[مسألة: أوصى أن امرأته أولى بولدها ما لم تنكح فأرادت أن تخرج إلى العراق]
مسألة قال أشهب: وسئل عمن توفي بالمدينة وأوصى إلى رجل، وأوصى أن امرأته أولى بولدها ما لم تنكح، فأرادت امرأته أن تخرج إلى العراق بولدها منه، وهناك أصلها. قال: فليس لها ذلك. فقيل له: إن لولده ثم ديوان، قال ما أرى ذلك لها. قيل: إذا يهلك ديوانهم يغيبون وهم صغار، قال: هاه! إن كان هكذا فلينظر في ذلك لليتامى، فإن رأى والي اليتيم أن أرفق بهم المقام أقاموا، وإن رأى أن أرفق بهم السير ساروا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس للأم أن تدخل بولدها الذي في حضانتها عن بلد الوصي عليهم وإن كان الأب قد أوصى أنها أولى بولدها ما لم تنكح؛ لأن ذلك من حقها وإن لم يوص لها به الأب مع ألا تغيب بهم إلى بلد آخر عن الوصي، إلا أن يرى ذلك الوصي أو السلطان نظرا للأيتام لئلا يزول بمغيبهم اسمهم عن الديوان الذي كان يرتزق عليه أبوهم فتدركهم الضيعة. [وبالله التوفيق] .
[مسألة: السيد يوصي لأم الولد بنفقتها ما لم تتزوج فيصالحها الورثة على شيء معلوم]
مسألة
وسئل مالك عن أم الولد يوصي لها سيدها بنفقتها ما لم تتزوج، فصالحها الورثة على شيء معلوم، فيدفعونه إليها نقدا ثم تتزوج، أيرجعون عليها بشيء؟ [قال: لا يرجعون عليها بشيء] . وقد صالحوها، إنما ذلك لو تركوها على ما أوصى به سيدها.(13/7)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إنه إذا لم يمض الورثة الوصية لها على حالها وصالحوها عنها على شيء دفعوه معجلا إليها، فلا رجوع لهم عليها إن تزوجت قبل أن تستنفد في الإنفاق على نفسها [ما دفعوا إليها، كما أنها إذا استنفدت ذلك في الإنفاق على نفسها] ، فلا شيء لها عليهم وإن لم تتزوج؛ لأن الصلح لما كان على إسقاط الشرط في النفقة، فلا رجوع لهم عليها إن تزوجت. قال عيسى بن دينار في رسم أوصى بعد هذا من سماعه: وكذلك إن ماتت بعد ذلك بيوم أو يومين، ولا لها عليهم إن لم تتزوج بعد فناء ما قبضت منهم. وكذلك لو أوصى لها بوصية على ألا تتزوج، فقالت: على الثلث فردت إلى الثلث، ثم تزوجت، فلا ينتزع منها شيء؛ لأن الوصية لم تنفذ لها على وجهها، حكاه ابن المواز فيما أظن عن ابن القاسم، وهو قول ابن القاسم في رسم العرية من سماع عيسى في الذي يوصي أن ينفق على رجل ما عاش، فلم يحمل الثلث نفقة تعميره أنه إن لم يجز الورثة كان ما صار له من الثلث بتلا يدفع إليه، وليس للورثة أن يرجعوا عليه بشيء، وإن مات بعد ذلك بيوم؛ لأنهم قد خيروا في أن ينفذوا وصية صاحبهم، وفي أن يقطعوا له بالثلث بتلا، فاختاروا القطع له بالثلث بتلا، ولا فرق بين المسألتين في المعنى، وبالله التوفيق.
[: أوصى لنفر خمسة بنفقتهم ما عاشوا]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال: وسألته عمن أوصى بوصايا، فأوصى لنفر خمسة بنفقتهم ما عاشوا. ونزلت بالمدينة، فقال: أرى أن يعمر الخمسة النفر سبعين سبعين سنة كان له منهم عشرون سنة، حرص له بنفقة خمسين سنة تمام السبعين، ومن كان له منهم أقل من ذلك أو أكثر، فعلى(13/8)
هذا؛ لأني أرى السبعين من أعمار الناس اليوم، وما هو بالأمر الثابت، ثم يجمع لهم ما صار لهم جميعا في المصلحة، فيوضع على يدي عدل، فينفق منه عليهم ما عاشوا، فكلما مات منهم إنسان، رد ذلك على أهل الوصايا حتى يموتوا من آخرهم، فإذا مات الخمسة من آخرهم ثم رجع ما فضل إلى أهل الميراث، لا يرجع إلى أحد من أهل الميراث شيء حتى لا يبقى أحد من الخمسة، حتى إذا ماتوا رجع ما فضل إلى أهل الميراث، إلا أن يكون كانت معهم وصايا قصر عنهما الثلث، فيحاصونه فأرى إذا مات الخمسة أن يتم لأهل الوصايا وصاياهم، فما فضل كان لأهل الميراث. قال: وإن استنفدوا ذلك قبل أن يموت، فلا شيء لهم، لا يرجعون بشيء مما أوصى لهم به على أهل الوصايا حتى لا يبقى من الخمسة أحد.
قال: والسبعون من أعمار الناس، وإنما جرأني على أني قررت لهم سبعين، أني قد علمت أن منهم من لا يستكمل السبعين، فصار في المال فضل يستنفقونه ما عاشوا، حتى يستوفوا وصاياهم قال: وأنا أرى أن يكون لهم فيما يعرض لهم من النفقة، الماء والحطب والدهن والثياب، لا أدري ما الصوف؟ وأرى ذلك للمرأة على زوجها وللموصى لهم بالنفقة مثله:
قال محمد بن رشد: قد قال بعض الناس في هذه المسألة: إن مذهب ابن القاسم في المفقود أن يعمر سبعين سنة؛ لأنهم جماعة، ولا يمكن في غالب الحال، أن يعيشوا كلهم أكثر من سبعين سنة، وأنه إن كان منهم من يعيش أكثر من سبعين سنة، فسيكون من يموت منهم قبل السبعين، فرأى السبعين عدلا في ذلك؛ لكونهم جماعة، وذلك نص قوله وإنما جرأني على أني قدرت لهم سبعين، أني قد علمت أن منهم من لا يستكمل سبعين، معناه: قد تيقنت ذلك بغلبة ظني؛ إذ لا يصح العلم في ذلك، فإن كان(13/9)
واحدا لما عمره إلا أكثر من سبعين، على قوله في هذه الرواية، وكذلك يلزم على قوله في المفقود، وقد روي عن مالك أنه يعمر سبعين سنة، وإليه ذهب عبد الوهاب، واحتج بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ؛ إذ لا معنى لقوله إلا الإخبار بما يتعلق به الحكم، والله أعلم.
وقد روي عن مالك ثمانون سنة، وروي عنه تسعون سنة. وقال أشهب: مائة سنة. وقال محمد بن عبد الحكم: مائة وعشرون. والذي جرى به العمل ثمانون سنة، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله. وليس هذا موضع التكلم على المفقود وما يلزم في تأجيله. وقد قيل في هذه المسألة قياسا على المفقود: إنه يعمر كل واحد منهم ثمانون سنة، ثمانون سنة، روى ذلك ابن كنانة عن مالك. قال: ولو كانت واحدة لعمرها أكثر، قاله فيمن أوصى أن ينفق على أمهات أولاده. قال: والصواب في مثل هؤلاء أن يعمرن أكثر ما يظن أن يعشن؛ لأنهن إن متن قبل ذلك، رجع الباقي إلى الورثة، وإن تجاوزن التعمير، هل كن دون نفقة؟ وقيل: تسعون تسعون، وقول ابن القاسم أعدل؛ لكونهم جماعة على ما ذكره. وقوله: إنهم إذا عمروا سبعين سبعين فتحاصوا مع أهل الوصايا في الثلث إذا لم يحمل جميع ذلك الثلث: إنه يوقف ما صار لهم في المحاصة، فإن ماتوا قبل أن يستنفدوه، رجع الفضل إلى أهل الوصايا، فاستكملوا منه وصاياهم، وكان الفضل للورثة، وإذا استنفدوا ما وقف لهم قبل أن يموتوا، لم يرجعوا على أهل(13/10)
الوصايا، هو قول ابن القاسم أيضا في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ. قال: والقياس أن يرجعوا على أهل الوصايا إذا استنفدوا ما صار لهم في المحاصة قبل أن يموتوا فيعمروا ثانية، ويرجعوا على كل واحد منهم بقدر ما صار له في نصيبه، وهو اختيار أشهب، كما يرجع أهل الوصايا فيما فضل مما وقف لهم إن ماتوا قبل أن يستنفدوه. واختار أصبغ استحسانا أن يكون ما صار في المحاصة لكل واحد منهم بتلا، فلا يرجعون على أهل الوصايا إن استنفدوا ما صار لهم في المحاصة قبل أن يموتوا، ولا يكون لأهل الوصايا شيء مما صار لهم في المحاصة إن ماتوا قبل أن يستنفدوه. قال: ولا أعلم ابن القاسم إلا قد رجع إليه وقاله. وكذلك إن لم يكن معهم أهل وصايا، فلم يحمل الثلث نفقة تعميرهم فأبى الورثة أن يجيزوا لهم الوصية، وقطعوا لهم بالثلث إن ماتوا قبل أن يستنفدوا الثلث، رجع الفضل إلى الورثة على هذه الرواية، وعلى ما اختاره أصبغ، وحكى أنه لا يعلم ابن القاسم إلا وقد رجع إليه، وقاله ابن القاسم أيضا في رسم العرية من سماع عيسى لا يرجع الفضل إليهم وإن ماتوا بعد ذلك اليوم، ويكون الثلث الذي قطع لهم الورثة مبتولا لم يورث باقيه عنهم، ولا يرجع شيء منه إلى الورثة، وأما إن حمل الثلث نفقة تعميرهم والوصايا، أو نفقة تعميرهم إن لم يكن معهم أهل وصايا، فلا اختلاف في أنهم إن ماتوا قبل أن يستنفدوا نفقة تعميرهم، يرجع الفضل إلى الورثة، وإن عاشوا أكثر مما عمروا رجعوا على الورثة فيما كان بقي لهم من الثلث، وإن ناب الموصى نصف وصاياهم، لم يعطوا من ذلك في كل شهر إلا نفقتهم كاملة، لا نصف نفقة أي نفقة كل شهر، قاله المغيرة وابن كنانة. وفي قول ابن القاسم في هذه المسألة: إنه يكون لهم فيما يفرض لهم من النفقة الماء، والحطب والدهن والثياب، لا أدري ما الصوف؟ أي الثياب التي تصاف لمثل جمعة وغيرها، دليل على أن من التزم نفقة رجل يلزمه كسوته؛ لأنها من النفقة، وهذه مسألة كان الشيوخ يختلفون فيها. ويتخرج فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الكسوة داخلة تحت لفظ النفقة بظاهر اللفظ،(13/11)
وهو دليل قوله في هذه الرواية، والحجة لذلك قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] لإجماع أهل العلم أن لهن النفقة والكسوة. فعلى هذا القول، إن قال ملتزم النفقة لم أرد بما التزمت إلا الطعام دون الكسوة، لم يصدق. والثاني: أن الكسوة غير داخلة تحت لفظ النفقة بدليل ما وقع في كتاب الرواحل والدواب من المدونة من إجازة استئجار الأجير بنفقته.
وقوله: إنه إن اشترط الكسوة، فلا بأس بذلك، إذ لو كانت الكسوة داخلة في النفقة عنده لما احتاج إلى اشتراطها، فعلى هذا لا يلزم من التزم النفقة الكسوة، إلا أن يتطوع بها أو يقر على نفسه أنه أرادها.
والثالث: أن دخول الكسوة تحت لفظ النفقة ليس بظاهر من اللفظ، وإنما هو محتمل له احتمالا ظاهرا، فإن قال الملتزم على هذا القول: لم أرد الكسوة صدق دون يمين، أو بيمين على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، وإن قال: لم تكن لي نية، ألزم إياهما جميعا. وقال عبد الملك لا يفرض للموصى له بالنفقة الخدمة ولا يكون ذلك له إلا بوصية من النوادر، وهو ظاهر ما يأتي في رسم أوصى من سماع عيسى والذي أقول به: إذا كان الموصى له بالنفقة لا يستغني عن الخدمة فيدخلها من الخلاف ما دخل الكسوة، وبالله التوفيق.
[مسألة: لا يجوز للوصي أن يدفع إلى اليتيم من من ماله]
مسألة وسئل فقيل له: إن عندي يتيما قد أخذ بوجهه، والذي له عندي ستون دينارا، وقد سألني أن أعطيه خمسة عشر دينارا يتجه بها إلى خاله بمصر، يرجو صلته ونفعه، أفترى أن أعطيه؟ فقال: ما أرى ذلك يجوز، وما أرى أن تعطيه إلا بأمر السلطان، وما لك تدعه يخرج إلى مصر؟، فقال: إنه رجل قد أخذ بوجهه، وهو يغلبني ولو(13/12)
أطاعني لم يخرج، فقال: إذا أعطيته قوي على الخروج، فقال: أرأيت أن يحمل لي رجل بها يضمنها إن طلبت مني؟، فقال: لا أرى أن تدفعها إلا بأمر السلطان.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال أنه لا يجوز للوصي أن يدفع إلى اليتيم من ماله إلا ما لا بد له منه في نفقته وكسوته، فلا ينبغي له أن يساعده فيما يذهب إليه من التجهز إلى خاله بخمسة عشر دينارا يدفعها إليه من ماله؛ إذ ليس ذلك بوجه نظر له؛ لأن ما يرجوه من خاله، ليس على يقين منه، ولعله يتلف ما يصله له إن وصله، فيذهب ما دفع إليه من ماله في غير وجه منفعة، فلذلك لم ير له أن يدفعها إليه إلا بأمر السلطان؛ لأنه إن دفعها إليه بغير أمره ضمن، وإذا أمره السلطان أن يدفعها إليه بأمره برئ هو من ضمانها، والسلطان لا يأمر بذلك، إلا أن يثبت عنده ما يوجبه وبالله التوفيق.
[مسألة: كاتبه سيده وأوصى إليه فسأله بعض مواليه عما ربح فيه]
مسألة وسئل فقيل له: إن سيدي كاتبني وأوصى إلي، فسألني بعض موالي، وهو ولد سيدي عما ربحت فيه، وأنا عند الناس كما أحب، أفذلك علي؟ قال له: لا أرى ذلك عليك. أليس ما في يديك مالا معروفا؟ قال: بلى، ولكنه يريد أن يعلمه ويعلم ما ربحت فيه، فقال: ما أرى ذلك عليك، فقال له: إنني غلام مولد ولدت باليمن، قد علم ذلك الذي اشتراني منها، فأنا إذا انتسبت في كتابي قلت: فلان بن فلان مكاتب فلان وذلك نسبتي قال: لا بأس بذلك.
قال الإمام القاضي: قوله: إن سيدي كاتبني وأوصى إلي، يريد أنه أوصى إليه بالنظر على بنيه، فلم ير عليه أن يخبر بما ربح في مال الميت الذي هو ناظر فيه لولده؛ لأن الوصي لا يلزم أن يكشف عما بيده، ولا يخبر به إلا أن(13/13)
يخاف عليه أن يكون قد أتلفه، وهو محمول على الأمن في ذلك حتى يثبت خلاف ذلك من حاله، فإذا كان ما في يديه من المال معروفا، فلا يلزم له أن يكشف عنه ولا أن يخبر بما ربح فيه؛ لأن في ذلك غضاضة عليه؛ إذ لا يفعل ذلك إلا بمن لا يوثق به، وسيده ائتمنه ووثق به، فهو محمول على ذلك. وقد قال في رسم حلف في المرأة الموصى إليها بولدها إذا تزوجت: إنها لا يُكشف عما بيدها إلا إذا خيف على المال عندها. وقد مضى الكلام عليها فلا معنى لإعادته. وقوله: إنه يكتب إذا انتسب في كتابه أي في كتابة شهادته وفيما يشهد به على نفسه في إذكار الحقوق وشبه ذلك، فلان بن فلان يريد ما دام مكاتبا، فإذا أدى كتابته قال في انتسابه: فلان بن فلان مولى فلان. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في ثلاث أمهات أولاده أن ينفق عليهن ثلاث سنين]
مسألة وسئل عمن أوصى في ثلاث أمهات أولاده أن ينفق عليهن ثلاث سنين، وبخادم تخدمهن حياتهن، ثم هي حرة، على من نفقة الخادم؟ أعلى الموصي أم على أمهات الأولاد؟ فقال: أما الثلاث سنين، فأرى أن ينفق عليهن وعليها سوى نفقتهن من مال الميت، فإذا مضت الثلاث سنون فلينفقن عليها من عندهن، وليس على الميت نفقتهن، وإن كان سمى لهن في الثلاث سنين نفقة معلومة فليس لهن غير ذلك، ونفقة الخادم عليهن.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما يأتي في رسم أوصى من سماع عيسى سواء، وإنما قال في نفقة الخادم في الثلاث سنين التي أوصى فيها بالنفقة على أمهات أولاده: إنها من مال الميت؛ لأنها من جملة النفقة عليهن، فعلى هذا لو لم يوص لهن بخدمة الخادم لكانت الخدمة عليه لهن في الثلاث سنين من جملة النفقة، كالكسوة، قال فيها في أول مسألة من(13/14)
الرسم: إنها تفرض للموصى لهم بالنفقة في جملة النفقة.
وقد مضى الكلام على ذلك في تكلمنا عليها. وأما قوله في النفقة عليها بعد الثلاث سنين: إنها عليهن، لا في مال الميت، فهو المشهور في المذهب، فإن نفقة المخدم على الذي أخدم إياه، لا على سيده الذي أخدمه، وقد قيل: إنها على السيد المخدم، وقيل: إنها إن كانت الخدمة يسيرة فالنفقة على السيد، وإن كانت كثيرة أو حياة المخدم، فالنفقة على المخدم، وقيل: إن الاختلاف إنما هو في الخدمة الكثيرة، ولا اختلاف في الخدمة اليسيرة أنها على رب العبد الذي أخدمه، ذهب إلى هذا سحنون. والأول أصح. إن في المسألة ثلاثة أقوال. وأما إذا سمى لهن في السنين الثلاثة نفقة معلومة فلا يزاد على ذلك وتكون نفقة الخادم عليهن في الثلاث سنين وغيرها وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل في وصيته بثلاثمائة دينار وبمسكن سرائه على أهل الوصايا]
مسألة وسئل عمن أوصى لرجل في وصيته بثلاثمائة دينار وبمسكن سرائه على أهل الوصايا، ثم أقام الموصي ثمان سنين، ثم أوصى بوصية أخرى، فأوصى فيها أن لفلان كذا، ولفلان كذا بوصايا غير واحدة ولفلان ألف دينار، وهو الذي كان أوصى له في الوصية الأولى بالثلاث مائة دينار وبالمسكن، ثم ذكر وصايا، فقال: لفلان كذا وكذا، ولفلان كذا لغيره، ثم قال: وقد زدت فلانا مع ألف مائة دينار، قال مالك أما المسكن الذي أوصى له به في الوصية الأولى فهو له مبدأ على الوصايا، وأرى أن ينظر في الألف والمائة التي أوصى له بها في الآخر، ولم يجعلها مبدأة(13/15)
فيعاول بها أهل الوصايا فإن صار له أكثر من الثلاثمائة التي أوصى له بها في الأولى مبدأة كانت له، ولم يكن له الثلاثمائة؛ لأنها دنانير كلها، أيهما كان أكثر كان له، إن كان ما صار له في العول أكثر من الثلاثمائة التي أوصى له أن يبدأ بها، كان ذلك له، ولم تكن له الثلاثمائة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، أن الموصى له بوصيتين من نوع واحد وصفة واحدة، دنانير أو دراهم أو طعام أو حيوان أو عروض، يكون له الأكثر من الوصيتين، كانتا الأولى أو الأخيرة. وإن كانت الوصيتان من نوعين أو على صفتين، كانت له جميعا. وقد روي عن ابن القاسم أن الدراهم والدنانير في هذا النوع واحد، يكون له الأكثر منهما خلاف ما ذهب إليه مطرف وابن الماجشون وروياه عن مالك، من أنه إن كانت الوصية الثانية أقل، أو كانتا سواء، كانتا له جميعا؛ لأن أمره يحمل على أنه إنما أراد بالثانية الزيادة على الأولى، وإن كانت الثانية أكثر، كانت له دون الأولى. قال ابن الماجشون: وذلك إذا كان ذلك في كتاب واحد بينهما وصايا لغيره، وأما إن كان بينهما كلام من غير الوصية، فإنه يكون له الوصيتان جميعا، وإن كانت الثانية أكثر من الأولى، بمنزلة إذا عطف الوصية الثانية على الأولى، فقال: لفلان عشرة، ولفلان ذلك بعينه، عشرون، قال: ولو قال: لفلان عشرة، لفلان عشرون بغير واو، لم يكن له إلا العشرون. وأما إن كان ذلك في كتابين، فإنما له الأكثر من الوصيتين. وقال مطرف: سمعت مالكا فرق بين أن تكون الوصيتان في كتاب واحد، أو في كتابين، وذلك عندي سواء والدينار والدرهم عند مطرف وابن الماجشون في الوصية نوع واحد، على التفصيل الذي ذكره من الفرق بين أن تكون الوصية الآخرة هي الأقل أو الأكثر وبالله التوفيق.(13/16)
[مسألة: أوصى إلى رجل بوصية ليس فيها إلا شاهد واحد]
مسألة وسئل عمن أوصى إلى رجل بوصية ليس فيها إلا شاهد واحد، أيحلف الوصي مع الشاهد ويثبت ذلك له؟ فقال: لا يحلف، ولا يثبت ذلك له، إلا أن يرى ذلك السلطان في رضاه، أو من ينظر في ذلك فيوليه إياه، وليس يحلف الذي أوصي إليه مع الشاهد، وليس ذلك مثل الذي يوصي له بالشيء له عليه شاهد واحد؛ لأن هذا يحلف على شيء هو له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن من أوصى إلى رجل فلا يستحق الموصى إليه الإيصاء باليمين مع الشاهد، إذ ليس بمال يحلف عليه مع شاهده ويأخذه، كما أن الوكالة لا تثبت باليمين مع الشاهد، ولا شهادة الشاهد، لو شهد لرجل شاهد على شهادته شاهد، لم يصح للمشهود له أن يحلف مع الشاهد على شهادة الشاهد، فيستحق بذلك شهادته، ويثبت الإيصاء على تنفيذ الوصية بالمال بشاهد وامرأتين، كما تثبت بذلك الوكالة على المال، وكذلك إذ شهد شاهد وامرأتان على شهادة شاهد بمال، جاز ذلك على مذهب ابن القاسم، فهذه الثلاثة أشياء، تجوز فيها شهادة النساء، ولا يجوز فيها اليمين مع الشاهد، إذ ليس كل موضع تجور فيه شهادة النساء يجوز فيه اليمين مع الشاهد، وأما كل موضع يجوز فيه اليمين مع الشاهد، فإنه يجوز فيه شهادة النساء. وسحنون يقول. إن كل موضع يجوز فيه شهادة النساء، يجوز فيه شاهد ويمين؛ لأن من أصله، أن شهادة النساء لا تجوز إلا فيما يجوز فيه شاهد ويمين، خلاف مذهب ابن القاسم، ولو شهد الوصي الصغير أن الميت أوصى له بدنانير لم تقبل شهادته؛ لأنه يتهم على توقيعهما له بيده حتى يبلغ فيحلف، قاله محمد بن المواز. فإن خفي له الأمر، فليدفعها إليه. قاله أشهب. وهو صحيح وبالله التوفيق.(13/17)
[مسألة: دخل عليه قوم فدعا بوصية قد كتبها فقال اشهدوا على ما فيها]
مسألة وسئل عمن دخل عليه قوم فدعا بوصية قد كتبها قبل ذلك بأيام من عند أهله، فقال: اشهدوا أن ما فيها حق وأنها وصيتي، أيقولون: اقرأها فإنها قد كانت بيد أهلك؟ فخاف أن يكونوا زادوا فيها. قال: ليس ذلك عليهم، وعليهم أن يشهدوا، من الناس من ليس له في البيت أحد، ومنهم من يكون له صندوق يحمل فيه كتبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين، إذ هو أعرف بصحة ما يشهد به على نفسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بثلاثين دينارا ولرجل بثلث ثلثه وللآخر بما بقي من الثلث]
مسألة وسئل عمن أوصى لرجل بثلاثين دينارا ولرجل بثلث ثلثه، وللآخر بما بقي من الثلث، فكان مال المتوفى دينا على الناس، فاستأجر الموصى إليه على تقاضي ذلك الدين بعشرة دنانير فأراد أن يأخذ من وصايا أهل الوصايا بقدر الذي يصيب الذين أوصى لهم به من إجازة التقاضي. قال: إن كان في الثلث فضل، فإنما تلك الأجرة من ذلك الفضل، وليس على الموصى لهم شيء، قال سحنون قال ابن نافع: وإن لم يكن في ذلك فضل كان ذلك عليهم في حظوظهم.
وسئل عمن أوصى لرجل بثلاثين دينارا، ولرجل بثلث الثلث، ولرجل بما بقي من الثلث، وترك مالا يكون ثلثه تسعين دينارا، والمال دين على الناس، فاستؤجر على تقاضيه بعشرة دنانير،(13/18)
أيدخل على أهل الوصايا من العشرة شيء أو لا شيء عليه؟ فقال يخرج العشرة التي استؤجر بها من رأس المال، ثم تكون وصية الميت فيما بقي من ماله بعد العشرة، يعطى الذي أوصى له الميت بالثلاثين الثلاثين، ويعطى الذي أوصى له بثلث ثلث، ثلث المال بعد إخراج العشرة التي استؤجر بها على تقاضيه، ويعطى الذي أوصى له بما بقي له من الثلث ما بقي من الثلث، إنما يدخل نقصان تلك العشرة على الذي أوصى له بثلث الثلث، وعلى الذي أوصى له بما بقي من الثلث: إن ارتفع المال كثر الثلث، وإن انخفض المال قل الثلث. قال سحنون: وقال ابن نافع: العشرة تدخل عليهم كلهم في حظوظهم، على صاحب الثلاثين "وعلى الموصى له بثلث الثلث، وهما سواء في ذلك بمنزلة واحدة، وإنما هذا الذي ذكر قول مالك قديم، حين كان يقول: أرى أن تبدأ التسمية على الأجزاء، وقول مالك إن كان من أوصى لرجل بثلث ولآخر بثلث الثلث، ولآخر بعشرة فإن هؤلاء كلهم يتعاولون.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى: إن كان فيه فضل فإنما تلك الأجرة من ذلك الفضل، وليس على الموصى لهم شيء، معناه عندي: إن كان لم يوص ببقية الثلث لأحد، وكان فيه فضل عن الوصايا، مثل أن يوصي الرجل بعشرة دنانير، ولآخر بثلث الثلث، ويترك المتوفى تسعين دينارا دينا فيستأجر على تقاضيها بتسعة دنانير بالثلث ثلاثون، يكون منه للموصى له ثلث الثلث، عشرة دنانير، وللموصى له بالعشرة دنانير، عشرة دنانير، وتكون الأجرة من العشرة الفاضلة من الثلث، ولا خلاف عندي في هذا الوجه بين مالك وابن نافع. وأما إن لم يكن في الثلث فضل، مثل أن يكون المال خمسة وأربعين؛ لأنه إذا أخذ الموصى له بالعشرة عشرة، والموصى له بثلث الثلث خمسة، نفذ جميع الثلث، فهنا يدخل الخلاف(13/19)
الذي ذكره بين مالك وابن نافع، فذهب مالك إلى أنه يخرج الأجرة من رأس المال، فإن كانت في التمثيل خمسة عشر، يبقى منه ثلاثون، ثلثه عشرة يكون للموصى بالعشرة على القول بأنه تبدأ التسمية على الجزء، ويتحاصان فيها على القول بأنه لا تبدأ التسمية على الجزء، فتكون العشرة بينهما بنصفين؛ لأن ثلث الثلث عشرة أيضا. وذهب ابن نافع إلى أن تكون مفضوضة على المال كله، فيكون على كل واحد من الموصى لهم ما ينوبه منها، فيأخذ الموصى له بثلث الثلث، خمسة دنانير، والموصى له بالعشرة عشرة فإن كانت الأجرة في التمثيل تسعة دنانير، على الورثة ثلثها، ثلاثة دنانير، وعلى الموصى لهما على قدر وصاياهما فيكون منها على الموصى له بعشرة دنانير ديناران، وعلى الموصى له بثلث الثلث دينار، فيبقى للموصى له بثلث الثلث أربعة دنانير، وللموصى له بالعشرة دنانير، ثمانية دنانير، وللورثة أربعة وعشرون. وكذلك يختلف مالك وابن نافع أيضا إذا أوصى لرجل بعدد مسمى، ولآخر بجزء من الثلث، ولآخر بما بقي من الثلث، والمال دين، فاستأجر على تقاضيه، فذهب ابن نافع إلى أن الأجرة تكون مفضوضة على جميع المال، فيكون على كل واحد من الموصى لهم ما يجب عليه منها، وذهب مالك إلى أنها تسقط من رأس المال فتكون الوصايا على حالها في ثلث ما بقي منه. مثال ذلك، أن يكون الميت أوصى لرجل بعشرين دينارا ولرجل بثلث الثلث، ولآخر بما بقي من الثلث، والمال مائة وخمسون دينارا، فاستؤجر على تقاضيه بخمسة عشر دينارا فذهب مالك إلى أنه يخرج الأجرة من جميع المال، يبقى مائة وخمسة وثلاثون، الثلث من ذلك خمسة وأربعون، يكون للموصى له بعشرين عشرون، وللموصى له بثلث الثلث خمسة عشر، وللموصى له ببقية الثلث ما بقي، وذلك عشرة. وذهب ابن نافع، إلى أن الأجرة تكون مفضوضة على جميع المال، فيكون على الورثة ثلثاها عشرة، وعلى الموصى لهم ثلثها خمسة مفضوضة عليهم، على قدر وصاياهم وهي عشرون للموصى له بعشرين، سبعة عشر إلا ثلثا للموصى له(13/20)
بثلث الثلث، وثلاثة عشر وثلث، للموصى له ببقية الثلث؛ لأن جميع المال على ما نزلناه مائة وخمسون، ثلثه خمسون، فلا يأتي قول مالك وابن نافع في هذه المسألة على اختلاف قول مالك في تبدئة التسمية على الجزء؛ لأنه خارج عن ذلك الأصل، وإنما يأتي قول كل واحد منهما على أصله الذي ذكرته عنه بقوله أراه سحنون، وإنما هذا الذي ذكر قول مالك قديم، حين كان يقول: أرى أن تبدأ التسمية على الأجزاء إلى آخر قوله لا يصح بوجه. ألا ترى أن الخلاف في المسألة بينهما على أصليهما ضاق الثلث عن التسمية والجزء، أو لم يضق عنهما، وهو إذا لا اختلاف في أن كل واحد منهما يأخذ وصيته كاملة، وإذا ضاق عنهما جميعا يدخل اختلاف قول مالك في تبدئة التسمية على الجزء في قول كل واحد منهما. وقد رأيت لابن دحون أنه قال: معنى قوله: إن كان في الثلث فضل، أي إن بقي للموصى له ببقية الثلث فضل، كان ذلك منه. قال: فالضرر يدخل عليه وحده في هذا القول، مثل آن يكون الثلث ستين، فيكون لصاحب ثلث الثلث عشرون ولصاحب الثلاثين ثلاثون وتذهب العشرة الباقية في أجرة من يقاضي إن كان لزم الثلث من الأجرة عشرة، وإن كان لزمه منها أقل من عشرة، كان الباقي للموصى له ببقية الثلث، وإن كان لزمه منها أكثر من عشرة، كان الزائد على العشرة على الموصى له بثلاثين وعلى الموصى له بثلث الثلث على قدر وصاياهم بالمحاصة، فينقض كل واحد منهما على قدر ما له. هذا معنى قوله باختصار كثير من لفظه، فيأتي في المسألة على ما حمل المسألة عليه إذا كان في الثلث فضل للموصى له ببقية الثلث ثلاثة أقوال: أحدها: أن الضرر يدخل عليه وحده. والثاني: أن الضرر يدخل عليه وعلى الموصى له بالجزء، دون الموصى له بالتسمية، وهو قول مالك. والثالث: أن الضرر يدخل على جميعهم، وهو قول ابن نافع، والصواب على ما تأولنا عليه المسألة، وهو تأويل ظاهر في المعنى، يدل عليه قوله: وليس على الموصى لهم شيء، إذ لم يقل: وليس على الموصى لهم سواه شيء؛ لأنه منهم، فلو أراد أن(13/21)
ذلك يكون عليهم دونهم لاستثناه، أنه ليس في ذلك إلا قولان: أحدهما: أن الضرر على الموصى له بالجزء من الثلث، وعلى الموصى له بباقيه، وهو قول مالك، والثاني: أن الضرر يدخل على جميعهم، وهو قول ابن نافع، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان ثم مات وقد هلك بعض رقيقه]
مسألة وسئل عمن أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان، ثم مات وقد هلك بعض رقيقه، وخلق بعض ثيابه، واستفاد رقيقا غير رقيقه، وثيابا غير ثيابه، فقال: للموصى له رقيقه الذين استفادهم وثيابه وما يشبه أن يوصى بسدس ماله، فله سدس ماله يوم يموت.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في أول الرسم الذي بعده، وفي آخر رسم الوصايا الثاني، وفي رسم باع شاة من سماع يحيى في غيرما موضع، أنه إذا عم في وصيته، فقال ثيابي أو رقيقي أو غنمي أو دوابي وما أشبه ذلك لفلان، أو صدقة على المساكين، أو أحرار في الرقيق وما أشبه ذلك، فاستبدل بهم، أو استفاد غيرهم إليهم، أن وصيته تنفذ فيمن كان من ملكه يوم مات مما سمى، كانوا هم الذين كانوا في ملكه يوم أوصى أو غيرهم، أو هم وغيرهم؛ بخلاف إذا عينهم أو عين واحدا منهم، فإن وصيته لا تتعداهم إن عينهم أو عين واحدا منهم. والعبد وما أشبهه من العروض والحيوان تتعين بالإشارة إليه باتفاق، فإذا قال الرجل. إن مت فهذا العبد لفلان، أو هذا الدرع لفلان وما أشبهه، فهلك واستفاد غيره مكانه، أو استبدل به سواه، فلا تنتقل الوصية إليه باتفاق، فإن قال: عبدي لفلان، ولا عبد له سواه، أو درعي لفلان، ولا درع له سواه، أو سيفي لفلان، ولا سيف له سواه، يتخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه تعين بإضافته إليه، ولا تنتقل الوصية إلى غيره إن استبدل به سواه، والثاني: أنه لا يتعين بذلك، وتتنقل الوصية إلى غيره إن استبدل سواه، على اختلافهم فيمن حلف أن لا يستخدم عبد فلان،(13/22)
فاستخدمه بعد أن أعتق، أو بعد أن خرج عن ملك فلان، وما أشبه ذلك. ومما يبين دخول الاختلاف في ذلك، أن ابن أبي زيد قد حكى في النوادر من رواية أشهب عن مالك فيمن أوصى لأخيه بسيفه، أو بدرعه، فيهلك ذلك ثم يخلفه، فهو للموصى له، كما لو أوصى له بحائط فتنكسر منه النخلات ويغرس فيه رديا أو نبت فيه رديئي أو يزرع فيه زرعا فذلك له. قال: وهذا الذي أراد الميت، فأما لو أوصى له بعبد فمات العبد، فأخلف غيره، فبخلاف ذلك، وظاهر هذه الرواية، أنه فرق في ذلك بين العبد وبين السيف والدرع، ولا فرق في القياس بين ذلك، فيتحصل في ذلك على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يتعين بذلك العبد والدرع، والثاني: أنه لا يتعين بذلك واحد منهما. والثالث: أنه يتعين به العبد، ولا يتعين به الدرع والسيف، وما أشبهه، وكذلك اختلف أيضا هل يتعين العبد في هذا بالتسمية والصفة أم لا؟ فذهب ابن القاسم إلى أنه يتعين بذلك. قال في رسم باع شاة من سماع عيسى بعد هذا: أما من قال: رقيقي أحرار، فباعهم واشترى غيرهم، فإنهم يعتقون، ومن قال: عبدي النوبي حر أو الصقلبي فباع ذلك كله، واشترى عبدا نوبيا أو عبدا صقلبيا، لم يعتق واحد منهم. ومما بيّن ذلك لك في الذي قال: رقيقي أحرار أنهم يعتقون إذا باعهم واشترى غيرهم أنه لو لم يبعهم واشترى غيرهم معهم عتقوا كلهم، وإن الذي قال: عبدي النوبي أو عبدي الصقلبي أو عبدي ثم اشترى عبدا غير عبده، أو عبدا نوبيا أو صقلبيا لم يعتق أولئك الذين أراد، وكذلك إذا باعهم، فإنما العتق فيهم. وقال أشهب: يلزمه العتق في جميع هذا، وكذلك لو قال: عبدي ميمون حر، ثم باعه واشترى عبدا اسمه فرج لم يجب عليه عتقه، فإن سماه ميمونا كاسمه الأول، وجب عليه عتقه. ولو قال عبدي الأسود حر فباعه واشترى أبيض، لم يعتق عليه، فإن اشترى أسود مثل الأول، أعتق. هذا مذهب أشهب. ولو قال: أعبدي المسلمون أحرار بعد موتي، فأسلموا لم يعتقوا لأنه لم يردهم، ولو اشترى مسلمين، عتق من كان عنده. وبالله التوفيق.(13/23)
[: امرأة أوصت بثيابها لإنسان فذهب بعض ثيابها]
وله من كتاب الوصايا قال أشهب: وسمعته يسأل عن امرأة أوصت بثيابها لإنسان، فذهب بعض ثيابها، واستخلفت ثيابا غيرها، ثم ماتت، فقال: أما ما استخلفت فهو للذي أوصت له، فثيابها كلها له، وكذلك لو قالت: متاع بيتي لفلان، فتنكسر الصحفة، ويذهب الشيء، ويخلف مكانه، فأرى ذلك كله له، أو تقول: ثيابي لفلان، فما أخلقت فهو له، وذلك الذي أرادت الميتة. وعسى أن يكون إنما كرهت أن تفتش ثيابها أو يتناولها عدوها. وكذلك الذي يقول: سلاحي لابني، فيذهب سيفه ودرعه، ويشتري بسيفه آخر، ودرعا آخر، فذلك له. ومثل ذلك الذي يقول: حائطي لفلان، فتكسر النخلات، وتموت، ويغرس فيه رديا وينبت فيه قصب، ويزرع فيه زرعا فذلك له. وهو الذي أراد الميت، فقيل له: أرأيت الذي يقول: غلامي لفلان، فيموت الغلام، ويستخلف غيره؟ فقال: العبيد ليسوا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: وكذلك الذي يقول: سلاحي لابني فيذهب سيفه ودرعه، ويشتري سيفا آخر ودرعا آخر فذلك له، معناه: فذلك له بالوصية إن أجازه الورثة؛ لأن الوصية لوارث لا تجوز، إلا أن يجوزها الورثة.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة فوق هذا في آخر الرسم الذي قبل هذا فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(13/24)
[مسألة: امرأة كانت أوصت أن تباع وصيفة لها صبية ممن أحبت وللصبية أم]
مسألة وسئل عن امرأة كانت أوصت أن تباع وصيفة لها صبية ممن أحبت، وللصبية أم، فقال: لا يفرق بينها وبين أمها، فقيل له: إن أمها قد أحبت ذلك، قال: إن كانت أحبت ذلك أمها، فإن ذلك جائز إذا كان على وجه النظر للصبية، يضعها عند من وقعت رحمته عليها ومن نظر أنه يرفق بها ويرحمها، فهذا يجوز إذا كان على هداه.
قال محمد بن رشد: اختلف في المنع من التفرقة، هل هي من حق الأم أو من حق الولد؟ فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك من حق الولد، فلا يفرق بينهما وإن رضيت الأم بالتفرقة، وهو معنى ما في المدونة وقول ابن نافع في المجموعة، قال: لا يفرق بينهما وإن رضيت الأم، ويباع معها، ولا يوضع من ثمنها، كما يوضع من ثمن الأمة على ظواهر الأثر في النهي عن التفرقة مجملا. وقال ابن عبد الحكم في كتابه: إن التفرقة بينهما جائزة إذا رضيت الأم، وهو قول مالك في هذه الرواية وقد قيل: إن ذلك دليل ما في كتاب التجارة إلى أرض الحرب من المدونة فانظر في ذلك، واختلف أيضا في حد التفرقة، فذهب ابن القاسم في روايته عن مالك، أن حدها الإثغار. روى ابن غانم عن مالك، أن حدها الاحتلام في الرجال، والمحيض في النساء. وقال ابن عبد الحكم وغيره: لا يفرق بينهما أبدا وإن ضرب على اللحية على ظاهر قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا توله والدة على ولدها، ولا يفرق بين الوالدة وولدها» . وبالله التوفيق.(13/25)
[مسألة: أوصت فقالت ما في بيتي لمولاتي فلانة فقالت المولاة ثياب ظهرها لي]
مسألة قال وسمعته يسأل عن امرأة أوصت فقالت: ما في بيتي لمولاتي فلانة، فقالت المولاة ثياب ظهرها لي، فقال: إذا كانت المرأة لا ولد لها وكانت مولاتها نفيسة عندها، ولم تكن ثيابها الثياب الرائعة التي يظن بها أنها تصونها عن مثلها، ولم تقل: متاع بيتي، إنما قالت: ما في بيتي رأيت ذلك لها، وعسى أن تكون أرادت أن تكف ثيابها. فقيل له: أرأيت إن كان لها ثياب مرهونة؟ فقال: إنما قالت: ما في بيتي فأما أن يكون لها ثياب عند أخت لها أو مرهونة، فلا. فقيل له: أرأيت ما ماتت وهو عليها من ثيابها، وماتت في البيت، أتراها مع ثيابها التي في البيت؟ فقال: أرى لها، وإني لأحسب الثياب التي عنها ورثتها دنية، وأن الثياب التي في البيت أجود منها، وما أراها كانت تعطيها ثيابا وتمنعها هذه. وقد ذكر في غير هذه المسألة ما يشبه هذا القول، ولم تذكر نفيسة ولا غيرها، ولم تذكر دناءة الثياب ولا رفعتها، ولكن هذا مرسل إلا أنه سأل فقال: من ورثتها؟ فقيل: لم يرثها ولد.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيِّن على ما قاله؛ لأن ما لم ينص الموصي عليه نصا جليا وإنما يرجع فيه إلى الظاهر، فيستدل فيه على إرادة الموصي بالأشياء التي سأل عنها وشبهها مما يغلب على الظن بها إرادة الموصي؛ لأن الأصل في الأحكام الظاهرة غلبة الظنون، إذ لا يقطع على مغيبها. ولذلك قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» . وبالله التوفيق.(13/26)
[مسألة: أوصى لرجل بمائة درهم فقال أعطوه إياه وخذوا منه خمسة دنانير لي عليه]
مسألة قال وسمعته يسأل عمن أوصى لرجل بمائة درهم، فقال: أعطوه إياه وخذوا منه خمسة دنانير لي عليه، فقال الموصى له: ما له علي شيء، فأطرق فيها ثم قال: ما أراه إعطاه المائة الدرهم إلا على هذا، فلينظر، فإن كان في المائة الدرهم فضل عن الخمسة الدنانير أعطاها الموصى له في رأي، وإن كانت الخمسة أكثر من المائة الدرهم، أحلف فيما فضل في رأي، وإن لم يحلف غرمها، فقيل له: يحلف وإن لم تكن بينهما مخالطة، قال: وإن لم تكن بينهما مخالطة ليس المخالطة ها هنا شيئا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المدعى عليه يحلف من غير مخالطة، صحيح؛ لأن الورثة لا يعلمون من يشهد لهم بالخلطة، وهذه المسألة هي إحدى الخمسة المسائل التي يجب اليمين فيها دون خلطة.
وقد مضى القول فيها في سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وسواء ادعى الورثة معرفة الدين قبله، أو قالوا لا ندري إلا ما ادعاه موروثنا. وأما قوله: فإن لم يحلف غرمها، فمعناه، بعد أيمان الورثة إن ادعوا معرفة الدين قبله باتفاق، وإن لم يدعوا معرفتهم إياه قبله، فعلى اختلاف، والمسألة متكررة في هذا السماع من كتاب المديان والتفليس. وبالله التوفيق.(13/27)
[مسألة: أوصت في مرضها إن حدث به حدث قبل أن أغير وصيتي فلولد فلان عشرة دنانير]
مسألة قال وسمعته يسأل عن امرأة أوصت في مرض لها إن حدث به حدث قبل أن أغير وصيتي، فلولد فلان عشرة دنانير، لكل إنسان منهم، فولد لذلك الرجل قبل موتها ولد، ومات ابنان من الذين كانوا له يوم أوصت، فقال: أما اللذان ماتا فليس لهما شيء، وأما من ولد له قبل أن تموت فلهم عشره عشرة، ممن ولد قبل موتها ومن كان مولودا يوم أوصت لهم.
قال محمد بن رشد: حكم لولد فلان الموصى لهم في هذه المسألة بحكم معينين، فقال: إن الوصية تجب لكل من كان منهم حيا يوم ماتت الموصية، وإن كان ولد بعد الوصية إذا كان مولودا قبل موت "الموصية؛ لأن الوصية إنما تجب لهم بموتها، وذلك بين في هذه المسألة، لمساواتها بينهم فيما أوصت به لكل واحد منهم، فليست بمعارضة لمسألة رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ولا يدخل فيها الاختلاف منها، ولا من مسألة الوصايا من المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولاده. قال أشهب في النوادر: وسواء عرفت عددهم أو لم تعرفهم قال: ولو سمتهم لم يكن لمن ولد قبل موتها شيء. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بجميع ماله]
مسألة وسمعته يقول لما توفي إسماعيل بن عبيد الله المقري تصدق بكل شيء هلك عنه، فرفع ذلك إلى هشام بن عبد الملك، فأجاز ثلثه ورد ثلثيه.
قال محمد بن رشد: إنه لم يكن له وارث، ولذلك أوصى بجميع ماله. ولقد أجاز ذلك له جماعة من العلماء إذا لم يكن له وارث، وهو مذهب أهل العراق، ولا يجوز ذلك على مذهب مالك وأصحابه. فما قضى به هشام(13/28)
من إجازة الثلث ورد الثلثين صحيح على مذهب مالك. وقد راعى مالك هذا الاختلاف فيمن أقر بوارث، فقال: إنه بإقراره أنه وارثه، وإن لم يثبت له نسب بإقراره له. وسحنون يرى بيت المال كالسبب القائم، فلا يجوز له إقراره بوارث، وإن لم يكن له وارث معروف. وهو القياس على مذهب مالك في أن وصيته لا تجوز بأكثر من ثلث ماله. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى إلى رجل بوصايا فأراد الورثة أن يكشفوه عنه]
مسألة وسمعته يسأل عمن أوصى إلى رجل بوصايا من عتق وصدقة وعين وغير ذلك، فأراد الورثة أن يكشفوه عنه، وأن يطلعهم عليه، فقال: أما الصدقة فليس لهم أن يكشفوه عنها إذا كان غير وارث، إلا أن يكون سفيها معلنا مارقا، فيكشف عن ذلك، ولهم أن يكشفوه، وإن كان غير وارث ولا سفيه كشف عن العتق؛ لأن ذلك يعقد لهم الولاء، فأما إذا كان الموصى إليه سفيها معلنا، فأرى أن يكشف عن ذلك كله، فإن من له الأوصياء من يتقبض على الوصية فلا ينفذ منها شيئا، قال: ولا أرى إن كان الموصى إليه محتاجا أن يأخذ من ذلك شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا من بين قوله: إن الموصى يكشف عما جعل إليه من تنفيذ الوصية بالصدقة وغير ذلك مما لا يبقى فيه منفعة للورثة إذا كان سفيها معلنا مارقا يبين ما تقدم من قوله في أول سماع ابن القاسم في أنه ليس للوارث أن يقوم معه في تنفيذ الوصية، إلا أن يكون فيما بقي له منفعة كالعتق وشبهه. وقوله: إنه يكشف عن ذلك إذا كان سفيها معلنا مارقا، معناه: أنه يكلف إقامة البينة على تنفيذ الوصية، فإن لم يأت بينة على ذلك(13/29)
وتبين تقبضه عليها واستهضامه لها، ضمن إياها، وإن لم يكن بهذه الصفة من الاشتهار بالسفه والمروق، واتهم، استحلف، فإن نكل عن اليمين ضمن، وإن كان من أهل العدل والثقة لم تلحقه يمين، وهو محمول على الثقة والعدالة حتى يعرف خلاف ذلك من حاله, وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يوصي للرجل من ثمر أرض له بعينها]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي للرجل من ثمر أرض له بعينها بثلاثة آصع له في كل سنة ثلاث سنين، فلم تخرج في سنة من ذلك شيئا، أو لم يخرج إلا أقل من ثلاثة آصع، أترى أن بعض ما خسر تلك السنة من غلة السنة الثانية؟ فقال لي: إن أوصى أن يعطي رجل من غلة أرض له بعينها ثلاثة آصع في كل سنة، فأعطي في سنة ثلاثة آصع، فلما كانت السنة الثانية لم تخرج الأرض إلا صاعين، أو لم تخرج شيئا فأرى في السنة التي تأتي بعد أن يقضي ما نقص من الثلاثة آصع في السنة الماضية، إن كان في ثمر السنة التي بعد أكثر من الثلاثة آصع التي أوصى له بها، يعطى الثلاثة آصع من تلك السنة، ويعطى مما فضل من ثمرها ما خسر عليه من الثلاثة آصع التي أوصى له بها في السنة التي قبل هذه، وكذلك إذا مضت سنة أو سنتان، لا تخرج الأرض شيئا فإنه يوفى من تلك السنة الثانية تسعة آصع، للستين اللتين لم يخرجا شيئا ستة آصع، ولتلك السنة ثلاثة آصع، إن كان في ثمر تلك السنة ما يوفيه، فإن مضت السنون كلها التي سمى له أنه يعطى من غلتها، ولم يأخذ شيئا ولم يخرج الثمر شيئا، أو أخذ وفضل لم أر له شيئا. قلت له: أرأيت إن أخرجت الأرض أكثر مما أوصى له به الميت في تلك السنة، فيقول الذي أوصي له، أوفوني ما أوصى لي به في هذا العام، واحبسوا(13/30)
لي بقية ثمره هذا العام؛ لأني أخاف ألا تخرج الأرض فيما أستقبل شيئا. قال: أرى إذا أوصى في كل سنة بثلاثة آصع، أخرجت سنة واحدة عشرين صاعا أو مائة صاع، فقال: احبسوا لي المائة كلها حتى أستوفي وصيتي مخافة أن لا تثمر فيما بقي، فأرى ذلك يختلف في أن يكون أوصى له بثلاثة آصع، فأخرجت مائة، فيريد حبسها فتهلك، فلا أرى ذلك، ولكن يحبس له بقدر في قلة ما أوصى له به وكثرة ما أخرج الحائط، وفي كثرة ما أوصى له به وقلة ما أخرج الحائط، وذلك يختلف أيضا في الحوائط فيما يخاف منهما ولا يؤمن، وفيما لا يخاف منهما قد عرف وجه ثمرها، ولا ينقص ولا يخلف، فإن كان في الحائط المأمون الذي لا يكاد يخلف، فلا أرى أن يحبس له من ذلك شيء، وإنما ينظر في ذلك إلى قدر ما يوصى له به، وعلى قدر الخوف على الثمر والرجا له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أوصى له بعدد مسمى من ثمر حائط في كل عام سنين مسماة أو حياته، إنه يجبر له ما نقص من عام من العام الذي يليه ما لم تنقص السنون التي سماها، بخلاف إذا أوصى له بالعدد المسمى من ثمرة كل سنة سنين مسماة أيضا أو حياته، فلا يجبر له مما نقص من العام الذي بعده. ومثله في المدونة وفيما يأتي في هذا الرسم، وفي رسم الوصايا الذي فيه الحج والزكاة. وقوله. إذا أخرجت الأرض في سنة أكثر مما أوصى له به فيها، فسأل أن توقف له البقية مخافة النقصان، إن ذلك على الاجتهاد في كثرة ما أخرج الحائط وقلة ما أوصى له به، وفي قلة ما أخرج الحائط وكثرة ما أوصى له به، وفي أمن الحائط والخوف عليه، صحيح بين، ولا إشكال فيه، واختلف إن أراد الورثة أن يأخذوا الفضل ولا يوقفوه، ويضمنوا له النقصان، فقيل: ذلك لهم، وهو الذي يأتي على ظاهر ما في سماع سحنون لابن القاسم، وقيل. ليس ذلك لهم إلا برضاه، وهو قول(13/31)
مالك في رسم الوصية الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب هذا. ويحتمل أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من القول، فيكون معنى قول ابن القاسم في سماع سحنون: إذا كانوا أملياء يؤمن العدم عليهم في غالب الحال. ومعنى قول مالك في سماع أشهب: إذا لم يكونوا أملياء، أو كانوا أملياء يخاف عليهم العدم. والصواب أن يفسر ما في سماع سحنون لقول مالك في هذه الرواية التي ذكرناها لأنه قال فيها: لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم، فيقال: معنى ما في سماع سحنون إذا رضي الموصى لهم بضمانهم، ولم يتكلم في هذه الرواية التي ذكرناها على توقيف الحائط مدة الثلاثة أعوام، التي أوصى في كل عام منها بالآصع من ثمرها، وذلك من حق الموصى له إذا حمل الحائط الثلث، أو أجاز ذلك الورثة. وهنا تكلم في سماع سحنون فقال: إن ضمن الورثة ذلك، وإلا أوفقوا العبد والحائط، ومعنى ذلك، إذا حمله الثلث، ورضي الموصى لهم بضمان الورثة. وقد وقع في سماع سحنون أنه يجبر ما نقص في العام من العام الذي بعده، إذا أوصى له بالعدد المسمى من غلة كل سنة، وهو لفظ وقع على غير تحصيل، فلا يقال فيه: إنه اختلاف، من القول: وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلث ماله للفقراء والمساكين]
مسألة قال وسمعته يسأل ابن غانم عن الرجل يوصي بثلث ماله للفقراء والمساكين، وله مال ودار ومنزل، فيقول أهل الميراث: نريد أن نقوم ذلك قيمة، فنحسب عليها ثمن الدار والمنزل، فإن لنا أعداء، وقد علموا ألا نترك دارنا ومنزلنا، فهم سيزيدون عليها ضررا بنا، فقال: اكتب إليه إنما أوصى لهم بثلث ماله، فانقطع لهم بثلث ماله ذلك كله ثلث الدار، وثلث المكان، وثلث كل شيء، ولا يباع ذلك عليهم ولا يقام، وزاد في الكتاب الذي فيه الوصايا والحج والزكاة، قال مالك: لأنهم نزلوا بمنزلة الشركاء في تلك الدار(13/32)
والمنزل، وليس يكون بين الشركاء في الدور والأرضين أمد يجبرون عليه للاقتسام.
قال محمد بن رشد: أنزل مالك في هذه الرواية الموصى لهم بثلث من الفقراء والمساكين بمنزلة الأشراك في جميع مال الميت، فرأى من حقهم أن يقسموا ما ينقسم فيبيعوا نصيبهم منه مقسوما إن دعوا إلى ذلك، وزعموا أن ذلك أوفر لحظهم، وأن يباع ما لا يقسم، ولا يقوم شيء من ذلك إلا برضاهم. قال ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا في الذي يوصي بعتق ووصايا وله مدبرون، فيدعون إلى البيع، ويريد الورثة التقويم، إن حق المدبرين وأهل الوصايا ما دعوا إليه من البيع، يريد: إلا أن يحب الورثة أخذه بما يعطى فيه من الثمن، فيكون ذلك لهم، أو لمن شاء منهم، ولا يكون بمنزلة الأشراك في قسمة ما لا ينقسم من ذلك إن دعوا إلى قسمه، فقالوا: إن بيع حظنا مقسوما أوفر لنا، وروى ذلك أيضا أصبغ عنه في الرسم بعينه وقال هو من رأيه: إن التقويم من حق الورثة إذا دعوا إليه وكرهوا البيع، كان ذلك مما ينقسم أو مما لا ينقسم، وهو قول ثالث في المسألة. وروى علي بن زناد عن مالك أنه ينظر إلى الأرفق بالمساكين، من المقاسمة أو البيع في المزايدة فيفعل ذلك، وهو قول رابع في المسألة. وقال محمد بن المواز: أما إن كانت وصيته فيما لا ينقسم مع غيره كالمدبر والوصية بالعتق أو بعبد أو بشيء بعينه، فالقيمة أعدل بينهم وبين الورثة، وإن كان ما قال ابن القاسم أقيس. قال: وأما إن أوصى بثلثه، فالقسم أولى من القيمة ومن البيع، ويقسم ما ينقسم، وأما لا ينقسم فالبيع أولى إلا أن يتراضوا على التقويم. وتفرقة ابن المواز هذه حسنة، وهو قول خامس في المسألة. والاختلاف في أنه إذا أوصى بثلثه لرجل بعينه، أنه بمنزلة وارث من(13/33)
الورثة، شريك منهم بالثلث في جميع مال الميت، يكون من حقه أن يقسم ما ينقسم، وأما ما لا ينقسم فمن شاء منهم أن يأخذه بما يعطى فيه، فإن تشاحوا ذلك تقاوموه فيما بينهم. هذا تحصيل القول في هذه المسألة وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بيتاماه إلى رجل وبأخواته إلى رجل]
مسألة قال وسمعت مالكا يسأل عن رجل توفى وترك يتامى كان يليهم وترك ولدا له وأخوات، فأوصى بيتاماه إلى رجل وبأخواته إلى رجل، وسمى للولد إنسانا، وله بنت كبيرة، بنت أربعين سنة أو خمسين سنة، لم يسمها باسمها مع ولده حين سماهم ولم يذكر أموال ولده حين سماهم، حتى إذا كان في آخر الوصية قال: وأموال ولدي كلهم إلى فلان، يعني الرجل الذي أوصى إليه بولده الذين سماهم، فقالت البنت: أنا الآن في ولايته أم لا؟ فقال: إن كانت أهلا لأن تلي نفسها فذلك إليها، تعطى مالها ويكون بيدها، وإن كانت على غير ذلك، كان مالها بيد الموصى إليه ... ورب بنت خمسين سنة، لا تلي نفسها. وأما وصيته بيتاماه إلى رجل، فذلك إذا أراد الخير.
قال محمد بن رشد: قوله: وترك يتامى كان يليهم، معناه: بإيصاء أبيهم بهم إليه، وكذلك قوله في أخواته، معناه: أنهن إلى نظره بإيصاء أبيهن بهن إليه، ولذلك أعمل إيصاؤه على يتاماه وأخواته؛ لأن للموصي أن يوصي بما أوصى به إليه في حياته وبعد وفاته، لا خلاف أحفظه في ذلك، ولم يبين في قوله: وله بنت كبيرة بنت أربعين سنة أو خمسين إن كانت بكرا معنسا لم تتزوج، أو قد تزوجت ودخل بها زوجها. وجوابه محتمل(13/34)
للوجهين جميعا؛ لأنه أعمل قول الأب: وأموال ولدي كلهم إلى فلان، فرآها بذلك ممن قصد الأب إلى الإيصاء عليها مع سائر إخوتها فقال: إنها إن كانت أهلا أن تلي نفسها، فلا ينفذ عليها إيصاء الأب، وإن لم تكن إهلا أن تلي نفسها، نفذ عليها ذلك. هذا معنى قوله. ولم يتكلم على ما يحمل عليه إن جعل مما لها فإن كان تكلم على أنها بكر معنس، فإرادته أنه إن جهل حالها لم ينفذ عليها إيصاء الأب بالتعنيس؛ لأنها محمولة على الرشد، ما لم يعلم سفهها على مذهب من رأى أنها تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها، ولا يصح أن يكون جوابه على القول بأنها لا تخرج بالتعنيس من ولاية أبيها؛ لأنها على هذا القول في ولاية أبيها وإن علم رشدها، فكيف يصح أن القول إن كانت أهلا أن تلي نفسها لم ينفذ عليها إيصاء أبيها، وإن كان تكلم على أنها قد تزوجت ومضى لها مع زوجها مدة يحكم لها فيها بالرشد، وتكون محمولة عليه ما لم يعلم سفهها على الاختلاف في حد ذلك، فإرادته إن جهل حالها لم ينفذ عليها إيصاء الأب، ولا يصلح أن يكون تكلم على أنه لم يمض لها مع زوجها مدة يحكم لها فيها بالرشد؛ لأنها في هذا الحد في ولاية أبيها وإن علم رشدها فكيف يصح أن يقول: إنها إن كانت أهلا أن تلي نفسها لم ينفذ عليها إيصاء أبيها؟.
هذا بيان هذه المسألة وهي من المسائل المشكلة وبالله التوفيق.
[مسألة: زوج ابنته ابن أخيه فولدت منه أولادا فلما حضرته الوفاة أوصى لولد بنته بوصية]
مسألة وسئل عمن زوج ابنته ابن أخيه، فولدت منه أولادا، فلما حضرته الوفاة أوصى لولد بنته بوصية، وأوصى لهم بما أوصى به إلى امرأته، فأراد أبوهم أن يأخذ ذلك لهم وهو عدل، فقال: لا أرى ذلك له وأرى ذلك إلى من أوصى إليه به الميت؛ لأنه لما أراد أن يكون ذلك على يدها لتجمع ذلك لهم، وتنظر فيه لهم، فأرى ذلك إلى من أوصى به إليهم.(13/35)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ليس للأب أن يأخذ ما أوصى لهم به جدهم للأم؛ لأنه إنما أوصى لهم به على أن يكون لهم بيد امرأته، وهي أحق بماله وبالشرط فيه. وأما إيصاؤه بهم إلى امرأة، فلا يجوز ذلك عليهم ولا على أبيهم؛ لأنهم في ولاية أبيهم، ولا حق للجد في الإيصاء بهم إلى غيره. والله الموفق.
[مسألة: أوصى بحوائط له على مواليه وأولادهم وأولاد أولادهم يأكلون ثمرتها]
مسألة وسئل عن رجل أوصى بحوائط له على مواليه وأولادهم وأولاد أولادهم يأكلون ثمرتها، لكل إنسان منهم أربعون صاعا، وأوصى بذلك إلى رجل، فأراد الوصي أن يبتاع لهم من ثمر الحائط رقيقا للحائط يعملون فيه ويقومون، ليكون ذلك أعدل فيما بينهم وبين الورثة، فأبى ذلك الموالي وكرهوه، قال: ليس ذلك لهم، لكن أرى أن لا يشتري ذلك لهم في عام واحد، فيقطع بهم، وأرى أن يبدأ بذلك، فيشتري بعضهم في ثمرة، وبعضهم في ثمرة أخرى ولا يشتري لهم ذلك كله من ثمرة واحدة، فهذا الذي أرى. محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأن ذلك إذا كان من النظر لهم، فمن الرفق بهم ألا يشتري ذلك من فضلة عام واحد، فيضيق بذلك عليهم. وبالله التوفيق:
[مسألة: أوصى وهو بالمدينة بمال له في سبيل الله فهل يعطى منه الحجاج]
مسألة وسئل عن رجل أوصى وهو بالمدينة بمال له في سبيل الله فقدم قوم من أهل المصيصة المدينة حجاجا منصرفهم من حجهم منقطعا بهم لا يقدرون على شيء يتحملون به، أيعطون من ذلك شيئا في سبيل الله؟ فقال: لا أرى أن يعطوا منه شيئا هم اليوم أبناء(13/36)
سبيل، ولم يوص الميت لابن السبيل بشيء، وإنما أوصى به في سبيل الله فليسوا اليوم من أهل سبيل الله، وإنما هم أبناء سبيل فلا أرى لهم فيه شيئا ولا أرى أن يعطوا منه شيئا، ولكن أرى أن يعطى من أهل المدينة من يخرج غازيا، أو يبعث به إليهم، فيعطوا في سبيل الله، فقيل له: إن منازل هؤلاء القوم هناك، وهم من أهل الغزو، إلا أنهم قد انقطع بهم ها هنا، فليس في أيديهم ما يتحملون به، فقال: لا أرى أن يعطوا منه شيئا؛ لأنهم أبناء سبيل، وليسوا بغزاة، وإنما يحتملون به إلى أهلهم، ثم إن بدا لهم غزوا، وإن شاءوا لم يغزوا فلا أرى أن يعطوا منه شيئا؛ لأنهم أبناء سبيل، وليس لابن سبيل فيه حق، وإنما أوصى به في سبيل الله، فهؤلاء أبناء سبيل، فلا أرى فيه شيئا.
محمد بن رشد: هذا كله كما قال: إن أهل المصيصة وإن كانوا من أهل الغزو، فليسوا بغزاة في رجوعهم من حجهم، فلا يصح أن يعطوا من المال الذي يوصى به في سبيل الله، وإن انقطع بهم في ذلك؛ لأنهم أبناء سبيل، ولو كان انقطع بهم في رجوعهم من غزوهم لا من حجهم، لجاز أن يعطوا منه على ما حكى ابن حبيب في الواضحة من أن من أعطي شيئا في سبيل الله، فله أن ينفق منه في غزوه في مسيره وقفله، خلاف ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد، إنه لا يعطى من المال المسبل في سبيل الله لمن انقضى رباطه، وانقطع به في قفوله إلى أهله، وأجاز في هذه الرواية أن يعطى المال المجعول في سبيل الله لمن يخرج به غازيا أن يبعث به إلى من يقسمه في الثغور خير في ذلك بين الأمرين، واستحب في سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد أن يعطى بالبلد إن وجد من يغزو منه، ولا يبعث به إلى الثغور مخافة أن يبعث به إلى هناك فيضيع، على ما قاله في رسم طلب منه. قال ابن المواز: إنما يعطيه لمن قد عزم، لا لمن(13/37)
لا يخرج إلا بما يعطى. وقوله يحمل على التفسير لقول مالك؛ لأن من لم يعزم على الخروج إذا أعطي على أن يخرج، لعله يأخذ المال ولا يخرج. ومن معنى هذه المسألة ما في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والولاكات.
وقد مضى الكلام عليها وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لابن السبيل فيجد اليهودي والنصراني منقطعا بهما]
مسألة وسئل عن الذي يوصي بالوصية لابن السبيل، فيجد اليهودي والنصراني منقطعا بهما، أيكون لهما في ذلك شيء؟ قال لا ليس لهما من ذلك شيء، إنما يراد بهذه الأشياء أهل الإسلام، وليس يراد بذلك النصارى ولا اليهود ولا عبدة الأوثان، ليس يراد بهذه الأمور إلا أهل الإسلام، أتراه أراد بهذا المجوس أو عبدة الأوثان؟ وإنما يكون مثل هذا للفقراء والمساكين وابن السبيل من أهل الإسلام، ليس من أهل الشرك والكفر.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الوصية لأهل الكفر مكروهة، حسبما ما مضى بيانه مستوفى في رسم ندرسه من سماع ابن القاسم، فلا يصح أن تحمل وصيته إلا على ما يستحب لا على ما يكره. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى إلى أخيه وإلى غلام له فأرادت امرأته بيع الغلام]
مسألة وسئل عن رجل أوصى إلى أخيه وإلى غلام له، فأرادت امرأته بيع الغلام، وقالت: ثمنه ثلاثة آلاف دينار، أفترى الوصية إليه جائزة؟ فقال: نعم، الوصية إليه جائزة، وذلك على ما قال الميت، وليس الأمر على ما قالت المرأة، وأرى أن تخرج به إلى(13/38)
السوق، فيقام قيمته، ثم يستخلص لمن يلي حق الورثة من ميراثهم، فيعطوا المرأة ثمنها منه بمنزلة ما لو أوصى بعتقه، إنما هو كمن اشترى لهم، فأرى هذا أولى ولا ينظر إلى ما تقول المرأة، ويعطى من أموال الذين يليهم ما يقام عليهم في السوق قيمة عدل، وتمضي وصيته، ويجوز ما أوصى به سيده. قلت له: إنه قد وقعت فيه بعد ذلك مواريث غير واحدة، فقال: إن الوصية له ماضية على ما أوصى به الميت، وليس بأول عبد أوصى إليه سيده، فجاز ذلك، قد ارتضاه سيده وأوصى إليه، وقد أوصى غير واحد إلى عبده وغيره لم يجد في ذلك خيرا منهم، فأرى ذلك جائزا ويقام قيمته على من يلي، فتعطى المرأة من ذلك ثمنها، بمنزلة ما لو أعتقه، وكأنه اشتراه لهم. قال أشهب: وسألت الليث عن ذلك فقال لي: وصية جائزة، ويقام قيمته على من يلي من الورثة، فيستخلص لهم، وتعطى المرأة من قيمته ومن كان بمنزلتها ممن لا ولاية للعبد عليه ووصيته جائزة.
قال محمد بن رشد: قول الليث بن سعد مثل قول مالك، وما قالاه جميعا صحيح على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ومعنى ما فيها من إرادته أن وصية الرجل بولده إلى عبده جائزة، فإن كان فيهم أكابر، نظر للأصاغر في الأيام التي لهم، إلا أن يدعو الأكابر إلى البيع، فإن دعوا إليه قوم حظهم على الأصاغر، إلا أن يكون عليهم في ذلك ضرر ولا يكون لهم مال، فيبيع الكبار حظهم، ويبقى نصيب الصغار لهم، ينظر لهم في الأيام التي لهم، إلا أن يكون على الكبار في ذلك ضرر، فيلزم الأصاغر البيع مع إخوتهم الأكابر، وتنفسخ الوصية لأن الموصي إنما أراد أن يكون ناظرا لهم ما كان عندهم، واستحسن أصبغ إن كان المشتري في موضع اليتامى مقيما به أن يبقى على إبقائه، ومعنى ذلك عندي: إذا رضي بذلك(13/39)
المشتري، وقال سحنون في المجموعة: إنما يكون العبد ناظرا للصغار، إذا كانوا كلهم سواء فيما يتكلف لهم العبد، فيكون على قدر مواريثهم منه، وقوله صحيح، إذ قد يكون لأحدهم دون إخوته المال الكثير، قد ورثه عن أمه، فيحتاج فيه إلى نظر زائد على إخوته. قال سحنون: وإن كان فيهم كبير فهي وصية لوارث، فإن أجازها الكبار وإلا بطلت. وقول عبد الملك أصح، إذا قلنا: إنه إنما ينظر للأصاغر في الأيام التي لهم. وقال ابن كنانة: إن أجاز الكبار أن يلي، ولا يشغله عنها جاز ذلك، وإلا اشتري للأصاغر حظ الأكابر. قال أشهب: وإذا استخلص الأصاغر لسعة مالهم، فكل من بلغ، يريد وملك أمره اشترى حظه لمن بقي، حتى يكون آخر ذلك لمن بقي مضرة بهم، لكثرة ثمنه، وقلة مالهم من منفعته، فلا يقوم عليهم، ويبقى بينهم. فإذا شاء الكبار البيع، بيع كله، وأقام لهم الإمام غيره. وقال أشهب: وإن أوصى إلى مكاتبه فذلك جائز، وليس فيه تقويم على من تولى إلا أن يعجز. قال في المجموعة: وإن أوصى إلى أم ولده، أو مدبرة أو عبد له، أو معتق بعضه، أو معتق إلى أجل، فذلك جائز. قال سحنون: أما المعتق إلى أجل، فلا يجوز، إلا أن يرضى الأكابر؛ لأنه يستقل عن خدمتهم. وقال أشهب في المجموعة: وإذا أوصى إلى عبد غيره فذلك جائز إن أجازه السيد، ثم ليس له بعد رجوع إلا لعذر من بيع أو سفر، أو لعلة منه أو من العبد. إلى غير الموضع الذي الورثة فيه، فيقيم لهم الإمام غيره. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجلين بعشرة دنانير]
مسألة قال وسمعت مالكا يسأل عن رجل أوصى لرجلين بعشرة دنانير، لكل واحد منهما في كل سنة حياتهما من ثمر ما له، فلما كان عام الأول، أصاب الثمار الذي أصابها، فلم تبلغ الثمرة ما أوصى لهما به، وقد كان في وصيته فإن نقصا تحاصا، فلما كان(13/40)
العام جاء الثمر بفضل كثير، فأراد أن يأخذ من غلة العام ما نقص من وصيتهما في غلة عام أول، فذلك لهما؟ فقال: نعم ذلك لهما.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في صدر الرسم، وقد تقدم الكلام عليه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بعبد آبق فأتي به بجعل]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن توفي وأوصى لرجل بعبد آبق، أو جمل شارد، فأتي به بجعل، على من ترى ذلك الجعل؟ قال: على الذي أوصي له بالعبد، وليس ذلك على ورثة الميت في مال الميت؛ لأن هذا عليه ليس على الورثة أن يطلبوه، وإنما ذلك بمنزلة أن يوصي له بوسق من غلته بخيبر، فيقول: احملوه إلى المدينة، فلا يكون ذلك له، وعليه أن يأخذ ذلك بموضعه الذي هو به يوم أوصى له به، فعليه أن يأخذ ذلك ... وأن يطلب الجمل الشارد، أو العبد الآبق. وليس على الورثة أن يطلبوه، فقيل له: إن جاء به إلى المدينة وليس فيه جعل، أيكون ذلك على الورثة في مال الميت أم على الموصى له؟ فقال: بل على الموصي له. فقيل له: أرأيت إن أوصى الرجل للرجل بعبده، على من ترى أن يأتي به؟ فقال: ذلك على الموصى له، يذهب يأخذه حيث هو، قيل له: إن الورثة يقولون: لا بد لنا أن نقومه ها هنا حتى يقيمه، فقال: أما إذا كان ذلك بالموضع الذي هو له فيه قيمة، يرغب به مثل رقيق المال، فإن ذلك إنما يقام بموضعه الذي هو به، وعلى الموصى له أن يذهب حيث يأخذه، وأما ما كان من ذلك بموضع لا(13/41)
قيمة فيه، ثم أراد الورثة إقدامه ليقيموه، فأرى ذلك عليهم حتى يقيموه ثم يقبضه الموصى له به، وليس كل الوصية تقام، إنما يقام منها ما يخاف أن يكون أكثر من الثلث.
محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أوصى لرجل بعبده الآبق، أو بجمله الشارد، فإن على الموصى له طلب العبد الآبق، والجمل الشارد، وأخذ العبد الغائب بموضعه الذي هو به، وليس على الورثة جلبه إلى الموصى له، إلا أن يحتاجوا إلى تقويمه ولا يكون له قيمة بموضعه الذي هو به، فعليهم أن يجلبوه ليقيموه، يريد: من بقية الثلث، فهو معنى قوله: فأرى ذلك عليهم حتى يقيموه، ثم يقبضه الموصى له، فإن لم يكن في الثلث فضل عن قيمة العبد، أخرج ما يلزم في ثلثه من رأس مال الميت، ثم يخير الورثة بين أن يجيزوا الوصية بالعبد للموصى له به، وبين أن يقطعوا له بثلث الميت في العبد أو شائعا في جميع مال الميت، على اختلاف قول مالك في هذا في كتاب الوصايا الثاني من المدونة. فهذا الذي يأتي في هذه المسألة على ما بيناه من قول مالك في آخر رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب في الذي يوصي لرجل بثلاثين دينارا، ولرجل بثلث الثلث، والمال دين على الناس، فاستأجر الموصى عليه على تقاضي ذلك الدين بعشرة دنانير، إنما يكون فيها فضل من الثلث إن كان فيه فضل حسبما بيناه هناك، وكذلك لو أوصى الميت بجلب العبد الغائب، فيعطاه الموصى له به من موضعه الذي هو به، إذ ليس أكثر من ثلث، بخلاف الذي يقول: ثلث ما لي هو لي إن فعلت كذا وكذا، فيفعله، إن عليه النفقة من غير الثلث حتى يبلغه، كالذي يجب عليه صدقة شيء من ماله بنذر أو حنث ببلد ليس فيه مساكين، إنه يلزمه أن يحمله من ماله إلى موضع فيه المساكين، ولو وجبت عليه الصدقة من الزكاة في موضع ليس فيه مساكين، لم يجب عليه أن يحملها من ماله إلى موضع يجد فيه مساكين.(13/42)
وقد مضى بيان هذا كله، في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب النذور، وفي رسم العشر من سماع عيسى من كتاب زكاة الحبوب. وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يكون له أخ حر فيوصي له بدراهم فيطلبها من الوصي]
مسألة وسمعته يسأل، فقيل له: إنه كان لي أخ حر، وأنا مملوك فلما حضرته الوفاة، أوصى لي بدراهم، فطلبتها من الوصي، فأبى أن يعطينيها، وخاف أن أفسدها فدفعها إلى مولاي فكساني منها، ثم سألته أن يعطيني بقية الدراهم، فأبى، فذهبت إلى الذي دفعها إليه، فلقيه في ذلك، فقال: ما انتزعتها منه، ولا أدفعها إليه، فلم تزل في يديه حتى باعني ممن أعتقني، فصرت حرا، فطلبتها منه الآن فأبى إعطاءها إياي، فقال: إن كان نزعها منك وأنت مملوك فذلك له، وليس ذلك بحسن، وإن لم يكن نزعها منك فأراها لك:
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن على ما قاله؛ لأن السيد ينتزع مال عبده، بدليل قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» . وقد بين في هذه المسألة أنه لم ينتزعها منه حتى أعتقه، بدليل قوله: ما نزعتها منه ولا أدفعها إليه، فيلزمه أن يدفعها إليه بعد عتقه، ولأن مال العبد في العتق تبع له، بخلاف البيع. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان من ثلثي عشرة دنانير ولفلان ثلثي]
مسألة قال أشهب: وكتبت إليه أسأله عمن أوصى فقال: لفلان من ثلثي عشرة دنانير، ولفلان ثلثي، أو قال: لفلان ثلثي، ولفلان منه(13/43)
عشرة دنانير، أو قال لفلان ثلثي، ولفلان عشرة دنانير، لم يسمها من الثلث، فكتب إلي يقول: سواء قال لفلان عشرة دنانير من ثلثي، ولفلان ثلثي، أو قال: لفلان ثلثي، ولفلان منه عشرة دنانير، هو سواء، يبدأ صاحب العشرة، ثم يكون ما بقي من الثلث للذي أوصى له بالثلث؛ لأنه انتزع منه العشرة الدنانير التي سماها للرجل، ولكن إن قال: لفلان ثلثي، ولفلان عشرة دنانير، ولم يقل من الثلث، فإنهما يتحاصان، يحاص الذي أوصى له بالعشرة دنانير، ويحاص الذي أوصى له بالثلث، فما بلغ الثلث يتحاصان هكذا في ثلث مال الموصي.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف إذا قال: لفلان ثلثي ولفلان منه عشرة دنانير أن العشرة تبدأ على الثلث، وكذلك إذا قال: لفلان من ثلثي عشرة دنانير ولفلان ثلثي والأول أبين إذا أخر "من". وأما إذا لم يأت بـ "من" أولا ولا آخرا، فاختلف قول مالك في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قوله: هذا، ومثله في رسم الكبش من سماع يحيى، وهو المشهور أنهما يتحاصان. وقد روي عنه أن القسمة تبدأ على الجزء. وروي عنه أن الجزء يبدأ.
وقد مضى هذا كله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: الذي يتصدق بعبد له على رجل أو يوصي له بوصية أيتبعه ماله]
مسألة قال وسمعته يسأل عن الذي يتصدق بعبد له على رجل أو يهبه له لثواب أو لغير ثواب، أو يوصي له بوصية أيتبعه ماله؟ قال: لا يتبعه ماله، وأرى ذلك كله بيعا؛ لقول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع". قال مالك: لا يتبع العبد ماله في ذلك كله، إلا أن يعتق(13/44)
فيتبعه ماله. فأما إن كانت له الكسوة أو الشيء اليسير، مثل ذلك، فإني لا أرى له أخذ ذلك في الصدقة قال سحنون هي جيدة خير من رواية ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في مال العبد الموصى به لرجل، فمرة قال: إنه للموصى به قياسا على العتق، بخلاف البيع، ومرة قال: إنه لورثة الموصي قياسا على البيع، بخلاف العتق.
وقد مضى القول على هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وقوله في هذه الرواية: إن الكسوة والشيء اليسير ليس لسيد العبد أن يأخذه، يريد: لا في الوصية ولا في البيع، وبشبهه من الهبة والصدقة، هو مثل ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الجهاد. وقد مضى القول على ذلك هنالك وقلنا فيه: إنه أصح مما في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب؛ لأن ظاهر الرواية أن يكون للمبتاع ما كان من هيأتها ولباسها وإن كان كثيرا، وهو بعيد وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه يكسب مالا بيده أينتزع منه]
مسألة وسمعته يسأل عن المولى عليه يكسب مالا بيده، أينتزع منه؟ فقال: هو مثل ما ورث، فقيل له: هو اكتسبه وسعى فيه، فقال: رب رمية من غير رام.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه قد صار ماله، وإن كان من كسبه، فلا يترك له لئلا يتلفه، لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] الآية.(13/45)
[مسألة: أوصى لها بولدها منه فأراد بعض ولدها القسمة]
مسألة وسئل فقيل: إن زوجي أوصى إلي بولدي منه، فأراد بعض ولدي القسمة، فقال لها: ما ترك زوجك من المال؟ فقالت: ثلاثة أرؤس ومكاتبا، فقال لها: أما المكاتب، فدعيه كما هو بينهم، وأما ما بقي فخذي منه ثمنك ثم اقسمي ما بقي بينهم، فقالت: أبأمر السلطان؟ فقال: لا، ولكن بأمر العدول.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه الرواية، إنه أجاز للأم الوصية أن تأخذ ثمنها مما يخلف زوجها، وأن تقسم الباقي بين بنيها بأمر العدول دون السلطان، والمسألتان مفترقتان، أما قسمتها على بنيها وأخذها ثمنها، فالمشهور المعلوم أن ذلك لا يجوز إلا بأمر السلطان، فإن قاسمت لنفسها عليهم، لم تجز القسمة، وكانت منتقضة، إلا أن يجيزها السلطان، وإن كان سدادا يوم القسمة إذا لم يكن اليوم سداد، وقد قيل: إنها تجوز إذا علم السداد والنظر فيها لهم، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه أجاز أن تأخذ لنفسها ثمنها بأمر العدول؛ لأنه إنما اشترط العدول في ذلك، ليعرفوا السداد ويشهدوا به، وأما قسمتها مال بنيها فيما بينهم، فإنها جائزة، إذا عرف السداد فيها، وهو مذهبه في هذه الرواية ومعنى ما وقع في كتاب القسمة من المدونة من أن الوصي لا يقسم مال الأيتام فيما بينهم إلا بأمر السلطان. وقيل: إن فعله في ذلك محمول على السداد حتى يثبت خلافه، وهو الذي يأتي على ما في كتاب الرهون من المدونة لأنه أجاز فيه للوصي أن يشتري لبعض أيتامه من بعض، وإذا أجاز شراءه من بعضهم لبعض، فأحرى أن يجيز قسمته فيما بينهم؛ لأن القسمة بيع من البيوع، وقيل: إنها تمييز حق، وعلى ما في كتاب الرهون من المدونة يأتي ما لمالك في رسم الطلاق من هذا السماع بعد هذا خلاف قوله في هذه الرواية، فتدبر ذلك وبالله التوفيق.(13/46)
[مسألة: لا يجوز للوصي أن يشتري بالدين على أيتامه]
مسألة قال: وسأله ابن كنانة فقال له: إن رجلا كان يلي يتامى في حجره، فاشترى حائطا، ذكر حين اشتراه أنه إنما اشتراه لأيتامه بثمن قمح إلى أجل معلومة، فأقام الحائط في يديه زمانا يستغله للأيتام كل سنة، معلوما ذلك عند الناس، حتى اجتمع لهم في يده من غلة ذلك الحائط مال كثير، ثم خيف على وليهم الإعدام، أفترى لبائع الحائط في مال الأيتام حقا؟ فقال له: هذا مثل الذي يشتري بالدين ويقول: إنما اشتريته لأيتامي هؤلاء. فلا يلزمهم ذلك، فقال له ابن كنانة: إن الحائط الذي اشترى من البائع قائم بعينه في أيدي الأيتام، وقد اجتمع لهم في يد وليهم من غلته مال كثير، فيرجع البائع على ماله حيث وجده، أم على المشتري لولي الأيتام؟ فقال له: أليس كتاب الدين على اسمه؟ فقال: بلى، فقال: ما أرى أن يتبعهم الآن ولكن يبدأ هو به فيتبعه بذلك، فإنه الذي لا شك فيه، ولا يتبعهم بذلك، فقيل له: إن ذلك أبغضها إلى البائع، فقال: ذلك الذي أرى إلا أن يرفعوا ذلك إلى القاضي، فيكشف عن ذلك، ويسأل عنه كله، وينظر فيه، فأما ولي الأيتام فليتبعه البائع.
محمد بن رشد: لا يجوز للوصي أن يشتري بالدين على أيتامه، لوجهين: أحدهما: أنه قد يهلك ما اشتراه لهم بالدين، فيطلبون بالثمن عند حلوله، وتباع عليهم فيها أموالهم إن كانت لهم أموال أو تتبع بها ذمتهم إن لم تكن لهم أموال. والوجه الثاني: أن ما يشترى بالدين يزاد فيه على القيمة، ولا يجوز أن يشترى لليتامى شيء بأكثر من قيمته، فإن فعل، نظر السلطان في ذلك، فإن رأى أن يمضيه على اليتيم أمضاه عليه، وإلا رده، على ما قال في(13/47)
الرواية، فإن رده ولم يمضه على اليتيم لزم الوصي، ولم يكن له أن يرده، إلا أن يكون البائع. قد صدقه فيما زعم من أنه إنما اشتراه ليتيمه، وباعه على ذلك بتصريح وإقرار، فلا يلزم الوصي الشراء إذا رده الإمام على اليتيم على ما وقع لأصبغ في آخر سماعه من كتاب جامع البيوع.
وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: معناه أنه اشتراها لنفسه، ثم أقر أنه اشتراها ليتاماه، فألزمه الثمن، لكنه كتبه على نفسه، ثم ينظر بعد ذلك فيه اليتيم، يريد ابن دحون أنه لو اشتراه من أول لأيتامه، فرد الإمام البيع عنهم، ولم يمضه عليهم، لن يلزم ذلك الوصي، وانتقض البيع فيما بينه وبين البائع، وليس ذلك بصحيح، بل يلزم الوصي الشراء في الوجهين جميعا لنفسه، إذا رد الإمام البيع عن أيتامه، إلا أن يكون البائع قد صدقه فيما زعم من أنه يشتريه لأيتامه وباعه على ذلك بتصريح وإقرار، على ما ذكرناه عن أصبغ. وبالله التوفيق.
[مسألة: يلي يتامى فكان لا يتحفظ في أموالهم]
مسألة وسمعته يسأل عمن كان يلي يتامى، فكان لا يتحفظ في أموالهم، ويتناول منها، فلما بلغوا سألهم أن يحللوه مما بين كذا إلى كذا، فحللوه على ما قال، ثم قالوا بعد زمان: لست في حل، فقال: أنا أرى في مثل هذا أن يجوز الذي يرى أنه أصاب من أموالهم، ويحتاط فيه، حتى لا يشك أو يأتي رجلا فيخبره بالمال وبأمره، وما كان منه فيه، وما تناول حتى يحرره له ويحتاط فيه، حتى لا يشك إن لم يحسن هو حرره، ثم يخبرهم بالذي عليه في ذلك من التباعة، فيحللونه، وهم يعلمون من أي شيء حللوه، فأما أن يجيء إليهم فيقول لهم حللوني مما بين كذا إلى كذا، فيحللونه، فإنهم يقولون بعد: ظننا أنه يسير، فأرى أن يحرز ذلك بإحباط ثم يحللهم.(13/48)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن التحلل لا يلزمهم، إذا لم يعلمهم بمقدار ما لهم عليه من التباعة فيما تناوله من أموالهم، فيلزمه أن يعلمهم بمقدار ذلك حتى يحللوه منه بنفوس طيبة، وبالله التوفيق.
[مسألة: هل يقبل قول الموصي قد دفعت إلى يتاماي أموالهم أم لا]
مسألة وسمعته يسأل ابن غانم، هل يقبل قول الموصي قد دفعت إلى يتاماي أموالهم أم لا يقبل ذلك منه إلا ببينة؟ فقال: لا يجوز قول ذلك عليهم قد دفعت إليهم أموالهم إلا ببينة. قال الله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فلا يجوز قوله عليهم في ذلك إلا أن يكون رجلا ادعى على وليه أنه لم يدفع. إليه ماله بعد زمان طويل قد خرج فيه عن حال الولاية فيما يعرف من ماله وأمره، حتى إذا طال الزمان وهلك الشهود قال: فلان كان يليني ولم يدفع إلي مالي فليس هذا بالذي أريد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، من أن والي اليتيم يصدق مع يمينه في دفع مال اليتيم إليه إذا أنكر القبض، وقد طالت المدة؛ لأن طول المدة دليل على صدق قوله؛ لأن العرف يشهد له، فيكون القول قوله، كما يكون قول المكتري في دفع الكراء إذا طال الأمد بعد انقضاء أمد الكراء، حتى يجاوز الحد الذي جرى العرف بتأخير الكراء إليه، وكما يصدق المشتري في دفع ثمن ما اشترى إذا طال الأمد، وإن كان قد اختلف في حد ذلك على ما قد مضى تحصيل القول فيه في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع. وكما يصدق البائع أيضا في دفع السلعة إلى المشتري إذا قام عليه بعد أن دفع إليه الثمن بمدة، يدعى أنه لم يقبضها منه حسب ما مضى(13/49)
القول فيه في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ، من كتاب جامع البيوع. فالأصل في هذا أن المدعي يُصدق في دعواه إذا كان معه دليل يدل على صدق قوله. ولم يبين في الرواية كم حد الطول الذي يصدق فيه والي اليتيم في دفع ماله إليه، وهو على مذهبه في الرواية ما يهلك فيه الشهود، لقوله فيها حتى إذا طال الزمان وهلك الشهود، وذلك عشرون سنة على ما روى عيسى عن ابن القاسم في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب القسمة. وهو نص قول أشهب في كتاب ابن المواز في هذه المسألة بعينها، إلا أن يكون قد طال زمان ذلك مثل الثلاثين سنة، أو عشرين سنة، مقيمين معه لا يدعون شيئا ثم يطلبون الآن، فليس عليه في هذا إلا اليمين لقد دفعها إليهم. وقال القاضي أبو بكر محمد بن زرب: إذا قام على وصيه بعد انطلاقه من الولاية بأعوام كثيرة، كالعشرة والثمان، ثم يدعي أنه لم يدفع إليه ماله، فلا شيء له قبله، يريد من المال، ويحلف لقد دفعه إليه، وإذا لم يكن في حد ذلك سنة يرجع إليها، والذي يوجبه النظر أن يكون القول قول اليتيم إنه ما قبض حتى مضى من المدة ما يغلب على الظن معها كذبه في أنه لم يقبض وصدق وليه في أنه قد دفع. وذلك يختلف باختلاف ما يعرف من أحوالهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وأوصى إلى رجل وترك ابنا صغيرا ومصحفا]
مسألة وسئل عن رجل توفي وأوصى إلى رجل وترك من الورثة ابنا صغيرا وثلاث بنات، وأمه وزوجته، وترك مصحفا قيمته خمسة وعشرون دينارا أترى أن يستخلصه الوصي للغلام؟ فقال: إني لست أدري ما تركه الميت. فقيل له: أموال عظام من أصول وغيرها، فقال ما سن الغلام؟ فقيل ابن ست سنين. فقال ما أرى بذلك بأسا أن يستخلصه للغلام. وقد كان من أمر الناس أن يحبس لولد الميت هذا وما أشبهه: السيف والمصحف وما أشبههما، فلا أرى بأسا أن(13/50)
يستخلصه له. فقيل له: أيستخلصه للغلام والجواري فإنهن ربما علمن القراءة في المصاحف؟ فقال: أحب إلي أن يستخلصه للغلام وحده وهذا من خير ما يشترى له، إن بلغ فاحتاج إلى ثمنه وجد به ثمنا فأرى له أن يستخلصه له ولا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه من النظر لليتيم الذي لا يخفى وجهه. وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وأوصى إلى امرأته بولدها وماله]
مسألة قال وسئل عمن توفي وأوصى إلى امرأته بولدها وماله، وولدها منه جارية بنت ثلاث سنين، وغلام ابن خمس سنين، فأرادت النكاح، أينزع منها ولدها إن نكحت؟ فقال ما آمن ذلك عليها أن ينزعا منها؛ لأن المرأة إذا تزوجت غلبت على جل أمرها حتى تعمل ما ليس بصواب، فما أخذ مني أن ينزعا منها. ولو صبرت على ولدها فلا أرى لها أن تدخل على ولدها رجلا. والولاة يقولون ذلك، ليس لك أن تدخلي عليهما رجلا فما أخذ مني إن تزوجت أن ينتزعا منها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: إقرار الرجل بما يعرف ملك له إنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث]
مسألة قال: وسمعته يسأل عن رجل أوصى في مرضه فقال: إن أرضي التي بموضع كذا وكذا إنما هي لامرأتي، ليست لي وأشهد(13/51)
على وصيته فقال: من ورثه معها؟ فقيل: ولده، فقال: أمنها أو من غيرها؟ فقيل: منها، فقال: ذلك أحرى أن لا يتم عليهم إذا كان ورثته ولده، وكانوا منها وأرى أنه إن لم يكن لها بينة إلا قوله ذلك في مرضه الذي مات منه، لا شيء لها، ولكن تطلب على ذلك ثبتا كان في صحته أو علما يعلم أن تلك الأرض كانت لها، فأما قوله، فلا أرى لها بذلك شيئا ولتطلب ثبتا على ما ذكر لها، وأرى أن ينظر إلى تلك الأرض ما ثمنها أقليل أم كثير؟ ثم تعلمني بذلك. قيل له: فإن هذا الرجل أوصى بشيء من ثلثه لأقارب له، ولم يشهد لهم على ذلك كأقاربهم، فقال: أرى هذا ضعيفا، لا يشهد لهم إلا أقاربهم، ما أرى هذا إلا ضعيفا. قيل له: فإنه أوصى بثلثه لقوم، وأوصى في طعام عنده ألا يباع، وأن يحبس لعياله كلهم يستنفقونه، فجاء أهل الثلث يطلبون ثلث ذلك الطعام، وقالوا: قد أوصى بثلث ماله، وهذا من ماله، فقال: لا شيء لهم فيه، ليس للموصى لهم في هذا الطعام كلام، ولا وصية لهم فيه، إنما وصيتهم في ثلث مال الميت، إلا هذا الطعام؛ لأن الميت قد نزعه منهم، وجعله لغيرهم، ولم يرد أن يكون لهم فيه وصية، ولا كلام للموصى لهم بالثلث فيه، وإنما الكلام في ذلك للورثة؛ لأن بعضهم يأكل ما لا يأكل بعض، وبعضهم أكثر ميراثا من بعض، فهم الذين لهم فيه الكلام، فأما الذي أوصى لهم الميت بثلثه فليس لهم في هذا الطعام شيء ولا كلام، وإنما لهم الثلث مما سواه؛ لأن الميت قد انتزعه منهم ولم يوص لهم فيه بشيء.
قال محمد بن رشد: إقرار الرجل في صحته أو في مرضه بما يعرف ملك له من شيء بعينه، إنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث، يجري(13/52)
مجرى الصدقة والهبة، ويحمل محملهما، ويحكم بحكهما إن أجاز ذلك المقر له به في صحة المقر جاز له، وإلا لم يجز، هذا ما لا اختلاف فيه أحفظه، إلا أن يكون إقراره بذلك على سبيل الاعتذار، فلا يلزمه حسبما ما مضى القول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وفي سماع أشهب ورسم العشور من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح، فلا إشكال فيه، في أن الذي أوصى في مرضه بأن الأرض الذي له بموضع كذا وكذا، إنما هي لامرأته، لا يجوز ذلك من إقراره؛ لأنها وصية لوارث، فلا تأثير لجواز ذلك فيما سأل عنه من كونه موروثا بولد منها أو من غيرها، وإنما أراد أن يبين أن إقراره لها في مرضه بأرضه المعروفة لا يجوز لها بحال، وإن كان موروثا، إذ يرفع التهمة عنه فيما يقر لها به في مرضه من أن لها عليه دينا فقال: وأرى إن لم تكن لها بينة إلا قوله ذلك في مرضه الذي مات منه، لا شيء لها، وقوله: ولكن يطلب على ذلك ثبتا كان في صحته، أي إقرار منه لها بذلك في صحته، يريد فيجوز ذلك لها وينفذ إن كانت قد حازته عنه مع ذلك في صحته. وقوله: أو علما يعلم أن تلك الأرض لها، يريد: بينة تشهد على ذلك فيحكم لها بالبينة، لا بالإقرار، وكذلك لا تأثير لجواز إقراره لها في مرضه بأرضه المعروفة له فيما سأل عنه أيضا من قلة ثمن وكثرته على ما بيناه من أنها وصية لوارث، فلا تجوز في القليل ولا في الكثير، ولو كانت الأرض التي أقر لها بها في مرضه، لا يعرف ملكه لها، لكان حكم ذلك حكم إقراره لها بدين يجوز لها، إن لم يكن متهما فيها بصبابة أو ميل، وكان موروثا بولد. وفي رسم العتق من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب بيان هذا.
وقد مضى تحصيل القول فيه بإقرار المريض بدين لوارث أو غير وارث في رسم حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس، فلا معنى لإعادته. وتضعيفه لشهادة أقاربه فيما أوصي به لأقاربه من ثلثه صحيح، وذلك بين على القول بأن الوصية تكون لجميعهم،(13/53)
وتقسم بينهم على السواء؛ لأنهم شهدوا لأنفسهم، فوجب ألا تجوز شهادتهم على ذلك، إلا أن يكون الذي ينوبهم من ذلك شيء يسير، فيجوز على اختلاف في ذلك، قد ذكرناه في مسألة أفردنا القول فيها على هذا المعنى. وأما القول بأن الوصية تقسم بينهم على الاجتهاد ويبدأ الفقير منهم على الغني في ذلك، فإن كان الذين شهدوا على الوصية أغنياء لا ينالهم من الوصية شيء، وجب أن تجوز شهادتهم، إلا أن تكون الوصية بحبس تقسم غلته في كل عام، فلا تجوز شهادتهم وإن كانوا أغنياء، إذ قد يفتقرون فيكونون إنما شهدوا ليجيزوا الوصية إليهم إن افتقروا. وأما قوله: إن الوصية بثلثه لا تدخل في الطعام الذي أوصى أن يحبس لنفقة عياله، فهو بين ظاهر المعنى، وبالله التوفيق.
[: أوصى لعبده بعتقه أيعتق حين يموت الموصي]
ومن كتاب العتق وسمعته يسأل عمن أوصى لعبده بعتقه، أيعتق حين يموت الموصي؟ أم حتى يقام المعتق؟ فقال: أما العبد الذي لا يشك فيه أنه يخرج من الثلث، لكثرة ما ترك الموصي من المال، وإذا كان ذلك مأمونا، فأرى أنه حين مات الموصي وإن مات قبل أن يقام ورثته من الأحياء.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إنما يقام ما يخشى ألا يحمله الثلث، وأما ما لا يشك أنه أقل من الثلث فهو حر يوم يموت الموصي. ولا يدخل هذه المسألة الاختلاف في الذي يعتق عبده في مرضه، وله مال مأمون، هل يسأل عتقه الآن في مرضه؟ أو حتى يموت؟ لاحتمال أن يطول مرضه حتى يتلف ذلك المال المأمون، وإن كان ذلك نادرا. وأما هذا العبد الذي مات سيده الذي أوصى بعتقه وله مال مأمون لا يشك أن العبد يخرج من ثلثه، ليس فيه أمر يتوقع، وبالله التوفيق.(13/54)
[: الرجل يوصي بطعام فيمكث فترة ثم يوصي بدراهم]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن رجل بعث إلى رجل بطعام يقسمه، فقسمه، ثم أقام بعد ذلك سنين، ثم مات وأوصى بدراهم وغير ذلك، ولم يذكر الطعام، ثم قدم الباعث وكان غائبا، فأراد من ورثته تفسير ذلك القمح وقسمته، وهل قسمه أم لا؟ هل ترى ذلك يلزم الورثة؟ فقال: لا يلزمهم شيء، قيل له: أترى أن يستحلفوا؟ فقال: ما أرى ذلك عليهم. سمعت السائل يقرأ عليه المسألة، وسمعت من مالك الجواب، ولم أفهم كل ما قرأ عليه في المسألة، فأخبرني أصحابنا بما قرئ هذا عليه، وأما الجواب فقد سمعته من مالك، ورأيت السائل يقرأ عليه الكتاب.
محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يلزم الورثة إقامة البينة على أنه قد قسم الطعام الذي بعث إليه ليقسمه، كأنه إنما كانت تجب عليه اليمين لقد قسمه، فقد سقطت لموته. وأما الورثة فاستحلافهم بالتهمة أمر مختلف فيه، فجوابه على القول بأن اليمين لا تحلف بالتهمة. ولو حقق الباعث للطعام الدعوى على الورثة بأنهم يعلمون أنه لم يقسم الطعام، للحقت اليمين من كان منهم مالكا لأمر نفسه قولا واحدا. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لعبده بوصية فيشهد عليه ابناه وله ورثة سواهما]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لعبده بوصية فيشهد عليه ابناه وله ورثة سواهما، فقال: شهادتهما له جائزة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ لا تهمة عليهما في شهادتهما للعبد بالمال؛ لأنه عبد لجميعهم، ولا تعلق في المال الذي أوصى له به، فيتهم الشاهدان على إنفرادهما بولاية دون من سواهما ممن لا يرث(13/55)
الولاء بحال، أو دون من سواهما ممن هو أحق منهما بالولاء ما كانا حيين. وإنما يعتق العبد في وصية سيده له إذا أوصى له بثلث ماله؛ لأنه يكون موصى له حينئذ بثلث نفسه، ولا يصح للعبد ملك نفسه.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم. وتأتي المسألة أيضا في رسم أسلم ورسم الرهون من سماع عيسى، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى وبالله التوفيق.
[: الرجل يوصي لأمهات أولاده بأغدق من حائط]
ومن كتاب الوصية الذي فيه الحج والزكاة قال وسمعته يسأل عمن أوصى لخمس مواليات له، أمهات أولاده، عزلهن وسماهن بأغدق من حائط قال: تعطى مولاتي فلانة من ثمر هذه الأغدق في كل سنة ما عاشت خمسة آصع، وتعطى فلانة منها في كل سنة ما عاشت عشرة آصع، وتعطى فلانة منها في كل سنة ما عاشت ثمانية آصع، حتى يسمى لكل واحدة منهن آصعا مسماة تعطاها في كل سنة ما عاشت، فكن يعطين كذلك، فماتت منهن أربع نسوة، وبقيت منهن واحدة، فقال الورثة: قد رجع إلينا ما كان يكون لهن، وقالت المولاة: لا بل ذلك لي. قال: بل يرجع إلى الورثة، ولا يكون لها منه شيء، ولا يكون لها إلا ما سمي لها، ويحاصها الورثة في ثمر تلك النخلات بالأربع نسوة، اللاتي متن، فما صار لهن من شيء من المحاصة كان للورثة، فقلت له: إنما هو رجل عزل خمس نخلات له فأوصى فيهن بخمس مولايات له ما عشن، لكل واحدة منهن خمسة آصع ما عشن في كل سنة، فمات الأربع نسوة منهن، وبقيت واحدة، ولم تخرج الخمس نخلات كلها إلا خمسة أصع في سنة منها، أيتم لها(13/56)
الخمسة الآصع التي أوصى لها بها؟ أم تحاص بوصية صواحبها في ثمرة تلك النخل، فلا يصير لها من الخمسة الآصع إلا خمسها، وهو صاع. فقال لي: لا يتم لها ذلك، ولكن يحاصها الورثة بوصية صواحبها فينقص بذلك، ويكون ذلك للورثة، فقيل له: فإن النخل أخرجت سنة ستين صاعا، فقالت الباقية: أعطوني ما أوصى لي به، واحسبوا لي ما بقي من الثمن، فإني أخاف أن لا يخرج النخل ثمرا فيما أستقبل، فقال: وربما قصرت النخل، قيل له: ربما كان الجراد فقصرت، فقال: أما لو كن كلهن، رأيت ذلك أن يحبس لهن، وأرى إذا قصرت النخل عاما أن يتم ذلك لهن من العام المقبل، فأما هذه الواحدة فلا أرى أن يوقف ذلك بها، ولكن يوقف لها منه ما يرى، فقيل له: أرأيت إن ضمنا لها مكيلة ما لها؟ فقال: ليس ذلك لكم، هي لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم.
قال محمد بن رشد: في هذه المسألة أن حظ من مات من الخمس موليات من الثمرة في المحاصة يرجع إلى الورثة، ولا يكون للباقية منه شيء، هو على اختلاف قول مالك في المدونة في الذي يوصي لقوم بأكثر من ثلث ماله، فيموت بعضهم قبل موت الموصي، هل يرجع حظه إلى الورثة فيحاصون به من بقي منهم؟ أو لا يرجع إليهم ويكون لمن بقي من الموصى لهم حتى يستكملوا وصاياهم؟ إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس؛ لأن حظ من مات من الموليات من الثمرة يبطل بموتها قبل وجوب الثمرة لهن، كما يبطل حظ من مات من الموصى لهن بالثلث بموته قبل موت الموصي، فيلزم في هذه المسألة على قياس القول بأن من مات من الموصى لهم قبل موت الموصي تبطل وصيته، ولا يحاص بها الورثة أهل الوصايا، لا يرجع حظ من مات من الموليات من الثمرة إلى الورثة، وتكون لمن بقي منهن حتى يستكملن وصاياهن، ولا اختلاف في أن ما نقص من حظهن في هذا العام(13/57)
يوفونه من ثمرة العام الذي بعده. إن كان فيه فضل عن حقوقهن. وقد مضى في رسم الوصايا القول في توقيف ما فضل من الثمرة عن حقوقهن، لما يخاف من تقصيرها فيما يأتي عن حقوقهن، وإن ذلك إنما يكون على الاجتهاد في كثرة ما أخرج الحائط وقلة ما أوصى به، وقلة ما أخرج الحائط وكثرة ما أوصى به، وفي أمن الحائط والخوف عليه، وهو معنى قوله في هذه الرواية. وقوله في الضمان: ليس ذلك لكم، هي لا تريد ضمانكم ولا اتباعكم، ظاهره خلاف ما في سماع سحنون بعد هذا. وقد يحتمل أن يتأول على ما يجمع به بين الروايتين، حسبما ذكرناه في رسم الوصايا المذكور، ولم يتكلم في هذه الرواية على توقيف الحائط، وذلك من حق الموصى لهم إذا حمله الثلث وأجاز الورثة الوصية، وهنا قال فيما يأتي في سماع سحنون: إن ضمنوا ذلك له، وإلا وقف العبد والحائط. ومعنى ذلك: إذا رضوا بضمانهم. وبالله التوفيق.
[: أوصى فقال في وصيته ثلثي لفلان ولفلان دينار ولفلان ثلاثة]
ومن كتاب الوصايا وسمعته يسأل عمن أوصى، فقال في وصيته: ثلثي لفلان، ولفلان دينار، ولفلان ثلاثة، قال: يخرج من الثلث الديناران والثلاثة، ثم يقسم ما بقي من الثلث. قيل له: أرأيت إن أراد أن يأخذه لنفسه؟ فقال: ليس ذلك له.
محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: ثلثي لفلان، معناه: إلى فلان يلي قسمته فيما يراه من وجوه البر، فلذلك قال: إنه يخرج من الثلث الديناران والثلاثة، ثم يقسم ما بقي منهم، وذلك بين مما وقع في كتاب ابن عبدوس لأنه ذكر الرواية فيه عن مالك، فقال: إلى فلان ثلثي، ولفلان ديناران ولفلان ثلاثة، فليبدأ بالتسمية، ثم يأخذ فلان باقي الثلث يلي قسمته(13/58)
في سبيل الخير. قال أشهب: وذلك أنه قال: إلى فلان ثلثي فيخرج ذلك أن يلي إنفاذه. وأما. إن قال: ثلثي لفلان، ولفلان ديناران، ولفلان ثلاثة، فيتحاصوا إذا لم يقل في التسمية من ثلثي. وهذا أحب إلي. وقد تقدم مثله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم. وفي رسم الوصايا الذي قبل هذا من هذا السماع. ويأتي مثله لابن القاسم في رسم الكبش من سماع يحيى. ولمالك قول آخر أنه بيد أهل التسمية. وقد روي عن مالك أنه بيد أهل الجزء. وقوله: إنه ليس له أن يأخذه لنفسه صحيح، إذ لا إشكال في أنه ليس أن يستأثر بجميعه على حال، وإنما الكلام هل له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم سن من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: له وصيان فسأل أحدهما ثلاثين دينارا من غلة دار له قد تفالس بها]
مسألة وسمعته يسأل عمن له وصيان فسأل أحدهما ثلاثين دينارا من غلة دار له قد تفالس بها وأمكن من نفسه وقال: اسجنوني، ولليتيم اثنان وعشرون دينارا عينا، ودار غلتها خمسة دنانير، فأراد اليتيم أن يسكن منزلا منها كراؤه دينار، فقال الوصي الذي ليس له قبله شيء: أنا أتكارى لك منزلا بخمسة دراهم، وأكري هذا البيت بدينار، فقال له: ثلاثون دينار عند مفلس، وله اثنان وعشرون دينارا، أرى إن كان يتكارى له نحوا من منزله قريبا منه من مسجده في عمران فذلك له، وإن كان إنما تكارى له قاصيا من منزله ومسجده، أو في خراب، فليس ذلك له، فقيل له: أرأيت هذا الوصي المنقطع بهذه الثلاثين دينارا يخرج من الوصية؟ فقال: نعم أرى أن يخرج منها إذا وجد من يدخل مكانه من أهل الثقة مع الوصي(13/59)
الباقي، فقيل له: أرأيت إن كان الوصي الباقي ثقة؟ أيدخلون معه؟ فقال: نعم، إذا كان أمرا يخاف ألا يقوى عليه وحده، فإن كان أمرا يقوى عليه لم يدخل عليه آخر.
محمد بن رشد: رأى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما ذهب إليه الوصي، من أن يكري لليتيم المسكن الذي أحب اليتيم سكناه بدينار، ويكري له منزلا سواه في موضع آخر بخمسة دراهم، نظرا لليتيم لغلة ماله، إذ قد ذهب منه عند الوصي ثلاثون دينارا فلم يبق منه إلا اثنان وعشرون دينارا، إذا كان الموضع الذي يتكاراه له قريبا من منزله ومسجده، وفي عمران، وذلك نظر صحيح لليتيم، لما عليه من الضرر في البعد عن مسجده ومنزله. وفي السكنى في خراب. والوصي الذي أكل من مال يتيمه ثلاثين دينارا، ثم تفالس بها، وقال: اسجنوني، واجب أن يعزل عن النظر له إن كان وحده، إذ لا يؤتمن مثله على مال اليتيم، وأما إن كان معه غيره، فلم يقم وحده بالنظر له، ولا وجد من يدخل معه سوى الأول، فمن النظر لليتيم أن يقر عن النظر له مع الوصي الآخر لأنه شاركه في النظر الذي لا يقوى عليه وحده، ولا يمكنه من أن يغيب على شيء من مال اليتيم، فهو معنى قول مالك: إنه يخرج عن الوصية إذا وجد ثقة يدخل مع الوصي الآخر مكانه، وأما إن قام الوصي الآخر بالنظر لليتيم وحده، أو وجد من أهل الثقة من يدخل معه مكانه فلا نبغي أن يقر على الإيصاء بحال، إن كان الوصي الآخر يقوم بالنظر وحده، فلا يدخل معه غيره كما قال مالك إذ يكره أن ينظر له مع غيره، إلا أن يرى ذلك الإمام. فقد تبين له أن الموصي لم يرد أن ينفرد بالنظر لولده وحده. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال بيعوا غلامي ممن أحب فقال أحب أن تبيعوني من فلان]
مسألة وسمعته يسأل عمن أوصى فقال: بيعوا غلامي ممن أحب، فقال: أحب أن تبيعوني من فلان، فباعوه منه بستين دينارا وهي قيمة(13/60)
العبد، ولم يعلموه ما أوصى به الميت، ثم علم، فقال: لم تعلموني بما أوصى به الميت، ولو أعلمتموني ما اشتريته بهذا الثمن، أترى له أن يرده؟ فأطرق فيها طويلا، ثم قال: ما أرى له شيئا، إنما قيل للعبد: ممن تحب أن نبيعك؟ فقال بيعوني من فلان، ولا أحب فلانا ولا فلانا، فلا أرى له شيئا.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في الواضحة مثل قول مالك، وقال: إنما هذا وصية للعبد، وأما لو قال بيعوه من فلان، فباعوه منه ولم يخبروه وكتموا ذلك، فله الرجوع بثلث ثمنه؛ لأنها ها هنا وصية للذي اشتراه، بخلاف قوله ممن أحب. قال ابن نافع في المجموعة. ولو أوصى ببيع عبده ممن أحب، فأحب العبد من وارث الميت، فليوضع عنه ثلث الثمن. وبالله التوفيق.
[مسألة: حضرته الوفاة ولا وارث له وله ابن مملوك]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن حضرته الوفاة ولا وارث له، أو له ورثة مواليه، وله ابن مملوك، فلما خشي الموت، ابتاع ابنه ثم مات، فقال: إن استيقن أن ما اشترى به ابنه يخرج من الثلث، عتق وورث أباه، إن استوقن أن ما اشتراه به يخرج من ثلثه، فإنه ربما كان الشيء الذي يشك فيه، فلا يدري أيخرج ذلك من الثلث أم لا يكون له الدين والأموال الغائبة؟ قال: وليس له أن يشتريه بأكثر من ثلثه.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم، أن للمريض أن يشري في مرضه من يعتق عليه بثلث ماله، كان ابنا أو أبا أو أخا فيعتق بشرائه إياه حين اشتراه، كان وارثا يرث جميع المال إذا انفرد به، أو بعضه إن لم ينفرد به، أو لم يكن وارثا لكون غيره أحق منه بجميع المال. ووجه قوله أن(13/61)
المريض لما كان له التصرف في ثلث ماله من غير تحجير عليه فيه، كان له أن يشتري به من يعتق عليه، فإذا صح له العتق قبل موت المريض، وجب له الميراث، ولم يصح أن يحال بينه وبينه. هذا مذهب ابن القاسم، أن العتق يصح له عنده بنفس شرائه إياه بثلث ماله دون ترقب، وإن تلف باقي ماله قبل موته، لم ينتقض بذلك عتقه، كالرجل المريض يبتّل عتق عبده في مرضه، وله مال مأمون، فيعجل عتقه، ثم يتلف المال المأمون، إن العتق لا يرد، وكذلك في كتاب ابن المواز من اشترى ابنه في مرضه فهو حر مكانه، ويرثه إن اشتراه بثلث ماله، ويبدأ على ما سواه من عتق وغيره، وهو دليل هذه الرواية ومما في المدونة. وقال ابن القاسم في المدونة واحتج فقال: ولم ينظر فيه إلا بعد الموت ما ورث، وكذلك إن لم يحمله الثلث، فإنه يعجل منه عتق ما حمله الثلث. وأصبغ يرى أنه لا يرث بحال؛ لأنه لا يعتق إلا بعد الموت، قال ابو إسحاق التونسي: وهو القياس، غير أنه يستحسن أنه إذا خرج من الثلث، فكأنه لم يزل حرا من يوم اشتراه، ألا ترى أن المبتل في أحد القولين، إذا اغتل غلة بعد التبتيل أو النخل إذا أثمرت بعد موت الموصي إن الأصول وحدها هي التي تقوم، فإذا خرجت من الثلث اتبعتها الغلات، كأنها لم تزل من يوم بتلت ملكا لمن بتلت له، ولَلذي حملنا عليه قول ابن القاسم، من أن الذي ذهب إليه أن العتق يعجل عليه بنفس الشراء دون توقف هو الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله، فبذلك يسلم من الاعتراض، وإن لم ينظر فيه إلا بعد الموت، على ما قاله ابن القاسم في أول رسم من سماع عيسى، فحمله الثلث ورث، كأن الغيب كشف أن العتق قد كان وجب له قبل موته، لحمل الثلث له. ولأشهب في أول رسم من سماع عيسى بعد هذا مثل قول أصبغ: إنه لا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، كان ممن يحجب أو ممن لا يحجب، فإذا اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير. وقد اختلف قول أشهب في ذلك، حكى عنه ابن المواز في كتابه: أن له شراءه بماله كله، إن لم يكن معه وارث يشاركه في الميراث وإن كان معه(13/62)
وارث يشاركه فيه فليس له اشتراؤه إلا بالثلث فأقل، يريد والله أعلم: فيرث بقية المال مع الوارث الذي يشاركه في الميراث. ووجه قول أشهب في تفرقته هذه بين أن يكون له وارث يشاركه في الميراث، وبين أن لا يكون له وارث يشاركه فيه، هو أنه إذا لم يكن له وارث يشاركه فيه، مثل أن يكون وارثه ابن عمه، فيشتري في مرضه أخاه، أو يكون وارثه أخاه، فيشتري ابنه هو من حجة المريض أن يقول لابن عمه إذا اشترى أخاه أو لأخيه إذا اشترى ابنه: لا منفعة لك في أن تمنعني من شرائه بجميع مالي؛ لأني إن اشتريته بالثلث أو بأقل من الثلث، كان أحق منك بجميع المال؛ لأنه يحجبك عن الميراث، إذ هو أقرب إلي منك. فإذا كان له وارث يشاركه في الميراث، مثل أن يكون له أخ، فيشتري في مرضه أخا له آخر، أو يكون له ابن، فيشتري في مرضه ابنا آخر، كان له أن يمنعه من أن يشتريه بجمع المال؛ لأنه إذا اشتراه بالثلث ورث معه بقية المال، وإذا اشتراه بجميع المال لم يبق له ما يرث. وقد وقع في أول سماع عيسى لابن وهب، أنه إن كان المشترى يحجب من يرث المشتري حين يصير جميع الميراث له، كان له أن يشتريه بجميع ماله أو بما بلغ، فيرث بقية المال، وإن كان ثم من شاركه في ميراثه ولا يحجبه، فلا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، فإن اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير؛ لأنه إنما يعتق بعد موت المشتري، وقد صار المال لغيره. والتفرقة على هذا الوجه لا وجه لها؛ لأنه إذا لم يكن له ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، وليس له من يشاركه في الميراث وكذلك لا يكون له ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، وليس له من يشاركه في الميراث وإذا لم يكن معه ميراث إذا اشتراه بالثلث فأقل، فمن حقه أن يقول: ليس لك أن تشتريه بجميع المال فتبطل ميراثي ولا بأكثر من الثلث فتبطل من حقي ما زدت على الثلث.
وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، أنه يجوز للرجل أن يشتري ابنه بجميع ماله في مرضه إن شاء، ويرثه إن فعل، ولا يجوز له أن(13/63)
يشتري غيره، لا أبا ولا أما ولا جدا ولا أخا، يريد إلا بثلث ماله، ولا يرثه إن فعل ذلك. قال: وذلك لأن الرجل يستلحق الولد في صحته، فيلحق به، ولا يستلحق غيره ولا يلحق به إن فعل. وقول ابن الماجشون هذا، هو القول الذي وقع في أول رسم من سماع عيسى لغير ابن وهب وأشهب من الرواة. وهو أظهر الأقوال في هذه المسألة وأولاها بالصواب. وبالله التوفيق.
[مسألة: أعطته ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت فطلب الزوج ذكر الحق]
مسألة وسمعته يسأل، فقيل له: إن امرأة أعطتني ذكر حق لها على زوجها ثم ماتت، فسألني زوجها أن أعطيه ذكر الحق، وهو زوجها ومولاها، ولا وارث لها غيره، فقال له يسأل: فإن كان على المرأة دين فلا تعطه إياه، وإن كانت لا دين عليها، فأشهد عليه وأعطه إياه. فقيل له: إن المرأة قد أوصت بوصايا، فقال له: إن كان لا دين عليها فأشهد عليه وأعطه إياه.
قال محمد بن رشد: قوله: فإن كان على المرأة دين، فلا يعطه إياه، معناه دين لا يفي به ما خلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق، ومثل ذلك يلزم في الوصايا أيضا، لا يدفع إليه ذكر الحق إن كان لا يفي بها ثلث ما خلفت من المال سوى ما لها على زوجها في ذكر الحق وظاهر الرواية أنه فرق فيها بين الدين والوصايا، ولا فرق بينهما. وقد مضت هذه المسألة متكررة في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوديعة والكلام عليها. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتيم لرجل أمر نسيبا له بغلام له أن يضربه فقتله]
مسألة قال وسمعته يسأل عن يتيم لرجل أمر نسيبا له بغلام له أن يضربه، فجعل نسيبه يضرب الغلام، وهو يقول: اقتل(13/64)
اضرب فلم يزل يضربه حتى قتله، فقال: على نسيبه الذي ضربه له غرمه، فقال له وصي اليتيم: فإني استعديت عليه، فاغرم لي، ثم إن يتيمي حضرته الوفاة، فخاف مما كان يرى من ذلك فأوصى بوصايا وقال: قد كنت وقعت في أمر ذلك الغلام فيما تعلم فاشتر رقبة فأعتقها عني، فزاد ما أوصى به على الثلث فأردت أن أشتري الرقبة فأعتقها فأبى أهل الوصايا، فقال: إن لم يكن سمى ذلك العتق، فكان لما وقع فيه من أمر الغلام، فذلك بالحصص فإن كان سمى ذلك فهو مبدأ.
قال محمد بن رشد: كفارة قتل العبد ليست بواجبة، فإذا أوصى بها فلا تجب تبدئتها على الوصايا؛ لأنها تطوع، إذ ليست بواجبة، والعتق التطوع إذ لم يكن بعينه لا يبدأ على الوصايا عند مالك، وإن كان عنده آكد منه لقرب ما بينهما، وإنما أمر بتبدئة هذه الرقبة على الوصايا إذ قال: إنه إنما أوصى بها لما وقع فيه من أمر الغلام، إذ لم يقصد إلى قتله وإنما أراد ضربه، فجاء من موته من الضرب ما لم يرده، فأشبه الخطأ، إذ ليس بعمد على الحقيقة، وإنما هو شبه العمد، ومن أهل العلم من لا يرى فيه القصاص، فهو وجه ما أمر به مالك من تبدئة هذه الرقبة على الوصايا. والله أعلم.
[مسألة: أوصى أن تباع جارية له ممن أحبت وأوصى مع ذلك بوصايا]
مسألة قال وسمعته يسأل عمن أوصى أن تباع جارية له ممن أحبت، وأوصى مع ذلك بوصايا، وله حائط لا يدري ما تبلغ غلته ولا يدري ما يدخل عليها من القول فيما أوصى لها به؟ فقالت: بيعوني من فلان فقومت بمائتي دينار، فقال الذي هويت أن يشتريها أنا أشتريها بمائتي دينار، ولي ثلث ثمنها؛ لأن الميت أوصى أن تباع ممن(13/65)
أحبت. قيل له: إنا نخاف أن يدخل عليها عول في ثلث ثمنها، فقال: يصير لها من ذلك ما صار، فهو لي، فبعناه إياها بمائتي دينار، وعلى هذا من الشرط، فقال: هو الآن لا يدري بكم اشتراها؟ ففيه شيء، ولكن الصواب عندي أن لو بعتموها إياه بمائتي دينار، على أن لها وصية فما صار لها منها دفعناه إليها، وهي جاريتك، فإن شئت أن تأخذه بعد أخذته، وإن شئت أن تتركه تركته فقيل له: إنه لم يوص لها بشيء، إنما أوصى أن تباع ممن أحبت، فقال: هذا الصواب عندي، فروجع في ذلك مرارا، فقال: كنت أرى هذا الصواب أن يقول: ولها وصية، فما صار لها هناك دفعناه إليها، ولا يقولون: فما صار لها دفعناه إليك، هذا الوجه والذي هو أحسن.
قال محمد بن رشد: بيع الجارية من الرجل الذي أحبت أن تباع منه على هذا الوجه الذي قاله مالك حسن. كما استحسنه، يصل المشتري به إلى ما أراده على وجه جائز، كأن حقيقة الوصية إنما هي لها، إذا القصد بها أن يصل بذلك أن يبتاعها من تحب أن تباع منه. ألا ترى أنه لو اشتراها بقيمتها ولم يعلم بالوصية لما كان له أن يرجع على الورثة، على ما قاله فوق هذا. وقد يفترق الحلال من الحرام، وإن كان المعنى المقصود إليه فيها سواء بافتراق اللفظ، إذا افترق بذلك الحكم. ألا ترى أنه لو قال الرجل للرجل الغائص في البحر: استأجرك بدينار على أن تغوص لي في هذا الموضع فتخرج هذه النحلات مملوءة مما أصبت في قعره لجاز؟ ولو قال له: غص في هذا الموضع وأخرج هذه النحلات مملوءة مما أصبت في قعره وهي لي بدينار لم يجز؛ لأن هذا بيع غرر، والأول إجارة صحيحة. والغرض فيها سواء إلا أن الأحكام في ذلك مفترقة، لمخالفة حكم البيع لحكم الإجارة. وسيأتي في رسم استأذن من سماع عيسى أنها تبدأ بثلث ثمنها على أهل الوصايا، حسبما يأتي القول عليه فيه إن شاء الله. وبه التوفيق.(13/66)
[مسألة: كم يوضع من ثمن الذي أوصى فيه أن يباع للعتق]
مسألة قال: سمعته يسأل كم يوضع من ثمن الذي أوصى فيه أن يباع للعتق، فقال: الثلث، مثل الذي يوصي فيقول: بيعوا عبدي ممن أحب، فقيل له: أرأيت إن لم يوجد من يشتريه إلا بوضيعة الثلثين؟ فقال: لا يباع ولا تنفذ له الوصية.
قال محمد بن رشد: في كتاب الوصايا الأول من المدونة لمالك من رواية ابن القاسم عنه: إنه يقال للورثة: إما أن تبيعوا بما وجدتم وإما أعتقتم من العبد ثلثه. وقال ابن القاسم: هذا مما لم يختلف فيه قول مالك. وقد اختلف قوله على ما في هذه الرواية عنه. فقول سحنون في المدونة: وقد بينا هذا الأصل باختلاف الرواية قبل هذا، أصح من قول ابن القاسم فيها: إن هذا مما لم يختلف فيه قول مالك؛ لأنه أصل قد اختلف فيه قوله. فمرة رد قوله: بيعوا عبدي ممن يعتقه أو ممن أحب، وصية للعبد، فقال: إن لم يرد الذي أحب العبد أن يباع منه أن يشتريه إلا بأكثر من وضيعة ثلث ثمنه، قيل للورثة: إما بعتموه منه بما أراد وإلا أعتقتم ثلثه، وإن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من ثلث ثمنه، قيل لهم: إما بعتموه للعتق بما وجدتم، وإلا أعتقتم ثلثه، ومرة ردها وصية للمشتري في المسألتين، فقال: ليس على الورثة أكثر من أن يبذلوه للعتق، وللذي أحب العبد أن يباع منه بوضيعة الثلث، ومرة فرق بين المسألتين، فرأى قوله: يبيعوا عبدي ممن يعتقه وصية للعبد إن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق بوضيعة الثلث، قيل لهم: إما بعتموه بما وجدتم، وإما أعتقتم ثلثه، ورأى قوله: بيعوا عبدي ممن أحب وصية للمشتري إن لم يرد من أحب العبد أن يباع منه أن يشتريه بوضيعة الثلث، وعلى هذا الاختلاف، يختلف إذا دخل العبد عول بعد بيعه ونفوذ العتق له هل يرجع بالعول على المشتري وينفذ العتق، أو على العبد، فيباع منه بما دخله من العول، ولا يكون على المشتري شيء؟ وسيأتي في(13/67)
سماع موسى بن معاوية، إذا بيع للعتق بوضيعة الثلث، ثم جاء درك على المالك من دين ثبت عليه، فالاختلاف في ذلك، هل يرجع على العبد أو على المشتري جار على هذا الاختلاف. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال رقيقي وثيابي لفلان مات وقد هلك بعض رقيقه]
مسألة قال: وسمعته يسأل عمن، ثم أوصى فقال: رقيقي وثيابي لفلان مات وقد هلك بعض رقيقه، وخلق بعض ثيابه، واستفاد رقيقا وثيابا غير ثيابه ورقيقه، فقال: للموصى له رقيقه الذين استفاد، وثيابه، ومما يبينه أن يوصي بسدس ماله فله سدس ماله يوم مات.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في آخر رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وفي أول رسم الوصايا الذي يتلوه، والله الموفق.
[: توفي وأوصى إلى أخ له وترك ابنا فزوج العم ابن أخيه ابنته]
ومن كتاب الطلاق وسئل عمن توفي وأوصى إلى أخ له، وترك ابنا، فزوج العم ابن أخيه ابنته، فأمهرها من مال اليتيم مالا كثيرا، نحوا من نصف مال اليتيم، فكان الذي أصدقها خمسين دينارا، ثم مات العم الذي أوصي إليه باليتيم فأوصى بهما جميعا إلى رجل، فقال: ما كنت أرى أن يجوز ذلك، ولو فعل ذلك لغير ابنته لجاز ذلك، فأما ابنته يزوجها بيتيمه ويستكثر لها من الصداق، فلا أرى ذلك له، فقيل له: فإن الجارية قد فني مالها أفترى للذي أوصي إليه بها أن ينقص من ذلك المهر؟ فقال: أرى أن ينقص الذي أوصي بها إليه عشرين(13/68)
دينارا من الخمسين، ويكتب بذلك كتابا ويشهد عليه يقول: ذهب مالها، ورأيت ذلك خيرا له، فأرجو أن يكون من ذلك في سعة، فقيل له: أفترى أن ينفق عليها من مال زوجها فإنه قد ذهب مالها؟ فقال: أبلغ؟. فقيل قد راهق، فقال: لا أرى أن ينفق عليها من مال زوجها حتى يبلغ زوجها.
قال محمد بن رشد: إجازته في هذه الرواية للموصى لهما أن يرد الصداق إلى ما يرى نظرا لهما بما أشار به عليه، ويشهد على ذلك من فعله ونظره واجتهاده، دون أن يرفع ذلك إلى السلطان أو يحضر لفعله ذلك عدولا يشهدون له بالسداد بينهما فيما فعله، دليل بين أنه حمل فعله على السداد، خلاف قوله قرب آخر رسم الوصايا قبل هذا، وخلاف ما في القسمة من المدونة، مثل ما في كتاب الرهون منها، حسبما مضى هناك بيانه. وأما قوله: إنه لا ينفق عليها من مال زوجها حتى يبلغ، فهو مثل ما في المدونة، خلاف ما في مختصر محمد بن شعبان عن مالك، من أنه إذا بلغ الصبي الوطء وإن لم يحتلم، وجب عليه الدخول على زوجه، وبالله التوفيق.
[: أوصى بوصايا من دينارين وثلاثة فدخل المال العول]
ومن كتاب العتق قال وسمعته يسأل عمن أوصى بوصايا من دينارين وثلاثة، وأشياء غير ذلك، وأن يشتري رقبة مكفولة أو معينة بعينها بعين مكتوب هذا في وصيته، فدخل المال العول، فقال: أرى كل ما أوصى يدخله العول، إلا الرقبة لأنه قال فيها: مكفولة أو معينة بعينها فإذا دخلها العول، لم تكن مكفولة ولا معينة بعينها.
قال محمد بن رشد: لمالك في كتاب ابن المواز من رواية أشهب(13/69)
أيضا وكذلك لو قال مستعينه أو محوزه، قيل لأشهب: فإن قال: مستعينه ابتديها. فقال: نعم، وهذا بين لا إشكال فيه؛ لأن الواجب في الوصايا أن يتبع فيها قول الموصي، فلا يخرج عما يظهر من إرادته، وعلى قياس هذا لو أوصى بوصايا أن تعتق عنه رقبة بغير عينها، وتعطى بعد العتق دنانير مسماة، لوجب أن تبدأ الرقبة على الوصايا دون الدنانير التي أوصى لها بها، فيحاص بها أهل الوصايا ولا يبدأ بها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يشترى عبد لبعض ورثته فيعتق عنه]
مسألة قال: وسألته عمن أوصى أن يشترى عبد لبعض ورثته فيعتق عنه، أيزاد الوارث مثل ثلث ثمنه؟ فقال لي: نعم، فقيل له: أرأيت إن كان العبد ذا ثمن يكون ثمنه مائتي دينار ألا يتهم على التوليج لوارثه؟ فقال: وهل يعلم هو أن وارثه يزاد في ثمن العبد مثل ثلث ثمنه؟ فقيل: نعم، هو يعلم ذلك، فقال: إنما هذا قضاء مضى به، ولم أسمع أن أحدا اتهم في مثل هذا. قال أشهب: لا أرى ما قال مالك في هذا صوابا، وأرى إن كان العبد الذي أوصى أن يعتق عنه خسيسا لا ثمن له حتى لا يتهم الميت أن يكون أراد بذلك وارثه، فأراد أن يزاد في العبد ثلث ثمنه، وإن كان ذا ثمن فإنه يتهم أن يكون أراد بذلك وارثه، فلا أراه يجوز له أن يزاد ثلث ثمنه على قيمته، إن شاء أن يبيعه بقيمته باعه وعتق، وإن أبى إلا أن يزاد لم يزد وبطل عتقه.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا خلاف ما في المدونة في البيوع الفاسدة والوصايا. وقال أشهب: يأتي على مذهبه فيها، ولو فرق في هذا بين الغلام الذي يعلم وجه الحكم فيه من الجاهل به لكان قولا. وبالله التوفيق.(13/70)
[مسألة: أوصى لرجل بما يصيب رجلا من ولده فهلك بعضهم قبل أن يهلك الرجل]
مسألة وقال في رجل أوصى لرجل بما يصيب رجلا من ولده وهم يومئذ خمسة، فهلك بعضهم قبل أن يهلك الرجل، والوصية على حالها: إن للرجل الذي أوصى له ما يصيب رجلا منهم يوم يموت الهالك فإن ولد له قبل أن يموت الهالك حتى يكونوا أكثر من عددهم يوم أوصى فله أيضا ما يصيب رجلا، وإن هلكوا إلا رجلا واحدا، فهو حينئذ إن أخذ مثل ما يأخذ هذا الرجل الباقي من ولده أخذ أكثر من الثلث. قال مالك: ليس له ذلك، ولكن له الثلث حينئذ، وإنما ينظر في ذلك يوم يموت الموصي، فيكون له مصابة رجل يوم مات.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إذا وصى له بمثل حظ أحد أولاده، فإنما له مثل حظ أحدهم يوم وجوب الوصية له قل عددهم أو كثر، لا يوم أوصى، إذ لم يوص له بجزء معلوم، ولو أوصى له بجزء معلوم لكان له ذلك الجزء من ماله يوم وجوب الوصية له بموته، لا تنقص منه ولا تزاد عليه. هذا ما لا اختلاف فيه لوجهين: أحدهما: أن القصد من الموصي في ذلك كله مفهوم معلوم، والثاني: أن الموصي محمول على أنه علم بزيادة ماله ونقصانه، وبنقصان عدد ولده وزيادتهم، فأقر وصيته في ذلك كله على حالها، ولم يغيرها، فوجب أن يعتبر في ذلك كله قل الأمر عليه يوم الموت، لا ما كان عليه يوم الوصية، ومن هذا المعنى إذا أوصى له بدنانير غير موصوفة، فحالت السكة بزيادة أو نقصان أو إلى خلافها في الصفة، أو أوصى له بكيل فزيد فيه أو نقص منه قبل موته، فروي عن ابن نافع فيمن أوصى بدنانير غير موصوفة، أنه يخرج عنه من السكة الجارية يوم موته، لا يوم وصيته، وذلك عندي إذا علم بما حالت إليه السكة قبل موته، فأقر وصيته ولم يغيرها على ما قال ابن كنانة في من أوصى لرجل بدنانير، فحال وزن الناس(13/71)
فصار يجوز بينهم أنقص من ذلك، أو أوزن، إنه إنما يعطى ما كان يجوز بين الناس بين موت الموصي إن كان يعلم جواز الناس يومئذ، وإن لم يكن يعلم فإنما للموصى له الوزن الذي كان يعلم به الموصي. قال: وكذلك في المكائل تتغير. وقد نزلت بطليطلة مسألة من أوصى لرجل بدنانير، فحالت السكة إلى سكة أخرى فشاور فيها فقهاء قرطبة، فأفتوا بوجوب الوصية من السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة الواقعة في آخر رسم أوصى من سماع عيسى، وليست تشبهها؛ لأن الوصية بذلك إنما كانت بحضرة وفاته، والخيش والمسح مملؤان طعاما والخريطة مملؤة دراهم، وإنما كانت تشبهها لو أوصى بهما والخيش والمسح مملؤان قمحا والخريطة مملؤة دنانير، فتوفى والخيش والمسح مملؤان شعيرا والخريطة مملؤة دراهم، وما أشبه ذلك. فمسألة الذي أوصى بجزء من ماله، أو بمثل نصيب أحد ولده، أشبه بها، وقد بينا وجه الحكم فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلثه إلى رجل ليس بوارث له]
مسألة قال مالك في رجل يوصي بثلثه إلى رجل ليس بوارث له، لينفذه حيث سمي الهالك، فيريد الورثة أن يقوموا منه، ويقولون: نحن نتهمه، إن ذلك ليس لهم، إلا أن يكون فيما أوصى به عتاقة، أو شيء تبقى منفعته للوارث، فيكون لهم أن يقوموا معه؛ لأن الولاء يصير إليهم، ويتهمونه أن يقول: قد أعتقت، ولم يعتق عنه أحدا، فلهم القيام معه في العتاقة، فإن كان الوصي وارثا فلهم القيام معه في العتاقة وفي غيرها حتى ينفذ كل ما جعل إليه الهالك من العتق وغيره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(13/72)
[مسألة: يهلك ويوصي للرجل بخمسين دينارا يتجر فيها سنة له ربحها]
مسألة قال مالك في الرجل يهلك ويوصي للرجل بخمسين دينارا يتجر فيها سنة له ربحها، وللهالك عليه خمسون دينارا حالة هو بها معسر، فيقول الورثة عليك خمسون دينارا حالة فإن أحببت أن تنقدناها ونعطيك الخمسين التي أوصى لك بها، وإن أحببت فهي نظرة لك سنة، إنه إن لم يكن بيده شيء يقبضونه منه، دفعت إليه الخمسون التي أوصى له بها، وابتغوا منه بعد ذلك الذي عليه إن وجدوا عنده شيئا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا كان معسرا بالخمسين التي عليه كان من حقه أن يؤخر بها حتى يوسر لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فإن لزم الورثة أن يؤخروه بها، لزمهم أن يدفعوا إليه وصيته، ولو كان ميسرا بها لكان من حقهم أن يؤخروه بها في الوصية التي أوصى له بها، ولو كان ميسرا ببعضها، لكان من حقهم أن يؤخروه بما أيسر به منها، ويدفعوا إليه بقية الخمسين يتجر بها سنة، وكذلك لو كان عليه دين لغيرهم لكان من حقهم أن يحاصوا أهل الديون بجميع الخمسين، فما نابهم في المحاصة من ماله أخذوه ودفعوا إليه الخمسين يتجر بها سنة كما أوصى. وإن شاءوا نزعوا بيده ما صار لهم في المحاصة ووفوه بقية الخمسين يتجر بها سنة، كما أوصى له به موروثهم. وفي آخر رسم التسمية من سماع عيسى مسألة من هذا المعنى سنتكلم عنها إذا مررنا بها إن شاء الله عز وجل وبه التوفيق.(13/73)
[مسألة: توفي وترك مالا وورثة وأوصى إلى رجل]
ومن كتاب الأقضية وسئل عمن توفي وترك مالا وورثة وأوصى إلى رجل، كيف ترى أن ينفق عليهم؟ قال: ينفق على كل إنسان من مصابته بقدره، ليس الصغير كالكبير، فقيل له: من قدر حصته؟ فقال: ينفق عليه من حصته، وليس الصغير في ذلك كالكبير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا إشكال فيه؛ لأن نفقة كل واحد منهم على نفسه، بقدر ما يحتاج إليه من ماله، قل أو كثر، فلا يصح أن تكون النفقة عليهم من جملة المال ملغاة، إذ لا يلزم أن يحمل بعضهم شيئا من ذلك عن بعض، وبالله التوفيق.
مسألة وسألته عمن أتاه أخ له من إخوته بكتاب وصيته، قد طبع عليها، فيقول له: اكتب شهادتك في أسفله على إقراري أنه كتابي، ولا يعلم الشاهد ما فيها، فيكتب شهادته في أسفلها على إقراره أنها شهادة وصيته. أترى أن يشهد بها؟ فقال: إن لم يشك في خاتمه، فليشهد، وإن شك فلا يشهد إذا كانت الوصية ليست عنده. قلت له: كيف لا يشك في الخاتم إذا غاب عنه؟ فقال: لا أدري إن شك فلا يشهد. وإن تيقن أنه خاتمه بعينه لم يفض فليشهد. قال: وكان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم، حتى إن كان القاضي لم يكتب للرجل بالكتاب إلى القاضي، فما يزيد على خاتمه، فيجاز له، حتى أحدث عند اتهام الناس الشهادة على خاتم القاضي أنه خاتمه، وأن أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته.(13/74)
قال محمد بن رشد: قوله: إن لم يشك في خاتمه أنه خاتمه، فليشهد، معناه: إن لم يشك في الطبع الذي أشهد هم عليه أنه هو بعينه لم يفض فليشهد، يبين ذلك قوله: وإن تيقن أنه خاتمه بعينه لم يفض فليشهد، وهذا ما لا سبيل للشاهد إلى تيقنه إذا لم تكن الوصية عنده، وقد بين ذلك بقوله: قلت له: وكيف لا يشك في الخاتم إذا غاب عنه؟ فقال: لا أدري، إن شك فلا يشهد، فذلك يرجع من قوله: إنه لا يجوز للشهود إذا أشهدوا على وصية مطبوع عليها أن يشهدوا فيها، إلا أن تكون الوصية عندهم قد دفعها الموصي إليهم على ما وقع في المدونة من قول مالك في رواية ابن وهب عنه: وإذا دفعها إليهم فدفعوها إلى أحدهم أو إلى من وثقوا به من غيرهم فكانت عنده، جاز لهم أن يشهدوا عليها. روى ذلك عبد الرحمن بن دينار عن ابن الماجشون. والذي يتوقع من هذا إذا شهد الشهود. على الوصية، وهي مطبوع عليها، ولم يدفعوها إليهم، وأمسكها عند نفسه أن يكون طبع عليها وهي بيضاء، فيكتب فيها بعدما شاء، ولعل غيره أيضا من أهله قد قبض خاتمه وكتب فيها ما شاء، وطبع عليها بذلك الخاتم، فلو طبع الشهود عليها مع طابعه لجاز لهم أن يشهدوا عليها إذا عرفوا خواتمهم. قال ذلك ابن الماجشون. والذي استحسنه الشيوخ ومضى عليه عمل الناس أنه إذا طوى الكتاب من أوله إلى موضع الإشهاد على نفسه، فطبعه، وقد أبقى الأشهاد على نفسه خارج الطبع، وكتب الشهود شهاداتهم على ذلك، فأمسك الموصي الوصية عند نفسه، فوجدت بعد موته خطا واحدا وعملا واحدا على صفة التقييد الذي كان خارج الطبع، ولم يظهر في الكتاب ريبة، جاز للشهود أن يشهدوا عليه، بخلاف إذا لم يبق من الكتاب خارج الطبع ما يستدل به على أن الوصية كانت مكتوبة، ولم تكن مطبوعة على بياض، ولو أراهم الوصية مكتوبة، وكتبها بحضرتهم فطبع عليها، وأشهدهم على نفسه بما فيها دون أن يقرأها عليهم أو يعلمهم بشيء مما فيها، فكتبوا شهادتهم فيها، لجاز لهم أن يشهدوا عليها بعد موته، وإن لم يدفعها إليهم وكانت عنده إلى أن توفي باتفاق(13/75)
إذا ذكروا الشهادة وعرفوا الكتاب على ما رواه ابن القاسم عن مالك في الوصايا الأول من المدونة، وأما إذا لم يذكر الشهادة ولا عرف الكتاب، إلا أنه عرف خطه في شهادته، فيجري ذلك على الاختلاف في شهادة الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة.
وقد مضى تحصيل ذلك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة ضمن سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات. وقد ذكر البخاري عن الحسن وأبي قلابة أنهما كرها أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل فيها جورا، وكذلك استحب للعالم أيضا إذا أشهده المتعاملان على أنفسها في كتاب ذكر الحق مما تعاملا فيه، لا يكتب شهادته، إذ الشهادة على أنفسهما بما تضمنه وأقرا عنده بمعرفة ما فيه، حتى يقراه، لئلا تكون المعاملة في ذلك بينهما فاسدة. وقوله في الشهادة على كتاب القاضي: إن أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته، يريد بني العباس وفى البخاري: إن أول من سأل البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى وسوار بن عبد الله العنبري. وأجاب ابن حبيب: الكتاب يأتي إلى القاضي من أعراض المدينة بمعرفة الخط ومعرفة الختم، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن صاحب القضية لقرب المسافة، واستدراك ما يخشى من التعدي وقال بذلك ابن نافع وابن كنانة في الحقوق اليسيرة، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابتاع رقبة للعتق فأعتقها عمن أوصى إليه]
مسألة قال: وسئل عمن ابتاع رقبة للعتق، فأعتقها عمن أوصى إليه أن يعتق عنه رقبة، ثم لحق تلك الرقبة عول سبعة عشر دينارا بعد ما عتقت، فقال: يمضي العتق، فيكون على الذي اشتراه فأعتقه سبعة عشر دينارا غرما عليه، فقال الرجل: أترى الغرم علي يا أبا عبد الله؟ فقال: نعم، إن الغرم عليك، فقال وكيف يكون الغرم(13/76)
علي وأنا إنما اشتريته لغيري في سوق المسلمين ببيع السلطان؟ فقال: أنت جعلت نفسك بهذه المنزلة، وأرى ذلك عليك، ولو شئت لم تشتره. فقال: وجدت أن يكون بيع السلطان أسلم لي، فقال له: قد أخطاك ذلك، فقال أفترى الغرم علي؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الغرم في ذلك على الوصي، خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة لأنه قال في الذي يوصي أن يحج عنه، فينفذ الوصي ذلك، ثم يستحق رجل رقبة الميت، إنه إن كان الميت حرا عند الناس يوم التنفيذ، فلا يضمن له الوصي شيئا، ولا الذي حج عن الميت، وكذلك قال أيضا فيها في الذي يوصي أن يحج عنه فيدفع الوصي المال إلى عبد ليحج به عن الميت، وهو يظنه حرا، إنه لا ضمان عليه، والذي يأتي في هذه المسألة على ما في المدونة من أن الوصي لا ضمان عليه، إلا أن يفرط أو يتعدى أن يباع من الرقبة بالسبعة عشر دينارا التي لحقها من العول، وينفذ حرية باقيها، على قياس ما قاله في سماع موسى بن معاوية من هذا الكتاب، في الذي يوصي أن يباع غلامه رقبة، فبيع رقبة، ووضع المشتري ثلث الثمن، فأعتقه، ثم جاء درك على الهلاك من دين ثبت عليه، أنه يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، ويؤخذ من الورثة ثلثا الدين، وإن كان العبد أقل من ثلث المال، فعلى حساب ذلك؛ لأنه بنى جوابه في ذلك على أن الموصي لا ضمان عليه، على أن الوصية إنما هي للعبد، لا للمشتري، خلاف ما ذهب إليه ابن كنانة أن الوصية إنما هي على المشتري، الذي حط عند ثلث ثمنه، فيرجع بذلك عليه ويمضي عتق العبد، ولا يباع منه شيء، وقول ابن كنانة هذا يأتي على مما أوصى في رسم الوصايا من هذا السماع، إنه إن لم يوجد من يشتريه، إلا بوضيعة الثلثين، لا يباع ولا ينفذ له الوصية. وقد مضى الكلام على هذا هنالك. وظاهر ما في رسم الأقضية من سماع يحيى أنه لا ضمان على الوصي،(13/77)
مثل ما في المدونة وقول غير ابن القاسم في المدونة، وهو أشهب ليبين جهلهم، يريد: إلا وصاياه الذي يزيد عنهم الضمان، مثل روايته هذه عن مالك في أن السبعة عشر دينارا لعول يكون على الوصي، ورأيت لابن دحون أنه قال: إنما لزمه السبعة عشر دينارا لأنه فرط، إن لم يكشف الأمر قبل العتق، ولو علم أنه لم يفرط وأنه اجتهد في فعله لم يلزمه شيء، ورد من رقبته المعتقة بقدر الدين، ولا اختلاف عندي في أنه ضامن إذا تبين تفريطه، وإنما الاختلاف إذا لم يتبين ذلك، فحمله على التفريط في هذه الرواية وضمنه وهو قول أشهب في المدونة على ما ذكرناه، وحمله في المدونة على غير التفريط فلم يوجب عليه ضمانا، ولا اختلاف في ذلك من قول ابن القاسم منصوص عليه قرب آخر الرسم الأولى من سماع أصبغ في الوصي يشتري الرقبة فيعتقها عن الميت، فيستحق رجل نصفها ويأخذه؛ لأنه قال فيما حكى عنه أصبغ مرة: إنه يقوم على الوصي، وقال مرة: إنه يقوم على الورثة لا على الوصي، وإياه اختار أصبغ، وفي سماع أبي زيد: إن الوصي ضامن إذا اشترى نصرانية فأعتقها عن رقبة واجبة عن الميت، قال: لأنه فرط حين لم يسأل ويستحضر، وهو مثل أحد القولين. وفي قوله في الرواية: وكيف يكون الغرم علي وإنما اشتريته في سوق المسلمين ببيع السلطان إلى آخر قوله نظر إذ لا فرق فيما يوجبه الحكم فيما يلحق الرقبة من العول بين أن يشتريها فيما يبيع السلطان، أو ممن يبيع ماله. وكان مالك في ظاهر قوله قد سلم له اعتراضه، إذ لم يرده عليه بأن يقول له: وأي فرق بين أن يشتريها بما يبيع السلطان أم لا إذا لحقها العول؟ ولم يذهب مالك إلى تسليم اعتراضه، إذ لا يصح أن يسلم، وإنما ضرب على ذلك إذ رأى فساد اعتراضه فقال له: أرى ذلك عليك لو شئت لم تشتره أي لو شئت لم تشتره حتى يثبت فيعلم السلامة من أن يلحقها عول، وبالله التوفيق.(13/78)
[: وصية عمر بن الخطاب إلى حفصة زوج النبي]
ومن كتاب الطلاق قال مالك: أوصى عمر بن الخطاب إلى حفصة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مالك: وأرى فعل ذلك لمكانها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
محمد بن رشد: تأويل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين، إذ لا شك في أن لها بكونها زوجة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مزية على سائر أولاده. وبالله التوفيق.
[مسألة: أخوين مرض أحدهما وأوصى لآخر صحيح فزوج المريض ابنه بنت أخيه]
مسألة وسئل عن أخوين مرض أحدهما وأوصى لآخر صحيح، فزوج المريض ابنه بنت أخيه، وضمن الصداق عن ابنه وزوج الصحيح ابنه بنت أخيه وضمن الصداق على ابنه، وأعتق المريض أم ولده، وأصدقها ألفي درهم، ثم مات، فقال مالك: أما المريض الذي ضمن الصداق عن ابنه، فليس بجائز، والنكاح الذي أنكح ابنه جائز لازم، والمال الذي ضمن وسمى ليس بجائز في ماله، إن أحب الابن أن يعطي ذلك الصداق من مال نفسه جاز ذلك، وإن كره فارق ولا شيء عليه، وأما الذي أعطاه الأخ الآخر من مال نفسه وضمن وهو صحيح، فذلك جائز ثابت؛ لأنه يقضي في ماله ما بدا له، وأما ما ذكرت من عتق المريض أم ولده في مرضه، ونكاحه إياه في مرضه، فإن عتقه جائز؛ لأنها تعتق من بعد موته، لما مضى في ذلك من السنة، ولا يحسب في ثلثه ولا في غيره من رأى ماله، فأما نكاحه إياها فليس بجائز، ولا صداق لها ولا ميراث في ثلث ولا غيره من رأس ماله، إلا أن يكون دخل بها، فإن كان دخل(13/79)
بها، رأيت صداقها من الثلث مبدأ على أهل الوصايا. قلت له: أرأيت لو كان ذلك الصداق أكثر من صداق مثلها؟ قال: أرى ذلك كله لها، قلت له، وراجعته: فقال: ما شأنه أعطاها ذلك. فقلت: أرى أن يوجد لها ما أعطاها، وهو أضعاف صداقها بالدخول، فقال: إنما يكون ذلك كله لها وإن كان ذلك أكثر من صداق مثلها.
قال محمد بن رشد: قوله في المريض الذي زوج ابنه بنت أخيه، وضمن الصداق عنه: إن ذلك ليس بجائز، معناه: إن ذلك لا يلزم ورثته إن مات من مرضه ذلك، ولهم أن يردوه؛ لأنه وصية لوارث، وقوله: والنكاح الذي أنكح ابنه جائز لازم للزوجة، إن رضي الابن أن يعطي الصداق من ماله إن كان كبيرا أو رأى ذلك الوصي إن كان صغيرا، ولا اختلاف في أن الصداق لا يجب للابن في مال الأب إن مات من مرضه، وحمل عنه الصداق، فقيل؟ إنها وصية للبنت لا تجوز، إلا أن يجيزها الورثة. وقيل: إنها وصية للزوج تجوز له من ثلثه، إلا أن يكون الصداق الذي سمى لها، وحمله عن الزوج أكثر من صداق مثلها، فيكون الزائد على صداق مثلها وصية لها باتفاق، لا تجوز إلا أن يجيزها الورثة.
وقد مضى هذا كله والقول عليه مستوفى في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب النكاح. وقد قال مالك في المدونة فيما يضمن الأب عن ابنه في مرضه: لا يعجبني هذا النكاح. ووجه كراهيته له ما دخله من الخيار. ووجه القول الآخر أنه خيار لم ينعقد عليه النكاح، وإنما وجب الحكم، فلم يكن فيه تأثير كالسفيه، يتزوج بغير إذن وليه، والعبد بغير إذن سيده. وأما الصحيح إذا زوج ابنه ابنة أخيه، فضمن عنه الصداق، أو زوج ابنته ابن أخيه، فضمن عنه الصداق، فلا اختلاف في لزوم الصداق، وجواز النكاح، وكذلك إذا فعل ذلك في مرضه فصح ولم يمت من ذلك المرض. وقوله في(13/80)
الذي أعتق أم ولده في مرضه وتزوجها فيه: إن العتق جائز، فلا صداق لها ولا ميراث في رأس مال ولا ثلث، صحيح لا اختلاف فيه. وأما قوله: إلا أن يدخل بها فيكون لها الصداق من الثلث مبدأ على أهل الوصايا وإن كان ذلك أكثر من صداق مثلها، فهذا يختلف عنه في موضعين: أحدهما: في الزائد على صداق المثل، قيل: إنه يبطل، وهو ظاهر ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة. وقيل: إنه يكون لها غير مبدأ، وهو قول أصبغ. وروي ذلك عن ابن القاسم، وقيل: إنه يبدأ جميع ما سمى لها وإن كان أكثر من صداق مثلها، وهو قوله في هذه الرواية وقول ابن الماجشون،. ورواية ابن نافع، وعلي بن زياد، وابن عبد الحكم، عن مالك، واختيار سحنون. والموضع الثاني قوله: إنه يبدأ على جميع الوصايا، فقيل: إنه يبدأ على جميعها المدبر في الصحة وغير ذلك، وقيل: إنه يبدأ على جميع الوصايا، حاشا المدبر في الصحة، فإنه يبدأ عليه، وقيل: إنه لا يبدأ أحدهما على صاحبه، والثلاثة الأقوال لابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بثلث ماله لرجال من ربع الثلث وجزء من الثلث]
مسألة وسئل عمن أوصى بثلث ماله لرجال من ربع الثلث، وجزء من الثلث، حتى استوعبه وأوصى لجارية له وغلام، أن يباعا ممن أحبا، وترك مدبرة، فوجد جميع الثلث مائتا دينار، فقال: يبدأ بالمدبرة، فتخرج حرة بقيمتها خمسين دينارا وبقيت خمسون ومائة دينار من الثلث فيتحاص فيها أهل الوصايا، فالذين أوصى لهم بالثلث بمائتي دينار، وهو ثلث المال، والجارية والغلام اللذان أوصى لهما أن يباعا ممن أحبا يحاصان الذين أوصى لهم بثلث أثمانهما بالغ مبلغ، يتحاصون في ذلك أهل الوصايا بالمائتي دينار، والجارية والغلام بثلث أثمانهما. قيل له: إنه قد كان قضى في(13/81)
العبد أن يبتاع بثلثي ثمنه ممن أحب، وأعتقه المشتري الذي اشتراه، فقال: أرأيت إن قضى القاضي بالخطأ لا يرد؟، فقيل: فكيف ترى؟ قال: أرى أن يأخذ ذلك العول الذي يصيب العبد ممن اشتراه فأعتقه، ولا يكون على العبد شيء، يؤخذ ذلك ممن اشتراه فأعتقه، يقال له: أنت أعتقته، ولو شئت لم تعتقه، قيل له: مما وضع عن المشتري في مثل هذا فهو له، ليس للعبد منه شيء، فقال: نعم، يوضع عن المشتري ثلث ثمن العبد، وذلك الذي أوصى به الميت للمملوك.
قال محمد بن رشد: ما قاله من أن المدبرة تبدأ في الثلث، ثم يتحاص أهل الوصايا في الباقي، فيضرب فيه الموصى لهم بالثلث، والجارية والغلام اللذان أوصى لهما أن يباعا ممن أحبا بثلث أثمانهما صحيح، لا إشكال فيه؛ لأنه هو الذي يكون من حقهما أن يوضع عمن أحبا أن يباعا منه، إذا لم يرد أن يشتريهما إلا بوضيعة من أثمانهما، وقد قيل: إن الجارية والغلام يبديان على أهل الوصايا بثلث أثمانهما. قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم استأذن، وهو الذي يأتي على القول بأنها وصية لهما إن لم يرد الذي أحبا أن يباعا منه أن يشتريهما بوضعية الثلث، قيل للورثة: إما بعتموهما بما أراد، وإما أعتقتم منها أثلاثهما. وأما قوله: إنه إن بيع العبد بثلث ثمنه فأعتقه المشتري قبل المحاصة، إن ما دخله من العول في المحاصة يؤخذ ممن اشتراه فأعتقه، فالوجه في ذلك أنه رآها وصية للمشتري لا للعبد، ولو رآها وصية للعبد لقال: إنه يباع بما أصابه من العول في المحاصة، ولا يكون على المشتري شيء كما قال في سماع موسى بن معاوية في الذي أوصى أن يباع عبده رقبة، فبيع ووضع عن المشتري ثلث الثمن، ثم جاء درك على الهالك من دين ثبت عليه، إنه يباع من العبد ما نابه من الدين، ولا يرجع على المشتري بشيء.(13/82)
ويتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها وصية للمشتري في المسألتين جميعا لا للعبد، فيرجع بالعول عليه، لا على العبد. والثاني: أنها وصية للعبد في المسألتين جميعا، فيرجع عليه بالعول لا على المشتري، ويباع منه بما نابه من العول. والقول الثالث: أنها وصية للعبد إذا أوصى أن يباع ممن أعتقه، فيكون الرجوع بالعول عليه، ووصية للمشتري، إذا أوصى أن يباع ممن أحب، فيكون الرجوع على المشتري لا على العبد.
وقد مضى بيان هذا في رسم الوصايا من هذا السماع، فقف عليه وبالله التوفيق.
ثم الثاني من الوصايا والحمد لله والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا النبي الكريم والحمد لله رب العالمين.(13/83)
[: كتاب الوصايا الثالث] [أوصى فقال لفلان كذا وكذا وفضلوا فلانا]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب أوله نقدها قال عيسى بن دينار: وقال ابن القاسم في رجل أوصى. فقال: لفلان كذا وكذا، وفضلوا فلانا، قال: أرى أن يفضل على أكثرهم وصية على قدر المال.
قال محمد بن رشد: قوله: أرى أن يفضل على أكثرهم وصية على قدر المال، يدل على أنه أوصى لجماعة بشيء سماه لكل واحد منهم. وقال: فضلوا فرأى أن يفضل على أكثرهم وصية على قدر المال بالاجتهاد، ويتخرج فيها قول آخر، وهو أن يفضل بمثل ثلث أكثرهم وصية، وذلك أن ابن حبيب حكى عن أصبغ فيمن أوصى لرجل بوصية، ثم كلم أن يزيده فقال: زيدوه، ثم مات ولم يسم ما يزاد، قد قيل: يزاد مثل ثلث وصيته، ولا أراه، ولكن يزاد بقدر المال وقدر الوصية بالاجتهاد، مع مشورة أهل العلم، ولا فرق بين المسألتين، والقول باعتبار الثلث في ذلك حسن؛ لأنه آخر حد اليسير، وأول حد الكثير، وإذا زاد أحد الموصى لهما على الآخر، فقد فضله عليه، فلا فرق بين التفضيل والزيادة، والظاهر من الزيادة اليسير، فوجب ألا يزاد على الثلث الذي هو آخر حده. وبالله التوفيق.(13/85)
[مسألة: أوصى فقال لفلان عشرة ولفلان ما بقي من ثلثي]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: لفلان عشرة، ولفلان ما بقي من ثلثي، فمات صاحب العشرة قبل الموصي، قال: يحاص بالعشرة، مات الموصى له بها قبل الموصي أو بعده، علم الموصي أو لم يعلم، وهو بمنزلة ما لو أوصى ببعير أو بعبد لرجل، وأوصى ببقية الثلث لرجل، فمات البعير أو العبد قبل الموصي أو بعده. فإن الموصى له ببقية الثلث، يحاص بالبعير وبالعبد الميت، علم بموته الموصي أو لم يعلم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا يدخل فيها اختلاف قول مالك في المدونة فيمن أوصى لرجل بعشرة ولرجل آخر بعشرة وثلث عشرة، فمات أحد الموصى لهما قبل الموصي إنه قال مرة للباقي العشرة كلها ومرة قال: له نصف العشرة، ومرة فرق بين أن يعلم الموصي بموت أحد الموصى لهما أو لا يعلم، فإن علم كانت له العشرة، وإن لم يعلم لم يكن له إلا نصفها الواجب له بالمحاصة؛ لأن هذا إنما أوصى له بما بقي من الثلث بعد. العشرة، أو بعد البعير وبعد العبد، فلا يكون له أكثر من ذلك، صحت الوصية بالعشرة وبالبعير وبالعبد أو لم تصح. ومسألة المدونة إنما أوصى لكل واحد منهما بعشرة، ولم يبدأ أحدهما على الآخر فمرة رأى للباقي العشرة كلها؛ لأن الثلث يحملها، ومرة لم ير له إلا نصفها؛ لأن الورثة ينزلون منزلة الموصى له الآخر. إذا مات قبل الموصي، أو لم يقبل الوصية. وقد قال ابن دحون. كل ما ذكر فيه بقية الثلث، فإن الموصى له يحتسب عليه الورثة ما مات من مدبر أو من معتق كان في الوصية مات قبل الموصي أو بعده، فإن بقي له بعد ذلك شيء أخذه، وإلا فلا شيء له، فإن كان معه أهل وصايا مسماة، كانت لهم وصاياهم من الثلث كاملا، ولا يحاسبون بما مات من المعتقين والمدبرين، ماتوا قبل الموصي أو بعده يأخذون وصاياهم من(13/86)
الثلث كاملا، يحتسب على من أوصى له ببقية الثلث بمن مات من مدبر أو من معتق، ويأخذ ما بقي بعد ذلك إن بقي شيء. وقول ابن دحون صحيح، وهو بين في رسم إن أمكنتني من هذا السماع بعد هذا وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري أباه في مرضه بأكثر من الثلث ثم يموت]
مسألة وقال في الذي يشتري أباه في مرضه بأكثر من الثلث، ثم يموت، قال ابن القاسم: البيع جائز لا يرد، فإن خرج من الثلث عتق منه ما حمل الثلث، ورق ما بقي للورثة، فإن كان الورثة ممن يعتق عليهم، عتق ما بقي عليهم.
قلت فإن كان ثمن الأب ما له كله وورثه ممن يعتق عليهم، أيجوز الاشتراء؟ قال: الاشتراء جائز، ويعتق عليهم. وسئل عنها سحنون، فقال: اختلف الرواة فيما اشتراه الرجل في مرضه ممن يعتق عليه. أخبر ابن وهب في الرجل يشتري في مرضه ابنه أو بعض من يرثه، فقال: إن كان المشتري يحجب من يرث المشتري حتى يصير جميع الميراث له، كان ابنه أو غير ابنه، إذا كان كما وصفت لك، فإنه يجوز له أن يشتريه بجميع ماله أو بما بلغ، ويعتق عليه، ويرث ما بقي إن بقي شيء. قال لي ابن وهب: وإن كان ثم من يشركه في ميراثه ولا يحجبه، فلا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، فإن اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير؛ لأنه إنما يعتق بعد موت المشتري، وقد صار المال لغيره. قال سحنون: وقال لي أشهب: لا يجوز له أن يشتريه إلا بالثلث، كان ممن يحجب أو ممن لا يحجب، فإذا اشتراه بالثلث لم يصر له من الميراث قليل ولا كثير، ولا يكون له من الميراث شيء. وقال لي غيرهما من الرواة:(13/87)
كل من يجوز له استلحاقه، جاز له اشتراؤه بجميع ما يملك، شاركه في الميراث غيره أو لم يشاركه؛ لأنه لو استحلقه ثبت ميراثه ونسبه. وسألت عنها ابن القاسم، فقال لي: إذا اشتراه وكان الثلث يحمله جاز اشتراؤه، وعتق وورث بقية المال إن كان وحده، وإن كان مع غيره أخذ حصته من الميراث.
محمد بن رشد: قوله في الذي يشتري أباه في مرضه بأكثر من الثلث ثم يموت: إنه إن خرج من الثلث عتق وورث، يدل على أنه يرث إن خرج من الثلث، وإن لم ينظر فيه إلا بعد الموت، والوجه في ذلك أنه لما كان وجه الحكم فيه عنده أن ينظر فيه قبل الموت، فإن حمله الثلث عجل عتقه، كان إذا نظر فيه بعد الموت فوجد ثلثه يحمله، كشف الغيب أن الحرية قد كانت وجبت له قبل موته، فوجب أن يرث.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في صدر رسم الوصايا الثاني من سماع أشهب. وقد ذكرنا هنا كاعتراض قول ابن وهب هذا، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بوصية فبلغ ذلك أبا الموصى له]
مسألة قال عيسى: وقال ابن القاسم في رجل أوصى لرجل بوصية، فبلغ ذلك أبا الموصى له، فوهب الموصي عبدا شكرا له لما أوصى به لابنه، فأعتقه الموصي، ثم مات، فإذا الوصية أكثر من الثلث، فأبى الورثة أن يجيزوا. قال: يمضي عتق الغلام ويخير الورثة بين الوصية يمضونها وبين قيمة الغلام يدفعونها، فإن كانت قيمة الغلام أكثر من الثلث، عتق منه ما حمل الثلث، وكان بقيته للورثة رقيقا، قال: ولو كان الغلام قائما بعينه لم يعتقه، وكان الثلث أقل مما(13/88)
أوصى له به، خير الورثة بين أن يمضوا الوصية، وبين أن يردوا العبد إذا لم يعتق.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر. وجواب ابن القاسم فيها خارج عندي عن الأصول؛ لأن الوصية لم يحملها الثلث، كأن الورثة قد استحقوا منها ما زاد على الثلث، وأب الوصي لم يهب العبد للموصي إلا على أن تتم الوصية لابنه، فكان وجه النظر فيها إن لم يحمل الثلث الوصية أن يكون بالخيار بين أن يجيزوا الوصية، وبين أن يردوا إلى أب الموصى له من قيمة عبده إذا فات بالعتق قدر ما نقص الموصى له من الوصية، كمن باع عبدا بدار، فاستحق بعض الدار، وقد فات العبد بعتق. مثال ذلك، أن يكون الموصي أوصى لرجل بدار، قيمتها مائة، فوهب أبو الموصى له للموصي عبدا قيمته مائة، شكرا على ما أوصى به لابنه، فأعتقه الموصي في صحته، ثم مات فتبلغت تركته بالدار الموصى بها مائتين، فيقال للورثة: إما أن تجيزوا له الوصية بالدار، فلا يكون عليكم في العبد شيء، وإما أن تنخلعوا من الثلث للموصى له شائعا أو في الدار، فيحصل للموصى له منها ثلثاها فيجب عليكم أن تؤدوا إلى أبي الموصى له ثلث قيمة العبد، إذ قد استحققتم من الوصية التي هي عوض العبد الذي قد فات بالعتق ثلثها، وكذلك لو كان العبد قائما بعينه، لم يعتقه الموصي على مذهب ابن القاسم، إذ لا يرجع عنده في عين العبد بمقدار ما نقص من الوصية إذا لم يجزها الورثة لضرر الشركة، وعلى مذهب أشهب، يرجع في العبد بقدر ذلك، فيكون به شريكا فيه، ولو أعتق الموصي العبد في مرضه، وقيمته الثلث فأكثر، لعتق منه ما حمل الثلث وكان باقيه رقيقا للورثة، وسقطت الوصية بالدار للموصى له بها، لكون العتق مبدأ عليها، ولزمهم غرم جميع قيمة العبد للأب إن لم يجيزوا الوصية بالدار لابنه. وقد رأيت لابن دحون، أنه سلم هذه المسألة من الاعتراض فقال في قول ابن القاسم فيها: معناه، يدفعون القيمة إلى الابن -(13/89)
الموصى له؛ لأن الأب قد وهب ذلك لابنه، إذ أخرجه من يده شكرا عن ابنه إذ أوصى له، وليس ذلك عندي بينا؛ لأن الأب لم يهب العبد لابنه، وإنما وهب للموصي جزاء على وصيته لابنه، فالحق في ذلك إنما هو للأب؛ لأنه يقول: إنما وهبت له العبد لسروري بوصيته لابني، فالحق في ذلك إنما هو له، لا للابن، فإن مات نزل ورثته في ذلك منزلته. ووجه ما ذهب إليه ابن القاسم، إن الأب يقول: إنما وهبت له العبد لتحصل الوصية لابني كاملة، ولو علمت أن الثلث لا يحملها، وأن الورثة لا يجيزونها لم أهبه شيئا، والذي ذكرته هو وجه القياس. والله أعلم. وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بمائة دينار هي له عليه دين]
مسألة وعن الرجل يوصي لرجل بمائة دينار، هي له عليه دين، ويوصي لقوم بوصايا، ثم يرسل إلى الذي عليه المائة، فيأخذها منه في مرضه، ثم يموت، فيطلب الرجل المائة، وقد أنفقها الموصي، أو استودعها رجلا، فقال: لا وصية له، إن كان قال: ما لي على فلان فهو له، ثم أخذه منه، فليست له وصية. وهو أمر رجع فيه، إلا أن يكون أوصى بمائة مبهمة، أو عرفت المائة بعينها، لم تحرك، وإنما مثل ذلك مثل الرجل يوصي للرجل بدين لي على رجل آخر، فيقول: ما لي على فلان فهو لفلان، فإن أخذه فأنفقه فلا شيء له، وإنما نفقته إياه بمنزلة ما لو وهبه لغيره وإن لم ينفقه واقتضاه، فكان على حاله فالوصية له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه إذا أوصى لرجل بمائة دينار له عليه، فأخذها منه، إن أخذه إياها منه رجوع منه في الوصية له بها، إذ لا وجه لأخذها منه إلا الرجوع فيها، فسواء أنفقها أو لم ينفقها، فكانت عنده، أو استودعها. ومعنى قوله: أو عرفت المائة بعينها، لم تحرك أي لم تقبض(13/90)
وعرف أنها باقية عنده على ما أوصى بها ويختلف، هل يحاص الورثة بها أهل الوصايا إن كان الثلث لا يحملها كلها أم لا؟ على اختلاف قول مالك في المدونة في الذي يوصي لرجلين بعشرة عشرة، وثلاثة عشر فيموت أحدهما في حياة الموصي، ويعلم ذلك قبل موته. وأما إذا أوصى لرجل بمائة له على رجل آخر، فلا تبطل وصية له بها بقبضه إياها إذا لم ينفقها ووجدت عنده بعينها، لاحتمال أن يكون إنما قبضها من الذي هي عليه ليحفظها على الموصى له بها، ولا تبطل الوصية بها إلا بيقين. هذا وجه قول ابن القاسم في هذه الرواية. وقد وقع له في المجموعة ما يعارض قوله هذا. وذلك أنه قال: وإن أوصى له بزرع ثم حصده، وبثمرة ثم جدها فليس برجوع، إلا أن يدرس القمح ويكتاله ويدخله منزله فهذا رجوع، فإذا جعل اكتياله القمح، وإدخاله منزله رجوعا منه في الوصية به، فكذلك الدين إذا قبضه على قياس ذلك. قال في المجموعة: وإن أوصى له بعبد فرهنه فليس برجوع، وليبدأ من رأس المال، ولو أجره فالعبد للموصى له به. وقاله مالك. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعتق عبده وما بقي من ثلثه لفلان]
مسألة وسئل عن رجل أوصى بعتق عبده، وما بقي من ثلثه لفلان، فمات، فقامت بينة للعبد أنه كان حرا أعتقه سيده هذا في صحته واستحق العبد، قال: لا أرى له إلا ما بقي من ثلثه بعد قيمته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه لا شيء للموصى له ببقية الثلث، إلا ما فضل بعد قيمة العبد الموصى بعتقه سواء أعتق العبد من الثلث، أوثبت أنه كان حرا أعتقه سيده قبل ذلك في صحته، أو استحق بحرية أو ملك، وإن أخذ له ثمن في استحقاقه، لم يكن للموصى له ببقية الثلث فيه شيء ولو أوصى مع عتق العبد بوصايا، وما بقي من ثلثه لفلان، فاستحق(13/91)
العبد بحرية أو ملك بعد أن قدم على أهل الوصايا، لرجع أهل الوصايا بوصاياهم في ثلث ما بقي بعد العبد الموصى بعتقه المستحق.
واختلف إن رجع فيه بثمن، هل يدخل فيه أهل الوصايا أم لا؟ فقال في رسم أسلم بعد هذا: إنها لا تدخل فيه؛ لأنه مال لم يعلم به، وذكر في رسم باع شاة منه أن قول ابن القاسم اختلف فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصيته فلانا أعطاني مائة دينار أتصدق بها عنه وإني تسلفتها]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل في وصيته: إن فلانا كان أعطاني مائة دينار أتصدق بها عنه، وإني تسلفتها. وليس لفلان ذلك ورثة يسألون عن ذلك، فإنه إن كان يورث كلالة، لم يحز منه قليل ولا كثير، لا في ثلث ولا في رأس المال، وإن كان ورثته ولدا جاز قوله، وأخرجت من رأس المال، وإن كان فلان ذلك المسمى حيا سئل، فإن صدقه في ذلك أجيز، وإن لم يصدق لم يجز منه قليل ولا كثير، وإن كان فلان ذلك قد مات، سئل ورثته أيضا، فإن صدقوه جاز، وإن كان يورث كلالة أو بولد، وإن لم يصدقوه لم يجز منه قليل ولا كثير. قال مالك: لا يجوز إلا أن يكون الشيء اليسير التافه الذي لا يتهم عليه. قال ابن القاسم: وأصل هذا التهمة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، وفي رسم حلف ليرفعن أمرا من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس؛ لأنه إذا لم يكن لفلان ذلك ورثة يسألون عن ذلك، فهو كمن أوصى بدين لمن لا يعرف. وبالله التوفيق.(13/92)
[مسألة: أوصى فقال لفلان مائة ولفلان مائتان]
مسألة وقال في رجل أوصى، فقال: لفلان مائة، ولفلان مائتان، قيل له: ففلان قال: هو شريك معهما، قال: تجمع المائة والمائتان، فيكون له ثلثها، ثم تكون المائتان بين الرجلين، لصاحب المائة ثلثها، ولصاحب المائتين ثلثاها. وقد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب في كتاب بع ولا نقصان عليك، يكون له نصف وصية كل واحد منهما مما أوصى لهما به، ليس من بقية الثلث، ولكن من وصاياهم.
قال محمد بن رشد: القول الأول الذي قال فيه: إنه تجمع المائة والمائتان فيكون له ثلثها، ثم تكون المائتان بين الرجلين على الثلث والثلثين، هو الذي يأتي على ما في كتاب السلم الثالث من المدونة في اللذين اشتريا العبد، فلقيهما رجل فقال لهما: أشركاني فيه، فأشركاه، إن العبد يكون بينهم أثلاثا، ووجه هذا الاختلاف أن قوله: هو شريك معهما، هو لفظ محتمل، يحتمل أن يكون أراد أنه شريك مع كل واحد منهما بالسواء فيما أوصى له به، فيأخذ نصف وصية كل واحد منها، على ما قاله في رسم بع ولا نقصان، ويحتمل أن يكون أراد أنه شريك معهما جميعا بالسواء فيما أوصى لهما به، إن كانا اثنين أو مع جميعهم بالسواء، فيما أوصى لهم به، إن كانوا جماعة، فيأخذ ثلث ما بيد كل واحد منهما إن كانا اثنين، أو ربع ما بيد كل واحد منهم إن كانوا ثلاثة أو خمس ما بيد كل واحد منهم إن كانوا أربعة، وكذلك ما زاد عددهم. وسواء على ظاهر الرواية قال: هو شريك معهما أو معهم بالسواء، أو لم يقل بالسواء؛ لأن قوله بالسواء، لا يرفع الاحتمال من المسألة لجواز أن يريد الموصي بالسواء مع كل واحد منهم على انفراد أو بالسواء مع جميعهم على اجتماعهم. فما وقع في رسم بع ولا نقصان عليك، بعد هذا من تفرقته بين أن يقول بالسواء، أو يسكت عن ذلك، قول ثالث في(13/93)
المسألة، والرجوع في هذا إنما هو إلى ما يغلب على النظر بأن الموصي أراده بلفظه، فالأظهر عنده من الاحتمالين، فمرة رأى قوله: هو شريك معهم، أظهر في أنه شريك مع كل واحد منهم على انفراده فيما أوصى له به على السواء، ومرة رأى قوله: هو شريك معهم، أظهر في أنه أراد أنه شريك مع جميعهم فيما أوصى لهم به على السواء، ومرة رأى إذا قال بالسواء أظهر في أنه أراد إن يساوي بينه وبين جميعهم، وإذا لم يقل بالسواء أظهر في أنه أراد أن يساوي بينه وبين كل واحد منهم فيما أوصى له به على انفراده. والذي أقول به: إنه إن كانت وصاياهم متفقة، فالأظهر أن يكون شريكا مع جميعهم، فيستوي هو وكل واحد منهم فيما يصير له على ما في المدونة في مسألة العبد، وإن كانت وصاياهم مختلفة، فالأظهر أن يكون شريكا مع كل واحد منهم في وصيته، إذ لا بد من اختلاف وصاياهم، إذ قد فضل بعضهم على بعض. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعتق نصيبه من عبد فأبى صاحبه أن يبيع]
مسألة قال مالك في رجل أوصى بعتق نصيبه من عبد، وأن يعتق عنه نصيب صاحبه، فأبى صاحبه أن يبيع، قال: ذلك عليه إن شاء وإن أبى من بيعه.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم العتق من سماع أشهب من كتاب العتق. وقال سحنون: رأيت فيه رواية لابن وهب عن مالك وهي: ولعل أن شريكه إن أبى لا يستقيم نصيب شريكه ويعتق نصيبه وحده، قال أبو إسحاق التونسي: والأشبه ما روى ابن وهب ولا أدري من أين أنكرها سحنون، وإنما قال أبو إسحاق: إن الأشبه ما روى ابن وهب؛ لأنه إذا لم يلزم الشريك ذلك إذا لم يوص به، لوجب ألا يلزمه إذا أوصى به؛ لأن وصيته في مال غيره غير جائزة، والذي يوجب النظر أن يلزمه ذلك وإن لم يوص به؛ لأن الثلث له بعد(13/94)
وفاته، فإذا أعتق فيه حظه من العبد بإيصائه بذلك، وجب أن يقوم فيه حظ شريكه وإن. لم يوص بذلك، كما إذا أعتق حظه من العبد في مرضه، يقوم على شريكه شاء أو أبى على ما في المدونة.
فيتحصل فيمن أوصى بعتق حظه من عبده ثلاثة أقوال: أحدها: إنه يقوم في ثلث حظ شريكه، وإن لم يوص بذلك. والثاني: إنه لا يقوم فيه، وإن أوصى بذلك إلا أن يشاء ذلك الشريك، والثالث: الفرق بين أن يوصي بتقويم حظ شريكه في ثلثه، وبين ألا يوصى بذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي أن يباع عبده ممن أحب]
مسألة ومن كتاب أوله استأذن سيده وسألته من الرجل يوصي أن يباع عبده ممن أحب، فيوصي بوصايا، فيضيق الثلث عن ثلث رقبة العبد، وعن الوصايا فقال: قال مالك: إذا لم يجد من يشتريه، عتق منه ثلثه، فأرى إذا جعله مالك عتقا أن يبدأ. قلت: ولم صار عتيقا؟ ألأنه ملك بعض رقبته حين أوصى له سيده بثلثها فلم يجد من يشتريه بذلك؟ قال ليس هذا من هذا الوجه، ولو كان من هذا الوجه لعتق بقيته في سائر ماله إن كان للعبد مال، ولكنه لما سماه مالك عتقا فصارت فيه المحاصة، بدئ على أهل الوصايا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يبدأ العبد بثلث ثمنه على الوصايا، إذا لم يجد من يشتريه بثلثي ثمنه، خلاف ما تقدم في رسم الطلاق، ومن سماع أشهب، وهو صحيح على القول بأنها وصية للعبد، إن(13/95)
لم يرد من أحب أن يباع منه أن يشتريه بثلثي ثمنه، ولا أراد الورثة أن يبيعوه منه بأقل من ثلثي ثمنه، أعتق ثلثه.
وقد مضى بيان هذا في رسم الوصايا ورسم الطلاق من سماع أشهب. وقد قال ابن دحون إنما هذا إذا رجع فيه إلى عتق ثلثه، فأما إن وجد من يشتريه ببعض الثلث، أو بأقل فلا بد من المحاصة مع أهل الوصايا، يقال للمشتري: تشتريه ببعض ثلث ثمنه، على أن تحاص أهل الوصايا، فتنقص من ثمنه ما وقع لك في المحاصة. وقول ابن دحون هذا ليس بصحيح؛ لأنه قد نص في الرواية أنه يبدأ بالثلث ثمنه على أهل الوصايا، من أجل أن الوصية له بذلك تؤول إلى العتق. ونص فيما مضى في رسم الوصايا من سماع أشهب على أن المشتري لا يجوز الشراء بحطيطة ثلث الثمن، إلا ما دخله من العول. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: ترك في حانوته شعيرا وأوصى أن ذلك الشعير بينه وبين رجل سماه]
مسألة وسألته عن رجل هلك وترك في حانوته شعيرا وأوصى أن ذلك الشعير بينه وبين رجل سماه، فأتى الوصي إلى ذلك الرجل الذي سمي أن الشعير بينه وبينه، فذكر له ما عهد إليه صاحبه، فقال: ما لي عنده شعير، ولكن لي عنده أربعون دينارا. وأتاه ببينة على الأربعين، فقبضها ثم قال: قد والله وجدت في برنامجي أن الشعير بيني وبينه. قال: يحلف بالله أنه له، ويكون له شطره؛ لأنه لم يقر بشيء يخاف به تلف الأربعين حين كانت له البينة على الأربعين. وقال رأيت أن لو لم يدع الأربعين أو ادعاها وقال: الشعير لي، لم يكن له الشعير، فإني أراه له إذا حلف.
قال محمد بن رشد: إنما لزمته اليمين وإن كان الميت قد أقر له(13/96)
من أجل أنه اتهم أن يكون ندم إذ أنكر ألا أن يكون له في الشعير شيء، ويجوز أن يكون الموصي غلط فيما أمر أو نسي فلما رجع وادعى الشعير بعد أن أنكره، وجبت عليه اليمين للتهمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بثلاثة أعبد لرجلين]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل أوصى بثلاثة أعبد لرجلين، ثم قال بعد ذلك: وفلان وفلان من أولئك الرقيق لفلان لأحد الرجلين، وفلان للرجل الآخر. قال: أرى أن يضرب كل واحد منهما فيهم بأكثر الوصيتين، ينظر، فإن كان نصف ثلاثتهم أكثر من العبد الذي أوصى به لأحدهما، ضرب مع صاحبه فيه بنصف قيمتهم، فلا يتهم بالوصية الأولى، وسقطت الآخرة، وإن كان العبد الذي أوصى له به أكثر قيمة من نصف ثلاثتهم ضرب فيهم بقيمة العبد، يعطى أكثر الوصيتين، وينظر أيضا للآخر فإن كان قيمة العبدين أكثر من نصف قيمتهم، ثلاثتهم، ضرب بقيمتها مع صاحبه فيهم أو فيما حمل الثلث منهم، وإن كان نصف قيمتهم ثلاثتهم أكثر من العبدين اللذين أوصى بهما له ضرب بنصف قيمتهم، يضرب كل واحد منهما في الثلاثة الأعبد، وفيما حمل الثلث منهم بأكثر الوصيتين. قال: وكل شيء أوصي به لرجل في شيء بعينه ثم أوصي له في ذلك الشيء أيضا بوصية أخرى، فإنه يؤخذ له بأكثر الوصيتين، مثل أن يقول: لفلان عشرون دينارا، ثم يقول بعد ذلك: لفلان ثلاثون دينارا، فإنه يعطى ثلاثين وتسقط العشرون، ومثل أن يقول: لفلان وفلان المائة الدينار التي على فلان، ثم يقول بعد ذلك: لفلان لأحد الرجلين المائة الدينار التي على فلان، فليس يضرب فيها بخمسين ومائة بالوصية الأولى والآخرة، إلا أنه(13/97)
يؤخذ له بأكثرهما، فيحاص صاحب المائة بالمائة ويحاص الآخر بخمسين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على أصل ابن القاسم ومذهبه في أن من أوصى بوصيتين، له الأكثر منهما كانت الأولى أو الآخرة، تحمل على التفسير لما مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم، حسبما ذكرناه هناك. وقد قال الفضل فيها: إنها خلاف لأصل ابن القاسم في هذه المسألة. والصواب أن تؤول على ما يخالف أصله في هذه المسألة على ما بيناه، وبالله التوفيق.
[: أوصى لرجل بمائة دينار مبدأة ولقوم بوصايا]
ومن كتاب العرية وقال مالك في رجل أوصى لرجل بمائة دينار مبدأة، ولقوم بوصايا ثم قال بعد ذلك: ولصاحب المائة المبدأة ألف دينار. قال: يحاص لصاحب المائة المبدأة بألف، فما صار له في المحاصة بالألف أعطيه، إلا أن يكون الذي صار له في المحاصة بالألف أقل من مائة فيعطى المائة المبدأة وإنما ينظر إلى أي ذلك أكثر المائة المبدأة أو ما يصير له في المحاصة بالألف فيعطى الأكثر؟ قلت لابن القاسم: فإن قال: زيدوا صاحب المائة المبدأة، قال يحاص أهل الوصايا بالألف ويأخذ الوصيتين جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة أيضا كالمسألة التي قبلها على أصل ابن القاسم وروايته عن مالك، في أن من أوصي له بوصيتين من نوع واحد، له الأكثر منهما، كانت الأولى أو الآخرة وبالله التوفيق.(13/98)
[مسألة: يقول في وصيته نصف عبدي حر]
مسألة وسألته عن الرجل يقول في وصيته: نصف عبدي حر، قال: يعتق نصف قيمتهما بالسهم. قلت له: فإن قال: أحد عبدي حر، قال: كذلك أيضا يعتق نصف قيمتهما بالسهم.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. ومذهب ابن كنانة، ومطرف، وابن الماجشون، أن القرعة تكون في الموصى بعتقهم. وفي المبتلين في المرض إذا سمى منهم عددا أو جزءا أو جميعهم ولا يحملهم الثلث. والأصل في ذلك ما جاء في حديث الموطأ: من «أن رجلا أعتق عبيدا له ستة عند موته، فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، فأعتق ثلث تلك الرقيق» . قال مالك: وبلغني أنه لم يكن لذلك الرجل مال غيرهم. وهو كما بلغه والله أعلم. إذ لو كان مال غيرهم، لعتق منهم ما حمل الثلث بالقرعة، على ما ذهب إليه مالك، خلاف ما ذهب إليه ابن نافع، من أن القرعة لا تكون إلا حيث السنة في الذي يعتق عبيده عند موته، ولا مال له سواهم. وذهب أشهب إلى أن القرعة إنما تكون في الموصى لهم بالعتق دون المبتلين في المرض. فإذا قال الرجل في وصيته: أحد عبدي هذين حر أو نصفهما حر، أعتق نصف قيمتهما بالسهم، كما قال على قول جميعهم. ووجه العمل في ذلك، أن يقوم كل واحد منهما على حده، ثم يضرب عليهما بالسهام، فإن كان قيمة أحدهما في التمثيل عشرين، وقسمة الثاني أربعين، فخرج سهم الذي قيمته عشرون، عتق جميعه، وعتق من الآخر الذي قيمته أربعون ربعه، وبقي ثلاثة أرباعه رقيقا، وإن خرج سهم الذي قيمته أربعون، عتق منه ثلاثة أرباعه، ورق ربعه ورق جميع الآخر الذي أخطأه السهم؛ لأن نصف قيمتهما ثلاثون، على ما نزلناه.(13/99)
ولو قال. أنصاف عبدي أو نصفا عبدي لعتق من كل واحد منهما نصفه، على ما قاله في العتق من المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بعبد فيموت العبد عن مال]
مسألة وسألته عن رجل يوصي لرجل بعبد بعينه، فيموت العبد عن مال قبل أن ينظر في مال الميت. قال مالك: المال للموصى له بالعبد.
قلت: فمن أين يخرج؟ من ثلث ما بقي بعد موت العبد، أو من قيمة العبد؟. قال: بل من ثلث ما بقي بعد موت العبد، ويكون العبد كأنه لم يكن في مال.
قال محمد بن رشد: قد مضى اختلاف قول مالك في مال العبد الموصى به، هل يكون تبعا له أو لورثة الموصي؟ في رسم البر من سماع ابن القاسم، وذكرنا هناك تحصيل الاختلاف فيه ووجهه فلا معنى لإعادته. وقوله ها هنا: إن المال للموصى له بالعبد، خلاف قوله في رسم الوصايا من سماع أشهب. والقولان جميعا في رسم البر من سماع ابن القاسم كما ذكرناه وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصية في عبد كان يملكه إنه حر]
مسألة وسئل عن رجل قال في وصية في عبد كان يملكه: إنه حر من من أصله، وإنما اغتصبته نفسه، ولم يكن لي عبد قط قال: إن كان يورث كلالة فلا يقبل قوله، ولا يعتق من ثلث ولا غيره، وإن كان وارثه ولدا فإني أرى أن يعتق من رأس المال، وذلك لأن مالكا سئل عن رجل قال عند موته: فلانة لجارية له،(13/100)
هي أم ولدي، وقد ولدت مني، ولم يذكر ذلك قبل ذلك، ولا يعرف أحد ما قال، فقال: إن كان وارثه ولدا فإني أرى أن تعتق من رأس ماله، وإن كان يورث كلالة، فلا تعتق في رأس مال ولا ثلث، فمسألتك مثلها. ورواه أصبغ.
قال محمد بن رشد: قياسه للمسألة التي سئل عنها على ما قاله مالك في الذي يقر في مرضه عند موته لجارية له أنها أم ولد ولا ولد معها صحيح، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، فيدخل فيها من الاختلاف ما في مسألة مالك. وتحصيله: أن فيها إن كان يورث بولد، ثلاثة أقوال: أحدها: قوله في هذه الرواية، وفي المدونة إنها تعتق من رأس المال. والثاني: إنها لا تعتق من رأس المال. ولا من الثلث، وهو قول ابن القاسم وغيره في كتاب أمهات الأولاد من المدونة. والثالث: يتخرج بالمعنى على ما في كتاب المكاتب من المدونة. وهو أنها تعتق من الثلث. وإن كان يورث كلالة، ففيها ثلاثة أقوال أيضا: أحدها: أنها لا تعتق في رأس مال ولا ثلث. وهو قوله في هذه الرواية وفي المدونة. والقول الثاني: أنها تعتق من الثلث، وهو قول ابن القاسم في كتاب المكاتب من المدونة. والثالث: أنها تعتق من رأس المال، وهو الذي يأتي في كتاب الكفالة والحوالة من المدونة في بعض الروايات من أن إقرار المريض لمن لا يتهم عليه بدين جائز، كان يورث بكلالة أو ولد، وفي مجموع المسألة خمسة أقوال: أحدها: أنها لا تعتق من رأس المال ولا من الثلث، كأن يورث بولد أو كلالة، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، والثاني: أنها تعتق من رأس المال كان يورث بكلالة أو بولد، وهو الذي يأتي على ما في بعض الروايات من كتاب الكفالة والثالث: بكلالة أو بولد، فإن ورث بولد عتقت من رأس المال وإن ورث بكلالة لم يعتق من رأس المال ولا من الثلث. والرابع: أنه إن ورث بولد عتقت من رأس المال، وإن ورث بكلالة عتقت من الثلث. والخامس: إن(13/101)
كان يورث بولد عتقت من الثلث، وإن كان يورث بكلالة، لم تعتق من رأس المال ولا من الثلث وفي آخر سماع أبي زيد مسألة من هذا المعنى فيها إشكال سنتكلم عليها إذا وصلنا إليها إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[مسألة: له ثلاثة أعبد فأوصى بهم لرجل]
مسألة وسئل عن رجل له ثلاثة أعبد، فأوصى بهم لرجل ونصهم بأسمائهم، وليس له من الأعبد غيرهم، ثم أوصى بعبد منهم بعد ذلك لرجل وسماه باسمه، ولم يذكر انتزاعا. قال: إن حملهم ثلاثتهم الثلث، كان الاثنان لهذا خالصا، ورجع، فقاسم هذا الذي سمي له العبد بعد ذلك، فكان له نصفه وللآخر نصفه، وهو بمنزلة رجل ليس له إلا عبد واحد، فأوصى به لرجل، ثم أوصى به بعد ذلك لرجل آخر، ولم يذكر انتزاعا، فإن مالكا قال فيما أظن يكون بينهما نصفين، فهذا حين أوصى له بالثلاثة الأعبد، ثم أوصى بواحد منهم بعد ذلك، كان قد أوصى بهذا العبد لهما جميعا. قلت: فإن لم يحملهم الثلث، قال: يحاص بهم ثلاثتهم، فإن خرج من كل رأس من الثلاثة ثلثاه، كان ما خرج في العبدين لهذا خالصا، ورجع فأخذ ثلث هذا العبد الآخر، وأخذ الآخر ثلثه، فعلى حساب هذا يكون. قال أصبغ: ويجعل ما أصاب العبد في العبدين خاصة، خالصا له وحده، شريكا للورثة، ولا يضرب صاحب العبد المنفرد في الثلاثة، فإن قطع الثلث لهما، فإنما يجعل وصية كل واحد منهما فيما سمى له وأوصى له به. وتفسير ذلك: أن يكون لا مال له غيرهم، ويكون ثمن كل واحد منهم ثلاثين دينارا، والثلث ثلاثين، فللموصى له بالعبدين الخالصين ثلث كل واحد منهما، وباقيهما للورثة، وثلث العبد(13/102)
الذي اجتمعت فيه الوصيتان بينهما، لكل واحد منهما خمسة، وهو سدسه، فذلك ثلث جميع مال الميت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة على أصل ابن القاسم في أن من أوصى لرجل بشيء ثم أوصى به بعد ذلك لغيره، لا يكون إيصاؤه به لغيره رجوعا منه عن وصيته به للأول، ويكون بينهما، فلا إشكال فيها من قول ابن القاسم يحتاج إلى تفسير. وكلام أصبغ أيضا بين صحيح مثل قول ابن القاسم في معناه، وإن خالف لفظه. وبالله التوفيق.
[مسألة: له على رجلين مائتا دينار فأوصى لهذا بما على هذا وأوصى لهذا بما على هذا]
مسألة وعن رجل له على رجلين مائتا دينار، فأوصى لهذا بما على هذا وأوصى لهذا بما على هذا، وكان أحدهما مفلسا ولم يترك من المال إلا المائتين، ومائة أخرى فأبى أن يجيز الورثة. قال: يقطع لهما الورثة بثلث النقد وثلث الدين، ثم يتحاصان، يحاص المفلس بقيمة ما على الغني، ويحاص الغني بقيمة ما على المفلس، فما صار له في المحاصة عليه اتبعه الورثة فيه، والغني بما صار له على المفلس، فيحاصون فيه جميعا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة، إلا أنها ناقصة تفتقر إلى تتميم بيان وجه العمل فيها إذا أجاز الورثة، وإذا لم يجيزوا، فأما إذا أجازوا فيؤخذ من الغني ما عليه للمفلس، فيتحاص فيه الغني مع سائر غرماء المفلس، يضرب فيه الغني بحقه، وهو مائة والغرماء بمبلغ ديونهم ويتبعونه ببقية حقوقهم، فكلما أفاد شيئا يحاص فيه الغني وسائر الغرماء بما بقي من حقوقهم حتى، يستوفوها. وأما إذا لم يجيزوا وقطعوا لهما بالثلث شائعا في النقد والدين، فوجه العمل في ذلك أن يقال: كم قيمة ثلث الدين الذي على المفلس وهو ثلاثة وثلاثون وثلث؟ بأن يعرف ما يسوى بعرض، ثم يعرف ما(13/103)
يسوى العرض، فإن كان ذلك في التمثيل عشرة، قيل: كم قيمة ثلث الدين الذي على الغني وهو ثلاثة وثلاثون وثلث؟ بأن يعرف أيضا ما يسوى بعرض، ثم يعرف ما يسوى العرض، فإن كان ذلك في التمثيل ثلاثين، تحاصا جميعا في ثلث النقد فكان بينهما أرباعا؛ لأنه يضرب فيه المفلس بثلاثين، قيمة ثلث ما على الغني، ويضرب فيه الغني بعشرة، قيمة ثلث ما على المفلس، فما ناب الغني من ذلك أخذه، وما ناب المفلس أخذه منه، فيحاص فيه الورثة. والغني يضرب فيه الورثة بما لهم عليه، وهو ستة وستون وثلثان، والغني بماله عليه، وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، ويؤخذ من الغني للمفلس ثلث المائة التي عليه، فيتحاص في ذلك الورثة، والغني الموصى له يضرب في ذلك الغني بجميع حقه الذي له عليه، وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث، ويضرب فيه الورثة بما بقي لهم عليه من حقوقهم، وذلك أنه كان لهم عليه ستة وستون وثلثان إذ سلموا الثلث من المائة التي كانت لهم عليهم للوصية فصار إليهم من الستة والستين والثلثين ما وجب لهم في المحاصة من ثلث الناض إذا تحاصوا فيه مع الغني الموصى له بما على المفلس، حسبما ذكرناه، ويأخذ الورثة. من الغني ثلثي الدين الذي كان لهم عليه، إذ قد أسلموا الدين للوصية، ويتبع الغني المفلس بما بقي له قبله من ثلث الدين، إذ قد قبض مع ذلك ما وجب له في المحاصة من ثلث الناض حسبما بيناه، ويتبعه الورثة بما بقي لهم قبله من ثلثي الدين إذ قد قبضوا من ذلك ما صار لهم في المحاصة مما وجب لهم من الثلث الناض، وما صار لهم في المحاصة مما وجب له بالوصية على الغني، حسبما وصفناه وبيناه. وقد ذكر ابن المواز في هذه المسألة أن قول مالك وأصحابه إنه لا يقدم الدين الموصى به، وإنما يحسب عدده. ومذهب المغيرة وابن وهب تقديم الدين وهو الأظهر؛ لأن الدين حكمه حكم العرض. قال ابن المواز: إنما ذلك عند ضيق الثلث، ولو كان الثلث يخرج منه المائتان لكان لكل واحد منهما مائة بعينها. وقد ذكر بعض أهل العلم، أنه يأخذ كل واحد منهما ثلث ما على صاحبه، ويتحاصان(13/104)
في ثلث الناض يضرب كل واحد منهما فيه بقدر وصيته. وقول ابن القاسم هو الصحيح في النظر؛ لأن الوصايا إذا تجاوزت الثلث فردت إليه صارت شائعة في جميع المال. وقد قيل: إنه من أوصى له بشيء بعينه فلم يحمله الثلث، يجعل له مبلغ الثلث فيما أوصى له به، ولا يكون شائعا في جملة المال. وهو أحد قولي مالك في المدونة. فعلى هذا يجعل للغني ما وجب له من جميع الثلث فيما على المفلس، وللمفلس ما وجب له من جميع الثلث فيما على الغني، وهو قول ثالث في المسألة. وقد روي عن سحنون أن الدين لا يقطع له قيمة، بخلاف العرض. وسيأتي في رسم النسمة مسألة من هذا المعنى يدخلها ما دخل هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحضره الوفاة فيوصي أن تباع جاريته ممن أحبت]
مسألة وسئل عن رجل تحضره الوفاة، فيوصي أن تباع جاريته ممن أحبت، ويوصي لرجل بعشرة دنانير، فيحمل ماله الجارية فقط، فأبى الورثة أن يجيزوا أو أجازوا. قال ابن القاسم: يقال للورثة: إما أجزتم الوصية فتبيعونها ممن تحب بوضع ثلث ثمنها وأعطيتم هذا عشرة، وإما أعتقتم ثلثها وتسقط العشرة.
قال محمد بن رشد: قوله هذا في إيجاب العتق للجارية إذا أبى الورثة من إجازة الوصية، هو مثل ما تقدم في رسم استأذن من هذا السماع، خلاف ما تقدم في رسم الوصايا ورسم الطلاق من سماع أشهب. وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بسكنى دار له ما عاش]
مسألة وسألته عن رجل أوصى لرجل بسكنى دار له ما عاش، وأوصى بوصايا، فضاق الثلث عن الوصايا، فيتحاصون في الثلث:(13/105)
هذا بقية سكنى الدار حياته، وأهل الوصايا بوصاياهم، فأخذ كل ذي حق حقه، فعاش الذي أوصى له بالسكنى أكثر مما عمر، هل يرجع على أهل الوصايا بشيء؟ وإن مات هو قبل الأجل الذي عمر إليه، هل يرجع أهل الوصايا فيأخذون ما بقي؟. قال ابن القاسم: إذا ضاق الثلث عن وصايا أهل الوصايا فيتحاصون في الثلث، فإن من أخذ شيئا كان ذلك الشيء له بتلا وهو حكم يقع ويمضي، ولا يرجع أهل الوصايا على ما في يديه بشيء إذا مات قبل الأجل الذي عمر إليه؛ لأنه حكم قد مضى، وكذلك لو أوصى أن ينفق على رجل ما عاش فعمر ولم يحمل الثلث نفقة تعميره، إنه إن لم يجزه الورثة، كان ما صار له من الثلث بتلا يدفع إليه، وليس للورثة أن يرجعوا عليه بشيء وإن مات بعد ذلك بيوم؛ لأنهم قد خيروا في أن ينفذوا وصية صاحبهم، وفي أن يقطعوا له بالثلث بتلا، فاختاروا القطع له بالثلث بتلا ولو كانوا أنفذوا وصية صاحبهم ثم مات، رجعوا فأخذوا ما بقي من النفقة، وكذلك أيضا لو حمل الثلث النفقة، وفضل في أيدي الورثة من الثلث فضلة، فعمر فوقف له من الثلث قدر نفقة تعميره، إنه إن مات قبل أن يستنجز النفقة، رجع على الورثة أيضا فأخذ منهم نفقة ما بقي من عمره مما بقي في أيديهم من بقية الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الثلث إذا ضاق عن وصايا أهل الوصايا فيتحاصون فيه، لم يرجع بعضهم على بعض بشيء، لا المعمر إذا عاش أكثر مما عمر على أهل الوصايا، ولا أهل الوصايا على ما بقي في يد المعمر إن مات قبل الأجل الذي عمر إليه؛ لأنه حكم قد مضى هو خلاف ما مضى في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب؛ لأنه قال فيه: إن المعمرين لا يرجعون على أهل الوصايا إن عاشوا أكثر مما عمروا، وإن أهل الوصايا(13/106)
يرجعون عليهم فيما فضل مما وقف لهم إن لم يستنفذوه بموتهم قبل الأجل الذي عمروا إليه. وقد قيل: إنهم يرجعون على أهل الوصايا إن عاشوا أكثر مما عمروا فيعمرون ثانية، كما يرجع أهل الوصايا عليهم فيما فضل مما وقف لهم إن ماتوا قبل أن يستنفذوه، وهو اختيار أشهب، والثلاثة الأقوال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ. وكذلك إن لم يكن ثم وصايا مع الموصى له بالنفقة أو بالسكنى حياته، فلم يحمل الثلث نفقة تعميره أو قيمة السكنى حياته، فلم يجز ذلك الورثة وقطعوا له بالثلث، قيل: إنه يكون له ما صار له من الثلث، لا يرجع عليه فيه الورثة، وإن مات بعد يوم أو يومين، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل: إنهم يرجعون في الفضل، فيكون لهم إن مات قبل الأجل الذي عمر إليه. ولو أجاز الورثة الوصية أو حملها الثلث لارتفع الخلاف من المسألة، ولوجب إن لم يبلغوا الأجل الذي عمروا إليه، أن يرجع ما فضل مما وقف لهم إلى الورثة إن عاشوا أكثر مما عمروا أن يرجعوا على الورثة فيما بقي بأيديهم من بقية الثلث إن كانت الوصية أقل من الثلث، أو في بقية مال الميت إن كانت أكثر من الثلث فأجازوها، ولم يكن لهم على الوصايا رجوع بحال. وقوله في أول المسألة الذي أوصى له بسكنى الدار فعاش يحاص أهل الوصايا بقيمة سكنى الدار حياته ليس بخلاف لما في المدونة من أن من أوصي له بخدمة عبد أو سكنى دار، إنما يقوم في الثلث رقبة العبد والدار، لا قيمة الخدمة والسكنى لأن المعنى في ذلك إنما هو من حق الورثة إن لم يحمل الثلث رقبة العبد والدار، ألا يجيزوا الوصية، وأن يقطعوا للموصى له بالخدمة أو السكنى بالثلث من جميع ما ترك الميت، وإن كان الثلث يحمل قيمة الخدمة والسكنى، إذ قد يموتون قبل أن ترجع إليهم الرقبة، فيكون الميت كأنه قد أوصى بالرقبة ولا يحملها الثلث. وهذا هو معنى قول مالك في المدونة لأني لو أقمت الخدمة والسكنى، لكنت قد حبست العبد عن أربابه، والدار عن أربابها، وهم يحتاجون إلى بيع ذلك، فهذا لا يستقيم، وأما إذا لم يحمل الثلث رقبة الدار واحتيج في ذلك إلى المحاصة مع الوصايا فلا(13/107)
يحاص إلا بقيمة السكنى على غيره؛ لأنه هو الذي أوصى له به، لا الرقبة، ولو كان الثلث لا يحمل الرقبة والوصايا، وهو أكثر من قيمة السكنى والوصايا، لوجب إذا عاش أكثر مما عمر إليه أن يكون أحق بما فضل من الثلث، فيستوفي منه السكنى بقية حياته، كما أوصي له به؛ لأن أهل الوصايا قد أخذوا وصاياهم، فلا كلام لهم، والموصى له بالسكنى أحق بقيمة الثلث من الورثة.
[مسألة: له عبد قيمته مائة دينار وللعبد مائتين فيقول للعبد أعطني المائتين وأعتقك]
مسألة وسألته عن الرجل يمرض وله عبد قيمته مائة دينار، وللعبد مائتا دينار، فيقول للعبد: أعطني المائتين، وأعتقك فأخذها وأعتقه. قال: عتقه جائز. قلت كيف يجوز لهذا وهو مريض؟ وهو لو قال في ذلك هو حر بتلا أو أوصى بعتقه، لم يعتق منه إلا ثلثها رقبة، وأقر ماله في يديه، ولم يحاص في عتقه بشيء من ماله إذا لم يترك إلا العبد وماله، فقال: أرأيت لو قال: خذوا من عبدي ماله وأعتقوه، وليس له مال غيره، فوجدوا العبد ثلث ماله أليس قد كان يعتق؟ قلت: لا أدري قال: نعم، إذا قال: خذوا ماله وأعتقوه، جاز عتقه إذا كان هو ثلث ماله.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال إن عتقه جائز؛ لأنه قد كان له أن يأخذ ماله ولا يعتقه، فإذا أخذ المائتين منه وأعتقه، وقيمته مائة، فذلك بين الجواز؛ لأنه أعتقه، وثلث ماله يحمله، إذ قد صار المال له بانتزاعه إياه منه، وإنما قال له أعطني المائتين، وأعتقك التماس رضاه بذلك، خشية أن يكون كارها للعتق إذا لم يكن له مال، لا من أجل أن له أن يمتنع من ذلك. وقد قال بعض أهل النظر: إنما جاز ذلك؛ لأنه نفذ عتقه في حياته على عوض وهو ثلثه. والوجه في جواز ذلك هو ما ذكرته، لا ما سواه. وبالله التوفيق.(13/108)
[مسألة: يقول أحد عبيدي لفلان وله ثلاثة أعبد قيمتهم سواء]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: أحد عبيدي لفلان، وله ثلاثة أعبد قيمتهم سواء، وليس له مال غيرهم، ثم يقول بعد ذلك: عبدي فلان لفلان، رجل آخر، والعبد من تلك الثلاثة الأعبد، قال: إذا كان قيمتهم سواء، أسهم بينهم بثلاثتهم للذي قال: أحد عبيدي لفلان، حتى يعلم في أي عبد يقطع له فيه وصيته، فإن خرج سهمه في الذي أوصى به للرجل الآخر كان نصفه له، ونصفه للآخر، وإن خرج سهمه في آخر كان له نصفه، وللورثة نصفه، وكان لهذا الآخر نصف العبد الذي له به، فعلى هذا فقس أمرها إذا اختلفت قيمتهم أو اتفقت على هذا، وإن كان مع العبيد مال غيرهم، إلا أن العبيد أقل من الثلث، فإن الذي أوصى له بالعبد بعينه يحاص صاحبه بقيمة العبد الذي سمي له ويحاص الآخر بثلث قيمتهم ثلاثتهم.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا لم يكن له مال سواهم، وكانت قيمتهم سواء، إنه يسهم بينهم للذي قال: أحد عبيدي لفلان، فإن خرج السهم منهم على الذي أوصى به للآخر، كان بينهما نصفين، وإن خرج على غيره، كان له نصفه، وللورثة نصفه، وكان للآخر العبد الذي أوصى له به، بين لا إشكال فيه، إذ ليس له أن يوصي بأكثر من ثلث ماله، وثلث ماله هو عبد من الأعبد الثلاثة إذا لم يكن له مال- سواهم. وقوله: فقس أمرها إذا اختلفت قيمتهم، أو اتفقت على هذا، يريد أنه إذا اختلفت قيمتهم يسهم أيضا بينهم ثلاثتهم، للذي قال: أحد عبيدي لفلان فإن خرج السهم على العبد الذي أوصى به للآخر، وقيمته الثلث فأقل، كان بينهما بنصفين، وإن كانت قيمته أكثر من الثلث، كان بينهما بنصفين ما حمل الثلث منه، وكانا شريكين فيتبع(13/109)
الورثة بالزائد على الثلث، وإن خرج السهم على عبد من العبدين الآخرين، وقيمتهما جميعا الثلث فأقل، أخذ العبد الذي خرج له في السهم، وأخذ الآخر العبد الذي أوصي له. به، وإن كانت قيمتهما أكثر من الثلث، مثل أن تكون قيمة أحد العبيد عشرة، والثاني عشرين، والثالث ثلاثين، فيوصي للرجل بالعبد الذي قيمته عشرة، ويخرج للآخر بالسهم العبد الذي قيمته عشرون، كان الثلث من العبيد إذا قطع به الورثة لهما، ولم يجيزوا الوصية بينهما على قدر وصاياهما؛ لأن الوصايا إذا لم يحملها الثلث حالت ورجعت إلى الإشاعة في الثلث. وهذا على القول بأن من أوصي له بعبد من جملة عبيده يعطى واحدا من عددهم بالقرعة، وأما على القول بأن من أوصي له بعبد من جملة عبيد، يكون له ثلثهم بالقيمة، إن كانوا ثلاثة، وربعهم إن كانوا أربعة، يخرج لهم في ذلك بالقرعة من عددهم ما خرج، والقولان قائمان من المدونة، فالحكم في ذلك أن يخرج ثلثهم بالسهم للذي أوصي له بالعبد من الأعبد الثلاثة، فإن حمل الثلث الوصيتين جميعا، افترقت في العبيد أو اجتمعت في العبد الموصى بعينه لأحدهم أو كان في ذلك فضل عنه بعد ذلك، وانفرد بالفضل الموصى له بالعبد من الأعبد. وإن لم يحمل الثلث الوصيتين جميعا، ولا أجاز ذلك الورثة، فقطعوا لهما بالثلث، تحاصا فيه على قدر وصاياهما. وفي المسألة قول ثالث، وهو أن من أوصي له بعبد من جملة عبيد، يكون شريكا مع الورثة في كل عبد بالثلث، إن كان العبيد ثلاثة، أو بالربع إن كانوا أربعة فالحكم في مسألتنا على قياس هذا القول أن يكون للموصى له بالعبد بعينه ثلثا العبد الذي أوصي له به، ويكون ثلثه بينه وبين الموصى له الآخر لأن وصاياهما قد اجتمعت في ثلثه، ويكون للموصى له الآخر، ثلث كل عبد من العبدين الآخرين أيضا. هذا إن حمل ذلك الثلث، وأما إن لم يحمله الثلث، ولا أجاز ذلك الورثة، فقطعوا لهما بالثلث، تحاصوا فيه على قدر وصاياهما. وأما قوله: وإن كان مع العبيد مال غيرهم، إلا أن العبيد أقل من الثلث إلى آخر قوله، فلا يستقيم، إلا أن يعدل(13/110)
بالكلام عن ظاهره من العموم، فيقال: معناه: إذا كان العبيد أقل من الثلث، ووصاياهما جميعا إذا اجتمعت أكثر من قيمة العبيد، مثل أن تكون قيمة أحدهم تسعين، وقيمة الثاني عشرين، وقيمة الثالث عشرة، فيوصي لرجل بعبد منهم غير معين، وللآخر بالعبد الذي قيمته تسعون؛ لأن جميع قيمة العبيد على هذا مائة وعشرون، ووصاياهما جميعا مائة وثلاثون؛ لأن الذي أوصى له بعبد غير معين له ثلث قيمتهم بأربعين، فيتحاصان جميعا في جميع العبيد الموصى له بالعبد المعين بتسعين، والموصى له بالعبد من الأعبد بأربعين؛ لأن المحاصة إنما تكون عند ضيق المال عن حقوق أهله، وأما إذا كانت وصاياهما إذا اجتمعت، مثل قيمة العبيد أو أقل، فيأخذ كل منها وصيته كاملة، ولا يحتاج في ذلك إلى التحاص. وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بأن يحج عنه بثمن جارية له فولدت الجارية]
مسألة وسئل عن الرجل يوصي بأن يحج عنه بثمن جارية له، ثم إنها ولدت بعد موت الموصي قبل أن تباع، فهل تباع بولدها؟ أو يكون أوصى لرجل بجارية فلم ينظر في وصيته حتى ولدت هل تكون هي وولدها للذي أوصي له بها مع ولدها؟ أو تكون ماتت وبقي ولدها، هل ترى ولدها للموصى له؟ أو يكون قال جاريتي حرة إن دخلت دار فلان، أو كلمت فلانا، ثم إنها ولدت أولادا قبل أن يدخل الدار، وقبل أن يكلمه، ثم كلمه، هل يعتقون معها أم لا؟ قال ابن القاسم: أما الذي أوصى بالحج عنه بثمن جارية له، فأرى الوصية في الجارية وولدها إن ولدت بعد موت الموصي، وأما الذي أوصى بجارية له لرجل فولدت، فإنها إن كانت ولدت بعد وفاة الموصي، فولدها أيضا للموصى له، بقيت الأمة أو هلكت، وإن كانت ولدت والموصي حي، ثم هلك بعد، فلا حق للموصى له في ولدها.(13/111)
وأما الذي قال: إن دخلت هذه الدار فجاريتي حرة، فولدت قبل أن تدخلها، ثم دخلها ولها ولد، فإنها تعتق بولدها. كذلك قال لي مالك على الاستقلال للعتق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إن ما ولدت الجارية الموصى بها لرجل أو الموصى بعتقها، والموصى بالحج بثمنها بعد موت الموصى فولدها تبع لها، أن الوصية قد وجبت بموت الموصي وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» وأما ما ولدت الجارية المحلوف بعتقها ألا يفعل فعلا، فالقياس ألا يعتق ولدها بعتقها؛ لأنه فيها على بر، وله أن يطلق ويبيع، إلا أن قول مالك قد اختلف في ذلك، مرة كان يقول: تعتق بولدها، ومرة كان يقول: تعتق بغير ولدها، ولكن الذي ثبت عليه من ذلك واستحسن على ذكره، أن تعتق هي وولدها على ما قاله في هذه الرواية، في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى من كتاب العتق، وفي رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ منه، وفي رسم باع غلاما من سماع عيسى عن ابن القاسم، وأما اليمين التي يكون فيها على حنث مثل أن يحلف بعتقها ليفعلن فعلا ولا يضرب لذلك أجلا فالقياس أن يعتق ولدها بعتقها، وهو المشهور من قول مالك. وقد روي عن مالك أن ولدها لا يدخل في اليمين، وهو قول المغيرة المخزومي. وإن ضرب ليمينه بعتقها ليفعلن فعلا أجلا فهو أخف. وفي دخول ولدها في اليمين اختلاف؛ لأن مالكا إذا رأى في أحد قوليه أن الولد يدخل في اليمين التي يكون فيها على بر، وله أن يطأ ويبيع، فأحرى أن يرى ذلك في هذه اليمين التي يمنع فيها من البيع، ويختلف في جواز الوطء له، وبالله التوفيق.(13/112)
[: قال عند موته قد كنت أعتقت غلامي فلانا فأنفذوا ذلك وأوصى بوصايا]
ومن كتاب أمهات الأولاد قال ابن القاسم: إذا قال الرجل عند موته: قد كنت أعتقت غلامي فلانا أو كنت تصدقت على فلان بكذا وكذا، وقد كنت جعلت كذا وكذا في سبيل الله، فأنفذوا ذلك، وأوصى بوصايا فإن ذلك يكون في الثلث بمنزلة الوصايا يصنع فيها ما يصنع في الوصايا حين قال: أنفذوا ذلك إن كان عتقا بعينه يبدأ، فإن كانت رقبة ليست بعينها هكذا أو غير ذلك من الوصايا مما يشبه حص بين ذلك كله، ووقعت فيه المحاصة، وإن كان قال ذلك، قد كنت فعلت كذا وسكت ولم يقل فأنفذوا ذلك فليس ذلك شيء لا في الثلث ولا في رأس المال، وهو ميراث، ولا يدخل فيه الوصايا ويدخل في ثلث ما بعده، وإن لم يقل شيئا وسكت، ولم يذكر رأسا، إلا أنه قد فعله في الصحة، ولم يزل في يديه حتى مات، ولم يخرج من يديه، فإن الوصايا تدخل فيه، وإن كان على أصل ذلك بينة، ثبت العتق من رأس المال، وردت الصدقات والنخل، وجرت فيه الوصايا؛ لأنه لم يذكرها، ولم يقل أنفذوها وقاله أصبغ كله.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال في مرضه هذه الأشياء: قد كنت فعلت ذلك في صحتي فأنفذوا ذلك، فلا اختلاف في أنها تنفذ من ثلثه على سبيل الوصية، فتبدأ على ما هي أوكد منها، ويحاص بينها وبين ما كان في منزلتها. وأما إذا قال: قد كنت فعلت ذلك في صحتي ولم يقل فأنفذوه، فأما العتق، فيتخرج على الاختلاف الذي ذكرناه في رسم العرية في الذي يقر في مرضه عند موته في جارية أنها أم ولده. وأما ما ذكره في مرضه من أنه كان تصدق به في صحته، أو جعله في السبيل، فلا اختلاف في أنه لا ينفذ إن مات من مرضه في رأس مال ولا ثلث، وإنما يدخل الاختلاف في، العتق،(13/113)
بخلاف الصدقة وما أقر أنه جعله في السبيل من أجل أن العتق لا يفتقر إلى حيازة، بخلاف الصدقة، وما كان في معناها، ولا تدخل الوصايا في شيء من ذلك، وإنما تكون في ثلث ما بقي بعدها، ولا اختلاف أحفظه في هذا. وأما إذا تصدق في صحته ولم تحز الصدقة عنه حتى توفي، فاختلف هل تدخل فيها الوصايا أم لا على قولين: أحدهما: أنها تدخل فيه، وهو قوله في هذه الرواية. ووجه ذلك أنه لما أمسكه ولم يحوزه حمل عليه أنه أراد إبطاله، فوجب أن تدخل فيه الوصايا. والقول الثاني: أنه لا تدخل فيه الوصايا. وهو قول مالك في الموطأ رواية يحيى ورواه ابن وهب عنه أيضا وهو قول ابن كنانة قال: لأنها صدقة للمتصدق عليه بها حتى مات، وإنما ردها القاضي بعد الموت بالحكم للتهمة، وقد كان من أدركنا من الشيوخ يقولون في مسألة رسم القضاء المحض من سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات إنها خلاف هذه الرواية، مثل قول مالك في الموطأ ورواية ابن وهب عنه. وقول ابن كنانة، وليس ذلك بصحيح؛ لأنها مسألة أخرى، لا اختلاف فيها حسبما بيناه هنالك، من الفرق بين المسألتين. والذي قلته عن الذي قال في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي في صحتي، يتخرج على الاختلاف الذي ذكرناه في رسم العرية في الذي يقر في مرضه عند موته بجارية أنها أم ولده، يؤيده ما حكاه ابن المواز عن مالك في القائل في مرضه: كنت أعتقت فلانا في صحتي، وتصدقت على فلان بكذا، إنه يعتق العبد من ثلثه، وتبطل الصدقة، إذ لو ثبتت بالبينة لبطلت، ولو قامت بالعتق بينة كان من رأس المال.
قال محمد وهذه الرواية غلط ويبطل ذلك كله، وليست بغلط كما قال محمد؛ لأنه اختلاف معلوم من قول مالك، وهو كتاب المكاتب من المدونة فقف على ذلك كله وتدبره تصب إن شاء الله، وبه التوفيق.(13/114)
[: يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه بوضع نجم من نجومه وسألته عن رجل هلك وترك ولدا وترك ثلاثة أعبد، وليس مع الولد وارث غيره، فقال: هذا العبد أوصى أبي بعتقه، ثم قال بعد ذلك: لا ليس هو هذا، ولكن هو هذا، ثم قال بل هو هذا، حتى ينصهم بثلاثتهم. قال يُقوَّمون ثلاثتهم ثم ينظر إلى قيمتهم ثلاثتهم فيعتق في كل واحد ثلث قيمتهم ثلاثتهم سواء أعتقوا ثلاثتهم، وإن كانت قيمتهم مختلفة فمن كانت قيمته منهم ثلث قيمتهم ثلاثتهم، عتق كله. ومن كانت قيمته أكثر من ثلث قيمتهم عتق منه ما حمل الثلث من قيمتهم. فعلى هذا يعتقون.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة إن لم يكن له مال غيرهم، ولذلك قال: إنه يعتق في كل واحد منهم ثلث قيمتهم ثلاثتهم؛ لأنه قد أقر لكل واحد منهم أنه هو المعتق، فوجب أن يعتق إن كانت قيمته ثلث قيمتهم ثلاثتهم فأقل، مثال ذلك أن تكون قيمة أحدهم عشرة، وقيمة الثاني عشرون، وقيمة الثالث ثلاثون، فالذي قيمته عشرة، يقول له: قد أقررت لي أني أنا هو الذي أوصى أبوك بعتقه، فأعتقني؛ لأن قيمتي أقل من الثلث، والذي قيمته عشرون يقول له: قد أقررت لي أنا هو الذي أوصى أبوك بعتقه، فأعتقني؛ لأن قيمتي الثلث. والذي قيمته ثلاثون يقول له: قد أقررت لي أني أنا هو الذي أوصى أبوك بعتقه، فأعتق مني ثلث قيمة العبيد؛ إذ لم يترك أبوك مالا غيرهم، فهو عشرون، فيعتق منه ثلثاه، ولو ترك من المال سوى العبيد ثلاثين دينارا لعتق جميع العبد الذي قيمته ثلاثون أيضا لحمل الثلث له، فالأصل في هذا أن يعتق كل واحد منهم إن كان يحمله ثلث مال الميت، ومن لم يحمله منهم ثلث الميت، عتق ما حمل الثلث منه. وبالله التوفيق.(13/115)
[مسألة: يأتيه الخبر أن غلامه هلك فيوصي بوصايا فيأتي خبر أن ذلك الغلام حي]
مسألة وسألته عن الرجل يأتيه الخبر، أن غلامه هلك، وأن سفينته غرقت، وأن فرسه مات، أو نحو ذلك من الأمور، فتحضره الوفاة فيوصي بوصايا، ثم يموت، فيأتي خبر أن ذلك الغلام حي، والفرس حي، والسفينة لم تغرق، قال ابن القاسم: إن كانت قامت عنده البينة، وشهد قوم عنده قبل الوصية أو بعدها أن العبد مات، والسفينة غرقت، والفرس مات، أو بلغه ذلك فطال زمانه، ويئس منه، ثم جاء خبر بعد موته أنه لم يذهب منه شيء، فلا يدخل فيه شيء من الوصايا، وهو كَمَالٍ طارئ لم يعلم به، وإن كان ذلك شيء بلغه، فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات، ولم يشهد عنده أحد بهلاكه، إلا خبر بلغه، فإن الوصايا تدخل فيه.
قلت فالعبد يأبق؟ قال: تدخل فيه الوصايا متى ما رجع.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في أول سماع أشهب، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: قال أنفقوا على أمهات أولادي وأوصى بخادم تخدمهن فعلى من نفقة الخادم]
ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده سمعت عبد الرحمن بن القاسم، وسئل عمن أوصى فقال: أنفقوا على أمهات أولادي ثلاث سنين، وأوصى بخادم تخدمهن حياتهن، على من نفقة الخادم؟ قال: نفقتها في الثلاث سنين من مال الميت، فإذا انقضت فنفقتها عليهن، قيل: فإن قال: أنفقوا عليهن كلهن ثلاث سنين، في كل سنة عشرة دنانير، أيكون(13/116)
للخادم نفقة من مال الميت في ثلاث سنين؟ قال: لا. قلت: لم؟ قال لمكان التسمية؛ لأنه قد سمى ما ينفق عليهن، فليس يزدن عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: وأوصى بخادم تخدمهن حياتهن، يدل على أنه إن لو لم يوص لهن بذلك، لم يفرض لهن في الثلاث سنين خدمة في جملة النفقة، وهو قول ابن الماجشون؛ لأنه لا يفرض للموصى له بالنفقة للخدمة إلا بوصية. وقد مضى هذا وما يدخله من الخلاف في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب. وأما إذا سمى ما ينفق عليهن في كل سنة من الدنانير، فلا إشكال في أنهن لا يزدن على ذلك شيئا في إخدام ولا في نفقة من أوصى بخدمتهن؛ إذ لا يصح أن يزدن على ما أوصى به لهن، والله الموفق.
[مسألة: أوصى فقال أنفقوا على أم ولدي ما دامت مقيمة على ابنها]
مسألة قيل: فرجل أوصى فقال: أنفقوا على أم ولدي ما دامت مقيمة على ابنها ما لم تنكح ما عاشت، فمات الابن، وقالت: لا أنكح وطلبت النفقة. قال: لا أرى ذلك لها ولا أرى أن ينفق عليها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال لأنه إنما أوصى بالنفقة ما لم تنكح بشرط قيامها على ابنها؛ إذ لا غرض للموصي في ترك نكاحها إلا ما لابنه من المنفعة في ذلك بحسن قيامها عليه، فإذا مات الولد، ذهب الذي من أجله أوصى لها بالنفقة، فوجب أن تسقط. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أنفقوا على أم ولدي ما عاشت ما لم تنكح]
مسألة قيل له: فرجل قال: أنفقوا على أم ولدي ما عاشت ما لم(13/117)
تنكح، فصالحها الورثة من النفقة التي لها حياتها بشيء يدفعونه إليها، قال: لا بأس به. قيل له: فأرادت النكاح. ألهم أن يرجعوا في الصلح؟ قال: لا. قيل: أفتمنع من النكاح؟ قال: لا أرى أن تمنع من النكاح. قال عيسى: وإن ماتت بعد اليوم أو اليومين لم تتبع بشيء.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في آخر رسم البيوع الأول من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أوصى فقال لفلان مثل نصيب أحد ولدي وليس له ولد]
مسألة وسئل عمن أوصى، فقال: لفلان مثل نصيب أحد ولدي وليس له ولد، وجعل يطلب الولد، فقدر أن مات ولم يولد له. قال: ليس للموصى له شيء؛ لأنه لم يثبت له شيء، واحتج في ذلك بمسألة مالك في الذي قال: اكتبوا ما بقي من ثلثي لفلان، حتى أنظر لمن أوصي فمات قبل أن يوصي بشيء غير ذلك. قال مالك: ليس للموصى له ببقية الثلث شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: لأنه لا شيء للموصى له بمثل نصيب أحد ولده إذا مات قبل أن يكون له ولد؛ لأن المعنى فيما أوصى به إن له مثل نصيب أحد ولده إن كان له ولد، فإذا لم يكن له ولد بطلت الوصية. ولا اختلاف أحفظه في هذا.
وأما المسألة التي احتج بها في قول مالك، فأشهب يخالف فيها، ويرى له الثلث كله، ووجه ما ذهب إليه أنه لما جعل له ما بقي من ثلثه، ثم لم يوص بعد بشيء، تبين أنه أراد أن يبقى له جميع الثلث. ووجه قول مالك: أنه كان مجمعا على أن يوصي ولا يدري لو أوصى هل كان يفضل من الثلث شيء أم لا؟ ولا تكون الوصايا بالشك، كما لا يكون الميراث به، فلكلا القولين وجه من النظر. وقد وقع في سماع محمد(13/118)
بن خالد بعد هذا من قول أشهب في بعض الروايات، أن له ثلث الثلث، مكان ثلث الميت، فقيل: إنه غلط في الرواية، وتصحيف فيها، وقيل إنه اختلاف من قول أشهب، وإنه قول ثالث في المسألة. وعلى ذلك حمله ابن حارث في كتاب الاتفاق والاختلاف له وهو بعيد لا وجه له في النظر. ولو قيل: إن له نصف الثلث، لكان قولا له وجه؛ لأنه يقول: لي الثلث كله، ويقول الورثة: لا شيء لك منه، فيقسم بينهما بنصفين. وقول مالك هذا هو قوله في رسم بع ولا نقصان عليك، ورسم أسلم بعد هذا من هذا السماع، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى الرجل أن ربع عبده حر]
مسألة قال مالك: وإذا أوصى الرجل أن ربع عبده حر، لم يقوم على العبد ما بقي منه؛ لأن السيد هو المعتق، وإذا أوصى لعبده بربع نفسه، عتق وقوم على العبد ما بقي منه. قال مالك: لأنه لو كان بين اثنين فأعتق أحدهما مصابته قُوِّم عليه، فالعبد إذا ملك بعض نفسه أحرى أن يُقَوَّم عليه ما بقي منه؛ لأنه ما ملك من نفسه عتق. قال ابن القاسم، فإن أوصى لعبده بربعه وثلث ما بقي من ثلثه، لعتق عن نفسه فيما أوصى له به.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف إذا أوصى الرجل بعتق بعض عبده أنه لا يقوم على العبد بقيته إذا لم يعتق عليه شيء منه، وإنما اختلف إذا أوصى له بثلثه، أو بثلث ماله فعتق ثلثه عليه؛ إذ لا يصح له ملك نفسه، هل يُقَوَّم عليه باقيه في مال إن كان له، أو فيما بقي من ثلث سيده إن كان أوصى له بثلث ماله، على ما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، وما يأتي في رسم أسلم ورسم الرهون من هذا السماع، وفي سماع أبي زيد، وبالله التوفيق.(13/119)
[مسألة: قال لفلان مالي ولفلان سدس مالي]
مسألة وقال: لو قال لفلان: مالي ولفلان سدس مالي فإن الثلث يقوم بينهما على سبعة أجزاء لهذا ستة، ولهذا جزء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، وسواء كان المال على السدس، أو السدس على المال، وسواء كان ذلك في نسق واحد، أو لم يكن في نسق واحد، أو كان في وقتين؛ لأن الوصية بالمال أو جزء منه، أو بالجزئين من المال في وقت واحد، أو في وقتين، لا تدخل إحدى الوصيتين على الأخرى، ولكل واحد منهما وصيته التي أوصي له بها، يحاص بها أهل الوصايا إن ضاق الثلث عنها، بخلاف العبد يوصي به لرجل بجزء منه الآخر إنهما يشتركان في الجزء الذي أوصى به منه، وإن كان ثم مع العبد وصايا يضيق الثلث من جميعها، ضربا جميعا بقيمة العبد في الثلث، ولم يضرب هذا فيه بقيمة العبد، وهذا بالجزء الذي أوصى له به، كما لو أوصى لرجلين، واحد بعد واحد، لم يضربا جميعا إلا بقيمة العبد، بخلاف إذا أوصى بجميع ماله، أو بثلثه لرجل، ثم أوصى بعد ذلك لرجل آخر بمثل ذلك، إن كان واحدا مما يضرب بوصيتة كاملة. وبالله التوفيق.
[مسألة: نعجة أوصي لرجل بصوفها وللآخر بجلدها]
مسألة قال وسمعت ابن القاسم وسئل عن نعجة أوصي لرجل بصوفها وللآخر بجلدها، فاستؤني بها حتى ولدت أولادا قال: أما صاحب الصوف فليس له من ولدها قليل ولا كثير، وأما صاحب الجلد فله قيمة الجلد، ولا شيء له في الولد.
واحتج بقول مالك في البعير الذي بيع على أن ينحر واستثني جلده واستحيي إنما له قيمة الجلد، وقال في النعجة: إنما شأنها(13/120)
ووجه الوصية فيها على الموت أن تذبح فاستحييت، فله قيمة جلدها، أو لم يكن على الموت، فلا يكون له في الولد شيء، وإنما هو أحد هذين الوجهين وإنما هو على الموت، فليس له إلا قيمة جلدها.
قال محمد بن رشد: قوله في صاحب الصوف إنه ليس له من ولدها قليل ولا كثير بين، إذ ليس لصاحب الصوف من رقبة النعجة شيء، ولا من أولادها، وإن استحياها صاحب الجلد وصاحب اللحم، فأبقياها بينهما على الاشتراك. وأما قوله في صاحب الجلد: إن له قيمة الجلد ولا شيء له، في الولد ففيه نظر؛ لأن القياس في هذه النعجة الموصى لأحد الرجلين بجلدها، وللآخر بلحمها، أن يكونا شريكين فيها. هذا بقيمة الجلد، وهذا بقيمة اللحم، ولا يكون لصاحب اللحم أن يعطى صاحب الجلد قيمته، ولا شراؤه، كما لو اشترى أحدهما جلد الشاة، والآخر لحمها. وقد قال ذلك ابن حبيب في الواضحة إذا اشترى أحدهما الرأس والآخر البقية: إنه ليس للذي اشترى بقيتها أن يعطي صاحب الرأس شرواه ولا قيمته ويستحييها ولكن يكونان شريكين جميعا على قدر الأثمان. وإنما قال مالك في الذي يبيع الشاه ويستثني جلدها أن للمبتاع أن يعطى البائع شروى الجلد أو قيمته على القول بأن المستثنى مبقى على ملك البائع استحسانا؛ مراعاة لقول من يرى المستثنى بمنزلة المشترى لأن من اشترى جلد الشاة قبل أن تذبح، على القول بجواز الشراء للبائع أن يعطي المشتري شروى الجلد أو قيمته، ويستحي الشاة، وليس للمبتاع أن يمتنع من ذلك، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» قياسا على من وجب له(13/121)
بقض عرصة، فأراد أن يهدمه ويأخذه، إن لرب العرصة أن يأخذه بقيمته منقوضا وما أشبه ذلك، فقول ابن القاسم في هذه المسألة: إن للموصى له بلحم الشاة أن يعطي الموصى له بجلدها قيمته ويستحييها هو مثل ما روي عنه فيمن وهب لرجل لحم شاته والآخر جلدها وأكارعها أن للذي وهب له لحمها أن يعطي للذي وهب له جلدها وأكارعها مثل ذلك، أو قيمتها ويسحييها، وذلك استحسان، لا يحمله القياس ولو كان ذلك من حقه بوجه القياس، لما وجب أن يكون الولد له، إلا إذا حدث بعد أن استخلص الشاة، بإعطاء صاحب الجلد قيمة جلده، وأما إذا غفل عن ذلك حتى ولدت أولادا فلا يصح في وجه النظر، والقياس. أن يكون الأولاد له، وإنما الواجب أن يكون الولد بينهما كما كانت تكون المصيبة فيها منهما جميعا لو هلكت. وهذا بين. والحمد لله.
[مسألة: وصى في مرضه فقال مسح الشعير أعطوه فلانا فهل يأخذه بالطعام]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة وفي بيته حس ومسح مملؤين طعاما فقال مسح الشعير أعطوه فلانا، هل يأخذه بالطعام أو بغير الطعام؟ قال: بل بالطعام. قيل فلو قال: الخريطة الحمراء أعطوها فلانا، والخريطة مملوءة دنانير. قال: تكون له الخريطة وما فيها.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في رسم بع ولا نقصان عليك من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس، ووصل بها قال: ابن القاسم في الذي يقول: أعطوا فلانا زقا كذا وكذا فيوجد الزق مليئا عسلا قال: يعطاه بالعسل، قيل: فلو كان مليئا دراهم، قال: إذا لا يكون له إلا الزق إلا أن يكون عرف أن فيه دراهم، فهو له. والوجه في ذلك أنه إذا كان(13/122)
الطرف الذي أوصى به للرجل مملؤا مما جرت العادة أنه يجعل فيه حملت وصيته على أنه أراد أن يعطاه بما فيه، وإن كان مملوءا بغير ما جرت العادة أن يجعل فيه، لم يكن له مما فيه، إلا أن يقول: أعطوه إياه بما فيه، أو يعلم أنه عرف يوم أوصى أنه كان فيه ما وجد بعد موته فيه، إذ لا يصح أن يعطى بالوصية إلا ما يرى أن الموصي أراده، وبالله التوفيق.
[: أراد أن يوصي وأحضر شهودا فأوصى لأقوام]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وسئل عن رجل أراد أن يوصي وأحضر شهودا فأوصى لأقوام أو لم يوص بشيء، فقال: إني أريد أن أؤخر وصيتي إلى غد، فأوصي، ولكن ما بقي من ثلثي فلفلان، فيموت قبل أن يوصي قال: قال مالك: لا شيء له، إذا أخر وصيته فمات قبل أن يوصي؛ لأنه لا يرث أحد أحدا بالشك، فكذلك الذي يعلم أنه إنما أوصى لرجل ببقية الثلث، وهو يريد أن يقدم قبله وصايا، فلم يقدمها وفات بنفسه، ولم يعلم أنه ترك الوصية لهم، فلا وصية لهم؛ لأنه لا يدري أكان يفضل له شيء أم لا؟؛ لأنه كان مجمعا على أن يقدم قبله وصايا؛ لأنه على ذلك أشهد وإنما جعل له ما فضل بعد تلك الوصايا فلا يعلم الذي له، فلا شيء له.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول فيها في الرسم الذي قبل هذا. فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: قال جزء من مالي أو سهم من مالي لفلان]
مسألة قال ابن القاسم في رجل قال: جزء من مالي أو سهم من مالي لفلان، فمات، قال: أرى أن ينظر من حيث يقوم أصل(13/123)
فريضتهم، فيعطى منها سهما إن كانت من ستة أسهم، وإن كانت اثني عشر فسهم من اثني عشر وإن كانت من أربعة وعشرين فسهم من أربع وعشرين، وإن كانت ورثته أولادا فقط، فإن كان رجلا وابنة أعطى سهما من ثلاثة، وإن كان رجلا وامرأتين فسهم من أربعة، وإن كانا رجلين وامرأتين، فسهم من ستة أسهم، فعلى هذا فاحسب، قلوا أو كثروا، وإن لم يكن إلا ولدا واحدا، فله سهم من ستة؛ لأنه أدنى ما يقوم منه سهم أهل الفرائض. قال أشهب: له سهم من ثمانية. لأني لم أجد أحدا ممن فرض الله له سهما أقل من الثمن. قلت: فإن كانت الفريضة أصلها من ستة، وهي تربوا حتى تنتهي عشرة، فمن عشرة يعطى سهما أم من ستة؟ قال: من عشرة.
قال محمد بن رشد: إنما جعل ابن القاسم السدس إذا لم يكن له ورثة، فيعطيه سهما من سهام فريضتهم التي تنقسم عليها مواريثهم؛ لأن السدس أقل سهم مفروض لأهل النسب من الورثة، فأعطي الموصى له أقل سهم فرضه الله لمن يرث الميت من أهل نسبه. وإنما أراد أشهب له الثمن لأنه أقل سهم فرضه الله لمن يرث الميت من أهل نسبه وهو الأظهر؛ لأن هذا إنما يرجع فيه إلى ما يرى أن الميت أراده وقصده، وإذا احتمل أن يريد الموصي السدس للمعنى الذي رآه ابن القاسم، واحتمل أن يريد الثمن للمعنى الذي رآه أشهب، وجب أن لا يكون له إلا الأقل، ويسقط الزائد للشك فيه. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لأربعة نفر بوصايا مختلفة]
مسألة وقال أشهب في رجل أوصى لأربعة نفر بوصايا مختلفة أوصى لواحد بعشرة دنانير، ولآخر بعشرين، ولآخر بثلاثين، ولآخر(13/124)
بأربعين، فكلم في رجل، فقال: والله ما بقي شيء، ولكن هو شريك معهم، فمات، قال: يعطى نصف وصية كل واحد مما أوصى لهم له، ليس من بقية الثلث بعد وصايا هؤلاء، ولكن من وصاياهم، قيل له: فإنه قال: هو شريك معهم بالسوية، قال: يعطى ربع كل وصية إذا كانوا أربعة، وإن كانوا خمسا فخمسها، فعلى هذا يعطى، ينظر إلى عدد الذين أوصى لهم، فإن كانوا ثلاثة، كان رابعا أعطى ثلث ما أوصى به لكل واحد منهم، وإن كانوا أربعة، فربع كل إنسان، وإن كانوا خمسة فخمس كل إنسان على هذا بحسب إذا قال شريك بالسواء، فإن كانوا ثلاثة كان رابعهم، وإن كانوا خمسة كان سادسهم، وإن كانوا ستة، كان سابعهم، فعلى هذا يحسب. قد قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب وهو كتاب العشور من سماع عيسى بن دينار، في رجل أوصى لرجل بمائة، ولآخر بمائتين. ولآخر بثلاثمائة، فكلم في آخر، فقال له مثله، قال: له ثلث وصية كل رجل منهم، وكذلك لو كثروا حتى يكونوا خمسة أو عشرة، فله خمس كل وصية أو عشرها. قال: ولقد قال مالك: ونزلت في رجل قال: لفلان مثل نصيب أحد ورثتي وهم عشرة أولاد ذكور وإناث، فقال: له عشر المال، وكذلك لو كانوا كلهم ذكورا له عشر المال، ولقد حدثني ابن دينار عن أبي الزناد مثله وإن ناسا ليقولون: يجعل حادي عشر سهما من كل من يرثه من ولد ذكرا أو أنثى. فقيل ذلك لمالك فأنكره أشد الإنكار، قال: وأهل العراق يقولون: يقاسمهم ويكون كرجل من ولده.(13/125)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى لنفر بوصايا مختلفة، ثم كلم في آخر فقال: هو شريك معهم بالسوية: إنه يعطى ربع كل وصية إن كانوا أربعة، أو خمسها إن كانوا خمسة، معناه: إن كانوا أربعة به، وخمسة به، وقوله عقب ذلك: ينظر إلى عدد الذين أوصى لهم، فإن كانوا ثلاثا كان رابعا أعطي ثلث ما أوصى به لكل واحد منهم، هو كلام وقع على غير تحصيل؛ لأنه إنما يعطى ثلث ما أوصى به لكل واحد منهم إذا كانوا اثنين، فكان هو ثالثهم، وقوله بعد ذلك. فإن كانوا أربعة فربع كل إنسان، معناه: أربعة له، على ما تقدم، وكذلك قوله: إن كانوا خمسة فخمس كل إنسان، معناه أيضا خمسة به على ما قال بعد ذلك: إنهم إن كانوا ثلاثة، كان رابعهم، يريد فيأخذ ربع ما بيد كل واحد منهم وإن كانوا خمسة، كان سادسهم، يريد: فيأخذ سبع ما بيد كل واحد منهم.
وقد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في رسم نقدَها نقْدها فلا معنى لإعادته. والمسألة التي ذكر من كتاب العشور في رجل أوصى لرجل بمائة ولآخر بمائتين ولآخر بثلاثمائة، فكلم في آخر، فقال: له مثله. هي مسألة أخرى إذ لا شرك للذي قال فيه: له مثله في شيء من وصايا الأولين، وإنما له مثل وصية أحدهم من بقية الثلث إن كانت وصاياهم متفقة، وإن كانت مختلفة، كما ذكر، وكانوا ثلاثة، فله مثل ثلث وصية كل وأحد منهم من بقية الثلث، وإن كانوا أربعة، فله مثل ربع كل واحد منهم من بقية الثلث، وكذلك إن كانوا خمسة أو عشرة فله مثل خمس وصية كل واحد منهم أو مثل عشر وصية كل واحد منهم من بقية الثلث، وهو الذي ذكرته بيِّن في سماع أصبغ في أول رسم منه وإن لم يحمل ذلك الثلث تحاصا معهم، فيه بقدر ما أوصى به له ولهم مثال ذلك أن يكون أوصى لرجل بمائة، ولآخر بمائتين، ولآخر بثلاثمائة، وثلث ستمائة، ويقول في آخر: له مثله، فيجب له ثلث وصية كل واحد منهم، وذلك مائتان فيتحاصان معهم في الثلث وهو ستمائة، يضرب هو فيه بمائتين، والأول بمائة، والثاني بمائتين، والثالث بثلاثمائة،(13/126)
وهذا مثل الذي يوصي لرجل بمثل نصيب أحد ولده، سواء. وهو على مذهبه في المدونة. في الذي يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بنيه، وله ثلاثة بنين إنه يكون له ثلث المال والذي أنكره مالك من قول من يقول في الذي يوصي لرجل بمثل نصيب أحد ولده وهم عشرة، إنه يجعل حادي عشر يريد أنه يأخذ كل واحد منهم جزءا من أحد عشر، فيستوفي بذلك هو وهم، ويكون الذي يحصل له مثل الذي يبقى لكل واحد منهم إن كانوا ذكورا كلهم أو إناثا كلهم هو القوال الذي حكي عن أهل العراق، من أنه يقاسمهم، ويكون كرجل من ولده، وبالله التوفيق.
[: يقول فلان مثل حظ أحد ولدي أو سهم واحد من ورثتي]
ومن كتاب أوله لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس وسألته عن رجل يقول: لفلان مثل حظ أحد ولدي أو سهم واحد من ورثتي. قال: إذا قال: مثل سهم أحد ولدي ومع ولده أهل فرائض: أبوين وزوجة أو غيرهم. وفي ولده ذكور وإناث، فإنه يقسم ماله على فرائض الله. يأخذ أهل الفرائض فرائضهم، ويقسم ما بقي بين ولده، للذكر مثل حظ الأنثى، فيعطى الموصى له من عدد جماعتهم سهما إن كان الولد خمسة، أخذ خمس ما صار لهم، وإن كانوا ستة، فسدس، وإن كان الولد كلهم ذكورا قسم الميراث على ما وصفت لك، وأعطي مثل سهم أحد ولده، بعد أخذ من شركهم بفريضة مسماة فريضة، فعلى هذا يحسب، فإذا أخذ الموصى له ما صار له أخذ ما صار بجميع البنين، ومما صار لأهل الفرائض المسماة فأخلط كله، ثم يقسم على فرائض الله، يعطى أهل الفرائض فرائضهم ويقسم الولد ما بقي بعد ذلك للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن قال: لفلان مثل سهم أحد ورثتي وفي ورثته(13/127)
أم وأب وزوجة وأهل فرائض، وولد، ذكور وأناثا، أو ذكور فقط، أو إناثا فقط، فإنه يقسم جميع مال الميت، على جميع من يرثه من أم أو ولد أو زوجة أو والد، يقسم ماله على جماعهم بالسوية، فما صار لواحد منهم أعطيه الموصى له، ثم يرجعون بعد أخذ الموصى له وصيته، فيخلطون ما بقي فيقتسمون ما بقي على فرائض الله، فعلى هذا يحسب قال: ولو كان ولده كلهم إناثا إذا قال مثل حظ أحد ولدي، قسم ماله على فرائض الله، ثم كان له سهم ابنة من بناته، ثم أخلط جميع ماله، فيقسم ثانية. قال ابن القاسم: إذا أوصى له بسهم كسهم ولده وله ولد واحد فقط، لا وارث له غير ذلك، فإنه يقال له: انخلع من جميع المورث أو تعطى الثلث، وإن كان له ابنان لا وارث له غيرهما، خيرا أيضا بين أن يخرجا نصف المال أو ثلثه، إن أبيا، وإن كانوا ثلاثة، فأوصى لهم بسهم كسهم أحد ولده، قطع له بالثلث، ولم يخير الورثة في هذا. قال عيسى: وإذا قال من عدد ولدي، فإن كان ذكرا فله سهم ذكر، وإن كانت أنثى فله سهم أنثى يخلط مع الولد في العدد، فإن كان معهم أهل فرائض، أخرجت فرائضهم، ثم أخذ الموصى له كما وصفت لك مما بقي، ثم يرد أهل الفرائض ما أخذوا والولد، فيقتسمون على فرائض الله. قال: وإذا قال: وارث مع ورثتي، فإنه يعد الجماجم، فإن كانت ثلاثا كان هو رابعهم، فإن زادوا فعلى هذا الحساب.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يوصي لرجل بمثل حظ أحد ولده، وولده ذكور وإناث وأهل فرائض، إن ماله يقسم على فرائض الله فما وجب لأولاده منه بعد أخذ أهل الفرائض فرائضهم، قسم على عدد ولده، الذكر والأنثى شرعا سواء فيكون للموصى له مثل حظ أحدهم، ثم يجمع(13/128)
الباقي، فيقسم بين جميع الورثة على فرائض الله، وأنه إذا أوصى له بمثل سهم أحد ورثته، وفي ورثته أهل فرائض وأولاد ذكور وإناث؛ أن المال يقسم على عدد جماجمهم، فيأخذ الموصى له ما يصير لواحد منهم على عددهم، ثم يخلطون الباقي، فيقتسمونه بين جميع الورثة على فرائض الله، هو كله بيِّن صحيح، على قياس قوله في المدونة في الذي يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بنيه، وله ثلاثة بنين، أو بمثل نصيب أحد ورثته، ويترك رجالا ونساء، وعلى قياس قوله في الرسم الذي قبل هذا، في الذي يوصي لرجل بمائة، ولآخر بمائتين، ولآخر بثلاثمائة، ثم يكلم في آخر فيقول: له مثله، أي مثل حظ أحدهم. وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى، ويدخل في هذا قول أهل العراق، الذي أنكره مالك في المسألة التي قبل هذه.
ويأتي قولهم في هذه المسألة على أصلهم، مثل قول عيسى بن دينار في الذي يقول: هو من عدد ولدي أو من جملة ورثتي، وقول عيسى بن دينار: وإنه إذا قال في الموصى له: هو من عدد ولدي، أنه يضاف إلى ولده، فيعد في جملتهم، ويقسم المال على جميع الورثة على فرائض الله، مما نابه دفع إليه، وأخلط الباقي، فيقسم بين جميع الورثة على كتاب الله، صحيح لا اختلاف فيه، وكذلك قوله: إذا قال فيه: هو وارث مع ورثتي: إن المال يقسم على جماجمهم، ويكون له ما يصير لواحد منهم، ثم يخلط الباقي، ويقسم على الفرائض، صحيح أيضا بين لا اختلاف فيه بين مالك وأهل العراق، ولم يفرق في هذه الرواية بين أن يقول: من ثلثي أو يسكت عنه، وقيل: إن ذلك سواء؛ لأنه قد علم أن الوصية لا تكون إلا من الثلث، فإذا قال الرجل: أعطوا فلانا مثل نصيب أحد ولدي، فإنما معناه: أعطوه من ثلثي مثل نصيب ولدي من جميع مالي، بمنزلة إذا قال: أعطوه مثل نصيب ولدي من ثلثي، والأظهر أنه إذا قال من ثلثي، فإنما أراد أن يساويه معه، بأن يعطي من ثلثه مثل نصيبه مما بقي من ماله، بعدما أوصى به من ثلثه، على ما رواه أبو زيد عن ابن القاسم في سماعه بعد هذا، وبالله التوفيق.(13/129)
[مسألة: يوصي بأن يشترى من ماله رقبة وذكر أنها واجبة عليه]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي بأن يشترى من ماله رقبة، وذكر أنها واجبة عليه، فابتاعوا رقبة قبل أن يقسم ماله، فمات العبد، أو جنى جناية تحيط برقبته قبل أن ينفذ عتقه. قال ابن القاسم: أما إذا مات فإنه يرجع أيضا في المال، فيخرج مما بقي ثمن رقبة، فتشترى، فتعتق إن حمل ثلث ما بقي بعد موت الغلام ما يكون فيه رقبة، أو ما كان ثلثه، وكذلك لو أخرج ثمنه فسقط، وأما إذا جنى، خير الورثة في أن يسلموه، ويبتاعوا من ثلث ما بقي عبدا، أو أن يفتكوه فيعتقوه، وكذلك يرجع أبدا في ثلث ما بقي ما لم ينفذ عتقه، أو يقسم المال، فإن قسم المال، وقد اشترى أو خرج ثمنه فذهب، فلا شيء على الورثة، إلا أن يكون معه في الثلث أهل وصايا قد أخذوا وصاياهم، فيؤخذ مما أخذ ما يبتاع به رقبة؛ لأنه لا تجوز وصية، وثم عتق لم ينفذ إلا أن يكون معه في الوصية من الواجب ما هو مثله، فيكون في الثلث سواء، وإن بقي في أيدي الورثة من الثلث ما يبتاع به رقبة، أخذ ذلك من أيديهم بعد القسم، وابتيع به رقبة، وأنفذ لأهل الوصايا وصاياهم، لا يكون لهم من الثلث شيء، وثم وصايا لم تنفذ.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا مات العبد قبل أن يعتق: إنه يرجع في ثلث ما بقي بعد العبد، فيشترى به عبد آخر، فيعتق إن كان المال لم يقسم، وإن كان قد قسم لم يرجع على الورثة إلا بما بقي في أيديهم من الثلث بعد العبد الذي كان اشتري للعتق فمات، استحسان لا يحمله القياس؛ لأن الحقوق الطارئة على التركة لا يسقطها قسمة المال، وقد روى أصبغ عن ابن القاسم: أنه يرجع إلى ما بقي من المال، فيخرج ثلثه، ويكون ذلك كشيء لم يكن، لا يحسب في ثلث، ولا يفرق بين أن يكون المال قد(13/130)
قسم أو لم يقسم، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الأول من المدونة، ومن الناس من ذهب إلى أن يفسر ما في المدونة بما وقع في هذه الرواية من الفرق بين أن يقسم المال أو لا يقسم، وهو قول أصبغ، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الأولى أن يحمل الكلام على ظاهره مما هو القياس، ولا يعدل به عن ظاهره بالتأويل، إلى ما ليس بقياس، وإنما هو استحسان، وكذلك قوله: إنه يرجع في ثلث ما بقي ما لم ينفذ عتقه، يريد أنه إذا أنفذ عتقه، فاستحق بعد العتق، لا يرجع في ثلث ما بقي من التركة بعد قيمته، وأن يقسم المال، وإنما يرجع فيما بقي من الثلث بعد قيمته، هو استحسان أيضا على غير قياس، والذي يوجبه النظر بالقياس على الأصول، أن يرجع أيضا إذا استحق العبد بعد أن أعتق في ثلث ما بقي من التركة بعد قيمته، قسم المال أو لم يقسم، وبالله التوفيق.
[: أوصى في ثلاثة أفراس أو أعبد ولم يسم له شيئا بعينه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل وقال في رجل أوصى في ثلاثة أفراس، أو ثلاثة أعبد، فقال: أعطوا فلانا عبدا أو فرسا، ولم يسم له شيئا بعينه، وخيروا فلانا في الاثنين الباقيين، فما اختار فهو له، والآخر ادفعوه إلى فلان. قال: أحب إلي أن يكون للأول ثلثها، فيعطى وسطا منها، يكون له ثلثها. قال أصبغ: يعني بالقيمة ثلث قيم الثلاثة، وهو من كل واحد ثلثه، فأرى أن يجمع ذلك في فرس منها بالسهم، فإن نقص من صاحب السهم، فلا شيء له غيره، وإن زادت القيمة عليه أتم من غيره، ثم يخير صاحب الخيار في خيرة ما بقي، حتى يستكمل فيما إن كان فيها كسر من فرس، ثم يكون للآخر ما بقي خيرا كان أو كسرا.(13/131)
قال محمد بن رشد: العمل في هذه المسألة على ما ذكره فيها، من أن من أوصى له بعبد غير معين من جملة عبيد، يكون له ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة، أو ربعهم به إذا كانوا أربعة، وكذلك إن زاد عددهم على هذا أو نقص؛ أن ينظر كم قيمة الثلاثة؟ فيؤخذ ثلث القيمة، ثم يضرب بالسهم في الثلاثة، فما خرج فهو الذي أوصى له أولا.
فإن كانت قيمته ثلث قيمة الثلاثة، أخذه وخير الثاني في الاثنين الباقيين، وكان للثالث الباقي منهما، وإن كانت قيمة الذي خرج أكثر من الثلث كان له منه قدر الثلث، وخير الباقي في الاثنين الباقيين، أو في أخذ الجزء الذي بقي مما أخذه الأول، ويستتم بقية فرس من الاثنين الباقيين من أيهما شاء، ويأخذ الثالث ما بقي من الثلاثة الأفراس، وإن وقع للأول في الفرس أقل من ثلث القيمة ضرب له بالسهم ثانية، فما خرج من له من الفرسين الباقين، أخذ منه بقدر ما بقي له من الثلث، ثم يخير الثاني بين أخذ الفرس الباقي، وأخذ الجزء الذي بقي من الفرس الثاني، ويستتم عليه من الثالث تمام فرس، ويأخذ الموصى له الثالث ما بقي.
وقد قيل: إن من أوصي له بعبد غير معين من جملة عبيد، يكون له ثلث كل واحد منهم إن كانوا ثلاثة، أو ربع كل عبد إن كانوا أربعة، وكذلك إن زاد عددهم على هذا أو نقص، فيأتي في هذه المسألة على قياس هذا القول.
وهو قوله في المسألة التي بعدها: إذا عمي على الشهود الفرس الذي سمي للأول أن يعطى الأول ثلث كل فرس، ويعطى الثاني ثلثي المرتفع، أو ثلثي الوسط؛ لأنه هو الذي يختار لا شك، إلا أن يكون له غرض في غيره، ويعطى الثالث ما بقي.
وقد قيل: إن من أوصي له بعبد بغير عينه من جملة عبيد، يكون عبد من جملتهم بالقرعة، كان أقلهم قيمة أو أكثر قيمة، فيأتي في هذه المسألة على قياس هذا القول، أن يكون للأول عبد من الثلاثة الأعبد بالقرعة، ويخير الثاني الذي جعل إليه التخيير في الفرسين الباقيين، ويكون للثالث العبد الباقي، وبالله التوفيق.(13/132)
[مسألة: أوصى في ثلاثة أفراس فقال ادفعوا إلى فلان فرسا سماه بعينه]
مسألة وسئل عن رجل أوصى في ثلاثة أفراس له فقال: ادفعوا إلى فلان فرسا سماه بعينه، وخيروا فلانا في الفرسين الباقيين، وادفعوا الآخر إلى فلان، فعمي على الشهود الفرس الذي سمي للرجل، ولم يعرف، فقال: أرى أن يعطى الذي أوصي له بالفرس المسمى فنسي الثلثَ من كل فرس، ثم يعطى الذي أوصى له بالتخيير ثلثي المرتفع، وثلث الوسط، ويعطى الذي أوصى له بأحدهما ثلثي الفرس الدنيء، وثلث الوسط، وقد أخذ ذلك الأول الثلث من كل واحد؛ فقد صار لكل واحد فرس تام، وقد ثبت مالك على هذا القول الآخر ورد عليه غيره مرة، فثبت عليه بعد ذلك اليوم أيضا.
قال محمد بن رشد: أجاز ابن القاسم في هذه الرواية شهادة الشهود، وإن عمي عليهم الفرس الذي سمى الموصي للرجل، وشكوا فيه، فقيل: إن ذلك يأتي على ما في أصل الأسدية، من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة في الذي طلق إحدى امرأتيه، ولم يدر أيهما المطلقة، من أن الشهود شكوا، فلم يعرفوا أيتهما المطلقة، إن كانت التي قد دخل بها، أو التي لم يدخل بها، وعلى قول ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية، من سماع أصبغ، من كتاب الصدقات والهبات، خلاف المشهور من قول ابن القاسم.
وقيل: إن إجازة ابن القاسم للشهادة في هذه المسألة ليس بخلاف المشهور، من قوله؛ لأنه إنما أجازها في الوصية بعد الموت على ما قيل من أنها تجوز في الوصية بعد الموت، ولا تجوز على الحي، وفي المسألة قول ثالث: إن الشهادة لا تجوز في الوصية بعد الموت، ولا على الحي، وهو قول أشهب في أول سماع سحنون بعد هذا؛ لأنه إذا لم يجز الشهادة في الوصية بعد الموت، فأحرى أن لا يجيزها على الحي. وجوابه في هذه(13/133)
المسألة على إجازة الشهادة خلاف جوابه في المسألة التي قبلها. وقد ذكرنا أن المسألة تتخرج على ثلاثة أقوال، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي أيبيع المتاع بغير إذن الورثة]
مسألة وسئل عن الوصي: أيبيع المتاع بغير إذن الورثة؟ قال: إن كانوا كبارا قد رضي حالهم، أو نساء ثيبا أو متزوجات، قد برزن ورضي حالهن، فلا يبيع إلا بإذنهم، فإن باع رد المتاع؛ لأنه إنما أوصي إليه بالآخرين الذين تولى عليهم، ولم يوص إليه بهؤلاء، وإنما هؤلاء شركاء في هذا المتاع. قيل له: فإن فات؟ قال: إن كان فات وقد أصاب وجه البيع، كأنه يقول: مضى.
قال أصبغ: لا أرى ذلك، وأرى للورثة رده، إلا أن يكون له ثلث موصى به مع ذلك، يحتاج إلى تحصيل المال وبيعه وجمعه، فيكون ذلك له إلا في العقار والرباع، فلا أرى ذلك له دونهم؛ لأنه ملعون، وأنه مما يقسم، وقسمه غير ضرر، وإن لم يكن ثلث على ما وصفت، فهو مردود على الورثة البالغين المالكين حصصهم، أو يأخذون بما بلغ، كالشركاء في السلع المفترقة التي لا تجتمع في القسم، فهم كالشركاء الأجنبيين للميت إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم فيما باع الوصي على الصغار من المال، والمتاع المشترك بينهم وبين الكبار: إن البيع يرد ما لم يفت، فإن فات، يريد من يد المشتري ببيع أو هبة أو بتحويله عن حاله، مثل أن يكون ثوبا فيصبغه، أو غزلا ينسجه، أو طعاما فيأكله، وما أشبه ذلك، وقد أصاب وجه البيع مضى استحسان، والقياس أن لا ينفذ البيع على الكبار بحال، فات أو لم يفت، وكذلك قال أبو إسحاق: لا يجوز بيع الوصي على الكبار بقليل ولا كثير، أصاب البيع أو لم يصب؛ لأنه مالهم، وهم أحق وأولى بالنظر لأنفسهم.
قال: وهو أولى أيضا بكل ما باع من مال الميت، إذا كان لهم رأي(13/134)
في شراء شيء مما يباع من التركة في ثلثه، فكيف يجوز أن يباع عليهم مالهم أنفسهم بلا مؤامرتهم؟ هذا خطأ. وكذلك قول أصبغ أيضا: إن البيع يمضي إذا فات إذا كان له ثلث موصى به إليه، يحتاج إلى تحصيل المال أو جمعه أو بيعه، إلا في العقار استحسان أيضا، والقياس ألا ينفذ على الكبار البيع في حظوظهم من ذلك كله إلا بإذنهم، كالشركاء الأجنبيين للميت، ولأشهب في كتاب ابن المواز: إن للموصي أن يبيع الحيوان والرقيق والعقار وغيره لتأدية الدين، ولتنفيذ الوصية أيضا، وإن كان في الورثة كبار لا يولى عليهم، أو كانوا كبارا كلهم. وقد قيل: إنه ليس له بيع شيء من العقار إلا الثلث، وهو أحب إليّ. وقد مضى في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم، طرف من هذا المعنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمان ما شق من الثياب على الميت]
مسألة قال عيسى: قيل له: فما شق الورثة من الثياب على الميت؟ قال: يضمنون، قيل: فإن خلى بينهم وبين ذلك الوصي، قال: يضمن إن كانوا صغارا، وإن كانوا كبارا فهو عليهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنهم يضمنون ما شق من الثياب على الميت، وخرقوه فأفسدوه. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من حلق ولا سلق ولا خرق» ، فإن خلى الوصي بينهم وبين ذلك ليشقوه ويفسدوه، ضمن إن كانوا صغارا لتسليطهم على ذلك، ولم يلزمه في الكبار شيء؛ لأنهم هم الضامنون لما أفسدوه، وبالله التوفيق.(13/135)
[مسألة: قال في مرضه ثلثي لموالي]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: إذا قال الرجل في مرضه: ثلثي لموالي، وفيهم المدبر والمكاتب والمعتق إلى سنة، قال مالك: أما المدبرون فليس لواحد من هؤلاء وصية حتى يعتقوا في ثلث الميت، فما فضل من الثلث عن عتقهم، كان المدبرون، ومواليه الذين كانوا في حياته، والمعتقون إلى أجل، والمكاتبون فيما بقي من الثلث بالسواء، يقسم بينهم على السواء، غير أن ما يصير للمكاتبين والمعتقين إلى أجل يوقف لهم، فإن أدى المكاتبون، وعتق المعتقون إلى أجل، أعطوا ما وقف لهم من ذلك، فإن عجز المكاتبون، ومات المعتقون إلى أجل، رجع حقهما إلى من بقي من الموالي؛ قال مالك: ولو كان له ولاء أنصاف عبيد، وأنصاف مدبرين، دخلوا مع الموالي بأنصاف ذلك الولاء، فأعطوا بقدر ذلك.
قال محمد بن رشد: مذهبه فيمن أوصى لمواليه، أنه يدخل في ذلك المعتقون بعده بالوصية والتدبير، إن خرجوا من الثلث، وفضلت منه فضلة لا اختلاف أحفظه في هذا، وهو بين إن لم يكن له موالٍ سواهم، وأما إن كان له موالٍ سواهم يوم أوصى، فقد كان يشبه ألا يكون لهم دخول معهم؛ لأنهم لم يكونوا له بعد موالي يوم أوصى، إلا أنهم قد قالوا في الذي يوصي لولد فلان: إنه يدخل في الوصية من يولد لفلان بعد الوصية قبل موت الموصي، ولا فرق بين المسألتين والمسألة في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ.
أما المكاتب والمعتق إلى أجل، فقال في هذه الرواية: إنهم يدخلون مع مواليه الذين كانوا في حياته بالسواء، ويوقف لهم ما صار لهم، فإن أدى المكاتبون، وعتق المعتقون إلى أجل أعطوا ما وقف لهم من ذلك،(13/136)
وإن عجز المكاتبون، ومات المعتقون إلى أجل، رجع حقهما إلى من بقي من الموالي. وحكى ابن المواز عنه أنه نفذ عتقهما. بأداء المكاتب، وبلوغ أجل المؤجل قبل القسم دخل في الوصية، وإن سبقهم القسم فلا شيء لهم. وهذا عندي جار على اختلاف قوله في المدونة في الذي يوصي لإخوانه، وبنيهم مرة حملهم محمل المعينين، فرأى أن يقسم المال بينهم على السوية، وهو قوله في هذه الرواية، فعلى قياس ذلك، يوقف لهم حقوقهم، ومرة لم يحملهم محمل المعينين، فرأى أن تقسم الوصية بالمال بينهم على الاجتهاد، فعلى قياس هذا لا يوقف لهم شيء، فإن عتقوا قبل القسم قسم لهم، وإلا فلا، وهو القول الذي حكى محمد عنه.
وقال في ولاء أشقاص العبيد: إنهم يدخلون مع الموالي بأشقاص ولائهم، فيعطون بقدر ذلك إن أعطي التام الولاء دينارا أعطي الذي نصف ولائه نصف دينار، والذي له ثلث ولائه ثلث دينار، والذي له ربع ولائه ربع دينار. قال ابن حبيب: وإن لم يكن له مع الذين له بعض ولائهم مولى تام الولاء، استووا في الوصية، ولم يفضل بعضهم على بعض في العطية، وإن تفاضلوا في قدر ماله من ولائهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصيته تسكن امرأتي داري حياتها]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال في وصيته: تسكن امرأتي داري حياتها، ولفلان مائة دينار، وما بقي من ثلثي فلفلان. قال: إن خرجت الدار والمائة من الثلث، نظر إلى ما بقي بعد ذلك، فأعطي الذي أوصى له ببقية الثلث، فإن أجاز الورثة للمرأة ما أوصى لها به من السكنى، فذلك لها، وإن لم يجيزوا سكن الورثة معها، أو أكروه حياة المرأة، فاقتسموه على فرائض الله، فإذا هلكت أسلم إلى الذي أوصى له ببقية الثلث.
وأصل هذا وما يستدل به، لو أن رجلا أوصى إلى امرأته بسكنى دار حياتها، ولرجل أجنبي بما بقي من الثلث، فنظروا، فإذا الدار ثلث المال سواء، فإن الورثة(13/137)
يجيزون، فإن أجازوا ذلك للمرأة سكنته حياتها، فإذا ماتت، أسلمت الدار كلها إلى الذي أوصي له ببقية الثلث، وإن لم يجيزوا دخلوا معها فيها على الفرائض حياتها، فإذا ماتت أسلمت إلى الموصى له كلها.
قال محمد بن رشد: قوله: إن خرجت الدار والمائة من الثلث، يريد رقبة الدار على ما في المدونة من أن من أوصي له بخدمة عبد أو سكنى دار، تقوم رقبة الدار والعبد لا قيمة الخدمة والسكنى، فالعمل في هذا أن تقوم الدار وتجمع إلى الوصايا، فإن خرج ذلك كله من الثلث، تمت الوصايا، وكان ما بقي للموصى له ببقية الثلث إن بقي شيء، ومتى تم أجل السكنى أخذ الدار الموصى ببقية الثلث، وإن لم يحمل الثلث قيمة الدار والوصايا، فأبت الورثة أن يجيزوا ذلك، قطعوا لهم بالثلث، فتحاص فيه أهل الوصايا والموصى لها بالسكنى حياتها، بقيمة ما تعمر إليه على ما مضى من الاختلاف في حده، في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وأهل الوصايا بوصاياهم، ولم يكن للموصى له ببقية الثلث شيء، وإن كان في الثلث فضل عن الوصايا وقيمة السكنى كان ذلك لمن له السكنى، وهي الزوجة؛ إذ قد تعيش أكثر مما عمرت إليه، فإذا ماتت رجع ما فضل من ذلك إلى الموصى له ببقية الثلث، ولا شيء للزوجة في ذلك كله، إلا أن يجيزه، فإن لم يجيزوه دخلوا معها في سكنى الدار حياتها إن حملها الثلث، فإن ماتت كانت الدار للموصى له ببقية الثلث، ولا شيء للزوجة في ذلك كله، إلا أن يجيزه لها الورثة، فإن لم يجيزوه لها دخلوا معها في سكنى الدار حياتها إن حملها الثلث، فإن ماتت كانت الدار للموصى له ببقية الثلث، وكذلك ما صار لها بالمحاصة إن لم يحمل الثلث الدار، إن لم يجيزوه لها اقتسموا معها على فرائض الله، ولا اختلاف في أن الدار إذا حملها الثلث، ترجع بعد موت الزوجة إلى الموصى له ببقية الثلث، إذا لم يقل: فإذا ماتت فهي رد على(13/138)
جميع الورثة، ولو قال ذلك لم ترجع إليه على قول عيسى بن دينار الذي يأتي في رسم أسلم، وقد مضى ذلك في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[: أوصى بأن يقوم بلهو عرس رجل أو مناحة ميت]
ومن كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل أوصى بأن يقوم بلهو عرس رجل، أو مناحة ميت، هل تنفذ وصيته وتؤجر النائحة وصاحب اللهو؟ قال: لا أرى أن تنفذ وصيته، وقوله باطل، قيل: أرأيت إن كان ذلك اللهو مما يجوز من شأن العرس مثل الكبر والدف، فأوصى بذلك؟ قال: فلا أرى أن تنفذ.
قال محمد بن رشد: أما الوصية بإقامة مناحة على ميت، فلا اختلاف في أن الوصية بذلك لا يجوز تنفيذها؛ لأن النياحة على الموتى محرم بالسنة، فالأجرة على ذلك حرام، لا تحل ولا تجوز، وكذلك ما لم يرخص فيه من اللهو في العرس باتفاق، أو باختلاف على مذهب من لا يجيزه، مثل الكبر والمزهر؛ لأن ابن حبيب أجازهما جميعا في هذه الرواية، وهو قول أصبغ في سماعه، من كتاب النكاح، وعليه يأتي قول ابن القاسم في سماع سحنون في الكبر إذا بيع: إنه يفسخ بيعه ويؤدب أهله؛ لأنه إذا قال ذلك في الكبر، فأحرى أن يقوله في المزهر. وقيل: إنه يجوز الكبر، ولا يجوز المزهر. وهو قول ابن القاسم في رسم سلف، من سماع عيسى، من كتاب النكاح، وأما على مذهب من يجوزه ويستحب تركه، فلا ينبغي أن تنفذ الوصية.
وأما على مذهب من يجيزه ويراه من الأمور الجائزات التي لا ثواب في تركه، ولا حرج في فعله، ففي جواز تنفيذ الوصية قولان، وكذلك الغربال التي اتفق على إجازته في العرس، في جواز تنفيذ الوصية به قولان، على(13/139)
مذهب من يراه من الأمور الجائزات التي لا ثواب في تركه، ولا حرج في فعله، وأما على مذهب من يجيز فعله، ويستحب تركه، فلا ينبغي تنفيذ الوصية به، هذا تحصيل القول في هذه المسألة.
قال محمد بن المواز: ويرجع ما أوصى به لذلك ميراثا لأهل الميراث، ولا يدخل فيه الوصايا، يريد أنهم يحاصون به أهل الوصايا عند ضيق الثلث، لا أنه يبدأ على الوصايا، ويكون الورثة أحق به. وفي كتاب محمد بن المواز: من أوصى لرجل بمال على أن يصوم عنه، لم يجز ذلك، وهو نحو قول ابن كنانة في أن الوصية بالحج لا يلزم تنفيذها، وبالله التوفيق.
[مسألة: إجازة الابن وصية أبيه بأكثر من ثلث ماله بعد موته]
مسألة وقال ابن القاسم: إذا أوصى لرجل بجميع ماله، وليس له وارث إلا ولد واحد، ومات عن ثلاثمائة دينار، فبلغ ذلك الولد وهو مريض فقال: قد أمضيت ما صنع والدي، وثلث مالي صدقة على رجل سماه، وليس له مال إلا الذي ورث من أبيه، قال: يكون للذي أوصى له أبوه ثلث الثلاثمائة دينار، وذلك مائة دينار، ثم يرجع في المائتين، فيتحاص في ثلثها هو والذي ذلك أوصى له الابن بثلث ماله، يضرب فيه هذا بمائتي دينار، وهذا ثلث المائتين.
قال عيسى: إنما ذلك إذا كان الابن إنما أجاز وهو مريض ثم مات؛ لأنها وصية، فأما إن كانت إجازته في الصحة ثم مرض، فأوصى بثلث ماله، فليس ذلك المال له بمال، إذا كان قبضه المتصدق به عليه أولا قبل موت هذا أو مرضه، فإن لم يقبضه حتى مات أو مرض هذا الابن، فلا شيء له؛ لأنها صدقة لم تحز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة؛ لأن إجازة الابن وصية أبيه بأكثر من ثلث ماله بعد موته، هبة منه للموصى له مما زاد على(13/140)
الثلث، فإن كان صحيحا لزمه ذلك، ولم يكن له فيه رجوع.
قال في المدونة: وإن كان عليه دين، كان للغرماء رد ذلك، وإن كان مريضا فمات من مرضه: كان ذلك في ثلثه، على حكم هبة البتل في المرض، فإذا أجاز وصية أبيه بجميع ماله بعد موته وهو مريض، وأوصى بثلثه لرجل، فمات من مرضه، ولا مال له غير ما ورث عن أبيه، ولم يترك أبوه إلا ثلاثمائة دينار، وجب أن يتحاص في ثلث المائتين التي ورثها عن أبيه الذي أوصى له هو، والذي أوصى له أبوه، يضرب الذي أوصى له هو بثلث المائتين؛ لأنه أوصى بثلث ماله، ويضرب فيها الذي أوصى له الأب بجميع ماله بمائتين؛ لأنه وهبها له في مرضه، إذا جاز وصية أبيه له بها، فوجب أن تكون في ثلثه، وفي هذا اختلاف، قد قيل: إن هبة البتل تبدأ على الوصية، اختلف في ذلك قول مالك حسبما بيناه في رسم طلق بن حبيب، من سماع ابن القاسم، وقول عيسى بن دينار: إن إجازته إن كانت في الصحة، ثم مرض، فأوصى بثلث ماله، فليس ذلك المال له بمال، إذا كان قد قبضه المتصدق به عليه أولا قبل موت هذا أو مرضه، فإن لم يقبضه حتى مات أو مرض، فلا شيء له؛ لأنها صدقة لم تحز صحيح، يبين أن الورثة إذا أجازوا أكثر من الثلث؛ أن الزائد على الثلث لا يجري مجرى الوصية التي لا حيازة فيها، وإنما يجري مجرى الصدقة إن لم تحز بطل، وأشهب لا يراها كالهبة، ويراها له قبضها قبل موت المجيز، أو لم يقبضها، وهو ضعيف، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بأربعين دينارا ينفق عليه منها ما يكفيه كل سنة]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لرجل بأربعين دينارا ينفق عليه منها ما يكفيه كل سنة، فمات الموصي ووقف ماله لينظر في ثلثه، وليجمع ما كان منه مفترقا، فمضت سنة أو نحوها، ولم يجمع ما كان منه متفرقا، ومات الذي أوصى له بالنفقة قبل أن يصل إليه شيء، قال: يعطى ورثته نفقة ما عاش، وترد البقية على الورثة.(13/141)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد استوجب من النفقة ما عاش بعد الموصى، والله الموفق.
[مسألة: أوصى بعتق نصف عبد له وبالحج بالنصف الآخر]
مسألة ولو أن رجلا أوصى بعتق نصف عبد له، وبالحج بالنصف الآخر، قال: إن كان أبت عتق النصف، استتم عتقه كله، وبطل الحج، وإن كان لم يبت كان نصفه حرا، ونصفه في الحج.
قال محمد بن رشد: هذا ما قال: إنه إن كان أبت عتق نصفه في مرضه، يقوم عليه، ويبطل الحج؛ إذ لا اختلاف في أن من أعتق نصف عبده في مرضه، يقوم عليه، وإنما الاختلاف متى يقوم عليه؟ فقيل: إنه يقوم عليه جميعه في مرضه من الثلث، وقيل: يوقف، ولا يقوم إلا بعد الموت من الثلث، كانت له أموال مأمونة أو لم تكن، وقيل: إنما يقوم إذا لم تكن له أموال مأمونة، فإن كانت له أموال مأمونة، عجل عتقه من رأس ماله، وهذا الاختلاف كله في المدونة. وأما إن كان أوصى بعتق نصفه، ولم يبتله، فيكون النصف الآخر في الحج كما قال؛ لأن من أوصى بعتق بعض عبده، لا يعتق منه إلا ما أوصى به منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه لفلان ثمر حائطي ولا يدرى أي ثمر جعل له]
مسألة وسئل عن رجل قال في مرضه: لفلان ثمر حائطي، ولا يدرى أي ثمر جعل له؟ أو كم من سنة؟ فقال: إن كان في النخل ثمر، فله ثمر تلك السنة، ولا شيء له غيرها، وإن كان حين أوصى بذلك، ليس في النخل ثمرة، فله ثمرة، فله ذلك الحائط حياته. قال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا كان في الحائط ثمرة يوم أوصى ومات، والثمرة لم تجد، احتمل أن يريد تلك الثمرة خاصة، ولم يرد ما سواها، فوجب ألا يكون له ما سواها إلا بيقين، وقد قال ذلك سحنون في نوازله من كتاب الحبس في الذي يقول: ثمر حائطي حبس على فلان،(13/142)
ولا يقول: حياته، فكيف بالوصية؟ وأما إن جد الثمرة قبل موته، وأدخلها منزله، فيتخرج ذلك على قولين، هل يكون ذلك رجوعا في الوصية أم لا؟ وقد مضى ما يبين هذا المعنى في رسم نقدها قبل هذا، وإذا لم يكن في الحائط ثمرة ذلك اليوم، وجب أن تكون له ثمرته فيما يستقبل حياته، لتناول لفظه لذلك تناولا واحدا، وبالله التوفيق.
[: أوصى بعتق وبوصايا]
ومن كتاب أوله أسلم وله بنون صغار
وسئل عن رجل أوصى بعتق، وبوصايا، ثم قال: إن فضل شيء من الثلث فهو لفلان، فاستحق عبد من أولئك العبيد بحرية، فأخذ ثمنه، هل يدخل في ثمنه الذي أوصى له ببقية الثلث؟ أو أهل الوصايا؟ فقال: لا يدخل واحد منهم في ثمن ذلك العبد، وثمنه للورثة، وهم يقاصون به أهل الوصايا.
قال محمد بن رشد: قد قال ابن القاسم بعد هذا في آخر رسم باع شاة: إنه يدخل في ثمن العبد المستحق أهل الوصايا، وإياه اختار ابن زرب، ولكلا القولين وجه فوجه القول: إن الوصايا لا تدخل فيه، هو أنه مال طرأ للموصي لم يعلم به، فوجب ألا تدخل فيه، وأن يكون في ثلث ما بعد العبد المستحق؛ إذ لا تدخل الوصايا فيما لم يعلم به الموصي، وإنما تدخل فيما لم يعلم به المدبر في الصحة، واختلف في دخول المدبر في المرض فيه.
ووجه القول أن الوصايا تدخل فيه لاحتمال أن يكون الموصي قد علم بسبب استحقاقه، وأن الحق يوجب الرجوع بثمنه إن استحق بذلك السبب، فوجب ألا تبطل الوصايا التي أوصى بها إلا بيقين، وأما الموصى له ببقية الثلث، فلا شيء له إلا ما فضل من الثلث بعد العبد المستحق، والوصايا، مثال ذلك: أن يوصي الميت بعتق عبد، قيمته ثلاثون، ويوصي لرجل بخمسة وعشرين، ويترك تسعين دينارا بقيمة العبد، فيعتق العبد بثلاثين دينارا،(13/143)
وتسقط الوصايا لوجوب تبدئة العتق عليها، فإن المستحق العبد بحرية، وجب لأهل الوصايا ثلث ما بقي للميت من مال، بعد العبد المستحق، وذلك عشرون دينارا، واختلف إن أخذ العبد المستحق ثمنا فقيل: يكون للورثة ولا يكون للموصى لهم فيه حق؛ لأنه مال لم يعلم به الميت، وقيل: إنه يكون لأهل الوصايا ما بقي من وصاياهم، وذلك خمسة دنانير في ثلثه، ويكون الباقي للورثة، ولا يكون للموصى له ببقية الثلث فيه حق؛ لأنه إنما أوصى له بما بقي من ثلثه بعد العبد والوصايا.
وقد مضت هذه المسألة في رسم نقدها من هذا السماع، وستأتي في هذا الرسم، وفي آخر رسم باع شاة، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال داري حبس على فلان وعبدي حبس على فلان]
مسألة قال مالك: لو أن رجلا قال: داري حبس على فلان، وعبدي حبس على فلان، فإذا انقرضوا، فالعبد والدار رد على ورثتي، وما بقي من ثلثي فهو لفلان، فينظر في ثلثه، فإذا الدار والعبد قد أحاطا بجميع الثلث، فقيل: للموصى له ببقية الثلث، لا شيء لك؛ لأن الدار والعبد قد أحاطا بجميع الثلث، فقال: قال مالك: إذا انقرض اللذان جعل لهما الدار والعبد، فهو للذي أوصى له ببقية الثلث، وليس للورثة من ذلك شيء، وإن كان حبس ذلك على وارث، فلم يجز ذلك الورثة، حبست تلك الدار والغلام على الورثة، فإذا انقرض الذي جعل ذلك له رجع إلى الذي أوصى له ببقية الثلث قال عيسى: إذا قال: فإذا انقرضا فهو رد على ورثتي، فليس للموصى له ببقية الثلث فيه شيء.(13/144)
قال محمد بن رشد: استدل عيسى بقول الموصي: فإذا انقرضا فهو رد على ورثتي، على أنه لم يرد أن يجعل للموصى له ببقية الثلث إلا ما بقي بعد قيمة الدار والغلام، ولم ير مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك من قوله دليلا على هذا، وقوله في هذه المسألة أبين من قول عيسى بن دينار؛ لأنه إنما أراد أن يبين بذلك أن الدار والعبد يرجعان إلى ملكه بموت المحبس عليهما، لا بمرجع الأحباس، وإذا رجعا على ملكه دخلت فيه وصاياه.
وقد مضى في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم لمالك، مثل قوله هاهنا فيما يشبه هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لأقاربه بثلث ماله هل تدخل القرابة من قبل الأم والأب]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لأقاربه بثلث ماله، هل يدخل في ذلك قرابته من قبل الأم والأب؟ قال مالك: أراها لقرابته من قبل الرجال، ولا أرى لقرابته من قبل الأم شيئا إلا أن يكون له قرابة من قبل الرجال، فتكون لقرابته من قبل النساء، وهذا الآخر قول ابن القاسم: والنساء والرجال من قبل الأب فيه شرعا سواء. قال عيسى: وقال أشهب: إني لأستحب أن يدخل فيه قرابته من قبل الرجال والنساء لأبيه وأمه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه إذا لم يكن له يوم أوصى قرابة من قبل أبيه، أن الوصية تكون لقرابته من قبل أمه، وإنما اختلف إذا كان له يوم أوصى قرابة من قبل أبيه، هل يدخل معهم قرابته من قبل أمه أم لا؟ فمذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، أنه لا يدخل في ذلك قرابته من قبل الأم، قال في سماع أبي زيد: وإن لم يبق من أهل أمه إلا خال أو خالة، فلا شيء لهم. وقال أشهب: إنه يدخل في ذلك قرابته من الرجال والنساء من قبل أبيه وأمه. قال في كتاب ابن المواز: يبدأ بالفقراء ويعطى بعض(13/145)
الأغنياء، فرأى قسمة ذلك عليهم على وجه الاجتهاد، لا على السواء. وقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك في المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم، ولا اختلاف في أنه لا دخول للموالي في ذلك، وإنما اختلف فيمن أوصى لقبيلة، هل يدخل في ذلك مواليهم على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهم لا يدخلون في ذلك، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك. والثاني: أنهم يدخلون في ذلك، وهو قول ابن الماجشون. والثالث: أنه إن قال لبني تميم، لم يدخل في ذلك الموالى، وإن قال ليتمم، دخلوا فيه. وهو قول أشهب وهي تفرقة ضعيفة؛ إذ من القبائل ما لا يحسن أن يقال فيه من بني فلان مثل جهينة، ومزينة، وربيعة، وقيس، وأما إذا أوصى لمساكينه، فإن مواليه يدخلون في ذلك، قاله ابن القاسم، وابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب. قال ابن وهب: الذين هم موالي عتاقة، فتحصيل هذا أنه إذا أوصى لقرابته، لم يدخل في ذلك الموالي، وإذا أوصى لمساكينه، دخلوا في ذلك، وإذا أوصى لقبيلة، فعلى الاختلاف الذي قد ذكرته. وقد مضى في أول رسم، سماع ابن القاسم، من كتاب الحبس التكلم على الآل والأهل، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول أشهدكم أن بقية ثلثي في سبيل الله أو لفلان ثم يموت ولم يوص بشيء]
مسألة وقال مالك: إذا قال الرجل: إني أريد أن أوصي غدا، وأنا أشهدكم أن بقية ثلثي في سبيل الله، أو لفلان، ثم يموت، ولم يوص بشيء، قال: ليس للذي معي له ببقية الثلث شيء؛ لأنه لم يوص بشيء فيعرف بقية ثلثه، وأشهب يقول: له الثلث كله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم أوصى، وتكررت أيضا في رسم بع، وتأتي في رسم جاع، وفي سماع محمد بن خالد، وبالله التوفيق.(13/146)
[مسألة: أوصى الرجل لقوم بوصايا]
مسألة وقال: قال مالك: إذا أوصى الرجل لقوم بوصايا، وأقر لبعض من يرثه بدين مائة دينار، فقال: ليس لأهل الوصايا في المائة الدينار شيء، رجعت إلى الورثة أو لم ترجع، لا يخرج الثلث إلا بعد خروج المائة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه لما أقر بالمائة عليه دينا، فلم يرد أن تكون الوصايا إلا فيما بعدها، أجازها الورثة للمقر له بها، أو لم يجيزوها له، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بوصية لرجل غائب فمات الموصي ومات الموصى له]
مسألة وقال مالك: إذا أوصى بوصية لرجل غائب، فمات الموصي، ومات الموصى له بالوصية قبل أن يصل إليه، أو يبلغه أمرها، فلم يعلم أيهما مات قبل، فطلب ورثة الموصى له ما أوصى به لصاحبهم، وقال ورثة الموصي: لا وصية لصاحبكم؛ لأنه مات قبل صاحبنا. قال: قال مالك: لا شيء لورثة الموصى له، إلا أن يأتوا بالبينة أن الموصي مات قبل الموصى له؛ لأنه إنما يجري مجرى الميراث، لا يرث أحد أحدا بالشك، لا يرثه إلا بالبينة، وكذلك الموصى له، لا يكون له ولا لورثته وصية، إلا بأمر يبين أن الذي أوصى له بها مات قبل صاحبهم، وكذلك لو أن رجلا وكل وكيلا على أن يعقد له نكاحا بأرض غائبة، على صداق معلوم، ففعل الوكيل ذلك، ومات الناكح قبل أن يرجع إليه وكيله، فطلب أهل المرأة الصداق والميراث، وزعم أهل الرجل أن الرجل مات قبل أن يعقد النكاح، قال ابن القاسم: لا شيء للمرأة إلا أن تقيم البينة أن النكاح وقع قبل موت الناكح، وإلا فلا شيء لها.(13/147)
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال، وهو بين لا إشكال فيه، والحمد لله.
[مسألة: أوصى بوصايا لقوم وأوصى لرجل ببقية ثلثه]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: من أوصى بوصايا لقوم، وأوصى لرجل ببقية ثلثه، فأقام أياما، فأوصى بعتق رقيق له، وأوصى بوصايا لقوم آخرين، ولم يغير من الوصية الأولى شيئا، ثم مات، قال مالك: يبدأ العتق، ثم يكون أهل الوصايا الأولين والآخرين في الثلث سواء، إن وسعهم الثلث، كانت لهم وصاياهم، وإن ضاق الثلث عليهم تحاصوا في الثلث بعد العتق على قدر وصاياهم، ولا يكون للموصى له ببقية الثلث شيء، إلا بعد العتق، وبعد أخذ أهل الوصايا الأولين والآخرين وصاياهم، فإن فضل عنهم من الثلث شيء، كان له ما فضل، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له.
قال ابن القاسم: وإن مات أحد العبيد، أو استحق أحدهم بحرية، أو استحق فأخذوا له قيمة، أو رد أحد من أهل الوصايا ما أوصى له به، فأبى أن يقبله، لم يكن للذي أوصى له ببقية الثلث في ذلك شيء، ويدخل في الثلث قيمة الميت، وثمن الذي استحق بالحرية، ويكون ذلك للورثة، فإن فضل من الثلث عن الوصايا عن ثمن العبد شيء، وكان له، وإلا فلا شيء له.
قال ابن القاسم: وهذا مخالف للذي حبس الدار والعبد؛ لأن الميت حين أوصى ببقية الثلث، قد علم أن ذلك الحبس راجع، وأن ثمن هذا العبد الذي استحق بالحرية، كأنه مال طرأ له من موروث، أو صدقة أو هبة، فلم يعلمه، ولم يدخله في الثلث، فكذلك الذي استحق الحرية. قال: ولا يدخل فيه أهل الوصايا أيضا في المال الطارئ.(13/148)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى بوصايا، وأوصى لرجل ببقية ثلثه، ثم أوصى بعد أيام بعتق ووصايا: إنه ليس للموصى له ببقية الثلث، إلا ما فضل عن وصايا الأولين والآخرين، مثله في رسم الصلاة، من سماع يحيى، وفي آخر سماع موسى بن معاوية، ومعناه على ما فسره محمد بن المواز إذا أوصى بوصايا لرجل، وأوصى بما بقي من ثلثه لغيره، ولم يقل: وما بقي من ثلثي بعدها لفلان؛ لأنه إذا قال: وما بقي من ثلثي لفلان، فإنما معناه وما بقي من ثلثي بعدما نوصي به بعد هذا فهو لفلان، وأما إذا أوصى بوصايا لرجل وقال: ما بقي من ثلثي بعدها لفلان، ثم أوصى بعد ذلك بوصايا، فلا تبدأ الوصايا الثانية على الموصى له ببقية الثلث، وإنما تبدأ الوصايا الأول على الموصى له ببقية الثلث، فيتحاص في الثلث الموصى له ببقية الثلث، والموصى له بالوصايا الأول.
والموصى له بالوصايا الأخيرة، فما حصل من الثلث في المحاصة للموصى له ببقية الثلث كل منه للوصايا الأول بقية وصاياهم؛ لأنه إنما له ما فض عن وصاياهم، مثال ذلك أن يكون الثلث ثلاثين، ويكون قد أوصى لرجل بعشرة، وأوصى لرجل آخر بما بقي من الثلث بعد العشرة، وأوصى لثالث بعشرة، فيتحاصون كلهم في الثلث، يضرب فيه الموصى له أولا بعشرة، والموصى له ببقية الثلث بعشرين، والموصى له آخرا بعشرة، فيجب للموصى له أولا سبعة ونصف، وللموصى ببقية الثلث خمسة عشر، وللموصى له آخرا سبعة ونصف، ويقال للموصى له ببقية الثلث: أكمل للموصى له أولا عشرة مما صار لك؛ لأنه مبدأ عليك بعشرة، فيدفع إليه اثنين ونصفا تتمة العشرة التي أوصى له بها، ويبقى له اثني عشر ونصفا، وإن شئت ضربت للموصى له أولا، وللموصى له ببقية الثلث، بمبلغ وصاياهم جميعا، وذلك ثلاثون، وضربت للموصى له آخرا بعشرة، فيخرج للموصى له آخرا سبعة ونصف، وللموصى له أولا مع الموصى له ببقية(13/149)
الثلث اثنان وعشرون ونصف، يأخذ الموصى له منها أولا عشرة كاملة؛ لأنه مبدأ عليه بها. ويبقى له اثنا عشر ونصف، وإن كانت الوصية الآخرة عتقا كان مبدأ على جميع الوصايا، ولم يكن للموصى له ببقية الثلث إلا ما فضل عن الوصيتين جميعا الأولى والآخرة؛ لأن الأولى تبدأ عليه بما أوصى به الموصى، والثانية بما يوجبه الحكم من تبدئة العتق على الوصايا؛ فهذا وجه القول في هذه المسألة، وأما قوله في الرواية عن ابن القاسم: وإن مات أحد العبيد أو استحق أحدهم بحرية أو استحق، فأخذ له قيمة إلى آخر المسألة، فقد مضى القول عليه في أول مسألة من الرسم، وفي التي بعدها، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي أن يشترى عبد بخمسين دينارا من ماله فيعتق]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي أن يشترى عبد بخمسين دينارا من ماله فيعتق؛ فيشتري ورثته أو وصيه بالخمسين دينارا رأسين فيعتقان. قال: عتقهما جائز، وعلى من فعل ذلك من وصيه أو وارث ضمان رقبة يشتريها بخمسين دينارا، أو يعتقها عن الميت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ إذ لا يجوز أن يتعدى ما أوصى به الميت، ويخالف أمره في وصيته، ومن فعل ذلك وجب عليه الضمان؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] ، ولو وصف الموصي العبد أجزأهم شراء تلك الصفة بأي ثمن كان، ولو اشترى الوصي بتلك الدنانير عبدين على تلك الصفة ضمن نصف الدنانير للورثة إن كان اشتراهما صفقة واحدة، وهما سواء، وإن كانت إحداهما أفضل من الثانية، ضمن ما ينوب الأدنى منهما، وإن كان اشتراهما في(13/150)
صفقتين، ضمن ثمن الثانية، وأجرى الأولى عن الميت إذا كان على الصفة، وأما إذا كان العبد غير موصوف، فعلى ما قال في الرواية، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى الرجل لعبده بثلث ماله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: إذا أوصى الرجل لعبده بثلث ماله عتق جميعه في ثلث الميت إن حمله الثلث. قال ابن القاسم: وإن لم يحمله الثلث فكان للعبد ما أعتق على نفسه في ماله، بقدر ما وجد في يديه إن كان في يديه ما يستتم به عتقه عتق كله، وإلا فبقدر ذلك يكون العبد في نفسه مع ورثة الميت كهيئة الشركاء في العبد إذا أعتق أحدهم نصيبه عتق عليه جميع العبد، إن كان له مال، وإلا فبقدر ذلك، فكذلك العبد في نفسه؛ لأنه حين أوصى له بثلث ماله، فقد أوصى له بثلث رقبته؛ لأن رقبة العبد من ماله، فلما ملك العبد ثلث رقبته عتق، واستمر عتق نفسه عليه، ولو أوصى بعتق ثلثه، وأوصى له ببقية ثلثه، أو بدنانير مسماة، منه إلا ثلثه الذي سمى، وكانت له الوصية دنانير، أو غير ذلك إن كان أوصى له ببقية الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أوصى لعبده بثلث ماله: إنه يعتق جميعه في الثلث إن حمله الثلث، وإن لم يحمله، وكان له مال عتق على نفسه بقيته في ماله، هو مثل ما تقدم في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، ومثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة. وفي ذلك من الاختلاف ما قد ذكرته في رسم أخذ يشرب خمرا المذكور.
وأما قوله: ولو أوصى بعتق ثلثه، وأوصى له ببقية ثلثه؛ أنه لا يعتق منه إلا ثلثه الذي سمى، وكانت له بقية ثلثه، بمنزلة إذا أوصى بعتق ثلثه، وأوصى له بدنانير، فلا اختلاف في أنه لا يعتق على العبد ببقيته، لا فيما أوصى له به من بقية ثلثه،(13/151)
ولا من الدنانير التي أوصى له بها، ولا في مال إن كان له سواه؛ لأنه إذا أوصى بعتق ثلث عبده، وأن يعطى بقية ثلث ماله، فلم يملك بذلك شيئا من رقبته، وكذلك قال في رسم الصبرة من سماع يحيى: إذا أوصى بعتق ثلثه، وأن يعطى ثلث بقية ماله؛ أنه لا تعتق بقيته فيما أوصى له به من ثلث بقية ماله، وفي ذلك من قوله نظر؛ لأن ثلثي رقبته من بقية ماله، فإذا أوصى له بثلث بقية ماله، فقد أوصى له بثلث الثلثين الباقيين من رقبته، فوجب على قياس قوله: أن يعتق على نفسه ثلث الثلثين الباقيين من رقبته؛ لأنه قد ملكه ذلك؛ إذ أعطاه ثلث ما بقي من ماله، وإذا أعتق على نفسه شيئا منه؛ وجب أن يقوم عليه بقيته في ماله على قياس قوله، فلم يفرق على ما في رواية يحيى بين أن يوصى له بعتق ثلثه، وبثلث ما بقي من ماله، وبين أن يوصي له بعتق ثلثه، وببقية ثلث ماله، وهما يفترقان في وجه القياس والنظر على ما بيناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لهذا العبد بثلث ماله وأوصى بعتق عبد آخر]
مسألة قلت: فلو أوصى لهذا العبد بثلث ماله، وأوصى بعتق عبد آخر من المبدأ منهما في الثلث؟ قال: المعتق مبدأ في الثلث؛ لأن المعتق إنما يعتق عن الميت، والموصى له بالثلث، إنما يعتق عن نفسه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على مذهبه في أن ثلث العبد إنما يعتق على نفسه، ولذلك تقوم عليه بقيته في بقية الثلث، وفي مال إن كان له سواه. ويأتي على قياس قول ابن وهب الذي يرى أن ثلث العبد، إنما يعتق بوصية الميت لا على العبد، ولذلك لا تقوم عليه بقيته في بقية الثلث، إلا أن تبدأ الوصية بعتق العبد على عتق ثلثه، وأن يسهم بينهما في ذلك، وأما على بقية ثلثه فيبدأ على كل حال باتفاق؛ لأنها وصية لمال، وبالله التوفيق.(13/152)
[مسألة: أوصى لهذا العبد بثلث ماله وأوصى لقوم بوصايا]
مسألة قلت: فلو أوصى لهذا العبد بثلث ماله، وأوصى لقوم بوصايا، فقال: العبد الموصى له بثلث الميت مبدأ على جميع الوصايا لا العتق.
قال محمد بن رشد: في سماع أبي زيد خلاف هذا: إنهما يتحاصان، فإن كانت الوصايا الثلث بينهما بنصفين، فما صار للعبد منه عتق فيه. هذا معنى قوله؛ فقوله في هذه الرواية: إن العبد الموصى له بالثلث يبدأ به على جميع الوصايا، هو على قياس رواية ابن وهب عن مالك، في أن العبد الموصى له بثلث المال، يقوم فيه، لا فيما سواه من ماله؛ لأن وجه هذا القول أن الميت لما أوصى له بثلث ماله، فكأنه قصد إلى حريته، فوجب أن يبدَّأَ على مسألة الوصايا.
وقوله في سماع أبي زيد: إنهما يتحاصان، هو على قياس قوله وروايته عن مالك في المدونة، وفي رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم؛ أنه يعتق ثلث نفسه، ويعتق باقيه في بقية الثلث، وفي مال، إن كان له مال سواه؛ لأن الوصية له بالثلث على هذا القول وصية بمال؛ إذ لا يعتق شيء منه إلا على العبد، فوجب أن يتحاصا. ويتخرج في المسألة على قياس قول ابن وهب في أنه لا يعتق من العبد إذا أوصى له بثلث المال إلا ثلثه، ولا يقوم شيء منه في بقية الثلث، ولا في مال إن كان له أن يبدأ منه على الوصايا ثلثه الذي يعتق بوصية الميت، ويحاص أهل الوصايا ببقية الثلث بالثلث، حين ملك من رقبته شيئا.
[مسألة: أوصى لعبده بربع رقبته فكان للعبد مال]
مسألة قال: ولو كان أوصى لعبده بربع رقبته، فكان للعبد مال، عتق منه قدر ما بقي في يده من المال، مثل الموصى له بالثلث حين ملك من رقبته شيئا.(13/153)
قال محمد بن رشد: هذا بين على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك؛ لأنه إذا أعتق الربع الذي أوصى له به منه، عتق سائره عليه في ماله إن كان له مال، وعلى مذهب ابن وهب لا يقوم بقيته عليه في ماله؛ لأنه يرى العتق في ذلك بوصية الميت لا محل العبد، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لعبده بعتق ثلثه أو ربعه أو جزء منه]
مسألة قال: ولو كان أوصى لعبده بعتق ثلثه أو ربعه، أو جزء منه لم يعتق منه إلا ما عتق، ولم يستتم عتقه بمال العبد، وإن كان له مال؛ لأنه لم يملك شيئا من رقبته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا اختلاف فيه، والحمد لله.
[: أوصى لعبد له بثلث ماله]
ومن كتاب الرهون وقال في رجل أوصى لعبد له بثلث ماله، قال: يجعل ذلك في رقبته، فإن حمله الثلث عتق وأعطى ما فضل من الثلث، إن كان فيه فضل من رقبته، وإن قصر عنه الثلث، عتق منه قدر ما وسع الثلث، وكان ما بقي رقيقا للورثة، وإن أوصى العبد بدنانير مسماة، أو دابة من دوابه؛ أنه يعطاه العبد، ولا يعتق في ذلك؛ لأنه مال مسمى لم يدخل ذلك في رقبة.
قال سحنون: إنما هذا إذا أوصى له بدنانير، يكون أقل من ثلث ماله، فحينئذ يعطى العبد، ولا يعتق فيها، فأما لو أوصى له بدنانير، تكون أكثر من ثلث ماله،(13/154)
لعتق فيها، وكان بمنزلة ما لو أوصى له بثلث ماله أو بجزء منه، وهذا معنى قول ابن القاسم: وهي مسألة جيدة، وقال أصبغ في مسألة الدنانير كقول سحنون سواء.
قال محمد بن رشد: قد تقدم الكلام في الرسم الذي قبل هذا، وفي رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم في الذي يوصي لعبده بثلث ماله، فلا معنى لإعادة الكلام في ذلك. وأما قول سحنون وأصبغ إذا أوصى له بدنانير مسماة، أو بدابة من دوابه هي أكثر من الثلث: إنه يعتق في ذلك، بمنزلة ما لو أوصى له بثلث ماله أو بجزء منه، فمعناه عندهما: إذا لم يجز ذلك الورثة وقطعوا له بالثلث في كل شيء، إلا أنه قال: إنما ذلك لحرمة العتق، استحسان.
والقياس أن يعطى من نفسه ثلثها، ومن كل شيء ثلثه يريد: ولا يعتق منه إلا الثلث الذي أعطى من نفسه، والأمر عندي بعكس ذلك، بل القياس إذا أعتق عليه من نفسه ثلثها، أن يعتق عليه باقية في بقية الثلث، والاستحسان إنما هو ألا يعتق عليه إلا الثلث الذي أعطى من رقبته، إنما هذا على أحد قولي مالك في أن الموصى له بشيء بعينه، وهو أكثر من الثلث، إذا لم يجز ذلك الورثة، فقطعوا له بالثلث من كل شيء، وأما قوله الآخر: إن الثلث يجعل له في الشيء الذي أوصى له به، فلا يعتق منه شيء؛ لأن ذلك يكون على هذا القول بمنزلة إذا أجازوا له الوصية، لا يعتق منه شيء، وقد حمل ابن دحون قول سحنون في هذه الرواية على ظاهره، من أنه إذا كان العبد والدنانير التي أوصى له بها، أكثر من الثلث، يعتق فيها، أجاز الورثة الوصية، أو لم يجيزوها، فقال: لما أوصى بدنانير هي أكثر من ثلثه، دل على أنه أراد الثلث وزيادة، فكأنه أوصى بثلث ماله مبهما؛ ألا ترى أن الورثة إن أبوا أن يجيزوا لزمهم إجازة الثلث؟ وهو بعيد، لا يصح بوجه؛ لأنهم إذا أجازوا لم يجب له في نفسه شيء، فلا يصح أن يعتق عليه منه شيء، وبالله التوفيق.(13/155)
[مسألة: أوصى لعبده بثلث ماله وللعبد ولد]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أوصى لعبده بثلث ماله، وللعبد ولد، هل يبدأ بعتق الأب في الثلث قبل الابن، أم يتحاصان جميعا؟ فقال: بل يكون الأب أولى بالعتق في الثلث، فإن بقي من الثلث شيء دخل فيه الابن فعتق منه مبلغ الثلث.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة قياس ما تقدم من قول ابن القاسم في رسم أسلم قبل هذا في الذي يوصي لعبده بثلث ماله، ويوصي بوصايا؛ أن العبد الموصى له بثلث الميت، يبدأ على أهل الوصايا.
ويأتي فيها على قياس رواية أبي زيد، في أنه لا يبدأ على الوصايا، ويتحاصان ولا يبدأ الأب على الابن، ولا الابن على الأب، فيعتق من الأب ثلثه؛ لأنه ملك بالوصية ثلث نفسه، ومن الابن ثلثه أيضا؛ لأنه ملك بالوصية أيضا ثلثه؛ لأنه من مال الميت الذي أوصى له بثلثه، ثم يعتق من كل واحد منهما في بقية الثلث ما حمل منهما بالسوية، لا يبدأ فيه أحدهما على صاحبه، كمن أعتق شقصا له في عبدين، وليس له من المال ما يحمل أن يقوما فيه عليه جميعا، فيقوم منهما جميعا ما حمله بالحصص، ولا يبدأ أحدهما على صاحبه، وبالله التوفيق.
[: يقول عند موته بيعوا غلامي هذا بثلاثين دينارا]
ومن كتاب جاع فباع امرأته وسألته عن الرجل يقول عند موته بيعوا غلامي هذا بثلاثين دينارا، وأعطوا فلانا منها عشرة دنانير، فيبيع ذلك العبد بأدنى أو بأكثر، قال: إن بيع بثلاثين أو بأكثر، فله العشرة فقط، وإن بيع بدون ثلاثين وأكثر من عشرين، فإنما له ما زاد على عشرين دينارا أو دينارين، أو ما زاد؛ لأنه إنما له ما بين العشرين إلى الثلاثين إن زاد(13/156)
شيئا على عشرين، وإن بيع بعشرين أو بأدنى لم يكن له قليل ولا كثير؛ لأنه إنما أوصى له بعد إخراج عشرين، فلا شيء له.
قال محمد بن رشد: في سماع محمد بن خالد، عن ابن القاسم: أنه إن بيع بأقل مما سمى كان للموصى له مما بيع به ما يقع العدد الذي أوصى له به مما سمى أن يباع به، فيكون له في هذه المسألة على هذا القول؛ أن بيع العبد بأقل من الثلاثين ثلث ما بيع به، وإن بيع بأقل من عشرين، وقال أشهب في السماع المذكور: له مما بيع به ما سمى له كاملا، وإن بيع بأقل مما سمى له فجميع ذلك له.
قال محمد بن رشد: فحمل ابن القاسم في هذه الرواية أمر الموصي على أنه إنما سمى ما يباع به العبد احتياطا على الورثة، مخافة أن يباع بأقل مما سمى، فلا يبقى لهم من ثمنه القدر الذي أراده، فلم ير للموصى له أن يبيع بأقل من ثلاثين، إلا ما زاد على عشرين؛ لأنه على هذا التأويل، إنما أوصى له بعشرة، شرط أن يباع بثلاثين أو أكثر، فإن بيع بأقل، كان النقصان عليه لا على الورثة، وحمل أشهب في سماع محمد بن خالد، أمر الموصي، على أنه إنما سمى ما يباع به العبد احتياطا على الموصى له؛ لئلا ينقص مما أوصى له به إن بيع بأقل مما سمى، وكأنه قال: أعطوا فلانا من ثلثي من ثمن هذا العبد كذا وكذا، وإن لم يبيعوه إلا بكذا وكذا، فلم يسر للورثة إلا ما زاد على مما أوصى له به، ولا يصح أن يحمل أمر الموصي على أحد الوجهين دون الآخر إلا بقرينة تدل على ذلك من بساط تخرج عليه الوصية، أو ما أشبه ذلك مما تبين به قصد الموصي من إرادة الرفق بورثته في ذلك، أو بالموصى له، فإن لم يتبين من قصد الموصي أحد الوجهين دون الآخر، وجب أن يرجع ذلك إلى التحاص على ما قاله ابن القاسم في سماع محمد بن خالد، فيحمل قول ابن القاسم في هذه الرواية على أنه تبين له من قصد الموصي ما خرج جوابه عليه، ويحمل قول أشهب على أنه تبين له من قصد الموصي ما خرج جوابه(13/157)
عليه، ويحمل قول ابن القاسم في سماع محمد بن خالد على أنه لم يتبين له من قصد الموصي أحد الوجهين دون الآخر، فلا يكون بين الروايات على هذا الاختلاف إلا بسبب اختلاف المعاني عندهم، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في جارية له أن تخير]
مسألة وقال ابن القاسم: قال مالك في رجل أوصى في جارية له أن تخير، فإن شاءت بيعت، وإن شاءت أعتقت: إنه لا يجوز عتق أحد من الورثة فيما إلا برضاها، حتى تختار أو تدع.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم طلق من سماع ابن القاسم، ومضى الكلام عليها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي فيقول لفلان عشرة دنانير ثم يقول أنا أريد أن أوصي غدا]
مسألة وسئل عن الرجل يوصي فيقول: لفلان عشرة دنانير، ثم يقول: أنا أريد أن أوصي غدا، ولكن اشهدوا أن ما بقي من ثلثي فلفلان، فيموت قبل أن يوصي قال: لا شيء له.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة، والقول فيها في رسم أوصى، ومضت أيضا في رسم بع ورسم أسلم. وتأتي في سماع محمد بن خالد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يموت عن مائة دينار وعليه مائة دينار دين وقد أوصى بوصايا]
مسألة وسألته عن الرجل يموت عن مائة دينار، وعليه مائة دينار دين، وقد أوصى بوصايا عتق وغيره، ثم طرأ له مال بعد موته.(13/158)
قال: يقضى الدين من هذه المائة التي علم، وتسقط جميع الوصايا، إلا أن يكون مدبرا، فإنه يعتق فيما علم، وفيما لم يعلم، وإنما ينظر أبدا إلى ما عليه من الدين، فإن أحاط الدين بالمال الذي علم، سقطت الوصايا، وكان المال الذي طرأ للورثة خالصا.
قلت: وكذلك لو قتل عمدا كانت ديته مثل ما طرأ، لا تدخل فيه الوصايا، قال: نعم. الدية في العمد مثل مال طرأ.
قال محمد بن رشد: لم يفرق ابن القاسم في هذه الرواية بين أن يكون المدبر في الصحة أو المرض، ومثله في رسم جاع من سماع عيسى من كتاب الديات، فظاهر ذلك أن المدبر في المرض، يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال، وهو نص قوله في رواية عيسى عنه في المدنية خلاف قوله في المدونة: أن المدبر في الصحة هو الذي يدخل فيما لم يعلم به الميت من المال، وقوله: فإنه يعتق فيما علم، وفيما لم يعلم، يريد بعد إخراج الدين مما علم، وكذلك في رسم جاع من سماع عيسى، من كتاب الديات، فعلى ما قاله في المسألة، من أنه مات عن مائة، وعليه دين مائة، لا يعتق المدبر كله إلا في المال الطارئ، وإنما يعتق فيما علم وفيما لم يعلم، إذا بقي من المال الذي علم به بعد إخراج الدين بقية.
مثال ذلك أن يترك مدبرا قيمته ثلاثون، وسبعين دينارا، وعليه دين ثمانون دينارا، ويوصي بوصايا، ويطرأ له بعد موته عشرون دينارا، فتخرج الثمانون دينار التي عليه دينا من جملة التركة، وهي مائة، ويعتق المدبر في العشرين التي علم بها، وهي الباقية من التركة بعد الدين، وفي العشرين الطارئة، فيفضل من العشرين التي علم بها خمسة الدنانير تكون لأهل الوصايا، ويبطل مما سوى ذلك من الوصايا، وتكون الخمسة دنانير الباقية من العشرين الطارئة للورثة، ولا يكون فيها لأهل الوصايا حق، وبالله التوفيق.(13/159)
[: أوصى لرجل باثني عشر دينارا هي له عليه دين]
ومن كتاب النسمة قال ابن القاسم في رجل أوصى لرجل باثني عشر دينارا هي له عليه دين، وهو معدم، وأوصى لرجل آخر باثني عشر دينارا عينا تركها، ولا مال له غير ذلك، ولم يجز الورثة إلا الثلث، قال ابن القاسم: يخرج ثلث الاثني عشر العين، وهي أربعة، لأهل الوصايا، ويكون ثلثاها للورثة، ثم ينظر كم قيمة الاثني عشر الدين التي أوصى بها للذي هي عليه، فينظر كم قيمتها الساعة لو بيعت؟ فإن كانت قيمتها أربعة، ضرب الذي أوصى له بالاثني عشر التي عليه بأربعة؛ لأنها كأنها وصيته التي أوصى له بها، وضرب الذي أوصي له بالاثني عشر العين، باثني عشر سهما في هذه الأربعة التي هي ثلث عشر العين، فما صار للذي ضرب بالاثني عشر أخذه، وما صار للذي ضرب بالأربعة أخذ منه؛ لأنه من كان عليه دين فوجد له مال، أخذ منه، فيؤخذ منه فيوقف ويطرح عنه مثله من الذين عليه، ثم يرجع إلى ثلث الاثني عشر الدين، فيعاد فيها بالضرب كما صنع في الأولى سواء، يضرب الذي هي عليه بأربعة، ويضرب الذي أوصى له بالاثني عشر العين، باثني عشر سهما، يضربون بذلك في ثلثها وثلثاها للورثة، فثلثها أربعة، فيصير لصاحب الاثني عشر ثلاثة، ولصاحب الأربعة واحد، فما صار له من المحاصة طرح عنه من الدين الذي هو عليه، وهو دينار صار له، فيطرح دينار من الاثني عشر التي عليه، ويطرح آخر مكان الدينار الذي صار له في العين في المحاصة، فأخذ منه، فيبقى عليه عشرة، ثم يرجع الورثة، والذي أوصى له بالعين النقد، إلى هذا الدينار الذي وقف فتحاصون فيه، يضرب الورثة فيه بقدر مواريثهم، وهو ثمانية(13/160)
أسهم، ويضرب الموصى له بالنقد بثلاثة أسهم، وهو الذي يصير في المحاصة، ولا يضرب الموصي له بالدين الذي عليه معهم فيه بشيء؛ لأنه قد ضرب مرة، وحاص وإنما هذا شيء صار له في المحاصة، فأخذ منه في الدين الذي عليه، ثم ما اقتضى من العشرة الدين التي تبقى عليه فعلوا فيها مثل ذلك سواء، يضرب بما بقي لهم الورثة من الدين، والذي أوصى له بالنقد بما بقي له على ذلك، يقتسمون ما اقتضوا من شيء، فعلى ذلك يقسم، ولا يدخل الذي عليه الدين معهم في شيء من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة إذا تدبرت، وقد لحظها ابن أبي زيد في النوادر وقربها، فقال: يتحاصان في ثلث العين والدين، فإن كانت قيمة الاثني عشر الدين أربعة حاص بأربعة، والآخر باثني عشر، فلهذا ربع الثلث، ولهذا ثلاثة أرباعه، فيزول عنه ديناران، ويبقى عليه عشرة، فدينار سقط مما عليه، ودينار نابه من العين، أخذ منه، فيتحاص في هذا الدينار، الورثة والموصى له بالعين، على أحد عشر جزءا فلهذا ثلاثة، ولهم ثمانية، فعلى هذا يعمل لكل ما يقتضي من الآخر، ومذهب ابن كنانة أنه يحاص في الدين بالتسمية لا بالقيمة الذي أوصى بذلك لغير الغريم، أو أوصى به الغريم وهو عديم، كمن اشترى شقصا بثمن غال، فإنما يأخذه الشفيع بجميع الثمن، ومذهب ابن القاسم أنه يحاص بقيمة الدين شائعا في جميع مال الميت، وإن لم يكن عليه دين، إذا كان معدما، وفي المجموعة لابن القاسم: إن الدين الموصى به يقوم، وإن كان على مليء، فيتخرج في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه ينظر إلى قيمة الخمسين التي أوصى له بها، وهي عليه، فإن حملها الثلث نفذت له الوصية، وإن لم يحملها كان الورثة بالخيار، بين أن يخيروا له الوصية، وبين أن يقطعوا له بالثلث كاملا شائعا في جميع مال الميت، كان مليا أو معدما، وهو قول ابن(13/161)
كنانة، وقد حكاه ابن المواز عن مالك وأصحابه. والثاني: أن للورثة أن يقطعوا له بالثلاثين التي هي الثلث في الخمسين التي عليه، ولا يقوم، مليا كان أو معدما، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية. والثالث: الفرق في ذلك بين أن يكون مليا أو معدما. ولو كان الدين مؤجلا، لم يختلف وجوب تقويمه، ولا في أنه ليس للورثة أن يقطعوا له بالثلث في عدده، بمنزلة إذا كان عليه دين، وبالله التوفيق.
[: أوصى بعتق عبد له قيمته اثنا عشر دينارا]
ومن كتاب الرهون مسألة قال: وقال ابن القاسم في رجل توفى، وأوصى بعتق عبد له قيمته اثنا عشر دينارا، وأوصى لامرأته باثني عشر دينارا دينا له عليها، ولا مال له غير ذلك، وامرأته معدمة، وترك ابنه وامرأته. قال ابن القاسم: يعتق من العبد ثلثه قبل كل شيء؛ لأن العتق يبدأ على ما كان معه من الوصايا، ويبقى ثلثاه، وهي ثمانية أسهم، فللمرأة من ذلك الثمن وهو واحد، فيؤخذ هذا الواحد منها فيما عليها من الدين، فيعتق من العبد أيضا ثلث هذا السهم، ويبقى ثلثا السهم ميراثا بين المرأة والابن، فللمرأة من ذلك الثمن، ثمن ثلثي ذلك السهم، وللابن ما بقي، ويؤخذ أيضا من المرأة ثمن ثلثي السهم الذي صار لها من ثمنها فيما عليها من الدين، فيتحاصون فيه، العبد والوارث بقدر حقوقهما التي بقيت لهما على المرأة، وينقطع حق المرأة منه هاهنا؛ لأنها قد أخذت ثمنها مرة، وإنما هذا شيء أخذ منها فيما عليها من الدين.(13/162)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة دقيقة، من أجل أن الدين الذي على المرأة لها منه ثمنه بالميراث، وما يجب لها من ثلثي العبد إذا أعتق ثلثه، وهو ثمنه نصف سدس جميعه على ما ذكر من أن قيمته اثني عشر، تؤخذ منها في الدين، فيعتق ثلثه، ويكون لها من ثلثه الثمن بالميراث، فيؤخذ منها ذلك الثمن، فيكون بين العبد والابن على قدر ما بقي لهما من حقوقهما على المرأة، والذي بقي للعبد على المرأة من حقه ثلث وسبعة أثمان، وثلثا ثمن.
والذي بقي للابن عليها ستة وثلث ثمن، وذلك أن العبد يقول: وجب لي أن يعتق مني الثلثان بثمانية؛ لأن جملة المال أربعة وعشرون، ولم يعتق مني السدسان، وربع السدس بأربعة، وثلث الثمن، فيبقى لي من حقي ثلثه وسبعة أثمان وثلثا ثمن، والابن يقول: وجب لي أربعة عشر؛ لأن جميع المال أربعة وعشرون، يعتق منه ثلثا العبد بثمانية، يبقى ستة عشر، يجب للزوجة منها اثنان، ولي أربعة عشر، يبدأ منها فيما بقي لي من العبد سبعة، وسبعة أثمان وثلث ثمن، فيبقى لي من حقي ستة وثلث ثمن، فعلى هذه التجربة يقتسم العبد والابن ذلك الثمن، فما ناب العبد منه عتق زائدا إلى ما كان أعتق منه، وما ناب الابن منه بقي له رقيقا، وكذلك يقتسمان على هذه التجربة، كلما أفادت المرأة من مال، فما ناب العبد من ذلك عتق منه على الابن بقدره، حتى يستوفيا حقوقهما، فيكون قد عتق من العبد ثلثاه، وبقي للابن ثلثه، وصار إليه مما على الزوجة عشرة دنانير، وبقي لها مما عليها ديناران، وهما الواجبان لها، وإنما قال: إنه يعتق من العبد ثلثه معجلا، من أجل أن المرأة عديمة لا يرجى لها مال، ولو كان يرجى لها مال؛ لوجب أن يوقف، ولا يعجل عتق شيء منه حتى يستوفى الدين منها، فيعتق منه ثلث الجميع على ما قاله في المدونة في الذي يوصي بعتق عبد، وله مال حاضر، ومال غائب: إنه يوقف، ولا يعتق منه شيء حتى يستوفى المال الغائب، إلا أن يطول الأمر، فيدخل في ذلك ضرر على الموصي والموصى له، وعلى ما يأتي أيضا في رسم الجواب بعد هذا، وفي(13/163)
العشرة لابن القاسم وأشهب، يرى أنه يعتق منه كما حمل المال الحاضر معجلا، ولا ينتظر المال الغائب، وإن قرب أمره، فكلما حضر منه شيء زيد في عتقه بقدر ثلثه. والقول بالتوفيق حتى يجتمع المال أقيس؛ لأنه إذا أعتق ثلثه ومبلغ ثلث المال الحاضر، فقد أخذ أكثر من ثلثه؛ لأنه أخذ ثلث المال الحاضر، وصار باقي العبد موقفا على الورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وأوصى لرجل بخمسين دينارا له عليه وترك مالا ناضا والثلث ثلاثون]
مسألة قال ابن القاسم في رجل توفي وأوصى لرجل بخمسين دينارا له عليه، وترك مالا ناضا، والثلث ثلاثون، فقال الورثة: نحن نقطع له بالثلث فيما عليه من الدين. قال ابن القاسم: ذلك لهم، إلا أن يكون على الموصى له دين، فإن كان عليه دين، خير الورثة بين أن يجيزوا ما أوصى له به، فإن فعلوا فليس للموصى له إلا ذلك، وإن أبوا قطعوا له بالثلث، مما عليه، وثلث الناض؛ لأن الغرماء يدخلون فيه يحاصونه، ويدخل معهم الورثة فيما بقي لهم عليه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة: إن للورثة أن يعطوا للموصى له بالخمسين، التي عليه بالثلاثين، التي عن الثلث، إلا أن يكون عليه دين، ظاهره وإن كان معدما بالخمسين إذا لم يكن عليه دين، وذلك معارض لقوله في أول مسألة من الرسم في الذي أوصى لرجل باثني عشر دينارا له عليه، وهو معدم: إنه يحاص بقيمته لا بعدده، وعلى خلاف أصله فيها؛ لأنه حكم فيها للدين على المعدم، بحكم العرض، فالذي يأتي على قياس قوله هذا في هذه المسألة أن يكون الورثة بالخيار، بين أن يجيزوا له الوصية بالخمسين ويقطعوا له بالثلث.(13/164)
[مسألة: أوصى بعتق غلام لولد له صغار]
مسألة وعن رجل أوصى بعتق غلام لولد له صغار؛ أنه إن كان له مال جاز عتقه عنه بالقيمة في ثلثه، وأعطى ولده القيمة، فإن لم يكن له مال، لم يجز عتقه. قال ابن القاسم: وإنه إن سمى له ثمنا يشتري به من ولده، لم يجز من ذلك إلا القيمة أيضا، ولم يكن ينظر إلى ما سمى.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في رسم الكبش من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات؛ أن الوالد إذا أوصى بعتاقة عبد ابنه الصغير، أو بتل عتقه؛ جاز ذلك على الابن، إذا كان للأب مال، وأعطى الولد قيمة عبده، ولا أحفظه في هذا اختلافا من قول ابن القاسم؛ لأن الوصية بعتق عبد ابنه الصغير كعتقه سواء، إن حمله الثلث جاز، وكانت له قيمته في مال الأب، وكذلك ما حمل الثلث منه، وإن لم يحمل جميعه.
وقوله: إنه إن سمى له ثمنا يشترى له به من ولده، لم يجز من ذلك إلا القيمة أيضا صحيح بين؛ لأنه إذا سمى أكثر من قيمته كان الزائد على قيمته وصية له، والوصية للوارث لا تجوز، وإن سمى أقل من قيمته، لم يكن ذلك له؛ إذ ليس للأب أن يأخذ مال ابنه الصغير. وقد مضى في رسم استأذن، من سماع عيسى، من كتاب الصدقات والهبات حكم صنيع الأب في مال ابنه الصغير من عتق أو هبة أو صدقة أو تزويج مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تحضره الوفاة فيقول خذ من عبدي فلانا مائة دينار ثم هو حر]
مسألة وعن الرجل تحضره الوفاة فيقول للرجل: خذ من عبدي فلانا مائة دينار، ثم هو حر، أتنجم عليه؟ قال: لا أرى أن تنجم عليه، ولكن تؤخذ منه جميعا، إلا أن يكون أمر أن تنجم عليه.(13/165)
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إذا قال خذوا من عبدي كذا وكذا وهو حر؛ أنها لا تنجم عليه، وفي العتق الثاني من المدونة إذا قال لأمته: أدي إلى ورثتي ألف دينار وأنت حرة؛ أنها تنجم عليها، كما تنجم الكتابة، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول، وقيل: إنه فرق بين اللفظين وهو الأولى من التأويلين، وإنما ينفذ ذلك من وصيته إذا حمل العبد الثلث، فإن لم يحمله الثلث، فالورثة مخيرون، بين أن يجيزوا له الوصية، أو يعتقوا منه ما حمل الثلث بتلا، ويقر ماله بيده، ولم يتكلم في الرواية هل يلزم العبد ذلك ويجبر عليه إن أباه أم لا؟ ويتخرج ذلك على الاختلاف في هل للسيد أن يجبر عبده على الكتابة أم لا؟ والقولان قائمان من المدونة ولو أوصى أن يؤخذ مال عبده ويعتق، لزمه ذلك إن حمله الثلث دون ماله، وبالله التوفيق.
[: قال أعتقوا عبدي في ثلثي أو ما حمل الثلث منهما]
ومن كتاب أوله يدير ماله قال: ومن قال: أعتقوا عبدي في ثلثي، أو ما حمل الثلث منهما، فذلك كله سواء، يسهم بينهما، فيبدأ من خرج سهمه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه إذا أوصى بعتق عبده، فلا فرق بين أن يقول أو ما حمل الثلث منهما، أو يسكت عن ذلك؛ لأنه المعلوم من قصده وإرادته؛ إذ ليس له سواه لو قال: أعتقوهما، حملهما الثلث، أو لم يحملهما لم ينفذ له ذلك له على الورثة، إلا أن يشاءوا، فإذا لم حملهما الثلث، فإنه يعتق منهما ما حمله الثلث بالقرعة، كان أحدهما كاملا أو أحدهما وبعض الآخر، أو بعض أحدهما.
وابن كنانة يقول: إنما يسهم بينهما إذا لم يقل: أو ما حمل الثلث منهما، وأما إذا قال: أعتقوهما في ثلثي أو ما حمل الثلث منهما، فقد أراد بقوله: أو ما حمل الثلث منهما لا يحيطهما(13/166)
جميعا العتق، فهما يتحاصان في ثلث ماله. ولقوله وجه. وقول ابن القاسم أظهر.
[: رجل يموت عن الزرع حين ينبت وقد أوصى بوصايا]
ومن كتاب الجواب وسألته عن رجل يموت عن الزرع حين ينبت، وقد أوصى بوصايا، وضاق الثلث عنها، هل لأهل الوصايا في الزرع شيء؟ وكيف إن كان لهم في الزرع شيء؟ هل يوقف الرقيق إلى استحصاد الزرع؟ قال ابن القاسم: نعم، وصاياهم في الزرع، وفي كل ما ترك الميت من ثمرة صغيرة أو زرع صغير، فإن كانت الوصايا، إنما هي وصايا مال لم يوقف الرقيق ويبعث، وكان لأهل الوصايا ثلث ما نص، واستوفي بالزرع حتى يصلح، فيباع، فيكون لهم ثلثه، وإن كان في الوصايا عتق، أو أوصى ببعض الرقيق لأحد لم يبع الدين أوصى فيهم، ووفقوا حتى يحل بيع الزرع، فيباع، ولم يقسم شيء من المال، لا ثلث ولا غيره، حتى يستحصد الزرع فيباع، إلا أن يخير الورثة الوصايا بذلك، فيقتسمون بقية المال، ويوقفون الزرع حتى يحل بيعه فيبيعونه، وإن أوصى بعتق الرقيق كلهم لم يعتق منهم أحد حتى يحل بيع الزرع ويباع ويعتق منهم ما حمل الثلث، ويرق ما بقي فيباع. وفي سماع أصبغ، من كتاب الوصايا، عن ابن القاسم مثله. وقاله أصبغ، إلا أن يطول أمر الزرع، ويكون ذلك في أول بذره، وازدراعه، ويتأخر حصاده وبلوغه الأشهر الكثيرة، وفي ذلك عطب الحيوان، والضرر على العبيد، فأرى أن يترك الزرع كالمال الغائب الذي لا يجمع بفور ذلك، فأرى أن يعتق منه ما(13/167)
حمل الثلث معجلا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الوصايا في الزرع في كل ما ترك الميت من ثمرة صغيرة أو زرع صغير، وإن الوصايا إن كانت وصايا ما لم يوقف الرقيق وبيعت، وكان لأهل الوصايا ثلث ما نص، واستوفي بالزرع حتى يصلح فيباع، فيكون لهم ثلثه، بين لا إشكال فيه.
وأما قوله: وإن كان في الوصايا عتق، وأوصى ببعض الرقيق لأحد، لم يبع الذين أوصى فيهم، ووقفوا حتى يحل بيع الزرع فيباع؛ فمعناه في الذي أوصى ببعض الرقيق لأحد، إذا دعاه الذي أوصى له بهم إلى توقيفهم حتى يصلح الزرع فيباع.
وأما إن دعا إلى بيعهم، وأخذ ما حمل ثلث المال الحاضر منهم، فلا اختلاف في أن ذلك له، بخلاف الوصية بعتق الرقيق، فقال في هذه الرواية: إنهم يوقفون حتى يحل بيع الزرع، ولا اختلاف في ذلك عندي، وإن دعا العبيد إلى أن يعتق منهم ما حمل الحاضر، ويوقف الباقي إلى أن يحضر، ورضي بذلك الورثة من أجل الغرر في تكرير القرعة فيهم مرة بعد أخرى، وإن كان عبدا واحدا، فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أنه يوقف ولا يعتق منه شيء حتى يحضر المال الغائب، قال ابن القاسم: وإن دعا العبد إلى أن يعتق منه ما حمل الثلث منه من المال الحاضر مخافة أن يتلف، فإن جاء المال الغائب استتم عتقه فيه، أو زيد في عتقه بمقدار ما بلغ ثلثه، لم يكن ذلك له، يريد: إلا برضا الورثة؛ لأن الميت يكون إذا فعل ذلك، قد أخذ أكثر من ثلث المال الحاضر؛ لأنه يعتق ثلثه فيه، ويوقف باقيه، وأشهب يرى أن يعتق منه مبلغ الحاضر، يوقف باقي العبد، فكلما حضر شيء من الغائب زيد في عتقه، ولو لم يكن إلا العبد وحده عتق ثلثه ووقف باقيه.
وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الحجة في ذلك للورثة بينة. وقول أصبغ: إلا أن يكون(13/168)
ذلك في أول ازدراع الزرع، فيطول الأمر، ويخاف في ذلك الضرر على العبيد بعطب الحيوان وما أشبه ذلك؛ مفسر لقول ابن القاسم؛ إذ هو نص قوله في المدونة: إلا أن يكون في ذلك ضرر على الموصي والموصى له، ومثله أيضا في التفسير لابن القاسم؛ أنه إن كانت الديون بعيدة الآجال، والمال الغائب في بلد بعيد، لا يصل إلا بعد طول زمان، فإنه يعتق منه ثلث ما فضل، فإذا جاء المال الغائب، أو حل أجل المؤجل فاقتضى، أعتق منه مبلغ ثلث جميع ذلك. وقد وقع في رسم جاع فباع امرأته، من سماع عيسى، من كتاب المدبر؛ أن الدين إذا كان إلى الأجل البعيد؛ العشرة الأعوام ونحوها، أنه يباع بعرض إن كان عينا، أو بعين إن كان عرضا، ويعتق المدبر في ثلثه أو ما حمل الثلث منه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عز وجل.
[مسألة: يعتق عند الموت أو يكون له مدبرون فيموت]
مسألة وسألته عن الرجل يعتق عند الموت، أو يكون له مدبرون فيموت، فيقول الورثة: قوموا علينا ما ترك الميت من عقار أو غير ذلك، ولا تبيعوا علينا، ويقول المدبرون وأهل الوصايا: بل نبيع، كأن البيع أزيد لنا في الثلث من القيمة. قال ابن القاسم: ذلك للمدبر وأهل الوصايا يباع لهم إذا طلبوا البيع وسخطوا القيمة، وإن دعا الورثة إلى البيع وكرهوا القيمة، فذلك لهم الذي لا شك فيه، ولا كلام فيمن دعا إلى البيع فهو أولى، أصحاب الثلث كانوا أو الورثة.
وأما الورثة فيما بينهم إذا ورثوا ميراثا، ثم طلب بعضهم البيع، وكره بعضهم، فإنهم إن كان فيما ورثوا ما ينقسم، قسم بينهم، وما كان مما لا ينقسم، بيع لمن طلب ذلك منهم، إلا أن يقاومه صاحبه، أو يأخذه بما يعطى به بمنزلة الشريك بالاشتراء سواء، ومن كتاب(13/169)
الوصايا من رواية أصبغ مثله عن ابن القاسم، وقاله أصبغ في التقويم يأباه المدبر وأهل الوصايا. قال: لا أرى ذلك، إذا أقاموا ذلك قيمة عدل على قيمة الاشتراء والبيع، فهو إنصاف، وليس على الموصي أن تبيع لهم الأسواق، ولا على الورثة الزيادة الخاصة، وأنهم يعرضون عرضا لا ينفذ ولا يتمم، فالقيمة في جميع ذلك عدل لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الوصايا، من سماع أشهب، وبينا أنه يتحصل فيها خمسة أقوال، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون له مدبرون ويعتق عند الموت]
مسألة وسألته عن الرجل يكون له مدبرون، ويعتق عند الموت، ويقول في جنان له، أو في شيء من ماله لورثته: امضوا هذا لابني فلان، أو لابنتي فلانة، وهما وارثان فيفعلون، والثلث يضيق عن العتق والوصايا، من أين يكون الجنان، والذي سمى للوارث، أمن سهام الذين أمضوا أم من رأس المال أم من الثلث؟ قال ابن القاسم: إن كانت الجنان، والذي سمى شيء زعم أنه لابنه عنده أو في يديه، أو دينا لهما عليه بدى به، وخرج من رأس المال، ثم كانت الوصايا في ثلث ما بقي بعده، ثم رد ذلك، بين الورثة جميعا ميراثا للتهمة في الوصية لوارث، إلا أن يجيزه له الورثة، أو يكونوا صغارا أو سفهاء غير جائزي الأمر، أو مثل الزوجات والبنات، ومن هو تحت يده وفي ولايته، فإن ذلك لا يجوز، وإن كانوا كبارا مالكين أنفسهم، فأجازوه في حياة الميت، فلا مرجوع لهم فيه إذا كانوا مالكين لأنفسهم باثنين عنه، والدين إذا أقر به في مرضه، فهو(13/170)
من رأس المال قبل كل شيء، كان لوارث أو لغير وارث؛ لأنه إنما أراد أن تكون الوصايا في ثلث ما بعده، وإن كان إنما هي وصية أوصى له بها في مسألتك، فهو من الثلث، والعتق مبدأ عليه وعلى غيره من الوصايا، ثم يتحاص هو وأهل الوصايا في بقية الثلث بعد العتق، فإن كان الورثة قد أجازوا ذلك كله، وأمضوه في حياة الموصي، كان عليهم تمامه من مواريثهم، كما أجازوا، وأسلم له كله إذا كانوا مالكين لأمورهم، ولم يكن الذين أجازوا بحال ما وصفت لك من الزوجات والبنات، ومن هو في ولايته وتحت يده، وإن لم يكونوا أجازوا ذلك له، ولا أمضوه في حياة الموصي ولا بعد ذلك، فما صار للوارث الموصى له في المحاصة من الثلث، فهو مردود عليهم على الفرائض، إلا أن يشاءوا أن يسلموا ذلك له، ومن شاء منهم أجازه، ومن شاء لم يجزه، ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: سأله عن الذي يكون له مدبرون، ويعتق عند الموت، يريد على سبيل الوصية، ويقول في جنان أو في شيء من ماله لورثته: امضوا هذا لابني، فيفعلون، يريد في حياته، بأن يقولوا له: قد أمضيناه له، بدليل قوله: إنه لا يلزمهم إمضاء ذلك إن كانوا صغارا أو سفهاء، أو مثل الزوجات والبنات اللاتي لم يبن عنه؛ إذ لو أمضوا ذلك له بعد موته، للزمهم إذا كانوا مالكين لأمرهم، وإن كانوا بناته وزوجاته لم يبينوا عنه، فقال: إنه إن كان قال في الجنان وما أشبهه أن يمضوه لابنه على سبيل الإقرار له به؛ أنه حقه، أخرج ذلك من رأس المال، وكانت الوصايا والعتق في ثلث ما بقي بعده، ولم يتكلم على المدبرين، والحكم فيهم إن كانوا مدبرين في الصحة أن يخرجوا من رأس المال قبل الجنان الذي أوصى به في مرضه على سبيل الإقرار له به أنه حقه؛ إذ ليس له أن يرجع على المدبر، وكذلك روى عن ابن القاسم فيمن مرض، وله مدبر في الصحة، فقال في(13/171)
مرضه: قد كنت أعتقت عبدي فلانا في صحتي لعبد له آخر؛ أنه يعتق المدبر في ثمن العبد وغيره، ولا يضر المدبر ما ذكر من عتق العبد في الصحة قال: وليس المدبر هنا بمنزلة الوصايا التي تكون في ثلث ما بقي بعد الغلام؛ لأنه يتهم على المدبر في انتقاصه، فلا يقبل قوله.
فكذلك، كل من يقدر يرجع فيه فهو مثل المدبر.
قال محمد بن رشد: والذي هو مثل المدبر في الصحة؛ أنه لا يجوز له أن يرجع فيه المدبر في المرض باتفاق، والمبتل في المرض على اختلاف؛ إذ قد نص في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، من كتاب الحبس؛ أن للرجل أن يرجع في مرضه عما حبسه في مرضه، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك.
وقوله في الرواية: وإن كان إنما هي وصية أوصى له بها في مسألتك إلى آخر قوله، إشارة منه إلى قوله في الجنان وما أشبهه من ماله أمضوه لابني؛ أنه إن كان قال ذلك على سبيل الوصية، كان الحكم فيه ما ذكره من أنه يتحاص هو وأهل الوصايا في بقية الثلث بعد العتق، وأما قوله: فإن كان الورثة قد أجازوا ذلك كله وأمضوه في حياة الموصي، كان عليهم تمامه من مواريثهم كما أجازوا، وأسلم له كله.
فمعنى ذلك عندي، إذا كان قد أعلمهم بالوصايا، فقال لهم: إني قد أوصيت بكذا وكذا، وأوصيت بالجنان لابني، فأمضوه له، فقالوا له: قد أمضيناه له، وهم على تلك الحال من ملكهم لأمر أنفسهم، والبينونة بها، وأما إن لم يعلمهم بالوصايا، وإنما سألهم أن يمضوا الجنان لابنه على سبيل العطية والوصية، ففعلوا، فليس عليهم ضمان ما انتقصه منه أهل الوصايا؛ لأن ذلك كالاستحقاق لبعض ما أوصى له به، فلا يلزم الورثة ضمانه على ما قاله في كتاب الزكاة الثاني من المدونة، في الذي يوصي بزكاة زرعه، وهو أخضر؛ أن(13/172)
للمصدق أن يأخذ منه الزكاة إن كان فيه ما تجب فيه الزكاة، ولا يكون للمساكين الرجوع على الورثة بما أخذه المصدق؛ لأن ذلك كالاستحقاق لبعض ما أوصى لهم، وبالله التوفيق.
[: يوصي للرجل بعشرة ولآخر بعشرة ويوصي بعتق عبد له آخر]
ومن كتاب إن أمكنتني وسألت ابن القاسم عن الذي يوصي للرجل بعشرة، ولآخر بعشرة، ويوصي بعتق عبد له آخر، أو يوصي بالعبد لرجل، ويوصي لرجل ببقية الثلث، فيموت العبد قبل أن يعرف ثلث الميت، قال: ينظر كم ثلث الميت بقيمة العبد؟ فإن كان ثلثه مثل قيمة العبد، والعشرون وصيه للرجلين هو الثلث، لم تزد ولم تنقص، أخذ الرجلان وصيتهما العشرين، ولم يكن للذي أوصى له ببقية الثلث شيء، وإن فضل من الثلث شيء بعد قيمة الغلام الهالك، وبعد العشرين، كان للذي أوصى له، ولم يكن ثلثه إلا قيمة العبد سواء رجع صاحبا العشرين إلى ثلث المال الذي بقي بعد قيمة العبد، فأخذا منه وصيتهما إن حملها الثلث، أو ما حمل منها، وكان العبد كشيء لم يكن له في مال، ولم يكن للذي أوصى له ببقية الثلث شيء، فعلى هذا فقس ما يرد عليك من هذا الوجه، فليس تنظر في قيمة العبد الهالك للذي أوصى له ببقية الثلث، ليعلم بذلك مبلغ وصيته، كأن وصيته إنما كانت بعد العبد، ولو لم يوص ببقية الثلث؛ لكان العبد ملغى من جميع المال، وردت الوصايا في ثلث المال.(13/173)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى على ما تقدم في رسم أسلم وغيره، فلا اختلاف فيها. وقد قال مالك في كتاب ابن المواز في وجه العمل فيها: أن يأخذ أهل التسمية ما سمي لهم من ثلث ما بقي بعد العبد، كأنه لم يكن، ثم يحيي العبد الميت بالذكر، فتضم قيمته إلى ما ترك الميت، ثم يخرج من ثلث الجميع العبد والوصايا، فإن بقي بعد ذلك من الثلث شيء، كان لصاحبه باقي الثلث، وإلا فلا شيء له، وهو صحيح على ما قاله ابن القاسم في الرواية، وبالله التوفيق.
[: أوصى في أمة له أن تباع إن أحبت البيع]
ومن كتاب القطعان وسئل ابن القاسم عن رجل أوصى في أمة له أن تباع إن أحبت البيع، أو تعتق إن أحبت العتق، فاختارت البيع، فبيعت ثم ردت، فقالت: أنا أحب أن أعتق الآن. فقال: ليس ذلك لها، وإنما لها أن تعتق ما لم تبع. وقال ابن وهب: ذلك لها ينفذ.
قال أبو زيد: قلت لابن القاسم: فإن أرادت البيع، هل يوضع لمن أحبت أن يشتريها شيء من ثمنها إذا أرادت البيع؟ قال: لا، ولا درهم واحد.
قال محمد بن رشد: قوله: ثم ردت، معناه: ردت بعيب، فجواب ابن القاسم: إن الرد بالعيب ابتداء بيع، وجواب ابن وهب على أنه نقض بيع، وهو أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم وأشهب، فالمشهور من قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنه ابتداء بيع، وقد روي عنه أنه نقض بيع، فجوابه في هذه المسألة على المشهور عنه من أنه ابتداء بيع، وقد اختلف في ذلك قول أشهب، فجواب ابن وهب في هذه المسألة على المشهور من قول أشهب، وأحد قولي ابن القاسم، من أنه نقض بيع، ولو(13/174)
بدا لها قبل البيع فاختارت العتق؛ لكان ذلك عندهما جميعا، بدليل هذه الرواية، وهو نص قول ابن القاسم في أول سماع سحنون، وفي أول سماع أصبغ أيضا، وزاد فيه، وأرى ألا يعجل بيعها حتى يردد عليها مرة بعد مرة، فإن أبت بيعت، وإن قبلت بعد أن كرهت، فذلك لها، ما لم يمض فيها حكم بيع أو قسمة بعد أن ردد الأمر عليها ولم تقبل، ورضيت بالبيع فبيعت أو قسمت، وأما قوله في الرواية: إنه لا يوضع لمن أحب أن يشتريها شيء من ثمنها، فهو صحيح لا اختلاف فيه؛ إذ لم يوص أن تباع من رجل بعينه، فيكون ذلك وصية له، ولا ممن أحبت، فتكون وصية لمن أحبت أن تباع منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى عند موته فكلم في رجل فقال قد أوصيت له]
مسألة وسئل ابن القاسم عن رجل أوصى عند موته، فكلم في رجل، فقال: قد أوصيت له، أو قال: قد كنت أوصيت له كذا وكذا. هل يثبت ذلك له، وإن لم يقل: فأعطوه؟ قال: نعم؛ لأنها وصية.
قال محمد بن رشد: أما إذا قال: قد أوصيت له فبين أنها وصية، وإن لم يقل أعطوه؛ لأنه لو قال ذلك ابتداء من غير أن يكلم فيه؛ لكانت وصية، وإن لم يقل أعطوه؛ لأنه مفهوم من قوله، وإن لم يلفظ به، وأما إذا قال: كنت أوصيت له بكذا وكذا، فإنما رآها وصية له، لما دل عليه من تكليمهم إياه فيه؛ لأن المعنى فيه؛ أني قد كنت أوصيت له قبل أن تكلموني فيه، لاهتمامي بأمره، ولو قال ابتداء: قد كنت أوصيت لفلان بكذا وكذا لما كانت وصية له؛ لأن المفهوم من قوله ذلك ابتداء: قد كنت فعلته، وأنا اليوم لا أفعله، وبالله التوفيق.
[: يقول اشتروا عبد فلان بستين دينارا فأعتقوه]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول: اشتروا عبد فلان، بستين دينارا، فأعتقوه وأعطوا العبد عشرين دينارا، فلا يريد سيده أن يبعه(13/175)
بأدنى من ثمانين، فيقول العبد: اجعلوا العشرين التي أوصى لي بها سيدي في ثمني، واشتروني وأعتقوني، قال ابن القاسم: لا يعجبني ذلك أن يزاد العشرين؛ لأن سيده لم يرد أن يكون في ثمنه، ولعله إنما أراد أن يكفيه ويعالج بها، ولا يكون عديما يسأل الناس، ولكن لو أن العبد أداها من مال هو بيده، لم أر به بأسا قال: ولو وقع أمضيته، ولم أرده، ولم يكن للعبد حجة يرجع بها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ماله من أن ذلك لا ينبغي أن يفعل ابتداء للعلة التي ذكرها مما يخشى أن يكون السيد أراده، فإذا وقع ذلك ونفذ العتق، لم يصح أن يرد؛ إذ لا يتحقق إرادة الموصي لذلك تحققا يصرح أن يجعل ذلك كالشرط، ولعل للعبد المال الكثير، أو إنما يعيش من صنعة له يحاولها بيده، ولو لم يقبل العبد العشرين، لوجب أن يرد إلى الورثة، ولم يكن ذلك مما يمنعه العتق، فكذلك إذا رضي أن يجعل في ثمنه، ففعل ذلك، ونفذ العتق له لم يصح رده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في وصيته رقيقي أحرار]
مسألة وعن الرجل يقول في وصيته: رقيقي أحرار، فيبيعهم ويشتري غيرهم، فيموت، والوصية كما هي، أو يقول: عبدي حر، ولا يسميه وليس له إلا عبد واحد، فيبيعه ويشتري غيره، أو يقول: عبدي النوبي حر، فيبيعه ويشتري نوبيا آخر، أو يقول: عبدي الصقلبي حر، فيبيعه ويشتري صقلبيا آخر، فيموت والوصية على حالها، هل يعتق من مات عنه في هذا كله؟ قال ابن القاسم: أما من قال: رقيقي أحرار فباعهم واشترى غيرهم، فإنهم يعتقون، ومن قال: عبدي النوبي أو الصقلبي، فباع في ذلك كله، واشترى عبدا غيره، أو اشترى عبدا نوبيا أو صقلبيا، لم يعتق منهم أحد، وما(13/176)
يبين ذلك لك في الذي قال رقيقي أحرار؛ أنهم يعتقون إذا باعهم واشترى غيرهم، أنه لو لم يبعهم واشترى غيرهم معهم عتقوا كلهم، وإن الذي قال: عبدي النوبي أو عبدي الصقلبي، أو عبدي ثم اشترى عبدا غير عبده، أو نوبيا أو صقلبيا لم يعتق إلا أولئك الذين أراد، وكذلك إذا باعهم، فإنما العتق فيهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في آخر رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: يهلك وله ثلاثة أعبد وقد أوصى بعتق اثنين]
مسألة وسئل عن الذي يهلك وله ثلاثة أعبد، يشهد شاهدان أنه أعتق اثنين منهم يعرفانهما في وصيته، فلم يحمل الثلث إلا واحدا قال ابن القاسم: يسهم بينهم، فمن خرج سهمه عتق إن حمله الثلث، أو ما حمل الثلث منه. قلت: فلو قال أحد ورثته للعبد الثالث: قد أوصى أبي بعتق هذا، ثم ملكه، قال ابن القاسم: يسهم على تسميتهم ثلاثتهم، فإن خرج سهمه نظر في الثلث، فإن كان الثلث يحمله عتق، أو ما حمل الثلث منه، وإن لم يخرج سهمه، فلا عتق له، ويجبر على ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على ما في المدونة وغيرها من قول ابن القاسم وروايته عن مالك في أن من أوصى بعتق رقيق له لا يحملهم الثلث، يقرع بينهم، فيعتق منهم ما حمل الثلث بالقرعة، وفي أنه إذا أقر أحد الورثة بأن الميت أوصى بعتق عبد له لا يعتق عليه حظه منه، من أجل الضرر الداخل في ذلك على سائر الورثة، إلا أن يملكه فيعتق كله عليه إن حمله الثلث، أو ما حمل منه، فإذا قال أحد الورثة في العبد الثالث: إن(13/177)
أباه قد أوصى بعتقه أيضا لم يعتق عليه حظه منه. وأسهم بين العبدين اللذين شهد الشاهدان الوصية لهما بالعتق، فأعتق ما حمل الثلث منهما، فإن ملك الوارث بقية العبد الذي أقر أن أباه أوصى بعتقه أيضا، وجب أن يسهم عليهم ثلاثتهم، فإن خرج السهم عليه أعتق إن حمله الثلث، أو ما حمل الثلث منه؛ لأن هذا هو الذي كان يجب لهذا العبد لو ثبت ما أقر به الوارث من أنه أوصى بعتق الثلاثة الأعبد جميعا.
وقد قال عيسى بن دينار من رأيه في رسم العتق من سماع عيسى، من كتاب العتق: إنه يعتق عليه منه إذا ملكه ما كان يحمل الثلث منه مع الذي أعتق بالشهادة أو تحاصا فيه. وقول ابن القاسم هو الصحيح، ولو كان هو الوارث وحده؛ لكان هذا الحكم فيه يوم مات الميت؛ إذ لا يشركه فيه غيره، ولو كان الوارث مكذبا لشهادة الشاهدين؛ لوجب أن يعتق عليه العبد كله إن حمله الثلث أو ما حمل منه إن كان وحده، ولم يكن معه وارث غيره، أو إذا ملك جميعه إن لم يكن وحده، وكان معه وارث غيره بعد أن يسهم بين العبدين، فيعتق منهما ما حمل الثلث بالشهادة على ما في رسم من سماع عيسى، من كتاب العتق، وهو الصحيح في النظر، خلاف ما يأتي بعد هذا في رسم العتق.
وقد قيل: إنه إذا أقر أحد الورثة بأن الميت أوصى بعتق عبد، يعتق عليه نصيبه منه إن حمله الثلث، أو ما حمل منه. وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في أول سماع ابن القاسم، من كتاب الشهادات. وقيل أيضا: إنه يعتق عليه نصيبه منه، ويقوم عليه أيضا أنصبا سائر الورثة.
وقد مضى ذكر هذا الاختلاف وتوجيه كل قول منه هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بعتق عبده وبوصايا]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يوصي بعتق عبده وبوصايا، فيوجد العبد الثلث بعينه فيعتق، وتسقط الوصايا، ثم يستحق العبد، إما عبدا وإما حرا من أصله، فيأخذ الورثة ثمنه من بائعه،(13/178)
أو لا يأخذوا له ثمن، هل يرجع أهل الوصايا بوصاياهم على الورثة؟ قال ابن القاسم: أرى أن يرجع أهل الوصايا بوصاياهم في مال الميت، أخذ له ثمن ولم يؤخذ، وتكون وصاياهم في ثلث ما وصل إلى الورثة، وفي ثلث ثمن العبد، قبض أو لم يقبض. وقد قال ابن القاسم: لا شيء لأهل الوصايا في ثلث ثمن العبد، وهو كما طرأ لم يعلم به الميت.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والقول فيها أول رسم أسلم من هذا السماع قبل هذا، فلا معنى لإعادته.
[: قال عند موته إن فلانا وكلني بهذه الدار أحفظها وغلتها عليه]
ومن كتاب العتق
وسئل ابن القاسم عن رجل قال عند موته: إن فلانا وكلني بهذه الدار أحفظها وغلتها عليه، وإني كنت جحدته ذلك، فأسلموا إليه داره وغلته من سنة كذا وكذا. وأشهد على نفسه بهذا، ثم مات، أيكون ذلك من ثلثه؟ أم تسلم الدار ولم يكن له غيرها؟ قال: أرى أن ينظر في ذلك، فإن كان له ولد أسلمت إليه الدار، وإن كان لا ولد له، وإنما يورث كلالة، وكان الذي أقر له ممن يتهم عليه بصداقة أو قرابة لا يرث بها، لم أر أن يقبل قوله، وإن كان ممن لا يتهم عليه من الأباعد، رأيته أولى، وكان إقراره جائزا،(13/179)
ويقبل قوله، كان عليه دين أو لم يكن، إذا كان الإقرار يلحقه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن الدار التي أقر بها في مرضه لفلان، لم يعرف أصل ملكها له، ولو كان أصلها معروفا له، لما جاز إقراره بها لفلان في مرضه، وإن كان له ولد، على ما تقدم في آخر رسم الوصايا من سماع أشهب، ومضى الكلام على توجيهه.
وقوله: فإن كان له ولد أسلمت الدار إليه، يريد: كان ممن يتهم عليه أو مما لا يتهم؛ لأن الولد يرفع التهمة عنه في ذلك، وذلك إذا لم يكن عليه دين، وأما إذا كان عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز له الإقرار إذا كان قريبا أو صديقا ملاطفا، وهو نص ما في كتاب الكفالة من المدونة، وقوله إذا ورث كلالة: إنه إن كان الذي أقر له من يتهم عليه بصداقة أو قرابة لا يرث بها، لم أر أن يقبل قوله، هو المشهور في المذهب.
وقد قيل: إن ذلك يكون في الثلث، وهو قول ابن القاسم في رسم باع شاة من سماع عيسى، من كتاب العتق، ومثله في كتاب المكاتب من المدونة، وإن كان ممن لا يتهم عليه من الأباعد، رأيته أولى، وكان إقراره جائزا، يريد: بالدار، وهو صحيح بين إن لم يكن عليه دين، وأما إن كان عليه دين لا يفي به ما بقي من ماله بعد الدار، فلا يصح إقراره بالدار على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة في أن المريض لا يجوز له أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، فقوله: ويقبل قوله، كان عليه دين أو لم يكن، معناه: إن كان الدين الذي عليه يفي به ما بقي من ماله بعد الدار، وأما إن كان لا يفي به ما بقي من ماله بعد الدار. فإنما يصح أن ينفذ إقراره له بالدار، على قياس القول بأن للمريض أن يقضي بعض غرمائه دون بعض في مرضه، وهو ظاهر قول ابن القاسم في المديان من المدونة، وإن حمل قوله: ويقبل قوله كان عليه دين أو لم يكن، على أنه إنما أراد أنه يقبل قوله فيما أقر له به من الغلة كان عليه دين أو لم يكن، صح على ما فيه من بعد التأويل؛ إذ لا اختلاف في أن إقرار المريض بالدين لمن لا يتهم عليه جائز، وإن كان عليه دين يحيط بماله، والله الموفق.(13/180)
[مسألة: حضره الموت وفي يده أرض فقال إن هذه الأرض لفلان]
مسألة وسئل عن الرجل حضره الموت، وفي يده منزل أو أرض أكثر فيها من الغراس والبنيان، فقال عند موته: إن هذه الأرض والقرية لفلان، وإنما كانت في يدي بخلافة منه، وأنكر ذلك عليه ولده، وقالوا: إنها لك، وليس لغيرك قال: أرى أن يدفع القرية إلى من أقر له بها، ولا ينظر في ذلك إلى قول الولد، ولا يتهم الرجل على ولده الأجنبي.
قال محمد بن رشد: قد أتى القول على هذه المسألة في المسألة التي قبلها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته إني كنت قتلت فلانا عمدا أو خطأ فأعطوا ورثته الدية]
مسألة وسئل عن رجل قال عند موته: إني كنت قتلت فلانا عمدا أو خطأ، فأعطوا ورثته الدية، وأعتقوا عني رقبة، أيكون ذلك من الثلث أم من جميع المال؟ قال: فأما العمد فإنما يكون فيه القصاص، والذي أمر به من المال في ذلك، أراد به وجه الكفارة، فأرى أن ينفذ ذلك في ثلثه، قال: وأما الخطأ فإنما هو شيء أقر به مما كانت تحمله عاقلته، فأراه في الثلث أيضا، وكذلك العتق إنما هو من الثلث، ولو كانت عليه بينة تحق ذلك كان من الثلث أيضا، وهو قول مالك. قلت: ولم لا تكون دية الخطأ على العاقلة؟ يقبل إقراره به أولا حيا، ولا يقبل عند موته، قال: لأنه أوصى بها، فكأنه حملها على العاقلة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: لأنها وصية في العمد والخطأ، فتكون في ثلثه، ولا تكون دية الخطأ على العاقلة، وإن كان هو(13/181)
المقر بالقتل على القول بأن من أقر بقتل خطأ، تكون الدية بإقراره على العاقلة؛ لأنه قد أوصى بها كما قال، ولو لم يوص بها لم تكن على العاقلة عند من رآها عليها إلا بعد القسامة؛ لأنه جعل قوله لوثا يستحق الورثة الدية به مع قسامتهم. وقد قيل: إن الدية تكون في ماله قيل بقسامة، وقيل بغير قسامة، اختلف في ذلك قول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك عبدين فأدعى كلا منهما عتقه]
مسألة
قال: وسألت ابن القاسم عن رجل هلك وترك عبدين وابنين، وقيمة أحدهما ألف درهم، وقيمة الآخر ألفا درهم، فأتى الذي قيمته ألفان بشاهدين يشهدان له بالعتق، وأتى الآخر بابني سيده، يشهدان له أنه هو المعتق دون صاحبه، قال: أرى أن يبدأ الذي شهد له الأجنبيان، فيعتق في الثلث، ثم يرجع على الابنين، فيعتق عليهما الذي شهدا له بما حمل الثلث منهما جميعا إذا كان قولهما تكذيبا منهما للشاهدين اللذين شهدا على عتق الآخر قال: ولو إن الشاهدين شهدا على الميت أنه أعتق هذا في مجلس، وبتل عتقه حين أوصى، وشهد الابنان أنه أعتق هذا في مجلس آخر، وقال: لا علم لنا بما أشهدهما، إلا أنه أشهدنا على هذا، رأيت أن تثبت الشهادتان جميعا، وأن يسهم بينهما إذا كان للعبد الذي يشهد الابنان له لا يتهمان في جر ولائه لرداءته، فأيهما خرج سهمه عتق منه ما حمل الثلث، ورق ما بقي؛ لأنهما لم يرفعا شهادة الشهدين بأمر كذباهما فيه. قال: وإن اتهما في جر ولاء لم تجر شهادتهما، وذلك إذا شهدا أنه أعتق بعد الموت، وإن كان أعتق أحدهما بتلا، والآخر بعد الموت،(13/182)
كان المبتل مبدأ قبل صاحبه كان أو بعده، فإذا كانا جميعا مبتلين بدئ بالأول فالأول.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: من أنه يبدأ الذي شهد له الأجنبيان، فيعتق في الثلث؛ لأنه إذا شهد الشاهدان للذي قيمته ألفان بالوصية، وشهد ابنا الميت لآخر أنه هو الذي أوصى الميت بعتقه، وجب أن تكون شهادة الشاهدين أعمل من شهادة الابنين؛ لأنهما يتهمان على رد الوصية للعبد الذي قيمته أقل، وكذلك لو شهدا للذي قيمته أكثر أنه هو الذي أوصى أبوهما بعتقه، إن كان عبد يرغب في ولائه، فإذا بطلت شهادتهما بأخذ هذين الوجهين، وجب أن يعتق العبد الذي شهد له الأجنبيان بشهادتهما إن حمله الثلث، أو ما حمل منه، ثم يرجع بعد ذلك إلى الابنين، فيعتق عليهما من العبد الذي قال: إنه هو الموصي بعتقه ما حمل الثلث منه بإقرارهما له بالوصية لا بالشهادة.
وقال هاهنا في الرواية: إنه يعتق عليهما الذي شهدا له بما حمل الثلث منهما جميعا، وذلك بعيد؛ لأنهما مقران أن هذا العبد وحده هو الذي أوصى أبوهما بعتقه، فوجب أن يعتق كله عليهما إن حمله وحده الثلث، أو ما حمل الثلث منه، وكذلك قال في رسم العتق، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في نظير هذه المسألة، ولو كانت قيمة العبدين سواء، أو قال الابنان في الذي قيمته أكثر منهما: إن هذا هو الذي أوصى أبونا بعتقه، وكان لا يرغب في ولائه؛ لكان الحكم في ذلك على مذهب ابن القاسم، أن ينظر إلى أعدل البيِّنتين، فإن كان الابنان أعدل من الشاهدين الآخرين، ثبتت الوصية للذي شهدوا له، ولم يجب للآخر شيء.
وإن كان الشاهدان الآخران أعدل من الابنين، ثبتت الوصية للعبد الذي شهدا له، ورجع العبد الآخر على الابنين، فأعتق عليهما منه ما حمل الثلث بإقرارهما له بالوصية لا بالشهادة، ولو تكافيا جميعا في العدالة لسقطا، ورجع على الابنين العبد الذي شهدا له بالوصية، فأعتق عليهما ما حمل الثلث بإقرارهما له بالوصية بالشهادة، ومعنى ذلك، إذا(13/183)
لم يكن للميت وارث غيرهما، ولو كان له وارث غيرهما لم يعتق عليه منه بإقرارهما ما حمل الثلث على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك من أجل الضرر الداخل في ذلك على سائر الورثة، إلا أن يملكاه أو يملكه أحدهما بعد ذلك، فحينئذ يعتق على من ملكه منهما ما حمل الثلث من نصيبه، ولو كانت الشهادتان في مجلسين، لثبتا جميعا، وأسهم بينهما كما قال، إذا كان العبد الذي شهد له الابنان، لا يتهمان في جر ولائه لرداته، فأيهما خرج سهمه عتق منه ما حمل الثلث. ورق ما بقي وإن اتهما في جر ولائه، لم تجز شهادتهما، وكان الحكم في ذلك على ما تقدم في أول المسألة. وقوله في آخر المسألة: وذلك إذا شهدا أنه أعتق بعد الموت يبين أنه إنما تكلم في المسألة على أن الشهادة إنما هي بالوصية، فقوله: وبتل عتقه حين أوصى معناه بتل الوصية بالعتق.
وقوله: وشهد الابنان أنه أعتق هذا في مجلس آخر، معناه شهدا أنه أوصى بالعتق في مجلس آخر، وقوله: إنه إن كان أعتق أحدهما بتلا، والآخر بعد الموت، كان المبتل مبدأ به، اختلاف قد مضى تحصيله في رسم طلق ابن حبيب، من سماع ابن القاسم.
وأما قوله: وإن كانا جميعا بتلين، بدئ بالأول فالأول، فلا أعرف فيه نص خلاف، إلا أن الخلاف يدخل فيه بالمعنى، فيتحاصان على القول بأن له أن يرجع عما بتله في مرضه إن مات منه على ما وقع فيه رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الحبس، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته قد كنت أعتقت رقيقي إن لم أتصدق بمائة دينار]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل قال عند موته: قد كنت أعتقت رقيقي إن لم أتصدق بمائة دينار، وإني قد فعلت والحمد لله، ويميني في كتاب من كتبي، فأخرجوا ذلك الكتاب، ثم هلك، فوجد الكتاب بيمينه، وليس فيه ذكر إنفاذ الصدقة، وقال الرقيق: لم يرد(13/184)
شيئا، قال: القول في ذلك قوله، وليس يشهد في مثل هذا أحد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، كأنه لم يقر على نفسه بشيء يلزمه فيه شيء، لارتباط أول الكلام بآخره، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لورثته عند موته قد كنت حلفت بعتق رقيقي إن لم أعط فلانا مائة دينار]
مسألة وسألته عن رجل قال لورثته عند موته: قد كنت حلفت بعتق رقيقي إن لم أعط فلانا مائة دينار، فادفعوها إليه من ثلثي، فإن نقص الثلث خفت الحنث، فقال الورثة: نحن نتم ذلك من ميراثنا منك، وقال الرقيق: قد حنث. قال: لا أرى عليه حنثا، وهي مثل التي قبلها.
قال محمد بن رشد: قوله: وهي مثل الذي قبلها، ير يد أنها مثلها في أنه لا حنث عليه فيها؛ لأنها مثلها في المعنى الذي به، يسقط الحنث عنه فيها تلك سقط الحنث عنه فيها بتصديقه أنه قد بر؛ إذ لم تعلم يمينه إلا من قبله، وهذه سقط الحنث عنه فيها؛ لأن الثلث له حيا وميتا، وكذلك ما زاد الثلث، أذن له بذلك الورثة في حياته، فوجب أن يبدأ بالوصية في ذلك؛ لأن الموصى كالوكيل له على الدفع، ومن حلف ليعطين رجلا مالا، أو ليقضينه حقه إلى أجل، فوكل رجلا على ذلك، يبر بفعل الوكيل إذا أعطاه أو قضاه قبل الأجل، وهو قول ابن القاسم في رسم أسلم، من سماع يحيى، من كتاب الأيمان بالطلاق، ولا خلاف في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته إني قد كنت حلفت بعتق]
مسألة قلت له: فرجل قال عند موته: إني قد كنت حلفت بعتق(13/185)
رقيقي إن لم أعط فلانا مائة دينار، وعليه بذلك بينة، فما رأيكم وأنا اليوم لا دينار عندي ولا درهم؟ قال الورثة: نحن نضمن له ذلك في أموالنا، ولا تدخل علينا حنثا، فبعث إلى الرجل الذي حلف له، فكتب له على نفسه ذكر حق بالمائة ثم هلك الرجل، وقال العبيد: قد حنث، وعتقنا. قال: إن كانت المائة الدينار هبة، وترك مالا يحمل ثلثه المائة، رأيت ذلك مخرجا له؛ لأن الثلث له حيا وميتا، وإن كانت المائة دينا فقضاه في مرضه، فقد بر، قضاه من ماله أو من مال غيره، وإن ضمن له ذلك أحد، وارث أو غيره، فهو حانث، ومن ذلك، لو أن رجلا حلف بعتق رقيقه ليقضين فلانا حقه إلى أجل، ثم أحاله بما كان حلف له عليه، فإن مضى الأجل قبل أن يدفع إليه الذي أحيل عليه، فهو حانث.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه الرواية: إن كانت المائة الدينار هبة، وترك مالا يحمل ثلثه المائة، رأيت ذلك مخرجا له، دليل بين ظاهر على أنه لا يكون له في قول الورثة: نحن نضمن له ذلك في أموالنا مخرج إن لم تخرج المائة من الثلث، وذلك صحيح؛ إذ لا يبر الميت فيما حلف ليعطينه من ماله إذ لم يعطه في حياته، إلا أن يوصي أن يعطي بعد وفاته، ويحمل ذلك ثلثه، فإن لم يحمل ذلك ثلثه لم يبر، إلا أن يجيز له الورثة الوصية بذلك في حياته على ما قاله في المسألة التي قبل هذه إذا قال الورثة: نحن نتم ذلك من ميراثنا منك، وأما إذا قالوا: نحن نضمن له دلك في أموالنا، فلا يبر بذلك، كما لا يبر إذا أخرجوها من الثلث أن يوصي بذلك، وفي قوله: وأنا اليوم لا دينار عندي ولا درهم، دليل على أن له مالا سوى العبيد، ولا ناض له، وذلك سواء كان له مال سواهم أو لم يكن؛ لأن الاعتبار في ذلك، إنما هو هل تخرج المائة من ثلثه أو لا تخرج؟ فإن خرجت من ثلثه وأوصى بإخراجها بر بذلك، وإن لم يكن له مال سوى العبيد، وإن لم(13/186)
يوص بإخراجها حنث، وإن كان له مال سوى العبيد، يخرج منه، وان لم يخرج من ثلثه، فلا يبر بالوصية بإخراجها، إلا أن يجيز ذلك الورثة في حياته كما تقدم. وقوله: وإن كانت المائة دينا فقضاه في مرضه إلى آخر قوله صحيح، واحتجاجه على ذلك بالحوالة بين؛ لأن الحنث يدخل بأقل الوجوه، والبر لا يكون إلا بإخراجها كلها، فإذا حلف ألا يقضيه يحنث بالحوالة، وإذا حلف ليقينه، لا يبرأ بالحوالة.
وقد مضى هذا في رسم حمل صبيا، ورسم بع من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عبدي فلان حر وما بقي من ثلثي فلفلان فأبق العبد]
مسألة وسألته عن رجل قال: عبدي فلان حر، وما بقي من ثلثي فلفلان، فأبق العبد، قال: يقوم، فإن كان هو الثلث، فلا شيء للموصى له ببقية الثلث، وإن كان الثلث أكثر من قيمته، أعطى ما فضل عن قيمته.
قال محمد بن رشد: رأيت لابن دحون في هذه المسألة أنه قال فيها: هذه مسألة تحتاج إلى نظر: هل يقوم للعبد على إباقه ويعتق؟ أو يدخل في المال فيؤخذ ثلثه؟ أو تحال الوصية إذا قوم، ولعل العبد ميت، ومثل هذا يحتاج إلى نظر وشرح.
والذي يوجبه النظر في هذه المسألة عندي أن يقوم العبد يوم ينظر فيه على الصفة التي أبق فيها بعيب إباقه، وتنفذ له الحرية، فإن بقي من الثلث شيء، كان للموصى له ببقية الثلث، وإن لم يفضل من الثلث شيء عن قيمته، لم يكن للموصى له ببقية الثلث شيء، وإن انكشف أنه كان ميتا يوم قوم، وأنفذ له العتق، لم يكن للموصى له ببقية(13/187)
الثلث في ذلك حجة؛ إذ لم يوص له إلا بما بعد قيمته، نفذت له الحرية أو لم تنفذ، وإنما كانت تكون له في ذلك حجة، لو أوصى له بمال، فلم يحمل الثلث العبد والوصية بالمال، مثل أن يكون ترك الميت مائتي دينار، وأوصى بعتق عبد قيمته مائة دينار، وأوصى لرجل بمائة دينار، فأبق العبد، وقيمته مائة دينار، فإن الواجب في هذا أن يوقف للموصى له ثلث ما بقي بعد العبد، فإن انكشف أنه كان حيا يوم أعتق رد ما وقف إلى الورثة؛ لأن العتق قد نفذ فيه، وقيمته الثلث، فسقطت الوصية بالمال، لتبدئه العتق عليه، وإن انكشف أنه كان ميتا يوم أعتق بطل العتق فيه، وكان ما وقف للموصى له، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يخدم فلانا عبده عشر سنين ثم هو حر]
مسألة قال: وسألته عن رجل أوصى أن يخدم فلانا عبده عشر سنين، ثم هو حر، وأوصى بوصايا عتق وغير ذلك، متى يقوم المخدم أيوم أوصى له، أم يوم مات سيده؟ أم قيمته بعد عشر سنين؟ قال: قال مالك: تكون قيمة الذي أعتق بعد خدمة عشر سنين يوم تنفذ الوصايا، وينظر فيها، فإن كان في الوصايا عتق رقيق له بدئوا عليه، فإن فضل، يخرج المخدم فيها، ووصايا من أوصى له، أنفذت، وإن قصر الثلث عن المخدم، خير الورثة بين أن ينفذوا ما أوصى به من عتق المخدم إلى أجله، وإنفاذ الوصايا، وإن أبوا عتق من المخدم ما حمل الثلث بتلا، وسقطت الوصايا من الخدمة فيه، وعجل له العتق ساعتئذ، ولا يؤخر، وإن كان المخدم بعد من بتل له العتق، هو كفاف الثلث، أخرج وتحاص أهل الوصايا والمخدم في خدمته، على ما فسرت لك في المسألة الأولى.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على الأصول؛ لأن القيمة في الوصايا إنما تكون يوم النظر في تنفيذها، لا اختلاف في ذلك أيضا،(13/188)
إلا أن يكون الأجل قريبا كالشهر ونحوه، فقيل: إنه يبدأ عليه، وقيل: إنهما يتحاصان، فإن حمل ما بقي من الثلث بعد عتق الرقيق العبد المخدم خاصة، أو العبد المخدم وبعض الوصايا تحاص الموصى له بالخدمة مع أهل الوصايا في الخدمة خاصة، أو في الخدمة وما حمل بقية الثلث من الوصايا، وإن لم يحمل بقية الثلث بعد عتق الرقيق العبد الموصى بخدمته؛ خير الورثة كما قال بين أن ينفذوا جميع الوصايا، وبين أن يعتقوا ما حمل الثلث من العبد المخدم بتلا، وتسقط الوصايا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصي بمائة دينار ينفق منها عليه كل سنة منها كذا وكذا وعليه دين]
مسألة قال محمد بن رشد: قال وسألته عن رجل أوصي بمائة دينار ينفق منها عليه كل سنة منها كذا وكذا وعليه دين، فقال أهل الدين: عمره لنا، ثم أعطنا الفضل، فإن عمره لا يستتم المائة، قال ابن القاسم: ليس ذلك لأهل الدين؛ لأن ما فضل بعد موته، يرجع إلى ورثة الموصي إن لم يستكملها في حياته. قال: وكذلك قال مالك: إن فضلتها ترجع إلى ورثة الموصي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك لا يجب للغرماء؛ لأنه إن عمر قد ينقضي الأجل الذي عمر إليه وهو حي، فيكون من حقه أن ينفق عليه بما أوصى له به حتى يموت، فإن قضيت للغرماء بالفضل، كنت قد قضيت لهم بما هو أحق به منهم؛ إذ لا حق لهم فيما أوصى له به أن ينفق عليه، ولأن ما فضل بعد موته يرجع إلى ورثة الموصي كما قال، فلا حق للغرماء في ذلك في حال. وقد قال إسحاق: إن ذلك لا يرجع إلى ورثة الموصي إلا بتفسير، والذي ذهب إليه والله أعلم أنه إنما يرجع إلى ورثة الموصي ما فضل بعد موته إذا كان الثلث قد حمل الوصية بالعدد الذي سمى له(13/189)
في النفقة عليه، أو لم يحملها، فأجاز ذلك الورثة، وأما إن لم يحملها الثلث، فقطعوا له بالثلث، فلا يرجع شيء من ذلك للورثة، ويصير له بتلا، يورث عنه ما فضل منه على ما مضى قبل هذا في رسم العرية، ولو أراد الغرماء هاهنا أن يعمر لهم فيأخذوا الفضل لم يكن ذلك لهم عندي لما ذكرته من أنه قد يعيش أكثر مما عمر إليه، فيكون من حقه أن ينفق عليه من ذلك المال حتى يموت، ولو أراد الغرماء في هذه المسألة أن يأخذوا ما فضل عن نفقته في كل سنة مما سمى أن ينفق عليه فيما كان ذلك لهم على ما قاله في المسألة التي بعدها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى له بنفقة دينار كل شهر]
مسألة قال: وسألته عن رجل أوصى له بنفقة دينار كل شهر، فأجرى عليه ذلك عليه، وعليه دين، فقال أهل الدين: أعطنا فضل الدينار، فإن فيه فضلا عنه. قال: أرى ذلك لهم؛ لأن ما فضل عن نفقته مال له، ولا يرجع إلى ورثة الذي أوصى به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال بين يبين، ما لم يتكلم عليه في المسألة قبلها، والله الموفق.
[مسألة: أوصي له بمائة دينار سلفا]
مسألة قال: وسألته عن رجل أوصي له بمائة دينار سلفا، ثم مرجعها إلى فلان، فوسع الثلث المائة، أو ضاق عنها. قال: إن حمل الثلث المائة التي أوصى بها للرجل، دفعت إليه إلى الأجل الذي أوصى بها له، ثم هي رد على فلان الموصى له بها سلفا، ضامن لما نقص من المائة، وإن لم يسعها الثلث نظر إلى ما حمل الثلث منها، فدفع إليه، وكالت على حالها في يديه إلى الأجل الذي جعل فيها، تم ترجع إلى من بتلت له.(13/190)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأنه لو أوصى في الدنانير أن تحبس عليه مدة ما من الزمان أو حياته؛ لكانت سلفا، ولكان لها ضامنا، وإن لم ينص على الضمان، ولا قال: إنها سلف على ما في كتاب العارية من المدونة.
وقد مضى الكلام على هذا مجردا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس، فكيف إذا نص على أنه إنما أوصى له بالسلف، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه إن مت من مرضي هذا فغلامي مدبر]
مسألة وسئل عمن قال في مرضه: إن مت من مرضي هذا فغلامي مدبر، فقال: إن مات منه فهي وصية، وليس تدبيرا، وإن عاش فهي أيضا وصية يصنع فيها ما شاء، إلا أن يكون أراد تدبيرا.
قال محمد بن رشد: أما إذا صح من مرضه، فلا إشكال ولا اختلاف في أنها وصية، له الرجوع عنها، وتنفذ إن لم يرجع عنها، وقد كان كتب بذلك كتابا وضعه عند غيره، أو أقره عند نفسه، على أحد قولي مالك إذا أقره عند نفسه، وأما إن لم يكن كتب بذلك كتابا، فلا ينفذ حسبما مضى تحصيله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وأما إذا مات من ذلك المرض، فقال في هذه الرواية: إنها وصية، وليست تدبيرا، يريد أن لها حكم الوصية في جواز الرجوع له عنها في مرضه ذلك، فلا ينفذ إن مات منه، وفي أنه لا يبدأ على ما أوصى بعتقه من عبيده سواه، ولابن القاسم في كتاب ابن المواز ليس له الرجوع عن ذلك، وقد ثبت له التدبير، يريد أنه ليس له الرجوع عن ذلك، ويبدأ إن مات منه على ما أوصى به، ويعتق من عبيده، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه قد كنت حلفت بعتق رقيقي إن لم أتصدق له بمائة دينار]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل قال في مرضه: قد كنت حلفت(13/191)
بعتق رقيقي إن لم أتصدق له بمائة دينار، فأخرجوها من ثلثي، فقال الرقيق: قد حنث حين مات. وقال الورثة: ثلثه بعد موته، بمنزلة ماله في حياته. قال: إن حمل الثلث المائة رأيته قد بر؛ لأن حاله في ثلثه ميتا، كحاله في ماله حيا، وليس هو بمنزلة من قال: قد كنت حنثت في صحتي؛ لأن المقر بالحنث في الصحة إنما أراد أن يكون ذلك من رأس المال، وأن هذا إنما أقر بيمينه في المرض، فكأنه إنما أراد أن يجعلهم في الثلث، فهو حانث إلا أن يسع الثلث المائة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة، والتكلم عليها في هذا الرسم بعينه، فلا معنى لإعادته، وأما الذي يقر في مرضه بالحنث في صحته، فقد مضى الكلام عليه في رسم أمهات الأولاد وغيره، وبالله التوفيق.
[: يتصدق في مرضه بثلث دار له وفي الدار طوب وخشب]
ومن كتاب الثمرة وسألته عن الرجل يتصدق في مرضه بثلث دار له، وفي الدار طوب وخشب، أراد أن يبني به، فقال المتصدق عليه: لي ثلث الطوب والخشب، وأبى الوارث أن يكون ذلك له، قال: ليس له في الطوب والخشب شيء.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الصدقة في هذا كالبيع، فلا يدخل في الصدقة إلا ما يدخل في البيع.
وقد مضت هذه المسألة متكررة في الرسم من هذا السماع، من كتاب الصدقات والهبات، ومضى عليها هناك، وبالله التوفيق لا شريك له.
تم الثالث من الوصايا بحمد الله، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.(13/192)
[: كتاب الوصايا الرابع] [قالت في مرضها وهي توصي ثلث مالي حر فلان غلامي حر]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة قالت في مرضها وهي توصي: ثلث مالي حر، فلان غلامي حر، قال: أرى أن يعتق الغلام، ويبدأ في ثلث المال، فإن فضل منه شيء، اشتريت منه رقاب، فأعتقت، قلت: فإن كان لها رقيق، أترى قولها ثلث مالي حر يوجب لهم وصية بعتاقة؟ قال: نعم، ويقرع بينهم بعد عتق الذي نصت، إن لم يحمل الثلث عتقهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن العتق المعين يبدأ على ما سواه مما ليس بمعين، ولا اختلاف في هذا أحفظه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلث ماله لأم أولاده]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يوصي بثلث ماله لأم أولاده، وله منها أولاد، أو ولد له منها. قال: ذلك جائز لها. قلت: أما ترى أنه أراد بذلك غنى ولدها منه إن كان منها ولد؟ فكأنه أوصى لولده، قال: لا ولكن يحمل من ذلك ما تحمل؛ لأنها تعتق بعده، وتكون أحق بما أوصى لها به، ولعلها أن ترث جميع ولدها، والأمر الذي خيف عليه في الوصية لها غيب محجوب، ولا(13/193)
ترد الوصايا بالظن، قال: ومثل ذلك المرأة توصي لابن زوجها من غيرها، وقد سمعت مالكا يجيزه، ولا يرى رده. قلت: والمرأة توصي لأم ولد زوجها أتجوز الوصية لها؟ قال: أما الشيء التافه اليسير الذي يرى أنها لم ترد به إلا الأم ولو لقلته، ومثل ذلك يوصي به لمثلها، فهو جائز وإن كان كثيرا يرى أنها إنما أرادت به المحاباة لزوجها، فهو مردود على الورثة؛ لأن مال أم الولد هو للسيد إن أحب نزعه منها نزعه.
وأما ما أوصت به المرأة لأبوي زوجها أو لإخوته، أو لأخواته، أو بعض قرابته، أو بعض أخواته المصافين له، أو كل ما يخشى أن يكون إنما أرادت رد ذلك على زوجها حين أوصت به لبعض هؤلاء، غير أن الذي يتهم به لا يعرف، ولم يظهر شيء من سبب يدل عليه إلا ظنا؛ فإنه ماض لمن أوصى له به، ولا ترد وصيتها لسوء الظن بها، ولعل الذي أوصت له لا يريد أن يعطى الزوج من ذلك قليلا ولا كثيرا.
قال: وسواء أوصت للذي توصي له بالمهر الذي على زوجها أو غيره. قال أصبغ مثله، وكذلك وصية الرجل لولد ولده، وأبوهم وارث حي، فهي جائزة، ولا ترد بالظنة؛ قيل لأصبغ: فهل على الموصى له يمين في هذه المسائل كلها، أن ذلك لم يكن توليجا من الميت إليه ليرده على وارثه؟ قال: لا يمين عليه، وهو مدين، وسواء كانت وصيته على أجنبيين أو ذوي قرابة، لا يمين عليهم، ولا يرد ما كان من فعل الميت في ذلك بالظنة والتهمة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة كلها صحيحة لا اختلاف فيها، حاشا قول أصبغ: إنه لا يمين على الموصى له؛ أن الوصية إليه لم(13/194)
يكن يرد ذلك على الوارث؛ لأنها يمين تهمة يدخل فيها الاختلاف المعلوم في لحوق يمين التهمة، ولو حقق أحد الورثة عليه الدعوى بذلك لحقته اليمين باتفاق، وكان له ردها، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان كذا وكذا ولفلان كذا من مالي في ثلثي]
مسألة قال يحيى، وسألت ابن القاسم عمن أوصى فقال: لفلان كذا وكذا، ولفلان كذا من مالي في ثلثي، ثم فلان غلامي حر. قال: يبدأ الأول، ثم الثاني بوصيتهما في الثلث، ثم يعتق العبد في فضله إن بقي بعد وصيتهما شيء، قال: وإن ضاق الثلث عن وصيتهما تحاصا.
ولم يبدأ الذي قال له كذا وكذا في ثلثي على الآخر، الذي قال له كذا وكذا، ولم يقل في ثلثي. قال: ولو قال أيضا لفلان كذا في ثلثي، ولفلان كذا وكذا، ولم يقل في ثلثي، ولفلان ثلث مالي أو سدسه، أو جزء من أجزائه، تحاصوا أجمعون في الثلث، إلا أن يكون الموصي أمر بتبدئة أحد منهم، فيبدأ بالذي نص له في الوصية جزءا من ماله، أو عدة من الدنانير والدراهم، أو أوصى له بشيء بعينه، ذلك كله عندنا سواء، يتحاصون جميعا بحساب ما أوصى لهم إلا أن يبدئ أحدا منهم فيبدأ اتباعا لأمره، وإنفاذا لوصيته، والعتاقة مبدأة أبدا، إلا أن يؤخرها الموصي فتوضع حيث رضي، وتؤخر حيث جعلها، ولا يخالف فيها ما أوصى به؛ لأنه أحق بثلثه، يضعه حيث أحب.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله، صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في شيء منه إلا فيما قاله من أن الوصية بالجزء وبالعدد أو بالشيء بعينه سواء، يتحاصون في ذلك كله، فإن فيه اختلافا قيل: إنه يبدأ العدد على الجزء، وقيل: إنه يبدأ الجزء على(13/195)
العدد، وقيل: إنهما يتحاصان وهو المشهور في المذهب، والثلاثة الأقوال لمالك، إلا أن يقول لفلان ثلثي، ولفلان منه كذا وكذا، فيبدأ العدد على الجزء، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وفي رسم الوصايا من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يقول في وصيته ثلث عبدي فلان حر وأعطوه ثلث بقية مالي]
ومن كتاب الصبرة
وقال في رجل يقول في وصيته: ثلث عبدي فلان حر، وأعطوه ثلث بقية مالي؛ أنه لا يعتق منه إلا الثلث الذي جعله عتيقا من رقبته، ولا يعتق ما بقي منه في بقية الثلث، ولا يعطاه إلا ما لا يجعل في رقبته منه شيء، وليس هو مثل العبد الذي يوصي له سيده بثلث جميع ماله، فيجعل ذلك الثلث في عتق رقبته.
قال محمد بن رشد: في قوله: إنه لا يعتق من العبد إلا ثلثه الذي أوصى السيد بعتقه، وهو قد أوصى له بثلث بقية ماله نظر؛ لأن ثلثي رقبته الباقيين منه من ماله، وهو قد أوصى له بثلث بقية ماله، فوجب على قياس قوله أن يعتق على نفسه ثلث الثلثين الباقيين من رقبته؛ لأنه قد ملكه ذلك؛ إذ أوصى له بثلث ما بقي من ماله، وإذا أعتق على نفسه شيء منه وجب أن يقوم عليه بقيته في ماله، على قياس قوله، فلم يعرف في هذه الرواية بين أن يوصي له بعتق ثلثه، وبثلث ما بقي من ماله، وبين أن يوصي له بعتق ثلثه وبقية ثلث ماله، وهما مفترقان في وجه القياس.
وقد مضى هذا في رسم أسلم من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[: يوصي فيقول أعطوا فلانا مائة ولا يذكر دراهم ولا دنانير]
ومن كتاب الصلاة وسئل عن الرجل يوصي فيقول: أعطوا فلانا مائة، ولا ينص(13/196)
دنانير ولا دراهم، قال: سمعت مالكا يقول: يعطى مائة درهم، فإن أوصى في وصيتين، فقال في إحداهما: أعطوه عشرين دينارا، وقال في الأخرى: أعطوه ثلاثين دينارا، لم يعط ما في الوصيتين، ولكن يعطى الأكثر مما في الوصيتين، وذلك ثلاثون دينارا، قال: وإن قال في إحدى الوصيتين: أعطوه مائة درهم، وقال في الأخرى: أعطوه مائة دينار، أعطي ما فيهما جميعا؛ المائة درهم والمائة دينار. قال: وكذلك لو أوصى له في إحداهما بفرسين، وفي الأخرى بثلاثة، أعطي ثلاثة، ولم يعط ما في الوصيتين، ولو أنه أوصى له في إحداهما بفرسين، وفي الأخرى بجملين، أعطى ما في الوصيتين جميعا قال: وعلى هذا النحو الذي بينت لك، يحمل كل ما أوصى به المرء في وصيتين، يختلف ما فيهما من الثياب والحيوان والدنانير والدراهم، وجميع العروض، إذا كان ما في الوصيتين من صنف واحد مختلف العدد، أعطي الأكثر ولم تجمع له الوصيتان، وإذا كان ما فيهما من صنفين مختلفين، اتفق العدد أو اختلف، فله ما فيهما جميعا.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوصى له بمائة، ولم يقل دنانير ولا دراهم، فقوله: إنه يعطى الدراهم، معناه إذا كان البلد إنما يجري فيه الدراهم، أو كان تجري فيه الدراهم والدنانير، ولم يكن في وصية الميت ما يدل على أنه أراد الدنانير، مثل أن يقول: لفلان عشرون دينارا، ولفلان مائة، ولا يسمي دنانير ولا دراهم، فله الدنانير: هذا كله قاله في سماع أصبغ في أول رسم منه، وهو مفسر لهذه الرواية، وكذلك إذا أوصى له بعدد محدود من الطعام، ولم يقل قمحا ولا شعيرا يجري على هذا القياس، إن كان غالب ما يتقوت به الناس في البلد القمح، أو كان في وصيته ما يدل على أنه أراد القمح، فله القمح، وإلا فله الشعير، وأما إذا أوصى له بوصيتين، في(13/197)
الأولى بعشرين دينارا، وفي الثانية بثلاثين دينارا، فقوله في هذه الرواية: إنه يعطى الأكثر منهما ولا يعطهما جميعا، هو نص قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وسواء على مذهبه كانت الأولى هي الأقل أو الأكثر، وسواء أيضا كانتا في كتاب واحد، أو في كتابين، وقال مطرف: إن كانت الأولى هي الأكثر، أو كانتا متساويين، فله الوصيتان جميعا؛ لأن أمره يحمل على أنه استقل ما أوصى له به أولا، فزاده عليه ما أوصى له به في الثانية، وإن كانت الأولى هي الأقل، فله الثانية وحدها؛ لأن أمره يحمل على أنه استقل ما أوصى له به أولا، فرجع إلى ما أوصى له به آخرا؛ إذ لا يزاد الكثير على القليل، وسواء كان ذلك في كتاب واحد أو في كتابين، وقال ابن الماجشون كما قال ابن القاسم: إن كانت الوصيتان في كتابين، وكما قال مطرف: إن كانت في كتاب واحد، قال: وذلك إذا كان بين الوصيتين وصايا لغيره، وأما إن لم يكن بينهما إلا كلام من غير الوصية، فذلك بمنزلة إذا نسق الوصيتين، أحدهما بعد الأخرى، فقال لزيد عشرة، ولزيد عشرون، فإنه يكون له العشرة والعشرون، قال: ولو قال لزيد عشرة لزيد عشرون بغير ولو لم يكن له إلا العشرون، وكذلك على مذهبه لو قال: لزيد عشرون لزيد عشرة، بغير واو، لم يكن له إلا العشرة، قال ذلك تأويلا على ما رويناه عن مالك، من أن له الوصيتين إن كانت الأولى أكثر.
والثانية وحدها إن كانت الأولى أقل؛ إذ لم يسهما منه تفرقة بين أن تكون الوصيتان في كتابين، أو في كتاب واحد، ولا مساواة بين ذلك، ووجه قول ابن القاسم: إن له الأكثر من الوصيتين كانت الأولى أو الآخرة، هو أنه إن كانت الأولى أكثر، فقد تحققت الوصية بها، وشككنا في الثانية إن كانت ناسخة لها، أو زيادة عليها، فلم تنسخ الأولى بالشك، ولا حكمنا للثانية بأنها زيادة على الأولى بالشك أيضا فبطلت، وأما إن كانت الثانية أكثر، فالوجه ما قاله مطرف، وأما إذا أوصى له بوصيتين، إحداهما دنانير، والأخرى دراهم، فاختلف قول ابن القاسم في ذلك، قال في هذه الرواية، وهو قوله في رواية سحنون عنه: إنهما له(13/198)
جميعا كالصنفين، وروى عيسى عنه في المدونة: أن له الأكثر منهما، كالصف الواحد، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة: إنهما كالصنف الواحد، فإن كانت الثانية الأقل، كانتا له جميعا، وإن كانت الأكثر، لم يكن له سواها على أصلها في الوصيتين من الدنانير والدراهم، إحداهما أكثر من الأخرى، ويعتبر ذلك بمعرفة الصرف والقولان قائمان من المدونة والحيوان والعروض والدور والمكيل والموزون من الطعام وغيره عند ابن القاسم، سواء إن أوصى له بوصيتين من صنف واحد من ذلك كله، كان له الأكثر من الوصيتين، كانت الأولى أو الآخرة، وإن أوصى له بوصيتين من صنفين من ذلك كله، كانت الوصيتان جميعا، كان ذلك في كتاب واحد أو في كتابين، أو في لفظ بغير كتاب.
وذهب مطرف وابن الماجشون، إلى أنه إن كانت الوصيتان من العروض، فله الوصيتان جميعا، كانتا من صنفين أو من صنف واحد، اتفق عددهما أو اختلف، بمنزلة إذا أوصى له بعين وعرض، سواء كانت الوصيتان في كتابين، أو في كتاب واحد، ولابن الماجشون في ديوانه، أنه إذا أوصى له بعرضين مختلفين، فإن كان ذلك في وصية واحدة، كانتا له جميعا، وإن كان ذلك في وصيتين كان له الأكثر من قيمتهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي للرجل بعشرة دنانير ولآخر بعشرين]
مسألة وقال في الرجل يوصي للرجل بعشرة دنانير، ولآخر بعشرين، ثم يقول: وبقية ثلث مالي لفلان، ثم يوصي بعد يوم أو أيام بوصايا ينصها من تسمية مال أو شيء بعينه، مثل العبد أو الدار أو الثوب أو الدابة، إن الذي أوصى ببقية الثلث، لا يعطي شيئا حتى يكون في الثلث فضل عن الوصايا المسماة للذين أوصى لهم حين جعل لهذا ببقية الثلث، والوصايا والآخرة التي أوصى بها بعدما جعل لهذا بقية الثلث، تنفذ للأولين وللآخرين وصاياهم، فإن فضل من الثلث(13/199)
بعد، فهو للموصى له ببقية الثلث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم أسلم، من سماع عيسى، ويفسره ما ذكره محمد بن المواز، وقد مضى الكلام عليه هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في وصيته ثلث مالي في سبيل الله ثم قال يقسم ثلثي أثلاثا]
مسألة قال: وإن قال رجل في وصيته: ثلث مالي في سبيل الله، ثم قال بعد ذلك بيوم أو بيومين: يقسم ثلثي أثلاثا فثلثه للمساكين، وثلثه في الرقاب، وثلثه يحج به عني، قال: الثلث يقسم نصفين، فنصف في سبيل الله، ويقسم النصف الثاني أثلاثا على ما نص في وصيته، وذلك لأنه يحاص بين الوجه الذي أوصى فيه بالثلث كاملا، وبين الوجوه التي أوصى فيها بالثلث، فيصير لأهل كل ثلث نصفه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، من أن الرجل إذا أوصى بشيء بعينه لرجل، ثم أوصى به بعد ذلك لرجل آخر؛ أنه يكون بينهما، إلا أن يكون في الوصية الثانية ما يدل أنه قد رجع عن الأولى، ومثل أن يقول: الشيء الكذا الذي أوصيت به لفلان، فهو لفلان رجل آخر بخلاف الحرية؛ إذ لا يشترك فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في وصيته وفروا لأمي لضعفها سهما في كتاب الله]
مسألة وقال في الرجل يقول في وصيته: وفروا لأمي لضعفها سهما في كتاب الله، وثلثي ما عدا ما ينقص الثلث بتوفير سهم أمي صدقة على فلان، يريد: أن يخرج الثلث من جميع ما له، إلا سهم أمه،(13/200)
لا يخرج منه ما يقع عليه من قسمة الثلث. قال: ويخرج الثلث للموصى له على حال ما أوصى به، ثم ترد الأم سهما، فيضاف إلى بقية المال، فيقسم على الورثة على كتاب الله، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» ، فهو يريد أن يفضل أمه لتوفير سهمها، فلا يدخل عليها أهل الوصايا، ويدخلون على سواها فينقصون كلهم سواها، فهذا لا يجوز، قيل له: فلو قال: أعطوا أمي سهمها، ثم قال: لفلان سدس مالي. قال: تنفذ الوصية على حال ما قال، ثم يجمع سهم الأم إلى بقية المال، فتعاد فيه القسمة على كتاب الله.
قال محمد بن رشد: هاتان المسألتان بيِّنتان لا اختلاف فيهما، ولا إشكال في شيء من معانيهما، وما قاله من وجه العمل فيهما صحيح، إذا لم يجز الورثة للأم الوصية بتوفير سهمها، وبالله التوفيق.
[مسألة: كاتب جميع رقيقه في مرضه فلم يجز ذلك الورثة]
مسألة قلت لابن القاسم: أرأيت إن كاتب جميع رقيقه في مرضه، فلم يجز ذلك الورثة، والثلث بهم ضيق، أليس يعتق من كل واحد منهم ثلثه؟ قال: بلى، قلت: ولم لا يقرع بينهم في الثلث؟ قال: أرى إذا قطع الورثة الثلث أن يسهم بينهم فيه كالموصى لهم بالعتق.(13/201)
قال محمد بن رشد: قوله: والثلث بهم ضيق، يدل على أن له مالا سواهم، وإذا كان له مال سواهم، فلم يحملهم الثلث، ولا أجاز الورثة الوصية بكتابتهم، فالواجب إذا قطع الورثة لهم بالثلث أن يعتقوا فيه بالحصص، مثال ذلك: أن يترك ثلاثة أعبد، قيمة كل واحد منهم ثلاثون دينارا، وله سواهم ثلاثون دينارا، فجميع المال مائة وعشرون الثلث من ذلك أربعون، يكون بين العبيد بالحصص، فيعتق من كل واحد منهم أربعة أتساعه؛ لأن الأربعين من قيمة العبيد، وهي تسعون، أربعة أتساعها، وإنما يعتق من كل واحد منهم ثلثه على ما قال، إذا لم يكن له مال سواهم، وهذا على قوله أولا.
وقوله آخرا: إنه يسهم بينهم في الثلث إذا قطع لهم به الورثة، خلاف قوله أولا، فوجه قوله أولا: إنه لا يقرع بينهم، ويعتقون بالحصص في الثلث، هو أن السنة في القرعة إنما جاءت في الوصية بالعتق، وقيس المبتلون في المرض عليهم، والوصية بالكتابة بخلاف ذلك، ووجه قوله آخرا: إنه يقرع بينهم، هو أن الوصية بالكتابة لما لم تنفذ إذ لم يحملها الثلث، ورجعت إلى العتق في الثلث، كانت كالوصية بالعتق، وأيضا فإنها أعدل؛ لأنه إذا أعتق من كل واحد ثلثه، إذا لم يكن له مال غيرهم، أو أعتق منهم بالحصص مبلغ الثلث إن كان له مال غيرهم، فقد أخذ الميت أكثر من ثلث ماله؛ لأن العبد إذا أعتق بعضه نقصت قيمته، وبالله التوفيق.
[: يقول في وصيته ساجي الطرازي لفلان]
ومن كتاب أوله يشتري الدار والمزارع وسألته عن الرجل الذي يقول في وصيته: ساجي الطرازي لفلان، أو عبدي فيوجد له عبيد بذلك الاسم، أو سيجان طرازية. قال: ينظر إلى عدة السيجان أو العبيد، فإن كانوا خمسة، فله(13/202)
خمس قيمة كل واحد منهم، وإن كانوا ثلاثة، فله ثلث قيمتهم، ويعطى ثلث القيمة في العبيد أو السيجان بالسهم بالغا ما بلغت، صار له فيها ساج أو ساجان، أو عبد أو عبدان.
قلت: ولم أمضيت له الوصية، والشهود لم يثبتوا العبد بعينه، والساج بعينه؟ قال: إنما ترد هذه الشهادة التي ذكرت، إذا شهدوا عليه في صحته أنه أعتق عبده فلانا، أو تصدق به على رجل، وله عبيد بذلك الاسم، وهو منكر لما شهدوا به عليه، فيقال لهم: أي عبد تشهدون أنه أعتقه أو تصدق به على فلان؟ فيقولون: لا نعرفه بعينه، إلا أنه قال: عبدي فلان، وله عبيد بذلك الاسم، فتسقط شهادتهم، فلا يثبت العتق، ولا تجوز الصدقة لإنكاره إذا لم يقطعوا الشهادة عليه، فأما في الوصية، فإنه إذا قال: ساجي الطرازي، أو عبدي فلان، فلا يعرف بعينه، فهو كمن قال: ساج من سيجاني، أو عبد من عبيدي صدقة على فلان، فيكون شريكا فيهم أجمعين، فإن كانوا عشرة فبعشرهم، وإن كانوا عشرين فبنصف عشرهم.
قال: وإنما هذا عندنا من نحو الرجل يوصي بعتق عبد من عبيده ولا ينصه، فإن كانوا عشرة عتق عشرهم بالسهم، وإن كانوا خمسة عتق خمسهم بالسهم، بالغا ما بلغ من عددهم، قلت: أتجريه في الصدقة مجرى العتاقة إذا هلك بعض السيجان أو بعض العبيد، فيكونون شركاء فيما بقي منهم بقدر السهم الذي كان وجب لهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: إذا سمى الشهود العبد أو الثوب، ولم يعينوه من جملة الثياب والعبيد، ولا عينه الميت لهم، واتفقت أسماء العبيد أو(13/203)
صفات الثياب، فقال في هذه الرواية: إن ذلك بمنزلة أن يقول: عبد من عبيدي حر، أو ثوب من ثيابي لفلان، ولا أعرف في هذا نص خلاف، إلا أن يدخل فيه الخلاف بالمعنى، فإن أدخلنا فيه الاختلاف بالمعنى، تحصل في المسألة ثلاثة أقوال في الصحة، وثلاثة أقوال في المرض أيضا، أحدها: أن الشهادة لا تجوز. والثاني: أنها جائزة. والثالث: الفرق بين أن يعينه المشهود عليه للشهود فينسوه، أو لا يعينه لهم ويسميه باسمه، فيوجد له عبيد بذلك الاسم سواه.
وأما إن عينه الموصي للشهود في صحته، أو في مرضه، فنسيه الشهود، أو عينه المشهود عليه للشهود في غير الوصية، فنسوه أو شكوا فيه، ففي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الشهادة باطلة في الوصية بعد الموت، وفي الشهادة في الصحة في غير الوصية. روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وهو قول أشهب في أول سماع سحنون، وقول ابن كنانة في المجموعة. والثاني: أن الشهادة عاملة في الوجهين جميعا، وهو قول ابن القاسم في أصل الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق، وقول ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه إذا جازت الشهادة في الصحة، فأحرى أن تجوز في الوصية بعد الموت. والثالث: الفرق بين الشهادة في الصحة وبين الشهادة في الوصية بعد الموت.
وقد مضى هذا في رسم سلف، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، وفي رسم يدير من سماع عيسى أيضا، من كتاب المديان والتفليس، فعلى القول يجوز الشهادة، وهو قوله في هذه الرواية، يكون الحكم في ذلك حكم من قال في مرضه: عبد من عبيدي حر، أو ساج من سيجاني لفلان، وفي ذلك ثلاثة أقوال؛ أحدها: قوله في هذه الرواية: أنهم إن كانوا ثلاثة، عتق ثلثهم بالسهم، خرج فيه واحد أو أقل أو أكثر، أو ربعهم إن كانوا أربعة أو خمسهم، إن كانوا خمسة، أو نصفهم إن كانوا اثنين، إلا أن يحمل نصفهما الثلث، فيعتق منهما بالسهم ما حمله الثلث، وكذلك في الثياب عن هذا القياس،(13/204)
ومثله في العتق الأول من المدونة في باب السهم. والقول الثاني: أنه يعتق منهم واحد بالسهم، قلت قيمته أو كثرت، إلا أن يكون أكثر من الثلث، فيعتق منه قدر الثلث، وكذلك إن أوصى بعتق عدد سماه من عبيده، يعتق عددهم بالسهم، ولا ينظر في ذلك إلى الجزء، وهذا القول بين في كتاب الوصايا الأول من المدونة.
وقد قيل: إنه يقوم أيضا بدليل من كتاب العتق الأول منها ذهب إلى ذلك ابن لبابة، وليس ذلك عندي بصحيح. والقول الثالث: أنه إن أوصى بعتق عبد من عبيده، عتق من كل واحد منهم ثلثه إن كانوا ثلاثة، أو ربعه إن كانوا أربعة، على الحصص دون سهم، لا على الأجزاء، ولا على العدد، وهو الذي يأتي على ما مضى في رسم سلف، من سماع عيسى، ويختلف متى ينظر إلى عددهم؟ فقيل يوم التقويم، ومن مات منهم قبل ذلك، فكأن لم يكن، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وقيل يوم أوصى، ولا يلتفت إلى من مات بعد ذلك وقبل التقويم، وهو قول ابن الماجشون، وابن كنانة، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بثلث ماله ولرجل بعبد له فأجاز الورثة الوصية كلها]
مسألة وقال في الرجل يوصي لرجل بثلث ماله، ولرجل بعبد له، فأجاز الورثة الوصية كلها؛ أنه ليس عليهم أن يخرجوا لصاحب الثلث إلا ثلث جميع المال، يحسب على الموصى له بالثلث في وصيته ثلث العبد الموصي به للرجل الآخر، وليس عليهم أن يوفروا له قدر ثلث الميت، ويخلص للموصى له بالعبد ذلك العبد، ولكن إذا بروا من ثلث جميع المال سوى العبد الموصى له بالثلث، وبروا من العبد إلى الموصى له به، فقد أجازوا الوصية، ثم تصير الدعوى في ثلث العبد بين الموصى له بالعبد، والموصى له بالثلث، فكلاهما قد أوصى له بثلث العبد؛ لأن الثلث يجري في جميع مال(13/205)
الميت، فيكون للموصى له ثلثا، ويقسم ثلثه بينه وبين الموصى له بثلث مال الميت؛ لأن ذلك الثلث قد أوصى به لهما جميعا من العبد، فلذلك قسم بينهما.
قال محمد بن رشد: سحنون يقول: إنه إذا أجاز الورثة كان العبد للموصى له به، والثلث كامل للموصى له به، ولا يحمل على أنه أدخل للموصى له بالثلث على صاحب العبد، ولا يكون رجوعا عن العبد، وبذلك قال أشهب، وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، ورواية علي بن زياد عنه فيها أيضا في الذي يوصي بسدس ماله لرجل، وبعبده لرجل وقيمته نصف الثلث؛ أن العبد يكون كاملا للموصى له به، ويكون الموصى له بالسدس شريكا للورثة بالخمس؛ لأن الواجب في ذلك على قياس رواية يحيى هذه، أن يكون للموصى له بالعبد خمسة أسداسه، وللموصى له بسدس المال، سدس ما سوى العبد من المال، ويكون سدس العبد بينهما، وقد روى ذلك أصبغ عن ابن القاسم، وأنكر ذلك محمد بن المواز، ولم يعجبه. فقال: إنه يأخذ الموصى له بالعبد جميع العبد، وللآخر خمس العين، وذلك مائة دينار، قاله إذا كانت قيمة العبد مائة دينار، وباقي مال الميت خمسمائة دينار، ولم يختلف إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمائة دينار، فأجاز الورثة ذلك، كأن عليهم أن يدفعوا الثلث كاملا للموصى له بالثلث، والمائة كاملة، للموصى له بها، لا يدخل عليه الموصى له بالثلث في شيء منها، وإجماعهم على الوصية بالعين مع الثلث إذا أجاز ذلك الورثة، يقضي على اختلافهم في الوصية بالعرض المعين مع الثلث، إذا أجاز ذلك الورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لقوم بوصايا لرجل بدار ولرجل بعبد]
مسألة وقال في الرجل يوصي لقوم بوصايا لرجل بدار، ولرجل بعبد، ولرجل بحائط، وما أشبه هذا من العروض، ولم يوص لأحد(13/206)
منهم بدنانير، ولا بدراهم، فضاق الثلث عن الوصايا، فلا يجيزها الورثة، فيردون إلى المحاصة في الثلث؛ أن وصاياهم تجعل لكل واحد منهم في الذي أوصى به لهم، يتحاصون في ثلث مال الميت، فيضرب كل واحد منهم بقيمة ما أوصى به، فإذا عرف ما ينوبه في المحاصة من قيمة وصيته، جعل ذلك له في الذي أوصى له به خاصة، لا ينقل منه إلى غيره.
قال: وإن كان أوصى لهم بمثل هذه الوصايا، وأوصى لرجل معهم بمائة دينار، فقطع الورثة لهم بالثلث، تحاصوا فيه، وقطع لهم الثلث من جميع مال الميت، ولم توضع وصاياهم فيما سمى لهم خاصة؛ لأن الثلث لا بد من أن يباع أو بعضه من الذي أوصى له بالمائة الدينار، فلذلك حالت وصاياهم، فصارت في الذي أوصى لهم به وفي غيره من جميع مال الميت.
قال محمد بن رشد: لم يفرق في المدونة هذه التفرقة، وذكر أن قول مالك اختلف في ذلك، فتفرقته في هذه الرواية قول ثالث في المسألة، ولو ترك الميت من الناض ما يخرج منه المائة الدينار التي أوصى بها للرجل؛ لكان ذلك بمنزلة إذا لم يوص بعين؛ لأنه علل ما ذهب إليه من التفرقة بين أن يكون أوصى بعين، أو لم يوص به، فإن الثلث لا بد أن يباع أو بعضه فيما أوصى به من العين، وسيأتي في الرسم الذي بعد هذا، وفي أول رسم من سماع أصبغ، إذا أوصى من العين بأكثر من ثلث ما ترك منه، والكلام عليه، وبالله التوفيق.
[: الرجل يعتق عبدا له إلى أجل ثم يوصي في مرضه بوضع الخدمة عنه]
ومن كتاب المكاتب قال: وسألته عن الرجل يعتق عبدا له إلى أجل، ثم يوصي(13/207)
في مرضه بوضع الخدمة عنه، وبعتاقة عبيد سواه يحاصهم أيهم يبدأ؟ قال: أرى له المحاصة مع الموصى لهم بالعتاقة، وأما إن كان معه مبتول العتاقة، أو مدبر مهم يبدءون عليه. قلت: فما يحسب في ثلث سيده مما يحاص به، أقيمته أم قيمة الخدمة مما بقي من أجلها؟ قال: بل، قيمة الخدمة.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن المعتق إلى أجل، إذا أوصى له بوضع الخدمة عنه يتحاص مع الموصى بعتقهم؛ لأن المعتق إلى أجل أحكامه أحكام العبد في جميع الأشياء، فلا فرق في التأكيد بين أن يوصي بتعجيل عتقه، وبين أن يوصي بعتق عبد آخر، فوجب أن يتحاصا إن ضاق الثلث عنهما، والقياس على هذا أن يحاص بقيمة رقبته، لا بقيمة خدمته، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم إن أمكنتني، من سماع عيسى، من كتاب العتق.
وقال أشهب فيه: لا يقوم في الثلث إلا قيمة خدمته، مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو أظهر؛ لأن العتق في الرقبة قد ثبت، وإنما بقي لسيده فيه الخدمة، ووجه القول الآخر ما ذكرناه من أن الحرية تبع للرق، وأما قوله: إنه إن كان معه مبتول العتاقة، يريد: في المرض، أو مدبر، فهم يبدءون عليه، يريد وعلى الموصى بعتقه، فالوجه فيه، إن له أن يرجع على الموصى بعتقه، وعن الموصي بوضع الخدمة عنه، وليس له أن يرجح عن المدبر، ولا عن المبتل في المرض، وقد قيل: إن له أن يرجع عنه، فعلى هذا القول، يتحاص الموصي بوضع الخدمة عنه، والموصى بعتقه، والمبتل في المرض.
وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى، وفي رسم طلق ابن حبيب، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(13/208)
[مسألة: يوصي لرجل بعشرة دنانير فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا]
مسألة قال يحيى: وسألته عن الرجل يوصي لرجل بعشرة دنانير، فيموت ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، فيريد الموصى له بالعشرة أن يتعجلها، ويقول الورثة: إذا تقاضينا أعطينا لها، قال: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، فينظر قدوم الغائب، أو يتقاصاها لنفسه، بمنزلة الإخوة للأم في فريضة ثلثهم.
قال محمد بن رشد: قوله: ولا يترك إلا مالا غائبا أو ديونا على الناس، معناه لا يترك مالا تخرج العشرة من ثلثه، إلا بماله من المال الغائب أو الديون؛ فقوله: يخير الورثة بين أن يعجلوها وبين أن يقطعوا له بالثلث، معناه أنهم يخيرون بين أن يعجلوها من الناض الذي ترك، وإن أحاطت به، وبين أن يقطعوا له بالثلث، ولو لم يكن له ناض أصلا لما لزمهم أن يعجلوا له العشرة من أموالهم، وإنما عليهم أن يعجلوها له من أول ما يقبض من الديون، وأن يبيعوا فيها أعجل ما يمكن بيعه من العروض، وكذلك يبيعون فيها من الديون إن كانت مؤجلة.
هذا معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه قال فيها: إن الرجل إذا أوصى للرجل من النقد بما لا يحمله ثلث ما ترك من العين، خير الورثة بين أن يعجلوا له ذلك، أو يقطعوا له بالثلث من جميع مال الميت، ومثله حكى أصبغ عنه وعن مالك وأصحابه كلهم في صدر سماعه بعد هذا من هذا الكتاب، وهو قول سحنون، قال: إذا أوصى الرجل بوصية، وماله ناض وغرض، فأراد الموصى له أخذ الناض، وقالت الورثة: لا نرضى في العروض، ونأخذ العين، فإنه يقال لهم: إن شئتم أن تسلموا العين، وإلا فأخرجوا الثلث كله، وزعم أنه أصل من العلم جسيم قال: وهو بمنزلة العبد يجني جناية(13/209)
تسوى درهمين، فيقال للسيد: افتكه، وإلا فأسلم العبد بالجناية. وذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم الورثة أن يدفعوا إلى الموصى له بالعين إلا ثلث الناض، وثلث كل ما ينض، إلى أن يستوفي وصيته، ولا يقال للورثة: إما أن تعجلوا للموصى له وصيته من العين، وإما أن تقطعوا بجميع الثلث، إلا أن يكون الذي أوصى له به من العين معينا، مثل أن يقول: ادفعوا إليه المائة التي تركت ناضة، أو التي لي عند فلان، وما أشبه ذلك، ولا اختلاف في الدنانير المعينة أنه يلزم الورثة أن يدفعوها إليه، أو يقطعوا له بجميع الثلث، وإنما الاختلاف في غير المعينة على ما ذكرناه، فذهب أصبغ إلى أنه لا يلزم أن يعجلوها له، وهو قول ابن القاسم في رواية ابن أبي جعفر عنه، فإنه قال: سألت ابن القاسم عن رجل أوصى لرجل عشرين دينارا، فلم يكن له من الناض إلا ثلث دينار، أو له دين على الناس، فطلب الموصى له أن يعطى ما أوصى له به، قال: ينتظر حتى يبيعوا ويقتضوا، وليس له أن يراكضهم، وإنما ذلك في الديون الغائبة التي يعطى ما سمى له أو يقطع له بالثلث، وبالله التوفيق.
[: كتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها وليس لها ولد]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى، وسألت عبد الله بن وهب عن امرأة خرجت من الأندلس تريد الحج، ثم تسكن الشام، فكتبت عند خروجها كتابا لبني زوجها، وليس لها ولد، إن أصابها قدرها في وجهتها، فلهم من رقيقها كذا وكذا رأسا سمتهم لهم، وجعلتهم في أيديهم وحازتهم لهم؛ ليكون لهم منفعتهم، وتركت رقيقا سواهم، وأنصبا في قرى، فلما بلغت مصر كتبت إلى رجل من الأندلس، تأمره في كتابها ببيع ما كان لها بالأندلس من رأس أو غيره، ولم تذكر في كتابها الذي أوصت به لبني زوجها أن يباع أو يترك، فأراد وكيلها بيع ما في(13/210)
أيدي بني زوجها من الرقيق التي أوصت بها لهم. وقال: إنها قد فسخت عليكم الوصية؛ إذ أمرت ببيع ما خلفت بالأندلس، وقال بنو زوجها: إنها قد تركت بالأندلس غير الذي أوصت به لنا، فذلك الذي أمرت ببيعه، ولم يذكر بيع ما أوصت به لنا، ولو أرادت أن يباع ذلك لذكرته، في كتابها باسمه، ولها بالأندلس رقيق وعقار، فذلك الذي أمرت ببيعه وسكتت عما في أيدينا، قال ابن وهب: أرى أن يوقف الرقيق التي أوصت بها لبني زوجها في أيديهم بحالها، ويكتب إليها لتبين أمرها، ويمنع الوكيل من بيعها، فإن رجعت عن وصيتها كان ذلك بيدها، وإن أمضت فالأمر إليها.
قلت: أرأيت إن ماتت قبل أن يعرف رأيها؟ قال: الوصية ماضية في ثلثها إذا لم يثبت رجوعها عن الوصية بالأمر البين حتى ماتت، وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى الذي كتبت به من بيع كل ما كان لها بالأندلس نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها حتى تموت، فتثبت الوصية لأهلها، ومما يبين ذلك أنها لو أشهدت في موضعها الذي سكنت، أو في سفرها بعد تلك الوصية أني قد تصدقت على فلان بكل مالي بالأندلس، إن ذلك يؤخذ منهم، وتكون الصدقة أثبت من الوصية، ولو أعتقت كل ما كان لها بالأندلس من رأس، لوجب العتق بجميع الرقيق، وكان ذلك نقضا للوصية.
قال محمد بن رشد: قد استدل ابن القاسم لقوله بما ذكره من التعلق بظاهر ما كتبت له، إذا أمرت ببيع كل ما كان لها بالأندلس من رأس، فرأى ذلك نقضا لوصيتها؛ لأن تلك الرقيق من مالها. وقول ابن وهب عندي أظهر؛ لأنها لما أوصت لبني زوجها بما أوصت به لهم من رقيقها وحوزتهم(13/211)
إياهم لتكون لهم منفعتهم طول حياتها، وجب لهم الانتفاع بها حياتها، ولم يكن لها أن ترجع عنه بأن تأمر وكيلها ببيع الرقيق بعد موتها؛ إذ قد وهبت منفعتهم حياتها هبة صحيحة مقبوضة، وإن كان لها أن ترجع عن الوصية بالرقيق لهم بعد موتها؛ لأن من أخدم رجلا عبدا حياته وحوزه إياه، فليس له أن يرجع فيه، فلما لم يصح لها ما كتبت به من بيعهم وإخراجهم عن أيديهم طول حياتها، وبطل توكيلها على ذلك بقيت الوصية على حالها، وبالله التوفيق.
[مسألة: كان وصيا لأبيه فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن وهب عن رجل كان وصيا لأبيه، فزعم أنه باع وصيفة لأخت له كانت في حجره، كان يليها يوم باع، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، فسئل البينة على ما ذكر من ذلك، فأتى بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته تلك، فأشهدهم عليها أنه قد اشترى لها رأسين بمائتي وسبعين دينارا، فسئل الشهود عن تفسير ما أشهدهم عليه، أذلك من ثمن الوصيفة أم لا؟ فقالوا: لا علم لنا، إنما أشهدنا عليها بأنه اشترى لها رأسين بمائتين وسبعين دينارا، فقبلت ورضيت، وقبضت الرأسين، ثم ادعت الأخت بعدما خرجت إلى زوجها، أن ثمن الوصيفة قبله، وأن الذي اشترى لها به الرأسين من غير ذلك من مورثها أو غيره، فجاء الوصي بالبراءة من جميع مورثها، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها بعد قبضها مورثها من أبيها، ولم يكن لها عنده إلا مورثها، وثمن الوصيفة التي باع لها، فهل ترى أن يبريه ما شهد به الشهود من ثمن الوصيفة أم لا يكون له براءة حتى يشهد الشهود أن(13/212)
الرأسين من ثمن الوصيفة بعينها؟ قال: أما إذ هو وصي ناظر. فأرى أن يحلف بالله ما اشترى الرأسين لها، إلا من ثمن الوصيفة، ويبرأ من ثمنها إلا أن تأتي أخته بالبينة أن لها قبله شيئا سوى ثمن الوصيفة، فينظر لها. قلت: فالسبعون دينارا التي زعم أنه زادها من عنده، أيتبعها بها؟ قال: إن مات الرأسان اللذان اشترى لها بالمائتين والسبعين، فلا تباعة له قبلها في السبعين، من أجل أنه أرادها من له بغير أمرها، وفي حين ولايته، ولم يكن ينبغي له أن يشتري عليها بأكثر مما لها قبله، فيجعلها غارمة مطلوبة بدين: قال: وإن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خيرت، فإن شاءت غرمت السبعين، وحبست ما اشترى لها، وإن كرهت ردتهما وأغرمته المائتي دينار ثمن وصيفتها.
قلت: أرأيت إن رضي أن يمضيها لها بالمائتي دينار، وتسقط عنها تباعته في السبعين التي زاد من ماله، أيلزمها حبسها أم ترد عليه الذي كان من زيادته في الثمن بغير أمرها؟ فقال: يلزمها حبسها؛ لأنه لا عدد لها في ردها إذا أوضع عنها تباعته فيما زاد بغير أمرها. قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم فقال: أرى يحلف بالله لقد أدخل المائتي دينار ثمن الوصيفة في الرأسين، ثم يبرأ، فقلت: لابن القاسم: فالسبعون الدينار، أيتبعها بها؟ قال: لا أرى ذلك عليها، وذلك أنه إن كانت البراءة قبل بيع الوصيفة، فهو أمر طاع به لها، أو شيء تورع عنه كان عنده من مالها، وإن كانت البراءة بعدما اشترى الرأسين ودفعهما إليها، فالبراءة حسم لما كان لها قبله من مورثها ومن ثمن وصيفتها، ونرى السبعين حينئذ قد دخلت في البراءة، فلا تباعة لواحد منهما قبل صاحبه بعد أن يحلفا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن الرجل كان وصيا(13/213)
لأبيه على أخته، وكانت في حجره، فلما خرجت إلى زوجها، وملكت أمر نفسها، ادعت عليه أنه كان باع لها وصيفة إذا كان ناظرا لها بمائتي دينار، ولم يدفع إليها ثمنها، فزعم أنه باعها بمائتي دينار، كما ذكرت، وأنه اشترى لها بثمن الوصيفة رأسين بمائتي دينار، وزاد من عنده سبعين دينارا، وأتى على ما ذكر من ذلك بشهود، فشهدوا أنه أدخلهم على أخته، فأشهدهم عليها بما ذكر من أنه اشترى لها رأسين بمائتين دينار، وسبعين دينارا، فقبلت وقبضت الرأسين، ولم يعلم الشهود إن كان ذلك من ثمن الوصيفة أم لا، فلما شهد له عليها بهذا، ادعت أنه إنما اشترى لها الرأسين مما كان لها بيده من مورثها، وغير ذلك من غير ثمن الوصيفة، فأتى هو بالبراءة من جميع مورثهما، وزعم أن ابتياعه الرأسين لها كان بعد أن ملكت أمر نفسها، وبعد أن قبضت مورثها، فهي تقول: المائتان والسبعون التي اشترى بها الرأسين، وأشهد علي بقبضها، إنما هي من غير ثمن الوصيفة، وثمن الوصيفة باق عنده، وهو يقول: لم يكن لها عندي غير ثمن الوصيفة، فقد ابتعت لها بذلك الرأسين بسبعين دينارا، زدتها من مالي سلف لها، فهي تطالبه بثمن الوصيفة، وهو يطالبها بالسبعين، فرأى ابن القاسم أن يحلفا جميعا، ولا يكون لواحد منهما على صاحب تباعة، يحلف هو لقد دخلت المائتان ثمن الوصيفة في ثمن الرأسين؛ إذ لم يكن بقي عنده لها من تركة أبيها سوى ما دفعه إليها، وأتى بالبراءة منه، وتحلف هي على ما ادعت من أنه إنما اشترى لها الرأسين بالمائتين وسبعين مما كان لها عنده سوى ثمن الوصيفة.
وقد بين ابن القاسم وجه قوله في أن السبعين تسقط عنها بيمينها بتوجيه ظاهر، وذلك أنه لما ابتاع لها الرأسين بأكثر من ثمن الوصيفة، ودفعها إليها، ولم يذكر لها الزيادة حتى قامت تطلبه بالأصل، كان ذلك شبهة لها، توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها، ولم ير ابن وهب هذه شبهة توجب أن تسقط عنها بها الزيادة مع يمينها.
فقال: إن القول قوله مع يمينه في أن الرأسين من ثمن الوصيفة؛ إذ لم يكن لها عنده مال سواه من مورث ولا غيره كما ادعت، فإذا حلف برئ من ثمن الوصيفة، وكان له معها في(13/214)
الزيادة التي زاد في ثمن الرأسين، حكم من أمر رجلا أن يبتاع له عبدا، فابتاع أكثر مما أمره، بزيادة لا تزاد على مثل الثمن، ودفعه إليه، ولم يعلمه بالزيادة، حتى فات بموت أو عتق؛ أنه لا شيء له منها عليه. وقوله: إن كان الرأسان بحالهما لم يتغيرا خبرت إلى آخر قوله، يحتمل أن يكون معناه إذا قام عليها بالزيادة، وطلبها منها بقرب ما دفع إليها الرأسين، على ما مضى القول فيه في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب البضائع والوكالات، وقول ابن القاسم أظهر أن الزيادة تبطل؛ إذ لم يذكر ذلك لها حتى قامت تطلبه، وفي المبسوطة ليحيى بن يحيى أن قول ابن القاسم أحب إليه من قول ابن وهب، وبه يقول: وإنما اختاره عليه للمعنى الذي ذكرناه، والله أعلم.
[مسألة: يوصي بوصايا وعتاقة]
مسألة وسألته عن الذي يوصي بوصايا وعتاقة، فتنفذ الوصايا والعتاقة، ثم يطلع على الموصي دين يحيط بماله، وقد شهد العبيد المعتقون على حقوق، فطال زمان ذلك، فاقتسم الورثة، ونما ذلك في أيديهم أو نقص أو استهلك، فقال: ترد الوصايا التي أخذ أهلها منها بحال ما توجد في أيديهم، نامية أو ناقصة، وما هلك منها، فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يستهلكوا شيئا، فيغرموه أو يكونوا اشتروا شيئا فحوسبوا به في وصاياهم، فيكون لهم نماؤه، وعليهم ضمانه، ويردون الثمن الذي حوسبوا به، قال: والورثة بهذه المنزلة فيها اقتسموا ما أخذوا على حال الاقتسام، فنماؤه للغرماء، ولا ضمان على الورثة فيه، إلا أن يستهلكوا شيئا، فيكون عليهم غرمه، وما اشتروا على حال البيع، وليس على وجه الاقتسام، فنماؤه لهم وضمانه عليهم، يغرمون الثمن الذي كان وجب لهم. قال: وما اقسموا من ناض ذهب، أو ورق، أو طعام، أو إدام، فإنهم يغرمون ذلك(13/215)
كله، وإنما يوضع عنهم ضمان ما هلك من العروض والحيوان والعقار الذي يقسم بالقيمة، قلت: أرأيت ما اقتسموا من العروض بالقيمة، فغابوا عليه، ولم يعرف هلاكه إلا بقولهم، أيبرءون من ضمانه؟ أو الطعام أو الإدام الذي يوجب عليهم ضمانه، وتراه كالذهب والورق إذا عرف هلاكه بعينه، أيبرءون من ضمانه؟ فقال: ضمانهم في كل ما غابوا عليه كضمان المرتهن والمستعير، وبراءتهم مما عرف هلاكه بالبينة، كبراءة المرتهن والمستعير، وحالهم فيما لم يغب عليه كحالهما.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة على نصها في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب القسمة، ومضى الكلام عليها هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وظاهر هذه الرواية أن العتق يرد وإن طال زمانه.
وقد روى أشهب عن مالك في رسم الأقضية الأول، من كتاب المديان والتفليس في الذي يعتق وعليه دين يغترق ماله، وتطول المدة؛ أن العتق لا يرد، والذي يعرف من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، أن العتق يرد دون تفرقة بين قرب ولا بعد، وقد قيل: إن قول ابن القاسم ليس بخلاف لرواية أشهب، وإن معنى قوله: إذا لم يطل الأمر، وقد مضى الكلام على ذلك هذا لك، وظاهر هذه الرواية أنه لا ضمان على الموصي فيما نفذ من الوصايا إذا طرأ دين يردها خلاف ما مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب قبل هذا من هذا الكتاب، وسيأتي من هذا المعنى في سماع موسى، وفي سماع أبي زيد الاختلاف من قول ابن القاسم فيه، قرب آخر الرسم الأول من سماع أصبغ، وبالله التوفيق.
[: يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته في مرضه ثم يصح فيقر بذلك]
ومن كتاب أوله أول عبد ابتاعه فهو حر قال: وسألته عن الرجل يوصي بأكثر من ثلثه بإذن ورثته، ثم(13/216)
صح صحة بينة معروفة، وقد كتب بالذي أوصى به كتابا فأقره حين صح، ثم مرض بعد ذلك، فمات من مرضه الآخر؛ أيلزم الورثة ما أحازوا له في وصيته التي صح بعدها أم لا؟ فقال: لا يلزمهم إنفاذه؛ لأنه قد صح صحة بينة، وملك القضاء في جميع ماله، واستغنى عن استيذانهم، فإذا حدث به مرض بعد صحة قد ملك فيها القضاء في جميع ماله، فعليه استيذانهم أيضا، وإلا فقد سقط عنهم ما كانوا أذنوا فيه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه إذا صح بعد أن استأذنهم فهو بمنزلة إذا أذنوا له، وهو صحيح كمن أقر في مرضه لمن لا يجوز له إقراره في المرض، ثم صح بعد ذلك؛ أن إقراره يلزمه. وقال ابن كنانة بعد أن يحلفوا ما سكتوا إلا عن غير رضا ولا يلزمهم ذلك، وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي فيقول اشتروا أخي بكذا وكذا ولا يقول أعتقوه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يوصي فيقول: اشتروا أخي بكذا وكذا، ولا يقول: أعتقوه عني، غير أنه أمر بشرائه أو بشراء بعض من إذا ملكه في حياته عتق عليه، أترى ما أمر به من اشترائه يوجب له العتاقة؟ قال: نعم، يشترى ويعتق عليه، وذلك إن وجه ما يريد الموصي بمثل هذا، عتاقة الذي يوصي باشترائه. قلت: أرأيت إن لم يبعه سيده بالذي نص الموصي أن يشترى به؟ فقال: يتربص به وينتظر، لعله أن يبدوا له فيه. قلت: وترى انتظاره السنة تجزي؟ قال: ذلك ونحوه وأكثر أحب إلي. قلت: فإن أيسر منه أيستحب أن يوضع ذلك الثمن في عتاقة؟ قال: لا أرى ذلك على الورثة، إن شاءوا فعلوا، وإن كرهوا فهم أحق بذلك الثمن ميراثا لهم.(13/217)
قلت: أرأيت لو كان قال: اشتروه، ولم ينص ثمنا، فامتنع السيد من بيعة بقيمته؟ قال: يلزمه أن يزاد في ثمنه ما بينه وبين ثلث قيمته، فإن امتنع فلا شيء عليهم أكثر من ذلك، إلا الاستيناء في أمره، والانتظار لرجوعه.
قلت: فإن نص شيئا يشترى به، فلم يكن في ذلك مبلغ ثمنه، فأجاب سيده إلى بيعه منهم بالمبلغ الذي نص أولا يحمل الثلث ما نص، فإذا رد ذلك إلى ثلث ماله، كان الثلث لا يبلغ ثمن العبد، فيجيب السيد إلى أن يبيعهم من العبد بقدر الثلث، أيلزمهم أن يشتروا قدر ذلك ويعتقوه؟ قال: أرى ذلك لازما لهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف فيها إلا في وجه واحد منها، وهو إذا أبى سيده أن يبيعه بما سمى الموصي من الثمن، أو بزيادة مثل ثلث ثمنه على قيمته، فقال في هذه الرواية: إنه يستأنى به سنة ونحو ذلك، فإن أيس منه رجع الثمن ميراثا، ولم يلزم الورثة أن يجعلوه في عتاقة، إلا أن يشاءوا، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الأول من المدونة؛ أن الثمن يرجع ميراثا بعد الاستيناء لذلك، وروى ابن وهب وغيره عن مالك فيه أن المال يوقف ما كان يرجى أن يشترى العبد إلا أن يفوت بموت أو عتاق. قال سحنون: وعليه أكثر الرواة. ومثله في الثاني من الوصايا لابن القاسم؛ لأنه قال فيه: بعد الاستيناء والإياس من العبد، ولابن كنانة في المدنية في الذي أوصى أن يشترى عبد بعينه فيعتق؛ أنه إن أيس منه بعتق أو موت اشترى به رقبة أو رقاب، فيعتقون عنه؛ لأنه إنما أراد أن يعتق عنه، وجعل ذلك في عبد صالح توسمه، فإن لم يجد سبيلا إلى اشترائه ففي غيره، وقال: إنما أمرنا بإيقاف الثمن انتظارا بالغلام، لعله أن يحتاج سيده أو يموت فيبيعه الورثة.
قال: فمن أجل ذلك أوقفناه، ولا يدخل قول ابن كنانة في الذي يوصي أن يشتري(13/218)
من يعتق عليه؛ لأنه إنما أراد به عتقه بعينه لقرابته منه، فإذا أيس منه رجع ثمنه ميراثا قولا واحدا، والله أعلم.
[: يقول أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي]
من سماع سحنون وسؤاله أشهب وابن القاسم قال سحنون: وسألت أشهب عن الذي يقول: أعتقوا عبدي الذي حج معي في وصيتي، وقد علم أنه حج معه عبد إلا أنه لا يعرف، وادعى ذلك عبيده؛ قال: الوصية باطل، وهو رقيق.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا في أن الشهادة لا تجوز، والوصية باطل، معارض لقول ابن القاسم في رسم سلف، من سماع عيسى، وليس بمعارض لقوله في رسم يشتري الدور والمزارع من سماع يحيى، ولو كان العبيد كلهم حجوا معه، وكان قد قال في وصيته: أعتقوا عبدي الذي حج معي؛ لكان بمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدي فلانا، وله عبيد بذلك الاسم، وبمنزلة إذا قال: أعتقوا عني عبدا من عبيدي على ما قاله ابن القاسم في رسم يشتري الدور من سماع يحيى، وقد مضى هناك بيان هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل في وصيته خيروا جاريتي بين العتق والبيع، فاختارت البيع، ثم بدا لها في العتق قبل أن تباع، قال: ذلك لها.
قلت: فإن اختارت العتق، فلم تقوم، ثم بدا لها البيع.(13/219)
قال: لم أسمعه. وذلك لها عندي.
قلت: فإن اختارت البيع، وقالت: بيعوني من فلان، وقالوا: نبيعك في السوق. قال: ذلك لهم؟ وليس لها ذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء.
قلت: فإن اختارت البيع، فقالوا لها: إذا رضيت بالملك فنحن نحبسك ولا نبيعك، قال: ليس ذلك لهم إلا برضاها، فإن رضيت بترك البيع، وأن تكون ملكا لهم، ثم أحبوا بيعها فذلك لهم.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تخير جاريته بين العتق والبيع: إنه لا يلزمها ما اختارت من ذلك، ولها أن ترجع عنه ما لم ينفذ فيها باختيارها بيع أو عتق، هو مثل ما تقدم في رسم القطعان من سماع عيسى، ومثل ما يأتي في أول سماع أصبغ، ولا خلاف في هذا أحفظه؛ لأن معنى قوله: خيروا جاريتي بين العتق والبيع، معناه: أعلموها أني قد جعلت لها الخيار في ذلك، فإذا أعلموها بذلك، كان لها أن ترجع من كل واحد منهما إلى الآخر ما لم ينفذ لها ما اختارته أولا، وذلك بخلاف تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع؛ لأن تخيير الرجل أمته بين العتق والبيع، فإن اختارت العتق لزمه، وإن اختارت البيع لزمها، ولم يكن لها أن ترجع إلى العتق، وإن لم تختر شيئا حتى انقضى المجلس، جرى ذلك على اختلاف قول مالك في التمليك، ولا إشكال في أنها إذا اختارت البيع فلهم أن يبيعوها ممن شاءوا؛ أنه لا حق لها في أن تباع ممن أحبت، إذ لم يوص لها بذلك، ولا يوضع من ثمنها شيء كما قال.
وأما إذا اختارت البيع، فأرادوا حبسها فقوله: إن ذلك ليس لهم إلا برضاها صحيح؛ لأن لها حقا فيما أوصى لها به من بيعها، ولعله أراد أن يخرجها عن ملكهم لسوء ملكتهم، أو لما علم من أنها تكره البقاء عندهم، فيكون قد أراد القربة بما أوصى به من ذلك، وإنما الاختلاف إذا أرادت هي ألا تباع، هل يلزمهم بيعها، تنفيذا لما أوصى به الموصي أم لا؟ إذ لا قرابة(13/220)
في الوصية ببيعها، إذا لم ترد هي ذلك؛ إذ قد اختلف في وجوب تنفيذ الوصية بما لا قربة فيه من الأمور الجائزات، وفيما يختلف هل فيه قربة أم لا على مذهب من لا يرى فيه قربة؟ وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه فلا يقبل]
مسألة قال ابن القاسم في الرجل يوصي للرجل ببعض من يعتق عليه، فلا يقبل. قال: إن كان يحمله الثلث عتق.
قلت: فلمن ولاؤه؟ قال: للذي أعتقه، وكذلك قال لي: ولا أطيق خلافه، وهو أعلم مني.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف نص قوله في كتاب الولاء والموارث من المدونة: إنه إن حمله الثلث يعتق عليه، ويكون الولاء له قبله أو لم يقبله، والقولان في الولاء إذا حمله الثلث، ولم يقبله في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق؛ ولكلا القولين وجه، فوجه هذه الرواية أنه لما علم أنه يعتق عليه، فأوصى له به، فقد قصد إلى عتقه، فكان كأنه قد قال: إن قبله، وإلا فهو حر.
ووجه ما في المدونة أن الموصي لما علم أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له، وكذلك إذا تصدق به عليه أو وهبه إياه ولم يقبل، يختلف في الولاء لمن يكون، والقياس في هذا كله إذا لم يقبل أن يرجع في الوصية إلى ورثة الموصي، وفي الهبة والصدقة إلى الواهب، والمتصدق كما قال مالك في رواية علي بن زياد عنه إذا أوصى له بشقص فلم يقبل، ففي المسألة ثلاثة أقوال إذا لم يقبل.
قيل: يرجع إلى الموصي أو الواهب أو المتصدق، وقيل: يعتق على الذي أوصى له به أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، ويكون الولاء له، وقيل: يعتق على الموصي وعلى الواهب والمتصدق، ويكون الولاء له.(13/221)
وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائطه، وغلته عشرة دنانير، أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، قال: إن ضمنوا له ذلك، وإلا أوقفوا العبد والحائط، وكانت الوصية في ثمرة غلة الحائط.
قلت لابن القاسم: فإن عالت وصاياه ووقعت المحاصة، ثم يضرب هؤلاء، قال: يعمرون وينظر إلى ما أوصى لهم به من الغلة، فيتحاصون به، ويضربون بذلك في ثلث المال، إلا أنه في وصيته في غلة العبد إنما التعمير في أقصرهم حياة من العبيد إن كانوا أقصر حياة، أو الموصى له بالغلة إن كان أقصر حياة.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يوصي لرجل بدينار من غلة حائط معناه حياته، فعلى ذلك يأتي جوابه. وأما قوله: أو بدينار من غلة كل شهر من خراج غلامه، فإنه لفظ وقع على غير تحصيل؛ لأنه إذا أوصى له بدنانير من غلة كل شهر، فلا اختلاف في أنه لا يجبر ما نقص في العام من العام الذي بعده. وقوله: إن ضمنوا ذلك له، وإلا أوقفوا الحائط، يدل على أن من حقهم أن يأخذوا العبد والحائط فيفوتهما إن شاءوا بضمانهم، خلاف ما في رسم الوصية الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب.
ويحتمل أن لا يحمل ذلك على أنه اختلاف من القول، فيكون معنى قول ابن القاسم في هذه الرواية إذا كانوا أملياء، يؤمن العدم عليهم في غالب الحال، ومعنى قول مالك في سماع أشهب إذا لم يكونوا أملياء، وخيف عليهم العدم، والصواب أن يفسر قول ابن القاسم في هذه الرواية بما في سماع أشهب، فيقال: معناه إذا(13/222)
رضي الموصى لهم بضمانهم، وإنما يوقف العبد والحائط إذا حملها الثلث أو أجاز الورثة الوصية، وقوله: إن الوصايا إذا عالت فلم يجزها الورثة، ورجع في ذلك إلى التحاص في الثلث، فما قاله من التعمير في ذلك بين، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت وقد كان طلقها]
مسألة وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن المرأة توصي لزوجها بالوصية ثم تموت، وقد كان طلقها، فقال ابن القاسم: إن كانت علمت بطلاقه فوصيتها جائزة له، وإن كانت لم تعلم بالطلاق لم تجز الوصية؛ لأنها أوصت يوم أوصت، وهي تظن أنه لها وارث، والوصية للوارث لا تجوز، قال سحنون: وقال لي أشهب: هي جائزة علمت أو لم تعلم. قال سحنون: وأخبرني القرشي عن المخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة، وابن نافع أنهم قالوا: تجوز وصيتها له، وهي جائزة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح، واعتلاله ضعيف، فلو قال: إن وصيتها له لا تجوز، إلا أن تعلم بطلاقها إياها؛ لأنها إنما أوصت له لما بينهما من حرمة الزوجية، ولما بين الزوجين من المودة، فأرادت أن تزيده بالوصية على ما فرضه الله له بالميراث، ورجت أن يجيز ذلك له الورثة، ولعلها لو علمت أنه يطلقها لما أوصت له بشيء، أو قد طرد ابن القاسم اعتلاله في هذا على ضعفه، فقال في المدونة: إنه إذا أوصى لأخيه بوصية وهو وارثه، ثم ولد له ولد يحجبه عن الميراث، فالوصية له جائزة؛ لأنه قد تركها بعد الولادة، فصار مجيرا لها بعد الولادة، فالأظهر في هذه المسألة قول أشهب، والمخزومي، وابن أبي حازم، وابن كنانة: إن الوصية له جائزة، وإن لم يعلم بالولادة، والأظهر في أوصت لزوجها ثم طلقها.(13/223)
قول ابن القاسم: إن الوصية له لا تجوز، إلا أن تكون علمت بطلاقه من أجل ما ذكرناه، لا من أجل أن الوصية للوارث لا تجوز؛ لأن ذلك إنما هو من حق الورثة، إن أجازوها جازت، ليست بحق الله فتفتسخ على كل حال، إلا أن يجيزها بعد أن علم أنه غير وارث، فكما تبطل وصيته إذا أوصى له وهو غير وارث، ثم صار وارثا، فكذلك ينبغي أن تجوز إذا أوصى له وهو وارث، ثم صار غير وارث، إلا أن يدخل ذلك ما دخل الزوجة توصي لزوجها ثم يطلقها، وقد روى عن ابن القاسم مثل قول أشهب وابن كنانة، وابن أبي حازم، وذلك عندي في غير الزوجة، وبالله التوفيق.
[مسألة: وصية الرجل للرجل بدنانير ودراهم]
مسألة وقد قال ابن القاسم في وصية الرجل للرجل بدنانير ودراهم، أو بثمر صيحاني وبرني وصية أو وصيتين، أرى الصنفين جائزين له، وأرى الدنانير والدراهم جائزة له.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة والقول عليها في رسم الصلاة، من سماع يحيى، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يوصي بثلث ماله للمساكين ويترك دورا وقرى]
من نوازل سحنون بن سعيد وسئل عن الرجل يوصي بثلث ماله للمساكين، ويترك دورا وقرى، هل يباع ثلث دوره وقراه فيمن يزيد، ثم يعطى ثمنها للمساكين؟ أو تعرض على الورثة؟ فإن أحبوا اشتروا، وإن لم يريدوا الشراء قسم الثلث، وبيع فيمن يزيد. قال: بل يقسم ثلث مال الميت، ثم يباع فيمن يزيد، ثم يجتهد في ذلك السلطان للمساكين، ولا يكون الورثة أولى به، وإنما يكون أولى به من زاد(13/224)
في ثمنه، وإنما المساكين هاهنا بمنزلة أحد الورثة، ألا ترى أنه لو أوصى لرجل بعينه بثلث ماله؛ لكان الموصى له أولى به من الوارث؟ فكذلك وصيته للمساكين. قال: وسألت أصبغ عن رجل أوصى بثلث جميع ماله في المساكين صدقة، فوقعت الوصية في داره وأرضه، وجميع ماله، فقال ورثته: نحن نأخذ هذا الثلث في الأرضين والدار؛ لأننا لا نريد الخروج من الدار، ولا من الأرضين، أترى أن يعطوا ذلك بقيمة أم يصاح عليه فيمن يزيد، فيزيدون ويأخذونه؟ قال أصبغ: لا أرى أن ينادى عليه؛ لأنه يدخل في ذلك الضرر وعلى الورثة إذا علم الناس رغبتهم فيه، زادوا إضرارا بهم، ولا حاجة بهم إلى الشراء، لما يعلمون من رغبتهم فيه.
قال: وأرى إن كان الميت وكل بذلك الثلث من يقوم به، وبإخراجه وتفريقه أن يعامل الورثة في ذلك يأتي بصراء فيقومون ذلك، ثم يعطيهم إياه بقيمته، وإن لم يكن الميت جعل ذلك إلى أحد، كان أمره إلى السلطان، ووكل السلطان به رجلا ينظر فيه على نحو ما قلت لك، فإن قال الناظر في ذلك: فإني أرى اقتسامهم، فأفرز ثلث الدار والأرضين ثم أبيعه مفروزا؛ لأنه إنما ... بثمنه، فقال لي: ليس ذلك له، وهذا ضرر بهم، ولكن يأخذونه بالقيمة؛ لأن أصل الوصية لم يكن بالرقبة، إنما كانت بمال يخرج، ألا ترى أنه قال: ثلث مالي في المساكين صدقة، فقد علم أن ثلث داره لا يقسم في المساكين، وإنما وصيته على المال، فلا أرى أن يقسم، ولا ينادى عليه، ولكن يعطوه بقيمته على العدل؟ قلت: فإن قال: الورثة لا نريده، وتبرءوا منه، فإن أبى الناظر في ذلك أن يقسمه ثم يبيعه(13/225)
مفروزا، وقال الورثة: لا، بل بعه مشاعا فتأخذ، إن شئنا شفعتنا. فقال لي: أرى أن يبيعه مشاعا ولا يقسمه؛ لأن وصيته معناها وقعت على مال، ولم تقع على شرك ولا على ربع، وليس المساكين فيه كرجل أو كرجال بأعيانهم لو كان أوصى بذلك لمن هو بعينه، كان شريكا لهم إن شاء فأسهم، وإن شاء أقره مشاعا، وإن شاء باع، وإن شاء أمسك، وإن وصيته للمساكين، إنما وقعت على مال وعلى التفرقة، قال: وأرى إن كان للميت مال سوى الربع من عين أو ثمن سقط، أو حرثي أو حيوان مما يباع في الفصول؛ لأن للوصي أن يستوفي من ذلك على ما أحبوا أو كرهوا، ولا يحبس ذلك لدعواهم للبيع وللمقاسمة بعد أن يعدل ذلك، فإن لم يكن ثم مال، فهذا الذي يكون للوصي بيع الربع شريكه كوارثه.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا، مثل قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب، خلاف قول ابن القاسم وأصبغ.
وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة، وأنه يتحصل فيها خمسة أقوال؛ فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بوصايا وبعبد أبق]
مسألة وسألته عن الرجل يوصي بوصايا وبعبد أبق. قال: إن كان إباقه قريبا يرجى ضرب به على الرجاء والخوف.
قال محمد بن رشد: هذا إذا لم يحمل الثلث الوصايا ولا أجازها الورثة، فقطعوا لهم بالثلث، فتحاصوا فيه بقدر وصاياهم، يقوم العبد(13/226)
الموصى به، وهو أبق على الرجا والخوف، أن لو كان يحل بيعه على ما هو عليه من إباقه، فيحاص أهل الوصايا في الثلث بتلك القيمة، وأما إن حمل الثلث الوصايا، أو لم يحملها، فأجازها الورثة، فإن العبد الآبق يكون للموصى له به يتبعه، وجده أو لم يجده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بالثوب فيصبغه]
مسألة قال سحنون في الرجل يوصي بالثوب فيصبغه، أو يكون مصبوغا فيغسله: إن ذلك لا يحيل الوصية، وأرى الورثة شركاء في الثوب بقيمة الصبغ. وقال غير سحنون: يكون له مصبوغا. وقال سحنون: إذا قطع الثوب خرجت منه الوصية بالاسم الذي دخله، يكون ملحفة فيصير قميصا، أو يكون دارا مبنية فيهدمها، أو تكون عرصة فيبنيها، فإن الوصية فيه ثابتة، ويكون الورثة فيه شركاء مع الموصى له بالبنيان، وقال غير سحنون: إذا خرجت العرصة من اسمها حتى تصير دارا، فقد خرجت من الوصية، وإذا خرجت الدار من أن تكون دارا، وصارت عرصة، فقد خرجت من البنيان، وكذلك الثوب إذا كان ملحفة فقطعه قميصا، فقد تغير اسمه، وخرجت عنه الوصية، وقول سحنون خير من هذا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه الرواية، في الذي يوصي بالعرصة ثم يبنيها: إن الوصية فيها ثابتة، ويكون الورثة شركاء مع الموصى له بالبنيان، خلاف قوله في سماع أبي زيد بعد هذا، والذي يتحصل في الذي يوصي بالبقعة ثم يبنيها، أو بالدار ثم يهدمها، ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الوصية تبطل في الوجهين جميعا. والثاني: لا تبطل في الوجهين جميعا. والثالث: الفرق بين المسألتين، فتبطل إذا أوصى بالبقعة ثم بناها، ولا تبطل إذا أوصى بالدار، ثم هدمها، ويختلف على القول في أن الوصية(13/227)
بالعرصة لا تبطل ببنيانها، هل تكون لا موصى له ببنيانها، أو يكون شريكا مع الورثة بالعرصة؟ ويختلف أيضا على القول بأن الوصية بالدار لا تبطل بهدمها، هل يكون له النقض مع البقعة أم لا؟ فقيل: إنه لا يكون له النقض، وقيل: إنه يكون له، وهو قول ابن القاسم في المجموعة، وكذلك يختلف في الثوب يوصي به، ثم يصبغه أو يغسله على هذا الاختلاف سواء قيل: إنه يكون فيه شريكا مع الورثة، بقيمة الصبغ من قيمة الثوب، وقيل يكون له الثوب مصبوغا، وهو قول ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن المواز، وقال أشهب: وكذلك لو غسله أو كانت دارا فجصصها، أو زاد فيها بناء؛ لأنه لم يتغير الاسم عن حاله، وأما الثوب يوصي به، ثم يقطعه ويخيطه، فيتحصل فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن الوصية تبطل. والثاني: أنها لا تبطل. والثالث: الفرق بين أن يقول: شقتي أو ملحفتي لفلان، فيقطع ذلك قميصا أو سراويل، وبين أن يقول: ثوبي لفلان، فيقطعه قميصا أو سراويل، فتبطل الوصية إذا قال: شقتي أو ملحفتي، ولا تبطل إذا قال: ثوبي؛ لأنه إذا قال: شقتي أو ملحفتي، فقد انتقل اسمها بما أحدث فيها؛ إذ لا يسمى القميص ولا السراويلات شقة ولا ملحفة، وإذا قال: ثوبي، فلم ينتقل اسمه بما أحدث فيه؛ لأن القميص والسراويلات يسمى كل واحد منهما ثوبا، وإذا لم تبطل الوصية على القول بأنها لا تبطل، فيختلف هل يكون له الثوب مخيطا؟ أو هل يكون مع الورثة شريكا؟ وليس في هذا شيء يرجع إليه، وينبني فيه الخلاف عليه سوى ما يغلب على الظن، من أن الموصي أراده بما فعل، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعتق أحد عبيده دون تعيين]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة، وله ثلاثة أعبد، فدخل عليه أحد ولده في مرضه، فقال له: أوص، فقال: ميمون حر، ثم دخل عليه آخر من ولده، فقال: أوص، فقال: أحد هؤلاء الثلاثة حر، ثم مات، قال: قد قيل: إن الشهادة باطلة، وقد قيل يقرع(13/228)
بين الثلاثة، فإن وقع السهم على الذي شهد له أحد الورثة بالعتق فيما اجتمع على عتقه، أقسم فيعتق إن كان الورثة رجالا كلهم، وإن وقع السهم على غيره، فالشهادة باطل، إلا أن يصير العبد الذي شهد بعتقه لمن شهد له.
قال محمد بن رشد: الاختلاف الذي ذكره سحنون في جواز هذه الشهادة، يتخرج على الاختلاف في جواز تلفيق الشهادة إذا اختلف فيها اللفظ والمعنى، واتفق ما يوجبه الحكم، مثل أن يشهد أحد الشاهدين أن له عليه مائة دينار من سلف، ويشهد آخر أن له عليه مائة دينار من مبايعة، ومثل أن يشهد أحدهما أنه قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا، ويشهد الآخر أنه قال: إحدى امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا لذلك الشيء بعينه، وله امرأتان، وما أشبه ذلك؛ لأن القرعة إذا وقعت على ميمون، فقد وجب له العتق بشهادة كل واحد منهما، وقد مضى بيان هذا المعنى، في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب الشهادات، وقوله: إن كان الورثة رجالا كلهم صحيح؛ لأنه إن كان في الورثة نساء لم تجز الشهادة باتفاق؛ لأنهما يتهمان جميعا في جر الولاء لأنفسهما دون من يرث الميت من النساء، إلا أن يكون العبدان ممن لا يرغب في ولائهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عشرة من رقيقي أحرار وله خمسون رأسا]
مسألة قلت لسحنون: كيف تكون القرعة إذا قال: عشرة من رقيقي أحرار، وله خمسون رأسا. قال: إن كانوا ينقسمون، قسموا أخماسا بالقيمة، ثم يكتب جزء العبد، فيكتب فيه العتق ويكتب في الآخر رق، ثم يعطى لرجل لا يقرأ، فيلقي تلك البطائق عليهم، فعلى أي جزء وقع سهم العتق عتق ذلك القسم، وإن كانوا لا ينقسمون قوموا كلهم، ثم ينظر إلى الثلث كم هو؟ فإن كان مائة(13/229)
دينار، كتبت أسماؤهم اسم كل واحد عنهم على حدة، ثم جمعها في كمه، ثم ضرب بيده، فيخرج واحدة، فينظر من خرج سهمه، فإن كان كفاف الثلث عتق، وإن كان أقل ضرب بيده، ثم أخرج أخرى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما في المدونة وغيرها، ولا اختلاف فيه، فقد يخرج في الثلث على هذا بعض عبد إن كان الذي خرج سهمه قيمته أكثر من الثلث، وقد يخرج فيه عبد كامل لا أكثر ولا أقل، إن كانت قيمة الذي خرج سهمه من الثلث سواء، وقد يخرج فيه أكثر من عبد إن كان الذي خرج سهمه قيمته أقل من الثلث؛ لأنه يعتق الذي خرج سهمه، ثم يضرب مرة ثانية، فإن كان الذي خرج سهمه أقل مما بقي من الثلث أعتق أيضا ثم يضرب مرة ثالثة، وهكذا أبدا حتى يعتق من العبيد مبلغ الثلث، وبالله التوفيق.
[مسألة: وصى لرجل بداره في مرضه ثم هدمها ثم بناها]
مسألة وسئل سحنون فقيل له: لو أن رجلا أوصى لرجل بداره في مرضه، ثم هدمها، ثم بناها كما كانت أول مرة، ثم مات من مرضه ذلك، هل ترى ذلك نقضا لوصيه؟ فقال: أما الذي أقول أنا إذا بناها إن الموصى له بالدار له قاعة الدار، ولا يكون له البنيان؛ لأن القاعة لم يزلها عن حالها، وإنما غير البنيان وأزاله عن حاله، فقد نقض وصيته في البنيان، قيل له: أرأيت لو أوصى له في مرضه بعرصة لا بناء فيها، ثم بناها دارا في مرضه، هل يكون هذا نقضا؟ قال: نعم، يكون هذا نقضا؛ لأنه قد أحال العرصة من حالها، فقد نقض وصيته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أوصى له بعرصة ثم بناها؛ أن(13/230)
ذلك يكون نقضا لوصيته، هو خلاف قوله قبل هذا، ومثل ماله في سماع أبي زيد، ولا يدخل هذا الاختلاف من قوله في هذه المسألة في المسألة الأولى التي أوصى بداره لرجل، ثم هدمها، ثم بناها؛ لأنه إنما لم ينقض وصيته في العرصة ببنيانه إياها على قوله فيمن أوصى لرجل بعرصة ثم بناها؛ لأنه لم يوص له بعرصة، وإنما أوصى له بدار، ثم هدمها، فصارت عرصة، فلم ير أن تنتقض وصيته ببنيانه لها.
وقد مضى قبل هذا تحصيل القول فيمن أوصى لرجل بعرصة ثم بناها، أو بدار ثم هدمها، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لعبده بثلث ماله وللعبد ولد]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أوصى لعبده بثلث ماله، وللعبد ولد، هل يقدم عتق العبد في الثلث قبل الابن، أو يدخلان فيه جميعا؟ قال: بل يكون الأب أولى بالعتق في الثلث، فإن بقي من الثلث شيء دخل فيه الابن في العتق بالغا ما بلغ.
قال محمد بن رشد: قد تقدم قول سحنون هذا في رسم الرهون الأول، من سماع عيسى، ومضى الكلام عليه هنا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بمتاعه وأمره أن يوجه متاعه إلى ورثته]
مسألة وسألته عن رجل من أهل الأندلس هلك بمصر، وأوصى لرجل بمتاعه وأمره أن يوجه متاعه إلى ورثته، ولا يحدث فيه بيعا، فقام الوصي فباع ذلك المتاع، واشترى لنفسه أكثر ذلك المتاع، وضمنه نفسه على حال ما أعطى به، فوجه الوصي ذلك المتاع بعينه إلى أهل نفسه، وأمرهم أن يبيعوا ذلك المتاع، ويقضوا(13/231)
ورثة الميت بمصر، فعثر ورثة الميت على ذلك المتاع بعينه، فقاموا يريدون أخذه، أذلك لهم أم لا؟ وقال أهل الوصي: قد ضمن صاحبنا وتعدى فيه، وأكرى عليه من أرض نائية، فليس لكم علينا إلا الثمن الذي وقع به هذا المتاع على صاحبنا، فهل ترى لورثة الميت أخذ المتاع منهم أم لا؟ قال سحنون: الورثة يخير بين إن أحبوا أن يأخذوا المتاع بعينه، فذلك لهم، ولا شيء عليهم من كراء ذلك المتاع، وإن أحبوا كان لهم على الوصي الثمن الذي اشترى به المتاع والقيمة، إن كانت أكثر. قال: وسألت أبا زيد بن أبي العمر عن ذلك، فقال لي مثله.
قال محمد بن رشد: قوله ويقضوا ورثة ذلك الميت بمصر غلط، والله أعلم، وإنما صوابه بالأندلس على ما ساق عليه المسألة؛ أن الرجل كان من أهل الأندلس، ومات بمصر. وقوله: إن الورثة بالخيار، بين أن يأخذوا متاعهم دون كراء يكون عليهم، وبين أن يكون لهم الثمن الذي اشترى به المتاع، فذلك بين لا اختلاف فيه؛ لأنه متاعهم بعينه، فلهم أن يأخذوه إن شاءوا، وإن شاءوا أن يأخذوا الثمن، كان ذلك لهم، من أجل أنه قد ألزمه نفسه ورضي به، وأما قوله: إن لهم أن يأخذوا القيمة إن كانت أكثر من الثمن، فهو خلاف المعلوم من مذهبه في أن من تعدى على متاع رجل، فحمله من بلد إلى بلد، فليس له إلا أخذ متاعه، إذا لم يفت بذلك عنده؛ لأنه رأى نقله من بلد إلى بلد مثل حوالة الأسواق، مثل قول ابن القاسم وأشهب وغيرهما من أصحاب مالك.
وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى، في رسم أسلم، من سماع عيسى، من كتاب الوديعة في العروض والحيوان والرقيق والطعام، فقف على ذلك هنالك، وبالله التوفيق.(13/232)
[مسألة: يوصي إليه الرجل بماله وولده]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل يوصي إليه الرجل بماله وولده، فتحضر الوصي الوفاة، فيوصي إلى رجل بماله وولده، أو يقول: فلان وصي مجملا، ولم يذكر مال الميت ولا ولده الذين كان أوصى بهم إليه، هل يكون الموصى له وصيا فيما كان هذا فيه وصيا للذي أوصى إليه فيه؟ فقال: لا يكون وصيا إلا في مال هذا الميت إذا لم يذكر في وصيته، وأنه وصي على ما أوصى به إلى فلان.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يكون وصيا على ما كان أوصى إليه به من مال الرجل وولده، وإن اتهم الإيصاء فقال فيه فلان وصي، فلم يفسر شيئا؛ لأنه إنما يحمل على العموم في ماله وولده خاصة، لا في مال غيره، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن أصابني قدري في سفري هذا ففلان وكيلي]
مسألة وسئل عن رجل يقول: إن أصابني قدري في سفري هذا، ففلان وكيلي، هل يكون وصيا إن أصابه قدره؟ قال: نعم، يكون وصيا وإن لم يقل وصي، وهو عندنا واحد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الوصي وكيل الميت، فسواء قال في وصيته: إن مت ففلان وصيي، أو إن مت ففلان وكيلي، فكل وصي وكيل، وليس الوكيل بوصي، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال إن أدركني موت في سفري هذا ففلان وصيي]
مسألة وعن رجل أوصى إلى رجل بالأندلس، فقال: إن أدركني موت في سفري هذا، ففلان وصيي وخرج في سفره، فلما انتهى(13/233)
إلى القيروان مات الموصي، ولم يبلغ الموصى إليه خبر موته حتى أدركه أجله بالأندلس، فأوصى بأهله وماله إلى فلان، ولم يسم الهالك بالقيروان؛ لأنه لم يبلغه خبر موته، ولم يعلم به هل يكون هذا الموصى إليه وصيا للميتين جميعا؟ فقال: لا يكون إلا للذي أوصى إليه.
قال محمد بن رشد: ولو علم بموته، لم يكن الموصى إليه وصيا على ما أوصى به إليه، إلا ببيان على ما تقدم قبل هذا، وبالله التوفيق.
[مسألة: النصراني أله أن يوصي بجميع ماله]
مسألة وسئل سحنون عن النصراني أله أن يوصي بجميع ماله؟ فقال: ذلك يختلف، أما إذا كان من أهل العنوة فليس ذلك له؛ لأنه ورثته المسلمون إذا مات، فليس له أن يغر بميراثه واله؛ لأنه من أهل العنوة، ومن كان أيضا من أهل الصلح ممن عليه الجزية على جمجمته، وكل واحد منهم إنما عليه شيء يؤديه عن نفسه، ليس يؤخذ غنيهم بمعدمهم، فإن ذلك أيضا ليس له أن يوصي بجميع ماله، وليس له أن يوصي إلا بثلثه إذا كان لا وارث له من أهل دينه؛ لأن ورثته المسلمون، فأما إذا كان من أهل الصلح، فصالحوا على أن عليهم وظيفة معلومة من الخراج، ليس ينقصون منها أبدا لموت من مات، ولا لعدم من أعدم منهم، وهم بعضهم مأخذون ببعض، فليس يعرض لهم في وصاياهم، وليس لنا أموالهم إن مات منهم أحد ولا وارث له، كان لأهل خراجه، ليقووا في خراجهم؛ لأنهم هم المأخذون بخراجهم، وهم بعضهم قوة لبعض.(13/234)
قال محمد بن رشد: وقع قول سحنون هذا على نصه في رسم العرية، من سماع عيسى، من كتاب السلطان، ومضى القول عليه هناك، فلا معنى لإعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: إذا أسلم أهل العنوة فهل يجوز بيع رقيقهم]
مسألة قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك: إذا أسلم أهل العنوة أخذ منهم دنانيرهم ودراهمهم وعبيدهم، وكل مال لهم.
قلت لابن القاسم: أفيجوز بيع رقيقهم؟ قال: أراه جائزا من قبل أن أمرهم، كأنهم تركوا على ذلك، وكأنهم أذن لهم في التجارة، وإنما منعوا أن يهبوا أو يتصدقوا أو يفسدوا أموالهم.
قلت: فتزويدهم بناتهم، فقال: إني لا أحبه، وما أراه حراما.
قال محمد بن رشد: هذه الرواية على نصها قد مضت متكررة في سماع سحنون، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، ومضى الكلام عليها هناك، فأغنى عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى عند موته لرجل بألف درهم]
مسألة وعن رجل أوصى عند موته لرجل بألف درهم، وقال: لي عنده عشرون دينارا، فاقبضوها منه، فأخبر الموصى له بالوصية، وسئل عن العشرين، فأنكر أن يكون له عليه شيء قال: يحاسب في الألف الدرهم بالعشرين دينارا، ثم يكون له ما بقي.(13/235)
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه، ولا وجه للقول؛ لأنه لم يوص له بالألف درهم، إلا على أن تؤخذ منه العشرون دينارا، فإذا أنكر العشرين، لم يكن له من الألف درهم إلا ما زاد عليها، وقد مضت المسألة في رسم الوصايا من سماع أشهب من هذا الكتاب، وفي رسم البيوع الأول من سماع أشهب أيضا من كتاب الميدان والتفليس، وبالله التوفيق.
[مسألة: له عبدان ميمون وقيمون فقال عند موته ميمون حر وميمون لميمون]
مسألة وسئل سحنون عن رجل له عبدان: ميمون وقيمون، فقال عند موته: ميمون حر، وميمون لميمون، ثم مات والثلث يحملها أو لا يحمل إلا واحدا، قال: إن حمل الثلث العبدين أسهم بينهما، فأيهما خرج سهمه بالعتق كان له الباقي، وقد قيل: إنما للحر نصف الباقي، وإن ضاق الثلث عن العبدين، فلم يحمل إلا واحدا خرج حرا.
قال محمد بن رشد: إنما وقع هذا الاختلاف إذا حملهما الثلث، هل يكون للذي خرج السهم جميع العبد الآخر أو نصفه؛ لاحتمال أن يريد الموصي بقوله: وميمون لميمون، أي رقبة ميمون لميمون نفسه، فيكون على هذا الاحتمال إنما أوصى لأحدهما بوصيتين: إحداهما برقبته؛ والثانية بحريته، فتجب هاتان الوصيتان لمن خرج سهمه في القرعة منهما، فالورثة يقولون للذي خرج سهمه منهما، لا شيء لك إلا حريتك؛ لأن الوصيتين جميعا لك إنما هي بحريتك وبرقبتك، وهو يقول: بل، لي العبد الآخر كله؛ لأنه أوصى لي بحريتي وبالعبد الآخر، فيقسم بينهما بنصفين، وكذلك على هذا القول إن حمل الثلث العبد الذي خرج سهمه، ونصف الآخر يكون النصف بين العبد الذي خرج سهمه، وبين الورثة.
والذي أقول به في هذه المسألة أن(13/236)
لا يكون للذي خرجت له القرعة من العبد الآخر شيء؛ لاحتمال أن يكون الموصي أراده بالحرية، فلم يصح أن يعطى للذي خرجت له القرعة بالشك دون اليقين، وأبقيناه للورثة بالشك؛ لاحتمال أن يكون هو المراد بالعتق؛ لأن العتق قد دار بالقرعة إلى الذي خرج سهمه بالسنة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر في مرضه بدين لأجنبي لم يكن له عليه بينة وأقر لابنه بدين]
مسألة وقال سحنون في رجل أقر في مرضه بدين لأجنبي لم يكن له عليه بينة، وأقر لابنه بدين، قال: إن كان مالهما واحدا فاقتسماه، رجع الورثة على الابن، فأخذوا منه، ويرجع الابن على صاحب الدين، فيقول: قد استحق مني حقي، فيرجع عليه كذلك حتى ينقلب بغير شيء، وإن كان المال مفترقا أخذ كل واحد منهما ماله.
قال محمد بن رشد: قوله: إن كان مالهما واحدا فاقتسماه، معناه: إن لم يف ما ترك الميت من المال بما أقر به لكل واحد منهما، فاقتسماه على حساب ما أقر به لكل واحد منهما، فحينئذ يكون ما ذكره من رجوع الورثة على الابن بما أخذه، ورجوعه هو على الأجنبي بما يجب له مما أخذه؛ إذ قد أخذ الورثة منه ما أخذ، ثم رجع الورثة عليه بما رجع به على الأجنبي، ثم رجوعه هو ثانية على الأجنبي بما يجب له مما بقي بيده؛ إذ قد أخذ الورثة منه أيضا ما أخذ أبدا يرجع الورثة عليه بما أخذه من الأجنبي، ويرجع هو على الأجنبي بما يجب له مما بقي بيده حتى ينقلب بغير شيء كما ذكر.
مثال ذلك: أن يترك الميت مائة دينار، فيقر في مرضه لابنه بمائة دينار، فيأخذ الأجنبي خمسين، والابن خمسين، فيأخذ الورثة من الابن الخمسين التي أخذ؛ إذ لا يجوز الإقرار له، فإذا أخذوها منه، رجع هو على الأجنبي، فأخذ من نصف الخمسين التي أخذ، فإذا أخذها منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع على الأجنبي، فأخذ منه نصف الخمسة وعشرين التي بقيت(13/237)
بيده، فإذا أخذ ذلك منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع على الأجنبي، فأخذ منه نصف الاثني عشر ونصف التي بقيت بيده، فإذا أخذ ذلك منه أخذها منه الورثة، فإذا أخذوها منه رجع هو على الأجنبي، فأخذ منه نصف الستة، وربع التي بقيت بيده، وهكذا حتى ينقلب الأجنبي بغير شيء؛ فيئول الأمر إذا أقر الميت في مرضه لابنه، والأجنبي بما لا يحمله ثلث ماله، أن يبطل إقراره للأجنبي. هذا مذهب أشهب.
وقد قال أبو إسحاق التونسي: مذهب أشهب إنما هو أن يرجع الابن المقر له على الأجنبي بنصف ما أخذ منه يده الورثة مما صار له في المحاصة، لا بنصف ما صار له في المحاصة. قال: فقوله: ثم يتراجعون حتى لا يبقى بيد الأجنبي شيء لا يصح؛ إذ لا بد أن يبقى بيد الأجنبي كثير. بيان ذلك: أن يكونا أخوين، ويترك الميت مائة دينار، ويقر في مرضه لأحدهما بمائة دينار، ولأجنبي بمائة، فليأخذ الأجنبي خمسين، والابن المقر له خمسين، فيرجع الابن الذي لم يقر له على الذي أقر له بخمسة وعشرين من الخمسين، فيرجع المقر له على الأجنبي بنصف الخمسة وعشرين التي أخذها منه أخوه، فيرجع عليه أخوه، فيأخذ منه نصفها اثني عشر ونصف، فيرجع هو على الأجنبي بستة وربع، فيرجع عليه أخوه بثلاثة وثمن، فيرجع هو على الأجنبي بنصف الثلاثة والثمن، ثم يرجع عليه أخوه بنصف الثلاثة، ويرجع هو على الأجنبي بنصف ذلك، فيبقى بيده كسر على ما قاله.
وأما ابن القاسم فقوله في المدونة: إن الابن يحاص الأجنبي فيما ترك الميت بما أقر به لكل واحد منهما، ولا يكون للأجنبي في ذلك حجة، إذا لم يكن دينه ثابتا فيتهم الأب عليه في إقراره للابن، ويرجع الورثة على الابن بما صار له، فيكون ميراثا بين جميعهم؛ إذ لا يجوز الإقرار له، ولا يرى الرجوع له على الأجنبي بما رجع به الورثة عليه، وهو أظهر من قول أشهب وسحنون هذا في هذه النوازل، وبالله التوفيق.
وأما إن كان يفي ما ترك الميت من المال بما أقر به لهما جميعا، فيأخذ كل واحد منهما ما أقر له به، فإن شاء الورثة أقر ذلك للابن وأجازوه له، وإن(13/238)
شاءوا أخذوه منه، فكان ميراثا لجميعهم، وهذا هو معنى قوله: فإن كان المال مفترقا أخذ كل واحد منهما ماله، ولا اختلاف في هذا الوجه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر في مرضه أنه قد كان أوصى بعتق عبده]
مسألة قلت لسحنون: أرأيت إن أقر في مرضه أنه قد كان أوصى بعتق عبده أو تدبيره، أو بمال لرجل؟ فقال: كل ما كان في الثلث فهو جائز.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، كأنما أقر أنه قد أوصى به، فلا اختلاف في ذلك ولا إشكال، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بثلث ماله وقال على ألا ينقص ابني فلان من نصف مالي]
مسألة وسئل عن رجل هلك وترك ابنين، وأوصى لرجل بثلث ماله، وقال: على ألا ينقص ابني فلان من نصف مالي، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك، قال سحنون: إن أبوا الإجازة فللموصى له بالثلث ثلثا الثلث، ويبقى المال بين الأخوين. وقد قيل أيضا غير هذا، وهذا أحسن وأشبه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وجه هذا القول أن الثلث الموصى به حقه أن يؤخذ من حظ الابنين نصفه من حظ كل واحد منهما، فلما أوصى ألا ينقص أحد ابنيه من حظه شيئا، كان الموصى له بنصف الثلث، فوجب أن يتحاص هو والموصى له بالثلث بجميع الثلث، والابن الذي أوصى ألا ينقص من حظه شيء بنصف الثلث، فيصير للموصى له بجميع الثلث ثلثا الثلث، ويقسم الابنان بقية المال بينهما بنصفين؛ إذ لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يجيزها الورثة.
وأما القول الثاني الذي ذكر أنه قيل في المسألة، فلا أعرفه نصا لأحد(13/239)
من أصحابنا، والذي يشبه أن يقال أن يكون للموصى له بالثلث نصف الثلث، وهو سدس جميع المال، ويكون خمسة أسداسه بين الابنين بنصفين؛ لأن الموصي لما أوصى بثلثه، وألا ينقص أحد ابنيه من نصف المال شيئا، فقد أوصى أن يؤخذ جميع الثلث من حظ الابن الآخر، ذلك ما لا يجوز له؛ إذ لا يجب أن يؤخذ من حظه منه إلا نصفه، فتبطل الوصية بنصف الثلث؛ إذ أوصى أن يؤخذ من حظ أحد ابنيه زائد على ما يجب أن يؤخذ من حظه منه، وينفذ بالنصف الثاني ويكون خمسة أسداس المال بين الابنين. وهذا أظهر من القول الذي ذكره، وقال فيه: إنه أحسن، والله أعلم.
[مسألة: هلك وترك ولدين فأوصى لأحد ولديه ولرجل أجنبي بجميع ماله]
مسألة وقال في رجل هلك وترك ولدين، فأوصى لأحد ولديه، ولرجل أجنبي بجميع ماله، فأجاز الوصية للأجنبي، وأجاز الذي لم يوص له بشيء للذي أوصى له بالنصف، فإن مقامها من اثني عشر، فيعطى الأجنبي قبل كل شيء الثلث من اثني عشر، وذلك أربعة، ويصير للأخوين أربعة فيعطيان الأجنبي سهمين، يعطيه كل واحد منهما من حظه سهم، حتى يكمل له النصف، كما أجازا له النصف، ثم يرجع الذي أوصى له بالنصف إلى أخيه بتمام النصف، فيعطيه من سهمه سهمين، ويبقى له سهم، فيصير للأجنبي ستة أسهم، وللذي أوصى له بالنصف خمسة، ويخير سهم واحد، فيعطاه الأجنبي فيه، فيصير له ستة، ويبقى للآخر سهم فافهم، فإنها جيدة وقس عليها ما يناظرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر، وللصحيح فيها في وجه النظر أن يعطى الأخ الذي أجاز لأخيه الوصية، جميع الثلاثة الأسهم الذي بيده، فيصير المال جميعه للموصى لهما به، وهو الأجنبي وأحد الابنين؛ لأن(13/240)
الوصية بجميع المال قد أجازها الابنان جميعا حين أجازا للأجنبي جميعا، وأجاز الذي لم يوص له للذي أوصى له؛ لأن الذي أوصى له لا شك في إجازته لنفسه، فقد اجتمع الابنان جميعا على إجازة الوصية، وهما إذا أجازاها وجب أن يكون جميع المال بين الموصى لهما بنصفين، وهذا بين والله أعلم.
[مسألة: مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار]
مسألة قال سحنون. لو أن رجلا مرض فباع في مرضه دارا ثمنها ثلاثمائة دينار بمائتي دينار، وحابى بالمائة، ولا مال له غيرها، ثم أخذ المائتين، فاستنفقها، ثم مات، فإنه يقال للورثة: إن صاحبكم قد حابى بالمائة، ولا يحمل ذلك ثلثه، من أجل أنه استنفق المائتين، فإما أن يمضوا بيعه، وإما أن يتخلعوا من ثلثه للمشتري، فإذا أجازوا مضى البيع، وإن أبوا أن يجيزوا، بيع من الدار بقدر المائتين التي استنفقها، ثم يكون للمشتري ثلث ما بقي من الدار بعد الذي بيع منها.
قال محمد بن رشد: قد مضى قول سحنون هذا متكررا في سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس، ومضى القول عليه هناك مستوفى، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بعبد بعينه فلم يحمله الثلث]
مسألة وسئل عن رجل أوصى لرجل بعبد بعينه، فلم يحمله الثلث، فقيل للورثة بعد موت الموصي: يجيزون فأبوا. فقيل لهم: اخلعوا. فقالوا: نعم، فمات العبد. قال: أما ابن القاسم فيقول: المصيبة من الموصى له يقول: إذا خلعوا الثلث، فإنما يخلعونه في(13/241)
العبد، وأما أنا ومن رأى أن يخلعوا له الثلث في جميع مال الميت فيقول: للموصى له ثلث ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذا يجري على اختلاف قول مالك في الذي يوصي له بشيء لا يحمله الثلث، فيقطع له الورثة بالثلث، هل يجعل له الثلث في الشيء الذي أوصى له به، أو يكون شائعا في جميع مال الميت؟ فعلى القول بأنه يجعل له الثلث في الشيء الذي أوصى له به، لا يكون للموصى له بالعبد شيء إذا مات، كان موته قبل أن يقطعوا له بالثلث أو بعد أن قطعوا له بالثلث، وعلى القول بأنه يكون له الثلث شائعا في جميع مال الميت، يكون له ثلث ما بقي بعد العبد إن مات بعد أن قطعوا له بالثلث، وأما إن مات بعد أن قال الورثة: لا نجيز، ونحن نقطع له بالثلث، ولم ينفذوا له ذلك بحكم، أو بقول بات مثل أن يقولوا: لا نجيز، وقد قطعنا له بالثلث، فالمصيبة منه على ما في سماع أبي زيد، وجعل في هذه الرواية قولهم: نعم، جوابا لقوله: اخلعوا قطعا بالثلث خلاف ظاهر ما في سماع أبي زيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بالجارية لرجل ثم يثب عليها فيطؤها]
مسألة وقال في الرجل، يوصي بالجارية لرجل ثم يثب عليها فيطؤها، ولا يغير وصيته: إن ذلك ليس مما ينقض وصيته به، ولا يمنع الموصى له من قبضها حتى يغيرها، وينقضها بغير الوطء.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في سماع أبي زيد، وهو مما لا اختلاف فيه أعرفه، وإنما يكون الرجوع بالتفويت، وأما بالوطء والاستخدام فلا، وبالله التوفيق.
[مسألة: حضرته الوفاة فقال ثلث مالي لفلان وفلان وفلان إن قبل فلم يقبل]
مسألة وسئل سحنون عن رجل حضرته الوفاة فقال: ثلث مالي لفلان(13/242)
وفلان وفلان، إن قبل ذلك، فلم يقبل هذا الذي قيل فيه إن قبل، هل ترى الثلث لهذين إذ لم يقبل الثالث؟ أم ترى ثلث الثلث يرجع إلى ورثة الميت؟ وكيف إن كان الذي قال فيه: إن قبل غائبا ما يصنع بمصابة الغائب؟ هل يوقف حتى يستنجز ذلك منه أم لا؟ وكيف إن قال: لفلان عشرة، ولفلان عشرة إن قبل فلان، والثلث عشرون؟ فسئل الذي قيل فيه: إن قبل فأبى أن يقبل هل ترى العشرين كلها لهذين؟ أم يرجع مصابة هذا الذي أبى إلى الورثة؟ وهل بين المسألتين اختلاف؟ قال سحنون: ليس بينهما فرق، كل من أوصى بوصايا استوعب فيها ثلثه وزاد، وكان من بعض وصاياه في شك أن تقبل أو لا يقبل، فإن قبلت كانت حيث جعلها، وإن لم يقبل ورجعت كانت لمن بقي من أهل الوصايا، ولم ترجع إلى الورثة، وإنما ترجع إلى الورثة، فيحاصون به أهل الوصايا لو أوصى، وزاد في وصاياه على ثلثه، وكان عنده نافخا، ومات على أن عنده جائز، فتلك التي إن رجعت ولم تنفذ، كانت لورثته، يحاصون به أهل الوصايا، ومسألتك إن قبل وصيته جازت، وإن لم يقبل رجعت وصيته إلى أهل الوصايا، ولم يدخل عليهم الورثة في شيء.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على ما في المدونة وغيرها إن شاء الله.
[مسألة: أوصى أن تباع جاريته ممن يتخذها أم ولد]
مسألة وسئل سحنون عن رجل أوصى أن تباع جاريته ممن يتخذها أم ولد، قال: أرى هذا بيعا لا يجوز، وهي وصية مردودة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن البيع على هذا لا يجوز، ولا(13/243)
تجوز الوصية لما لا يجوز، فإن وقع ذلك فسخ البيع إن عثر عليه قبل أن يفوت. وقد قيل: إن البيع على هذا مكروه، لا يفسخ إذا وقع ورضي البائع بترك الشرط، فعلى هذا القول يكره تنفيذ الوصية، ويؤمر الوصي أن لا ينفذها، فإن نفذها لم يرد البيع إذا رضي البائع بترك الشرط، وبالله التوفيق.
[: أوصى لفقراء بني عمه وفقراء أقاربه وأشهد على ذلك أغنياء بني عمه]
من سماع موسى بن معاوية من ابن القاسم
قال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم في رجل أوصى لفقراء بني عمه، وفقراء أقاربه بحائط يغتلونه، ولم يشهد على تلك الوصية إلا أغنياء بني عمه، قال: لا تجوز شهادتهم، خوفا من أن يحتاجوا إلى ذلك يوما ما، إلا أن يكون شيء تافه لا خطب له، ولا يتهمون في مثله لغناهم، ولعلهم لا يدركون ذلك، فإذا كان الأمر خفيفا لا يتهمون فيه بجر إلى أنفسهم، رأيت الأمر جائزا لهم، وذلك أني سمعت مالكا، وسئل عن ابني عم شهدا لابن عم لهما على أموالي فقال مالك: إن كانا قريبي القرابة يتهمان في جر الولاء لهما، فلا يجوز وإن كانا من الفخذين الأباعد، ولا يتهمان على جر ذلك، رأيت شهادتهم جائزة، فكذلك مسألتك.
قيل لابن القاسم: فإن استغنى بعض فقراء بني عمه، وافتقر بعض أغنيائهم، هل يخرج الغني، ويدخل الفقير؟ قال: نعم، وإنما يقسم على كل من كان فقيرا يوم يكون القسم، ولو قسم على قوم عاما، وبعض بني عمه أغنياء، ثم جاء القسم من قابل، وقد افتقرا الأغنياء، واستغنى الفقراء الذين قسم عليهم تحول القسم إلى(13/244)
الأغنياء الذين لم يكن عليهم قسم، وأخرج منه الفقراء الذين قسم عليهم، فهذا قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا إشكال فيها، يفتقر إلى بيان وشرح، والله الموفق.
[مسألة: يوصي أن يباع غلامه رقبة]
مسألة قال ابن القاسم في الذي يوصي أن يباع غلامه رقبة، فبيع رقبة، ووضع عن المشتري ثلث الثمن فأعتقه، ثم جاء درك على الهالك من دين ثبت عليه. قال: أرى أن يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، ويؤخذ من الورثة ثلثا الدين، وإن كان العبد ربع الدين، أخذ من الورثة ثلاثة أرباع الدين، وإن كان العبد خمس المال، بيع من العبد خمس الدين، وأخذ من الورثة أربعة أخماس الدين، فعلى هذا يحسب؛ قال أصبغ بن الفرج: لأنها إنما هي وصية للعبد بتلك الوضيعة التي كانت وضعت من ثمنه؛ لأن مشتريه لو لم يأخذه بوضيعة الثلث، ولم يوجد أحد يأخذه إلا بأقل من ذلك، كان الورثة مخيرين إما أجازوا وإما أعتقوا من العبد ما حمل الثلث بتلا. فالوضيعة هاهنا إنما هي للعبد، فلذلك لم يكن على مشتريه غرم شيء من الثلث الذي وضع له من ثمنه، كأنه إنما باع ثلثي العبد قبل موته، وأخذ ثمنه، فكان مالا من ماله ورثه فيما ورث، وأوصى بعتق الثلث الذي بقي له فيه، فذلك الثلث، إنما يقول في ثلثه، ويعرف ما هو من جميع ماله، فإن كان خمسا أو سدسا أو ربعا أو ثلثا عتق، فإنما يقع عليه من الدين بقدر ما كانت(13/245)
وصيته من مال الميت، كانت سدسا أو ربعا أو خمسا، وإن كان سدس ذلك الدين أو ربعه أو خمسه، يكون أكثر من سدس رقبته، أو ربعها، أو خمسها، بيع منه ما بينه وبين ثلث رقبته؛ لأنها وصيته التي أوصى له بها، والذي يملك؛ لأنه قد أخذ للثلثين الباقيين ثمنا صارما لا مع ميراثه للورثة، فالثلثان غير الميت أعتقهما، ومن غير ماله عتقا، ويكون ما عجز عن ثلث رقبته من ذلك الجزء الذي وقع عليه من الدين في مال الميت، يرجع به على الورثة أيضا في مال الميت، حتى يحيط ذلك بجميع ما أخذوا فيما أخذوا؛ لأن ما وقع على العبد من الدين قد أحاط بجميع ما أوصى له به وزاد، فالزيادة ليست عليه، وأما العبد فإنما عليه أن يؤخذ منه وصيته التي أوصى له بها فقط؛ لأنه لا وصية إلا بعد الدين، وقاله أصبغ كله حسن، وهو بمنزلة ما لو أعتق العبد كله، وهو يخرج وصيته من ثلثه، ثم طرأ دين وقع عليه الدين بالحصص، فيرد عليه منه بقدر ما أصابه حتى يحيط بذلك كله أو لا يحيط، ولم يكن على الورثة غرم ذلك فيما أخذوا من مال عنه، فالمشتري بمنزلة الورثة، غير أن الوصية للعبد في ذاته ونفسه فهو المأخوذ والمردود حتى تفضل فضلة، فيكون كأنه لم يترك غيرها، ولا دين عليه، أو كأنه ترك دينا ومالا فوفى الدين وفضلت تلك الفضلة، فأنفذ للعبد في ثلثها ما حمله، فعلى هذا يعمل ويحمل في فض الدين عليه، وعلى ما ترك الميت وأخذ الورثة، يقع على ذلك بقدر ما وقع قال أصبغ: قال ابن القاسم: وقد ذكر عن مالك في هذه المسألة أنه يغرم المشتري ثلث ثمن العبد، وهو يضعف ذلك، ويراه وَهْمًا وخطأ، ولا يراه شيئا فيما رأيته وهو كذلك، والقول فيها القول الأول. يقول ذلك أصبغ.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه يباع(13/246)
من العبد الذي بيع على العتق في الوصية، فأعتقه المشتري بقدر ما يقع عليه من الدين الطارئ على تركة الموصي، ولا يرجع بشيء من ذلك على المشتري فيما وضع عنه من ثمنه، هو على قياس القول بأنها وصية للعبد، فإن لم يوجد من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من الثلث قيل للورثة: إما بعتموه بما وجدتم، وإما أعتقتم ثلثه.
وأما على قياس القول بأنها إنما هي وصية للمشتري، فإن لم يجد الورثة من يشتريه للعتق إلا بوضيعة أكثر من ثلث ثمنه، لم يلزمهم بيعه، ولا تنفذ الوصية له، وهو قول مالك في رسم الوصايا من سماع أشهب، فلا يباع من العبد شيء في الدين الطارئ، وإنما يكون الدرك في ذلك على المشتري، فيرجع عليه بثلث ثمن العبد الذي وضع له، ويمضي عتق العبد. وهو قول مالك في رواية ابن كنانة عنه على قياس رواية أشهب المذكورة، وقول مالك الذي ذكره عنه ابن القاسم في آخر المسألة أيضا، وقد مضى الكلام عليها في موضعها، إلا أن قول ابن القاسم في هذه الرواية على قياس القول بأنها وصية للعبد؛ أنه يباع من العبد قدر ثلث الدين إن كان العبد ثلث المال، وقدر ربع الدين إن كان العبد ربع المال، يريد ما لم يتجاوز ذلك ثلث رقبة للعبد على ما فسره أصبغ نظرا، والقياس ألا يباع منه في الدين الطارئ إلا قدر ما يقع من الدين على ثلث العبد؛ لأنه هو الذي أعتق من مال الميت، وأما الثلثان منه فإنما أعتقهما المشتري، وقد قال ذلك أصبغ فيما اعتمده من تفسير قول ابن القاسم، وهو قوله: والثلثان غير الميت أعتقهما، ومن غير ماله عتقا، ووجه العمل في ذلك أن ينظر ما يقع ثلث العبد من جميع مال الميت لا جميع العبد كما قاله ابن القاسم وأصبغ، فإن كان ثلث العبد من جميع مال الميت العشر أو التسع أو الثمن بيعت رقبة العبد بعشر الدين أو بتسعه أو بثمنه، وإن أتى البيع على جميعه.
وأما قول أصبغ في تفسير قول ابن القاسم: إنه إن كان العبد ربع جميع مال الميت أو خمسه؛ بيع(13/247)
من رقبة العبد بربع الدين أو بخمسه ما بينه وبين ثلث رقبة العبد، فلا يستقيم، فانظر ذلك نظرا صحيحا، وتدبره بين ذلك صحة قولي في اعتراضي لقول ابن القاسم، وأصبغ لم يوجب على الوصي في ظاهر هذه الرواية ضمانا، وهو ظاهر ما في رسم الأقضية، من سماع يحيى، خلاف ما مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب، وقد مضى القول على ذلك هنالك مستوفى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بعبد أو دابة غائبة عن الموضع]
مسألة وقال موسى بن معاوية: قال ابن القاسم: كل من أوصى لرجل بعبد أو دابة غائبة عن الموضع، فعلى الذي أوصى له أن يأتي به يكون الجعل عليه، وليس على الورثة من ذلك شيء، وإن كان عبد بموضع له بذلك الموضع رفعة في عمله، مثل العبد الزارع الحارث العامل في النخل، الذي إنما رفعته في عمله بموضعه، وإن جلب إلى الفسطاط وما أشبهها من المدائن، لم يكن له ارتفاع في القيمة لدناءة منظره، فإنه يقوم بذلك الموضع ولا يجلب، وكذلك العبد التاجر الأمين الذي قد عرف ببصر التجارة والأمانة، ولعله لا يكون له كبير منظر، فإنه يقوم على خبره وبصره وأمانته، ولا يحل لأهله كتمان ذلك منه، وفي سماع أشهب من كتاب الوصايا، عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم الأقضية الثاني، ورسم الوصايا من سماع أشهب مستوفى، فاكتفينا بذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يشترى عبد من ثلثه فيعتق]
مسألة قال موسى: قال ابن القاسم في رجل أوصى أن يشترى عبد(13/248)
من ثلثه فيعتق، وما بقي من ثلثه، فاشتروا به رقابا فأعتقوها، وأوصى بوصايا. قال: ينظر إلى الوصايا، وإلى الرقبة الأولى، فإن قصر الثلث عنهم تحاصوا في الثلث، فإن كان في الثلث فضل جعل في الرقاب التي أوصى بها، وذلك أن كل من أوصى بشيء بعينه لأحد، أو أمر به فسماه، وقال: ما بقي من ثلثي فاجعلوه في كذا وكذا، أو أوصى بوصايا سماها قبل ما أوصى به أو بعده، إلا أنه قال: ما بقي من ثلثي ففي كذا وكذا بعد التسمية، فإن التسمية والوصايا تبدأ قبل الذي جعل فيه ما بقي من ثلثه، وإن كانت الوصايا بعدما أوصى أو قبله، فهو سواء، وهذا قول مالك، فمسألتك الأولى على هذا.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه ينظر إلى الوصايا وإلى الرقبة الأولى، فإن قصر الثلث عنهم، تحاصوا فيه، هو مثل ما في المدونة من أن الرقبة بغير عينها لا تبدأ على الوصايا، وقد اختلف في ذلك وفي الوصية بالحج، فقيل: إنها كلها سواء في التحاص، وقيل: تبدأ الرقبة على الحج، ويتحاص المال مع الحج ومع الرقبة، والوجه في ذلك أن الرقبة آكد، ثم المال، ثم الحج، فتتحاص الرقبة مع المال، لقرب ما بينهما، والمال مع الحج أيضا لقرب ما بينهما، وتبدأ الرقبة على الحج، لبعد ما بينهما.
وقيل: تبدأ الرقبة على المال والحج، وقيل: يبدأ الحج، على الرقبة والمال. وأما قوله: إذا أوصى بوصايا، وقال ما بقي من ثلثي، فاجعلوه في كذا وكذا، ثم أوصى بعد ذلك بوصايا، فإن الوصايا تبدأ قبل الذي جعل فيه ما بقي من ثلثه، وإن كانت الوصايا بعدما أوصى أو قبله، فهو سواء، فهو مثل ما تقدم في رسم الصلاة، من سماع يحيى، وفي رسم أسلم، من سماع عيسى، وذلك على ما بينه محمد بن المواز، حسبما بيناه واستوفينا القول فيه في رسم أسلم، من سماع عيسى المذكور، وبالله التوفيق.(13/249)
[مسألة: أوصى فقال بيعوا عبدي بعشرين]
من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: سئل ابن القاسم عن رجل أوصى فقال: بيعوا عبدي بعشرين، وأعطوا فلانا منها خمسة عشر دينارا، فلم يبع العبد إلا بأقل من عشرين دينارا، قال ابن القاسم: يعطى الموصى له بالخمسة عشر ثلاثة أرباع ما بيع به العبد، إذا كان قد نقص ثمنه من عشرين دينارا. وقد قال في غير هذا الكتاب من سماع عيسى: إنما له ما زاد على خمسة دنانير، وإن نقص من خمسة فلا شيء له، وأشهب يقول: له مما بيع بخمسة عشر على كل حال، وإن بيع بأقل من خمسة عشر دينارا، فجميع ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى، في رسم جاع، فباع امرأته، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته، والله أعلم.
[مسألة: توصي لزوجها فلما علم الزوج أن الوصية لا تثبت له طلقها البتة]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن امرأة توصي لزوجها بوصية، فلما علم الزوج أن الوصية لا تثبت له، طلقها البتة، فقال ابن القاسم: إن كانت علمت بطلاقه، فلم تغير وصيتها، فهي له ثابتة، وإن كانت لم تعلم، فلا وصية له.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة مستوفى في سماع سحنون، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ما يضمن فيه الوصي]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل كتب وصيته، ثم خرج(13/250)
مسافرا، فحضرته الوفاة في سفره، فكتب وصية أخرى، وكنى عن التي ترك لم يذكرها بشيء، وأوصى في سفره إلى رجل، فذهب الوصي فنفذ وصيته في سفره ذلك من ماله الذي ترك، فقال ابن القاسم: أراه متعديا، وأرى ضامنا لما أعطاه.
قال محمد بن خالد: وقال ابن نافع مثله.
قال محمد بن رشد: إيجاب الضمان على الوصي في هذه المسألة بين؛ إذ قد تبين عداؤه بتعجيل تنفيذ وصيته في سفره من المال الذي تركه فيه، دون أن يتثبت ويتربص حتى يرجع إلى بلده، فينظر هل له وصية أخرى؟ وإنما يضمن إن كانت الوصية التي كتبها في بلده عند سفره أولى من هذه وأحق بالتبدئة، ولا يحملها ثلثه جميعا.
وقد مضى في رسم الأقضية، من سماع أشهب تحصيل القول فيما يضمن فيه الوصي مما لا يضمن، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ما بقي من ثلثي فهو لفلان]
مسألة قلت لأشهب: فرجل أوصى فقال: ما بقي من ثلثي فهو لفلان، ولم يوص بأكثر من ذلك حتى مات، فقال: يعطى الذي أوصى له ببقية الثلث ثلث الميت.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الروايات: يعطى الذي أوصى له بقية الثلث ثلث الثلث، وهو غلط وتصحيف، والله أعلم. وقد حمل ذلك ابن حارث على أنه اختلاف من قول أشهب، مرة قال: له جميع الثلث، ومرة قال: له ثلث الثلث. والمسألة متكررة من قول مالك في مواضع من سماع عيسى، وقد مضى الكلام عليها في رسم أوصى منه، وبالله التوفيق.(13/251)
[: إقرار المريض في مرضه بدين لوارث]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم وابن وهب وأشهب
قال عبد الملك بن الحسن، سئل ابن القاسم عن رجل حضر خروجه إلى حج أو غزو أو سفر من الأسفار، فيكتب وصيته، ويشهد عليها، ويشهد لامرأته، أو لبعض ولده أن لهم عليه من الدين كذا وكذا. ويضع ذلك في وصيته، أو لا يضع ذلك في الوصية، غير أنه يشهد أن عليه من الدين لورثته كذا وكذا، ويتصدق حينئذ بصدقة بَاتَّةٍ على ابن له صغير لم يبلغ الحوز، فيموت في سفره ذلك، هل يجوز للوارث ما أقر له به، وما تصدق على الصغير؟ قال ابن القاسم: ما صنع من ذلك فهو جائز، إذا أشهد عليه، وهو صحيح، ولا يشبه هذا المرض؛ لأنه صحيح، وهو أحق بماله من ورثته، ولا يتهم على شيء من ماله إذا أشهد عليه، وليس في السفر تهمة.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم، خلاف قوله وروايته عن مالك في رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم؛ لأنهما حكما فيه للخارج إلى سفر بحكم المريض، لا يجوز له أن يفعل ما يفعل الصحيح، فعلى قولهما لا يجوز إقراره بالدين لبعض ورثته عند الخروج إلى غزو أو سفر إن مات في غزوه أو في سفره، كما لا يجوز إقرار المريض في مرضه بدين لوارث إن مات من مرضه ذلك، وقد مضى هناك من القول على ذلك ما فيه زيادة بيان، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون عنده اللقيط فيتصدق هو نفسه عليه بصدقة]
مسألة وسألت ابن وهب عن الرجل يكون عنده اللقيط، فيتصدق هو(13/252)
نفسه عليه بصدقة، أيحوز له كما يحوز لابنه الصغير؟ فقال لي: نعم يحوز له كما يحوز لابنه الصغير، وكذلك كل من ولي يتيما، أجنبيا كان أو قريبا، وهو قول المدنيين كلهم إلا ابن القاسم، فإنه لم يكن يرى ذلك إلا للوصي، قال سحنون مثل قول ابن وهب، قال سحنون: وروى ابن غانم عن مالك أن كل من ولي يتيما أجنبيا كان أو قريبا من غير خلافة ولا وصية إلا لقرابة أو لحسنة، فهو تجوز مقاسمته وحيازته صدقته التي تصدق بها عليه هذا وغيره. قال سحنون: وهي عندي رواية ضعيفة. قال سحنون: وفي رواية ابن القاسم عن مالك، وكذلك كل من ولي يتيما أجنبيا كان أو قريبا.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم هذه التي حكاها سحنون، ليست في كل الروايات، ويمكن أن تتأول على المعلوم من مذهبه، بأن يقال: معنى ذلك، بخلافة من أب أو سلطان. وقول ابن وهب في هذه الرواية: إن الرجل يحوز للقيط يكون في حجره ما يتصدق به عليه، هو مثل رواية ابن غانم عن مالك، ونحو ما في المدونة من الرجل تجوز مقاسمته على من التقطه، خلاف قوله في رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات؛ لأنه لا تجوز الحيازة في ذلك إلا للأب والأم، والأجداد والجدات، ولا يجوز ذلك لسائر القرابات. فقول ابن القاسم: إن الحيازة في ذلك لا تجوز إلا للأب والوصي، قول ثالث في المسألة.
وقد مضى الكلام على هذا في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، وفي رسم الأقضية، من سماع يحيى، من كتاب الصدقات والهبات، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بشيء بعينه ثم أوصى بذلك الشيء لغيره]
مسألة وسألت أشهب عمن عوتب في القرابة فقيل له: ألا تصلهم؟(13/253)
ألا ترفق بهم؟ قال: فأشهدكم أني إذا مت فثلثي لها، ثم إنه مرض، فأوصى بثلثه، فقال: لا أرى لأقاربه شيئا.
قال محمد بن رشد: قول أشهب هذا خلاف مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فيمن أوصى لرجل بشيء بعينه، ثم أوصى بذلك الشيء لغيره، وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، فيمن أوصى لرجل بشيء بعينه، ثم أوصى بذلك الشيء لغيره؛ أنهما يشتركان فيه، ولا تكون وصيته الثانية نقضا لوصيته الأولى، وكذلك على مذهبه إذا أوصى لرجل بثلثه، ثم أوصى به لغيره، يشتركان فيه، ولا تكون وصيته الآخرة نقضا لوصيته الأولى، وذلك على ما قال مالك: إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ثم أوصى الآخر بجميع ماله؛ أنهما يشتركان في الثلث على أربعة أجزاء، ولا تكون وصيته للآخر بجميع ماله نقضا لوصيته الأولى بثلث ماله.
وقد روى علي بن زياد عن مالك في الرجل يوصي بعبده لرجل، ثم يوصي به لآخر؛ أنه يكون للآخر، فعلى هذه الرواية يأتي قول أشهب، ولا فرق على مذهب ابن القاسم بين أن يوصي بثلثه لرجل، ثم يوصي به لآخر، وبين أن يوصي بعبده لرجل، ثم يوصي به لآخر، إلا في التحاص إذا كان ثم وصايا سوى ذلك، فإن الذي أوصى لهما بالعبد يضربان جميعا به، واللذين أوصى لكل واحد منهما بالثلث يضرب كل واحد منهما بما أوصى له به من الثلث كاملا، وبالله التوفيق.
[مسألة: الموصى يجد في تركة الميت شطرنجا]
مسألة وسألت ابن وهب عن الموصى يجد في تركة الميت شطرنجا، هل ترى له أن يبيعها؟ قال: لا يبيعها. قلت: فما يصنع بها؟ قال: ينحت وجوهها، ويبيعها حطبا، قلت: بأمر السلطان أم ترى أن لا يفعل بغير أمر السلطان؟ قال: إن كان السلطان ممن قد سمع العلم(13/254)
والأحاديث، فأرى أن يفعل ذلك بغير أمره، وإن كان ممن لم يسمع العلم والأحاديث، ولا يعرفه، وكان خائفا من ناحيته بجهالته بما جاء فيها، فلا أرى له أن يفعل ذلك بأمره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه ينبغي للموصى أن يكسر الشطرنج إذا وجده في تركة الميت، ويبيعه حطبا، ولا يبيعه كما هو، بمنزلة النرد، وهو يشبه في صفته على ما روى أنه قطع معاونة يصنع من العاج والبقس، ويسمى بالطبل وبالكعاب وبالنردشير. ذكر مالك في موطئه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله.» وعن عائشة أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها، عندهم نرد، فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم، وعن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير.» والشطرنج بمنزلته، قال مالك: لا خير فيه، وكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، وتلا قول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] ، وقال الليث بن سعد فيه: إنه شر من النرد، ولا اختلاف بين مالك وجميع أصحابه، في أن من أدمن اللعب بها، كان ذلك جرحة فيه، تسقط أمانته وشهادته. وقد قيل: إن الإدمان أن يلعب بها في العام أكثر من مرة، وهذا إذا لعب بها على غير وجه القمار، وأما اللعب بها على القمار(13/255)
والخطر، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في تحريم ذلك؛ لأنه من الميسر المحرم بنص القرآن، ولعيسى بن دينار في كتاب الجرار أنه سئل عن الرجل يهلك، فيوجد في تركته شطرنج ونرد وعظام يلعب بها؛ هل ترى الإمام أن يأمر بكسرها؟ قال: لا أرى ذلك عليه، وأرى له أن يدعها، قيل: فإن كان عليه دين هل يبيعها في دينه؟ قال: لا، ولم ير ذلك في العود والمزمار، ورأى أن يكسر على كل حال، وإنما قال ذلك عيسى بن دينار لما روى من ترخيص من رخص في اللعب بالشطرنج على غير قمار من العلماء، والصواب كراهة اللعب بها وكسرها، والأدب على اللعب بها قياسا على ما فعله عبد الله بن عمر في النرد.
وقد مضى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات القول في الخمر يجدها الوصي في تركة الميت، وبالله التوفيق.
[: يشتد عليه العاصف في البحر فيريد أن يتصدق بماله]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يشتد عليه العاصف في البحر، فيريد أن يتصدق بماله، قال: إذا اشتد عليه العاصف، وخاف الغرق، لم يجز له القضاء في ماله، إلا في الثلث.
وسئل عن الذي تجمح دابته، أيجوز له القضاء في ماله؟ قال: لا يجوز له القضاء في ماله إلا في الثلث، والذي يقدم للقتل صبرا مثله.
قال محمد بن رشد: في الذي يشتد عليه العاصف في البحر: إنه لا يجوز له القضاء في ماله، إلا في الثلث خلاف قول مالك في المدونة مثل ما حكى سحنون عنه من أنه أمر راكب البحر في الثلث، وقد قيل على ظاهر هذه الرواية التي حكى سحنون: إن أمر راكب البحر في الثلث على كل حال، وإن لم يكن فيه هول؛ إذ لا يؤمن تقلبه.(13/256)
فيتحصل على هذا في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها إجازة فعل راكب البحر على كل حال، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم عنه في المدونة، والثاني إن فعله لا يجوز على كل حال، وهو ظاهر ما حكى سحنون عن مالك في المدونة والثالث الفرق بين حال الهول فيه وحال غير الهول، وهو دليل قول ابن القاسم في هذه الرواية، وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن راكب البحر في حال الهول أخوف على نفسه من المريض، والذي تجمح به دابته بمنزلته سواء يدخله ما يدخل راكب البحر في حال الهول من الاختلاف ولا اختلاف في الذي يحبس للقتل صبرا إن فعله لا يجوز إلا في الثلث، وكذلك الأسير في أول أمره، قبل أن يستحكم أسره على ما حكاه ابن حبيب في الواضحة لأن قوله يحمل على التفسير لما في سماع أبي زيد من كتاب الجهاد. وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في مرضه اجعلوا غلامي فلانا بيني وبين النارفيمسك لسانه]
مسألة وسئل عن الذي يقول في مرضه لورثته: اجعلوا غلامي فلانا بيني وبين النار، فيمسك لسانه. قال: أراه عتيقا.
قال محمد بن رشد: هذا بيّن على ما قاله؛ لأنه إنما أراد أن يعتقه الله من النار بعتقه إياه، على ما جاء من أنه من أعتق عبده أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار. وبالله التوفيق. لا شريك له وهو حسبي ونعم الوكيل.
تم الرابع من الوصايا والحمد لله.(13/257)
[: كتاب الوصايا الخامس] [مريض أعتق ثلث عبده ولا مال له غيره وباع من العبد ثلثي نفسه الباقيين]
من سماع أصبغ من ابن القاسم
من كتاب القضاء العاشر من البيوع قال أصبغ بن الفرج: وسألت ابن القاسم عن مريض أعتق ثلث عبده، ولا مال له غيره، وباع من العبد ثلثي نفسه الباقيين بيعا ليس فيه محاباة بما يسوى بثلثي قيمته أو أكثر قال: ذلك جائز: قلت قبض الثمن قبل أن يموت أو لم يقبض، أو تأخر القبض حتى مات؟ قال: ذلك سواء قبض أو لم يقبض إذا دفع العبد ذلك، قال أصبغ: وذلك إذا كان المال الذي يعطى العبد الذي باعه به ليس من مال هو للعبد قبل أن يبيعه، فأما مال هو له يومئذ يكون رقيقا معه، فليس ذلك ببيع ذلك حيف ومحاباة وعتق من الميت، وأخذ الأكثر من ثلثه وما لا يجوز له.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ صحيح مفسر لقول ابن القاسم، ولابن دحون في هذه المسألة كلام صحيح، يفسر قول أصبغ. قال: إنما يشترى العبد بثلثي نفسه بعد عتق السيد لثلثه، من ثلث ما في يديه، أو من مال وهب له، وإن اشترى ثلثي نفسه بكل المال الذي في يديه فهي محاباة من الميت له؛ لأن المال الذي كان في يديه إنما له منه ثلثه الذي أعتق منه سيده وباقيه للسيد، إلا أنه لا يؤخذ من يديه وإن بيع بيع به كالشريكين في العبد. ولابن المواز في هذه المسألة تفسير لا يتجه إلا على(13/259)
بعد. قال: لأن ما صار له موقوفا بيده، يعتق بعضه، وكأنه العبد في نفسه شفعة لحرمة العتق، فإن كان ثمن ثلثي العبد في تركة السيد وافرا فيتم عتق ثلث العبد، وإن أنفق ثمن الثلثين أو لم يوجد رق من الثلث الذي أعتق ثلثاه وعتق ثلثه. قال ابن أبي زيد: يريد: ويعتق ثلثاه المبيع، فانظر في ذلك وتدبر، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عند موته إن أسلمت جاريتي فلانة فهي حرة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عمن قال عند موته: إن أسلمت جاريتي فلانة فهي حرة، فغفل عنها بعد موته، ولم يعرض عليها الإسلام حتى ولدت أولادا بعد موته، ثم عرض عليها فأسلمت، قال: يعتق ولدها معها، إنما ذكر بمنزلة ما لو قال: إن دفعت إليكم فلانة عشرة دنانير، فهي حرة، فغفل عنها حتى ولدت أولادا ثم عرض عليها، فأدت العشرة، فهي حرة. وولدها. وقاله أصبغ. وقال: المسألة أوضح من الحجة وأقوى، وكذلك كل موصى بعتقها فولدت بعد موت سيدها قبل أن تقام في ثلثه أولادا فإنها تعتق في ثلثه وولدها؛ لأنه قد كان انعقد لولدها ما عقد لها يوم وجب العتق فيها، وهو يوم مات السيد، وإن كان ولدها ذلك كانت به حاملا يوم أوصى أو يوم مات، إذا كانت إنما وضعته بعد موت السيد الموصي، فالذي تحمل به بعد الموت أحرى وأوكد، وقد قال لي ابن القاسم هذا أيضا، وقال: فإن وضعته قبل موته، فلا يدخل معها في الوصية وهو رقيق؛ لأنه لو شاء أن يرد الوصية فيها ردها. قال أصبغ: لأنه قد زايلها قبل أن ينعقد له عتق أو يجب، قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإذا مات حين تثبت لها الوصية، فما ولدت بعد ذلك دخل معها، كانت حاملا بعد ذلك أو لم تكن. ومثال ذلك أن(13/260)
يقول: جاريتي حرة إن رضي أبي في وصية أوصى بها، فتلد الجارية أولادا وأبوه غائب وقد مات الموصي فيقدم الأب فيخير ويرضى، فهي وولدها أحرار، فأراها في المسألة الأولى حرة، وولدها إذا شاءت ذلك الأمر الذي عرض عليها أو شاء غيرها ممن يجعل ذلك إليه الميت وأرى ألا يتعجل ببيعها إن أبت في أول ذلك الأمر الذي عرض عليها أو شاء غيرهما حتى يرد عليها مرة بعد مرة، فإن أبت بيعت وإن قبلت ذلك بعد أن كرهت فذلك لها، ولا يكون إباؤها أولا إذا قبلت ذلك يعد نقضا لما كان جعل لها ما لم يمض فيها حكم ببيع بعد أن ردد عليها أو قسمة، فإذا ردد عليها فلم تقبل ورضيت بالبيع فبيعت أو قسمت، ثم رجعت بعد ذلك، لم يكن ذلك لها؛ لأن الحكم قد مضى فيها قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وكل شرط أو مشيئة كان في أمة جعل ذلك لها بعد الموت فولدها بمنزلتها إذا ولدته بعد موت السيد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الموصى لها بالعتق إن شاءت أو إن أسلمت أو أرادت كذا وكذا، أو إن رضي فلان وما أشبه ذلك، يدخل ما ولدت بعد موت الموصي فيما أوصى لها به؛ لأن ذلك قد وجب لها أو لمن جعل إليه الخيار في عتقها بموت الموصي كما يجب للموصى لها للعتق بموت سيدها ويدخل ما ولدت بعد موته فيما أوصى لها به كانت حاملا به يوم الوصية أو لم تكن، وإذا اختارت التي خيرت بين البيع والعتق، فلها أن ترجع إلى العتق ما لم تُبَع، فإن بيعت بعد أن اختارت البيع، لم يكن لها أن ترجع إلى العتق، وإن كان الأمر لم يردد عليها على ظاهر ما تقدم في رسم القطعان من سماع عيسى، وفي سماع سحنون، ودليل قوله في هذه الرواية: إن ذلك لها إن كان الأمر لم يردد عليها. وهذا الدليل يرده ظاهر ما في رسم القطعان من سماع عيسى وفي أول سماع سحنون فترديد(13/261)
الأمر عليها في الرجوع إلى اختيار العتق، إنما هو استحسان، ما لم يقع البيع هذا الذي يجب أن تحمل عليه الرواية والله أعلم.
[مسألة: أوصى إلى وصي وأوصى لقوم بوصايا]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل أوصى إلى وصي وأوصى لقوم بوصايا، وأوصى بعتق غلام له، فلما مات الرجل، أنفذ الرجل الوصايا، ولم يكن علم بالعتق، ثم أقام الغلام البينة على عتقه، قال: إن كان ذلك من الوصي بعد تمكن واجتهاد واستثبات أمر، لم يعجل فيه، وأنظر بالأمر إن حدث، ثم أنفذ ذلك، فلا شيء عليه. قال أصبغ: ودون هذا التأكيد أيضا لا شيء عليه فيما إذا لم يعلم ولم يبادر ذلك خوفا منه مبادرة له، وليس عليه هذا التأكيد كله إنما عليه بقدر الوصية في قلتها وكثرتها واجتماع المال، وتفرقته، واستبراء ذلك، ثم ينفذ، ولا شيء عليه على نحو ذلك قال أصبغ: قال ابن القاسم: ويعتق العبد إن حمله الثلث من جميع المال، ويتبع الورثة أهل الوصايا بما فضل من الثلث دينا يتبعونهم به، إن لم يكن لهم شيء على كل إنسان، بقدر ما أوصى له به. قال أصبغ: جعله كالدين الطارئ يأخذه صاحبه ممن وجده مليا من الورثة، ويتبع الورثة بعضهم بعضا. وقال أصبغ: لا أراه كذلك، أراه كالوارث الطارئ إذا لم يعلم به، إنما يأخذ من كل وارث وجد معه مالا بقدر ما يصيبه، ويتبع سائرهم مما وقع عليهم، وكذلك هذا لا أرى أن يعتق منه إلا بقدر ما صار في يدي كل وارث يجده مليا أو موصى له بالثلث من قيمته التي كان يعتق فيها ويرق ما بقي حتى يجد الآخرين مَلِيّا، يعتق باقيه عليهم فيما أخذوا له من ذلك. قال: وتفسير ذلك أن يوصى بعشرة بين رجلين، والعبد(13/262)
قيمته عشرة، والورثة اثنان، والمال بالعبد ستون فالثلث عشرون، فأخذ أهل الوصايا عشرة، والورثة خمسين، ولم يعلم بعتق العبد، ثم علم، فله قبل أهل الوصايا سدس قيمته دينار وثلثا دينار؛ لأنهما أخذا سدس المال، فله قبل كل واحد منها نصف ذلك، وهو دينار إلا سدس فمن وجد منهما حاضرا أو مليا عتق عليه بقدر ذلك، واتبع الآخر بمثله يوما ما على الورثة خمسة أسداس قيمته، وهو ثمانية وثلث، فمن وجد منهما مليا أو حاضرا عتق عليه بقدر ما أخذ له من ذلك، وهو نصف ذلك، وهو أربعة دنانير وسدس، واتبع الآخر بمثله يوما ما، وإنما الورثة هاهنا كالموصى لهم والموصى لهم كالورثة وهم والعبد كالوارثين جميعا.
قال أصبغ: قال لنا ابن القاسم: وإن كان الوصي عجل، رأيته ضامنا وبِيعَ وهو أهل الوصايا. قال أصبغ: وذلك إذا كانت عجلة مبادرة وأمر لا يشبه اجتماع المال وتنفيذه، فيضمن وإن لم يعلم، ويكون كالخطأ والخطأ مضمون، فلو أن رجلا أوصى بعتق رقبة، فاشترى الوصي نصرانية، ولا يعلم ولم يثبت كان كالخطأ منه على نفسه، وكان ضامنا فكذلك هذا. قال ابن القاسم: إلا أن يكون قاض قضى به، فلا أرى عليه شيئا؛ لأن غيره أنفذه وقاله أصبغ، وتنفيذ القاضي كتنفيذه بعد الاستيناء وبلوغ الأمر أجله. وتنفيذه عند ذلك كقضاء قاض وتنفيذه، ومن الله التوفيق.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية في الوصي: إنه لا شيء عليه إن كان ذلك منه بعد تمكن واجتهاد وتثبت من غير عجلة يدل أنه عنده محمول على التفريط وترك التثبت حتى يعلم من فعله خلاف ذلك. وقول أصبغ: إنه لا شيء عليه إذا لم يبادر؛ إذ ليس عليه هذا الاجتهاد كله، يدل على أنه محمول عنده على غير التفريط حتى يعلم من فعله خلاف ذلك،(13/263)
وقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك على ما يأتي لقرب آخر هذا الرسم. وأشهب يقول في هذا الأصل: إن الوصي ضامن؛ لأنها جناية خطأ يضمن المال، ويضمن العتق إذا أعتق عن الميت، ثم طرأ دين سواء علم به أو لم يعلم، يضمن ويكون الولاء للوصي إلا أن يكون العبد عبد الميت، فهاهنا يرد العتق إذا طرأ دين. قال فضل: قول ابن القاسم أحسن. قلت: وقول أشهب هو على غير ابن القاسم في الحج الثالث من المدونة وفي الوصايا منها، ليس جهلهم بالذي يزيل عنهم الضمان.
وقد مضى تحصيل القول في هذا المعنى في رسم الأقضية من سماع أشهب فلا معنى لإعادته. فإذا ضمن الوصي على القول بأنه يضمن بعتق العبد، ويضمن للورثة قيمته، ويتبع بذلك الموصى لهم إن كانوا معينين، وإن لم يكونوا معينين، وإنما كانت الوصية للمساكين، أو في السبيل، كانت المصيبة في ذلك من الموصي.
وعلى القول: إن الوصي لا ضمان عليه يعتق العبد، ويتبع الورثة الموصى لهم إن كانوا معينين، وتكون المصيبة منهم إن كانت الوصية للمساكين، أو في السبيل، ولا يصح في هذا اختلاف؛ لأن العبد قد استحق الحرية بما ثبت له، فلا بد من تعجيل عتقه، وإنما الاختلاف هل يضمن الوصي قيمته للورثة أم لا؟ حسبما بيناه. فقول أصبغ: إنه لا يعتق منه إلا بقدر ما يجب له على كل وارث أو موصى له يجده مليا بذلك، بمنزلة الوارث يطرأ على الوارث غلط بين مثال ذلك: أن يترك المتوفى عبدا قيمته عشرون وأربعون دينارا ويوصي بعشرة دنانير لرجل بعينه، أو في المساكين، ويعتق العبد، فينفذ الوصي العشرة دنانير للموصى له بها أو في المساكين، ولا يعلم بالعتق ويأخذ الورثة العبد والثلاثين دينارا، ثم يعلم بعتق العبد، فعلى القول بأنه لا ضمان على الوصي بعتق العبد على الورثة، ويتبعون الموصى له بالعشرة أو يكون مصيبتها منهم إن كانت فرقت على المساكين؛ لأن العبد هو كفاف الثلث على ما نزلناه من أن قيمته عشرون، المال سواه أربعون. وعلى القول بأن الوصي ضامن يعتق العبد أيضا؛ لأن(13/264)
الثلث يحمله، ويضمن الوصي للورثة العشرة التي نفذها للمساكين أو يتبع بها الموصى له إن كان معينا ولو كانت الوصية بعشرة بين رجلين، والعبد قيمته عشرة، والورثة اثنان، والمال بالعبد استوفى على ما نزله أصبغ في تفسيره لمذهبه، لم يكن على الوصي ضمان بحال؛ لأن الثلث يحمل العتق والوصية، فيعتق العبد على الورثة، ولا يكون لهم رجوع على أحد. وقول أصبغ: إن العبد يعتق سدسه على الموصى لهما إن كانا مليين، وإن لم يكونا مليين اتبعهما بذلك، وعلى الورثة خمسة أسداس إن كانا مليين، وإن لم يكونا مليين اتبعهما بذلك غلط ظاهر؛ لأن العبد قد استحق العتق بما شهد له به، فلا بد من تعجيل عتق جميعه إذا كانت ثلث الموصي يحمله ولم يكن العبد الموصى به بعينه، وإنما كان أوصى بعتق عبد بغير عينه مبدأ على سائر الوصايا فلم يعلم الوصي بذلك حتى نفذ الوصايا، لما صح أيضا أن يكون كالوارث يطرأ على الوارث؛ لأن الوصية مقدمة على الميراث كالدين سواء لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . وتفسير أصبغ أيضا لمذهبه خطأ إذا اعتبرته، وقد نبه على ذلك ابن دحون فقال: هذا تفسير غير صحيح، كيف تقع هذه المحاصة وقد بقي من الثلث بيد الوارث ما يخرج منه العبد حرا وذلك عشرة دنانير؟ والصواب، يريد على مذهبه، أن هذا العتق الطارئ مع الوارث كوارث طرأ، يأخذ من كل واحد بقدر ما صار إليه من ثمنه، ولا يأخذ منه نصيبه كله، ولا يأخذ أحدا عن أحد، هو مع الموصى لهم كدين طرأ، يردون كلما أخذوا؛ إذ لا وصية لهم إلا بعد العتق، فاعتراضه عليه في تفسيره لمذهبه الذي قد بينا أنه غلط صحيح. وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي بثلث ماله لقوم وله بير ماشية فيريدون أخذ ثلث البير]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن الذي يوصي بثلث(13/265)
ماله لقوم وله بير ماشية، فيريدون أخذ ثلث البير مع ثلث المال، قال: لهم ثلث المال، ولا أرى لهم في البير شيئا لأنها لا تباع ولا تورث، وإنما فيها الشرب لأصحابها ولمن وردها من الناس بعدهم. قلت: أفلا يكون لهم ثلث الشرب مع الورثة، وأن يبدأوا به قبل الناس؟ قال: لا. ليس لهم من الشرب قليل ولا كثير؛ لأنها لا تباع ولا تملك، فكذلك ليس له أن يوصي به لأحد أرأيت لو أوصى بها كلها وصية مسماة أيجاز لملك له؟ وقاله أصبغ وهو الحق. والميت كان فيه كغيره من ورثته، وليس يأخذونه ميراثا، إنما يأخذونه بحقه كالحبس عليه وعلى ولده، وغير مال هو له مؤثل.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بير الماشية التي تحتفر في البراري والمهامة، محمولة عند مالك، على أنها إنما تحتفر للصدقة، فيكون حافرها أحق بالتبدئة بالشرب، ويكون الفضل لجميع الناس، لا يمنعه من أحد، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ» ولو أشهد حافرها عند حفره إياها أنه إنما يحفرها لنفسه، لا للصدقة، لكان ذلك له، وكان أحق بالفضل يورث عنه، وتجوز وصيته فيها، وإن ادعا ذلك بعد حفرها ولم يشهد، لم يصدق عند مالك.
وقد مضى تحصيل القول في هذا في رسم الأقضية الأول، من سماع أشهب من كتاب النداء والأنهار وبالله التوفيق.
[مسألة: قتل عمدا فأوصى بثلث ماله ثم قبل أولياؤه الدية بعده]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم وسئل عمن قتل عمدا فأوصى بثلث ماله، ثم قبل أولياؤه الدية بعده، وعفوا عن القتل، أتدخل وصيته(13/266)
في ديته؟ قال: لا لأن ذلك ما لم يعلم به. وقاله أصبغ: ولو أوصى بذلك فقال: إن قبل ولاتي ديتي، فهي وصيتي أو وصيتي فيها أو ثلثها وصية أو صدقة لم أر أن يدخل فيها من وصاياه قليل ولا كثير، ولا يدخل منها في ثلثه شيء لأن ذلك أيضا عنده يوم أوصى مال مجهول له، غير عارف ولا عالم به. ولا يدر أيقبلون الدية أم لا؟ أو يتركون الدم أم لا؟ فهو كشيء لم يعلم به، ولكن لو عفا عن الدم عفوا قبل موته عن الدية أو أوصى أن يعفى عن قاتله على الدية باشتراط، فالوصية به كالفعل منه في مرضه، فأوصى بها بوصايا أو بثلث ماله مبهما مع هذا رأينا أن يدخل فيه ويلحق به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه في المذهب إن وصية المقتول عمدا لا تدخل في ديته إن قبلها ولاته؛ لأنه مال لم يعلم به، وكذلك إن قال: إن قبل ولاتي ديتي، فوصيتي فيها؛ لأنه ليس على يقين من قبول ولاته الدية، ولا وجبت له بعد. ولو أوصى المقتول فقال: يخرج ثلثي مما أعلمت من مالي ومما لم أعلم لم تدخل في ذلك الدية التي أخذها الورثة لأنه مال لم يكن له، وإنما قال: ما لم أعلم من مالي وديته لم تكن من ماله، لكن يؤدي منها ديته ويرثها عنه ورثته على كتاب الله تعالي لأن السنة أحكمت ذلك في الدية، وإن كانت ليست بمال المقتول الموروث قاله ابن دحون وهو صحيح. وأما قوله في الرواية، ولكن لو عفا عن الدم عفوا قبل موته على الدية أو أوصى أن يعفى عنه على الدية باشتراط، فالوصية به كالفعل عنه في مرضه، فأوصى فيها بوصايا أو بثلث ماله مبهما مع هذا رأينا أن يدخل فيه ويلحق به، فهو بين على القول بأن له أن يعفو على الدية وأن يوصي بذلك، فيلزم القاتل، وأما على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه فالذي يأتي على قياس قوله في أن الوصايا لا تدخل في ديته إذا قال: إن قبل ولاتي ديتي فوصيتي فيها ألا يدخل فيها إذا أوصى أن يعفي عنه على الدية إذ(13/267)
ليس على يقين من أن القاتل يرضى بذلك، كما أنه ليس على يقين من أن ولاته يقبلون الدية وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بدنانير حاضرة بعينها أو عدد مسمى بغير عينه]
مسألة قال أصبغ: من أوصى لرجل بدنانير حاضرة بعينها أو عدد مسمى بغير عينه العمل فيه عند ابن القاسم ومالك وأصحابه كلهم واحد في مذهبهم. وأنا أرى ذلك اتباعا لهم، وقياسا على قولهم، والاستحسان عندي في العلم على غير ذلك، والله أعلم أرى إن كانت الوصية في الدنانير الحاضرة بعينها، مثل أن يقول: أعطوه منها كذا وكذا أو يقول: هذه الدنانير بعينها لفلان، أو يخرجها لهم بعينها ويدفعها إليهم فيكون لا يخرج في ثلثه فيوقف عنهم الثلث أو ما أشبه ذلك من الشيء المعتمد من العين الذي ترك بعينه، فأنا أرى في هذا القول ما قالوا أن يدفع إليهم بعينه، أو يقطع لهم بالثلث من كل شيء شركاء له، للعول فيه، فهو حينئذ كالدار بعينها، أو الجارية والعبد والأرض والثوب، يوصي لما به، فيجاوز الثلث فينفذوه بعينه، أو يخرجوا من الثلث فهذا كله هكذا لا شك فيه فأما أن يوصي بدنانير مسماة، ليست بأعيانها ولا مضمونة من شيء واحد، فلا أرى إلا وهي جارية في ذلك المال متى ما اجتمع المال، أو اجتمع منه عين وكان قسمه أخذوا ثلث العين، وثلث ما ينض مما بيع وجمع وحضر والباقي لهم في ثلث الغائب حتى يحضر، ولا يقطع لهم بالثلث، وهو أكثر منها حين لم يعجلوا لهم ما ليس عليهم تعجيله من العين والوصية؛ لأنها قد صارت شركة تجري في كل شيء كشركة الوارث، ولا يكون أحسن حالا من الوارث، والتوفيق بالله.(13/268)
وهكذا، كان ينبغي أن يكون تفسير قول مالك ومعناه الذي تكلم عليه، وأصحابه يحملونه على الكل بغير رواية.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم المكاتب من سماع يحيى فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري العبد في مرضه لم ينقذ ثمنه فيعتقه ثم يموت]
مسألة وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري العبد في مرضه بنظرة أو غير نظرة، إلا أنه لم ينقذ ثمنه فيعتقه ثم يموت، فيوجد الآمال له. قال: لا يجوز عتقه إذا لم يكن له مال، طال زمان ذلك وهو مريض أو لم يطل، إلا أن يكون في قيمته فضل فيباع بقدر ذلك ويعتق ما بقي، وقاله أصبغ إلا أن يكون قد أفاد فيها بين ذلك مالا فذهب أو علم البائع فعلم وترك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا اشتراه فأعتقه ولم يؤد ثمنه حتى مات ولم يوجد مال سواه إنه يباع منه بما عليه من الثمن لأنه محمول ومن يوم اشتراه على الحالة التي وجد عليها بعد موته، من أنه لا يكن له مال سواه، وإن طال زمن ذلك، إلا أن يعلم أنه قد أفاد في خلال ذلك مالا فذهب كما قال أصبغ وأن البائع قد علم ذلك وأمضاه، إذ لا يجوز لمن عليه دين يغترق ماله عتق إلا بإذن صاحب الدين. وأما قوله: إنه يعتق ما بقي منه بعدما بيع منه في الثمن، فمعناه إن كان قد صح في مرضه ذلك ولم يمت منه. وأما إن مات من ذلك المرض فلا يعتق منه إلا ثلث ما بقي بعد الدين إذ لا اختلاف في أن عتق المريض في مرضه في ثلثه. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أعتقوا أحد هذين العبدين وأحدهما مدبر]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في رجل حضرته الوفاة(13/269)
فقال: أسهموا بين مدبري هذا وعبدي فلان، فأيهما خرج سهمه فأعتقوه وله مال يحملهما الثلث جميعا إنه يسهم بينهما فإن وقع السهم للمدبر عتق على كل حال، ولم يعتق من الآخر قليل ولا كثير؛ لأنه قد خرج من الوصية لما أخطاه السهم، ولم يجعل له عتق إلا أن يخرج سهمه فإن أخرج السهم له، عتق وعتق المدبر بالتدبير إذا كان الثلث يحملهما، وإن لم يكن له مال يحمل غير أحدهما فخرج سهم المدبر في الاستهام عتق وحده، ولم يعتق من الآخر شيء، وإن خرج السهم للآخر عتق المدبر أولا بالتدبير؛ لأنه ليس له أن يدخل عليه ما ينقص تدبيره، وقد عقد له التدبير في الصحة، وهي عتاقة عقدها ينظر إلى الثلث، فإن فضل منه شيء عن المدبر عتق من العبد الذي لم يكن فيه تدبير الذي خرج سهمه على المدبر أولا ما فضل عن الثلث وإن لم يفضل إلا دينار واحد. قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن السهم إذا خرج للمدبر خرج الآخر عن الوصية، وإن خرج الآخر بدئ المدبر عليه في الثلث وأعتق هو إن حمله الثلث مع المدبر، وإن حمل بعضه عتق ما حمل الثلث منه، فإذا لم يحمل الثلث المدبر وحده، فلا يحتاج إلى أن يضرب بالسهام بينهما، إذ لا عتق للآخر مع المدبر بحال، إذا لم يكن في الثلث فضل عن المدبر. والمسألة متكررة في سماع عبد الملك من كتاب العتق وفي رسم بيع ولا نقصان عليك من سماع عيسى منه إذا قال: أعتقوا أحد هذين العبدين، وأحدهما مدبر، ولم يقل: أسهموا بينهما إنه يسهم بينهما على نصف قيمتهما، فإن خرج سهم المدبر وهو نصف قيمتهما فأقل خرج العبد الآخر من الوصية، وإن كان فيه فضل عن نصف قيمتهما عتق من الآخر ذلك الفضل، وإن خرج سهم الآخر وهو نصف قيمتهما فأقل عتقا جميعا إن حملهما الثلث، فإن لم يحملها الثلث، بدئ بالمدبر فيه، ثم أعتق من الآخر بقية الثلث،(13/270)
وإن كانت قيمته أكثر من نصف قيمتهما، لم يعتق منه أكثر من نصف قيمتهما إن حمل ذلك الثلث مع المدبر، وإن لم يحمل ذلك الثلث مع المدبر عتق منه ما حمل الثلث منه مع المدبر؛ لأن المدبر مبدأ عليه على كل حال. هذا معنى قوله دون لفظه وبالله التوفيق.
[مسألة: توفيت ولها على زوجها خمسون دينارا وتركت شيئا وأوصت بحجة]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم وسئل عن امرأة توفيت ولها على زوجها خمسون دينارا وتركت شيئا وأوصت بحجة، ولم يعلم قولها ذلك أحد غير أبيها فأتى الأب إلى الزوج فقال: إنها قد أوصت بحجة، وليس على ذلك بينة، والخمسون التي عليك، لك منها خمسة عشرون، ولي خمسة وعشرون، فهل لك أن تأخذ مما تركته الساعة، يعني من الوسط قبل أن يقسم شيئا من الأشياء ثلاثين دينارا لتعطى من يحج عنها وأنا أترك لك الخمسة وعشرين التي لي مما عليك؟ فرضي بذلك الزوج. قال ابن القاسم: لا خير فيه، ولا يحل، وأراه من وجه ضع وتعجل. يريد أن الأب وضع وتعجل، وأن الزوج تعجل على أن وضع عنه. وقاله أصبغ، وذلك أن الخمسين التي على الزوج مؤجلة لم تحل. قال ابن القاسم: ولو قال له: تخرج عشرة مما تركت يتصدق بها على فلان على هذا الشرط لم يحل.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إذا كان الدين على الزوج مؤجلا لم يحل أجله على ما فسره أصبغ؛ لأن من حق الزوج أن يأخذ الخمسة عشر الواجبة له من الثلاثين، ويكون عليه الخمسة وعشرون من الخمسين إلى أجلها، فقد أعطاها معجلة على أن تسقط الخمسة وعشرون المؤجلة إذ لا فرق بين أن يأخذها الأب على ذلك لنفسه، أو لينفذها في(13/271)
الوصية التي لا يعلمها غيره، ألا ترى أنه لو كان لرجل على رجل عشرون دينارا مؤجلة، فقال له: تصدق على المساكين، أو على فلان بعشرة نقدا، وأنا أضع عنك العشرين التي لي عليك مؤجلة؟ لم يحل ذلك؛ لأن ما اشترط لغيره بمنزلة ما أخذه لنفسه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لفلان وفلان خمسمائة ثم قال ولفلان مثله]
مسألة قال ابن القاسم أيضا: ولو قال: لفلان وفلان خمسمائة ثم قال: ولفلان مثله، أعطي ثلث الخمسمائة، وإنما هو بمنزلة من قال: بين فلان وفلان وفلان خمسمائة، ثم كلم في آخر فقال: له مثله، كان له ثلث خمسمائة من الثلث إن حمله، أو يحاص على ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: قوله: كان له ثلث خمسمائة من الثلث إن حمله، يريد إن حمله مع الخمسمائة وقوله: أو يحاص يريد إن لم يحمل ذلك الثلث، فيعطي مثل ثلث الخمسمائة من ثلث الميت، ويأخذ الثلاثة الخمسمائة أيضا فإن كان الثلث أقل من ستمائة وستة وستين وثلثين تحاصوا فيه، فكان بينهم أرباعا، وإن كان درهما واحدا لأن وصاياهم كلهم مستوية، ولا اختلاف في هذه المسألة، وهي تبين ما وقع في رسم بع ولا نقصان عليك من سماع عيسى من قول ابن القاسم الذي ذكره فيه من رسم العشور، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي للرجل بجارية له بعد موته هل للموصي أن يطأها]
مسألة وسئل عن الرجل يوصي للرجل بجارية له بعد موته، هل للموصي أن يطأها؟ قال: نعم. ويوصي بعتقها فيطؤها، وذلك لأنه يرد ذلك إن شاء ويبيعها إن شاء، ولكن ما تصدق أو أعتق بتلا في مرضه، فليس له أن يطأها وإن كان إنما يكونان في الثلث،(13/272)
ويخرجان من الثلث؛ لأنه إذا صح أنفذ عليه من رأس المال، ولم يستطع تحويلها عن حالهما.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه والأصل في هذا أن كلما يجوز له الرجوع فيه، فله وطؤه وكل ما لا يجوز له الرجوع فيه، فليس له وطؤه إلا المدبرة فإن وطأها له جائز، وليس له أن يرجع فيها للسنة القائمة فيها خاصة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لأجنبي وأوصى لجميع من يرثه بوصايا]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول: إذا أوصى لأجنبي، وأوصى لجميع من يرثه بوصايا سواهم فيها، وسهامهم في الفرض مختلفة مورث بعضهم أكثر من مورث بعض، فأرى الورثة يحاصون الأجنبي بما فضل به بعضهم على بعض في قدر مواريثهم، ثم إن شاؤوا أمضوا بعضهم لبعض، وإن شاؤوا ردوه، فكان بينهم على قدر فرائضهم، ومن شاء منهم أمضى، ومن شاء رده. وقاله أصبغ وتفسيره أن يكون له ابنان وابنتان فيعطي كل واحد منهم مائة مائة الذكر والأنثى جميعا في وصية أو في مرض موت بتلا، ثم يموت، إنه يطرح حظوظ الذكور مائة مائة وحظوظ الإناث خمسين خمسين؛ لأنه إنما أوصى لهم وأعطاهم الذي هو لهم، وتكون الوصايا والعطايا للإناث دون الذكور بخمسين خمسين، تمام المائة التي زادهم على حظوظهم فيكون موصى لهن بها فقط، فيكون ذلك وصية لوارث دون وارث، فإن أجاز ذلك الورثة لهن وإلا بطل ذلك كله ورجع مالا وميراثا على الفرائض، فإن أجاز واحد من الابنين للابنتين جاز لهما حصته من المائة التي جعلت له وصية لو قسمت على الفرائض وهو ثلاثة وثلاثون وثلث، بينهما ويكون لهما منه مثلها(13/273)
وأخذا بالميراث وأخذ الابن الذي لم يجز لهما منها مثلها تمام المائة بالميراث وبالرد للإجازة وإن أجاز لإحداهما دون الأخرى، فعلى حساب ذلك، وإن أجاز الآخر لبعض دون بعض فكذلك، وإن كانوا معهما وصايا حوص لهما بالمائة مع الوصايا ثم صار بما أصابها بينهم البين يعني على هذا التفسير على الإجازة وغير الإجازة. قال: وقال لي ابن القاسم: ولو أوصى للأجنبي وأوصى لجميع ورثته بوصايا على قدر مواريثهم سواء لم يحاصوا أهل الوصايا بوصاياهم في ثلث الميت وكان لأهل الوصايا دون الورثة إن أحاطت وصاياهم بجميع الثلث، وكذلك لو لم يكن إلا وارث واحد، فأوصى بوصايا، وأوصى لوارثه ذلك بوصية، لم يضر ذلك أهل الوصايا، ولم يحاصهم، وأسلم إليهم الثلث كله حتى يستوعبوا وصاياهم، ولو كانوا وارثين أو أكثر وأوصى لواحد منهم بشيء حاص الوارث الموصى له أهل الوصايا بذلك، ثم رجع ذلك إلى الورثة إلا أن يجيزوه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن الرجل إذا أوصى لأجنبي ولجميع ورثته بوصايا سواهم فيها، وسهامهم في الفرض مختلفة، فإن الورثة يحاصون الأجنبي بما فضل به بعضهم على بعض، يريد إذا لم يحمل الثلث ما أوصى به للأجنبي ولبعضهم، إذ لا فرق بين أن يوصي لأجنبي ولبعض الورثة، وبين أن يوصي لأجنبي ولجميع الورثة بوصايا متفقة، وسهامهم في الفرض مختلفة؛ لأنه إذا فعل ذلك، فقد فضل في الوصية من قل حظه في الميراث على من كثر حظه فيه. والتفضيل له عليه وصية له دونه. وتفسير أصبغ لمذهب ابن القاسم بقوله: إن ذلك مثل أن يكون له ابنان وابنتان فيوصي لكل واحد منهم بمائة مائة، فيكون قد فضل البنتين في الوصية بخمسين خمسين، فإن كان أوصى لأجنبي معها بوصية، ولا يحمل ذلك(13/274)
ثلثه، تحاصا فيه في الثلث الابنتان بمائة والأجنبي بمبلغ وصيته فما صار من الثلث للابنتين في المحاصة، كان سائر الورثة بالخيار، بين أن يجيزوا ذلك لهما ويمضوه، وبين أن يردوه ميراثا بين جميعهم تفسير صحيح. وقد قيل: إنهما يحاصان الأجنبي بما زاد ما أوصى به لهما على ما يجب لهما بالميراث من جميع الوصية لهما ولأخويهما وذلك ستة وستون وثلثان؛ لأن مبلغ الوصية لهما ولأخويهما أربعمائة، يجب لهما منها بالميراث مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وقد أوصى لهما ولأخويهما بمائتين فتبقى الوصية لهما ستة وستون وثلثان، فهي التي يحاصان بها الأجنبي وهذا القول أظهر ويجب على قياسه إذا أوصى الرجل لأجنبي، ولبعض الورثة، فلم يحمل ذلك ثلثه، ألا يحاص الورثة الأجنبي إلا بما يبقى من وصية الوارث بعدما يجب له منها بالميراث مثال ذلك: أن يترك المتوفى أربع بنين ويوصي لأحدهم بمائة دينار، ولأجنبي بمائة دينار، وثلثه مائة دينار، فيحاص الأجنبي بخمسة وسبعين؛ لأن المائة التي أوصى له بها، يجب له منها بالميراث خمسة وعشرون، خلاف مذهب ابن القاسم والمشهور في المذهب أنه يحاص بجميع المائة، ومذهب ابن القاسم على ما فسره أصبغ أنهما يحاصان الأجنبي بجميع المائة التي أوصى بها لهما، ولا ينظر إلى ما يجب لهما منهما بالميراث، هو القياس على أصله، في أن الورثة يحاصون الأجنبي بجميع وصية الوارث وإنما يحاص الورثة الأجنبي بوصية الوارث إذا لم يحمل الثلث وصاياهما جميعا وأما إذا حملها الثلث فيأخذ الأجنبي وصيته كاملة وترجع وصية الوارث ميراثا بين جميع الورثة إلا أن يجيزوها له، وأما إذا لم يكن له إلا وارث واحد فأوصى له ولأجنبي فليس له أن يحاص بوصيته الأجنبي إذا لم يوص له إلا بما هو واجب له بالميراث، ولا حجة له على الأجنبي في الثلث فما دونه، وكذلك أيضا إذا أوصى لجميع ورثته بوصايا على قدر مواريثهم، فليس لهم أن يحاصوا الأجنبي بوصاياهم، إذا لم يوص لكل واحد منهم إلا بما يجب له بالميراث، ولا حجة لهم على الأجنبي في الثلث فما دونه، وبالله التوفيق.(13/275)
[مسألة: عبد بين أختين فحضرت إحداهما الوفاة فأوصت بنصيبها في العبد]
مسألة وسئل ابن القاسم عن عبد كان بين أختين، فحضرت إحداهما الوفاة فأوصت فقالت: لفلانة أختي لأبي من مالي في العبد الذي بينها وبين أختها الأخرى لأمها وأبيها عشرة دنانير، وبقيته صدقة عليه، تعني العبد والأخت التي أوصت لها بالعشرة، ليست ترثها. قال ابن القاسم: إن لم يزد على هذا رأيت أن يباع منه، يعني من نصيبها قدر لعشرة، فتدفع إلى الأخت ثم يعتق ما بقي من حصتهما إن حمله الثلث، وقاله أصبغ ولا تحسب العشرة في العبد فيكون للأخت ما تبلغ منه، ولكن يترك حتى يباع بقدرها ثم حينئذ يعتق ما بقي، إلا أن ترضى الموصى لها بالتمسك بقدر ذلك من العبد لا يباع، ولا تبالي بالانكسار لثمنه في العشرة يوما فيعطى بقدرها على القيمة منه يومئذ، ولا يعطى بقدر الذي كان يباع بالعشرة من أجزاء العبد إن كان أكثر من جزء العشرة بالقيمة وإلا بيع لها بها ما بلغت فأعطيت وعتق ما بقي لأنها سمت لها عشرة دنانير من ثمن عبد لها، والبيع أحيا وأوقر، وأنتم للوصية، فذلك لها فإنما جعلت كله ما يبقى بعد العشرة التي تباع منه بها إن بيع أو لم يبع فمبلغها منه، فإنما ذلك على القيمة والعدل، لا أكثر، أن مخارج الوصايا في الشيء على الأقل حتى يعرف الأكثر والبقية عتيق. قال ابن القاسم: إلا أن يوصي فيقول: بيعوا نصيبي، فأعطوا فلانا عشرة، وما بقي فهو للعبد، فإنه يباع نصيبها كله، فتعطى فلانة العشرة، وما بقي دفع إلى العبد، قال أصبغ: ولا عتق فيه حينئذ لأنه إنما أوصت له هاهنا بمال وسواء قالت: بيعوا نصيبي كله فأعطوه أو بيعوا نصيبي ولم تقل كله، فهو سواء يباع كله ويعطى ولا عتق عليه فيه.(13/276)
قال محمد بن رشد: قوله في التي أوصت لأختها بعشرة دنانير في نصيبها من العبد الذي بينها وبين أختها وبقية نصيبها منه له: إن يباع لها من نصيبها من العبد بعشرة، ويعتق ما بقي من حظها منه صحيح بين لا إشكال فيه. وصفة البيع في ذلك أن يباع على التنقيص فيقال في النداء عليه: كم تأخذون من هذا العبد بعشرة على أن باقي نصفه عتيق؟ فيقول رجل: أنا آخذ ثلثه بعشرة، ويقول الآخر: أنا آخذ ربعه بعشرة، ويقول الآخر: أنا آخذ خمسة بعشرة، فإذا وقف على شيء بيع منه ذلك القدر بعشرة، وكذلك قال سحنون: إنه يباع على التنفيض وقول أصبغ: إن العشرة لا تحسب في العبد، فيكون لها منه بقدرها صحيح بين؛ لأن العشرة لا تحسب في العبد، فيكون لها منه بقدرها صحيح بين؛ لأن ذلك لا يجب عليها إلا أن تشاء إذ لم يوص لها بجزء منه، وإنما أوصى لها بدنانير. وأما قوله: إلا أن ترضى الموصى لها بالتمسك بقدر ذلك من العبد فيعطى بقدرها على القيمة منه يومئذ يريد: بأن يقوم العبد فيكون لها منه ما تقع العشرة من القيمة التي قوم بها، ولا يعطى من أجزائه بقدر ما كان يباع منه بالعشرة، ففيه نظر؛ لأن ذلك يقتضي أنه ليس لها أن تأخذ من العبد إلا ما تقع العشرة من قيمته، والذي أراه في هذا على أصلهم أنه إذا وقفت العشرة على جزء ما منه فلها أن تأخذ بالعشرة منه أقل من ذلك الجزء، وليس لها أن تأخذ منه ذلك الجزء بعشرة، إذ لا شك لها فيه، فيكون كالعبد بين الشريكين يبيع أحدهما نصيبه، فيكون للآخر أن يأخذه بما يعطي به، دون زيادة، مثال ذلك أن يقف على أن يباع منه خمسة بعشرة، فيقول هو: أنا آخذ سدسه بعشرة؛ لأنه يبعد في النظر أن يقال له: إما أن تأخذ عشرة بالعشرة لأن قيمته مائة، وإما أن تتركه فيباع لك منه خمسة بالعشرة؛ لأن أخذه سدسه بالعشرة أولى من أن يباع منه بها الخمس. وهذا بين والحمد لله وبه التوفيق.(13/277)
[مسألة: قال في مرضه بيعوا رأسا من رقيقي فاقضوا به ديني]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عمن قال في مرضه: بيعوا رأسا من رقيقي، فاقضوا به ديني، وبقيتهم أحرار وليس له مال غيرهم إنه يسهم عليهم، أيهم يباع في الدين، فمن خرج عليه السهم للدين، بيع في دينه وأسهم بعده في بقيتهم للعتق، فيعتق من خرج له السهم للعتق إن كان ذلك ثلث الميت، فإن فضل شيء من ثلثه، أسهم بين من بقي فمن خرج له السهم عتق منه بقدر ذلك الفضل. وقاله أصبغ وتفسيره أن يكون الدين ثلاثين، وجميع قيمة العبد خمسين ومائة، فيخرج السهم على عبد باسمه من عددهم على القيمة مثل أن يكونوا خمسة فبخمس القيم فإن كان العبد بثلاثين كان للدين وكان الأمر مستوفى وكان باقي المال عشرين ومائة فيسهم بين من بقي فمن خرج له السهم فله فيه قيمة أربعين فيعتق مبلغها منه وهو الثلث فإن كان كفافا فذلك وإن بقي من الأربعين بعد قيمته وعتقه شيء أسهم بين من بقي أيضا فمن له السهم أعتق منه تمام الأربعين، وهو تمام الثلث، يبلغ ذلك ما بلغ نصفه أو ثلثه أو أقل أو أكثر، ويرق ما بقي منه مع سائر الأعبد الذين لم يصبهم سهم البيع، ولا سهم العتق، قاله ابن القاسم وإن قصر الرأس الذي خرج السهم عليه للبيع عن دينه، كان ما بقي من الدين في جملة ما له سوى الرقيق، قال أصبغ: إن كان له مال سواهم، يتم به دينه أتم، ثم يعتق العبيد في ثلث ما بقي أو ما حمل الثلث منهم بالسهم. قال أصبغ: وتفسير هذا أن يكون الرقيق ثلثه، وله مال سواهم من عين أو عرص أو عقار أو غير ذلك، فرأس منها بالسهم للدين ليس بمبلغ الدين ولكن يبلغ ثلث القيم، وهو رأس من عددهم لوصيته، يباع(13/278)
رأس منها للدين، يبلغ ذلك من الدين ما بلغ ويرجع باقي الدين في سائر المال سوى العبيد، لتخلص الحرية فيمن بقي في جميعهم، كما أوصى بمبلغ الثلث؛ لأنه خصهم بالحرية دون الدين، وخص الدين بالرأس الأول دون الحرية، فيكون ذلك للدين خالصا والآخرين للحرية خالصا، وباقي الدين في سائرهم، ليعرف الثلث لهم من الباقي كله بعد الدين، فيعتق منهم مبلغه على سنته بالسهم، ويرق ما بقي مما لا يسعه الثلث بعد السهم له والمعرفة. قال ابن القاسم: لو لم يقل بيعوا رأسا من رقيقي لديني وأعتقهم جملة في وصيته وعليه دين، ولم يترك مالا غيرهم، أسهم بينهم فيمن يباع في دينه كله، حتى يباع قدر الدين كله، بيع فيه رأس أو رأسان أو أقل أو أكثر، ثم عتق ثلث ما بقي بالسهم، ورق الثلثان للورثة، إذا لم يكن له مال غيرهم، فإن كان له مال غيرهم، قضى منه دينه، ثم عتق العبيد جميعا في ثلث ما بقى بعد الدين أو ما حمل الثلث منهم بالسهم، وقاله أصبغ أيضا. وهذه السنة والعمل في هذا الآخر قال أصبغ: وإن قصر المال سوى العبيد عن الدين أسهم بينهم فيمن يرق لتمام الدين إن أحاط به كله، وإن أحاط ببعض رجع البعض الآخر إلى بقية العبيد فدخل معهم في عتق الوصية بالسهم عليه وعليهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة حسنة مستوعبة قد فسر منها أصبغ ما أجمله فيها ابن القاسم والذي يحتاج إلى الوقوف عليه منها إن الرجل إذا أوصى بعتق عبيده في مرضه وعليه دين إنه إن لم يكن له مال سواهم، فسواء قال: بيعوا رأسا من رقيقي في ديني أو سكت عن ذلك، لا بد أن يقرع بينهم فيمن يباع منهم في الدين خرج منهم فيه ما خرج، ثم يقرع فيمن بقي منهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة. وأما إن كان له مال سواهم، فإن كان(13/279)
قال: بيعوا رأسا من رقيقي في ديني فكما قال، وإن كان لم يقل ذلك كان الدين فيما سوى العبيد، ثم يعتق من العبيد بالقرعة ثلث جميع مال الميت بعد الدين وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في وصيته في مرضه أعتقوا خيار رقيقي]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يقول في وصيته في مرضه: أعتقوا خيار رقيقي، ولم يسم أحدا منهم، قال: يعتق أعلاهم ثمنا حتى يستوعب فيهم الثلث فإن شاء الله. واحتج بحديث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: سئل أي الرقاب أفضل؟ قال: " أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ". وقال أبو زيد بن أبي الغمر عن ابن القاسم مثله. وقاله أصبغ إلا أن يرى في مذهب الوصية أنه أراد الخيار في الدين والصلاح، لسبب يدل أو بساط، أو أمر، وذكر جرى له، فأوصى عليه، فيحصل على ذلك، وإلا فالأفضل ثمنا إن شاء الله. قال محمد بن رشد: قوله: إنه يعتق أعلاهم حتى يستوعب الثلث فيهم، أي في المرتفعين أثمانهم منهم، فإن كان الثلث يحمل جميعهم، فقد قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز وابن عبدوس: إنه يعتق فيه منهم المرتفعون، ولا يعتق الوخش، مثل ثمن خمسة عشر. قال: وهذا إن كانوا متباينين في الثمن جدا فيعرف بذلك أنه أراد المرتفعين منهم، وأما إن كانوا متقاربين في الأثمان، فليبدأ أهل الصلاح منهم، يريد حتى يستوعب الثلث فيهم أيضا، وإن حمل الثلث جميعهم، لم يعتق فيه إلا أهل الصلاح منهم على قياس ما قاله في المرتفعين مع الوخش، وإنما ينبغي أن يحمل قوله: أعتقوا خيار رقيقي على أنه أراد المرتفعين أثمانهم دون الخيار في(13/280)
الدين، إن كان ممن قرأ العلم، وسمع الأحاديث ورأيت لابن زرب أنه قال: فإن كانوا معتدلين كلهم في القيمة عتق جميعهم إن حملهم الثلث، والذي في كتاب ابن المواز لابن القاسم أنه إن كانت قيمتهم متقاربة حملت وصيته على أنه أراد بها الخيار في الدين هو الصواب والله أعلم.
[مسألة: لا يلحق الأيتام دين بحال]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن ترك ولدا وترك لهم مالا فأنفق عليهم ذلك المال، ولهم مال سواه ورثوه من أمهم، ثم طرأ دين على الميت هل يؤخذ من مالهم شيء مكان ما أنفق عليهم من مال الميت؟ قال: لا يؤخذ منهم شيء قال أصبغ: أرى أن تفض النفقة على المالين، وعلى قدر المال الذي ورثوه، والمال الذي لهم حتى كأنه مال واحد، فما أصاب المال الذي ورثوه، فأنفق عليهم هدر لأن السنة أن ينفق عليهم من جميع أموالهم، فهي وإن وقعت على مال المواريث فليس له خاصة هي منه على الجميع، فأرى أن يقسم كما فسرت لك، فما أصابها من النفقة سقطت عنه، وما بقي فكأنه متروك ترك للدين.
قال محمد بن رشد: اختار ابن المواز قول ابن القاسم، فقال: لا يلحق الأيتام دين بحال، إلا لمن أنفق عليهم سلفا، ولهم مال يرجع فيه. وقال في قول أصبغ: إنه حسن المسألة فيها أربعة أقوال: أحدها إنه ليس للغرماء الطارئين أن يرجعوا على بني الميت بما أنفق الوصي من التركة عليهم إن كان لهم يوم أنفق التركة عليهم مال ورثوه من أمهم أو من وجه من الوجوه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، وظاهر روايته عن مالك في النكاح الثاني من المدونة والثاني إن لهم أن يرجعوا عليهم فيما أنفق الوصي عليهم من التركة، ويتبعونهم دينا في ذمتهم إن لم يكن لهم مال، وهو قول(13/281)
المخزومي في المدونة؛ لأنه إذا رأى ذلك دينا عليهم إن لم يكن عليهم مال فأحرى أن يؤخذ ذلك من مالهم إن كان لهم مال. والثالث إنه إن كان لهم مال رجعوا فيه بما أنفق الوصي من التركة عليهم وإن لم يكن لهم مال لم يتبعوا بذلك دينا في ذمتهم. والرابع قول أصبغ: إن النفقة مفضوضة على المالين، ولو اختلط المالان، فأنفق عليهم منه بعد اختلاطه، كانت النفقة مفضوضة على المالين. قاله ابن القاسم في المجموعة ولا اختلاف في هذا ولو أنفق عليها من غير التركة لكانت التركة للغرماء، ولا اختلاف في هذا أيضا. فقول ابن القاسم على قياس القول بأن الدين لا يتعين في التركة، وإنما يجب في الذمة وقول المخزومي على قياس القول بأنه يتعين في التركة. وأما القولان الآخران فهما استحسان وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي فيقول ثلث مالي للأقرب فالأقرب]
مسألة قال أصبغ: قال ابن القاسم في رجل يوصي فيقول: ثلث مالي للأقرب فالأقرب، ويترك بعده أباه وجده، وأخاه وعمه، قال: يقسم ذلك عليهم قال: قدر حاجتهم وجدتهم، ويفضل الأقرب فالأقرب، فأرى الأخ أقرب، ثم الجد بعد، وإن كانوا إخوة ثلاثة مفترقين، فالأخ للأب والأم أقرب، ثم الأخ للأب.
قلت: فإن كان الأخ الأقرب موسرا، والأبعد محتاجا. قال: ما أرى إلا أن يفضل بشيء، وإن كان غنيا على وجه ما أوصى به، ولا يكثر له. قال: وإن كان الذي أوصى به على هذه الوصية إنما هو حبس فالأخ أولى وحده ولا يدخل معه غيره.
قال محمد بن رشد: قوله: يقسم ذلك عليهم على قدر حاجتهم، معناه: إن لم يكونوا ورثة، فالأب لا شيء له في هذه الوصية بحال؛ لأنه وارث على كل حال، وكذلك في كتاب ابن المواز في هذه المسألة إنه يقسم(13/282)
عليهم بقدر حاجتهم، ويفضل الأقرب فالأقرب. قال محمد: قال مالك: ما لم يكونوا ورثة فإنا نرى أنه لم يرد بوصيته ورثته.
وقوله: إن الأخ أقرب من الجد صحيح، أنه يجتمع مع الموصي في أبيه فهو أقرب إليه من جده، وكذلك ولد الأخ، وولد ولد الأخ وإن سفلوا هم أقرب من الجد وهذا على ترتيب القرب في ميراث الولد، فالأخ أولى، ثم بنوه وإن سفلوا، ثم الجد، ثم بنوه وهم الأعمام، وإن سفلوا ثم أب الجد، ثم بنوه، هكذا وإن كان الإخوة أو بنو الإخوة أو الأعمام أو بنوهم في درجة، فالشقيق أحق من الذي للأب ولما سأله عن الثلاثة الإخوة المفترقين، قال: إن الأخ الشقيق أقرب، ثم الأخ للأب وسكت عن الأخ للأم، إذ لا شيء له على مذهبه في أن من أوصى لقرابته، لا يدخل في ذلك قرابته من قبل الأم، إلا أن يكون له قرابة من قبل الأب وقد مضى الكلام على هذا في رسم أسلم من سماع عيسى، وقال: إنه يفضل الأقرب وإن كان موسرا على الأبعد، وإن كان محتاجا، وإن كان الأقرب محتاجا والأبعد موسرا فضل عليه من جهتين، وإن استووا في القرب وهم جماعة قسم ذلك بينهم بالاجتهاد في قدر الحاجة ولا يحرم الأغنياء. وقد قيل: إنه يساوي بينهم في ذلك. وذلك على اختلاف قول ابن القاسم في المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم. وقوله: وإن كان الذي أوصى به على هذه الوصية إنما هو حبس، فالأخ أولى وحده، ولا يدخل معه غيره، فمعناه: إذا كانت وصية بسكنى للأقرب فالأقرب وأما إن كانت وصية بحبس له غلة لتقسم الغلة على الأقرب. فالأقرب كل عام، فيدخل الأبعد مع الأقرب بالاجتهاد كما إذا أوصى بوصية مال للأقرب وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي فيقول لفلان مائة ولا يسمي شيئا]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم فيما أعلم عن الرجل يوصي فيقول:(13/283)
لفلان مائة، ولا يسمي شيئا ولا يدري ما أراد، قال: إن كان البلد إنما المال فيه الدنانير، والغالب عليها، فله الدنانير، وإن كانت بلد دراهم، والغالب عليها الدراهم فالدراهم، وإن كان بلد دنانير ودراهم جميعا فليس له إلا دراهم، ويعطى الأقل، حتى يستيقن غير ذلك إلا أن يكون لوصيته وجه، يستدل به أنه إنما أراد الدنانير أو الدراهم، فيعطى منها مثل أن يوصي فيقول: لفلان مائة دينار، ولفلان عشرة دنانير، ولفلان مائة، ولا يسمى هاهنا شيئا، فهذا ليس له إلا الدنانير، أو يوصي فيقول: لفلان مائة دينار ولفلان عشرة دنانير أو مائة درهم، ولفلان مائة ولا يسمي شيئا فهذا ليس له إلا الدراهم، وإن كان البلد بلاد دنانير، إذا كان هذا بساط الكلام، حتى يستدل به على ما أراد من وجه ذلك وبساطه، فيعمل فيه على ذلك. وقاله أصبغ. وهذا وجه ما سمعت منه وتفسيره.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية تفسير مجمل قوله في أول رسم الصلاة من سماع يحيى حسبما ذكرناه هناك. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بصدقة وأمر أن يتصدق بها بدرهمين كل شهر]
مسألة قال: وسمعت ابن القاسم يقول في رجل تصدق بصدقة، وأمر أن يتصدق بها بدرهمين كل شهر على صرف اثني عشر بدينار، ثم صار الصرف عشرين بدينار، إن عليه سدس دينار كل شهر، بالغا ما بلغ، وكذلك أوصى صاحبها قال أصبغ: يعني إن في وصيته بدرهمين من صرف اثني عشر بدينار شرط. وقاله أصبغ وإن نقصت الدراهم عن اثني عشر لم يكن عليه إلا سدس، وإن لم يكن ذلك بشرط في الوصية ولا بيان، فالدرهمان راتبان كل شهر زاد الصرف أو نقص.(13/284)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن ذلك على قياس البيوع، لو باع رجل من رجل سلعة إلى أجل بدرهمين من صرف اثني عشر درهما بدينار لم يجب له الدرهمان إذ لم يسمها إلا ليبين بها الجزء الذي باع به من الدينار، فلا يكون له إذا حل الأجل إلا سدس دينار، زاد الصرف أو نقص. ولو باع منه سلعة إلى أجل بسدس دينار من سوم اثني عشر بدينار لم يجب له عليه إذا حل الأجل إلا درهمان، زاد الصرف أو نقص أيضا؛ لأنه لم يسم الجزء إلا ليبين به عدد الدراهم التي باع بها، وإذا باع بدرهمين أو بسدس دينار، ولم يقل من صرف كذا وكذا، فله ما سمى من جزء الدينار أو من عدد الدراهم. ومثل هذا في المدونة وفي سماع أشهب وسماع يحيى من كتاب الصرف. وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي عند موته يقول هذه الدار لابني فلان]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يوصي عند موته يقول: هذا المتاع، أو هذه الدار لابني فلان، كل ذلك من ميراث من أمه، وليس أحد يعلم ما يقول، ولا يشهد على ما سمى قال: لا يقبل قوله، إلا أن يعلم أنه قد كان لها مال أو عرض فإن علم ذلك، وأتى بأمر غير مستنكر، رأيت أن يقبل ذلك منه.
قال محمد بن رشد: إقرار الرجل في مرضه بما في يديه من الدور والمتاع الذي لا يعرف ملكه لها، إنها لابنه من ميراثه في أمة، كإقراره في مرضه بالدين من ذلك، لا يجوز إلا أن يشبه قوله، ويعرف وجه إقراره بأن يعلم أنه كان لأمه من المال نحو ما أقر له به وكذلك في كتاب ابن المواز: إن إقرار الرجل في مرضه بالدين لابنه لا يقبل منه إلا أن يكون لذلك وجه أو سبب يدل وإن لم يكن قاطعا وإن كانت الدور التي أقر أنها لابنه من ميراثه في أمه يعرف ملكه لها لم يجز إقراره لابنه بها في مرضه على حال، ولو أقر له بها في(13/285)
صحته، لكان إقراره له بها كالهبة تصح له إن حازها له بما يجوز به الآباء، لمن يلون أمرهم من الأبناء، على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، وفي غيره من المواضع، خلاف قول أصبغ في سماعه من الكتاب المذكور حسبما بيناه. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن فلانا خليفة على رقيق ولده]
مسألة وسئل عن رجل أوصى أن فلانا خليفة على رقيق ولده، وأولئك الرقيق الذين يقومون بأمر ولده، أيكون بها خليفة للولد؟ قال: لا، إلا بما يقوم به العبيد لولده، ولا يكون بيده في ذلك بضع نكاح في ذكر ولا أنثى، ولا أمر مما يجوز للوصي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الوصي كالوكيل، فإذا خص بشيء دون شيء لم يكن له أن يتعدى ما خص به. وبالله التوفيق.
[مسألة: ميت مات فوجد في وصيته أن عبدي فلانا لفلان]
مسألة قال: وسمعت أشهب وسئل عن ميت مات، فوجد في وصيته أن عبدي فلانا لفلان، ووجد في وصية له أخرى أن يباع من فلان، ولا مال له غيره، قال: يكون ثلث العبد بينهما أرباعا. للموصى له به ثلاثة أرباعه وللموصى له بالبيع منه ربعه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن من حق الذي أوصى له أن يباع منه أن يحط عنه من ثمنه ثلثه، فكان كأنه قد أوصى له بثلث رقبته فوجب أن يشتركا في ثلثه على قدر ما أوصى به لكل واحد منهما، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال أعطوا فلانا عشرة وفلانا السدس أي السدس يعطي]
مسألة وسئل عن رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا عشرة، وفلانا(13/286)
عشرين، وفلانا السدس، أي السدس يعطي؟ أسدس الثلث؟ أم سدس المال؟ قال: بل سدس المال، أرأيت العشرة والعشرين، من أين أوصى بها؟ قيل: من المال قال: فكذلك السدس إنما هو من المال.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن له سدس الثلث إذا كان قوله بعد وصية، وإنما يكون له سدس المال، إذا كان قوله بعد إقرار بدين، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه. حكى ذلك عنه محمد بن المواز وقال: هو من رأيه مثل رواية أصبغ هذه عن ابن القاسم، إن له سدس المال في المسألتين جميعا؛ لأنه إذا رأى له سدس المال، إن كان قوله بعد وصية، فأحرى أن يرى ذلك له إذا كان قوله بعد وصية ولكلا القولين وجه، فوجه قول ابن القاسم ما ذكره في الرواية، ووجه القول الآخر أنه لما احتمل أن يريد الموصى سدس المال وسدس الثلث لأنه الذي يتيقن به وما زاد عليه مشكوك فيه، ولا تكون الوصايا بالشك. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن تشتري له رقبة تعتق عنه فاشترى الوصي مدبرا فأعتقه]
مسألة وسئل عمن أوصى أن تشتري له رقبة تعتق عنه، فاشترى الوصي مدبرا وهو لا يعلم فأعتقه، قال: لا يجوز عتقه، ولا يجزئ.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يجوز ولا يجزئ معناه لا يجوز عتقه، ويرد إلى سيده على تدبيره، ولا يجزئ إن فات رده إلى سيده بموت(13/287)
أو عيب، وكذلك لو اشتراه وهو يعلم أنه مدبر، فأعتقه عن الميت، يرد على هذا القول، ولا يجزئ عن الميت إن فات رده بموت أو عيب، ويضمن الوصي على قول أشهب، وأحد قولي ابن القاسم. وأما على القول بأن من اشترى مدبرا فأعتقه، لا يرد عتقه، وهو أحد قولي مالك إن اشتراه فأعتقه يجزئ عن الميت، إذ لا يرد عتقه، وهو قول ابن القاسم في رسم المدبر والعتق من سماع أصبغ من كتاب العتق، وسواء دلس له بذلك البائع أو اشتراه، وهو يعلم أنه مدبر، إن كانت الرقبة تطوعا، وأما إن كانت واجبة، فلا يجزئ عن الميت إن اشتراه وهو يعلم أنه مدبر وإن لم يرد العتق، ويضمن الوصي؛ لأن الرقبة الواجبة لا تشترى بشرط العتق، وإذا اشتراه وهو يعلم أنه مدبر فقد اشتراه بشرط العتق إذ لا يجوز أن يباع المدبر على غير العتق، فإن بيع على العتق مضى العتق ولم يرد على هذا القول، ولا يجوز عند مالك أن يباع المدبر ممن يعتقه، وإنما يجوز عنده أن يعطي سيده مالا على أن يعتقه، ويكون الولاء له.
وقد وقع في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات من كتاب الصدقات والهبات، ما ظاهره جواز ذلك، إلا أن يتأول على خلاف ظاهره. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بشراء رقبة فتعتق عنه فاشتراها الوصي فأعتقها ثم استحقت]
مسألة وسئل عن رجل أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه فاشتراها الوصي فأعتقها، ثم استحق رجل نصفها، قال: فالمستحق بالخيار، إن شاء أجاز البيع وأخذ نصف الثمن، وإن شاء أخذ نصفها وقوم على الوصي ذلك النصف الذي استحقه المستحق، يقوم على الوصي في ماله، لا على الورثة. قال أصبغ: وقد كان قال لي قبل ذلك في ذلك المجلس: إنه إنما يقوم(13/288)
على الورثة، يعني في مال الميت. قال أصبغ: والورثة أعدل أن يقوم عليهم في ثلث الميت.
قال محمد بن رشد: وإذا قوم على الوصي ذلك النصف اتبع هو البائع بنصف الثمن، فإن كان فيه فضل عما قوم به عليه، رد الفضل على الورثة، وإن كان فيه نقصان كان عليه، كما أنه لم يجد البائع، كانت المصيبة منه، وإذا قوم على الورثة في مال الميت على أحد قولي ابن القاسم، واختيار أصبغ فلا شيء على الوصي، وهم يتبعون البائع بنصف الثمن، ولا اختلاف في وجوب تقويمه على الوصي جار على ما تقدم من الاختلاف في وجوب تضمينه ما أخطأ فيه. وقد مضى القول على ذلك في أول السماع، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب، وذكر ابن المواز قول ابن القاسم في إيجاب تقويم النصف على الوصي واستحسان قول أصبغ أن يقوم على الورثة قال: ولا يعجبني القولان، ولكن إن كانت الثلاثون بعينها، فلا يعتق إلا نصفه حتى يؤخذ من البائع بقيمة ثمنه فيتم به عتقه، وإن تكن بعينها، فليتم عتق ما بقي منه من ثلث ما بقي، بعد أن يسقط منه نصف الثلاثين التي تلفت عند البائع، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لقوم بوصايا ولرجل آخر أن ينفق عليه ما عاش]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم قال في رجل أوصى لقوم بوصايا، ولرجل آخر أن ينفق عليه ما عاش، فمات الموصى له بالنفقة إنه يحاص ورثة الموصى له بالنفقة أهل الوصايا في جميع الثلث، بقدر ما عاش صاحبهم بعد موت الموصي بنفقة مثله فيه. قال: ويحاص من يوم مات الموصي ليس من يوم يجمع المال أيضا لأن صاحبهم لو كان حيا كان يعمر على ذلك، ويحاص بما يصيبه، فيدفع إليه، أو وقف له. فإن مات قبل أن يستنفده رجع(13/289)
أهل الوصايا في ذلك الفضل، حتى يستوعبوا وصاياهم كاملة، وتكون الفضلة فيه بعد لورثة الموصي فإن بلغ ما عمر واستنفذ لم يرجع على أهل الوصايا في شيء ولم يعمر أيضا ثانية يوم يرجع؛ لأنه قد اجتهد له، واجتهد فيه، وتطاول، فكأنه حكم حكم به، ووقع ومضى. وهذا أحب إلي من الرجوع. والقياس في الرجوع في التعمير ثانية، ومن وراء ذلك، فإنما يعمر يوم يرجع ثانية، فيرجع على أهل الوصايا بما يصيبه في ذلك على كل واحد منهم، بقدر ما صار له في نصيبه من ذلك، مليا كان أو معدما، ولا يرجع على الملي بأكثر من الذي يصيبه في ذلك، وإنما يتبع المعدم بمنزلة وصية طرأت بعد اقتسام أهل الوصايا الثلث، وشهد على وصية الميت بها، ولم يكن علم بها، وإنما يرجع صاحبها على أهل الوصايا على كل واحد منهم بما كان يصيبه في المحاصة أن لو حاص بها معهم يومئذ في الأول ثم يوقف لذلك المعمر ما أخذ من ذلك، ويصنع فيه كما فسرت لك أولا لمن يرى الرجوع ثانية، ولست أراه. وقالها أصبغ كلها إلا قوله في نفقة المعمر: إنها توقف إن مات قبل أن يستنفذوه رجع إلى أهل الوصايا، وإن استنفذه لم يرجع فهذا محال، ولا يجتمعان من رأى أن لا يرجع إذا استنفذ مضى له ما أخذ في التعمير والمحاصة بتلا مالا من ماله، يصنع به ما شاء، وهذا رأيي، ولا أعلم ابن القاسم إلا رجع إليه وقاله، لا شك فيه إن شاء الله. ومن رأى أنه يرجع على أهل الوصايا، رده في المحاصة، ويعمر ما بقي، ورجع على أهل الوصايا إذا استنفذه والقياس الذي عليه أهل الكلام وصحة ذلك أن يوقف، ويكون لأهل الوصايا إن لم يستنفذه، ويرجع عليهم إن استنفذه، ولا يبتل له عند المحاصة، فتحال وصية الميت عما أوصى به. وهذا رأي أشهب،(13/290)
وأنا أقول بقول ابن القاسم، في إبتال ذلك له حكما عند إحالة الوصايا استحسانا، كالخدمة يوصي بها لرجل أو السكنى فتحول الوصايا فيضرب له بقيمتها أو يعطى ذلك بتلا يصنع به ما شاء، ولا يجعل في سكنى ولا خدمة ولا يوقف عنه، ولو كانت داره لأوقفته ولو أوقفه لذلك عنه لجعلت له الرجوع، ولا أوقفه وأبتله له يصنع به ما شاء مالا من مله، ويسقط عنه ما سوى ذلك استنفذه أو لم يستنفذه. وتفريق ابن القاسم بين ذلك محال.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وفي رسم العربية من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.
[: أوصى فقال ثلثي لولد عبد الله بن وهب]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال سحنون: وسئل عن رجل أوصى، فقال: ثلثي لولد عبد الله بن وهب: أيدخل ذكور ولد عبد الله بن وهب في ذلك؟ فقال: نعم قيل له: فبنات عبد الله الإناث، أيدخلون في ذلك؟ قال: لا إنما أراد بذلك الذكور فقط، إلا أن يقول: ثلثي لبني عبد الله فيدخل الذكور والإناث من ولد عبد الله، قيل له: فإن قال لبني عبد الله فتوفي واحد، وولد اثنان والموصي حي، ثم مات، قال: يدخلان إنما هو على من أدركه القسم. قال أصبغ: بني عبد الله، يجمع الذكر والأنثى وولده يجمع الولد وولد الولد الذكور.
قال محمد بن رشد: إنما سأله هل يدخل ذكور ولد عبد الله بن وهب في وصية الرجل لولد عبد الله بن وهب؟ من أجل أنهم جماعة، والموصي إنما(13/291)
أوصى بلفظ الواحد، فقوله: إنهم يدخلون كلهم صحيح لا إشكال فيه؛ لأن الولد يقع على الواحد وعلى الجميع، وعلى الذكر والأنثى أيضا وقوعا واحدا؛ لأنه اسم للجنس قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» . ولم يقل: أنا سيد أولاد آدم. وإنما قال في هذه الرواية: إنه لا يدخل في وصيته لولد عبد الله بناته، وإن كان الولد يقع على الواحد وعلى الجميع، وعلى الذكر والأنثى وقوعا واحدا في اللسان العربي من أجل أن الولد قد يعرف عند عامة الناس بالولد الذكر، دون الأنثى فإذا سألت منهم من له بنات، هل له ولد؟ يقول: لا ولد لي، وإنما لي بنات، فلما كان لا يعرف أن الولد يقع على الذكر والأنثى إلا الخاص من الناس، حمل قول الموصي على ما يعرف من مقصد عامتهم، فهذا وجه هذه الرواية. والمشهور في المذهب أن يحمل قول الموصي على ما يقتضيه اللسان العربي، وهو نص ما في المدونة. قال فيها فيمن أوصى لولد فلان: إنه يدخل في ذلك ذكور ولده وإناثهم ونحوه في الموطأ وفي الحبس من العتبية في غير ما موضع من سماع ابن القاسم وسماع عيسى. وقد قال ابن لبابة في هذه الرواية: إنها خلاف القرآن قال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] فالناس مجمعون على أنه إذا أراد الذكران والإناث. وقال أيضا: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12] قيل له: فلو نزل هذا ما كنت تقول قال: أعوذ بالله من مخالفة القرآن، وهو تحامل منه في القول، إذ ليست الرواية بمخالفة للقرآن كما قال؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، كما قال عز وجل فوجب أن تحمل ألفاظه على ما يقتضيه في اللسان العربي. وأما الموصي(13/292)
فإنما تحمل ألفاظه المحتملة على ما يغلب على الظن أنه أراده بها، فمرة غلب على ظنه أنه أراد بالولد ما يقتضيه اللسان، ومرة غلب على ظنه أنه أراد به ما يعرفه عامة الناس، وعلى هذه الرواية لا شيء في الوصية لولد ذكور عبد الله، وأما إذا قال: ثلثي لبني عبد الله، فلا اختلاف في أنه يدخل في ذلك الذكور والإناث من ولد عبد الله ويدخل فيه من ولد قبل موت الموصي إلا أن يسميهم بأسمائهم. ويختلف فيمن ولد بعد موت الموصي وفي من مات بعد موته. فعلى قوله في هذه الرواية: إن ذلك على من أدركه القسم يسقط حق من مات، ويدخل من ولد. وقد قيل: إنه لا يسقط حق من مات، ولا يدخل من ولد. وهذا على اختلاف قول ابن القاسم في المدونة في الذي يوصي لأخواله وأولادهم مرة حملهم على المعينين، فقال: إن المال يقسم بينهم بالسواء، فعلى هذا لا يسقط حق من مات، ولا يدخل من ولد. ومرة قال: يقسم بينهم بالاجتهاد، فعلى هذا يسقط حق من مات، ويدخل من ولد، ويقسم على من أدرك القسم، وهو قوله في هذه الرواية، ومثله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، في الذي يوصي لقوله أو لبني عمه. وانظر مسألة رسم الوصايا من سماع أشهب، ولا يدخل في ذلك على هذه الرواية أحد من ولد الولد، فقول أصبغ: إن بني عبد الله يجمع الذكر والأنثى، يريد من بنيه دنية ولا يدخل في ذلك أحد من ولد ولده، وقوله: وولد بجمع الولد وولد الولد الذكور، يريد أنه يجمع الولد ذكورهم وإناثهم وولد الولد الذكور منهم، ذكورهم وإناثهم وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلث مالي لإخوتي وله ستة إخوة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل عن رجل أوصى فقال: ثلث مالي لإخوتي وله ستة إخوة مفترقين: إخوان لأم وأب وإخوان لأم، وإخوان لأب وليس له وارث غيرهم، فقال: هو ميراث، لا يجوز وصية لوارث.(13/293)
قلت له: إن الأخوين للأب، لا يرثان هاهنا شيئا، إنما يرث الإخوان للأب والأم، والإخوان للأم الثلث، قال: يعزل هذا الثلث، ويكون ثلث الثلثين الباقيين للأخوين للأم، وثلثا الثلثين للأخوين للأب والأم، وينظر إلى هذا الثلث، فما كان يصير للأخوين للأب والأم، والأخوين للأم منه فهو ميراث قال أصبغ: وتفسير قوله هذا: أن يقسم الثلث على الستة الإخوة بالسواء، فما أصاب الأخوين للأب من ذلك وهو ثلثه، فهو لهما، ومما صار للأخوين للأب والأم والأخوين للأم، فهو ميراث على كتاب الله مع ثلثي المال؛ لأنه لا تجوز وصية لوارث. قال أصبغ: فقيل له: فإن كان له ابن هو وارثه، وله هؤلاء الإخوة، فقال: ثلثي لإخوتي فتوفي ابنه، ثم توفي هو بعد ذلك، وصاروا هم أوراثه، فقال: هي مثل هذه الأولى سواء قال أصبغ: هو كما قال في استواء المسألتين هما مستويتان، والجواب فيهما على غير ما قال في التحاص.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها.
وقول أصبغ والجواب فيهما على غير ما قال في التحاص خطأ وقع في الرواية من الناسخ، فتداولها النقل على ذلك الظن، للظن أن لذلك وجها، ولا وجه لها. وصوابها والجواب فيها على ما قال في التحاص، إذ لا فرق بين أن يوصي الرجل لوارثه، وبين أن يوصي له وهو غير وارث، ثم يصير وارثا بموت من كان يحجبه عن الميراث وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لقوم بوصايا ولرجل آخر أن ينفق عليه ما عاش]
مسألة وقال في رجل أوصى لقوم بوصايا، ولرجل آخر أن ينفق عليه ما عاش مما بقي من ثلثه، فلم ينفذ ذلك الوصي حتى مات الموصي(13/294)
له بالنفقة حياته. قال: يعطي أهل الوصايا وصاياهم، فإن فضل عن الثلث شيء أعطى ورثة الموصى له بالنفقة قدر ما عاش صاحبهم بعد موت الموصي، يعطي من يوم مات الموصي ليس من يوم يجمع المال، فما فضل رجع إلى ورثة الموصي، وقاله أصبغ، ولو لم يمت وبقي حتى يجمع المال، جمع له ما كان يصيبه من النفقة من يوم مات الميت، وأعطيه، ولم يطرح عنه ما بين الموت إلى جمع المال، وتنفيذ الوصية، فكذلك يكون له بعد موته، والوصية في مثل هذا فيما يرى من يوم مات الموصي.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في الرسم الذي قبل هذا لأن النفقة واجبة له من يوم مات الموصي، فإن كان حيا حسبت له نفقته من يوم مات الموصي في بقية الثلث، وإن كان قد مات كان ذلك لورثته ميراثا عنه وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلثي لفلان ولفلان عشرة دنانير]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن وهب عن رجل أوصى فقال: ثلثي لفلان، ولفلان عشرة دنانير، ولا ينقصوا صاحب الثلث شيئا. قال: فالثلث كله له، وليس لهؤلاء شيء، من أين يأخذون وصاياهم إذا قال: لا تنقصوا صاحب الثلث شيئا؟
قلت: وكذلك لو أوصى فقال: لفلان ثلث مالي ولفلان عشرة دنانير، ولا تنقصوه من العشرة شيئا، والثلث عشرة. قال لي: نعم أراها تشبه الأولى. والله أعلم.
قلت: تكون العشرة له كلها ويسقط الذي أوصى له بالثلث، فقال: هكذا قال، لا تنقصوه من العشرة شيئا، قيل له: سواء(13/295)
كانت العشرة مقدمة في اللفظ قبل الثلث أو مؤخرة، فقال: ثلثي لفلان ولفلان عشرة، ولا تنقصوه شيئا أو قال: لفلان عشرة، ولا تنقصوه شيئا، وثلث مالي لفلان، قال: نعم، سواء كانت مقدمة أو مؤخرة إلا أن يتبين له أنه فسخ. وقاله أصبغ كله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا وجه للقول فيها وبالله التوفيق، لا إله إلا هو.
[مسألة: يوصي لقرابته بمال كيف يقسم]
مسألة قال: وسمعته يقول في الرجل يوصي لقرابته بمال، إنما يقسم ذلك على الأقرب فالأقرب من نحو أبيه، ويبدأ بالفقراء منهم حتى يغنوا من تلك الوصية، فإن فضل عنهم شيء عطف به على من بقي من أقاربه من الأغنياء. قال: وقد رأيت مالك بن أنس يرى أن أهل الرجل عصبة، يعني إذا أوصى بمال أن يقسم في أهله. قال ابن وهب: وما أوصى به على مساكينه، فإن مساكينه من يرجع إليه نسبه ومواليه الذين هم موالي عتاقة قال ابن القاسم: ونحن نرى إذا كان المال واسعا أن يؤثر بذلك القرابة، الأقرب إليه فالأقرب، ويعطي مواليه من ذلك، ولا يحرموا إذا كانوا مساكين، فالوصي ينظر على قدر الاجتهاد، ولا يخيب هؤلاء ولا هؤلاء لأنه إنما قال على مساكينه، ولم يقل على أقاربه. قال أصبغ: أرى ذلك حسنا على ما اشترط في الفتيا.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم أسلم من سماع عيسى فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.(13/296)
[مسألة: مات الموصى إليه وأوصى إلى رجل آخر بوصيته]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل عن رجل أوصى ثم مات الموصى إليه، وأوصى إلى رجل آخر بوصيته ووصية الرجل الأول، فقال الموصى إليه الثاني: أما وصيته، فأنا أقبلها، وأما وصية الأول فلا أقبل؛ لأن فيها ديونا وتخليطا أترى ذلك له؟ قال: نعم، ويرفع ذلك إلى القاضي حتى يستحلف على ذلك، قال أصبغ: لا أرى ذلك؛ لأن وصية الأول من وصية الثاني، فليقبل على وجهها أو ليدع، فإن قبل بعضها فأراه قبولا للجميع وتلزمه كله.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب أظهر من قول أصبغ أن يلزمه ما التزم، ويقدم القاضي على وصية الرجل الذي لم يلتزم، ووجه قول أصبغ أن الموصي إنما أوصى إليه بالجميع، فإما قبل الجميع، وإما رد الجميع، ورأى أنه إذا قبل البعض فقد لزمه بالقبول له النظر فيه، والنظر فيه وحده، ليس له إذا لم يجعل إليه النظر، إلا في الجميع، فألزمه الجميع، إذ ليس له أن تبعض عليه وصيته. وبالله التوفيق.
[مسألة: ترك ثلاثة من الدور وأوصى لرجل بخمسة دنانير]
مسألة وسئل عن رجل توفي وترك ثلاثة من الدور، قيمة كل دار مائة دينار، وأوصى لرجل بخمسة دنانير، فقال الورثة: ليس عندنا شيء نعطيه، ولن نعطيه شيئا قال: يخير الورثة، إما أن يعطوه ما أوصى له به، وإما أن يقطعوا له بثلث ما ترك الميت، قيل له: أو لا يبيع له السلطان من تلك الدور بقدر الخمسة، ويترك ما بقي للورثة؟ قال: لا ولكن يخيرون، وذكره عن مالك بن أنس فقال له أصبغ: قد روى ابن القاسم مثله عن مالك في المال الغائب والمفترق.(13/297)
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة، وعلى ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى وعلى ما حكى أصبغ في الرسم الذي قبل هذا عن مالك وجميع أصحابه، فعلى الورثة على مذهبهم أن يعجلوا للموصي له الخمسة الدنانير التي أوصى له بها، بأن يبيعوا فيها معجلا ما شاء ومما ترك الميت من دار أو غير ذلك مما يمكن بيعه، وليس لهم أن يؤجلوا في ذلك ليشدوه لبيع طلب الزيادة فيه إن كان أصلا ولا ليبيعوه على الطالب أو ينتظروا به الأسواق إن كان عرضا، ويقال لهم: إما أن تعجلوا له الخمسة، وإما أن تقطعوا له بثلث الميت في كل شيء، وكذلك لو كان جميع مال الميت دينا مؤجلا، لقدرتهم على بيعه بما تباع به الديون، وأما لو كان مال الميت مالا يجوز بيعه، كالزرع الذي لم يحل بيعه، أو الثمرة التي لم يبد صلاحها لوجب على الموصى له بالنقد الانتظار حتى يحل بيع مال الميت، إذ ليس على الورثة أن يعجلوا ذلك من أموالهم، وأصبغ يخالف في هذا كله على ما تقدم من قوله في الرسم الذي قبل هذا وروى ابن أبي جعفر عن ابن القاسم نحو قول أصبغ. وقد تقدم ذكر ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى وقوله: إن الإمام لا يبيع له من الدور بخمسة صحيح، إذ ليس ذلك بواجب على الورثة، فيحكم به عليهم، كما أن الإمام لا يبيع على الرجل ماله في النفقة على زوجته، وإنما يقول له: أنفق أو طلق، فكذلك هذا. وأهل العراق يقولون: إذا لم تحمل وصيته ثلث ما حضر من ماله، وله مال غائب، أعطي من وصيته قدر ما حمل منها ثلث المال الحاضر، وتكون بقيتهما في المال الغائب، قالوا: ولا يقطع له لغيبة بعض المال بأكثر مما أوصى له به وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لموالي كذا وكذا لشيء سماه لكل واحد منهم]
مسألة قال أصبغ: قال لي ابن وهب في رجل أوصى فقال: لموالي كذا وكذا لشيء سماه لكل واحد منهم، وله موالي أعتقهم، وله(13/298)
أنصاف مماليك، كانوا بينه وبين آخر، فأعتق نصيبه، فقال: أرى أن يعطى أولئك الأنصاف، يعطى كل واحد منهم نصف ما يعطى المولى التام، إن كان جعل لكل عشرة عشرة، فلهؤلاء خمسة خمسة، وإن كان جعل لهم أربعة أربعة، فلهؤلاء ديناران ديناران لأن هؤلاء الأنصاف ليس ينتسبون إليه وحده.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى فلا وجه لإعادته.
[مسألة: أوصى فقال أعطوا فلانا ثلث مالي وخيروه]
مسألة وسئل عن رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا ثلث مالي وخيروه أتراها وصية؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: كما قال: إنها وصية، إلا أنها وصية جعل إليه فيها الخيار، فلا تجب له حتى يختار، ويقبل باتفاق وأما إذا أوصى له ولم يخيروه، فقيل أيضا: إنها لا تجب له حتى يقبل بعد موت الموصي، وهو المشهور، وقيل: إنها تجب له بموت الموصي قبل القبول فعلى هذا إن مات الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل أو يرد يجب لورثته، ولا يكون لهم أن يردوها لورثة الموصي إلا على سبيل الهبة إن قبولها، وعلى القول الأول ينزل ورثة الموصى له منزلته في القبول إن مات قبل أن يقبل، وقد قيل: إنها تبطل إن ما قبل أن يقبل حكى ذلك عبد الوهاب عن أبي بكر الأبهري، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بمزود جديدة ثم لتها بسمن وعسل ومات]
مسألة وسمعت ابن وهب قال: وسئل عن رجل أوصى لرجل بمزود جديدة ثم لتها بسمن وعسل ومات، أتراه رجوعا في الوصية؟(13/299)
قال: لا قيل له: إن الطعام لا بد لهم منه، قال: لهم طعام، وطعام قد صنعه، واحتج أيضا فقال: وكذلك لو أوصى له بعبد ثم علمه الكتابة بعشرة دنانير، إن هذا ليس برجوع أيضا. قال أصبغ: ليس هذا برجوع ولا تكون له بلتاتها، ولكن يكون شريكا فيها بقدرها من قدر اللتات بمنزلة الثوب يوصي له به أبيض، ثم يصبغه، والبقعة تراحا ثم يبنيها.
قال محمد بن رشد: تنظير أصبغ، مسألة الذي يوصي بالجديدة، ثم يلقنها بمسألة الذي يوصي بالثوب ثم يصبغه، صحيح، يدخلها من الاختلاف ما دخلها. قيل: إنه يكون للموصى له مصبوغا، فعلى هذا تكون الجديدة له ملتتة، وهو مذهب ابن وهب، بدليل تنظيره لذلك بالذي يوصي بالعبد لرجل، ثم يعلمه الكتابة، إذ لا يكون الورثة شركاء فيه بقيمة الكتابة، إذ ليست بعين قائمة.
وقد مضى تحصيل هذه المسألة في نوازل سحنون فلا وجه لإعادته.
وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصت ودعت شهودا أن ما بقي من الثلث لليتامى والمساكين والأرامل]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل عن امرأة أوصت ودعت شهودا فقالت: هذه وصيتي مطبوعة اشهدوا على ما فيها لي، وعلي وقد أسندتها إلى عمتي، وما بقي من ثلثي فلعمتي، فماتت، ففتح الكتاب، فإذا فيه ما بقي من ثلثي فلليتامى والمساكين والأرامل. قال: أرى أن يقسم بقية الثلث بينهما يريد بين العمة وبين الصنوف الآخرين بنصفين بالسواء، بمنزلة أن لو كانا رجلين وسألت عنها ابن القاسم فقال: لي مثله.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على القول بإجازة الشهادة على(13/300)
الوصية المطبوعة. وقد مضى في رسم الأقضية من سماع أشهب ما يجوز من ذلك مما لا يجوز، وما اختلف في إجازته منه، فلا معنى لإعادته. وعلى مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، في أن من أوصى لرجل بشيء ثم أوصى به لغيره، يقتسمانه بينهما ولا تكون وصيته الآخرة ناسخة للأولى خلاف قول أشهب في سماع زونان وقد مضى الكلام على ذلك هنالك. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أوصيت لأبي محمد بما ولدت جاريتي هذه أبدا]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن وهب وسئل عمن قال: قد أوصيت لأبي محمد بما ولدت جاريتي هذه أبدا. قال: إن كانت يوم أوصى حاملا فهو له، قيل له: فإن لم تكن حاملا يوم أوصى قال: فلا شيء له.
قلت: فإن حدث بها حمل بعد، قال: فلا شيء له لأنها صارت، أو قال: تصير لقوم آخرين، قلت: أفيبيع الجارية سيدها؟ قال: نعم يبيعها إن شاء.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أنه أوصى له بما ولدت جاريته ثم مات، ولذلك قال: إن كانت حاملا يوم أوصى له فهو له، وإن حدث بها حمل بعد فلا شيء له، وأما إن لم يمت حتى ولدت أولادا فله كل ما ولدت في حياته، كانت حاملا يوم أوصى، أو لم تكن إلا أن يبيعهم أو يرجع عن وصيته فيهم؛ لأنه إذا جاز للرجل أن يهب للرجل ما تلد جاريته حياتها. جاز أن يوصي بذلك، فيكون للموصي له ما ولدت في حياة الموصي، فإن مات وهي حامل فحملها الثلث، وقفت حتى تضع فيأخذ الموصى له بالجنيين الجنين، ثم يتقاومون الأم والجنين ولا يفرق بينهما، ولم يجز للورثة أن يعطوا الموصى له شيئا على أن يترك وصيته في الجنيين، قال(13/301)
ذلك في المدونة وغيرها، وإن لم يحملها الثلث، فأحب الورثة أن يوقفوها له حتى تضع، فذلك لهم، وإن كرهوا لم يكن ذلك عليهم، وسقطت الوصية لأنها وصية فيها ضعف قال ذلك ابن حبيب في الواضحة واختلف إن أعتق الورثة الأمة والثلث يحملها، فقيل: يعتقها في بطنها بعتقها، وتبطل الوصية به، وهو الذي في المدونة وقيل: إنه لا عتق لهم فيها حتى تضع، وهو قول أصبغ في الواضحة وأما إن كان الثلث لا يحملها، فعتقهم فيها جائز. وبالله التوفيق.
[: اليتيم إذا أنس منه الرشد أتدفع إليه وصية ماله بغير إذن الإمام]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: وسمعته يقول في اليتيم إذا أنس منه الرشد أتدفع إليه وصية ماله بغير إذن الإمام؟ قال: إذا كان أمر قد تبين للناس فنعم، ولا ضمان عليه، وإلا فلا إلا بأمر الإمام. فإن تعدى ذلك فهو ضامن إذا كان يشك في أمره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم سلعة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.
[: قال ثلثي لفلان وفلان ثم قال بعد ذلك ولفلان مائة]
ومن كتاب الوصايا للصغير
مسألة قال أصبغ: قال ابن القاسم: من قال: ثلثي لفلان وفلان ثم قال بعد ذلك: ولفلان مائة، أو أعطوا فلانا مائة لأحد الثلاثة، ضرب له بالأكثر المائة التي كانت التي سمى أو مبلغ ثلث الثلث يحاص بأكثرهما فقط؛ لأنهما وصيتان أي بمال، قال أصبغ: فيها شيء، ولها تفسير.(13/302)
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يحاص الذي أوصى له بالمائة بالأكثر منها أو من ثلث الثلث، صحيح على المشهور في المذهب، من أن من أوصى له بوصيتين من جنس واحد، يكون له الأكثر من الوصيتين، والتفسير الذي لها عند أصبغ، هو ما روي عنه من أنه إذا أوصى له بمائة دينار، ثم أوصى له بثلثه في وصية أخرى، فإن كان ماله كله عينا ضرب بأكثر الوصيتين، وإن كان عينا وعرضا ضرب له بثلث العروض، ونظر إلى ثلث العين، فإن كان أقل من مائة أو أكثر، ضرب له بالأكثر، وإن كان ماله عرضا كله، ضرب بالثلث وبالمائة، وإن لم يكن معه أهل الوصايا، فإنما له الثلث، إلا أن يجيز له الورثة الوصيتين جميعا والظاهر من مذهب ابن القاسم أن له الأكثر من الوصيتين، وأنه يحاص بذلك إن كان معه أهل الوصايا سواء كان ماله عينا أو عرضا أو عينا وعرضا. وقد حمل سحنون قول أصبغ على التفسير لقول ابن القاسم، فقال: معناه: إذا كان مال الميت كله عينا، واختلف في ذلك قول أشهب، فقال مرة مثل قول أصبغ وسحنون، وقال مرة: إذا أوصى له بالثلث وبمائة أو عبد ضرب بالوصيتين جميعا فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: إنه يحاص الأكثر من الوصيتين، كان ماله عينا أو عرضا وكانت الوصية له بعين أو عرض، وهو ظاهر قول ابن القاسم. والثاني: إنه يحاص بالأكثر من الوصيتين جميعا من غير تفصيل، وهو أحد قول أشهب. والثالث: التفصيل الذي لأصبغ وسحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: يوصي لرجل بربطة ثم يقطعها قبل أن يموت قميصا]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عن الذي يوصي لرجل بربطة ثم يقطعها قبل أن يموت قميصا قال: لا أرى له شيئا. وسئل عن الذي يوصي لرجل بجارية فيطؤها، فقال: إن الوصية له ثابتة إذا أقرها وليس الجارية، ووطؤها من هذا. وأخبرت عن ابن القاسم في السفينة يوصي بها لرجل فينقضها كلها لا(13/303)
شيء له؛ لأنها قد حالت. وفي الذي يوصي لرجل ببقعة فيبنيها، إنهم شركاء على قيمة العرصة والبنيان، سمعتها منه. قال أصبغ: وهذا كله رأيي وقولي وإنما نقض السفينة بمنزلة تقطيع الربطة فهو رجوع، وإنما وطء الجارية بمنزلة لباس الثوب وبمنزلة خدمتها، فليس ذلك رجوعا في الوصية، وكذلك سكنى الدار وإنما الرجوع بالبيع والإحداث وشبهه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن الوصية بالجارية لا تبطل بوطئها ولا باستخدامها، ولا في أن الوصية بالدار لا تبطل بسكناها. وأما الذي يوصي بالربطة ثم يقطعها قميصا، فقيل: إن الوصية تبطل بذلك، وقيل: إنها لا تبطل، وقيل: إنها تبطل إن سماها ربطة ولا تبطل إن سماها حين أوصى بها ثوبا وشبهها، كما قال في السفينة يوصي بها ثم ينقضها فتبطل الوصية بذلك فيها، على قياس قوله في الربطة يوصي بها ثم يقطعها قميصا. وقد مضى تحصيل الاختلاف في الذي يوصي بالبقعة لرجل ثم يبنيها أو بالدار ثم يهدمها في نوازل سحنون، فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجل بألف درهم على مكاتبه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل أوصى لرجل بألف درهم على مكاتبه فقال الورثة للموصى له: نحن نعطيك الألف، وتكون جميع الكتابة والعبد لنا فأبى ذلك وقال: يكون لي في العبد والكتابة لعله يعجز، قال: ليس ذلك له، وذلك للورثة إذا دفعوا إليه الألف؛ لأنه يأخذ ما سمى له الألف درهم فليس له غير ذلك.(13/304)
قال محمد بن رشد: لم يفرق في هذه الرواية بين أن تكون الألف قد حلت على المكاتب أو لم تحل عليه، بل الظاهر منها أنها لم تحل عليه فهي إذا حلت أحرى أن لا يكون للموصى له في ذلك قول ولا حجة، فذلك خلاف ما في رسم الوصايا من سماع أصبغ من كتاب المكاتب في الذي يوصي بنجم من نجوم مكاتبه، فيقول الورثة: نحن ندفع إليك النجم، ويقول الموصى له: لا أرضى بذلك لعله أن يعجز فيكون لي فيه حق، فقال: إن كان النجم لم يحل فذلك له، وإن كان قد حل، فذلك لهم، وهو أظهر من قوله في هذه الرواية؛ لأن الموصى له ينزل بالوصية فيها على المكاتب بمنزلة المشتري، ولا اختلاف في أن المشتري لجزء من كتابة المكاتب، أو لنجم غير معين من نجومه، على القول بجواز ذلك، لا يكون للشريك أن يدفع للمشتري ماله على المكاتب، ويتبع بذلك المكاتب، فيكون أحق برقبته إن عجز. والوجه في هذه الرواية أن الموصي إنما قصد إلى الوصية بالألف بالرقبة إن عجز، فإذا أعطى الورثة الموصى له ماله على المكاتب، وعجلوا ذلك له لم تكن له حجة، فعلى هذه الرواية لو لم يعجل الورثة له بالألف فعجز لم يكن للموصى له بها حق في رقبة المكاتب. وهذا على القول بأن لموهوب كتابة المكاتب لا تكون رقبته إن عجز، وهو أحد قولي ابن القاسم في روايتي أبي زيد عنه في كتاب المكاتب، إذ لا فرق بين الوصية والهبة في هذا. وقد قيل: إن معنى هذه الرواية أن الألف كانت حالة على المكاتب، فليست بخلاف لما في سماع أصبغ من كتاب المكاتب، ولو دفع إليه الورثة الألف قبل أن يعجز على القول بأن رقبته كانت تكون له لو عجز، فعجز المكاتب فيها قبل أن يدفعها إليهم أو فيها بقي من الكتابة بعد أن دفع الألف إليهم، كانت رقبته لهم ولم يكن للموصى له أن يرد الألف إليهم ويشاركهم في الرقبة كما يكون للموصى لهم بالكتابة إذا قبض بعضهم ما أوصى له به منها إن عجز في حظ الباقيين منهم؛ لأن الموصى لهم إذا انفردوا بالكتابة في ذلك بمنزلة الورثة قيل: إنهم بمنزلتهم إذا قبض أحدهم حقه بشيء يبدأ صاحبه في(13/305)
أنه ليس له الدخول معه في الرقبة إذا عجز في نصيبه، إلا أن يرد ما قبض وقيل: إنهم بمنزلتهم إذا قبض أحدهم حقه دون أن يبديه صاحبه به، في أن له الدخول معه في الرقبة إذا عجز في نصيبه من غير أن يبديه ما قبض وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله في رسم الوصايا من سماع أصبغ من كتاب المكاتب وبالله التوفيق.
[مسألة: إقرار الرجل لوارثه في الصحة بدين]
مسألة وسمعته وسئل عن الرجل يموت فيترك عمه ولا وارث له غيره وغير أمه، فيطالب العم مورثه، فتقوم الأم بدين كان أقر لها به في الصحة، فقال: لا كلام للعم. قلت: أرأيت إن طلب منها اليمين، إن ذلك كان توليجا؟ قال أصبغ: أما في الحكم فلا يلزمها.
قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، أن إقرار الرجل لوارثه في الصحة بدين جائز وإن لم يقم به إلا بعد موته. وقال ابن كنانة: يجوز إقراره له في حياته، ولا يجوز بعد وفاته، إلا أن يعرف لذلك سبب، مثل أن يكون باع له رأسا وأخذ له من موروث شيئا. وقال بمثل قوله المخزومي وابن أبي حازم، ومحمد بن سلمة الفدكي، وقول أصبغ في اليمين: إنه لا يلزمها في الحكم، يريد من أجل أنها يمين تهمة. فقوله على القول بسقوط يمين التهمة، على قياس المشهور في المذهب من أن الإقرار عامل جائز نافذ، وإن لم يقم به إلا بعد الموت والأظهر في هذه المسألة لحوق اليمين، مراعاة لقول من لم يعمل الإقرار بعد الموت. وبالله التوفيق.(13/306)
[: يوصي فيقول غلامي مرزوق لمحمد ولسعيد مثله]
مسائل نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج وسئل أصبغ عن الرجل يوصي فيقول: غلامي مرزوق لمحمد، ولسعيد مثله. قال: يعطي مرزوقا محمدا ويشتري لسعيد مثله في قيمته ونحوه فيعطاه. قلت: له فلو قال: عبدي مرزوق لمحمد، ولسعيد مثله. قال: هذا خلاف الأول وأراه بينهما بنصفين؛ لأنه حين قال في مسألتك الأولى: ولسعيد مثله، فقد أخرج سعيدا من العبد، وجعل له مثله آخر وأما قوله: عبدي مرزوق لمحمد ولسعيد مثله، فكأنه قال: وسعيد مثله، يعني مثل محمد في الوصية، فكأن العبد بينهما.
قلت: وكذلك لو قال: هذه المائة دينار لمحمد ولسعيد مثله، فكأنه قال وسعيد مثله، قال: هي بينهما نصفين إذا كانت المائة بعينها قلت: فإن قال: هذه المائة لمحمد، ولسعيد مثله جعلت له مائة أخرى فيعطى كل واحد منهما مائة، قال: نعم على قياس ثمن العبد.
قال محمد بن رشد: تفرقته بين أن يقول: وسعيد مثله، أو ولسعيد مثله في الذي أوصى بعبده أو بمائة لمحمد، إذا كانت المائة بعينها يريد أنها إذا لم تكن بعينها فسواء قال: وسعيد مثله، أو قال: ولسعيد مثله، يعطى كل واحد منهما مائة مائة، تفرقة صحيحة بينة؛ لأنه إذا قال: وسعيد مثله، فقد أنزله بمنزلتهم في أن أوصى له بالذي أوصى له به فوجب أن يشتركا فيه إذا كان شيئا بعينه، وأن يكون له مثله إذا لم يكن شيئا بعينه، وإذا قال: ولسعيد مثله، فقد أوصى له بمثل الذي أوصى له به فوجب أن يكون له مثل ما أوصى له به، كان الذي أوصى له شيئا بعينه أو لم يكن. وبالله التوفيق.(13/307)
[مسألة: قال في وصيته لمحمد مرزوق أو ميمون]
مسألة قلت: فلو قال: لمحمد مرزوق أو ميمون قال: أرى الورثة مخيرين في دفع أيهم أحبوا. قلت: فإن اختاروا حبسا رفعهما ثمنا ودفعوا إليه أدناهما جاز ذلك لهم، قال: نعم، كما لو قال: لفلان مائة دينار أو بيت كذا وكذا أو دابة كذا وكذا، كان الورثة بالخيار في دفع ما شاء وأمنهما.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال وفي اللسان مواضع منها الشك والإبهام والتخيير والجمع، بمعنى الواو، فإذا لم يصح أن يحمل في هذا الموضع على الشك ولا على الإبهام، كما لا يصح حملها فيه على سائر مواضعها سوى التخيير والجمع، فلم يصح أن تحمل على الجمع دون التخيير لوجهين: أحدهما: أن التخيير فيها أظهر، فلا يصح أن تحمل على الجمع، إلا في موضع لا يصح فيه التخيير. والثاني أن الوصايا لا تكون بالشك، فهي محمولة على الأقل حتى يعرف الأكثر. ولما لم يصح أيضا لهذا المعنى أن يحمل على تخيير الموصى له، وجب أن يحمل على تخيير الورثة كما قال. وكذلك لو أوصى أن يعتق عنه فلان وفلان، لكان الورثة مخيرين في عتق من شاءوا منهما بخلاف قوله: أحد عبدي هذين حر، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال الموصي لفلان مائة ولفلان مثله]
مسألة قلت: فإن قال الموصي: لفلان مائة ولفلان مثله. قال: أرى لكل واحد منهما مائة.(13/308)
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول على هذه المسألة في أول النوازل، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثوب من ثيابي لفلان وصية ثم مات]
مسألة وسئل عن رجل أوصى فقال: ثوب من ثيابي لفلان وصية، ثم مات قال: يحسب عدد ما ترك من الثياب، فإن كان ترك عشرة، قومت كلها، فأعطى الموصى له عشر قيمة الثياب بالسهم، فإن صار له ثوب فيه بعشر القيمة فذلك له، وإن صار له ثوب تكون قيمته أكثر من عشر القيمة، لم يكن له، وصار له فيه مبلغ عشر قيمة جميع الثياب، وإن كان الذي صار له لا يبلغ قيمة العشرة، أخذه وضرب له أيضا فيما بقي حتى يستوفي عشر قيمة الثياب، فربما صار له ثوب واحد، وربما صار له ثوب ونصف وأقل، وربما ثوبان فأكثر، وربما صار له أقل من ثوب، وإنما لك بمنزلة من قال: رأس من رقيقي حر وله عشرة، العمل فيها واحد. قلت: وهل يدخل في عدد الثياب السراويلات والعمائم، ونحو ذلك؟ قال: لا يدخل في عددها إلا الثياب الكبار: الأردية والأقمصة والسيجان، والأكسية، وكل ثوب كبير.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، وتنظيره فيها للثياب بالعبيد في وجه العمل فيها بالقرعة صحيح، لا اختلاف فيه ولا إشكال، وإنما قال: إنه لا يحسب فيها إلا الثياب الكبار؛ لأن ذلك معلوم من وجه ما أوصى به، إذ قد علم أنه لم يرد الميزر ولا السراويلات، ولا الفضلات من الثياب التي لا خطر لها ولا بال لقيمتها. وبالله التوفيق.(13/309)
[مسألة: قال في وصيته عبدي يزيد لفلان وله يزيدان فمات ولم يبين]
مسألة قلت: فلو قال في وصيته: عبدي يزيد لفلان، وله يزيدان، فمات ولم يبين قال: يقومان، ثم يكون له فيهما نصف قيمتهما يسهم بينهما فيعطى نصف قيمتهما، فربما صار له أحدهما وبعض الآخر، وربما صار له أحدهما يكمل له، وربما صار له أقل من واحد، وكذلك لو قال: عبدي لفلان وله عبدان لا يملك غيرهما. قال: نعم، العمل فيهما واحد.
قال محمد بن رشد: هذه والمسألة التي قبلها سواء، فلا إشكال فيها ولا وجه للقول فيها. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لمكاتب ابنه بوصية]
مسألة وسئل عمن أوصى لمكاتب ابنه بوصية لها بال، فقال: أرى الوصية له جائزة، وذلك أنه يصير إلى سيده، ولعله أن يعجز فيرق، فيكون قد رجع إليه العبد، وقد أخذ ما أوصى له به، فصارت وصيته لوارث، قال: إلا أن يكون لمكاتب له أموال مأمونة، لا يشك فيه أنه يقوى على أداء الكتابة، فيجوز ذلك، ولا يكون عليه تهمة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه وإن لم يكن له أن ينتزع مال مكاتبه في الحال، إذ قد أحرز ماله بالكتابة، فقد يعجز فيكون له انتزاعه. فإذا كان ممن يؤمن عليه العجز جازت له الوصية ومثله لأشهب في المجموعة ولو أوصى لعبد وارثه بالشيء الكثير، وعلى العبد دين يستغرقه، أو يبقى منه ما لا يتهم فيه، فذلك جائز. قال أشهب: وإن أوصى لعبد وارثه الذي لا يرثه غيره فذلك جائز، قل أو كثر، فإن أوصى مع ذلك لأجنبي،(13/310)
تحاص مع العبد في الثلث إن ضاق بما وقع للعبد كان له، وأما إن كان معه ورثة، فينظر ما صار للعبد بحصاصه، فإن كان تافها فهو له، وإن كثر عاد ميراثا إن لم يجزه الورثة، وليس وصيته لعبد وارث لا يرثه غيره كوصية لسيده؛ لأن ذلك للعبد حتى ينتزع منه، فلذلك يحاص به، فأما إذا كثر صار وصية لوارث، وأما وصيته لرجل لمن يملك من عبد أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد، أو من يملك بعضه، أو لمعتقه إلى أجل فذلك جائز، ويحاص به الأجنبي، وليس للورثة أن ينتزعوه منه عند ابن القاسم، ويبيعوه به إن باعوه. وقال أشهب: يقر بيده حتى ينتفع ويستمتع ويطول زمان ذلك، ولا ينتزعوه إن باعوه أيضا قبل طول الزمان. وقول أشهب استحسان؛ لأن القياس إما أن ينتزعوه مكانهم؛ لأنه مال لعبدهم، قد وجب له بالوصية أو لا يكون لهم انتزاعه أبدا؛ لأن الميت نزعه منهم. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لمدبر ابنه أو لأم ولده أو معتقه إلى أجل]
مسألة قال أصبغ: ولو أوصى لمدبر ابنه أو لأم ولده أو معتقه إلى أجل، قال: لا تجوز الوصية لواحد من هؤلاء؛ لأن لسيدهم نزع أموالهم. قيل: فإن كانت هذه الوصية في حال قد امتنعت أموالهم من ساداتهم، مثل أن يكون سيدهم مريضا أو يكون العتق إلى أجل قد تقارب أجل عتقه. قال: أما للمدبر وأم الولد فلا تجوز الوصية لهما، وإن كان سيدهما مريضا؛ لأنه قد يصح فينتزع أموالهما، فهذه تهمة تسقط بها الوصية، فإذا سقطت بالتهمة لم ترجع. قلت: أفلا يوقفها؟ فإن مات السيد نفذت، وإن صح ردت. قال: لا، قد أخبرتك أن الوصايا لا توقف، وإنما تمضي أو ترد إذا أبهمت، إلا أن يكون سيد المدبر وأم الولد في السياق والحال الميئوس منه فيها التي لا يرجى له فيها حياة، فإن الوصية(13/311)
لهما إذا كانت هذه الحال هكذا. وأما المعتق إلى أجل فلا تجوز له الوصية أيضا، وإن كان أجل عتقه قد تقارب، إلا أن يكون لم يبق من أجله الذي يعتق إليه إلا بقدر الثلاثة الأيام والخمسة، ونحوها مما يقل جدا فأرى الوصية جائزة.
قلت: أرأيت إن افتقر سيد أم الولد والمدبر، والمعتق إلى أجل قرب الأجل أو في مرض السيد الذي يمتنع منه فيه أخذ مال المدبر وأم الولد، فاحتاج سيدهم في هذا الحين، ولا مال له غيرهم، ولهم أموال، أترى أن ينفق عليهم من أموالهم؟ أو لا ترى أن يؤخذ لهم من أموالهم نفقة، ويكونون من فقراء المسلمين؟ فقال: بل أرى لهم في أموالهم نفقة حتى يموت أو يعتق المعتق إلى أجل، إذا لم يكن له مال ينفق منه على نفسه، ولا يترك بموت، وللعبد أموال ومتاع، ومنع سيدهم أخذ أموالهم في هذه الحال ليس بالقوي، ولم يأت فيه أثر ولا سنة وإنما ذلك استحسان من أهل العلم، فإذا بلغ منه الحاجة، ولم يكن له مال ينفق منه رأيت أن ينفق عليهم من أموالهم حتى يموت أو ينقضي أجل المعتق، فهو أيضا مما يوهن مسألتك في الوصية ويضعفها، وتنزل به التهمة.
قال محمد بن رشد: أما وصيته لعبد ابنه أو لأم ولده في مرض الابن، فقوله: إن الوصية له في هذه الحال لا تجوز بين، إذ قد يصح من مرضه، فيكون له انتزاع ذلك، وأما قوله في أن وصيته لعبد ابنه المعتق إلى أجل لا تجوز إلا أن يقرب الأجل جدا مثل الثلاثة الأيام والخمسة ونحوها فهو استحسان، والقياس على المذهب أنه إذا لم يبق من الأجل إلا ما لا يجوز فيه انتزاع ماله أن تجوز الوصية له، وإذا لم يبق من الأجل إلا نحو الشهر فليس له أن ينتزع ماله. قاله في كتاب ابن المواز ومثله في مختصر ابن عبد الحكم(13/312)
وهو يحمل على التفسير لما في المدونة لأنه قال فيها: إن السنة ليست بقليل، وله أن ينتزع ماله، وإن لم يبق من أجله إلا السنة، فإن جعل العلة في ذلك أنه قد يحتاج فينفق عليه من ماله في هذا الحد، وإن كان لا يجوز له فيه انتزاع ماله، ومراعاة لقول من يقول: إن مال العبد لسيده، وإن العبد لا يملك، فيجب أن تجوز الوصية له إذا كان الابن وافر الحال، كثير المال، لا يخشى عليه العدم في هذه الحال؛ لأن التهمة في ذلك تكون مرتفعة على ما قاله فوق هذا في الذي يوصي المكاتب ابنه إن الوصية له جائزة إذا كانت له أموال مأمونة، يؤمن عليه العجز معها وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن يعطى فلان مولاي أو فلان وفلان مولاي خمسة دنانير]
مسألة وسئل أصبغ عن رجل أوصى، وفيما أوصى أن يعطى فلان مولاي أو فلان وفلان مولاي خمسة دنانير، أو خمسة لكل واحد وله عبيد هؤلاء الذين سمى منهم، أو ليس له غيرهم، أيكونون بشهادة الوصية أحرارا ويجريهم مجرى الأحرار؟ أم هم رقيق؟ قال: أرى إن أشكل أمرهم إذا كان الأمر فيهم مشكلا لا يدري أهم يوم أوصى عبيد؟ أم أعتقهم قبل ذلك؟ وأشكل منهم تقادم ذلك وطوله، لا يدرى العلة قد كان قبل ذلك زمان، فبقي العبيد عنده على حالهم في خدمته وفي يديه، فأرى إذا كانوا بهذه الصفة والمنزلة، وكان مع ذلك سماع فاش قد تقادم وعتق يرى كان منه إليهم، أو يمين بعتقهم، لا يدري أبر فيهم أو حنث؟ فأراهم موالي، إذ هو كان أعلم حين سماهم موالي، وأوصى لهم كما يوصى للموالي المعروفة بولايتهم، فأراهم أحرارا، لا غرض فيهم لأحد برق ولا إبطال، فقد يعتق الرجل عبده في موطن من مواطن البر، ولا يشهد له، ويكون معه كما كان، لا يرى ولا يخاف غير ذلك، ويكون معه زمانا(13/313)
على ذلك، لا يرى أنه يدفع فيه بشيء ولا يدافع، ويكون مكثه في يديه مكث النفقة عليه. وهذا من عتق النساء الضعفاء عن الوثائق لمن أعتقن والأمر عنده كثير، فإن لهذه الوصية على هذه الصفة والأسباب حرمة والإقرار بأنه لا شيء له فيهم إلا الولاء وأراه تحايدا عما ليس له ولا يشبه عندي الذي يقول: قد كنت أعتقه؛ لأن التهمة له في هذا بأنه أراد إخراجه من رأس المال واضحة واقعة قوية، والتهمة بذلك في الأول خارجة منه ضعيفة والله أعلم. فأراهم موالي وأراهم أحرارا، لا رق فيهم يوم الوصية، وأرى هذا لهم هكذا أبدا حتى يقوم بينة قاطعة بأنهم يوم أوصى، لا شبهة في ملكهم ولا رقهم ممن يعرف دخلة الرجل الميت وأمره، أو يكون كان ملكه لهم قريبا جدا من وصية ملكه مشهور، معروف، باشتراء أو هبة أو صدقة أو ميراث قريب، لا يمكن فيه الشبهة، وإن لم يدخله مع الشهادة أنه يملكهم يوم الوصية عبيد فهذا الذي يكون عليهم فيه إقامة البينة بالحرية، لا على الورثة وفي الأمر الأول البينة على الورثة لا عليهم. قال أصبغ: فإن أقر العبيد الذين أوصى أن لموالي فلان وفلان كذا وكذا بأنهم عبيد له، لا حرية فيهما إلى يوم أوصى. قال: أرى إن كانوا فصحا طلوقا عارفين بالأمور، لا يسقط عن مثلهم الحج، ولا أمور سيدهم في حياته، ولا القيام عليه لو حيوا فيه ومنه وعليه، ولا كشفهم والأخوف منهم من تجبره وسلطانه إن كان ذا سلطان وسطوته بعد إنكاره، فأقروا بالعبودية خالصة لا يدعون شيئا متقادما ولا غيره، ولا يدعون إلا ما يرون إن هذه الوصية عتقا(13/314)
مستأنفا منه في وصيته لهم فقط، فإقرارهم لازم لهم، ولا حرية عليهم على خال في ثلث ولا غيره، وأرى لهم الوصية بالمال ثابتة على كل حال، كما يوصي الرجل لعبيده. وقد يقول الرجل لعبيده: هؤلاء موالي على لفظ الجهالة والخطأ، فإذا صدقوا ذلك وحققوه بإقرارهم بالعبودية، رأيته لهم لازما، وكانوا عبيدا. قال أصبغ: وإن كان العبيد على غير ذلك من الاستحقاق والمعرفة التي وصفتها كلها، فلا أرى إقرارهم بالعبودية ضارا لهم ولا مقبولا منهم وأراهم أحرارا إذا كانت حالاتهم الحال التي لو لم يقروا لجعلوا أحرارا أو موالي على التفسير الذي فسرنا إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: قد بين أصبغ ما ذهب إليه في هذه المسألة، وطول القول فيه، حرصا على التناهي في البيان وذلك يرجع إلى أنه إن كان طال مكثهم في يديه حتى أشبه من أجل ذلك أن يكون قد كان أعتقهم، فبقوا عنده في نفقته وخدمته على ما كانوا عليه قبل عتقه إياهم، وعلمت وصيته لهم على أنهم مواليه، فكانوا بذلك أحرارا، وإن كانوا مقربين له بالعبودية، إذا احتمل أن يكونوا أقروا بذلك على جهل أو خوف إلا أن يثبت الورثة أنهم عبيد، وإن لم يطل مكثهم في يديه حتى لم تدخل عليهم الشبهة في عتقهم قبل هذه الوصية، فهم عبيد، إلا أن يثبتوا حريتهم قبلها وهم في حال الجهل بأمرهم على ما أوصى لهم به من أنهم مواليه. فهذا بيان قوله وتلخيصه وبالله التوفيق.
[: ادعى في البيع ما يجوز وادعى صاحبه ما لا يجوز]
نوازل عيسى بن دينار وسئل عيسى عن رجل قال عند موته: إني قومت جارية ابنتي فلانة على فلان بألف درهم، وجعلت فضلها بينهما، وقد بعث(13/315)
إلي بالألف من العدوة، قلت هذا وقدم الرجل، فقال: إنما باعنيها بيع بت، وقد بعثت إليه بالثمن، قال: القول قول الميت، وعلى هذا نصف الفضل. قلت له: لم قال: لأن الميت يقول: إنما بعته نصفها، وأبضعت معه النصف فنصف الفضل في هذا القول له، فقيل له: لو قال هذا كان القول قوله، ولكنه إنما قال: قومتها عليه كلها وجعلت فضلها بينهما، وهذا لا يجوز، فمن ادعى في البيع ما يجوز، وادعى صاحبه ما لا يجوز، فالقول قول مدعي الحلال منهما. قال عيسى: إنما معناه عندي كما قلت أولا: إنه باع النصف، وأبضع النصف فالقول قوله على ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: قومتها عليه معناه أشركته فيها، بأن بعت منه نصفها بألف ليبيعها هو بألف، فيكون له نصف الفضل إن باعها بربح كما قال لا كما قال السائل: من أن الميت ادعى حراما، فالاختلاف بينهما إنما هو فيما اشترى بالألف فهو يقول: اشتريت بها جميع الجارية، والميت يقول: إنما بعت منه بالألف التي قبضت نصف الجارية، ولا اختلاف في المتمون إذا قبض الثلث، كالاختلاف في الثمن إذا قبض المتمون، فقوله: إن القول قول الميت يأتي على القول بأن النقد المقبوض فوت يوجب أن يكون القول قول البائع في أنه لم يبع منه بالألف التي قبض إلا نصف الجارية على قياس رواية ابن وهب عن مالك، في أن قبض السلعة فوت إذا اختلف في ثمنها، وإنما ينبغي أن يكون القول قوله إذا أشبه أن يباع نصف الجارية بألف، وهذا هو معنى ما تكلم عليه، إذ لا اختلاف في أن المتداعين، لا يكون القول قول المدعى عليه منهما إلا إذا أتى بما يشبه. وقوله: القول قول الميت، معناه: أنه لا يصدق المشتري فيما ادعاه من أنه اشترى بالألف التي دفع جميع الجارية؛ لأن اليمين إنما كانت للميت إذا كان يشبه قوله على ما ذكرناه فقد سقطت عنه بموته، ولو لم يشبه قوله وأشبه قول(13/316)
المشتري لوجب أن يكون القول قوله مع يمينه أنه اشترى بالألف جميع الجارية ويجب في هذه المسألة على قياس القول بأن النقد المقبوض لا يكون فوتا أن يحلف المشتري ويفسخ البيع؛ لأن الميت قد سقطت عنه اليمين بموته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الوصي يشتري لليتامى منزلا بأموالهم ثم يموت]
مسألة وسئل عن الوصي يشتري لليتامى منزلا بأموالهم، ثم يموت، فيقول ذكور اليتامى: نقسم المنزل، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك اشترى لنا ويقول الإناث: بل للذكر مثل حظ الأنثى ولا يدري كم اشترى لهم؟ قال: إن كان اشترى لهم من عرض أموالهم، فذلك بينهم، للذكر مثل حظ الأنثى، وإن كان اشترى لهم من جميع المال، فذلك بينهم، لذكر مثل حظ الأنثيين كما كانت أموالهم قبله فإن كان الوصي حيا وقد اشترى لهم من عرض أموالهم وليس بجميعها فقبل الأيتام ثم اختلفوا أيقبل قول الوصي بينهم؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: أما إذا اشترى المنزل لهم بجميع المال، فلا إشكال ولا احتمال، في أنه يكون بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وأما إذا اشتراه لهم من جملة المال لا بجميعه، ففي قوله: إنه يكون بينهم للذكر مثل حظ الأنثى نظر؛ لأن المال الذي اشتراه به ليس للإناث منه إلا ثلثه، فالظاهر أن لا يكون للإناث منه إلا الثلث. ولا يحمل على الوصي أنه تسلف للإناث من حظوظ الذكور، ألا ترى إن كان جميع المال ستمائة، فاشترى المنزل بثلاثمائة؟ يرجع الذكور في الثلاثمائة الباقية بالخمسين التي زادها من حظوظهم للإناث في المنزل، فيكون لهم منها مائتان وخمسون. وقد ذكر ابن زرب أن في المسألة خمسة أقوال على قياس ما قاله محمد بن حارث من(13/317)
الاختلاف فيمن أوصى بمال لحمل، فولدت المرأة توأمين: ذكرا وأنثى أحدها إن المنزل يقسم بينهما إن كانا ابنا وابنة بنصفين. والثاني إنه يكون بينهما بحسب الميراث على الثلث والثلثين. والثالث إنه يقسم بينهما على سبعة أسهم، للأنثى ثلاثة، وللذكر أربعة وذلك أن أقصى ما يمكن أن يكون للذكر الثلثان، وأقصى ما يمكن أن يكون للأنثى النصف. والرابع أنه يقسم بينهما على خمسة أسهم، للذكر ثلاثة وللأنثى اثنان، وهو أقل ما يمكن أن يكون لكل واحد منهما والخامس أن يكون للذكر ثلاثة من ستة، وللأنثى اثنان من ستة، ويقتسمان الجزء السادس بنصفين على سبيل التداعي إن ادعيا العلم أو ظن أن أحدهما يعلم، واستحسن هذا القول وهذا الاختلاف إنما يصح إذا جهل كيف كان الشراء ولم يتداعيا في ذلك على التحقيق؟ وأما إن قال الذكر: الثلثان لي، والثلث لك، وعلى ذلك وقع الشراء بإفصاح وبيان. وقالت الأنثى: النصف لي والنصف لك، وعلى ذلك وقع ذلك الشراء بإفصاح وبيان، فلا يصح في ذلك إلا قولان: أحدهما إنه يقسم بينهما على حساب عول عدل الفرائض أسباعا بعد إيمانهما لمدعي الثلثين أربعة أسهم، ولمدعي النصف ثلاثة أسهم، وهو المشهور من قول مالك، والثاني إنه يكون للذكر ثلاثة من ستة، إذ لا تنازعه الابنة في النصف، وللأنثى اثنان من ستة، إذ لا ينازعها الابن في أن لها الثلث، ويقتسمان الجزء السادس بينهما بنصفين لتداعيهما فيه، بعد أيمانهما أيضا، وهو المشهور من مذهب ابن القاسم. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بثلث ماله في سبيل الله إلا العراص]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
مسألة قال أبو زيد بن أبي الغمر: أخبرنا ابن القاسم قال: سئل مالك(13/318)
عن رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله إلا العراص، وفي العراص خشب وطوب ملقى كان أراد أن يبني تلك العراص بها، أترى أن يباع الطوب والخشب والقصب، فتعجل في السبيل؟ أم تراها مع العراص؟ قال: إن كان ذلك النقض شيئا نقضه من العراص فلا يباع منه شيء، وإن كان إنما جاء به ليبني بها، فهي تباع، ويخرج ثلثها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه كان نقض ذلك من العراص، فلا يدخل في الوصية لأنها من العراص التي استثنى يوم أوصى، وإن كان لم ينقضها منها فهي داخلة في الوصية، إذ ليست مما استثنى. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعتق عبده وما بقي من ثلثه فلفلان]
مسألة وعن رجل أوصى بعتق عبده، وما بقي من ثلثه فلفلان، فمات، فقامت بينة إن العبد كان حرا أعتقه سيده هذا في صحة منه، أو استحقه رجل، قال ابن القاسم: أرى أنه ليس له إلا ما بقي بعد قيمته، إنما هو رجل أوصى بأنه غلام له، أو نسي عتقه، فأوصى على وجه الملكية أو يكون تعمد ذلك، فلم يكن يريد بعطيته إلا ما بقي بعد القيمة من ثلثه فليس له إلا ما بقي من ثلثه بعد القيمة.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها في رسم نفذها من سماع عيسى، ومضت أيضا في رسم باع شاة منه. فلا وجه لإعادة القول فيها.(13/319)
[مسألة: أوصى الرجل إلى أيتام المعافر وأراملهم مائة دينار]
مسألة وقال: إذا أوصى الرجل إلى أيتام المعافر وأراملهم مائة دينار، قال: إن كان الموصي من المعافر، وكان ساكنا بالريف، إلا أنه إذا قدم الفسطاط نزل بالمعافر، فأرى المائة للأيتام والأرامل، الذين من المعافر، ومن كان من الأيتام والأرامل، من سكان المعافر إلا أنهم ليسوا من المعافر، فلا شيء لهم، ويؤثر الأحوج فالأحوج، وإن كان الموصي ليس من أهل المعافر، كان بها مسكنه أو لم يكن، غير أنه ليس بمعافري فكل من سكن المعافر من أيتامهم وأراملهم كانوا معافرين، أو من قبائل غير المعافرين، فيعطون ويؤثر الأحوج فالأحوج.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الموصي إن كان معافريا علم أنه إنما أراد بوصيته أيتام قبيلته، وأراملهم، فتكون لهم الوصية، كانوا من سكان المعافر، أو لم يكونوا من سكانها، وإن لم يكن معافريا علم أنه إنما أراد بوصيته أيتام سكان المعافر وأراملهم كانوا معافرين، أو لم يكونوا معافرين وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول عند الموت إن عبدي هذا لم يكن إلا حرا وما اشتريته قط]
مسألة وقال في الرجل يقول عند الموت: إن عبدي هذا لم يكن إلا حرا وما اشتريته قط، وإنما كان أجيرا عندي قال: إن ورث كلالة لم يقبل قوله، وإن كان ورثه ابنه جاز قوله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والكلام عليها في رسم العرية من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.(13/320)
وسيأتي آخر هذا السماع في مسألة من هذا المعنى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله.
[مسألة: أوصى وقال ميمون ومرزوق وجابر عبيدي لمحمد وجابر لعبد الرحمن]
مسألة وقال في رجل أوصى وقال: ميمون ومرزوق وجابر عبيدي لمحمد، وجابر لعبد الرحمن. قال: فميمون ومرزوق لمحمد، وجابر بين عبد الرحمن ومحمد وذلك إذا حمله كلهم الثلث، فإن كان لم يترك غيرهم، كان ثلث مرزوق وميمون لمحمد وكان ثلث جابر بين عبد الرحمن ومحمد.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على المشهور في المذهب المنصوص عليه في المدونة وغيرها من أن الرجل إذا أوصى لرجل بشيء بعينيه، ثم أوصى به لغيره، ولا تكون وصيته الآخرة ناسخة للأولى ويقتسمان جميعا ذلك الشيء بينهما.
وقد مضى في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم مسألة حملها بعض الناس على أنها مخالفة لهذا الأصل، وليس ذلك بصحيح؛ لأنها محتملة للتأويل، حسبما ذكرناه فيها؛ لأن الخلاف في ذلك معلوم من قول مالك وغيره من أصحابه، وقد مضى ذكر ذلك في سماع عبد الملك بن الحسن فلا معنى لإعادته.
[مسألة: قال في وصيته المائة التي عندي لفلان على حالها]
مسألة وقال في رجل قال في وصيته: المائة التي عندي لفلان على حالها، فوجد في كتب الميت براءة بخمسين دينارا دفعها إلى غريمه ذلك قال: إن كان يعرف أصل الحق أنه مائة، فالبراءة تنفع لعل الرجل نسي وإن لم يكن يعرف أصل الحق، ثبتت له المائة.(13/321)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا لم يعرف أصل الحق لم تنتفع الورثة بالبراءة، لاحتمال أن يكون ما زاد على المائة التي أقر بها باقية عليه، وأما إذا عرف وجه الحق، فوجه قوله: إن البراءة تنفعه، هو ما ذكره من احتمال أن يكون نسي أنه قضاه الخمسين، ولذلك أقر له بجميع المائة، إذ لو صح من مرضه، فجاء بالبراءة وادعى أنه نسي ما قضاه، لوجب أن يصدق في ذلك مع يمينه، قياسا على ما قاله. في الذي يصالح الرجل على بعض حقه، ثم يجد بينة، لم يعلم بها، أو ذكر حق قد كان كتبه عليه.
وقد مضى تحصيل القول في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، من كتاب المديان والتفليس، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: وصى عند موته أن يعتق نصف مكاتبه]
مسألة وعن رجل أوصى عند موته أن يعتق نصف مكاتبه، ويؤخر عنه النصف في ثلاث نجوم، نجم في كل سنة، فقال رجل من الورثة: أنا أضمن لكم هذه الثلاثة نجوم، نجم في كل سنة، وأعتقوا النصف الباقي، قال: لا خير في هذا. قيل له: فإن فعلوا ذلك. قال: فالعتق جائز إذا أعتقوا قيل له: أرأيت إن حلت السنة فلم يجدوا عند الذي ضمن لهم شيئا أترى أن يرجعوا على العبد بشيء؟ قال: لا. قد ثبتت الحرية، ولكن يكون على الذي ضمن دينا يتبع به، ولا يرجع على العبد بشيء، قال: فلمن ولاؤه؟ قال: للذي أعتق أولا.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن ذلك لا خير فيه؛ لأنه ضمان بثمن ضمن لهم الأنجم التي لهم على المكاتب، على أن عجلوا له العتق واحتالوا عليه أيضا بما كان لهم على المكاتب، إذا برأوا المكاتب مما كان لهم عليه وأعتقوه، ولا تجوز الحوالة بما لم يحل من الديون، فالمكروه في(13/322)
ذلك بين، إلا أنه لا يمكن رده، إذ قد فات الأمر فيه بالعتق، فلزمه الضمان الذي ضمن، ولا يكون لهم على العبد رجوع إن أعدم الضامن عند الأجل، ويتبعوه مما التزم لهم من الضمان في ذمته، ويرجع هو بذلك عليه وبالله التوفيق.
[مسألة: لا تجوز وصية لوارث]
مسألة وسئل عن امرأة أوصت في مرضها...... فجعلته في خلخال، فإن مت فكفنوني بثمن الخلخالين، ولها أولاد، ثم إن الذين أوصت إليهم كفنوها بغير ثمن الخلخالين، فماذا ترى في الخلخالين؟ قال: أرى أن يقتسما على فرائض الله، ولو قالت: ادفعوه إلى ابني الذي وجده، لم يكن ذلك له؛ لأنها تتهم، وأنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يعلم هدف قولها ببينة، فيكون الخلخالان للذي وجده.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنها إذا أوصت أن تكفن بثمن الخلخالين، فلم يؤثر بذلك أحد بنيها على بعض وأرادت أن يكون ما بعد الخلخالين من مالها ميراثا بين جميع ورثتها، فوجب إذا لم ينفذ ورثتها وصيتها في الخلخالين، أن يكونا ميراثا بين جميعهم، كما لو لم توص بشيء ولو أوصت لابنها بالدينار لما جازت وصيتها له به إلا أن يعلم صدق قولها كما قال، وقد تقدم مثل ذلك قرب آخر الرسم الأول من سماع أصبغ وفي غير ما موضع إلا أن تصح من مرضها، فيلزمها الإقرار له. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لرجلين أن يزوجا ابنته فزوجاها وأنكرت الجارية علمها بذلك]
مسألة وقال في رجل أوصى لرجلين أن يزوجا ابنته من رجل سماه(13/323)
لهما فزوجاها جميعا بعد موت الأب، ثم أنكرت الجارية أن تكون علمت أن أباها أوصى بذلك إليها أترى أن تقبل شهادتها؟ فقال: لا، ولكن لو شهدا عند القاضي قبل أن يزوجاها لجازت شهادتهما، وإن رضيت ما صنعا ولم تنكر ذلك عليهما رأيت النكاح جائزا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن شهادتهما لا تجوز إذا زوجاها فلم ترض بين لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ لأنهما أشهد أن يجيزا فعلهما وأما قوله: إنهما لو شهدا بذلك عند القاضي قبل أن يزوجاها لجازت شهادتهما، فهو خلاف نص ما في المدونة من أنه لا تجوز شهادة الموصى إليه، وإن كان طالب الحق غيره، ومن أنه لا تجوز شهادة الرجل بأن الميت أوصى إلى أبيه، وإذا لم تجز شهادته أنه أوصى إلى أبيه، فأحرى أن لا تجوز شهادته إذا أوصى إليه. فقوله في هذه الرواية، مثل ما يدل عليه قوله في المدونة الذي يشهد أن الميت أوصى لقوم بوصايا، وأوصى للشاهد. قال ابن القاسم: فسمعت مالكا يقول: إن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا تافها لا يتهم عليه، فشهادته جائزة.
فأجاز شهادته إن كان الذي أوصي له به يسيرا مع أنه أوصى إليه في تنفيذ جميع وصاياه، وأما قوله: وإن رضيت ما صنعا ولم ينكر ذلك عليها رأيت النكاح جائزا فهو الذي يدل عليه قوله في أول المسألة ثم أنكرت الجارية؛ لأن فيه دليلا على جوازه لو لم تنكر، ومعنى ذلك عندي: إذا كان الرجلان اللذان زوجاها وادعيا التقديم على ذلك من الأب، وليس من أوليائها وأما إن كان أجنبيين فلا يجوز النكاح، وإن أجازته؛ لأنه عقده غير ولي. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في مرضه فقال عبدي فلان يخدم فلانا الأجنبي سنة ثم هو حر]
مسألة وسئل عن رجل أوصى في مرضه فقال: عبدي فلان يخدم فلانا الأجنبي سنة، ثم هو حر، وعبدي فلان الآخر حر بعد سنة،(13/324)
ولم يحملها الثلث، فمن يبدأ منهما. قال: يتحاصان جميعا. يريد العبدين.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الخدمة تسقط إذا لم تحمل ثلث العبدين، ولا أجاز ذلك الورثة وقطعوا لهما بالثلث، لوجوب تبدية العتق عند ضيق الثلث عن الوصايا بالمال والخدمة، وإذا وجبت المحاصة في الثلث، لم يبد أحدهما فيه على صاحبه، إذ لا مزية له عليه، من أجل أن كل واحد منهما إنما أوصى له بالعتق بعد سنة وبالله التوفيق.
[مسألة: قال في مرضه دبروا عبدي فلانا وأعتقوا عني رقبة وجبت على من ظهار]
مسألة وسئل عن رجل قال في مرضه: دبروا عبدي فلانا وأعتقوا عني رقبة وجبت على من ظهار، قال: يبدأ بعتق الظهار إذا لم يحمل الثلث غيره.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إذ لم يختلف قول ابن القاسم في أن كفارة الظهار تبدأ على المدبر في العرض، فكيف على الوصية بالعتق؟ لأن قوله دبروا عبدي فلانا وصية له بالعتق من الثلث على حكم التدبير في المرض في ذلك إن صح من مرضه كان له أن يرجع فيه؛ لأنه لم يدبره، وإنما أوصى أن يفعل ذلك بعد موته، فله حكم الوصية لا حكم التدبير وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان ما بقي من ثلثي]
مسألة وسئل عن رجل أوصى فقال: لفلان ما بقي من ثلثي، ولم يوص بشيء غيره. قال: لا شيء له، وكذلك قال لي مالك وهو من مسائل السر.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة من قول مالك(13/325)
في مواضع من سماع عيسى ومضى الكلام عليها في رسم أوصى منه فلا وجه لإعادته، ولا لقوله. وهي من مسائل السر. وبالله التوفيق.
[مسألة: وصى أن يدفع ثلث ماله إلى أقاربه]
مسألة وسئل عن رجل هلك وترك أباه وعمه وجده وأخاه، وأوصى أن يدفع ثلث ماله إلى أقاربه، الأقرب فالأقرب. قال: أرى أن يبدأ بأخيه أولا يعطى أكثر من الجد، وإن كان الأخ أيسر من الجد، ثم يعطى الجد أكثر من العم، وإن كان أيسر منه، ثم يعطى العم، قيل: ولا ترى أن يدفع إلى أخيه كلمة؟ قال: لا، إلا أن يكون ترك دارا أو حائطا فيحبسها على أقاربه، الأقرب فالأقرب، فإنه يدفع إلى أخيه، فإذا هلك دفعت إلى جده ثم يدفع بعد موت الجد إلى العم.
محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى مثلها في الرسم الأول من سماع أصبغ، بزيادات على هذه. فتكلم عليه بما يغني عن الكلام في هذه، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى وقال مائة دينار لبني يزيد]
مسألة وقال في رجل أوصى وقال: مائة دينار لبني يزيد، فإنها تدفع كلها إلى كل من كان من بني يزيد.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ القول مستوفى فيمن أوصى لولد فلان أو لبنيه فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق.
[مسألة: نصراني هلك وأوصى بجميع ماله في الكنيسة]
مسألة وسئل عن نصراني هلك، وأوصى بجميع ماله في الكنيسة ولا وارث له قال: يدفع إلى أسقفهم ثلث ماله، يجعله حيث(13/326)
أوصى، ويكون ثلثاه للمسلمين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن النصراني إذا لم يكن له وارث من أهل دينه، فليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه؛ لأن ورثته المسلمون وقوله: إنه يدفع ثلث ماله إلى أسقفهم، يجعله حيث أوصى معناه: إن شاء، فإنما يدفع إليه ثلث ماله، ليفعل فيه ما شاء على حكم دينه. وقوله: ويكون ثلثاه للمسلمين، معناه: يصرفه الولي في وجوه منافعهم على حكم الفيء حكى ابن المواز عن ابن القاسم من رواية أبي زيد عنه قال في الذي يموت ولا وارث له، قال: يتصدق بما ترك، إلا أن يكون الوالي يخرجه في وجهه، مثل عمر بن عبد العزيز فليدفع إليه، وإنما يكون ميراث من مات من أهل الذمة، ولا وارث له من أهل دينه للمسلمين، ولا يجاز له من وصيته أكثر من الثلث إذا كان من أهل العنوة أو من أهل الصلح والجزية على جماجمهم، وأما إن كان من أهل الصلح، والجزية مجملة عليهم لا ينقصون منها لموت من مات، ولا لعدم من عدم، فيجوز له أن يوصي بجميع ماله لمن شاء؛ لأن ميراثه لأهل مودة، على مذهب ابن القاسم، وهو قول سحنون خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أن ميراثه للمسلمين، إذا لم يكن له وارث من أهل دينه على كل حال. وقد قيل في أهل العنوه: إن مالهم للمسلمين فلا يرثهم ورثتهم، ولا يجوز لهم وصية بثلث ولا غيره، وهو الذي يأتي على قياس ما في سماع سحنون، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، من أنهم في حكم العبيد المأذون لهم في التجارة. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان وفلان وفلان ثلثي ولفلان مالي]
مسألة وسئل عن رجل أوصى فقال: لفلان وفلان وفلان ثلثي، ولفلان مالي. قال: يقسم ثلث ماله على اثنا عشر(13/327)
جزءا، فيعطى من أوصى له بماله تسعة أجزاء، ولكل واحد من الثلاثة سهم سهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الواجب أن يتحاصوا في الثلث على قدر وصاياهم، فيضرب فيه للموصى له بجميع المال، بثلاثة أمثال ما يضرب به للموصى لهم بالثلث، فيصير لهم ثلاثة أرباع الثلث، وهو ثلاثة من ربعه وللموصى له بالثلث ربعه، وهو واحد من أربعة، لا ينقسم عليهم، إلا بأن يضاعف إلى ثلاثة، بأن يضرب فيه ثلاثة، ويأخذ كل واحد منهم سهما من الثلاثة، ويضرب ثلاثة فيما بيد الموصى له بجميع المال، فيضرب له تسعة أسهم من اثني عشر كما قال. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى أن عليه دينا لفلان لرجل لا يعرف]
مسألة وقال في رجل أوصى أن عليه دينا لفلان، لرجل لا يعرف قال: إن كان له ولد فأرى الدين يخرج من رأس المال، ويستأنسا به، فإن لم يأت له طالب تصدق به، وإن لم يكن له ولد وكان الدين الذي أوصى به شيئا تافها، أخرج وأوقف، واستوفي به، فإن لم يأت له طالب تصدق به، وإن كان الدين الذي أوصى به كثيرا يكون نصف ماله أو أكثر، لم يخرجونه قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: هذا أحسن الأقوال في هذه المسألة وقد مضى تحصيل الاختلاف فيها في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم وقال ابن القاسم في رسم نفذها من سماع عيسى: إن التافه اليسير في نحو هذا: الخمسة والعشرة ونحوها. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى وقال إن رقيقي أحرار فأعتقوا ثم طرأ على الميت دين]
مسألة وقال في رجل أوصى وقال: إن رقيقي أحرار، فوجد الرقيق(13/328)
الثلث، فأعتقوا ثم طرأ على الميت دين، وقد اقتسم المال، قال: يكون ثلث الدين على العبيد الذين أعتقوا يسهم بينهم حتى يباع منهم ثلث الدين الطارئ، ويكون ثلث الدين على الورثة معدمين كانوا أو أمليا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة، وهي تدل على صحة ما اعترضت به قول ابن القاسم، في سماع موسى. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال عبدي فلان يدفع إلى فلان عشرة دنانير ثم هو حر]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: عبدي فلان يدفع إلى فلان عشرة دنانير، ثم هو حر، وأوصى بوصايا فإذا العبد الثلث قال: يؤمر العبد أن يدفع إلى فلان عشرة، ثم هو حر، ويتحاص في العشرة أهل الوصايا، فإن كان لا يخرج من الثلث خير الورثة بين أن يجيزوا ما أوصى صاحبهم به يدفع العشرة ويكون حرا ويتحاص فيها أهل الوصايا أو يعتق ما حمل الثلث منه الساعة، ولا شيء له عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة على أصولهم في أن العتق بعينه مبدأ على الوصايا وفي أن من أوصى بعتق عبد إلى أجل، أو على مال يؤديه، فلم يحمله الثلث، إن الورثة مخيرون بين أن يجيزوا الوصية، وبين أن يعتقوا منه ما حمل الثلث منه بتلا وبالله التوفيق.
[مسألة: شهدا على رجل أنه أوصى فقال إن مت من مرضي فغلامي ميمون حر]
مسألة وقال ابن القاسم في رجلين شهدا على رجل أنه أوصى، فقال: إن مت من مرضي فغلامي ميمون حر، وشهد رجلان آخران أنه قال في مرضه: إن صحت من مرضي هذا فمرزوق حر، فشهد الشاهدان اللذان شهدا لمرزوق أنه صح من مرضه ذلك،(13/329)
والشاهدان اللذان شهدا لميمون وشهدا أنه مات من مرضه ذلك، ولم يصح منه، وهم كلهم عدول، قال: يعتق نصف ميمون، ونصف مرزوق، وكذلك لو أن رجلا هلك وترك ولدا مسلما وولدا نصرانيا، فشهد رجلان أنه مات على الإسلام، وشهد رجلان آخران أنه مات على النصرانية، وهم كلهم عدول. قال: إن كان بعضهم أعدل من بعض قضي بشهادة العدول، وإن كانوا كلهم عدولا وكانوا في العدالة سواء أعطي المسلم نصف مال الميت، وأعطي النصراني نصف المال الباقي.
قال محمد بن رشد: قوله في المسألة الأولى: إنه يعتق نصف ميمون ونصف مرزوق، معناه: إذا تكافأت البينتان في العدالة؛ لأنه إذا تكافئا سقطا جميعا، ويعلم أن العتق قد وجب لأحدهما يقينا فأعتق من كل واحد منهما نصفه، إذ لا يعلم من هو المعتق منهما، ولو كانت البينة الواحدة أعدل من الأخرى لقضي على مذهبه بالتي هي أعدل، وهو نص قوله في سماع أصبغ من كتاب العتق. وقال أصبغ فيه: إن شهادة الصحة أعمل وهو في هذه المسألة أظهر لأنها علمت من صحته ما جهلته الأخرى، ومثل قول أصبغ لابن القاسم في سماع أبي زيد عنه من كتاب الشهادات في التي أوصت في مرضها فشهد شهود أنها كانت صحيحة العقل، وشهد آخرون أنها كانت موسوسة؛ لأنه إذا قال في تلك: إن شهادة الصحة أعمل فأحرى أن يقول ذلك في هذه، وإذا قال في هذه: إنه ينظر إلى أعدل البينتين، فأحرى أن يقول ذلك في تلك وقد ساوى أصبغ في سماعه من كتاب العتق بين المسألتين فيتحصل في مجموع المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: إنه ينظر فيهما جميعا إلى أعدل البينتين. والثاني: إن شهادة الصحة أعمل فيهما جميعا. والثالث: إن شهادة الصحة أعمل في هذه وينظر إلى أعدل البينتين في مسألة سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، ويتخرج في مسألة سماع أبي زيد قول ثالث: إن(13/330)
شهادة المرض أعمل، ولا يقال ذلك في مسألتنا، إذ لا يصح فيها سوى القولين المذكورين. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. وأما قوله في الذي هلك وترك ولدا مسلما وولدا نصرانيا فشهد رجلان أنه مات على الإسلام، ورجلان أنه مات على النصرانية، إنه ينظر إلى أعدل البينتين، فإن استويا في العدالة كان المال بينهما بنصفين، فهو مثل قوله في المدونة خلاف قول غيره فيها: إن شهادة الإسلام أعمل، ومعنى ذلك إذا قال الشاهدان: عرفنا أنه على الإسلام، ولم نعرف أنه تنصر فشهادتنا أنه مات على الإسلام بغالب ظننا. وقال الآخران: عرفناه نصرانيا على دين النصرانية، ولم نعرف أنه أسلم، فشهادتنا أنه مات على النصرانية بغالب ظننا، وكذلك لو حصروا جميعا موته، فقال الاثنان منهم: تكلم عند الموت بكلمة الإسلام، ومات عليها، وقال الآخران: بل إنما تكلم بكلمة الكفر ومات عليها ولم يعرف في الأصل على كفر ولا على إسلام ينظر إلى أعدل البينتين أيضا فإن استويا في العدالة سقطتا، وقسم المال بينهما بنصفين بعد أيمانهما. وأما لو علم في الأصل كافرا فقالت إحدى البينتين: إنه أسلم ومات على الإسلام، وقالت الأخرى: ما أسلم، بل مات على الكفر لكانت البينة التي شهدت بإسلامه أعمل من الأخرى، وإن كانت أقل عدالة منها. فهذا تحصيل القول في هذه المسألة. وبالله التوفيق.
[مسألة: مريض باع عبدا بمائة دينار وقيمته ثلاث مائة دينارثم مات ولا مال له غيره]
مسألة وقال في رجل مريض باع عبدا بمائة دينار وقيمته ثلاث مائة دينار، ثم مات ولا مال له غيره، قال: يكون للمشتري ثلثا العبد، ثلث يكون له بالوصية، وثلث بالمائة التي دفع في ثمنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يمضوا للمشتري من العبد ثلثه بالوصية وثلثه بالمائة التي دفع. وهذا(13/331)
إذا كانت قسمته على حالها، والمائة باقية فهذا معنى قوله فيها. والقول الثاني إنه يمضي منه للمشتري بالثمن، قدر ما لا محاباة فيه، ثم يخير الورثة في المحاباة، فإن شاؤوا أجازوها وأمضوها وإلا قطعوا له بثلث الثلث. وهو ثلث العبد، إذ لا مال له غيره. وهذا قول عيسى بن دينار وهو قريب من القول الأول، إذ لا فرق بينها وبينه إلا في تخير الورثة هل يكون ابتداء أو بعد أن يمضي منه لنشتري بالثمن قدر ما لا محاباة فيه؟ وتأول ذلك إلى اختلاف في المعنى. والقول الثالث: إن الورثة يخيرون ابتداء بين أن يجيزوا البيع وبين أن يردوه ويعطوا المشتري مائته التي كان دفع ويقطعوا له بثلث الميت في العبد المبيع وهو ثلثه، إذ لا مال له سواه. وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب الشفعة، ورواية أصبغ عن ابن القاسم عن مالك في الواضحة ولا يكون على هذا القول للورثة أن يلزموا المشتري أن يأخذ من العبد بالمائة التي دفع ما يجب لها منه بغير رضاه، ولا له أن يلزمهم ذلك بغير رضاهم، خلاف ظاهر هذه الرواية، وليس للمشتري على ظاهر هذه الرواية أن يزيد ما حاباه به الميت زائدا على الثلث، ويستخلص البيع، خلاف قول ابن القاسم في سماع سحنون ويحتمل عندي ألا يحمل شيء من هذه الرواية في هذه المسألة على ظاهره مما يوجب الاختلاف. وتفسير بعضها ببعض فلا يكون في المسألة خلاف، وترجع الروايات كلها إلى شيء واحد، فنقول على هذا: إن الحكم في المسألة أن يخير المشتري ابتداء، فإن أراد أن يزيد المحاباة ويستخلص البيع كان ذلك له، على ما في سماع سحنون من كتاب الشفعة، وإن أبى من ذلك واتفقوا جميعا على أدت يمضوا للمشتري من العبد بالثمن قدر ما لا محاباة فيه، ثم يكون الورثة بعد ذلك في المحاباة بالخيار بين أن يجيزوها أو يقطعوا له بثلث الميت، وهو ثلث العبد، إذ لا مال له غيره فعلوا ذلك على قول عيسى بن دينار، وإن لم يتفقوا على ذلك خير الورثة ابتداء بين أن يجيزوا الشراء على ما وقع عليه من المحاباة وبين أن يردوا إليه ماله، ويقطعوا له ثلث مال الميت، وهو ثلث(13/332)
العبد، إذ لا مال له غيره، على ما في سماع سحنون من كتاب الشفعة، وعلى ما حكى ابن حبيب عن مالك من رواية أصبغ عن ابن القاسم عنه إلا أن يريد المشتري أن يكون له من العبد بقدر المائة، ويرضى بذلك الورثة، فيكون له حينئذ ثلثا العبد، ثلث بالمائة التي دفع، وثلث بالوصية، إذ لم يجيزوا له الشراء، وقطعوا له بثلث العبد، إذ هو ثلث مال الميت، وهو أحسن ما يقال في هذه المسألة لأن حمل الروايات على الاتفاق أولى من حملها على الاختلاف. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال لفلان علي دنانير]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: لفلان علي دنانير فقال: يعطى ثلاثة دنانير؛ لأن الدنانير لا تكون أقل من ثلاثة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الثلاثة يقين، وما زاد عليها شك، ولا تكون الوصايا بالشك، كما لا يكون الميراث به. وبالله التوفيق.
[مسألة: قالت ثلث مالي لأبي ثم قالت ثلث مالي لأخي]
مسألة وعن امرأة قالت: ثلث مالي لأبي، ثم قالت: ثلث مالي لأخي وهي صحيحة. قال: يأخذ الأب ثلث مالها وليس عليها غيره، ولا يكون لأختها شيء؟ أرأيت لو قال الرجل: دابتي لفلان، ثم قال: دابتي لفلان صدقة؟ إن الأول أولى بها.
قال محمد بن رشد: قوله: ثلث مالي لأبي معناه: هبة له أو صدقة عليه، والهبة والصدقة في الصحة لازمة ولذلك لم ير لأخيها شيء؛ لأنها إنما تصدقت عليه بما قد وجب لأبيها بالقول المتقدم؛ لأنه حمل الثلث محمل الشيء المعين، يعطيه لرجل ثم يعطيه بعد لغيره. والأظهر أن يكون لأخيها ثلث الثلثين الباقيين من مالها.(13/333)
ووجه قوله: إنه صدقها في أنها لم تعط لأخيها إلا ذلك الثلث بعينه التي كانت أعطته لأبيها وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصت بثلث مالها لأمها وأوصت أن لأختها عليها عشرين دينارا]
مسألة وعن امرأة مسلمة هلكت وتركت أما لها نصرانية، وأختا لها مسلمة، وأخا مسلما، وأوصت بثلث مالها لأمها، وأوصت أن لأختها عليها عشرين دينارا ولم تترك إلا عشرين دينارا. قال: ليس لأمها شيء والعشرون الدين بين الأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن يكون فيما تركت فضل عن العشرين، فتعطى أمها ثلث ما فضل بعد العشرين.
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله؛ لأن وصيتها لا تدخل فيما أقرت به لأختها وإن كانت الوصية لها بذلك غير جائزة وإنما يكون فيما سوى ذلك من مالها وهو معنى ما في المدونة وغيرها وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لبنت ابنه من ثلث ماله بمثل نصيب أحد بناته]
مسألة قال: وسئل عن رجل هلك وترك بنات وغيرهن، وأوصى لبنت ابنه من ثلث ماله بمثل نصيب أحد بناته قال: يعزل الثلث، ثم يقسم الثلثان على فرائض الله، فتنظر ما صار لأحد بناته، فيعطى بنت الابنة مثله من الثلث، فإن فضل شيء عن أهل الثلث قسم على أهل الفرائض كلهم، وتجعل بنت الابن مع البنات، كأنها منهن مثل ما لو كانت بنت ممن يرث الميت.
قال الإمام القاضي: الظاهر من قول ابن القاسم من هذه المسألة أنه راعى قول الموصي من ثلث ماله وأعمله، وجعله دليلا على أنه إنما أراد أن يعطي الموصى لها من ثلث ماله، مثل نصيب أحد بناته من ثلثي ماله، ليكون(13/334)
لها بالوصية مثل ما لأحد بناته بالميراث، فلا يكون لها بذلك أكثر من حظها الواجب لها بالميراث، فلذلك قال: إنه يعزل الثلث ثم يقسم الثلثان على فرائض الله، فيعطي الموصى لها من الثلث، مثل ما صار لأحد بناته من الثلثين ثم إن فضل بعد الوصايا من الثلث فضل كانت فيه مع البنات كأنها منهن، ولو أوصى لها بمثل نصيب أحد بناته، ولم يقل من ثلث ماله، لقال: إنها تعطى مثل نصيب أحد بناته من جميع ماله ابتداء ثم يقسم الباقي على الفرائض على ما قال في المدونة وغيرها، فالذي يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بنيه، وله ثلاثة بنين، إنه يكون للموصى له الثلث، ثم يقسم الثلثان على البنين ثلاثة فيصح للموصى له أكثر مما صار لكل واحد منهم. ومن الناس من ذهب إلى أن قول ابن القاسم في هذه الرواية خلاف لما في المدونة وأنه لا فرق بين أن يقول الموصي: ثلث مالي، أو يسكت عن ذلك؛ لأنه قد علم أن الوصايا لا تكون إلا من ثلث المال، فإذا قال: أعطوا فلانا مثل نصيب أحد ولدي فإنما معناه: أعطوه من ثلث مالي، مثل نصيب أحد ولدي والاحتمال أن يريد مثل نصيب أحد ولده من جميع ماله، فيكون له أكثر مما يصير لكل واحد منهم بالميراث، واحتمل أن يريد مثل نصيب أحد ولده مما بقي بعد الوصية، فيكون له مثل ما يصير لكل واحد منهم بالميراث، مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية كما لو قال: هو من عدد ولدي، فإنما محمله في المدونة على الوجه الأول، وحمله في هذه الرواية على الوجه الثاني. والأظهر أن قول ابن القاسم لم يختلف في ذلك، وإنما فرق بين أن يقول من ثلثي، أو يسكت عن ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عبدي ميمون يخدم فلانا سنتين ثم هو حر]
مسألة وسئل عن رجل قال: عبدي ميمون، يخدم فلانا سنتين، ثم هو حر، ثم قال: ميمون أيضا يخدم فلانا سنة قال ابن القاسم: يتحاصان في خدمة سنتين، فيكون للذي أوصى له بخدمة سنة(13/335)
خدمة ثلثي سنة، وللذي أوصي له بخدمة سنتين، خدمة سنة وثلث قيل له: أرأيت إن قال: ميمون غلامي يخدم فلانا سنة ثم هو حر وقال أيضا: ميمون ذلك الغلام بعينه، يخدم فلانا سنتين؟ قال: يتحاصان في خدمة سنة، ثم هو حر، للذي أوصى له بخدمة سنتين ثلث سنة وللذي أوصى له بخدمة سنة خدمته ثلث سنة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن العبد إذا حمله الثلث فقد وجب له العتق، بعد خدمة السنة أو السنتين، والخدمة وصية بمال، يجب التحاص فيها إذا ضاقت الوصايا بالخدمة عنها، ولو لم يحمل الثلث العبد، يخير الورثة بين أن يجيزوا الوصية، فيكون الحكم فيها على ما تقدم، وبين أن يعتقوا منه ما حمل الثلث بعد الخدمة، فيتحاص الموصى لهما بالخدمة في خدمة ما حمل الثلث منه؛ لأن الموصي قد يرى الخدمة على العتق. وهذا كله على معنى ما في المدونة وغيرها وبالله التوفيق.
[مسألة: الثلث مائة فأوصى فقال لفلان وفلان وفلان ثلث مالي]
مسألة وسئل عن رجل أوصى، فقال: لفلان وفلان وفلان ثلث مالي، لفلان عشرة، ولفلان عشرون، ولفلان ثلاثون. أولئك المسمين أولا بأعيانهم. قال: فوجد الثلث مائة على من يرد الفضل؟ قال: على من أوصى لهم بالثلث على عدد الدنانير.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه الرواية تفسير روايته عن مالك الواقعة في رسم سلعة سماها من سماعه على الصحيح من التأويل فيها حسبما مضى بيانه هناك. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى بعبد له لرجل ثم مات فإذا العبد نصف ماله]
مسألة وسئل عن رجل أوصى بعبد له لرجل، ثم مات، فإذا العبد(13/336)
نصف ماله، وقال الذي أوصي له بالعبد للورثة: إما أن يسلموا إلي العبد وإما أن يقطعوا لي بالثلث من كل شيء، قال: ذلك إلى الورثة، قيل: فإن قال الورثة: لا نسلم إليك العبد، ونحن نقطع لك بثلث كل ما ترك الميت، فمات العبد قبل أن يقضي للذي أوصي له بشيء، قال: فلا شيء له، إلا أن يكون حكم له بقضاء أن يقطع له ثلث ما ترك الميت، فأما إذا لم يكن يقضي فيه إلا بقول كذا ثم مات العبد فلا شيء له.
قال محمد بن رشد: قوله: إلا أن يكون حكم له بقضاء أن يقطع له ثلث ما ترك الميت يريد: أو بلفظ بات مثل أن يقول: قد قطعنا له بالثلث. وأما إن قالوا: نحن نقطع ثم مات العبد فلا شيء وقال سحنون في نوازله التي تقدمت: إنه إذا قيل للورثة تخيروا فأبوا، فقيل لهم: أقطعوا فقالوا: نعم: إن ذلك قطع له بالثلث، يكون له ثلث ما بقي بعد العبد إن مات العبد على القول بأنه يقطع له الثلث في جميع مال الميت، ولا يكون له في العبد وهو خلاف ظاهر هذه الرواية عن ابن القاسم، والاختلاف في قولهم نعم، بعد أن قيل لهم: اخلعوا بلفظ الأمر، على قياس اختلاف قول مالك في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع في الذي يكون له العبدان فيسام بهما، فيقول الرجل: هذا العبد بأربعين إلى سنة، وهذا العبد بأربعين إلى سنة وهذا العبد الآخر بخمسين إلى سنة خذ أيهما شئت، حسبما مضى بيانه هناك، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى له بوصيتين إحداهما أكثر من الأخرى]
مسألة وسئل عن رجل أوصى قال: لفلان علي مائتي دينار، وأوصى في تلك الوصية بعينها: إن لفلان ذلك الرجل بعينه علي مائة دينار، قال: يعطى ثلاثمائة، كان ذلك في وصية واحدة، أو في وصيتين(13/337)
مختلفتين، قيل له: أرأيت لو قال: لفلان علي مائة دينار ثم أوصى له أيضا بمائة دينار، يتصدق بها عليه؟ قال: يعطي مائتين، كان ذلك في وصية واحدة أو وصيتين. قال: إلا أن يكون أوصى لرجل في مرضه بمائة دينار، وأوصى له أيضا في وصية أخرى بمائتي دينار، فإنه يعطي الأكثر منهما، كان ذلك في الوصية الأولى أو في الآخرة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إذا أوصى له بوصيتين إحداهما أكثر من الأخرى: إنه يكون له الأكثر منهما كانت الأولى أو الآخرة، هو مثل ما تقدم من قوله في رسم الصلاة من سماع يحيى مثل قوله في المدونة وغيرها، لم يختلف في ذلك قوله، وكذلك إذا كان الوصيتان مستويتين، يكون له الواحدة منهما. وقد مضى هناك توجيه قوله. وذكر ما في ذلك من الاختلاف، فلا وجه لإعادته.
وأما إذا أوصى له بدين بعد دين، أو بوصية ودين، فلا اختلاف أحفظه في أنهما يكونان له جميعا والله الموفق.
[مسألة: قال في وصيته بيعوا جاريتي ممن يرفق بها]
مسألة قال ابن كنانة وابن القاسم في رجل قال في وصيته: بيعوا جاريتي ممن يرفق بها، قالا: تباع ممن يرى أنه يرفق بها من غير شرط ولا شيء، قيل له: فإن أبى أن يشتريها حتى يوضع له من ثمنها قال: أرى أن لا يوضع عنه شيء لأن الناس سواه كثير، فيختار لها رجل صالح، قال: ولو كان قال بيعها ممن أحبت إذا لوضع عنه ما بينه وبين ثلث قيمتها.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تباع جاريته ممن يرفق بها، إنه لا يوضع عن المشتري الذي يظن أنه يرفق بها شيء من ثمنها صحيح، لا اختلاف فيه أحفظه. وأما الذي أوصى أن تباع جاريته ممن(13/338)
أحبت، فلا اختلاف أحفظه في أنه يوضع عن الذي أحبت رجل صالح، قال: ولو كان قال: بيعوها ممن أحبت إذا لوضع عنه ما بينه وبين ثلث قيمتها. قوله: في الذي أوصى أن تباع جاريته أن تباع منه إذا أبى أن يشتريها إلا بوضيعة ثلث ثمنها وإنما الاختلاف هل هي وصية لها أو للمشتري فيما يتعلق بذلك من الأحكام؟ حسبما مضى القول فيه رسم الوصايا من سماع أشهب والله الموفق.
[مسألة: الجارية يوصى فيها أن تباع ممن يعتقها فتختار البيع]
مسألة وقال في الجارية يوصى فيها أن تباع ممن يعتقها، فتختار البيع قال: إن كانت رائعة كان ذلك لها أن يحسبها الورثة مملوكة، أو يبيعوها بغير شرط، وإن كانت دنية، فليس ذلك لها، وأثمان الستين ليست برائعة، قيل له: فاليوم على رخص الرقيق قال: نعم. واليوم ليس هي برائعة يريد في هذا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول عليها في رسم حلف ليرفعن أمرا إلى السلطان، فلا وجه لإعادته.
[مسألة: أوصى بوصيتين في مرض واحد]
مسألة وقال في الذي أوصى بوصيتين في مرض واحد، أوصى في إحداهما لرجل بعشرة دنانير وعبد وأوصى له في الأخرى بخمسة دنانير وبردون، قال: يعطى العشرة والغلام والبردون، إن وسع ذلك الثلث، فإن لم يسع حاص بذلك، وإن لم يكن معه وصايا أخذ ما حمل الثلث، إلا أن يجيزوا وصاياه، وذلك أن مالكا قال: إذا أوصى له بوصيتين في وصية واحدة مختلفة من الدنانير، كان له الأكثر من العدة، كانت الأولى أو الآخرة، وسواء عندي كان مع(13/339)
العين وصية غيرها، أو لم تكن، يعطى الأكثر مما أوصى له من العين، وأما غيره فإنه يأخذ ما في كل وصية إذا كان مختلفا على ما ذكرت، ولو أوصى له في واحدة بعبدين، والأخرى بعبد، كان محمله عندي محمل الدنانير، ولم يعطه إلا عبدين، الأكثر من الوصيتين، إلا أن يسمى العبيد بأعيانهم مختلفين فيكون له جميعا. محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم قبل هذا في هذا السماع ومثل ما في المدونة وغيرها.
وقد مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى توجيه قول ابن القاسم، وذكر الاختلاف في ذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: وصي اشترى رقبة فأعتقها فإذا هي نصرانية]
مسألة وقال في رجل وصي اشترى رقبة فأعتقها، فإذا هي نصرانية، قال: إن كانت من ظهار أو قتل خطأ أو شيء واجب، فأرى أن يضمن؛ لأنه فرط حين لم يسأل ويستحسن.
قال محمد بن رشد: قد تقدم القول في تضمين الوصي فيما أخطأ فيه في أول سماع أصبغ، وقرب آخر الرسم منه، وفي رسم الأقضية من سماع أشهب فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أعتقوا عني رقبة فأعتقوها ولم يسم من أي شيء]
مسألة قلت: فإن قال: أعتقوا عني رقبة فأعتقوها ولم يسم من أي شيء، أهي على الواجب حتى يعلم غير ذلك؟ قال: لا بل على غير الواجب حتى يعلم الواجب.(13/340)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت فيها شيء إلا بيقين. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال مائة دينار لبني عمي فلان على فقرائهم فوجدوا كلهم أغنياء]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: مائة دينار لبني عمي فلان: على فقرائهم، فوجدوا كلهم أغنياء، قال: يوقف عليهم، فإن افتقر منهم أحد دفع إليه، قيل له: فإن لم يفتقر منهم أحد. قال: يرجع ميراثا إلى ورثة الذي أوصى بها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة. وقوله فإن لم يفتقر أحد معناه: حتى مات وبالله التوفيق.
[مسألة: قال أعتقوا عبيدي القدماء وله عبيد منذ عشر سنين]
مسألة وقال في رجل قال: أعتقوا عبيدي القدماء، وله عبيد منذ عشر سنين، وعبيد منذ خمس سنين، ومنذ ثلاثة سنين وسنة، قال: إن حملهم الثلث، عتقوا كلهم، وإن كان له عبيد منذ أقل من سنة، فليسوا بقدماء. قيل له: فإن لم يكن له عبيد قبل السنة، وإنما هم بعد السنة منذ خمس وأربع وأكثر وأقل ولم يحملهم الثلث، كيف يصنع فيهم؟ قال: يتحاصون كلهم، فيعتق منهم ما حمل الثلث.
قال محمد بن رشد: إنما قال فيمن قال: أعتقوا عبيدي القدماء، إنهم يعتقون كلهم إن حملهم الثلث، إذا كان أحدثهم ملكا له عنده سنة فأكثر؛ لأنه رأى السنة حدا للقدم، وهو قول ربيعة، واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وهي سنة تامة. وله في(13/341)
كتاب ابن المواز والمجموعة: إنه إن قال: أعتقوا قدماء رقيقي، عتق الأول فالأول، حتى ينفذ الثلث، وإن وسعهم الثلث كلهم، نظر إلى الذي يظن أنه أراد في قدم الكسب وحدوثه، فليبدأ القدماء، ولا شيء للمحدثين، وإن اشتراهم جملة واحدة عتق ثلثهم. وقوله: فالسهم، يريد: إن لم يكن له مال غيرهم، وأما إن كان له مال غيرهم، فإنما يعتق بالسهم ما حمل الثلث منهم. وقوله: قدماء رقيقي على قياس ما تقدم من قوله في أول رسم من سماع أصبغ. وفي كتاب ابن المواز في الذي يقول: في خيار رقيقي ففرق بين أن يقول: عبيدي القدماء أو قدماء عبيدي لافتراق اللفظين في المعنى وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلث مالي لعبدي وثلث مالي لفلان أجنبي]
مسألة وقال في رجل أوصى، فقال: ثلث مالي لعبدي وثلث مالي لفلان أجنبي، قال: يكون الثلث بين الأجنبي وبين عبده، فما صار للعبد عتق منه بقدر نصف الثلث.
قال محمد بن رشد قوله: إنه يعتق من العبد بقدر نصف الثلث الذي صار له، صحيح على مذهبه وروايته عن مالك في المدونة وغيرها؛ لأنه قد ملك من رقبته نصف ثلثها، فوجب أن يعتق عليه ما ملك من رقبته وبقيته فيما صار له من الثلث إن حمل ذلك بقيته، وإن لم يحمل ذلك بقيته وله مال سواه عتق عليه ما بقي منه في ذلك، بمنزلة العبدين الشريكين، يعتق أحدهما حظه فيقوم عليه حظ شريكه.
مثال ذلك أن يكون قيمة العبد ثلاثين، ويترك الميت سواه ستين، فيكون ثلث الميت، وهو ثلاثون بينهما للعبد خمسة عشر، يجعل له في رقبته، فيعتق منه نصفها، ويكون للموصى معه خمسة وللورثة بقية العبد، وخمسة وأربعون، وإن كان للعبد مال من غير الوصية، قوم فيه بقيته على(13/342)
الورثة، فيدفع إليهم من ماله خمسة عشر، قيمة نصفه، وأعتق جميعه.
وقد مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم ما في هذا من الاختلاف. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى إن باع ورثته بعده الدار فثلثها للمساكين]
مسألة وسئل عن رجل أوصى عند موته، ولم يترك إلا دارا وأوصى إن باع ورثته بعده الدار فثلثها للمساكين، ومن باع منهم نصيبه فثلث ما يصير له للمساكين، قال: هو على ما أوصى. قيل له: فإن الدار قوم سفليها بمائة دينار، وقوم علوها بمائة وأربعين، فأراد النساء أن يأخذن العلو، ولهن عشر قراريط من الدار، فقال النسوة: نحن نرد على الورثة أربعين دينارا أو يكون العلو لنا. قال ابن القاسم: لا نرى أن يترادا بالدنانير، ولكن يقسم للنساء بحقهن، ولو ربع بيت أو أقل أو أكثر، ولا يترادان بشيء من الدنانير. قيل: فإن القاضي قد قضى بارتداد النساء على الرجال، أتراه؟ ولا يكون على الرجال في أربعين التي أخذوها بشيء؛ لأنه ليس ببيع، فإن النساء أردن بيع ما كان لهن في الدار. قال: يكون عليهن أن يتصدقن بثلث ما كان لهن مما ورثن فقط، ولا يكون عليهن في العشرين شيء يخرجن العشرين. قال: لا ثم يتصدقن بما بقي، فإن باع الرجال الذي لهم، أخرجوا لهم ثلث ما باعوا به، وثلث العشرين التي أخذوها.
قلت: أرأيت إن احتاج النساء إلى بيع فبعن تلك العشرين التي رددنها على الرجال قط، أثرى عليهن فيها شيئا أو على الرجال حين باع النساء؟ قال: لا ليس على أحد منهم شيء.(13/343)
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة على ما يقتضيه ظاهر لفظ الموصي، فحمله على عمومه، إذ قال: ومن باع منهم نصيبه بثلث ما يصير له للمساكين أو لم يفرق بين أن يبع نصيبه من أجنبي، أو من بعض الورثة، فيوجب على الرجال الصدقة بثلث الأربعين التي قبضوها من النساء؛ لأنهم قد باعوا بها من النساء بعض حظهم الواجب لهم بالميراث من الدار، إلا أنه رأى أن الموصي إنما أراد ألا يخرج الدار عنهم، ولا يبيعوها ولا شيئا منها من غيرهم. فرأى وجه ما أوصى به، أنهم إن باعوا الدار كان عليهم أن يتصدقوا بثلث الثمن، وإن باع أحد منهم حظه الواجب له بالميراث في الدار من أجنبي كان عليه أن يتصدق بثلث ثمن ذلك، وعلى هذا أتى جوابه في المسألة فقال: إنه لا شيء على الرجال في الأربعين التي أخذوها من النساء في الزيادة على حظهن من العلو، وقوله: أفترى رد النساء على الرجال بيعا؟ معناه: أتراه بيعا يجب به على الرجال الصدقة بثلث الأربعين، قال: لا فإن باع النساء العلو من أجنبي بعد أن استخلصوه بأربعين التي زادها، كان على الرجال في الأربعين التي أخذوها من النساء في الزيادة عليهن، أن يتصدقن بثلث ما كان لهن بالميراث في الدار، ولم يجب عليهن شيء فيما ناب من الثمن، ما يجب منه لما صار إليهن من قبل الرجال بالأربعين التي زادها. فهذا معنى قوله: ولا يجب عليهن في العشرين شيء، وكان حقه أن يقول: ولا يجب في الأربعين شيء أي فيما يجب من الثمن، لما صار إليهن من قبل الرجال بالأربعين؛ لأنه لم ينزل المسألة إلا على أنهن رددن أربعين لا على أنه رددن عشرين. وقوله: يخرجن العشرين ثم يتصدقن، بما بقي، لفظ خرج على التجاوز، ومعناه: يخرجن ما يجب من الثمن لما اشتروه من الرجال بالعشرين، إن كن رددنهم عشرين ثم يتصدقن بثلث ما بقي، لا بما بقي. وكذلك قوله: إن باع الرجال الذي لهم أخرجوا ثلث ما باعوا به، وثلث العشرين التي أخذوها. معناه: إن كانوا أخذوا من النساء في خروجهن العلو عشرين، كما ذكر في أول المسألة، وهو صحيح؛ لأن النساء لما بعن(13/344)
جميع حظهن من الدار، ثم باع الرجال جميع حظهم منها وجبت الصدقة بجميع الثمن. وقد تصدق النساء بثلث ثمن ما ورثته، فوجب على الرجال أن يتصدقوا بثلث جميع ما ورثوه أيضا، ما باعوه من الأجنبي، وما كانوا باعوه من النساء؛ لأن الذي باعوه من النساء قد خرج عن أيديهم بالبيع، ولو باع النساء ما وجب لهن بالميراث ... لأنفسهم ما وجب لهم لما أخذنه من الرجال بالأربعين، ثم باع الرجال الذي لهم لم يجب عليهم أن يتصدقوا بثلث الأربعين؛ لأن الذي باعوا من الدار باق بأيدي النساء. فمتى ما باعوه وجب على الرجال الصدقة بثلث الأربعين. وقوله: إنه احتاج النسوة إلى بيع، فبعن ملك العشرين التي رددنها على الرجال، أي ما يجب لهن من الدار، فلا شيء عليهن في ثمن ذلك صحيح؛ لأن ما ورثنه من الدار لم يبعنه، فلا شيء عليهن في ثمن ما بقي مما اشترينه من الرجال. وأما قوله: إنه لا يجب على الرجال في ذلك شيء حين باعه النساء ففيه نظر، وكان الأظهر أن يجب عليهم إذا باع النساء ذلك، الصدقة بثلث الأربعين التي قبضوها من النساء في ذلك، أو في ثلث العشرين، إن كانوا إنما قبضوا منهن عشرين ووجه ما ذهب إليه أنه لما كان قد بقي بين يدي النساء من الدار قدر ما باعوه منهن أو أكثر لم يجب عليهم في الأربعين أو العشرين شيء؛ لأن الذي باعوه بها لم يخرج على الورثة وفيه نظر، وكان القياس أن يكون ذلك مقبوضا؛ لأن ما بعنه مشاعا فينظر ما يقع ما بعنه من الدار، مما ورثنه واشترينه من الرجال مجموعا، وهو السبعان على ما نزل عليه المسألة، فيكون على الرجال أن يتصدقوا بثلث سبع الأربعين أو العشرين التي قبضوها من النساء وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلث مالي لابن عبدي ولعبده ابن حر]
مسألة وعن رجل أوصى عند موته، فقال: ثلث مالي لابن عبدي(13/345)
ولعبده ابن حر، قال: إن كان ابن عبده كبيرا فقبل تلك الوصية، عتق عليه أبوه، وإن لم يقبلها عتق عليه ثلثه يريد أباه، وإن كان صغيرا أعتق عليه ثلثه فقط، وإن كان الثلث أكثر من رقبة أبيه أعطيه الابن.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه إن قبل الوصية عتق عليه أبوه صحيح على ما في المدونة وغيرها، لا اختلاف في ذلك؛ لأنه لما أوصى له بثلث ماله، والعبد من ماله، فقد أوصى له بثلث العبد، وبثلث ما بقي من ماله، فإن قبل عتق عليه باقيه في بقية الثلث الذي أوصى له به. وفيما سوى ذلك من ماله. وأما قوله: إذا لم يقبل إنه يعتق ثلثه ففي ذلك اختلاف، قيل: إنه إذا لم يقبل سقطت الوصية، وهو الذي يأتي على قول مالك في رواية علي بن زياد عنه في المدونة. وقيل: إنه يعتق عليه ثلثه، ويكون الولاء له. وهو قول ابن القاسم في المدونة وقيل: إنه يعتق، ويكون الولاء للموصي، وهو قوله في سماع سحنون في رسم القطعان، من سماع عيسى من كتاب العتق.
وقد مضى توجيه هذا الاختلاف في سماع سحنون المذكور في رسم المكاتب، من سماع يحيى من كتاب الصدقات والهبات. وقوله: إن كان الثلث أكثر من رقبة ابنه أعطيه الابن، معناه: في الكبير إذا قبل، وأما الصغير إذا أعتق عليه ثلث أبيه فيعطى ثلث سائر مال الموصي وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى الرجل عند موته فقال حاسبوا ابني بما أنفقت عليه]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: إذا أوصى الرجل عند موته فقال: حاسبوا ابني بما أنفقت عليه. قال: إن كان مال ابنه عينا لم يجز قوله؛ لأنه لو أراد أن يحاسبه بما أنفق عليه أخذه قبل موته، وإن كان ماله إنما هو عرض حوسب به.(13/346)
قال محمد بن رشد: كان من أدركنا من الشيوخ يحملون هذه الرواية على الخلاف لما في أول سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة؛ لأنه قال في هذه الرواية: إنه لا يحاسب إذا كان المال عينا، وإن أوصى الأب أن يحاسب. وقال في تلك: إنه يحاسب إذا لم يقبل ذلك عند موته، فدل ذلك على أنه لو أوصى أن يحاسب لحوسب. والذي أقول به: إن ذلك ليس باختلاف من القول، والفرق بين المسألتين أنه لم يكتب عليه النفقة في هذه الرواية، ولذلك قال: إنه لا يحاسب وإن أوصى أن يحاسب. وكتبها عليه في ذلك، ولذلك قال: إنه يحاسب إن أوصى بذلك.
وقد مضى هناك القول على هذه المسألة بتفريع وجوهها مستوفى فأغنى ذلك عن إعادته.
[مسألة: أقر بدين لمن يتهم عليه وأوصى بزكاة]
مسألة وقال في رجل أقر بدين لمن يتهم عليه، وأوصى بزكاة؟ قال: يبدأ بالدين من رأس المال، ثم تكون الزكاة من ثلثي ما بقي. قال الإمام القاضي: هذا بين صحيح على ما في المدونة وغيرها؛ لأنه لما أقر بالدين، فقد أراد أن تكون الزكاة التي أوصى بها في ثلث ما بقي من ماله (بعدما) أقر به من الدين، وإن رد بعد موته للتهمة؛ لأنه لم يعمل هو على أن يرد وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى فقال ثلثي لأهلي]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: ثلثي لأهلي، قال: لا تدخل الخالة ولا الخال. قال: وأرى العمة تدخل مع العصبة؛ لأنها لو كانت رجلا ورث. قيل له: ولو لم يكن بقي من أهله إلا الخال والخالة، لم تر لهما شيئا قال: نعم. إذا إنما يكون للعصبة دونهما.(13/347)
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم أسلم من سماع عيسى وبالله التوفيق.
[مسألة: يقض المريض بعض غرمائه دون بعض]
مسألة وقال: لا يقض المريض بعض غرمائه دون بعض؛ لأنه في حالة يحجب فيها عن ماله، بمنزلة المفلس سواء.
قال محمد بن رشد: يريد: المريض الذي يحجب فيه عن القضاء في ماله، وكذلك روى أصبغ عنه. وقوله بمنزلة المفلس سواء، يريد: أنه لا يجوز قضاؤه فيه عنده، كما لا يجوز في المفلس لا أن له حكم المفلس إذ لا اختلاف في أن إقراره بالدين لمن يتهم عليه جائز في المرض ما لم يفلس، والرهن بمنزلة القضاء لا يجوز عنده، وأجاز ذلك غيره في المدونة رهنه وقضاؤه كما يجوز بيعه وشراؤه وإقراره بالدين لمن لا يتهم عليه والفرق عند ابن القاسم بين القضاء والرهن، وبين الإقرار أنه في الإقرار، لم يحاب بعض الغرماء على بعض، وفي القضاء والرهن قد حابا بالذي قضاه أو رهنه على غيره، فإقرار المديان بالدين لمن لا يتهم عليه، يجوز في الصحة والمرض عند جميعهم، وقضاؤه ورهنه بعض غرمائه دون بعض لا يجوز عند مالك وابن القاسم في المرض. واختلف قولهما في ذلك في الصحة، وكذلك إقراره لمن يتهم عليه في الصحة، اختلف قولهما في ذلك، ولا اختلاف في أن ذلك لا يجوز في المرض.
فهذا تحصيل القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق..
[مسألة: يقول في مرضه عبدي لعبد الرحمن ثم يقول بعد ذلك عبدي لعبد الله]
مسألة وعن الرجل يقول في مرضه: عبدي لعبد الرحمن، ثم يقول بعد ذلك: عبدي لعبد الله بتلا قال: لا أرى لعبد الرحمن وصية إلا أن يقول: عبدي لعبد الله بتلا بعد موتي، فإذا قال هذا تحاصا في(13/348)
العبد: عبد الله وعبد الرحمن جميعا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا بتله لعبد الله، فقد نقض وصيته فيه لعبد الرحمن؛ لأن الهبة رجوع في الوصية. وأما إذا ابتله له بعد الموت فهي وصية له أيضا، يشتركان فيها. قال: وهو مثل ما تقدم له قبل هذا في هذا السماع وغيره ومثل ما في المدونة وغيرها.
وقد مضى في رسم الصلاة من سماع يحيى توجيه قول ابن القاسم في هذا وذكر الاختلاف فيه. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال عرصتي لعبد الرحمن في مرضه ثم بناها في مرضه]
مسألة قلت: فإن قال: عرصتي لعبد الرحمن في مرضه، ثم بناها في مرضه، أترى ذلك انتزاعا؟ قال: لا ولكنه يحاص بقيمة العرصة مع أهل الميراث، ويضرب أهل الميراث بقيمة البناء. وسئل عنها سحنون: فقال: أرى هذا نقضا لوصيته؛ لأنه قد أحال العرصة عند حالها فقد نقض وصيته.
قيل له: فلو أوصى لرجل بداره في مرضه، ثم هدمها هل ترى ذلك نقضا لوصيته؟ قال: الذي أقول أنا به: فأرى له قاعة الدار؛ لأن القاعة لم تزل على حالها، وأما غير البنيان وإزالته عن حاله فقد نقض وصيته في البنيان.
قلت له: فإن قال: ثوبي لعبد الرحمن، ثم قطعه قميصا فلبسه في مرضه قال: هو لعبد الرحمن، وليس بتقطيعه إياه، ولا لبسه انتزاعا. قال: وإن قال: شقتي لعبد الرحمن، ثم قطعها قميصا في مرضه وسراويلات رأيت ذلك انتزاعا لأنه إذا أوصى ثم حوله عن اسمه حتى يسمي اسما آخر رأيت ذلك انتزاعا؛ لأنه إذا قال: شقتي ثم قطعها قميصا فقد صار اسمها خرقة ولأنه إذا قال:(13/349)
ثوبي في هذا ثم قطعه قميصا، فاسمه ثوب أيضا، وليس تقطيعه إياه بالذي يحوله عن أن يكون اسمه ثوب.
قلت له: فإن أوصى بثوب، ثم صبغه صبغا يزيد في ثمنه، كيف يكون الثوب؟ قال: يضرب بقيمته أبيض، ولا شيء له في الصبغ.
قال محمد بن رشد: قد مضى بعض هذه المسألة والقول عليها في رسم الوصايا والأقضية، ورسم الوصايا الصغير، من سماع أصبغ. ومضى تحصيل القول فيها مستوفى في نوازل سحنون فلا وجه لإعادته. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصي له بجارية بعد موته ثم وطئها]
مسألة وقال في رجل أوصي له بجارية بعد موته، ثم وطئها أترى ذلك انتزاعا؟ قال: لا. قيل له: فإنها وقفت حين مات خوفا من أن تكون حاملا فحمل عليها رجل فقتلها لمن تكون جنايتها؟ قال: ليستردها الذي مات لأنه يخاف أن يكون بها حمل، ولا يكون للموصى له من جنايتها شيء. قيل له: أرأيت لو لم يطأها حتى مات ... بجميع ما له فمات الذي أوصى له بها أيضا. قال: يكون ورثته يقومون مقامه.
قال محمد بن رشد: قوله: يخاف أن يكون بها حمل، يدل على أنه إنما جعل الجناية عليها لسيدها الموصي بها، مخافة أن تكون حاملا منه، ولو تيقنت براءتها من الحمل لكانت الجناية عليها للموصى له بها. وهو معنى ما في كتاب الوصايا الثاني من المدونة فحملها ابن القاسم على الحمل حتى(13/350)
يعلم براءتها منه على أصله في غير ما مسألة. من ذلك قوله في سماعه من كتاب الاستحقاق في الذي يستحق أمة له عند رجل اشتراها ويقيم عليها البينة، فتموت بعد ذلك: إن مصيبتها منه، ويرجع المبتاع بالثمن على البائع، إلا أن يكون قد وطئها فتكون المصيبة منه، من أجل ... فيها، ويرجع المستحق على البائع بالأكثر من القيمة أو الثمن إن كان عاصيا. وقد قيل: إنها محمولة على السلامة من الحمل حتى يعلم أنها حملت، فعلى هذا تكون الجناية عليها للموصى له بها وإن كان الموصي قد وطئها، إلا أن يعلم أنها كانت حاملا منه. وهو مذهب مالك في رواية أشهب عنه في الذي يشتري الأمة فيطؤها، ثم يظهر على عيب فيها، فيردها إلى البائع، فتموت قبل أن تحيض إن ضمانها من البائع المردود عليه بالعيب، إلا أن يعلم أنها كانت حاملا، فتلزم المشتري، ويرد عليه ما نقص العيب من ثمنها. وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لفلان عشرة دنانير ولفلان عشرون دينارا ولفلان ثلاثون دينارا]
مسألة وعن رجل قال: لفلان عشرة دنانير، ولفلان عشرون دينارا، ولفلان ثلاثون دينارا ثم قال في مرضه ذلك: ولفلان ولفلان ولفلان الذي أوصى لهم بعدد تلك الدنانير، لهم ثلث مالي ثم هلك، قال: يعطى الذي سمي له عشرة عشرته، والذي سمي له عشرين عشرينه، والذي سمى له ثلاثين ثلاينه، ثم ينظر إلى ما فضل بعد ذلك من الثلث، فيكون بينهما بالسوية، وقال مرة: تكون على الحصص.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة على خلاف أصله فيمن أوصى لرجل بوصيتين، إنه يكون له الأكثر منهما، كانت الأولى أو(13/351)
الآخرة، وقياس قول مطرف في أن من أوصى لرجل بوصيتين: إنه يكونان له جميعا إن كانتا متساويتين، أو كانت الثانية أقل؛ لأنه يحمل عليه عنده أنه استقل ما أوصى له به في الأول، فزاده ما في الثانية، وكذلك حمل ابن القاسم على الموصي في هذه المسألة أنه استقل ما أوصى به لكل واحد منهم من التسمية التي أوصى له بها، فزادهم بقية الثلث بقوله: لهم ثلث مالي، فمرة قال: إن ذلك يكون بينهم على السوية إذا لم يقل فيها: إنها تكون بينهم على قدر ما أوصى لهم به، ومرة قال: إنما يكون بينهم على قدر ما أوصى لهم به أولا؛ لأنه لما فضل بعضهم على بعض فيما أوصى لهم به أولا، ثم زادهم زيادة حكم للزيادة بحكم المزيد عليه من التفضيل. والقولان محتملان، وهو أظهر. والله أعلم.
والذي يأتي في هذه المسألة على أصل ابن القاسم في الذي يوصى له بوصيتين، أن له الأكثر منهما. أن يقتسموا جميع الثلث بينهم على أكثر ما أوصى به لكل واحد منهم من التسمية التي سماها له، أو ثلث الثلث. وإن كان في المال عروض جرى الحكم في ذلك على الاختلاف الذي قد ذكرناه في رسم الوصايا الصغير، من سماع أصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى في مرضه فقال ثوبي هذا بيعوه وتصدقوا بثمنه فإنه ليس لي]
مسألة وسئل عن الذي أوصى في مرضه، فقال: ثوبي هذا بيعوه وتصدقوا بثمنه، فإنه ليس لي، وثوبي هذا الآخر بيعوه وتصدقوا بثمنه فإنه ليس لي، وإنما اغتصبته، ونحو هذا، ولفلان علي مائة دينار، ولفلان أيضا مائة لقوم سماهم معروفين، ولفلان علي خمسون دينارا وهم يسكنون في بلد كذا وكذا لقوم لا يعرفون، ولو طلبوهم لأعجزوهم.
قال ابن القاسم: إن لم يكن على ما ذكر بينة إلا إقراره، فإنه يبدأ بالثياب التي أوصى بها أن تباع، ويتصدق بثمنها تباع،(13/352)
ويتصدق بثمنها بها، ثم يتحاص أصحاب الدين الذين يعرفون، والذي لا يعرفون، وإن قامت البينة على ما ذكر، فإنه يحاص في الثياب وفي الدين الذي ذكر لقوم يعرفون، ولقوم لا يعرفون جميعا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن لم يكن على ما ذكر بينة معناه: إن لم يكن ما ذكر من الديون التي أقر بها بينة؛ لأنه إذا لم يكن لهم بينة على ديونهم، لم يكن لهم حجة فيما أقر به من الثياب، أنه لا شيء له فيها، إذ لو شاء لم يقر لهم بشيء، كما أقر لابنه بمائة دينار، ولرجل أجنبي بمائة، فليبدأ بالثياب التي أوصى أن تباع ويتصدق بثمنها، وتكون الديون التي أقر بها للذين يعرفون، والذين لا يعرفون فيما بقي من ماله بعدها، فيتحاصون في ذلك، فما ناب الذين يعرفون أخذوه، وما ناب الذي لا يعرفون وقف لهم، فإن لم يأت له طالب تصدق به، وهذا إذا كان له ولد، على قياس ما مضى من قوله في هذا السماع، وفي غيره من المواضع، وأما إن لم يكن له ولد فالذين يعرفون أحق بما بقي بعد ثمن الثياب التي أوصى أن تباع، ويتصدق بثمنها؛ لأن إقراره لمن لا يعرف لا يجوز إذا كان يورث كلالة، وإن فضل من المال فضل بعد دين الذين يعرفون وقف الدين على الذين لا يعرفون إن كان يسيرا، وإن كان للورثة إن كان كثيرا على قياس ما مضى في صدر هذا السماع وفي غيره أيضا.
وقوله: فإن قامت البينة على ما ذكر، معناه: فإن قامت البينة على الديون التي أقر بها يحاص في ثمن الثياب بالديون التي ذكر لقوم يعرفون ولقوم لا يعرفون، ذلك بين على ما قاله؛ لأنه إذا كانت لأرباب الديون بينة على ديونهم لم يصدق فيما أقر به من أن الثياب لا شيء له فيها، وبطلت وصيته بالتصدق بها.
وقوله: يحاص في الثياب وفي الديون الذي ذكرها خطأ في الرواية، وصوابه فإنه يحاص في الثياب بالدين الذي ذكر لقوم يعرفون، ولقوم لا يعرفون. وبالله التوفيق.(13/353)
[مسألة: أوصى فقال ثلثي لعبد الله ومحمد وأحمد]
مسألة وقال في رجل أوصى فقال: ثلثي لعبد الله ومحمد وأحمد، لمحمد عشرة، ولأحمد عشرين. وسكت عن عبد الله، فلم يسم له تسمية أكثر من الوصية الأولى. قال: ينظر إلى عدة الثلث كم هو فيضرب عبد الله بثلث الثلث، وأحمد ومحمد، وأحمد لعبد الله عشرة، ولمحمد عشرين، ولأحمد ثلاثين، ضرب عبد الله بعشرة أجزاء، ومحمد بعشرين، وأحمد بثلاثين، كان لعبد الله سدس الثلث، ولمحمد ثلث الثلث، ولأحمد نصف الثلث. وإنما ثلث الثلث إن سكت عن التسمية بمنزلة التسمية سواء يضرب معهم بعدة ثلث الثلث.
قلت: قصر الثلث أو زاد، فعلى هذا يكون في جميع هذه الوجوه، قال: نعم. قيل له: فإن قال: ثلثي لعبد الله ولمحمد وأحمد لعبد الله عشرة ولأحمد عشرة، ولمحمد عشرة. قال: هذا بينهم أثلاثا كما هو، وليس في ذلك تفضيل، إنما هو إذا فضل بعضهم على بعض في التسمية.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأنه قد بين كيف يكون الثلث بينهم بقوله: لمحمد عشرة، ولأحمد عشرين، وسكوته عن عبد الله؛ لأنه لما سكت عنه بقي على ما يجب له بقوله: ثلثي لفلان وفلان وفلان وهو ثلث الثلث. فبذلك يحاص الموصى لهما بالتسمية. وهذه المسألة تبين المسألة التي مضت في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم حسبما ذكرناه.
تم جميع كتاب الوصايا والحمد لله.(13/354)
[: كتاب الصدقات والهبات الأول] [وهب لرجل لثواب فأفلس]
من سماع ابن القاسم من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم عن مالك أنه قال: من وهب لرجل لثواب، فأفلس فهو على هبته، بمنزلة من باع سلعته، إلا أنها تقوم يوم وهبها. قال سحنون: يريد بذلك: إذا أراد الغرماء حبسها ودفع القيمة إليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا أفلس الموهوب له الهبة للثواب قبل دفع الثواب، فرب الهبة أحق بها من الغرماء؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها. قال في هذه الرواية: يوم وهبها، ومثله في رسم العتق من سماع عيسى، وفي رسم البيوع من سماع أصبغ، وفي آثار المدونة وفي الموطأ يوم قبضها، ومثله في الشفعة من المدونة. وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في ضمان السلعة المحتسبة بالثمن. وقد اختلف في ذلك قول مالك فعلى القول بأن ضمانها من البائع تكون القيمة في السلعة الموهوبة يوم القبض، وعلى القول بأن ضمانها من المبتاع تكون القيمة فيها يوم الهبة، وهو اختيار ابن القاسم. واختار ابن المواز أن تكون القيمة فيها يوم القبض، إلا أنه اعتل في ذلك بعلة غير صحيحة، فقال: لأنه بالخيار في ردها قبل أن يقبضها وهو بالخيار أيضا في ردها بعد قبضها ما لم تفت، فيلزم على تعليله أن تكون القيمة فيها يوم(13/355)
الفوت، وهذا ما لم يقولوه، ولا يوجد لهم. وهذا على القول بأن من حق الواهب للثواب أن يمسك هبته حتى يقبض عوضه كالبيع، وهو نص ما في كتاب الهبة من المدونة. وأما على القول بأنه ليس له أن يمسكها، ويلزمه دفعها بخلاف البيع؛ لأنها مكارمة فضمانها بعقد الهبة من الموهوب له على كل حال، ولا يدخل فيها من الاختلاف ما يدخل في المحبوسة بالثمن، وتلزمه القيمة إن فاتت يوم الهبة لا يوم القبض باتفاق.
[مسألة: أفلس رجل وقد رهن سلعة اشتراها بدين]
مسألة قال مالك: وإن أفلس رجل، وقد رهن سلعة اشتراها بدين، فإن صاحبها مخير بين أن يقرها في يد المرتهن، ويحاص بثمنها الغرماء فذلك له، وإن أحب أن يفتدي سلعته من يد المرتهن، ويحاص الغرماء بما فداها به فعل، والمرتهن أولى بما في يديه من الرهن حتى يستوفي حقه، وما فضل فهو للغرماء.
قال الإمام القاضي: زاد في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس في هذه المسألة إنه إن افتداها من المرتهن كان الغرماء بالخيار، إن شاءوا دفعوا إليه، وإن شاؤوا أعطوه ثمنها، فإن أعطوه ثمنها وتركها حاص في جميع ذلك بما افتداها به، ولا يحاص بثمنها إلا في إسلامها للمرتهن وتركها، وهي زيادة بينة؛ لأن بائع السلعة إذا أعطي ثمن سلعته فلا حجة له عليه، وكذلك لا حجة لهم عليه في محاصته إياهم بما أهابه؛ لأنه لو لم يفتدها لكان المرتهن أحق بها، ولزمهم معهم أن يفتدوها منه بما ارتهنها به من مال الغريم، فإذا افتداها هو منه على أن يحاصهم بما افتداها به فقد نفعهم. المسألة كلها بينة صحيحة. وقد قيل: إنه لا يضرب بما افتك به الرهن، كافتكاك رقبة العبد الجاني إذا كان قد باعه وجنى، وفلس المشتري قبل أن يفتكه، وهو بعيد. والفرق بينهما أن العبد الجاني لا(13/356)
يلزم سيده أن يفتكه بجنايته، وله أن يسلمه بها، والرهن يلزم الراهن أن يفتديه بما رهنه، وليس له أن يسلمه بذلك وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ولده فاقتسمه الذكور دون الإناث ثم طالب النساء بحقهن]
مسألة وقال مالك في صدقة تصدق بها على رجل من نخل أو غلة على ولده فرأى أن النساء ليس لهن فيها حق، فاقتسموها بين الذكور زمانا، ثم بلغ النساء: أن لهن فيها حقا، فطلبن ذلك، قال: يأخذن فيما يستقبلن ولا يكون لهن فيما مضى من الغلة شيء، قال ابن القاسم: وذلك رأيي. ونزلت فرأيت ذلك، وإنما هو بمنزلة ما قال لي مالك في الدار يرثها الولد فيسكنون فيها الزمان، ثم يأتي أولاد له آخرون لم يكونوا علموا بهم أنهم لا شيء عليهم فيما سكنوا. قال سحنون: أخبرني علي بن زياد عن مالك أن الغيب يرجعون على الحضور بكراء حصتهم مما سكنوا، علموا أن ثم وارث غيرهم أو لم يعلموا. أو محمل الغلة عندي محمل السكنى.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه المسألة: إن النساء يأخذن فيما يستقبلن، ولا يكون لهن فيما مضى من الغلة شيء، معناه: في الصدقة المحبسة، لا في الصدقة المبتولة على ولده بأعيانهم: ذكورهم وإناثهم، وتابع ابن القاسم مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما قاله في غلة الحبس، قياسا على ما قاله في السكنى في غير الحبس. والغلة في غير الحبس مخالفة عنده وعند مالك للسكنى يجب لمن جهله حقه فيها مدة، فلم يأخذه أن يأخذه فيما مضى وفيما يستقبل، وذلك منصوص عليه لابن القاسم في المبسوطة وخالفت رواية علي بن زياد عن مالك لرواية ابن القاسم في السكنى في غير الحبس، فراءه في رواية علي بن زياد عن مالك كالغلة في غير الحبس ورأى في رواية ابن القاسم عنه بخلاف ذلك، كالغلة في الحبس فيتفق في الغلة في غير(13/357)
الحبس، على أنه يأخذ حقه فيما مضى وفيما يستقبل، ويتفق أيضا في السكنى في الحبس، على أنه لا شيء له فيما مضى، بل لا يأخذ فيما يستقبل إلا ما فضل عن الساكن؛ لأن حكم السكنى في الحبس لا يخرج فيه أحد لأحد، ويختلف في الغلة في الحبس، وفي السكنى في غير الحبس على قولين: أحدهما لا شيء لهم في شيء من ذلك إلا فيما يستقبل، وهو قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، والثاني إنهن يأخذن حقهن فيما مضى وفيما يستقبل، وهو الذي يأتي على رواية علي بن زياد، عن مالك في غلة الحبس، ونص قوله في السكنى في غير الحبس. والفرق على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، بين الحبس وغير الحبس في الغلة، هو أن الحبس إنما يقسم على الحبس عليهم بالاجتهاد ويفضل فيه فقيرهم على غنيهم، ومن مات منهم قبل طيب الثمرة، أو قبل القسم، وإن كان ذلك بعد طيب الثمرة على الاختلاف في ذلك سقط حقه، ورجع على بقيتهم، إذ ليس حقه فيه ثابتا، بخلاف الملك الذي يعرف حق كل واحد من الأشراك فيه، ويورث عنه طاب أو لم يطب، أبر أو لم يوبر. والفرق على مذهبه بين السكنى والغلة هو ما قاله في المدونة من أنه إنما سكن ولم يعلم بأخيه، ولو علم لكان في نصيبه ما يكفيه، فلم ينتفع بحظ أخيه بشيء أخذه، والغلة بخلاف ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: الأب يجوز لابنه الصغير ما تصدق به عليه]
مسألة وقال مالك: ومن تصدق على ولده وهو صغير، بدين كان له على أحد، ثم اقتضاه الأب بعد ذلك، فهو بمنزلة العبد، يتصدق به عليه، ثم يبيعه فالثمن للابن، ولا يكون بمنزلة الذهب إذا تصدق بها وهي في يديه، فليست للابن إذا لم يجعلها على يدي غيره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الأب يجوز لابنه الصغير(13/358)
ما تصدق به عليه أو وهبه من الأصول والعروض التي تعرف بأعيانها باتفاق. والأصل في ذلك قول عثمان بن عفان من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ أن يجوز نحله، فأعلن ذلك وأشهد عليها فهي جائزة، وإن وليها أبوه. وأما الذهب والورق، وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه من المكيل كله والموزون كان مما يوكل أو مما لا يوكل، كالحديد والرصاص والكتان، فقيل: إنه لا يجوز الأب لابنه الصغير وإن عن له وطبع عليه بحضرة الشهود ولا تكون حيازته له، إلا أن يضعه له بيد غيره، وهو قوله في هذه الرواية وفي رسم طلق ورسم اغتسل بعد هذا من هذا السماع وروى مطرف عن مالك: أنه إذا صرها بحضرة الشهود، وختم عليها بخاتمه، ثم رفعها عن نفسه، فوجدت كذلك بعد موته، إنها جائزة ماضية لابنه، وإن لم يختم عليها الشهود، ولو ختموا عليها كان أحرى وأحسن. وهو قول ابن الماجشون، وابن نافع، والمدنيين، ومثله في الموطأ لمالك، وهو قوله فيه: إنه من نحل ابنا له صغيرا ذهبا أو ورقا ثم هلك وهو يليه إنه لا شيء للابن من ذلك، إلا أن يكون عزلها بعينها أو دفعها إلى رجل وضعها لابنه عنده، واللؤلؤ والزبرجد، بمنزلة الذهب والفضة في ذلك، إذ لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، والدين حكمه حكم العرض، فإذا وهب لابنه الصغير دينا له على رجل، ثم اقتضاه منه بعد ذلك فهو كما قال بمنزلة العرض، يتصدق به عليه ثم يبيعه بعد ذلك، إن الثمن يكون للابن في ماله في حياته وبعد وفاته، وجده أو لم يجده؛ لأن تنصيص العرض المتصدق به بالبيع كقبض الدين، وسواء باع العرض لابنه باسمه، أو جهل ذلك فلم يعلم أن كان باع لنفسه أو لابنه. وأما إن باع ذلك لنفسه نصا على سبيل الرجوع فيها والبيع لها فالبيع مردود، والصدقة جائزة. ويتبع المشتري الأب بالثمن في حياته وبعد وفاته وجده أو لم يجده؛ لأن الصدقة قد كانت حيزت للابن، ولو كانت الصدقة دارا يسكنها الأب فباع قبل أن يرحل عنها بنفسه استرجاعا لصدقته، واستخلاصا لفسخ البيع إن عثر عليه في حياته، ومضت الصدقة للابن، وإن لم يعثر على ذلك(13/359)
حتى مات الأب بطلت الصدقة، فلم يكن للابن فيها حق ولا في الثمن وصح البيع للمشتري. وبالله التوفيق.
[مسألة: أوصى لبني فلان مثل بني زهرة ومن يعرف ومن لا يعرف]
مسألة قال مالك: من قال: كذا وكذا من مالي صدقة على بني فلان مثل بني زهرة، ومنهم الغائب والحاضر، ومن يعرف ومن لا يعرف. قال: يقسم بين من كان منهم معروفا من حاضر أو غائب، فإن جاء أحد بعد ذك لم يكن عرف مكانه ردا عليه الآخرون قدر حصته.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن بني الرجل الذين أوصى بصدقة المال عليهم، يحاط بهم لغلتهم، فهم الذين يقسم عليهم المال بالسواء، حاضرهم وغائبهم، على هذه الرواية، وأحد قولي ابن القاسم في المدونة في الذي يوصي لإخوانه وأولادهم فإن جاء بعد ذلك أحد منهم لم يعرف رد عليه الآخرون قدر حصته كما قال، ومن مات منهم على هذه الرواية بعد موت الموصي، كان حقه لورثته، ومن ولد منهم بعد موته لم يكن فيها حق. وقد قيل: إن الوصية تقسم عليهم بالاجتهاد لا على السواء، فيكون لمن أدرك القسم منهم الأحق فيها لمن مات قبل ذلك أو جهل فلم يعرف، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة ورواية ابن وهب فيها. وأما إذا كان بنو فلان الذين أوصى لها لا يحاط بهم لكثرتهم مثل بني زهرة، وبني تميم فلا اختلاف في أنهم كالمساكين، يقسم ذلك بالاجتهاد على من أدرك القسم منهم، ولا شيء لمن غاب منهم إن أتى بعد ذلك، ففي قوله في هذه الرواية: مثل بني زهرة نظر؛ لأن بني زهرة لا يحاط بهم لكثرة عددهم، فينبغي أن يتأول على ما يصح، فيقال: إنه لم يرد مثل بني زهرة بن كلاب بزمرة الذي ينتسب الزهريون إليه؛ لأن عددهم كثير لا يحاط بهم،(13/360)
وإنما أراد مثل أن يقول بني فلانة لامرأة تسمى زهرة. وأما إذا أوصى لبني فلان، وسماهم بأسمائهم فلا اختلاف أنه يقسم عليهم بالسواء، حاضرهم وغائبهم. وإن غاب أحد منهم فينسى، ثم جاء رجع على كل واحد منهم حتى يستوفي حقه، فالوجهان متفق عليهما. والوجه الثالث مختلف فيه كما ذكرت لك. وبالله التوفيق.
[: وهب هبة للثواب فمات الموهوب له وبقي الواهب]
ومن كتاب أوله
حلف ألا يبع رجلا سلعة سماها قال مالك: ومن وهب هبة للثواب، فمات الموهوب له، وبقي الواهب يطلب حقه فذلك له ما لم يطل ذلك حتى يرى أنه قد تركه، وإن هلك الواهب فورثته على حقه، ما لم يطل ذلك حتى يرى أنه قد تركه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، فوجب أن يحل ورثة كل واحد من الواهب والموهوب له محله، ولا تبطل الهبة بموت الواهب، ولا حقه في الثواب؛ لأن ورثته يحلون محله في ذلك ما لم يطل، حتى يتبين أنهم قد تركوا الثواب، وكذلك أيضا إن مات الموهوب له وبقي الواهب، فهو على حقه في العوض قبل الورثة ما لم يطل ذلك أيضا حتى يرى أنه قد رضي بترك حقه في الثواب؛ لأنها هبة طريقها المكارمة لا المكايسة. وبالله التوفيق.
[مسألة: الأب يحوز لبنيه الصغار ما وهبه لهم]
مسألة وسئل عن رجل حلى صبيا له حليا فمات أبوه، فقال الورثة: نحن نأخذ هذا الحلي فنقتسمه ميراثا، قال مالك: لا أرى ذلك، وأراه للصبي دونهم ومثله الصبايا.(13/361)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الأب يحوز لبنيه الصغار ما وهبه لهم، وما حلاهم إياه من الحلي فقد وهبه لهم؛ لأنه بمنزلة ما كساهم من الثياب؛ لأنه مما يلبس كما يلبس الثياب. قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فهو محمول على الهبة، إلا أن يشهد الأب أنه لم يحلهم إياه إلا على سبيل الإمتاع. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابنه الصغير بالعبد ويشهد له عليه]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير بالعبد، ويكتب له بذلك كتابا، ويشهد له عليه، فيقيم العبد على ذلك ما شاء الله السنتين أو أكثر، ثم يتبع نفس السيد العبد فيشتريه من ابنه بثمن، ويشهد له على ذلك، ويقول: قد ابتعته بكذا وكذا فهي له عندي، ثم يموت الأب ويطلب ذلك الغلام الثمن، أتراه له على أبيه؟ فقال لي: ما أحرى مثل هذا إذا صح أن يجوز ذلك. وقال عيسى: قال لي ابن القاسم: وأنا أرى ذلك جائزا فقال سحنون مثله.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية إذا تبعت نفسه العبد الذي تصدق به على ابنه أن يشتريه منه كما قال في المدونة في الجارية، وهو في الجارية أعذر منه في العبد، إذ قد تعلق نفسه بها، فيتأذى بفراقها، فلو تصدق بالجارية على أجنبي ثم تبعتها نفسه، وتعلقت بها لما بعد أن يجوز شراؤه لها، والعبد بخلاف ذلك. فدلت هذه الرواية على أنه يجوز له أن يشتري ما تصدق به على ابنه، بخلاف الأجنبي، للشبهة التي له في مال ابنه. يقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» ألا ترى أنه قد جاز في(13/362)
رسم نذر سنة بعد هذا إذا تصدق على ابنه بالغنم أن يكتسي من صوفها ويأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ومثله لمالك أيضا في رسم شهد من سماع عيسى. قال في رسم نذر سنة: وإذا تصدق عليه في مال ابنه بالحائط فله أن يأكل من ثمره إذا أطعم. وقال في كتاب ابن المواز: إذا رضي ابنه بذلك، وكان كبيرا ممن يصح منه الرضا. قال ابن القاسم: ولم أره يراه مثل الأجنبي، يريد أنه لا يجوز في الأجنبي أن يشتري منه شيئا مما تصدق به عليه، ولا أن يأكل من غلته بغير شراء لنهي النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - المتصدق أن يعود في صدقته وأن يشتريها. وقال في الفرس: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه. واختلف هل يجوز أن يشتري من المتصدق عليه غلة ما تصدق به عليه؟ فقيل: إن ذلك جائز، قياسا على العرايا التي أجيز المعرى أن يشتري ما أعرى بخرصه إلى الجداد. وكره أشهب ذلك، وهو الصواب؛ لأن العرايا هي نفس ما أعرى فإنما جاز شراؤها للمعري للسنة القائمة فيها، ولأنها هبة ليست بصدقة، فلا يصح قياس شراء غلة الصدقة، على شراء ثمر العرية، ويجوز شراء غلة الصدقة من غير الذي تصدق به عليه دون خلاف أذكره في ذلك. واختلف هل يجوز شراء أصل الصدقة من غير الذي تصدق عليه ففي المدونة إن ذلك لا يجوز، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بذلك، وأما قوله في ثمن العبد الذي تصدق به على ابنه ثم اشتراه منه فمات ما(13/363)
أحراه أن يجوز إذا صح، فصحة ذلك تبين بأن يتصدق بالعبد عليه، ثم يشتريه منه بعد مدة، فيعلم أنه شراء صحيح بعد صدقة متقدمة؛ لأنه إن تصدق عليه بالعبد ثم اشتراه منه في فوره ذلك اتهم على أنه لم يتصدق عليه بالعبد، وإنما أراد أن يكتب له على نفسه دينا يأخذه بعد موته، فتحيل لجواز ذلك بإظهار الصدقة، ويحتاج أيضا إلى معرفة السدس للابن، كي لا يشتريه منه بأقل من قيمته؛ لأن الأمر فيما بينه وبينه، فهو فيه محمول على غير السداد، بخلاف ما بيع له ويشترى من غيره، وذلك بين من قول ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة من المدونة وفي رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح؛ لأنه شرط في شراء الأب لنفسه الرأس يساق إلى ابنته البكر في صداقها أن يكون الشراء صحيحا بينة وأمر معروف. وبالله التوفيق.
[: الرجل يعطى الشيء يوصل به يستحب له أخذه أم تركه]
ومن كتاب أوله شك في طوافه وسئل مالك عن الرجل يعطى الشيء يوصل به، يستحب له أخذه أم تركه؟ قال: بل تركه أفضل له إن كان عنه غنيا إلا أن يخشى الهلاك، ويكون محتاجا، فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن الأفضل له الأولى به أن لا يأخذه وأن يتركه إذا لم يكن إليه محتاجا لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا، قيل: ولا منك يا رسول الله. قال: ولا مني» .(13/364)
[: جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض مرضته]
ومن كتاب البز وسئل مالك عن امرأة جعلت خلخالين لها في سبيل الله إن شفاها الله من مرض مرضته، فبرأت فأرادت أن تحبسهما فتخرج قيمتهما فتجعلها في سبيل الله، فكره ذلك، وقال: لا أحبه. قال سحنون: إنما يكره هذا من أجل الرجوع في الصدقة.
قال محمد بن رشد: لمالك في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من كتاب النذور، فيمن قال لشيء من ماله، دابة أو عبدا أهديك، إنه مخير في ثمنه أو قيمته، فذهب بعض أهل النظر، إلى أن ذلك مخالف لهذه الرواية، ولما في المدونة من أنه إن أهدى عبده يخرج بثمنه هدايا؛ لأن الظاهر منه أنه لا يجوز له أن يمسكه، ويخرج قيمته من أجل الرجوع في الصدقة كما قال في هذه الرواية.
والذي أقول به: إنه لا اختلاف في شيء من ذلك، وإنما اختلف الجواب في ذلك لافتراق المعاني. فإذا أودى ما أهدى بعينه، أو جعل في السبيل ما ينتفع به فيه بعينه لم يجز أن يمسكه ويخرج قيمته، وإذا أهدى ما لا يهدى بعينه، وإنما سبيله أن يباع ويشترى بثمنه هدي، جاز أن يمسكه ويخرج قيمته، وإذا جعل في السبيل ما لا ينتفع بعينه فيه، وهو يمكنه أن يدفعه كما هو لمن يبيعه وينفقه في السبيل كره له أن يمسكه ويخرج قيمته من ناحية الرجوع في الصدقة، ولم ير ذلك حراما إذ ينتفع به الذي أعطيه في السبيل بعينه ولا بد له من بيعه.
[مسألة: يحمل الرجل على الفرس في سبيل الله فيستعيره منه فيركبه في حاجته]
مسألة وسئل عن الرجل يحمل الرجل على الفرس في سبيل الله، فيستعيره منه فيركبه في حاجته والشيء القريب، قال: لا أحب(13/365)
ذلك. وقال مالك: قد وهب ابن عمر ناقة له لابن ابنه: ابن وافد فأخذها وركبها فصرع عنها وقال: ما كنت لأصنع مثل هذا.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيمن تصدق في شيء أنه لا يجوز له أن يأكل شيئا من غلته، حسبما مضى القول فيه في رسم حلف. وأرى هذا أحق لأن ركوبه في الشيء الخفيف، لا ينقص منفعته شيئا في الجهاد، بل قد يكون ركوبه أنفع له من وقوفه، ولذلك قال: لا أحب ذلك، ولم يحرمه، بخلاف غلة ما تصدق به لأن الغرض في التصدق بما له غلة، الغلة لا ما سواها، وكراهية ابن عمر لركوبه الناقة التي وهبها لابن ابنه ابن وافد تورع منه؛ لأن النهي إنما جاء في الصدقة لا في الهبة، إلا أن تكون الهبة لفقير على وجه صلة الرحم، فيكون بمعنى الصدقة وبالله التوفيق.
[: ليس من شأن الذي يفرق الصدقة أن يجري الصدقة على أحد]
ومن كتاب أوله
الشجرة تطعم بطنين في السنة وسئل عن الرجل يلي صدقة يقسمها، فهو يعلم أهل بيت يتامى صغارا ولا يعلم غيرهم ما يعلم منهم من الحاجة أفترى أن يجري عليهم من ذلك ما يكفيهم؟ قال مالك: ليس من شأن الذي يفرق الصدقة أن يجري الصدقة على أحد، وليس هذا من أعمال الناس، فرددت عليه فكأنه لم يعجبه ذلك.
قال محمد بن رشد: كره ذلك لمخالفة ما جرى عليه عمل الناس. والمعنى في كراهة ذلك بين، وهو أنه إنما جعل إليه القسمة والتنفيذ، فلا ينبغي له أن يمسك عند نفسه من ذلك شيئا يجريه على أهل بيت يعرف حاجتهم، فيكون متعديا يلزمه ضمان ذلك إن تلف عنده، وبالله التوفيق.(13/366)
[مسألة: ولى ابنه حائطا اشتراه بثمن يسير وثمنه اليوم كثير أترى ذلك جائزا]
مسألة وسئل عن رجل ولى ابنه حائطا اشتراه منذ زمان بثمن يسير، وثمنه اليوم كثير وله ولد غيره، أترى ذلك جائزا؟ فقال: إن أجازه له فهو جائز.
ومن كتاب داود قال عيسى بن دينار: سئل ابن القاسم عن الرجل يبيع من ولده الصغير الأرض بعشرة دنانير وهي ثمن مائة دينار ولا تزال في يدي الأب حتى يموت، هل يحمل محمل البيع أو محمل الصدقة فيما زاد على ثمن العشرة دنانير؟ فقال: إن كانت لم تزل في يدي أبيه حتى مات فأراها موروثة، ولا أرى للولد إلا العشرة.
قال محمد بن رشد: قوله: وثمنه اليوم كثير يريد يوم التولية، لا يوم قيم على الابن فيه بعد موت الأب، ولو ولاه إياه يوم اشتراه، ثم زادت قيمته بعد ذلك لكانت تولية صحيحة، لا تفتقر إلى حيازة. وقول ابن القاسم في رواية عيسى عنه من كتاب داود خلاف قول مالك، إذ لا فرق بين التولية والبيع في أن ذلك يجوز إن كان بالقيمة، ولا يفتقر إلى حيازة، وفي أن ذلك لا يجوز إن كان بأقل من القيمة بمائتين فيه المحاباة، إلا أنهما اختلفا هل يحمل محمل الهبة؟ فيجوز إن جازها له الأب أو لا يحمل محمل الهبة فتبطل، ولا يصح له بحيازة الأب إذا لم يسمها هبة، وإنما أراد بذلك التوليج؟ فقال مالك: إنما تصح بحيازة الأب، وهو قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ في الواضحة، وقال ابن القاسم: إنها لا تصح له بحيازة الأب، وهو قول أصبغ في سماعه الواقع في آخر الكتاب بعد سماع أبي زيد، خلاف قوله وقول مطرف وابن الماجشون في الواضحة وقول مالك في هذه(13/367)
الرواية، فإذا لم يجز ذلك للابن إن لم يجزها له الأب على قول مالك، أو لم يجز له على قول ابن القاسم، وإن جازها له، فاختلف ما يكون للابن بالعشرة، فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إن الدار تكون موروثة، ولا تكون للولد إلا العشرة، ومعناه: إذا لم يجز الورثة ذلك. وقد قيل: إن الورثة إذا لم يجيزوا ذلك يكون الولد من الدار بقدر العشرة عشرها إن كانت قيمتها مائة، أو أقل من ذلك أو أكثر، على هذا المثال. وقد قيل: إذا لم يجز للورثة يخير المشتري إن كان مالكا الأمر نفسه، أو الناظر له إن كان صغيرا بين أن يزيد بقيمة الثمن ويأخذ جميع الدار، وبين أن يأخذ منها بما نقد. والثلاثة الأقوال تتخرج على الاختلاف في مسألة من باع في مرضه دارا لمحاباة لا يحملها ثلثه. وقد مضى بيان ذلك في سماع سحنون من كتاب الشفعة، وفي آخر سماع أبي زيد من كتاب المديان والتفليس. وعلى قياس ما في هذه الرواية لمالك وابن القاسم، قال ابن القاسم في سماع عيسى بن عاصم عنه، في الرجل يشهد في صحته أنه قد باع منزله هذا من امرأته أو ابنه أو وارثه بمال عظيم، ولم ير أحد من الشهود الثمن، ولم تزل الأرض بيد البائع إلى أن مات: إن البيع لا يجوز، إذ ليس ببيع، إنما هو توليج وخدعة، ووصية الوارث.
[مسألة: استوهب امرأتين له ميراثهما منه ففعلتا ووهبتا له ذلك]
مسألة وسئل عن رجل حضرته الوفاة، فاستوهب امرأتين له ميراثهما منه، ففعلتا ووهبتا له ذلك، فلم يقض فيه بشيء حتى مات، فلمن تراه أللورثة أم للمرأتين؟ قال: أراه للمرأتين مردود عليهما، وما يعجبني للرجل أن يفعل مثل هذا يسأل امرأته أن تهب له ميراثها.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك مثل ماله في الموطأ(13/368)
سواء، وهو بين في المعنى؛ لأنهما إذا وهبتاه ميراثهما منه الغرض فيه إنما هو أن يصرفه إلى من يحب من ورثتهم سواهما أو غيرهم إذ لا حاجة به إلى ميراثهما منه سوى ذلك، فإذا لم يقض فيه بشيء حتى مات كان مردودا عليهما كما قال، بمنزلة ما لو استأذن ورثته أن يوصي لبعض ورثته بأكثر من ثلثه، فأذنوا له بذلك، فلم يعمل حتى مات لم يلزمهم فيما أذنوا له فيه شيء.
وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات القول مستوفى في هبة الوارث ميراثه في مرض الموروث أو في صحته، وسيأتي ذلك أيضا في رسم نفذها من سماع عيسى من هذا الكتاب، وفي رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ منه إن شاء الله.
[مسألة: يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض، قال مالك: لا أرى ذلك جائزا قيل له: فالرجل يتصدق بالدار على بعض ولده دون بعض، وهو جل ماله، ويخرج منها ويدفعها إليه. قال: لا بأس بذلك، وغيره أحسن منه. قال سحنون: إذا كان تصدق جل ماله، واستبقى اليسير، فلم يكن فيما يستبقي من ماله ما يكفيه ردت صدقته، وإن أبقى من ماله ما فيه قوت له رأيته صدقة ماضية. قال ابن القاسم: وأنا أكره أن يعمل به أحد، فإن تصدق به وحيز منه وقبض لم يرد بقضاء، يريد الذي تصدق بماله كله.
قال محمد بن رشد: قول مالك في الذي يتصدق بماله كله على بعض ولده دون بعض: لا أرى ذلك جائزا معناه: ويرد بالقضاء، فهو ظاهر قوله، ولم يحقق ذلك من مذهبه في رسم الأقضية الثانية من سماع أشهب.(13/369)
فقال: إن ذلك: ليقال. ولقد قضى به في المدينة، وقول سحنون مفسر لقول مالك؛ لأنه إذا لم يستبق من ماله ما يكفيه فهو بمنزلة إذا تصدق بماله جميعه، ولم ير ابن القاسم إذا تصدق بجميع ماله على بعض ولده أن يرد ذلك بقضاء. والأصل في هذه المسألة حديث «النعمان بن بشير أن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم: أكل ولد نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فارتجعه» . فحمل مالك الأمر بالارتجاع في الحديث على الوجوب، وتأوله على أنه لم يكن له مال غيره، وحمله ابن القاسم على العموم، فيمن خص بعض بنيه ببعض ماله أو جميعه، وتأوله على الندب وهو أظهر؛ لأنه لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: إن ذلك لا يجوز لك، وإنما أمره بالارتجاع لما كره له من تفضيل بعض ولده على بعض، مخافة أن يكون ذلك سببا إلى أن يعقه من حرمه عطيته، وأما إذا أعطى بعض ولده دون بعض ماله، وإن كان جله، وأبقى لنفسه بعضه فلا اختلاف في المذهب، ولا بين فقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة في أن ذلك جائز، إلا أنه مكروه لما جاء من الأمر بين أن يعدل الرجل بين ولده في العطية، فقد ذكر بعض الرواة في الحديث «إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك» وذكر بعضهم فيه أنه قال له: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . قال: فرجع فرد عطيته، فليس في هذا الحديث أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره برد عطيته، وإنما فيه أنه فعل ذلك لما أمره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالعدل بين أولاده، وقد يحتمل أن يكون رد عطيته إياه امتثالا لما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ من ردها على ما جاء في حديث مالك، وفي بعض الآثار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:(13/370)
«أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور» . مكروه فترك الرجل العدل بين بنيه في عطيته إياهم جور مكروه غير حرام، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا يجوز لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض في العطية، فإن فعل لم ينفذ وفسخ، وهو قول طاوس، وروي مثله عن أحمد بن حنبل، وبه قال أهل الظاهر وحجتهم قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ " ارتجعه ". وقوله فاردده وقد اختلف في صفة عدل الرجل بين بنيه في العطية إذا كان فيهم ذكر وأنثى فقيل: على السواء، وإلى هذا ذهب ابن القصار، وهو قول داود، وأهل الظاهر، وسفيان الثوري وابن المبارك. قال: ألا ترى أنه قد روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «سووا بين أولادكم فلو كنت مؤثرا أحدا أثرت النساء على الرجال» . وبدليل ما جاء في الحديث من قوله «أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: فاعدل بينهم» . ولا يراد من الذكر من البر إلا ما يراد من الأنثى وقيل: العدل بينهم، أن يعطى للذكر مثل ما يعطى للأنثى قياسا على الميراث، وإلى هذا ذهب ابن شعبان، وهو مذهب جماعة من السلف، منهم عطاء وأحمد، وإسحاق، واختاره بعض المتأخرين، من أجل أن الثلث هو حظ الأنثى من ذلك المال لو بقي في يد الأب حتى يموت، فقد عجل قسمته بينهم. والله الموفق.(13/371)
[: يهب الهبة فيثاب منها ثم يقوم بعد ذلك فيقول ليس هذا ثواب هبتي]
ومن كتاب أوله
حلف بطلاق امرأته قال: وسئل مالك عن الذي يهب الهبة فيثاب منها، ثم يقوم بعد ذلك فيقول: ليس هذا ثواب هبتي فقال: لهذا وجوه. أما الذي يقال له: هذا ثوابك فأخذه فلا أرى له شيئا، وأما الرجل يبعث إلى الرجل بالذهب أو غير ذلك، لا يكون فيها قدر مثوبته ثم يقوم يطلب ذلك ويقول: لم توفني واستأنيت بك في ذلك، وظننت أنك إنما أردت أن تبعث بالشيء بعد فإن ذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله من الفرق بين أن يقول له: هذا ثوبك، فيأخذه ويذهب، ثم يأتي بعد ذلك يطلب منه زيادة في الثواب على ما أعطاه، وبين أن يبعث إليه بالشيء فيأخذه ثم يأتي فيطلب إلى زيادة على ما بعث إليه به، وهذا إذا كان الذي بعث به إليه، أقل من قيمة الهبة، وأما إن كان أقل من قيمتها أو أكثر، فلا كلام له على مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك، قائمة كانت الهبة أو فائتة. وأما على قول مطرف وروايته عن مالك، وظاهر قول عمر بن الخطاب في أن من حق الواهب أن يأخذ هبته ما لم يرض منها، فسواء كان الذي بعث إليه أقل من قيمتهما أو أكثر من قيمتهما له أن يأخذ هبته إن كانت قائمة، إلا أن يزيد على ما بعث به إليه ما يرضى به. وبالله التوفيق.
[: تصدق على ابن له صغير بمائة من غنمه ومائة دينار من ماله]
ومن كتاب أوله
طلق بن حبيب وسئل مالك عن رجل تصدق على ابن له صغير، بمائة من(13/372)
غنمه، ومائة دينار من ماله، فلم يفرز الغنم بأعيانها ولا الذهب، إلا أنه أشهد له بها وهو صغير في حجره يليه، قال: إن كان رسم الغنم أو عرفت بأعيانها، فأشهد له على غنم رأيتها جائزة، وإن لم يكن رسمها ولم يشهد على غنم بأعيانها لم أر له فيها صدقة وارثها كلها مال الوارث، والذهب كذلك لا أرى له فيها شيئا إلا أن يكون أفرزها له، وإلا فلا شيء له. وقال في معرفة الغنم بأعيانها: إن أهل البادية ليسمون الإبل والغنم، كما تسمى أهل مصر الخيل ينسبونها، فإن كان سماها وعرفت جازت وإلا لم أرها جائزة. قال ابن القاسم: فأما الدنانير فإنها لا تجوز وإن طبع عليها حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها عن ملكه وإلا لم تجز، وإن طبع عليها وهي في ملكه حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها عن ملكه، وكذلك قال لي مالك في الدنانير.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا في الذي تصدق على ابنه الصغير بعده من غنمه أو خيله، إن حيازتها له لا تجوز، إلا أن يعينها باسم أو اسمه، بخلاف الجزء المشاع، هو الذي رجع إليه. وقد كان أولا يرى حيازته إياها له جائزة، وإن لم يسمها ولا وسمها ولا قسمها كالجزء المشاع؛ لأن الحكم يوجب له الشركة فيها بما يقع العدد المتصدق به من جميعها. وقع اختلاف قول مالك في ذلك في رسم البيوع من سماع أصبغ، وأصبغ لا يجيز حيازته له في الجزء المشاع، إلا في العدد المسمى دون أن يعين في ثلاثة أقوال في المسألة.
وقد مضى بيان ذلك في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس. وأما قوله في الذهب: إنه لا شيء لابن فيها إلا أن يكون أفرزها له، فهو خلاف قول ابن القاسم بعد ذلك، وروايته عنه أنها لا تجوز، وإن طبع عليها حتى يدفعها إلى غيره، ويخرجها من ملكه، مثل قوله في الموطأ ومثل(13/373)
رواية مطرف عنه وقول ابن الماجشون، وابن نافع، والمدنيين، حسبما مضى بيناه في أول رسم من السماع وبالله التوفيق.
[مسألة: حضرتها الوفاة فتصدقت بمهر كان لها على زوجها]
مسألة وسئل مالك عن مالك امرأة حضرتها الوفاة فتصدقت بمهر كان لها على زوجها على ولد لزوجها من غيرها، هل ترى ذلك يجوز؟ قال: نعم، إنما هو كغيره من مالها، يجوز لها ذلك، فقيل له: إن قوما يقولون: إنما هو توليج، قال: لا ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة مع نظائر لها كثيرة، كالرجل يوصي لأم ولده، ولد منها وولد من غيرها، أو المرأة توصي لابن زوجها ولأبويه أو لإخوته أو لأخواته، أو لقرابته، أو لإخوانه المصافين له ممن يخشى أن يكون إنما أوصت إليه ليرد ذلك على زوجها، فقال في ذلك كله: إن الوصية جائزة، ولا ترد الوصايا بالظن. قال أصبغ: وإن طلب الورثة أن يحلفوا الموصى له إن الوصية إليه، لم يكن توليجا ليرد ذلك على زوجها لم يكن ذلك لهم، واليمين في هذا يمين تهمته، فقول أصبغ: إنه لا يمين عليه، هو على القول بأن يمين التهمة لا يلحق دون تحقيق الدعوى ولو حققوا الدعوى عليه للحقته اليمين، قولا واحدا.
[مسألة: وهبت لابن لها ولابنة لها صغيرين عشرة دنانير]
مسألة وسئل مالك عن امرأة وهبت لابن لها ولابنة لها صغيرين عشرة دنانير، فتاجر لهما فيها أبوهما وأراد سفرا، أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا ويكتبها لهما في وصية؟ قال: بل أرى أن يكتب لهما بذلك كتابا ويصفها من سبب ما كانت وكيف كانت قصتها. قيل له: إن قوما قالوا: لا يجوز ذلك قال: بل فليكتب لهما كتابا على ما قلت.(13/374)
قال محمد بن رشد: قوله: فتاجر لهما فيها أبوهما، معناه: فصارت بربحها أكثر من عشر دنانير وقوله: أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا أو يكتبها لهما في وصية، معناه: أفترى أن يكتب لهما بذلك كتابا يدفعه إليهما تكون وثيقة بأيديهما أو يجتزئ في ذلك بأن يكتب ذلك لهما في وصية علي سبيل الإقرار لهما بالدين، لا على سبيل العطية والوصية؟ فرأى الأحسن الأمر أن يكتب لهما بذلك كتابا يكون بأيديهما وثيقة لهما، يقومان في حياته إذا بلغا إن شاء؛ لأنه إن كتب ذلك لهما في وصيته، وأشهد عليها وأبقاها عند نفسه، كان آمنا من أن يقوما عليه في ذلك في حياته، فيضعف إقراره لهما بذلك، إذ قد قيل: إن من أقر لوارثه بدين في صحته، فلم يقم به عليه حتى مات: إنه باطل؛ لأنه يتهم أن يكون أقر له بدين يأخذه بعد موته من رأس ماله، وحكم لإقراره لهما بالدين عند إرادته السفر، بحكم الصحة. وقد اختلف في ذلك. حكم له ابن القاسم في رسم نذر سنة من سماعه من كتاب الوصايا بحكم المرض، وروى ذلك عن مالك، وخالفه أصبغ فحكم به بحكم الصحة، ورواه عن ابن وهب: ولابن القاسم مثل ذلك في سماع عبد الملك من كتاب الوصايا فعلى القول بأنه يحكم للسفر بحكم المرض، إن كتب لها بذلك كتابا فمات في سفره ذلك لم يكن لهما شيء مما كتبه لهما. وبالله التوفيق.
[مسألة: إطعام الطعام أهو أفضل أم الصدقة]
مسألة وسئل مالك عن إطعام الطعام أهو أفضل، أم الصدقة بالدراهم؟ فقال: كل ذلك حسن، ولم أره يفضل أحدهما على صاحبه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إنه لا يفضل أحدهما على صاحبه في الجملة، إذ قد يكون كل واحد منهما أفضل من صاحبه، باختلاف أحوال الأعيان والأزمان، فإذا علم أن الرجل غير محتاج إلى الطعام ومحتاج(13/375)
إلى ما سوى ذلك، من كسوة وغيرها، فالصدقة عليه بالدراهم أفضل، وإذا علمت أنه محتاج إلى الطعام فستغنى في ذلك الوقت عما سواه، فإطعامه الطعام أفضل، وإذا لم يعلم إلى أيهما هو أحوج لم يفضل أحد الوجهين في حقه على الآخر كما قال مالك، فهذا هو الوجه الذي تكلم عليه والله أعلم. فإن وافق في غيب الأمر الوجه الذي هو إليه أحوج كان أجره فيه أعظم، وإن لم يعلم هو ذلك، وإن كان من الشدة والمسغبة فإطعام الطعام فيه أفضل، وإذا كان زمن الرخاء والسعة، فالتصدق فيه بالدرهم أفضل. وبالله التوفيق.
[مسألة: يمرض فيجعل لله عليه الشيء يتصدق به إن شفاه الله]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يمرض فيجعل لله عليه الشيء يتصدق به إن شفاه الله، فيعافى وله أقارب وموالي محتاجون، أفترى أن يعطيهم مثل ما يعطي غيرهم؟ قال: أرى أن يعطيهم ويقل لهم، ويعطي غيرهم أكثر، وإني إنما أخاف ذلك خوفا أن يجهر له، وليستتر بذلك، فإن السر ليس كغيره. وهذا إذا أعطاهم لا أحب ذلك بموضع الحب والثناء وغيره ممن لا يستتر به لا يعرفه، فالسر أعجب إلي، قيل له: أفلا ترى أن يعطيهم؟ قال: أرى ألا يكثر لهم، وليستتر بذلك ما استطاع. ولقد رأيت رجلا من أهل مصر، وهو يسأل ربيعة عن ذلك ويقول: إني لا أحب أن أرى رائحا إلى المسجد، فكأنه أنكر ذلك من قوله، ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير. وقلت له: وما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر؟ قال: ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في بيته من النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته، حتى لا يبالي مما أحسنه إن أحب، والسر أفضل من ذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271](13/376)
وفي الحديث: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة وأفضل الصدقة صدقة السر» .
محمد بن رشد: قوله في الذي نذر الصدقة؛ لأنه يؤثر قرابته ومواليه بها، وإن كانوا محتاجين على سواهم، بل يؤثر سواهم عليهم، ولا يكثر لهم في العطية، مخافة ما يدخله من الحمد والثناء، ويستمر بذلك ما استطاع هو نحو قوله في المدونة في الزكاة: إنه يكون له أن يعطيها لقرابته، وأن يلبي هو دفعها إليهم بوضع الحمد والثناء، فهو يكره ذلك لهذا الوجه، أو لئلا يقطع بذلك عنهم ما كانوا يرجون له من الصلة التي عودهم إياها. وقد روي عن مالك إجازة ذلك، وقال به جماعة من أهل العلم إذا لم يكونوا في نفقته، فإن كانوا في نفقته فلا يعطيهم، فإن فعل أجزأه، إذا لم يقطع بذلك نفقة عنهم عن نفسه فإن قطع بذلك نفقتهم عن نفسه، لم تجزه زكاته؛ لأنه قد انتفع بها فيما أسقط عن نفسه من نفقتهم بسببها، وإن لم تكن واجبة عليه وكراهية ربيعة للرجل أن يحب أن يرى في شيء من أعمال الناس البر، خلاف قول مالك في رسم العقول من سماع أشهب، من كتاب الصلاة: إنه لا بأس بذلك إذا كان أوله لله، وهو الصحيح إن شاء الله لأنه مما لا يستطاع التخلص منه. والدليل على إجازة ذلك إن شاء الله ما روي عن معاذ بن جبل أنه قال: «يا رسول الله، إنه ليس من بني سلمة إلا مقاتل، فمنهم من يقاتل طبيعته، ومنهم من يقاتل رياء ومنهم من يقاتل احتسابا فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة؟ فقال: يا(13/377)
معاذ، من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة» وهذا نص في موضع الخلاف. وأما قوله في التهجير إلى المسجد قبل الظهر ما زال الصالحون يهجرون، وإن صلاة الرجل في بيته النافلة أفضل منها في جماعة الناس، وهو أعلم بنيته إن صحت في ذلك نيته حتى لا يبالي مما أحسنه إن أحب، فالمعنى في ذلك أنه في النهار قد يشتغل باله في صلاته في بيته بينه وبين أهله، فيكون باله في المسجد أفرغ فإذا هجر قبل الظهر إلى المسجد ليصلي فيه متفرغ البال، لا يرى مكانه فيه، يحمد بذلك، ويثنى عليه من أجله، فهو حسن كما قال، ولذلك كان الصالحون يفعلونه، وأما في الليل، ففي البيت أفضل؛ لأنه لفعله أستر، وباله فيه فارغ بهذا وأهله وبنوه في النوم.
[: ورثت من ابنة لها سدس دار لها وأنها تصدقت به على ابن ابنها]
ومن كتاب أوله
أخذ يشرب خمرا قال: وسئل مالك عن امرأة ورثت من ابنة لها سدس دار لها وأنها تصدقت به على ابن ابنها وهي مريضة، وأن ابنا لها أشهد أني لا أجيز ذلك، وإنما يمنعني أن أكلمها في ذلك، كراهية سخطها وأن ابنها قاسم عمه المنزل، وجاوره وأدركه قبله فضلا وأخذه منه، ولم تزل المرأة ساكنة في المسكن حتى ماتت، إلا أن ابن ابنها قد جاور عمه ورد إليه فضل ما أصاب، وكانت تلك الصدقة جل ما تركت، أو لم تترك شيئا غيرها، ولا مال لها فيخرج في ثلثها. قال مالك: أراها جائزة قد جاور عمه وقاسمه وأخذ منه(13/378)
فضلا، فلا أرى هذا إلا إذنا منه، فقيل: إنه قد أشهد في ذلك، إنما يترك الكلام خوفا من سخط أمه، فقال: ما أرى في ذلك ينفعه، فقيل له: إنها لم تزل ساكنة فيه، قال: وإن أليس قد جاوز؟ قال: بلى. قال: فقد جاز ذلك، يقاسم ويأخذ الفضل ويمنعها الوصية، حتى إذا ماتت، قال: أريد أن أرده، قال: ما أرى ذلك له، ولو أنها علمت به أن يرده لأوصت في ثلث، ولكنه قد سلم حين جاوز وقاسم، وأخذ الفضل وإن لم يتكلم فأراها جائزة لابن ابنها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، قد ذكر مالك وجه قوله فيها بما يزيد عليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: جعل لرجل جعلا على أن يرقى الجبل]
مسألة وسئل عن رجل لقي رجلا فقال: إنه بلغني أنك شتمتني، فقال: ما فعلت، قال: فاحلف لي ولك كذا وكذا هبة وكرامة مني فحلف له، أترى أن الهبة تلزمه؟ قال: نعم أرى ذلك يلزمه.
قال محمد بن رشد: حكى ابن حبيب في الواضحة عن أصبغ، أنه ترك قول ابن القاسم في إجازة الجعل فيها، لا منفعة فيه للجاعل، وقال: يقول ابن الماجشون: إن ذلك لا يجوز، وقد أجازه ابن عمر. وروي له أنه يسأل عن رجل جعل لرجل جعلا على أن يرقى الجبل إلى موضع سما فيه فأجازه، قال أصبغ: ومن الدليل على جوازه أن مالكا قد أجاز الجعل في الرجل يقول للرجل: احلف لي أنك لم تشتمني ولك كذا وكذا فيحلف، فيلزمه مالك غرم ما جعل له على ذلك، وليس ذلك عندي بين؛ لأن له فيه منفعة، وهو تطيب نفسه من جهته من جنته وتحسين ظنه به، حتى(13/379)
لا يعتقد له سوءا ولا مكروها، فيأثم في اعتقاده ذلك فيه، وكذلك قوله في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع: ولني بيع دارك، ولك كذا وكذا له في ذلك منفعة، وهو غرضه في أن يشتري الدار إلى من يحب بما سمى له من الثمن، وأما قوله في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح في الذي يقول للرجل: ولني نكاح وليتك، ولك كذا وكذا: إنه لا يجوز، فإنما لم يجز ذلك من أجل أن لصاحب المولية أن يعزله عما جعل إليه من ذلك، فدخله الغرز وقد بسطنا القول في ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق بمال وبدار له على بنات له ثلاثة]
مسألة وسئل عمن تصدق بمال له، وبدار له على بنات له ثلاثة، فإذا انقرضن فهي صدقة على بني ابن له، وعلى عقبهم، فانقرض بنو ابنه وعقبهم وهلك ابنتان ممن تصدق عليهن وبقيت واحدة، وكان في صدقته أن من تزوج من بناته فنصيبها رد على أختها، فإن روتها رادة فهي على نصيبها فانقرضوا كلهم بنو البنين وأعقابهم، والبنات إلا واحدة، وهي متزوجة، والمال ذو غلة، فكيف ترى أن يعمل فيه؟ أنفقة أم ماذا يصنع فيه؟ وللمتصدق ابنتان له، لم يكن أدخلهما في صدقته، قال: أرى أن تقسم الغلة على ذوي قرابته من ابنتيه وغيرهما وعلى المساكين، فقيل له: فإن انقرضت ابنته المتزوجة، فما إذًا ترى فيه؟ أترجع ميراثا ولم يجعل مرجعها إلى أحد، وإنما هي صدقة موقوفة؟ قال: لا أرى أن ترجع ميراثا، ولكن ترجع على من قلت لك، يتصدق بغلتها على ذوي قرابته وعلى المساكين ما بقيت.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إذا لم يبق من المحبس(13/380)
عليهم إلا امرأة واحدة متزوجة، وقد كان شرط المحبس أن من تزوج منهن فلا حق لها إلا أن تردها رادة، إن الغلة تكون ما دامت متزوجة للذي إليه مرجع الحبس، فقوله: إن الغلة تقسم على ذوي قرابته من ابنتيه وغيرهما وعلى المساكين، يريد: أن ما فضل من ابنتيه اللتين هما أقرب الناس إليه كان لذوي قرابته، وما فضل عن ذوي قرابته كان للمساكين؛ لأن هذا هو حكم المرجع أن يكون إلى الأقرب فالأقرب من المحبس بمعنى الصدقة، فما فضل عن الأقرباء كان للمساكين كما لو لم يكن له قريب أصلا لكان مرجعه إلى المساكين، وإنما بدئ أقرب المحبس على المساكين من غيرهم، «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي طلحة " بخ بخ ذلك مال رابح» وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن يجعله في الأقربين لأنه دل بهذا على أن الصدقة على الأقربين، أفضل من الصدقة على الأجنبين، فوجب أن يصرف صدقة الرجل المحبسة إذا لم يجعل لها مرجع، على الذي هو أفضل له.
وقد مضى بيان هذه المسألة بجميع وجوهها وما فيها من الاختلاف في رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب الحبس.
[مسألة: يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا، ولا يذكر لهم مرجوعا إلا صدقة هكذا، لا شرط فيها، يهلك الرجل وولده قال: أرى أن يرجع حبسا لا يباع على أقاربه، وفي المساكين ولا يورث، قال سحنون: إن كان ولد المحبس عليه ناسا بأعيانهم، فإنما يرجع إليه إن كان حيا أورث ورثته ميراثا إن كان ميتا، وإن كان ولده ليسوا بأعيانهم وإنما قال له: حبسا عليك وعلى ولدك ما عاشوا فيها هنا يرجع حبسا.(13/381)
قال محمد بن رشد: قوله في الذي يتصدق بداره على الرجل وولده ما عاشوا، يريد: وهم غير معنيين، ولا يذكر لها مرجعا أنها ترجع بمرجع الأحباس على أقاربه، وفي المساكين يريد على الترتيب، حسبما ذكرناه في المسألة التي فوقها لا على التشريك، ولا اختلاف في هذه المسألة أنها ترجع بمرجع الأحباس، لقوله فيها ما عاشوا، ولو لم يقل فيها ما عاشوا، لكانت لآخر العقب ملكا على ما سيأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب. وقد قيل: إنها ترجع بمرجع الأحباس وهو قول بعض رجال مالك في المدونة وقال ابن عبدوس: إنه قول أكثر أصحاب مالك ولو قال: حبس على ولدي ولم يقل ما عاشوا لرجعت بمرجع الأحباس قولا واحدا، وكذلك لو قال: ما عاشوا، إلا عند مطرف، فإنه قال: إذا قال: ما عاشوا رجعت إليه ملكا.
وقول سحنون: إن كان ولد المحبس عليه ناسا بأعيانهم، فإنها ترجع إليه إن كان حيا أو إلى ورثته ميراثا إن كان ميتا، يريد: على أحد قولي مالك في المدونة إلا أن يقول ما عاشوا، فقال محمد بن المواز: إنها تخرج من الاختلاف، وترجع إليه ملكا على قولي مالك جميعا.
وقد مضى القول على هذا محصلا في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس. ولو قال صدقة عليهم وهم معينون لكانت لجميعهم ملكا مطلقا على الاشتراك والإشاعة، إلا أن يقول ما عاشوا فترجع إليه بعد انقراضهم ملكا وبالله التوفيق.
[: يقول هذه الدار صدقة عليك وعلى ولدك]
ومن كتاب أوله
يسلف في المتاع والحيوان وسئل عن الرجل يقول: هذه الدار صدقة عليك وعلى ولدك، قال: هي ميراث للذي تصدق بها، وعلى ولده. قال ابن(13/382)
القاسم: هي بمنزلة لو اشتروها هي بينهم يرثها عنهم ورثتهم، وإذا قال: صدقة حبسا على فلان وولده رجعت حبسا إلى أقرب الناس بالذي حبس من ذوي قرابته وعصبته إذا قال: صدقة حبسا.
قال محمد بن رشد: الولد يقع على ولد الصلب وعلى كل من يرجع نسبته إليه من ولد الولد، وإن سلفوا، فإذا حبس الرجل حبسا على ولد رجل دخل فيه ولده وولد ولده ما سفلوا؛ لأنه قد علم أن التحبيس يراد به مجهول من يأتي، وكذلك إذا قال حبسا صدقة، فإذا انقرضوا رجعت حبسا إلى أقرب الناس بالحبس. قال في هذه الرواية من ذوي قرابته أو عصبته، يريد: قرابته الذين هم من حرم نسبه، وإن كن نساء لسن بعصبة يرثن كالبنات، وبنات البنين، والأخوات، أو لا يرثن، كالعمات وبنات الأخ، وبنات العم وما أشبههن، وقد قيل: إن الحبس لا يرجع إلى النساء بحال كن يرثن أو لا يرثن. وقيل: لا يرجع إلا لمن يرث منهن. واختلف أيضا في الأمهات والجدات حسبما مضى القول في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس. وأما العصبة من الرجال فلا اختلاف في أن الحبس يرجع إليهم. وأما إذا تصدق الرجل بدار على ولد رجل، أو على رجل وولده فهي صدقة مبتولة، لكل من كان منهم حيا مولودا يوم تصدق على السواء بينهم، يرثها عنهم ورثتهم، بمنزلة ما لو اشتروها كما قال؛ لأن الصدقة لا يراد بها مجهول من يأتي فحمل من كان حيا مولودا يوم الصدقة، بمنزلة ما لو سماهم، فقال: داري صدقة على فلان، وولد فلان وفلان وفلان، ولا اختلاف في هذا، إذا كان ولد الرجل يعرف أعيانهم وعدتهم، وأما إن كانوا لا تعرف أعيانهم وأعدادهم إلا بعد الإحصاء والبحث. فقيل: إنهم كالمعينين، تكون الدار صدقة عليهم بالسواء، وقيل: إنهم بخلاف المعينين، إن كانت الصدقة مالا قسم عليهم بالاجتهاد، وإن كانت دارا سكنها الأحوج إليها منهم فالأحوج، أو بيعت فقسم ثمنها عليهم بالاجتهاد، ومن مات منهم قبل القسم لم يكن له(13/383)
شيء، وينفرد الباقي منهم. والقولان في الوصايا الثاني من المدونة، في الذي يوصي لأخواله وأولادهم.
واختلف في الرجل إذا تصدق بداره على ولده وولد ولده، أو على رجل وولده وولد ولده، ولم يقل حبسا، فقيل: إنها تكون لآخر العقب ملكا، وهو قول مالك في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب بعد هذا، وفي المدونة لبعض رجال مالك، إنها صدقة موقوفة، ترجع إلى أقرب الناس بالحبس بعد انقراض العقب. ومثله حكى ابن عبدوس عن أكثر أصحاب مالك وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له صغير بصدقة فكبر الغلام ثم مات أبوه]
مسألة وسئل مالك عن الرجل يتصدق على ابن له صغير بصدقة، ويكتب له بها كتابا وتكون الصدقة في يد أبيه حتى كبر الغلام واحتلم، وبلغ مبلغ الرجال، ثم مات أبوه قال مالك: أرى ذلك يختلف إن كان حين مات أبوه رجلا قد احتك ورضي له حاله، ومثله يجوز لنفسه، فأراها للورثة، وإن كان بحال السفه، وإن كان كبيرا، ليس مثله يلي نفسه في ماله وسفهه، رأيت ذلك جائزا ورأيت أن يدع ذلك إلى السلطان يطلبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين لا اختلاف فيه إن الصدقة باطلة إذا كان معلوما بالرشد، وإنها جائزة له إن كان معلوما بالسفه، وإنما الاختلاف على ما يحمل عليه إذا جهلت حاله، فالمشهور أنه محمول على السفه حتى يعلم رشده. وقد قيل: إنه محمول على الرشد حتى يعلم سفهه.
وقد مضى هذا القول مستوفى في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس فلا معنى لإعادته.(13/384)
[مسألة: الدار يتصدق بها الرجل على الرجل]
مسألة وسئل مالك: عن الدار يتصدق بها الرجل على الرجل، أو يحبسها عليه، ويتكارها منه؟ قال: لا خير فيه، ولا أرى أن يجوز ذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو تصدق بها عليه ثم تكاراها منه بعد ذلك، لم يكن ذلك جائزا له؟ قال: إن جاء من ذلك شيئا بينا رأيت ذلك جائزا إذا كان قد حازها الذي تصدق بها عليه، ثم تكاراها الآخر بعد ذلك، بعد أن ينقطع بها الذي تصدق بها عليه انقطاعا بينا.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه في المذهب، إنه إذا تصدق على الرجل بالدار، أو حبسها عليه، وتمادى على سكناها أو عاد إليها عن قرب، باكتراء أو عارية أو إرفاق، حتى مات فيها، فالصدقة أو الحبس فيها باطل. وأما إذا رجع إليها بالسكنى بكراء أو إرفاق بعد أن انقطع لها بالحيازة دونه، انقطاعا بينا، السنة فيما زاد، فلا يبطل ذلك حيازته، وهذا في الأجنبي أو الولد الكبير الذي يحوز لنفسه، فأما الولد الصغير الذي يحوز له أبوه، فتبطل الصدقة برجوع الأب إلى سكنى الدار التي تصدق بها، وإن كان ذلك بعد المدة الطويلة. قال ذلك محمد بن المواز في كتابه، وهو بيّن من قول ابن القاسم، في رسم أوصى من سماع عيسى بعد هذا، فهو بين قوله حيثما وقع روايته عن مالك، وكذلك الرهن يبطل الحيازة فيه برجوعه إلى يد المرتهن، وإن كان ذلك بعد أن انقطع المرتهن بحيازته إياه انقطاعا بينا؛ لأن الحوز في الرهن آكد منه في الصدقة والحبس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وبالله التوفيق.(13/385)
[: العطية من بيت المال]
ومن كتاب
تأخير صلاة العشاء قال ابن القاسم: وقال مالك: كان رجال ببلدنا هذا من أهل الفضل والعبادة، يردون العطية يعطونها، حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه، يعني بذلك إن كان يرى أن له عنها غنى.
قال محمد بن رشد: يريد بالعطية التي كانوا يردونها ولا يقبلونها العطية من بيت المال. والله أعلم.
وفي قوله: حتى إن كان بعضهم ليؤامر نفسه - نظر؛ لأن الذي يرد العطية ولا يؤامر نفسه في ذلك، أزهد فيها من الذي يؤامر نفسه في أخذها أو ردها، و"حتى" غاية تدل على أنه أراد منهم من يرى في الزهادة والعبادة، على الذين يردونها ولا يقبلونها، فكان وجه الكلام أن يقول: حتى إن كان بعضهم لما يؤامر نفسه في قبولها فيردها، وإن كان يرى أنه لا غنى به عنها، وردهم إياها يحتمل أن يكون زهادة فيها مع جواز أخذها لهم، لا كراهية فيه، إذا كان المجبى حلالا وقسم بوجه الاجتهاد، دون أثرة ولا محاباة، وهذا نهاية في الزهد والفضل؛ لأنه يترك حقه الجائز به أخذه ويؤثر به غيره ممن يعطاه، وإن كانت به حاجة إليه. من الصنف الذين أثنى الله تعالى عليهم في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] .
وإن كان المجبى حلالا ولم يعدل في قسمته فمن أهل العلم من يكره الأخذ منه، وأكثرهم يجيزه، وأما إن كان المجبى يشوبه حلال وحرام، فمن أهل العلم من يجيز الأخذ منه، وأكثرهم يكرهه، وأما إن كان المجبى حراما فمن أهل العلم(13/386)
من حرم الأخذ منه، وَرُوِيَ ذلك عن مالك، ومنهم من أجازه، ومنهم من كرهه وهم الأكثر.
وقد مضى في آخر سماع سحنون من كتاب الشهادات، القول في هذا المعنى مستوفى، ومضى في رسم شك في طوافه قبل هذا، استجاب ترك الرجل قبول ما وصل به. وبالله التوفيق.
[مسألة: السائل يقف بالباب فيأمر له بدرهم فيجده قد انصرف]
مسألة وسئل مالك: عن السائل يقف بالباب، فيأمر له بدرهم، فيجده قد انصرف، أترى أن يسترجعه؟ قال: لا، ولكن يتصدق به، قيل له: فالكسوة، قال: كذلك يتصدق بها.
قال محمد بن رشد: زاد في هذه المسألة في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وليس ذلك عليه بواجب، فهو يبين قوله في هذه الرواية، ومثله الرجل يلقاه الرجل من إخوانه أو أقاربه، فيسأله أن يصله، فيبعده بذلك، ثم لا يجده، أو الأجنبي يلقاه الرجل، فيسأله، فيبعده، ثم لا يجده، إلا أن أخفها الذي يعد الرجل من إخوانه أو أقاربه، ويليها الرجل الذي يعد الرجل الأجنبي، ويليها الذي يأمر للسائل بشيء دون عدة، فلا يوجد، وأشدها كلها ما قاله ابن أبي زيد أن يخرج بالصدقة إلى السائل، قال: يقبلها.
وقد مضى الكلام على ذلك في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له بدار غائبة فلا يقبضها حتى يموت أبوه]
مسألة وسئل مالك: عن الرجل يتصدق على ابن له حاضر معه بدار له(13/387)
غائبة عنه ببلاد غير بلاده، فلا يقبضها ابنه حتى يموت أبوه، أتراها له؟ قال: إن كان صغيرا أيحوز له ويليه، فإني أرى له ذلك، وإن كان كبيرا فإني لا أرى له، فقلت له: فإنه لم يفرط في الخروج، لعله كان يريد الخروج حتى مات أبوه، وقال: وكذلك أيضا لو كان غيره ممن ليس هو مثله في القرابة. وقد قال عمر بن الخطاب: إن لم يحزها فهي على الوارث، فإني أرى إن لم يحزها فهي للورثة.
قال محمد بن رشد: الدار على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها في الحيازة بخلاف الأرض؛ لأن لها حيازة، تحاز بها، فإن كانت حاضرة، فحازها الموهوب له بالقبض لها والعقد عليها، وإن لم يسكنها فهي حيازة، وإن لم يفعل ذلك حتى مات الواهب بطلت الهبة، ولا خلاف في هذا.
وأما إن كانت غائبة، فاختلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: الحيازة لا تكون فيها عاملة، إلا أن يخرج إليها فيحوزها بالقبض لها والقفل عليها قبل أن يموت الواهب، فإن مات الواهب قبل ذلك، بطلت الهبة، وإن كان الموهوب له لم يفرط في الخروج أو التوكيل وهو قوله في المدونة، وفي هذه الرواية، ومثله في كتاب ابن المواز.
والثاني: قول أشهب: إنه لم يفرط في الخروج والقبض، ولعله قد تهيأ لذلك، أو وكل فلم يخرج حتى مات الأب، فهي جائزة وإن أمكنته الحيازة ففرط حتى مات، فهي باطل.
والثالث: إنه لم يفرط فخرج قبل أن يموت الواهب، فهي حيازة وإن لم يدرك قبضها في حياته، فقبضها بعد وفاته ولا اختلاف في أنه إذا فرط في الخروج، فمات الواهب قبل أن يخرج، أو خرج قبل أن يموت، فلم يدرك أن يقبض حتى مات، من أجل أنه فرط في الخروج، فهي باطل.
وأما الأرض، فإن تصدق بها في أوان يمكن حيازتها بحرث أو زراعة أو كراء، وما أشبه ذلك، كالدار سواء إن كانت حاضرة، فلم يحزها بشيء(13/388)
من ذلك حتى مات المتصدق، فهي باطل، وإن كانت غائبة، فعلى الاختلاف الذي ذكرته في الدار الغائبة. وأما إن تصدق بها في أوان لا يمكنه حيازتها بحرث ولا عمل ولا كراء، فالإشهاد على الصدقة وقبول المتصدق عليه حيازة إن مات المتصدق بها قبل أوان حيازتها. وقال مطرف وأصبغ: وإن جددها الشهود وأوقفهم عليها فذلك أقوى للحيازة، وإن جددها في كتاب الصدقة، ولم يقف عليها الشهود، فذلك أيضا حوز، وهو دون الأول. وإن لم يمت المتصدق حوزها فلم يحزها بالحرث والعمل حتى يموت المتصدق فهي باطل. وفرق ابن القاسم في الحيازة بين الدار الغائبة والدار التي لا يمكن حيازتها، فقال في الدار: إن الصدقة باطل، إلا أن يخرج إليها فيحوزها بالقبض لها قبل موت المتصدق، ولم يغدره بمغيبها ... وعدم في الحال على حيازتها.
وقال في رسم الأرض: إنه إن مات المتصدق بها قبل إمكان حيازتها، اكتفى بالإشهاد فيها ولم تبطل الصدقة بها.... في الحال على حيازتها، ولا فرق بينهما في المعنى، فهو اختلاف من قوله، وقد رأيت ذلك لابن زرب، وأما إن تصدق بالأرض وهي غائبة قبل إبان حيازتها، فلا يضره التراخي في الخروج إلى حيازتها إذا خرج بعد ذلك في وقت يصل قرب إمكان حيازتها بالحرث؛ لأنه لو وصل قبل إمكان حيازتها لاكتفى في حيازتها بالقول، ما لم يأت إبان حيازتها على أصله المتهدم. وهذا كله فيمن يحوز لنفسه ولو كبيرا أو أجنبي، وأما الولد الصغير فحيازة أبيه له حيازة في كل حال، وبالله التوفيق.(13/389)
[: اشترى لابنه غلاما وكتب له كتابا بذلك فمات الأب بعد ذلك بسنة]
ومن كتاب أوله كتب عليه ذكر حق قال: وسئل مالك: عمن اشترى لابن له صغير في حجره غلاما وكتب له كتابا وأشهد له أنه إنما اشتراه لابنه، فمات الأب بعد ذلك بسنة، فقال الورثة للصبي: نحن ندخل عليك في هذا الغلام. قال مالك: ليس ذلك لهم وأرى إذا أشهد الأب على شرائه أنه له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال في أنه لا دخول للورثة على الابن في الغلام الذي اشتراه، وإن لم يجزه له، وإن أخذها الأب لنفسه؛ لأن أصل شراء العبد، إنما هو للابن، فلم يهبه الأب له، فيحتاج إلى أن يحوزه له بالثمن الذي اشتراه به له. فصح له ملكه بالشراء. وقد ذهب بعض الناس إلى أن قول مالك هذا في هذه المسألة، خلاف لقول أصبغ، من روايته في سماعه الثاني الواقع بعد سماع أبي زيد في آخر الكتاب، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه لم يقل في هذه المسألة: إنه اشترى الغلام لابنه من مال ابنه؛ فإن عرف لابنه مال من وجه من الوجوه، جاز قول الأب، وكان الشيء الذي ذكر أنه اشتراه بماله وملكه بنفس الشراء، ولم يفتقر إلى حيازة الأب إياه له.
وأما إن لم يعرف لابنه مال بوجه من الوجوه، لا من إرث ولا من غيره، ثم مات الأب، فقال أصبغ: إن ذلك توليج من الأب له، يكون ميراثا بين جميع الورثة، ولا ينتفع الابن بحيازة أبيه ذلك، له، فقول أصبغ هذا ليس بخلاف لقول مالك في هذه المسألة، وإنما هو خلاف لقوله فيما مضى في رسم الشجرة، في أن الابن ينتفع بحيازة أبيه فيما ولاه أو باعه بالثمن اليسير، وإن كان لم يسم ذلك صدقة ولا هبة، وهو قول مطرف وابن الماجشون في الواضحة. حكى ابن حبيب عنهما أنهما قالا: وإذا أشهد(13/390)
الأب أنه باع من ولده هذا الدار بكذا وكذا دينارا كانت في يديه من ميراث له، أو أعطيته أو مما يذكر، فذلك جائز، إذا ذكر لذلك سببا ووجها يعرف لحوز الصغير والكبير، دون حيازة، وإن لم يعرف ما قال، ولم يعرف للمال سبب، لم يجز ذلك على وجه البيع، ويصير بمعنى العطية فيما حيز وفيما لم يحز قالا: وكذلك إذا أشهد أن للابن عليه مائة دينار، من سبب كذا وكذا، وكذلك يعرف، فذلك جائز، وإن لم يعرف لذلك سبب فلا يجوز ذلك. قال ابن حبيب: وقال ذلك أصبغ، فقول أصبغ في الواضحة خلاف قوله هذا في سماعه من العتبية، مثل قول مطرف وابن الماجشون، ومثل قول مالك في رسم الشجرة، خلاف لقول ابن القاسم فيه من رواية عيسى في كتاب داود حسبما بيناه هناك من أن قول ابن القاسم مخالف لقول مالك، وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل ينحل ولدا له عند موته فيتزوج به ابنه امرأة ويصدقها]
مسألة قال مالك، في الرجل ينحل ولدا له عند موته في مرضه، فيتزوج به ابنه امرأة ويصدقها غلة ذلك ونصيبها، أو يكون أبوه زوجها إياه، وأصدق عنه عند موته في مرضه من ماله، قال: أرى الصداق مردودا على ورثة الهالك، ولا يجوز للميت أن يعطي بعض ولده دون بعض عند موته، إلا أن يأذنوا في ذلك، وأرى صداق المرأة دينا على زوجها متى وجدته عنده أخذته به. قال مالك: ومثل ذلك الرجل، يسرق السرقة ثم يتزوج بها المرأة، ويصيبها، ثم يأتي رب السرقة، فيكون أحق بماله، وترجع المرأة على زوجها بذلك، فيكون دينا لها عليه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف ولا كلام فيما ذكر، من أن الصداق مردود على ورثة الهالك في المسألتين جميعا، تزوج هو مما نحله أبوه في مرضه، أو زوجه أبوه في مرضه، وأصدق عنه، كما يرد ما أصدقها إذا(13/391)
كان مسروقا على رب السرقة، وإنما الكلام فيما ترجع به المرأة على زوجها إن كان بقيمة الصداق، الذي استحق من يدها أو بصداق مثلها، فقيل: ترجع عليه بصداق مثلها، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية، وأرى صداق المرأة دينا على زوجها، وقيل: ترجع عليه بقيمة الصداق الذي استحق من يدها، وهو ظاهر قوله في آخر المسألة، وترجع المرأة على زوجها بذلك، فالقولان قائمان من هذه الرواية، والقول الأول هو القياس، على حكم الاستحقاق في البيوع؛ لأن ما استحق من يدها هو عوض بضعها فلما فات البضع بالعقد عليه لما يوجبه من الحرمة، وجب أن يرجع بقيمته، وهو صداق المثل. وقد قيل: إنه لا يفوت بالعقد إذا استحق الصداق، وهو عرض قبل الدخول المفسد النكاح، والقول الثاني هو المشهور في المذهب، ويختلف أيضا هل يحال بينه وبين وطئها حتى يعطيها حقها، أو يتمادى على وطئها؟ في ذلك اختلاف وتفصيل.
وقد مضى بيانه مستوفى في رسم الطلاق من سماع أشهب، من كتاب النكاح، فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.
[: تصدق عن امرأته وابن لها ببعض حائط فأرادت المرأة أن تبيع حصتها]
ومن كتاب البر وسئل مالك: عن رجل تصدق عن امرأته وابن لها صغير، ببعض حائط، فأرادت المرأة أن تبيع حصتها، وأراد الأب أن يبيع لابنه، فقال له مالك: أحبس هو؟ قال: لا ولكنه صدقة بتلا، قال: يبيعون إن أحبوا أو يمسكون، فقيل له: إن الابن صغير في حجره، وقد أراد أن يبيع، نظرا له، أفترى على المشتري في ذلك شيئا؟ قال: لا، قيل: وهل ترى للأب أن يبيع؟ قال: نعم.(13/392)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها، ولا تفتقر إلى بيان. وبالله التوفيق.
[مسألة: طلب لرجل منزلا يكريه إياه فقال ليس هو لي هو لابنتي]
مسألة وسئل: عن رجل طلب لرجل منزلا يكريه إياه، فقال: ليس هو لي، هو لابنتي، حتى أستشيرها في ذلك، فمات الأب، وطلبت الابنة المنزل، فأشهدوا لها من قول أبيها، قال: لا أرى ذلك ينفعها، إلا أن تكون حازت ذلك، ويكون لها على صدقتها أو هبتها شهود، وحيازة. قال أبو بكر لعائشة: لو كنت حزينة كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث. فقيل له: فلو كانت الابنة صغيرة في حجره. قال: لا أرى هذا شيئا قد يعتذر الرجل بمثل هذا لمن يريد أن يمنعه، ولا أرى ذلك بشيء، ولا يكون لصغيرة كانت أو لكبيرة، إلا أن يكون شهود على الصدقة وحوز من الكبيرة.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في أول سماع أشهب من كتاب الدعوى والصلح، مثل ما في رسم العشور وسماع عيسى منه، إن ذلك لا يوجب الشيء المقر به للمقر له، إذا لم يقصد بذلك إلى الإقرار، وإنما قصد به إلى الاعتذار، ويلزمه اليمين إن لم يكن المقر له ابنة، وادعى ذلك الشيء ملكا لنفسه قديما، يقر بذلك الإقرار، فإن نكل عن اليمين حلف المقر له واستحقه، قال ذلك أصبغ في رسم العشور المذكور، وهو مفسر لقول مالك وابن القاسم، وهذا إذا عرف الأصل المقر، وأما إن لم يعرف الأصل له، وإقراره للمقر له، وإن كان على هذا الوجه من الاعتذار، عامل على ما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق. ودليل ما في رسم العشر المذكور، وسواء على مذهب مالك قال في اعتذاره هو لفلان، وقد تصدقت به عليه، أو وهبته له، أو بعته منه، يبين ذلك ما وقع له في أول سماع أشهب(13/393)
بعد هذا من هذا الكتاب. وقال أصبغ: إذا قال وهبته أو تصدقت به أو بعته، فهي حقوق قد أقر بها على نفسه، يريد فيؤخذ بها إذا ادعى ذلك المقر له بغير هذا الإقرار. وقد اختلف إذا خطبت إلى رجل ابنته، فقال: قد زوجتها فلانا، فطلب ذلك المقر له، على ثلاثة أقوال: أحدها: أن النكاح يجب له طلبه بذلك القول أو بقول متقدم، وهو أحد قولي أصبغ، وإليه ذهب ابن حبيب. والثاني: الفرق بين أن يطلبه بذلك القول أو بقول متقدم، وهو قول ابن كنانة في كتاب الدعوى وقول أصبغ، وروايته عن ابن القاسم، في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح. والثالث: أنه لا شيء له، طلبه بذلك القول، أو بقول متقدم، وهو قول ابن المواز، وبالله التوفيق.
[: يتصدق بماله كله لله ويتخلى منه]
ومن كتاب أوله باع غلاما وسئل: عن الرجل يتصدق بماله كله لله، ويتخلى منه. قال: إن كان صحيحا فلا بأس، واحتج في ذلك بقول أبي بكر حين ندب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدقة أبي بكر حين أتى بماله كله، وليس لورثته إن كانوا له أن يمنعوه هذا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك جائز للرجل إذا كان صحيحا ليس لورثته أن يمنعوه من ذلك. والأحسن للرجل أن يبقي على نفسه بعض ماله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] . وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] .(13/394)
وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] .. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» ، «وقال كعب بن مالك: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي. فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» ، وروي «أن رجلا تصدق بكل شيء له في زمن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قد قبلت صدقتك» فأجاز الثلث، وروي «أن رجلا أعطى ماله في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أبقيت للوارث شيئا، فليس لك ذلك ولا يصح لك أن تستوعب مالك".» «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي لبانة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه قال: يا رسول الله، أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأجاورك وأنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يجزيك من ذلك الثلث".» ومما يدل على الأفضل للرجل أن يبقي على نفسه بعض ماله، وأنه يكره له أن يتصدق بجميعه، أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله، لا يلزمه عند مالك وجميع أصحابه أن يتصدق منه إلا بثلثه، لقوله «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي لبانة، وقد نذر أن يتصدق بجميع ماله: "يجزئك من ذلك الثلث» ، وأما صدقة أبي بكر بجميع ماله فقيل: إنها كانت لاستيلاف الناس واستنقاذهم من الكفر، وذلك حينئذ واجب. قاله اللخمي وفيه نظر. وبالله التوفيق.(13/395)
[مسألة: يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت]
مسألة وسئل مالك: عما يشتريه الرجل في مثل الحج وغيره من الثياب وغير ذلك، ويقول: هذا لامرأتي، وهذا لابنتي، وهذا لابني، ثم يموت، قال: أراه بين الورثة، إلا أن يشهد عند قوله وهو في يديه، ويقول: اشهدوا أن هذا لامرأتي أو لابنتي فإن أشهد بذلك لهم. والذي يبعث بالشيء إلى الرجل على مثل هذه الحال إن مات الذي بعث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، من أنه إذا أشهد في سفره فيما اشتراه أنه لأهله، جاز ذلك لهم، وإن مات وهو في يد قبل أن يصل. ونص في هذه الرواية على الزوجة، فدل ذلك من قوله على أن ذلك جائز لمن يجوز له من أهله كولده الصغار، ولمن لا يجوز لهم منهم، كولده الكبار، والزوجة، ومن أشبههم وذلك كالنص منه على ذلك لتنظيره ذلك، بالذي يبعث بالشيء إلى الرجل على مثل هذا الحال إن مات الباعث قبل أن يصل المبعوث معه إلى المبعوث إليه، فجعل ما اشتراه في سفره، وأشهد عليه أنه لأحد من أهله فمات قبل أن يصل وهو في هذه بمنزلة ما بعت به فمات وهو بيد الرسول قبل أن يصل، ولا إشكال في مسألة الرسول؛ لأن الرسول قابض للمبعوث إليه، وحائز له عند الواهب الباعث، خلاف ما تأوله ابن القاسم على مالك من أن معنى ذلك عندي فيمن يحوز له من صغار ولده. وقع في التفسير الثالث: سألت ابن القاسم عن قول مالك في الرجل يشتري المتاع في الحج لبعض أهله ثم يموت قبل أن يبلغهم ذلك المتاع، إنه لهم ولا حيازة عليه فيه.
قلت: لم رأى ذلك مالك لهم وهو لم يبين من يده مع رسول فيكون دفعه إلى الرسول كالحوز؟ فقال: إنما محمل هذا عندنا عن قول مالك: إنه(13/396)
إنما أراد أن يكون اشتراه لأصاغر ولده، ولمن يلي من بناته ممن يكون جائزا عليهم، فيكون اشتراؤه إذا أشهد لهم عند الشراء، بمنزلة الهبة والعطية والصلة إذا أشهد عليها.
قال محمد بن رشد: وصار جائزا لهم، وخلاف ما رواه علي بن زياد عن مالك، من أن الإشهاد لا ينفع في ذلك إلا من تجوز عليه من ولده الصغار، وأما الولد الكبير والأجنبي، فلا يجوز إلا أن يجوزه غيره، فلم يقدره في رواية علي بن زياد عنه بكونه في السفر، وعدم من يسلمه فيه يحوز لهم، وكذلك ابن القاسم. وعذره بذلك مالك في هذه الرواية وفيما وقع له في المدونة، وذلك على ما ذكرناه من الاختلاف في رسم تأخير صلاة العشاء، وفي الرجل يتصدق على ابنه الكبير الحاضر معه بالدار الغائبة عنه فيموت قبل أن يصل الابن إليها ولم يفرط.
[: له ابنان فتصدق على أحدهما بعبد وهو صغير]
ومن كتاب أوله صلى ثلاث ركعات وسئل مالك: عن رجل كان له ابنان، فتصدق على أحدهما بعبد وهو صغير، ثم كبر الغلام وهو في ولاية أبيه، فأعتق أبوه العبد الذي تصدق به على ابنه، وأعاض ابنه عبدا هو أدنى من ذلك العبد أو مثله. قال مالك: إن كان ذلك وهو في ولاية أبيه، فإن ذلك جائز له، وإن كان قد وَلِيَ نَفْسَهُ لم أر ذلك؛ لأنه إن شاء قال لا أجيز ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا على أصله، وما يأتي له في رسم استأذن من سماع عيسى بعد هذا من أن عتق الرجل عند ابنه الصغير، يجوز إن كان له مال، وتكون قيمته له عليه، ولا يجوز له عتق عبد ابنه الكبير، فإذا أعتق عبد(13/397)
ابنه الصغير، الذي وهبه إياه وأعاضه عبدا آخر مثله أو أرفع منه، مضى ذلك وجاز. وأما إن كان العبد الذي أعاضه أدنى منه، فظاهر الرواية أن ذلك جائز على ابنه، والقياس أن يكون له على أبيه تمام قيمته إن كان له مال، وإن لم يكن له على أبيه تمام قيمته إن كان له مال، وإن لم يكن له مال، ورق منه للابن ما راد على قيمة العبد الذي أعاضه به، إلا أن يطول ذلك على ما قال في الرجل يعتق عبد ابنه الصغير، ولا مال له؛ لأن العبد قد وجب له بصدقة أبيه عليه وحيازته له، إلا أن يفرق في هذا بين حيازة الأب لابنه الصغير، وحيازة الكبير لنفسه، فيقال: إن الرجل إذا وهب لابنه الصغير عبدا ثم أعتقه، فعتقه جائز، كان له مال أو لم يكن، بخلاف إذا أعتق عبده الذي صار له بميراث أو شراء أو هبة من غرة، فهو ظاهر قوله في هذه الرواية.
وقوله: وإن كان قد ولي نفسه لم أر ذلك؛ لأنه إن شاء قال: لا أجيز ذلك - معناه: إن كان قد قبضه وحازه على ابنه، وأما إن كان أعتقه قبل أن يقبضه، فعتقه جائز له، عوضه منه بغيره أو لم يعوضه، على ما قاله في المدونة وغيرها ولا خلاف فيه.
[مسألة: أخذا صدقة ليقسماها فوجدا مدبرة هل ترى أن يخرجا منها في مدبرة فيعتقاها]
مسألة وسئل: فقيل له: إن ابن أبي حازم وأبا صخرة وضع عندهما الوالي صدقة ليقسماها، فوجدا مدبرة، هل ترى أن يخرجا منها في مدبرة فيعتقاها؟
قال محمد بن رشد: خلاف مذهبه في المدونة من أنه لا يباع المدبر ممن يعتقه، وإنما الذي يجوز أن يأخذ سيده فيه مالا على أن يعتقه، فيكون ولاؤه له، فلا يجوز على مذهبه في المدونة للرجل أن يشتري مدبرا فيعتقه من زكاته، وقد اختلف إن فعل، هل يجزيه أم لا؟ فيجزيه على القول بأن من اشترى مدبرا فأعتقه لا يرد ولا يجزيه، على القول بأن من اشترى مدبرا فأعتقه يرد، والقولان في نوازل أصبغ من كتاب زكاة العين، فيلزم على قياس هذا(13/398)
في اللذين جعل الوالي عندهما صدقة ليقسماها ألا يخرجا منها في مدبرة، فيعتقاها فإن فعلا ضمانها إن فات المدبر ولم يوجد على القول بأنه يرد ولم يلزمهما شيء على القول بأنه لا يرد، ويحتمل أن يكون معنى ما في هذه الرواية، أنهما وجدا مدبرة تباع في موضع يجوز بيعها فيه، فلا يكون على هذا التأويل قول مالك هذا، خلاف لما في المدونة وغيرها، بالله التوفيق.
[: رجل تصدق له على ابن له صغير بمائة شاة]
ومن كتاب أوله مرض وسئل مالك: عن رجل تصدق له على ابن له صغير بمائة شاة، وكتب ذلك في كتاب، قال: ثم لبث سنة، ثم كتب كتابا آخر تصدق فيه على ابنه ذلك برمك هي أفضل من الغنم، وتصدق بتلك الغنم على امرأته في ذلك الكتاب، ولم يكتب في ذلك الكتاب إلا الرمك عوضا من تلك الغنم، غير أن الذي تصدق به في هذا الكتاب الآخر، أفضل مما حق له إلى غيرها.
قال مالك: إن كان ابنه صغيرا في ولاية أبيه، جازت له الرمك الذي كتب له في الكتاب الآخر، وسقطت الغنم، وذلك أنه حين أعطى زوجته الغنم، قد انتزعها، وإنما ذلك كهيئة ما لو باع الغنم وخرجت من يده، فلا أرى له إلا الرمك إذا كان في ولاية أبيه أو كان كبيرا فحاز ذلك الابن وقبضه، كانت له، وإن كانت أفضل من الغنم.
قال محمد بن رشد: وجه ما ذهب إليه مالك في هذه الرواية، أنه رأى ذلك لما كان في كتاب واحد، معاوضة لابنه، وإن لم يذكر في الكتاب أن(13/399)
الرمك، إنما أعطاها له عوضا من الغنم، فجاز ذلك على الابن إذا كان صغيرا في حجره، كما لو باع الغنم عليه بالرمك من غيره. فقوله: وإنما ذلك بمنزلة ما لو باع الغنم وخرجت من يده - يمضي على قوله: وذلك أنه حين أعطى زوجته الغنم قد انتزعها، إذ لا يصح انتزاعها منه؛ لأنها صدقة، والصدقة لا تعتصر، ويلزم على قياس هذا الذي وجهنا به قول مالك وحملناه عليه من أنه رأى ذلك بيعا للغنم على ابنه الصغير من نفسه بالرمك، لا يجوز ذلك، على أنه إن كان كبيرا إلا برضاه، حاز الغنم أو لم يحزها، فإن رضي بذلك جاز، وإن ليحز الرمك؛ لأنها ليست بموهوبة، وإنما هي ثمن للغنم الموهوبة، ففي قوله: وإن كان كبيرا فحاز ذلك الابن وقبضه كانت له، وإن كانت أفضل من الغنم نظر؛ لأن ذلك من قوله يدل على أنه لم ير ذلك معاوضة له عن الغنم بالرمك، وإنما رآه انتزاعا، الغنم وهبة للرمك، ولذلك شرط الحيازة فيها والانتزاع في الغنم لا يصح لأنها صدقة. وبالله التوفيق.
[: يعطى الرجل العطية لمن يبره منهم]
ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها
وسئل مالك: عن الرجل يكون له ولد فيبره بعضهم، فيريد أن يعطيه من ماله دون بعض، أذلك له؟ قال: نعم، لا بأس به، ذلك له.
قال محمد بن رشد: إنما أجاز مالك أن يعطى الرجل العطية لمن يبره منهم؛ لأنه لم يقصد بذلك إلى تفضيل بعض ولده على بعض، وإنما أعطى البار جزاء على بره وحرم العاق أدبا لعقوقه، فلا مكروه في ذلك إن شاء الله. وإنما المكروه أن يفضل بعض ولده على بعض، فيخصه بعطية، مخافة أن يكون ذلك سببا إلى أن يعقه الذي أحرمه عطيته، أو يقصر فيما يلزمه من البر به، حسبما مضى القول فيه في رسم الشجرة.(13/400)
[مسألة: يعطي بعض ولده جل ماله ويترك سائرهم]
مسألة وسئل: عن الرجل يعطي بعض ولده جل ماله، ويترك سائرهم، قال: إن ذلك ليكره، ولقد أعطى أبو بكر عائشة عشرين وسقا. وإن القضاة والأمراء ليمضون ذلك، فقيل له: أفترى أن يرد؟ فقال: إنه ليكره، وما قال في الرد شيئا.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله: إنه أجاز للرجل أن يعطي لبعض ولده العطية دون بعض، إذا لم يكن ذلك جل ماله. ومثل هذا في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، خلاف ما يدل عليه قوله في المسألة التي قبل هذا.
فتحصيل القول في ذلك أنه لا اختلاف أنه يكره للرجل أن يهب لبعض ولده دون بعض جل ماله، ويختلف في هبة الرجل الأقل من ماله لبعض ولده دون بعض، فقيل: إنه جائز لا بأس به، وهو قوله في هذه الرواية، وفي رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب. وقيل: إنه مكروه على ظاهر حديث النعمان بن بشير. وهو مذهب ابن القاسم، على ما ذكرنا في رسم الشجرة، ودليل قول مالك في المسألة التي قبل هذه. وأما هبة الرجل جميع ماله لبعض ولده دون بعض، فقيل: إن ذلك لا يجوز ويرد، وهو مذهب مالك على ما مضى في رسم الشجرة، ويأتي في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، وقيل: إنه مكروه، وهو مذهب ابن القاسم حسبما ذكرناه في رسم الشرة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابنه بالغنم]
مسألة وسئل: عن الرجل يتصدق على ابنه بالغنم، أيكتسي من(13/401)
صوفها؟ قال: نعم، لا أرى بذلك بأسا ويأكل من لحومها ويشرب من ألبانها إذا أعطاها ابنه، فقيل له: فالحائط يتصدق به على ولده، أيأكل من ثمرة إذا أطعمه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك. قال ابن القاسم: ولم أره مثل الأجنبي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، فلا معنى لإعادته.
[: قوم كان لهم في منزل صدقة من جدهم]
ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه قال: وسئل مالك: عن قوم كان لهم في منزل صدقة من جدهم، وإنما خربت وألقى الناس عليها نقلهم، وكانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ رَجُلًا وَأُخْتَيْنِ لَهُ، وأنهم أرادوا أن يصلحوا، فقالت لأخيها: لو ضربت هذا النقل لنا فَطَوَّبْتُهَا وبعتها وأصلحت هذا المنزل وبنيته؟ فإن كان فيه كفافا كذلك، وإن زدت من عندك، فاحتجت أن ندخل معك فيه، رددنا إليك ما أنفقت. قال: أرى ذلك جائزا له، ولكني أرى أن يأتي السلطان حتى يكون هذا الذي يأذن له، قال: إنه لا يخاصمه أحد، قال: قد أعرف، ولكن أحب إلي أن يأتي السلطان حتى يأذن له بذلك القاضي، فهو أحب إلي.
قال محمد بن رشد: إنما رأى أن لا يفعل ذلك إلا بإذن السلطان، من أجل أنه حبس له مرجع النظر فيه إلى السلطان، فرأى ألا يحدث فيه شيئا إلا بإذن السلطان الذي إليه النظر في المرجع لئلا يغير الحبس عما كان عليه.(13/402)
[: تصدق على امرأته بخادم له]
ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية وسئل مالك: عن رجل تصدق على امرأته بخادم له وهي معه في البيت، فكانت تخدمها على حالها ما كانت عليه، قال: إذا كانت تخدمها فلا أراها إلا لها.. قال سحنون: وكذلك لو كان رهنها خادما. فكانت عندها تخدمها على حال ما كانت، إن الرهن جائز، وإن حوزها لها حوز، وقال سحنون: من أحوز لها منها؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون. وقلنا: إنه يتحصل فيها ثلاثة أقوال فيما بين الصدقة والرهن:
أحدها: إن ذلك جائز، وهي حيازة في الرهن والصدقة، وهو قول سحنون في هذه الرواية؛ لأنه إذا رأى الحيازة عاملة في الرهن، فأحرى أن يراها عاملة في الصدقة.
والثاني: إنها غير عاملة فيهما جميعا، وهو قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون وقوله في رسم الوصايا بعد هذا من سماع أشهب؛ لأنه ضعيف الحيازة في الوضعين في الصدقة، فأحرى أن يضعفها في الرهن.
والثالث: الفرق بين الصدقة والرهن، وهو قول ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب الرهون، وكذلك لو تصدقت هي بالخادم التي تخدمها على زوجها، أو رهنته إياها بدليل ما وقع في رسم الوصايا من سماع أشهب بعد هذا من استدلاله بهبتها له على هبته لها؛ لأن أيديهما جميعا على الخادم، فمرة على يده، ومرة على يدها، والأظهر أن يغلب يده، فيفرق بين أن تكون هي التي وهبته أو رهنته، وبين أن يكون هو الذي وهبها أو رهنها؛ لأن يده أقوى من يدها، بدليل أنه لم يختلف قول مالك وابن القاسم في أن القول قول الزوج إذا اختلفا في متاع البيت، وهو مما يكون للرجال والنساء. وقد قيل: إنه لا يد لها معه. فالقول قوله إذا اختلفا في متاع البيت، وإن كان ذلك من متاع النساء. وبالله التوفيق.(13/403)
[مسألة: تصدق على ابنه بمائة دينار وأفرزها ثم تسلفها]
مسألة وسئل: عن رجل تصدق على ابنه بمائة دينار، وأفرزها ثم تسلفها ومات الأب وهي عليه، قال: لا أرى لابن فيها حقا.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت والكلام عليها في أول رسم من السماع ومضى أيضا في رسم طلق فلا معنى لإعادة ذلك.
[: تصدقت على أبيها وأمها بصدقة ثم تتزوج فتطلب ذلك]
ومن كتاب الأقضية من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون قال سحنون: قال لي أشهب وابن نافع: سئل مالك: عن امرأة تصدقت على أبيها وأمها بصدقة، ثم تتزوج، فتطلب ذلك، قال: ليس ذلك بشيء من المرأة المولاة، وذلك عليها رد. قال ابن نافع: ولو تزوجت ودخل بها زوجها، فأقامت سنتين أو أكثر من ذلك، ثم قامت بعد ذلك، وقالت: لم أكن أعلم أن ذلك لا يلزمني، رأيت ذلك لها وتحلف.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا أقامت مع زوجها سنتين أو أكثر من ذلك تحلف، وكذلك يرد عليها ما تصدقت به على أبيها وأمها، يدل على أنه حكم لها بحكم الرشد والخروج من ولاية أبيها بمقامها عند الزوج سنتين أو أكثر. وهي رواية غراه أغفلها الشيوخ المتقدمون، وحكموا برواية شاذة منسوبة إلى ابن القاسم، لا يعلم لها موضع: أنها لا تخرج من ولاية أبيها، ويحكم لها بحكم الرشد إلا بمقامها عند زوجها سبعة أعوام، ورواية ابن القاسم عن مالك: أنها لا تخرج من ولاية أبيها حتى تدخل فيها ويعرف من حالها، أي: يشهد العدول على صلاح حالها، وفي ذلك اختلاف كثير، يتحصل فيها(13/404)
ثمانية أقوال، وأما البكر التي لا أب لها فإذا دخلت بيتها وأقامت مع زوجها سنة واحدة، حكم لها بحكم الرشد، وملكت أمرها، ما لم يعرف سفهها. وبالله التوفيق.
[مسألة: اشترى مالا فسئل أن يقيل البائع منه فقال قد تصدقت به على النبي]
مسألة وسئل مالك: عمن اشترى مالا، فسئل: أن يقيل البائع منه، فقال: قد تصدقت به على النبي، ثم هلك الرجل، ولم يوجد إلا قوله ذلك. قال: ما أرى هذا يقطع.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم البز، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: نحل ولده نحلا من غنمه ووسمها لهم بأسمائهم]
ومن كتاب الأقضية الثاني وسئل: عمن نحل ولده نحلا من غنمه، ووسمها لهم بأسمائهم، وليست لهم بينة إلا الرسم، وأنه ذكر ذلك عند موته، فقال: ليس ذلك بشيء إن لم يكن عليه البينة؛ أشهدهم في حياته وصحته، فأرى أن يجعل ميراثا. وقد قال في الكتاب الذي فيه الوصايا والحج، في رجل نحل ابنه خيلا ووسمها بوسمه، ثم تركها في خيل أبيه يركبها: إنه ليس له في ذلك شيء.
قال محمد بن رشد: قوله: نحلة الرجل ولده عددا من غنمه إذا وسمها ولم يشهد عليها في صحته حتى ذكر ذلك عند موته: إنها لا تصح له، وتكون ميراثا - بَيِّنٌ لا إشكال فيه؛ لأن الوسم يميزها من جملة غنمه، ولا يحقق النحل بها إلا إشهاده عليها. فإن وسمها وأشهد على نحلها في صحته جازت له باتفاق. واختلف إن أشهد على أنه نحله عددا منها دون أن(13/405)
يعينها باسم أو سمة أو نحلة جزءا مشاعا منها، هل تصح حيازتها له؟ فقيل: إنها تصح في الوجهين، وقيل: إنها لا تصح في واحد منهما، وقيل: إنها لا تصح في الجزء المشاع، ولا تصح في العدد المسمى دون أن يعين باسم أو سمة، ولا اختلاف في ذلك من قول مالك. وقد مضى ذكر ذلك وتحصيله في رسم طلق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب. هو في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس فلا معنى لإعادته.
وقوله: إن وسمها بوسمة، يريد: وشهد عليها ثم تركها في جملة خيله يركبها، إنه ليس له ذلك في شيء - يبين أن مذهبه فيما عدا الملبوس والمسكون كالملبوس والمسكون، إن انتفع الأب بشيء من ذلك كله بعد الصدقة أو الهبة، كما كان ينتفع به قبل أن يهب أو يتصدق، وبطلت الهبة والصدقة، خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، أن مساعدا المسكون والملبوس من الأشياء كلها بحيازة الأب إياها للصغير بالإشهاد عليها والإعلان بها كما جاء عن عثمان بن عفان. قالوا: وسواء كانت أرضا فأحدثها أو أكراها أو منحها، أو كانت جنانا فأكل ثمرتها، أو أطعمها أو باعها باسمه، أو اسم ولده، أو كان غلاما فخارجه لولده ولنفسه، أو اختدمه، أو كانت دابة فركبها، أو حمل عليها، أو كانت ماشية فاحتلبها، أو أكل رأسها فاحترث بها أو درس عليها، أو مصحفا فقرأ فيه، أو قويا فرمى عنها. هذا كله جائز، والصدقة ماضية.
قال ابن الماجشون: وهذا الذي سمعناه من علمائنا وجميع أصحابنا، والذي مضت به أحكام حكامنا، وقول أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب. وأما ما أردت من اختلاف الغنم واحتراث البقر، وخدمة العبيد إذا كانت الصدقة فيهم بأعيانهم، فإذا كان من ذلك الأمر الخفيف والأمر المخرج مرة للابن، ومرة للأب، ومرة ينتفع هذا، ومرة ينتفع هذا، ومرة بعض لهذا، فهذا جائز، وتكون حيازة وصدقة تامة. قول ثالث في المسألة فتدبر ذلك. وقد تأول فضل عن ابن القاسم من رواية أصبغ عنه مثل قول مطرف وابن الماجشون، فقال: رأيت في كتاب ابن حبيب بخط يده في سماعه من رواية(13/406)
أصبغ عن ابن القاسم في صدقة البتل والحبس على ولده الصغار، أن حيازته لهم حيازة، وإن كان هو القائم بأمرهم، والناظر لهم في الكراء، أو أجنبي، ثمرة أو اغتلال، غلة. أو ما تحتاج إليه الصدقة من مرض أو إصلاح حين يبلغوا الحور، قال فضل: فقوله: أو جني ثمرة أو اغتلال غلة، أو ما يحتاج إليه، قريب مما في داخل الكتاب، وتأويل فضل عن ابن القاسم هذا، تأويل بعيد، كأن الظاهر من قوله: إنه جنى الثمرة واغتل الغلة، لولده لا لنفسه، بدليل قوله: وإن كان القائم بأمرهم، والناظر لهم في كراء أو جني أو اغتلال. فقف على ذلك وتدبره، وإنما أجاز ابن القاسم للواهب والمتصدق الانتفاع بما وهب أو تصدق، ولم يزد لك قدحا في حيازة الموهوب له أو المتصدق عليه في مثل الزوجين يهب أحدهما صاحبه الخادم التي يكون معها في المنزل، إذ لا يعذر الواهب على الانفكاك من الانتفاع بما وهب أو تصدق، لكونه معه في منزل واحد بيد الموهوب له حسبما يأتي من قوله في رسم سلف في سماع عيسى. وقد مضى ذلك من قول مالك عليها مستوفى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، ومضت المسألة أيضا في سماع أشهب، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينحل ولدا دون أولاد وله مال سوى ما نحل]
مسألة وسئل: عن حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي نحل ابنا له عبدا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكل ولدك نحلت؟ قال: لا، فقال: أرجعه» فقال مالك: وذلك رأيي؛ لأنه لم يكن له مال غيره، قلت له: فإن لم يكن له مال غيره رده، فقال: إن ذلك ليقال، ولقد قضى به في المدينة، فأما الذي ينحل ولدا دون أولاد وله مال سوى ما نحل، فذلك جائز فلا بأس به. قد(13/407)
نحل أبو بكر الصديق عائشة، وقال فيه عمر وعثمان ما قالا، فلو كان هذا الحديث ما جهله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، ولكن في رأي - لم يكن له مال عنده.
محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة على رسم الشجرة من سماع ابن القاسم قبل هذا، وفي رسم نذر سنة، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: نحل ولدا له نخلا فلم يحزها أحد منهم حتى مات أبوهم]
ومن كتاب الوصية الذي فيه الزكاة والحج وسمعته: يسأل: عمن نحل ولدا له نخلا فلم يحزها أحد منهم حتى مات أبوهم، فقال: إن كان أشهد على ذلك وعرف النخل بعينه، فمن كان منهم صغيرا فذلك له، ومن كان منهم كبيرا قد بلغ الحيازة فلم يحز فلا شيء له، إلا أن يكون ضعيفا لا يلي نفسه فذلك له، وما كان من جارية قد بلغت في حجر أبيها لم تبين فذلك أيضا لها.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا: إن من كان منهم صغيرا فذلك له، ومن كان منهم كبيرا فلا شيء له، هو مثل قوله في رواية علي بن زياد وابن نافع عنه في المدونة ومثل قول ابن وهب في سماع عبد الملك بعد هذا خلاف قول ابن القاسم في المدونة وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس.
قد مضى هناك ذكر هذا الاختلاف وتوجيهه مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(13/408)
[مسألة: تصدق على امرأته أو ابنه بالعبد وهو مسافر]
مسألة وسمعته: يسأل: عن رجل تصدق على امرأته أو ابنه بالعبد وهو مسافر، والعبد في يد الذي تصدق به عليه على وجه الاختدام، فتصدق به عليه، ويشهد على ذلك شهودا وهو مسافر، ثم يموت المعطي أو المعطى قبل أن يعلم المعطى الذي تصدق به عليه، فقال: إن كان أمره على وجه الإنفاذ، وأشهد من يرى أنهم يبلغونها ذلك، أو يبلغون ابنه، فإن ذلك جائز، فأما أن يشهد بكذا من لا يعرف المرأة ولا الولد، ولا يكتب إليهما فمتى شاء، قال هذا لي، قد رجعت فيه، لا هي تعلم أن ذلك لها، ولا الشهود يعلمونها، فلا أدري ما هذا.
قال محمد بن رشد: وأما إذا مات المعطى المتصدق عليه قبل المعطي المتصدق، فورثته يقومون مقامه، وينزلون منزلته في القول أو الرد إذا علموا قبل موت المعطي المتصدق، وأما إن مات المعطي المتصدق، قبل موت المعطى المتصدق عليه، وقد علم، فلم يقل: قد قبلت حتى مات المتصدق، فقول ابن القاسم في المدونة: إنه لا شيء له؛ لأنه لم يرى سكوته مع كون الهبة بيد رضا منه بها، وقبولا لها، وقول أشهب فيها: إنها له ندي أسكوته مع كون الهبة بيده رضا منه بها وقبولا لها؟ فقال: إن كونها في يديه أحوز، وأما إن مات المتصدق قبل أن يعلم المتصدق عليه، فقول مالك في هذه الرواية: إن ذلك جائز له إذا كان أمره على وجه الإنفاذ، وأشهد من يرى أنهم يبلغونه ذلك، فهو شذوذ؛ لأن ذلك يقتضي أن هبة الأموال لا تفتقر إلى القبول، وأنها تجب للموهوب له بنفس الهبة حتى لو مات الموهوب له قبل أن يعلم لورثت عنه، ولم يكن لورثته أن يردوها لا على وجه الهبة إن قبل ذلك الواهب، وهو بعيد، إنما يصح ذلك في الحرية إذا قال الرجل لعبده قد وهبتك(13/409)
نفسك، أو قد وهبت لك عتقك، فهو حق قبل أو لم يقبل، قاله في العتق من المدونة لأن الواهب في مثل هذا لم يهب لأن ينظر قبول من وهب له، كالأموال التي توهب، فإن قبلها الموهوب له، وإلا رجعت إلى الواهب، ولا اختلاف أحفظه في هذا سواء قول مالك الشاذ في هذه الرواية، ولو علم بالهبة ولم يعلم منه قبول لها حتى مات الواهب لجرى ذلك على ما ذكراه من اختلاف قول ابن القاسم وأشهب ويقول أشهب أخذ سحنون فقال لو وهب رجل لغريمه الغائب ماله عليه، وأشهد له، ثم مات الواهب قبل أن يعلم قبول الغائب أن الهبة جائزة، يريد وقد علم أنه قد علم بالهبة قبل موت الواهب.
فتحصيل القول في هذه المسألة: أن الرجل إذا وهب شيئا هو في يده أو دينا هو عليه، فإن علم في حياة الواهب وقبل، جازت له الهبة باتفاق، وإن علم ولم يقبل حتى مات الواهب، جازت الهبة على قول أشهب، وبطلت على قول ابن القاسم. وإن لم يعلم بالهبة حتى مات الواهب، بطلت الهبة باتفاق، لافتقار الهبات إلى القبول، إلا على هذه الرواية الشاذة، ولو وهب رجل شيئا هو بيده لرجل غائب، فأخرجه من يده، وجعله على يدي من يجوز له الصلح له، وإن يعلم حتى مات الواهب، بخلاف إذا كان الشيء الموهوب بيد الموهوب له الغائب؛ لأنه إذا كان بيده بإذن الواهب، فكأنه في يد الواهب، حتى يعلم بالهبة، فيكون بعلمه بها جائزا لنفسه، وإنما اختلف على قولين في الوصية، فقيل: إنها تجب للموصى له بموت الموصي مع القبول بعد الموت، وهو المشهور المعلوم. وقيل: إنها تجب له بموت الموصي دون القبول، وهو أحد قولي الشافعي. فعلى قوله: إن مات الموصي له قبل أن يعلم وجبت الوصية لورثته، ولم يكن لهم أن يردوها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوا. وبالله التوفيق.
[مسألة: نحلت ابنا لها صغيرا غلاما وابنها معها وللابن أب ومال]
مسألة وسمعته: يسأل عن امرأة نحلت ابنا لها صغيرا غلاما، وابنها(13/410)
معها وللابن أب ومال، فلم يجزه الأب ولا الولي حتى ماتت الأم، أترى ذلك حوزا؟ فقال: ذلك يختلف، أما الغلام الذي هو للخراج، فإني لا أرى ذلك للصبي حوزا، وأما الغلام الذي إنما هو للخدمة يخدمه ويختلف معه، ويقوم في حوائجه، وهو في ذلك مع أمه، فإني أراه حوزا وأراه له جائزا، وإنما ذلك عندي بمنزلة الرجل نحل ولده الغلام، يكون معه يخدمه ويختلف معه إلى الكتاب، وهو في ذلك مع أبيه، فيكون له حوز وله حائزا، فهذا مثله.
قال محمد بن رشد: وللابن أب وله مال فلم يجزه الأب ولا أخ ولا الولي، كلام ناقص، وكماله: وللابن أب أو لا أب له، وله مال في يد وليه، أي: وصيه، فلم يجزه الأب إن كان له أب، ولا الولي إن لم يكن له أب. وفي كتاب ابن المواز بإثر هذه المسألة: قال ابن القاسم وأشهب: إن لم تكن الأم وصية فليست حيازتها حيازة على مال، ويحوز لهم السلطان، أو يولي عليهم أو بتخرجه الأم من يدها إلى غيرها، فتحوز لهم، فتكلم مالك في الرواية على الوجهين جميعا، على أن الصبي المنحول، له أب غير ساكن مع أم الصبي الناحلة، وعلى أنه لا أب له. وتكلم ابن القاسم وأشهب في كتاب ابن المواز على أن الصبي لا أب له. والمعنى في المسألتين سواء فلم يراع في الرواية كون العبد مع الأم الناحلة في منزل واحد، ورأى الصبي هو الحائز له باختدامه إياه وراعى ذلك ابن القاسم وأشهب، وغلباه على اختدام الصبي إياه فرأياها هي الحائزة له دونه، فلم يجيزا حيازتها له، إلا أن تكون وصية، وهو الأظهر؛ لأنه إنما يخدمه ويتصرف له بالأمر وتحت نظره لصغره، فهي الحائزة له، ولو كان كبيرا سفيها، لكان قول مالك في الرواية أظهر. والله أعلم؛ لأن كون يدها مع العبد ومع السفيه الكبير، أضعف منها مع الابن الصغير، ولو كان صغيرا لا يعقل ابن سنة ونحوها لما جازت حيازة الأم له باتفاق، والله أعلم. ولو كان الصبي منفردا بالسكنى وحده دون الأم، لكان(13/411)
حائزا له باختدامه إياه، وكونه معه قولا واحدا. وكذلك لو كان كبيرا سفيها منفردا بالسكنى وحده دون أمه الناحلة، ولو كان الأب ساكنا مع الأم، لكان هو الحائز باتفاق. وأما العبد الذي هو للخراج، فلا إشكال في أنه لا يحوزه له عن أمه إلا الأب.
[: يهب هبته ثم يأتي يطلب ثوابها فيقول قد أثبتك]
ومن كتاب الأقضية الأول قيل لمالك: أرأيت الذي يهب هبته، ثم يأتي يطلب ثوابها، فيقول: قد أثبتك؟ قال: عليه البينة أنه قد أثابه وإلا حلف الواهب ما أثابه، قال: إنه لم يشهد على الهبة، فقال: هو مثل البيع، يقول: بعتك هذا الثوب، فيقول: نعم، ولكني وفيتك ثمنه، فعليه البينة أنه قد وفاه، وإن لم يكن لصاحب الحق على أصله بينة. قال: وقد سألت اليوم عمن وهب شاتين منذ أربعة أشهر، ثم جاء اليوم يطلب الثواب، فيقول: قد أثبتك، ولا بينة بينهما. فقلت: يحلف صاحب الشاتين على المنبر ما أثابه هو، مثل البيع.
قال محمد بن رشد: في بعض الكتب في هذه الرواية: عند المنبر، وفي بعضها: على المنبر. فأما ما في منبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحلف عليه؛ لأن أحدا ... وقد قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حلف على منبري إثما تَبَوَّأَ مقعده من النار» فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه: على، ولم يقل: عندي. وأما سائر المنابر في جوامع الأمصار فإنما يحلف الحالف عندها، لا عليها؛ لأن(13/412)
الحرمة إنما هي لموضعها لا لها، بدليل أنه لو دار المنبر عن موضعه لإصلاح شيء فيه، لما حلف الحالف إلا في موضعه، لا عنده، بخلاف منبر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا، وسائر المسألة يبين، لا يفتقر إلى كلام؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع، وقد أحكمت السنة في التداعي فيها أن البينة على من ادعاها، واليمين على من أنكر؛ لأن الهبة للثواب، إذا طالت مدتها حتى يرى أن الواهب قد ترك الثواب، لم يكن له ثواب، بخلاف البيع؛ لأن طريقها المكارمة لا المكايسة. وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها. وبالله التوفيق.
[: امرأة دعتنا فأشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها]
ومن كتاب الأقضية الرابع وسئل مالك: فقيل له: إن امرأة دعتنا فأشهدتنا على رقيق لها أنهم صدقة على ابنتها، وكتبنا شهادتنا على أنه أمانة عندنا بأمانة الله، لا نشهد بها أبدا ما دامت حية حتى تموت، فشهدنا على ذلك، وكتبناها، فاحتاجت إلى تلك الشهادة ابنتها التي كانت الصدقة عليها، أترى لنا أن نقوم بها؟ قال: أراها قد قالت لكم: لا تشهدوا بها حتى أموت، وهذه الشهادة لا تنفع ابنتها، فقيل له: لا تنفع ابنتها. قال: نعم، لا تنتفع ابنتها.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب الشهادات، وبالله الموفق.
[مسألة: تصدق بدار له على مواليه وأولادهم]
مسألة وسئل: عمن تصدق بدار له على مواليه وأولادهم، وأولاد(13/413)
أولادهم ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا فمرجعها إلى ولده، فلم تزل كذلك حتى لم يبق منها إلا رجل واحد، فعمد إليه بعض الذين إذا مات الموالي رجعت إليهم من ورثة المتصدق، فتكاراها منه عشرين سنة، فقام ورثة المتصدق، فقالوا: لا نجيز هذا نخاف أن يموت هذا المولى في عشرين سنة، فتقوم علينا بحيازتك، فقال مالك: إن هذا المولى إذا مات في السنتين وانفسخ الكراء، ولقد أكثر هذا في السنين، فقيل: أجل، إنه إذا مات في السنين انفسخ الكراء، ولكنه شاب وهم يخافون طول حياته وطول حيازة هذه الدار، إذا تكاراها عشرين سنة، قال: فليكتبوا عليه بذلك كتابا ويتوثقوا عليه فيه.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه المسألة اكتراء الدار عشرين سنة، من الذين صارت إليه بالتحبيس من عقب الموالي، والكراء ينتقض بموته؛ لأنها حبس عليه لا حق له فيها إلا ما دام حيا.
ومعنى ذلك: ما لم ينفذ؛ لأنه إن نفذ فمات انتقض الكراء، فرجع إلى المكتري كراء ما بقي من المدة، فكان سلفا منه، وقيل: إن الكراء لا يجوز إلى مثل هذه المدة الطويلة، وإن لم ينفذ، وهو ظاهر ما في كتاب الوصايا الثاني من المدونة فيمن أوصى له خدمة عبد حياته، إنه لا يجوز له أن يكريه إلا الأمد القريب: السنة والسنتين والأمر المأمون الذي ليس ببعيد، ولم يفرق بين النقد وغيره، ففي القريب يجوز الكراء بالنقد وبغير النقد، على ظاهر ما في المدونة لابن المواز، ويحتمل أن يحمل ما في المدونة من إجازة الكراء على الأمد القريب على ألا ينفذ، فالكراء في القريب يجوز بغير نقد باتفاق، وفي البعيد لا يجوز بالنقد. ويختلف هل يجوز بغير النقد في البعيد، وبالنقد في القريب؟ على قولين.
وقد نص على ذلك في كتاب ابن المواز. وقع فيه بإثر هذه المسألة، قال مالك: لا يدفع في كرائها، ولكن يكريها قليلا قليلا، وكذلك قال عبد(13/414)
الملك، إلا أنه قال: السنة والسنتين. ونحن لا نرى بأسا ما لم يقع النقد إلا في مثل السنة والسنتين. فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة، على القول بأنه لا يجوز ذلك، فعثر على ذلك، وقد مضى بعضها، فإن كان الذي بقي يسيرا لم يفسخ، وإن كان كثيرا فسخ له. قاله في كتاب محمد، ولم ير في الرواية حجة للقائم من الورثة على المكتري فيما ذكره، من طول الحيازة؛ لأنها غلة ترتفع بالإشهاد كما ذكره. وذلك معارض لما في أول رسم من سماع أشهب، من كتاب الأقضية في الذي يكون له الممر في حائط الرجل، إنه ليس له أم يحظره، وإن لم يجعل عليه بابا فلا يطول الأمر فينسى حقه. وبالله التوفيق.
[: يهب الجارية لامرأته فيدفعها إليها]
ومن كتاب الوصايا الذي فيه الحج والزكاة وسئل: عمن يهب الجارية لامرأته فيدفعها إليها، ويشهد لها عليها، فتكون عندها على حالها تخدمها وتخدمه على نحو ما تخدم الخادم زوج سيدتها. أترى ذلك منها حوزا؟ فقال: إن هذا لإلى الضعف ما هو. قيل له: قد أشهد لها عليها ودفعها إليها وإنما تخدمها وتخدمه، على نحو ما تخدم الخادم زوج سيدتها. قال: أرأيت لو وهبت هي لزوجها خادما وأشهد له عليها، أو متاع بيتها ثم أقام على حاله بأيديهما تنتفع به على نحو مما تنتفع به بخادم زوجها وبمتاعه الذي هو في بيتها، أيكون له ذلك إذا ماتت؟ ما هذا بمستقيم، ولكن لو خير ذلك وأخرج من ماله التي هو عليها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم اغتسل من آخر سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته. وبالله التوفيق.(13/415)
[: بيع الحائط مساقاة والعامل فيه]
ومن كتاب مسائل بيوع من كراء قال: وسئل: عن الذي يهب ثمن حائط هذه السنة ثم يريد أن يبيع أصل الحائط من رجل آخر، فقال: لا يصلح أن يبيعه ما لم تؤبر الثمرة، ولو باعه بعد أن توبر لم يكن له بأس.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم الصلاة من سماع يحيى بعد هذا: إن ذلك لا يجوز، إلا أن يبيع الأصل في دين رهنه إذا ألجئ إلى ذلك من فلس، وهو مثل قوله في المدونة: إن الغرماء إذا أقاموا على صاحب الحائط البينة فلهم أن يبيعوا الحائط. والمساقاة كما هي، إذ لا فرق بين أن يكون ثمر الحائط أو بعضه قد وجب قبل بيع الحائط لغير رب الحائط بهبة أو بمساقاة.
وقد روى أشهب عن مالك إجازة بيع الحائط مساقاة والعامل فيه لم يذكر تفليسا ولا غيره، فهي مسألة فيها ثلاثة أحوال:
أحدها: إن ذلك لا يجوز في فلس ولا غيره؛ لأن ذلك بمنزلة ما لو باع حائطه واستثنى ثمره قبل الإبار أو قبل الطلوع وهو نص قول غير ابن القاسم في مسألة المساقاة في المدونة إن لم يجز ذلك في الفلس فأحرى لا يجيزه في غير الفلس.
والثاني: إن ذلك جائز في الفلس وغيره؛ لأن البائع لم يستثن الثمرة لنفسه، فيكون باستثنائها كأنه اشتراها، وإنما علم بوجوبها لغيره، فهو عيب تبرأ منه في بيعه.
والثالث: الفرق بين الفلس وغيره، وهو قول ابن القاسم في سماع يحيى في مسألة الهبة، وقوله في المدونة في مسألة المساقاة، وكان سحنون فيما حكى عنه ابن عبدوس يستحسن قول غير ابن القاسم، في أن ذلك لا يجوز، في فلس ولا غيره؛ لأنه من بيع الأصل، واستثناء ثمرته، ثم رجع إلى قول ابن القاسم ورآه من جنس الضرورة؛ لأن أصحابنا يجوزون عند الضرورة من البيع ما لا يجوزونه عند غير الضرورة، والذي أقول به: إن ذلك جائز في الفلس وغيره؛ لأن بيع(13/416)
الحائط واستثناء ثمرته قبل أن تؤبر إنما لم يجز على قياس القول بأن المستثني بمنزلة المشتري؛ لأنه يصير كأن رب الحائط قد باع حائطه بما سمى من الثمن وبالثمرة التي استثناها، وهذا لا يتصور إذا كانت الثمرة قد وجبت قبل بيع الحائط لغير رب الحائط، وعدم علة المنع، توجب الجواز، وبالله التوفيق.
[: مولى عليه موسع عليه تصدق على أمه بإذن وليه]
ومن كتاب الأقضية الثاني قال أشهب: وسمعت مالكا، وسئل: عن مولى عليه موسع عليه تصدق على أمه بإذن وليه بدار له حياتها، ثم مرجعها إليه وإلى ولده، قال: ما أرى ذلك له، فقيل له: فكيف الأمر في ذلك؟ وقد شهدنا عليه بإذن وليه، هو أتانا بذلك، وسألنا، فقال: سلوهم أن يمحوا شهادتكم، فإن أبوا، فارفعوا ذلك إلى الناظر حتى يجيزه أو ينقضه، كيف تشهدون على مثل هذا وأنتم قوم تطلبون العلم وتنظرون فيه؟
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة؛ لأن الوصي لم يقدم على اليتيم إلا ليحوز عليه ماله، ويمنعه من إبذاره وإتلافه بالهبات والصدقات، وشبه ذلك.
وقوله: فإن أبوا فارفعوا ذلك إلى السلطان حتى يجيزه، معناه: حتى ينظر في أمره، فإن بان له رشده أمضاه، وكفى من الدليل على بيان المسألة توبيخ مالك لمن قصر فهمه عن إدراك معناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على أخ له بعبد صدقة]
مسألة وسئل: عمن تصدق على أخ له بعبد صدقة بتلا على أمه إن مات فالعبد إليه رد، وإن مات المتصدق قبل فالعبد لك بتلا.(13/417)
قال مالك: فأيهما مات قبل؟ فقيل: المعطي. فقال: ما أراه إلا راجعا إلى المعطي؛ لأنه كأنه أعطاه ذلك حياته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن أول قوله مرتبط بآخره، فليست بصدقة مبتلة، بما شرط عليه فيه، من أنه إن مات قبله فهي عليه رد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون له فيها تفويت ببيع ولا بغيره، ما دام المتصدق حيا حتى يموت، فآل أمرها إلى أنه أوصى له بها بعد موته، وعجل له الانتفاع بها طول حياته، فوجب إن مات المتصدق عليه، فله أن يرجع إليه كما شرط، وإن مات المتصدق قبله بثلث له من ثلثه، على معنى الوصية إن كان غير وارث كذلك، قال ابن نافع فيها: إنه إن مات المعطى قبل نظر، فإن كان الأخ وارثا لم يجز له ما صنع، وكان مردودا، يريد: إلا أن يجيز ذلك الورثة، وإن كان الأخ غير وارث جاز ذلك في الثلث. وبالله التوفيق.
[: تصدق بدار له أو حائط على ولده وولد ولده صدقة]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل: عن رجل تصدق بدار له أو حائط على ولده وولد ولده صدقة بتلا لا مثوبة فيها ولعقبهم فمات ولده كلهم، ولم يتركوا إلا بنتا لبعض ولده الذكور، فأرادت أن تبيع، فقال: ماذا لها؟ فقيل له: إنه لم يجعل حبسا، إنما قال: صدقة بتلا لا مثوبة فيها، فقال: هذه أراها لهم يبيعونها في دينهم، فقيل له: إنه جعلها لهم ولأعقابهم، قال: ليس لهم أن يبيعوها، فقيل له: فقد ماتوا كلهم، حتى لم يبق منهم إلا امرأة واحدة، فأرادت أن تبيع، ولم يجعل ذلك حبسا، أترى لها ذلك؟ قال: نعم، في رأيي أرى ذلك لها. هذا إنما جعلها لهم، ولم يحبسها فالبنت تبيع؛ لأن ولدها(13/418)
ليس بعقب، وليس لها في هذا حق. والولد الذكر ليس له أن يبيع لأن ولده عقب.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنها ترجع بمرجع الأحباس، ولا يكون لآخر العقب ملكا. قال ابن عبدوس: وهو قول أكثر أصحابنا، ومثله في المدونة لبعض رجال مالك، إلا أن يقول: وهو لآخر العقب ملكا، فيكون ذلك كما قال. وتخرج المسألة من الاختلاف، وهي في كتاب ابن المواز، قال: إذا قال: داري محبسة على ولدي وعقبهم وهي الآخر منهم بتلا. قال: تكون كذلك للآخر منهم بتلا، وهي قبل ذلك محبسة، إلا أن يمضي للآخر، وسواء قال: هي للآخر، أو قال: هي الآخر، فإن كان أحدهم امرأة باعت إن شاءت، أو صنعت ما شاءت قد صارت مالها، وإن كان رجلا ممن يرجى له عقب حبست ولم تبع، فإن مات قبل أن يولد له ولد، كانت ميراثا للورثة؛ لأنه حين مات تبين أنها كانت له. وبالله التوفيق.(13/419)
[: كتاب الصدقات والهبات الثاني] [رجل صالح مالك لأمره تصدق على آخر مثله بميراثه من أبيه إذا مات والأب باق]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب نقدها نقدها قال عيسى: وسئل ابن القاسم: عن رجل صالح مالك لأمره، تصدق على آخر مثله بميراثه من أبيه إذا مات، والأب باق، أيجوز له؟ فقال: لا أرى أن يجوز هذا، قال ابن القاسم: ولا أقضي به عليه، وهو أعلم؛ لأنه أمر لا يدري قدره، ولا يعلمه، لا يدري كم يكون ألف دينار؟ فلا أدري ما هو؟ وهو أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى أن يجوز هذا، معناه: لا أرى أن يجوز هذا عليه، أي: لا يلزمه، إذ ليس بأمر يجب رده وفسخه لفساده، يبين ذلك قوله بعد ذلك: ولا أقضي به عليه، وهو أعلم؛ لأنه أمر لا يدري قدره، ولا كم يكون؟ فإنما قال: إن ذلك لا يلزمه، من أجل أنه لم يدر قدره ما وهب، إلا من أجل أنه وهب مالك يملك، إذ لم يهبه اليوم، فيكون قد وهب ما لم يملكه بعد، وإنما أوجب ذلك على نفسه يوم يموت أبوه، فيجب له ميراثه، كمن قال: إن ورثت فلانا واشتريته فهو حر، يلزمه ذلك، بخلاف قوله: هو اليوم حر، وقوله في هذه الرواية: إن ذلك لا يلزمه خلاف ما يأتي من قوله في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ: إن ذلك يلزمه، إلا أن يقول: كنت ظننت أنه يسير، ولو علمت أنه بهذا القدر ما وهبته، ويشبه ذلك من قوله: فيحلف على ذلك، ولا يلزمه، فاتفقت الروايتان جميعا على أن(13/421)
الواهب لميراثه في مرض الميت، ليس بواهب لما لم يملكه بعد، وإنه إنما هو واهب له إذا ملكه بقوله المتقدم قبل أن يملكه، واختلفا في هل يلزمه إذا مات قوله بقوله المتقدم قبل أن يملكه، واختلفا في هل يلزمه إذا مات قوله المتقدم قبل أن يموت؟ فقال في هذه الرواية: إنه لا يلزمه إذا لم يدر يوم أوجبه على نفسه، كم يكون يوم الموت؟ وقال في رواية أصبغ: إن ذلك يلزمه، إلا أن يقول: لمن أظن أنه يكون هذا المقدار؟ فيحلف على ذلك، ولا يلزمه ومن أهل النظر من ذهب إلى معنى رواية أصبغ أن الصدقة كانت بعد موت الأب، ولذلك ألزمه الصدقة، إلا أن يقول: لم أظن أن ميراثي منه مبلغ هذا المقدار، فيحلف على ذلك ولا يلزمه، خلاف الرواية التي قال فيها: إنه يصدق والأب باق، وقال: إن الصدقة إذا كانت والأب باق، فهي غير جائزة على ما قال في هذه الرواية.
قال: وهو الذي يأتي على مذهبه في آخر الوصايا الثاني من المدونة؛ لأن الوارث لا يملك ميراثه في مرض الموت، فيجوز عليه فيه هبته، وإنما الذي له في مرضه التحجير عليه في أن يوصي بأكثر من ثلثه، أو يوصي لبعض ورثته. فهذا الذي إذا أذن له فيه لزمه على ما قاله في المدونة، وأما أن يهبه هو لأحد فلا.
قال: وفي الموطأ ما يدل على أنه لا يجوز للوارث أن يهب ميراثه في مرض مورثه، وليس ذلك عندي بصحيح، بل الذي في الموطأ أن هبة الوارث بميراثه في مرض الموروث جائز لازم، وليس في المدونة عندي ما يخالف ذلك، ولا في هذه الرواية؛ لأن حمل بعضها على التفسير أيضا نص على خلاف ذلك لاحتمال أن يريد أن الصدقة وقعت في صحة الموروث قبل مرضه، وهذا أولى ما حملت عليه حتى تتفق الروايات؛ لأن حمل بعضها أولى من حملها على الخلاف، فقوله على هذا: إنه إذا وهب ميراثه في صحة الموروث، لم يجز عليه، وإن كان له أن يرجع عنه على معنى هذه الرواية، ولا نص خلاف في ذلك، وإنما يدخل فيه الخلاف بالمعنى، إذ لا فرق في حقيقة القياس في ذلك بين الصحة والمرض. وإذا وهب ميراثه في مرض الموروث الذي مات منه لزمه، ولم(13/422)
يكن له أن يرجع عنه، إلا أن يتصدق به، وهو بظنه يسيرا فينكشف له أنه كثير، فيحلف على ذلك، ولا يلزمه على ما قاله في رسم الأقضية والحبس من سماع أصبغ، ولا نص خلاف في ذلك، أن جوازه بين في الموطأ ويدخل في ذلك الخلاف على ما حكيته عن بعض أهل النظر، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: الجواز في الصحة والمرض، وعدم الجواز فيهما، والفرق بينهما. وقد مضى هذا في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات.
وأما إذا وهب ميراثه من أبيه بعد أن مات أبوه، فذلك جائز باتفاق، وإن كان لا يعرف قدره؛ لأن هبة المجهول جائز، قال في المدونة: وإن لم يدرك كنه مورثه إن كان سدسا أو ربعا أو خمسا. ومثله لأشهب في كتاب ابن المواز. وقال محمد بن عبد الحكم: تجوز هبة المجهول، وإن ظهر له أنها كثيرة بعد ذلك. وقول محمد بن عبد الحكم خلاف قول ابن القاسم في رسم الأقضية، والحبس من سماع أصبغ، إذ لا فرق في الصحيح من التأويل بين أن يهبه في مرض أبيه أو بعد موته، وقد قال بعض المتأخرين على معنى ما في المدونة: إنه إذا عرف قدر الميراث فالهبة جائزة، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وإذا جهل قدر الميراث فالهبة باطل، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وإذا جهل قدر الميراث، فالهبة باطل، عرف نصيبه من ذلك أو جهله، وهذا غير صحيح، لا فرق في حقيقة القياس، بين أن يجهل قدر المال أو قدر نصيبه منه، إذا جهله جملة ينبغي أن يجوز في الوجهين جميعا، إلا أن يكون ظن أن ذلك أقل مما انكشف في الوجهين، فيحلف على ذلك، ولا يلزمه على قول ابن القاسم، ويلزمه على قول محمد بن عبد الحكم.
وأما إن شك فيها بين الجزأين، مثل أن يكون الزوج لا يدري إن كان يرث النصف أو الربع، فيكون للتفرقة بين ذلك وبين الذي يجعل قدر المال وجه، وهو أن الذي يشك فيما بين الجزأين، قد رضي بهبة أكثرهما، فوجب أن يلزمه، وبالله التوفيق.(13/423)
[: تصدق على ولده بناض دنانير أو دراهم]
ومن كتاب أوله أول عبد استأذن سيده في تدبير جاريته قال: وسئل مالك: عن امرأة هلكت وتركت أباها وابنها وابنتها وزوجها وهو أبوهما، وتركت متاعا وحليا وصداقا، فأراد أن يتصدق أبوها على الصبيين، فقال لأبيهما: إن تصدقت بمصابك من امرأتك، فيما لها عليك من الصداق، وفي حليها وفي متاعها، وجميع ما تركت على ولدك منه، فمصابي منها في جميع ما تركت صدقة عليهما، فقال أبوهما: نعم، قد تصدقت بجميع مصابي منها عليهما وأشهد لهما بذلك، فمات الجد والأب، والصبيان طفلان، والمتاع والحلي وجميع ما تركت في أيد أبيهما، والصداق عليه كما هو.
قال ابن القاسم: أما المتاع والحلي وما تركت هو الصداق الذي عليه، فهو لهما؛ لأن حوز أبيهما لهما حوز، وأما الصداق فليس لهما منه شيء، لا من مصابة جدهما، ولا من مصابة أبيهما؛ لأن الجد إنما تصدق عليهما، على أن يتصدق أبوهما عليهما، فإنه لم يتصدق أبوهما عليهما، فليس لهما من صدقة جدهما شيء؛ لأن أباهما لم يفرز لهما من صدقة الصداق، إذ لم يفرز لهما ذلك، ويجعله لهما على يد غيره؛ لأن الأب إذا تصدق على ولده بناض دنانير أو دراهم لم تجز صدقته إلا أن يجعل ذلك على يدي غيره، فإذا لم يجعل ما عليه من الصداق بيد غيره، فلم يتصدق عليهما منه بشيء، ولم يقدر لهما شيئا، فلا شيء لهما من الصداق، لا من مصابة أبيهما، ولا من مصابة جدهما.
قال ابن القاسم: ولو كان الصداق الذي عليه عرض موصوف، لم يجز لهما منه أيضا شيء لو تصدق عليهما بعبد موصوف أو سلعة موصوفة،(13/424)
ليست بعينها ثم مات قبل أن يحوزها لهما لم يجز لهما منه شيء، إذا كان الموصوف عليه نفسه، مثل أن يقول: قد تصدقت على ابني بعبد من صفته كذا وكذا، فلا يجوز. ولو كان لأبيه على رجل أجنبي عبد موصوف، فتصدق على ابنه، جازت صدقته، قبضها الأب أو لم يمض حتى مات.
قلت: أرأيت إذا تصدق عليه بدنانير له على رجل فقبضها الأب قبل أن يموت، ثم مات وهي في يديه؟ فقال مالك: الصدقة له جائزة، وتؤخذ من ماله، إذ لأنها قد خرجت مرة حين كانت على الغريم.
قلت: وكذلك لو تصدقت على ابن بمائة دينار، فوضعتها له على يدي رجل، ثم أراد الرجل سفرا لو مات فأخذتها منه ثم مات. وهي في يده أكانت له؟ قال: نعم، هي له تؤخذ له من مالها إذا حيزت له مرة واحدة، فقد حيزت، لا يبالي قبضها الأب بعد ذلك أم لم يقبضها وهي بمنزلة الدار، يتصدق بها على ولده، فيحوزها عنه السنتين أو الثلاثة، ثم يسكن بعد ذلك فيها بكراء أو غيره، ثم يموت، فالصدقة جائزة للذكر، وكل صدقة حيزت مرة فهي جائزة.
قال محمد بن رشد: أما إذا تصدق على ولده بحظه الذي يجب له بالميراث من الصداق الذي عليه لزوجه، عينا كان أو عرضا، فلا اختلاف في أنه يجوز للابن إذا مات الأب وهو عليه كما هو، إذ لا يكون جائزا لابنه ما هو في ذمته، لو قال: أشهدكم أني قد وهبت لابني كذا وكذا دينارا أوجبتها له في ذمتي لم يجز ذلك، وكانت باطلا إذا مات وهي عليه قبل أن يحضرها. وأما قوله: إن ذلك لا يجوز للابن حتى يحوز ذلك ويجعله لهما على يد غيره؛ لأن الأب إذا تصدق على ولده بناض دنانير أو دراهم، لم تجز صدقته، إلا أن يجعل ذلك على(13/425)
يدي غيره، فهو مثل ما تقدم من قوله في رسم طلق من سماع ابن القاسم، ومثل أحد قولي مالك فيه، ومثل قوله في أول رسم من السماع المذكور، خلاف قول مالك في الموطأ، وخلاف ما ذهب إليه أصحابنا المدنيون، من أنها جائزة للابن إذا عزلها وطبع عليها، وإن لم يضعها له على يدي غيره، وقد مضى بيان ذلك في الرسمين المذكورين من سماع ابن القاسم.
ولا اختلاف فيما ذكره من أنه إذا تصدق على ابنه الصغير بالدين يكون له على رجل فقبضه، أو بالدنانير فوضعها على يد غيره، ثم قبضها منه عند سفره، أو من ورثته بعد موته، إنها جائزة للابن تؤخذ له من ماله بعد وفاته، كالدار إذا تصدق بها على من يحوز لنفسه، يحوزه إياها ثم رجع بعد مدة أقلها العام إلى سكناها. كذا قال في رسم أوصى بعد هذا: إن حد ذلك السنة وما أشبهها، فوقع في بعض الكتب أيضا في هذه الرواية: فيحوزها عنها السنتين أو السنة، وهو مثل ما في رسم أوصى، ولا يشترط في الدين الذي يتصدق به على ابنه ثم يقبضه أن يبقى على الذي هو عليه بعد الصدقة حولا كاملا؛ لأنه لم يزل محوزا عنه. وأما الدنانير التي كانت بيده فتصدق بها على ابنه، ووضعها له على يدي غيره ثم قبضها منه، فذلك عندي كالدار، إن قبضها منه باختياره لغير عذر من سفر أو موت قبل الحول، بطلت الحيازة، وكذلك الدار، لو رجع الأب إلى سكناها قبل الحول لعذر، مثل أن ينتقل الابن عن البلد قبل الحول، أو يكون غائبا حين تصدق عليه، فيضعها له على يدي غيره، فيموت أو يسافر قبل الحول. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق بعبد لابنه أو يهبه أو يعتقه أو يتزوج به ولا مال له]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق بعبد لابنه، أو يهبه أو يعتقه أو يتزوج به ولا مال له. قال مالك: أما الهبة والصدقة فلا تجوز، إن كان له مال، وأما العتق فإن كان له مال وكان في ولايته فالعتق جائز، وللولد قيمته في مال أبيه، فإن كان ولد قد(13/426)
حاز نفسه، وبان منه، فلا يجوز عتقه، وأما التزويج فإنه جائز للمرأة، دخل بها أو لم يدخل، إن كان ولد يليه، وكذلك سمعنا مالكا يقول: ذلك جائز، ولم يقل دخل بها أو لم يدخل، ووجدناه في مسائل عبد الرحيم، فإن لم يكن الأب فقال حين أعتقه، لم يجز عتقه إلا أن يتطاول ذلك.
قال محمد بن رشد: فرق ابن القاسم بين أن يعتق الرجل عبد ابنه الصغير، أو يتزوج أو يتصدق به، فقال: إن العتق ينفذ إن كان موسرا ويغرم القيمة لابنه، ويرد إن كان معدما إلا أن يطول الأمر فلا ترد القيمة، قال أصبغ: لاحتمال أن يكون حدث له في خلال ذلك يسر لم يعلم به. وأما إن علم أنه لم يزل عديما في ذلك الطول، فإنه يرد، وقال: إن الصدقة ترد، موسرا كان أو معدما، فإن تلفت الصدقة بيده المتصدق عليه بأمر من السماء، لم يلزمه شيء، وغرم الأب القيمة وإن فاتت بيده باستهلاك أو أكل، والأب عديم، لزمه غرم قيمتها، ولم يكن له على الأب رجوع، فإن كان عبدا فأعتقه مضى عتقه، وغرم الأب قيمته، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، رد عتقه، إلا أن يتطاول ذلك، بمنزلة إن أعتقه الأب، وإن كانت جارية فاتخذها المتصدق عليه أم ولده، لزمته إن لم يكن للأب مال، بمنزلة ما فوت باستهلاك أو أكل، هذا الذي يأتي في هذا على مذهب ابن القاسم في القسمة من المدونة. ولا أحفظ له فيه نصا.
وقال مطرف وابن الماجشون: إن كان تصدق الأب بمال ولده، وهو موسر، أو معسر ثم أيسر، غرم القيمة، ومضت الصدقة للمتصدق عليه، فإن أعسر بعد ذلك ولم يوجد له مال، وكان المتصدق عليه نقد أفات الصدقة بعتق أو اتخاذ أو أكل أو استهلاك، غرم القيمة واتبع بها الأب، وإن كانت قد فاتت عنده بأمر من السماء، لم يكن عليه شيء، وإن كان الأب تصدق به وهو معسر فاتصل عدمه، وقد أفات المتصدق عليه الصدقة غرم قيمتها، ولم يكن له على الأب رجوع؛ لأنه فعل(13/427)
ما لا يجوز. وقال في التزويج: إن المرأة أحق به، دخل بها أو لم يدخل، موسرا كان الأب أو معسرا، ويتبع الابن أباه بقيمته. قال في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح: يوم أخذه وأصدقه وامرأته تريد يوم تزوج عليه، لا يوم دفعه؛ لأنه بيع من البيوع، كذا قال ابن القاسم في غير هذا الكتاب. فظاهره: وإن لم تقبضه المرأة. وروى أصبغ عن مالك وابن القاسم أن الابن أحق به من المرأة ما لم تقبضه المرأة، ما لم يطل في يديها بعد القبض، وأما إن قام بعد القبض، باليوم واليومين، والأمر القريب، فهو أحق به، ويكون كالاستحقاق، وتتبع المرأة الأب بقيمته، وسواء على ما ذهب ابن القاسم الذي نص عليه في هذه الرواية، دخل الأب بالمرأة أو لم يدخل بها، وفرق مطرف بين أن يدخل بها أو لا يدخل، ورواه عن مالك.
وقال ابن الماجشون: الابن أحق، دخل الأب أو لم يدخل، قبضت الزوجة أو لم تقبض، طال الأمر أو لم يطل، وهذا الاختلاف إنما هو إذا كان الأب معسرا، وأما إن كان موسرا، فالزوجة أحق قولا واحدا. وحكم ما باعه الأب من مال ولده الصغير في مصلحة نفسه، أو حابى فيه - حكم ما وهبه أو تصدق، يفسخ في القيام، ويكون الحكم فيه في الفوات على ما ذكرته في الهبة والصدقة، غير أنه إذا عدم يرجع على الأب بالثمن، وأجاز أصبغ فعل الأب كله في مال ابنه من الهبة والصدقة والعتق والإصداق في القيام والفوات، في العسر واليسر، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أنت ومالك لأبيك» فعلى ظاهر الحديث لا فرق بين الصغير والكبير، وهو قول أشهب في رواية ابن أبي جعفر عنه، سئل: عن الرجل يتزوج بمال ابنه أو يعتق أو يهب أو بيع؟ قال: إن كان موسرا يوم فَعَلَ فذلك جائز، وإن كان معسرا لم يجز، ورد وأخذ الابن ماله، كان الابن صغيرا أو كبيرا، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك»(13/428)
[: يتصدق بثلثي غنمه على ابنه]
ومن كتاب العرية في الذي يتصدق بثلثي غنمه على ابنه. قال: ولا يسأل ابن القاسم، وسئل: عن رجل قال: غنمي ثلثاها لابني صدقة عليه، وثلثها صدقة في سبيل الله. فأقامت في يديه زمانا، ثم عدا عليها فباعها، ثم مات، وابنه صغير في حجره. قال: صدقة الابن ثابتة، يأخذها من ماله، وأما الثلث الذي سمي في سبيل له، فهو لا شيء، ولا شيء في ذلك من مال الميت؛ لأنه لم يخرجه حتى مات. وأما صدقة الابن فهي جائزة له؛ لأنه هو الحائز له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الحبس، فاكتفيت بذلك عن إعادته هاهنا وستأتي المسألة أيضا في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا من هذا الكتاب.
[مسألة: تصدق على رجل بثمن حائطه سنة]
المسألة وقال في رجل تصدق على رجل بثمن حائطه سنة، فيموت المتصدق عليه قبل السنة، هل يكون لورثته؟ أو يكون تصدق على رجلين فيموت أحدهما قبل أن تؤبر النخل، أو بعدما أبرت، هل ترى الموروثة شيئا؟
قال ابن القاسم: ذلك لورثتهما جائز للرجلين جميعا، الذي سألت عنه، وأما الذي لا يكون لورثتهما شيء إنما ذلك فهي إذا مات أحدهما قبل أن تطيب، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: أما الثمرة المتصدق بها صدقة مبتولة، فلا اختلاف في أنها ثورت عن المتصدق، وإن مات قبل أن تؤبر الثمرة، أو قبل أن(13/429)
تطلع وأما الثمرة المحبسة على قوم بأعيانهم، فقد اختلف في الحد الذي تجب الثمرة لهم، وتورث عنهم على ثلاثة أقوال، قد ذكرناها وبينا ما يتعلق بمعناها بيانا شافيا في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس فغنينا بذلك عن إعادته.
[مسألة: قال الغلام كله لفلان صدقة وليس له إلا نصفه]
مسألة وسئل: عن الرجل تكون له الدار، وغلام بينه وبين رجل، فحضرته الوفاة، فقال: الغلام كله لفلان صدقة، وليس له إلا نصفه. وقال: الدار التي بيني وبين فلان على فلان صدقة كلها، ما ترى فيه؟ قال: أرى إن كان إنما تصدق بالدار أو بالعبد على شريكه منهما، وقال هذه المقالة التي ذكرت، فليس للشريك إلا حصة المتصدق، وإن كان تصدق بذلك على أجنبي، وقال هذه المقالة، كانت الدار كلها أو العبد كله له، إن رضي شريكه أن يسلم ذلك بقيمته، رجع ابن القاسم وقال: لا أرى للشريك ولا للأجنبي إلا نصيبه من ذلك، إلا أن يقول: اشتروا له نصيب صاحبي، وَبَيَّنَ.
قال محمد بن رشد: وكذلك حكم الصدقة الباقية إذا لم يكن في وصيته، سواء تصدق بالعبد كله، أو الدار كلها على شريكه في ذلك، لم يكن له إلا نصيبه المتصدق، وإن تصدق بذلك على أجنبي فمرة رأى ابن القاسم أن للمتصدق عليه العبد كله، أو الدار كلها، ويلزمه لشريكه قيمة حظه من ذلك، إن رضي شريكه أن يسلمه إليه بقيمته، ومرة قال: إنه لا يلزمه الصدقة إلا بنصيبه من ذلك، إلا أن يقول: قد تصدقت عليه بجميعه إن رضي شريكي أن يأخذ مني في نصيبه قيمة وجه القول الأول أنه لما تصدق بجميعه لم يحمل على ظاهره من العداء بصدقة ما ليس دون عوض يدفعه(13/430)
فيه، وحمله على أنه إن أراد، إن رضي شريكه بأخذ قيمة نصيبه منه. ووجه القول الثاني أنه حمل فعله على ظاهره من العداء بصدقة ما ليس له، كما لو تصدق رجل على رجل بعبد لا حظ له فيه، لم يلزمه أن يؤدي إلى صاحبه قيمته، وإن رضي بذلك، إلا أن يرضى هو بذلك.
والقول الأول أظهر؛ لأن البر وإرادة الخير والثواب قد ظهر منه في الصدقة بنصيبه، فالأولى أن يحمل فعله كله على ذلك، ولا يحمل بعضه على التعدي، وأما نصيبه فلا اختلاف في أن الصدقة تلزمه فيه، إلا يكون له مع شريكه فيه شركة مع غيره مما يقسم معها قسما واحدا، ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تقسم، فإن صار ذلك للمتصدق في سهمه، كان ذلك للمتصدق عليه، وإن صار لشريكه له شيء، وهو قول ابن القاسم، على أن القسمة تمييز حق.
والثاني: أنه لا يكون للمتصدق عليه إلا حصة المتصدق من ذلك، فإن صارت لشريكه، كان له من حق المتصدق من غيرها قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون، على قياس القول بأن القسمة بيع من البيوع.
والثالث: أنه إن صار ذلك للمتصدق كان للمتصدق عليه، وإن صار لشريكه، كان له من حظ المتصدق، من خيرها قدر ذلك، وهو قول مطرف.
واختلف إن كان العبد الذي تصدق بجميعه من مال قراض بيده فيه ربح، فقيل: إنه تلزمه الصدقة بما يصيبه منه، وقيل: إنه لا يلزمه ذلك إذ لا يتقرر له فيه حق إلا بعد نضوض رأس المال إلى صاحبه، لجواز أن يخسر فيما يستقبل، فيكون عليه أن يجيز رأس المال ما يجب له من ربح هذه السلعة، والقولان قائمان من كتاب القراض من المدونة. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت عليه بالمهر وهو عليه فقبل الصدقة]
مسألة وسئل: عن رجل سأل امرأته أن تتصدق عليه بمهرها، فتصدقت عليه به، وكان لها به كتاب، ثم إنه سخط فرد عليها الكتاب بعد ذلك بأيام، فقبلته بشهود، ثم توفى الرجل، فهل ترى(13/431)
لها شيئا؟ قال: لا شيء لها في ذلك الصداق، وهو بمنزلة ما تصدق عليها به من ماله فلم يقبضه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأنه لما تصدقت عليه بالمهر وهو عليه، فقبل الصدقة منها بقبضه الكتاب، سقط عنه المهر، وصار رده الكتاب إليها ابتداء صدقة على غير عوض، فوجب أن يبطل إذا مات وهو عليه قبل أن يقبضه منه. وبالله التوفيق.
[: وكل آخر في التصدق بمائة دينار فمات المتصدق قبل قبضها]
ومن كتاب يوصي لمكاتبه قال: وسئل ابن القاسم: عن رجل تصدق على رجل بمائة دينار، وكتب إلى وكيل له ليدفعها إليه، فقدم على الوكيل بالكتاب، فدفع إليه الوكيل خمسين، وقال له: اذهب، سأدفع إليك الخمسين الباقية، اليوم أو غدا، فمات المتصدق قبل أن يقبض المتصدق عليه الخمسين الباقية من الوكيل، قال: لا شيء له منها إذا لم يقبضها حتى مات المتصدق بها، وليس أكثر من الخمسين التي قبض؛ لأن الوكيل بمنزلته.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن يد الوكيل كيد موكله، فلا فرق بين أن يعده بدفع بقية ما تصدق عليه هو أو الوكيل إذا مات قبل أن يدفع ذلك إليه. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق عليه حتى تلد أولادا]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالأمة فلا يقبضها المتصدق عليه حتى تلد أولادا، هل يأخذها هي وولدها؟ قال: نعم، يأخذها وولدها؛ قلت: فإن قتل بعض ولدها فأخذ السيد له(13/432)
أرشا أو أصيبت هي بقطع يد أو رجل أو غير ذلك، فأخذ السيد بذلك أرشا، هل يأخذها ويأخذ أرش ولدها وجسدها؟ قال: نعم، يأخذها وأرش ولدها ويدها ورجلها وما أصيبت به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو بين لا اختلاف فيه؛ لأن الأمة قد وجبت له بالصدقة، وولدها الذي ولدته بعد الصدقة بمنزلتها، لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل ذات رحم فولدها بمنزلتها» ، فلما يأخذها وولدها، فكذلك يأخذ قيمة ولدها إذا قتل، وأرش ما أصيبت به في جسدها إذا جني عليها، وإنما وقع السؤال على هذا القول، من يقول: إن الهبة والصدقة لا تلزم الواهب والمتصدق، وله أن يرجع عنها ما لم يدفعها، ولا يحكم عليه بها إلا بعد قبضها، وهو ما لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه عامة. وبالله التوفيق.
[مسألة: الحج والغزو أيهما أحب]
مسألة وسئل: عن الحج والغزو، أيهما أحب إليك؟ قال: الحج، إلا أن يكون خوف، قيل له: فالحج والصدقة؟ قال: الحج، إلا أن تكون سنة مجاعة، قيل له: فالصدقة والعتق؟ قال: الصدقة.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الحج أحب إليه من الغزو، إلا أن يكون خوفا - معناه: في حج التطوع لمن قد حج الفريضة. وإنما قال ذلك؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ؛ لأن الجهاد وإن كان فيه أجر عظيم، إذا لم يكن خوف، قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات عند الموازية فلا يستوجب به(13/433)
الجنة كالحج، وأما الغزو مع الخوف، فلا شك في أنه أفضل من الحج التطوع والله أعلم؛ لأن الغازي مع الخوف قد باع نفسه من الله عز وجل، فاستوجب له الجنة والبشرى من الله عز وجل بالفوز العظيم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] إلى قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] وإنما قال: إن الحج أحب إليه من الصدقة، إلا أن تكون سنة مجاعة؛ لأنه إذا كانت سنة مجاعة، كانت عليه المواساة، فالصدقة واجبة، فإذا لم يواس الرجل في سنة المجاعة من ماله بالقدر الذي يجب عليه المواساة في الجملة، فقد أثم، وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة بالتوفي من الإثم بالإكثار من الصدقة، أولى من التطوع بالحج الذي لا يأتم بتركه، وإنما قال: إن الصدقة أفضل من العتق، لما جاء في الحديث الصحيح من: «أن ميمونة بنت الحارث أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي، قال: "أَوَفَعَلْتِ؟ " قالت: نعم، قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".» وهذا نص من النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في ذلك، قَوَّتْهُ الاستدلالُ عليه بالظواهر، وبالله التوفيق.
[: تصدق على ولده وهم صغار]
ومن كتاب أوصى معه أن ينفق على أمهات أولاده قال: وسئل: عمن تصدق على ولده وهم صغار يليهم بدار، وأشهد لهم، وكان يكريها لهم، فلما بلغوا الحوز قبضوها وأكروها(13/434)
منه، فمات فيها، فقال: لا أراها إلا جائزة، إذا كانوا قد قبضوها وحازوها وانقطعوا بالحيازة، وانتقل منها، قيل له: وكم حد ذلك؟ قال: السنة والسنتان.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم استأذن من أن رجوع المتصدق إلى سكنى الدار التي تصدق بها بعد أن حيزت عنه حيازة بينة، حدها العام، على ما نص عليه في هذه الرواية، لا تبطل الصدقة ومثله في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ من كتاب الرهون، خلاف الرهن، لا اختلاف في أن الرهن يبطل برجوعه إلى الرهن وإن طالت مدة حيازة المرتهن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي هذه المسألة بيان واضح، إن الأب لو رجع إلى سكنى الدار وبنوه صغار، لبطلت الهبة، وإن كان قد أخلاها ورهنها وحازها لهم بالكراء المدة الطويلة، فتفتقر في هذا حيازة الأب للصغار. وقد نص على ذلك محمد بن المواز في كتابه. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه بدار وعمل له فيها ومات وهي في يديه]
مسألة وقال فيمن تصدق على ابنه بدار، وعمل له فيها، ومات وهي في يديه: إن الصدقة له باطل، قيل له: فإن أنفذها له الورثة، ثم أرادوا الرجوع فيها، قال: الناس في هذا مختلفون. أما أنا فأرى أن يحلفوا إن كانوا ممن يعرفون بالجهالة، إنهم إنما أنفذوها له وهم يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، ويرجون فيها فيأخذونها.
قال محمد بن رشد: قوله: الناس في هذا مختلفون، في مثل(13/435)
يريد: المخاصمين في مثل هذا وشبهه مختلفون، منهم من يجهل فيصدق إذا ادعى الجهالة، ومنهم من لا يجهل فلا يصدق إذا ادعى الجهالة. إذا كانوا ممن يعرف بالجهالة أن يحلفوا أنهم إنما أنفذوها، وهم يرون أن ذلك عليهم قد لزمهم، وهي يمين تهمة، فيختلف فيها، إلا أن تحقق عليهم الدعوى بأنهم إنما أنفذوها بعد أن علموا أن ذلك لا يلزمهم، فيجب عليهم اليمين قولا واحدا.
ولسحنون في أول نوازله في نظير هذه المسألة أنهم لا يصدقون في دعوى الجهل، وقال: أنت تدفع إليه ماله، وتبيحه له بعدما قد حزته وملكته، ثم قمت الآن تدعي الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت إليه حقا، فقال له السائل: أنا أقيم البينة أنه قد قال: إن هذه الصدقة، لا يجوز لك منها إلا الثلث. وقد سألت عن ذلك الفقهاء وأخبروني بذلك. فقال له: أما إن أقمت البينة على هذا، فأرى لك أن ترجع عليه بما أخذ منك، فلم يصدقه سحنون في دعوى الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت، وهو إقامة البينة على ما زعم من أنهم غروه به، وقالوا له.
ويأتي على قول أشهب في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب: في الذي يزوج ابنته على أنها بكر، فزعم الزوج أنه وجدها ثيبا لا عذرة لها - أنها تلزمه، ولا شيء له، إن الجاهل في مثل هذا لا يعذر بالجهل، حسبما بيناه هناك.
ومثله قول سحنون في نوازله من كتاب العيوب في الذي يشتري العبد، فيقول للتاجر: هل فيه من عيب؟ فيقول: هو قائم العيبين، فيسأل عن القائم العيبين، فيقال له: هو الذي لا يبصر - إن البيع له لازم، وليس له أن يرده، ففي المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه ليس له أن يرجع فيما أنفذ بحال، وإن علم أنه جهل، إذ لا عذر له في الجهل، وهو ظاهر قول ابن القاسم في آخر كتاب الوصايا من المدونة، في الابن الذي في عيال الرجل يأذن له في مرضه في الوصية بأكثر من ثلث ماله، ثم ينفذ ذلك بعد موته، إنه ليس له أن يرجع في ذلك، ظاهره: وإن كان(13/436)
جاهلا يظن أن إذنه له في ذلك في مرضه جائز عليه.
والثاني: إن له أن يرجع في ذلك إن ادعى الجهل، وكان يشبه ما ادعاه مع يمينه على ذلك وهو قوله في هذه الرواية، وقيل بغير يمين على ما ذكرناه، من أن اليمين في ذلك تهمة.
والثالث: إنه ليس له أن يرجع في ذلك، إلا أن يعلم أنه جهل، بدليل يقيمه على ذلك، وهو قول سحنون في نوازله من هذا الكتاب، وأخصر من هذا أن يقول: إن في المسألة قولين: أحدهما: إنه يعذر بالجهل، والثاني: إنه لا يعذر، فإذا قلنا: إنه يعذر به، ففي تصديقه فيه قولان، قيل: إنه يصدق، وقيل: إنه لا يصدق، فقيل: يمين، وقيل: بغير يمين. وبالله التوفيق.
[مسألة: الصفائح والحلي المكسور والنقر أفيه ثواب]
مسألة وسئل: عن الصفائح والحلي المكسور والنقر، أفيه ثواب؟ قال: ليس في ذلك كله ثواب.
قال محمد بن رشد: أما الحلي والنقر فإنه بين أنه لا ثواب في ذلك، بمنزلة الدنانير والدراهم، فلا يصدق من وهب شيئا من ذلك، فإن كان فقيرا والموهوب له غنيا أراد بذلك الثواب له، إلا أن يشترطه. هذا قوله في المدونة؛ لأنه إنما وهب للثواب، ما يتحقق به الموهوب له، مثل الفرس الرائع، والعبد النبيل التاجر، والثوب الحسن، ويشبه ذلك مما يستحسن، فالحلي المصنوع على هذا فيه الثواب، وهو نص قوله في المدونة، وأما قوله في الصفائح: إنه لا ثواب فيها، فإن كان أراد به الصفائح المصنوعة من الحديد لتنعيل الدواب، فالمعنى في ذلك: أنها كثيرة الحديد، لا يتحف بها من أهديت إليه، ولو أهداها إليه في الغزو عند عدمها والحاجة إليها لوجب أن تكون فيها للثواب، فإن كان أراد بها صفائح الذهب، أي: سبائكه، فإنه لا ثواب فيها؛ لأن سبائك الذهب بمنزلة نقر الفضة، لا ثواب لمن زعم أنه أراد بذلك الثواب؛ لأنها بمنزلة الدنانير والدراهم. وبالله التوفيق.(13/437)
[: تصدقت على زوجها بالصداق فمنت عليه فكتب لها صداقا إلى موته أو حالا]
ومن كتاب أوله بع ولا نقصان عليك وسئل: عن امرأة تصدقت على زوجها بصداقها، فمنت عليه بعد ذلك، فقال: أنا أكتب لك صداقا فكتب لها صداقا إلى موته، أو حالا، قال: إن لم تقبض الذي كتب لها فلا شيء لها؛ لأنها عطية لم تقبض.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله: إنه إذا لم تقبض ذلك في حياته، فلا شيء لها؛ لأنه إن كتب لها ذلك إلى موته، فهي وصية لوارث، وإن كتبه لها حالا فهو كما قال عطية تقبض وقد مضى ذلك في آخر رسم العرية، فلا معنى لإعادته.
[: الرجل يتصدق على امرأته بالمسكن وهو ساكن فيه]
ومن كتاب أوله سلف دينارا في ثوب إلى أجل
قال ابن القاسم، في رجل تصدق على امرأته بالمسكن، والمرأة تتصدق على زوجها بالمسكن، وهما ساكنان فيه. قال: أما ما تصدقت المرأة على زوجها مسكنا كانت تسكنه، فيسكن بها فيه كما هو، فإن سكناه بما فيه حوز له؛ لأن السكنى عليه أن يسكنها، وأما ما تصدق هو به عليها، من مسكن فسكن هو وهي، فلا أرى حوزها حوزا حتى تخرج منه، وتحوزها بما تحاز به الصدقات؛ لأنه كانت السكنى عليه، فلم يحزه بشيء يعرف، وأما الخادم يتصدق بها عليه، أو يتصدق هو بها عليها، فإنه إن كان كل واحد منهما يستخدمها ويرسلها في حوائجه، فإن ذلك حوز لكل واحد منهما، وإن انتفع به الذي تصدق به، وذلك أني سألت مالكا عن الرجل(13/438)
يتصدق عن المرأة بالخادم فيخدمها وتخدمه، هل تراه حِوَازًا؟ قال: نعم، والخدمة عند مالك إنما تكون على الزوج إذا لم يكن للمرأة خادم دخلت بها من صداقها، وقاله أصبغ كله، وكذلك الأمتعة، والوطء وفرش البيت وآنية المنزل، في ذلك كله، أي ذلك تصدق به عليها فهو حوز، وإن أقروه في المنزل معها وكانا يتواطيانه جميعا وينتفعان، إذا أعلن الصدقة بشهادة وبتل وأشهد لها وبالتخلي.
قال محمد بن رشد: أما المسكن الذي يسكنان فيه، فالفرق بين أن تكون هي الواهبة له، أو هو لها - بَيِّنٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَحْفَظُهُ؛ لأن السكنى عليه، فالأشياء سكن معها في ذلك المسكن، وإن شاء أخرجها منه إلى غيره. وأما الخادم فقد اختلف في حيازة كل واحد منهما إياها إذا وهبها له صاحبه، وبقيت على حالها يخدمهما جميعا؛ حسبما مضى تحصيله في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، ومضت أيضا في رسم الوصايا الذي فيه الحج والزكاة من سماع أشهب وحكم الوطء والثياب وحكم الخادم في مذهب ابن القاسم على ما قاله أصبغ، لا يرهن حيازة المرأة له انتفاع زوجها الواهب له به إذ لا يقدر على الانكفاف من ذلك.
وقوله: إنه يكتفي بالإشهاد على صفة من الإشهاد على عينة - صحيح؛ لأنه إذا وجد بيدها على الصفة الموصوفة في كتاب الصدقة والهبة حمل على أنه هو، فإن ادعى الورثة عليها أنه أَنَّ المتصدق به عليها غيره، وقد غيبته، كان القول قولها مع يمينها، وبالله التوفيق.(13/439)
[: تصدق الرجل بصدقة على ألا يبيع ولا يهب]
ومن كتاب أوله إن خرجت من هذه الدار قال: وقال مالك: إذا تصدق الرجل بصدقة أو وهب له الهبة، على ألا يبيع ولا يهب. قال: لا يجوز هذا، ويقال للمتصدق: إما أن يغتلها وإلا فخذ صدقتك، قال مالك: إلا أن يكون صغيرا أو سفيها، فيشترط عليه ذلك، إلا أن يحسن حال السفيه، ويكبر الصغير، فيكون لهما بتلا، فذلك جائز.
قال عيسى: أكره أن تقع الصدقة على هذا، فإن وقع مضى، ولم يرد وكان على شرطه.
قال سحنون: إذا تصدق عليه بصدقة أو وهب له هبة، على ألا يبيع ولا يهب، فهي له حبس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: إن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدق أن يبطل الشرط ويمضي الصدقة أو الهبة، فإن مات الواهب أو الموهوب له أو المتصدق، أو المتصدق عليه، بطلت الصدقة أو الهبة، وهو ظاهر قول مالك في هذه الرواية. ومثله قول ابن القاسم في رواية سحنون هذا من هذا الكتاب في الذي يتصدق على الرجل بالشيء، على أنه إن باعه فهو أحق به، يريد: بالثمن وبغير الثمن، قال: ليست هذه بشيء، ومثله أيضا قول ابن القاسم في رسم الكراء والأقضية من سماع أصبغ بعد هذا في الذي يتصدق على رجل بعبد له، ويشترط عليه أن له منه خدمة يومين من كل جمعة، إنها ليست بصدقة إن مات المتصدق، خلاف قول أصبغ فيه من رأيه، فالهبة على هذا القول على الرد، ما لم يجزها الواهب ويمضيه بترك الشرط، فإن استرد هبته من يد الموهوب له، وكان قد سقى وعالج، رجع عليه بما سمى وعالج، قياسا على ما قاله في المدونة في مسألة الفرس.
والقول الثاني: إن الواهب مخير بين أن يسترد(13/440)
هبته، أو ترك شرطه وورثته بعده، ما لم ينقض أمده بموت الموهوب له، فيكون ميراثا عنه، وهذا القول يأتي على ما في المدونة من قوله في مسألة الفرس وإن فات الأجل، لم أر أن يرد، وكان للذي بتل له بعد السنة بغير قيمة على تأويل من رأى أن الفرس ملكا لا حبسا عليه فالهبة والصدقة على هذا القول على الإجازة ما لم يردها الواهب أو ورثته بعده قبل فواتها كانقضاء أمد الشرط، وهو موت الموهوب له؛ لأنه حجر عليه الهبة والبيع طول حياته، وهو قول أصبغ من روايته في رسم الكراء والأقضية من سماعه بعد هذا.
والقول الثالث: إن الشرط باطل، والهبة جائزة، وهذا القول يأتي على ما في المدونة من أن الرجل إذا حبس الدار على رجل وولده، وشرط أن ما احتاجت الدار إليه من مرمة رمها المحبس عليهم أن الدار تكون حبسا على ما جعلها عليه، ولا يلزمهم ما شرط عليهم من مرمتها وتكون رمتها من غلتها، وقد قال محمد بن المواز: إنما ذلك إذا حيز المحبس، ومات بموت المحبس، وأما قبل ذلك فترد، إلا أن يسقط الذي حبسها شرطه، وتأويله بعبد في اللفظ غير صحيح في المعنى؛ لأنه إذا جعل للمحبس حقا في شرطه، وجب أن ينزل ورثته منزلته فيه. وعلى قول غير ابن القاسم في المدونة في مسألة الفرس: إن شرطه ليس مما يبطل عطية له، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه في سماع سحنون.
والقول الرابع: إن الشرط عامل، والهبة ماضية لازمة، فتكون الصدقة بيد المتصدق عليه، بمنزلة الحبس، لا يبيع ولا يهب حتى يموت، وإذا مات ورث عنه على سبيل الميراث، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقول مطرف في الواضحة. وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن الرجل له أن يفعل في ماله ما شاء، إن شاء بتله للموهوب له والمتصدق عليه من الآن، وإن شاء أعطاه المنافع خاصة طول حياته، وجعل المرجع بعد موته ليقضي من دينه ويرثه عنه ورثته بما له في ذلك من الغرض أن يستديم الانتفاع بما وهبه، وبدا إثر هبته عليه.
والقول الخامس: قال سحنون: إن ذلك يكون حبسا على الموهوب له أو المتصدق عليه بما شرط عليه من ألا(13/441)
يبيع ولا يهب، فإذا مات المتصدق عليه على هذا القول، رجع إلى المتصدق إلى ورثته إن كان قد مات، أو إلى أقرب الناس بالمحبس، على اختلاف قول مالك في المدونة فيمن حبس على معين، وقول سحنون في هذه المسألة معارض لقوله في نوازله في الذي يتصدق على رجل بعبد على ألا يبيعه ولا يهبه سنة، وهذه الأقوال كلها تدخل في مسألة سماع سحنون، في الذي يتصدق على الرجل بالشيء على أنه أحق به إن باعه بثمن أو بغير ثمن إلا قول سحنون، وسيأتي في رسم الجواب بعد هذا من هذا المعنى مسألة الذي يهب الجارية للرجل على أن يتخذها أم ولد، ونتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.
[مسألة: تصدقت على زوجها بمهرها أو بشيء من مالها ثم طلبت المثوبة]
مسألة قال ابن القاسم: إذا تصدقت المرأة على زوجها بمهرها أو بشيء من مالها، ثم طلبت المثوبة، وقالت: إنما تصدقت عليك للثواب، وأنكر الزوج، قال: يحلف الزوج بالله ما اشترطت عليه مثوبة ولا قبلت على الثواب، ويكون القول قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال فيها؛ لأن الثواب إنما يكون في الهبات، لا في الصدقات، إلا بشرط، فإذا ادعت عليه شرط المثوبة حلف على تكذيب دعواها على ما قال في الرواية ولو وهبته مهرها أو شيئا من مالهما، وقالت: أردت بذلك الثواب، لم يكن لها في الصداق ثواب باتفاق؛ لأن الثواب لا يكون في الدنانير والدراهم وكذلك إن كان المهر عرضا أو أصلا لم يكن لها في هبته ثواب، إن ادعت أنها أرادت بذلك الثواب؛ لأن أصله من نقله نحلة من الله فرضها الله فإذا تركته لم يكن لها فيه مثوبة؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ،(13/442)
وأما إن وهبته شيئا من مالها سوى المهر، فادعت أنها أرادت بذلك للثواب، فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: إنها لا تصدق، إلا أن يظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، وهذا نص قوله في المدونة.
والثاني: إنها لا تصدق ولا يكون لها الثواب، إلا أن تشترطه، ووجه هذا أن هبة كل واحد من الزوجين لصاحبه محمولة على أنه إنما وهبته ليتأكد ما بينهما من المودة والمحبة.
والقول الثالث: إنها تصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقها كالأجنبيين. حكى هذا القول عبد الوهاب في المقدمات. وبالله التوفيق.
[مسألة: الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده]
مسألة وسئل: عن الرجل يتصدق على ابنه بأم ولده، لا تكون تلك الصدقات شيئا ولا تكون بذلك حرة؛ لأنها قد ثبت لها ولاء لا يزول، فلا يحرمها ذلك على أبيها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن أم الولد لا تباع ولا توهب، إذ ليس لسيدها فيها سوى الاستمتاع بالوطء، طول حياته، ولو تزوج أمة فولدت منه ثم اشتراها فوهبها لابنه بعد أن أعتق لعتقت عليه بالملك.
[مسألة: تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها]
مسألة وسئل ابن القاسم: عن رجل سأل امرأته أن تضع عنه مهرها، فقالت له: إن حملتي إلى أهلي فهو عليك صدقة، فتصدقت به عليه على أن يحملها إلى أختها وكانت مريضة، ثم بدا له أن يحملها بعدما وضعت عليه الصداق، فخرجت هي من غير إذنه، فصارت إلى أختها، هل ترى الصداق له؟ قال: إن كانت خرجت مبادرة إليها لتقطع بذلك ما جعلت لزوجها فلا شيء عليه، وإن كان بدا له في حملها وأبى أن يسير بها وعلم ذلك، رجعت عليه بما وضعت عنه.(13/443)
قال محمد بن رشد: وقعت في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب أسلم مسألة معارضة لهذه في الظاهر، كان الشيوخ يحملونها على الخلاف لها، وهي قوله في المرأة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها: إن هذا حرام لا يحل؛ لأنه الدين بالدين. وقاله أصبغ، والصواب: أنها ليست بخلاف لها، إذ لا يصح أن يختلف في الذي وضعته عن زوجها صداقها على أن يحجها من ماله، إذن ذلك لا يجوز؛ لأنه الدين بالدين، وكذلك هذه المسألة، إن كانت تصدقت عليه بمهرها إلى أن يحملها إلى أختها من ماله اشتراء أو كراء، فيقول: إن المعنى في هذه المسألة إنه إذا وضعت عنه الصداق، على أن يخرج معها، ولا تمضي مفردة دونه، لا على أن يحملها من ماله وينفق عليها في شيء من سفرها سوى النفقة التي تجب عليه لها في مقامها، فإذا حملت المسألة على هذا، صحت وكانت موافقة للأصول، ولعلها لم يكن لها ذو محرم، يخرج معها، فكانت إنما بدلت الصداق له، على رفع الخرج عنها لخروجه معها، لا على أن ينفق عليها في ذلك.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة بغير محرم إلا مع ذي محرم منها» ، وقد مضى في سماع عيسى من كتاب الحج القول في وضعها الصداق عنه على أن يأذن لها في الخروج إلى الحج. وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده هل يجوز له أن يشتريها]
مسألة وسئل: عمن أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده، هل يجوز له أن يشتريها من المعمر، وهي لولده من بعده؟ وهل يجوز له أن يشتري العمرى من ربها حتى يكون له أصلها كما يجوز للمعمر؟(13/444)
قال ابن القاسم: أما إذا جعلت لولده من بعده، فلا يجوز لصاحبها أن يشتريها؛ لأن الأب ليس يبيع لقوم بأعيانهم، ولا يعرف عددهم، وأما المعمر فهو يجوز له أن يشتريها من صاحبها حتى يكون له أصلها إذا لم يكن لولده من بعده.
قال محمد بن رشد: أما إذا جعلها لولده من بعده، فلا يجوز للمعمر شراء الخدمة من المعمر؛ لأنه لا يملك بذلك الأصل، ولا للعمر شراء المرجع من المعمر، إذ لا يرجع إليه، وأما إذا لم يكن لولده من بعده، فيجوز للمعمر شراء الخدمة من المعمر باتفاق، ويجوز للمعمر شراء المرجع من المعمر على اختلاف.
وقد مضى بيان ذلك مستوفى في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم، ومضى ذكر الاختلاف في شراء المعمر المرجع في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب منه، وثاني المسألة مكررة في سماع أصبغ في هذا الكتاب. والله الموفق.
[: تصدقت بصدقة عبد أو وليدة في حياتها وصحتها ثم ذهب عقلها]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار قال: وسئل: عبد الرحمن بن القاسم عن امرأة تصدقت بصدقة عبد أو وليدة، أو دنانير في حياتها وصحتها، ثم ذهب عقلها من قبل أن تقبض الصدقة منها، هل يكون ذهاب عقلها مثل الموت؟ أم يأخذ المتصدق عليه صدقته؟ قال: لا أرى لأهل الصدقة فيها حقا، وذهاب العقل حتى يحاز عنها مالها بمنزلة الموت، فلا حق لهم فيها.
قال محمد بن رشد: ذهاب العقل كالعرض، فإذا مرض المتصدق أو(13/445)
ذهب عقله قبل أن تحاز الصدقة عنه بطلت، يريد: إلا أن يرجع إليه عقله أو يصح من مرضه قبل أن يموت فتنفذ الصدقة. وتؤخذ منه، فإن لم يرجع إليه عقله، ولا صح من مرضه حتى مات، بطلت الصدقة، وإن حوزه إياها في مرضه، وهو قول ابن القاسم في رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ بعد هذا. قال: وكل من تصدق بصدقة على من بلغ الحوز، فلم يحز لنفسه، حتى مرض المتصدق، فأجازه في مرضه، فلا صدقة له وهو بمنزلة من أوصى لوارث حين منعه في صحته، وأسلمه في مرضه، فلا يجوز ذلك له، وقال: ذلك يمنع، إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا، كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، وترجع ميراثا كالإقرار بدين لوارث في المرض لما فيه من التوليج للتهمة.
وقوله: إلا أنه لا يحاص بها الورثة ... إلى آخر الكلام - هو من قول ابن القاسم متصل به، فلا يجوز ذلك، وأدخل العتبي قول أصبغ في أثناء كلامه. وكان حقه أن يكون بعد تمام كلام ابن القاسم في المسألة، وإنما قال: إن الصدقة تبطل، وإن حوزه إياها في المرض، ولم يجعل تحويزه إياها كابتداع صدقة في المرض، فتكون في الثلث؛ لأنه لم يتبدئها في مرضه، وإنما ذهب إلى إمضاء ما فعله في الصحة، فوجب أن بطل.
وقوله: إنه لا يحاص بها أهل الوصايا كما يحاص بوصية الوارث - صحيح؛ لأنه إذا أوصى لوارث، فقد أراد إدخاله على الموصى لهم، وهذا لم يرد إدخال صاحب الصدقة عليهم، وإنما أراد إخراجها من رأس ماله بعد موته. وأما قوله: إنها تطرح من رأس ماله كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، فهو خلاف قوله في رسم أمهات الأولاد من سماع عيسى من كتاب الوصايا: إن الوصايات دخل في ذلك، مثل ما في الموصلي لمالك رواية يحيى، ومثل ما روى ابن وهب عنه من رواية الحارث: إن الوصايا لا تدخل في ذلك.
وجه رواية أصبغ وقول مالك في الموطأ وفي رواية ابن وهب عنه: أن الوصايا لا تدخل فيه - هو أن الميت أراد إنفاذ الصدقة من رأس ماله، وإنما ردت بالحكم لما(13/446)
أغفل عن تحويزها حتى مات، فوجب ألا تدخل فيه الوصايا. ووجه رواية عيسى في كتاب الوصايا: أن الوصايا لا تدخل في ذلك - هو أن المتصدق في صحته، لما لم يجز الصدقة حتى مات، دل ذلك من فعله على أنه ذهب إلى إبطالها، فوجب أن تدخل فيه الوصايا. وبالله التوفيق.
[: تصدق بذكر حق له على رجل ودفع إليه الذكر الحق وأشهد له]
ومن كتاب العشور قال ابن القاسم، في رجل تصدق بذكر حق له على رجل ودفع إليه الذكر الحق، وأشهد له، ثم خالفه إلى الغريم، فقبض منه ما عليه؟ قال ابن القاسم: إن كان الذي عليه الحق قد علم أنه تصدق به على المتصدق عليه، ودفعه إليه، فعليه غرمه للمتصدق عليه، ولا يرجع المتصدق عليه على المتصدق بأخذه منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي عليه الحق إن كان قد علم أنه تصدق به على المتصدق عليه، ودفع إليه، فعليه غرمه للمتصدق عليه - صحيح بَيِّنٌ، لا إشكال فيه؛ لأن صاحب الحق لما تصدق به على المتصدق عليه، قد دفع كتاب الحق، فقد وجب الحق له؛ لأن قبضه لذكر الحق الذي وهب إياه حيازة صحيحة، علم الذي عليه الحق بذلك أو لم يعلم، فإذا دفعه إليه بعد علمه بأنه قد تصدق به ولم يقبض كتاب ذكر الحق، فدفع الذي عليه الحق، الحق إلى المتصدق عليه بعد علمه بالصدقة لوجب عليه غرمها للمتصدق عليه؛ لأنه يصير بقبول الصدقة عليه قابضا له ما عليه، فوجب أن يغرم ذلك له، إن دفعه إلى المتصدق بعد علمه بالصدقة، ولو لم يعلم منه قبول الصدقة، ولم يقبض، لما كان الذي عليه الحق قابضا له إذا كان حاضرا، ولا وجب عليه أن يغرم له إن دفع ذلك إلى المتصدق، وإنما يكون قابضا له، وإن لم يقبل، ويلزمه عشرته إن دفعه إلى المتصدق بعد علمه بالصدقة إذا كان(13/447)
المتصدق عليه غائبا والصدقة بالدين، بخلاف الصدقة بالوديعة في الحيازة، إذ قد قيل: إن المودع يكون حائزا له على علم أو لم يعلم، وهو مذهبه في المدونة، وقيل: لا يكون حائزا له إلا أن يعلم وهو قول ابن القاسم في نوازل سحنون من هذا الكتاب وفي سماعه من كتاب الوديعة عليه، وجب عليه أن ... ويرجع به على المتصدق الذي دفعه إليه، وكذلك لو كان المتصدق عليه قد قبل الصدقة، وقيل: إنه لا يكون جائزا له، إلا أن يعلم ويرضى بالحيازة له، حسبما مضى القول فيه في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب، من كتاب الرهون، وفي سماع سحنون، من كتاب الوديعة، ولا خلاف في أن الذي عليه الدين حائز لما تصدق به عليه، وإن لم يعلم، إن كان المتصدق عليه غائبا أو حاضرا، فقبل. وبالله التوفيق.
[: الرجل يتصدق على الرجل ببيت في داره ولم يسم له مخرجا ولا مدخلا]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت قال: وسألت ابن القاسم، عن الرجل يتصدق على الرجل ببيت في داره، ولم يسم له مخرجا ولا مدخلا ولا مرفقا، ثم أراد المتصدق أن لا يمير في داره، وأن يفتح باب بيته الذي تصدق به عليه حيث شاء، فقال: لا يمنع من الممر في بيته إلى دار المتصدق، ولا شيء من مرافقه، لا شرب في بئر، ولا مخرج كنيف، سمى له عند الصدقة شيئا أو لم يسمه.
قال محمد بن رشد: اختلف إذا وقعت الصدقة ببيت من الدار، دون بيان في مرافق الدار، من المدخل والمخرج والاستسقاء من البئر والاختلاف إلى الكنيف وما أشبه ذلك، هل يكون للمتصدق عليه بالبيت من مرافق الدار(13/448)
بقدر البيت منها، أم لا؟ فقيل: إنه يكون له منها بقدر البيت من الدار، إلا أن يستثني ذلك المتصدق لنفسه في صدقته، وهو قول ابن القاسم في هذا الرواية، على قياس قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع، في البيع المبهم، وقيل: إنه ليس له من ذلك شيء، إلا ببيان من المتصدق في صدقته، ويفتح المتصدق عليه لبيته بابا حيث شاء، ولا يدخل عليه على دار المتصدق، ولا يكون له شيء من مرافقه، إلا أن لا يكون له حيث يفتح بابا، فيكون له المدخل إليه على دار المتصدق، وسائر مرافقه، وهو دليل قول أشهب في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع.
واختلف إذا وقعت الصدقة مبهمة دون بيان، على القول بأنه يكون للمتصدق عليه من المرافق بقدر صدقته، إلا أن يستثني من ذلك المتصدق لنفسه، وهو قوله في هذه الرواية، إن ادعى أنه إنما أراد يتصدق عليه بالبيت دون المرافق، فقيل: إنه لا يصدق في ذلك، وهو ظاهر قوله في هذه الرواية ومعنى ذلك، إذا لم يكن له دليل من يشاهد الحال، مثل أن يتصدق عليه ببيت من داره، يلاصق داره، فيعلم أنه إنما تصدق عليه بالبيت، على أن يصرفه إلى داره. وقيل: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، إلا أن يكون له انتفاع بالبيت إلا بالدخول إليه على دار المتصدق.
وهذا يأتي على ما وقع في رسم الكراء والأقضية من سماع صبغ بعد هذا من هذا الكتاب لمالك ولأصبغ من قوله، مبينا لروايته عن ابن القاسم في الذي يتصدق على رجل بناحية من أرضه سماها في غير تلك الناحية الذي تصدق بها من أرضه. وسيأتي القول على ذلك هناك إن شاء الله.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير واشترط أقساطا لمسجد كل عام]
مسألة قال: وسألت ابن القاسم عن رجل تصدق على ابن له صغير لم يبلغ الحوز، برقيق ودور وقرى وما فيها من زيتون أو فاكهة أو نوع من أنواع الشجر، وهو صحيح سَوِيٌّ وعمل في جميع الزيتون أن(13/449)
يخرج منه أقساطا مسماة لمسجد له في كل عام، وما بقي فهو صدقة على ابنه ذلك، وكان قد تصدق عليه بداره كلها، الداخلة والخارجة وما فيها من المساكين، إلا أنه جعل لابنة له صغيرة السكنى مع ابنه المتصدق عليه فيها ما لم تنكح، فإذا أنكحت فلا سكنى لها معه، وجعل لأمهات ولده ومواليه من الرجال والنساء الساكنين فيها أن يسكنوا مع ابنه ذلك حياته، فإن تزوج من العوليات أحد فلا سكنى لمن تزوج منهن فيها بعد تزويجها، وتصدق عليه أيضا بقرية فيها أرحى وأرض وزيتون وغير ذلك من الشجر، وجعل لمواليه الساكنين فيها ما كان تحت أيديهم من الأرض والشجر والمساكن، يرتفقون فيها ما قاموا لابنه ذلك المتصدق عليه بمرمة أرحيته، وعلاج سدها ومرمتها، وجلب ما يحتاج إليه من المطاحين، وغير ذلك من مرة الأرحى. فإن ترك الموالي ذلك فلا سكنى لهم في القرية، ولا مرفق لهم فيها، وما كان تحت أيديهم منها هو صدقة على ابنه ذلك، وكان تصدق عليه بهذه الصدقة صحيحا مسلما صدقة بَتًّا لله وعلى أن على ابنه في الزيتون الذي تصدق بها عليه خمسة أقساط من زيت، وهي عشرون ربعا في كل عام للمسجد الذي بنى لله عز وجل وجعل الأقساط المسماة للمسجد حراما محرما عليه وعلى الوارث بعده، حبس ذلك حبسا ذلك على مسجد في كل عام أو كان كل ما تصدق به على هذا الغلام في يدي أبيه حتى توفي وكان الغلام يوم توفي أبوه صغيرا لم يبلغ الحلم.
قال ابن القاسم: من تصدق على ابن له صغير لم يبلغ الحلم، بما ذكرت من العقار والأرضين والزيتون والفاكهة والرقيق والأرحى والدور، واشترط في جميع(13/450)
الزيتون أقساطا معدودة لمسجد في كل عام، من زيت، فإن ذلك كله جائز لابنه، ما دام صغيرا إذا هلك الأب على تلك الحال، وإن كان أبوه يلي تلك الصدقات، وكانت في يديه إلى أن مات؛ لأن الأب يحوز على ابنه الصغير حتى يبلغ الحلم.
قال: ولقد سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير في حجره بالعبد، وهو مع ابنه في بيت واحد، فيكون العبد يخدم الأب، ويخدم الغلام، أتراها صدقة جائزة؟ قال: نعم، أراها صدقة جائزة ثابتة للغلام، وإن استخدمه الأب حتى مات. قال مالك: أراها صدقة ثابتة للابن، إذا كان في حجره يليه. قال ابن القاسم: فالعقار والشجر أبين من العبد. قال ابن القاسم: وإن كان مما تصدق به على الغلام حوانيت لها كراء، ومساكين أو حمام أو أشياء لها كذا وغلات ولم يعلم كان يكريها للابن باسمه، أم لا وجهل ذلك من أمرها، ولم يكن أشهد على ذلك أحدا، فإنها للابن جائزة، إذا كان الأب لا يسكنها كلها أو جلها، فإن سكن الشيء اليسير منها التافه، فإن ذلك كله للابن، ما سكن منها وما لم يسكن.
قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه بالعبد والجارية، فيقيم العبد في يد الأب ما شاء الله، ثم يبيعه بذهب، ويشهد الأب عليه أنه قبله لابنه، ويتسلفها، أتراها للابن؟ قال: نعم إذا صح ذلك، والذي يتصدق بالقرى والأرضين والشجر، وأرحى والدور، أثبت عندي في الحوز مما وصفت لك في الرقيق، والأب يحوز لابنه الصغير، إلا أنه يعلم أن صدقته لم تخرج من يديه، مثل أن يتصدق عليه بالدار التي لا فضل في سكناها، فيسكنها كلها حتى يموت، وهو فيها، فلا يجوز هذا وما أشبهه، ولو كانت الدارات منازل فسكن في بعضها جازت كلها.
قال: سألت مالكا عن الرجل يتصدق على ابنه(13/451)
وأخبرني أن عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، صاحبي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حبسا دارا لهما، وكان يسكنان فيها حتى ماتا وكان الذي سكنا منها، ليس جلها، فمحازاها سكنا من الدار، وما لم يسكنا للابن منها، على ما قال ابن القاسم.
قال مالك: وذلك رأيي. قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا حبس أو تصدق بدور لها عدد، وسكن دارا منها كلها، لم تكن تلك الدار التي سكن جل الدور، وهي تبع لما تصدق به، جاز ما سكن من ذلك وما لم يسكن، إذا كان تصدق على ابن له صغير يليه، أو كبير فحاز ما لم يسكن فيه، فهذا دليل على هذا أنها جائزة.
قال ابن القاسم: وأما ما استثنى من أقساط الزيت من الزيتون، فإن ذلك لا يفسد صدقته، وهي شيء تافه في صدقته، والذي يسكن المنزل من داره أشد من هذه الأقساط اليسيرة. قال: وقد قال مالك في غير مسألة، في الرجل يحبس نخله أو دوره على قوم بأعيانهم، ويشترط من النخل كيلا مسمى لقوم يسميها بأعيانهم غير الذين حبس عليهم، فإذا انقرضوا فترجعها إلى الذين حبس عليهم، أو من غلة الدور، الدنانير فمسمى عددها في الشيء يجريه على مثل المسجد والفقراء، أو الرجل بعينه: إن ذلك جائز، إذا حازه الذي حبس عليه، أو كان صغيرا يليه الذي حبس عليه، وكان ينفذ ذلك في وجهه، جاز ذلك كله، وهذا مما لا اختلاف فيه.
قال ابن القاسم: وأما الدور والأرحى التي جعل لمواليه، واشترط عليهم القيام بأمر الأرحى لولده، فذلك جائز، إنما أعطاهم شيئا من منزل قد عرفوه وعرف وجه العمل فيه، فذلك جائز لا خطر فيه ولا غرر، وهو مما قَوَّى صدقة الابن، وحيازة الموالي مع حيازة الأب له حيازة، فإن ذلك قد ثبت له في رأيي فيما سمعت من مالك.(13/452)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أبي عثمان من أهل قرطبة، كتب بها محمد بن بشير القاضي، إلى ابن القاسم يسأله عنها، والسؤال عنها في ثلاثة مواضع:
أحدها: اشتراطه في صدقته على ابنه الصغير بداره أن يسكن معه ابنته الصغيرة حتى تنكح، وأمهات أولاده، ومواليه من الرجال والنساء، الساكنين فيها أن يسكنوا مع ابنه ذلك، فيها حياتهم، فإن تزوج من الموليات أحد، فلا سكنى لمن تزوج منهن بعد تزويجها، فأجاز ذلك، ولم يره مما تضعف به الحيازة في الدار، إذ لم يسكنها هو بنفسه، وإن سكنها أمهات أولاده؛ لأنه إنما أبقاهن في الدار لمكان ابنه المتصدق عليه، ليقمن بأمره فيما يحتاج إليه، ولم يفردهن أيضا بالسكنى معه فيها، إذا ترك معهن في ذلك مواليه من الرجال والنساء، الذين كانوا سكانا فيها أيضا، وسكناتهم فيها مع ابنه المتصدق عليه أو دونه حيازة، إذ ليس عليه إسكانهم؛ لأنهم أحرار، ومن أسكن رجلا مسكنا ثم تصدق به على غيره، فيكون المسكن فيه حيازة للمتصدق عليه به، على مذهبه في المدونة في أن قبض الخدم قبضا للموهوب له، ولو أفرد على أمهات أولاده بالسكنى في الدار مع ابنه المتصدق عليه، لكان ذلك حيازة، على ما حكى ابن حبيب عن المدنيين والمصريين، من غير أن يختلفوا عليه من أن سكنى أمهات المتصدق عليه معهم في المسكن الذي تصدق به عليهم آباؤهم، حيازة لهم، وإن كان تحته بتزويج أو شراء، ما لم يكن ذلك مسكنا له خاصا يستوطنه، فكيف إذا لم يفردهن بذلك، وشرك معهن فيه مواليه من الرجال والنساء، فهذا وجه قول ابن القاسم في إجازة هذه الحيازة، ويدخل فيها من الاختلاف ما في قبض المخدم للموهوب له على ما يأتي في سماع سحنون، إذ لا فرق في هذا بين الإسكان والإخدام، ويبين ذلك ما يأتي في رسم الكبش من سماع يحيى لابن القاسم، في أن من تصدق على والده الذي يحوز له بدار قد أسكن فيها بعض ولده، إنه لم يخرج منها الولد، كان يسكنها حتى مات الأب، لم يكن للمتصدق عليه شيء.(13/453)
فقول ابن القاسم في رواية يحيى هذه، مخالفة لقوله في هذه الرواية، على هذا كان الشيوخ يحملون ذلك، ويحتمل أن يفرق بين المسألتين بسكنى الابن المتصدق عليه في هذه الرواية في الدار الذي تصدق بها عليه أبوه مع أمهات أولاده ومواليه.
والموضع الثاني: اشتراطه في الزيتون الذي تصدق به على ابنه الأقساط من الزيت في كل عام للمسجد الذي بناه، إذا لم يحزها وأبقاها بيده، فأجاز ذلك قياسا على ما قاله مالك من أن الأب إذا تصدق، على ابنه الذي في حجره بالعبد وهو معه في بيت واحد، فيخدمها جميعا: إنه لا يوهن ذلك حيازة له، وقياسا على ما قاله أيضا في أنه إذا تصدق على ابنه الذي في حجره بالمسكن، فسكن اليسير منه، إن حيازته له صحيحة تامة. وقياسه في ذلك كله صحيح بين؛ إذ لا فرق بين أن يستثنى الأقساط لنفسه طول حياته، ثم يلحقها بالحبس بعد وفاته أو يستثنيها ليجعلها هو في المسجد طول حياته، ثم يكون حبسا بعد وفاته.
والموضع الثالث: جعله لمواليه الساكنين في القرية التي تصدق بها على ابنه الارتفاق بما كان تحت أيديهم من أرض القرية وشجرها ومساكنها ما داموا يقومون لابنه المتصدق عليه بمرمة أو حيته، وما يحتاج إليه من المطاحين، وغير ذلك، فإن تركوا القيام بذلك لم يكن لهم سكنى في القرية والارتفاق بشيء منها، فأجاز ذلك ابن القاسم، ولم ير فيه غررا ولا مخاطرة؛ لأنه رأى قدر ذلك معلوما بالعرف والعادة، لا توهينا للحيازة، بل رأى ذلك قوة فيها وتثبيتا لها لأن حيازة الوالد لابنه معه تقوية لحيازته.
وحكى الفضل عن يحيى بن عمر أنه قال: في الأرحية نظر؛ لأنه إنما جعل لهم ما جعل على أن يقوموا لابنه بمرمة الأرحية ومرمة سدها، وجلب ما يحتاج إليه من المطاحن وغير ذلك من مرمة الأرحية، فإن ترك الموالي ذلك فلا حق لهم في القرية، ولا مرفق فيها، فهذا عندي خطر وغرر، وربما كثر علاج الأرحية، وربما قل، فأعطاهم الذي أعطاهم على شيء مجهول، لا يعلمون ما يلزمهم فيه، فلا يحقه هذا، ولا يكون للموالي شيء مما أوصى(13/454)
لهم به على هذا الشرط، وتكون الأرحية وجميع ما جعل لمواليه لولده، وتكون مرمة الأرحية على الحبس. وقول يحيى بن عمر ظاهر في أن ذلك غرر، إلا أن ذلك لا يؤثر في صحة الحيازة كما قال، فإن لم يعثر على ذلك حتى فاته الأمر بسكناهم فيها، وقيامهم بما تحتاج إليه الأرحى كان عليهم الكراء في السكنى، كراء المثل، وكانت لهم قيمة عليهم في قيامهم بالأرحى ورجع من كان له الفضل منهم في ذلك على صاحبه بالفضل. وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له صغير في حجره بالنخل أيأكل منها]
مسألة قال ابن القاسم: وسألنا مالكا عن الرجل يتصدق على ابن له صغير في حجره بالنخل، وبالضأن، وبالمزرعة، أيأكل منها؟ قال مالك: ما أرى بأسا أن يأكل من ثمر النخل ويشرب من ألبان الضأن، ويكتسي من أصوافها إذا كان ذلك على ابنه.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، ومضى الكلام عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها. وساقها ابن القاسم هاهنا حجة لما أجاب به في مسألة أبي عثمان، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه بصدقة ثم احتاج]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: لو أن رجلا تصدق على ابنه بصدقة من عرض أو حيوان أو دينار، فحاز له ذلك، ثم احتاج، يريد: أن يكون يلي هو تلك العروض، فيحوزها له، ويضع الدنانير على يدي غيره، فاحتاج الأب - رأيت أن ينفق عليه ما يصلحه مما تصدق على ابنه، ورأى أن ذلك للأب جائز. قال: فقلت لمالك: فالدنانير، كيف تحاز؟ قال: بعضها على يدي غيره، فقلنا: وإن وضعها على يديه وطبعها، قال: في الدنانير والدراهم خاصة،(13/455)
لا أراها جائزة، حتى يخرجها من يديه إلى يدي غيره، ولم يرها مثل العروض والنخل والحيوان.
قال محمد بن رشد: لفظة "ثم احتاج" زيادة في المسألة وقعت على غير تحصيل، فبإسقاطها يتبين معنى المسألة؛ لأن قوله "يريد" إنما فسر به الحيازة، لا الحاجة، والاختلاف فيه في أن الأب إذا احتاج، جاز أن يستنفق مما يتصدق به على ابنه، وإن تمنع من ذلك حكم له به عليه.
وقد مضى ذلك في رسم حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها، تحصيل القول فيما يجوز للأب أو الأجنبي أن يأكله أو يشربه مما تصدق به من علته - مستوفى، فلا معنى لإعادته. وقوله في الدنانير والدراهم خاصة: لا أراها جائزة حتى يخرجها من يده إلى غيره، يريد: وكذلك ما كان في معنى الدنانير والدراهم من تبر الذهب والفضة، وكل ما لا يعرف بعينه، إذا غيب عليه من المكيل كله والموزون. وقد مضى ذكر ذلك واختلاف قول مالك في أول رسم من سماع ابن القاسم وفي رسم طلق بن حبيب منه، وهذه المسألة أيضا ساقها ابن القاسم حجة؛ لما أجاب به في مسألة أبي عثمان المذكور، وبالله التوفيق.
[مسألة: يحبس على الرجل الدار أو العبد حياته]
مسألة قال: وأما ما سكن من الموليات في داره ولابنته وأمانته، واشترط أن مرجع ذلك إلى ابنه المتصدق عليه بعد فوتهن وخسر وجهن إلى أزواجهن، فذلك أثبت لصدقة الابن، وهي جائزة له، لا في مسألة مالك عن الرجل يحبس على الرجل الدار أو العبد حياته، ويقول فيها: إذا مات الذي حبست عليه حياته، فهي لفلان صدقة بتلا، فيموت الذي حبسها، قبل أن يموت الذي حبسها عليه، وقبل أن يقبض الذي بتلها له، ثم يموت الذي حبس عليه،(13/456)
فقال: قال مالك: إذا حازها الذي حبست عليه حياته، جازت الصدقة للذي تصدق بها عليه بتلا، وإن لم يقبضها حتى يموت صاحبها الذي حبسها عليه، وحوز الذي أخدمها حياته، حوز للذي تصدق عليه بتلا، فكذلك المواليات والابن إذا سكن في حياته، وخدمها، فهي جائزة، وكل ما سألتني عنه من أمرها فأراها للابن جائزة. والله أعلم.
قال محمد بن رشد: هذا هو أحد المواضع الذي وقع السؤال من أجله، في مسألة أبي عثمان. وقد مضى الكلام عليه، وكلام ابن القاسم هذا كله بين وتنظيره لما نظر به سكنى المواليات والابنة في الدار المحبسة على ابنه بما نظر به من قول مالك صحيح، إلا أن في مسألة أبي عثمان المسئول عنها، زيادة شرط سكنى أمهات أولاده في الدار مع الموالي والموليات والابنة، وأنهم كانوا سكانا في الدار قبل التحبيس، ففي ذلك تضعيف للحيازة. ووجه يوجب الاختلاف فيها.
وقد مضى الكلام على ذلك في أول مسألة، ولم يلتفت ابن القاسم إلى شيء من ذلك، فأجاب بجواز الحيازة على القول بأن قبض الخدم والمسكن قبض للموهوب له، وذلك بخلاف قوله في رسم الكبش من سماع يحيى على ما ذكرناه في أول المسألة. وبالله التوفيق.
[مسألة: ما تصدق به عليه أبوه شيئا كان بكراء]
مسألة وإن كان ما تصدق به عليه أبوه شيئا كان بكراء، مثل الدور والحمامات والحوانيت، فكراء أبيه له كراء، وإن لم يقل اكتريت لابني، وإن لم يخرج ذلك إلى أحد يحوزه عن ابنه ذلك فحوز أبيه حوز، وكراؤه له كراء، إذا كان ما تصدق به عليه في صحة منه ما لم يبلغ الغلام وترضى حاله.(13/457)
قال محمد بن رشد: هذا الفصل من بقية جواب ابن القاسم في مسألة أبي عثمان وهو بيّن صحيح لا اختلاف فيه، ومثله من قوله في سماع أصبغ بعد هذا، وأنكر قول من خالف في ذلك، وقال: إنه قد أخطأ وصحف، وخالف سنة المسلمين، فلا يقوله من هو من أهل العلم ونصه الملاك بعد هذا في رسم يريد ماله. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير بصدقة فكان يحوز له حتى بلغ ورضي حاله]
مسألة قال ابن القاسم: قال مالك: ولو أن رجلا تصدق على ابن له صغير بصدقة، فكان أبوه يحوز له حتى بلغ ورضي حاله، فإذا بلغ ورضيت حاله، فلم يدفع إليه الصدقة، ولم يحزها، فلا صدقة له. وقد فهمت كل ما سألتني عنه، وفسرت لك كل ما سمعت.
قال محمد بن رشد: هذا آخر جواب ابن القاسم في مسألة أبي عثمان، وهو فصل بين لا اختلاف فيه ولا إشكال. وبالله التوفيق.
[: تصدق على ولد له بدنانير أو دراهم وقال لشريك له حزها له]
ومن كتاب أوله جاع فباع امرأته وسئل: عمن تصدق على ولد له بدنانير أو دراهم، وقال لشريك له: حزها له، فقال شريكه: اشهدوا أنها له عندي قد حزتها ثم مات أبو الصبي، فطلب الصبي صدقته، فزعم الشريك أنه قد دفع ذلك إلى أبيه وإنما كانت في شركته في يدي، قال: لا ينفعه ذلك، ويلزمه غرمها له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لما حاز لابن شريكه ما تصدق به من مال الشركة، وجب ذلك للابن، وخرج من الشركة، ووجب أن يكون(13/458)
ضامنا له إن دفعه إلى شريكه بعد أن حازه، وأشهدوا على نفسه بذلك، وذلك بمنزلة الرجل تكون له الوديعة عند رجل، فيتصدق بها على رجل ويأمره أن يحوزها له، فلا اختلاف في أنها حيازة تامة إذا رضي المودع بحيازتها له، حسبما مضى القول فيه في رسم العشور، فكيف إذا أشهد على نفسه بأنه قد حازها له. وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابنه الصغير بدار ثم باعها]
مسألة ومن كتاب أوله يدير ماله قال: وقال مالك، في الذي يتصدق على ولده الصغير، الذي يحوز له، بالغلة ويكريها لهم: إن ذلك جائز، إذا أشهد، وإن لم يكتب الكراء بأسمائهم، ومن يكري للصغير، ومن يشتري له، ومن يبيع له، إلا أبوه، وأنكر قول من يقول: لا يجوز إذا كتب الكراء باسم نفسه، وعليه، وكرهه كراهية شديدة، وقال: قد صحف، وقال: هذا خلاف لسنة المسلمين، ولا أعلم أحدا من الناس قال هذا.
قال محمد بن رشد: هذا من قول مالك، مثل ما تقدم من قول ابن القاسم في آخر رسم شهد، ونص قوله في أول رسم سماع أصبغ بعد هذا، فكراؤه ما تصدق به على ابنه محمول على أنه إنما يكريه له، حتى ينص أنه إنما باعه لنفسه، استرجاعا بصدقته، وذلك منصوص عليه في الواضحة لأصبغ. قال فيمن تصدق على ابنه الصغير بدار، ثم باعها: فإنه إن باعها باسم ولده، أو سكت، أو باع منها، فالبيع جائز، والثمن للابن على الأب في حياته وبعد وفاته؛ لأنه محمول على أنه باع له، إلا أن يشهد عليه أنه باع لنفسه نصا استرجاعا لصدقته وانحلالها فيرد البيع ويصرف الدار إلى الولد،(13/459)
حيا كان الولد أو ميتا، إن كان بيعه للدار بعد أن حازها مما يحوز به الأب صدقته على ابنه، وأما إن كان باعها قبل أن ينتقل عنها لنفسه، فيفسخ البيع إن عثر عليه في حياته، وترد الدار لولده وتمضي الصدقة له بها، وإن لم يعثر على ذلك حتى مات الأب، فلا صدقة له ولا حق في الدار، إلا في الثمن، والبيع ماض للمشتري، وسواء مات الأب فيها، أو كان قد أبانها إلى المشتري؛ لأنه لم يزل ساكنا فيها حتى باعها لنفسه، استرجاعا لها.
وذكر أصحاب الوثائق: أن الأب إذا تصدق على ابنه الصغير بما له غلة فاستغل الغلة وأدخلها في مصالح نفسه، وقامت بذلك بينة، ولم تزل كذلك إلى أن مات الأب، فالصدقة باطل، وهو عندهم بمنزلة السكنى إذا لم يخل الدار من نفسه وماله حتى مات فيها، فهي باطل. وفي المدنية لابن كنانة مثل ذلك، ودليل قول مالك في هذه الرواية، وقول ابن القاسم فيما تقدم في آخر رسم شهد في أول سماع أصبغ فيما يأتي: إن الصدقة جائزة، وإن استنفق الأب الغلة؛ لأن الكراء إذا كان محمولا على أنه لابنه فإنما استنفق من مال ابنه بعد أن وجب له، يأخذه منه في حياته وبعد وفاته، وهو نص قول أصبغ، في ثمن الدار إذا باعها بعد أن حازها لابنه باسم ولده، أو جهل فلم يعلم إن كان باعها بنفسه أو لولده: إن الثمن يكون له في مال أبيه حيا أو ميتا. وبالله التوفيق.
[: يتصدق على ابن له كبير حائز لأمره]
ومن كتاب الجواب قال: سألت ابن القاسم: عن الرجل يتصدق على ابن له كبير حائز لأمره، أو على أجنبي، بمدبر له يتصدق عليه برقبته، فيحوزه المتصدق عليه، ثم يموت الذي دبره، ولا مال له غيره، قال ابن القاسم: يعتق ثلثه ويكون ثلثاه رقيقا للمتصدق به عليه، وهو أولى به، وليس لورثته فيه قليل ولا كثير، وإنما هو بمنزلة الخدمة أن لو أخذه أجنبيا أو ابنا له كبيرا مالك أمره إلى أجل، فحازه وكان في(13/460)
يديه، ثم مات السيد ولا مال له غيره، فإنه يعتق ثلثه، ويكون المخدم أحق بثلثي الخدمة يختدم ثلثي المدبر، حتى ينقضي أجل الخدمة، والصدقة والخدمة في ذلك سواء، وإن تصدق على ابن له صغير في حجره، فمات ولا مال له غيره، أعتق ثلثه، وكان ثلثاه رقيقا للورثة، ولم يكن ابنه الصغير أحق به، ولم يكن له منه بالصدقة قليل ولا كثير، وفرق ما بين الصغير والكبير والأجنبي في ذلك؛ لأن أولئك قد حازوا وأخذوا من يد السيد إليهم، وأنه في الولد الصغير، هو في يد الأب، ولم يخرج، وليس حوزه للصغير في هذا يجوز؛ لأن المدبر من الأشياء التي لا يجوز له فعله هذا فيه، ولا إخراجه من يديه، فكأنه في يديه لم يخرج منه يفعل، ولم يحز عنه كما حاز الكبير والأجنبي.
ومما يدلك على ذلك أن لو تصدق رجل على ابن له كبير، مالك لأمره، أو على أجنبي بصدقة، فحازاها وقبضاها ثم قام على المتصدق غرماؤه بدين، ولم يدر الصدقة، كانت قبل الدين - كانت الصدقة أولى حتى يقيم أهل الدين البينة أنها بعد الدين. ولو تصدق على ابن له صغير في حجره، يجوز لمثله صدقته، وقام عليه غرماؤه، فلم يدر الدين قبل أم الصدقة، كان الدين أولى بها، حتى يعلم أنها قبل الدين، وكذلك قال مالك، وإلا بطلت الصدقة، ولم تكن تلك حيازة.
قال ابن القاسم: وإن علم علي بمكروه الصدقة، فالمدبر في مسألتك في حيازة المتصدق، ردت الصدقة، كانت على كبير أو على صغير، وكان على تدبيره وماله، وإن قبضه الأجنبي والكبير وباعه، ثم مات السيد فعثر على ذلك بعد موت السيد رد وعتق في ثلث السيد إن حمله الثلث، ورجع المشتري بالثمن على بائعه إن كان له مال، ولا اتبعه به دينا، فإن لم يترك السيد مالا غيره عتق ثلثه، وكان المتصدق عليه(13/461)
أولى ببقيته عما فسرت لك. قال أصبغ بن الفرج: وأنا أخالف ابن القاسم في صدقة الصغير بغير المدبر، وأرى حيازة الأب حيازة وأراها أولى حتى يعرف أن الدين كان قبلها، وهي كحيازة الكبير في ذلك، فلا يفترق حيازة الكبير لنفسه ولا حيازة الأب الصغير، إذا كان تخلى منها، فأما في المدبر، فرأي على قوله، وليس من قبل الفرق في حيازة الكبير والصغير، ولكن من قبل أنه لم تحل إن كانت مما لا تخرج من يديه بعطية جائزة. وبالله التوفيق.
قال محمد بن رشد: وقوله في الذي يتصدق بالمدبر على من يجوز لنفسه، فيحوزه المتصدق، ثم يموت الذي دبره، ولا مال له: إنه يعتق ثلثه، ويكون ثلثاه رقيقا للمتصدق عليه، معناه: إذا لم يعثر على ذلك حتى مات المتصدق، وأما لو عثر على ذلك في حياته، لفسخت الصدقة، ورد المدبر إلى الذي دبره؛ لأن المدبر لا يجوز بيعه ولا هبته ولا صدقته، أو هبة ما رق منه إن لم يحمله الثلث، وخدمته من الآن فقبضه وحازه من الآن، يحاز ذلك ولم يرد، وكان للمتصدق عليه بعد موته ما رق منه؛ لأن هبة المجهول جائز، كما يجوز رهنه، لجواز رهن الغرر، ويكون المرتهن إذا حازه أحق به من الغرماء بعد الموت، يباع له دونهم على ما قال في المدبر من المدونة، ولما لم يجز هبة المدبر، ووجب أن يرد وتبطل الحيازة فيه، إن عثر عليها قبل موت المتصدق، ويرد المدبر إليه، وجب إذا كانت الصدقة به على صغير ولده، أن يحكم ببطلان حيازته إياه له، فلا تعتبر بها. اتفق ابن القاسم وأصبغ على ذلك.
واختلفا إذا تصدق على صغير ولده، ثم قام عليه الغرماء، فلم يعلم، الصدقة قبل أم الدين؟ فقال ابن القاسم: الدين أولى، حتى يعلم أن الصدقة كانت قبله. وقال أصبغ، وهو قول مطرف وابن الماجشون: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين كان قبلها. ووجه ذلك: أن الأب لما أشهد أنه قد تصدق على ابنه بهذه الصدقة، وحازها له، وجب قبول قوله، وإعمال(13/462)
حيازته، وإمضاء صدقته، ولا ترد إلا بيقين أن الدين الذي ظهر، كان قبلها، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن حيازة الأب للصغير لا تعلم إلا من قبله، فإذا قال: قد حزت لابني قبل قوله مع السلامة من الدين، فإذا لم يتحقق أن كان يوم أشهد أنه قد حاز لابنه ما تصدق به عليه، سالما من الدين الذي ظهر عليه بعد ذلك، أو غير سالم منه، وجب أن ألا يقبل قوله، وأن يقضي للغرماء بهذا المال، الذي يعلم ماله له، حتى يعلم خروجه عن ملكه قبل ديونهم، فلا تبطل ديونهم إلا بيقين، إلا أن استدلاله على صحة قوله في إبطال حيازة الأب على ابنه الصغير، صدقة عليه بالدين، بطلان حيازته لما تصدق به، إذا لم يعلم إن كان الدين الذي ظهر قبلها أو بعدها لا يصح؛ لأنه من الاستدلال بالفرع على أصله، والحكم بثبوت الأصل قبل تسليمه.
فمسألة المدبر المتفق عليها هي الأصل، وهذه المسألة المختلف فيها هي الفرع، وحق الفرع أن يرد إلى الأصل بالعلة الجامعة بينهما، ولا اختلاف بينهما في أن الكبير إذا حاز ما تصدق به عليه لا يخرج صدقته من يديه، لا يتحقق أنه قبلها، فإن تحقق أن الدين قبلها، ردت الصدقة باتفاق. واختلف في العتق، فقيل: إنه يرد، وقيل: إنه لا يرد، وقيل: إنه يرد إلا أن يطول، وقد تأول أن ذلك ليس باختلاف من القول، وأن ذلك يرجع إلى أنه يرد، إلا أن يطول.
وقد مضى ذكر هذا في رسم الأقضية الأول، من سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس. ولا يعبر عند ابن القاسم بتاريخ أحدهما، إذا جهل الأول منهما، ويعتبر به على ما حكاه ابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه، حاشا المغيرة، فتخرج على هذا في الصدقة على الصغار، أربعة أقوال: أحدها: إن الصدقة أولى من الدين، وإن كان الدين مؤرخا. والثاني: إن الصدقة أولى من الدين، إلا أن يكون الدين مؤرخا، فيكون أولى من الصدقة. والثالث: إن الدين أولى من الصدقة، وإن كانت الصدقة مؤرخة. والرابع: إن الدين أولى من الصدقة، إلا أن تكون الصدقة مؤرخة، فتكون(13/463)
أولى من الدين. وتخرج في الصدقة على الكبار قولان: أحدهما: إن الصدقة أولى من الدين وإن كان الدين مؤرخا. والثاني: إن الصدقة أولى من الدين، إلا أن يكون الدين مؤرخا فيكون أولى من الصدقة. ومن باع دارا ثم وهبها، أو تصدق بها، أو حبسها ولم يعلم، كان البيع أولى أو الهبة أو الصدقة أو الحبس، فالبيع أولى. وقع ذلك في كتاب الهبات من الصدقة، وتخرج في ذلك على القول باعتبار التاريخ قول آخر، وهو أن البيع أولى إلا أن تكون الهبة أو الصدقة أو الحبس مؤرخا، فيكون أولى من البيع، وهذا إذا لم يقبض. وبالله التوفيق.
[مسألة: يسأل امرأته في مرضه أن تضع عنه مهرها]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يسأل امرأته في مرضه أن تضع عنه مهرها، أو تصدق عليه بشيء من مالها، فتفعل ذلك، ثم أرادت بعد موته، أو بعد أن صح من مرضه، أن تصدق عليه بشيء من مالها، فتفعل، ثم أرادت بعد موته، أو بعد الرجوع فيه، هل ترى ذلك لها بمنزلة الميراث؟ قال ابن القاسم: لا، ليس لها ولا يعجبني ذلك لها، صح أو مات، قضي فيه بشيء أو لم يقض، صرفه إلى موضع أو لم يصرفه، وليست الديون ولا الصدقات في هذا بمنزلة المواريث. وهذا وجه الشأن فيه وهو قول مالك، ورواها أصبغ.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن ما وهبت المرأة لزوجها من مالها أو من صداقها عليه في مرضه، أو في صحته، لازم لها، وجائز عليها، ليس لها أن ترجع في شيء منه في حياته، ولا بعد وفاته، إلا أن يكون أكرهها على ذلك بالإحافة والتهديد، أن يسألها ذلك، فتأبى، فيقول: والله لئن لم تفعلي ذلك لأضيقن عليك، ولا أدعك تأتي أهلك، ولا أدع أهلك يأتونك،(13/464)
على ما قاله في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم، من كتاب الدعوى والصلح، وما أشبه ذلك، فلا يلزمها؛ لأن إكراه الرجل امرأته إكراه على ما قاله في المدونة.
وقوله: ولا يعجبني ذلك لها، لفظ تجوز، والحقيقة فيه، ولا يسوغ ذلك لها، وقد يكنون بالمكروه عن الحرام، وأما إذا سألها في مرضه، أن تهب له ميراثها مما تخلفه، من بعضه فلا يلزمها ذلك، ولا أن ترجع فيه إذا مات، قضي فيه بشيء أو لم يقض، بخلاف الابن البائن عن أبيه، يسأله أبوه في مرضه أن يهب له ميراثه مما يخلفه، أو من بعضه، فهذا إن قضي فيه بشيء لزمه، ولم يكن له أن يرجع عنه على ما قاله في المدونة في الذي يستأذن ورثته أن يوصي بأكثر من ثلثه، فيأذنون له في ذلك، فيفعل، ثم يريدون أن يرجعوا فيما أذنوا له فيه بعد موته، أن ذلك لامرأته، وليس كان في عياله من ورثته، وإن كان مالكا أمر نفسه، دون ما لم يكن في عياله، وكان بائنا عنه، ولا يلزم الوارث على حال ما أذن لموروثه فيه، في صحته من الوصية لبعض ورثته أو بأكثر من ثلثه.
وقد مضى في رسم نقدها من سماع عيسى تحصيل القول في الوارث يهب في مرض موروثه أو في صحته، أو بعد موته ميراثه منه لبعض الورثة والأجنبي، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالجارية على أن يتخذها أم ولد]
مسألة قال: وسألته: عن الرجل يتصدق على الرجل بالجارية على أن يتخذها أم ولد، هل يحل له وطؤها؟
قال ابن القاسم: لا يجوز له وطؤها على هذا الشرط، وإن وطئها فحملت أم ولد له، ولا قيمة عليه؛ لأنه قد اتخذها كما اشترط عليه، وليس بمنزلة التحليل في القيمة؛ لأن التحليل إنما حل له فرجها، ولم يعط رقبتها، وهذا قد أعطي رقبتها كلها. وإن وطئها فلم تحمل، رأيتها له أيضا، ورأيتها مالا من ماله، يلحقها(13/465)
الديون إن لحقته، ويبيع ويصنع بها ... ولا يفسخ عنه الصدقة ولا ترد؛ لأنه إنما أعطيها على الوطء، وعلى طلب الولد، فقد وطئ، فإذا وطئ فقد طلب الولد، فأرى وطأه إياها فوتا، حملت أو لم تحمل، ولا قيمة عليه، حملت أو لم تحمل.
قال محمد بن رشد: قوله: لا يجوز له وطؤها على هذا الشرط - معناه: إن ذلك لا يجوزه حتى يوقف المتصدق، فإما أن يسقط الشرط، وإما أن يسترد الجارية، فإن مات المتصدق قبل أن يوقف على ذلك يخرج الحكم في ذلك على قولين:
أحدهما: إن ورثته ينزلون منزلته في ذلك، فيخيرون بين إسقاط الشرط أو استرجاع الجارية ما لم تفت بوطء على مذهب، أو يحمل على مذهب أصبغ.
والثاني: إن الصدقة تبطل إن مات قبل أن تفوت الجارية عند المتصدق عليه بوطء أو بحمل، على اختلاف قول ابن القاسم وأصبغ، فالصدقة على القول الأول على الإجازة حتى ترد، وفي القول الثاني على الرد حتى تجاز، فلا اختلاف في أنها تفوت بالحمل إذا أحبلها قبل أن يوقف المتصدق على إسقاط الشرط، أو استرجاع الجارية، فتجب له دون قيمته.
واختلف هل تفوت بالوطء؟ فأفاتها ابن القاسم في هذه الرواية، ولم يفتها له أصبغ على ما حكى ابن حبيب في الواضحة وأراد عنه أنه أفاتها بالبيع وبالعتق أو التدبير، أو ما أشبه ذلك، قبل أن يعلم بفساد الصدقة، لزمته القيمة؛ لأنها فاتت في غير ما أعطيت له، واستحسن ابن حبيب قول أصبغ، وأخذ به.
ويتخرج في المسألة قول ثالث: وهو أن تجوز الصدقة ويبطل الشرط، على ما قاله في المدونة في الذي يحبس الدار على رجل وولده، ويشترط أن ما احتاجت إليه من مرمة، رم المحبس عليهم، إن الدار تكون حبسا على ما جعلها عليه، ولا يلزمهم ما شرط عليهم من مرمتها، وتكون مرمتها من غلتها.(13/466)
وقد مضى في رسم إن خرجت الكلام مستوفى في الذي يهب للرجل الهبة، على أن لا يبيع ولا يهب، وهو معنى هذه المسألة، فقف على ما مضى من الكلام في ذلك، وتدبره، ومن تصدق على ولده الكبير بصدقة على أن لا ميراث له منه، فالصدقة باطلة، إن كان الشرط في أصل الصدقة، وإن كان أنشد إذ ذلك عليه بعد الصدقة وإن قرب، فالصدقة قول مطرف وابن الماجشون، وأصبغ.
واختلفوا إن كانت الصدقة على صغير، فقال أصبغ: إن ذلك بمنزلة إذا كانت على كبير، واختاره ابن حبيب، وقال ابن الماجشون: الصدقة ماضية، والشرط باطل، كان الشرط مع الصدقة أو بعدها. وقال مطرف: إن كان الشرط مع الصدقة، أو في قربها، باليوم واليومين، فالصدقة باطل، وإن تباعدت السواء بعد الصدقة فالصدقة ماضية، والسواء باطل وهذا أضعف الأقوال. وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لامرأته خمسون دينارا من مالي صدقة عليك إلى عشر سنين]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يقول لامرأته خمسون دينارا من مالي صدقة عليك إلى عشر سنين، إلا أن تموتي قبل ذلك، فلا شيء لك، وهي لولدي.
قال ابن القاسم: فهو على ما قال، إن بقيت المرأة إلى عشر سنين، أخذتها، إن كان الزوج حيا صحيحا، وإن ماتت المرأة قبل ذلك، فلا شيء لورثتها، وهي للولد كما جعل، إذا جاءت العشر سنين، وهو حي صحيح، وإن مات الرجل قبل العشر سنين، فلا شيء لا للمرأة ولا لغيرها، وإن أوفت العشر سنين، والرجل مريض، والمرأة باقية، ثم مات من مرضه، فلا شيء لها، في ثلث ولا رأس مال؛ لأنها بمنزلة من تصدق عليها بصدقة(13/467)
فلم تقبضها حتى مات المتصدق، فلا شيء للمتصدق عليه حينئذ في ثلث ولا غيره.
فإن قلت: إن هذا أنني الأجل عليه وهو مريض، فساعتئذ وجبت، فكأنها صدقة في العرض، فصدقت، ولكن الأصل كان في الصحة، وبه يتم، فمن هناك بطلت، وما يدل على ذلك، الرجل يعتق عبده، بعد عشر سنين، وهو صحيح، فتأتي العشر سنين، والسيد مريض، فلا يضر ذلك العبد، ويكون حرا من رأس المال؛ لأن الأصل كان في الصحة يجوز له القضاء في ماله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها؛ لأنها صدقة تصدق فيها في صحته، أوجبها على نفسه في ذمته كامرأته إن بقيت إلى عشر سنين، أو لولده إن ماتت قبل العشر سنين، فإن أتت العشر سنين، وهو حي صحيح، وجب الخمسون لها إن كانت حية، مريضة كانت أو صحيحة، وإن كانت قد ماتت قبل ذلك، كانت الخمسون لولده إن كان حيا صحيحا كان أو مريضا ولورثته إن قد مات، وإن أتت العشر سنين، وهو مريض أو مات قبل ذلك، لم يكن لواحد منها شيء ولا لورثته؛ لأنها صدقة تحز على المتصدق حتى مرض أو مات. وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول وهو صحيح ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان عشت أو مت]
مسألة قال: وسألت: عن الرجل يقول وهو صحيح: ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان، عشت أو مت، أو يقول: ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان، إلى عشر سنين، أو عبدي على مثل ذلك؟
قال ابن القاسم: أما الذي قال ثلاثون دينارا من مالي صدقة عليه عشت أو مت، فهو إن قام عليه في حياته، أخذها منه متى قام(13/468)
عليه، وإن مات الواهب قبل أن تؤخذ منه، كانت في الثلث، وأخذها من ثلثه، وإن مات المتصدق عليه قبل أخذها فورثته في متابه لهم ما كان في حيازة المتصدق، وبعد مماته، وكذلك هو في العبد، لو قال ذلك فيه، وجعل له فيه، مثل ما جعل في الدنانير، هما سواء؛ لأن هذا بتل قد بتله له عاش أو مات، وأما الذي قال: بعد عشر سنين، فلا شيء له، إلا العشر سنين، فإن أتت العشر السنون والمصدق حي أخذها، دنانير كانت أو عبدا، وإن مات المتصدق عليه بها بعد العشر سنين، فورثته في مثابته بعد عشر سنين، وإن مات المتصدق بها قبل العشر سنين، فلا شيء للمتصدق عليه ولا لورثته، عاجلا ولا إلى عشر سنين، لا في ثلث ولا في رأس مال، ولا غير ذلك؛ لأنها بمنزلة صدقة لم تقبض، حتى مات، فهي باطل، ليست بشيء في ثلث ولا غيره، وإن استحدث المتصدق بها دينا قبل العشر سنين، بيعت هذه الصدقة في دينه، إن كان شيء بعينه، وبطلت الصدقة، ولكن إن أراد المتصدق بها بيعها من غير دين يلحقه، منع من ذلك، ولم يكن له ذلك، وإن كانت جارية لم يطأها، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي قال في صحته: ثلاثون دينارا من مالي صدقة على فلان، عشت أو مت، وقال ذلك في عبده، إنه إن قام عليه بصدقته في حياته، أخذها منه متى ما قام عليه - بَيِّنٌ صحيح، لا اختلاف فيه بين مالك وجميع أصحابه؛ لأنها صدقة بتلها في صحته وبعد موته، فيحكم عليه بها في صحته من رأس ماله، وبعد موته من ثلثه كما قال، إلا أنه يختلف إن لم يقم عليه بها في صحته حتى مات، فوجب أن يكون في ثلث ماله، هل يكون حكمها حكم الوصية في جميع أحوالها؟(13/469)
فيكون للمتصدق أن يرجع فيها، ويدخل إلا فيما علم به من ماله، ويبطل بموت المتصدق عليه قبله، فلا يكون لورثته، ويحاص بها المتصدق عليه أهل الوصايا، ولا يحكم بها للمتصدق عليه في مرض المتصدق إن كان له أموال مأمونة، أو لا يكون حكمها حكم الوصية في شيء من ذلك، فلا يكون للمتصدق أن يرجع فيها، ويدخل فيما علم به من ماله، وفيما لم يعلم، ولا تبطل بموت المتصدق عليه قبله، فينزل ورثته فيها منزلته، وتبدأ على الوصايا ويحكم للمتصدق عليه بها على المتصدق في مرضه إن كانت له أموال مأمونة، فيأتي على قياس مقول ابن القاسم في هذه الرواية: إنه إن مات المتصدق عليه بها قبل أخذها في مثابته، لهم ما كان له في حياة المتصدق، وبعد مماته، وهو قوله في سماع سحنون بعد هذا: إنه لم يقم بصدقته حتى مات المتصدق حكم له فيها بثلثه، ويدعي بها على الوصايا، وأما إن قام عليه بها في مرضه؟ وله أموال مأمونة، حكم له بها، وأنه لا يكون للمتصدق الرجوع فيها فيختلف من هذه المسألة في هذه الخمسة مواضع، إذا لم يقم بصدقته حتى مرض أو مات، هل يحكم له بحكم الوصية فيها أم لا؟ وحكم لها محمد بن دينار في المدنية بحكم الوصية، في أنها تبطل بموته قبل موت المتصدق دون سائر أحكامها التي ذكرناها، فيقال: إنه إن قام في صحته، أخذ من رأس ماله، وإن مرض قبل أن يأخذها، أو مات، كانت له من ثلثه، مبدأة على الوصايا؛ لأنه لم يقدر على الرجوع فيها، ولو كانت له أموال مأمونة، حكمت بها للمتصدق عليه بها في مرضه قبل موته من ثلثه، فأما إن مات المتصدق عليه بها في مرضه قبل موته من ثلثه، فأما إن مات المتصدق عليه في حياة المتصدق في صحته، كانت لورثته، وإن لم يقبضها ورثته حتى مات، لم يكن لهم شيء.
قلت: فإذا مات المتصدق عليه بها قبل المتصدق، فورثته في مثابته ما دام المتصدق حيا، فإذا مات المتصدق بعد موت المتصدق عليه، لم يكن لورثة المتصدق عليه فيها حق، قال: نعم؛ لأني لم أقدر أعطيهم بصدقة الصحة، إن صدقة الصحة لا تثبت إلا بالحيازة،(13/470)
فبطلت صدقة الصحة، حين لم تحز في الصحة بما تحاز به الصدقات، فبطلت صدقة الصحة، وبقيت له الوصية، وإن كانت مؤكدة، فقد مات الوصي له بها قبل أن تجب له الوصية، ولا شيء لمن مات من أهل الوصايا قبل موت الموصي. هذا نص قول ابن دينار، وليس بقياس.
قال محمد: فاستحب للكاتب أن يكتب في الصدقة عاش أو مات، فإنه إن مات قبل أن يحوز، كان في الثلث، وليس ذلك بصحيح، وإنما الذي يستحب له أن يعلمه بالحكم في ذلك، فيكتب ما يختار أن يعلمه على نفسه.
وقد مضى الكلام في المسألة التي قبل هذه، في الذي قال: ثلاثون دينارا من مالي صدقة، على فلان إلى عشر سنين. وبالله التوفيق.
[: الرجل ينحل ابنته نحلة فتتزوج ثم يموت زوجها فيريد أبوها اعتصار تلك النحلة]
ومن كتاب أوله باع شاة واستثنى جلدها قال عيسى: وسألته عن الرجل ينحل ابنته نحلة، فيتزوجها رجل على تلك النحلة، ثم يموت عنها أو يطلقها، فيريد أبوها اعتصار تلك النحلة، هل يكون ذلك، وقد دخل زوجها بها فمات عنها، أو طلقها، والصدقة في يدها، أو لم يدخل بها حتى مات عنها زوجها أو طلقها؟
قال ابن القاسم: ليس له أن يعتصرها، دخل بها أو لم يدخل؛ لأنها إنما أنكحت عليها، فهو شيء بمنزلة ما قد فات وقد يمنع الأب ما دون هذا، أن يهب الجارية لابنه، فيطؤها الابن، فلا يكون له أن يعتصرها، وكل من وهب لابنه هبة أو نحله نحلا من ذكر أو أنثى حتى تنكح عليها، أو يداين بها، فيرهقه دين، ثم يطلق الابن المرأة أو يطلق الزوج الجارية أو(13/471)
يستحدث الابن ما لا يؤديه في دينه، فلا اعتصار للأب في شيء من ذلك كله وهو وجه ما كنت أسمع. قال ابن القاسم: والمرض مخالف لهذا؛ لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه، فلو مرض أحدهما، لم يكن للأب أن يعتصر في مرض واحد منهما، ولو صحا بعد ذلك، كان الأب أن يعتصر.
قال سحنون: إذا مرض هو نفسه، فأراد أن يعتصر، فليس ذلك له، قيل له: فإن أفاق فأراد أن يعتصر، قال: ذلك له، وليس يشبه المعتصر المعتصر منه. قال أصبغ: إذا صح المريض منهما أو طلق الابن، أو طلق الابنة زوجها أو ودى ذو الدين منهما دينه، فليس للأب أن يعتصرها بعد ذلك؛ لأن الأب قد امتنعت عصرته منه لما أحدث بها العصرة، فإذا انقطعت العصرة بشيء من هذه الأشياء التي انقطع من هذه الأشياء يوما واحدا لم تعد أبدا ولم يكن له أن يعتصرها، وأما من وهب لابنه وهو متزوج، أو لابنته وهي متزوجة، أو هو مريض، أو مريضة، أو مديان، فإن له أن يعتصر منهما إذا وهب لهما في هذه الحالات، فله العصرة فيها حتى يحول حاله إلى غير ذلك.
قال محمد بن رشد: الأصل في الاعتصار قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لأحد أن يهب هبة ثم يعود فيها إلا الوالد» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ للبشير بن سعد، في الغلام الذي كان نحله ابنه النعمان: "ارتجعه" إذا لم ينحل سائر ولده مثل الذي نحله، فالرجل يعتصر ما(13/472)
وهب لولده، ما لم يداين، أو ينكح، أو يمرض، أو يموت، أو يمرض الأب أيضا أو يداين، فليس له أن يعتصر لغرمائه ولا لهم ذلك. قال ابن المواز: فإذا ابن الأب دينا لا يفي به ماله سوى الهبة، أو نكح على الهبة، أو بسببها، ارتفعت العصرة، ولا حجة للغرماء، إذ استدان دينا يفي ماله سوى الهبة، ألا ترى أنه لو وهبها لغير الأب، لم يكن للغرماء في ذلك حجة، إذا اعتصرها الأب؟ واختلف إذا نكح وداين بغير سبب الهبة، مثل أن يكون الابن موسرا فيهب له أبوه الشيء اليسير الذي يعلم أنه لم يزوج ولا دوين من أجل الهبة.
فقال ابن القاسم: إن ذلك لا يقطع العصرة، وهو قول مطرف، وروايته عن مالك، وقول أصبغ، وابن الماجشون: إن ذلك يقطع العصرة والذكر والأنثى في ذلك سواء. وذهب ابن دينار إلى أن نكاح الابن الذكر على الهبة، لا يقطع الاعتصار فيها، بخلاف الابنة، وهو دليل قول عمر بن الخطاب في المدونة من أنه قضى أن الولد يعتصر، ما دام يرى ماله، ما لم يمت صاحبها فيقع فيها المواريث، أو تكون امرأة تنكح، خلاف مذهب ابن القاسم في هذه الرواية، ومن سواه، وإذا مرض المعتصر أو المعتصر منه، فالمشهور أن ذلك يقطع العصرة. وروى أشهب عن مالك في كتاب ابن المواز: أن يعتصر.
وإن كان مريضا، قال: ولو كان الابن هو المريض، فلا أدري. وقال ابن نافع: للسيد أن يعتصر مال مدبره وأم ولده في مرضه، وإن كان الانتزاع حينئذ لغيره، فعلى هذا يكون الأب أن يعتصر في مرضه. واختلف على القول بأنه يقطعها، هل يعود بزوال المرض؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: إن العصرة تزول بزوال المرض، كان المريض منهما هو المعتصر أو المعتصر منه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية، قال: لأن المرض أمر لم يعامله الناس عليه، فهو بخلاف النكاح والمداينة، وهو قول مطرف والمغيرة وابن دينار.
والثاني: إنها لا تعود بزوال المرض، وهو قول أصبغ في هذه الرواية وقول ابن الماجشون، وروايته عن مالك، والقول الأول أظهر؛ لأن الاعتصار إنما امتنع في المرض، مخافة الموت، فإذا زال المرض،(13/473)
ارتفعت العلة بزواله، ولو اعتصر في المرض، فلم يعثر على ذلك حتى صح، لوجب أن يمضي. ولو قيل: إن الاعتصار في المرض يكون موقوفا حتى ينظر، هل يصح أو يموت؟ لكان هو وجه القياس والنظرة.
والثالث: قول سحنون في تفرقته بين مرض المعتصر والمعتصر منه، ولا يقطع العصرة في الهبة فواتها، بحوالة الأسواق، ويختلف فواتها بتقريرها في الزيادة والنقصان، فقال مطرف وابن الماجشون: إن ذلك لا يقطع العصرة. وذهب أصبغ إلى أن ذلك يقطعها، وسيأتي في سماع سحنون بقية القول في هذا المعنى إن شاء الله.
وكذلك اختلفوا في وطء الابن الجارية الموهوبة، هل يقطع العصرة فيها أم لا؟ فذهب أصبغ إلى أن ذلك يقطعها، ورواه عن ابن القاسم، وهو قوله في المدونة وفي هذه الرواية، وذهب مطرف وابن الماجشون: إلى أنه لا يقطعها؛ لأن ذلك لا يمنعه من بيعها، وما يريد من الانتفاع بثمنها، إلا أنها توقف بعد العصرة، فإن صح رحمها، تمت العصرة، وإن ظهر الحمل امتنعت العصرة، فلا اختلاف في أن بموت الموهوب له يقطع الاعتصار.
واختلف إذا وقعت الهبة في الحال الذي إذا حدث بعد الهبة، قطع الاعتصار، مثل أن يهب له وهو مريض أو مديان، أو يتزوج، فقال ابن الماجشون: لا عصرة في ذلك، وإياه اختار ابن حبيب. وقال أصبغ: له أن يعتصر، ما كانت الحال واحدة، مثل يوم وهب، والأم فيها تهب لابنها الكبير المالك لأمر نفسه، في الاعتصار، بمنزلة الأب، يعتصر ذلك منه، ما لم يداين أو ينكح أو يمرض أو يموت. وكذلك تعتصر ما وهبت لابنها الصغير، إذا كان له أب، وإن حاز الهبة عنها، ولا يعتصر ما وهب له إذا كان يتيما يوم الهبة، وأصابه اليتم بعد ذلك، هذا مذهب ابن القاسم ومطرف وروايتهما عن مالك. وذهب ابن الماجشون: إلى أنها لا تتعصر ما وهبت لابنها إذا حاز الهبة عنها أبوه، أو وصيه أو هو كان يلي نفسه، وإنما تعتصر ما وهبت له إذا كانت هي التي تليه، فلم تخرج الهبة عن يدها. واختلف في الجد والجدة، والمشهور أنه لا عصرة لهما وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وروى(13/474)
أشهب عنه في كتاب محمد أن للجد الاعتصار، قال: لأنه يقع عليه اسم أب. ووجه القول الأول أن الهبة قد انتقلت إلى ملك الموهوب له، فلا تخرج عن ملكه بيقين، وهو الأب الذي ورد فيه النص، والاعتصار لا يكون في الصدقات إلا بشرط، وإنما يكون في العطايا، من النحل، والهبات، وشبهها. واختلف إذا وهب، فقال في هبته: لله، أو لوجه الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله، فقيل: إنه ليس له أن يعتصر ذلك إلا بشرط، وهو قول ابن الماجشون، وقيل: له أن يعتصر وإن لم يشترط العصرة ما لم يسمها صدقة، وهو قول مطرف. وسيأتي ذلك في نوازل سحنون، وبالله التوفيق.
[مسألة: نحله أبوه نحلة فتزوج هل لأبيه أن يعتصر تلك العطية]
مسألة وعن الرجل البائن من أبيه الذي له المال، الناقد التاجر، الذي ليس بمولى عليه في شيء من أموره نحله أبوه نحلة، ثم تزوج بعد ذلك، وهو ممن لا يزوج لتلك النحلة فيما يرى الناس، هل لأبيه أن يعتصر تلك العطية؟
قال ابن القاسم: نعم، له أن يعتصرها ما لم يأت من ذلك ما يكون عليه زيادة كبيرة، ويعلم أنه إنما زوج بذلك، فأما الرجل صاحب ألف دينار، ينحله أبوه العبد، أو يهبه له ثمن العشرين دينارا أو الثلاثين، وما أشبهه من الأشياء ثم يتزوج، فيريد أن يعتصره أبوه، فهذا لأي منح منه؛ لأنه يعلم أنه لم يزوج لمكان هذا العبد، وإنما لغناه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم ذكر الاختلاف في أثناء هذه المسألة التي قبلها، وهذا القول أظهر؛ لأن الأصل وجوب العصرة للأب إلا أن يمنع من ذلك مانع، من حق زوج، أو غريم، أو وارث، وما أشبه ذلك من المعاني القاطعة للاعتصار. وبالله التوفيق.(13/475)
[: وهب لرجل عبدين هبة ثواب أو وهب له ثوبين]
ومن كتاب العتق قال عيسى: قلت لابن القاسم: لو أن رجلا وهب لرجل عبدين هبة ثواب، أو وهب له ثوبين، فأقاما في يديه أياما ثم ارتفعت لهما قيمة، وسوق، فأعطاه الموهوب له أحد العبدين، أو أحد الثوبين مثوبة له، قال عيسى: ليس له أن يعطيه أحد عبديه ثوابا أو أحد ثوبه ثوابا. قلت: وإن ارتفعت قيمة أحدهما حتى يكون مثل قيمتهما يوم وهبهما، قال: نعم، إلا أن يرضى الواهب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، لو أراد أن يرد أحدهما ويعوضه من الآخر، كان الأدنى، أو الأرفع، لم يكن له ذلك على مذهبه في المدونة، وهو الصحيح في القياس والنظر، خلاف قول أصبغ في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب؛ لأنه قادر على أن يأخذهما أو يردهما جميعا، فليس له أن يأخذ أحدهما ويرد الأخرى كما لو بيعا على الخيار، أو كما لو استحق بين يدي المشتري فأراد المستحق أن يأخذ بعضها ويجيز البيع في بعضها، بخلاف استحقاق أحد الثوبين أو العبدين، أو الباقي لازم للمشتري، إذ لا قدرة للمستحق إلا ما استحق خاصة، فإذا لم يكن له أن يشبه من أحدهما، ويرد إليه الآخر، فأحرى ألا يكون له أن يرد أحدهما ولا يشبه من الآخر؛ لأنه إنما ملك في أن يردهما جميعا أو يعوضه منهما جميعا، فليس له سوى ذلك. وبالله التوفيق.
[مسألة: الهبة ومكثها عند الذي وهبت له حتى يجب عليه ثوابها]
مسألة قلت لابن القاسم: ما أمر الهبة ومكثها عند الذي وهبت له حتى يجب عليه ثوابها؟ قال: قال مالك: إذا تغيرت بنماء أو نقصان، قلت لابن القاسم: وإن طال مكثها، قال: نعم. قال(13/476)
ابن القاسم: إلا أن يريد فيأبى أن يثيبه، فلا يلزم الموهوب له ثواب، والواهب على هبته، يأخذها إن شاء ولا يلزم الموهوب له ثواب، إذا كانت على حالها، وفضل حال، وكذلك بلغني عن مالك. قال ابن القاسم: فإن كانت جارية فوطئها الموهوب له، لزمه قيمة الثواب، وتعجيله، فإن فلس الموهوب له، كان للواهب ما وهب، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها يوم وهبها ويأخذوها. قال ابن القاسم: النماء والنقصان فوت، ويجبر الموهوب له على الثواب.
قال محمد بن رشد: مذهب ابن القاسم في الهبة للثواب، أن الواهب إذا دفعها للموهوب له، فقد ملكه إياها بقيمتها، وانقطع خياره فيها، فكان الموهوب له هو المخير، بين أن يردها أو يثيبه فيها بقيمتها، ما لم تفت عند الموهوب له. قال مرة بالنماء والنقصان، وهو قوله في المدونة وأحد قوليه في هذه الرواية، ويلزمه القيمة فيها وينقطع خياره.
وأما طول الزمان، وحوالة الأسواق، فليس يفوت ولم يختلف في ذلك قوله، ووقع في كتاب الشفعة من المدونة ما يبدل أن الواهب أحق بهبته، وهو بالخيار فيها ما لم يرض منها حتى تفوت عند الموهوب له بزيادة أو نقصان، وهو قوله فيه؛ لأن الناس إنما يهبون الهبات للثواب، رجاء أن يأخذوا أكثر من قيمة ما أعطوا، وإنما رجعوا إلى القيمة حين تشاحوا بعد تغير السلعة، ومثله في المدونة من رواية عيسى عن ابن القاسم، خلاف رواية محمد بن يحيى السيابي عن مالك فيما قال.
وحدثني محمد بن يحيى السيابي أنه سمع مالكا يسأل عن الرجل يهب الهبة لرجل رجاء ثوابها، فيثبته بقيمتها أو بأكثر من ذلك، فيقول الواهب: لا أرضى بهذا ثوابا، ولم يبلغ فيه رضاي، كيف الأمر فيه؟ قال: لا ينظر في هذا إلى قول الواهب، ويسأل عن تلك الهبة أهل البصر، فيعطي قيمتها، وليس له غير ذلك، وليس له على الموهوب له في هبته قيمتهما خمسون(13/477)
دينارا، إلا أن يشاء، وليس للواهب على الموهوب له أكثر من قيمته. قال عيسى: قال ابن القاسم: إنما هذا إذا فاتت أو نقصت، فأما إذا لم تفت، وكانت قائمة بعينها، وهي على حال ما وهبها أو أفضل، فهو مخير بين أن يأخذ ما أشبه، وبين أن يأخذ هبته، وليس النمل في الهبة فوتا، وإنما الفوت فيها النقصان.
وذهب مطرف إلى أن الواهب أحق بهبته، وهو بالخيار فيها ما لم يرض، وإن فاتت حتى يفوت موضع الرد فيها بموت وما أشبه ذلك، فحينئذ تلزمه القيمة، ولا يكون لواحد منهما في ذلك خيار، وروي ذلك عن مالك، وهو معنى حديث عمر. وروى ابن الماجشون، عن مالك: أن الهبة للثواب إذا قبضت، لزم الموهوب له فيها القيمة بالقبض، ولم يكن فيها رد ولا استرداد، إلا عن تراض من الواهب والموهوب له، زادت أو نقصت، أو كانت على حالها، وهو قول رابع في المسألة.
وقوله: إن الهبة للثواب إذا كانت جارية فوطئها الموهوب له، إِنَّ وَطْأَهُ إياها فَوْتٌ يُلْزِمُهُ قِيمَتَهَا -صحيح، لا اختلاف فيه؛ لأن وطأه إياها على مذهب ابن القاسم رِضًا منه بالقيمة، فليس له أن يردها، ولا للواهب أن يستردها، إذ قد كان يلزمه أخذ القيمة فيها قبل أن يطأها الموهوب له. وقال مطرف وابن الماجشون وأصبغ: إن الغيبة عليها فوت فيها، وإن لم يطأ، تلزمه بها القيمة فيها، ولا يصح الرد فيها وإن لم تحمل؛ لأن ذلك ذريعة إلى إحلال الفرج بغير ثمن.
وأما قوله في التفليس: إن الواهب أحق بهبته، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها يوم الهبة، فقد مضى الكلام على ذلك وتوجيه الاختلاف فيه في أول سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها]
مسألة
قال: وسألته عن رجل مريض، وهب لرجل مريض هبة ولا مال له غيرها، فقبضها الموهوب له وهو مريض، فوهبها للواهب،(13/478)
ولا مال له أيضا، قال: يحوز للموهوب له الأول، ثلثه من تسعة، من مال الواهب، ويحوز الواهب الأول من هذه الثلاثة واحدا وهو ثلث مال الموهوب له الأول، فيصير في يد الأول سبعة، وفي يد الواهب الآخر اثنان، وأصل الذي يستدل به أن ينظر إلى مال له ثلث، ولثلثه ثلث، وذلك تسعة، فعلمت أنه يحوز للموهوب له ثلثه، وللواهب ستة، وأنه يرجع إلى الواهب الأول سبعة، ولورثة الواهب الآخر اثنان.
قال محمد بن رشد: جوابه في هذه المسألة عن القول بأن هبة البتل في المرض وإن كانت من الثلث، فهي بخلاف الوصية يدخل فيما علم في الواهب من ماله، وفيما لم يعلم، ولا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، على حكم الوصية في بطلانها بموت الموصي لوجب إذا مات الأول قبل الثاني أن يبطل ما وهبه الثاني، وإذا مات الثاني قبل الأول، أن يبطل ما وهبه الأول.
والمعنى فيه: أن كل واحد منهما مات من مرضه ذلك، إذ لو صحا جميعا، وكانت التسعة التي هي جميع المال للواهب الأول لرجوعها إليه بالخمسة الثانية، ولو صح الواهب الأول، ومات الواهب الثاني من مرضه، لنفذت للموهوب منهما من مرضه ذلك، كان الحكم فيما ذكره على قياس القول الذي ذكرته، سواء مات الواهب الأول قبل الثاني أو بعده، يصير لورثة الموهوب له الأول ثلث المال، وهو ثلثه من تسعة، ويصير لورثة الواهب من هذه الثلاثة واحد فيبقى في الذي ورثه الموهوب له الأول، اثنان، يحصل في الذي ورثه الواهب الأول سبعة، ثم يرجع ورثة الموهوب له الأول على...... وهو الواهب الأول في هذا الواحد، فيأخذون منه ثلثه، ثم يرجع لورثة الموهوب له الثاني، وهو الواجب عليه في ثلثه ثم يرجع ورثة الموهوب له الأول، وهو الواجب الثاني عليهم في ثلث هذا الثلث، فيأخذون(13/479)
منه ثلثه هكذا أبدا يدور هذا السهم بينهم حتى ينقطع، وسواء علم الهبة أو لم يعلم على ما يأتي عليه جوابه، من أن هبة البتل في المرض لا تبطل بموت الموهوب له قبل الواهب، وتدخل فيما علم الواهب وما لم يعلم، وكذلك قال ابن عبدوس في كتابه للرد، وأن التسعة الأسهم ثلثها ثلاثة، لورثته الواهب الثاني، ثم يؤخذ منها سهم، وهو ثلث ماله، قال: فاعلم أن هذا السهم دائر؛ لأنك إن أعطيه لورثة الأول، قام عليهم ورثة الثاني في ثلثه، كما صار؛ لأن هبته البتل تدخل فيما علم به الميت وما لم يعلم، ثم يقوم عليهم ورثة الأول في ثلث ثلثه فيدور هكذا بينهم حتى ينقطع، فلما كان هذا هكذا، وجب أن يسقط السهم الدائر، ويقسم ذلك السهم بين الوارثين، على ما استقر بأيديهم، فيصير المال بينهم على ثمانية أسهم، ستة لورثة الواهب الأول، واثنان لورثة الواهب الثاني.
وقد قال أبو محمد: هذا الذي ذكر عيسى عن ابن القاسم - هي مسألة دور، ولم يجعل فيها دورا، وهذا الذي قال أبو محمد عن ابن القاسم، لم يجعل فيها دورا لا يصح، على ما جرى جوابه من أن هبة البتل تدخل فيما علم الواهب وفيما لم يعلم، وإنما يصح إسقاط الدور فيها إن لم يعلم الواهب بالهبة على القول بأن هبة البتل لا تدخل إلا فيما علم الواهب، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه في المدنية وقوله أيضا في رواية أصبغ عنه في بعض روايات العتبية في سماعه من كتاب المدبر، فحكم في هذه الهبة في المرض بحكم الوصية، ولم يحكم لها بحكم الوصية فيما تقدم له في رسم الجواب إذا قال فيه: إن هبة البتل يحل ورثة الموهوب له فيها محل موروثهم إذا مات قبل الواهب، وهذا على قياس مطرد؛ لأنه إذا لم يحكم للهبة في المرض بحكم الوصية في سقوطها بموت الموهوب له قبل الواهب، وجب ألا يحكم له بحكمها في أنها لا تدخل إلا فيما علم، فالذي ينبغي أن يتأول عليه، أن ذلك إنما هو اختلاف من قوله، مرة حكم للهبة في المرض بحكم الوصية في كل حال، ومرة رآها أقوى من الوصية، فلم يحكم لها بحكمها في حال. وبالله التوفيق.(13/480)
[: يتصدق في مرضه على رجل بثلث دار له]
ومن كتاب الثمرة وسألت: عن الرجل يتصدق في مرضه على رجل بثلث دار له، وفي الدار طوب وخشب، أراد أن يبني بها، فقال المتصدق عليه: لي ثلث الطوب والخشب، وأبى الورثة أن يكون ذلك له، قال: ليس له في الطوب والخشب شيء.
قال محمد بن رشد: هذا بَيِّنٌ عَلَى ما قاله؛ لأنه يكون تبعا للدار في الوصية بها أو الصدقة في الصحة أو المرض، إلا ما يكون تبعا لها في البيع، وهو ما كان مبنيا فيها، لا ما كان موضوعا فيها من خشب أو حجر، أو ما أشبه ذلك، وبالله التوفيق.(13/481)
[: كتاب الصدقات والهبات الثالث] [أعطى أخاه منزلا في صحته وكتب له بذلك كتابا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم. كتاب الصدقات والهبات الثالث من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن رجل أعطى أخاه منزلا في صحته، وكتب له بذلك كتابا، وكتب في كتاب العطية إن مات أخوه الذي أعطي تلك العطية في حياة المعطي فالمنزل مردود على المعطي، ولا حق فيه لورثة المعطى ولا يورث؛ على هذا الشرط أعطاه، فحاز المعطى عطيته في حياة المعطي أو لم يحز، ثم مات المعطَى قبل المعطي، فقال: أرى هذا مثل الوصية تكون للمعطى من الثلث، ألا ترى أنه أنفذ له العطية إن مات قبل المعطي، فكأنه إنما أوصى له بها، وعجل له قبضها، قلت: وهي وصية على كل حال، حازها في صحة المعطي أو لم يحز، فقال: نعم، وقد قال مالك ما يشبه هذا، قال أصبغ: ليس للمعطي فيها بيع، ولا تحويل عن حال؟ فإن مات المعطى رجعت إلى المعطي بمنزلة العمرى، وإن مات المعطي كانت كالوصية في ثلثه، ولا تكون كالوصية في(14/5)
الرجوع فيها، فكذلك مسألتك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن أول قوله مرتبط بآخره، فليست بعطية مبتلة بما شرط عليه فيها من أنه إن مات قبله، فهي عليه رد؛ لأن ذلك يقتضي ألا يكون له فيها تفويت ببيع ولا غيره، ما دام المتصدق حيا حتى يموت، فآل أمرها إلى أنه أوصى له بها بعد موته، وعجل له الانتفاع بها طول حياته، فوجب إن مات المتصدق عليه قبله أن ترجع إليه كما شرط، وإن مات المتصدق قبله بتلت له من ثلثه على معنى الوصية، إن كان غير وارث، وقد مضى هذا في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، وتأتي المسألة متكررة في سماع ابن الحسن بعد هذا، وقول أصبغ في هذه الرواية: وإن مات المعطي كانت كالوصية في ثلثه، ولا تكون كالوصية في الرجوع فيها؛ يريد أنه ليس للمعطي أن يرجع في عطيته هذه، وإن كانت إنما تنفذ من ثلثه بما شرط فيها من رجوعها إليه إن مات المعطى قبله، ووجه ذلك أن العطية، وإن لم تكن مبتولة بما شرط فيها، فليست كالوصية بها التي له الرجوع فيها؛ لأنه قد بتلها في حياته على الشرط الذي اقتضى ألا تنفذ بعد موته إلا من ثلثه، فأشبه المدبر الذي يخرج بعد الموت من الثلث، ولا يجوز لسيده الذي دبره الرجوع في تدبيره، وقد اختلف قول مالك في الهبة البتل في المرض: هل للواهب أن يرجع فيها في مرضه فلا تنفذ، إن مات منه أم لا على قولين حسبما مضى القول فيه في رسم أخذ يشرب خمرا، من سماع ابن القاسم، من كتاب الحبس، وهذا بيّن ألا يكون له فيها رجوع؛ وقد قال بعض أهل النظر ليس بحسن قول أصبغ في معنى الرجوع، إلا في انتفاع المعطى(14/6)
بالمنزل حياة المعطي، وأما بعد موت المعطى، فمنذ يجب للمعطى بتلا، فله الرجوع فيه؛ لأنه من يومئذ يصير وصية، وكل ما كان وصية، أو على معنى الوصية، فله الرجوع فيه، وليس قوله عندي بصحيح؛ لأن الظاهر من قول أصبغ أنه إنما تكلم على الرجوع في عطية الرقبة بعد الموت؛ فهذا هو الذي قال: إنه لا يرجع فيه، وأما انتفاع المعطى بالمنزل حياة المعطي، فبين أنه ليس للمعطي أن يرجع فيه؛ لأنه شيء بتله في صحته، فنفذ عليه، وإن لم يكن له مال سوى المنزل، فلو قصد إلى بيان هذا، لكان عيا منه؛ وإذا لم يكن للمعطي أن يرجع في عطيته هذه بعد الموت، كما يرجع في وصيته، فيبدأ على الوصايا، ويدخل فيما علم به المعطي، وفيما لم يعلم، وقد مضى هذا المعنى في رسم الجواب، وفي آخر رسم العتق، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.
[مسألة: أم الولد يتصدق عليها سيدها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أم الولد يتصدق عليها سيدها، أيلزمها الحوز؟ فقال: حالها في ذلك كحال الزوجة فيما يتصدق به عليها؛ أما الخادم تكون معها في البيت، أو الابنة، أو ما أشبه ذلك مما لا يزايلها حيث انتقل بها سيدها، فالإشهاد وإعلان الصدقة حوز لها؛ وذلك أنه لا تقدر على حوزها بأكثر من ذلك.
وأما العبد بخارج، أو الدار تسكن، أو المزرعة، أو ما أشبه هذا مما(14/7)
هو بائن منها، وقبضه يمكن، فعليها أن تحوزه بقبض الخراج من العبد، وإخراج السيد من الدار، وعمران المزرعة أو كرائها لها، وجني الشجر، وما أشبه هذا مما يحاز به العبيد والعقار؛ قال: وأما الحلي والثياب، فالقبض اللبس والعارية، وما أشبه ذلك مما تصنعه المرأة بمتاعها، إذا عرفت تصنع بما تصدق عليها من الحلي والثياب، مثل هذا فهو لها حوز، وإلا فلا شيء لها؛ قال أصبغ: وإشهاد لها حوز أيضا، وإن لم يُعرف لبس ولا عارية إذا كان في يديها، وليس في يد سيدها قد خرج منه إليها.
قال محمد بن رشد: حكم لأم الولد بحكم الزوجة في حيازة ما يتصدق به عليها سيدها، فقال في الخادم تكون معها في البيت أو الابنة وما أشبه ذلك؛ أن الإشهاد وإعلان الصدقة حوز فيها؛ إذ لا يقدر في حوزها على أكثر من ذلك، وفي ذلك اختلاف في الحرة الزوجة، وقد مضى تحصيله في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، وفي رسم سلف دينارا في ثوب إلى أجل، من سماع عيسى، فهو يدخل في أمر الولد على هذه الرواية؛ وأما المنزل وما عدا ما هو من متاع البيت، فلا اختلاف في أن الزوجة في حيازته عن زوجها كالأجنبي فيما يلزمه في ذلك، وكذلك أم الولد على هذه الرواية.
وفي المدونة ما يدل ظاهره على أن السيد يحوز لأم ولده ولعبده الكبير ما وهبه لهما، أو تصدق به عليهما، كما يحوز ذلك لابنه، إذا وهبه إياه، أو تصدق به عليه، وهو قوله فيها؛ لأن من تصدق بصدقة على غيره، أو وهب هبة، لا يكون هو الواهب وهو الحائز، إلا أن يكون والدا أو وصيا، أو من يجوز له أمره عليه في قول مالك؛ إذ لا أحد أحوز أمرا على أحد من السيد(14/8)
على عبده وأم ولده؛ إذ له أن يحجر عليهما، وأن ينتزع أموالهما، فتحجيره عليهما أقوى من تحجير الأب على ابنه، والوصي على يتيمه؟ فوجب أن تكون حيازة ما وهب لهما أحوز من حيازته، لما وهبه لابنه أو يتيمه؛ فهذا وجه ما يدل عليه ظاهر ما في المدونة، ووجه هذه الرواية أن جواز انتزاع المال تضعيف في الحيازة لا تقوية لها؛ لأنه إذا تصدق على أم ولده أو على عبده، ثم أمسك ذلك عند نفسه، ولم يدفعه إليهما، أشبه الانتزاع والارتجاع؛ إذ لم يسلم ذلك إليهما، وهما غير سفيهين؛ وأما الأب والوصي فإنما منعهما أن يسلما ما وهباه لمن إلى نظرهما كونه سفيها، فرواية يحيى أظهر، وكان أبو عمر الإشبيلي يستحب العمل بها، فإن عمل أحد بدليل المدونة، مضى عنده ولم يرد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر أيام المزارعة]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بمزرعة في آخر أيام المزارعة، وهو صحيح، فأقام بعد ذلك نحوا من شهر ثم هلك، غير أنه قد أشهد لها على الصدقة وعرف بحوزها الشهود، فلم تعمل المرأة فيها عملا بحرث ولا غيره حتى مات زوجها، وزعمت أنه لم يمنعها من العمل إلا ما كان فات من الزمن مع ضعف سكته عن القليب في أوانه، وقد كانت البقر ضعفت، فلم يقلب أهل منزلها حتى مات زوجها؛ فقال: إن جاء من ذلك ما يبين عذرها، مثل أن يتصدق بذلك ثم يعجله الموت قبل أوان عمل أمكنها، أو جني شجر، أو عذق، أو إصلاح عمل حضر،(14/9)
فالصدقة ماضية ولا شيء عليها إذا لم تحز؛ لأن الحوز لم يمكنها ولم يجئ أوانه؛ قال: وأما ما كانت لحوزه تاركة من ضعف أو أشباه ذلك، فإنها لا تعذر به؛ لأن الضعيف يكري ويساقي ويرفق من ينتفع به، فيكون هذا ونحوه حوزا، فمن كان تاركا لجميع هذا في أوانه الذي يمكنه فيه، فلا صدقة له إلا أن يعرف ضعفه عن العمل، ويعمل ذلك على الكراء أو المساقات أو العارية، فلا يجد من يقبل ذلك منه؛ فلا أرى عليه حوزا غير الإشهاد والإعلان والاجتهاد في عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، وما أشبه ذلك؛ ثم يكون ذلك له حوزا؛ قال قلت: أرأيت إن مضت أعوام والمتصدق عليه ضعيف عن العمل، وهو يعرض على الكراء أو المساقات أو العارية كل عام، ولا يجد من يقبل ذلك منه؛ أيكون حائزا أم لا؛ قال: نعم، إذا علم حرصه على ذلك، وأنه لم يزل يعرض ذلك، ويطلب لها من يعملها، والأرض ليست تحاز بأكثر من هذا، قال أصبغ مثله ما لم ينتفع به المتصدق أو يقضي فيه.
قال محمد بن رشد: وقوله في هذه الرواية في الذي يتصدق على من يحوز لنفسه من زوجة أو غيرها بمزرعة يعجل المتصدق الموت قبل أوان زراعتها وعملها، أن الصدقة ماضية، مثله في المدنية، وهو معارض لقوله ولروايته عن مالك فيها، وفي رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع(14/10)
ابن القاسم في الرجل يتصدق على الرجل الحاضر بالدار الغائبة، فيعجل المتصدق الموت قبل أن يحوزها المتصدق عليه، إن الصدقة باطلة، وإن كان لم يفرط في الخروج إليها لقبضها؛ لأن لها حيازة تحاز به؛ إذ لا فرق في المعنى بين ألا يمكنه حيازة الدار لمغيبها عنه حتى يموت المتصدق بها، وبين ألا يمكنه حيازة الأرض؛ لأن أوان حوزها لم يحن؛ وأبين من ذلك في المعارضة قوله: إنه إذا تصدق بها في أوان حوزها، فضعف المتصدق عليه عن عملها، ولم يزل يعرضها على الكراء، والمساقات، والعارية، عاما بعد عام، فلا يجد من يقبلها منه؛ أن الإشهاد والإعلان والاجتهاد في عرض ذلك على الكراء والمساقات والعارية، يكفي من حيازتها؛ فقول ابن القاسم في هذه الرواية، هو مثل ما روي عن مالك في أن الدار الغائبة إذا لم يكن تفريط في قبض المتصدق عليه بها لها حتى مات المتصدق بها، أنها ماضية، وهو قول أشهب، وقد مضى بيان هذا في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، ولو لم يعمر المتصدق عليه الأرض، ومنع المتصدق أن يعمرها فتركها بورا حتى يقوى على عملها، لكان منعه من عمارتها حوزا لها، قال ذلك ابن القاسم وابن كنانة في المدونة، وأصبغ في الواضحة، والله الموفق.
[مسألة: الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له كبير بغلام، فلا يقبضه حتى يتصدق الأب به على ابن له صغير في حجره، فينكر ذلك الكبير، ويقول: لا أجيز ما صنعت، فسخط عليه الأب، وكف عنه حتى مات الأب والغلام في يديه يحوزه(14/11)
للصغير، لأيهما ترى الغلام؟ فقال: أراه للصغير إذا لم يحزه الكبير. قيل له: إنه تركه خوفا من سخط أبيه، وقد أشهد أنه غير راض بما صنع، فقال: لا ينفعه الإشهاد؛ لأنه لو شاء أن يخاصمه فيه قضى له به، فقد آثر بر أبيه والتماس رضاه على أخذ صدقته، فله أجر البر إن شاء الله تعالى، ولا صدقة له إلا بالحيازة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ أنه إذا لم يقبض الابن الكبير الغلام حتى مات الأب المتصدق، فلا صدقة له؛ إذ لا تتم الصدقة إلا بالحيازة، فله أجر البر كما قال في تركه القيام على أبيه في الغلام الذي تصدق به على أخيه بعد أن كان تصدق به عليه، وكذلك يقول ابن القاسم: لو تصدق على آخر كبير فقبضه؛ لكان الأول أحق به، وأشهب يرى أن الثاني إذا حازه فهو أحق به من الأول، فيتخرج على قياس قوله إذا تصدق به على ولد له كبير، ثم تصدق به على آخر صغير، وحازه قبل أن يقبضه الأول قولان؛ أحدهما: أن حيازة الأب للصغير كحيازة الكبير لنفسه، فلا يكون للأول شيء، وإن قام عليه في حياته. والثاني: أن حيازة الأب للصغير ليست كحيازة الأب للكبير، ويكون الابن الكبير المتصدق عليه أولا بالعبد أحق به، إن قام على الأب في حياته، والقولان في حيازة الأب للصغير، هل تكون في القوة كحيازته للكبير قائمان، من مسألة رسم الجواب، فيما تقدم.(14/12)
[مسألة: امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها ثم تصدقت به]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة أرفقت زوجها بمنزل لها، فكان في يديه يحرث مزارعه، ويجني له شجره، ويصيب جميع مرافقه؛ ثم تصدقت به على بنت لها متزوجة، أو ابن قد بلغ الحوز، وأشهدت على الصدقة، وأمرت الولد بالحوز؛ فسأل الأب ابنه أو ابنته أن يعيره ذلك المنزل يرتفق به ويقره في يده بحاله، ففعل الابن وأشهد على أبيه بالعارية، ولم يقبض المنزل من يده للحيازة، ولم يخرج منه أباه، أقره فيه بحاله، واكتفى من الحيازة بالإشهاد على أبيه بالعارية؛ قال ابن القاسم: أي حوز أبين من هذا، أو أتم، من أعار ما تصدق به عليه، فقد استكمل الحوز؛ قلت له: أما تراه قد أوهن حيازته؛ لأنه كان قبل الصدقة في يد أبيه، لم يخرجه من يده حتى أحدث الإشهاد بالعارية؛ فقال: لا وهن عليه، بل الذي فعل حوز بيّن، تتم له به صدقة أمه عليه، والعارية كالقبض.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن المرأة كانت أرفقت زوجها بالمنزل إلى غير أجل، فكان في يديه يرتفق بمنافعه، ويصيب جميع مرافقه، فلما تصدقت به بعد ذلك على ابنها أو ابنتها، سقط حق(14/13)
زوجها في الإرفاق، ووجب المنزل بجميع مرافقه للمتصدق عليه، فإذا أرفق أباه إياه، كان ذلك حوزا بينا منه للمنزل عن أمه، لا يدخل فيه الاختلاف الذي في قبض المخدم، والمسكن والممنوح، هل يكون قبضا للمتصدق عليه، أو الموهوب له أم لا؟ حسبما يأتي في نوازل سحنون بعد هذا؛ لأن الاختلاف لما وقع في هذا من أجل بقاء حق المخدم، والمسكن والممنوح، فيما منح إياه أو أخدمه، أو أسكنه بعد هبة الأصل والصدقة به، فمن حمل الأمر على أن المسكن والمخدم يختدم ما أخدم، أو أسكن على ملك الموهوب له أو المتصدق عليه من يوم الهبة والصدقة؛ إذ قد سقط ملك الواهب له عن الأصل، رأى ذلك حيازة؛ ومن حمله على أنه إنما يختدم ذلك، ويسكنه على ملك الذي أخدمه إياه وأسكنه حتى تنقضي خدمته أو سكناه لم ير ذلك حيازة؛ فمسألتنا خارجة عن هذا المذهب؛ إذ لم يبق للزوج حق في المنزل بعد الصدقة، ومن أكرى داره، أو آجر عبده، ثم وهب ذلك لرجل قبل انقضاء أمد الكراء والإجارة، فلا يكون قبض المكتري والمستأجر قبضا للموهوب له؛ لأن المكتري إنما يسكن على ملك الواهب الذي يأخذ الكراء، وكذلك المستأجر إنما يستخدم على ملكه، وفي ذلك اختلاف لا يحمله القياس، وقع في سماع ابن القاسم من كتاب الرواحل والدواب، ومن كتاب المديان والتفليس، في رسم مساجد القبائل، وقد مضى هنالك(14/14)
القول على ذلك، وكذلك المساقي في الحائط لا يكون حائزا لمن وهب له أو رهن إياه، وقع ذلك في الرهن، في رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ، من كتاب الرهون، من أن كون الحائط في يدي مساقيه، ككونه في يدي صاحبه.
[مسألة: تصدق على رجل بدار له فدفع إليه مفتاحها]
مسألة قال: ولو أن رجلا تصدق على رجل بدار له، فدفع إليه مفتاحها، وبرأ إليه من ذلك ليحوزها، كان ذلك حوزا، وإن لم يسكن المتصدق عليه الدار، ولم يسكنها غيره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن قبضه لمفتاح غلق الدار قبض للدار، وإن لم يسكنها، ولا أسكنها غيره، كما لو وهبه فقبضه ثوبا وصار بيده؛ لكان ذلك قبضا وحيازة، وإن لم يلبسه ولا أعاره أحدا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على امرأته بالصدقة فتثيبه بوضع الصداق عنه]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على امرأته بالصدقة فتثيبه بوضع الصداق عنه، أو تضع عنه الصداق فيتصدق عليها بمنزل له، فيموت المتصدق قبل أن تحوزه المرأة، أترى لها صدقة؛ فقال: إن الصدقات لا تكون للثواب، هي ماضية لمن تصدق بها عليه، ولا ثواب عليه فيها، ولا شيء للمتصدق عليه منها إن(14/15)
لم يحزها، فالمرأة التي أثابت زوجها على ما تصدق به عليها، بأن وضعت عنه صداقها، فالصداق عنه موضوع، ولا حق لها في الصدقة إلا بالحيازة؛ قال: فإن ابتدأته هي بوضع الصداق، فتصدق عليها بمنزله ثوابا لها، فالصداق موضوع عنه، وليس لها من المنزل شيء إلا بحيازة؛ قلت: فإن وهب لها هبة، فأثابته بوضع الصداق، ولم يقبض الهبة حتى مات، قال: الهبة لها، لا حوز عليها فيها، إذا كانت هبة ثواب، يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما؛ قال أصبغ: وكذلك الهبة قبل الثواب، قال يحيى: قال ابن القاسم: وإذا ابتدأته بوضع الصداق، فأثابها بأن أعطاها منزله، فإن كان وضع الصداق إنما كان للثواب اشترطت ذلك، فالمنزل لها إذا أثابها، ولا حيازة عليها فيه، إن مات قبل أن تحوزه، وما وضعت من صداقها، ولم تشترط له ثوابا فلا ثواب لها فيه، وإن أثيبت فلم تحزه فلا شيء لها؛ قال أصبغ: الصداق عندنا مخالف لما تهب من غير الصداق، إذا التمست عليه ثوابا، وادعت ذلك بعد موت الزوج.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصداق لا ثواب فيه، يريد إلا أن تشترط فيه الثواب، فسواء تصدق عليها بالمنزل فأثابته بوضع الصداق،(14/16)
أو وضعت عنه الصداق فأثابها بالصدقة عليها بالمنزل، لا شيء لها في المنزل إلا بالحيازة. والصداق عنه موضوع، إلا أن يكون ذلك بشرط الثواب، فيكون لها المنزل دون حيازة؛ وأما إذا وهب لها المنزل، فأثابته بوضع الصداق، فقوله: إن الهبة لها لا حوز عليها فيها إذا كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما هو على مذهبه في المدونة في أن الزوجين لا ثواب بينهما في الهبة، إلا أن يدعي الواهب منهما أنه أراد بهبته الثواب، ويظهر من صورة الحال ما يدل على صدقه، وقد قيل: إنه يصدق وإن لم يظهر ما يدل على صدقه؛ وهذا القول حكاه عبد الوهاب في المعونة، فجعل حكم الزوجين في ذلك حكم الأجنبيين، وقيل: إنه لا ثواب له إلا أن يشترطه، وهو ظاهر قول ربيعة في المدونة، وقول مالك الذي يتلوه، وأما إذا ابتدأته بوضع الصداق فوهب لها هبة، فلا شيء لها فيها إلا بالحيازة؛ إذ لا اختلاف في أنه لا ثواب لها في هبة الصداق إلا أن تشترطه حسبما مضى القول فيه في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وذلك بين من قوله في هذه الرواية: والصداق عندنا مخالف لما تهب من غير الصداق إذا التمست عليه ثوابا، أو ادعت ذلك بعد موت الزوج يريد أنها لا تصدق إن ادعت أنها أرادت بهبته الثواب، وأنها تصدق فيما عدا الصداق إن ظهر من صورة الحال ما يدل على صدقها، فهو قوله في هذه الرواية إذا كانت هبة ثواب يعرف ذلك بوجه الأمر من حالهما، ومذهبه في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: غلام قد بلغ الحلم وهو في حجر أبيه تصدق عليه أبوه بصدقات]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن غلام قد بلغ الحلم، وهو في(14/17)
حجر أبيه قد قرأ القرآن، إلا أنه لا يعرف بصلاح يزكى به، ولا فساد، إلا أنه عمر في حجر أبيه، بحداثة احتلامه تصدق عليه أبوه بصدقات، منها: مزرعة وخادم في تلك المزرعة بولدها وزوجها حر، ودور في القرى لا تغتل، ودار في حاضرة البلد كان الأب أسكن فيها بعض ولده، فتصدق عليه بهذه الصدقة، وهو في حجره، وحاله ما وصفت لك، ولم يغير الأب تلك المزرعة ولا الخادم، ولا الدار التي في حاضرة البلد عن حالاتها التي كانت عليها قبل الصدقة، ولم يكن بين إشهاده له بالصدقة، وبين موت الأب إلا نحو من شهرين أو ثلاثة، أو أكثر قليلا؛ أترى الأب يحوز على مثل هذا؛ قال: نعم، سمعت مالكا يقول: يحوز الأب على ابنه المحتلم إذا كان في حجره وولاية نظره حتى يؤنس منه الرشد؛ قلت: فما يضر هذا الغلام ترك الأب تلك الأشياء بحالها إذا لم يخرج من كان في الدار، أو ما أشبه هذا مما يرى أنه يحوز به عليه؛ فقال: أما الدار فلا حق له فيها، إذا لم يخرج منها من كان يسكنهما، وأما المزرعة والغلام، فأرى صدقته عليه بذلك ثابتة؛ قلت: فما ترى الحوز يلزم الابن المحتلم؟ قال: إذا كان في حسن نظره بمنزلة اليتيم الذي يلزم القاضي أن يدفع إليه ماله إذا كان قبل ذلك مولى عليه، فإذا عرف من الغلام حسن نظره في ماله(14/18)
وإصلاحه على نفسه، وأمن عليه الفساد الذي يعرف به من حسن رأيه، وجمعه على نفسه مع بلوغ الحلم، وجب عليه أن يحوز لنفسه، ولا يكون الأب حائزا على مثل هذا، ولا يزال الأب حائزا على من لم تكن هذه حاله من ولده، وإن احتلم المتصدق عليه، فليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى ترضى حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: أما الدار فلا حق له فيها إذا لم يخرج منها من كان يسكنها، معارض لقوله في رسم شهد، من سماع عيسى في الذي جعل لابنته الصغيرة، ولأمهات ولده ومواليه الساكنين في الدار التي تصدق بها على ابنه الصغير، أن يسكنوا معه فيها، ما لم يتزوج واحدة منهن، إلا أن يفرق بين المسألتين بسكنى الابن المتصدق عليه معهم فيها حسبما مضى القول فيه هناك.
وقوله في آخر المسألة: فليس الاحتلام بالذي يخرجه من ولاية أبيه حتى ترضى حاله، ويشهد العدول على صلاح أمره، نص على أنه لا يخرج من ولاية أبيه بالاحتلام، وأنه محمول على السفه حتى يثبت رشده، ومثله في كتاب الحبس من المدونة، وهو ظاهر سائر المدونة وغيرها، إلا ما وقع في أول كتاب النكاح من المدونة في قوله فيه إذا احتلم الغلام، فله أن يذهب حيث شاء، فإن ظاهره أنه بالاحتلام يكون محمولا على الرشد، وتجوز أفعاله حتى يعلم سفهه، وهي(14/19)
رواية زياد عن مالك في البكر أنها تخرج من ولاية أبيها بالحيض، فكيف بالغلام؛ وقد تأول ابن أبي زيد قوله في المدونة: فله أن يذهب حيث شاء: أن معناه بنفسه لا بماله؛ فعلى هذا تتفق الروايات كلها، ولا يخرج عنها إلا رواية زياد عن مالك، وقد تأول أن قول مالك إذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، معناه إذا احتلم ورضيت حاله، بدليل قول ابن القاسم إلا أن يخاف من ناحيته سفه، فله أن يمنعه؛ وإلى هذا ذهب ابن لبابة إلا أنه أخطأ في تأويله على ابن القاسم فقال: هذا هو الحق لو مات الأب وأوصى به لم يخرج من ولاية الوصية حتى يثبت رشده، فكيف بالأب؟ وهو نص ما في كتاب الحبس من المدونة قوله فيه، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، وبلوغ النكاح هو الاحتلام والحيض، فقد منعهم الله من أموالهم مع الأوصياء بعد البلوغ إلا بالرشد، فكيف مع الآباء الذين هم أملك بهم من الأوصياء، وإنما الأوصياء بسبب الآباء؛ فالابن بعد بلوغه مع الأب عند ابن القاسم على السفه حتى يعلم رشده، بخلاف البكر؛ لأن البكر عنده لا تجوز أفعالها وإن علم رشدها، خلاف تأويل ابن لبابة عليه من أن الابن بعد بلوغه في ولاية أبيه، وإن علم رشده حتى يطلق من الولاية على ما وقع في المدونة من اللفظ الذي احتج به، وبالله التوفيق.
[مسألة: المولى عليه إذا كان عند مبلغه الحلم معروفا بإصلاح المال]
مسألة قلت: أرأيت المولى عليه لصغره، إذا كان عند مبلغه الحلم معروفا بإصلاح المال وإدارة البيع، وحب الكسب، وهو ممن لا تجوز شهادته عند القضاة، ولعله مشهور بشرب الخمر واتباع(14/20)
الفسق، مما يظن به سوء ظاهر أمره؛ ولكنه في إصلاح المال غير مخدوع، وهو له غير مضيع أترى أن يولى عليه لسوء حاله، أم يستوجب أخذ ماله لإصلاحه المال، وإن كان في دينه غير صالح، فقال: يدفع إليه ماله إذا عرف بحسنه وإصلاحه، ولا يحظر فيما يركب من الذنوب، ورب رجل صالح في حاله، مفسد لماله لضعف عقله، وسوء رأيه، فأرى أن يولى على مثله، ولا يستوجب أخذ ماله، لكفه عن الشرب، وما أشبه ذلك إذا كان غير مصلح لماله، ولا حابس على نفسه؛ قلت: أرأيت الذي يعرف الاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد عقاره، ويصلح جهده، غير أنه مسرف فيما يكتسي به، ذاهب السرف، يتكلف فوق قدره، ويجود بأكثر من طاقته في حال السخاء والبذل؛ إما في الإكثار من جمع الناس على طعامه، أو في أعطيته، لا يحمل مثلها ماله، وما أشبه هذا مما يعد به مسرفا؛ أترى أن يولى على مثله؟ قال: نعم، يولى على مثل هذا.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب ابن القاسم أن المولى عليه يستوجب أخذ ماله، والانطلاق من الولاية بحسن النظر في المال، والإصلاح له بحسن القيام دون صلاح الدين؛ وكان يقول: رب فاسق أطلب للدرهم، وأكسب للرزق منا؛ وأخذ بقوله أصبغ ما لم يكن مارقا في الفساد.
وذهب مطرف، وابن الماجشون إلى أن المولى عليه لا يخرج من الولاية إذا شرب النبيذ المسكر، وإن كان حسن النظر في ماله. قالا: والرشد الذي ذكره(14/21)
الله في اليتيم مع بلوغ الحلم حتى يدفع إليه ماله، ويجوز أمره وقضاؤه فيه هو الرشد في حاله وماله، لا يكون هذا دون هذا؛ هذا هو قول مالك وجميع علمائنا بالمدينة؛ قالا: ولا يرد بشرب الخمر في الولاية بعد خروجه منها، إذا أحدث ذلك، والفرق بيْن ذلك بيِّن، وهو قول ابن كنانة وغيره من المدنيين، واختيار ابن حبيب، ومذهب ابن القاسم أظهر من جهة القياس؛ لأنه كما يحجر على البالغ الذي لم تلزمه ولاية في ماله إذا كان مفسدا له، سيئ النظر فيه، متلفا له؛ لقلة رأيه فيه، وإن كان حسن الدين في قولهم كلهم؛ فكذلك يلزم على قياس ذلك، أن يدفع إليه ماله، ويرفع عنه التحجير فيه إذا كان حسن النظر، وإن كان سيئ الدين، وقول ابن القاسم في هذه الرواية: إن الذي يعرف بالاكتساب والطلب لتثمير ماله، وتفقد عقاره إذا كان ذاهب السرف فيما يتلفه فيه من السخاء على إخوانه، وجمع الناس على طعامه وعطياته، لا يحمل مثلها ماله؛ يريد في غير وجوه البر إرادة الثناء والحمد، يجب أن يحجر عليه فيه نظرا له، صحيح؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ} [النساء: 5] الآية.
[مسألة: المرأة تضار بزوجها فيقبح الذي بينهما ويفسد]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن المرأة تضار بزوجها، فيقبح الذي بينهما ويفسد، فتريد المرأة أن تضر بزوجها بإخراج مالها من(14/22)
يديه، ويصير إلى بعض قرابتها؛ فلما علمت أن للزوج أن يمنعها من مجاوزة ثلث مالها إن تصدقت أو أعتقت، أو أعطت قصدت إلى قدر الثلث، فتصدقت به إلى بعض قرابتها؛ وقد تبين لفساد ما بينها وبين زوجها؛ أنها إنما أرادت الضرر به، ولولا الذي وقع بينهما، لعلها لا تتصدق على الذي تصدقت عليه بثلث مالها بقيمة دينار من مالها أو أدنى، فقال: أرى ذلك جائزا، وإن كان أمرها على ما وصفت إذا لم تتجاوز بذلك الثلث.
قلت: أرأيت إن اتبعت بصدقة ثلث ما بقي بعد أشهر، فقال: إن تباعد ذلك جاز، وإن تقارب رد؛ قلت: كأن حالها عندك وحال التي تتصدق لغير الضرر سواء؛ قال: ما أراهما إلا سواء، قلت: فما تباعد ما بين الصدقتين عندك؛ أترى الشهر بعيد أم لا يكون متباعد إلا بقدر سنة أو نحوها؟ قال: ليس في ذلك حد، قال أصبغ: إلا ما طال حتى يرى أن ذلك تبرز مستقبل وتقرب؛ قال يحيى: وقد قال غيره ما يبين أنها تفعله على وجه الضرر، لا لبر، ولا لطلب أجر، إن ذلك مردود كله: قليله وكثيره؛ قال سحنون: وهو قول ابن القاسم في الثلث إذا كان على وجه الضرر أنه لا يجوز، قال سحنون: وأنا أراه جائزا.
قال محمد بن رشد: لا يجوز للمرأة ذات الزوج قضاء في أكثر من ثلث مالها هبة ولا صدقة، ولا بما أشبه ذلك من التفويت بغير عوض دون إذن زوجها في قول مالك وجميع أصحابه؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها بغير إذن زوجها؛» واختلف إن(14/23)
قصدت بتفويت ثلث مالها فأقل إلى الإضرار بزوجها فيما يتبين من حالها على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك لا يجوز، وهو قول غير ابن القاسم في رواية يحيى هذه عنه، وظاهر قول مالك في رواية أشهب عنه، من كتاب الأقضية. والثاني: أن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم في رواية يحيى هذه عنه، وقول سحنون. والثالث: أنه إن كان أقل من الثلث جاز، وإن كان الثلث لم يجز، وهو قول ابن القاسم في رواية سحنون هذه عنه؛ وما في المدونة في ذلك محتمل للتأويل، واختلف في فعلها: هل هو محمول على الرد حتى يجاز، أو على الإجازة حتى يرد؛ فحكى ابن حبيب عن مطرف، وابن الماجشون، أنه محمول على الرد حتى يجيزه الزوج؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يجوز لامرأة قضاء في ذي بال من مالها، إلا بإذن زوجها» وهو ظاهر قول مالك في رسم اغتسل، من سماع ابن القاسم، من كتاب العتق، فعلى قياس هذا إذا تصدقت أو أعتقت أكثر من الثلث، فلم يعلم بذلك زوجها، أو علم، فلم يقض فيه برد، ولا إجازة حتى مات عنها أو طلقها، لم يلزمها ذلك، وقد روي ذلك عن بعض أصحاب مالك، وإن ادعت أنه الثلث، أو أقل من الثلث، كان عليها أن تبين ذلك؛ وحكي عن ابن القاسم أنه محمول على الإجازة حتى يرد الزوج، وهو ظاهر قوله في رسم الكراء والأقضية، وقول سحنون في سماع ابن القاسم، من كتاب العتق؛ فعلى قياس هذا؛ إذا علم الزوج بذلك، أو لم يعلم، فلم يرد حتى مات عنها أو طلقها؛ لزمها(14/24)
ذلك، وإن ادعى الزوج أنه أكثر من الثلث، كان عليه إقامة البينة؛ فإن رد الزوج ذلك، وبقي بيدها حتى زالت العصمة بموت أو فراق، لم يلزمها ذلك في الهبة والصدقة قولا واحدا؛ واختلف في العتق فقيل: إنه يلزمها، وهو قول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: إنه لا يلزمها، وهو قول أشهب، وقيل: إنها تؤمر بذلك، ولا تجبر عليه، وهو قول ابن القاسم؛ ولا خلاف في أنها تقضي في ذلك كله بما شاءت قبل أن تتأيم بعد الرد؛ وعلى هذا المعنى يأتي اختلافهم أيضا إذا لم يعلم الزوج بذلك حتى ماتت، هل له أن يرده بعد موتها أم لا؟ فقيل: إن له أن يرده، وهو قول سحنون في نوازله بعد هذا، وقول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: ليس له أن يرده بعد موتها، وهو قول ابن القاسم في رواية أصبغ عنه؛ ومن أهل العلم من لا يجيز للمرأة قضاء في شيء من مالها قل أو كثر بغير إذن زوجها؛ لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز للمرأة في مالها أمر إلا بإذن زوجها» .
ومنهم من يجيز لها القضاء في جميع مالها، بغير إذن زوجها استدلالا بظواهر آثار مروية في هذا المعنى، فما ذهب إليه مالك في مراعاة الثلث عدل بين القولين؛ وأما إذا فوتت مالها الشيء بعد الشيء، فإن قرب ما بين ذلك، نظر في الأول، فإن كان أكثر من الثلث رد الجميع، وإن كان الثلث جاز ورد ما بعده، وإن كان أقل من الثلث جاز ونظر فيما يليه؛ فإن كان مع الأول الثلث جاز ورد ما بعده؛ وإن كان أكثر من الثلث رد وما بعده؛ هذا على قياس ما قاله ابن القاسم في رسم حمل صبيا، من سماع عيسى، من كتاب العتق، والقرب في ذلك مثل الشهر والشهرين، على ما قاله ابن حبيب، وحكاه عن أصبغ؛ قال:(14/25)
ولو قرب الأمر جدا مثل أن تتصدق بثلث مالها، ثم تتصدق بعد يوم أو يومين بثلث الباقي، أو أقل؛ أو أكثر رد الجميع كما لو كان في عقد واحد، ولا فرق في القياس بين اليوم واليومين، والشهر والشهرين في أنه يجب أن يمضي الأول ويرد الثاني، فقد قيل: إنه يمضي الثلث، ويرد ما زاد عليه، وإن كان في صفقة واحدة، فكيف إذا كان في صفقتين؛ وأما إن بعد ما بين ذلك، فينظر في الأول، فإن كان الثلث فأقل جاز، وينظر فيما بعده؛ فإن كان الثلث فأقل من الباقي بعد الأول جاز، وإن كان أكثر من الثلث لم يجز، وإن كان الأول أكثر من الثلث رد، ونظر فيها بعده؛ فإن كان أكثر من ثلث الجميع رد، وإن كان الثلث فأقل جاز، وهذا على قياس ما قاله ابن القاسم في رسم المكاتب، من سماع يحيى، من كتاب العتق، وحد التباعد فيما بين الأمرين الستة الأشهر فأكثر، على ما حكى ابن حبيب، وقيل العام؛ لأنه حد في غير ما مسألة؛ وقد قيل: إنها إذا تصدقت بثلث مالها لا تنفذ لها عطية في باقيه بحال، قرب ذلك أو بعد؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تقضي في جميع مالها، قال ذلك عبد الوهاب، إلا أن تفيد مالا آخر، فيكون لها أن تقضي في ثلثه، والقياس أن لها أن تقضي في جميع ما أفادت بعد النكاح، إذ لم يتزوجها الزوج عليه، فلا يحجر عليه فيه، واختلف إذا قضت في مالها بتفويت أكثر من ثلثه، فقال ابن القاسم: يرد الزوج الجميع، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة يرد ما زاد على الثلث، وهو قول مالك في رواية ابن الماجشون عنه.
فحمل ابن القاسم فعلها فيما زاد على الثلث على الضرر، فأبطل جميعه، وحمله عبد العزيز أبي سلمة على غير الضرر، فرد منه ما زاد على الثلث كالوصية، وهو الأظهر؛ إذ قد تفعل ذلك رجاء أن يجيزها زوجها، وقد تجهل أن لزوجها أن يحجر ذلك عليها، ولا اختلاف في أن فعلها في(14/26)
الثلث فما دونه، محمول على غير الضرر حتى يعلم أنها قصدت به الضرر، فيقع فيه من الاختلاف ما تقدم؛ وقد قيل في الوصية بالثلث: إنها ترد إذا قصد بها الضر؛ لقول الله عز وجل: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] ، وهو بين؛ وقال ابن الماجشون: يرد ما زاد على الثلث إلا في العتق، فإنه يرد جميعه؛ إذ لا يتبعض، واختلف في حلفها بصدقة جميع مالها؛ فقيل: يلزمها؛ لأنه مصروف إلى الثلث، فليس للزوج أن يرده، وهو قول سحنون في سماعه، من كتاب النذور، وقيل: لا يلزمها؛ لأن للزوج أن يرده، وهو قول أصبغ في السماع المذكور من النذور؛ وهذا اختلاف راجع إلى الاختلاف في تصدقها بالثلث قاصدة إلى الإضرار، والذي أقول به أنها إن كانت ممن تجهل أن صدقتها مصروفة إلى الثلث، كان للزوج أن يرده، وإن كانت ممن يعلم ذلك، لم يكن للزوج أن يرده، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن له بغلام فلم يحزه حتى أوصى الأب للعبد بالعتاقة]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على ابن له بغلام، فلم يحزه الابن حتى أوصى الأب للعبد بالعتاقة، أيكون ذلك نقضا للصدقة؟ فقال: إن كان الابن صغيرا في حجر، فالوصية ماضية، إن مات الأب عتق العبد بالوصية إن حمله الثلث، وكان للابن قيمة العبد في رأس مال أبيه؛ لأنه كان حائزا عليه، فليست الوصية التي أحدث بعد الصدقة تبطل الصدقة، ولكن يكون العبد الذي تصدق به عليه أبوه كغيره من مال الولد، فالوالد إذا أوصى بعتاقة عبد ابنه الصغير أو بتل عتقه، جاز ذلك على الابن إذا كان(14/27)
للأب مال وأعطى الولد قيمة عبده، فسواء كان له بالصدقة، أو من غيرها، قال: وإن مات الأب ولا مال له، لم تجز الوصية للعبد، وكان الابن أولى به لقبضه بالصدقة؛ قال: وإن كان الابن المتصدق عليه كبيرا يلزمه الحوز لنفسه، فإنه إن لم يقبض العبد حتى يموت الأب، فلا صدقة له، والوصية للعبد جائزة، وإن قام فأخذ صدقته في حياة أبيه وصحته كان أحق بحوزها، وبطلت الوصية؛ لأن الأب لا يحوز على ابنه الكبير، ولا يجوز له أن يوصي بعتاقة عبيد ولده الأكابر، فالولد الكبير أحق بالعبد من الوصية إذا قام بالحيازة في صحة أبيه.
قال محمد بن رشد: وصيته بعتق عبد ابنه الصغير، كعتقه سواء أن حمله الثلث جاز، وكان له قيمته في مال أبيه، وكذلك ما حمل الثلث منه إن لم يحمل جميعه، وقد مضى في رسم استأذن من سماع عيسى حكم صنيع الأب في مال ابنه الصغير من عتق أو هبة أو صدقة أو تزويج مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يرث هو وأخوه أرضا فيتصدق منها على رجل بناحية من الأرض بنصها]
مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن الرجل يرث هو وأخوه أرضا، فيتصدق منها على رجل بناحية من الأرض بنصها، وذلك قبل أن يقاسم أشراكه، ماذا ترى للمتصدق عليه؟ قال ابن القاسم: أرى أن تقسم الأرض كلها بين الورثة، فإن صارت الأرض التي(14/28)
تصدق بها أحدهم للمتصدق بها في سهمه، أخذها الذي تصدق بها عليه، وإن صارت لبعض أشراكه كانت للذي تصير له في سهمه، وبطلت الصدقة، ولم يكن على المتصدق أن يعوض المتصدق عليه منها شيئا من الأرض التي صارت له في سهمه؛ قال: وإن صار للمتصدق بها بعضها في سهمه، أعطى المتصدق عليه منها الذي صار للمتصدق في سهمه من تلك الأرض بعينها؛ قلت له: أرأيت تلك الأرض التي تصدق بها بعينها تحمل القسمة لسعتها دون أرض القرية؛ أيجوز للمتصدق عليه أن يقول: أنا أقاسمكم هذه الأرض دون أرض القرية، فآخذ منها نصيب صاحبي المتصدق علي، وكره ذلك الورثة؛ قال: لا ينظر إلى قول واحد منهم، ولكن ينظر إلى الأرض، فإن كانت في كرمها أو رداءتها لا تضاف إلى غيرها، على ذلك كان القسام يقسمونها، لو لم يتصدق بها على وجه العدل بين الورثة قسمت وحدها، فأعطى المتصدق عليه حصة المتصدق منها، ولا حق له فيما سواها مما يقاسمه الوراث أشراكه من بقية أرض القرية، وإن كانت تلك الأرض بعينها تشبه غيرها من جميع أرض القرية في القرب والكرم حتى يكون رأي القسام إذا عدلوا بين الورثة في القسم أن يجمعوا مثلها إلى بقية أرض القرية، جمعت في القسم، فإن صارت لغير المتصدق بها لم يكن للمتصدق بها عليه منها، ولا من غيرها شيء وإن صارت أو بعضها للمتصدق في سهمه، أخذها المتصدق عليه، أو أخذ ما صار منها للمتصدق بها.
قال محمد بن رشد: جواب ابن القاسم في هذه المسألة صحيح على القول بأن القسمة تمييز حق؛ لأنها كأنها حققت أن الذي صار منها(14/29)
للمتصدق من الأرض، هو الذي كان له يوم تصدق منها، فلذلك قال: إن صارت الناحية المتصدق بها للمتصدق، أخذها المتصدق عليه، وإن صارت لغيره لم يكن له شيء، وإن صار له بعضها، لم يكن له إلا ما صار له منها، ويأتي فيها على قياس القول بأنها بيع من البيوع، أنه ليس للمتصدق عليه من الناحية المتصدق بها إلا سهم المتصدق، بأن صارت القسمة لغيره، كان له من حظ المتصدق قدر ذلك، وهو قول ابن الماجشون؛ وقال مطرف: إن وقع في سهم المتصدق ما تصدق به فهو للمتصدق عليه، وإن وقع في سهم غيره كان للمتصدق عليه قدر نصيب المتصدق، وهو استحسان على غير قياس.
[: يقول ثمر حائطي العام صدقة على فلان والنخل يومئذ لا ثمر لها]
ومن كتاب الصلاة قال يحيى: وسألت عن رجل يقول: ثمر حائطي العام صدقة على فلان، والنخل يومئذ لا ثمر لها، فيريد المتصدق أن يبيع الأصل، قال: ليس ذلك له، إلا أن يبيع الأصل في دين رهنه إذا ألجئ إلى ذلك من فلس، قيل له: فإن مات المتصدق ولم يثمر النخل؟ فقال: ليس للمتصدق عليه شيء. وسئل عنها سحنون فقال: إن أراد بيعها قبل إبار النخل، فبيعه غير جائز، وإن كان بيعه بعد إبار النخل، فالبيع جائز.
قال محمد بن رشد: ظاهر قوله في هذه المسألة أن المتصدق بالثمرة إن مات قبل أن يثمر النخل، لم يكن للمتصدق عليه شيء، وإن كان قد قبض النخل، خلاف ظاهر ما في كتاب الهبة والصدقة من المدونة من أن قبض النخل قبض لما يأتي من الثمرة الموهوبة، وكان أبو عمر بن القطان يرد ما(14/30)
في المدونة بالتأويل إلى هذه الرواية، وكان غيره يخالفه في ذلك على ما قد ذكرناه في كتاب العرايا من المقدمات، وسائر المسألة قد مضى الكلام عليه مستوفى في رسم أوله مسائل بيوع ثم كراء، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[: رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار وأحد الولد غائب]
ومن كتاب المكاتب وسألته عن رجل تصدق على بنين له ثلاثة بأرض أو دار وأحد الولد غائب، فأراد الحاضران أن يحوزا حظيهما، فقاسمهما الأب فأخذا ثلثي الأرض أو الدار؛ وحبس الوالد الثلث فمات قبل قدوم الابن الغائب، فلما قدم أراد أن يدخل على أخويه فيما حازا مما كان أبوهم قد تصدق به عليهم؛ فقال: لا حق له إذا لم يحز لنفسه، ولم يحز له حائز، ولأخويه ما حازا دونه؛ قلت: فلو لم يقاسمهما الأب فحازا ثلثي ذلك أو أقل أو أكثر حيازة مبهمة، ليست حيازة مقاسمة.
قال أصبغ: ما حازا بينهم؛ لأن الصدقة وقعت بينهم على الإشاعة، وقبضهما حيازة للغائب لمغيبه، فقد حازا من الصدقة شيئا هو بينهما وبين الغائب، فذلك جائز، وهو بينهم سواء، كما كانت الصدقة بينهم، ويشبه أن يقولوا مثل هذا أيضا، وإن كانا حازاه على مقاسمة من الأب فيها؛ لأن القسمة التي قسمها الأب لا تجوز عليه؛ إذ ليس ممن يجب أن ينظر له.(14/31)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية قلت: فلو لم يقاسمهما الأب إلى آخر المسألة، ساقط من أكثر الكتب، وهي زيادة جيدة تتم بها المسألة؛ ولا إشكال فيما حاز الحاضران على غير قسم أنه بينهما وبين الغائب، وإنما الكلام فيما حازاه على مقاسمة من الأب لهما على الغائب؛ فالقياس أن يدخل الغائب عليهما فيما حازاه على الأب؛ لأن قسمته لا تجوز عليه إذا كانت بعد الصدقة، ولم تكن في أصلها؛ ووجه إعمال القسمة عليه، وإن لم تكن في أصل الصدقة، وكانت بعدها مراعاة قول من يقول: إن الصدقة والهبة لا يجب الحكم بها على المتصدق والواهب ما لم تقبض منه، فكانت القسمة كأنها في أصل الصدقة؛ ولو قدم الغائب والمتصدق حي، لما جازت عليه القسمة إذا لم تكن في أصل الصدقة، وعلى قياس إجازة القسمة على الغائب استحسانا مراعاة لهذا الخلاف، يأتي ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن المدنيين والمصريين، وقال: إنه مما اجتمعوا عليه ورأوه واحدا في الهبة والصدقة من أن الرجل إذا حبس حبسا على بنيه الصغار والكبار، أو تصدق عليهم بصدقة، فقاسمه في أصل التحبيس أو بعده، فسمى للصغار من ذلك مساكن معروفة محدودة، وللكبار مثل ذلك، فلم يحز الكبار ما سمى لهم من ذلك، وحاز هو للصغار ما سمى لهم؛ جاز ذلك للصغار، وبطل على الكبار؛ لأنه إنما صار كأنه إنما حبس على كل فريق منهم شيئا بعينه مفروزا محدودا، وقال فضل: رأيت ابن حبيب قد ذكر في سماعه من أصبغ، عن ابن القاسم بخط يده: إذا قسم ذلك في أصل(14/32)
الحبس، ولم يذكر فيه هذه كما حكى هاهنا.
قال محمد بن رشد: وهذا هو القياس، إلا أن يكون إذ قسم الحبس أو الصدقة بين الصغار والكبار بعد أن حبس أو تصدق عليهم جميعا، قسمه مع الكبار برضاهم، فيجوز ذلك ويكون للصغار حظهم بحيازة الأب إياه لهم، ويبطل حظ الكبار، إلا أن يحوزه، ولا يكون في ذلك اختلاف ولا اعتراض؛ لأن قسمة الأب على الصغار جائزة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يكون بينه وبين الرجل عبد فيقول أحدهما نصيبي من خدمتك عليك صدقة]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يكون بينه وبين الرجل عبد، فيقول أحدهما نصيبي من خدمتك عليك صدقة؛ فقال: يقول عليه نصيب صاحبه، ويكون ذلك بمنزلة من أعتق شركا له في عبد. قلت: فإن قال الرجل لعبده خدمتك عليك صدقة ما عشت أنت، أو ما عشت أنا؛ قال: أما حياة العبد فبين أنه حر ساعتئذ، وأما حياة السيد، فليس له من خدمته إلا حياة السيد، ولا يكون حرا، وكذلك قوله بخراجك وبعملك.
قال محمد بن رشد: فرق مالك في سماع ابن القاسم من كتاب الخدمة في أول رسم منه بين الخراج والعمل، فقال: إنه إن قال: تصدقت عليك بخراجك، كان له أن يستخدمه ولا يضر به؛ يريد في مثل ما استخدم فيه أم الولد، وإن قال: قد تصدقت عليك بعملك، كان حرا مكانه، وقال سحنون:(14/33)
مفاد الخراج والعمل والخدمة عندي واحد، فإن قال الرجل لعبده: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بخراجك، أو بعملك، فإن كان أراد ما عاش العبد فهو حر ساعتئذ؛ وإن كان ما عاش السيد فليس له منه إلا حياة السيد، فقول سحنون في مساواته بين الخراج والخدمة والعمل، مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية، خلاف قول مالك: ولا فرق عند جميعهم بين الخدمة والعمل، ولم يتكلم ابن القاسم إذا قال: قد تصدقت عليك بخدمتك، أو بعملك، ولم يقل: ما عشت أنت، أو ما عشت أنا، والذي يوجبه النظر أن يصدق في ذلك دون يمين، وهو الذي يدل عليه قول سحنون؛ فإن قال: لم تكن لي نية، حمل على حياة العبد، وكان حرا مكانه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه عتق عليه]
مسألة قال: وسألته عن الرجل يتصدق في صحته على الرجل بمن إذا ملكه عتق عليه، فلا يقبل صدقته ما يكون حال العبد؟ فقال: يكون حرا على سيده الذي تصدق به، ويكون ولاؤه له، ولا يجبر المتصدق عليه على أخذه.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا لم يقبل أنه يكون حرا على سيده الذي تصدق به، ويكون الولاء له، خلاف نص قوله في المدونة في الذي يوصى له بمن يعتق عليه والثلث يحمله؛ أنه يعتق عليه قبل أو لم يقبل، ويكون الولاء له؛ قال أبو إسحاق التونسي: وكان القياس إذا لم يقبل أن يرجع رقيقا لورثة الموصي في الوصية، أو للمتصدق به في الصدقة، ووجه ما ذهب(14/34)
إليه؛ أن الموصي والمتصدق إنما ملكه كل واحد منهما إياه إن شاء، فكان كما لو قال لعبده: عتقك بيدك إن شئت، فقال: لا أقبل؛ أنه رقيق، ووجه ما في المدونة أن المتصدق والموصي لما علم كل واحد منهما أنه يعتق عليه إذا ملكه، ولم يكن على يقين من قبوله إياه، حمل عليه أنه أراد عتقه عنه، فكان الولاء له قبل أو لم يقبل، ووجه هذه الرواية أنه لما علم أنه يعتق عليه فأوصى له به، أو وهبه إياه، أو تصدق به عليه، فقد قصد إلى عتقه، فكأنه قال: إن قبله، وإلا فهو حر؛ والقولان في الولاء إذا لم يقبل في رسم القطعان، من سماع عيسى، من كتاب العتق، وأما إذا أوصى له بشقص ممن يعتق عليه، أو وهبه إياه، أو أوصى له به كله، فلم يحمله الثلث، فمذهب ابن القاسم أنه إن قبل عتق عليه ذلك الشقص، وقوم عليه الباقي إن كان له مال، وإن لم يقبل عتق عليه ذلك الشقص، وكان ولاؤه له، وقال علي بن زياد، عن مالك: إن لما يقبل سقطت الوصية، وكذلك على روايته يرجع الشقص الموهوب إذا لم يقبله الموهوب له إلى الواهب ملكا، ووجه ما ذهب إليه مالك في رواية علي بن زياد: أنه حمل عليه إذا كان ثم تقويم يضر به، أنه خيره بين أن يقبل، فيعتق عليه ما قبل، وبقوم عليه باقيه؛ وبين ألا يقبل فيرجع إليه رقيقا.
وإذا لم يكن ثم تقويم يضر به، حمل عليه أنه أراد عتق عنه بكل حال؛ وعلى هذه الرواية أنه أراد عتقه عن نفسه، إن لم يقبله، ورواية عدي بن زياد في الشقص يوهب له ممن يعتق عليه، أو يوصى له به، أنه إن لم يقبله رجع رقيقا، أظهر من مذهب ابن القاسم؛ لأنه إذا كان يعتق عليه الشقص على كل حال قبله أو لم يقبله بعد أن يقوم عليه إذا قبله،(14/35)
إذ لم يؤثر قبوله له شيئا، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها في دينه]
مسألة قلت: فإن تصدق رجل على رجل مفلس بدنانير ليؤديها في دينه، فلم يقبل، وقال الغرماء: نحن نقبل ذلك عليه، ولا ينبغي له أن يضر بنا في رد ما تصدق به عليه؛ فقال: لا يجبر على أخذ الصدقة؛ لأنه يقول: لا ألزم نفسي مذمة، ولا أوجب لأحد علي منة، وسيرزقني الله، فأؤدي إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا الرسم، من هذا السماع، من كتاب المديان والتفليس، وهي مسألة صحيحة بينة، قد أغنى ابن القاسم عن القول فيها بنصه على العلة فيها، فإن قال الغرماء: ليس من حق المتصدق عليك أن يؤدي إلينا ديوننا عنك، فيكون عليه قد امتن بذلك عليك، ولا يكون لك في ذلك حجة، فما الفرق بين ذلك وبين أن يعطيك ما تؤدي منه دينك؛ قيل لهم: الفرق بين ذلك ظاهر بين؛ لأنه إذا أدى عنه دينه إلى الغرماء بغير اختياره، كان من حقه إذا أيسر أن يؤدي ما عليه من الديون، ويجبر أربابها على قبضها، لتزول المنة عنه في أدائها عنه، ولو قبض المفلس الصدقة التي تصدق بها عليه على أنه بالخيار في قبولها وردها، فأراد ردها، وقال الغرماء: نحن نقبلها؛ لتخرج ذلك على قولين حسبما ذكرناه في كتاب التفليس.(14/36)
[: أخوين تنازعا في رقيق ادعى أحدهما أن له فيها شركا]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن أخوين تنازعا في رقيق ادعى أحدهما أن له فيها شركا، فقال المدعي لأخيه: أن منجاحا وابنتيه بيننا، وقال له أخوه: ليس له إلا ابنة واحدة، فقال أخوه: بل له ابنتان صغيرة وأخرى كبيرة، فقال له أخوه: إن كانت له ابنة سوى صغيرة، فهي عليك صدقة، فخاصمه الأخ فيما تصدق به عليه من الابنة الأخرى، ثم أقر الأخ بعدما نظر في أمرهما أن له ابنة أخرى، وقال: إنما وهبت، وليس لك صدقة، وظننت أنك تعني منجحا غلاما سواه؛ فقال الأخ: والله لا أقيلك من صدقتي ولا أدعها أبدا، إلا أن يقضى له بها، قال: فقال: سمعت مالكا يقول وهو الذي آخذ به: إن الصدقة إذا كان أصلها على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة، وما أشبه ذلك من الوجوه المعروفة بين الناس في احتسابهم، أو حسن معاشرتهم، فإن صاحبها لا يرجع فيها؛ وإن خاصمه المتصدق بها عليه، قضي له عليه بها، قال: وأما كل صدقة تكون في يمين الحالف، أو لفظ منازع، أو جواب مكذب لصاحبه، مثل ما ذكرت لك في مسألتك؛ فهي باطل لا يقضى بها لمن تصدق بها عليه في بعض هذه الوجوه، وما أشبهها، إلا أن معطيها والمتصدق بها، يوعظ ويؤثم، فإن تطوع بإمضائها، كان ذلك الذي يستحب له، وإن شح، لم يحكم عليه فيها بشيء.(14/37)
قال محمد بن رشد: مثل هذا في كتاب الهبات من المدونة، أن ما كان من الصدقة على وجه اليمين للمساكين، أو لرجل بعينه، فلا يجبره السلطان على أن يخرجها، وهو المشهور في المذهب، والمعنى في أنه لا يقضي بها بيّن، وذلك أن الحالف بالصدقة إنما يقصد إلى الامتناع مما حلف بالصدقة ألا يفعله، لا إلى إخراج الصدقة، والأعمال بالنيات؛ لكنه إذا فعل الذي حلف بالصدقة ألا يفعله، فقد اختار إخراج الصدقة على ترك الفعل، فلذلك قال: إنه يوعظ ويؤثم، وإنما لا يقضى عليه بالصدقة، إن كان آثما في الامتناع من إخراجها؛ لأنه لا أجر له في الحكم عليه بها وهو كاره، فيذهب ماله في غير منفعة تصير إليه، ولهذا المعنى لا يحكم على من نذر نذرا بالوفاء به، وفي المدنية لمحمد بن دينار فيمن شرط لامرأته أن تسري عليها، فالسرية صدقة عليها؛ أن الصدقة بالشرط تلزمه، وأنه إن أعتقها بعد أن اتخذها لم ينفذ عتقه، وكانت لها صدقة بالشرط، ولابن نافع في المدنية أيضا فيمن باع سلعة من رجل، وقال: إن خاصمته فهي صدقة عليه، فخاصمه فيها، أن الصدقة تلزمه، فإن كان يريد بقوله: إن الصدقة تلزمه، أنه يحكم بها عليه، فهو مثل قول ابن دينار، خلاف المشهور في المذهب، وأما ما كان من الصدقات المبتلات لله على غير يمين، فيحكم بها إن كانت لمعين باتفاق، وإن كانت للمساكين، أو في السبيل على اختلاف الرواية في ذلك في المدونة، وبالله التوفيق.
[مسألة: أخوين أوصى أحدهما بوصية بحظه من مورثه]
مسألة قال: وسألته عن أخوين أوصى أحدهما بوصية فكتب فيها: وقد(14/38)
تصدق فلان بن فلان الفلاني على أخيه فلان بن فلان، بحظه من مورثه في دار أبيه وجنانها وبئرها، وكل ما صار له فيها، تصدق به صدقة لله بتلا، أمضاها فلان الموصي لأخيه فلان حي أو ميت، وما كان من غير ذلك من متاع، أو ناض، أو عقار، أو حيوان، أو دار، أو قرية، أو شجر، أو رحى، أو حانوت، أو بيت في داخل المدينة، أو خارجا منها في أرباضها، أو خارجا من أرباضها، أو قراها في جميع الأندلس، أو في المشرق، ودارهم التي بأفريقية التي اشتروا من ورثة أبان بن راشد الحلي، أو رقيق في كل ما سمياه في قراهم، أو غير ذلك من البلاد، من قليل أو كثير؛ فهو بين أخيه، وفلان شرعا سواء بينهما، فادعى الموصي أنه كان أوصى بهذه الوصية مما ذكر من شرك أخيه وصية منه، وأنه ينقضها إذا بدا له، كما ينقض الموصي وصيته، وادعى أخوه أن ذلك إقرار منه له بشركه الذي كان يعرف له، وقد كانا فيما يعرف الناس من ظاهر أمرهما شريكين حتى تجاحدا ذلك وتناكراه.
قلت: فهل ترى ما كتب صاحب الوصية في وصيته هذه إقرارا لأخيه، ومبتدؤها وصية على ما ذكرت لك، وكان كتبه إياها عند غزوة غزاها، وهو صحيح سوي، قال:(14/39)
أرى إن ثبتت هذه الوصية التي اقتصصت بالبينة العادلة، أو بإقرار منه بها، أن يلزمه جميع ما فيها من الصدقة بحظه من الدار التي ورث عن أبيه وجنانها وبئرها؛ لأنه بتلها لأخيه ويلزمه فيما سوى ذلك من جميع ما كان في يديه يوم أقر لأخيه بها في هذه الوصية إقراره، فيجعل ذلك بينهما نصفين، وأرى ما نص من ذلك إقرارا منه لأخيه، ولست أراها وصية يجوز له نقضها كما ادعى، قال: وسألت عن ذلك ابن القاسم وأقرأته كتاب الوصية على مثل ما أقرأته ابن وهب، فقال مثل قول ابن وهب، ولم يخالفه في شيء منها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قالا؛ لأن الإقرار فيها بيّن، وإن كان ابتداؤها وصية؛ لأن الرجل يلزمه أن يذكر في وصيته ما عليه من الحقوق، فهو آكد عليه مما يوصي به أنه ينفذ عنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابن أخيه أو على أخيه وهو صغير في حجره]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن الرجل يتصدق على ابن أخيه، أو على أخيه وهو صغير في حجره، وهو يليه بالنظر له، والقيام بأمره، وليس بوصي لأبيه، فيكون في يدي المتصدق حتى يموت؛ أيحوز ذلك عليه كحوز الوالد؟ وهل تحوز الأم لولدها الصغير ما تصدقت به عليه، أو الأجداد، أو الجدات، أو الأخوال، أو الخالات، أو الأعمام، أو العمات؛ قلت فسر لي رحمك الله من يحوز من(14/40)
هؤلاء على الصغير ما يتصدق به عليه إذا كان في حجره؟ ومن لا يحوز عليه منهم؟ قال: لا يحوز من هؤلاء على الصغير ما يتصدق به عليه إذا كان في حجره إلا الأب، والوصي، والأم إذا كان يتيما في حجرها، وإن لم يكن موصى إليها؛ والأجداد بمنزلة الأب إذا لم يكن الأب، وكان الجد هو الذي يليه، وهو في حجره، والجدات بمنزلة الأم، إذا لم تكن الأم وكان في حجرها.
قال: وأما ما سوى هؤلاء، فلا يكون حوزهم حوزا للصغير إلا إن برئ منه إلى رجل يليه للصغير. قلت له: أرأيت الأبوين، والأجداد، والجدات، والوصي، الذين جعلتهم كالأب فيما يلي من الحوز للصغير، أيجزيهم الإشهاد وإعلان الصدقة، ويثبت ذلك للصغير المتصدق عليه، وإن انتفعوا بكل الغلات إن كان عقارا، أو لبس الثياب إن كانت الصدقة ثيابا، أو استخدام الرقيق إن كانت الصدقة رقيقا، أم لا يكون الحوز على الصغير ممن يلي ذلك له من هؤلاء الذين نصصت لك حوزهم عليه، إلا بحبس الغلة عليه، وأن تكرى تلك الصدقة باسمه، ويشهد على نفسه بما يقبض من غلته، وبرئ من الانتفاع بقليل ذلك وكثيره، وكيف إن لبس الثوب لبسا خفيفا، أو أتاه وأدرك بعينه، أو استخدم الرأس(14/41)
استخداما يسيرا.
قال: وسألت ابن القاسم عن مثل الذي سألت عنه ابن وهب من الحيازة على الصغير، فقال: لا يحوز على الصغير ما يتصدق به عليه إلا الأب أو الوصي؛ ولا يحوز له إلا من كان يجوز له إنكاحه والمبارأة عنه والاشتراء له، والبيع عليه. قال: قال ابن القاسم: وقد سألت مالكا عن الأم تتصدق على ابنها الصغير في حجرها قد مات أبوه، فقال: إن كانت وصية عليه فهذا الذي لا يعرف غيره أنه جائز، قال ابن القاسم: فأما ما سواها من أمر ليست بوصية، أو خال، أو عم، أو قريب، أو بعيد، فلا يحوز على الصغير، وإن كان في حجره، وأما أن يحوز له الأب أو الوصي، أو وصي الوصي ما تصدق به عليه أو تصدق به غيره عليه.
قال محمد بن رشد: في سماع عبد الملك من كتاب الوصايا، أن كل من ولي يتيما من قريب أو بعيد، فإنه يحوز له ما وهب له، ومثله من بيده اللقيط، ورواه ابن غانم، ونحوه في كتاب القسمة من المدونة أن الرجل يحوز مقاسمته على من التقطه، فهو قول ثالث في المسألة حسبما مضى تحصيله في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، ولما سأل ابن وهب في هذه الرواية، إذ أجاز حيازة الأجداد والأم والجدات لما وهبوا، إذا كانوا في حجورهم، وجعلهم في ذلك كالأب، هل يكتفون من الحيازة بالإشهاد على الصدقة وإعلانها، وإن انتفعوا بأكل الغلات، وإن كان(14/42)
عقارا أو لبس الثياب، إن كانت الصدقة ثيابا، أو استخدام الرقيق إن كانت الصدقة رقيقا، أم لا تصح حيازتهم لهم إلا أن يكروا ما يكرى من ذلك بأسمائهم، ويشهدوا على أنفسهم بما يقبضون من غلات ذلك، ويبرءوا من الانتفاع بذلك بقليل ذلك أو كثيره، فسكت عن الجواب في ذلك، ولا أعرف له في ذلك مذهبا منصوصا عليه، وقد اختلف فيما عدا الملبوس والمسكون من ذلك في الأب والوصي على ثلاثة أقوال؛ قد مضى تحصيله في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته؛ وأما الملبوس والمسكون فلا اختلاف في أن الأب أو الوصي إذا لبس أو سكن ما وهب أو تصدق به، أو حبسه، بطلت حيازته، وكذلك من سوى الأب والوصي عند من يجيز حيازته ما وهب لمن في حجره، وبالله التوفيق.
[مسألة: امرأة استخلفت رجلا يخاصم لها في منزل غصبته]
مسألة قال: وسألت ابن وهب عن امرأة استخلفت رجلا يخاصم لها في منزل غصبته، فخاصم حتى قضي لها به، وسكنت فيه سنة، والمستخلف المخاصم معها فيه، فسألها المخاصم أن تتصدق عليه بثلث ذلك المنزل الذي قضي لها به ففعلت، ثم إن المرأة قامت عليه بعد تدعي أنها كانت جاهلة بما تصدقت به عليه من ثلث المنزل، فأتت بشهيدين، فشهدا أن فلانا المخاصم لها المتصدق(14/43)
عليه، ادعى عند القاضي أنها جعلت له الذي أعطته في القرية في شخوصه وقيامه، وأنكر القاضي أن يكون علم ذلك من دعواه عنده، أو سمعه منه؛ غير أن الشهيدين قد ثبتا على شهادتهما بما كان يدعي عند القاضي من ذلك، وشهد له أيضا شاهد جائز الشهادة آخر أن فلانا المتصدق عليه كان يقلل عندها الذي سألها من الصدقة، ويزعم لها عند سؤاله إياها أنه يسير حقير لو عرفته، ثم ادعى المتصدق عليه أنها كانت صدقة منها عليه في صحة من بدنها، وجواز من أمرها بعدما عرفت الثلث الذي تصدقت به عليه، وموضع الفدادين، وما في ذلك الثلث من شجر، أو حجر، أو منتفع، قليل أو كثيرة؛ وأنه سكن معها في الصدقة عامين، وكانت الصدقة فيما زعم بعد أن قضي لها بالمنزل بسنتين أو نحو ذلك؛ قلت: فهل ترى صدقته ثابتة له عليها، والمرأة قد بلغت مبلغ من يجوز عليها أمرها من النساء؛ فقال لي ابن وهب: أرى الصدقة لها لازمة، وعليها جائزة بالذي ثبت عليها أنها تصدقت بذلك بعد معرفتها بما تصدقت به، قال: فأما إن كانت معروفة بالجهالة بذلك المنزل، فخدعت عما تصدقت به، وثبت لها أنه قلل لها وحقره عندها، وهي بذلك غير عالمة بالذي(14/44)
قضي لها به، ولا جائزة بالذي طلب إليها فيه، فأرى الصدقة على مثل هذا غير جائزة. قال: وسألته عن الجعل في الخصومة فلم يره جائزا.
قلت: فإن وقع، قال: يعطى أجر مثله في شخوصه، قضي له أو لم يقض بشيء؛ وقال: وسألت ابن القاسم عن صدر هذه المسألة على مثل ما سألت عنه ابن وهب، فقال: أرى أن الصدقة جائزة بعد أن يحلف المتصدق عليه بالله ما كان الذي تصدقت به عليه أمرا قاطعته به قبل الخصومة، وما الذي أحدثته من الصدقة أمرا كان أصله على المجاعلة في الخصومة التي قام بها، وما هو إلا شيء طاعت له به، لما قضي لها به على يديه، فتصدقت بذلك عليه شكرا ومكافأة؛ فإن حلف على ذلك، جازت له الصدقة للذي ثبت عليها من عمله، بما تصدقت به عليه، ومعرفتها به وبحدوده؛ وذلك أنا نرى أن رجلا لو سأل رجلا يقوم له في خصومة ويكافئه عليها؛ لكان الذي فعله لا يصلح، ولو قام بالخصومة على تلك العدة؛ لكان وجه الصواب في ذلك أن يعطي أجر مثله؛ قال: ولو أعطاه دارا، أو عبدا، أو أرضا(14/45)
مكافأة له، ففات ذلك وقبضه؛ لجاز ذلك، ولم يكن للمعطي أن يتعقبه فيه بأمر ينتزع به منه الذي تطوع له به وكافأه به من غير سلطان ألزمه إياه؛ لأنه إنما أعطاه ذلك للذي كان يلزمه له من أجر مثله فيما قام له به من الخصومة، وشخص له فيه، فأرى أنه إن كانت عطيتها إياه على غير مقاطعة سميت له في أصل الجعل، أو صدقة منها، فهي حلال في الأمرين جميعا العطية له جائزة، والصدقة كذلك، قال فإن كانت جاعلته على ثلث ذلك المنزل عند ابتداء الخصومة، فذلك موضوع عنها، وله أجر مثله؛ وذلك أن مالكا قال: لا يحل الجعل في الخصومة على إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له؛ ومن عمل في هذا فله أجر مثله.
قلت: فما وجه ما تجوز به الإجارة في الخصومة؟ قال: لا أرى به بأسا مشاهرة، إذا عرف وجه الشخوص فيها شهرا بشهر، فلا أرى أيضا بأسا أن يقاطع إذا كان الذي يخاصم فيه شيئا معروف القدر، خفيف الخطر، ووجه الشخوص فيه لا يكاد يختلف فيه.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في سماع سحنون، من كتاب الجعل والإجارة ملخصة محذوفة، وبعض ألفاظها مخالفة لما وقع فيها هاهنا، من ذلك أنه قال فيها هناك أنه ادعى أنها صدقة، وأقام البينة على صدقته، وهم مقرون بها، غير أنهم قالوا: إنما فعلنا؛ لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا، وإنما قاموا عليه بعد سنين والمعنى فيها، أن الرجل خاصم في القرية(14/46)
لأربابها، فلما استحقها لهم تصدقوا عليه بثلثها، لقبض الثلث وحازه؛ ثم إنهم قاموا عليه بعد سنين، فقالوا: إنا كنا جاعلناك على الخصام في القرية بثلثها الذي دفعناه إليك، وذلك لا يجوز لك؛ لأنه جعل فاسد لا يجوز، وأقاموا البينة على إقراره بأنه أخذه على جعله بما شهد به عليه الشاهدان بأنه كان يدعي ذلك عند القاضي؛ وقال: هو إنما أخذته بالصدقة، وأقام البينة على الصدقة، فأقروا، وقالوا: إنما تصدقنا عليك به؛ لأنا ظننا أن ذلك يلزمنا بالجعل الذي شارطتنا عليه، فرأى ابن وهب الصدقة لها لازمة وعليها جائزة.
قال: فالذي ثبت عليها أنها تصدقت بذلك بعد صرفتها بما تصدقت به، وليس في السؤال ثبوت الصدقة عليها، وإنما وقع ذلك في سماع سحنون، من كتاب الجعل والإجارة، غير أن فيه إقرارها بها ودعواها الجهل بمقدارها، وذلك كثبوت ذلك عليما، ولا فيه أيضا ثبوت معرفتها بقدر الصدقة، غير أن فيه أنها سكنت في المنزل مع المخاصم لها فيه سنة بعد أن قضى لها به قبل الصدقة، وذلك يقتضي معرفتها بمقدار ذلك؛ قال: ولو كانت جاهلة بمقدار ما تصدقت، وثبت أنه قلل لها ذلك وحقره عندها لما لزمتها الصدقة، ورأى ابن القاسم أيضا الصدقة لها لازمة، ولم يعذرها بالجهالة، ولا رأى ما ثبت عليه هو من ادعائه أنه أخذه على جعله ضائرا له؛ لأن بإزائه إقرارها له بالصدقة التي ادعى، واستظهر عليه باليمين على أنه لم يقطعها بالثلث قبل الخصومة، وإنما طاعت له به بعدها شكرا ومكافأة عليها من أجل ما تضمنه السؤال من أنه شهد عليه أنه ادعى عند القاضي أنها جاعلته على ذلك، وفي قوله في آخر جوابه قال: فإن كانت جاعلته على ثلث ذلك(14/47)
المنزل عند ابتداء الخصومة، فذلك موضوع عنها، وله أجر مثله؛ وذلك أن مالكا قال: لا يحل الجعل في الخصومة على، إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له؛ ومن عمل في هذا فله أجر مثله دليل على أن ذلك جائز عنده على القول بأن الجعل جائز في الخصومة، على أنه إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج، فلا شيء له؛ خلاف قوله في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر، من سماع يحيى من كتاب الجعل والإجارة في الذي يقول للرجل: قم لي بطلب شفعتي، ولك إن استحققتها نصف سهمي، ونصف ما تأخذ لي بالشفعة؛ أن ذلك لا يجوز، وإن كان الجعل حلالا؛ لأنه جعل فيه ما لم يملكه بعد، وبينا هناك أن ذلك ينبغي أن يكون جائزا على القول، بأن الجعل في الخصومة جائز على أنه إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له بيانا شافيا، فلا معنى لإعادته، وهو ظاهر قوله هاهنا.
وقد اختلف قول مالك في الجعل في الخصومة على أنه إن فلج فله جعله، وإن لم يفلج فلا شيء له، وقع اختلاف قوله في ذلك في آخر كتاب الجعل والإجارة من المدونة، واختلف في ذلك قول أبي القاسم أيضا، روى عنه يحيى في أول رسم، من سماع يحيى، من كتاب البضائع والوكالات، إجازة ذلك، خلاف قوله في هذه الرواية، والأظهر إجازة ذلك؛ لأن الجعل على المجهول جائز، وإنما كرها ذلك على أحد قوليهما إذا كثر الجهل فيه استحسانا، وأما إذا قل الجهل فيه، وكان الذي يخاصم فيه شيئا معروف العدد، خفيف(14/48)
الخطب، وجه الشخوص فيه لا يكاد يختلف؛ فذلك جائز قولا واحدا كما قال في هذه الرواية؛ وقوله أن الوجه في الإجارة في الخصومة إذا عرف وجه الشخوص فيها، أن تكون مشاهرة شهرا بشهر، معناه أن يستأجره شهرا على الخصام بأجر معلوم، فإن فلج أو فلج عليه قبل تمام الشهر، كان له من إجارته بحساب ما مضى من الشهر، وإن انقضى الشهر ولم يفلج فاستأجره على التمادي على الخصام شهرا آخر أيضا، فإن فلج قبل تمام الشهر، كان له من إجارته بحساب ما مضى من الشهر، كالذي يستأجر الرجل شهرا على أن يبيع له ثوبا، فإن باع قبل تمام الشهر، كان له من إجارته بحساب ما مضى منه، وإن انقضى ولم يبع شيئا استوجب جميع أجرته؛ وكذلك قال مالك في كتاب ابن المواز إنما تجوز الإجارة في الخصومة بأجر معلوم، وأمد معلوم، يكون ذلك له ظفر أو لم يظفر؛ قال ابن القاسم: ثم ليس له ترك ذلك حتى يستخرجه؛ قال أصبغ: كالإجارة على بيع السلعة، وإن لم يتم وقتا إذا كان لذلك وقت قد عرفه الناس، والأجل على كل حال أحسن، وقول أصبغ صحيح على ما قالوا في الشيء الذي يباع من جاعل أن الإجارة على بيعه جائز دون ضرب الأجل؛ لأن العناء في بيعه معروف، فهو أجل معلوم، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ابنه الصغير برقيق]
ومن كتاب أوله: أول عبد ابتاعه، فهو حر مسألة
قال: وسألته عن الرجل يتصدق على ابنه الصغير برقيق، ثم(14/49)
يموت فيترك الورثة تلك الرقيق في يد المتصدق عليه نحوا من ثماني عشرة سنة، ثم يريدون اقتسام تلك الرقيق، ويقولون: إنما تركناها في يدك على حال إرفاقك بخدمتها، فإذا زعمت أنك حبستها بأنها عليك صدقة، فهات على دعواك بالبينة؛ فيقول: قد طال ترككم إياها عندي معرفة منكم بحقي، ولو سألتموني البينة على الصدقة بحداثة موت أبي وجدتها، وقد ماتوا اليوم أو نسوا، وفي ترككم إياها في يدي إقرار منكم بمعرفة صدقي، ولعله قد كان يعتق ويتصدق ويبيع.
قال ابن القاسم: إن جاء بالبينة على أهل الصدقة فالأب عليه حائز مع قبضه للرقيق بعد أبيه، وترك الورثة ذلك في يدي لا يكلفونه حوزا، ولا يسألونه إياه، وإن لم تكن له بينة على أصل الصدقة، وإنما أراد أن يوجب لنفسه دعواه بترك الورثة اقتسام الرقيق، فلا حق له فيها إلا مورثه منها، إلا أن يكون إذ حازها بالقبض لها، كأن يعتق ويبيع ويصنع ما يصنع المرء فيما خلص له من الأموال، فإن كان كذلك مع حضور الورثة وعلمهم بفعله، فهو أحق بالرقيق من جميع الورثة، قال: وإن كان إنما أعتق رأسا من عدة رقيق، أو تصدق بيسير من كثير، فإن ذلك لا يوجب له الصدقة التي ادعى، لا فيما أحدث فيه، ولا فيما بقي من الرقيق؛ غير أنه إن كان أعتق، قوم عليه؛ وإن كان باع، غرم أنصباء أشراكه من الثمن لحضورهم وعلمهم بالبيع؛ قال: وإن كان الذي أحدث فيه من العتاقة والبيع والصدقة، وما أشبه ذلك في جل الرقيق وأكثرها، فالذي(14/50)
بقي من الرقيق تبع لما أحدث فيه يستحق ما بقي بما ادعى من الصدقة لحوزه ذلك، وقبضه دون إخوته.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يستحق الابن المتصدق عليه الرقيق بطول مكثها في يديه، إذا لم تكن له بينة على أصل الصدقة، صحيح لا اختلاف في أنه لا حيازة بين الأقارب الشركاء بالميراث وغير الشركاء بالسكنى والازدراع فيما يسكن ويزدرع، أو بالاستخدام واللباس فيما يستخدم ويلبس، وإن طالت المدة، إلا ما تناوله بعض الناس على ما في المدونة في قوله: وهذا من وجه الحيازة التي أخبرتك من أنه لا يجوز على مذهبه في المدونة في الحيازة بين الأقارب والأجنبيين وهو بعيد، وكذلك قوله: إلا أن يكون إذ حازها بالقبض لها، كأن يعتق ويبيع ويصنع ما يصنع المرء فيما خلص له من الأموال، فإن كان كذلك مع حضور الورثة وعلمهم بفعله، فهو أحق بالرقيق من جميع الورثة؛ صحيح أيضا لا اختلاف في أن التفويت بهذه الأشياء من البيع والعتق والهبة والصدقة والكتابة والتدبير والوطء، حيازة بين الأقارب الشركاء بالميراث وغيرهم إذا كانوا حضورا، ويفترق الحكم بين أن يحضروا التفويت، أو يعلموا به، وهم في البلد حضور، حسبما قد مضى بيانه في رسم يسلف، من سماع ابن القاسم، كتاب الاستحقاق، ويختلف إذا فوت بذلك الوارث أو القريب اليسير من الجميع أو الجل، وبقي اليسير: فقيل إن القليل تبع للكثير(14/51)
في الوجهين، وهو قوله في هذه الرواية، ومثله في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب الاستحقاق؛ وقيل: إنه لا يكون تبعا له في الوجهين؛ فإن كان أعتق رأسا من عدة رقيق، أو باعه أو وهبه، استحقه بذلك، ولم يكن لأشراكه في الميراث عليه في ذلك حق، لحضورهم وعلمهم، وإن كان أعتق الجل أو فوت ذلك بالبيع، أو الهبة، أو الصدقة؛ كان لأشراكه في الميراث حقهم فيما بقي، وإن كان يسيرا، وسقط حقهم في الكثير المتفوت، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع سحنون، من كتاب الاستحقاق، وقد قيل: إن معنى ما في سماع سحنون إذا كان الذي حازه الوارث بهذه المعاني متناصفا، أو متقاربا، فلذلك قال: إنه لا يكون القليل تبعا للكثير، لا فيما حيز ولا فيما لم يحز، فلا يكون على هذا اختلاف في أن القليل تبع للكثير، وهو أولى من حمل ذلك على الخلاف؛ إذ لا اختلاف في أنه إذا كان ما حازه الوارث على أشراكه بهذه المعاني متقاربا، أو متناصفا، لا يكون بعض ذلك تبعا لبعض، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينحل ابنه الدنانير ويضعها على يدي رجل]
من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل ينحل ابنه الدنانير، ويضعها على يدي رجل، ثم يصوغها له حليا، أو كانت آنية، ثم أراد اعتصارها؛ قال: ليس ذلك له؛ لأنه قد تغير عن حاله، وإنما ذلك بمنزلة أن لو اشترى له جارية أو غير ذلك، ثم أراد اعتصارها، لم يمكن من ذلك، قال سحنون: وقال ابن وهب عن مالك في الدنانير(14/52)
والدراهم التي صيغت حليا، مثل قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: قوله: أو كانت آنية يريد آنية فصاغها، فقوله في الدنانير والآنية إذا وهب ذلك لابنه ثم صاغه له حليا، أنه لا اعتصار له في ذلك؛ لأنه قد تغير عن حاله؛ تعليل صحيح، وهي علة متفق عليها إن كان صاغها بمال الولد، وأما إن كان صاغها له بماله، أو أخرج أجرة صياغتها منها، فيجرى ذلك على الاختلاف في الهبة تتغير في بدنها بنقصان أو نماء، من غير أن تنمو بنفقة الابن؛ لأنها إذا نمت بنفقة الابن، فلا اختلاف في أنه لا اعتصار للأب فيها، مثل أن يكون صغيرا فينفق عليه حتى يكبر، أو هزيلا فينفق عليه حتى يسمن، أو دارا فيصلحها ببنيان وما أشبه ذلك؛ فظاهر قوله في هذه الرواية أن تغير الهبة في بدنها بأي وجه كان من زيادة أو نقصان، يفيت فيها الاعتصار، وهو ظاهر قول مالك في المدونة ما لم يحدثوا دينا، أو ينكحوا، أو تتغير عن حالها؛ وهو قول أصبغ في الواضحة، خلاف قول مطرف، وابن الماجشون: إن تغير الهبة في بدنها بالزيادة والنقصان لا يفيت فيها الاعتصار، وأما تشبيهه صياغة الدنانير له بابتياعه له بها الجارية، فليس ببين؛ لأن الدنانير التي وهب له قد صارت لبائع الجارية، والجارية ليست عين ما وهب، وأما الحلي فهو عين ما وهب من الدنانير أو الآنية، وفي المدنية قال: سمعت مالكا يقول: الأب يعتصر من ابنه الجارية ينحله إياها، وإن ولدت عند الابن، وكذلك الحيوان، ولم يبين إن كان ولد الجارية من زوج أو زنى، والظاهر أن ذلك عنده سواء؛ إذ لو افترق الأمر عنده لبينه، ولا بين أيضا إن كان يعتصرها بولدها، أو دون الولد؛ فإن اعتصرها(14/53)
والولد من زوج، بقيت الزوجية بينهما؛ لأنها عيب، والعيب لا يفيت الاعتصار في أحد الأقوال؛ وهذا الظاهر من مذهبه، والأظهر أن يأخذها دون ولدها؛ لأن الولد نماء حدث بماله؛ لأنه هو المنفق عليها وعليه، أو الزوج على الاختلاف في ذلك.
[مسألة: العبد يتصدق عليه فيأبى أن يقبل]
مسألة قال مالك في العبد يتصدق عليه فيأبى أن يقبل: إن لسيده أن يأخذ ذلك، وإن أبى الذي تصدق به إذا قال: إنما أردت العبد، أما إذا لم يقبل فلا أعطيك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أحفظه؛ لأن العبد لو قبل الصدقة، كان لسيده أن ينتزعها منه، فهو أحق بقبول ما تصدق به عليه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال غلة حائطي لابني الصغير وله ولد كبير]
مسألة قال ابن القاسم: إذا قال الرجل: غلة حائطي لابني الصغير وله ولد كبير، وخمسة أوسق منه لفلان، وكان الحائط في يديه يقوم عليه ويليه، ويخرج الخمسة الأوسق للأجنبي ثم يموت، قال: أراها صدقة جائزة لابنه وللأجنبي؛ وإذا قال: غلة الحائط لفلان وللمساكين، وكان في يديه يخرج الغلة للمساكين ولفلان، ثم يموت وهي في يديه، لم يجز للمساكين ولا لفلان، وهو خلاف الأول.(14/54)
قال الإمام القاضي: هذا بين على ما قاله من أن المسألتين مفترقتان؛ لأن العطية لا تصح إلا بالحيازة في صحة المعطي، وهو يحوز لابنه الصغير، فإذا قال غلة حائطي لابني الصغير، فله ثمرته ما عاش، وهو حبس عليه يحوزه له؛ وما استثناه منه لولده الكبير وللأجنبي، فكأنه قد استثناه لنفسه، فيجوز ذلك إن كانت الخمسة الأوسق ثلث غلة الحائط بعد نفقته أو أقل؛ وأما أن كانت الخمسة الأوسق أكثر من ثلث غلة الحائط، فلا يجوز ذلك، وبطل إن لم يخرج الحائط من يديه حتى توفي؛ لأن من حبس على صغير وكبير، فلم يحز الكبير، بطل نصيب الصغير؛ ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف في الهبة والصدقة حسبما مضى القول فيه، في رسم الحج والزكاة، من سماع أشهب من هذا الكتاب، وفي رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، وقد بين في هذه المسألة أنه جعل له غلة الحائط حياته بقوله فكان الحائط في يديه يقوم عليه ويليه، ويخرج الخمسة الأوسق منه للأجنبي؛ وأما من قال: غلة حائطي لفلان، ولم يقل حياته، فإن كان في وقت غلة الحائط، فليس له إلا غلة ذلك العام، بمنزلة من قال: ثمر حائطي لفلان وفيه يومئذ ثمر، حسبما مضى في نوازل سحنون، من كتاب الحبس.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالشيء ويقول إن أردت بيعه فأنا أحق به بالثمن]
مسألة وسألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على الرجل بالشيء،(14/55)
ويقول: إن أردت بيعه، فأنا أحق به بالثمن؛ قال: ليس هذه الصدقة بشيء؛ قلت له: فإن طال مكثها في يدي صاحبها، ثم أراد أن يقوم عليه، فيأخذ ذلك الشيء؛ قال سحنون، وذكر ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بها؛ لأنه ليس ببيع.
قال محمد بن رشد: قوله: ليست هذه الصدقة بشيء؛ يريد فيكون الحكم فيها أن تبطل، إلا أن يرضى الواهب بإمضاء الهبة وإسقاط الشرط؛ وفي هذه المسألة أربعة أقوال؛ قد مضى تحصيلها في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، أحدها: قول ابن القاسم هذا: أن الصدقة باطلة. والثاني: أن الصدقة جائزة، والشرط لازم له ولورثته إن أرادوا البيع؛ وقع هذا القول في المختصر لابن عبد الحكم، وهو قول مالك في رواية ابن وهب هذه: أنه لا بأس بها؛ لأنه ليس ببيع؛ وقد مضى الكلام في البيع والإقالة على هذا الشرط في أول سماع أشهب، من كتاب جامع البيوع، وفي سماع محمد بن خالد منه، ولم يقع لابن القاسم في هذه الرواية جواب فيما سأله عنه من قوله، قلت له: فإن طال مكثها في يدي صاحبها، ثم أراد أن يقوم عليه فيأخذ ذلك الشيء؛ لأنه أضرب عن ذلك وسكت عنه؛ فذكر سحنون متصلا بذلك رواية ابن وهب عن مالك، والجواب في ذلك عند ابن القاسم على مذهبه في أن الصدقة ليست بشيء، وأنها باطلة، أن له أن يأخذ صدقته، وإن طال مكثها في يدي المتصدق عليه بعد قبضه لها، وبالله التوفيق.(14/56)
[: تصدق على أخيه بنصف ماله وهو مريض]
من مسائل نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون عن رجل تصدق على أخيه بنصف ماله، وهو مريض ليس مدنفا من مرضه طويلا، دام به سنين يخرج في حوائجه ويقضيها، فقبض أخوه الصدقة وحازها سنين، ثم إن الأخ المريض مات، فقام عليه ورثة المتصدق، فقالوا للمتصدق عليه: إن هذا لا يجوز لك؛ لأنه تصدق عليك في المرض، فلا يجوز لك إلا الثلث، وقد سألنا عن ذلك الفقهاء فقالوا لنا: إنه لا يجوز لك إلا الثلث، فدفع إليهم المتصدق عليه ما زاد على الثلث، ثم علم أن الصدقة كلها جائزة؛ فقال سحنون له: ومن يعلم أنك كنت جاهلا لا تعلم أن الصدقة لك كلها، أنت تدفع إليه مالك، وتبيعه له بعدما قد حزته وملكته؛ ثم قمت الآن تدعي الجهالة، ما أرى لك فيما دفعت إليه حقا؛ فقال له السائل: أنا أقيم البينة أنه قد قال: إن هذه الصدقة لا يجوز لك منها إلا الثلث، وقد سألت عن ذلك الفقهاء وأخبروني بذلك، فقال له: إن أقمت البينة على هذا، فأرى لك أن ترجع عليه بما أخذ منك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال؛ قد مضى تحصيلها في رسم أوصى، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.(14/57)
[مسألة: تصدق على رجل بعبد على ألا يبيعه ولا يهبه سنة]
مسألة قيل لسحنون: أرأيت لو أن رجلا تصدق على رجل بعبد، على ألا يبيعه ولا يهبه سنة، ثم هو له من بعد السنة بتل يصنع به ما شاء، فقال: أراه جائزا، وله أن يبيعه ويصنع به ما شاء الساعة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون في هذه المسألة: إن الصدقة جائزة، والشرط باطل، خلاف قوله في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، في الذي يتصدق على رجل بصدقة على ألا يبيع ولا يهب، أنها حبس، والذي يأتي في هذه المسألة على قوله في تلك، أن يكون حكمه حكم من أخدم رجلا عبده سنة، ثم هو له بعد السنة، فيخدمه في هذه السنة على ملك المتصدق به، ثم يكون له بعد السنة بتلا، فتكون الجناية إن جنى عليه في هذه السنة لصاحبها الذي تصدق به، ويتخرج في المسألة أيضا ثلاثة أقوال سوى هذين القولين؛ أحدها: أن الصدقة جائزة، والشرط لازم، فيخدمه في هذه السنة على ملك نفسه، فإن جنى عليه كانت له جنايته. والثاني: أن الهبة باطلة، إلا أن يبطل سيده الشرط، ويمضي الصدقة؛ فإن مات السيد قبل أن يمضي الصدقة بطلت، وكذلك إن انقضت السنة قبل أن يمضيها. والثالث: أن المتصدق يخير بين أن يبطل الشرط ويمضي الصدقة أو يردها، فإن مات قبل السنة نزل ورثته في التخيير في ذلك منزلته، وإن انقضت السنة مضت الصدقة، ولم يكن له ولا لورثته في ردها خيار، وقد مضى ما يدل على ما ذكرناه في آخر سماع سحنون قبل هذا، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى؛ لأن الوجه في ذلك متقارب في المعنى، وبالله التوفيق.(14/58)
[مسألة: وهب الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة]
مسألة قال سحنون إذا وهب الرجل لابنه هبة يريد بها الصلة، فإنه لا يجوز له اعتصارها منه، كان الابن صغيرا في حجره أو كبيرا بائنا منه، والهبة للصلة مثل الصدقة، ولا يجوز له اعتصارها، وذلك أن تكون ابنته الكبيرة أو ابنه الكبير يكون ضعيفا يخاف عليهما الخصاصة، فيصلهما نظرا منه لهما، وكذلك إذا وهب لصغير نظرا منه له، لما يخاف عليه من الخصاصة؛ وإنما يعتصر الأب هبته وعطيته من الابن إذا كان الابن في حجره وله مال كثير، أو البائن منه وله مال كثير، وليس يريد بذلك صلته، فذلك الذي يعتصره.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الصدقة لا تعتصر؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» «وقوله لعمر بن الخطاب في الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله: لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» والهبة على سبيل الصدقة لمن كان قليل ذات اليد، مخافة الخصاصة كالصدقة، فلها حكم الصدقة في أنها لا تعتصر، وإن سماها هبة، وإنما أجيز للأب فيما تصدق به على ابنه أن يكتسي من صوف الغنم، ويشرب من ألبانها، ويأكل من لحومها إذا تصدق بها عليه، وأن يأكل من ثمر النخل إذا تصدق بها عليه، حسبما مضى في رسم نذر، من سماع ابن القاسم، وأجاز في رسم سلعة سماها منه للأب أن يشتري ما تصدق به على ابنه، وذلك كله بخلاف الأجنبي للشبهة التي له في مال ابنه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنت ومالك لأبيك، وقد مضى هناك تحصيل القول فيما يجوز للأب والأجنبي فيما تصدقا(14/59)
به، من الرجوع في الأصل أو الغلة بشراء أو عطية من المتصدق عليه، أو من غيره مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: وهب لولده هبة لله أو لوجه الله]
مسألة قال ابن الماجشون: كل من وهب لولده هبة لله، أو لوجه الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله، أو لصلة قرابة أو رحم، لا يعتصرها أبدا، وإنما تجوز العصرة إذا وهب أو نحل نحلة مرسلة، لم يقل لصلة رحم، ولا لوجه الله، ولا على وجه طلب الأجر من الله، فإن هذا يعتصر، قال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: قول ابن الماجشون هذا مثل ظاهر قول عمر بن الخطاب في المدونة من وهب هبة لصلة رحم، أو على وجه الصدقة، فإنه لا يرجع فيها، ونحوه في مختصر ابن عبد الحكم، وقال مطرف: إذا وهب لولده على وجه الصلة، أو لوجه الله، كان له أن يعتصرها أبدا حتى يسميها صدقة، فإذا سماها صدقة لم يجز له أن يعتصرها، والقول الأول أظهر؛ لأن الشيء الموهوب قد خرج عن ملك الواهب بالهبة، فلا يكون له الاعتصار إلا بيقين، وهو أن لا يقول: لله، أو لوجه الله، أو لطلب الأجر والثواب من الله؛ لأنه إذا قال ذلك، احتمل أن يريد به الصدقة؛ لأن الأصل في الصدقات ما كان القصد به وجه الله عز وجل، وابتغاء الثواب من عنده، لا عين المتصدق عليه؛ والهبة ما كان القصد به عين الموهوب له مع إرادة الثواب على ذلك من الله عز وجل؛ فإذا قال في هبته لله، أو لوجه الله، دل على أن ذلك هو قصده بهبته لا عين الموهوب(14/60)
له، فكانت في معنى الصدقة؛ ووجه قول مطرف أن الهبة، وإن كان يقصد بها عين الموهوب له، فالثواب مبتغى فيها أيضا، فلا تخرج الهبة عن حكمها في الاعتصار إلى حكم الصدقة بقوله فيها لوجه الله حتى يسميها صدقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها]
مسألة قال سحنون في امرأة تصدقت في صحتها بأكثر من ثلثها، فلم يعلم الزوج بصدقتها حتى ماتت، ثم علم الزوج بعد الموت فقال: أنا أرد ذلك؛ لأني أرثه، قال ذلك له أن يرده، فقال له: يرده كله؛ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: مثل هذا في الواضحة لمطرف، وابن الماجشون، ولابن القاسم من رواية أصبغ عنه أن ذلك نافذ، ولا رد للزوج فيه بعد موتها؛ وهذا الاختلاف على القول بأن فعلها محمول على الإجازة، فمن راعى المعنى، وهو أنه إنما كان للزوج أن يرد فعلها فيما زاد على الثلث، ما دامت العصمة بينهما، من أجل ما له من الحق في مالها.
قال: إن له أن يرده بعد موتها؛ لأن حقه في مالها لا ينقطع بموتها، بل يجب بوجوب الميراث له فيه؛ ومن لم يراع المعنى، قال: ليس له أن يرده بعد موتها؛ إذ ليست بزوجة له؛ لانقطاع العصمة بينهما بموتها، والقول الأول أظهر؛ لأن الأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، وأما على القول بأن فعلها فيما زاد على الثلث على الرد حتى يجيزه، فلا يحتاج بعد موتها إلى رده، وقد مضى بقية القول على هذه المسألة، وما يتعلق بها من معناها، في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.(14/61)
[مسألة: يستودع الرجل الوديعة ثم يتصدق بها على رجل]
مسألة قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن الرجل يستودع الرجل الوديعة ثم يتصدق بها على رجل يقول: اشهدوا أني قد تصدقت بالوديعة التي عند فلان على فلان، ولا يكون منه أكثر من ذلك، ولم يأمره بأن يقبض له، ثم مات؛ قال: إن علم المستودع أنه تصدق بذلك، فأراها للمتصدق عليه؛ وإن لم يعلم، فلا أرى للمتصدق عليه شيئا؛ قلت: من أي وجه؟ قال: من قبل أنه إذا علم أنه تصدق بما في يديه على رجل، فقد صار قابضا للمتصدق عليه حتى لو أراد صاحب الوديعة أخذها؛ لكان ينبغي للمستودع أن يدفعها إليه، فإن دفعها ضمنها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة متكررة في سماع سحنون من كتاب الوديعة، وقد مضى الكلام عليها هناك مستوفى، ومضى أيضا طرف منه في رسم العشور، من سماع عيسى، من هذا الكتاب، فلا معنى لإعادة ذلك.
[مسألة: مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في مرضه]
مسألة وسئل سحنون عن رجل مرض فتصدق على امرأته بمائة دينار في مرضه، فقبضتها وحازتها، ثم إن المرأة مرضت فتوفيت قبل زوجها؛ فهل ترى لها الصدقة جائزة أو لا، والثلث واسع؟ قال: إن حملها الثلث فهي جائزة لورثة المرأة، ويقضي منها دينها إن كان عليها دين.(14/62)
قال محمد بن رشد مثل هذا من قول ابن القاسم في آخر رسم الجواب، من سماع عيسى: إن ذلك يكون لورثتها من ثلثه بعد موته، وإن لم تقبضها في حياته، فعلى هذا لم يحكم لها بحكم الوصية، وقد قيل: إنها يحكم لها بحكم الوصية، فيختلف من هذه المسألة على هذين القولين في خمسة مواضع قد ذكرناها في رسم الجواب المذكور، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل إذا أعطى رجلا غلة كرمه يستغلها، أو سكنى داره، ثم تصدق به على ابن له صغير، فقلتم: إنه إذا كان ذلك الشيء في يد المسْكَن، أو المعطَى يوم تصدق على ابنه بذلك الشيء؛ أن كون تلك الأشياء في يد المُسكَن أو الممنوح قبض للمتصدق عليه، فكيف يكون قبضه قبضا للمتصدق عليه؛ أيقول للذي منح غلة الكرم وسكنى الدار: إني قد قبضت له، أو قد حزت له، أو يشهد المتصدق به أن فلانا الذي في يديه ذلك الشيء قد استخلفته على القبض لابني، وقد قبض ذلك.
فقال: إن ذلك لحسن، وقوة الصدقة أن يشهد بذلك عليه لابنه هو والذي في يديه؛ وإن لم يشهد بذلك واحد منهما، ولم يقل شيئا، فهي حيازة للمتصدق عليه، وإن أحب أن يمنح الأرض وغلة الكرم وسكنى الدار، ثم الصداقة في فور واحد، أن(14/63)
يقول: أشهدكم أن سكنى هذه الدار، وغلة هذا الكرم والأرض لفلان عشر سنين، فإذا انقضت العشر سنين فهي لفلان صدقة؛ وذلك أن أصحابنا اختلفوا فيها؛ وإن لم يكن الأمر في فور واحد، جازت الصدقة، إلا أنه أقوى عندي أن يكون في فور واحد؛ لاختلاف أصحابنا فيه.
قال محمد بن رشد: أما إذا سكن الدار، أو أخدم العبد، أو منح الأرض، وتصدق بالأصل في فور واحد، فلا اختلاف في أن قبض المسكن أو المخدم أو الممنوح قبض للمتصدق عليه بالأصل؛ لأن المسكن والمخدم والممنوح إنما يرتفقون بما أرفقوا من ذلك على ملك المتصدق عليه، لا على ملك المتصدق؛ إذ قد سقط حقه من جميع ذلك؛ وأما إذا تقدم الإسكان في الدار والاختدام في العبد، والمنحة في الأرض، وما أشبه ذلك للصدقة، فاختلف هل يكون قبض المسكن والمخدم والممنوح قبضا للمتصدق عليه أم لا؟ على قولين؛ أحدهما: أنه يكون قبضا، وهو قوله في المدونة. والثاني: أنه لا يكون قبضا له، فما في المدونة على قياس القول بأن المخدم يختدم العبد من يوم الصدقة على ملك المتصدق عليه لا على ملك المتصدق؛ وكذلك المسكن والممنوح.
والقول الثاني على أنه إنما يختدم ويسكن ويستغل على ملك المتصدق، فلو جنى على العبد جناية؛ لكان الإرث على ما في المدونة للمتصدق عليه، وعلى القول بأنه لا يكون حائزا له للمتصدق، وقد مضى هذا المعنى في رسم الكبش، من سماع يحيى، وبالله التوفيق.(14/64)
[مسألة: يجوز للرجل أن يشتري كسر السؤال]
مسألة وسئل سحنون هل يجوز للرجل أن يشتري كسر السؤال، فقال: نعم، قيل له: ولم، وقد جاء الحديث: «إنما هي أوساخ الناس؟» فقال: ألا ترى إلى حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: «إنها صدقة على بريرة، وهي لنا هدية» .
قال محمد بن رشد: لا إشكال في جواز شراء كسر السؤال؛ إذ اختلف بين أهل العلم في أنه يجوز للمسكين بيع ما تصدق به عليه، من الزكاة وغيرها من غير الذي تصدق بها عليه، وأن يهبه ويتصدق ويفعل به ما يفعل ذو الملك في ملكه، والأصل في جواز ذلك قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين لغني» .
فقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في هذا الحديث، «أو رجل اشتراها بماله» نص على جواز شراء كسر سؤال وغيرها من الصدقات من الذي تصدق بها عليه، إذا لم يكن هو الذي تصدق بها؛ لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعمر بن الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله: «لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم.
فإن العائد في صدقته، كالكلب يعود في قيئه» فالاستدلال بهذا الحديث على ما سأل عنه السائل من شراء كسر السؤال، أولى من الاحتجاج بحديث بريرة الذي احتج به سحنون، وإن كانت(14/65)
الحجة به صحيحة، والاستدلال به ظاهر؛ لأنه إذا كان لنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن يأكل الصدقة المحرمة عليه، فانتقالها إليه من عند الذي تصدق بها عليه بالهدية، جاز للغني أن يأكل الصدقة المحرمة عليه بانتقالها إليه أيضا من عند الذي تصدق به عليه بالشراء، أو بسائر الأشياء التي تنتقل بها الأملاك عن ملاكها، ولما اعترض عليه السائل فقال له: ولم أجزت للرجل شراء كسر السؤال، وقد جاء الحديث إنما هي أوساخ الناس، لم يرد عليه اعتراضه، وعارضه بالحديث الذي نزع به، فصار في ظاهر أمره مسلما لاعتراضه، وكان الوجه أن يرد عليه اعتراضه، ويبطله ولا يعارضه، بأن يقول له: ليس هذا موضع الحديث الذي اعترضت به؛ لأنه إنما جاء في تحريم النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الصدقة على أنه أن يأخذوها ممن وجبت عليهم تطهيرا لأموالهم، فقال: «لا تحل الصدقة لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس يغسلونها عنهم» وأما أخذها من غير الذي ظهر بها ماله بوجه، يجوز من شراء أو عطية، فذلك جائز؛ لأنها ليست بأوساخ في هذا الموضع، وبالله التوفيق.(14/66)
[: يتصدق بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه]
من سماع محمد بن خالد
وسؤاله ابن القاسم. قال محمد بن خالد: قلت لابن القاسم، فالرجل يتصدق بالعبد على الرجل فيعتقه المتصدق من قبل أن يقبضه المتصدق عليه، فقال ابن القاسم: أرى عتقه ماضيا، ولا شيء للمتصدق عليه؛ قال: قلت لابن القاسم: فلو كانت جارية فوطئها فحملت منه؟ فقال ابن القاسم: هي أم ولد له، قلت لابن القاسم: ولا تؤخذ منه قيمتها للمتصدق عليه، فقال ابن القاسم: لعل ذلك أن يكون.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي تصدق بالعبد، ثم أعتقه أن العتق أولى من الصدقة، هو قوله وروايته عن مالك في العتق الثاني من المدونة، زاد فيها: وسواء علم المتصدق عليه بالصدقة أو لم يعلم، وقال المخزومي: هذا إذا كان إشهاده بالصدقة، وبين ما أحدث من العتق، ما لو علم المتصدق عليه بالصدقة بطلب الحوز، أمكنه ذلك؛ وأما إن لم يكن بين إشهاده على الصدقة، وبين ما أحدثه من العتق قدر ما يمكن فيه الحوز، لو علم، فالصدقة ماضية، ويبطل العتق؛ وقول المخزومي عندي خلاف مذهب ابن القاسم؛ إذ لا فرق في القياس بين أن لا يعلم وبين ألا يكون بين الصدقة والعتق ما يمكن فيه الحوز لو علم، فقول ابن القاسم أظهر؛ لأنه إنما رأى العتق أولى من الصدقة بكل حال، مراعاة لقول من يقول: إن(14/67)
للمتصدق أن يرجع في صدقته، ما لم تحز عنه، ويقبضها المتصدق عليه منه، فهو استحسان في العتق لحرمته؛ والذي يأتي على مذهب مالك في أن الصدقة تجب على المتصدق، ويحكم عليه بها، وإن لم تقبض منه، أن تصح الصدقة ويبطل العتق، وهو قول ابن القاسم، في سماع عبد الملك بن الحسن؛ ويحتمل أن يكون قول ابن وهب؛ إذ لم ينص في الرواية على اسم واحد منهما، وإنما قال فيها، وسئل بعد أن تقدم ذكرهما جميعا، ولا وجه لتفرقة المخزومي بين ألا يكون بين الصدقة والعتق من المدة ما يمكن فيه الحوز، وبين أن يكون بينهما ما يمكن فيه الحوز، فلا يعلم؛ لأنه إذا لم يعلم فلم يمكنه الحوز؛ والصحيح في هذه المسألة على ترك مراعاة قول أهل العراق، أن تكون الصدقة أولى من العتق، إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في الحوز، حتى أحدث المتصدق العتق؛ فيتحصل على هذا في المسألة أربعة أقوال؛ أحدها: أن العتق أولى على كل حال، وهو مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك. والثاني: أن الصدقة أولى على كل حال، وهو الذي يأتي في سماع عبد الملك. والثالث: قول المخزومي: إن العتق أولى على كل حال، إلا أن يكون بين الصدقة والعتق ما يمكن فيه الحوز من المدة. والرابع: ما أحدثه من أن تكون الصدقة أولى من العتق إلا أن يكون المتصدق عليه علم بصدقته، ففرط في الحوز حتى أحدث المتصدق العتق، وسيأتي في سماع عبد الملك، إذا قال الرجل في عبده نصفه صدقة على فلان، ونصفه حر، ونتكلم على تحصيل القول في ذلك إن شاء الله.
ويأتي في أول سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب إذا تصدق به ثم باعه، فنتكلم عليه إن شاء الله؛ وأما إذا تصدق بجاريته على رجل ثم أحبلها قبل أن(14/68)
يقبضها المتصدق عليه، فيجري الأمر في ذلك على قياس ما تقدم في العتق في الوجوه كلها، حيثما كانت الصدقة أولى من العتق، كان للمتصدق عليه أن يأخذ الجارية وقيمة ولدها، أو قيمتها يوم أحبلها دون قيمة ولدها على اختلاف قول مالك المعلوم في ذلك؛ وحيثما كان العتق، أولى من الصدقة كانت أم ولد للمتصدق بها؛ واختلف هل تكون عليه قيمتها للمتصدق عليه بها أم لا؟ فقال في هذه الرواية: لعل ذلك أن يكون؛ وقال في سماع أصبغ الواقع في آخر الكتاب ذلك بمنزلة العتق، وهو قول أصبغ؛ وقال ابن وهب في سماع عبد الملك بعد هذا، أن عليه القيمة للمتصدق عليه وهو الصحيح؛ لأنه أفاتها عليه باستمتاعه بوطئها، وله الاستمتاع بها فيما يستقبل، فلا يبطل حق المتصدق عليه بها، وهو يستمتع بها، ولو باعه المتصدق عليه، فلم يقبض ذلك المشتري حتى مات المتصدق والصدقة بيده، فقال مطرف وابن الماجشون وابن حبيب، وعيسى بن دينار البيع حوز، وهي جائزة للمبتاع؛ وقال أصبغ: ليس البيع بحوز، وفي كتاب العيوب من المدونة دليل على القولين جميعا، قال مطرف: وكذلك لو وهبه، وقال ابن الماجشون لا تكون الهبة حوزا؛ لأنها تحتاج إلى حوز، ولا يحتاج العتق والبيع إلى حوز؛ وقال أصبغ: لا تكون حوزا، إلا في العتق وحده.
[: أعطى رجلا قرية أو دورا أو غلاما عطايا حازها المعطى وقبضها]
من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن القاسم قال: وأخبرني عبد الملك بن الحسن، عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سئل عن رجل أعطى رجلا قرية أو دورا أو غلاما عطايا، حازها المعطى وقبضها، غير أنه شرط عليه في عطيته شرطا، وكتب عليه به كتابا إن مات المعطي قبل المعطى، فالعطية ماضية(14/69)
للمعطى، وإن مات المعطى قبل المعطي رجع المال إلى المعطي، وكان أولى بماله، ولم يكن فيها مورثا لورثة المعطى، فعلى هذا أعطى، وبه كتب عليه وأشهد. فمات المعطي وبقي المعطى والمال بيده؛ فهل تكون للمعطى؟ أو كيف يكون أمرها، وكان المعطى خصما؟ قال ابن القاسم: أراها من الثلث بعد موت المعطي إذا هلك قبل المعطى، وهو قول مالك أو ما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قد تكررت هذه المسألة، ومضى القول فيها مستوفى في أول سماع يحيى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: له ولدان فأعمر أحدهما داره جعلها له سكنى حياته]
مسألة قال عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة فيمن كان له ولدان، فأعمر أحدهما داره جعلها له سكنى حياته، فمات الأب وقد قبضها الولد وحازها؛ قال: يكون نصف الدار له بميراثه يصنع به ما شاء إن شاء باع، وإن شاء حبس، ويسكن النصف الآخر على ما عاش؛ فإذا مات، صار إلى أخيه أو إلى ورثته إن مات أخوه، وقال أصبغ بن الفرج مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا اختلاف فيها، ولا إشكال في شيء من معانيها، على مذهب مالك في أن العمرى ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر؛ والخلاف فيها خارج عن المذهب، قيل: إنه(14/70)
تكون للمعمر ملكا، وإن لم تكن معقبة، وقيل: إنه إنما تكون له ملكا إذا كانت معقبة، للآثار الواردة في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم يأخذ بها مالك لمخالفة العمل بها على أصله في أن العمل المتصل بالمدينة مقدم على أخبار الآحاد، لا سيما إذا خالفت الأصول كهذه، وقيل: إنه لم يخالفها، وإنما تأولها على مذهبه، والأول أظهر، والله أعلم.
[مسألة: يتصدق على ابن ابنه برأس]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن ابنه برأس، وهو صغير، وأبو ابن ابنه المتصدق عليه، فيوكل الجد وكيلا يحوز لابن ابنه ذلك الرأس، فعمد ذلك الوكيل إلى ذلك الرأس فكاتبه إلى أعوام بكتابة منتقضة أو غير منتقضة، ثم يقيم الرأس في خدمة المتصدق يختدمه بحال ما كان قبل الصدقة إلا أن ابن ابنه الذي تصدق به عليه يكون معهم طعامهم واحد، ومنامهم واحد، وذلك الرأس يخدمهما جميعا حتى مات الجد المتصدق، فقام ورثة الجد إلى الرأس، فأخذوه وقالوا: للغلام الذي تصدق عليه به أنه لم يحزه حائز، وقال الغلام وأبوه إن الذي كان وكل بالنظر له والحوز عليه، قد كاتب عليه ذلك الرأس،(14/71)
وكان في الكتابة أن يخدم المتصدق عليه حتى يؤدي كتابته؛ فهل يكون هذا حوزا للذي تصدق به عليه، ولم يؤد المكاتب من كتابته شيئا حتى هلك المتصدق به؛ قال: سواء كانت الكتابة منتقضة أو غير منتقضة إذا كان العبد إنما ترك ثبت في ناحية الجد المتصدق لمكان ابن الابن المتصدق عليه وخدمته، فهو يقوم بخدمته والقيام عليه، فلا يضره إن خدم الجد المتصدق أحيانا بعد أن يكون قد أخرجه من يده حين تصدق به إلى هذا الرجل يحوزه مكاتبه على وجه النظر، وهو يرى أنه يحوز له، فهو إن كانت كتابته جائزة، فإنما إقامته تطوع، وخدمته وإن كانت ليست بكتابة للشرط الذي اشترطه عليه في الخدمة مع أنها ليست بكتابة أصلا، وإنما رده على الخدمة للصبي لحاجته إليه؛ فأراها صدقة ماضية له، ليس لورثة الجد فيه قليل ولا كثير.
وقال أشهب: نعم، هو حوز له، ولم يكن يجوز للذي جعل العبد على يديه يحوزه للغلام أن يكاتبه إلا بإذن أبيه، فأما إذا أقر بذلك(14/72)
أبو الغلام ولم ينكره، فالكتابة جائزة بإقراره بهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا في الكتابة بشرط ألا يخرج المكاتب عن خدمة سيده، أنها ليست بكتابة أصلا، خلاف قول ابن القاسم في سماع أصبغ عنه، من كتاب المكاتب أنها كتابة جائزة والشرط لازم؛ وقال أصبغ: يسقط الشرط وتنفذ الكتابة؛ وأما قوله: إن العبد إن كان ثبت في ناحية الجد المتصدق؛ لمكان ابن ابنِ المتصدق عليه وخدمته، فلا يضره أن خدم الجد المتصدق أحيانا، هو نحو ما في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من قول مالك، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، وفي رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يتصدق على ابن له في حجره صغير]
مسألة قال: وسألت عبد الله بن وهب عن الرجل يتصدق على ابن له في حجره صغير، أو بنت بكر في حجره بكتابة مكاتب له، فيقتضي الأب الكتابة بعد ذلك، وهي كتابة معروفة، ثم يهلك الأب بعد ذلك فيقوم ابنه أو ابنته المتصدق عليها بالكتابة، تطلب تلك الكتابة في مال أبيها، فتقوم البينة على الصدقة، وعلى قبض الأب الكتابة بعد ذلك، ولا يدري الشهود ما فعل الأب بها، فهل تؤخذ من تركة الأب، وتكون بمنزلة دين ثبت عليه، أم لا تكون الصدقة ماضية(14/73)
إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره؛ قال: إن لم يكن إلا ما وصفت، فالصدقة باطلة لا ينعقد منها شيء، وهي ميراث بين الورثة؛ لأن الذي ذكرت ليست بحيازة بينة ولا تامة ولا قبض معروف، فلا أرى ذلك شيئا، إن لم يكن إلا ما قصصت، وقال أشهب: أراها ميراثا، ولا شيء للابن إذا لم يضع ذلك له على يدي غيره، مثل قول ابن وهب.
قال محمد بن رشد: اتفق ابن وهب وأشهب في هذه الرواية على أن الرجل إذا وهب لابنه الصغير كتابة مكاتب له، لا يكون المكاتب حائزا له ما عليه من الكتابة، وذلك على قياس ما في المدونة من قوله أن الكتابة ليست بدين ثابت، وإنما هي جنس من الغلة، وقد قيل: إنها كالدين يكون المكاتب حائزا لها عن سيده لابنه إذا وهبها له؛ وأما إذا كان للرجل دين على عبده من مبايعة أو سلف، فوهبه لابنه الصغير، فإنه يكون حائزا له كما لو كان الدين له على أجنبي، فوهبه لابنه حسبما مضى في رسم الرطب واليابس من سماع ابن القاسم؛ لأن دين الرجل على عبده دين من الديون يحاص به الغرماء، وهو معنى ما في نوازل أصبغ على الصحيح من التأويل، وقد قال بعض المتأخرين: إن الدين الذي للسيد على عبده كالكتابة، في أنه لا يكون حائزا لما عليه منه إذا وهبه السيد لابنه وهو بعيد؛ وأما ما بيد العبد لسيده، فهو بمنزلة ما بيد سيده إن وهبه السيد لابنه الصغير، وهو عرض مما يحوزه الأب لابنه إذا وهبه إياه، كان العبد حائزا له؛ واختلف إذا تصدق الرجل على ابنه الصغير بما بيده من العروض التي تجوز حيازته لها إذا وهبها لابنه، فجعلها بيد غيره؛ فقال ابن(14/74)
الماجشون أن ذلك لا يجوز؛ لأنه بمنزلة من قال: لا أحوز لابني، ثم أبقاه بيده، والصحيح أن ذلك جائز، إلا أن تكون دنانير أو دراهم مما لا يحوزها الأب لابنه إذا وهبه إياها، إلا أن يخرجها من يديه إلى غيره يحوزها له، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لابنه إن ضمنت عني الخمسين دينارا التي علي فداري صدقة عليك]
مسألة وسئل عن رجل قال لابنه: إن ضمنت عني الخمسين الدينار التي لفلان علي، فداري صدقة عليك، فضمن عنه، فقال: لا صدقة له ولابنه إن شاء أن يرجع عن الضمان رجع.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن ذلك ليس بصدقة إنما هو بيع بضمان، وهي غرر لا يحل ولا يجوز، فالدار راجعة إلى الأب، والضمان ساقط عن الابن، إلا أن يشاء أن يلتزمه باختياره دون عوض، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر]
مسألة وسئل عمن قال: نصف غلامي صدقة على فلان ونصفه حر، قال: يقوم كله ويعتق نصف قيمته يدفعها إلى المتصدق عليه.
قال القاضي: اختلف قول ابن القاسم في هذه المسألة على قولين؛ أحدهما: أنه يقوم عليه نصيب المتصدق عليه لتقدم الصدقة قبل العتق؛ لأنه لما تصدق ببعضه صار كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه، أنه يقوم(14/75)
عليه نصيب شريكه، وهو قوله في هذه الرواية وإحدى روايتي يحيى عنه في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، والقول الثاني أنه يعتق العبد كله، ولا يكون للمتصدق عليه شيء، وهو القول الذي رجع إليه في رواية يحيى المذكورة قياسا على قول مالك في الذي يتصدق بالعبد على الرجل، ثم يعتقه قبل أن يحوزه المتصدق عليه، أن العتق أولى به، ووجه القول الأول هو ما ذكرناه من أنه لما بدأ بالصدقة صار المتصدق عليه شريكا له فيه قبل أن يعتق منه حصته، فوجب أن يقوم عليه كالعبدين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه أنه يقوم عليه إن كان موسرا؛ وأما القول الثاني فإنما يتخرج على القول بأن الرجل إذا أعتق بعض عبده يكون حرا كله بالسراية دون أن يعتق عليه، وهو خلاف المشهور في المذهب من أن الرجل إذا أعتق شقصا له في عبد، فلم يعتق عليه حتى مات، كان باقيه رقيقا لورثته، وإن استدان دينا قبل أن يعتق عليه، بيع باقيه في الدين، ووجهه أنه لما أعتق نصفه بعد أن تصدق بالنصف الآخر قبل أن يقبض منه، راعى قول المخالف في أن الصدقة باقية على ملك المتصدق ما لم تقبض منه، فجعل العتق يسري إليه، فبطلت بذلك الصدقة؛ والقول الأول أظهر؛ لأنه هو الذي يأتي على المذهب في أن الصدقة تجب بالعقد، وعلى المشهور فيه من أن من أعتق شقصا من عبده، فالباقي منه على ملكه ما لم يعتق عليه، ولا يكون(14/76)
حرا بعتق ما أعتق منه؛ وأما إذا بدأ بالعتاقة فقال: نصف عبدي حر، ونصفه صدقة على فلان، فالمنصوص عن ابن القاسم في ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى، من كتاب العتق، ومن رواية عيسى عنه أنه يكون حرا كله، وتبطل الصدقة؛ وهذا إنما يأتي على القول بالسراية، وأما على مذهبه في المدونة في أن من أعتق بعض عبده، لا يكون باقيه حرا بالسراية حتى يعتق عليه، فإن وهبه أو تصدق به قبل أن يعتق عليه، قوم عليه، ولم تبطل الصدقة فيه ولا الهبة.
وقوله في هذه الرواية: إنه يقوم كله فيعتق، ويكون على المعتق نصف قيمته، هو الذي يأتي على أصل مذهب مالك، وظاهر الحديث أن العبد يقوم كله، فيكون على المعتق لشريكه نصف قيمته، وذلك خلاف قول ابن القاسم في سماع يحيى، من كتاب العتق: أن النصف المتصدق به، هو الذي يقوم على المعتق، ومثله في كتاب الجنايات من المدونة، وهو قول غير ابن القاسم في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وليس المعتق كالواطئ؛ لأن الواطئ وطئ حق غيره، والمعتق لم يحدث على شريكه شيئا؛ فتحصيل الاختلاف في هذه المسألة أن فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الصدقة تبطل وينفذ العتق قدم الصدقة أو العتق. والثاني: أنها لا تبطل ويقوم على المعتق قدم الصدقة أو العتق. والثالث: أن الصدقة تبطل إن قدم العتق، ولا تبطل أن قدمها على العتق، وهذا كله على قياس القول بأن العتق والصدقة يجبان بنفس انقضاء اللفظ على ما في كتاب الظهار من المدونة من أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا، وأنت علي كظهر أمي؛ أن الظهار لا يلزمه؛ وأما على قياس القول بأن العتق والصدقة لا يجبان بنفس تمام اللفظ حتى يسكت بعده سكوتا يستقر به العتق أو الصدقة، وهو الصحيح من الأقوال على ما في كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، في الذي يقول لامرأته قبل أن يدخل بها: أنت طالق،(14/77)
أنت طالق، أنت طالق؛ أنها ثلاث، إلا أن يريد أن يسمعها، ولا يريد بذلك تكرار الطلاق، فسواء قدم العتق قبل الصدقة، أو الصدقة قبل العتق؛ فيلزمه نصف قيمة العبد للمتصدق عليه؛ لأنه إن قدم العتق قبل الصدقة، حصلت الصدقة قبله، فوجب عليه نصف قيمته، وإن بدأ بالصدقة قبل العتق حصل العتق قبلها، فوجب عليه نصف قيمته، إلا على القول بالسراية، وفي صفة التقويم قولان؛ أحدهما: أنه يقوم العبد كله، فيكون للمتصدق نصف القيمة. والثاني: أنه يقوم نصفه المتصدق به، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على رجل بعبد له ثم أعتقه قبل أن يقبضه]
مسألة وسألته عن رجل تصدق على رجل بعبد له، ثم أعتقه قبل أن يقبضه، قال: لا عتق له.
قال الإمام القاضي: قوله: إنه لا عتق له، هو الذي يأتي على قياس قول مالك في أن الصدقة يحكم بها على المتصدق، وإن لم تقبض منه، ويحتمل أن يكون من قول ابن وهب، فإن كان من قول ابن القاسم، فهو خلاف قوله في سماع محمد بن خالد، وقد مضى القول على ذلك هنالك، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: يتصدق على الرجل بالجارية فيحبلها المتصدق]
مسألة وسألته عن الرجل يتصدق على الرجل بالجارية فيحبلها المتصدق قبل أن يقبضها المتصدق عليه، قال ابن وهب: إذا تصدق بصدقة جد، كانت القيمة على المتصدق عليه، ولو شهد له شاهد على الصدقة، وهي في يديه حلف مع شاهديه.(14/78)
قال محمد بن رشد: قد مضى في سماع محمد بن خالد الكلام على الذي يتصدق بالجارية ثم يحبلها قبل أن يقبضها المتصدق عليه، فلا معنى لإعادة ذلك، وقوله: ولو شهد له شاهد على الصدقة، وهي في يديه حلف مع شاهده، صحيح لا إشكال فيه، ولا دليل في قوله، وهي في يديه على أن الحكم يكون بخلاف ذلك إذا لم تكن في يديه؛ لأن المدعي للصدقة يحلف مع شاهده، ويستحق صدقته، كانت الصدقة في يد المتصدق أو في يد المتصدق عليه، على مذهب مالك، والمخالف يقول: إن الصدقة إذا كانت في يد المتصدق فلا يحكم عليه بها للمتصدق عليه، فلهذا قال في هذه الرواية: يحلف مع شاهده ويستحق صدقته، وإن كانت في يد المتصدق، وأما إن كانت في يد المتصدق عليه، فلا كلام في أنه يحلف مع شاهده، وإنما ساق ذلك على سبيل الحجة، فكان وجه الكلام، أن يقول: لأنه لو شهد له شاهد، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ولد له صغار وكبار بصدقة]
مسألة قال: وسألته عمن تصدق على ولد له صغار وكبار بصدقة، فلم يحزها الأكابر حتى مات الأب، فهل للأصاغر شيء؟ قال: نعم، يكون لهم حظوظهم منها.
قال محمد بن رشد: المسئول عن هذه المسألة ابن وهب، والله أعلم، وقوله مثل قول مالك في رواية علي بن زياد، عن مالك في(14/79)
المدونة، ومثل قوله في رواية أشهب عنه في هذا الكتاب، خلاف مذهب ابن القاسم في المدونة، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من الكتاب، وقد مضى الكلام على ذلك هنالك مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تصدق بصدقة على ولده بدار]
مسألة وسألته عمن تصدق بصدقة على ولده بدار، فلم يزل ساكنا في ناحية من الدار حتى مات، ما حد الذي إذا سكنه الأب لم يكن للولد فيه صدقة، فقال: إذا سكن الثلث فأدنى فالصدقة ماضية، وأما إن سكن أكثر من الثلث، فلا صدقة له.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك؛ لأن الثلث آخر حد اليسير، وأول حد الكثير، وهو عند مالك في جميع المسائل يسير، إلا في ثلاثة مواضع، وهي: معاقلة المرأة الرجل، وما تحمل العاقلة من الدية، والجوائح في الثمار، وبالله التوفيق.
كمل الجزء الثالث من كتاب الصدقات والهبات بحمد الله وحسن عونه، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.(14/80)
[: كتاب الصدقات والهبات الرابع] [يتصدق على ولده الصغار بالصدقة التي لها الكراء أو الغلة]
من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الذي يتصدق على ولده الصغار الذين يحوز لمثلهم بالصدقة التي لها الكراء، أو الغلة، ويكري هو لهم: إن ذلك جائز إذا أشهد على أصل الصدقة، وإن لم يكتب الكراء بأسمائهم؛ قال: ومن يكري للصغير، ويشتري له، ويبيع له، إلا أبوه، وأنكر قول من يقول: لا يجوز إذا كتب الأب الكراء باسم نفسه، وعابه وكرهه كراهية شديدة ورآه خطأ، وقال: قد صحف في ذلك، ولا أعلمه إلا قال: وهذا خلاف لسنة المسلمين، ولا أعلم أحدا من الناس قال هذا، يريد من أهل العلم.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم من قوله في آخر رسم شهد، من سماع عيسى، ومن قول مالك في رسم يدير منه،(14/81)
وهو أمر لا أعلم فيه اختلافا في المذهب، وقد مضى من القول على ذلك في رسم يدير المذكور ما فيه كفاية، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير يحوز لمثله بنصف غنمه]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن تصدق على ابن له صغير، يحوز لمثله بنصف غنمه، أو ثلثها، أو بنصف عبده، أو داره، وترك بقية ذلك مالا لنفسه شريكا له به: إن ذلك جائز، وإن ذلك حوز له؛ وإن تصدق على ابن له صغير بنصف غنمه، ونصفها في سبيل الله، فكان الأب يحوز ذلك كله حتى مات الأب، وذلك على حاله، أن صدقة الابن جائزة، وأن ما كان في سبيل الله من ذلك، فليس بشيء؛ ونصيب الابن جائز، وليس ذلك بمنزلة ما لو تصدق عليه وعلى كبير؛ لأن ما كان في سبيل الله في ذلك لا يحوزه أحد، والأجنبي والكبير إذا كان بعينه يحوزه ويقوم به؛ وسبيل الله هو كلا شيء، وهو كما لو حبسه مالا لنفسه، وكان به شريكا.
قال أصبغ: لا يعجبني ما قال، وأرى أن يبطل كله، ولا يجوز منه شيء للابن في المسألتين جميعا، لا في الذي جعل للابن نصفه، وأمسك نصفا، ولا في الذي جعل للابن نصفه، وللسبيل نصفه، ولا للسبيل جميعا؛ لأن الذي للابن ليس بشيء بعينه، وهو مشاع فيه كله، فهو كحاله قبل الصدقة، وهو كما لو تصدق عليه بمائة من غنمه ولم يفرزها بعينها، ولم يسمها أو بعدة من خيله، ولم يسمها(14/82)
ولم ينسبها حتى تقع الصدقة فيها بعينها، أنه يبطل؛ وهو قول مالك في الغنم والخيل والجزء، وهو واحد كله، وهذا آخر قول مالك، والذي رجع إليه فيها؛ وقد كان يقول قبل ذلك في الغنم إذا تصدق عليه بعدة منها، وهي في غنمه كما هي؛ أنه جائز، وليس ذلك بشيء، قد رجع عنه هو وأصحابه، وهو قولنا جميعا لا يجوز حتى يسميها بأعيانها، أو ينسبها بأسمائها أو يفرزها، أو يسميها، فكذلك مسألة الجزء سواء.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن تصدق بجزء من ماله على الإشاعة على ولده الصغير، هل تصح حيازته إياه له أم لا، على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن حيازته إياه له جائزة سواء أبقى الباقي لنفسه، أو تصدق به على كبير، أو في السبيل، وهو قول مالك. والثاني: أن حيازته له غير جائزة، فسواء أيضا أبقى الباقي لنفسه، أو تصدق به على كبير، أو في السبيل، وهو قول أصبغ في هذه الرواية. والثالث: أن حيازته له جائزة إن أبقى لنفسه أو تصدق به في السبيل، ولا يجوز إن تصدق به على كبير إلا أن يحوز الكبير لنفسه والصغير، فإن لم يحز الكبير شيئا، أو لم يحز إلا حصته، بطل نصيب الصغير، وهو مذهب ابن القاسم، وإرادته في هذه الرواية تبين ذلك من مذهبه، قاله في كتاب ابن المواز من أن نصيب الصغير يبطل، وإن حاز(14/83)
الكبير نصيبه، وقد مضى بيان هذا كله وتوجيه الخلاف فيه في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، ومضت المسألة أيضا في رسم طلق بن حبيب، من سماع ابن القاسم، من هذا الكتاب، وفي رسم العرية، من سماع عيسى منه؛ فإذا وهب الرجل جزءا من جميع ماله على الإشاعة لولده الصغير، وله أصول ورباع وعروض ورقيق وماشية وناض وطعام، جاز له على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك ذلك الجزء من جميع ما كان يملك يوم الهبة من الأصول والرباع والعروض والرقيق والماشية، حاشا ما سكن من الدور، ولبس من الثياب.
وأما الطعام والناض فلا يجوز ويبطل؛ إذ لا يعرف ذلك بعينه، إلا أن يضعه له على يد غيره؛ وقد قال: إن ذلك يجوز له إذا أفرزه له، وإن لم يخرجه من يده، وهو قول مالك في الموطأ حسبما مضى بيانه في أول رسم، من سماع ابن القاسم، وفي رسم طلق بن حبيب منه، ومثل هذا في الثمانية لابن الماجشون؛ قال فيمن قال نصف ماله صدقة على ابنتي البكر، وهي في حجره، أن لها نصف ما كان يملك يوم تصدق من عقار أو ثياب أو دواب أو ماشية، إلا العين، فإنه باطل، إلا أن يكون حازه لها على يدي غيره، وكذلك تبطل الثياب التي تلبس والسلاح، وما كان يبتذله، وما سكن من الدور حتى مات.
قال القاضي ابن زرب: أنه إن كانت الدنانير، أو ما سكن من دار تبعا لما حاز بالصدقة، فالجميع نافذة، وهو الذي قاله ابن زرب من أنه إن كانت الدنانير أو ما سكن من دار تبعا لما حاز، فالصدقة بالجميع نافذة، لا تصح عندي على مذهب مالك؛ لأنها أنواع من الأموال، فلا يجعل الأقل منها تبعا للأكثر، وإنما ذلك في النوع الواحد، فإن كانت الدار التي سكن هي تبع لما لم يسكن من الدور أو الثياب التي لبس تبعا لما لم يلبس منها، أو الناض(14/84)
الذي لم يخرجه عن يده تبعا لما أخرجه عن يده منه، أو وضعه على يدي غيره، جاز ذلك؛ وإلا لم يجز هذا على مذهب مالك في أن الدور الكثيرة إن سكن دارا منها كلها أو جلها، وهي تبع لما لم يسكن منها، جاز له ما سكن، وما لم يسكن، كالدار الواحدة إن سكن منها اليسير جازت للابن كلها، وأما على مذهب أصبغ الذي يقول في الدور الكثيرة: إنه إن سكن واحدة منها أو جلها، وإن كانت تبعا لسائرها؛ أن الهبة فيها تبطل؛ لأن كل دار منها، فكأنها موهوبة على حدة، فبطل ما لبس من الثياب، وما سكن من الدور، وما أبقى عند نفسه من الناض بكل حال، وبالله التوفيق.
ومن كتاب الأقضية والحبس
[مسألة: تصدق على رجل بميراثه من أبيه بعد أن يموت أبوه]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في رجل تصدق على رجل بميراثه من أبيه بعد أن يموت أبوه، وأشهد له، وقبل ذلك منه، ثم بدا للمتصدق وقال: إني كنت حين فعلت ذلك لا أدري ما أرث نصفا أو ربعا؟ ولا أدري ما عدد ذلك من الدنانير، ولا من الرقيق؟ ولا ما سعة ذلك من الأرضين وعدد الأشجار؟ فلما تبين لي مورثي من أبي، وما أرث مما ترك، رأيت ذلك كثيرا، وكنت ظننت أنه دون هذا، وأنا لا أجيز الآن.
فقال ابن القاسم: إن تبين مما قال: إنه لم يكن(14/85)
يعرف يسر أبيه، ولا وفره لغيبة كانت عنه، رأيت أن يحلف ما ظن ذلك، ويكون القول قوله، وإن كان عارفا بأبيه وشره، وإن لم يعرف قدر ذلك، جاز عليه على ما أحب أو كره؛ وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
[: اشترى بغلين أحدهما فاره والآخر رديء فأشهد أن أحدهما صدقة على ابنه]
ومن كتاب الوصايا والأقضية قال أصبغ: سمعت ابن وهب، وسئل عن رجل اشترى بغلين؛ أحدهما فاره، والآخر رديء، فأشهد أن أحدهما صدقة على فلان ابنه، ثم مات فادعى الابن الفاره، وجاء بشهود يشهدون أن أباه تصدق عليه بأحد البغلين، ولا يدرون أيهما هو، وقال سائر الورثة: هو الرديء، قال: لا يقبل قوله، ولا قول الورثة، ويجعل له نصف الفاره ونصف الرديء، قال أصبغ: تبطل الصدقة، ولا تكون شهادة في الحكم إلا أن يأخذ ما أقرت به الورثة بإقرارهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه الشهادة أن الشهود شهدوا أن الميت أشهدهم على أنه تصدق على ابنه بأحد هذين البغلين، وعينه لهم، إلا أنهم لا يدرون أيهما هو منهما، ولذلك وقع الاختلاف في جواز الشهادة، فأجازها ابن وهب، ولم يجزها أصبغ، وقول أصبغ هو المشهور في المذهب؛ أن شهادتهم تبطل إذا شكوا فيه، فلم يدروا أيهما هو(14/86)
الذي عين لهم أنه تصدق به منهما، ويأتي قول ابن وهب على ما وقع في أصل الأسدية، من كتاب الأيمان بالطلاق، من أن الشهود شكوا، فلم يدروا أيهما؟ أهي المطلقة التي قد دخل بها، أو التي لم يدخل بها؟ ويختلف على القول بإجازة الشهادة في إجازة الصدقة؛ لأنها إذا جازت صارت بمنزلة من قال: قد تصدقت على ابني بأحد هذين البغلين، أو ببغل من هذين البغلين، أو بعدة من بغاله، أو بعدة من خيله، أو من غنمه دون أن يسميها أو يعينها، وقد اختلف قول مالك في ذلك: كان يقول أولا: إن الصدقة جائزة، ثم رجع إلى أنها لا تجوز حسبما وقع من اختلاف قوله في آخر أول رسم من هذا السماع، فقول ابن وهب في إجازة الصدقة بعد أن أجاز الشهادة على قياس قول مالك الأول، في أن الرجل إذا تصدق على ابنه الصغير بعدة من غنمه، أو من خيله دون تعيين أن الحيازة جائزة، والصدقة ماضية، وقد مضى ذكر الاختلاف في هذه الشهادة وتحصيله في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، من كتاب المديان والتفليس، وأما لو كان الميت إنما قال للشهود: أشهدكم أني قد تصدقت على ابني بأحد هذين البغلين دون تعيين منه لأحدهما؛ لكانت الشهادة جائزة باتفاق، والصدقة جائزة على اختلاف.
[: الصفائح والنقر والحلي المكسور إذا وهب للثواب]
ومن كتاب البيع والصرف قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم، وسئل عن الصفائح والنقر والحلي المكسور، أفيه ثواب؟ قال: لا، ليس في ذلك ثواب؛ يعني إذا وهب للثواب، وقاله أصبغ.(14/87)
قال محمد بن رشد: وقع هذا الرسم هاهنا في بعض الروايات، وقد مضت المسألة مكررة في رسم أوصى، من سماع عيسى، والتكلم عليها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يتصدق على الرجل بنصف أرضه وفي الأرض بئر أو عين]
ومن كتاب الكراء والأقضية قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يتصدق على الرجل بنصف أرضه، وفي الأرض بئر، أو عين، إنما حياة تلك الأرض بها، يقول المتصدق: لم أتصدق عليك إلا بالأرض، وأما الماء؛ فليس لك منه شيء، وإنما كانت الصدقة مبهمة من غير استثناء ولا محدودة، وكيف إن تصدق عليه بقطعه من الأرض والماء فيها، أو في غيرها، هل هو سواء؟ وكيف إن كان تصدق عليه بجميع الأرض والماء فيها، فادعى أنه لم يتصدق عليه بالماء؟ وكيف إن كان الماء يأتيها من أرض له غيرها؟
قال ابن القاسم: إذا كان الماء فيها، وخرجت الصدقة مبهمة إلى جزء منها مشاع، فالماء بينهما على قدر ما لهما من الأرض، إذا كان الماء في الأرض، وإن تصدق عليه بناحية من الأرض والماء في غير ناحية التي قطع له، حلف المتصدق بالله ما تصدق عليه بالماء، وكان ذلك له، وإن تصدق على رجل بأرضه كلها، وفيها ماء، وزعم أنه لم يتصدق عليه بالماء، فالماء للمتصدق عليه،(14/88)
ولا شيء للمتصدق، فإن كان الماء في غيرها، حلف بالله ما تصدق عليه بالماء، وكان ذلك له وإن كان الماء يأتيها فهو كذلك، وقاله أصبغ.
كل هذا في الذي تصدق بناحية، والماء في غيره، إذا كان يكون للأرض شرب من غيرها بوجه من الوجوه، مثل أن يكون للمتصدق عليه إلى جنبها ماء يسوقه إليها، أو يعتمله بسقيها؛ فإن لم يكن كذلك على شيء من المصارف، ولا المعتمل ولا السبيل إلا ماءها، إن لم تسق به بقيت أبدا لا حياة لها وبطلت؛ رأيت الشرب لها في الماء أيضا حتى يستثني في الصدقة أنه لا ماء لك.
وقال مالك في الذي يتصدق بالأرض فيقول: إني نويت أن أتصدق بها بلا ماء، فالقول في ذلك قوله إذا كان المتصدق عليه يقدر على سقيها من غير ساقية المتصدق، فأما إن كان لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، ولا ينالها الماء إلا من طريق المتصدق؛ فإني أرى في هذا الموضع أن يقبل قوله، وأن يكون له من الماء ما يكفيها؛ وإن تصدق بها مبهمة، كان له من الماء ما يصلحها على ما أحب المتصدق أو كره.
قال أصبغ: قيل لابن القاسم: الرجل يشتري من الرجل الأرض على هذا الوجه، أو نصف الأرض مبهمة، وهو جار له، ولها في أرضه ما يسقي به، فزعم البائع أنه لم يبعه على الماء، وإنما باع الأرض على أن يضمها إلى أرضه ويسقيها بمائه، إلا أنه باع منها؛ هل يختلف ذلك إذا كان جاره أو أجنبيا؟ أو هل يختلف في هذا الوجه إذا(14/89)
باع قطعة من الأرض والماء في غيرها، وإنما عيش الأرض بالماء؛ أو هل يستوي ذلك كله؟ أو هل هو في جاره والأجنبي سواء؟ أو هل يختلف إن كان مبهما أو غير مبهم؟
قال ابن القاسم: أما إذا كان الماء فيها، وباع مبهما، فالماء للمشتري، وليس للبائع عليه مقال، كان الذي باع كلها أو نصفها، أو جزءا منها، كان جارا أو أجنبيا، أو كان للمشتري أرض إلى قربها أو ماء، أو لم يكن؛ فذلك كله سواء إذا باع مبهما، وكان الماء فيها فهو للمشتري، قال أصبغ: فإن تداعيا البيان والمواطأة على الأرض دون الماء، تحالفا وتفاسخا، قال أصبغ: قال ابن القاسم: وأما إذا كان الماء ليس فيها، وإنما شربها يأتيها من غيرها، وما باع مبهم، فإنه ينظر، فإن كان لما قال البائع وجه مثل أن يكون للمشتري أرض إلى جنبها يضمها إليها، ويكون شربها منها، فأرى القول قوله ويحلف، ثم يحلف المشتري أنه لم يشتر إلا على الماء، فإذا تحالفا تفاسخا، ومن نكل منهما فالقول قول الآخر مع يمينه؛ فإن كان على غير ذلك فالماء للمشتري، ولا حجة للبائع، وسواء في هذا أيضا اشترى الأرض كلها أو بعضها، إلا أن يدعي البائع الشرط، يزعم أنه استثنى الماء، وهو في الأرض، وأنكر الآخر أو زعم المشتري أنه اشترط الماء، وهو في غيرها، وأنكر الآخر؛ فإن كان الماء فيها فهو للمشتري، وإن كان في غيرها، وكانت تسقى به(14/90)
كلها تحالفا وتفاسخا.
وقال أصبغ: ذلك كله رأيي، وهو قولي، وهو جيد كله، وبعضه قوة لبعض، وبيان لما قلت لك في الصدقة، إذا لم يكن لها سقي وغيرها من التحالف، إلا قوله في هذا الحرف الآخر، إذا ادعى البائع الشرط، وزعم أنه استثنى الماء، وهو في الأرض، وأنكر المشتري، فإن القول فيه أيضا أن يتحالفا عليه، ولا يكون الماء للمشتري بقوله زعما كما قال، ولكن يتحالفان ويتفاسخان على محمل الحديث إذا اختلف البائع والمبتاع، فالقول ما قال البائع ويتفاسخان، وذلك ما لم يقبض المشتري، ويدخل الغير في الأرض بما يكون فوتا، فإن أدخل ذلك، كان القول قول المشتري، وكان البائع هاهنا مدعيا، والمشتري مدعى عليه، ولم يجتمع التداعي جميعا؛ والأول إذا لم يقبض أو يفوت بغيرهما مدعيان، فهو على الحديث بعينه أيضا، وسواء كان الماء في الأرض، أو لم يكن إذا كان شربها.
قال محمد بن رشد: تحصيل القول في المسألة: الرجل يتصدق بالأرض أو بجزء منها على الإشاعة والماء في غيرها، أو فيها، أنه إن كان الماء فيها، فلا اختلاف في أنه تبع لها في الصدقة، واختلف إن قال المتصدق: إنما تصدقت بها وحدها دون الماء، فقيل: إنه لا يتصدق في ذلك بحال، وهو مذهب ابن القاسم ومطرف، وابن الماجشون، وقيل: إنه يصدق في ذلك مع(14/91)
يمينه إذا كان المتصدق عليه يقدر على سقي الأرض من غير ذلك الماء بوجه من الوجوه؛ وأما إن كان الماء في غير الأرض المتصدق بها، أو بجزء منها على الإشاعة، فاختلف في ذلك: قيل: إن الماء يبقى للمتصدق؛ إذ ليس في الأرض التي تصدق بها، وهو الذي يأتي على من يدل عليه قول أشهب، في رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، ومعنى ذلك: إذا كانت الأرض تستغني عن الماء، وكان يقدر على سقيها من غير ذلك الماء؛ وقيل: إن الماء للمتصدق عليه، واختلف على هذا القول إن قال المتصدق: إني إنما تصدقت بها دون الماء؛ هل يصدق في ذلك أم لا؟ فقيل: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، إلا أن تكون الأرض لا تستغني عن ذلك الماء بوجه من الوجوه، وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية على ما زاده أصبغ فيها.
وقيل: إنه لا يصدق في ذلك، معناه إلا أن يكون له دليل من شاهد الحال، مثل أن يتصدق عليه بقطعة من أرضه ليضيفها إلى أرضه، وله ما يسقيها به، فيعلم أنه إنما تصدق عليه بالأرض ليسقيها من مائيه، وهو ظاهر قول ابن القاسم الذي مضى في رسم شهد، من سماع عيسى، في الذي يتصدق ببيت من داره؛ إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى، والحكم في الماء في البيع إذا وقع مبهما في الأرض، أو في جزء منها، والماء فيها أو في غيرها، ولم يدع أحد المتبايعين في ذلك شرطا ولا نية، كالحكم فيه في الصدقة سواء، إن كان الماء في الأرض فهو للمشتري، وإن كان في غيرها، ويمكن أن يسقي من غير ذلك الماء؟ فقيل: إنه يكون للبائع، وقيل: إنه يكون للمشتري على الاختلاف الذي مضى في الصدقة في ذلك.
وأما إذا تداعيا البيان في ذلك والنص عليه، فقال البائع: بعتك الأرض دون الماء، وقال المبتاع: بل اشتريتها منك بمائها، أو قال كل واحد منهما: كانت هذه نيتي، فقول أصبغ على ما يدل عليه قوله في هذه الرواية أنهما يتحالفان ويتفاسخان على ما(14/92)
ادعياه من الإفصاح والبيان على نياتهما، كان الماء في الأرض أو خارجا عنها على مذهب الحديث، إلا أن يكون المشتري قد قبض الأرض، وفوتها بإدخال العين فيها، أو بما سوى ذلك مما يفوتها، فيكون القول قوله؛ ومذهب ابن القاسم على ما قاله في هذه الرواية من رواية أصبغ عنه: أنهما يتحالفان ويتفاسخان، إلا أن يكون الماء في الأرض، أو يكون في غيرها، ولا يشبه ما قال البائع، ويشبه ما قال المشتري بأن لا يكون للأرض سقي من غير ذلك الماء، فيكون ذلك القول قول المشتري، فراعى ابن القاسم في هذه الرواية دعوى الأشباه مع القيام، وهو خلاف المشهور في المذهب، ولم يراعه أصبغ على المشهور فيه، وبالله التوفيق.
[مسألة: ضمن عن ابنه نفقة سنين سماها بدنانير في كل سنة]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول فيمن ضمن عن ابنه نفقة سنين سماها، بدنانير سماها في كل سنة، أو لم يسم دنانير، إلا أنه قد عرف وجه النفقة، فضمن نفقة سنين، وذلك كله بعد عقد النكاح، مثل أن يراد أن يقام بابنه ليفرق بينهما، فضمن لك عنه أبوه، أرى أن ذلك يلزمه ما كان حيا، فإذا مات سقط ذلك عنه؛ وقاله أصبغ، وهو الحق، وكذلك نفقة المطلقة إذا ضمن الابن، هذه حقوق يقضى بها قد افترضت، وليس هذا كالذي يضمن في النكاح النفقة، ذلك شيء لم يأت، ولم يفرض، ولم يجب ولا أمر له، ومجهول كله يكون أو لا يكون، ومتى يفترقان أو يموتان.
قال محمد بن رشد: جعل الضمان بالنفقة لا يجب إلا بالحياة، من أجل أنها لم تجب بعد، فما وجب منها في حياته لزمه، وما وجب منها بعد وفاته لم(14/93)
يلزمه، بخلاف الحمالة بما قد وجب من الحقوق، ذلك يجب في حياته وبعد وفاته؛ لأنها خرجت على عوض، وهو ما رضي المحمول له به من ترك ذمة غريمه، وكان القياس أن يجب عليه ضمان نفقة السنين التي سمى، وإن مات قبل تمامها إذا عاش ابنه حتى انقضت، أما إن مات ابنه قبل انقضائها، فلا يلزمه ضمان ما بقي منها وإن كان حيا؛ لأنها تسقط عنه بسقوطها عن ابنه الذي تحمل عنه.
وقوله: وكذلك نفقة المطلقة إذا ضمن الابن، معناه: وكذلك إذا ضمن عن ابنه لزوجته المطلقة نفقة ولدها منه سنين، فمات قبل انقضاء السنين، لا يلزمه ضمان ما بقي منها، فكان القياس أن يلزمه ضمان ذلك في ماله إن مات إذا عاش الابن، وأما إن مات الابن قبل انقضاء السنين، فيسقط عن الأب الضامن ضمان ما بقي منها، وإن كان حيا بسقوطها عن ابنه الذي تحمل عنه، وأما إذا تحمل بالنفقة في أصل عقد النكاح، فهي حمالة لا تلزم على ما دل عليه قوله في الرواية؛ لأن النكاح يفسد بذلك، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويسقط الشرط، ويكون للزوجة صداق المثل، وقد مضى بيان هذا، في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها، من سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح، وبالله التوفيق.
[مسألة: أعمر رجلا دارا وجعلها لولده من بعده]
مسألة قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن رجل أعمر رجلا دارا، وجعلها لولده من بعده، هل يجوز له أن يشتريها من المعمر،(14/94)
وهي لولده من بعده؟ وهل يجوز للمعمر أن يشتري العمرى من ربها حتى يكون له أصلها، كما يجوز للمعمر؟
قال ابن القاسم: أما إذا جعلت لولده من بعده، فلا يجوز لصاحبها أن يشتريها؛ لأن الأب ليس يبيع لقوم بأعيانهم، ولا يعرف عددهم؛ وأما المعمر فيجوز له أن يشتريها من صاحبها حتى يكون له أصلها، إذا لم يكن لولده من بعده، وإن كانت لولده من بعده، فلا يحل له اشتراؤها؛ لأنه يشتري حق قوم آخرين، ولا يحل للمعمر أن يشتري حق المعمر وحده أيضا إذا كانت لولده من بعده، وإنما يشتري ما يملك به الدار ملكا تاما حتى يبيع ويهب، ويتصدق إن شاء؛ وأما أن يشتري شيئا، فإذا مضى خرجت من يده أيضا إلى قوم آخرين، ولا يستطيع فيه بيعا ولا غير ذلك، فلا يحل، وقاله أصبغ، قال أصبغ: وإنما مكروه ذلك، أنها إجارة مجهولة، وكراء مجهول، وغرر ومخاطرة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضت متكررة في آخر رسم إن خرجت من سماع عيسى، ومضى الكلام عليها هناك، وفي المواضع المذكورة فيه، فلا معنى لإعادة ما مضى الكلام فيه، فإن مات المعمر نزل ورثته منزلته، فكان لكل واحد منهم أن يشتري من الخدمة قدر حظه من المرجع عند ابن القاسم.
وقال ابن كنانة: لا يجوز إلا أن يجتمعوا كلهم(14/95)
فيشتروا جميع الخدمة، وقال المغيرة: للواحد منهم أن يشتري جميعها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول لابنه أصلح نفسك وتعلم القرآن ولك قريتي فلانة]
مسألة قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن الرجل يقول لابنه: أصلح نفسك، وتعلم القرآن، ولك قريتي فلانة، فيصلح نفسه بإذن الله، ويتعلم القرآن، ثم يموت أبوه، وهو لم يبلغ الحوز، والمنزل في يدي أبيه، هل تدري الصدقة له جائزة؟ قال: لا، إذا كان إنما هو قول هكذا، إلا أن يعرف تحقيق ذلك بإشهاد يشهد له على ذلك، أو يقول لقوم: اشهدوا أنه إن قرأ القرآن فقد وهبت له، أو تصدقت عليه بعبدي، أو بقريتي، فيكون ذلك جائزا له إذا كان صغيرا في ولاية أبيه، ويكون ذلك حوزا له؛ فأما إذا لم يكن الأمر على هذا، فإني أخاف أن يكون ذلك منه على وجه التحريض، فلا أرى ذلك للابن إلا على وجه قوي، مثل ما وصفت لك من الإشهاد، إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: الظاهر من قوله: ولك قريتي فلانة، تمليكه إياها بإصلاحه لنفسه، وتعلمه القرآن، وليس بنص على ذلك؛ ألا ترى أن أهل العلم قد اختلفوا في العبد هل يملك أو لا يملك، مع إضافة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المال لابنه بهذه اللام التي يسمونها لام الملك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع؛» فقال: «أنت ومالك لأبيك» فلم يكن هو وماله ملكا لأبيه، فلما احتمل(14/96)
أن يريد بقوله: ولك قريتي فلانة تسكنها، أو ترتفق بمرافقها، أو ينفذ أمرك فيهما، وما أشبه ذلك؛ لم ير ابن القاسم أن ينتقل ملكه عنها إلا بيقين، وهو أن يقول: أشهدكم أنه إذا فعل ذلك، فقد تصدقت عليه بها، أو وهبتها له، وما أشبه ذلك؛ فتجوز الهبة له، وتصح له بحيازته إياها إذا كان صغيرا في ولايته، ولم يجعل ما أوجب له القرية به من إصلاحه نفسه، وتعلمه القرآن عوضا لها، فتمضي له دون حيازة، وفي ذلك اختلاف.
حكى ابن حبيب، عن مطرف أنه قال: له ومن أعطى امرأته النصرانية داره التي هو فيها ساكن على أن تسلم فأسلمت، فلا أراها بمنزلة العطية؛ لأنها ثمن لإسلامها، والإشهاد يجزيها عن الحيازة؛ وإن مات الزوج فيها، وبه أقول.
وقال أصبغ: لا أراها إلا كالعطية، ولا بد فيها من الحيازة، وإلا فلا صدقة لها، وفي المدنية لابن أبي حازم، ولابن القاسم من رواية عيسى عنه، مثل قول مطرف، وما اختاره ابن حبيب؛ قال: وسألت عبد العزيز بن أبي حازم، عن رجل قال لابنه: إن تزوجت فلك جاريتي فلانة، هل يلزمه ذلك؟ قال: نعم، إذا تزوج فهي له، وإن مات الأب أخذها من رأس المال؛ قال ابن أبي حازم: وإن كان على الأب دين، حاص الغرماء بذلك؛ قال عيسى: قال ابن القاسم: هي له دون الغرماء إن فلس، وإن مات أخذها من رأس المال، ولم يكن لأهل الدين فيه شيء؛ قال ابن القاسم: ولو قال: لك مائة دينار إن تزوجت، كان هو والغرماء سواء في ماله في الفلس والموت جميعا؛ لأنه ليس بشيء بعينه،(14/97)
وقول ابن القاسم أنه يكون أحق بالجارية من الغرماء، وأنه يحاصهم بالدنانير، هو الصحيح، لا ما قاله ابن أبي حازم؛ ومعناه إذا وجبت له الهبة بالتزويج، قبل أن يتداين الأب، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت بمورثها من دار أبيها على رجل وتلك الدار لم تقسم]
مسألة قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن امرأة تصدقت بمورثها من دار أبيها على رجل، وتلك الدار لم تقسم، فعمد المتصدق عليه، إلى ناحية منها، فبنى فيها، وسكن من غير قسم، ثم توفيت المرأة، هل له صدقة؟ قال: لا حق للمتصدق عليه فيها، إلا أن يكون شركاؤه هم الذين صالحوه على ناحية، يرتفق بناحية، ويرتفقون بناحية، فيكون ذلك حيازة؛ وأما أن يأتي رجل قد تصدق عليه بمورث من أرض، فعمد إلى قطعة، فبنى فيها وشركاؤه غيب، ثم يموت المتصدق بها قبل أن يحوز هذا، فلا أرى له في ذلك شيئا، ولعل ذلك لو قسم صار لغيره، وقاله أصبغ؛ إلا الموضع الذي ابتنى وحازه بالبنيان، فإني أرى حصة المتصدق منه خاصة من عرصته للمتصدق عليه الباني، وأرى ذلك فيه حيازة للمتصدق عليه، وعن المتصدق وقبضا، فيجوز فيكون قبضا ويكون شريكا لشركائه فيه خاصة، ويبطل ما سوى ذلك من الصدقة بموت المتصدق، ويرجع إلى ورثة شركائه وللشركاء أيضا.
قال محمد بن رشد: اختلف فيمن تصدق عليه رجل بحظه من دار(14/98)
أو أرض على الإشاعة، وحاز بيتا من الدار، أو قطعة من الأرض، قدر حق المتصدق من ذلك أو أقل أو أكثر، والأشراك غيب أو حضور دون علمهم ولا إذنهم على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس بحيازة يستحق بها شيئا من الصدقة، لا فيما حاز، ولا فيما لم يحز، وهو مذهب ابن القاسم، في سماع أبي زيد بعد هذا؛ وفي هذه الرواية؛ بدليل قوله فيها، ولعل ذلك الذي حازه بعينه لو قسم صار لغيره. والثاني: أن ذلك حيازة صحيحة يصح له بها جميع صدقته إذا ارتفعت يد المتصدق، ونزل هو مع أشراكه أو وحده، فعمر شيئا من الأرض، أو سكن بيتا من الدار؛ وهو قول مطرف، وابن الماجشون قالا: ولو لم يعمل المتصدق عليه شيئا؛ إلا أنه منع المتصدق من العمارة؛ لكان ذلك حيازة تامة، تصح له بها الصدقة مع الإشهاد، ونحوه في المدنية لابن كنانة، ولابن القاسم: أن المنع حيازة، وقد ذكرنا ذلك في رسم الكبش، من سماع يحيى بعد هذا، فيما تقدم.
والثالث: أنه يصح له بهذه الحيازة قدر حظ المتصدق مما حاز لا أكثر، ويبطل ما سوى ذلك، وهو قول أصبغ هاهنا، وفي نوازله بعد هذا، وقول ابن القاسم، على قياس القول في القسمة أنها تمييز حق، بدليل قوله، ولعل ذلك لو قسم صار لغيره، وقول أصبغ على قياس القول بأنها بيع من البيوع، ولا اختلاف في أنه إذا نزل مع الأشراك منزلة المتصدق، فعمر معهم على الإشاعة، أو على غير الإشاعة أقل من حق المتصدق، أو أكثر برضاهم، أن ذلك حيازة صحيحة تامة؛ واختلف إذا تصدق الرجل على الرجل بجزء من أرضه على الإشاعة معه، فنزل المتصدق عليه مع المتصدق في الأرض، وعمرهما معه كما يعمر الشريك مع شريكه على سبيل الاستقصاء(14/99)
لحقه والمشاحة، فقيل: إن ذلك حيازة، وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى عنه، حكى ذلك ابن مزين وقال به، وقيل: إن ذلك ليس بحيازة، إلا أن يحوز الأرض كلها، أو يقاسما فيها، فيحوز ما صار له بالقسمة في الحظ المتصدق به، وقد مضى في أول السماع إذا تصدق على من يحوز له بجزء من داره، أو أرضه، أو عبده على الإشاعة مع نفسه، والكلام على ذلك مستوفى، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: تتصدق بمالها كله في سبيل الله أو تجعله صدقة]
مسألة قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول: قال لي مالك في المرأة تتصدق بمالها كله في سبيل الله، أو تجعله صدقة، أو تعتقه وهو مالها كله: إن ذلك كله سواء إذا رده الزوج لم يجز منه قليل ولا كثير؛ قال أصبغ: وهو قولهم جميعا.
قال محمد بن رشد: في قول ابن القاسم في هذه الرواية إذا رده الزوج لم يجز منه قليل ولا كثير، دليل على أن فعلها على الإجازة حتى يرده الزوج، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، وفي هل يرد الجميع، أو ما زاد على الثلث مستوفى في رسم الكبش، من سماع يحيى، فلا معنى لإعادته، فليس قول أصبغ وهو قولهم جميعا بصحيح، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على رجل بعبد له واشترط عليه أن له منه خدمة يومين]
مسألة وسئل عمن تصدق على رجل بعبد له، واشترط عليه أن له منه خدمة يومين في كل جمعة، فمات المتصدق فقال: ليست أيضا بصدقة. قال أصبغ: أرى الورثة على رأس أمرهم يمضون، أو يردون(14/100)
كما كان للمتصدق في حياته.
قال القاضي: إنما رأى الشرط يفسد الصدقة؛ لأنه لما شرط من خدمته يومين من كل جمعة، فقد حجر عليه التصرف في صدقته بالسفر بها والوطء لها، إن كانت أمة والتفويت، فصار كمن تصدق بصدقة وشرط المتصدق عليه ألا يبيع ولا يهب؛ ألا ترى أنه لما كان الحبس لا يباع، ولا يوهب، جاز فيه هذا الشرط على ما قاله في سماع ابن زيد بعد هذا، وأجاز ابن كنانة هذا الشرط في الصدقة والحبس، وقال: إن الشرط لا يفسد الصدقة بل يشدها، والمعنى فيما ذهب إليه عندي أنه رآه شريكا معه في رقبة العبد بما استثنى لنفسه من خدمته، ولذلك أجازه في الصدقة والحبس، وقال: إن الشرط لا يفسد الصدقة، وقول أصبغ في هذه الرواية أرى الورثة على رأس أمرهم يمضون أو يردون كما كان للمتصدق في حياته خلاف ابن القاسم، فالصدقة بالعبد على هذا الشرط على مذهب ابن القاسم على الرد حتى يحاز، وعلى قول أصبغ على الإجازة حتى يرد؛ لأنه أنزل الورثة منزلته في الإجازة أو الرد، وقد مضى بيان هذا كله مستوفى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، في أول مسألة منه، فلا معنى لإعادته.
[مسألة: ورثة قام رجل منهم فادعى صدقة عليه من أبيه]
ومن كتاب القضاء المحض مسألة
قال أصبغ: وسئل ابن القاسم عن ورثة؛ قام رجل منهم فادعى صدقة عليه من أبيه، فسئل البينة على الحوز، فأتى بشاهد واحد، وأن(14/101)
القاضي وقف له صدقته زمانا حتى يأتي بشاهد آخر، فلم يأت به، ثم إن القاضي أمر بقسمته على الورثة، وكانت رقيقا ومنازل وأرضا، فقسمت واتخذت أمهات أولاد، وعتق ما عتق، وغرس في الأرض شجر؛ ثم إن الذي كان ادعى بالصدقة ظفر بشاهد آخر كان صبيا فبلغ، أو غائبا فقدم؛ قال ابن القاسم: أما ما اتخذ منها أمهات أولاد، وما عتق منهم، فلا سبيل له إليهم، ويتبع بالثمن الورثة؛ وأما ما لم يحبل ولم يعتق، فله أن يأخذه بعد أن يدفع الثمن الذي هو في يديه ممن اشترى، ويتبع بالثمن الورثة، فيأخذ ذلك منهم؛ وأما الأرض فلا يأخذها حتى يدفع لمن هي في يديه ثمنها، وما أنفق فيها جميعا، ثم يرجع هو على الورثة بالثمن، فيأخذ ذلك منهم، بمنزلة الرجل يشهد عليه الرجلان أنه مات وهما عدلان، ثم يأتي الرجل بعد ذلك، وقد كان اشتبه عليهما؛ فإن مالكا قال في مثل هذا؛ هذا القول فيما فات.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية أنه يقضى له بالشاهد الذي أتى به مع الشاهد الأول بعد أن كان قد عجزة، وقضى بقسمة الميراث فاقتسم وفوت، خلاف ما في سماع أصبغ من كتاب النكاح، في رسم النكاح، من قوله فيه: قلت: فإن عجزه، ثم جاء ببينة بعد ذلك، وقد نكحت المرأة أو لم تنكح، قال: قد مضى الحكم، ومثل ما في المدونة؛ إذ لم يفرق فيما بين تعجيز الطالب والمطلوب، وقال: إنه يقبل منه القاضي ما أتى به بعد التعجيز(14/102)
إذا كان لذلك وجه، وقد قيل: إنه لا يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز كان طالبا أو مطلوبا؛ وفرق ابن الماجشون في الطالب بين أن يعجز في أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن يعجزه بعد أن وجب على المطلوب عمل، ثم رجع عليه، ففي تعجيز المطلوب قولان، وفي تعجيز الطالب ثلاثة أقوال؛ قيل: هذا في القاضي الحاكم دون من بعده من الحكام، وقيل: بل ذلك فيه وفيمن بعده من الحكام، وهذا الاختلاف، إنما هو إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه بعد التلوم والإعذار، وهو يدعي أن له حجة، فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك من حجة؛ لأن ذلك قد رد من قوله قبل نفوذ الحكم عليه، فلا يسمع منه بعد نفوذه عليه، وقد مضى هذا في رسم النكاح، من سماع أصبغ، من كتاب النكاح، وفي رسم نذر سنة، من سماع ابن القاسم، من كتاب الأقضية، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على من بلغ الحوز فلم يحز لنفسه حتى مرض المتصدق]
مسألة قال: وكل من تصدق على من بلغ الحوز، فلم يحز لنفسه حتى مرض المتصدق، فأجازه في مرضه فلا صدقة له؛ وهو بمنزلة من أوصى لوارث حين منعه في صحته، وأسلمه في مرضه، فلا يجوز ذلك له، وقال ذلك أصبغ؛ إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا، كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، وترجع ميراثا كالإقرار بدين لوارث في المرض، مما كان فيه من التوليج والتهمة سواء.(14/103)
قال محمد بن رشد: قوله: وكل من تصدق على من يبلغ الحوز يريد من الورثة؛ لأن من تصدق على أجنبي في صحته بصدقة، فأجازه إياها في مرضه، يصح له إن مات منه في ثلثه؛ وقوله: إلا أنه لا يحاص بها أهل الوصايا كما يحاص بوصية الوارث، ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها إلى آخر قوله، هو من قول ابن القاسم متعلق بقوله، وهو بمنزلة من أوصى لوارث، لا من قول أصبغ؛ والفرق بين هذا وبين الذي يوصي لوارث بين، وذلك أن الذي أوصى لوارث، قد أراد إدخاله على الموصى لهم، فكان من حق، الورثة أن ينزلوا منزلته في محاصة أهل الوصايا، إذا لم يجيزوا له الوصية؛ والذي تصدق على وارث في صحته، وأجازه في مرضه، لم يرد إدخاله على الموصى لهم، وإنما أراد أن يأخذ صدقته من رأس ماله.
وأما قوله: ولكنها تطرح من رأس المال كشيء لم يكن، وتكون الوصايا في ثلث ما بعدها، فكان من أدركنا من الشيوخ يحملون ذلك على أنه خلاف لقوله في رسم أمهات الأولاد، من سماع عيسى، من كتاب الوصايا، في الذي يتصدق في صحته، ولا يخرج ذلك في يديه حتى يقول: إن الوصايا تدخل فيه، بخلاف إذا قال في مرضه: قد كنت تصدقت على فلان بكذا، أو قد كنت أعتقت عبدي فلانا في صحتي، فإن الوصايا لا تدخل فيه، والذي أقول به أن هذه المسألة ليست بخلاف لما وقع في رسم أمهات الأولاد، وكتاب الوصايا؛ لأن هذه المسألة لما أجاز فيها الوارث في مرضه ما كان تصدق عليه به في صحته، تبين أنه أراد أن يخرج ذلك لوارثه من رأس ماله؛ فوجب ألا تدخل فيه الوصايا، وأن يكون للورثة إذا لم يجيزوه.
وأما مسألة(14/104)
أمهات الأولاد، فالوجه فيها أنه لما لم يحز ما تصدق به حتى مات، حمل عليه أنه أراد أن يبطل صدقته، فوجب أن تدخل فيها الوصايا، وقد روى ابن وهب عن مالك أن الوصايا لا تدخل فيه؛ والوجه في ذلك أن الصدقة إنما ردت بعد الموت بالحكم للتهمة التي لحقت المتصدق في صدقته؛ إذ لم يحزها حتى مات؛ فإنه أراد أن يخرجها من رأس ماله بعد موته؛ فوجب ألا تدخل فيها الوصايا، ولا يدخل هذا الاختلاف في هذه المسألة، ولا في مسألة الذي يقول في مرضه: قد كنت تصدقت في صحتي على فلان بكذا وكذا، أو قد كنت أعتقت في صحتي عبدي فلانا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول في صدقته أشهد لك أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي]
مسألة وسئل عن الرجل يتصدق بميراثه على رجل، فيقول في صدقته: أشهد لك أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي، وهو كذا وكذا في الغنم والبقر والرمك، والرقيق والثياب والدور، والبور، والأرض البيضاء، فإنها لي، وفي تركة الميت جنان لم ينصها أو غير ذلك؛ هل يكون جميع ما نص، وما لم ينص للمتصدق عليه إلا ما استثنى، أم لا يكون له إلا ما نص، وقد قال في أول صدقته: أشهدكم أني قد تصدقت على فلان بجميع ميراثي، أو قال: بميراثي في كذا وكذا، إلا كذا وكذا.
قال أصبغ: أرى له كل شيء إلا ما استثنى إذا كان يعرفه، وأرى الجنان إذا كان يعرفه داخلا في الصدقة؛ لأنه إنما استثنى(14/105)
الأرض البيضاء، ولم يستثن الجنان، إلا أن تكون الأرض هي الجنان عند الناس، وكذلك تسمى وتنسب وتعرف، فتكون له باستثنائه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه قد تصدق عليه بجميع ميراثه إلا الأرض البيضاء، فوجب أن يكون الجنان داخلا في الصدقة، إلا أن يكون عند الناس من الأرض البيضاء كما قال، وإن كان لم يسم الجنان فيما سمى؛ لأنه لما تصدق بجميع ميراثه، واستثنى منه الأرض البيضاء تبين أنه لم يرد بما سمى استيعاب جميع المورث؛ وقوله فيه أنه داخل في الصدقة إن كان يعرفه، صحيح على ما مضى من مذهب ابن القاسم في رسم الأقضية والحبس، من هذا السماع أن هبة الميراث جائزة إن لم يعلم قدره، إلا أن ينكشف أنه أكثر مما ظن به على زعمه، فيحلف على ذلك ولا يلزمه، ويأتي على ما ذكرناه هناك من قول ابن عبد الحكم في أن هبة المجهول جائزة، وإن ظهر له أنها كانت كثيرة بعد ذلك أن يكون الجنان للمتصدق عليه إذا تصدق عليه بجميع مورثه: إلا ما استثناه منه، وإن لم يعلم بالجنان، وبالله التوفيق.
[: الجارية توهب للثواب الوطء فيها فوت تجب به القيمة عليه]
ومن كتاب البيوع قال أصبغ: سمعت ابن القاسم يقول في الجارية توهب للثواب: إن الوطء فيها إذا وطئها فوت تجب به القيمة عليه، وكذلك الاعتصار إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصر، قال أصبغ: حبلن(14/106)
أو لم يحبلن سواء، قال ابن القاسم: ولكن التفليس إذا فلس المشتري بعدما وطئها أخذها صاحبها، وهي سلعته بعينها، وهو أولى بها، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها يوم وهبها ويأخذوها.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الجارية توهب للثواب؛ إن الوطء فيها إذا وطئها فوت، تجب به القيمة عليه، وهو مثل ما تقدم من قوله في رسم العتق، من سماع عيسى، والاختلاف في ذلك، بل قد قيل: إن الغيبة عليها فوت تجب بها القيمة عليه، وهو قول مطرف وابن الماجشون، وأصبغ.
وقوله أيضا أنه إذا وطئها الابن لم يكن للأب أن يعتصرها، هو مثل ما مضى من قوله، في رسم باع شاة، من سماع عيسى، وذهب مطرف وابن الماجشون إلى أن الوطء لا يقطع الاعتصار؛ لأن ذلك لا يمنعه من بيعها، وما يريد من الانتفاع بثمنها، إلا أنها توقف بعد العصرة، فإن صح رحمها تمت العصرة، وإن ظهر الحمل امتنعت العصرة؛ وأما وطء الذي وهبت له هبة ثواب، فلا اختلاف في أنه ليس بفوت يحول بينه وبين أخذها في التفليس، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه قيمتها، أو يأخذوها، قال في هذه الرواية يوم وهبها، ومثله في أول رسم من سماع ابن القاسم، وقد مضى هناك ذكر الاختلاف في ذلك وتوجيهه، فلا معنى لإعادته، وسمى الموهوب له مشتريا في قوله: لو فلس المشتري؛ لأن الهبة للثواب بيع من البيوع.(14/107)
[مسألة: وهب نصف كتابة مكاتبه لرجل]
ومن كتاب المدبر والعتق مسألة
قال أصبغ: قال لي ابن القاسم فيمن وهب نصف كتابة مكاتبه لرجل، أنه إن عجز، فهو شريك له فيه بذلك؛ لأن مالكا قال: إذا وهب له الكتابة فعجز، فهو عبد للموهوب له، وقاله أصبغ كله؛ وكذلك الأجزاء كلها، قلت لابن القاسم: فوهب نجما، ولم يسمه، كيف يستأديان نجومه، قال: يكون شريكا في النجوم كلها بقدر ذلك.
قال أصبغ: يريد بقوله نجم من عدد النجوم، إن كانوا خمسة فخمس كل نجم على هذا الوجه. قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإن عجز كان شريكا في الرقية أيضا بقدر ذلك، قال أصبغ: يريد بقوله نجم من عدد النجوم، إن كانوا خمسة فخمس كل نجم على هذا الوجه. قال أصبغ: قال ابن القاسم: فإن عجز كان شريكا في الرقية أيضا بقدر ذلك بمجرى النجوم؛ قال أصبغ: وإن سمى نجما بعينه وهبه، فعجز العبد، فلا أرى له فيه شركا؛ لأنه كأنه إنما وهب مال ذلك النجم إن تم، فإنما وهب له مالا إلا أن يزعم الواهب غير ذلك، والقول في ذلك قوله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة، لا وجه للقول فيها على المشهور في أن بيع جزء من أجزاء الكتابة جائز، كما يجوز بيع(14/108)
جميعها، وهو قول مالك في موطئه، ويأتي على القول بأنه لا يجوز بيع جزء من أجزاء الكتابة؛ لأن الهبة في ذلك لا تحوز على الثواب، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله، في رسم نذر، من سماع أبي القاسم، من كتاب المكاتب، وفي رسم الكبش، من سماع يحيى منه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدقت على زوجها بجارية لها]
من مسائل سئل عنها أصبغ بن الفرج مسألة وقال أصبغ في امرأة تصدقت على زوجها بجارية لها، وكتبت له كتابا فيه تصدقت عليه بجاريتها فلانة التي اشترتها من فلان وولدها، فقال الزوج: تصدقت علي بالجارية وولدها، فقالت: إنما نسبت الجارية إلى ولدها، ولم أتصدق عليك بولدها، والجارية وولدها في بيت الرجل الذي فيه امرأته؛ فقال: إن كانت اشترتها هي وولدها، فالقول ما قالت، ولا يأخذ الزوج الولد، وله الأم وحدها، ولا يفرق بينهما.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنها إن كانت اشترتها هي وولدها، فالقول قولها: إنها لم تتصدق عليه بالولد يريد مع يمينها؛ وإن كانت لم تشترها مع ولدها، فلا تصدق فيما ادعت؛ لأنها قد تبين كذبها، ويأخذ(14/109)
الزوج الولد مع الجارية على ما في الكتاب الذي كتبت له بالصدقة دون يمين دون، وإن لم يعرف إن كانت اشترتها مع ولدها أو دون الولد، فالقول قولها مع يمينها أنها لم تتصدق عليه بالولد؛ لأن الزوج مدع عليها بصدقة الولد، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على ابن له صغير بدنانير له عند عبده]
مسألة قال أصبغ في رجل تصدق على ابن له صغير بدنانير له عند عبده، قال: إن كان العبد حاضرا فقال السيد للعبد: خذ مالي عندك لابني فلان، ويشهد له، فتلك حيازة، وهي جائزة، وإن كان العبد غائبا، وأشهد له على الصدقة ودفع كتاب الدين إن كان له كتاب إليه، أو إلى من يحوز له، فهي جائزة.
قال القاضي: معنى هذه المسألة أن الدنانير له قبل العبد دينا ثابتا في ذمته، وذلك بين في آخر المسألة. قوله: ودفع كتاب الدين إن كان له كتاب إليه، ولو كانت الدنانير له بيد العبد وديعة وما أشبه ذلك، لم يجز؛ لأن العبد لا يجوز للأب حيازته، ويد العبد كيد سيده، وينبغي في الدين أن يحوز، ويكتفي بالإشهاد في الغائب والحاضر، وإن لم يقل له في الحاضر: اقبض ما لي عندك لابني، ولا ادفع كتاب ذكر الحق في الغائب إليه، أو إلى من يحوز له على ما قال، كمن وهب لابنه الصغير دينا له على رجل أجنبي، فحيازته الإشهاد، وإن لم يقل له: اقبض ما لي عندك لابني، ولا ادفع ذكر(14/110)
الحق إليه، ولا إلى من يحوزه له، بيد أنه إن قال لعبده: اقبض ما لي عندك لابني، فأحضر العبد الدنانير، وأشهد أنها بيده لابن سيده على سبيل الحيازة، جاز ذلك، وبرئت ذمته منها، وإن ادعى ذلك دون الإشهاد، جرى ذلك على اختلاف قول ابن القاسم في هذا الأصل في المدونة، في مسألة الغرائر من كتاب السلم وشبهها، وقد حمل ابن المواز هذه المسألة على أن الدنانير التي لرجل على عبده أمانة عنده بيده لابن سيده، واعترض ذلك فقال: ليس يعجبنا هذا؛ أن العبد مال للأب وبيده، فكأنه لم يخرج الدنانير من يده، وحمل ذلك على أن الدنانير دين للسيد على عبده أظهر لها نص عليه في آخر المسألة، ولا تخلو مع ذلك من الاعتراض لما اشترط في صحته الحيازة من أن يقول السيد لعبده: خذ ما لي عندكم لابني، ولا يحتاج في هبة الدين إلى ذلك، حسبما تقدم في أول رسم من سماع ابن القاسم، ووجه ما ذهب إليه، والله أعلم؛ أنه حكم للدين لما كان على عبده، والعبد ملك له حكم المال الناض بيده، فأجاز الهبة فيه، وإن لم يخرجه عن يده، بأن يقول للعبد الذي هو عليه: اقبضه لابني، فيكون ذلك بمنزلة التعيين للدنانير إذا وهبها لابنه، فالإفراز لها، والطبع عليها، وإن لم يخرجها عن يده على رواية مطرف عن مالك، وظاهر ما في الموطأ، وقد مضى في سماع عبد الملك بن الحسن، في معنى هذه المسألة ما فيه بيان لها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق على ولده الصغار بالدار والأرض ثم يموت بعد ذلك]
مسألة وسألته عن الأب يتصدق على ولده الصغار بالدار(14/111)
والأرض، ثم يموت بعد ذلك، والولد صغار، ثم يقوم الورثة، فيريدون قسمتها ويقولون: إن أبانا لم يزل يسكن هذه الدار، ويحرث هذه الأرض حتى مات، ويقول الصغار: لا علم لنا بما يقولون، ويقولون: إن أبانا لم يسكن، ولم يحرث حتى مات، وأبونا الحائز علينا، ليس علينا أن نسأل عن شيء نحن في صدقة أبينا على حيازة أبينا لنا، إلا أن تأتوا أنتم بالبينة على دعواكم، فإنه قد اختلف في ذلك.
قال أصبغ: أما الأرض فيمكن ما يقولون فيها، وهي على كل حال صدقة، وحيازته للصغير حيازة، وإظهار الصدقة حيازة، وكالحيازة حتى يعرف خلاف ذلك؛ على أنه إنما كان يعتملها لنفسه اعتمالا دونهم بحالها الجاري فيها قبل الصدقة بها لنفسه وشائه تقوم بذكر بينة تقطعه وتعرفه، فإن كان كذلك فعسى أن تبطل، وإلا فهي صدقة ماضية للصغار، والبينة على الآخرين وهم المدعون؛ وليس على الصغار تثبيت للحيازة، وهي حيازة على ما فسرت لك، وليس عندنا في هذا كلام، وهو أصوب والحق في العلم ممن قال غيره؛ ألا ترى أنه لو تصدق على ولده الصغار بصدقة مثل هذه، ثم طرأ عليه دين قبل الصدقة، وقد كان له وفاء به يوم تصدق، ولم يرد الدين قبل الصدقة(14/112)
أو بعدها، كانت الصدقة صدقة، وكانت الحيازة حيازة لمثلهم من مثله، وكانت أولى حتى يعرف خلاف ذلك، فبهذا يستدل على مسألتك، وعلى خطأ من قال خلافه، وعلى قوله والدار في مسألتك كذلك سواء بعد أن يكون قد تخلى من الدار فلا يسكنها، أو يكون مما لم يسكنها وهي خارجة من سكناه، وإشغاله إياها بنفسه وحشمه وماله وعياله، كحالها قبل الصدقة، فهذا الذي يبطل، وليس تفترق الدار والأرض إلا في التخلي من الدار، فإن هذا يمكن معرفته وعلمه كان يسكن أو لم يسكن، فإذا عرف أنها مما لم يكن يسكنها، أو عرف أنه قد تخلى منها، فهي بمنزلة الأرض، وهي حيازة، وإن أشكل فلم يدر أكان يسكن أم لا؟ فإن لم يكن يعرف بسكناها قط ولا نسب، فهي صدقة أيضا كالتخلي، وإن عرف أو نسب إلى سكناها قبل صدقتها، فأرى التثبت هاهنا على أهل الصدقة بالتخلي منها، وذلك إذا عرف بسكناها كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة المعنى، أطال الكلام فيها إرادة البيان لها، وذلك يرجع إلى أنه في الأرض محمول على أنه إنما كان يعمره لبنيه المتصدق عليهم حتى يثبت أنه إنما كان يعمره لنفسه على حال ما كان يفعله قبل الصدقة، وفي الدار محمول على أنه كان يسكنها، أو(14/113)
يشغلها بمتاعه وحشمه حتى يثبت انتقاله عنها، وإخلاؤه لها، وأنه لم يكن قبل يسكنها ولا يشغلها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يتصدق بمبذر أمدا أو بحرث زوج من أرضه على ابن له]
مسألة وسألته عن الرجل يتصدق بمبذر أمدا، أو بحرث زوج من أرضه على ابن له لم يسم له موضعا من أرضه، أو بحرث زوج من أرضه، فلا يعتمل الأرض حتى يموت، أو يعتمل بعضها، ويبقى منها شيء لم يعتمله قدر الصدقة أو أكثر، أو قل، هل الصدقة جائزة؛ أو تراها مثل مسألة مالك في الغنم الذي يتصدق بعدد من غنمه، قال: إن كان وسمها، وأشهد عليها، وكيفت باختلاف الغنم الذي تصدق بها على ابنه وحرثه بالبقر وركوب الدواب، قال أصبغ: لا أراها صدقة حتى تسمى ناحيتها بحدها وعينها، وإلا كان مثل الذي ذكرت وأشد؛ لأن الغنم والخيل تتبعض، وقد أبطله مالك، وهو آخر قوله، والذي أخذنا به، وقد كان يقول بغيره ممن عمل بقوله الأول أجاز الأولى من مسألتك ولا يعجبني، ولا أراه؛ وسواء في هذا اعتمله أو لم يعتمل أو بعضها، فإما ما أردت من اختلاف الغنم، واعتمال البقر وخدمة العبيد، إذا كانت الصدقة فيهم بأعيانهم، فإذا كان من ذلك الأمر الخفيف والأمر الممزوج مرة للابن، ومرة للأب، ومرة ينتفع هذا، ومرة ينتفع هذا، ومرة بعض لهذا وبعض لهذا؛ فهذا جائز، وتكون حيازة وصدقة تامة.
قال محمد بن رشد: لا فرق بين أن يتصدق بمبذر إردب من أرضه،(14/114)
أو بعدة من خيله في صحة حيازة الأب لذلك إذا تصدق به على ابنه الصغير، فباختلاف قول مالك من الصدقة بعدة من خيله، يدخل في ذلك، وقد مضى الاختلاف في ذلك في أول رسم، من سماع أصبغ، ومضى الكلام عليه هناك، وفي رسم طلق بن حبيب، من سماع ابن القاسم، ورسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، ومضى الكلام أيضا على ذلك، مستوفى في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب الحبس، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك؛ وأما ما ذكره في هذه الرواية من اختلاف الغنم واعتمال البقر، وخدمة العبيد، وما أشبه ذلك؛ أن الأمر الممزوج من ذلك جائز، فقد مضى تحصيل الاختلاف فيه في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: الأرض تكون بين النفر فيتصدق أحدهم بسهمه على رجل]
مسألة وعن الأرض تكون بين النفر، فيتصدق أحدهم بسهمه على رجل، فيعمد المتصدق عليه إلى قدر حقه من الأرض، فيعمله وحده، وأشراكه غيب أو حضور مستغنين عن عمل حظوظهم، أو ضعفوا عن عملها؛ هل ترى ذلك حيازة؟ وكيف إن عمر أقل من سهمه، هل يستوجب سهمه كله؟ قال أصبغ: أرى ألا يكون له إلا مقدار ما كان يصيبه في الجماعة مما حاز خاصة، وعمر واعتمل وخلي بينه وبينه حتى كان ذلك بعينه هو الصدقة، فحاز(14/115)
حصته فيها، وترك ما بقي وسلم له الذي كان نصيبه منها، أو حازوه جميعا معه كما حاز، ويبطل سائره وسائر الأرض؛ قلت: أرأيت إن كانت عمارته في عام أقل من حقه، وفي عام أكثر من حقه، أو مثل اختلفت العمارة في سنين بالأقل والأكثر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن المتصدق عليه بجزء من الأرض على الإشاعة إذا حاز مكانا معينا منها وأشراكه غيب، أو مستغنون عن الحيازة، أنه يكون له قدر حق المتصدق من الموضع الذي حازه لا أكثر؛ هو قوله في رسم الكراء والأقضية من سماعه، خلاف مذهب ابن القاسم فيه؛ وقد مضى هنالك تحصيل الخلاف في ذلك، فلا معنى لإعادته، ولم يجبه إذا اختلفت عمارته في السنين بالأقل والأكثر، والذي يأتي على مذهبه في ذلك، أن له قدر حق المتصدق من كل موضع عمره، إذا لم يعمر الأشراك شيئا مما عمر بعد عمارته إياه، مثال ذلك أن يكون عمر في عام واحد فدانا معلوما من الأرض، ثم عمر في العام الثاني فدانين معلومين منها، ثم عمر في العام الثالث ثلاثة فدادين معلومة أيضا من جملة الأرض المتصدق بها، فيكون للمتصدق عليه إن كان تصدق عليه بثلث الأرض ثلث جميع الستة فدادين، أو ربعها إن كان تصدق عليه بربع الأرض، أو أقل من ذلك أو أكثر؛ وهذا إذا لم يعمر الأشراك بعد عمارته إياه شيئا منها، فإن عمر وأشياء منها بعد عمارته إياه، بطلت عمارته فيه، ولم يكن له بها فيه حق؛ وأما إن عمر هو بعض الأرض، وعمر أشراكه سائرها على علم منهم بما عمر، فإنه يستوجب بما عمر جميع حقه، وإن كان أقل من حقه دون اختلاف في(14/116)
ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: المرأة ذات الزوج تتصدق بالدار على ولدها منه]
مسألة وسألته عن المرأة ذات الزوج تتصدق بالدار على ولدها منه، وهم صغار في حجره، والزوج ساكن بها في الدار حتى تموت المرأة، وهي في الدار مع زوجها وولدها المتصدق عليهم، أو تتصدق بذلك على كبير بائن عن أبيه، فيكريها من أبيه قبل أن يحوزها، أو يشهد له بسكنى إلى وقت، أو إلى غير وقت، ثم تموت المرأة؛ هل الصدقة جائزة في الوجهين جميعا؟ قال أصبغ: نعم، أرى ذلك جائزا إذا كان في مسألتك في الصغار قد أمكنت الأب من الدار بعد الصدقة عند الصدقة بأمر معروف، حتى لو شاء أن يخرجها أخرجها، فكان هو الذي بعد ذلك أقرها سكنى منه ومعه؛ فأما أن يكون إنما كانت الصدقة اسما، ثم استمروا على ما كانوا عليه من غير قبض معروف، ولا إمكان، ولا تخل منها إليه، ولا قبض من الكبير الذي ذكرت ولا إمكان، ثم يكون هو الذي يكري أباه بعد، ويستقبل العمل على ما شاءوا من كراء أو غيره؛ فهذا الذي يبطل ولا يكون حوزا ولا قبضا، فإذا صح كان حوزا وقبضا، ولم يكن بأدنى حال من أن لو تصدقت بها على الزوج نفسه وأمكنته، فسكن بها كما هي، فإن ابن القاسم يقول في هذا: إنه جائز له، وإنه حيازة(14/117)
وإن أقرها؛ لأن الرجل يسكن امرأته حيث شاء، فقد صارت له وأسكنها كرها منه، لها لو أبت ألا تسكنه لم يكن ذلك لها؛ ويفرق في هذا بين صدقتها عليه، وصدقته عليها بالمنزل الذي هما فيه، ويقول: إن كان هو المتصدق ولم يخرجه، وينقلها إلى غيره يسكن بها فيه، ويتخلى منه، لم يكن لها حيازة فاستبدل.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة؛ إذ لا فرق بين أن تتصدق المرأة على زوجها بالمسكن الذي تسكن فيه معه، فيسكن المسكن معهما بعد الصدقة؛ أن ذلك حيازة؛ لأن سكناه المسكن بعد الصدقة حيازة له، وإن سكنت فيه معه؛ لأن ذلك من حقه أن يسكنها فيه شاءت أو أبت، ولا بين أن تتصدق المرأة على بنيها الصغار بالمسكن الذي تسكن فيه مع زوجها فيسكنه الأب معها بعد الصدقة؛ أن ذلك حيازة لبنيه المتصدق عليهم؛ لأن سكناه فيها تصدقت به الأم عليهم، أو غير الأم حيازة له، ومن حقه أن يسكنها فيه شاءت أو أبت؛ وقال: إن ذلك جائز إذا كانت قد أمكنت الأب من الدار حتى لو شاء أن يخرجها منها أخرجها، ولا يجوز إذا كانت الصدقة اسما، ثم استمروا على ما كانوا عليه من غير قبض معروف، ولا إمكان، ولا تخل منها إليه ولا قبض من الكبير، ولم يبين هل يكون الأمر محمولا على الإمكان، فيجوز حتى يعلم أنه كان على غير الإمكان، أو هل يكون محمولا على غير الإمكان، فلا يجوز حتى يعلم أنه كان على(14/118)
الإمكان، والصواب في هذا أنه محمول على الإمكان، وجواز الحيازة حتى يعلم أن الأمر وقع على غير الإمكان، مثل أن تقول له: أتصدق عليك بهذه الدار التي في سكنانا على ألا تخرجني منها، وتسكن فيها معي، أو تقول له: أتصدق على بنيك بهذه الدار على أن تسكن فيها، فتلتزم الكراء لهم، ولا تخرجني منها، فلا يجوز ذلك ولا يكون سكناه معها فيها حيازة له، ولا لهم، وإنما قلنا: إن الأمر محمول على الإمكان حتى يعلم سواه؛ لأن نفس الصدقة وانتقال الملك بها إليه، أو إلى بنيه يقتضي الإمكان، فوجب أن يحمل الأمر على ذلك حتى يعلم سواه، وبالله التوفيق.
[مسألة: وهب لرجل عبدين للثواب]
مسألة قال: وسئل عن رجل وهب لرجل عبدين للثواب، فأراد الموهوب له أن يأخذ أحدهما بقيمته ويرد الآخر، وأبى ذلك الواهب، قال ذلك للموهوب له يأخذ أيهما شاء، ويرد أيهما شاء إذا أخذ بالقيمة.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا أن للموهوب له أن يأخذ أحد العبدين بقيمته ويرد الآخر، خلاف نص ما له في المدونة، وخلاف ما يوجبه القياس والنظر؛ لأنه قادر على أن يأخذهما جميعا أو يردهما جميعا، فليس له أن يرد أحدهما، ويأخذ الآخر كما بيع على الخيار، أو كسلع استحقت من يد مشتر، فأراد المستحق أن يأخذ بعضها، ويجيز البيع في بعضها؛ بخلاف استحقاق أحد الثوبين، أو العبدين، أن الباقي لازم للمشتري؛ إذ لا قدرة للمستحق إلا على ما استحق خاصة، وقد مضى هذا المعنى، في رسم العتق، من سماع عيسى، ويتخرج في المسألة قول ثالث، وهو الفرق بين أن يكون(14/119)
الذي يريد أن يرد هو الأدنى أو الأرفع، فإن كان الأدنى، لم يكن ذلك له، وأن الأرفع كان ذلك له؛ وهذا القول يأتي على قياس ما قاله ابن القاسم في المدونة في الموهوب له العبدين على الثواب، يبيع أحدهما؛ أن له أن يرد الآخر إذا لم يكن الذي باع هو وجههما؛ لأن ذلك من قوله في المدونة معارض لقوله فيها، أنه ليس للموهوب له العبدين للثواب، أن يثيبه على أحد هما، ويرد الآخر إذا لم يكن الذي باع هو وجههما، كان الأرفع أو الأدنى؛ وكذلك قال سحنون: إذا باع أحدهما لزمه الثواب فيهما جميعا، كان الذي باعه هو الأرفع أو الأدنى، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجل وهبت له جارية للثواب فوطئها]
مسألة قيل لأصبغ: رجل وهبت له جارية للثواب فوطئها، ثم أصاب بها عيبا بعد الوطء، أله أن يردها؟ قال: نعم، إن شاء ردها بالعيب مثل البيع؛ لأن الهبة بيع من البيوع، قلت: فإن أراد أن يتمسك بها معيبة ويغرم إليه قيمتها، أي شيء يكون عليه؛ أقيمتها معيبة، أو قيمتها سليمة؟ فقال: ليس له أن يمسكها إلا بقيمتها سليمة ليس بها عيب، بمنزلة من ابتاع أمة، فظهر منها على عيب، وهي قائمة عنده لم تفت، فإن شاء ردها بعيبها، وإن شاء أمسكها بجميع الثمن، فالهبة كذلك إن شاء ردها، وإن شاء أمسكها بالقيمة كاملة؛ قلت: فإن فاتت عنده؟ قال: هذا خلاف الأول، فإن كان قد أخرج القيمة، رجع بالعيب فيها على نحو البيع سواء، وإن كان لم يخرجها، فعليه(14/120)
قيمتها معيبة؛ لأنها هاهنا قد لزمته، وانقطع خياره في ردها بفوتها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أصبغ؛ لأن الوطء للجارية الموهوبة للثواب فوت تجب به القيمة على الواطئ، ويقطع خياره في ردها، فصارت القيمة في الموهوبة بالوطء كالثمن في البيع البتل، فوجب من أجل ذلك إذا وجد عيبا أن يكون مخيرا بين أن يرد أو يمسك بقيمتها التي لزمته بالوطء، وهي قيمتها سليمة من العيب الذي وجده بها، كما يكون مخيرا في البيع بين أن يردها أو يمسكها بجميع الثمن، وهذا إذا كان الواهب لم يعلم بالعيب، وأما إذا علم به، فيكون من حق الواطئ الذي علم بالعيب أن يمسكها إن شاء بقيمتها معيبة؛ لأن الواهب لما وهبها وهو عالم بالعيب، فقد رضي بقيمتها معيبة، وكذلك في كتاب ابن المواز أنه إذا وهبها وهو يعلم بالعيب، فليس له إلا قيمتها معيبة، وإن كانت قائمة؛ وقال غيره: ليس له إلا قيمتها معيبة علم بالعيب أو جهله، وأما إذا فاتت عند الموهوب له فوتا يمنعه من ردها جملة، أو من ردها دون أن يرد معها ما نقصها، فليس عليه أن يمسكها إلا بقيمتها معيبة، ولا اختلاف في هذا، وبالله التوفيق.
[: قال إن تصدقت على ابنك بعشرة دنانير فعشرتي التي لي عليك صدقة على ابنك]
من سماع أبي زيد بن أبي الغمر من ابن القاسم
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم عن رجل كان له على رجل عشرة دنانير، فقال له: إن تصدقت على ابنك بعشرة دنانير، فعشرتي التي لي عليك صدقة على ابنك، فقال الأب: اشهدوا أني قد تصدقت على ابني بعشرة دنانير وولده صغير، فلم يخرجها حتى(14/121)
مات، قال: يرجع الذي كانت له على الأب العشرة الدنانير ويأخذها منه؛ لأن الأب لم يفرز العشرة، ولم يخرجها من يديه حتى مات؛ قال: ولو كان وضعها على يدي رجل لم يكن له أن يرجع بشيء، ولكانت للابن.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه لم يتصدق عليه بالعشرة التي له على ابنه إلا بشرط، أن يتصدق عليه أبوه بعشرة دنانير، وصدقة الأب على ابنه بالعشرة دنانير لا تصح له إلا أن يخرجها من يده، ويضعها له على يدي غيره، أو يفرزها ويحضرها ويختم عليها بحضرة الشهود على اختلاف في ذلك، قد مضى ذكره في أول رسم من سماع ابن القاسم، وفي رسم طلق ابن حبيب منه، وفي غير ما موضع؛ فإذا لم تصح صدقته على ابنه بالعشرة دنانير لم تلزمه هو صدقته عليه بالعشرة التي له على ابنه، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على رجل بفدان من أرضه يختاره حيث أحب]
مسألة وسئل عن رجل تصدق على رجل بفدان من أرضه يختاره حيث أحب، فلم يحز المتصدق عليه ذلك حتى استحقت تلك الأرض من صاحبها بقضاء من القاضي، ثم إن صاحب الأرض الذي(14/122)
استحقت من يديه، قام يخاصم فيها يأتي بالشاهد وبالأمر بعد الأمر، وبالشيء بعد الشيء، "يخاصم فيها رجاء أن ترد، فلما كثر الشغب والخصومة أراد الذي استحق الأرض أن يقطع الشغب بينه وبين صاحب الأرض الذي استحق الأرض، فصالحه ببعضها، فجاء الذي تصدق عليه بالفدان بعد يطلبه ممن تصدق به عليه، قال: لو كان يعلم أنه لو ثبت يخاصم يريد الذي استحقت من يديه، لم يكن يدرك منها شيئا لضعف ما يطلب، لم يكن للذي تصدق عليه بالفدان شيء مما صالح عليه، وإن كان يظن أن لو ثبت على الخصومة، لرجا أن ترجع إليه الأرض على قدر ما يرى أو يرجى من غير أمر قوي، ولا بين، إلا بالرجا بينة يدعيها، أو لأمر يرجى، أو لا يرجى فصولح ببعضها؛ رأيت للذي تصدق عليه بالفدان أن يصير له نصف فدان مما صار للذي تصدق عليه، يأخذ ذلك حيث أحب من أرضه؛ وإن كان الذي استحقت من يديه لا يشك أن لو خاصم رجعت إليه، لما قد تبين عند الناس من البينة العادلة، فصالح منها ببعضها، رجع الذي تصدق عليه على صاحب الأرض الذي استحقت من يديه، فأخذ فدانا من حيث أحب يختار لا يقبض منه شيئا؛ لأنه لو خاصم استرد أرضه كلها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها، ولا(14/123)
لبس في شيء من معانيها؛ إذ قد قسمها على ثلاثة أوجه لا رابع لها، وذكر الحكم في كل واحد منها، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق عليه وارث بحظه في قرية مبهمة]
مسألة وسألت ابن القاسم عن رجل تصدق عليه وارث بحظه في قرية مبهمة، فعمر فيها مع الورثة قدر حظ المتصدق، ثم هلك المتصدق فاقتسم الورثة القرية، فصار للذي كان عمر منها المتصدق عليه مثل ما لغيره من الورثة، فقال: ورثة المتصدق إنما لم يحز ما تصدق به عليه صاحبنا في حياته، فقال المتصدق عليه: قد حزت منها بقدر حظه منها، وقال الورثة: الذي صار لصاحبنا لم يحز ما تصدق به عليه صاحبنا في حياته، فقال المتصدق عليه: قد حزت منها بقدر حظه منها، وقال الورثة: الذي صار لصاحبنا لم يحزه؛ فقال ابن القاسم وابن وهب: ذلك لمن تصدق به عليه إذا كان قد عمر وحاز؛ لأنه حين وقع مع الورثة فعمر معهم، وحاوزهم فيها فهي حيازة؛ لأنه إنما أسلم إليهم حقه بما أسلموا إليه من حقوقهم، فهي حيازة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه يستحق جميع ما وهبه إياه الوارث بنزوله منزلته مع سائر الورثة في العمارة، وإنما وقع الاختلاف إذا عمر وحده دون سائر الورثة فدانا من الأرض بعينه، حسبما مضى بيانه في سماع أصبغ قبل هذا، وفي نوازله، وبالله التوفيق.
[مسألة: رجلين تصدق عليهما رجل بعبده وقال إن قبلتما]
مسألة وعن رجلين تصدق عليهما رجل بعبده، وقال: إن قبلتما، فقبل أحدهما، وقال الآخر: لا أقبل؛ فقال: من قبله منهما كان له ما قبل.(14/124)
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في رسم الثمرة، من سماع عيسى، من كتاب العتق، في الذي يقول لعبديه: إن شئتما الحرية فأنتما حران، فشاء أحدهما، ولم يشأ الآخر؛ أن الحرية تحصل لمن شاء منهما؛ ومثل قول أشهب في العتق الأول من المدونة في الذي يقول لامرأتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان؛ أن الطلاق يلزمه فيمن دخل الدار منهما، خلاف قول ابن القاسم فيه؛ أنه لا شيء عليه حتى يدخلا جميعا، فيأتي على قوله في هذه المسألة، أنه لا شيء لمن قبل حتى يقبلا جميعا، وفي مسألة الطلاق قول ثالث: إنهما يطلقان جميعا بدخول الواحدة منهما، لا يدخل في هذه المسألة؛ إذ لا يلزم أحدهما قبول الآخر، وقد مضى الكلام مستوفى على مسألة الطلاق، في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، من كتاب الأيمان بالطلاق، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على رجل بخادم فاشترط عليه لنفسه خمسة أيام]
مسألة وعن رجل تصدق على رجل بخادم، فاشترط عليه لنفسه خمسة أيام في الشهر، قال ابن كنانة: ذلك جائز له، قلت له: هل يفسد هذا الشرط الصدقة؟ قال: لا، ولكنه يشدها، وما حبس لنفسه فهو له؛ قال ابن القاسم: إذا كان حبسا، فلا بأس بما اشترط، وإن كانت الرقبة بتلا، فلا خير في أن يستثني منها خدمة أيام.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم الكراء والأقضية، من سماع أصبغ لتكررها هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(14/125)
[مسألة: خرج إلى الأندلس فقال له رجل إن لي على فلان دينارا]
مسألة وسئل عن رجل خرج إلى الأندلس فقال له رجل: إن لي على فلان دينارا وخمسة دراهم، فأنت وكيلي فاستأجر في تقاضيه بتلك الخمسة دراهم، ثم خرج فكلم الذي عليه الدينار والدراهم، فأعطاه ولم يوله أن يستأجر في الدنانير والدراهم، وقد كان أمره إذا أنت قبضت الدينار، فتصدق به عني، وكيف ترى في الدراهم؟ قال: يرسلها إليه ويتصدق بالدينار، كما أمره.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة، وإنما قال في الدراهم: إنه يرسلها إليه، وهو لم يأمر بإرسالها؛ لأنه لم يأمره أيضا بإمساكها عند نفسه، فوسعه الاجتهاد في ذلك بحسن النظر فيها لصاحبها، فإن أرسلها مع ثقة فتلفت، لم يكن عليه ضمانها؛ وإن أمسكها مع نفسه إلى أن يسوقها هو فتلفت، لم يكن عليه ضمانها أيضا، إلا أن تطول إقامته بالأندلس، وهو يجد ثقة يوجه بها معه، فلم يفعل حتى تلفت، ولو استودعها هناك عند ثقة حتى يعلم رأي صاحبها فيها فتلفت، لم يكن عليه فيها ضمان أيضا، وقد مضى في رسم شك، من سماع ابن القاسم، من كتاب البضائع والوكالات، في نحو هذه المسألة ما يبين معناها، وبالله التوفيق.
[مسألة: تصدق على أجنبي بدينار لله]
مسألة قال ابن القاسم في رجل تصدق على أجنبي بدينار لله، ثم أدان، وحاز الذي تصدق عليه صدقته، فلم يرد الدين قبل الصدقة، أو الصدقة قبل الدين؛ قال: الصدقة أولى حتى يعلم أن الدين كان قبل الصدقة؛ قال: ولو أن رجلا تصدق على ولد له صغير فحاز له، ثم أدان بدين، ولا يدري أيهما قبل: الصدقة أو الدين؟ قال: فالدين أولى إلا أن يعلم أن الصدقة كانت قبل الدين.(14/126)
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل ما تقدم له في رسم الجواب، من سماع عيسى، وساوى أصبغ هناك بين حيازة الكبير لنفسه، وحيازة الأب للصغير؛ فجعل الصدقة في الوجهين جميعا أولى من الدين حتى يعلم أن الدين قبل، وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد إذا كانت له امرأة حرة أنه يمنعها من صدقة مالها]
مسألة قال ابن القاسم في العبد إذا كانت له امرأة حرة أنه يمنعها من صدقة مالها، إذا كان أكثر من الثلث مثل الجزء.
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل قول مالك في أول سماع أشهب، من كتاب النكاح؛ أن العبد في ذلك بمنزلة الحر؛ لأن له حقا؛ ولعله قد زادها في مهرها لما لها رجاء أن تتجمل به، ولعله سيعتق يوما من الدهر، خلاف قول ابن وهب في رسم الوصايا والأقضية من سماع أصبغ، وكتاب المديان والتفليس، وقول ابن القاسم هذا، ورواية أشهب عن مالك، أظهر من قول ابن وهب، للمعاني التي ذكرها مالك، مع عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجوز للمرأة قضاء في ذي بال من مالها، إلا بأمر زوجها، إذا لم يخص في ذلك حرا من عبد، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال لرجل خذ هذه النفقة فاجعلها في سبيل الله]
مسألة وقال ابن القاسم في رجل قال لرجل: خذ هذه النفقة فاجعلها في سبيل الله، فقال له رجل: إن هاهنا امرأة محتاجة، فقال له: ادفعها إليها، فقال: إن كان أوجبها في سبيل الله، فلا يعجبني.(14/127)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه إن كان أوجبها في سبيل الله، وأراد بذلك الغزو، فلا ينبغي له أن يصرفها عما أوجبها فيه إلى غير ذلك من وجوه البر، فإن فعل لم يكن عليه ضمانها، مراعاة لقول من يقول من أهل العلم: إن للرجل الرجوع في صدقته ما لم يدفعها وكانت بيده، ولذلك قال ابن القاسم: لا يعجبني، ولم يقل: لا يجوز، وكان القياس على مذهب مالك ألا يجوز له أن يصرفها عما أوجبها فيه من السبيل، إلى غير ذلك، ولم يأثم إذا فعل ذلك، إلا أن يضمنها في ماله فيجعلها في السبيل، ولا يحكم عليه بذلك؛ إذ ليست لمعين؛ وأما إن لم تكن له نية في الغزو، فقد قال أشهب: القياس في أي سبيل الخير وضع جاز، والاستحسان أن يجعل في الغزو؛ لأنه جل ما يعنون به من قال ذلك، وأحب إلي أن يكون في سواحل المسلمين المخوفة من العدو، ولا أحب أن يجعل شيئا منها في موضع قلة الخوف، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول إن فعلت كذا وكذا فكل شيء لي لوجه الله فحنث]
مسألة وسئل عن الرجل يقول: إن فعلت كذا وكذا، فكل شيء لي لوجه الله فحنث، هل يدخل عليه في رقيقه عتق أم لا؟ أم هل يقومهم فيخرج ثلث قيمتهم، فيتصدق بها من ثلث ماله، أم كيف الأمر في ذلك، ولم يقل صدقة لوجه الله، قال: لا أرى فيهم عتقا، إلا أن يكون أراد العتق.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير عليه في رقيقه عتقا؛ لأنه لم يحلف بعتق رقيقه، وإنما خلف بأن يخرج كل شيء من ماله لوجه الله، فكان مخرج ذلك الصدقة بجميع ماله إذا لم يخص شيئا من ذلك دون شيء بالتسمية،(14/128)
فأجزأه من ذلك الثلث، ولو خص عبيده بأنهم لله، أو لوجه الله في غير يمين؛ أو في يمين، فحنث فيها؛ لكان مخرجهم العتق على ما قاله في رسم أوصى من سماع عيسى، من كتب النذور، وقد مضى هناك في هذا المعنى ما فيه بيان، وبالله التوفيق.
[: رجل تصدق على رجل بعبد أو دابة فلم يقبضها المتصدق عليه]
ومن كتاب الوصايا والحج
من سماع أصبغ بن الفرج من عبد الرحمن
بن القاسم. قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن رجل تصدق على رجل بعبد أو دابة، فلم يقبضها المتصدق عليه بها حتى باعها المتصدق أو تصدق بها، وقد علم بالصدقة أو لم يعلم؛ فقال ابن القاسم: إن كان قد علم بالصدقة، فلا أرى له شيئا، وإن كان لم يعلم بها، فهو يأخذها إن أدركها إن شاء، وإن لم يدركها فهو بالخيار: إن شاء الثمن الذي باعها به، وإن شاء القيمة؛ قال أصبغ: وهذا في البيع، وكذلك الصدقة بها بعد صدقته إن كان المتصدق عليه قد علم بصدقته، فلم يقم، ولم يقبض حتى تصدق بها على غيره، فلا شيء له؛ وإن لم يعلم أو علم ولم يفرط، فقافصه المتصدق بالندم فيها والصدقة على غيره؛ فهو أحق بها، إن أدركها قائمة، وإن فاتت كان له قيمتها على المتصدق بها؛ قال ابن القاسم: ولو كان عبدا أو جارية، فلم يقبضها حتى أعتقها المتصدق، فالعتق جائز ماض لا يرد بصدقته، ولم يعلم، وليس العتق كغيره، وقد نزلت لمالك فأمضاه ولم يرده، قال محمد بن خالد: قال لي ابن القاسم: فلو كانت جارية فأحبلها المتصدق، كانت أم ولد له، قلت لابن القاسم: فهل يكون(14/129)
عليه قيمتها للمتصدق عليه؟ فقال: لعل ذلك أن يكون. وفي رواية أصبغ ذلك بمنزلة العتق؛ قال أصبغ: قال لي ابن القاسم: وإن كان عبدا أو جارية فقتلهما رجل، كانت القيمة للموهوب له، قيل لأصبغ: فلو دبره أو كاتبه أو أعتقه إلى أجل؟ قال: يمضي ما فعل من ذلك، ويثبت عقد العتق فيه، ولا يرجع إلى المتصدق عليه من خدمة المدبر، ولا من كتابة المكاتب شيء، ولا من رقبته إن رجع رقيقا؛ قلت لأصبغ: فإن كانت قيمة العبد ألف دينار، وعليه دين ثمانمائة دينار، وكان أن بيع أربعة أخماس العبد كله، لم يكن فيهم وفاء لدينهم؛ لأنه إذا بعض ولم يبع كله بخمس ثمنه، ولم يعط فيه إلا الأقل من دينهم، وإن بيع العبد كله، كان فيه وفاء لدينهم، وفضل مائتا دينار، قال: يباع كله، ويعطى أهل الدين دينهم، ويكون ما بقي للمتصدق به، ولا يكون للمتصدق عليه منه شيء؛ لأنه إنما كان تصدق عليه بعبد، فلما استحقه الغرماء من يديه، فبيع لهما في دينهم، سقطت صدقة المتصدق عليه، فكان بمنزلة الذي استحقه مستحق.
[: يتصدق بالعبد والدابة على رجل فلا يقبض ذلك المتصدق عليه]
قال محمد بن رشد: سألته عن الذي يتصدق بالعبد والدابة على رجل، فلا يقبض ذلك المتصدق عليه حتى يبيعه المتصدق ويتصدق به على غيره، فأجاب ابن القاسم على البيع بأنه إن كان قد علم بالصدقة، ففرط في القبض حتى باعها المتصدق، فلا أرى له شيئا يريد لا من صدقة ولا من الثمن، خلاف قوله في المدونة: إنه يكون له الثمن، وإن كان لم يعلم يريد، أو علم ولم يفرط، أخذ صدقته إن أدركها، يريد إلا أن يشاء أن يجيز البيع، ويأخذ الثمن، فيكون ذلك له، وإن لم يدركها كان بالخيار، إن شاء أجاز(14/130)
البيع وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ القيمة من المتصدق؛ ولم يجب ابن القاسم على الصدقة، ومذهبه في المدونة أن الصدقة بخلاف البيع، وأنه في الصدقة أحق بها- وإن قبضها الثاني، علم أو لم يعلم - فرط أو لم يفرط، وساوى أصبغ في هذه الرواية بين البيع والصدقة- فقال: وكذلك الصدقة بها بعد صدقته إن كان المتصدق عليه قد علم بصدقته فلم يقم ولا قبض حتى تصدق بها على غيره- يريد وقبض، فلا شيء له؛ وإن لم يعلم أو علم- ولم يفرط، فهو أحق بها- إن أدركها قائمة، وإن فاتت كانت له قيمتها على المتصدق، قال ابن القاسم: لو كان عبدا أو جارية فلم يقبضها حتى أعتقها المتصدق، فالعتق ماضٍ لا يرد، علم بصدقته أو لم يعلم، فالعتق عند ابن القاسم يُبطل الصدقة- علم المتصدق عليه أو لم يعلم، والصدقة لا تبطل عنده الصدقة وهو أحق بها - علم بها أو لم يعلم، قبض الثاني أو لم يقبض؛ والبيع يفترق فيه العلم مع التراخي في القبض من غير العلم، فإن علم وتراخى حتى باعه المتصدق بعد البيع، واختلف قوله في الثمن لمن يكون؛ فعلى ما في هذه الرواية يكون للبائع، وعلى ما في المدونة يكون للمتصدق عليه؛ وإن لم يعلم كان له رد البيع، وإن شاء أجازه وأخذ الثمن، وإن تلف عند المبتاع كان له على البائع الأكثر من القيمة أو الثمن، وأشهب يساوي بين البيع والصدقة، فيقول: إنه إذا لم يقبض المتصدق عليه ما تصدق به عليه حتى باعه المتصدق، أو حتى تصدق به على غيره، فقبضه المتصدق عليه الآخر، فلا شيء للأول مراعاة لقول من يرى أن للمتصدق أن يرجع في صدقته ما لم تحز عنه، وقد مضى في سماع محمد بن خالد تحصيل الاختلاف فيمن تصدق بعبد ثم أعتقه قبل أن يقبضه المتصدق عليه، وإنه يتحصل في ذلك أربعة أقوال، ويدخل الاختلاف بالمعنى من مسألة العتق في الصدقة والبيع، فيتحصل في الصدقة أيضا أربعة أقوال، أحدها ظاهر قول ابن القاسم في(14/131)
المدونة أن الأول أخف من الثاني- وإن قبض، فرط أو لم يفرط والثاني ظاهر قول أشهب فيها أن الثاني أحق من الأول، إذا قبض - فرط أو لم يفرط. والثالث: الفرق بين أن يعلم فيفرط أو لا يعلم. والرابع: الفرق بين أن يمضي من المدة ما كان يمكنه فيه القبض- لو علم، أو لا يمضي منها ما كان يمكنه فيه (القبض) ويتحصل في البيع خمسة أقوال، أحدها: أن المبتاع أحق من المتصدق عليه- فرط أو لم يفرط، وهو قول أشهب في المدونة.
والثاني: أن المتصدق عليه أحق بما تصدق به عليه وإن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز، لم يكن له إلا الثمن إن كان لم يفرط في الحيازة وإن كان فرط كان له الثمن وهو مذهبه في المدونة، والثالث: أن المتصدق عليه أحق بما تصدق عليه إن كان لم يفرط في الحيازة، وإن كان فرط فيها لم يكن له شيء، وهو قوله في هذه الرواية. والرابع: الفرق بين أن يمضي من المدة ما يمكنه فيه الحوز لو علم، أو لا يمضي منها ما كان يمكنه فيه الحوز فإن لم يمض والمدة ما يمكنه فيه الحوز كان أحق بما تصدق به عليه، وإن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز لم يكن له إلا الثمن. الخامس: أنه إن مضى منها ما يمكنه فيه الحوز، لم يكن له شيء، وهذان القولان مخرجان على قول المخزومي في العتق، وقد مضى في سماع محمد بن خالد تحصيل القول في الذي يتصدق على رجل بجارية فيولدها فلا معنى لإعادته، والتدبير والكتابة والعتق إلى أجل كالإيلاء، سواء فيما يجب للمتصدق عليه قبل، يبطل ذلك كله وتجوز الصدقة؛ وقيل: يجوز ذلك كله وتبطل الصدقة ولا يكون للمتصدق عليه شيء. وقيل تكون له القسمة إذا بطلت الصدقة، ويدخل في ذلك الاختلاف الذي ذكرته في العتق بين أن يعلم المتصدق عليه بالصدقة فيفرط في الحيازة أو لا يفرط، وبين أن يمضي من المدة ما يمكن فيه الحوز، أو لا يمضي منها ما(14/132)
يمكن فيه الحوز؛ وأما إذا تصدق بالعبد ثم قتله، فلا اختلاف أحفظه في أن القيمة عليه واجبة للمتصدق عليه. وقوله في الذي تصدق على رجل بعبد قيمته ألف دينار وعليه دين ثمانمائة دينار، ولا يفضل منه عن الدين شيء- إن بيع بعضه لضرر الشركة، فيبيع كله، أن الفضل عن الدين يكون للمتصدق لا للمتصدق عليه- صحيح لا اختلاف فيه أحفظه، والصواب في هذا أن يباع على التبعض، يقال: من يشتري من هذا العبد بعضه بثمانمائة دينار، فيقول الرجل أنا آخذ ثلاثة أرباعه بثمانمائة دينار، ويقول الآخر أنا آخذ أربعة أخماسه بثمانمائة دينار، ويقول الآخر أنا آخذ تسعة أعشاره بثمانمائة دينار؛ فإن لم يوجد من يعطي فيه ثمانمائة دينار- على أن يبقى للمتصدق عليه فيه شيء- وإن قل، ووجد من يعطي فيه كله أكثر من ثمانمائة دينار، لم يكن للمتصدق عليه في الفاضل عن الدين من ثمنه شيء، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشهد أنه اشترى لابنه هذه الدار بألف دينار من مال ابنه]
مسألة وسئل أصبغ عن الرجل يقول وهو صحيح- ويشهد: أنه اشترى لابنه هذه الدار بألف دينار من مال ابنه فيما زعم، ويشهد أنه إنما كان يكريها ويغتلها له، وباسمه ثم يموت على ذلك وهو صغير في حجره، ولا يعلم لابنه مال من وجه من الوجوه لا من مورث ولا من غيره من هبة ولا صدقة، ثم مات الأب؛ قال أرى هذا تولجا منه إليه، وأراها ميراثا بين الورثة؛ لأنه لم يتصدق بها عليه على وجه الصدقة، فيحوز له في حياته، وتكون على وجه صدقة الرجل على ولده الصغير وهو في حجره يتصدق عليه، ويحوز له، وهذا لم يسمها صدقة، إنما ولج إليه ماله وزعم أنه مال للولد، ولم يعرف له مال بوجه من الوجوه، فهو يولج إليه ماله، وهو غير صدقة على وجه الصدقات؛ وإنما ذلك بمنزلة الذي يقول في مرضه: قد كنت أعتقت عبدي فلانا، وأنا صحيح، ولا يقول أنفذوه؛ فهذا باطل ولا يخرج(14/133)
من الثلث؛ لأنه إنما أراد به رأس المال، ولم يرد به الثلث، فليس له أن يعتق في مرضه من رأس ماله، وهو أيضا لا يعتق في الثلث؛ لأن الميت إنما أراد أن يخرجه من رأس المال فلا عتق له إلا أن يقول أنفذوه، فينفذ في الثلث.
قال محمد بن رشد: حمل بعض الناس قول أصبغ هذا على خلاف لما وقع في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم في الذي يشتري لابنه الصغير في حجره غلاما، ويشهد أنه إنما اشتراه لابنه، ثم يموت الأب؛ أنه يكون للابن ولا يكون للورثة الدخول عليه فيه، وليس ذلك بصحيح؛ لأنهما مسألتان مفترقتان، هذه قال فيها إنه اشترى لابنه من مال الابن، فإذا لم يعلم للابن مال من وجه من الوجوه، تبين أن ذلك توليج من الأب لابنه، ولج إليه ماله وزعم أنه مال الابن؛ وتلك لم يقل فيها أنه اشترى من مال الولد، فوجب أن يكون العبد للابن مالا وملكا بنفس الشراء؛ لأنه إنما اشتراه بمال وهبه إياه فلا يحتاج إلى أن يحوز الأب له عن نفسه إذا لم يتقرر له عليه ملك، وإنما قول أصبغ خلاف لما في رسم الشجرة من قول مالك في أن الابن ينتفع بحيازة أبيه فيما ولج إليه من ماله على غير سبيل العطية، مثل قول ابن القاسم فيه من رواية عيسى في كتاب داود، وقد مضى بيان هذا كله مستوفى في رسم كتب عليه ذكر حق، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
تم الجزء الرابع من الصدقات والهبات، وبتمامه تم كتاب الصدقات والهبات، والحمد لله رب العالمين، والصلاة الكاملة على سيدنا ومولانا محمد سيد الأولين والآخرين، وسلم كثيرا.(14/134)
[: كتاب الدعوى والصلح] [تكارى دابة فقال اشتريتها لامرأتي نقد الثمن أو الكراء وقد حازت المرأة الدابة]
(كتاب الدعوى والصلح) من سماع ابن القاسم من مالك -
من كتاب الرطب باليابس. قال سحنون أخبرني ابن القاسم عن مالك فيمن اشترى سلعة أو تكارى دابة، فقال اشتريتها لامرأتي نقد الثمن أو الكراء أو لم ينقد، وقد حازت المرأة الدابة أو سكنت المنزل، ثم طلب منها الثمن؛ فقالت قد دفعته إليك ولا بينة لها؛ قال: إن كان نقد الثمن، فيمين المرأة بالله لقد دفعت إليه ثمنها- وما عندي منه قليل ولا كثير؛ وإن كان لم ينقد حلف الزوج بالله ما اقتضيت من ثمنها شيئا، ثم يأخذه منها؛ قال سحنون وعيسى: وإن أشهد الزوج عند دفعه الثمن إلى البائع أنه إنما نقد من ماله، ثم قالت المرأة: أنا دفعت إليه الثمن؛ لم أجعل القول قولها ورأيت القول قول الزوج مع يمينه.(14/135)
قال محمد بن رشد: قول سحنون وعيسى بن دينار بعيد في النظر؛ لأنه يتهم على أن يتقدم بالإشهاد على ذلك ليكون القول قوله، فلا ينبغي أن يحمل على التفسير لقول مالك، ووقع في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب البضائع والوكالات في الرجل يوكل الرجل على شراء السلعة فيشتريها وينقد الثمن، ثم يطلبه من الآمر، فيقول قد أعطيته لك وإنما اشتريتها من دراهمي، أن القول قول الوكيل المشتري مع يمينه، يحلف ما أخذ منه ثمنها ثم يأخذه منه، فقال بعض أهل النظر: المعنى فيها أن الآمر لم يقبض السلعة، ولذلك كان القول قول المأمور، فليست بخلاف لما في سماع ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأن الرجل سفير امرأته على ما قال في رسم حلف من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور، والصواب أنها خلاف لها؛ لأنه لم يعلل فيها بقبض السلعة، ولا يصح أن يعلل بذلك على مذهب ابن القاسم؛ لأنها ليست برهانا له على مذهبه يجب له إمساكها حتى يقبض الثمن، بل يلزمه دفعها إليه واتباعه بالثمن؛ وإنما يصح أن يعلل بقبض السلعة على مذهب أشهب الذي يراها رهنا بيده، من حقه أن يمسكها حتى يقبض الثمن؛ وإنما وجه ما في سماع عيسى المذكور، أنه أحل المأمور محل البائع في أن القول قوله أنه لم يقبض الثمن - وإن كان قد دفع السلعة، فالفرق بين أن يقبض الآمر السلعة أو لا يقبضها، قول ثالث في المسألة يخرج على مذهب أشهب، وفي كتاب ابن المواز قول رابع: أن القول قول الآمر نقد المأمور الثمن أو لم ينقده؛ وتفرقة عيسى وسحنون بين أن يشهد الزوج أو لا يشهد، قول خامس في المسألة؛ فهذا تحصيل القول فيها ورواية ابن القاسم عن مالك، الفرق بين أن ينقد أو لا ينقد، وقول أشهب الفرق بين أن(14/136)
يقبض الآمر السلعة أو لا يقبض؛ وقول سحنون، وعيسى الفرق بين أن يشهد المأمور أو لا يشهد ورواية عيسى القول قول المأمور نقد أو لم ينقد، وما في كتاب ابن المواز، القول قول الآمر نقد المأمور أو لم ينقد، وقد مضى هذا كله في الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب البضائع والوكالات، لتكرر المسألة هناك. وقد أجمعوا على أن الرجل إذا بنى في أرض امرأته، أو في دارها ثم طالبها بالنفقة، وادعت أنها دفعت ذلك إليه، أن القول قوله على كل حال، والفرق بين ذلك وما ذكر هنا، أنه في هذه المسألة أقر إنما اشترى لامرأته، ولم يقل في البناء. إنما بنيت لامرأتي، ولو قال ذلك لكان فيه كالحكم في هذه، وبالله التوفيق.
[: أمة كانت بين رجلين فجحد أحدهما نصيب صاحبه منها]
ومن كتاب قطع الشجر وقال مالك في أمة كانت بين رجلين فجحد أحدهما نصيب صاحبه منها ولم يجد صاحبه بينة حتى ولدت أولادا كثيرا، فأعتق منهم ووهب، ومات بعضهم عنده وباع منهم، فوجد شريكه البينة وثبت حقه؛ قال أما ما باع فله نصف الثمن أو نصف الرأس حيث وجده: وأما ما أعتق فله نصف القيمة عليه، إلا أن يكون لا مال له فيكون له نصف المعتق ونصفه ذو القيمة يوم وقع ذلك، ومما يبين ذلك، أن لو مات أحد ممن أعتق، لم يكن للطالب على المعتق شيء؛ فلذلك تكون القيمة يوم وقع ذلك، وأما ما(14/137)
وهب، فإن له نصيبه من كل رأس أدركه إن وجده بعينه، وما مات ممن وهب، لم يكن للطالب فيهم شيء.
قال محمد بن رشد: قوله فوجد شريكه البينة وثبت حقه، محتمل أن يكون وجد البينة على ما ادعاه عليه من أنه جحده نصيبه (فيكون بما ثبت عليه من أنه جحده نصيبه) كالغاصب له فيه يلزمه قيمته إن ماتت الأمة؛ ويحتمل أن تكون البينة إنما شهدت بأن الجارية بينهما، ولم تشهد بما ادعاه عليه من الجحود، فلا يلزمه ضمان نصيبه من الجارية إن مات- على مذهب ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، خلاف ظاهر ما في آخر كتاب الشركة من المدونة، إذ لم يفرق في ذلك بين الحيوان وغيره مما لا يغاب عليه، ولو ادعى أن الجارية بينهما وأثبت ذلك- وقد ماتت بعد أن أنكره ولم يدع عليه أنه جحده، لم يكن له عليه ضمان في نصيبه باتفاق، فوجه يضمن له فيه نصيبه من الجارية باتفاق، ووجه لا يضمن له باتفاق، ووجه يختلف في وجوب الضمان عليه فيه؛ وقد مضى هذا المعنى موجودا في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وفي نوازل سحنون من كتاب الرهون؛ ولو كان مع الأمة ولد يوم التداعي أنه جحده إياهم مع الأم، كان حكم نصيبه منهم حكم نصيبه من الأم في ضمانهم بالموت، ولم يتكلم في هذه الرواية على ذلك، ولا على موت الأمة، وإنما تكلم على موت ما حدث لها من ولد بعد الجحود، فقال: إنه لا شيء له عليه فيمن مات منهم، إلا أن يكون قد باع(14/138)
منهم، فيكون له نصف ثمن ما باع؛ ولو أدركهم عند المبتاع قبل أن يموتوا، لكان مخيرا بين أن يأخذ حظه منهم، أو يجيز البيع ويأخذ الثمن؛ وأما ما وهب منهم، فله حظه فيهم إن أدركهم؛ وإن ماتوا، لم يكن له شيء، وأما ما أعتق فله قيمة حظه منهم، إن كان مليا؛ وإن كان معدما، أخذ حظه منهم إن أدركهم وكان حظ المعتق منهم أحرارا؛ وإن لم يدركهم حتى ماتوا لم يكن له على شريكه فيهم شيء؛ لأن القيمة إنما تلزمه فيهم يوم الحكم، فلا شيء عليه فيمن مات منهم قبل ذلك؛ هذا مذهب ابن القاسم فيما حدث من ولد الأمة بعد الجحود- وإن أقام البينة على ذلك؛ لأن الغاصب للأمة لا يضمن عنده ما مات من ولدها الذين حدثوا لها بعد الغصب؛ وأشهب يرى الغاصب ضامنا لما مات من الأولاد، بمنزلة ما لو غصبهم مع الأمهات، فعلى مذهبه يفترق الأمر في الأولاد بين ألا يدعي الجحود، أو يدعيه فيقيم البينة عليه، أو لا يقيمها إلا على الملك حسبما حكيناه على مذهب ابن القاسم في الأمهات، وبالله التوفيق.
[: يسألها زوجها وهو مريض أن تهب له حظها في داره من ميراثها]
ومن كتاب أخذ يشرب خمرا قال وسئل عن المرأة يسألها زوجها، وهو مريض، أن تهب له حظها في داره من ميراثها، فأبت وقالت إني أحوج إليه منك، فقال لها: والله لئن لم تفعلي لأضيقن عليك ولا أدعك تأتي أهلك، ولا أدعهم يأتونك ما دمت زوجتي؛ فلما رأت ذلك أشهدت له بأنها قد وهبت له ميراثها، فأوصى فيه ألها أن ترجع؛ فقال نعم، فقال له السائل إن الذي تدعي المرأة من أنه قال لها ذلك، لا بينة لها عليه، إنما هو شيء تدعيه؛ أفترى ذلك ينفعها؛ قال نعم، إني لا(14/139)
أرى ذلك ينفعها، والمرأة في ذلك ليست كغيرها من الورثة مثل الابن البائن المنقطع عن أبيه فذلك الذي يجوز عليه ما صنع من ذلك.
قال محمد بن رشد: رأى للمرأة أن ترجع فيما وهبت لزوجها من ميراثها منه - وإن لم تكن لها بينة على ما ادعت من أنه قاله لها، بل لها أن ترجع وإن لم تدع أنه خوفها بذلك الكلام، ولا قاله لها؛ بدليل قوله والمرأة في ذلك ليست كغيرها من الورثة، إلخ قوله، وذلك مثل قوله في المدونة في الذي يستأذن في أن يوصي لوارث، وبأكثر من ثلثه فيأذنون له في ذلك، أن لمن كان منهم في عياله وإن كان مالكا لأمر نفسه مثل الزوجة، والابن الذي لم يبن عن أبيه، وهو في عياله - أن يرجع عنه، إذ لا فرق بين أن يهب له ميراثها منه وهو مريض فيقضي فيه، ثم تريد الرجوع عنه بعد موته، وبين أن يأذن له في الوصية بأكثر من ثلثه - وفي الوصية لوارث فيفعل، ثم يريد الرجوع عنه بعد موته، ولو استوهبها شيئا من مالها في مرضه فوهبته إياه، لم يكن لها أن ترجع فيه على ما مضى في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات، إلا أن يثبت أنه أكرهها على ذلك بالتخويف، مثل أن يقول لها إن لم تفعلي لأفعلن بك كذا وكذا، وقد مضى في رسم نقدها من سماع عيسى من الكتاب المذكور، وفي رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات تحصيل القول في هبة الرجل ميراثه من أبيه في صحة أبيه أو في مرضه لبعض الورثة، أو لأجنبي، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.(14/140)
[: هلك وله امرأة وترك جارية حاملا]
ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد قال وسئل مالك عن رجل هلك وله امرأة وترك جارية حاملا فأراد ورثته أن يصالحوا امرأته على حقها، قال مالك لا يصح في مثل هذا الصلح؛ لأنه لا يدري أيكون لها ثمن أو ربع، فلا أرى هذا يجوز (ولا أحبه) .
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله أن ذلك لا يجوز؛ لأن الزوجة صالحت قبل أن تعلم إن كان يجب لها ثمن أو ربع؛ لأنها إن ولدت حملها ميتا، أو انفش، وجب لها الربع، وإن ولدته حيا وجب لها الشيء؛ وصالحها الورثة قبل أن يعلموا ما وجب لهم من الميراث وإن كان يجب لهم منه شيء أم لا؛ لأنها إن ولدت حملها حيا ذكرا، لم يجب لهم شيء، وإن ولدته حيا أنثى وجب لهم ثلاثة أثمان المال، وإن ولدته ميتا، وجب لهم ثلاثة أرباعه، فالصلح غرر من جهة الزوجة ومن جهة الورثة، ولو لم يكن الصلح غررا، مثل أن يترك الميت حملا وبنين، فصالح البنون الزوجة عن ثمنها فيما تخلفه أبوهم بعرض أو بعين عما تخلفه من العروض، لما جاز الصلح على الحمل إن وضعته حيا، إلا أن يجيز ذلك الناظر له، لما يراه فيه من الغبطة له؛ وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما فيه نظر، قال إنما لم يجز هذا الصلح؛ لأن الذي في البطن ليس ثم أحد يصالح عنه، ولا يجوز الصلح عنه؛ وليس ما اعتل به في الكتاب صحيحا؛ لأن الميت لو كان له ابن وترك حملا لم يجز صلح المرأة مع علمنا بأن نصيبها الثمن من غير(14/141)
شك؛ لأن الحمل لا يصالح عنه، وأشهب يجيز هذا الصلح عن الحمل إذا كان نصيب المصالحة معلوما مثلما ذكرناه، هذا نص كلامه، فقوله إنما لم يجز هذا الصلح؛ لأن الذي في البطن ليس ثم أحد يصالح عنه ولا يجوز الصلح عنه؛ ليس بصحيح؛ لأن الفساد أملك به، للغرر الواقع فيه بين المتصالحين، إذ لم يدر واحد منهم مقدار ما صالح عنه على ما بيناه من الحق الواجب في فسخه للمولود، إذ ليس الصلح بفاسد من جهته، فلو لم يكن فيه غرر من جهة المتصالحين، لجاز إن أجازه الناظر للمولود. وقوله: وليس ما اعتل به في الكتاب صحيحا؛ لأن الميت لو كان له ابن وترك حملا لم يجز صلح المرأة مع علمنا بأن نصيبها الثمن من غير شك؛ لأن الحمل لا يصالح عنه؛ ليس بصحيح أيضا؛ لأن الميت إذا لم يترك ولدا، فالصلح فاسد لا يجوز إمضاؤه، للغرر الواقع بين المتصالحين فيه، وإذا ترك ولدا فالصلح ليس بفاسد، وإنما هو غير جائز على المولود إن ولد حيا، إلا أن يجيزه الناظر له؛ وفي قوله: وأشهب يجيز هذا الصلح عن الحمل إذا كان نصيب المصالحة معلوما - نظر؛ لأنه يقتضي أن غيره يخالفه في ذلك، ولا خلاف عندي في أن للناظر على الحمل أن يجيز الصلح عليه ويمضيه إذا رآه نظرا له، ولم يكن فيه غرر ولا فساد، لعلم الزوجة بنصيبها (ولا خلاف عندي في أن للناظر على الحمل أن يصالح الزوجة عنه قبل أن يوضع - إذا كان نصيبها معلوما) ، وبالله التوفيق.
[: أتاه ابن عم له فسأله أن يسكنه مسكنا]
ومن سماع أشهب وابن نافع
من مالك من كتاب الأقضية قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع، قالا سئل مالك عمن(14/142)
أتاه ابن عم له فسأله أن يسكنه مسكنا، فقال نعم، خذ مسكنا كذا وكذا، فقال لا أريد ولكن أعطني مسكنا كذا وكذا؛ فقال لا أقدر على ذلك، هو لامرأتي، ثم جاء ابن عم له آخر، فسأله إياه، فقال لا أقدر على ذلك هو لامرأتي؛ ثم بلغ ذلك امرأته فخاصمته على المسكن، فقال إنما قلت ذلك تمخيا منهما، وشهد بذلك عليه؛ أترى المنزل لها؟ فقال ما أرى ذلك لها، ليس هذا على وجه العطية، والناس يتمخون بمثل هذا؟ فلا أرى لها شيئا؛ قد يطلب السلطان من الرجل العبد، أو الأمة، فيقول في الغلام مدبرا ويقول في الجارية قد ولدت مني مخافة أن يأخذهما منه، فلا يلزمه ذلك؛ وليس مثل هذا شهادة ولم يشهدوا على ذلك، فلا أرى تلك شيئا، وقد قال إبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] ، وقد خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فتلقاه عجمها يركب خلف أسلم، وقلب فروه فجعلوا كلما لقوا أسلم، قالوا أين أمير المؤمنين؟ فيقول أمامكم، أمامكم حتى أكثروا- وعمر يسمع ذلك ولا ينهاه؛ فهذا تصاريف الكلام؛ فقال له عمر: أكثرت عليهم، أخبرهم الآن؛ فسألوه: فقال هو هذا؛ فوقفوا كالمتعجبين من حاله، فقال: عمر لا يروه على كسوة قوم غضب الله عليهم، فنحن تزدرينا أعينهم، ثم لما يزل قابضا بين عينيه حتى لقيه أبو عبيدة(14/143)
ابن الجراح فضحك وقال له أنت أخي حقا لم تغيرك الدنيا؛ ولقيه على بعير خطامه حبل شعر أسود، قال مالك وتلقى عمر يومئذ ببرذون عار فركبه ثم نزل عنه وسبه، فقيل له: ما له؟ فقال حملتموني على شيطان حتى أنكرت نفسي! وقد روى عيسى عن ابن القاسم مثل هذا سواء في الرجل يقال له أتبيع جاريتك؟ فقال هي لامرأتي، أو لرجل أجنبي، ثم تدعي ذلك المرأة والرجل الأجنبي في حياته، أو بعد موته؛ لا شيء لهما، إلا أن يأتيا عليه بشهود بصدقة قد جرت، أو هبة؛ قال: وسواء قال هي لامرأتي، أو قال هي جارية امرأتي؛ وإنما هي كذبة كذبها، وكلام اعتذر به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة، وسيأتي مثلها بزيادة عليها في الذي تخطب إليه ابنته فيقول قد زوجتها فلانا في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا، وقد مضى مثلها في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات، والكلام عليها هناك مستوفى ولا فرق عند مالك بين أن يقول في اعتذاره هو لفلان أو قد تصدقت به على فلان على ما قاله في أول سماع أشهب منه، خلاف ما ذهب إليه أصبغ من الفرق بين ذلك على ما يأتي له في رسم العشور المذكور من هذا الكتاب، وأن معنى ذلك إنما هو إذا عرف الملك له؛ وأما إذا لم يعرف الأصل له، فإقراره به للمقر له وإن كان على هذا الوجه من الاعتذار عامل على ما يأتي في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق، وهو دليل قوله في رسم العشور بعد هذا من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.(14/144)
[: كانت في يده جارية فجاءه قوم فقالوا نحن نشهد أن هذه الجارية مسروقة]
ومن كتاب الأقضية الثالث وسئل عن رجل كانت في يده جارية فتسوق بها، فجاءه قوم فقالوا نحن نشهد أن هذه الجارية مسروقة، ثم ذهبوا عنه ورجعوا إلى بلادهم؛ أترى أن يخلفها هاهنا بالمدينة، أو يسير بها معهم إلى مصر، فإن جاءوا يطلبونها وجدوها من قريب؛ قال: يسير بها معهم إلى مصر، هو أحب إلي من أن يخلفها بالمدينة، فإن جاءوا يطلبونها، اشتدت مؤونتها. قلت له أرأيت إن خلفها فماتت، أترى لهم عليه ضمانا؟ فقال لا أرى ذلك عليه، وليس عليه في هذا ضمان؛ وأنا أحب أن يشهد قوما عليها فيقول هذه الجارية اعترفت في يدي، ثم ذهب الذين اعترفوها فلم يأتوني؛ فإذا كان هكذا، فلا بأس، وأحب إلي أن يسير بها معه ولا يبيعها؛ فقال لا آمره بذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة، ظاهرة المعنى، فلا وجه للقول فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال له إن لي عليك عشرة دنانير من ثمن سلعة بعتكها]
مسألة وسئل مالك عمن أتى رجلا فقال: له إن لي عليك عشرة دنانير من ثمن سلعة بعتكها، فقال الرجل لا، ولكن لك عندي عشرة دنانير وديعة استودعتنيها فضاعت، القول قول من زعم أنها وديعة، ويحلف أنها ما كانت إلا وديعة، وأنها قد ضاعت، ولا شيء عليه.(14/145)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها، إذ لا يؤخذ أحد "بأكثر مما يقر به على نفسه، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» . والذي ادعى العشرة دنانير من ثمن سلعة باعها مدع، عليه إقامة البينة؛ والذي أنكر ذلك مدعى عليه، فعليه اليمين؛ والقول قوله في تلف الوديعة التي أقر بها، كما لو ثبتت عليه فادعى تلفها؛ ولا اختلاف في هذه المسألة؛ لأن الذي ادعى عليه العشرة من الشراء، منكر أن يكون اشترى، فالقول قوله إنه ما اشترى منه شيئا، بخلاف إذا دفع إليه مائة أو عشرة، فقال الدافع دفعتها إليك سلفا، وقال القابض بل دفعتها إلي وديعة فضاعت، هذه يختلف فيها، فيقول ابن القاسم القول قول الدافع، ويقول أشهب القول قول القابض على أصله في أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، وهو قول مالك، رواه عنه ابن وهب، وقول ربيعة، وبالله التوفيق.
[: في يديه دور فيأتي رجل فيقول إن هذه الدور لجدي]
ومن كتاب الأقضية الذي فيه مسائل
ابن القاسم وسأل ابن كنانة مالكا عن الرجل في يديه دور، فيأتي رجل فيقول إن هذه الدور لجدي، فيسأل عن ذلك؛ أيقر أم ينكر(14/146)
ويقول ليقم البينة على ما ادعى، فأما أنا فلا أقر ولا أنكر؛ أيجبر على ذلك، أم يترك على حاله ويقال للمدعي أقم البينة، فقال: اكتب إليه، لا بل يجبر حتى يقر أو ينكر، لا يترك وما أراد.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة، أن المدعي للدور التي في يدي الرجل أنها لجده، يعلم أنه وارث جده بتثبيت المواريث بذلك أو بإقرار المدعى عليه له بأنه وارثه، إذا لو لم يعلم بأنه وارثه لم يجب على المدعى عليه أكثر من اليمين أن الدور حقه وماله وملكه، لا حق له فيها معه بإجماع واتفاق؛ وأما إذا علم أنه وارثه، فقال في هذه الرواية إنه يلزم المدعى عليه أن يقر بأن الدور لجده يريد فيأخذها إذ قد علم ميراثه له، أو ينكر - يريد فيكلف الطالب إثبات ملك جده لها، وأنه لم يفوتها في علم من شهد بذلك إلى أن توفي عنها، فإن أبى أن يقر أو ينكر، أجبر على ذلك؛ مثل هذه الرواية حكى ابن المواز عن مالك من رواية ابن الماجشون عنه، وقال إنها صواب، وحكى ابن العطار أن العمل جرى بها، وهي تحمل على أنها خلاف لما في المدونة لقوله فيها وإن لم يثبت لم يسأل الذي في يديه الدار عن شيء، فمن ذهب إلى أنها خلاف لما في المدونة، قال: الذي يأتي على مذهبه في المدونة أنه إذا ادعى أن الدور لجده وثبت المواريث لم يسأل الذي في يديه الدور: من أين صارت إليه، ولا إن كانت لجده أم لا، وإنما يسأل هل يقر أن الدور له أم ينكر ذلك بأن يقول إنها مالي وملكي، لا حق له معي فيها، ولا أعلم له حقا معي فيها. وقد اختلف هل يحلف على ذلك أم لا، فقيل إنه يحلف، وقيل إنه لا يمين في دعوى الأصول؛ وليس في المدونة) - عندي - ما يخالف هذه الرواية بنص ولا دليل؛ لأنه إنما تكلم فيها على أن الطالب أثبت أن الدار لجده، فقال: إن ثبتت المواريث، كلف أن(14/147)
يقيم البينة على الوجه الذي صارت إليه من قبل جده، أو من قبله هو بما يصح أن يثبت به ذلك، وإن لم تثبت المواريث، لم يسأل الذي في يديه الدار عن شيء؛ معناه لم يسأل من أين صارت إليه، ولا هل كانت لجده أم لا؟ ولا يلزمه أكثر من أن يقر أو ينكر- بأن يقول إن الدار ماله وملكه، لا حق للقائم فيها معه؛ فتحصيل القول في هذه المسألة، أن الطالب إذا لم يثبت المواريث، فسواء أثبت أن الدار لجده أو لم يثبت ذلك، لا يلزم المقوم عليه سوى التوقيف على الإقرار أو الإنكار؛ وإذا ثبت أن الدار لجده، وثبتت المواريث، كلف الذي هي في يده أن يثبت تصييرها إليه من قبل الذي ثبتت له بما يصح أن يثبت به ذلك من بينة على القطع أو على السماع مع طول الحيازة، إلا أن يكون الطالب حاضرا معه مدة تكون الحيازة عليه فيها عاملة؛ واختلف إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أن الدار لجده، فقيل إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار، وهو الذي ذكرنا أنه يتأول على ما في المعونة. وليس ببين فيها؛ وقيل إنه يوقف ويسأل من أين صارت إليه، وهل كانت لجد القائم وهو قول مالك في هذه الرواية، قال: إنه يجبر على ذلك، قيل: بالسجن وقيل: بالضرب؛ وليس ذلك عندي اختلافا من القول، وإنما معناه أنه إن أبى أن يقر أو ينكر، المراد أجبر على ذلك بالسجن والضرب؛ وإن قال لا أقر ولا أنكر؛ لأني لا يقين عندي من ذلك، استبرئ أمره بالسجن، فإن تمادى على شكه، قضي للطالب بحقه- قيل بيمين - وهو مذهب ابن القاسم على ما له في كتاب تضمين الصناع من المدونة في المتبايعين يختلفان في ثمن السلعة، فيموتان وهي قائمة- أن ورثتهما يتحالفان ويتفاسخان إن ادعيا معرفة الثمن، وإن ادعى أحدهما معرفته وجهل الآخر، كان القول قول من ادعى المعرفة منهما مع يمينه، وعلى ماله أيضا في رسم نقدها بعد هذا من سماع عيسى في الذي يقر للرجل بأحد ثوبين بعينهما،(14/148)
ولا يدري أيهما هو، أن المقر له يحلف إن ادعى أجودهما، وقيل بغير يمين؛ وإلى هذا ذهب محمد بن المواز، واستحسن إذا تمادى على شكه أن يحلف أنه ما وقف عن الإقرار أو الإنكار، إلا إنه على غير يقين؛ فإن حلف على ذلك، قضى للطالب بحقه دون يمين؛ قاله في المال مثل أن يدعي رجل على رجل بستين دينارا فيقر له بخمسين، ويأبى أن يقر أو يفكر في العشرة، وقاله أيضا في الدور إنه إن أبى أن يقر أو ينكر، قضي للطالب دون يمين، وكذلك إذا أبى أن يقر أو ينكر إلدادا بصاحبه، فتمادى على إبايته بعد السجن والضرب، يقضي للطالب بحقه - قيل بيمين، وقيل بغير يمين، وبالله التوفيق.
[: يدعي زيتونا قبل رجل أن له أصله وثمره]
من سماع عيسى بن دينار (من ابن القاسم)
من كتاب نقدها قال عيسى بن دينار (سئل ابن القاسم) عن الرجل يدعي زيتونا قبل رجل، أن له أصله وثمره، وأثبت شاهدا واحدا، فطلب أن يجعل وكيلا له على الثمرة يحوزها في الجني والعصر حتى يستحق حقه، وطلب الذي هي في يديه، أن يقوم عليها ليبيعها، وجل الناس- عندنا- لا يبيعون إنما يعصرون؛ قال إن كان الشاهد عدلا، فينبغي للوالي أن يحلفه عليها ويدفع إليه الثمرة(14/149)
وإن كان ممن لا يقضي باليمين مع الشاهد، فإني أرى للوالي أن ينظر إلى الذي فيه النماء والفضل في بيعه أو عصره فيوكل به رجلا يثق به من عنده ويوقفه، فإن أتى بشاهد آخر دفعت إليه ولا أحلفه بالله: إنه ما يعلم أن ما ادعى صاحبه حق، ثم يدفعه إليه، فإن نكل حلف الطالب ودفع إليه؛ فهذا وجه ثان فيه.
قال محمد بن رشد: اختلف في تأويل هذه المسألة، فقيل المعنى فيها أن المدعي ادعى الأصول والثمرة جميعا، مثل أن يقول اشتريتها بثمرتها أو أقام على ذلك شاهدا واحدا، فلذلك وقفت له الثمرة بالشاهد الواحد، إذا كان الوالي لا يرى القضاء باليمين مع الشاهد، فإن أتى بشاهد آخر دفعت إليه، وقيل: بل إنما ادعى الأصول خاصة، فرأى توقيف الثمرة بشهادة الشاهد الواحد، وهو الذي يأتي على ماله في آخر رسم العرية بعد هذا في الذي يدعي الدابة ويقيم عليها شاهدا واحدا فتموت الدابة قبل أن يقضى له باليمين مع شاهده أنه يحلف وتكون المصيبة فيها منه؛ لأنه إذا رأى الضمان منه بالشاهد الواحد، التوقيف والغلة تابعان له، وقد اختلف في الحد الذي يدخل فيه الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلة له، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به، وهو الذي يأتي على قول مالك في المدونة أن الغلة للذي هي في يديه حتى يقضى بها للطالب، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق وتوقيف، يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلة وهو قول ابن القاسم في المدونة أن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف مثل ما يحول يزول، وإنما توقف وقفا يمنع فيه من الأحداث والثاني: أنه يدخل في ضمانه وتكون له(14/150)
الغلة ويجب توقيفه وقفا يحال بينه وبينه إذا ثبت له بشهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، إذ قال فيه أن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت له الحق؛ وقول غير ابن القاسم في المدونة إذ قال أن التوقيف يجب إذا أثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه المدفع، وعلى هذا القول جرى عندنا حكم الحكام، والثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والوقف بشهادة شاهد واحد وهو الذي يأتي على ما قاله ابن القاسم في رسم العرية في الضمان- حسبما ذكرناه، ويقوم من هذه الرواية على التأويل بأن المدعي إنما ادعى الأصل خاصة، أن الحد فيما يكون به الثمرة في الاستحقاق غلة فيستوجبها المستحق منه ببلوغها إليه، قيل بالحكم والقضاء وقيل بثبوت الحق بشهادة شاهدين، وقيل بشهادة الشاهد الواحد على الاختلاف الذي ذكرناه الجني في الزيتون، والجداد في الثمر، وقد قيل إن الحد في ذلك الطيب وقيل اليبس؛ والثلاثة الأقوال كلها لابن القاسم، وقد ذكرناها وبيناها في كتاب العيوب من كتاب المقدمات، والله الموفق.
[مسألة: يقول للرجل في ثوبين له أو عبدين أحد هذين العبدين لك]
مسألة وسألته عن الرجل يقول للرجل في ثوبين له أو عبدين أحد هذين العبدين لك أو أحد هذين الثوبين لك، ولا أدري أيهما هو؟ قال يقال للمقر: احلف أنك ما تدري أن أجودهما للمقر له، فإن حلف أنه ما يعلم أيهما له، قيل للمقر له: احلف أنك ما(14/151)
تعلم أيهما هو لك، فإن حلف أيضا، كانا شريكين في الثوبين جميعا، قيل له فإن قيل للمقر"الأول احلف، فنكل عن اليمين فرد اليمين على المقر له قال يقال له احلف، فإن فعل كانا أيضا شريكين في الثوبين، وإن نكلا جميعا كان كذلك شريكين في الثوبين أبدا على كل حال، إلا أن يقول المقر لا أعرفه، ويقول المقر له أنا أعرفه؛ فإن زعم المقر له أن أدناهما هو ثوبه، أخذه بلا يمين، وإن ادعى أجودهما، أخذه بعد أن يحلف؛ وإن قال المقر أدناهما هو ثوبه حلف ولم يكن للمقر له غيره؛ وإن ادعى المقر له أن أجودهما له، لم يقبل قوله ولا يمينه إذا زعم المقر أن أدناهما هو ثوبه وحلف على ذلك، وإن زعم المقر أن أجودهما ثوبه أعطيه المقر ولو لم يكن على واحد منهما يمين؛ لأنه قد أعطاه أجودهما، قال عيسى وقال أشهب إذا حلف المقر أو نكل فرد اليمين على المقر له، فإنه يحلف على البتات على أيهما شاء، فإن نكل عن اليمين، كان له أدناهما.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم أنهما يحلفان جميعا، إذا تجاهلا المقر والمقر له، فإن حلفا أو نكلا، أو حلف أحدهما ونكل الآخر، كانا شريكين في الثوبين يأتي على القول بلحوق يمين التهمة، وعلى أنها ترجع؛ لأن كل واحد منهما يتهم صاحبه: يقول المقر له للمقر لعلك تعلم أن أجودهما لي، فاحلف أنك ما تعلم ذلك، ويقول المقر للمقر له لعلك تعلم أن أدناهما لك، فاحلف أنك ما تعلم ذلك، فأوجب اليمين لكل واحد(14/152)
منهما على صاحبه بذلك، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، كانا شريكين فيهما، كما قال، لاستوائهما في الحلف، أو النكول، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، كانا أيضا شريكين فيهما؛ لأن الناكل منهما لما نكل وجب أن ترجع اليمين على صاحبه، فيحلف لقد يعلم أن الأجود له وهو لم يحلف إلا أنه لا يعلم أيهما ثوبه أو يمين التهمة إنما ترجع على البت؛ قال مالك وهو رجل سوء إن حلف على ما لا علم له به ويأتي على القول بأن يمين التهمة لا تلحق، أن يكونا شريكين في الثوبين، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه يمين، ويأتي على القول بلحوق يمين التهمة، وإنها لا ترجع، وأنه إن نكل المقر عن اليمين وحلف المقر له، كان له أجود الثوبين؛ لأنه قد وجب له بنكول المقر، إذ قد حلف المقر له دون أن ترجع عليه اليمين على البت؛ لقد يعلم أن أجودهما له، وأنه إن نكل المقر له عن اليمين وحلف المقر، كان له أدناهما؛ لأن المقر قد وجب له أجودهما بنكول المقر له عن اليمين دون أن يرجع عليه على البت: لقد يعلم أن أدناهما له. وقوله: إذا قال المقر لا أعرفه، وقال المقر له أنا أعرفه أنه إن ادعى الأجود أخذه بعد أن يحلف، هو مثل قوله في مسألة تضمين الصناع من المدونة، خلاف ما ذهب إليه محمد بن المواز، وقد مضى هذا في تكلمنا على رواية ابن كنانة في آخر سماع أشهب. وقوله وإن قال المقر أدناهما هو ثوبه حلف ولم يكن للمقر له غيره، ولا اختلاف في يمينه إن ادعى المقر له أجودهما؛ وأما إن قال لا أدري، فلا يمين عليه عند ابن المواز حسبما ذكرناه عنه؛ ووجه قول أشهب أن الأصل براءة الذمة، ولا يجب الحكم لأحد على أحد بما يشك فيه، فإذا لم يدع المقر له أحد الثوبين لم يحكم له إلا بما لا شك فيه- وهو الأدنى من(14/153)
الثوبين، وفي إيجاب اليمين على المقر له في ادعائه الأجود من الثوبين مع أن المقر لا يكذبه في دعواه، إذ لا يدري أيهما له، من الاختلاف ما ذكرته عن ابن القاسم، وابن المواز، وبالله التوفيق.
[: يأتي إلى رجل يقول هات ثمن جاريتي هذه وقد ولدت منه]
ومن كتاب العرية وقال مالك في الرجل يأتي إلى رجل يقول هات ثمن جاريتي هذه، وقد ولدت منه؛ فيقول لا والله ما اشتريت منك، ولكن زوجتنيها؛ فيقول بل اشتريت مني؛ فقال: إن كان الذي ادعى التزويج ليس مثله ممن يتزوج إلاماء لشرفه وماله، لم يقبل قوله وكان عليه ثمنها؛ وإن كان مثله ممن يتزوج الإماء كان القول قوله، وقيل للذي ادعى بيعها أنت قد زعمت أنك (قد) بعت وقد جحدك ذلك، وقد ثبت لها عتق بشهادتك أنه اشتراها حين ولدت منه، فليس لك أن تأخذها وأنت شاهد في عتقها، وتزعم أنها أم ولد، فتقر في يديه يطؤها ويصنع بها ما شاء؛ لأنها في كلا الوجهين له حلال- إن كانت زوجته، كما يزعم، فهي له حلال، وإن كانت أم ولد- كما يزعم البائع، فهي حلال قلت له(14/154)
فلو لم تلد- وادعاها هذا، قال: يحلف بالله إنه صادق وينفسخ ما ادعى من النكاح، ويأخذ صاحب الجارية جاريته؛ وسئل عنها سحنون فقال: رب الجارية هاهنا مدعى عليه المال، فلزمه إقراره بأنها أم ولد بلا ملك له فيها، وولدها أحرار لاحقون بأبيهم، ولا يثبت له ما ادعى من المال، إلا أن يقيم البينة؛ قيل له فما يكون حال الجارية؟ قال تكون موقوفة حتى تموت وولدها أحرار، فإذا ماتت أخذ رب الجارية الثمن الذي ادعى من تركتها، إن تركت مالا، ويكون ما بقي له من المال، وإلا كان ما بقي موقوفا، قيل: فعلى من تكون نفقتها- إذا أوقفتها؟ قال تكون نفقتها على نفسها. وقال أصبغ مثله، قيل لأصبغ: أرأيت إن مات الذي ادعى أنه تزوج الأمة قبل الأمة، ما حال الأمة؟ قال تكون حرة؛ لأن السيد قد أقر أنها أم ولد لهذا الميت، قيل له فإن ماتت الأمة بعد ذلك وتركت مالا أيكون للسيد في مالها ثمنها؟ قال: لا يكون له في مالها شيء؛ لأنها ماتت وهي حرة، ومالها للورثة الذي أقر السيد أنه باعها منه.
قال محمد بن رشد: قول مالك إن كان الذي ادعى التزويج ليس مثله ممن يتزوج الإماء لشرفه وماله، لم يقبل قوله، وكان عليه ثمنها. معناه أنه يكون القول قول رب الجارية مع يمينه فيما ادعاه من أنه باعها منه بالثمن الذي ادعى أنه باعها به إذا كان الثمن الذي ادعى يشبه أن يباع به؛ لأنه أتى بما يشبه، وأتى الذي ادعى التزويج بما لا يشبه، فوجب أن يكون قول سيد الجارية؛ لأنه أتى بما يشبه على أصولهم في أن القول قول من أتى من المتداعيين بما يشبه، فإن لم يشبه قول رب الجارية فيما ادعاه من الثمن، حلفا جميعا وكان على الذي ادعى التزويج قيمة الجارية، يحلف رب الجارية(14/155)
أنه باعها منه بما ذكره من الثمن، ليحقق عليه الشراء، ويحلف هو أنه تزوجها وما اشتراها ليسقط عن نفسه ادعاء صاحبها من الزيادة على قيمتها، وقد قيل: إنه لا يصدق صاحب الجارية فيما ادعاه، من الثمن وإن أشبه، إذا كان ذلك أكثر من قيمتها، وهو الذي يأتي على قول غير ابن القاسم في كتاب الجعل والإجارة من المدونة، فيحلف على هذا صاحب الجارية أنه باعها منه بالثمن الذي ادعاه، ليحقق عليه الشراء، ويحلف المدعى عليه الشراء أنه ما اشتراها منه، وإنما زوجها إياه ليسقط عن نفسه يمين ما ادعاه من الثمن زائدا على قيمتها، وقوله وإن كان مثله ممن يتزوج الإماء، كان القول قوله، معناه في تكذيب رب الجارية فيما ادعاه من أنه باعها منه، لا في أنه زوجها منه؛ لأنه في ذلك مدع، فلا يصدق فيه، ولا يحلف عليه، وإنما يحلف أنه ما اشتراها منه، وإن زاد في يمينه ولقد زوجها منه، تحقيقا لدعواه عند من سمعه لم تثبت بذلك الزوجية بينهما، ألا ترى أنها إذا لم تلد، يحلف أنه صادق فيما ادعاه من أنه تزوجها وما اشتراها، ويحلف صاحبها لقد باعها منه وما زوجها إياه، فينفسخ النكاح والبيع، ويأخذ صاحب الجارية جاريته. فقول سحنون: إن الجارية إذا ولدت تكون موقوفة حتى تفوت، أظهر عندي من قول مالك إنها تقر بيد الذي ادعى أنه تزوجها، يطؤها ويصنع بها ما شاء؛ لأنها في كلا الوجهين له حلال إن كانت زوجته كما زعم فهي له حلال، وإن كانت أم ولد له كما زعم بالبائع (فهي له حلال) وإنما قلت أنه أظهر؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، وقد أبطل صاحبه دعواه عنه بيمينه، فلم تثبت زوجة ولا أم ولد فوجب أن توقف كما قال سحنون، لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6](14/156)
، وهذه لم تثبت زوجة ولا أم ولد، ولقد رأيت لابن دحون أنه قال: قول سحنون قول ضعيف؛ لأن الأمة لا تخلو عن أن تكون زوجة على ما ادعى الذي هي في يديه، (أو تكون) أم ولد على ما أقر به سيدها الذي كانت له، فهي مباحة لمن هي في يديه على كل حال، فإيقافها ومنعه من وطئها لا معنى له، ألا ترى أن رجلا لو قال كنت أولدت إيمائي كلهن، وتزوجتهن كلهن إلا واحدة وقد بقيت عندي منهن واحدة لا أدري هل هي زوجة أو أم ولد، لم يمنع من وطئها؛ لأنه حلال له على أي وجه كانت، هذا نص قول ابن دحون، وقوله- عندي - هو الضعيف، لا قول سحنون؛ لأن الشراء لم يصح ولا التزويج وقد انفسخا جميعا بيمين كل واحد منهما على تكذيب صاحبه، ولا يصح للحاكم أن يقر الجارية في يد الذي هي في يديه بما ادعاه من تزويجها، إذ لم يثبت ذلك عنده، وقد انفسخ بيمين سيدها: أنه ما زوجه إياها، ولا بما أقر به سيدها من أنه باعها منه، إذ لم يثبت ذلك عنده، وقد بطل بإنكار الذي هي في يده لذلك وحلفه عليه، وإنما يقال له: إن كنت صادقا أنك تزوجتها فوطؤها - لك حلال فيما بينك وبين خالقك، ولا يصلح للحاكم أن يقرها عنده ويبيح له وطأها، لاحتمال أن يكونا جميعا كاذبين (لم يزوجها إياه، ولا باعها منه، والمسألة التي نظر بها ابن دحون، لا تشبهها؛ لأن الذي شك في المرأة، فلم يعلم إن كانت زوجته أو أم ولده، لا يشك في أنها تحل له؛ لأنها إن لم تكن زوجة، فهي أم ولد، وإن لم تكن أم ولد، فهي زوجة؛ والحاكم في مسألتنا يشك: هل تحل له الأمة أم لا، لاحتمال أن يكونا جميعا كاذبين) ، فيما ادعياه كما ذكرناه.(14/157)
وقول سحنون: إن الولد أحرار، مفسر لقول مالك لا خلاف له. وقول سحنون: إن نفقتها على نفسها في حال الإيقاف، صحيح، فإن عجزت قيل لهما: أنفقا عليها، أو أعتقاها، ولا تكون موقوفة بغير مؤونة، وقوله: إنها إن ماتت أخذ رب الجارية الثمن الذي ادعى من تركتها- إن تركت مالا، صحيح (لأن الذي كانت الجارية بيده يقر أن جميع تركتها له، لا حق له فيه، فله أن يأخذ من ذلك ما يدعي أن له قبله، والباقي يكون موقوفا؛ لأن كل واحد منهما يقر أنه لصاحبه، فمن كذب منهما نفسه أولا، ورجع إلى قول صاحبه أخذه، وقول أصبغ أنه إن مات الذي ادعى أنه تزوج الأمة قبل ذلك تكون حرة، صحيح) لأن سيدها أقر أنها أم ولده، وكذلك قوله أنها إن ماتت بعد ذلك لا يكون للسيد في مالها ثمنها، صحيح أيضا؛ لأنها لما ماتت بعد موت الذي ادعى أنه تزوجها، ماتت حرة، ووجب ميراثها للعصبة الذين يرثون الولاء عنه بإقرار سيدها أنها أم ولد له، وهو لا حق له قبلهم، إنما كان حقه على دعواه قبل الميت الذي ادعى أنه باعها منه. وقول أصبغ لأنها ماتت وهي حرة، ومالها لورثة الذي أقر للسيد أنه باعها منه، معناه الذين يرثون الولاء عنه من الرجال، وبالله التوفيق.
[مسألة: كانت الجارية في يديه قال اشتريتها وقال رب الجارية بل زوجتها]
مسألة قلت لسحنون: فلو أن الذي كانت الجارية في يديه قال اشتريتها وقال: رب الجارية بل زوجتها، فقال القول قول رب الجارية، وولدها رقيق، ويلحق نسبهم بالأب: لأن الذي الجارية في يديه قد أقر بها له وادعى الاشتراء، فلا يقبل قوله فيما ادعى،(14/158)
ولا يزيل ملكه منها بعدما أقر له بها إلا ببينة تثبت له. قال أصبغ عن ابن القاسم: يتحالفان ويتفاسخان، ولا تكون زوجة، ولا أم ولد، وترجع الأمة إلى سيدها، فإن المشتري يقر بأنه لا زوجة له، فهو كالمطلق ويدعي أنها أمته، ولا بينة له، فهي راجعة إلي ربها، وأما الولد، فإنه في الوجه الأول حر وتبع للأب ولا قيمة على الأب فيه، وفي الوجه الثاني، الذي قال: زوجتك- رقيق.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة عكس المسألة التي قبلها فلا يقبل قول الذي الجارية في يديه أنه اشتراها؛ لأنه في ذلك مدع على صاحب الجارية، والقول قول رب الجارية أنه ما باعها منه، ولقد زوجها إياه ويكون (له) الولد رقيقا، ويلحق نسبهم بالأب، وينفسخ نكاح الأمة؛ لأنكاره تزويجها مع يمينه على ذلك، فترجع الأمة إلى سيدها ولا يلزمه فيها طلاق، وتكون إن تزوجها عنده على طلاق مبتدأ على ما قاله ابن القاسم في رواية أصبغ عنه من أنهما يتحالفان ويتفاسخان، فلا تكون زوجة ولا أم ولد، إذ ليس قوله بخلاف لقول سحنون. وقوله إنه كالمطلق - يريد أنه لا يصح له المقام عليها؛ لأنكاره نكاحها، ولو كان ما ادعى سيد الجارية من أنه زوجه إياها لا يشبه، لكونه ليس مثله ممن يتزوج الإماء في شرفه وحاله، لوجب أن يكون القول قوله فيما ادعاه من الشراء، ويكون ولده أحرارا على قياس ما قاله مالك في المسألة التي قبلها؛ وقول ابن القاسم: وأما الولد فإنه في الوجه الأول حر وتبع لأبيه، ولا قيمة على أبيه فيه - يريد المسألة الأولى التي ادعى صاحب الجارية أنه باعها منه، وبالله التوفيق.(14/159)
[مسألة: قال رجل لرجل ادفع إلي ثمن جاريتي هذه التي بعت منك]
. مسألة قال سحنون فلو قال رجل لرجل ادفع إلي ثمن جاريتي هذه التي بعت منك، قال الذي في يده الجارية استودعتنيها وما اشتريتها منك فتعديت عليها فوطئتها وأولدتها، فقال أرى رب الجارية مدعيا مالا ومقرا أنها أم ولد، هذا الذي هي في يديه فلا يقبل قوله فيما ادعى من المال إلا ببينة، ولا يصل إلى الجارية؛ لأنه أقر أنها أم ولد الذي هي في يديه، وأراها أم ولد الذي هي في يديه موقوفة، وأولاده منها أحرار؛ لأن رب الجارية قد أقر له بذلك، وتوقف الجارية، ولا يصل الذي هي في يديه إلى وطئها، فإن ماتت وتركت مالا، كان للذي ادعى أنه باعها أن يأخذ الثمن من مالها الذي ادعى قبل الذي في يديه الجارية، قيل: له ولمن يكون ما بقي من مالها؛ فقال يكون موقوفا، فإن ادعى الذي أولدها أنه كان اشتراها، وأنها أم ولده، كان له ما بقي من المال، وإن أقام على إنكاره كان موقوفا أبدا، قيل: فهل يكون على هذا الذي كانت في يديه وأقر أنه وطئها بالعداء الحد؛ قال نعم إن ثبت على إقراره، وفي سماع حسين بن عاصم عن ابن القاسم مثله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة لا اختلاف في شيء من وجوهها، يبينها ما مضى من الكلام على أول مسألة من الرسم. وقوله فيها وأولاده، منها أحرار- يريد ولا يلحق نسبهم به؛ لأنه يحد لإقراره أنهم(14/160)
من زنى. وقوله فيها (أيضا) وأراها أم ولد للذي هي في يديه موقوفة، ليس على ظاهره، إذ لو كانت أم ولده لما وقفت، ولجاز له وطؤها وإنما معناه أنه يكون لها حكم أم ولده في أنها تعتق بموته، ويرثها- إن ماتت بعده - من يرث أولادها عنه من عصبته، وذلك كله بإقرار سيدها له بذلك، وإنما تكون له أم ولد إن رجع إلى تصديق سيدها فيما زعم (من) أنه باعها منه، فإن فعل ذلك (كانت أم ولد له) وحل له وطؤها وغرم الثمن ودرأ عنه الحد، إن كان لم يحد بعد ولحق به الولد، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الدابة فيدعيها رجل في يديه فتوقف له]
مسألة قال عيسى وسئل ابن القاسم عن الرجل، يشتري الدابة فيدعيها رجل في يديه فتوقف له، على من يكون علفها؛ قال علفها على الذي تصير له، قيل فإنها ماتت قبل أن يقضى بها، ممن تكون مصيبتها؛ قال مالك في رجل ادعى دابة في يدي رجل فأقام عليها شاهدين فشهدا عند القاضي وعدلا، فلم يقض بها حتى ماتت، قال: مصيبتها من الذي ادعاها وأقام الشاهدين عليها، ويرجع مشتريها على بائعها بالثمن، قيل لابن القاسم: وكذلك لو أقام شاهدا واحدا وبقي له أن يحلف ثم يقضى له بها، فلم يحلف(14/161)
حتى ماتت، قال يحلف وتكون المصيبة أيضا منه، وإن كانت يمينه بعد موتها، قيل له: فإن كان ادعاها واستحقها وأقام البينة عليها بعد موتها، قال إذا كان إنما أقام البينة بعد موتها فاستحقها، فمصيبتها من الذي ماتت في يديه، ويرجع مستحقها على بائعها بالثمن أو القيمة- إن كانت أكثر من الثمن- إن كان هو غاصبا.
قال محمد بن رشد: قوله في نفقة الدابة الموقوفة في الاستحقاق، إنها على الذي تصير إليه هو مثل ما في المدونة، ومثل ما في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، ولم يتكلم على من ينفق عليها في خلال التوقيف، والظاهر من قول مالك أن المدعى عليه ينفق في حال التوقيف، فإن قضى بها له، رجع عليه بالنفقة، وقد قيل أنهما ينفقان جميعا عليها، فمن قضي له بها منهما، رجع عليه صاحبه بنصف النفقة، وهو قول ابن القاسم في رسم إن خرجت بعد هذا من سماع عيسى، وفي المجموعة، وقوله في مصيبتها إن ماتت في حال التوقيف بعد إقامة البينة عليها، وقبل أن يقضى له بها أنها من الذي ادعاها، وأقام البينة عليها، ويرجع مشتريها على بائعها بالثمن، خلاف ما في المدونة من أن مصيبتها من الذي هي في يديه حتى يقضى بها للطالب، وقول مالك في هذه الرواية إن المصيبة من الذي أقام البينة عليها، أجري على القياس، وهو أن تكون من الذي عليه النفقة لأن القياس أن تكون النفقة والغلة تابعتين للضمان، وكذلك التوقيف أيضا هو تابع للضمان؛ وقد اختلف في الحد الذي يدخل به الشيء المستحق في ضمان المستحق، وتكون الغلة له، ويجب التوقيف به على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا يدخل في ضمانه ولا تجب له الغلة حتى يقضى له به، وهو قول ابن القاسم في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا، والذي يأتي على قول مالك في المدونة إن الغلة للذي هي في يديه حتى(14/162)
يقضى بها للطالب، وعلى قول سحنون في نوازله من كتاب الغصب إن المصيبة من المشتري حتى يحكم به للمدعي، وعلى هذا القول لا يجب توقيف الأصل المستحق توقيفا يحال بينه وبينه، ولا توقيف غلته؛ وهو قول ابن القاسم في المدونة: إن الرباع التي لا تحول ولا تزول ولا توقف، مثل ما يحول ويزول وإنما يوقف وقفا يمنع من الإحداث فيها، والثاني: أنه يدخل في ضمانه وتكون الغلة له ويجب التوقيف وقفا يحال بينه وبينه إذا ثبت ذلك بشهادة شاهدين، أو شاهد وامرأتين، وهو قول مالك في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، وهو ظاهر قوله في موطئه إذ قال فيه: إن الغلة للمبتاع إلى يوم يثبت الحق، وقول غير ابن القاسم في المدونة، إذ قال فيها: إن التوقيف يجب إذا ثبت المدعي حقه وكلف المدعى عليه المدفع. والقول الثالث: أنه يدخل في ضمانه وتجب له الغلة والتوقيف بشهادة شاهد واحد وهو قول ابن القاسم في هذه الرواية أنه يحلف مع شهادة شاهده وتكون المصيبة منه. إن كانت يمينه بعد موتها، فإن قيل: كيف يحلف وتكون المصيبة منه، ويستحق المستحق منه بيمينه- الرجوع على بائعه بالثمن، قيل: إنما يحلف؛ لأنه إن نكل عن اليمين على هذه الرواية يحلف المستحق منه الذي مات العبد عنده أنه لا حق للقائم فيه، ولقد ادعى باطلا، فيرجع عليه بقيمته؛ لأنه أحق عليه بيمينه العداء في توقيفه عليه بغير حق، ويؤيد هذا ما وقع في رسم حمل صبيا من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وقد مضى الكلام عليه هناك، ويؤيده أيضا قول أشهب في نوازل سحنون من كتاب الرهون، فليست يمين المستحق على هذه الرواية ليستحق غيره وهو المستحق منه الرجوع على بائعه بالثمن، وإنما هي لينفي عن نفسه العداء في التوقيف الذي يدعيه (عليه) المستحق منه، فإن نكل عن اليمين حلف هو(14/163)
وأغرمه القيمة، فما وقع في أحكام ابن زياد من أن التوقيف يجب في الدار بالقفل، وتوقيف الغلة بشهادة الشاهد الواحد، يأتي هذا القول الثالث، وكذلك النفقة أيضا القياس فيها أن تجري على هذا الاختلاف؛ فعلى القول الأول لا يجب للمقضي عليه الرجوع بشيء من النفقة على المقضي له؛ لأنه إنما أنفق على ما ضمانه منه، وغلته له، وعلى القول الثاني: يجب له الرجوع عليه بما أنفق بعد ثبوت الحق بشهادة شاهدين، أو شاهد وامرأتين، لوجوب الضمان عليه، وكون الغلة له من حينئذ، وعلى القول الثالث: يجب له الرجوع عليه بما أنفق منذ وقف بشهادة الشاهد الواحد، لوجوب الضمان عليه، وكون الغلة له من حينئذ، وقد فرق في رسم حمل صبيا من سماع عيسى بعد هذا بين النفقة والضمان والغلة، فقال إن النفقة ممن تصير إليه، والغلة للذي هي في يديه؛ لأن الضمان منه، وساوى بين ذلك عيسى بن دينار من رأيه، وهو القياس وكذلك ظاهر ما في المدونة أنه فرق بين النفقة والغلة، والصواب ألا يفرق بينهما في أن يكونا جميعا تابعين للضمان، إما من يوم وجوب التوقيف بشهادة شاهد واحد، وإما من يوم وجوبه بشهادة شاهدين، وإما من يوم القضاء والحكم، وبالله التوفيق.
[: يقر لرجلين بعبد يقول هو لكما غصبتكماه]
ومن كتاب أوله يوصي لمكاتبه قال: وسألت ابن القاسم عن الرجل يقر لرجلين بعبد يقول: هو لكما غصبتكماه أو غير غصب يقر لهما جميعا، فيدعيه كل واحد منهما خالصا دون صاحبه، فيقول هو لي خالص وأدخلت علي في عبدي من ليس له فيه شيء، وكلاهما يقول ذلك ولا بينة لواحد(14/164)
منهما، قال: يقال له: احلف أنك لا تعرفه لواحد منهما خالصا، فإن حلف برئ ولم يكن لهما عليه شيء، وصار الأمر بين هذين؛ ولأن كل واحد منهما يدعيه لنفسه خالصا، فيقال لكل واحد منهما: احلف أنه لك خالص، فإن حلفا جميعا على ذلك، كان العبد بينهما نصفين وإن نكل المقر الأول عن اليمين أنه ما يعرفه لأحدهما خالصا دون صاحبه، قيل لهذين اللذين ادعياه: يحلف كل واحد منكما لصاحبه أنه له خالص دون صاحبه، فإن حلفا كان على المقر الأول أن يغرم لهما قيمة العبد إذا نكل عن اليمين أنه لا يعرفه لواحد منهما دون صاحبه، فإذا غرم القيمة، كانت القيمة والعبد بينهما نصفين، وإن نكلا عن اليمن جميعا مع نكول المقر لهما لم يكن لهما إلا العبد بينهما وإن حلف أحدهما بعد نكول المقر ونكل صاحبه عن اليمين، كان العبد خالصا للذي حلف، ولم يكن على المقر الأول لهذا الذي نكل عن اليمين شيء؛ لأنه يقول: أقررت لك بشيء وقد جاء من استحقه من يديك بما هو أثبت من إقراري لك؛ قلت فإن أتى رجل لم يقر له بعد به، فادعاه والمسألة كما هي؛ قال: إن كان خليطا للمقر، حلف أنه ليس له، فإن حلف برئ. وإن نكل، قيل للمدعي: احلف، فإن حلف غرم له قيمة العبد، فإن لم يحلف فلا شيء له، وإن لم يكن خليطا، فلا يمين له عليه ولا شيء. قلت: وكيف أحلف للمقر لهما(14/165)
بعضهما لبعض- وهما ليسا خليطين، قال: وأي خلطة أبين من أن يكونا شريكين في العبد يدعيه. كل واحد منهما. قلت: وكذلك الدنانير والدراهم إذا أقر لرجلين بمائة دينار، فادعاها كل واحد منهما خالصة دون صاحبه، قال العمل على ما وصفت لك بينهما في العبد، قلت فلو كان المقر لهما بالعبد، ادعاه أحدهما خالصا دون صاحبه، وقال الآخر لا أدري إنما أقر لي بشيء فقبلته، ما أدري أهو لي أم لا؛ فقال: يقال له: احلف أنك ما تدري في الذي أقر لك به هذا أهو لك أم لا؛ فإن حلف، كان نصف العبد له، وقيل للمقر احلف أنك ما تعرفه لهذا الذي ادعاه خالصا فإن حلف برئ وكان العبد بينهما نصفين، وإن نكل، قيل لمدعيه خالصا احلف أنه لك خالصا. فإن حلف كان العبد بينه وبين الذي حلف، أنه ما يدري الذي أقر له أنه حق أم باطل، وكان على المقر أن يغرم لهذا نصف قيمة العبد، ولو نكل الذي قال لا أعرف ما أقر لي به هذا عن اليمين، حلف مدعيه وكان له العبد خالصا، ولم يكن على المقر يمين ولا قليل ولا كثير.
قال محمد بن رشد: إنما قال: إن المقر بالعبد لرجلين إذا ادعى كل واحد منهما أن العبد له خالص، يحلف المقر على العلم أنه ما يعرفه لأحدهما خالصا؛ لأن كل واحد منهما يدعي عليه أنه علم أن العبد له خالصا، فأقر بنصفه لصاحبه، وفوته بذلك عليه، فإن حلف أنه ما يعرفه لأحدهما خالصا، برئ وكانت الدعوى بينهما فيه، فإن حلفا جميعا أو نكلا(14/166)
جميعا، كان العبد بينهما؛ وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، كان العبد للحالف منهما، وأما إن نكل المقر عن اليمين فقال في الرواية: إن المقر لهما يحلف كل واحد منهما أنه له خالص دون صاحبه، فإن حلفا على ذلك غرم المقر قيمة العبد، فكانت هي والعبد بينهما، والصواب أن يحلف كل واحد منهما أنه له خالص دون صاحبه، وأن المقر عالم بذلك؛ لأن الضمان لا يجب على المقر لكل واحد منهما، إلا بأن يعلم بأن العبد له خالصا فيقر به لهما جميعا، فلا يلزمه عزم قيمة العبد لهما بنكوله عن ذلك حتى يحلف المقر لهما على حكم المدعي والمدعى عليه في رجوع اليمين على المدعي إذا نكل عنها المدعى عليه، وقال: إنه إذا أتى رجل لم يقر له بعد به فادعاه، والمسألة على حالها- إن المقر يحلف أن كل خليط له- أنه ليس له، ظاهره أنه على البتات، والصواب أن يحلف على العلم- كما يحلف للمقر لهما، فيقول: بالله ما نعلمه له، فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين حلف المدعى أنه له، وإن المقر علم بذلك؛ وحينئذ يغرم له قيمة العبد على ما بيناه، وهذا الذي ذكرناه كاف في بيان ما بقي من المسألة وقد قيل: إنه لا يمين على المقر بحال، وهو الذي يأتي على قول سحنون في نوازله من كتاب الاستلحاق في الذي يقر لثلاثة رجال فيقول هذا أخي، بل هذا أخي، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر للرجل بالعبد ثم يقر به لرجل آخر]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يقر للرجل بالعبد ثم يقر به لرجل آخر، قال يكون العبد للذي أقر له به أولا، ويكون عليه للآخر قيمة العبد. قلت: ولا يكون عليهما يمين؛ قال: نعم.(14/167)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة صحيح على قياس قوله في المسألة التي قبلها، فكل واحدة منهما مبينة لصاحبتها. وقوله: قال نعم، معناه لا يكون عليهما يمين؛ وذكر ابن أبي زيد في النوادر هذه المسألة فوصل بقوله: ولا يكون عليهما يمين، قال عيسى، لا أن يدعيه الثاني، فإن ادعاه فله اليمين على المقر له به أولا، فإن حلف فالعبد له وكان للثاني على المقر قيمته، وإن نكل المقر له أولا من اليمين، حلف المقر له آخرا وكان العبد له، ولم يكن على المقر شيء؛ وقول عيسى بن دينار تفسير لقول ابن القاسم، ويأتي على ما لسحنون في نوازله من كتاب الإستلحاق أنه لا شيء على المقر للثاني؛ لأنه إنما أقر له بما قد استحقه الأول بإقراره له به أولا، وبالله التوفيق.
[مسألة: يأتيه رجلان فيقول هذه الوديعة والله لا أدري من دفعها إلي منكما]
مسألة وسئل عن الرجل تكون عنده وديعة مائة دينار، فيأتيه رجلان فيقول هذه الوديعة والله لا أدري من دفعها إلي منكما وتداعيانها جميعا، كل واحد منهما خالصا لنفسه، قال تقسم بينهما بعد أن يحلف كل واحد منهما أنها له، فإن حلف واحد ونكل الآخر، كانت للذي حلف ولم يكن للذي نكل قليل ولا كثير؛ قال: ولو كان قال في مائة دينار عليه دين: والله ما أدري أهي لفلان أو لفلان، فادعاها كلا الرجلين، حلفا وكان عليه لهما غرم مائتي دينار- مائة، مائة، وهو مخالف للوديعة؛ لأن الوديعة في أمانته، والدين في ذمته.(14/168)
قال محمد بن رشد: قد قيل: إنه يلزمه في الوديعة أن يدفع مائة دينار لكل واحد منهما، وهو الذي يأتي على ما لابن القاسم في رسم القطعان من سماع عيسى من كتاب القراض؛ وقد قيل أيضا: إنه لا يلزمه في الدين إلا مائة واحدة تكون بينهما- إن حلفا أو نكلا، وهو الذي يأتي على أحد التأويلين في مسألة رسم البيوع من سماع أصبغ بعد هذا، وقد مضى ذكر ذلك في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، لتكرار المسألة هناك، فيتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال قولان في كل مسألة، وهذه التفرقة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يشتري الدابة فتستحق في يديه]
مسألة وسئل عن الرجل يشتري الدابة فتستحق في يديه، فيريد أن يطلب بها الثمن الذي اشتراها به، فيضع قيمتها فيخرج بها فيضيع الثمن وتهلك الدابة، قال: مصيبة الدابة من الذي خرج بها، ومصيبة الدنانير من الذي وضعت له الدنانير- وهو مستحق الدابة؛ قلت: فلو كان خرج بها فضاعت الدنانير وجاء بالدابة قد نقصت، قال يأخذ صاحب الدابة دابته وتكون مصيبة القيمة من الذي خرج بالدابة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا أعرف فيها نص خلاف، وهي على قياس ما في المدونة في ثمن الجارية المبيعة على المواضعة إذا وضع على يدي عدل فتلف، أن مصيبته ممن كان يصير إليه، فالخلاف الذي في ثمن الجارية الموضوع بيد عدل يدخل في هذه، فعلى القول بأنه من المبتاع إذا تلف، وإن خرجت الجارية سليمة من المواضعة ويلزمه ثمن آخر(14/169)
تكون مصيبة القيمة الموقوفة للمستحق إن تلفت من الذي وضعها على كل حال، ويلزمه قيمة أخرى إن تلفت الدابة قبل أن يردها إلى المستحق: ويتخرج في المسألة قول ثالث: أنه إن تلفت القيمة قبل أن تتلف الدابة، كانت مصيبتها من الذي وضعها، ويغرم للمستحق قيمة أخرى، وإن تلفت الدابة قبل، كانت مصيبة القيمة من الذي وضعت له، وهو مستحق الدابة، ومصيبة الدابة من الذي ذهب بها ووضع القيمة فيها، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقول للرجل المائة الدينار التي استودعتك]
مسألة وسئل عن الرجل يقول للرجل المائة الدينار التي استودعتك، فيقول له: ما استودعتنيها ولكن أعطيتنيها قراضا، وهذه مائة دينار ربحت فيها فلك منها خمسون، فيأبى أن يأخذ الخمسين، قال: إن أبى أن يأخذ الخمسين حبسها واستأنس سنين، لعله أن يأخذها، وإن أبى أن يأخذها تصدق بها، قيل له فإن مات فأحب ورثته أن يأخذوها؛ قال يأخذونها إن شاءوا- إذا أحب المقر أن يدفعها إليهم. قلت ولا يقضى عليه بدفعها إلى ورثته؛ قال لا يقضى عليه بدفعها إليهم.(14/170)
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها ثلاثة أقوال أحدها: أنه ليس له أن يأخذ الخمسين التي أقر له بها- إلا أن يكذب نفسه ويرجع إلى تصديقه، وهو الذي يأتي على ما لابن القاسم في كتاب الرهون من المدونة، وما لأشهب في كتاب إرخاء الستور منها، وهو أحد قولي سحنون، والثاني: أنه ليس له أن يأخذ الخمسين وإن رجع إلى تصديقه وكذب نفسه، إلا أن يشاء أن يدفعها إليه باختياره، وهو ظاهر قول ابن القاسم ههنا فيه وفي ورثته إن مات ونص ما في سماع لم يدرك من سماع عيسى من كتاب النكاح. والثالث: أن له أن يأخذها وإن كان مقيما على الإنكار، وهو قول سحنون في نوازله من كتاب الاستحقاق، وإنما يكون له على القول بأن يأخذها إن كذب نفسه ورجع إلى تصديق صاحبه، ما لم يسبقه صاحبه بالرجوع إلى قوله وتكذيب نفسه؛ فتحصيل هذا القول أن من سبق منهما بالرجوع إلى قول صاحبه، كانت له الخمسون دون يمين، وبالله التوفيق.
[: يقول عند الموت لفلان عندي عشرة دنانير ولي عليه خمسة]
ومن كتاب بع ولا نقصان عليه وعن الرجل يقول عند الموت: لفلان عندي عشرة دنانير ولي عليه خمسة، فأنكر الذي أقر له بالعشرة أن تكون عليه خمسة. قال يأخذ العشرة وعلى الورثة البينة في الخمسة أنها عليه، قيل: فلو قال: لفلان عشرة دنانير من مالي وصية، ولي عليه خمسة. فأنكره، قال لا يكون له إلا الخمسة؛ لأنه لم يوص له إلا(14/171)
بخمسة حين قال لي عليه خمسة، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، والفرق بين المسألتين بيّن؛ لأنه في المسألة الأولى مقر على نفسه له بعشرة، ومدع عليه بخمسة، فلزمه إقراره على نفسه بالعشرة ولم يصدق في الخمسة التي ادعاها إلا أن يقيم الورثة عليها، وفي المسألة الثانية: لم يوص له إلا بخمسة حين ذكر أن له عليه خمسة- كما قال مالك، وبالله التوفيق.
[: مات موال لجده فجاء يطلب ميراثهم]
ومن كتاب أوله سلف
دينارا في ثوب وقال في رجل، مات موال لجده، فجاء يطلب ميراثهم أو للجد مال فجاء يطلبه، فشهد شاهدان عدلان أن هذا الرجل أقعد الناس بفلان اليوم، وقد مات الموالي منذ سنين، قال لا ينتفع، حتى يشهدوا أنه أقعد الناس به يوم مات الموالي. قلت له فإن يعرف أحد غيره، قال لا يعجل في ذلك ويسأل وينظر ويكتب في ذلك إلى ذلك الموضع، ولا يعجل في ذلك حتى يؤيس من ذلك، ولا يأتي أحد يطلب ذلك، ثم يقضى له ويؤخذ عليه حميل، ثم ضعف أمر الحميل إن أبى أن يدفعه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال في موالي الجد؛ لأن العبد المعتق لا يرثه بالولاء إلا أقرب الناس بمولاه الذي أعتقه يوم مات الموالي، لا يوم ممات الذي أعتقه ولا يوم يطلب ميراثه؛ فإذا شهد الشهود لرجل أنه أقرب، بمولاه الذي أعتقه اليوم، لم تكن الشهادة عاملة؛ لأنهم لا يدرون لعل كان أقعد بالجد يوم مات الموالي، فيكون ميراثهم لورثته، فوجب أن يثبت في ذلك ولا يعجل به كما قال؛ فإن لم يأت له طالب سواه، قضي له(14/172)
به بحميل، ثم ضعف أمر الحميل؛ وفي ذلك عندي تفصيل، أما إن قال الشهود الذين شهدوا لهذا الرجل: إنه أقعد الناس به اليوم يعرف غيره أقعد منه قد مات، إلا أنا لا ندري هل مات قبل الموالي أو بعدهم، فأخذ الحميل منه ظاهر؛ وأما إن قالوا: لا نعرف هل كان له غيره يوم مات الموالي أم لا؟ فأخذ الحميل منه ضعيف، وأما المال الذي طرأ للجد، فلا يأخذه ورثته حتى يثبتوا ميراثهم منه يوم مات، وبالله التوفيق.
[: كان له على رجل حق منذ عشر سنين فقام به عليه اليوم]
من كتاب إن خرجت من هذه الدار وسئل عن رجل كان له على رجل حق منذ عشر سنين فقام به عليه اليوم فزعم الذي عليه الحق أن قد قضاه، فيأتي بالبينة أنه قد قضاه منذ تسع سنين أو نحوها، ويأتي صاحب الحق بالبينة أنه أقر له به منذ سنتين فأي الشهادتين يؤخذ؟ قال يؤخذ بأحدثهما، وهي الشهادة على الإقرار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: أن الذي يوجبه الحكم إنما هو أن يؤخذ بالشهادة على الإقرار؛ لأنه لما أقر له بالحق بعد أن أقام البينة على القضاء، حمل على أن القضاء إنما كان من حق له آخر قبله، كما لو أقر أنه قد كان له قبله حق آخر فقضاه، فادعى صاحب الحق أن(14/173)
القضاء إنما كان من ذلك الحق القديم، لكان القول قوله؛ ولو كان لما أقام البينة على القضاء، ادعى صاحب الحق أنه إنما قضاه حقا آخر كان له قبله، وأنكر المطلوب أن يكون له حق قبله سوى هذا الذي قضاه، لكان القول قول المطلوب باتفاق، وإن لم يكن بينهما مخالطة قديمة؛ واختلف إن كانت بينهما مخالطة، فقيل: القول قول الطالب، وقيل: القول قول المطلوب على ما يأتي في رسم الأقضية من سماع يحيى بعد هذا من هذا الكتاب، ولسحنون في نوازله من كتاب المديان والتفليس قول ثالث في هذه المسألة، وقد مضى تحصيل القول في هذا في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، وبالله التوفيق.
[مسألة: عبد ادعاه رجلان فوضع على يدي عدل]
مسألة وسئل عن عبد ادعاه رجلان فوضع على يدي عدل، على من نفقته؛ قال ممن يصير له. قلت فنفقته بين ذلك على من تكون؛ قال منهما جميعا.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول عليها مستوفى في آخر رسم العرية من سماع عيسى قبل هذا، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: كانت لها جارية فولدت غلامين فاشترى أحدهما رجل فأعتقه]
مسألة وسئل عن امرأة كانت لها جارية فولدت غلامين، فاشترى أحدهما رجل فأعتقه وتركه عند أمه، فمات أحدهما وادعى(14/174)
المشتري أن الباقي منهما هو الذي اشترى، وزعمت المرأة أن الهالك هو الذي اشترى، القول قول من؟ قال: القول قول المرأة مع يمينها.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن المشتري مدع على المرأة في شراء هذا الباقي من الغلامين. وهي تنكر أن تكون باعته، فالقول قولها على ما أحكمته السنة من أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر؛ ولو اختلطا ولم يعرف واحد منهما أيهما هو الذي اشترى وأعتق، لوجب أن يعتقا جميعا، إذ لا يصح للمرأة أن تسترق أحدهما بالشك، ولو ادعى المشتري الباقي منهما وقالت: المرأة لا أدري، لكان القول قوله؛ قيل: بيمين وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: بغير يمين وهو قول ابن المواز - على ما مضى من اختلافهما في تكلمنا على مسألة رسم نقدها من سماع عيسى، وكذلك لو ادعت المرأة الباقي منهما، وقال المشتري: لا أدري، لكان القول قولها؛ قيل: بيمين، وقيل: بغير يمين، وبالله التوفيق.
[: يستسلف من الرجل المال أو يبتاع منه سلعة إلى أجل]
ومن كتاب أسلم وسئل ابن القاسم عن الرجل يستسلف من الرجل المال، أو يبتاع منه سلعة إلى أجل، فيقوم عليه صاحبه فيجحد ويقول: ما بعتني أو ما أسلفتني شيئا، أو يقول: ما لك علي شيء، فتقوم البينة في كلا الوجهين جميعا، ثم يأتي بالبراءة من ذلك ويزعم أنه قد قضاه ذلك، قال (أما إذا قال) لم تسلفني شيئا، أو لم تبعني(14/175)
شيئا، لم تنفعه براءته ولا شهوده على البراءة؛ لأنه قد جحد وأنكر أن يكون باعه شيئا، أو أسلفه شيئا؛ فقد كذب شهوده ولا تنفعه براءته؛ وأما الذي قال: ليس لك علي شيء، ثم قامت البينة عليه أنه أسلفه أو باع منه، ثم جاء ببراءته من ذلك بامرأتين وشهود، فإن براءته تسقط ذلك الحق عنه، وليس هو الأول؛ لأن هذا إنما قال: ليس لك علي شيء وكان صادقا أنه لم، يكن عليه شيء؛ لأنه قد كان قضاه، وأما الأول فقد أكذب من شهد على البراءة حين قال لم يسلفني أو لم يبعني شيئا فهذان وجهان بينان- إن شاء الله. وروى سحنون عن ابن القاسم الذي يشهد عليه بدين من سلف أو شراء، فينكر ويقول: ما لك علي دين من وجه من الوجوه، لا من شراء ولا من سلف؛ ثم يقيم أنه قد قضاه الدين الذي شهد عليه به، قال: أراه قد جرح شهوده، وأرى الحق لازما له، وأما أن يقول ما لك عندي شيء مثل ما يقول إذا أقام بينة- إني إنما جحدتك من قبل أني كنت قد قضيتك، فإن بينته تقبل ويدفع عنه الحق.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن البينة تقبل منه بعد الإنكار، وقيل: تقبل منه في الأصول، ولا تقبل في الحقوق- وهو قول ابن كنانة، وابن(14/176)
القاسم في المدنية، قالا: ولو أن رجلا ادعى أرضا في يد رجل فقال ما لك عندي أرض ولا علمت لك أرضا قط، فأقام البينة بأنها أرضه وأثبتها ثم أقر الذي هي في يديه فقال: نعم هي والله أرضك ولكني قد اشتريتها منك، وأقام على ذلك بينة، فإن اشتراءه بذلك يقبل منه، وتكون له الأرض، ولا يضره إنكاره أولا؛ لأنه يقول: كان والله حوزي ينفعني؛ اصنع بالأرض ما شئت، فأبيت أن أقر أنها له، فيكون علي العمل؛ فكرهت أن أعنت في ذلك، فإذ قد احتجت إلى شرائي بعد أن أثبتها، فهذا شرائي، قال فذلك له، وليس مثل الذي ادعى عليه الحق فجحده، وأدخل ذلك ابن أبي زيد في النوادر من المجموعة، قال: وسواء أقام بينة بشراء من المدعي، أو من أبيه؛ لأنه يقول: رجوت أن حيازتي تكفيني، وليس ذلك مثل الدين؛ وقيل (إن ذلك لا يقبل منه إلا في اللعان إذا ادعى رؤيته بعد إنكاره القذف وأراد أن يلاعن، وكذلك ما أشبه اللعان من الحدود، وهو قول محمد بن المواز. وقيل: إن ذلك لا يقبل منه في اللعان، وهو قول غير ابن القاسم في المدونة أنه يحد ولا يلاعن؛ فيتحصل في المسألة أربعة أقوال، أحدها: أن ذلك لا يقبل منه ما أتى به بعد الجحود في شيء من الأشياء، وهو قول غير ابن القاسم هذا في اللعان؛ لأنه إذا لم يقبل ذلك منه في اللعان فأحرى أن لا يقبله فيما سواه من الديون والأصول، والثاني: أنه يقبل منه ما أتى به بعد الجحود في جميع الأشياء، والثالث: ما ذهب إليه ابن المواز من الفرق بين(14/177)
الحدود وما سواها من الأشياء، والرابع: أنه يقبل منه ما أتى به في الأصول والحدود، ولا يقبل منه ذلك في الحقوق من الديون وشبهها، وهو الذي يأتي على ما في المدنية لابن كنانة، وابن القاسم؛ لأنه إذا قبل منه ما أتى بعد الجحود في الأصول فأحرى أن يقبل منه ذلك في الحدود ومن هذا المعنى من ادعى عليه أنه أودع وديعة أو ائتمن أمانة، فأنكر، فلما قامت عليه البينة، ادعى الضياع أو الرد، قيل: إنه يصدق، وقيل: إنه لا يصدق، وقيل: إنه يصدق في دعوى الضياع، ولا يصدق في دعوى الرد، والأقوال الثلاثة مجموعة في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب القراض؛ والمسألة متكررة في مواضع، من ذلك ما وقع في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الشركة، ومن هذا الأصل والمعنى من ملك امرأته بكلام يقتضي التمليك، فقضت بالثلاثة، فأنكر أن يكون أراد بذلك الطلاق، ثم قال: أردت واحدة، فقيل: إنه لا يصدق أنه أراد واحدة بعد أن زعم أنه لم يرد بذلك الطلاق، وقيلك يصدق في ذلك مع يمينه، والقولان في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب التخيير والتمليك، وفي قول سحنون: أن البينة لا تقبل منه في البراءة إذا كان قد قال أولا ما لك علي دين من وجه من الوجوه؛ لا من شراء ولا من سلف- نظر؛ لأن من حجته أن يقول: صدقت ما كان لك علي دين من شراء ولا سلف؛ لأني قد كنت قضيتك حقك، وأنها لا تكون له حجة إذا قال: ما أسلفتني شيئا، ولا بعتني شيئا، وبالله التوفيق.(14/178)
[: مات وترك امرأة وفي البيت غزل يعرف]
ومن كتاب الثمرة قال ابن القاسم في رجل مات وترك امرأة وفي البيت غزل يعرف: أن الكتان للرجل، قال ابن القاسم: إن عرف أن الكتان للرجل، وأن المرأة غزلته، أحلفت المرأة بالله ما غزلته له فإن حلفت أقيم غزلها وأقيم الكتان فكان الغزل بينهما- على قدر ذلك؛ وإن كان لا يعرف الكتان للرجل فالغزل للمرأة. وسئل سحنون عن المرأة تنسج الثوب فيدعيه زوجها لنفسه يقول إن الكتان لي، وتزعم المرأة أن الكتان لها ومن كتانها غزلته، فقال ابن القاسم: هي أولى بما في يديها مع يمينها، ولا حق للزوج في ذلك، إلا أن يكون له بينة، أو تقر له بأن الكتان كان له، فيكونان شريكين في الثوب بقدر ما لكل واحد منهما؛ وكذلك أمرهما فيه بعد موت زوجها أنها مصدقة فيما بيديها مع يمينها، وقال سحنون وكذلك قال لي ابن نافع أن تكون أولى بما في يديها مع يمينها من زوجها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة حسنة لا إشكال في أنه إذا عرف أن الكتان للرجل، وأن المرأة غزلته، أن يكون بينهما على قدر ما لكل واحد منهما فيه، وإذا لم يعرف أن الكتان له وعرف أنها هي التي غزلته، فالقول قولها أن الكتان لها، وكذلك إذا عرف أنها هي التي نسجت الثوب أو أقر لها بذلك الزوج؛ ولو ادعت هي أنها غزلت الغزل أو نسجت الثوب وأنكر ذلك الزوج فادعى أنه هو استأجر على غزل الغزل أو على نسج الثوب؛(14/179)
لكان القول قولها في ذلك مع يمينها إذا أشبه قولها على ظاهر قول ابن القاسم في هذه الرواية أنها مصدقة فيما في يديها مع يمينها، ومثله قول ابن نافع، وبالله التوفيق.
[: يدعي في الماشية الغنم قبل الرجل فيوقفها القاضي حتى ينافذه]
ومن كتاب حمل صبيا وقال في رجل يدعي في الماشية الغنم قبل الرجل، فيوقفها القاضي حتى ينافذه؛ على من رعيتها؛ قال: رعيتها ممن تصير إليه قلت: فغلتها ما دام قال: غلتها للذي هي في يديه؛ لأن ضمانها منه، قال عيسى: الرعي على من له الغلة.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في آخر رسم العرية من هذا السماع قبل هذا، وتكررت المسألة في غير ما موضع من هذا الكتاب ومن غيره، والكلام عليها في كل موضع منها، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يساكنه الرجل في داره المعروفة أو القرية أختانه أو مواليه]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يساكنه الرجل في داره المعروفة أو القرية- أختانه أو مواليه، أو يسكنون دورا له أو قرية أزمانا فعايشهم طول ذلك الزمان- وتلك الدور في أيديهم(14/180)
والقرى- حتى مات فأرادوا أن يستحقوا ذلك بتقادمه في أيديهم، وقالوا: ليس علينا أن نسأل عما تقادم في أيدينا كيف وهو في أيدينا؛ أو ماتوا هم؛ فقال ورثتهم: لا علم لنا كيف كان الحق في أيدي آبائنا؛ أو مات صاحب أصل الحق والذين أسكنوا أيضا فتداعى فيها ورثة الذين لهم الأصل، وورثة الذين أسكنوا؛ قال ابن القاسم: أرى ذلك للذين كانت في أيديهم وحازوا، لا تخرج من أيديهم إلا ببينة تقوم لورثة الذي له أصل الحق بسكنى أو عمرى أو عارية، وإلا فهي للذين هي في أيديهم، ولم ندرك أحدا من علمائنا من أهل المدينة، ولا سمعنا به عمن مضى، ولا من قضاتهم، إلا والحيازات أوثق ما في أيدي الناس لتقادم الزمان وذهاب الشهود، وثم دور وأرضون تعرف من أولها، وقد تداولتها أيد حتى لقد قال لنا مالك: هذه الدار التي أنا فيها، لعبد الله بن مسعود، وقد تناسخت لقوم بعده، أفيسأل هؤلاء البينة؟ فالحوز على الحاضر الذي لا شك فيه القول لهم، ولا يخرج من أيديهم إلا ببينة تقوم لورثة صاحب الأصل، على ما ذكرت من سكنى أو عارية أو من مرفق، وإلا فأهل الحوز أولى، هذا الذي سمعت ممن أدركنا والقضاء بالمدينة ورأى العلماء ورأينا، إلا أن يكون عندهم أمر قد جروا عليه وعرفوه، فإن كان لذلك أمر مشهور معروف بالبلد، عليه جروا وأمر فاش، فأهل الأصل أولى(14/181)
بأصلهم، إلا أن تقوم لمن هي في أيديهم بينة على أمر يستحقونه، أو سماع على بيع؛ لأن مالكا قال لي في الغائب: تحاز عليه أرضه فيقدم فيجدها في يد الذي حازها، فيقيم البينة أنها أرضه أو أرض أبيه أو دار أبيه، فإذا أقام على ذلك البينة، سئل الذي هي في يديه البينة على سماع من شراء، فإن أتى ببينة من سماع أو شراء، كان الذي في يديه، أولى من الغائب، وإن لم يأت بذلك، فالغائب أولى، إلا أن من رأى مالك وغير واحد ممن مضى، أن الأقارب بنو الأب لا حوز بينهم فيما ورثوا من أبيهم فيما يسكنون ويزرعون ويتوسعون، وأنهم على مواريثهم، إلا أن يأتوا ببينة على أمر يثبت لهم حوزهم من شراء أو مقاسمة أو أمر يستحقونه به، أو سماع بذلك لتقادم الزمان؛ فإن أتوا بذلك، كانت حيازتهم لهم حيازة، وإلا فلا حوز بينهم، وهذا الذي سمعت من أهل العلم، وممن مضى ممن أرضى، فقد فسرت لك وجه الحيازة عندنا ورأيي فيما قبلكم، "ولا توفيق إلا بالله".
قال محمد بن رشد: حكم في هذه الرواية للموالي والأختان بحكم الأجنبي في الحيازة، أو مثله في رسم شهد من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، خلاف ما في رسم الكبش من سماع يحيى منه من أن الأختان والموالي في الحيازة بمنزلة القرابة، وهذه المسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم يسلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق، فمن أحب الوقوف من الحيازات على الشفاء تأمله هناك، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(14/182)
[: يقال له أتبيع جاريتك فيقول هي لامرأتي]
ومن كتاب العشور وسئل عن الرجل يقال له: أتبيع جاريتك؟ فيقول هي لامرأتي، ثم هلك فادعتها امرأته واحتجت بقوله، وكيف إن طلبت ذلك في حياته أو بعد موته؛ فقال: لم أرد بقولي ذلك إلا الانتفاء منها، وكيف إن قال ذلك لغير امرأته؛ هل تراه يثبت له الخادم إذا نسبها إليها إن طلبت ذلك في حياته، أو بعد موته؛ وهل الولد بتلك المنزلة؛ وهل يختلف أن قال هي جارية امرأتي أو خادم امرأتي؟ قال ابن القاسم: لا أرى ذلك يثبت للمرأة، ولا لغيرها قريب ولا بعيد- إذا عرف أنها قد كانت له في حياته، ولا في مماته إذا اعتذر بمثل ما ذكرت لكم من العذر في حياته ولا بعد موته، إلا أن تشهد عليه بصدقة حيزت أو هبة سواء؛ قال هي لامرأتي، أو جارية امرأتي، وإنما هي كذبة كذبها، أو كلام اعتذر به أراد أن يستتر به ممن سأله ذلك، قيل لأصبغ: فلو يسهم رجل بعبده، فقال: هو لفلان الأجنبي، أو قال: هو لامرأتي، أو لابني؛ فقام أولئك عليه بهذا الإقرار وقالوا: هو لنا حق، قد أقر لنا به، أو قالوا: هو حق لنا قد كان لنا قبل إقراره، فأنكر ذلك المقر وقال: إنما كنت معتذرا، والعبد عبدي؛ قال أصبغ: هذا خلاف لما قبله، وليس في هذا حق الإثبات غير هذا، ويحلف بالله أن لا حق لهم ويبرأ، فإن نكل وادعوه حقا لهم قديما لغير هذا الإقرار، حلفوا واستحقوا؛ وإن كانوا إنما(14/183)
يدعوه بهذا الإقرار، لم يوجب لهم نكوله شيئا؛ قيل لأصبغ: فلو يسهم بعبده فقال: قد بعته فلانا بمائة دينار. أو قد وهبته فلانا أو قد تصدقت به على فلان- وقامت عليه بهذا القول بينة، فقال: كنت معتذرا، أيلزمه لهؤلاء شيء أم لا؟ قال أصبغ هذه حقوق أوجبها على نفسه لغيره وأخرج نفسه منها بقوله ولفظه، مأخوذ به، وليس قوله: وهبت وأعتقت وتصدقت، كقوله هو لفلان؛ لأن هذه أشياء أقر بها من سببه وفعله، فقد أخرج، بأمر أقر بفعله، فما ورد عليك من هذا، فضعه على هذا تصب، إن شاء الله. قيل لأصبغ: فالرجل، يخطب إلى الرجل ابنته، وهي بكر في حجره، فيقول للخاطب قد زوجتها فلانا، فيقوم فلان ذلك الذي زعم أنه زوجه، فيقول الأب ما أردت بقولي إيجابا، وما كنت إلا معتذرا إلى القوم، دافعا لطلبهم، يلزمه ذلك؛ وهل يختلف إن كان الطالب يقول: قد كنت زوجتني قبل ذلك، أو يقول: قد زوجتني بقولك هذا، وإيجابك لي قال لي أصبغ: أرى قوله لازما، والنكاح للطالب واجبا، لا يبالي بأي ذلك كان طلبه: بهذا القول، أو بنكاح قبل؛ لأن النكاح ليس فيه لعب ولا اعتذار، وهزله جد؛ وهو والطلاق أخوان لا هزل(14/184)
فيهما ولا لعب؛ وقال ابن كنانة: إن طلب ذلك الذي زعم أنه زوجه، وقال: قد زوجتني قبل اليوم، وكان الأب ينكره، وشهد له الطالب أنه قال: قد زوجت فلانا، لزمه ذلك ولم يعمل قوله أردت دفعهم بذلك، وإن كان الذي زعم أنه زوجه إنما طلب ذلك بقول الشاهدين الخاطبين إليه ويقول قد أقر على نفسه أن قد زوجتني ولم يدع أنه زوجه قبل ذلك، لم يكن ذلك ولم يلزمه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في الذي يسأل بيع جاريته، فيقول هي لامرأتي أو لفلان، أن ذلك لا يثبت لواحد منهما إذا عرف أنها قد كانت له، يدل على أنه إذا لم يعرف أنها قد كانت له وجهل أصل الملك فيها، فهي للذي أقر له بها- وإن كان إقراره على سبيل الاعتذار، وهو نص قوله في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب العتق، وقول أصبغ بعد ذلك في هذه المسألة هذا خلاف لما قبله، إشارة منه إلى مسألة لم تذكر كانت في أصل السماع، فسقطت من هذه الرواية فليس قول أصبغ في هذه الرواية مخالفا لابن القاسم، وما زاده من إيجاب اليمين على المقر، ورجوعها على المقر لهم، إن نكل عنها إذا كانوا إنما ادعوا ذلك حقا قديما لهم قبل هذا الإقرار، ولم يدعوه بهذا الإقرار؛ مفسر لقول ابن القاسم، وإنما يخالف أصبغ ابن القاسم إذا قال في اعتذاره: قد وهبتها فلانا، أو قد تصدقت بها عليه أو قد بعتها منه؛ فيقول؛ هذه حقوق قد أقر بها على نفسه فيؤخذ بها إن ادعى ذلك المقر له لا بهذا (الإقرار) إلا بشراء أو هبة أو صدقة متقدمة له، وهو عند ابن القاسم سواء- قال في اعتذاره: هو لفلان، أو قد بعته فلانا، أو تصدقت به عليه، لا يلزمه به عنده شيء في الوجهين، وهو مذهب مالك(14/185)
على ما قاله في أول سماع أشهب من كتاب الصدقات والهبات، وقد مضت هذه المسألة والتكلم عليها في أول سماع أشهب من هذا الكتاب، وفي رسم البز من سماع ابن القاسم، من كتاب الصدقات والهبات، وفي أول سماع أشهب منه أيضا؛ وأما إذا خطب إلى رجل ابنته البكر فقال: قد زوجتها فلانا، فطلب ذلك المقر له، ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أن النكاح يجب طلبه بذلك القول، أو بقول متقدم، وهو قول أصبغ في هذه الرواية، وإليه ذهب ابن حبيب. والثاني: الفرق بين أن يطلبه بذلك القول أو بقول متقدم، وهو قول ابن كنانة في هذه الرواية، وقول أصبغ وروايته عن ابن القاسم في رسم النكاح من سماع أصبغ من كتاب النكاح، فإن طلبه بقول متقدم، حلف الزوج بالله لقد كان زوجه، ويثبت النكاح؛ قاله ابن القاسم في سماع أصبغ من كتاب النكاح، وهو مفسر لقول ابن كنانة: وإن طلبه بهذا القول، حلف الأب بالله ما كان ذلك منه إلا اعتذارا إليه، وما زوجه؛- قاله ابن القاسم أيضا. والثالث: أنه لا شيء له- طلبه بذلك القول أو بقول متقدم) ، وهو قول ابن المواز، وبالله التوفيق.
[: وجد ثورا ميتا في الجبل فعلم أنه لبعض جيرانه]
ومن كتاب شهد على شهادة
ميت وعن رجل وجد ثورا ميتا في الجبل، فعلم أنه لبعض جيرانه، فسلخه فأتى إلى صاحبه بجلده؛ فقال: هذا جلد ثورك، وجدته بمكان كذا وكذا قد مات، فقال له صاحب الثور: بل أنت قتلته؛ هل تراه ضامنا الثور؟ قال ابن القاسم: لا شيء على الذي(14/186)
جاء بالجلد وسلخ الثور- بعد أن يحلف بالله أنه لم يقتله ولم يتعد فيه
قال محمد بن رشد: هذا تبين على ما قاله إذ لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه، ولو قال وجدته على أن يموت فذبحته نظرا لك قبل أن يموت، للزمه ضمانه قولا واحدا، ولم يدخل فيه الاختلاف الذي في الراعي يخاف على الغنم الموت فيذبحها؛ لأن هذا لم يأتمنه صاحبه على شيء، فهو متعد عليه في ذبح ثوره، ولعله لو لم يذبحه لعاش، وبالله التوفيق.
[: أقر أن هذه البقعة بينه وبين فلان وأن ما فيها من البنيان له وحده]
ومن كتاب أوله يدير ماله وسئل ابن القاسم عن رجل أقر أن هذه البقعة بينه وبين فلان، وأن ما فيها من البنيان له وحده، قال: البنيان تبع للأصل، فجميع ذلك بينهما- وهو مدع، ورواها أصبغ عن ابن القاسم وقال: لا أرى ذلك، وأرى إذا كان إقراره ودعواه نسقا ليس بمفترق، وكان الذي أقر به وفيه لا يعرف إلا له، وليس هو إلا في يديه حتى لو لم يقر بما أقر، لم يكن لفلان ذلك حتى يستحقه، فليس له إلا ما أقر به من العرصة، وله ثنياه في البنيان وينقض أو يعطيه نصف قيمته ويكون بينهما أو يقتسمانه، فإن صار في حصة الباني فهو له، وإن وقع في حصة الآخر نقضه له وأعطاه قيمته.(14/187)
قال محمد بن رشد: هذا من قول ابن القاسم مثل قوله في سماع أصبغ من كتاب جامع البيوع في رسم الكراء والأقضية منه، وفي نوازله من كتاب المديان خلاف قوله في كتاب الغصب من المدونة في هذه المسألة وفيما يشبهها إنه يصدق إذا كان كلامه نسقا، وهو قول أصبغ. ومن هذا المعنى مسألة هي أشكل منها لمعنى زايد فيها، قد مضى الكلام عليها في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم من كتاب الإيمان بالطلاق، وهي قول الرجل لامرأته أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، أنت طالق البتة، إن أذنت لك إلى أهلك وقد كانت سألته الإذن أو لم تسأله إياه، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[: يقر لولده أو لامرأته أو لبعض من يرثه بدين في الصحة]
(ومن كتاب البراءة) وسألته عن الرجل يقر لولده أو لامرأته أو لبعض من يرثه بدين في الصحة يموت الرجل بعد سنين، فيطلب الوارث الذي أقر له به؛ قال: ذلك له إذا أقر له في الصحة- امرأة كانت أو ولدا فما أقر له في الصحة فذلك له.
قال محمد بن رشد: هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم عن مالك المشهور في المذهب، ووقع في المبسوطة لابن كنانة، والمخزومي، وابن أبي حازم، ومحمد بن مسلمة أنه لا شيء له- وإن أقر له في صحته، إذا لم يقم عليه بذلك حتى هلك إلا أن يعرف ذلك عسى أن يكون قد باع له رأسا، أو أخذ من مورث أمه شيئا، فإن عرف ذلك، وإلا فلا شيء له، وهو(14/188)
قول له وجه من النظر؛ لأن الرجل يتهم أن يقر بدين في صحته لمن يثق به من ورثته على ألا يقوم به عليه حتى يموت فيكون وصية لوارث، وبالله التوفيق.
[مسألة: أتى إلى رجل فقال له هات ثمن الثوب الذي بعتك]
مسألة وسألته عن رجل أتى إلى رجل فقال له: هات ثمن الثوب الذي بعتك، فقال ما بعتنيه ولكن أمرتني أن أبيعه، فالقول قول صاحب الثوب ويحلف أنه باعه منه (فإن نكل عن اليمين، حلف الآخر وبرئ، قلت: فإن حلف صاحب الثوب أنه باعه منه) واختلفا في الصفة، فقال: يقال لمشتري الثوب: صفه، فإذا وصفه حلف على صفته ثم قومه أهل البصر وغرم القيمة، قلت: فإن نكل، قال: يقال لصاحب الثوب: صفه، فإذا وصفه قومت صفته وغرم المشتري. قلت فإن أتيا جميعا بما يستنكر في صفة الثوب، ونكلا عن اليمين؛ قال: القول قول مشتري الثوب. قلت فإن كانت قيمة الثوب أدنى من الثمن الذي باعه به، قال: يقال للذي باع الثوب اتق الله انظر إن كان قولك في الثوب حقا إنه أمرك ببيعه فادفع إليه بقية ثمن ثوبه ولا تحبسه ولا يقضى عليه بذلك؛ لأن صاحب الثوب يدعي أنه باعه منه، وقال: انظر كل يمين وجبت على رجل في شيء ادعاه على صاحبه فنكل عن اليمين، مثل أن يقيم شاهدا واحدا على حق له فيكلف اليمين مع شاهده، وينكل ويرد اليمين على صاحبه، فإذا نكل الذي ردت عليه اليمين فهو غارم، وإن حلف برئ، وإن(14/189)
لم تكن له بينة، أحلف المدعى عليه، فإن حلف برئ، وإن نكل قيل للمدعي احلف فإن حلف استحق حقه، وإن نكل فلا شيء له، وإن اختلفا، فقال صاحب الثوب: أمرتك أن تبيع بالنقد، وقال الآخر: بل أمرتني أن أبيع بالدين، قال: إن لم يفت الثوب في يد المشتري، حلف صاحب الثوب وأخذ ثوبه، وإن فات في يد المشتري، كان القول قول بائع الثوب، وهو بمنزلة ما لو قال: أمرتك أن تبيع بعشرة، قال الآخر: بل بثمانية، فإنه إن لم يفت الثوب بيد المشتري، حلف صاحب الثوب، وأخذ ثوبه، وإن فات كان القول قول البائع قال وليس على بائع الثوب يمين إذا لم يفت.
قال محمد بن رشد: قوله القول قول صاحب الثوب ويحلف أنه باعه منه، يريد ويحلف الآخر لقد أمره ببيعه؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه. صاحب الثوب يريد أن يلزمه غرم الثمن الذي ادعى أنه باع به الثوب منه، والآخر يريد أن يلزمه أخذ الثمن الذي ادعى أنه باع به الثوب، فيمين صاحب الثوب ينفي ما ادعى عليه الآخر من الوكالة ولا يوجب له أخذ ما ادعاه من الثمن؛ لأنه فيه مدع، وإنما يوجب له القيمة؛ لأنه يبطل بيمينه ما ادعاه عليه من الوكالة، فتجب عليه القيمة للتعدي بالبيع، وذلك إذا كان الثمن الذي باعه به أقل من قيمة الثوب، مثل أن تكون قيمة الثوب تسعة، فيبيعه بثمانية، ويدعي رب الثوب أنه باعه منه بعشرة، ولو كان باع الثوب بتسعة وهي قيمة الثوب، لكان القول قوله أنه أمره ببيعه ولم يكن على صاحب الثوب يمين، إذ لا فائدة ليمينه؛ لأن يمينه، إنما توجب له القيمة التي قد أقر الآخر أنه باع ثوبه بها، ولو باع الثوب بعشرة فأكثر، لم يحلف واحد(14/190)
منهما؛ لأن العشرة التي يدعي صاحب الثوب أنه باع منه ثوبه بها، قد أعطاه الآخر إياها، والزيادة على العشرة تكون موقوفة؛ لأن كل واحد منهما ينفيها عن نفسه ويقر بها لصاحبه، وقد مضى الاختلاف في الحكم فيها في آخر رسم يوصي، فلا معنى لإعادته، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وذلك بين من قوله في الرواية، فإن نكل عن اليمين، - حلف الآخر وبرئ، وكذلك لو نكل هو حلف صاحب الثوب، كان له ما ادعاه من الثمن الذي حلف عليه، وإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، كان لصاحب الثوب قيمة ثوبه إذا كان الثوب قد فات، وأما إذا كان الثوب قائما بيد المشتري لم يفت، فقال في كتاب ابن المواز، ومثله ابن القاسم في رواية أصبغ عنه أنه يرد إذا تحالفا، واعترض ذلك أبو إسحاق التونسي، فلا يجب أن يرد؛ لأنهما جميعا يقران أن بيع الوكيل لا يجب أن ينقض؛ لأن رب الثوب يقول بعته منه، فبيعه لا ينقض، والوكيل يقول أمرني ببيعه فلا ينقض بيعي. وقوله في الرواية وإن حلف صاحب الثوب أنه ما باعه منذ يريد وقد حلف صاحبه فوجبت عليه القيمة، واختلفا في الصفة أنه يقال للمشتري للثوب: صفه، يريد للمدعى عليه الشراء، وهو صحيح؛ لأنه الغارم، فوجب أن يكون القول قوله، وفي قوله في الرواية أنه إن كانت قيمة الثوب أدنى من الثمن الذي باعه به، قيل للذي باعه اتق الله وادفع إليه بقية ثمن ثوبه، ولا يقضى عليه بذلك؛ لأن صاحب الثوب يدعي أنه باعه منه نظر؛ لأن الصحيح في النظر أن يقضى عليه بذلك؛ لأنه مقر به لصاحب الثوب، إذ يزعم أنه ثمن ثوبه، ولا يقضى عليه بذلك لأن صاحب الثوب يدعيه وزيادة عليه؛ لأنه يقول إنه باع منه ثوبه بأكثر من ذلك، وصفة أيمانهما إذا حلفا أن يحلف صاحب الثوب ما أمره ببيعه وليس عليه أن يزيد في يمينه: ولقد باعه منه بكذا وكذا، إلا أن(14/191)
يشاء أن يزيد ذلك في يمينه رجاء أن ينكل صاحبه عن اليمين فلا يحتاج إلى يمين أخرى، ويمينه أنه باعه منه بكذا وكذا، على ما قاله في الرواية، يقتضي نفي الوكالة التي يدعي عليه بها، فالصواب أن يصرح في يمينه بذكرها فيحلف أنه ما وكله على بيعها، فإن شاء أن يزيد مع ذلك ولقد باعها منه رجاء أن ينكل صاحبه، كان ذلك له على ما ذكرناه، وأما الآخر فيحلف ما اشترى منه الثوب ولا يزيد في يمينه: ولقد أمره ببيعه، إذ لا فائدة ليمينه بذلك إذ قد حلف رب الثوب على تكذيبه في ذلك، وبالله التوفيق.
[مسألة: يمين وجبت على رجل في شيء ادعاه على صاحبه فنكل عن اليمين]
مسألة وقال انظر كل يمين وجبت على رجل في شيء ادعاه على صاحبه فنكل عن اليمين، مثل أن يقيم شاهدا واحدا على حق له فيكلف اليمين مع شاهده وينكل ويرد اليمين على صاحبه، فإذا نكل الذي ردت عليه اليمين، فهو غارم وإن حلف برئ، وإن لم تكن له بينة أحلف المدعى عليه، فإن حلف برئ، وإن نكل، قيل للمدعي: احلف، فإن حلف استحق حقه، وإن نكل فلا شيء له.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب، والمخالفون في ذلك أهل العراق الذين يقضون بالنكول ولا يردون اليمين في الدعوى، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال صاحب الثوب أمرتك أن تبيع بالنقد وقال الآخر بل أن أبيع بالدين]
مسألة وقال إن اختلفا: فقال صاحب الثوب أمرتك أن تبيع بالنقد،(14/192)
وقال الآخر بل أمرتني أن أبيع بالدين؛ قال: إن لم يفت الثوب في يد المشتري، حلف صاحب الثوب وأخذ ثوبه؛ وإن فات في يد المشتري، كان القول قول بائع الثوب؛ وهو بمنزلة ما لو قال: أمرتك أن تبيع بعشرة، وقال الآخر: بل بثمانية؛ فإنه إن لم يفت الثوب بيد المشتري، حلف صاحب الثوب وأخذ ثوبه؛ (فإن فات كان القول قول البائع، قال: وليس على البائع للثوب يمين- إذا لم يفت.
قال محمد بن رشد: هو مثل ما في المدونة وغيرها، ولا أذكر في ذلك نص خلاف، وإنما الخلاف إذا نكل عن اليمين: فقيل: يلزمه البيع بالنكول بالثمانية أو إلى الأجل ولا ترجع اليمين على البائع، وهو قوله في هذه الرواية وليس على البائع للثوب يمين إذا لم يفت، وكذلك يقول ابن المواز: إنه لا يحلف المأمور، وقال أصبغ: يحلف؛ ووجه هذه الرواية وما ذهب إليه ابن المواز، أن الحق في يمين رب السلعة إنما هو للمشتري؛ لأنه يقول له ما قال البائع من أنك أمرته بأن يبيع بثمانية، أو إلى أجل، فاحلف على ما تدعي من أنك لم تأمره بذلك؛ فإن حلف أخذ سلعته، وإن نكل عن اليمين لزمه البيع ولم ترجع اليمين على المأمور البائع؛ لأنه يتهم إن رجعت عليه اليمين أن ينكل عنها، لينقض البيع بعد أن باع، ولا على المشتري؛ لأنها يمين تهمة فلا ترجع؛ وقد قيل في يمين التهمة إنها ترجع؛ فعلى هذا إن نكل رب السلعة عن اليمين، حلف المشتري، وصح له البيع، وقد قيل في يمين التهمة: إنها لا تلحق؛ فعلى هذا إذا كانت السلعة قائمة ولم يحقق المشتري(14/193)
على رب السلعة ما قاله البائع من أنه أمره أن يبيع بثمانية، أخذ سلعته دون يمين؛ وأما إن حقق عليه الدعوى، فتلزمه اليمين، وله ردها عليه، ووجه ما ذهب إليه أصبغ من أن صاحب السلعة إذا نكل عن اليمين، ترجع اليمين على البائع المأمور، هو أن التداعي في ذلك، إنما هو بين صاحب السلعة وبين المأمور؛ فإن حلف صاحب السلعة أخذ سلعته، وإن نكل عن اليمين حلف المأمور ولزم صاحب السلعة البيع؛ فإن نكل المأمور، كان القول قول صاحب السلعة فيما ادعى من أنه أمره بعشرة، وأغرمه الدينارين الزائدين على الثمانية؛ فإن حلف الآمر وأخذ سلعته وأراد المشتري أن يحلف المأمور أنه ما رضي أن يحمل عنه الدينارين فقال أصبغ: ذلك له، وقال محمد ليس ذلك له إلا بتحقيق يحققه عليه أنه حمل عنه الدينارين، وقوله في الرواية إنه إن فاتت السلعة، كان القول قول البائع المأمور، هو مثل ما في المدونة وغيرها؛ واختلف بما تفوت: فقيل إنها تفوت بحوالة الأسواق فما زاد، وهذا يأتي على مما في كتاب محمد في أن من أمر رجلا أن يبيع له سلعة فباعها من نفسه، أن حوالة الأسواق فيها فوت، ولا يشبه أنها لا تفوت إلا بالعيوب المفسدة؛ لأنه ليس ببيع فاسد، وقيل إنها لا تفوت إلا بذهاب عينها، وهذا القول في العشرة ليحيى عن ابن القاسم وهو القياس؛ لأنها إذا بيعت بما لم يأمر به، فكأنها قد بيعت بغير أمره، فهي كالمستحقة، ومن أفاتها بالعيوب المفسدة، راعى شبهة الوكالة، كما راعاها ابن القاسم في النكاح فيمن أمر رجلا أن يزوجه بخمسين فزوجه بمائة، وقال بذلك أمرتني فحلف، أن النكاح يفسخ بطلاق؛ وقال المغيرة يفسخ بغير طلاق، فعلى قياس قوله لا تفوت السلعة في مسألتنا إلا بفوات عينها على ما ذكرناه من قول ابن القاسم في العشرة؛ وإن فاتت السلعة فنكل المأمور عن اليمين، حلف رب السلعة وأغرمه الدينارين؛ قال أبو إسحاق التونسي: ولا يرجع على المشتري بها إن كان المأمور(14/194)
عديما، بخلاف هبة الغاصب إذا عدم إنه يرجع بذلك على الموهوب؛ لأن المشتري ههنا لم يدخل (على أنه موهوب له، وإنما دخل) على حكم الشراء بأمر يمكن أن تباع به السلعة، فلا يرجع عليه بشيء؛ قال ولو ظهر أنه باع بأمر لا يمكن أن يباع به، مثل أن يبيع ما يساوي مائة بعشرين، لوجب أن يكون ذلك كهبات الغاصب، إذ ليس هو من جنس ما وكل عليه، يرجع على المشتري إن كان المأمور عديما، وبالله التوفيق.
[: قال لآخر فلان الذي في منزلك ساكن بأي وجه يسكنه]
(ومن كتاب العتق) وسئل ابن القاسم عن رجل قال لآخر: فلان الذي في منزلك ساكن بأي وجه يسكنه؛ فقال: أنا أسكنته بلا كراء، والساكن في المنزل يسمع ذلك فلا ينكر ولا يغير، هل ترى سكوته يقطع دعواه إن ادعى ذلك المنزل يوما ما، قال لا أرى ذلك يقطع دعواه إذا كانت له بينة عادلة على أن المنزل منزله؛ لأنه يقول إنما ظننت أنه يداعبه وما أشبه ذلك؛ لأنه أمر معروف، فيكون على حقه إذا قامت له بينة أن المنزل منزله، ويحلف على ذلك؛ وسئل عن رجل سئل عند موته هل لأحد عندك شيء؟ فقال: لا، قيل: ولا لامرأتك؛ قال: لا- والمرأة جالسة، ثم تجيء تطلب حقها- ولها عليه بينة؛ قال تحلف بالله أن حقها عليه وتأخذ إذا شهد الشهود أن لها عليه بعد دخوله، ولا يضرها سكوتها.(14/195)
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هاتين المسألتين خلاف قوله في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب المديان، والقولان مشهوران في المذهب، منصوص عليهما لابن القاسم في غيرما موضع من كتبه، أحدها: ما في رسم العرية من سماع عيسى من الكتاب المذكور إن السكوت على الشيء إقرار به وإذن فيه، والثاني: قوله في هذه الرواية، وفي سماع من كتاب المدبر، وفي غير ما موضع: أن السكوت على الشيء ليس بإقرار به ولا إذن فيه، وهو ظاهر القولين وأولاهما بالصواب؛ لأن في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها، وأذنها صماتها.» دليلا على أن غير البكر في الصمت بخلاف البكر، وقد أجمعوا على ذلك في النكاح، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا راضيا به، فلا يختلف في أن السكوت عليه إقرار به كالذي يرى حمل امرأته فيسكت ولا ينكر، ثم ينكره بعد ذلك، وما أشبه ذلك، وقد مضى هذا المعنى في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب النكاح، وفي غير ما موضع من كتابنا هذا. وقوله تحلف بالله أن حقها عليه، معناه أن حقها عليه، باق إلى الآن لم تقبضه ولا وهبته، ولا سقط عنه بوجه من الوجوه؛ لا أن حقها عليه حق، إذ قد شهد لها الشهود بذلك، فلا تحلف عليه، وإنما تحلف على ما لم يثبت الشهود فيه الشهادة، وإنما شهدوا فيه على العلم من أنهم لا يعلمون الحق تأدى ولا سقط، وبالله التوفيق.(14/196)
[: نصراني مات وترك أولادا فتأخر اقتسامهم زمانا]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن نصراني مات وترك أولادا فتأخر اقتسامهم ما هلك عنه النصراني زمانا، ثم تداعوا إلى قسمته وفيه حينئذ مسلم، فأراد النصراني دفعه عن الميراث، وقالوا مات أبونا وأنت مسلم؛ وقال المسلم لم أسلم إلا منذ قريب بعد ما كان وجب لي الميراث؛ على أيهم ترى البينة فيما تداعوا فيه؛ فقال: البينة على المسلم أن أباه مات وهو نصراني يوارثه، وذلك أن إسلامه ظاهر، فهو مدع لأخذ ميراث بدين كان عليه بزعمه يوم مات أبوه، فلا أراه يستوجب شيئا بدعواه، وعليه البينة، وإلا فلا ميراث له.
قال محمد بن رشد: محمد بن عبد الحكم يرى القول قول المسلم أنه أسلم بعد موت أبيه- وقاله أصبغ في الواضحة، وقال: لأن أصله النصرانية التي تحق له الميراث، فمن طلب أن يزيله عن ذلك فهو المدعي؛ واحتج على قول ابن القاسم بقوله: لو مات الأب واختلف هو وأخوه، فقال هذا مات مسلما، وقال الآخر مات نصرانيا، أن القول قول النصراني؛ لأن أباه قد عرف بالنصرانية، وقول ابن القاسم أظهر، ولا يلزمه ما احتج به عليه أصبغ؛ لأن النصراني لم يعلم إسلامه، فهو محمول على النصرانية حتى يعلم إسلامه؛ وهذا في مسألتنا مسلم يدعي أنه كان نصرانيا يوم مات أبوه، فعليه(14/197)
إقامة البينة على ذلك، كما قال ابن القاسم، وبالله التوفيق.
[مسألة: ادعى على رجل أنه افتض ابنته وأنكر ذلك الرجل]
مسألة قال وسألته عن رجل ادعى على رجل أنه افتض ابنته وأنكر ذلك الرجل الذي رمي بذلك، ثم قال المنكر بعد إنكاره: ينظر إليها النساء، فإن لم تكن بكرا فأنا بها، فنظر إليها النساء فإذا هي مفتضة، فأنكر أن يكون فعل ذلك بها؛ أترى قوله: ينظر إليها النساء، فإن لم تكن بكرا فأنا بها إقرارا؛ قال لا أراه بهذه المقالة مقرا؛ لأنه يقول: إذا رجع إلى الإنكار رجوت أن تكون براءتي إذا نظر إليها النساء، وأن تكون سالمة مما ظن بها أبوها؛ فإذا لم توجد كذلك، فليست بها، فلا أرى الحد ولا الصداق يلزمه بمثل هذا حتى يقيم على الإقرار؛ قلت فإذا لم يلزمه بالذي قال إقرار، افترى الأب بالذي ادعى قبله مما لم يثبته عليه من افتضاض ابنته قاذفا له، قال إن رمى بذلك رجلا مشهورا بالعدل، غير متهم بالفواحش ولا مظنون به القبيح، ولا مشار به إليه رأيته قاذفا له بالذي رماه به، قال وإن رمى بذلك رجلا من أهل التهم والظنة، لم أر عليه حدا ولا نكالا.
(قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة صحيحة لا إشكال فيها ولا التباس في شيء من معانيها فلا يفتقر إلى التكلم عليها، وبالله التوفيق) .(14/198)
[: يدعي عليه الرجل بمائة دينار فيدعي المدعى عليه أنه قضاه]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: وسألت ابن وهب عن الرجل يدعي عليه الرجل بمائة دينار، فيدعي المدعى عليه أنه قضاه مائة دينار وعشرين دينارا ويأتي بالبينة على ذلك ولا تشهد البينة على المائة الدينار- بعينها- إنها دخلت في المائة والعشرين، فيقول الطالب إنما لي عليك مائة دينار من ثمن عطر بعتكه، وثبت ذلك له بالبينة أو إقرار المشتري، فيقول له الطالب هات البينة أنك قضيتني ثمن العطر بعينه، ويقول المشتري للمدعى عليه قد قضيتك مائة وعشرين ثمن العطر فيها. فهل يبرأ المطلوب بهذه الشهادة أم لا؛ وسألت عنها ابن القاسم، فقال: يحلف المدعى عليه بالله: دخلت المائة الدينار ثمن العطر في المائة وعشرين الدينار التي قضى، ثم لا شيء له عليه؛ قال ولقد بلغني عن بعض العلماء أنه سئل عن الرجل ادعى على رجل بألف دينار وأتى بذكر حق، فأتى المدعى عليه ببراءة من ألفي دينار، قال يحلف المدعى عليه ويبرأ، وهذا أمر الناس عندنا؛ قال يحيى وسألت ابن نافع عن ذلك، فقال: إن كانت بينهما مخالطة معروفة وملابسة، فالبينة على المطلوب أن المائة الدينار ثمن العطر- دخلت في العشرين ومائة، وإلا غرم،(14/199)
لأن المخالطة التي جرت بينهما تدل على أنه قد عامله في غير العطر.
قال محمد بن رشد: سقط جواب ابن وهب في أكثر الكتب وثبت بعضها: قال نعم، فقوله، مثل قول ابن القاسم، ومثل ما حكى أنه بلغه عن بعض العلماء؛ وأما قول ابن نافع تفرقته بين أن تكون بينهما مخالطة وملابسة معروفة أو لا فهو خلاف قول ابن وهب، وابن القاسم وما حكاه عن بعض العلماء؛ إذ لا فرق على مذهبهم بين أن تكون بينهما مخالطة وملابسة لا تكون، القول عندهم قول المطلوب في الوجهين جميعا حتى يأتي الطالب بمن يشهد أنه كان له عليه دين سواه، ولا اختلاف إذا لم تكن بينهما مخالطة وملابسة، (في) أن القول قول المطلوب، ولا في أنه إذا علم أنه كان عليه دين غيره في أن القول قول الطالب؛ وإنما الخلاف إذا كانت بينهما مخالطة وملابسة، فابن نافع يرى القول قول الطالب، وابن القاسم وابن وهب وغيرهما يرون القول قول المطلوب، وقد مضى هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى، ومضى تحصيل القول في ذلك أيضا في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات، وبالله التوفيق.
[: يصالح وارثا من الورثة في جميع ما ورثه على شيء يعطيه إياه]
ومن كتاب الكبش قال يحيى: وسألته عن الرجل يصالح وارثا من الورثة في جميع ما ورثه على شيء يعطيه إياه، وقد كان للميت حظ في منزل بمصر أو القيروان، والورثة وجميع ما ورثوا بالأندلس إلا هذا الحظ(14/200)
الذي بمصر أو القيروان، فصالحه على جميع ما ورثه عن أبيه ونص ميراثه من جميع ما هلك عنه أبوه بالأندلس، ولم يذكر الحظ الذي كان بمصر، ولم يكن الوارث يعرف كم حقه من ذلك الحظ؛ قال: إن كان صالحه في جميع موروثه، فهذا الحظ الذي بمصر من الجميع، فإن كان الحظ مجهولا أو كان معروفا ولم يره المصالح ولم يوصف له ولم يره له رسول ولم ينعت له حتى يكون قد صالح في أمر يعرف قدره أو نعته، فالصلح منتقض؛ قلت: أرأيت إن قال المصالح: إنما صالحتك في جميع ما ورثت بالأندلس، ولم أرد ما كان لك بمصر؛ لأني لم أعلم أنك ورثت بها شيئا، ليجوز بذلك الصلح حين خاف أن ينتقض لجهالتهما بالحظ الذي بمصر، وقال: لا حاجة لي بذلك الحظ؛ لأنه ليس مما صالحتك عليه، ولا علمت به؛ وقال الوارث: بل وقع الصلح في جميع مورثي والحظ الذي بمصر من مورثي، فهو مجهول لا علم لي به ولا لك، والصلح بذلك منتقض في جميع المورث؛ أترى أن ينتقض؟ فقال: يقال للوارث: أن جئت بالبينة أن هذا الذي صالحك كان عالما أن لك بمصر مورثا، فصالح على الجميع، وذلك الحظ مجهول، فسخنا الصلح؛ وإن لم يأت بالبينة أحلف المصالح بالله لما علم بالحظ الذي بمصر ولا أراد بالصلح إلا المورث الذي بالأندلس وقد نصصنا ذلك كله وعرفناه، ثم يجوز الصلح بينهما إن حلف فإن نكل فسخ.
قال محمد بن رشد: قوله: فصالح وارثا من الورثة في جميع مورثه على شيء يعطيه إياه، معناه يشتري منه مورثه بشيء يعطيه إياه. وقوله فإن(14/201)
كان الحظ مجهولا، معناه مجهول القدر عندهما جميعا، لا يعلم واحد منهما إن كان ثلثا، أو ربعا، أو نصفا، أو أقل، أو أكثر. وقوله أو كان معروفا ولم يره المصالح ولم يوصف له، يريد ولا رآه الوارث أيضا ولا وصف له؛ لأن البيع لا يكون فاسدا إلا إذا جهلا جميعا قدره أو صفته مع علمهما به، وأما إذا علم ذلك أحدهما وجهله الآخر فليس ببيع فاسد، وإنما هو بيع غش وخديعة، يكون الجاهل منهما إذا علم مخيرا بين إمضاء البيع أو رده.
وقوله: إنه إذا ادعى المشتري أنه لم يعلم بهذا الحظ المجهول ليصح له الشراء فيما ادعاه، يحلف على ذلك ويجوز الصلح بينهما. أي الشراء فيما عدا ذلك الحظ صحيح؛ لأنه ادعى صحة، وادعى الوارث فسادا فوجب أن يكون القول قوله لادعائه الصحة. وقوله: وإن نكل فسخ، يريد بالنكول دون رد يمين؛ لأن الظاهر أن الصلح قد وقع عليه؛ لأنه من المورث وهما قد تصالحا على جميع المورث، وقد قال بعض الشيوخ: إن فسخه البيع في هذه المسألة دون رد اليمين، خلاف قوله في مسألة رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، إنه إن أبى أن يحلف، حلف الذي عليه الحق وفسخ الشراء؛ وليس ذلك عندي بصحيح، بل يرجع اليمين في ذلك في وجه دون وجه حسبما فصلناه، وبينا القول فيه وشرحناه هناك؛ ولو اتفقا جميعا على أنهما لم يعلما بالحظ الذي بمصر أو القيروان، لبقي للوارث، وصح البيع فيما سواه ونفذها؛ ولو اتفقا على أنهما قد علما به - وهو مجهول القدر أو الصفة، لكان البيع فاسدا؛ وأما إذا اختلف في ذلك، فلا يخلو اختلافهما من سبعة أوجه لا ثامن لها، قد ذكرناها وبينا وجه الحكم في كل واحد منها- في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، فاكتفينا بذكرها هناك عن إعادتها ههنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.(14/202)
[: يذبح شاة لرجل فيلزمه غرم قيمتها]
ومن كتاب الصبرة وسئل عن الرجل يذبح شاة لرجل فيلزمه غرم قيمتها، فيريد صاحبها أن يأخذ منه بالذي ألزمه من القيمة حيوانا من الأنعام شاة، أو بقرة، أو فصيلا من الإبل، أو ما أشبه ذلك، (والشاة) المذبوحة بحالها لم يفت لحمها بعد، فقال: لا يجوز له أن يأخذ بها شيئا من الحيوان الذي لا يجوز أن يباع بلحمها؛ قلت: ولم، وإنما وجبت لرب الشاة على ذابحها القيمة من دنانير أو دراهم؟ فقال: لأن رب الشاة ما دام لحمها لم يفت، مخير بين أن يأخذها مذبوحة بعينها، وبين أن يأخذ قيمتها حية، فلما كان له الخيار، كره له أخذ الحيوان من الأنعام بتلك القيمة التي وجبت له على الذابح؛ لأنه يترك لحما لو شاء أخذه ويأخذ به شاة حية، فيدخله بيع اللحم بالحيوان؛ قلت: فإن فات لحمها من يد الذابح؟ قال: لا بأس بذلك حينئذ أن يأخذ بالقيمة التي وجبت له شاة من حيوان الأنعام وغيره، يتعجل ذلك ولا يدخره.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه لا يجوز له أن يأخذ بقيمة الشاة التي ذبحت له ما دام لحمها قائما لم يفت، حيا من ذوات الأربع، كان مما يقتنى أو مما لا يقتنى، لنهي النبي عليه السلام عن اللحم بالحيوان؛ وأما إذا فات اللحم فيجوز له أن يأخذ بالقيمة التي وجبت له(14/203)
عليه ما شاء من حيوان الأنعام وغيره، يريد بعد المعرفة بقيمة الشاة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يستهلك صبرة الرجل من القمح فيجب عليه قيمتها]
مسألة وسئل عن الرجل يستهلك صبرة الرجل من القمح فيجب عليه قيمتها، فيريد أن يعطيه بها قمحا يصالحه عليه، أو شعيرا، أو سلتا؛ فقال: ما استهلك من الطعام الذي لا يعرف كيله فوجب على مستهلكه غرم قيمته، فلا بأس أن يؤخذ منه بتلك القيمة من أصناف الطعام المخالفة للذي استهلك أو عرضا من العروض يتعجل ذلك ولا يؤخره؛ فإن صالحه على شيء من القمح أو الشعير أو السلت لم يصلح على الخرص؛ لأنه صار طعاما جزافا مصبرا بكيل من الطعام، أو مصبر يرى أنه مثله، ولا يوصل إلى استيقان اعتدالهما وتكافئهما في الكيل والطعام؛ فالطعام لا يصلح إلا مثلا بمثل، كيلا بكيل، وليس بالتحري ولا بالخرص، ولكن إن صالحه على كيل لا يشك أنه أدنى مما كان في الصبرة المستهلكة باليقين، والأمر البين الذي يقطع الشك منه، فلا بأس به، وإنما هو حينئذ رجل أخذ بعض حقه ووضع بعضه؛ ولا بأس إذا كان هكذا أن يأخذ قمحا أو شعيرا أو سلتا، إذا استيقن أنه أقل مما كان في الصبرة المستهلكة.
قال محمد بن رشد: قوله أنه يجوز أن يصالحه على كيل لا يشك أنه أدنى مما كان في الصبرة المستهلكة باليقين والأمر البين الذي ينقطع الشك(14/204)
فيه، أي أقل كيلا فيأخذ ذلك قمحا أو شعيرا أو سلتا، هو خلاف نص قوله في المدونة، أنه لا يجوز له أن يأخذ بعد حلول الأجل محمولة من سمراء أقل من مكيلته، ولا شعيرا من قمح؛ لأنه من بيع الطعام بالطعام متفاضلا؛ لأن المحمولة قد تكون في بعض الأحوال أفضل من السمراء، والشعير قد يكون أفضل من القمح، فيكون ذلك مبايعة لا حطيطة، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز فيه التفاضل؛ وقال أشهب: إنه جائز، وهو مثل قول ابن القاسم في هذه الرواية؛ لأنه لا يراعي ما قد تؤول إليه الأسواق من ارتفاع قيمة الشعير حتى لعله يكون أغلى من القمح أو ارتفاع قيمة المحمولة حتى لعلها تكون أغنى من السمراء؛ ويرى أنه إذا أخذ من الشعير أقل من كيل ما كان له من القمح أو من المحمولة أقل من كيل ما كان له من السمراء؛ والقمح في ذلك الوقت أغلى من الشعير، والسمراء أغلى من المحمولة؛ فلم يبايعه وإنما وضع عنه بعض حقه وتجاوز عنه في صفة بقيته، وهو أظهر من قوله في المدونة لا سيما إذا أخذ شعيرا من قمح أقل من كيله؛ لأن جلّ الناس يرون القمح والشعير صنفين، فيجيزون التفاضل بينهما على ما قد جاء في الحديث من قوله فيه «وبيعوا القمح بالشعير كيف شئتم» . ولو أخذ محمولة من محمولة، أو سمراء من سمراء، أو شعيرا من شعير أقل من كيله وأدنى من صفته بعد حلول الأجل، لجاز ذلك باتفاق؛ إذ لا يكون الرديء من ذلك أفضل من جيده على حال؛ ولو أخذ قبل محل الأجل في القرض سمراء من محمولة، أو قمحا من شعير، مثل كيله، لجاز على قول ابن القاسم في هذه الرواية، وعلى قول أشهب؛ ولم يجز على قول ابن القاسم في المدونة، لما ذكره من أن الأسواق تختلف حتى يكون الشعير أنفق من القمح، أو المحمولة أنفق من السمراء، وبالله التوفيق.(14/205)
[: مات فصالح ولده امرأته على شيء من المال قاطعها عليه]
ومن كتاب الصلاة وسئل ابن القاسم عن رجل مات فصالح ولده امرأته على شيء من المال قاطعها عليه ثم طرأ عليهم وارث أثبت نسبه، فقال: الصلح ماض جائز والوارث يأخذ حقه منهم أجمعين من جميع ما هلك عنه الميت؛ قلت: وكيف يأخذ منهم ذلك؟ قال: إن كان له سدس الميراث أخذ الرجل من كل رجل وامرأة من الورثة سدس ما في يديه مما أخذ بالميراث وإن كان له الربع أو الخمس فكذلك.
قال محمد بن رشد: قوله: الصلح ماض جائز، معناه إن كان الولد أو أحدهم صالح المرأة من ماله على أن يكون له الثمن؛ لأن المصالح يتنزل فيه بمنزلتها، فيأخذه من جملة التركة ولا يكون للوارث الطارئ في ذلك كلام، إذ لا رجوع له على الزوجة بشيء؛ لأنها ترث الثمن على كل حال- قل عدد الورثة، أو كثر، وإنما ينظر إلى الجزء الذي يجب له مع جملة الورثة سوى الزوجة- قلوا أو كثروا، استوت سهامهم- مثل أن يكون الورثة مع الزوجة أولادا ذكورا أو بناتا إناثا، أو اختلفت مثل أن يكون الورثة مع الزوجة، أولادا ذكورا وإناثا، فيرجع بذلك الجزء على كل واحد منهم فيما بيده مما أخذه قل أو كثر- كما قال، فيستوفي بذلك حقه، ولا يتبع المليء منهم عن المعدم؛ وقد قيل: إنه إذا وجد أحدهم مليئا- وقد أعدم الثاني ساواه(14/206)
فيما في يديه إن كان جزؤه مثل جزئه، أو رجع عليه بقدر جزئه من جزئه إن لم يكن جزؤه مثل جزئه، ويتبعان معا أصحابهما قياسا على المسألة التي في كتاب محمد، وهي الرجل يترك زوجة وورثة غيرها فيقتسمون المال ثم طرأ بعد ذلك زوجة أخرى فتجد هذه الزوجة الأولى التي أخذت الثمن كله عديمة أنها تترجع بحصتها في يد من وجدت مليئا من الورثة، ثم يتبع ذلك الذي رجعت عليه بحصتها فيما في يده الزوجة الأولى معها، وهذا إذا كان الذي اقتسموا دنانير، أو دراهم، أو ما يكال، أو يوزن؛ فإن كان غير ذلك، انتقضت القسمة؛ وأما إن كان الولد أو أحدهم صالح المرأة على ثمنها من التركة، فلا يجوز ذلك على الوارث الطارئ إلا أن يشاء، إذ قد يترك الميت في التمثيل سبعين مثقالا، ودارا تساوي خمسة عشر مثقالا أو عشرين، يصالحها الورثة على ثمنها بالدار، فلا يلزم ذلك الوارث الطارئ، ولا من لم يصالحها على ذلك من الورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يخاصمه الرجل في دار بيده فيصالحه على أن أعطاه مائة دينار]
مسألة وسئل عن الرجل يخاصمه الرجل في دار بيده، فيصالحه على أن أعطاه مائة دينار وأبطل دعواه فيها، ثم جاء رجل فاستحق الدار أو نصفها؛ فقال: إن استحقت كلها رد المائة التي أخذ، وإن استحق نصفها رد خمسين، وعلى هذا الحساب يرد من المائة دينار قدر ما يستحق من الدار.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه قد تبين باستحقاق الدار بطلان دعوى المدعي فيها، فوجب أن يرد ما صولح به على دعواه التي قد(14/207)
تبين كذبه فيها؛ وكذلك إذا استحق منها النصف، يرد نصف ما صولح به؛ لأنه قد تبين كذبه في نصف دعواه، إلا أن يطول الزمان إلى مثل ما تهلك فيه البينات وينقطع العلم، فلا يرد المائة- قاله ابن القاسم في نوازل سحنون في هذا الكتاب في بعض الروايات؛ فيحمل قوله هناك على التفسير لقوله هنا، وهذا إذا كان الصلح على الإنكار؛ وأما إذا كان على الإقرار، فلا يرد شيئا على قياس قول ابن القاسم في رواية عيسى من كتاب الاستحقاق في الذي يشتري العبد من الرجل فيستحق من يده ويقر المبتاع أنه من تلاد البائع أنه لا رجوع له عليه بالثمن، وكذلك ما أشبهه؛ ولسحنون في نوازله من هذا الكتاب في بعض الروايات، إنه يرد ما أخذ في الصلح إذا استحق الشيء المدعى فيه سواء كان الصلح فيه على الإقرار أو على الإنكار، ومثله لأشهب في المجموعة، وذلك مثل قوله وقول ابن وهب في سماع عبد الملك من كتاب الكفالة والحوالة على ما ذهب إليه الشيوخ، خلاف ما حملنا عليه قولهما في الكتاب المذكور، ولسحنون في نوازله من كتاب جامع البيوع ما ظاهره مثل رواية عيسى، فالقولان متكافئان، لكليهما وجه من النظر، فوجه القول: بأنه لا رجوع له عليه بما صالحه به، إذا كان الصلح على الإقرار، هو أنه لا يصح له أن يرجع عليه بما يعلم أنه لا يجب عليه؛ ووجه القول الثاني: أن الصلح إذا كان على الإقرار، فهو بيع من البيوع؛ لأن المدعي باعه من المدعى عليه، وهو يقر أنه له؛ فمن حجته في الرجوع عليه أنه يقول له: أنت أدخلتني في شرائه فعليك أن تبطل شهادة من شهد علي بباطل حتى لا تؤخذ السلعة من يدي، ويتهم إذا لم يفعل ذلك بأنه قصر في الدفع إذ علم أن المشتري لا يتبعه، فأراد أن يكلفه من الدفع في البينة ما هو ألزم له منه، وبالله التوفيق.(14/208)
[: يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين على الدية]
ومن كتاب يشتري الدور والمزارع وسئل عن الرجل يقتل الرجلين عمدا فيثبت ذلك عليه فيصالح أولياء أحد القتيلين على الدية وعفوا عن دمه وأبى أولياء الآخر إلا أن يستقيدوا منه، فقال: القود لمن أخذه، ولا يمنع من قتله الولي الذي لم يرد إلا القود، من أجل ما رضي به الذين صالحوا على دم صاحبهم؟ ولكن إن استقادوا، بطل صلح الذين صالحوه؛ لأنه إنما صالحهم للنجاة من القتل، فإذا أبى الآخرون إلا القود؛ فلا يجمع عليه القتل وذهاب المال في أمر لم يدخل عليه به مرفق.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أن الصلح لا يلزم المصالح إذا أبى الولي الآخر إلا القود، وفيه أيضا فساد إن كان نفذ من أجل الخيار الذي للولي الثاني، فلا يجوز وإن أجازه الولي الثاني إلا على اختلاس، إذ قد اختلف في الصلح ينعقد بين المتصالحين على حرام، فقيل: إنه يفسخ ولا يجوز، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرام حلالا» . وهو قول مطرف، وابن الماجشون؛ وقيل: إنه ينعقد إذا وقع في وجه الحكم، لما روي أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بصلح فقرأه، فقال: هذا حرام، ولولا أنه صالح لفسخته. وهو قول أصبغ، قال: وأما فيما بينه وبين الله، فلا يحل له أن(14/209)
يأخذ إلا ما يجوز في التبايع، وأما إذا وقع الصلح بمكروه، فقيل: إنه يمضي، وهو قول مطرف، وقيل: إنه يرد ما لم يطل، وهو قول ابن الماجشون، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعي قبل الرجل أنه سرق غلاما له وينكر المدعى عليه]
مسألة وسئل عن الرجل يدعي قبل الرجل أنه سرق غلاما له، وينكر المدعى عليه، فيصطلحان على مال يغرمه المدعى عليه للمدعي، ثم يوجد العبد، فقيل له: لمن يكون: ألسيده؟ أم للذي صولح حين ادعى عليه أنه سرقه؟ فقال: يكون للذي ادعى عليه أنه سرقه بالذي غرم في الصلح؟ قيل له: فلا يكون السيد أحق به إذا ظفره الله بعبده، ويرد المال الذي أخذ بالصلح؟ فقال: ليس ذلك له؛ لأنه لو وجد العبد أعور، أو أقطع؛ أو وجده بعد زمان- وهو هرم أو دخله نقص يعطبه، فقال الذي صالح عما ادعى عليه: إذا جاء إليه بالعبد، فاردد علي ما أخذت مني وخذ عبدك معيبا، أو صحيحا بحال ما وجدته؛ فليس ذلك له، ولا ينتقض عنه الصلح بظهور العبد؛ لأنه وقع بأمر جائز حلال، فهو ثبت بينهما ويكون العبد للذي صولح بما غرم- وجد صحيحا أو معيبا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو على معنى ما في المدونة؛ لأنه لما ادعى عليه أنه سرق غلامه فأنكر، تعينت له عليه اليمين، ومن حقه أن يردها على المدعي. فيحلف ويأخذ قيمة عبده، فإذا اصطلحا، فقد باع منه بما اصطلحا عليه ما كان يجب له به الرجوع عليه من قيمة عبده لو(14/210)
حلف على ألا يحلف، فوجب أن يكون العبد للمدعى عليه إن وجد بما أخذ منه في الصلح على ألا يحلفه، وإن كان على حاله التي كان عليها حين سرق أو أفضل منها؛ لأنه رضي بما أخذ، ولو شاء استثبت ولم يعجل، وكذلك إذا وجد، وهو أقطع أو أعور، ولا يكون للمدعى عليه أن يقول له: هذا عبده فخذه ورد علي ما أخذت مني؛ لأنه يقول له أنت سرقته مني وغيبته عني، وقد وقع الصلح فيه بيني وبينك على أمر جائز، فليس لك أن تنقضه، ولو أقر صاحب العبد للمدعى عليه لما وجد العبد مقطوعا أو أعور، أنه لم يسرقه منه، وأنه ادعى عليه باطلا، لوجب عليه أن يأخذ عبده ويرد عليه ما أخذ منه، وبالله التوفيق.
[: امرأة ذات زوج لها أرض فغرس زوجها فيها]
من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك سئل عبد الله بن وهب عن امرأة ذات زوج لها أرض فغرس زوجها فيها، أو بنى بنيانا ثم هلك، فادعت ذلك البنيان، أو الغراس أنها هي بنته بمالها، أو غرسته، وادعى ورثة زوجها، أن العمارة لزوجها؛ من أولى بتلك العمارة - إذا لم يكن لواحد منهما بينة أو قامت البينة لورثة الزوج، فادعت المرأة أن زوجها عمر لها أرضا بنفقتها وبمالها، وأنكر ذلك ورثة الزوج وقالوا إنما أنفق ماله وعمر، وغرس لنفسه في أرض المرأة؟ فقال: إن كانت الأرض معروفا أصلها للمرأة لا تدافع عنها بوجه من الوجوه، فلم يقم لورثة الزوج بينة على نفقة ولا على ولاية بنيان ولا(14/211)
قيام عليه، فالقول قول المرأة، ولا شيء لورثة الزوج ولا للزوج لو كان حيا عليها أكثر من يمينها على ما يزعمون؛ وإن عرفت نفقة الزوج وبنيانه إياه وقيامه، فالمرأة مخيرة إن شاءت أعطته قيمته منقوضا وإن شاءت طرحت ذلك؛ وإن ادعت أنه إنما بناه بمالها أو أنها أعطته ما بناه من مالها لم تصدق إلا ببينة تقوم لها، وكان عليها غرم ذلك؛ قال: وقال أشهب: إذا كان الزوج حيا، فالقول في ذلك قوله؛ وإذا مات الزوج، فالقول في ذلك قول المرأة؛ إلا أن تقوم بينة أن الزوج كان يدعي في حياته تلك المرمة ولو مرة واحدة، فيكون القول في ذلك قول الورثة مع أيمانهم: ما يعلمون العمارة ولا شيئا منها للمرأة. ومن كتاب الجواب من سماع عيسى قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يبني في أرض امرأته بنفسه ورقيقه أو يرم لها بعض ما ورث من بنيانها، ثم يطلب النقض، أو يموت فيطلب ذلك ورثته؛ قال ابن القاسم: ذلك له إن كان حيا، أو لورثته إن كان ميتا، إذا علم أنه الباني لذلك والقائم به، فإن ادعت المرأة أنه إنما بناه من مالها، وأنها أعطته ذلك وفوضت إليه، حلف إن كان حيا إن لم تكن لها بينة، وإن كان ميتا حلف ورثته إن كانوا ممن قد بلغ علم ذلك، أو ممن يبلغ منهم، ثم استحقوا نقضهم.
قال محمد بن رشد: فرق ابن وهب في هذه الرواية بين أن تقر المرأة لزوجها أنه بنى البنيان وتدعي أنه إنما بناه بمالها وبين أن تنكر أن يكون(14/212)
بناه، فيقيم هو البينة أنه بناه، فقال: إنه إذا أقرت له بأنه بناه وادعت أنه إنما بناه بمالها، يحلف أنه إنما بناه بماله مكذبا لدعواها، كان له عليها ما أنفق، وأنه إذا أنكرت أن يكون بناه، فأقام هو البينة على أنه بناه، لم يكن له إلا نقضه يقلعه، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا؟ وساوى ابن القاسم في رواية عيسى هذه عنه بين الوجهين في أنه لا يكون له إلا قيمة نقضه منقوضا أو يقلعه؛ لأنه إذا قال ذلك في الذي أقرت له بالبنيان وادعت أنه بناه بمالها وحلف على ذلك، فأحرى أن يقوله في الذي أنكرت أن يكون بناه هو فأقامت البينة على ذلك، فلا اختلاف بينهما إذا أنكرت أن يكون بناه، فأقام البينة على ذلك في أنه ليس له إلا نقضه يقلعه، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا، وإنما اختلفا إذا أقرت له أنه بناه وادعت أنه بناه بمالها؟ فقال ابن وهب له نفقته، وقال ابن القاسم: له نقضه يقلعه إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا؛ فحمل ابن وهب أمره في ذلك على الوكالة حتى يثبت عليه التعدي. وقوله في ذلك صحيح على قياس قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي رسم البز من سماعه أيضا من كتاب المديان والتفليس - في أن تصرف الرجل في مال امرأته، محمول على الوكالة لا على التعدي؛ وحمل ابن القاسم أمره في ذلك على العداء، حتى يثبت أنها امرته بذلك ووكلته عليه؛ ولو أقرت أنها أذنت له في البنيان بمالها، فادعى هو أنه أنفق في ذلك ماله، لكانت له نفقته عندهما جميعا بعد يمينه أن النفقة في ذلك كانت من عنده؛ وقد مضى بيان هذا أيضا في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وفي كتاب آخر رسم(14/213)
الكبش من سماع يحيى منه؛ ونزل على مذهب ابن القاسم وابن وهب ورثة الزوج منزلته في الدعوى وإن لم تعلم منه في ذلك دعوى، خلاف قول أشهب أنهم لا ينزلون منزلته في الدعوى إلا أن تعرف منه الدعوى، ووجه قوله أنه حمل بنيانه في دار امرأته وغرسه في أرضها على العطية منه لها، لما بينهما من حرمة الزوجية التي تقتضي المعروف بينهما بخلاف الأجنبيين، ألا ترى أنه قد قيل في هبة أحد الزوجين لصاحبه: أنه لا ثواب له في هبته إياه، إلا أن يشترط الثواب؛ وهو قول ربيعة في المدونة، وأحد قولي مالك فيها؛ وقول أشهب في هذه المسألة على قياس قولهم في الذي ينفق على ولده ولهم بيده مال ناض قد ورثوه فيموت، أنهم لا يحاسبون بما أنفق عليهم أبوهم من ماله، إلا أن يكتب ذلك عليهم ويوصي أن يحاسبوا ذلك، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة تحصيل القول في هذا، وبالله التوفيق.
[: اصطلحا على أن رضي كل واحد منهما يمين صاحبه في كل ما يدعي]
من سماع أصبغ من ابن القاسم من
كتاب البيع والصرف قال أصبغ بن الفرج: وسئل ابن القاسم عن رجلين اصطلحا على أن رضي كل واحد منهما يمين صاحبه في كل ما يدعي كل واحد منهما وطرحا بيناتهما، فمن حلف منهما على ما يدعي(14/214)
عليه به صاحبه سقط عنه، وإن نكل غرم بلا رد يمين، أو برد يمين، فإن ادعى بعد ذلك شهادة أحد، فلا شهادة لهم، فاصطلحا على هذا؛ قال: ذلك جائز ثابت لا بأس به، قيل له: فإن كان هذا مكتوبا، فما ثبت لكل واحد منهما على صاحبه فهو يؤخر له به إلى أجل مسمى، فقال: لا خير فيه ولا يعجبني إذا كان ذلك شرطا يلزم فأما إن لم يكن شرطا يلزم فلا بأس أن يتطوع بذلك وقاله أصبغ بن الفرج كله، ولا أفسخ الذي أقر على أن يؤخره، فإني أمضيه إذا وقع وألزمه الإقرار وأجعل له التأخير والأجل، ولا أجد في حرامه من القوة والتهمة ما أبطله به، وإنما هو أحد وجهين: أن يكون حقا عليه هي نظرة، أو يكون باطلا ليست عليه فيتطوع به له لأجل، كالهبة والهدية، والله أعلم؛ قال أصبغ: وهو الذي وجدت الناس على، إمضائه لا أعلمه إلا وقد قاله هو أيضا ورجع إليه واختلف قوله فيه أيضا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ: أن الصلح إن وقع على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت عليه بنكوله أو يحلف صاحبه، فهو مكروه ولا يفسخ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون حقا فهي نظرة، أو باطلا فهي هبة، ليس ببين؛ لأنه يخشى أن يكون ما يثبت لكل واحد منهما على صاحبه حقا يكون قد أخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت له عليه على أن يؤخره هو بما ثبت له عليه، فيدخله أسلفني وأسلفك، ويخشى أن يكون أيضا لأحدهما على صاحبه أقل من العدد الذي يؤخره به، فيكون إنما نكل عن اليمين وردها على صاحبه ليؤخره بالخمسة التي له عليه إلى أجل على أن يعطيه بها عشرة عند الأجل، إلا أن هذا لا يتحقق، فالأظهر إجازة الصلح كما قال، لا(14/215)
سيما ومن مذهبه أن الصلح على الحرام يجوز عنده في وجه الحكم، ولا يفسخ وإن كان لا يجوز عنده لأحد المتصالحين فيما بينه وبين الله إلا ما يجوز في التبايع، وفي هذا تفصيل؛ أما إذا انعقد الصلح على الحرام بين المتصالحين، فلا يجوز ويفسخ باتفاق؛ مثل أن يدعي رجل على رجل دعوى فينكره في بعضها، فيصالحه على جميعها بما يتفقان عليه على أن يسلف أحدهما صاحبه سلفا، فهذا لا يجوز باتفاق؛ لأنه بيع وسلف، وأما إن ادعى رجل على رجل دعوى أنكره في جميعها، فصالحه عنها بما سمياه على أن أسلف أحدهما صاحبه سلفا أو ما أشبه ذلك مما هو في معناه، مثل أن يدعي رجل على رجل إردب قمح فينكره فيه، فيصالحه عنه على شعير إلى أجل؛ ومثل أن يدعي عليه حقا فينكره فيه فيصالحه عنه على سكنى دار أو خدمة عبد، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا لا يجيزه مطرف وابن الماجشون، ويفسخانه ولا يمضيانه، ويجيزه أصبغ ويمضيه في وجه الحكم ولا يفسخه؛ لأن المطلوب يدعي صحته ويريد إجازته ويقول للطالب: إن كنت محقا في دعواك، فلا يحل لك أن تأخذ فيما تدعي ما لا يجوز لك أن تأخذه في البيوع، ووجه المخرج له من ذلك إن كان صالح عن القمح بشعير أن يبيع الشعير ويشتري منه القمح الذي له ويدفع بقيته إن كان فيه فضل إلى صاحبه، وإن كان صالح عن حق بسكنى دار واستخدام عبد لم يسكن الدار ولا استخدم العبد، وأكرى ذلك بالنقد، فاستوفى منه حقه ودفع الفضل إن كان فيه فضل إلى صاحبه؛ ولو رفع ذلك إلى الإمام فكان هو الذي يفعل ذلك، لكان أخلص له- والله أعلم؛ وأما إذا وقع الصلح على وجه ظاهره الفساد ولا يتحقق في جهة واحد من المتصالحين، فهذا لا يفسخ باتفاق، وتورع كل واحد منهما في خاصة نفسه، وذلك نحو مسألتنا هذه في هذه الرواية، وبالله التوفيق.(14/216)
[مسألة: يدفع إلى الصراف الدينار يزنه فيقول الصراف قد رددته إليك]
مسألة وسئل ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى الصراف الدينار يزنه فيقول الصراف قد رددته إليك، ويقول الرجل لم ترده إلي وهما في مجلسهما ومكانهما، قال: القول قول الصراف ويحلف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أن القول قول الصراف مع يمينه أنه قد رده إليه إذا كان إنما دفعه إليه ليزنه له ويرده إليه؛ لأنه مؤتمن على رده ولو دفعه إليه ليزنه فيعطيه صرفه، فقال قد رددته إليك إذ لم أجده وازنا وأنكر دافعه، لوجب أن يكون القول قول صاحب الدينار إنه ما صرفه إليه، وبالله التوفيق.
[: شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة دينار]
ومن كتاب البيوع قال وسئل ابن القاسم عن رجلين شهدا على رجل أنه قال: لفلان علي مائة دينار، أو لفلان لا يدريان أيهما هو، قال ليس عليه أن يغرم أكثر من المائة، ثم يحلف هذان المسميان، ثم يقتسمان المائة بينهما؛ قال أصبغ: يحلف كل واحد منهما أنه هو، وأن له عليه مائة ثابتة؛ فمن نكل منهما فهي للآخر إن حلف؛ وإن نكلا جميعا اقتسماها بينهما بغير يمين بمنزلة حلفهما جميعا، فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزوروا(14/217)
أنفسهما، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا لشهادتهما.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا مفسر لقول ابن القاسم، وفي قوله فإن رجع الشهيدان في شهادتهما بعد الحكم وزوروا أنفسهما، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا لشهادتهما، دليل على أنه لا فرق فيما يلزم المقر بهذه الشهادة بين أن يكون مقرا بها، أو منكرا لها، وإنما يفترق ذلك فيما يلزم الشهيدين من الغرم برجوعهما عن الشهادة، خلاف ما ذهب إليه ابن دحون فيما رأيت له أنه قال: معنى هذه المسألة أن المقر هو الشاك، إنه أنكر إقراره فيلزمه بالبينة، غرم المائة يقتسمانها بينهما؛ ولو كان مقرا بما قال، للزمه غرم مائتين. وقوله لا يدريان أيهما هو، معناه أنهما لا يدريان ذلك من أجل أن المشهود عليه هو الذي قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان من أجل أنه لم يدر لمن هي منهما، فحصل الشك من المشهود عليه لا من الشاهدين، ولو كان الشك من الشاهدين بأن يقولا أشهدنا فلان أن عليه مائة دينار لأحد هذين الرجلين وسماه لنا، إلا أنا لا ندري من هو منهما نسيناه، لما جازت شهادتهما على المشهور في المذهب، وحلف لكل واحد منهما- إن كان منكرا أو لمن أنكر منهما- إن كان مقرأ لأحدهما؛ وقد قيل أن شهادتهما جائزة يلزمه بها مائة واحدة تكون لمن حلف منهما إن نكل أحدهما، أو يقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا، وهو الذي يأتي على ما وقع في أصل الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، ولابن وهب في رسم الأقضية والوصايا من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، وقد قيل في هذا النحو من الشهادات أنها تجوز في الوصية بعد الموت، ولا تجوز على الحي؛ فيتحصل فيها ثلاثة أقوال في الجملة: إجازتها في الوجهين، وإبطالها في(14/218)
الوجهين، والفرق بين الموضعين؛ وكذلك يتحصل ثلاثة أقوال في الذي يقر بالمائة لأحد هذين الرجلين من دين أو وديعة لا يدري لمن هي منهما، أحدها: أنها لا تلزمه إلا مائة واحدة تكون لمن حلف منهما. والثاني: أنه يلزمه أن يغرم مائة لكل واحد منهما. والثالث: الفرق بين الوديعة والدين، وقد مضى هذا في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومضى الكلام على المسألة مستوفى في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، لتكرر المسألة هناك، والله الموفق.
[: ادعى قبل رجل جارية أنه رهنها عنده]
ومن كتاب البيوع والعيوب قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عمن ادعى قبل رجل جارية أنه رهنها عنده، ويقول الآخر: إنما اشتريتها منك، فشهد للمدعي شاهدان أنه رهنها عنده، وشهد للآخر شاهدان أيضا على الاشتراء. ولا يدري الرهن أولا أو البيع؟ قال: الاشتراء أولى إذا قامت له البينة أنه اشترى، فهو أثبت؛ لأنه قد ثبت أنها له؛ فالاشتراء أثبت، إلا أن يقيم المدعي البينة أنه رهنه إياها بعد الاشتراء، فيعرف أنها قد رجعت إليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بينة الشراء قد أحقت انتقاد الملك بالبيع، فوجب إلا يبطل ذلك بإشهاد على الرهن، لاحتمال أن يكون الرهن قبل البيع، وبالله التوفيق.
[: ادعيا دارا فأقام أحدهما شاهدين والآخر شاهدا]
ومن كتاب محض القضاء وسئل ابن القاسم عن رجلين ادعيا دارا فأقام أحدهما شاهدين(14/219)
والآخر شاهدا والشاهد أبرز في العدالة، والدار ليست في يد واحد منهما؛ قال: الدار لصاحب الشاهدين، قال أصبغ: صاحب الأبرز مع يمينه أحق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول ابن القاسم في هذا، فروى أبو زيد عنه في كتاب الشهادات مثل قول أصبغ، ومثله ذكر ابن المواز في كتابه أنه يقضي بالشاهد الواحد- وإن كان الذي شهد بخلافه أربعة دونه في العدالة، وقول ابن القاسم في هذه الرواية أظهر؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلا، ومنهم من لا يرى الترجيح بين البينتين أصلا؛ فالقول بأنه يقضي بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من الشاهدين، إغراق في القياس، ومثل قول ابن القاسم في هذه الرواية حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون قالا: ولو كان الشاهد أعدل أهل زمانه، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ذكر الاختلاف في الترجيح بين الشهود، وفي آخر سماع عيسى منه- القول في الترجيح بين المعدلين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.
[مسألة: العبد يدعي العتق من سيده عند موته]
مسألة قال وسألته عن العبد يدعي العتق من سيده عند موته، فيريد أن يحلف الورثة من علم ذلك؛ قال: ما ذلك له، قلت فإن ادعى أن الوارث قد حضر ذلك فأراد استحلافه، فقال ليس ذلك له؛ قال أصبغ: ولا بشاهد أيضا هنا.(14/220)
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يكن له شاهد على ما يدعيه من عتق سيده إياه فبين أنه لا يمين على الورثة: وإن ادعى العبد عليهم أنهم قد حضروا ذلك وعلموا به؛ لأن اليمين إذا لم تجب على السيد، فأحرى ألا تجب على الورثة؛ وأما إذا كان له شاهد على عتق سيده إياه وادعى على الورثة علم ذلك، فقول أصبغ ههنا: أنه لا يمين عليهم مع تحقيق الدعوى بالمعرفة عليهم بعيد، وقد روى ابن القاسم عن مالك في رسم قطع الشجر من سماعه من كتاب العتق أن الورثة يحلفون ما علموا بعتق صاحبهم إذا لم يجد إلا شاهدا واحدا، ظاهره وإن لم يدع المعرفة عليهم؛ ومثله في المدونة، وههنا يصح الخلاف؛ لأنها يمين تهمة، وبالله التوفيق.
[مسألة: يدعي حقا قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقا]
مسألة قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الرجل يدعي حقا قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقا، وأبى فيقول له بل احلف أنت وخذ، فإذا هم المدعي أن يحلف، بدا للمدعى عليه وقال لا أرضى بيمينك ولم أظنك تجتري على اليمين؛ هل ذلك عند سلطان وعند غير سلطان سواء؟ قال ليس ذلك للمدعى عليه أن يرجع ويحلف المدعي ويحق حقه على ما أحب الآخر أو كره؛ لأن المدعى عليه قد رد عليه اليمين، فليس له لرجوع فيها؛ وسواء كان ذلك عند سلطان أو غير سلطان- إذا شهد عليه بذلك، وهو الحق- إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة على- نصها- في رسم(14/221)
الجواب من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، ومثل قوله هذا في كتاب الديات من المدونة، ولا خلاف أعلمه من أنه ليس له أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي، واختلف هل له أن يرجع إليها بعد أن نكل عنها- ما لم يردها على المدعي، فقيل: ليس ذلك له وهو ظاهر ما في الديات من المدونة، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية؛ وقيل ذلك له وهو ظاهر قول ابن نافع في المدنية، والقولان محتملان، وبالله التوفيق.
[: يدعي السلعة بيد الرجل فيخاف على سلعته أن تتلف]
من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ فقيل له: الرجل يدعي السلعة بيد الرجل فيخاف على سلعته أن تتلف فيشتريها من الذي هي في يديه، ثم يريد القيام عليه بعد ذلك ببينة فقال: إن كان لم يعلم أن له بينة ولم يعلم بذلك، فذلك له إن ثبتت البينة ويرجع بماله، وإن كان قد علم أن له بينة وعرف موضعها، فلا أرى له بعد ذلك كلاما ولا حجة؛ وإن زعم إنه إنما اشتراها بدارا ومخافة أن يغيبها أو ينفقها- وإنما ذلك- عندي مثل الرجل يصالح وهو يعلم أن له بينة، إلا أن تكون بينته بعيدة جدا ويكون قد أشهد قبل أن يشتريها- أنه إنما يشتريها لما يخاف من أن يغيبها الذي هي في يديه لموضع غيبة بينته وبعدها، ثم يقوم بعد ذلك عليه، فأرى ذلك ينفعه إذا كان كذلك، وإلا فلا كلام له ولا حجة؛ قال: وإن أتى ببينة بعد الاشتراء، وزعم أنه لم يعلم بها، وقال البائع: قد علمت واشتريت على علم بها أو صالحت، فالقول قوله أنه لم يعلم مع يمينه، إلا أن يثبت عليه(14/222)
أنه قد علم؛ لأنه ثبت له الرجوع بماله وأخذه، فالبائع مدع عليه ما يسقط ذلك بالثبت عليه.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في هذه الرواية أن له أن يقوم بعد الصلح ببينته التي علم بها إذا كانت بعيدة جدا، وقد كان أشهد قبل أن يشتريها أنه إنما يشتريها مخافة أن يغيبها الذي هي في يديه لبعد غيبة بينته، خلاف ظاهر ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس من أنه لا ينتفع بالإشهاد قبل الصلح في مغيب بينته، إذ لم يفرق في ذلك بين قرب الغيبة من بعدها، والأولى أن يتأول على أنه إنما تكلم على أن غيبة الشهود غير بعيدة جدا، فيكون قول أصبغ هذا مفسرا لقول ابن القاسم هناك؛ ولا احتمال في أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر إذا كانت غيبته غير بعيدة، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة بتقسيم وجوهها، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي فجاءت امرأته بصداقها على زوجها فأنكر وارثه]
مسألة قيل لأصبغ رجل توفي فجاءت امرأته بصداقها على زوجها) فأنكر وارثه، غير أنه أشهد نفرا فقال: إن قامت على ما تذكر بينة عدلة، فهو في مالي؛ فشهد على الصداق شاهد عدل، فقال قد قلت إن أقامت بينة، فالواحد ليس ببينة، إنما أردت شاهدين؛ قال ذلك له ويحلف ويبرأ حتى تقيم شاهدين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه الظاهر من قوله، مع أنه(14/223)
لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، فإذا حلف برئ ولم يلزمه في ماله شيء، وحلفت هي مع شاهدها أن ما شهد به حق، وإنها ما قبضت ولا وهبت، وإنه لباق عليه إلى حين يمينها وتستوجب حقها في تركته، وبالله التوفيق.
[: الوصي يجوز صلحه عن اليتيم]
ومن كتاب الوصايا الأول من سماع أصبغ قال أصبغ سألت ابن القاسم عن الوصي أيصالح لليتامى؟ قال: نعم إذا رأى لذلك وجها، وكان على وجه النظر؛ قلت له: وكيف يعرف وجه ذلك: أبالسلطان؟ قال بل يصالح فإن طلب نقض ذلك بعد ورفع نظر السلطان فيه- إذا رفع إليه، فإن رأى وجه ضرر نقضه، وهو أبدا جائز حتى يرى وجه ضرر غير وجه النظر.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وظاهرها أن الوصي يجوز صلحه عن اليتيم الذي إلى نظره فيما طلب له من حق أو طلب به في أن يأخذ بعض حقه الذي يطلب له، ويضعه إذا خشي ألا يصح له ما ادعاه، وبأن يعطي من ما له بعض ما يطلب به إذا خشي أن يثبت عليه جميع ما يطلب له. وهو له في النوادر مكشوفا خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون من أنه يجوز له أن يصالح عنه فيما طلب له من حق، بأن يضع بعضه ويأخذ بعضه؛ ولا يجوز له أن يصالح عليه فيما طلب به ببعض ذلك، والصواب ألا فرق بين الموضعين كما ذهب إليه ابن القاسم، وبالله التوفيق.(14/224)
[مسألة: دابة ادعاها رجلان وليست بيد واحد منهما]
مسألة وسئل ابن القاسم عن دابة ادعاها رجلان وليست بيد واحد منهما، فأقام أحدهما البينة أنها نتجت عنده، وأقام الآخر البينة أنها اشتراها من المغانم، قال أراها للذي اشتراها من المغانم، ولا يشبه الذي اشتراها من سوق المسلمين؛ لأن هذه تسرق وتغصب وتؤخذ بغير حق، وليست تحاز عن الذي نتجت عنده إلا ببينة تثبت عليه أنه باعها، أو بأمر يحاز يستيقن أنها خرجت من يد صاحبها، وأن الذي يشتري من المقاسم يستيقن أنها خرجت من يد صاحبها حين حازها المشركون؛ فالمشتري أولى بها لحيازة المشركين إياها، قال: ولو وجدت في يد الذي نتجت عنده وأقام هذا البينة أنه اشتراها من المغانم، أخذها منه أيضا، وكان أولى بها؛ إلا أن يشاء أن يدفع إليه الثمن ويأخذها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا وقعت في بعض الروايات وهي مسألة صحيحة، والمعنى فيها بين؛ لأن ملك المشركين لها، يرفع ملك سيدها عنها؛ فيكون من اشتراها من المغانم، كمن اشتراها من سوق المسلمين بعد أن علم أن الذي نتجت عنده باعها أو وهبها أو تصدق بها، وبالله التوفيق.
تم كتاب الدعوى والصلح- والحمد لله(14/225)
[: كتاب الاستلحاق] [المولى يعتق أبوه في الزمان الأول ثم يهلك ولا يدع وارثا إلا مولى وقرابة]
(كتاب الاستلحاق) من سماع ابن القاسم من مالك - رواية سحنون من كتاب قطع الشجر- قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن المولى يعتق أبوه في الزمان الأول ثم يهلك ولا يدع وارثا إلا مولى وقرابة يلقاهم إلى أب جاهلي، قال: إن كان مجهولا فلا يرثه قرابته وإن لم يكن مجهولا وكان من أهل قرية افتتحت عنوة فسكنها أهل الإسلام وصارت دارهم، فإن من أعتق من أولئك ويسلم من بقي من قرابتهم، فأرى أن يتوارثوا بالنسب ولا يكون لمواليه من ميراثه شيء، وذلك أنهم سكنوا مع قرابتهم بقريتهم ومكانهم وليسوا مثل(14/227)
المحمولين الذين يؤتى بهم من بلد آخر فيتعارفون في دار الإسلام، فيقولون (نحن إخوة وقرابة ما كانت) ، فإن أولئك لا يتوارثون، وأما هؤلاء الذين ذكرت أنهم لم يخرجوا من مكانهم فإن أهل الإسلام دورهم وصارت دارهم دار أهل الإسلام، فإن هؤلاء يتوارثون بالقرابة، وإن لم تثبت قرابتهم، إلا إلى جاهلي، فإن أولئك يتوارثون. قال ابن القاسم: وقال لي مالك: لو أن أهل حصن أسلموا أو جماعة لهم عدد فتحملوا إلى بلد المسلمين، رأيت أن يتوارثوا بأنسابهم؛ وأما النفر اليسير مثل الثمانية والسبعة، فلا أرى أن يتوارثوا، قال ابن القاسم: والعشرون عندي عدد يتوارثون، قال سحنون: لا أرى العشرين عددا يتوارثون.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في ولادة الشرك هل يتوارث بها في الإسلام أم لا- على قولين، أحدهما - وهو قوله الأول أنه لا يتوارث بها في الإسلام وإن ثبت النسب بعدول من المسلمين على ظاهر ما روي من أن عمر بن الخطاب أبى أن يورث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد(14/228)
في العرب، وهو قول ابن الماجشون وأبيه عبد العزيز بن أبي سلمة، والمغيرة، وابن دينار، وربيعة، وابن هرمز. والثاني الذي رجع إليه أنه لا يتوارث بها إلا أن يثبت النسب بالبينة العدلة، مثل الأسارى من المسلمين يكونون عندهم، أو الحربيين يأتون بأمان فيسلمون، أو يسبون فيعتقون ويسلمون، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ ذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كتب إلى شريح ألا يورث الحميل إلا ببينة، وإلى هذا ذهب ابن القاسم، ورواه عن مالك؛ فقال: إنما تفسير قول عمر لا يتوارث بولادة الأعاجم في الدعوى خاصة؛ وأما إن ثبت ذلك بعدول من المسلمين كانوا عندهم فهم كولادة المسلمين وهو الصحيح في النظر، إذ لم ينص عمر ما روي عنه أنهم لا يتوارثون بحال وإن ثبت النسب ببينة؛ فتفسير قوله بقوله أولى من أن يحمل على الاختلاف؛ وإن شهد على قياس هذا القول بعضهم لبعض وهم عدول، جازت شهادتهم إلا أن يشهد المشهود لهم للشهود أيضا، فلا يجوز ذلك إلا على اختلاف؛ وهذا الاختلاف- عندي- إنما هو في العدد اليسير يتحملون من بلاد الحرب إلى بلاد المسلمين، فيثبت نسبهم بشهادة المسلمين، وأما العدد الكثير يتحملون من أهل الحصن فيقرون أنهم قرابة، فلا اختلاف أنهم يتوارثون بأنسابهم وإن لم يكونوا عدولا، لوقوع العلم بإقرارهم من جهة الخبر لا من طريق الشهادة، ولا حد في عددهم؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو حصول العلم بخبرهم، وذلك لا يكون إلا في العدد الذي لا يمكن أن يتواطئوا على القول بذلك والإخبار به. فقول سحنون في أخذ هذه المسألة أصح من قول ابن القاسم. وقوله في أول مسألة: قال: إن كان محمولا فلا ترثه قرابته، معناه على ما حكيناه من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، معناه إذا لم يعرف أنهم قرابة إلا بدعواهم(14/229)
وبشهادة بعضهم لبعض وأما لو عرف أنهم قرابة بشهادة شاهدين عدلين من سواهم، لكان لهم الميراث، وكانوا أحق به من مولاه، فيحتمل أن يكون قوله هذا على القول بأن الشهود إذا شهد بعضهم لبعض هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء، لم تجز شهادتهم، ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أن الميت قد ثبت ولاؤه لمولاه؛ فيتحصل على هذا في إجازة شهادتهم إذا شهد بعضهم لبعض؛ ثلاثة أقوال، أحدها: أنها تجوز. والثاني: أنها لا تجوز، والثالث: الفرق بين أن يكون الميت قد ثبت ولاؤه لمن أعتقه، أو لمن يجب ذلك له بسبب العتق، وبين أن يكون حرا لا ولاء لأحد عليه؛ ويدل على هذا الفرق ما وقع في موطأ ابن وهب عن مالك أن المسبيين لا يتوارثون بشهادة بعضهم لبعض، بخلاف المتحملين؛ لأن الفرق بين المسبيين والمتحملين إنما هو أن المسبيين قد تقرر ولاؤهم لمن أعتقهم، ووجب لهم ميراثهم بولاء، فلا يبطل ذلك إلا بشهادة غيرهم، لا بشهادة بعضهم لبعض، والمتحملون لا ولاء لأحد عليهم، وبهذا المعنى اعتل الشافعي في الفرق بين المسألتين، وهو فرق ظاهر، فقال: إذا جاءوا مسلمين لا ولاء لأحد عليهم، قبلنا دعواهم؛ وإن كانوا قد أدركهم السبي والرق وثبت عليهم الولاء والملك، لم تقبل دعواهم إلا ببينة، وقد وقع في التفسير الثالث قال ابن القاسم: لو أن أهل حصن من الحصون سبوا جميعا بأسرهم ثم كانوا بموضع يتعارفون فيه، وأسلموا عند من ملكهم، لم يتوارثوا بتلك الأنساب؛ ولو أنهم إذ غلبوا على بلدهم، تركهم الإمام إذ أخذهم وضرب عليهم الجزية، توارثوا بأنسابهم؛ قال: والأمور تفترق بلا حجة ولا قياس، وعلينا في كل ما ثبت من ذلك من قول أهل العلم الاتباع، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الفرق بين المسألتين هو ما ذكرته وحكيته عن الشافعي. وقوله في أهل القرية التي افتتحت عنوة فسكنها أهل الإسلام(14/230)
معهم أنهم يتوارثون بأنسابهم، بخلاف المحمولين الذين يؤتى بهم من بلد آخر فيتعارفوا في دار الإسلام، أن أولئك لا يتوارثون بأنسابهم، معناه إذا كان عدد أهل القرية كثيرا، وعدد المحمولين يسيرا. ولو كان هؤلاء يسيرا وهؤلاء يسيرا، لما توارث هؤلاء ولا هؤلاء بإقرار بعضهم لبعض، إلا أن يكونوا عدولا، على الاختلاف في إجازة شهادة الشهود إذا شهد هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، أو كان هؤلاء كثيرا لتوارث هؤلاء وهؤلاء بشهادة بعضهم لبعض، وإن لم يكونوا عدولا، لوقوع العلم بقولهم من جهة الخبر، على ما ذكرناه، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
[: الحامل من غير زوج تلد في أرض الإسلام توأما]
ومن كتاب أوله طلق ابن حبيب قال وسئل مالك عن الحامل من غير زوج تلد في أرض الإسلام توأما بأيهم يتوارثون؟ قال أرى أن يتوارثا من قبل الأم، قيل له: فولد الملاعنة بأيهما يتوارثان؟ قال بأصلهما، فقيل له: من قبل الأب؟ قال نعم، وقد كان عمر بن الخطاب يليط أولاد الجاهلية وهم زنى بآبائهم، فقيل له: فالتي تأتي حاملا من أرض الشرك تسبى فتلد في الإسلام توأما؟ قال يتوارثان من قبل الأب وهذا بيّن، وإنما مثل ذلك مثل ما لو جاء أهل قرية يريدون الإسلام- وامرأة حامل- فولدت في أرض الإسلام، فهم يتوارثون من قبل أبيهم فقيل له: إنه لا يدري الزوج أو غيره؟ فقال: هو من الزوج إذا كان في الشرك، وقد ألاط عمر بن الخطاب ما كان في الشرك وهو زنى.(14/231)
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة وقد كان عمر بن الخطاب يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم وهم زنى بآبائهم يريد بالقافة، إنما يصح الاحتجاج به على التي تأتي حاملا من أرض الشرك، فتلد توأما، فكان صوابه أن يكون بإثرها لا بإثر مسألة الملاعنة، وقد يحتمل أن يريد بوجه احتجاجه أنه (إذا) كان عمر يليط أولاد الزنى - في حال ما - بآبائهم فأحرى أن يتوارث أتوام الملاعنة من قبل الأب، إذ ليس بزنى، لشبهة الفراش. وقد اختلف في أتوام الملاعنة ولم يختلف في أتوام المسبية والمستأمنة أنهما يتوارثان من قبل الأب والأم، وفي أتوام المغتصبة اختلاف، وقد اختلف أيضا في أتوام الزانية وقد مضى القول على ذلك (كله) مستوفى بالدلالة عليه في أول سماع ابن القاسم من كتاب اللعان، فلا معنى لإعادته ههنا مرة أخرى، وبالله التوفيق.
[: جدة الأب أم أب الأب إذا لم يكن ثم غيرها من الجدات ولا أم]
ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات وسئل مالك عن جدة الأب- أم أب الأب- إذا لم يكن ثم غيرها من الجدات ولا أم، أترث؟ قال مالك لا ترث- وإن لم يكن ثم غيرها، فإنها لا ترث.
قال محمد بن رشد: لم يختلف قول مالك وأصحابه في أنه لا يرث من الجدات إلا جدتان، أم الأم- وإن علت، وأم الأب- وإن علت على ما روي عن زيد بن ثابت. قال مالك ولم نعلم أحدا ورث غير جدتين منذ كان الإسلام إلى اليوم، فإن اجتمعا فالسدس بينهما، إلا أن تكون التي من قبل(14/232)
الأم أقرب. ومن أهل العلم- من غير المذهب- من يقول أن السدس للأقرب منهما، ولا يكون السدس بينهما إلا إذا استوتا في القرب؛ وروي عن ابن أبي أويس أنه قال: سألت مالكا عن الجدتين اللتين ترثان، والثالثة التي تطرح وأمهاتها؟ فقال: اللتان ترثان أم الأم وأم الأب وأمهاتهما- إذا لم تكونا. والثالثة التي تطرح: أم الجد أبي الأب وأمهاتهما؛ قال ابن أبي أويس: وأما أم أبي الأم فلا ترث شيئا؛ وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ورث ثلاثة جدات: اثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم» وهو قول الأوزاعي، وروي مثله عن زيد بن ثابت، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس - أنهما ورثا الجدات الأربع: أم الأم، وأم الأب، وأمهاتهما، وأم أبي الأب، وأم أبي الأم، وأمهاتهما، وإن علون. وروي عن ابن عباس أيضا قول ثان: أن الجدة كالأم إذا لم تكن أما، فترث على هذا الثلث، وهو خلاف الإجماع؛ فيشبه أن يكون الذي روى ذلك عن ابن عباس، قاسه على قوله في الجد لما جعله أبا؛ ظن أنه يجعل الجدة أما، والله أعلم، وبه التوفيق.
[: إذا استلحق من لا يشبه أن يكون ابنه]
ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا وسئل مالك عن الرجل يقول لغلامه: هذا ابني، والغلام معروف أنه سندي والرجل فارسي هل يصير حرا؟ قال مالك: ما يدعي من ذلك مما يستيقن الناس أنه ليس بابنه ولا ولده، فهو غير لاحق به.(14/233)
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أنه إذا استلحق من لا يشبه أن يكون ابنه، وتبين في استلحاقه إياه كذبه، فلا يلحق به وإنما اختلف قول ابن القاسم إذا استلحق من يشبه أن يكون ابنه ولم يعلم ما يدعي من ملكه لأم المستلحق، أو تزويجه إياها، فإن عرف ملكه لها إن كانت أمة، أو تزويجه إياها إن كانت حرة وأتت به لما يشبه أن يكون منه، ولم يحزه غيره بنسب، لحق به باتفاق؛ فوجه يلحق به باتفاق، ووجه لا يلحق به باتفاق، ووجه يختلف في إلحاقه به، وإذا لم يلحق به في الموضع الذي يتفق أنه لا يلحق فيه لتبين كذبه فلا يتفق عليه، إن كان عبدا له؛ قال سحنون؛ وإذا لم يلحق به في الموضع الذي يختلف فيها إلحاقه به على القول بأنه لا يلحق به، فإنه يعتق عليه إن كان عبدا له، وبالله التوفيق.
[مسألة: يقر فيقول هذا أخي ولا يعرف للمقر نسبا أصلا]
مسألة وقال ابن القاسم: في الرجل يقر فيقول، هذا أخي ولا يعرف للمقر نسبا أصلا، أنه إن مات ورثه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أنه يرثه بإقراره له أنه أخوه، يريد أنه إذا كان قد قال أن هذا أخي شقيقي أو لأب، ولم يعرف له نسب أصلا؛ لأنه إذا عرف له نسب فقد تبين كذبه، ومعنى ذلك إذا لم يكن له وارث معروف بنسب ولا ولاء على ما قاله في المدونة وغيرها؛ وأما إن كان قال: هذا أخي ولم يزد على ذلك، ولا سئل عن بيان ما أراد حتى مات، فلا يرث إلا السدس، لاحتمال أن يريد أنه أخوه لأمه، فيكون بمنزلة إذا قال هذا أخي لأمي ولا يثبت نسبه بإقراره له، وإنما يرثه مراعاة لقول أهل العراق في قولهم أن الرجل إذا لم يكن له وارث، فله أن يوصي بجميع ماله لمن أحب، وليس (له) عند(14/234)
مالك وجميع أصحابه أن يوصي بأكثر من الثلث، وقد قيل: إن الميراث لا يكون له إلا بعد يمينه أن ما أقر له به المتوفى حق ويقوم ذلك من كتاب الولاء والمواريث من المدونة، والوجه في ذلك، أنه أنزل إقراره به كشهادة له بالنسب، فوجب أن يحلف معه ويستحق الميراث، كالذي يدعي ميراث رجل قد مات ولا وارث له، فيأتي بشاهد يشهد له بنسبه، فإنه يحلف مع شاهده فيأخذ المال ولا يستحق النسب؛ وهذا مذهب ابن القاسم، ويحلف على هذا المقر له مع إقرار المقر به- وإن لم يكن عدلا مراعاة؛ لقول أهل العراق الذي ذكرناه، وسحنون يرى بيت المال كالنسب القائم، فلا يوجب للمقر له ميراثا بإقرار المقر وإن لم يكن له وارث معروف؛ هذا هو المنصوص عن سحنون، وله في نوازله من هذا الكتاب خلاف ذلك، مثل قول الجماعة، ولا يجوز إقراره له بأنه وارثه ويرثه به إذا كان له وارث معروف بنسب أو ولاء، إلا في خمسة مواضع، وهي: أن يقر بولد، أو بولد ولد، أو بأب أو بجد، أو بزوجة- إذا كان معها ولد أقر به أيضا واستلحقه، غير أن وجوهها تفترق؛ فأما إذا أقر بولد فيلحق به نسبه في الموضع الذي ذكرناه في المسألة التي قبل هذه أنه يلحق به فيه باتفاق أو على اختلاف أقر الولد، أو أنكر؛ فإن شاء أخذ ميراثه، وإن شاء تركه؛ وأما إذا أقر بولد ولد فلا يلحق به إلا أن يقر به الولد، فيكون هو مستلحقه، أو يكون قد عرف أنه ولده فيكون إنما استلحق هو الولد؛ وكذلك إذا أقر بأب لا يلحق به ويرثه، إلا إذا أقر به الولد فيكون هو مستلحقه؛ وأما إذا أقر بجد فلا يلحق به؛ إلا أن يقر الجد بأبيه، ويقر أبوه به، فيكون كل واحد منهما قد استلحق ابنه؛ وأما إذا أقر بزوجة لها ولد أقر به فإقراره بالولد يرفع التهمة في الزوج فترثه وإن لم تثبت الزوجية ولا عرفت، وبالله التوفيق.(14/235)
[: العمل على الحديث الذي جاء في القافة]
من سماع أشهب وابن نافع من مالك
- رواية سحنون من كتاب الأقضية -
قال أشهب وابن نافع سألنا مالكا أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة يؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون؟ قال: أما فيما يلحق من الولد فنعم، وأما بغايا الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية، ولا أرى أن يؤخذ بقول قائف واحد، وأرى أن يؤخذ بقول قائفين، لا أرى أن يجزي في ذلك، إلا اثنان؛ لأن الناس قد دُخلوا، وفي رواية محمد بن خالد عن ابن القاسم أن الغائب الواحد يؤخذ بقوله إذا كان عدلا.
قال محمد بن رشد: وقع في هذه المسألة اختلاف في الرواية، ونص الرواية الواحدة سألنا مالكا أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة يؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون، قال: أما فيما يلحق من الولد فنعم، وأما بغايا الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية. ونص الرواية الثانية سألنا مالكا أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة يؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون؟ قال أما ما يلحق من الولد فنعم، وأما بقايا الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية. وفي المسألة على كلا الروايتين إشكال يفتقر إلى تخريج وبيان،(14/236)
أما الرواية الأولى فقوله فيها أما فيما يلحق من الولد فنعم- يريد أما فيما يلحق ولد الأمة يطؤها البائع والمشتري أو الشريكان في طهر واحد فنعم. وقوله فيها وأما بغايا الجاهلية، فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا- يريد أن الرجلين إذا ادعيا ولد بغي من زنى كان في شركهما لا يثبت نسبه لواحد منهما بالقافة. وقوله فيها ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية- يريد أي لا يسامح (لشيء) في ذلك بسبب استحلالهم للزنى؛ وهذه الرواية تخرج على مذهب ابن الماجشون في قوله إنه لا يتوارث في الإسلام بولادة الشرك وإن ثبت النسب بالبينة على ظاهر قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يتوارث في الإسلام بولادة الجاهلية. وأما الرواية الثانية فالوجه فيها أن السؤال إنما كان عن العمل على الحديث الذي جاء في القافة في الموضع الذي جاء فيه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو في المتداعيين ولد امرأة من زنى كان منهما في الشرك بها فقال أما فيما يلحق من الولد- يريد بأحد المتداعيين فيه من الزنى في الشرك فنعم، وقوله فيها وأما بغايا الجاهلية، فلا يريد مثل البغايا اللواتي كن ينصبن أنفسهن في الجاهلية للزنى فيدخل عليهن العدد الكثير من الرجال وكان لهن رايات يعرفن بها، فإذا استمر بإحداهن حمل جمع لها كل من دخل عليها فألحقت القافة ابنها بمن رأت أنه له منهم- شاء أو أبى، فلم ير القافة في مثل هذا. وقوله بعد ذلك فيها: وأرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية- يعود على أول المسألة في المتداعيين ولد امرأة من زنى كان في الشرك، لا على مسألة البغايا التي(14/237)
تليها؛ فعلى هذا التأويل تستقيم هذه الرواية، وإنما التبست بما وقع فيها من التقديم والتأخير؛ فلو قال فيها: أن فيما يلحق من الولد فنعم، وأرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية: وأما البغايا فلا، لارتفع الإشكال منها، وكان معناها للذي حملناها عليه، ووجهناها به؛ ولا يحكم بقول القافة إلا في أولاد الإماء دون الحرائر؛ لأنهم لو نفوا الولد عن أبويه في الحرة، لزمهم الحد، ولا يلزمهم ذلك في الإماء. قاله ابن دحون، وليس بتعليل صحيح. لأن من زنى بأمة إن لم يجب عليه الحد، يجب عليه الأدب؛ وقد تكون الحرة قد ماتت وليس لها من يقوم بحدها فلا يلزم (من) قذفها شيء، وإنما تدعى القافة لتلحق الولد بأحد السيدين، لا تنفيه عنهما جميعا؛ وقد روي عن مالك أن القافة تكون في أولاد الحرائر؛ لأنها إنما تدعي لتلحق الولد بأحد الزوجين لا لتنفيه عنهما جميعا، ولو نفته عنهما جميعا بالشبه من غير تحقيق، لما لزمها حد، وإنما لم تكن القافة في أولاد الحرائر على المشهور في المذهب لحرمة النكاح وقوة الفراش به، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» فوجب لهذا الحديث أن يلحق الولد بصاحب الفراش الصحيح دون الفاسد. وأما قوله في آخر المسألة ولا أرى أن يؤخذ بقول قائف واحد إلى آخر قوله، فقد مضى الكلام عليه في نوازل سحنون من كتاب الشهادات فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.(14/238)
[: القوم من أهل الحرب يسلمون جماعة]
من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم
من كتاب لم يدرك من صلاة الإمام إلا الجلوس
قال عيسى: وقال ابن القاسم في القوم من أهل الحرب يسلمون جماعة، فيستلحقون أولادا من زنى. قال إذا كانوا أحرارا ولم يدعهم أحدهم لفراش فهم ولده، ويلحق به الولد؛ وقد ألاط عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ولد في الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، إلا أن يدعيه معه سيد الأمة، أو زوج حرة؛ لأنه قد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» فإذا ادعاه معه سيد الأمة أو زوج الحرة، فهو أحق به قلت: والنصارى يسلمون فيدعون أولادا من زنى كانوا في نصرانيتهم، فقال: يلاطون بهم؛ لأنهم يستحلون في دينهم الزنى وغيره. قلت فإن استلحق رجل منه ولد أمة مسلم أو نصراني فقال إذا ألحقه به، فإن أعتق يوما ما كان ولده وورثه.
قال محمد بن رشد: قوله في أول هذه المسألة إذا كانوا أحرارا ولم يدعهم أحد لفراشه فهم ولده، يدل على أنهم إذا كانوا عبيدا فلا يلحقون(14/239)
به، وإن لم يدعهم أحد لفراش، وقد وقع مثل هذا في كتاب أمهات الأولاد من المدونة، وهو خلاف قوله في آخر المسألة. إذا ألحقه به فإن عتق يوما ما كان ولده وورثه، وهذا الذي قاله في آخر المسألة هو الصحيح، إذ لا يمتنع أن يكون ابنا للمقر به المستلحق له، وعبدا للذي هو بيده. وفي قوله ألحقه به فإن عتق يوما ما كان ولده وورثه، تجاوز في اللفظ بتقديم وتأخير وقع في الكلام، وحقيقته إذا ألحقه به، ويكون ولده، فإن عتق يوما ما ورثه، وبالله التوفيق.
[: يدخل أرض حرب فيقيم بها سنين ثم يخرج ومعه ذرية]
ومن كتاب أسلم وله بنون صغار وسألت ابن القاسم عن الرجل من المسلمين يدخل أرض حرب فيقيم بها سنين ثم يخرج ومعه ذرية فيقول هؤلاء أولادي، هل يجوز إقراره؟ أم هل يتوارثون بذلك؟ قال نعم، إقراره جائز وهم يتوارثون به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: أنهم يلحقون به؛ لأن ما ادعاه يشبه لخروجه بهم من دار الحرب، وهو المشهور المعلوم من مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، ويأتي على ما حكاه ابن المواز عنه أنه لا يلحق به، إلا أن يعلم أنه تزوج أمة، أو اشتراها، وقد مضى القول على هذا محصلا في سماع رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.(14/240)
[: توفي وترك عم أبيه وجد أبيه]
ومن كتاب شهد على شهادة ميت
وعن رجل توفي وترك عم أبيه وجد أبيه، من أولى بالميراث وولاء مواليه؟ قال ابن القاسم: جد الأب أولى بالميراث وولاء الموالي من عم الأب؛ لأني سألت مالكا عن العم والجد من أولى بالميراث، فقال: الجد أولى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن العم ولد الجد، وعم الأب ابن جد الجد؛ وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء للكبر» يريد الأقرب فالأقرب، وأقرب الناس إلى الرجل بعد ولده، أبوه ثم ولد الأب وهم الإخوة: الأقرب فالأقرب، ثم جده، ثم ولد جده، وهم الأعمام: الأقرب فالأقرب أيضا؛ ثم ولد الجد، ثم ولده- الأقرب فالأقرب؛ ثم جد الجد، ثم ولده أيضا- الأقرب فالأقرب؛ هكذا أبدا إلى ما يمكن أن يدرك الأسفل الأعلى، ويستوي في هذا الولاء والميراث؛ لأن الميراث فيه إنما هو بالتعصيب (ولا يرث بالتعصيب) ، إلا الأقرب فالأقرب بمنزلة ميراث الولاء، وبالله التوفيق.
[مسألة: توفي وترك ابن أخيه وجد أبيه]
مسألة وعن رجل توفي وترك ابن أخيه وجد أبيه، من أولى بميراثه؟ قال ابن القاسم: جد الأب أولى- وهو في مكان الجد- إذا لم يكن جد دنية، وابن الأخ أولى من الجد بالولاء، بخلاف المال.(14/241)
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن جد الجد- وإن علا- فهو بمنزلة الجد إذا لم يكن دونه جد، وقد قيل فيه: إنه أب يحجب الإخوة كلهم في الميراث، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يقاسم الإخوة أشقاء كانوا أو لأب، ولا ينقصونه من الثلث شيئا- إن كان الإخوة أكثر من اثنين، فإن اجتمع معه أخ شقيق وإخوة لأب عاده الأخ الشقيق بالأخوة للأب، فردوه بهم إلى الثلث، وكان للأخ الشقيق ما بقي؛ لأنه أحق من الذين للأب، فإن كان مكان الأخ الشقيق أخت شقيقة، كان للأخوة للأب ما فضل بعد حظ الأخت الشقيقة، والجد في الميراث يحجب بني الأخوة كلهم؛ وأما في الولاء، فهم أحق منه لأنهم بنو الأب، وبنو الأب- وإن سفلوا- أقرب من الجد على ما ذكرناه في المسألة التي فوق هذه من ترتيب الأقرب فالأقرب من العصبة، قال مالك: ذلك كله على قياس ما ذكره في موطئه من أن معاوية ابن أبي سفيان كتب إلى زيد بن ثابت يسأله عن الجد، فكتب إليه زيد بن ثابت إنك كتبت إلي تسألني عن الجد- والله أعلم- وذلك مما لم يقض فيه إلا الأمراء، يعني الخلفاء، وقد حضرت الخليفتين قبلك يعطيان النصف مع الأخ الواحد، والثلث مع الاثنين؛ فإن كثر الأخوة لم ينقصوه من الثلث - والله أعلم، وبه التوفيق.
[: يستلحق الولد ثم ينكره بعد استلحاقه]
ومن كتاب أوله يدير ماله فتحل زكاته
وسئل عن الذي يستلحق الولد ثم ينكره بعد استلحاقه إياه-(14/242)
ويموت الولد عن مال، فلا يأخذه المستلحق؛ قال يوقف ذلك المال، فإن مات هذا المستلحق، صار المال لورثته وقضي به دينه، وإن قام عليه غرماؤه، وهو حي، أخذوا ذلك المال في ديونهم.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة يوقف ذلك المال إلى آخر قوله، كلام فيه نظر؛ لأن إنكار الولد بعد استلحاقه إياه إنما لا يسقط نسبه إن مات قبله؛ لأنه إن مات قبله اتهم في قطع نسبه فورثه الابن؛ ثم إن مات الابن بعده، كان ميراث الابن لعصبته من قبل أبيه المستلحق له؛ ولو رجع في حياته إلى استلحاقه، صح له رجوعه وورثه إن مات؛ وأما إن مات ابن المستلحق قبله، فالواجب أن يكون جميع ميراثه لجماعة المسلمين؛ لأنه مقر أن هذا المال لهم، لا حق له فيه معهم، وهم لا يكذبونه، فلا معنى لتوقيفه؛ إذ لا يصح أن يقبل رجوعه فيه بعد موته برجوعه إلى استلحاق ابنه؛ لأنه قد ثبت لجماعة المسلمين بثبوته على إنكاره إلى أن مات، فليس له أن يرجع فيه؛ بخلاف من أقر لرجل بمال فأنكره المقر له به؛ لأن هذا يجب توقيفه ليأخذه من رجع منهما أولا إلى تصديقه صاحبه كالرجل يقر للمرأة أنه قد دخل بها وهي تنكر، وما أشبه ذلك على اختلاف في هذا الأصل، فالذي يوجبه النظر في هذه المسألة الأحق في ميراث هذا الابن المستلحق إذا مات المستلحق قبل أبيه- لورثة أبيه المنكر له بعد استلحاقه، ولا لأهل دينه، ولا لغرمائه- إن قاموا عليه- وهو حي- إذا كان إنكاره الولد في حياته أو بعد وفاته، إلا أن يكون إنكاره إياه بعد وفاته وهو مفلس، إذ لا يجوز إقراره بعد التفليس بما في يديه أنه لغير غرمائه، وهذا بين كله- والحمد لله؛ ووجه(14/243)
هذا القول على ما فيه من الاعتراض، أنه لما رجع عن إقراره به في حياته، أنهم على قطع نسبه الذي كان قد ثبت له بإقراره، فأبطل رجوعه ولم يجعل له تأثير؛ والقياس أن يلزم رجوعه عن إقراره به إذا مات قبله، فيصير ميراثه منه لبيت مال المسلمين، ولا يكون لغرمائه فيه شيء، وإنما يجب أن يوقف ميراثه منه كما قال، فيكون لورثته- إن مات، ويقضى به دينه، ويأخذه غرماؤه إن قاموا، وهو حي إن كان أنكره بعد استلحاقه إياه- وله ولد لأنه إذا كان له ولد اتهم في قطع نسبه منه، وإن مات، وبالله التوفيق.
[: العبد يكون له ولدان حران وأبو العبد حر فيموت أحد الولدين]
ومن كتاب الجواب
وسألته عن العبد يكون له ولدان حران، وأبو العبد حر، فيموت أحد الولدين، أيكون الميراث كله للجد؟ أو يكون بينه وبين الأخ الباقي؟ وعن قول مالك في موطئه الجد يجر الميراث أي ميراثه هو، وقال ابن القاسم: الميراث بين الجد والأخ نصفين، وهذا مما لم تختلف فيه الأمة، وهو وارث معه والجد أخ مع الأخ، وإنما تفسير قول مالك: أن الجد يجر الميراث، إنما ذلك إذا كان وحده ولم يكن معه وارث غيره جر الميراث كله ولم يمنعه من حياة الأب؛ لأن الأب العبد لا يحجب؛ لأنه بمنزلة الميت والكافر.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في هذه المسألة الميراث بين الأخ والجد بنصفين صحيح، لا اختلاف فيه في المذهب على ما جاء عن(14/244)
عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقوله: وهذا مما لم تختلف فيه الأمة يريد أنها لم تختلف في أن العبد لا يرث ما لم يعتق، وأما ميراث الأخ أو الأخوة الأشقاء أو الذين للأب مع الجد، لاختلاف بين الأمة فيه كثير، لا يمكن أن يغيب علمه عن ابن القاسم، ممن جاء عنه أنه أنزل الجد مع الأخوة بمنزلة الأب، وجعله أحق بجميع الميراث، منهم: أبو بكر الصديق، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعائشة أم المؤمنين، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وهو مذهب أبي حنيفة، المزني من أصحاب الشافعي؛ وقول جل أهل العلم يتنزل الجد منزلة الأب في عدم الأب، كما يتنزل ابن الابن بمنزلة الابن في عدم الابن، وقوله في الرواية بعد ذلك وهو وارث معه- يريد في مذهب مالك الذي يأخذ به، تفسيره لما سأل عنه مما ذكر أنه وقع في موطأ مالك من قوله الجد يجر الميراث أي ميراث هو صحيح لا إشكال فيه على ما حكاه من أنه وقع في موطئه، ولم يقع في الموطأ على هذا النص، وإنما وقع فيه على نص فيه إشكال واختلال، ونص ذلك: قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حرة وأبو العبد حر، أن الجد أبا العبد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة، يرثهم ما دام أبوهم عبدا، فإن عتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه، وإن مات وهو عبد كان الميراث والولاء للجد، وإن العبد كان له ابنان حران فمات أحدهما وأبوه عبد جد الجد أبو الأب الولاء(14/245)
والميراث، هذا نص قوله في الموطأ فمعنى قوله فيه أن الجد أبا الجد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة يرثهم، هو أن الجد كان معتقا وأعتق أحد ولد العبد الأحرار عبدا، فتوفي- ولا مواريث له إلا مولى الجد المعتق، فإن الجد يجر ولاء مولى حفيده المتوفى إلى مولاه فيرثه ما دام ابنه عبدا، فإن أعتق جر الولاء إلى مولاه وكان أحق به من مولى أبيه الجد؛ ويحتمل أن يريد بقوله يجر ولاء ولد ابنه الأحرار أي يجر ميراث ولد ابنه الأحرار إلى مولاه الذي أعتقه، فيكون أحق به ما دام أبوهم عبدا، فإن أعتق أبوهم رجع الولاء إلى الميراث إلى مواليه، كما قال، وكانوا أحق به من مولى الجد؛ وإنما قلنا ذلك؛ لأن ولد العبد من امرأة حرة أحرار من أصلهم، لا ولاء لأحد عليهم؛ وأما قوله: وأن العبد كان له ابنان حران فمات أحدهما وأبوه عبد جر الجد أبو الأب الولاء والميراث؛ فكلام مختل وقع على غير تحصيل، والله أعلم، جد الأخ الولاء وكان الميراث بينهما، وكذلك وقع في رواية مطرف، وإنما قلنا إنه الصواب، من أجل أنه لا اختلاف في المذهب في أن الجد في الميراث مع الأخ بمنزلة أخ يكون الميراث بينهما بنصفين، ولا في أن موالي الأخ أحق من موالي الجد، ويحتمل أن يكون وجه قوله على اختلاله أنه إن مات أحدهما، وأبوه عبد جر الجد إلى نفسه نصف الميراث؛ لأنه يكون بينه وبين الأخ ما دام الأب عبدا، وأنه إن مات لأحد الابنين مولى ولا وارث له إلا مولى الجد، جر الجد ولاءه إلى مولاه، فكان أحق به- ما دام ابنه عبدا لم يعتق، فإن عتق جر الولاء إلى مولاه، فكان أحق به من مولى الجد، وبالله التوفيق.(14/246)
[: هلك وترك ابنته وعصبته]
ومن كتاب العتق وسألت ابن القاسم عن رجل هلك وترك ابنته وعصبته، فقالت الابنة: هذا أخي؛ قال ابن القاسم: قال مالك: تدفع إليه ثلث ما في يديها.
قال محمد بن رشد: قوله تدفع إليه ثلث ما في يديها، هو المعلوم من قول مالك المشهور من مذهبه أن الوارث إذا أقر بوارث لا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما زاد نصيبه في الإنكار على الإقرار؛ فإن نقص نصيبه في الإنكار، أو لم يزد على نصيبه في الإقرار، مثل أن تقر الزوجة بأخ وما أشبه ذلك، وفي ذلك في المذهب اختلاف، قيل: إن من حق المقر له أن يرجع على المقر بما يجب له على المقر به، وبنصف ما يجب له على المنكر له، فإن أقر المنكر يوما ما، رجع كل واحد منهما بما بقي عليه من حقه حتى يستووا جميعا في الميراث، فقال ذلك، يترك الميت ابنين فيقر أحدهما بأخ، فإن المال يكون بين الابنين الثابتي النسب بنصفين، ثم يرجع المقر له على المقر في النصف الذي له فيشاركه فيه بالسواء؛ لأنه يقول له: أنت مقر لي أني أخوك، فادفع إلي نصف ما بيدك، فإن أقر المنكر بعد ذلك دفع من النصف الذي بيده إلى كل واحد منهما سدسه، فيكمل لكل واحد منهما بذلك ثلث المال، ويبقى بيده هو ثلثه أيضا فيستوون جميعا في الميراث، وكذلك على قياس هذا القول لو توفيت امرأة عن زوج وأخت، فأقر الزوج بأخ لرجع الأخ المقر به على الزوج الذي أقر به بثلث ما بيده، فإن أقرت الأخت به يوما ما رجع الزوج عليها بما رجع به الأخ عليه المقر به، ورجع الأخ المقر به عليهما ببقية حقه، مثال ذلك: أن تترك المتوفاة ستين دينارا فيأخذ الزوج ثلاثين والأخت ثلاثين(14/247)
دينارا ثم يرجع الأخ المقر به على الزوج الذي أقر به، فيقول له الثلاثون التي أخذت لا تجب لك إلا من ستين- وأنت قد أقررت أني أخو المتوفاة، فوجب لي على قولك من الستين عشرون، فلا يجب لك إلا نصف الباقي (وذلك عشرون) لأن الأخت قد جحدتني العشرين، فصارت بجحودها مستهلكة لها، فإن أقرت الأخت به يوما ما أخذ منها العشرين الواجبة له، فرد منها على الزوج العشرة التي قبضت منه؛ وأقل ما تنقسم منه هذه الفريضة على ما رتبه أهل الفرائض اثنا عشر، وهذا مذهب ابن كنانة من أصحابنا، لذلك قال على أصله: هذا في مسألتنا أن الأخت تدفع إلى الأخ الذي أقرت به ثلثي ما بيدها؛ لأنه يقول لها أنت مقرة إني أخوك فادفعي إلي ثلثي ما بيدك، فإن أقر العصبة به على مذهبه، أخذ منها النصف فأكمل منه للأخت تمام الثلث، وللأخ تمام الثلثين، وهي تنقسم من ستة فيأخذ أولا الأخ من النصف الذي صار للأخت اثنين ويبقي (بيدها) واحد، فإذا أقر العصبة أخذت منهم الأخت واحدا والأخ اثنين؛ ووجه هذا القول أن ما وجب للمقر به في حظ المنكر له في حكم المستهلك لإنكاره إياه، وعلى قياس هذا إلى اختلاف يختلف في أحد الورثة يقر بدين على الميت، فلا يلزمه على القول الأول من الدين الذي أقر به إلا ما ينوبه منه؛ وعلى القول الثاني: يأخذ المقر له بالدين جميع دينه من يد الذي أقر به كما إذا ثبت الدين ببينة وقد اقتسم الورثة تركة الميت وألفي في يد أحدهم ما قبض، وكان بقية الورثة قد قبضوا حقوقهم(14/248)
واستهلكوها وهم عدماء؛ لأنه يقول له: إن أقر له بالدين: أنت مقر لي بالدين، فلا يصح لك ميراث إلا بعد أداء الدين، لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وهذا القول هو الذي اختاره ابن حبيب وقال: إن أصحاب مالك كلهم ينكرون قول مالك؛ إذ لا ميراث لأحد إلا بعد وفاء الدين؛ وأنكر أبو عمر الإشبيلي ما حكاه ابن حبيب عن أصحاب مالك وقال: إنه لا يعرف ذلك لأحد منهم، فإن أقروا رجع المقر بالدين عليهم بما غرم منه زائدا على ما وجب عليه، ويتخرج على هذا الاختلاف الذي وصفناه في أخت أقرت بابنة ثلاثة أقوال، أحدها: أن الابنة أحق بجميع حظ الأخت؛ لأنها تقول لها أنا أحق منك على قولك بالنصف الذي بيدك؛ لأني مبدأة عليك، فحقك إنما هو الذي في يد العصبة. والثاني: أن الأخت أحق بجميع ما بيدها ولا شيء للابنة المقر بها؛ لأنها تقول لها إنما أقررت لك بالنصف الذي بيد العصبة. والثالث: أن للبنت نصف ما بيد الأخت؛ لأن قسمتها مع العصبة لا تجوز عليها، فقد أقرت لها بنصف جميع المال على الإشاعة، فتأخذ نصف النصف الواجب للأخت، ويكون للأخت النصف الثاني، وللعصبة نصف المال كاملا، وبالله التوفيق.
[مسألة: هلك وترك ثلاث بنات أو أربعا فادعين أخا]
مسألة قال وسألته عن رجل هلك وترك ثلاث بنات أو أربعا فادعين أخا، قال: إن كن أربعا أو أكثر لم يرددن شيئا، وإن كن ثلاثا كان لهن ثلاثة أخماس المال كله، ورددن ما فضل في أيديهن إلى الذي ادعين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو على قياس قوله في(14/249)
المسألة التي قبلها، وعلى المشهور في المذهب، ووجه العمل في ذلك أن ينظر من حيث تقوم فريضتهم وتنقسم عليهم على الإقرار وعلى الإنكار، فما ازداده المقرات في حال الإنكار على الإقرار دفعنه إلى المقر به، وهي تقوم وتنقسم على الإقرار والإنكار إذا ترك الميت ثلاث بنات وعصبة، فأقر البنات بأخ من خمسة عشر- ضرب فريضة الإنكار ثلاثة في فريضة الإقرار- خمسة فيصير للبنات في حال الإنكار الثلثان بعشرة، وفي حال الإقرار ثلاثة الأخماس بتسعة، فيأخذ المقر به ما بين التسعة والعشرة- وذلك واحد وهو ثلث الخمس، ويبقى للعصبة الثلث وهو خمسة، فإن أقروا بالأخ يوما ما دفعوا إليه الخمسة التي بأيديهم، فاستوفى بذلك جميع حقه- وهو الخمسان وذلك ستة من خمسة عشر، وهي تقوم وتنقسم على الإقرار والإنكار إذا ترك الميت أربع بنات وعصبة من ستة، ويصير للبنات في حال الإقرار الثلثان أربعة مثل ما يصير لهن في حال الإنكار، فلا يلزمهن للأخ الذي أقررن به شيء، وكذلك لو ترك الميت خمس بنات وعصبة، لما وجب للمقر به على البنات شيء؛ لأنه يحصل لهن في حال الإقرار أكثر مما يحصل لهن في حال الإنكار، فيتهمن في إقرارهن على العصبة، وذلك أن الفريضة تقوم وتنقسم على الإقرار والإنكار من واحد وعشرين ضرب ثلاثة في سبعة، فيصير للبنات في حال الإقرار خمسة عشر، ويبقى للعصبة ستة؛ وفي حال الإنكار أربعة عشر، ويبقى للعصبة سبعة، ويدخل في هذه المسائل كلها الاختلاف الذي ذكرناه في المسألة التي قبلها، فيجب على قول ابن كنانة من(14/250)
أصحابنا ومن ذكرناه معه- إذا كان البنات ثلاثا وعصبة فأقررن بأخ أن يكون للأخ مما بيد البنات ثلثه وذلك ستة من ثمانية عشر- وهي التسعان من سبعة وعشرين التي تنقسم الفريضة منها، وذلك أن الأخ المقر به يقول لأخواته: الثلث الذي أقررن به لي قد جحدته العصبة، فصارت بجحودها إياه مستهلكة له، فلا يجب لكن الثلثان إلا من الباقي وذلك اثنا عشر وبأيديكن ثمانية عشر فادفعن إلي الستة الفاضلة بأيديكن فيأخذها منهن، فإذا أقر العصبة (به) يوما ما أخذ الأخ منها ثلاثة والبنات ستة بقية التسعة، فاستوفى بذلك البنات الثلثين، والأخ الثلث، ويأتي على قوله إذا كان البنات أربعا وعصبة، فأقر البنات بأخ أن يكون للأخ مما بيد البنات ثلثه أيضا- وذلك أربعة من اثني عشر- وهي التسعان من ثمانية عشر التي تنقسم الفريضة منها، وذلك أن الأخ المقر به يقول لأخواته- الثلث الذي أقررتن به لي قد جحدتني إياه العصبة فصارت بجحودها إياه مستهلكة له، فلا يجب لكن الثلثان، إلا من الباقي- وذلك ثمانية وبأيديكن اثنا عشر فادفعن إلي الأربعة الفاضلة بأيديكن، فيأخذها منهن، فإن أقرت العصبة به يوما ما أخذ الأخ منها اثنين، والبنات أربعة بقية الستة، فاستوفى بذلك البنات الثلثين، والأخ الثلث، وكذلك على هذا القياس إذا كان البنات أكثر من أربع، وبالله التوفيق.
[: يموت فيقسم ورثته ميراثه ثم يأتي رجل فيقيم البينة أنه ولده]
ومن كتاب العرية
قال وسألت ابن القاسم عن الرجل يموت فيقسم ورثته ميراثه،(14/251)
ثم يأتي رجل فيقيم البينة أنه ولده ويثبت نسبه، ويعدم بعض الورثة؟ قال: ينظر إلى ما صار بيد كل وارث من حقه أن لو كان أولا معهم فيتبع المعدم بما صار عليه، والمليء بما صار عليه، ولا يأخذ من المليء عن المعدم، بمنزلة ما لو هلك رجل وترك أمه وأخاه، فأخذت الأم الثلث، والأخ الثلثين، ثم جاء رجل فاستحق أنه أخوه، فأخذ من الأم السدس، ومن الأخ الربع، يتبع الأم بالسدس- مليئة كانت أو معدمة، والأخ بالربع مليئا كان أو معدما. قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه، أعلمه، وكذلك حكم الغريم يطرأ على الغرماء، والموصى له على الموصي لهم، فإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائما لم يفت، أخذ من كل واحد منهم ما يجب له، ولم تنتقض القسمة إن كان ذلك مكيلا أو موزونا، وإن كان حيوانا أو عروضا، انتقضت القسمة، لما يدخل عليها من الضرر في تبعيض حقهم، واختلف هل يضمن كل واحد منهما للطارئ ما ينوبه مما قبض إن قامت له بينة على تلفه من غير سببه أم لا على قولين، أحدهما: أنه ضامن لذلك. والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه، فإذا قلنا: إنه ضامن مع (قيام) البينة، فتلزمه القيمة يوم القبض بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق وما أشبه ذلك، وإذا قلنا: إنه لا ضمان عليه مع قيام البينة، فلا يضمن بالتفويت بالبيع والعتق والهبة والصدقة، ولا يلزمه في البيع إلا حظ الطارئ من الثمن الذي قبض إن جاز البيع واختار أخذ الثمن، ويصدق في دعوى التلف- إن لم تكن له بينة فيما لا يغاب عليه دون ما يغاب عليه، وقد قيل: إنه(14/252)
في العتق ضامن دون ما سواه- وإن قامت البينة على تلفه وهو مذهب أصبغ، وظاهر رواية يحيى عن ابن القاسم، وذلك كله بخلاف الغريم يطرأ على الورثة، أو على الموصى لهم بالثلث وعلى الورثة، وبخلاف طرو الموصى له بعدد على الورثة بعد القسمة، والحكم في ذلك يتشعب، وقد تكلمنا على ذلك في غير هذا الكتاب، واختلف في طرو الموصى له بجزء على الورثة، فقيل: إنه بمنزلة طرو الوارث على الورثة- وقيل: إنه بمنزلة طرو الغريم أو الموصى له بعدد على الورثة، وبالله التوفيق.
[: ادعت أن رجلا قد هلك كان أباها]
من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم
من كتاب الكبش قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن امرأة ادعت أن رجلا قد هلك كان أباها وأتت بالبينة أن ذلك الرجل كان مقرا في صحته أنها ابنته، ولا يعلم الشهود أن أمها كانت امرأة ذلك الرجل ولا أمة له - وهم جيرانه ومعه في موضع واحد، والرجل الذي كان مقرا بهذه الجارية أنها ابنته رجل حسن الحال، غير متهم بالفسق، وكيف إن كان من أهل التهم؟ فقال: لا ينظر في مثل هذا إلى حال الرجل المقر إذا كان يرى أنه إنما أقر بها من حلال، فنسبها ثابت، وميراثها منه واجب- وإن لم تعرف أمها في ملكه حرة ولا مملوكة، إلا أن يقر بها على وجه يعرف الناس به كذبه بالأمر الذي لا شك فيه، فلا(14/253)
يقبل قوله، أو يقربها على سبب فسق، فلا يثبت لها به نسب، وسواء كان المقر صالحا أو غير صالح، الحكم فيهما سواء.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضى من القول عليها ما فيه كفاية في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، ويأتي في نوازل أصبغ ما فيه زيادة على ذلك- إن شاء الله، وبالله التوفيق.
[: يموت وله ولد معروف ثابت النسب]
ومن كتاب الصلاة وقال ابن القاسم: في الرجل يموت وله ولد معروف ثابت النسب، ثم يدعي رجل أنه ابن الهالك ويأتي بشاهد، أنه لا يحلف مع شاهده ولا يستحق شيئا من الميراث، إلا بشاهدي عدل يشهدان على إثبات نسبه إذا أنكره أخوه؛ فإن أقر له، أعطاه نصف الميراث، ولم يثبت له بإقرار الأخ نسب يوارثه به هو ولا غيره من قرابة الهالك، قال: وكذلك المرأة تدعي أن الميت زوجها، أو يقوم معها من يدعي ميراث الميت، فيأتي كل واحد منهم بشاهد ويريد أن يستحق ميراثه باليمين مع الشاهد، أن ذلك لا يكون لواحد منهم إذا ادعوا ذلك وللميت وارث قد ثبت نسبه بالبينات، وإنما يستحق الميراث باليمين مع الشاهد من جاء يطلبه وليس للميت وارث قد أثبت نسبه بالبينات، فإن من جاء يزعم أنه ولد الميت ولم يأت إلا بشاهد واحد ولم يدع ميراثه أحد يحق نسبه بالبينة، حلف مع شاهده(14/254)
وأخذ ميراثه؛ لأنه إنما يستحق مالا من الأموال، ولا يثبت له بالذي استحق بيمينه مع شاهده- نسب يوارثه به أحد من قرابة الميت ولا يجر به ولا أحد من مواليه، قلت له: أرأيت إن حلف مع شاهده- وللميت بنت ثابتة النسب بالبينة؟ قال: يستحق ما بعد النصف الذي ترث الابنة وإن كانتا اثنتين، فإنما له الثلث الباقي، قيل له: فإن جاءت المرأة تزعم أنها امرأته، فجاءت بشاهد وليس له وارث ثابت النسب بالبينة، قال: تحلف مع شاهدها وتأخذ ميراثها، ولا يثبت لها بذلك نكاح ولا لولدها، إن كانت حاملا- نسب، قيل له: فالرجل يدعي ميراث رجل يزعم أنه مولاه، فيأتي على ذلك بشاهد أيحلف مع شاهده ويستحق ميراثه؟ قال: نعم، ولا يثبت له بذلك ولاء موالي ذلك المولى، إن مات أحد منهم فأراد أخذ ميراثه، كان عليه أن يأتي أيضا بشاهد فيحلف معه أنه مولاه، ثم يستحق ميراثه، ولا يجزئه الشاهد الأول الذي كان حلف مع شهادته على الميراث الأول.
قال محمد بن رشد: قوله إنه لا يحلف مع شاهده على استحقاق النكاح صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن اليمين مع الشاهد لا يكون عند مالك وأصحابه إلا في الأموال، واختلفوا فيما جر إلى الأموال كالوكالة عليها وشبه ذلك، وأما قوله أن الميراث يستحقه باليمين مع الشاهد من جاء يدعيه ولا وارث للميت معروف النسب، فهو مثل قوله في المدونة - وزاد فيها بعد الاستيناء، وقال أشهب لا يستحقا الميراث باليمين مع الشاهد- وإن لم يكن للميت وارث معروف؛ لأن الميراث لا يستحق إلا بعد ثبوت النسب(14/255)
وكذلك يختلف أيضا إذا ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها وطلقها قبل الدخول أو بعده، وأتت على ذلك بشاهد واحد، فقيل: إنها تحلف مع شاهدها وتستحق نصف الصداق- إن لم يدخل بها، وجميعه إن دخل بها، وقيل: إنه ليس لها أن تحلف في المهر، إذ لا يستحق إلا بعد ثبات النكاح، وأما إن ادعت عليه أنه تزوجها وطلقها قبل البناء أو بعده، ولا بينة لها، ففي كتاب ابن سحنون أنه لا يمين عليه، وهذا عندي على القول بأنها لا تحلف مع شاهدها (وأما على القول بأنها تحلف مع شاهدها) فيجب لها عليه اليمين إذ لم تأت بشاهد- والله أعلم. ولو لم يترك الميت وارثا فأتى رجل بشاهد أنه ابنه لا وارث له غيره، وأتت امرأة بشاهد أنها زوجته ولم يقر به الابن بها، لوجب على مذهب ابن القاسم أن يحلف كل واحد منهما مع شاهده ويقسم المال بينهما على ثمانية أسهم، للزوجة سهم، وللابن سبعة أسهم لأن الزوجة قد سلمت للابن ثلاثة أرباع المال وتداعيا جميعا في الربع، فيقسم بينهما، وعلى قول مالك يقسم بينهما على حساب عول الفرائض، فيكون المال بينهما أخماسا، للزوجة الخمس؛ لأنها تدعي ربع المال، وللابن أربعة أخماس؛ لأنه يدعي أن له جميعه وذلك أربعة أمثال ما تدعي المرأة. ولو أقرت بالابن وأنكرها الابن، لوجب أن يكون لها على مذهب ابن القاسم نصف ثمن المال، وللابن ما بقي؛ لأنها مقرة له بسبعة أثمان المال ويتداعيان في الثمن فيقسم بينهما، وأن يقسم بينهما على تسعة أسهم- على قول مالك، وبالله التوفيق.(14/256)
[: أهل العنوة أيتوارثون]
ومن كتاب المكاتب وسئل ابن القاسم عن أهل العنوة أيتوارثون؟ فقال: نعم، هم في مواريثهم وأهل الصلح سواء؛ قال: وسألت عن ذلك أشهب فقال مثل قوله، ثم قال: لو لم يعتبر ذلك إلا بأهل مصر، وأهل الشام قد غلبوا عنوة في زمن عمر بن الخطاب، فلم يزالوا يتوارثون من زمانه إلى اليوم؛ وإنما حالهم حال الأحرار من أهل الذمة كالمصالحين، غير أنهم حبسوا نظرا للعامة ولمن يجيء من الذرية يقبض منهم جزاهم.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في سماع يحيى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وفي سماع عيسى من كتاب السلطان، فلا معنى لإعادته.
[: يتوارث أبناء المغتصبة التوأم من قبل الأب]
ومن كتاب الأقضية قال يحيى: أخبرني ابن القاسم أنه سمع من يثق به يخبر أن مالكا قال: يتوارث أبناء المغتصبة التوأم من قبل الأب، قلت لابن القاسم: فمن أين يجب الميراث بينهما- ونسبهما غير ثابت.
قال محمد بن رشد: قد مضى طرف من التكلم على هذه المسألة ونظائرها في رسم طلق من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب، ومضى الكلام(14/257)
على ذلك مستوفى في أول سماع ابن القاسم من كتاب اللعان، فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.
[: تهلك عن زوجها وأمها وأختها فتدعي الأخت أخا]
من سماع سحنون بن سعيد
وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: قال ابن القاسم في المرأة تهلك عن زوجها وأمها- وأختها فتدعي الأخت أخا ويصدقها الزوج وتنكر الأم: إنها تقسم على الإقرار ثم الإنكار فينظر إلى ما ازدادته الأخت في الإنكار على الإقرار، فيعزل، ثم ينظر إلى ما انتقصه الزوج من نصيبه في الإقرار فيضرب به ويضرب الأخ المدعي ما كان يصيبه في الإقرار في أصل الفريضة فيضربان جميعا فيما ازدادته الأخت على نصيبها في الإقرار.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة حسنة جيدة صحيحة في الاعتبار، بينة في المعنى، غير أن قوله فيها: ينظر إلى ما انتقص الزوج من نصيبه في الإقرار، وهم وكلام وقع على غير تحصيل، وصوابه: ينظر إلى ما انتقص الزوج من نصيبه في الإنكار؛ لأن نصيبه إنما ينتقص في الإنكار من النصف إلى ثلاثة الأثمان، من أجل العول الذي يدخل الفريضة؛ لأنها تعول بثلثها إذا عدم منها الأخ، فيرجع الزوج من النصف إلى الثلاثة الأثمان، والأم من الثلث إلى الربع، والأخت من النصف إلى ثلاثة الأثمان، والأخ يسقط العول من الفريضة، إذ لا فريضة معه للأخت، وإنما لهما جميعا ما فضل بعد النصف الذي للزوج، والسدس الذي للأم- وهو الثلث للذكر مثل حظ الأنثيين، فيصير له ثلثا الثلث، وهو التسعان، وإن شئت قلت الثمن وسبعة(14/258)
أتساع ويصير ثلث الثلث وهو التسع، وإن شئت قلت: ثمانية أتساع الثمن، فيفضل على الإقرار من نصيبها الذي وجب لها على الإنكار وهو ثلاثة الأثمان على ما ذكرناه، ثمنان وتسع ثمن؛ فالأخ يقول: لي من هذين الثمنين وتسع الثمن الذي برئت به أختي، الثمن الواحد وسبعة أتساع الثمن، ويقول الزوج: بل لي أنا من ذلك الثمن الواحد، لأنها بإقرارها بك، مقرة لي أني لم أستوف حقي، إذ لم أقبض نصف المال بسبب العول، وإنما قبضت ثلاثة أثمانه فيبقى لي الثمن، فوجب أن يقسم هذان الثمنان وتسع الثمن بينهما على قدر دعاويهما فيه، يضرب الزوج فيه بالثمن، والأخ بالثمن وسبعة أتساع الثمن، فقول ابن القاسم في هذه المسألة خلاف مذهبه المعلوم في المال بين الرجلين يدعي أحدهما جميعه والآخر نصفه: أن لمدعي الكل منه ثلاثة أرباعه، ولمدعي النصف ربعه؛ لأن مدعي النصف قد سلم النصف لمدعي الكل. ويتداعيان في النصف، فيقسم بينهما، مثل قول مالك: أنه يقسم بينهما على حساب عول الفرائض، لمدعي الكل ثلثاه، ولمدعي النصف ثلثه؛ لأن مدعي الكل يدعي مثلي ما يدعي مدعي النصف، والفريضة تنقسم من اثنين وسبعين، لأن وجه العمل فيها على ما رتبه أهل الفرائض أن تقام الفريضة على الإقرار وعلى الإنكار، ثم تضرب إحداهما في الأخرى، أو فيما اتفق من أجزائهما، فما اجتمع من ذلك، قسم على فريضة الإنكار، فما خرج من ذلك ضرب فيما بيد كل واحد منهم، فيكون ذلك هو الواجب له في حال الإنكار؟ وقسم أيضا على فريضة الإقرار فما خرج في ذلك، ضرب أيضا فيما بيد كل واحد منهم من الفريضة الأولى، فيكون(14/259)
ذلك هو الواجب له في حال الإقرار؛ والفريضة على الإنكار من ثمانية، لأنها تعول بالثلث من ستة إلى ثمانية، للزوج ثلاثة، وللأم اثنان، وللأخت ثلاثة، وعلى الإقرار من ثمانية عشر، لأنها لا تنقسم من أقل، للزوج تسعة، وللأم ثلاثة، وللأخت اثنان، وللأخ أربعة؛ وثمانية تتفق مع ثمانية عشر في الأنصاف فتضرب إحدى الفريضتين في نصف الأخرى فيكون جميع ذلك اثنين وسبعين. كما ذكرنا، فيجب للزوج من ذلك في الإقرار النصف: ستة وثلاثون، وفي الإنكار ثلاثة الأثمان: سبعة وعشرون، فازداد في الإقرار الثمن- وهو تسعة، ويجب للأم من ذلك في الإقرار السدس اثنا عشر، وفي الإنكار الربع- ثمانية عشر؛ لأنها رجعت بالعول من الثلث إلى الربع، ويجب للأخت من ذلك في الإنكار ثلاثة الأثمان من أجل العول- وذلك سبعة وعشرون، وفي الإقرار ثلث ما بقي بعد حظ الزوج وحظ الأم- وهو التسع- وذلك ثمانية، فتبرأ بتسعة عشر وذلك ما بين حظيها في الإقرار والإنكار، فيقول الزوج: لي من هذه التسعة عشر التي برئت بها الأخت تسعة؛ لأنها إذا أقرت بالأخ فقد أقرت لي أنه بقي لي من حقي تسعة، فأنا آخذها من تسعة عشر، لأني مقر بالأخ كما أقرت به؛ ويقول الأخ: لي من هذه التسعة عشر التي برئت بها الأخت ستة عشر الواجبة لي في الإقرار، فأنا آخذها منها فوجب أن تقسم التسعة عشر بينهما على حساب عول الفرائض، كما بين رجلين يدعي أحدهما منه تسعة أجزائه من تسعة عشر، والثاني ستة عشر جزءا منه من تسعة عشر، فيضرب فيها الزوج بتسعة، والأخ بستة عشر، فيجب منها للزوج ستة وأربعة أخماس وخمس خمس، وللأخ المقر به اثنا عشر وأربعة أخماس خمس، هذا على قول ابن القاسم في هذه المسألة وهو المشهور من مذهب مالك؛ ويجب من التسعة عشر للزوج على قياس القول(14/260)
الثاني وهو المشهور من مذهب ابن القاسم ستة، وللأخ ثلاثة عشر؛ والوجه في ذلك، أن الزوج يقول: لي من التسعة عشر تسعة، فقد سلمت لك العشرة، ويقول الأخ للزوج: لي من التسعة عشر- ستة عشر، فقد سلمت لك الثلاثة، فيأخذ كل واحد منهما ما سلم له صاحبه منها، للزوج ثلاثة، وللأخ عشرة، ويبقى من التسعة عشر ستة، يتداعيان فيها فتقسم بينهما بنصفين، فإن أقرت الأم يوما ما بالأخ برئت إليه وإلى الزوج بما ازدادته في الإنكار على الإقرار، وذلك ستة وهو نصف السدس، فتقسم هذه الستة بينهما على قدر ما بقي من حقوقهما في كل واحد من القولين، فيستوفي كل واحد منهم بذلك جميع حقه الواجب له على الإقرار- الزوج ستة وثلاثون، والأم اثنا عشر، والأخت ثمانية، والأخ ستة عشر، وبالله التوفيق.
[: معه أم ولد له حامل وامرأة ضيفة حامل فتضعان في ليلة فيختلط الصبيان]
ومن نوازل سئل عنها سحنون وسئل سحنون عن رجل يسافر بامرأته فينزل على الرجل في قريته ومعه أم ولد له حامل وامرأة ضيفة حامل، فتضعان في ليلة فيختلط الصبيان، فلا يعرف كل واحد منهما ولده، يدعي كل واحد منهما صبيا منهما بعينه، لأنهما قد اختلطا ولا يعرفان، هل تدعى لهما القافة؟ فقال: نعم، تدعى لهما القافة.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة فيدعي كل واحد منهما صبيا منهما يقول هذا ولدي، ويقول الآخر: هذا ولدي يريد الصبي الآخر؛ مناقض لقوله في أول المسألة فلا يعرف كل واحد منهما ولده، ولقوله في آخرها وكلاهما لا يدعي منهما صبيا بعينه، لأنهما قد اختلطا ولا يعرفان؛(14/261)
ولا تخلو المسألة من ثلاثة أحوال، أحدها: أن يدعي كل واحد منهما صبيا منهما بعينه غير الذي ادعاه صاحبه. والثاني: أن يدعيا جميعا واحدا منهما بعينه، وينكر كل واحد منهما الآخر وينفيه عن نفسه. والثالث: ألا يدعي واحد منهما أحدهما، فيقول: لا أدري أيهما ولدي؟ فأما إذا ادعى كل واحد منهما واحدا منهما بعينه ونفي الآخر عن نفسه فالواجب أن يلحق بكل واحد منهما من ادعاه منهما، فينبغي أن يحمل قوله في الرواية فيدعي كل واحد منهما صبيا منهما: يقول هذا ولدي، ويقول الآخر: هذا ولدي؛ على أن معنى ذلك: فيقول كل واحد منهما لصبي منهما بعينه أنا آخذ هذا الصبي فأتبناه ويكون ابني، ولا أعلم إن كان ابني أم لا؟ لأن إرادة كل واحد منهما تبني كل واحد منهما من غير أن يعرف أنه ابنه ودعاؤه إلى ذلك لا معنى له، والوجه في ذلك أن تدعى له القافة كما لو لم يدع إلى ذلك ولا إرادة، وأما إذا ادعيا جميعا واحدا منهما بعينه، فقال: هذا هو ابني ونفى الآخر عن نفسه، فالواجب في ذلك عندي على أصولهم أن يدعى له القافة أيضا، إذ ليس لهما أن ينفيا الآخر جميعا عن أنفسهما وقد علم أنه ابن أحدهما، والذي ادعياه جميعا ليس أحدهما أولى به من صاحبه، كالأمة بين الرجلين يطآنها جميعا في طهر واحد، فتأتي بولد فيدعيانه جميعا؛ وقد وقع لسحنون في أول نوازله من كتاب الشهادات مسألة من هذا النوع لم يقل فيها: إنه تدعى له القافة، كما قال في هذه؛ فمن الشيوخ من كان يحمل ذلك على أنه(14/262)
اختلاف من قوله، ومنهم من كان يقول هذه تفسير لتلك؛ ويجب على مذهبه أن تدعى له القافة في المسألتين جميعا؛ ومنهم من كان يفرق بين المسألتين بما ذكرته هناك- وهو أولى الأقوال عندي، فلا اختلاف على المذهب في وجوب الحكم بالقافة في هذه المسألة، ولا يقام منها الحكم بالقافة في أولاد الحرائر- وإن كان قد اختلف في ذلك، لأن ما اعتل به في التفرقة بينهما- وهو قوة فراش أحد الزوجين ما ذكرناه في سماع أشهب، معدوم في هذه المسألة، إذ لا مزية لأحد الفراشين على الآخر لصمتهما جميعا، وبالله التوفيق.
[مسألة: صبيا ادعاه مسلم ونصراني]
مسألة قيل له: أرأيت لو أن صبيا ادعاه مسلم ونصراني، فقال المسلم: هو عبدي، وقال النصراني: بل هو ولدي؛ قال: يقوم على النصراني النصف الذي يدعيه المسلم ويكون عتيقا على النصراني، لأنه حين أقر أنه ابنه، فقد أقر أنه حر، وصارت الخصومة بين مسلم ونصراني، قومناه على النصراني وأعتقناه عليه.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يقوم على النصراني النصف الذي يدعيه المسلم يريد بعد أيمانهما؛ لأن معنى المسألة، أنهما تداعيا فيه وهو بأيديهما جميعا وليس بيد واحد منهما، فإن حلفا جميعا، أو نكلا جميعا، كان الحكم فيه عندي ما ذكر؛ وإن نكل النصراني وحلف المسلم، كان عبدا له وبطل دعوى النصراني فيه؛ وإن نكل المسلم وحلف النصراني، كان ابنا له على ما ادعاه وحلف عليه؛ ولو كان العبد بيد أحدهما، لكان القول قوله مع يمينه فيما يدعيه من أنه عبده أو ابنه؛ وليس قوله إذا حكم بالعبد بينهما على ما يدعيانه بأن نصف النصراني منه يكون حرا، بمعارض للمسألة التي بعدها في قوله فيها: ولا يدخل عليه من عتقهم ما فيه مضرة على أخيه،(14/263)
والفرق بين المسألتين: أن هذه لم يتقدم إقراره بالملك فيها لشريكه قبل إقراره بما يوجب عليه العتق في نصيبه، ولا علم ذلك ببينة، وتلك تقدم إقراره فيها بالملك لأخيه، ولذلك لم يجز أن يعتق عليه حظه بإقراره أنه ابنه- والله أعلم. وأما قوله: إنه يقوم على النصراني النصف الذي يدعيه المسلم، فهي مثل قول أصبغ في نوازله من كتاب الشهادات في الرجلين يشتريان العبد ثم يشهد أحدهما على البائع أنه أعتقه، أنه يعتق عليه حظه ويقوم عليه حظ شريكه؛ خلاف قول سحنون في المسألة التي بعد هذا، فأراد أن يخرج هذا حرا عن غيره، فلا يكون عليه ضمان؛ لأن ذلك بين أن الضمان لا يكون إلا على من أعتق عن نفسه، وقول سحنون فيها: ولا يدخل عليه من عتقهم ما فيه مضرة على أخيه، خلاف قول عبد العزيز بن أبي سلمة في أول سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، وقول المغيرة في نوازل سحنون منه في أحد الورثة يشهد على الموروث أنه أعتق عبده، أنه يعتق عليه حظه منه، ولا يقوم عليه حظ إشراكه، وبالله التوفيق.
[مسألة: يهلك ويترك ولدا واحدا]
مسألة وسئل سحنون عن رجل يهلك ويترك ولدا واحدا، فيقول الولد لثلاثة من ولد خدم أبيه: هذا أخي، لا بل هذا أخي، لا بل هذا؛ وكان كل واحد منهما لأم ليس له منهم أخ شقيق، قال: الأول حر وقد أقر له بنصف الباقيين ونصف المال، فلا أرى إقراره في هذين الباقيين بالذي يبطل حق المقر له الأول، ولا يدخل عليه من عتقهم ما فيه مضرة على أخيه، لأنه ليس بمعتق فيضمن، وإنما(14/264)
اغتزى إبطال سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن أعتق شركا له في مملوك، فأراد أن يخرج هذا حرا عن غيره، فلا يكون عليه ضمان، وليس من سنة المسلمين أن تجوز شهادة واحد في عتق ولا يلحق بذلك نسب المقر له الأول.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه المسألة: إن الأول حر وقد أقر له بنصف الباقيين (وبنصف المال) صحيح لا إشكال فيه ولا اختلاف، وكذلك قوله بعد ذلك فلا أرى إقراره في هذين الباقيين بالذي يبطل حق المقر له الأول. وأما قوله: ولا يدخل عليه من عتقهم ما فيه مضرة على أخيه لأنه ليس بمعتق فيضمن، وإنما اغتزى إبطال سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيمن أعتق شركا له في مملوك، فأراد أن يخرج هذا حراء عن غيره، فلا يكون عليه ضمان، ففي ذلك ثلاثة أقوال، أحدها هذا: أنه لا يعتق عليه حظه ولا يقوم عليه حظ أخيه للعلة التي ذكرها، وهو قول مالك في المدونة وغيرها في أحد الورثة يقر لعبد أن الذي ورثوه عنه أعتقه، إذ لا فرق بينهما في المعنى؛ إلا أنه يستحب له أن يبيع نصيبه منه فيجعله في عتق، فإن اشتراه بعد ذلك (أو ملكه) بوجه من الوجوه، أعتق عليه، لإقراره أنه حر. والثاني: أنه يعتق عليه حظه ولا يقوم عليه حظ أخيه، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات، وقول المغيرة في نوازل سحنون منه، والثالث: أنه يعتق عليه نصيبه ويقوم عليه نصيب أخيه، وهو قول أصبغ في(14/265)
نوازله منه أيضا قاله في الرجلين يشتريان العبد ثم يشهد أحدهما على البائع أنه أعتقه، إذ لا فرق بين هذه المسائل، كلها في المعنى، ولكل قول منها وجه قد مضى بيانه في آخر أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات؛ ورأيت لابن دحون أنه قال: (في هذه المسألة) مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة فيها أن المقر به الثاني يعتق على المقر ويدفع إلى الذي أقر به أولا نصف قيمته، وكذلك المقر به آخرا؛ ثم يلزم المقر أن يدفع إلى الثاني نصف ما في يديه، ثم يدفع إلى الثالث نصف ما بقي في يديه أيضا؛ وذلك عندي كله غير صحيح، لأن قول عبد العزيز بن أبي سلمة إنما هو أن يعتق عليه حظه منه، ولا يقوم عليه حظ أخيه، وأما قوله وكذلك المقر به آخرا، يريد أن المقر به آخرا على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة يعتق عليه أيضا ويضمن نصف قيمته إلى كل واحد من الأول والثاني، لأن كل واحد منهما يقول له: قد أقررت لي أنني أخوك، وأن هذا العبد الذي أقررت به الآن، وجب أن يعتق عليك، هو بيني وبينك، وأما قوله ثم يدفع إلى الثاني نصف ما في يديه- يريد مما ورثه سوى العبد، فهو قول سحنون بعد هذا فيما يشبه هذه المسألة؛ والصحيح أن يدفع إليه النصف الثاني مثلما دفع إلى الأول، لأنه يقول له قد أقررت لي أني أنا أخوك الأول، فادفع إلي نصف المال، وقد حكاه سحنون عن بعض أصحابه؛ وكذلك قول ابن دحون ثم يدفع إلى الثالث نصف ما بقي في يديه، الصحيح فيه أن يدفع إليه أيضا نصف المال، مثل ما دفع إلى الأول وإلى الثاني؛ لأنه يقول له قد أقررت لي أني أنا أخوك دون الأول ودون الثاني، وبالله التوفيق.(14/266)
[مسألة: كلهم لأم واحدة وأقر لأكبرهم بالنسب وكانوا عبيدا]
مسألة قيل له: فإن كانوا كلهم لأم واحدة وأقر لأكبرهم، قال: فإن الأول المقر له حر، وأمه وأخواه الباقيان أحرار وما بقي من المال فللمقر له الأول نصفه، لأنه لما أقر بالولد، فكأنما أقر بأمه أنها أم ولد لأبيه ولأخويه أنهما حران، وليس للأخوين من الميراث شيء، ولا يلحق واحد منهم بالنسب؛ قيل له فلو أقر لأصغر ولدها، فقال: إذا يكون حرا وتكون أمه حرة، وكان له نصف الباقيين وعتق عليه مصابته منهما، وأرى أن يعتق على المقر المستلحق لأخيه نصف الباقيين، لأن النصف الأول إنما عتق بسببه وإقراره، فلذلك أعتقت عليه ما صار له منهما، كالرجل يعتق نصف عبده فيعتق عليه ما بقي منه.
قال محمد بن رشد: هذا كله كما قال، وإنما قال؛ إذا أقر لأصغر ولده يعتق، وكان له نصف الباقيين أنه يعتق عليه مصابته منهما من أجل أنهما إخوته لأمه، فلا يصح له ملكهما، وقد بين وجه الذي رأى به أن يعتق على المقر حظه منهما بما لا مزيد عليه؛ ولو كان له فيهما شريك غيره، مثل أن يكونا أخوين فأقر أحدهما لأصغر أولاد أمة أبيه أنه أخوه، فيعتق على المقر له حظه منهما، وهو الثلث منهما؛ لعتق عليه أيضا هو حظه منهما، إذ لا ضرر على أخيه في ذلك إذ قد دخله العتق؛ بخلاف إذا لم يدخله عتق، لا يعتق على(14/267)
المقر حظه منه بإقراره له بما سبب عتقه، كما لا يعتق عليه حظه منه بإقراره أن غيره أعتقه- على ما مضى فوق هذا من قوله، خلاف ما ذكرناه من مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وأصبغ، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر لثلاثة أجنبيين ليسوا أولاد خدم أبيه]
مسألة قيل له: فلو أنه أقر لثلاثة أجنبيين ليسوا أولاد خدم أبيه، فقال: هذا أخي، لا بل هذا أخي، لا بل هذا أخي؛ فقال: يكون للأول المقر له نصف ما ورث عن أبيه، ويكون للثاني نصف النصف الذي بقي في يديه، فيصير له منه الربع، ويكون للثالث نصف الربع الذي بقي في يديه، قال سحنون: وقد قال فيها بعض أصحابنا إنه يغرم للثاني مثل ما صار للأول، ويغرم للثالث مثل ما صار للأول؛ لأن كل واحد منهما يقول أنت- أتلفت علي مورثي.
قال محمد بن رشد: القول الذي حكاه سحنون عن بعض أصحابه، أصح في النظر من قوله، للعلة التي ذكرها من أنه قد أتلف على كل واحد منهما حقه بإقراره به لغيره؛ وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح في الذي يقر بالعبد لرجلين، فيدعيه كل واحد منهما لنفسه خالصا، أن المقر يحلف أنه ما يعرفه لأحدهما- خالصا؛ فإن نكل عن اليمين، حلف المقر لهما وأغرماه قيمة العبد، وعلى قول سحنون في هذه المسألة لا يمين على المقر بالعبد لرجلين، ووجه قول سحنون أنه إنما أقر له بما في يديه وبما في يدي(14/268)
الذي أقر له قبله، فأشبه ذلك الوارث يقر بوارث، فلا يلزمه أن يدفع إليه إلا ما يجب له مما بيده، لأنه إنما أقر له بما في يديه وفي يدي غيره من الورثة، وليس هو مثله، إذ لم يتلف هو ما صار بيد غيره من الورثة، وبالله التوفيق.
[مسألة: له ثلاثة أعبد أخوة للأم أو مفترقين فقال أحد هؤلاء ابني]
مسألة وسئل سحنون عن رجل له ثلاثة أعبد أخوة للأم أو مفترقين، فقال السيد في مرضه: أحد هؤلاء ابني، فغفل عن ذلك حتى مات السيد الذي أقر بالابن، فقال: إن كانوا لأم، فالولد الأخير حر، والذي يليه يعتق منه ثلثاه، والذي يليه يعتق منه ثلثه؛ ولا يثبت له نسب واحد من الولد ولا يرثه؛ وإن كانوا مفترقين، فإن القول بيد الرسول، وأكثر الرواة أن محمل هذا عندهم، كرجل قال: أحد عبيده حر، وقال المخزومي: يعتق من كل واحد ثلثه، ويرق ثلثاه؛ وقال آخرون: يعتق واحد من الثلاث بالقرعة؛ لأنه لما كان مجهولا يعتق بحكم الوصية فقط، وقد قيل: إنه يقرع بينهم وإن كانوا لأم.
(قال محمد بن رشد) : إنما قال: إذا كانوا لأم أنه يعتق الأصغر، ومن الأوسط ثلثاه، ومن الأكبر ثلثه؛ لأن الصغير حر على كل حال، والأوسط يجب له العتق في حالين، والرق في حال، والكبير يجب له الرق في حالين، والعتق في حال. وقوله: وقد قيل إنه يقرع بينهم وإن كانوا لأم، إنما معناه أنه يقرع بين الأكبر والأوسط، لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون أصابه العتق، وأن يكون لم يصبه؛ وأما الأصغر فهو حر على كل حال، لا يصح أن يختلف فيه، وإن كان ظاهر الرواية خلاف ذلك،(14/269)
فتأول على هذا وهو تأويل سائغ، لأن الابنين جماعة، فيحتمل أن يصرف ضمير الجمع في قوله بينهم؛ إليهما دون الثالث، ويأتي على ما قال بعد هذا في الذي قال عند موته: إن فلانة جاريته ولدت منه، أن الأكبر والأوسط يعتقان جميعا أيضا من ناحية الشك، إذ لا يصح للورثة تملك واحد منهما وهو لا يعلم إن كان عبدا أو حرا، وهو أظهر - والله أعلم- من أن يقرع بينهما، لأن القرعة لا ترفع الشك، وهي في القياس غرر، فلا ينبغي أن تستعمل إلا حيث وردت في السنة، ومن أن يعتق من الأكبر ثلثه، ومن الأوسط ثلثاه، لأنا نحيط علما أن الميت لم يرد ذلك، إذ لا يحتمله لفظه، فهذا القول أضعف الأقوال، ويتخرج في المسألة قول رابع وهو أن يكونا جميعا عبدين، لاحتمال أن يكون الميت لم يرد واحدا منهما وإنما أراد الأصغر، فلا يعتق واحد منهما إلا بيقين على القول بأن الشك لا يؤثر في اليقين. وقوله: إنه لا يثبت نسبه صحيح لا اختلاف فيه، إذ لا يصح أن يحكم بثبوته لواحد منهم بشك، وأما قوله: إنه لا يرثه واحد منهم، ففيه نظر؛ والذي يوجبه النظر في ذلك عندي أن يكون حظهم من الميراث بينهم على القول بأنهم يعتقون جميعا على ما قاله بعد هذا في المسألة التي ذكرناها وهو الصحيح، إذ قد صح الميراث لأحدهم ولا يدري لمن هو منهم، فإن تداعوا فيه فادعاه كل واحد منهم، قسم بينهم بعد أيمانهم، إن حلفوا جميعا، وكذلك إن نكلوا جميعا، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين، كان الميراث للحالف منهم دون الناكل؛ وكذلك أن لو قالوا لا علم لنا، كان الميراث بينهم(14/270)
بعد أن يحلف كل واحد منهم أنه لم يعلم من أراد الميت منهم على الاختلاف في لحوق يمين التهمة، لأنها يمين التهمة في هذا الموضع؛ وإن أعتق بعضهم، كان لمن أعتق حظه من الميراث، ويوقف حظ من لم يعتق؛ فإن عتق أخذه، وإن مات قبل أن يعتق رد على الورثة؛ وأما إذا كانوا مفترقين، فهو بمنزلة إذا قال: أحد عبيدي حر، ثم مات قبل أن يسأل أيهم أراد، لأن معنى قوله في الرواية فغفل عن ذلك حتى مات، أي غفل أن يسأل أيهم أراد أنه ابنه حتى مات، وفي ذلك ستة أقوال، أحدها: أنه يقرع بينهم فما خرج السهم عليه منهم عتق. والثاني: أن العتق يجري فيهم فيعتق ثلث كل واحد منهم إن كانوا ثلاثة، وربعه إن كانوا أربعة، أو كانوا أكثر من ذلك على هذا القياس. والثالث: أن الورثة ينزلون فيهم بمنزلة الميت يعتقون منهم أيهم شاءوا. والرابع: أنهم يعتق ثلثهم بالسهم إن كانوا ثلاثة، وربعهم بالسهم إن كانوا أربعة، وكذلك إن كانوا أقل أو أكثر. والخامس: أن الورثة يخيرون إن اتفقوا، فإن اختلفوا أقرع بينهم. والسادس: أن الورثة يخيرون، فإن اختلفوا جرى العتق في عددهم، والثلاثة الأقوال الأول لابن القاسم، والرابع لمالك، والخامس والسادس لسحنون، وكلها في كتاب العتق من العتبية، وفي المسألة قول سابع أنهم يعتقون كلهم من أجل الشك، إذ لا يسوغ للورثة تملك واحد منهم، لاحتمال أن يكون هو الذي عنى الميت على ما ذكرناه، ويؤيد هذا القول ما روي أن عبد الله بن عمر قال: يفرق بالشك، ولا يجمع بالشك؛ ويتخرج في المسألة قول ثامن وهو أن يوقف الورثة عن جميعهم إلا أن يموت واحد منهم أو يعتقوه، فلا(14/271)
يحكم عليهم في الباقين بعتق، وإنما يؤمرون به ولا يجبرون عليه؛ وهذا على قياس القول بأن الشك لا يؤثر في اليقين، ولا يثبت نسب واحد منهم، ويكون الحكم في الميراث على قياس ما تقدم، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وترك أمه وأخاه فقالت الأم لرجل هذا أخو ولدي الميت]
(مسألة)
وسئل سحنون عن رجل مات وترك أمه وأخاه، فقالت الأم لرجل هذا أخو ولدي الميت، وأنكر الأخ الوارث أن يكون أخاه، قال: ترجع الأم إلى السدس ويكون للأخ الثلثان، ويصير للمستلحق السدس الذي أقرت به المرأة- تمام الثلث، ويقال للأخ: أتقر بما (أقرت به) المرأة أم الميت؟ فإن أقر به، كان له نصف ما في يدي المستلحق، ويدخل معه المستلحق فيأخذ نصف ما في يديه، وإن أنكر وقال: ليس أخي، كان نصف السدس موقوفا، لا يأخذه أبدا إلا أن يقر أنه أخوه؛ لأنه منكر وهو يدفع نصف السدس عن نفسه، يقول: ليس لي فيه حق، فكيف أدفع إليه شيئا هو مقر أنه ليس له فيه حق، وكذلك الرجل يدخل على المرأة ويرخي عليها الستر فيطلقها الزوج ويقول قد وطئتها، وتقول المرأة ما وطئني، أنه يقال للمرأة قد أقر لك بجميع الصداق، فإن أقررت بالوطء فخذي، وإلا لم يكن لها إلا نصف الصداق، لأنها تدفعه عن نفسها وتقول ليس لي إلا نصف الصداق- إذا لم تقر بالوطء، وقد أخطأ من قال: إن للمستلحق نصف السدس، والنصف للأخ الثابت، وإن(14/272)
أنكر أن المستلحق ليس أخاه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال، أحدها: أن السدس الذي برئت به الأم لإقرارها بالأخ يكون له، روي هذا القول عن مالك وعليه الجماعة من أصحابه، وهو قول جميع الفراض، وأظهر الأقوال؛ لأن المقر به يقول قد جحدني الأخ الثلث، فكيف يوقف لي شيء من السدس الذي برئت به الأم، وهو اختيار ابن المواز. والقول الثاني: أن السدس الذي برئت به الأم يكون بين المستلحق والأخ الثابت النسب، قال أصبغ: لأنه يقول ما برئت به الأم فأنا أحق به، إذ لا وارث معي؛ ويقول المستلحق: بل هو لي فيقسم بينهما، ووجه ثان: أن الأم لم تحجب عن الثلث إلى السدس إلا لهما جميعا، فوجب أن يكون بينهما. والقول الثالث: قول سحنون هذا أن السدس الذي برئت به الأم يكون نصفه للأخ المستلحق، والنصف الآخر موقوفا لا يأخذه الأخ، إلا أن يقر بما أقرت به الأم، فيأخذه ويرفع نصف ما بيده- وهو أضعف الأقوال، لأنه إذا كان لا يأخذ نصف السدس إلا أن يعطي أكثر منه، فلا معنى لتوقيفه، ولا يشبه مسألة الصداق التي نظرها بها، لأن المرأة أنكرت ما أقر لها به الزوج، فوجب أن يكون لمن رجع منهما- أولا إلى تصديق صاحبه- على قول سحنون في هذه المسألة- أنه يقال للمرأة قد أقر لك بجميع الصداق، فإن أقرت بالوطء فخذيه، وإلا لم يكن لك إلا نصف الصداق. وقوله هذا يبين ما لابن القاسم في (كتاب) إرخاء الستور من المدونة، (لأن له في كتاب الرهون) مثله، وهو قول أشهب (في كتاب إرضاء الستور) من المدونة، ولسحنون بعد هذا في هذه النوازل، خلاف قوله هذا إن لها أن تأخذ(14/273)
ما أقر لها به- وإن كانت مقيمة على الإنكار، وقيل: إنه لا يحكم لها بأخذ ما أقر لها به- وإن رجعت إلى قوله وصدقته، إلا أن يشاء أن يدفع ذلك إليها- قاله ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب النكاح ومن كتاب الدعوى والصلح، ولا يدخل شيء من هذا في مسألتنا، لأن الأخ لم ينكر إقرار الأم به، ولو أنكر ذلك، لكان الحكم فيه كالحكم في مسألة الصداق وما يشبههما من المسائل لكون السدس الذي برئت به الأم موقوفا يأخذه من رجع منهما- أولا إلى تصديق صاحبه، ويدخل في ذلك الاختلاف الذي ذكرناه، وبالله التوفيق.
[مسألة: قال مات أخي فلان وترك ألف دينار وهو أخوك أيضا]
مسألة وسئل سحنون عن رجل قال: مات أخي فلان) وترك ألف دينار- وهو أخوك أيضا. قال: الألف بينهما بنصفين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه في المذهب إذ لا وارث (له) غير الذي أقر به، والمخالف في ذلك الشافعي يقول: لا يلزمه أن يعطيه شيئا بحكم، إذ لم يثبت النسب بقوله- وهو بعيد، وبالله التوفيق.
[مسألة: مات وترك ولدين فأقر أحدهما بأخ وأنكر الآخر]
مسألة قيل له: فلو أن رجلا مات وترك ولدين فأقر أحدهما بأخ وأنكر الآخر، فقال: يكون للمقر له في سهم المقر ما كان يصير له في سهمه، قيل له: فإن مات المقر له، فقال: يرثانه جميعا: المقر به(14/274)
والمنكر له وهو بمنزلة رجل قال: أخي مات (وترك ألف دينار) . وهو أخوك أيضا أن الألف دينار بينهما؛ قيل له: فإن مات المقر، فهل يرثانه جميعا المقر له والمنكر (له) فقال: لا يرثه المقر له، وإنما يرثه أخوه ومن كان من نسبه، وهو بمنزلة رجل كان لرجل عليه بينة أنه أعتقه- وأقر لرجل أنه أخوه، فإنه إن مات ورثه مولاه الذي عليه بينة، ولا يرثه الذي أقر وإن مات ولا نسب له ورثه المقر له.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة تشتمل على أربع مسائل، وقوله في أول مسألة منها يكون للمقر له في سهم المقر ما كان يصير له في سهمه، هو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى ما في ذلك من الاختلاف، وتحصيل القول فيه، فلا معنى لإعادته. وقوله في المسألة الثانية قيل: فإن مات المقر له قال: يرثانه جميعا المقر به والمنكر له، يرد قوله في المسألة التي قبل هذا في الصداق أن المرأة لا تأخذ جميعه إلا أن تقر بما أقر به الزوج من الوطء، وقد مضى ذكر الاختلاف في ذلك، فلا معنى لإعادته. وقوله: وهو بمنزلة رجل قال: مات أخي وترك ألف دينار وهو أخوك أيضا أن الألف بينهما، تنظير غير صحيح، لأن الألف لا تكون بينهما إلا أن يقر بأنه أخوه؛ وأما إن أنكر فهي مسألتنا بعينها، فلا وجه للاحتجاج بها عليها. وقوله في المسألة الثالثة. قيل له فإن(14/275)
مات المقر، فهل يرثانه جميعا المقر له والمنكر له، قال: لا يرثه المقر له وإنما يرثه أخوه ومن كان من نسبه، صحيح لا اختلاف فيه، لأن نسب المقر به لا يثبت بإقرار المقر به، إلا أن يكون الذي أقر به رجلين عدلين، فلا يرث المقر به بإقراره به بإجماع، وقوله: وهو بمنزلة رجل كان لرجل عليه بينة أنه أعتقه وأقر لرجل أنه أخوه وأنه إن مات ورثه مولاه الذي عيه البينة، ولا يرثه الذي أقر، تنظير غير صحيح، لأنها هي المسألة بعينها، فلا معنى للاحتجاج بها عليها. وقوله في المسألة الرابعة: وإن مات ولا نسب له ورثه المقر له، خلاف المشهور من مذهبه في أن بيت المال مثل النسب القائم، فلا يرث المقر به المقر وإن لم يكن له وارث معروف النسب، مثل قول الجماعة أن المقر به يرث المقر إذا لم يكن له وارث معروف بنسب ولا ولاء، وبالله التوفيق.
[مسألة: ابن الملاعنة يهلك ويترك ابنة وعصبة]
مسألة وقال سحنون في ابن الملاعنة يهلك ويترك ابنة وعصبة، ثم يستلحق الأب ابنة الميت، قال: تلحق الابنة بجدها ويرجع الجد على العصبة بالنصف الذي أخذوا من ميراث ولده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن استلحاقه لابنة الميت الذي لاعن به استلحاق منه لابنته، فهي تلحق بجدها، وهو مثل ما في المدونة من أن الملاعن له أن يستلحق ولده الذي لاعن به بعد أن مات، ولا يتهم على أنه إنما استلحقه ليرثه إذا كان له ولد، فكما لا يتهم مع الولد وإن كان يرث معه السدس، فكذلك لا يتهم مع الابنة وإن كان يرث معها(14/276)
النصف؛ إذ قد يكون مال الذي ترك الولد الذكر كثيرا، فيكون السدس منه أكثر من نصف مال الذي ترك الابنة، وكذلك لو ترك الولد الذي لاعن به أو الابنة التي لاعن بها ولد ولد وإن سفل فاستلحقه، بأن يقول والد هذا ولدي وأنا جده، أو استلحق ولده الذي لاعن به، أو ابنته التي لاعن بها، لأن استلحاقه لولده استلحاق لولد ولده، واستلحاقه لولد ولده على الوجه التي ذكرت لك استلحاق لولده، وليس له أن يلحق بولده ولدا هو له منكر؛ وإذا استلحق واحدا منهما، حد على كل حال، وقيل إنما يحد إذا كان لعانه على نفي الحمل، وأما إذا كان لعانه على الرؤية أو على نفي الولد أو على نفي الولد مع الرؤية فلا حد عليه، لأن لعان الرؤية باق وإن استلحق الولد، وبالله التوفيق.
[مسألة: أقر عند موته أن فلانة جاريته ولدت منه]
مسألة قيل: أرأيت رجلا أقر عند موته أن فلانة جاريته ولدت منه، وأن ابنتها فلانة ابنتي وللأمة ابنتان سوى التي أقر بها، فمات ونسيت البينة اسمها- ولم يجحد الورثة ذلك، فقال: إذا أقرت الورثة بذلك- ولم ينكروه، فهن كلهن أحرار ولهن الميراث- ميراث واحدة من البنات، يقسم بينهن- ولا يلحق به نسب واحدة منهن، قيل له: فإن لم يقر بذلك الورثة ولا نسيت البينة اسمها) قال: فلا عتق لواحدة منهن حين لم تعلم البينة أيتهن هي.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إذا أقر لورثته بما شهدت به البينة، كان ذلك بمنزلة إذا شهدت البينة أنه قال إحدى هؤلاء الثلاث ابنتي(14/277)
- ولم يسمها لهم، فالشهادة جائزة باتفاق. وقوله في هذه المسألة إنهن يعتقن كلهن، خلاف قوله قبل هذا في هذه النوازل في الذي قال في مرضه في عبيد له ثلاثة: أحد هؤلاء ابني ولم يسأل أيهم أراد حتى مات؛ وقد مضى القول على ذلك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وأما إذا جحدوا، فقوله: إنه لا عتق لواحدة منهن حين تعلم البينة أيتهن هي، هو المشهور في المذهب: أن الشهادة باطلة إذا كان الميت قد سماها لهم، أو عينها فنسي الشهود اسمها، أو لم يثبتوا عينها، وشكوا في ذلك، وقد قيل: إن الشهادة جائزة، ويكون الحكم في ذلك بمنزلة إذا لم يسمها لهم ولا عينها، وهو قوله في أصل الأسدية في مسألة كتاب الإيمان بالطلاق، لأنه وقع فيها فشك الشهود ولم يعلموا أيتهن المطلقة التي قد دخل بها، أو التي لم يدخل بها، وقد فرق في ذلك بين أن تكون الشهادة في الصحة أو في المرض؛ فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أن الشهادة جائزة في الصحة والمرض، والثاني: أنها لا تجوز في الصحة وإلا في المرض. والثالث: أنها تجوز في المرض ولا تجوز في الصحة، وبالله التوفيق.
[مسألة: تكون له المرأة ويكون له ولد فتزعم أن الغلام ولدها من زوج غيره]
مسألة وسئل سحنون عن الرجل تكون له المرأة ويكون له ولد، فتزعم المرأة أن الغلام ولدها من زوج غيره، ويزعم هو أن الغلام ابنه من امرأة غيرها، فقال: أرى- والله أعلم- أن يلحق الغلام بالزوج، ويكون القول قوله، ولا يقبل قول المرأة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه(14/278)
-أعلمه- أن المرأة لا يجوز لها استلحاق ولدها، بخلاف الأب، لأن الولد إنما ينتسب إلى أبيه لا إلى أمه، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] ، ولولا ما أحكم الشرع من هذا، لكان نسبة الرجل إلى أمه أولى من نسبته إلى أبيه، لأنها أخص به من أبيه، لأنهما اشتركا بالماء، واختصت هي بالحمل والوضع دونه، وهذا أصل في أن الزرع في المزارعة الفاسدة لصاحب البذر، لا لصاحب الأرض، وبالله التوفيق.
[مسألة: ينتفي من ولده بلعان أمه]
مسألة وقال سحنون في الرجل ينتفي من ولده بلعان أمه، فيولد لولده ذلك ولد، ثم يولد