا الحديث أن على المستشار للمستشير أَن يعمل نظره فيما يراه من الرأي، ولا يشير عليه إلاَّ بعد أن يَتثَبَّتَ في ذلك، ويجهد النظر فيه، فإنًه قد ائْتَمَنَه في ذلك، ورجا حسن نظره له، وأَداءُ الأمانة من الإيمان والنصيحةُ من الدِّين. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَلِأئمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم» . وبالله التوفيق.
[صلاة الرجل في داره بصلاة الِإمام]
في صلاة الرجل في داره بصلاة الِإمام
قال: وسُئل مالك عن الدار تكون قريباً من المسجد يصلون بصلاة الناس في المسجد قال: نعم إلَّا الجمعة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وغيرها، ولا أَعرف في ذلك اختلافاً في مذهبنا. وبالله التوفيق.
[ترك الصلاة بين الظهر والعصر]
في ترك الصلاة بين الظهر والعصر وذكر مالك الصلاة بين الظهر والعصر فقال: كان عمر بن الخطاب إذا صلَّى الظهر يقعُد للناس يحدّثهم بما يأتيه من أَخبار الأجناد ويحدثونه عن أَحاديث النبيّ عليه السلام، وقوم إذا رأوا الناس يتحدثون يقولون لهم: اذكروا الله ولم يكن ذلك شأن الأخيار وكانوا يتحدثون.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أن ما بين الظهر والعصر(17/210)
ليس من الأوقات المرغب فيها للصلاة كالْهواجِرِ وآخر الليل بدليل ما ذكره عن عمر بن الخطاب، فلا يعاب على أَحد ترك الصلاة فيما بين الظهر والعصر والحديث فيه إذ كان الأخيار يفعلونه. وقد اختار مالك في رسم صلَّى نهاراً ثلاث ركعات من كتاب الصلاة على القعود لمذاكرة العلم في الأوقات التي تستحب فيها الصلاة، ولم ير ما بين الظهر والعصر من تلك الأوقات، بدليل قول سعيد بن المسيب، وقد قيل له: إن قوماً يصلون ما بين الظهر والعصر: ليست هذه عبادة، إنَّما الورع عمَّا حرم الله والتفكر فيما أمر الله به، يريد أنها ليست عبادة إنما العبادة الورع عمَّا حرم الله والتفكير في أمر الله يريد: أنها ليست عبادة من العبادات المرغب فيها لا أنها ليست عبادة أصلاً، وبالله تعالى التوفيق.
[تواضع عمر بن الخطاب وإشفاقه على المسلمين]
حكاية في تواضع عمر بن الخطاب وإشفاقه على المسلمين قال مالك لما خرج عمر بن الخطاب إلى الشام لقيه راهب فجعل يتعجب ويقول: ما رأيت ملكاً في رهبانيته قبل اليوم. قال مالك: كانت الرِّمادة في زمن عمر بن الخطاب سنين ليست واحدة، وأول ما أُغيثوا في الخريف. قال: وقال مالك عن عمر في السمن الذي اشترته له عاتكة، لا أطعمه حتى يجيء الناس من أَول ما يحيون، قال يريد: حتى يُغاث الناس.
قال محمد بن رشد: الذي رأى الراهب من حال عمر التي تعجب منها هو ما وقع في سماع أَشهب من كتاب الدعوى والصلح من أنه لما خرج إلى الشام فتلقاه عجمها ركب خلف أَسلم وقلب فروهُ، فجعلوا كلما لقوا أَسلم، قالوا: أَين أمير المؤمنين؟ فيقول: أَمامكم أَمامكم، حتى أكثر، فقال له عمر كثرت عليهم، أخبرهم الآن، فسألوه فقال: هو هذا. فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال عمر: لا تَروْنَ عَليَّ كَسْوة قوم غَضِبَ اللِّهُ عَلَيْهِم، فنحن تزدري بنا أعينهم، ثم لم يَزل قابضاً بين عينيه،(17/211)
حتى لقيه أبو عبيدة بن الجرَّاح فقال: أَنت أخي حقاً لم تغيِّرك الدنيا. ولقيَه عَلَى بعِيرٍ خطامه حبل شَعَر أَسود. قال مالك: وتلقى عمر يومئذٍ ببِرْذَون تخاربي فركبه ثم نزل عنه وسبَّه، فقيل له: ما له؟ قال: حملتموني على شيطان حتى، أنكرت نفسي. وقوله في الرمادة: إنها كانت سنين، مثله في المدونة وبالله التوفيق.
[قصة ثابت بن قيس مع ضيفه]
في قصة ثابت بن قيس مع ضيفه
قال: وسمعت مالكاً يحدّث «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ لِثَابِتِ بْن قَيْس بن شَمَّاس: انقَّلِبْ بِهَذَا الرِّجُلَ فَأَضفْهُ اللَّيْلَةَ فَانْقَلَبَ بِهِ ثَابِت فَقَالَ لَأهْلهَ: إِذا وَضَعْتُمُ الطَّعَامَ فَضَعوا أَيْدِيَكُم وَارْفَعُوهَا وَلَا تَمَسّوا فيه شَيْئَاَ، وَقَالَ: أَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَقْبَلَ إِلَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقَالَ: يا ثَابِتُ مَا فَعَلْتَ بِضَيْفِكَ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسولهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيَضْحَكُ لِفِعْلِكَ بِضَيْفِكَ» .
قال محمد بن رشد: لم يسم البخاري الرجل المنقلب بالضيف إلى منزله في هذا الحديث، ذكر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صًلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: مَن يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟ قَالَ رَجَلُ مِنَ الأنْصارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسُول اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَاّ قُوتُ الصِّبْيَانِ فَقَالَ هَيِّئي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادوا عَشَاءً فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلاَ يُريَانِهِ أَنَّهُمَا يأكلاَنِ فَبَاتَا طَاوِيين فَلما أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُول اللًهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(17/212)
فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] » وروي عن أبي هريرة أنه قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُضِيفَهُ فَلَْم يَكُن عِنْدَهُ مَا يُضِيفهْ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ -؟ فَقَالَ رَجُل مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو طَلْحَةَ، فانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لْامْرَأَتِهِ» . وساق الحديث بمعنى حديث البُخاري. فيحملُ أن يكون ثابت بن قيس بن شماس يُكنَى أبا طلحة، ويحتمل أن يكون رجلاً آخر فعل مثل ما فعل ثابت بن قيس في وقت آخر. ومعنى ضَحِكَ اللَّهً مِن فَعَالِكُمَا اللَّيْلَةَ أي أَبدى رضاه عن ذلك، وعظيم كرامته لهما على ذلك وأَظهر بمنه عليهما جزيل ثوابه على فعليهما، لأن معنى الضحك في لسان العرب راجع إلى ظهور ما كان مستتراً. يقال: ضحكت الأرض إذا ظهر فيها النبات، وضحك الطريق إذا ظهر وتبين فيحمل من الله عزَّ وجلّ على ما ذكرناه مما يليق به، ولا يستحيل في صفته. وقوله في حديث البخاري: أَوْ عَجِبَ شك من المحدث في أَي اللفظين قاله النبيّ عليه السلام، ومعناهما متقارب، لأن معنى عجب الله من فعل الرجل أي رضي عنه وعظم عنده من أَجله قدرُه، لأن المتعجب منا، معظم لما تعجب منه، راضٍ به، وذلك جائز في صفة الله تعالى، وذلك لا يكون منا إِلّاَ مِن أمر يطرأُ علينا علمُه، وذلك مستحيل في حقه تعالى، لتقدم علمه بما كان ويكون، فيحمل التعجب إذا أُضيف لله تعالى على ما يليق به ويجوز في حقه، دون ما يستحيل عليه ولا يجوز. ومعنى قوله: باتا طاوييْن أَي ضامري البطن من الْخَوَا يقال طويَ بطنُه يطوى فإذا تعمد ذلك، قيل:(17/213)
طوى بَطنَه يَطويه. والطيان الجائع. قاله الكسائي. وبالله التوفيق.
[حكاية عن عُيينة بن بدر]
قال مالك: قدم عُيينةُ بن بدر المدينة فنزل على ابن أَخ كان أَعمى، فبات ابن أَخيه يصلي، فلما أَصبح غدا إلى المسجد، فقال: ما رأيت قوماً أَوجهَ للناس لما وجهوهم له من هذا الحي من قريش، كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، وإنهم قد وجهوه لأمر فأطاعهم، ما زالَ الليلة يصلي. قال: فدخل عمر بن الخطاب فقال: والله ما تعطينا الجزيل، وما تقضي بيننا بالحق، قال: فقعد عمر فاستوى. قال: فقام ابن أخيه فقعد بينه وبين عمر، ثم قال: يا أمير المؤمنين: إن الله يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، فقال عمر: أَخْرِجُوهُ عَني.
قال محمد بن رشد: عيينة بن بدر هذا هو عيينة بن حصن بن بدر يكنى أَبا مالك، أَسلم بَعد الفتح. وقيل قبل الفتح، وشهد الفتح مسلماً. وهو من المؤلفة قلوبهم. وكان من الأعراب الجُفاة وقد مضى حديثه قبل هذا الرسم في دخوله على النبيّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بغير إذن، وما قاله بحضرة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ممَّا أغضبها. وابن أَخيه هو الحر بن قيس بن حصن، الذي تمارى مع ابن عباس في صاحب موسى الذي سألَ لقاءه على ما ذكر من شأنهما في القرآن، فعربهما أُبي بن كعب، فحدَّثهما بقصة موسى والخضر، على ما وقع من ذلك في كتاب العلم من كتاب البخاري وبالله التوفيق.(17/214)
[التمسك بما سنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده]
ومن كتاب أوله سَن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التمسك بما سنَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وولاة الأمر من بعده
قال مالك بن أَنس: إِن عمر بن عبد العزيز قال: سنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وولاة الأمر من بعده سنناً. الأخذ بها اتًباعاً لكتاب الله واستكمالًا لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن تركها اتَّبَعَ غَيْر َسَبِيل الْمُؤْمِنينَ، وَوَلّاَه اللَّه مَا تَوَلَّى وصلاه جهنّم، وساءت مصيراً.
[ما جاء من إن الأعمال بالنيات]
فيما جاء من إن الأعمال بالنيات وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن علقمة بن وقاص أنه سمع عمر بن الخطاب على المنبر يقول: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإِنَّما لكل امرئ ما نَوَى فمن كانت هجرتُه إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هَاجَر إليه» .
قال محمد بن رشد: لفظة إنما في قوله إنّما الأعمال بالنيات هي من ألفاظ الحصر ولا ترِدُ أبداً إلا على سببه، فهي تنفي الحكم عن السبب وتوجبه للمذكور وتدل على نفيه عما سواه. وقد قيل إنها لا تدل على ذلك، فقول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات» معناه إنما العبادات التي ينتفع بها عند الله ما أخلصت النية فيه للَّه، والسبب الذي ورد عليه هذا الحديث ما روي أن رجلاً هاجر يريد نكاح امرأة، فنفى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديث أن يكون له في هجرته ثواب،(17/215)
وأوجب الثواب في الأعمال التي يراد بها وجهُ الله، يريد العبادات منها، لأن لفظ الأعمال هاهنا عموم يراد به الخصوص، فدل على أنه لا ثواب فيما لم يرد به وجه اللَّه من الأعمال. ومن الناس من قال: لا دليل في الحديث على ذلك وإنما هو معلوم بالإجماع. وهذا الذي قلته من أن معنى الحديث إيجاب الانتفاع بالعمل إذا قارنته النية، ونفي الانتفاع به إذا لم تقارنه النية معقول منه تجري مجرى النص في العلم به، إذ لا يصح أن يحمل على ظاهره في الإعلام بوجود الأعمال بالنيات وعدمها بعدم النيات.
وقد ادعى بعض أصحاب أبي حنيفة فيه الإِجمال بحق ظاهره، وذلك بعيد، لاستحالة حمله عليه. وهذا فيما كان من العبادات يصح أن يفعل للًه ولغير الله، أما ما كان من العبادات لا يصح أن يفعل للَّه، وذلك كالنظر والاستدلال عند من يراه أول الواجبات ولا يصح أن يفعل إِلَا للَه وذلك النية، إذ لو افتقرت النية إلى نية في لتسلسلت النيات إلى ما لا نهاية له، وذلك مستحيل، والكلام في هذا المعنى وما يتعلق به يطول فأومأنا منه إلى هذا القدر من البيان وباللَه التوفيق.
[قتل المشرك في الحرب بعد أن قال لا إله إلا اللَّه]
في قتل المشرك في الحرب بعد أن قال لا إله إلا اللَّه قال: وسمعت مالكاً قال: بلغني «أن رجلًا من المسلمين في بعض مغازي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل على رجل من المشركين، فلما علاه بالسيف قال المشرك: لا إله إِلَّا اللَّه. فقال الرجل: إنما تتعوذ بها من القتل فقتله، فأتى إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف لك بلا إله إلا اللَّه. فقال: يا رسول اللَّه إنما كان يتعوذ بها من القتل، فما زال يعيدها على النبي والنبي يعيد عليه: فكيف لك بلا إله إلا اللَّه. فقال الرجل: وددت أني أسلمت في ذلك اليوم، وأنه بطل ما كان من عملي قبل ذلك، وأني استأنفت من ذلك اليوم» .(17/216)
قال محمد بن رشد: الرجل المذكور في الحديث هو أسامة بن زيد، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه