فصل والمراد بالمحصنات في هذه الآية الحرائر العفيفات. والإحصان الذي يوجب الحد في القذف هو الإحصان بالحرية والإسلام الذي يوجب جلد مائة في الزنى ويدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الرجال والنساء، لأنه لما كانت لا تزني امرأة إلا برجل اكتفى الله عز وجل بذكر المحصنات عن المحصنين، وهو أمر متفق عليه، لا اختلاف عند أحد من المسلمين أن قذف المحصن كقذف المحصنة في وجوب الحد ولحوق الإثم.
فصل وهذا المعنى يدل على أن قاذف الجماعة حدا واحدا، لأن قاذف المحصنة قاذف للذي زنى بها ولم يوجب الله تعالى عليه إلا حدا واحدا مع قوله أيضا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وهن جماعة. وهذا موضع اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول مالك ومن قال بقوله إن عليه حدا واحدا، قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين في مجالس شتى، وهو مذهب أبي حنيفة. والدليل على ذلك ما قلناه، ولا اختلاف في هذا بين أحد من أصحاب مالك. فإذا قذف الرجل جماعة فحد لأحدهم فذلك الحد لكل قذف تقدم قام طالبوه أو لم يقوموا عند مالك وأصحابه، حاشى المغيرة فإنه يقول إن طالبوه مفترقين حد لكل واحد منهم. وحكى ابن شعبان عن بعض أصحابنا لصاحب يا بن الزانيين وأمه حرة مسلمة حد حدين لحرمة الصحابي.
والثاني: قول الشافعي إن عليه الحد لكل واحد منهم، قذفهم في كلمة واحدة أو مفترقين في مجالس شتى. [والثالث قول ابن أبي ليلى التفرقة بين أن يقذفهم في كلمة واحدة أو في(3/264)
مجالس شتى]
وقال عثمان البثي: إن قذف جماعة حد لكل واحد منهم، وإن قال لرجل زنيت بفلانة حد حدا واحدا. قال لأن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة. وهذا قول لا يعضده قياس ولا نظر، إذ لا فرق بين أن يقول فلان وفلانة زانيان أو يقول زنى فلان بفلانة.
فصل وحد العبيد في القذف على النصف من حد الأحرار قياسا على حد الزنى لقول الله عز وجل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] هذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء الأمصار وأكثر العلماء، وروي ذلك عن جماعة الخلفاء أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وروي عن ابن مسعود أن العبد يجلد في القذف ثمانين لأن العلة في ذلك عندهم أن القذف حق للمقذوف، فلزم فيه النصراني ما يلزم المسلم، فوجب أن يلزم فيه العبد ما يلزم الحر، لأن النصراني أدنى مرتبة من العبد. فإذا لم ينقص النصراني من الثمانين في القذف لنقص مرتبته على مرتبة المسلم فأحرى ألا ينقص العبد، كما لو غصبت المرأة نفسها لكان لها صداق مثلها، حرا كان غاصبها أو عبدا أو كافرا، لأنه حق لها كحد القذف. وليس كذلك الزنى لأنه حق لله تعالى، لا حق فيه لمخلوق، فلذلك كان الحد فيه على المراتب: العبد خمسين، والحر مائة، والمحصن الرجم، والنصراني لا شيء عليه إلا أن يعلنه فيؤدب لإعلانه، أو يكون ذميا فيرد إلى دينه. فلعمري إن من أوجب على العبد في القذف ثمانين جلدة كما يجب على الحر لهو أسعد بالقياس إلا أن جل أهل العلم على أن على العبد في القذف أربعين قياسا على حد الزنى، وهو في الخلفاء الراشدين المهديين. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد» .(3/265)
فصل وقد ظن أهل الظاهر أن قول ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز ومن قال بقولهما يجلد العبد في الفرية ثمانين نفي للقياس وفرار عن قياس العبد على الأمة، وليس ذلك نفيا للقياس ولكنه نفس. القياس ومحضه وحقيقته على ما بيناه.
فصل ولا خلاف أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف أهل العلم هل يتعلق به حق الله أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتعلق به حق لله تعالى فلا يجوز فيه العفو، بلغ الإمام أو لم يبلغ.
وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه تدل رواية أشهب عن مالك في العتبية. ويأتي على قياس هذا القول أن حد القذف يقيمه الإمام إذا انتهى إليه، رفعه إليه صاحبه أو أجنبي من الناس.
والثاني: أنه لا يتعلق به حق لله تعالى، ولصاحبه أن يعفو عنه بلغ الإمام أو لم يبلغ. وهو أحد قولي مالك في كتاب السرقة والرجم من المدونة.
والثالث: أنه حق لصاحبه ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغ الإمام صار حقا لله ولم يجز لصاحبه أن يعفو عنه إلا أن يريد سترا. وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقد وقع في المدونة في الذي يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه يقيم عليه الحد إذا كان معه شهود. فتأول محمد بن المواز أن معنى ذلك إذا جاء المقذوف وقام بحقه على أحد قولي مالك. وحكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وغيره أنه يقيمه عليه وإن كان المقذوف غائبا، وهذا يأتي على قول مالك الآخر، وبالله التوفيق.
فصل والحد يجب في التصريح بالقذف والتعريض البين الذي يرى أن صاحبه أراد(3/266)
به قذفا. هذا قول مالك وأصحابه خلافا للشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما في قولهما إن التعريض لا يجب فيه الحد وإنما فيه الأدب. وقال أصحاب الشافعي إلا أن يقول أردت به القذف فيحده والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنا إنما تعبدنا بالمعاني لا بالألفاظ، لأن الألفاظ قد ترد وظاهرها خلاف المراد بها. فإذا فهم مراد المتكلم بها وقصده منها كان الحكم له لا للفظ. قال الله عز وجل: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15] فهذا لفظ ظاهره الأمر والمراد به المفهوم منه النهي الذي هو ضد الأمر، فقام المفهوم من اللفظ عند سامعه مقام التصريح له به. وهذا كثير موجود في القرآن ولسان العرب. وقال الله عز وجل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أرادوا إنك لأنت الأحمق السفيه، فالكلام ظاهره المدح والمفهوم منه السب والاستهزاء فهو أبلغ من التصريح بالسب. وكذلك قد يكون من التعريض ما هو أبلغ من التصريح بالقذف، مثل أن يتساب الرجلان فيقول أحدهما لصاحبه يا بن الفاعلة يا بن الصانعة يا بن العفيفة التي لم تزن قط ولا ألمت بفاحشة. فهل يشك أحد أو يمتري أن هذا أبلغ وأشد من قوله يا بن الزانية.
فصل وقد احتج الشافعي في إسقاط الحد في التعريض بالقذف بقول الله عز وجل وقوله الحق: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] قالوا فقد منع الله من المواعدة في العدة وأباح التعريض بذلك، وهو احتجاج فاسد يلزمه عليه أن يبيح التعريض بالقذف لأن الله أباح التعريض في النكاح في الحال الممنوع منه. وهذا قول من لم يفهم معنى الآية. إنما منع الله من المواعدة، والمواعدة مفاعلة من اثنين فلا تكون مواعدة إلا منهما جميعا أو منه ومن وليهما، وذلك يشبه العقد،(3/267)
لما جاء من النهي عن الإخلاف بالوعد وكره لأحدهما أن يعد صاحبه بالنكاح لئلا يبدو له فيخلف بالوعد. وكره لأحدهما أن يعد صاحبه بالنكاح ليلا يبدو له فيخلف بالوعد. فإذا عرض بالوعد ولم يصرح به لم يكن فيه موضع للكراهة.
فصل ومما يقطعهم ويبطل مذهبهم جملة أن يقال لهم: لا بد لكم من أحد وجهين:
إما أن تقولوا إن التعريض لا يفهم منه القذف أصلا. أو تقولوا إنه يفهم منه القذف ولا يجب فيه الحد. فإن قالوا لا يفهم منه القذف قيل لهم ما تقولون في رجلين تسابا فقال أحدهما لصاحبه يا بن الزانية فقال مجاوبا له: ومثلك يقول لأحد يا بن الزانية وأمك العفيفة المشهورة بالعفاف التي لم تزن قط ولا مرة واحدة من عمرها. فإن قال قائل: إن مثل هذا لا يفهم منه القذف إلا أنه لا يجب فيه الحد قيل لهم: فما الفرق بين ذلك وبين أن يقول أردت به القذف؟ ولا خلاف بيننا وبينهم أنه إذا أقر على نفسه أنه أراد به القذف أنه يحد، وهذا ما لا انفصال لهم عنه.
فصل فحد القذف يجب بسبعة أوصاف، خمسة في المقذوف وهي: الإسلام، والحرية، والبلوغ، والعفاف، وأن يكون معه متاع الزنا ليس بحصور ولا مجبوب قد جب قبل بلوغه، واثنان في القاذف وهي البلوغ، والعقل. ومن الناس من قال بثمانية أوصاف فزاد في المقذوف العقل، وليس ذلك بصحيح لأنه داخل تحت العفاف. فإن انخرم وصف من هذه الأوصاف سقط الحد، وإن اجتمعت وجب(3/268)
الحد. فلا يخلو القاذف من أن يكون حرا أو عبدا. فإن كان حرا فحده ثمانون، وإن كان عبدا فحده أربعون على مذهب مالك ومن قال بقوله. وقد تقدم ذكر اختلاف في ذلك وتوجيه كل قول. فإذا ثبت هذا فالبلوغ في القاذف بلوغ الحلم في الرجال أو الحيض في النساء، وفي المقذوف الحلم في الرجال وإمكان الوطء في النساء على مذهب مالك في رواية ابن القاسم عنه، وفي ذلك اختلاف. قال محمد بن الجهم ومحمد بن عبد الحكم: لا حد على من قذف صبية لم تبلغ المحيض.
فصل ويجب حد القذف على مذهب مالك في وجهين: أحدهما: أن يرميه بالزنا، والثاني: أن ينفيه من نسبه وإن كانت أمه أمة أو كافرة إما بتصريح وإما بتعريض بين يقوم مقام التصريح في الوجهين على ما بيناه. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا نفاه من نسبه وأمه أمة أو نصرانية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة.
فصل ويجب بوجهين: أحدهما: إقرار القاذف على نفسه بالقذف. والثاني: أن يقوم به جمليه شاهدا عدل من الرجال.
فصل وفي إجازة شهادة النساء فيه وثبوته باليمين مع الشاهد، أو إيجاب اليمين على القاذف بالشاهد الواحد أو بالدعوى إذا لم يكن شاهد اختلاف بين أصحابنا. يجري الاختلاف في ذلك على الاختلاف في إجازة شهادة النساء في جراح العمد وفي القصاص باليمين مع الشاهد.(3/269)
فصل فإن اتفق الشاهدان على اللفظ في الشهادة واختلفا في المواطن جازت الشهادة، وهذا ما لا اختلاف فيه من قول ابن القاسم إن الأقوال تلفق إذا اتفق اللفظ أو اختلف واتفق المعنى وإن تفرقت المجالس والأوطان.
وأما إن اختلف اللفظ والمعنى واتفق ما يوجب الحكم من الشهادة، مثل أن يشهد أحدهما أنه قال له يا زان ويشهد الآخر أنه قال له ليس أبوك فلان، فالمشهور أن الشهادة لا تجوز، مثل أن يشهد أحد الشاهدين على الرجل أنه صالح امرأته ويشهد الآخر أنه طلقها ثلاثا على أنها بائنة منه فيفرق بينهما بشهادتهما. فيأتي على هذا القول أن يحد المشهود عليه بشهادة الشاهدين لأنهما قد اجتمعا على إيجاب الحد عليه. وذلك أيضا مثل أن يشهد أحد الشاهدين أنه قال إن ركبت الدابة فامرأتي طالق ويشهد الآخر أنه قال إن دخلت الدار فامرأتي طالق، فركب الدابة ودخل الدار. اختلف في ذلك أيضا، والمشهور أن الشهادة لا تلفق ولا تجوز.
وأما إن اختلف اللفظ في الشهادة واختلف ما يوجبه من الحكم فلا تلفق الشهادة باتفاق. وأما الأفعال فإنها لا تلفق وإن اتفقت المواطن على مذهب ابن القاسم، إلا فيما يستند إلى القول كشرب الخمر، لأن الحد فيه مبني على القذف، لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. وكالرجل يحلف بالطلاق لا يدخل الدار فيشهد عليه رجل أنه دخلها يوم السبت ويشهد عليه آخر أنه دخلها يوم الجمعة أو يوم الأحد وما أشبه ذلك. وقال محمد بن مسلمة وابن نافع: لا تلفق الأفعال في موضع من المواضع، وابن الماجشون يلفق الأفعال إذا اتفقت الشهادة في الزنا وإن اختلفت المواطن. وأما إن اختلفت الأفعال فلا تجوز الشهادة وإن اتفق ما توجب من الحكم.
فصل واختلف أهل العلم هل تسقط شهادة القاذف بنفس القذف أو لا تبطل حتى(3/270)
يقام الحد عليه على قولين. فذهب مالك وأكثر أصحابه وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن شهادته جائزة حتى يقام الحد عليه، وقال الشافعي: لا تجوز شهادته قبل الحد ولا بعده وقال: هو قبل الحد شر منه بعد الحد، لأن الحدود كفارات لأهلها، فكيف تقبل شهادته في شر حاليه، وهو مذهب ابن الماجشون وأصبغ. والصحيح ما ذهب إليه مالك لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فإنما نهى الله عن قبول شهادتهم إذا لم يأتوا بأربعة شهداء، وللقاذف الإتيان بالشهادة ما لم يحد، فهذا يبين أن شهادته لا تسقط إلا بإقامة الحد عليه، وما لم يقم عليه الحد فلم يتبين فسوقه لاحتمال أن يأتي بالشهداء أو يعفو عنه المقذوف أو يقر بما رماه به من الزنا. وهذا كله بين لا إشكال فيه.
واختلف أهل العلم في قبول شهادة القاذف إذا تاب، فمنهم من قال إنها مقبولة وهو مذهب مالك والشافعي وأصحابهما، ومنهم من قال إنها لا تقبل وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. قالوا لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فالاستثناء إنما يعود على التفسيق دون قبول الشهادة. وهذا غير صحيح لأن المعنى الذي من أجله لم تقبل شهادته هو التفسيق. فإذا ارتفع التفسيق وجب قبول الشهادة. ومعنى قوله في الآية أبدا ما لم يتب، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا ويكون معناه ما لم يسلم. هذا أولى ما يحتج به لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقد قيل إن مالكا إنما رأى شهادة القاذف مقبولة إذا تاب، لأن من مذهبه أن الاستثناء الوارد عقب الجملة المعطوف بعضها على بعض بالواو راجع إلى جميعها لا إلى أقرب مذكور منها، وهو معنى حسن أيضا.
واختلف في صفة توبة القاذف التي إذا تاب منها قبلت شهادته على قولين: أحدهما: أن توبته أن يكذب نفسه ويعترف أنه قال البهتان وتاب إلى الله من ذلك.(3/271)
والثاني: أن توبته من ذلك صلاح حاله وندمه على ما فرط من ذلك والاستغفار منه وتركه العود في مثل ذلك من الجرح، وهو قول مالك وهو أصح، لأن توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود والندم والاستغفار منه. فإن كان فاسقا عرفت توبته بانتقاله من حال الفسق إلى حال الصلاح، وإن كان صالحا فتعرف توبته بتزيده في الخير وارتفاع درجته فيه، وبالله سبحانه التوفيق.(3/272)
[كتاب الديات] [فصل في تحريم القتل وما جاء في ذلك]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين
وصلى الله على محمد
كتاب الديات
فصل في تحريم القتل وما جاء في ذلك حرم الله تبارك وتعالى على عباده قتل النفس بغير حق وأوعد على ذلك بالنار الأليم والعذاب العظيم، منذ أهبط آدم إلى الأرض، لم تختلف في ذلك الشرائع والملل. قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] فلولا أن الله حرم ذلك على آدم وولده وتواعدهم على ذلك لما قال المقتول من ابني آدم لأخيه القاتل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من نفس قتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها» .(3/273)
فصل وضرب الله لعباده المؤمنين مثلا فيما قص عليهم من نبإ ابني آدم المذكورين ليتأسوا بفعل المتقي منهما، وأعلم تبارك وتعالى عباده أن قتل النفس بغير حق كقتل جميع الخلق في عظم الإثم إعذارا إليهم لتقوم الحجة بذلك عليهم، فقال عز وجل: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] الآية. وروي عن مجاهد قال: جعل الله جزاء من قتل نفسا مؤمنة بغير حق جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما، فلو قتل جميع الخلق لم يزد من العذاب على ذلك، وما سماه الله عظيما فلا يعلم قدره إلا هو عز وجل.
فصل فالقتل ذنب عظيم من أعظم الذنوب وأجل الخطايا وأكبر الكبائر ليس بعد الشرك ذنب أعظم منه عند الله. وروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، ثم أن تزني بحليلة جارك» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من شارك في دم امرئ مسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عنه أنه قال: «من لقي الله ولم يشرك ولم يقتل لقي الله خفيف الظهر» والأخبار الواردة في القتل كثيرة، وكفى من ذلك ما جاء في القرآن.(3/274)
فصل وجميع الذنوب تمحوها التوبة إن تاب منها قبل المعاينة بإجماع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] وعسى من الله واجبة. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وقول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . فإن مات ولم يتب منها كان في المشيئة لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] معناه لمن شاء. إلا القتل عمدا فإنهم اختلفوا في قبول توبته وإنفاذ الوعيد عليه على قولين:
ذهب جماعة من السلف والخلف إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق له، ممن روي ذلك عنهم ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت. روي أن سائلا سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة عمن قتل رجلا مؤمنا متعمدا هل له من توبة فكلهم قال: هل تستطيع أن تحييه؟ هل تستطيع أن تبتغي في الأرض نفقا أو سلما في السماء؟ وروي أن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، يعني أنه لا توبة له. وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول؟ فأعاد عليه، فقال ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثا ثم قال: ويحك! وأنى له بالتوبة؟ وإلى هذا ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب. ويؤيد هذا المذهب ما روي أن رسول(3/275)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» .
فصل وذلك- والله أعلم- لأن القتل يجتمع فيه حق الله وحق للمقتول المظلوم.
ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبة بذلك نفسه.
فصل واختلف الذاهبون إلى هذا المذهب في حكم الآيتين الواردتين في قتل النفس التي حرم الله: آية النساء قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وآية الفرقان قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] . ومنهم من ذهب إلى أن الآيتين محكمتان، وأن آية الفرقان نزلت في المشركين، وآية النساء نزلت في المسلمين، وتأول أن الخلود المذكور فيها غير مؤيد لأنه لا يخلد في النار على التأبيد إلا الكفار.(3/276)
فصل وأما من قال: إن القاتل مخلد في النار فقد أخطأ وخالف أهل السنة، لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما كسب من صالح أعماله، لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن عمل حسنة ومات على الإسلام فلا بد أن يجازيه الله على حسنته فإنه يقول تعالى وقوله الحق: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال عز من قائل: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] .
فصل وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة. فممن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم. واختلف من صار إلى هذا المذهب أيضا في حكم الآيتين المذكورتين. فمنهم من قال إلى أن اللينة نسخت الشديدة، ومنهم من قال إنهما محكمتان واردتان في الكفار واستدل على ذلك بما فيهما من ذكر الخلود في النار الذي هو من صفة عذاب الكافرين، لأن من أدخل النار من الموحدين فلا بد أن يخرج منها بالشفاعة. ومنهم من قال إن آية الفرقان وردت في الكفار، وآية النساء في المسلمين، إلا أن معناها أن ذلك جزاؤه إن جازاه ولم يغفر له، بدليل قَوْله تَعَالَى:(3/277)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة أنه قال: «هو جزاؤه إن جازاه» . ومنهم من قال في آية النساء إن المراد بها من قتل مؤمنا متعمدا مستحلا لقتله.
فصل والصواب إن شاء الله أن الآيتين محكمتان غير منسوختين، لأنهما وردتا بلفظ الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. وأما المذهبان فلكليهما وجوه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة. فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب، ويناله شديد العقاب، ولمن واقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا ييأس من رحمة الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة؟ يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين منه أنه لم يقتل قال لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل قال له توبة. وإن هذا تحسن من الفتوى.
فصل ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن قادوا منه وإلا بذل لهم الدية وصام شهرين متتابعين أو أعتق رقبة إن كان واجدا، أو أكثر من الاستغفار. ويستحب أن يلازم الجهاد ويبذل نفسه لله، روي هذا كله عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفيه دليل على الرجاء في قبول توبته.(3/278)
فصل واختلف أيضا في القاتل إذا أقيد منه هل يكون القصاص كفارة له أم لا على قولين: فمن أهل العلم من ذهب إلى أن القصاص كفارة له. واحتج بما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عبادة بن الصامت أنه قال: «الحدود كفارات لأهلها» . ومنهم من ذهب إلى أن القصاص لا تكون له كفارة، لأن المقتول المظلوم لا منفعة له في القصاص وإنما هو منفعة للأحياء ليتناهى الناس عن القتل، وهو معنى قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من حديث عبادة بن الصامت بهذا الدليل ويبقى الحديث مستعملا فيما هو حق لله لا يتعلق فيه حق لمخلوق والله أعلم وأحكم. ومن الدليل أيضا على أن القصاص من القاتل لا يكون كفارة له قول الله تبارك وتعالى في المحاربين: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] فظاهره أن الحدود لا تكون كفارة لهم، وذلك والله أعلم لما تعلق بهم من حقوق المخلوقين.
فصل وهذه المعاني كلها من أحكام الآخرة مردودة إلى الباري سبحانه وله أن يفعل ما يشاء عدل منه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
فصل وأما أحكام القاتل عمدا في الدنيا فأن يقتص منه على الشرائط التي أحكمتها(3/279)
السنة، وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. قال الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، معناه أن القاتل إذا علم أنه يقتص منه إن قتل أمسك عن القتل فحييا جميعا. وقيل إن معناه أن القاتل إذا اقتص منه تناهى الناس عن القتل فكان سببا لحياتهم.
[فصل في شرائط صحة القصاص]
فصل فمن شرائط صحة القصاص على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، فيقتل الحر بالحر والحرة بالحرة والحرة بالحر والحر بالحرة، والعبد بالعبد والأمة بالأمة والعبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافر والكافرة بالكافرة والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد الكافر بالعبد الكافر والأمة الكافرة بالأمة الكافرة والعبد الكافر بالأمة الكافرة والأمة الكافرة بالعبد الكافر.
فصل ويقتل العبد بالحر لأن الحر إذا كان يقتل بالحر لاستوائهما في الحرية فالعبد أولى أن يقتل به لمزية الحرية. ويقتل الكافر بالمسلم لأن المسلم إذا كان يقتل بالمسلم لاستوائهما في مرتبة الإسلام فالكافر أولى أن يقتل به لمزية الإسلام.
فصل ولا يقتل الحر ولا الحرة بالعبد ولا بالأمة لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178](3/280)
والعلة في ذلك نقصان مرتبة الحرية.
فصل ولا يقتل المسلم ولا المسلمة بالكافر ولا بالكافرة لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» فدل ذلك على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن وإذا لم يكافيه فالقصاص مرتفع.
فصل وإنما وجب القصاص بين الرجال والنساء إذا لم تكن مرتبة المقتول ناقصة عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، وأن يقتل الحر بالحرة والحرة بالحر، والعبد بالأمة والأمة بالعبد، وإن كان ذلك خلاف ما يدل عليه قول الله عز وجل: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] لأنه دليل يعارضه عموم قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فوجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالحرة والحرة بالحر، ووجب بالقياس مثل ذلك في العبد بالأمة والأمة بالعبد، والكافر بالكافرة والكافرة بالكافر، والعبد النصراني بالأمة النصرانية والأمة النصرانية بالعبد النصراني. ولم يجب أن يحمل هذا اللفظ على عمومه في قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة والمسلم بالكافر والمسلمة بالكافرة لأن الآية إنما أريد بها الأحرار المسلمون. والدليل على ذلك أن الله لم يخاطبنا بها في شرعنا وإنما أخبر تعالى أنه كتبها في التوراة على موسى بن عمران صلى الله على(3/281)
نبينا وعليه، وهم أهل ملة واحدة ولم تكن لهم ذمة ولا عبيد لأن الاستعباد إنما أبيح للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخص به وأمته من بين سائر الأمم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي. أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. ونصرت بالرعب مسيرة شهر. وأعطيت جوامع الكلام، وبعثت إلى الناس كافة» لقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] .
فصل وقوله في الآية: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] يدل أيضا على ما قلناه من أن الآية إنما أريد بها المسلمون الأحرار، لأن العبد لا يتصدق بدمه لأن الحق في ذلك لسيده، والكافر لا تكفر عنه صدقته.
فصل ولو كنا المخاطبين بالآية في شرعنا لوجب أن يخص من عمومها قتل الحر بالعبد والحرة بالأمة بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ويخص من ذلك قتل المسلم بالكافر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» .
فصل ومما يبطل أن يكون في قوله الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ دليل على أنه لا(3/282)
تقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى ما روي من أنها إنما وردت ناسخة لما كانت عليه القبائل في الجاهلية من التعالي والتعزز بعضها على بعض فكان إذا عزت القبيلة القبيلة بكثرة العدد والمنعة وعلت عليها بذلك فقتل حر من القبيلة العزيزة لحر من القبيلة المعزوزة لم يسلموه للقصاص وبذلوا موضعه عبدا أو امرأة. وإذا قتل عبد من المعزوزة لعبد من العزيزة أو حرة لحرة لم يرضوا بالقصاص منهما وطلبوا موضع العبد حرا وموضع المرأة رجلا، فأمر الله عباده المؤمنين ألا يمتثلوا ذلك وأن يقتلوا الحر القاتل بالحر المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول، والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. ولا جائز أن يكون معنى الآية غير هذا لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأجمع المسلمون على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل على الشرط الذي ذكرناه، وهو ألا يكون المقتول ناقصا عن مرتبة القاتل بعدم حرية أو إسلام، إلا أن من أهل العلم من قال إن الرجل إذا قتل بالمرأة قضي له بنصف الدية، وهو عثمان البتي، وهو قول مرغوب عنه ترده الأصول.
فصل وقد روي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية تأويل جيد ظاهر رواه عنه أبو المصعب وهو أنه قال أحسن ما سمعت في تأويل هذه الآية: الحر بالحر أن معنى ذلك الجنس، الذكر والأنثى فيه سواء. وكذلك العبد بالعبد معناه الجنس الذكر والأنثى سواء. وأعاد تعالى ذكر الأنثى بالأنثى إنكارا لما كان من أمر الجاهلية. ألا ترى أن {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بالمساواة في ذلك الحرية في جنسها والعبودية في جنسها. وهذا جيد لأن الألف واللام إنما يدخلان على الواحدة للتعريف إما بالعهد وإما باستغراق الجنس، فإذا لم يكن عهد فلا بد أن يحمل على استغراق الجنس وإلا كان نكرة فكأنه قال تعالى على هذا التأويل الأحرار بالأحرار والعبيد بالعبيد.(3/283)
فصل وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم الحر يقتل بالذمي المعاهد وبالعبد تعلقا بظاهر قول الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وبظاهر قول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فقالوا هذا عام في قتل كل نفس محرمة القتل. وتأولوا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر على أنه الكافر الحربي» وهذا كله خطأ فاحش. أما تعلقهم بقول الله عز وجل: أن النفس بالنفس فلا يصح لما قدمناه من أن الآية إنما كتبت على أهل التوراة وهم ملة واحدة لا ذمة لهم ولا عبيد كما للمسلمين، لأن الجزية فيء وغنيمة خص الله بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعباده المؤمنين. وكذلك تعلقهم بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] لا حجة لهم فيه لأنه ليس على عمومه في كل من قتل مظلوما، لأن الحربي المستأمن محرم القتل وقاتله ظالم له، وهو مخصوص عندهم من عموم الآية لا يقتل به المسلم فيلزمهم مثل ذلك في الذمي المعاهد وهم لا يقولونه فقد ناقضوا أيضا بالسيد يقتل عبده فقالوا إنه لا يقتل به وخصصوه من عموم الآية وإن كان مظلوما بقتل سيده إياه. وناقضوا أيضا بالجراح لأنهم قالوا إنه يقتل الحر المسلم بالعبد والكافر، ولا يفقؤون عينه بعينه، وكذلك سائر الجراح وذلك في نسق الآية، فزعموا أن النفس تساوي النفس وأن اليد لا تساوي اليد. فإن كانوا أرادوا الجسم فالمساواة ظاهرة وإن كانوا أرادوا الجنس فالجنسان مختلفان.
فصل وتأويلهم قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقتل مسلم بكافر» على أنه أراد به الكافر الحربي من أبعد التأويلات وأبينها في الخطأ، لأن الحربيين قد أمر الله بقتلهم وجعل ذلك من أفضل الأعمال وأحبها إليه. فهل يجوز أن يتوهم متوهم أن من قتل من أمر الله بقتله ووعده على ذلك جزيل الثواب يجب عليه القتل حتى يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبين لنا أنه لا قود بيننا وبين أهل الحرب، هذا ما لا يشكل على أحد ولا يحتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيانه.(3/284)
[فصل في تقاسيم القتل]
فصل في
تقاسيم القتل والقتل يكون على ثلاثة أوجه:
أحدها: ألا يعمد للضرب ولا للقتل.
والثاني: أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل.
والثالث: أن يعمد للقتل.
فأما إذا لم يعمد للقتل ولا للضرب مثل أن يرمي الشيء فيصيب به إنسانا فيقتله، أو يقتل المسلم في حرب العدو وهو يرى أنه كافر وما أشبه ذلك، فهذا هو قتل الخطأ بإجماع، لا يجب فيه القصاص، وإنما تجب فيه الدية على العاقلة والكفارة في ماله. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] معناه لكن خطأ، فهو مستثنى منفصل عن المستثنى منه ومن غير جنسه، لأن الخطأ لا يقال فيه إن له أن يفعله ولا ليس له أن يفعله.
فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب ولا يعمد للقتل فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون عمده للضرب على وجه اللعب.
والثاني: أن يكون على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب.
والثالث: أن يكون على وجه النائرة والغضب.
فأما الوجه الأول: وهو أن يكون على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك من الخطأ وفيه الدية على العاقلة، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.(3/285)
والثاني: أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا أن يعفو أولياء القتيل، وهو قول مطرف وابن الماجشون وروايتهما عن مالك. وقد تؤول أن معنى قول ابن الماجشون وروايته عن مالك إن ضربه على وجه اللعب دون أن يلاعبه صاحبه أو لا يلاعبه إذا علم أنه لم يضربه إلا على وجه اللعب.
والثالث: أن ذلك شبه العمد وفيه الدية مغلظة في مال الجاني ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك، وقول ربيعة وابن شهاب وأبي الزناد. وقد قيل إن التفرقة بين أن يلاعبه أو لا يلاعبه قول رابع في المسألة.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يعمد للضرب على وجه الأدب وهو ممن يجوز له الأدب كالمؤدب والصانع فهو يجري عندي على الاختلاف في الذي يعمد للضرب على وجه اللعب ويدخل فيه الثلاثة الأقوال المذكورة في ذلك الوجه. ورأيت لأبي الوليد الباحي أن الاختلاف في هذا الوجه إنما هو راجع إلى تغليظ الدية ولا قصاص بحال.
فصل هذا إذا علم أن ضربه كان على وجه الأدب، وأما إن لم يعلم إلا بقوله ودعواه ففي تصديقه على ذلك قولان:
أحدهما: أنه لا يصدق ويقتص منه لأن العداء قد ظهر والقصاص قد وجب وهو يدعي ما يسقطه عنه.
والقول الثاني: أنه يصدق في ذلك وإذا صدق فيه فهو بمنزلة إذا علم بالبينة ودخل الاختلاف المذكور في ذلك.(3/286)
وأما الوجه الثالث: وهو أن يكون الضرب على وجه النائرة والغضب ففيه قولان:
أحدهما: وهو المشهور عن مالك المعروف من قوله أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه والأم والجد فإنه لا يقتص منه وتغلظ الدية عليه في ماله. وهذا قول مالك في المدونة لأنه أنكر شبه العمد وقال إنه باطل إنما هو عمد أو خطأ لا ثالث لهما، لأن الله لم يذكر في كتابه غيرهما.
والقول الثاني: أن ذلك شبه العمد ولا يقاد منه وتغلظ الدية عليه، وهو مروي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، حكاه العراقيون عنه، وعليه أكثر أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في صفة تغليظ الدية. فمنهم من يرى أنها مربعة وهو مذهب أبي حنيفة. ومنهم من يرى أنها مثلثة وهو مذهب الشافعي. واختلفوا أيضا في الجراح كاختلافهم في القتل هل فيه شبهة عمد أم لا؟. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. واختلفوا أيضا في صفة شبه العمد فمنهم من يقول إنه لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة. وقال أبو حنيفة: لا يقتص إلا ممن قتل بحديدة أو ليطة القصبة أو النار.
فصل وأما الوجه الثالث: وهو أن يعمد للقتل فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك على وجه الغيلة.
والثاني: أن يكون على وجه النايرة والعداوة.
فأما إن كان على وجه الغيلة فإنه يقتل على كل حال. ولا يجوز للأولياء العفو عنه.
وأما إن كان على وجه النايرة والعداوة فالأولياء بالخيار، إن شاءوا أن يعفوا،(3/287)
وإن شاءوا أن يقتصوا فذلك لهم إلا أن يقتل بعد أن يأخذوا الدية فقد قيل إن الوالي يقتله ولا يجوز لأولياء المقتول العفو عنه تأويلا على قول الله عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] وقد شد هذا التأويل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» ، وقع في تفسير ابن سلام.
فصل واختلفوا إن أرادوا أن يعفوا عن الدية هل يلزم ذلك القاتل أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك لا يلزمه، وهو مذهب ابن القاسم والمعلوم من قول مالك.
والثاني: أن ذلك يلزمه وهو قول أشهب. والأصل في الاختلاف مبني على الاختلاف في تأويل قول الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] . فالذي ذهب إليه المحققون وتأولوه على مذهب مالك أن العافي هو القاتل. ومعنى الكلام من أعطي من أخيه القاتل شيئا من العقل فرضي به فليتبعه بمعروف وليؤد إليه بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] يعني مما كان كتب على من قبلكم لأن فيما كان قبل لم تكن دية وإنما كان الواجب القصاص.
فصل وما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية» معناه إن بذلت له وطاع بها القاتل على هذا التأويل. ومن أهل العلم من حمل الحديث على ظاهره فقال: إن لولي المقتول أن(3/288)
يأخذ الدية من القاتل شاء أو أبى، وتأول أن العافي في الآية ولي المقتول يعفو عن الدم فيتبع القاتل بالدية فيلزمه أن يؤديها بإحسان، وهو تأويل بعيد، لأن شيئا نكرة، ولا يصح أن يراد به القصاص لأنه معرفة بنص الله تعالى عليه في قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وإنما عني به ما يتراضيان عليه من قليل المال وكثيره إذ لا حد لدية العمد.
فصل فإن اتفقا على الدية مبهمة من غير أن يسميا شيئا حكم فيه بدية مربعة على مذهب مالك وأصحابه خلافا للشافعي في قوله إنها مثلثة. فجعل مالك العافي في هذه الآية الدافع لا التارك، وجعل العافي في آية الطلاق في قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو الزوج. فالمعنى عنده في الآية: إلا أن يعفو الزوجات فيتركن النصف أو يعفو الزوج فيدفع الجميع والله أعلم بما أراد من ذلك لا إله إلا هو.
[فصل فيما يجب به القصاص]
فصل
فيما يجب به القصاص والقصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء:
إما ببينة تقوم على القتل.
وإما باعتراف القاتل على نفسه.
وإما بقسامة أولياء المقتول بما تصح به القسامة على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله.
فإذا قامت البينة على القتل أو اعترف به القاتل على نفسه اقتص منه بمثل(3/289)
القتلة التي قتله بها إلا أن يكون قتله بالنار أو بالسم فاختلف في ذلك. قال ابن حبيب في الواضحة: إنه لا يقتل بالنار ولا بالسم لأن ذلك من المثل. وظاهر ما في المدونة أنه يقتص منه بمثل القتلة التي قتله بها وإن كان قتله بالنار إذ لم يفرق فيها بين النار وغيره، وهو ظاهر قوله في السم أنه يقاد منه به. ومن أهل العلم من يرى أنه لا يكون القود إلا بالسيف. وأما إن لم يثبت القتل بالبينة وإنما استحق دمه بالقسامة فلا يقتل إلا بالسيف.
[فصل في تقاسيم الديات]
فصل في
تقاسيم الديات والديات على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه ثلاث:
دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية التغليظ في مثل ما فعل المدلجي بابنه، وهي دية شبه العمد على مذهب من يراه ويقول به. وقد ذكرنا أنه قول أكثر أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وأبو حنيفة يرى الدية في ذلك مربعة حسب ما ذكرناه عنه.
[فصل في دية الخطأ]
فصل في
دية الخطأ فأما دية الخطأ فإنها على أهل الإبل مائة من الإبل على عاقلة القاتل، سنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا اختلاف بين أحد من أهل العلم في ذلك. وتؤخذ في ثلاث سنين، وقيل في أربع سنين. والأول أكثر وهو مذهب مالك.
فصل وهذا أمر كان في الجاهلية فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام، ولا يحمله القياس، لأن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164](3/290)
«وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي رمثه في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» . وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تجاوز الله لأمتي عن الخطأ والنسيان وعما استكرهوا عليه» ولكنها خصمت من هذه الظواهر كلها الواردة في القرآن والسنن والآثار بالسنة والإجماع.
فصل وهي مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. هذا مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما، إلا أن أبا حنيفة جعل مكان ابن لبون ابن مخاض، وذهب جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب إلى أن دية الخطأ مربعة، واختلفوا في أسنانها اختلافا كثيرا ليس هذا موضع إيراده، إذ لم أقصد إلى ذكر الاختلاف وإنما قصدت إلى تلخيص المذهب. وهذا كله لا مدخل للرأي والقياس في شيء منه، وكل يدعي التوقيف فيما ذهب إليه من ذلك أصلا لا قياسا.
فصل وأما على أهل الذهب والورق فهي ما قومها به عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ألف دينار أنه قومها على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ولم يختلف عن عمر بن الخطاب(3/291)
أنه قوم الدية على أهل الذهب ألف دينار، وذلك مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم. وبعض الرواة يقول في تقويم الدية على أهل الذهب والورق قوم عمر الدية، وبعضهم يقول: جعل، وبعضهم يقول قضى. واختلف قول الشافعي في ذلك، فكان قوله في القديم كقول مالك. وقال في الحديث: إن الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل في الوقت الذي يقضى بالدية، وقال: قوم عمر الدية على أهل الذهب والورق فاتباعه أن تقوم في كل وقت. وما ذهب إليه مالك أصح وأولى لأن فيه أثرا مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عباس أنه «قضى لرجل من الأنصار قتله مولى لبني عدي بالدية اثنا عشر ألف درهم» . ونميهم نزلت هذه الآية: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وأما أبو حنيفة فلا حجة له فيما ذهب إليه إلا ما رواه أهل العراق عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في تقويم الدية بعشرة آلاف درهم على أهل الورق.
فصل ولا تؤخذ في الدية عند مالك، وجل أهل العلم إلا الإبل والدنانير والدراهم. وقد روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشياة ألف شاة، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل البرود مائتي حلة» وهو قول عطاء وقتادة. وروي ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب أنه وضع الديات على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
فصل ودية الخطأ كسائر مال المقتول يقضى منها دينه وتجوز فيها وصيته ويرثها جميع ورثته إلا أن يكون القاتل من ورثته فإنه لا يرث منها شيئا للإجماع أن قاتل(3/292)
الخطأ لا يرث من الدية. وقد «كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من الدية شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» وكان قتل خطأ، فقضى بذلك هو والناس بعده ولم يختلفوا في ذلك إلا ما روي عن بعض أهل الظاهر من الخلاف في ذلك وبالله التوفيق.
[فصل في دية العمد]
فصل في
دية العمد وأما دية العمد فليست بمؤقتة ولا معلومة. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] وشيء نكرة يقع على القليل والكثير.
فصل فإن اصطلحوا على الدية مبهمة فإن الدية تكون في ماله حالة مائة من الإبل على أهل الإبل مربعة، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. ولا تغلظ الدية على أهل الذهب والورق بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد كما يفعل في دية التغليظ المثلثة في مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك. وروى يحيى عن أشهب أنها تغلظ بفضل ما بين أسنان دية الخطأ ودية العمد. وعن ابن نافع مثل قول ابن القاسم وروايته عن مالك، وهو ظاهر ما في المدونة. وقد روي عن مالك أن دية العمد إذا قبلت مبهمة تكون في ثلاث سنين، والأول هو المشهور في المذهب.(3/293)
فصل وهى أيضا موروثة عن المقتول يرثها ورثته ويقضي منها دينه إلا أنه لا تدخل فيها الوصايا لأنه مال لم يعلم به. وإن عفا عن دمه جاز ذلك من رأس ماله ولم يكن من ثلثه. وذهب الشافعي إلى أن دية العمد إن قبلت كدية شبه العمد مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة. فالديات عنده ديتان دية الخطأ مخمسة، ودية شبه العمد ودية العمد إن قبلت مثلثة وبالله التوفيق.
[فصل في الدية المغلظة]
فصل في
الدية المغلظة وأما الدية المغلظة في مثل ما صنع المدلحي بابنه وفي شبه العمد على رواية العراقيين عن مالك فإن على أهل الإبل مثلثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، حالة في مال القاتل غير مؤجلة. وقال ابن الماجشون وأشهب وسحنون: إنها على العاقلة لأنها نزلت منزلة الخطأ، واحتجوا بقول عمر بن الخطاب لسراقة بن جعشم أعدد لي على ماء قديد عشرين ومائة من الإبل، وسراقة لم يكن أبا القاتل وإنما كان سيد القوم. فدل ذلك على أنه إنما أمره أن يعدها له من أموال قوم القاتل. وحكى ابن حبيب عن مطرف أنها في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال.
فصل فإن كان من أهل الذهب والورق ففي ذلك روايتان:
إحداهما: أنها لا تغلظ ولا يزاد فيها بفضل ما بين الأسنان.(3/294)
والثانية: أنها تغلظ. فإذا قلنا إنها تغلظ ففي صفة تغليظها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يقوم الثلاثون حقة والثلاثون جذعة والأربعون خلفة قيمتها بالغة ما بلغت فيكون ذلك عليه إلا أن تكون أقل من الألف مثقال ومن الاثني عشر ألف درهم فلا ينقص من ذلك شيء.
والثاني: وهو مذهب ابن القاسم في المدونة أن تقوم أسنان الخطأ الخمسة وأسنان المغلظة الثلاثة فينظر كم بينهما فيسمى ذلك من دية الخطأ، فإن كان الثلث أو الربع زيد على الألف دينار أو الاثني عشر ألف درهم ثلثها أو ربعها.
والثالث: أن يعرف كم بين القيمتين فيزاد ذلك على الذهب أو الورق. ودية شبه العمد عند أبي حنيفة مربعة ولا تغليظ فيها عند أهل الذهب والورق، وعند أبي ثور مخمسة ولا تغليظ فيها بحال.
[فصل في دية المكاتبين]
فصل في
دية الكتابيين وأما دية اليهودي والنصراني فإنها مثل نصف دية الحر المسلم. هذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ورواه في موطأه عن عمر بن عبد العزيز وتابعه عليه جميع أصحابه. وقال الشافعي: ديتهما مثل دية المسلم وهو قول جماعة من السلف. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم، واحتج بظاهر قول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فتأول أن المراد به الكافر وقال: أوجب الله في قتله خطأ الدية والكفارة كما أوجب في المؤمن، فوجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء، وهذا لا حجة فيه لأن الله لم يذكر فيه أنه كافر، فيحتمل أن يكون المراد به أنه مؤمن. ولو صح أن المراد به الكافر لما أوجب استواء الديتين لاستواء الكفارتين. لأن هذا أمر لا مدخل للقياس(3/295)
فيه وإنما يرجع فيه إلى التوقيف. وإذا كان ذلك فما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى ما قيل في ذلك، لأنه مروي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «لما دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة عام الفتح قال في خطبته: دية الكافر مثل نصف دية المسلم» وأما دية المجوسي فإنها ثمانمائة درهم عند مالك والشافعي. وقد تقدم مذهب أبي حنيفة أن ديته مثل دية الحر المسلم، وعلى أهل المذهب ستة وستون دينارا وثلثا دينار، وعلى أهل الإبل ستة أبعرة وثلثا بعير، وجراحه على حساب ديته هذه.
[فصل في دية المرتد]
فصل في
دية المرتد واختلف في دية المرتد إذا قتل قبل أن يستتاب، فقيل لا دية على قاتلته. وقيل ديته دية مجوسي. وقيل ديته دية دينه الذي ارتد إليه.
[فصل في دية العبد]
فصل في
دية العبد وأما العبد فلا دية له على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإنما هو كسلعة من السلع فعلى قاتله خطأ كان أو عمدا قيمته بالغة ما بلغت في ماله، ولا تحمل العاقلة من ذلك شيئا. وروي عن الشافعي مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا. والمشهور عنه الظاهر من مذهبه أن العبد إذا قتل خطأ فقيمته على عاقلة القاتل في ثلاث سنين وهو مذهب أبي حنيفة، إلا أنه يرى ألا يزاد على الدية إن كانت قيمته أكثر من(3/296)
الدية. وقالت طائفة من أهل الكوفة لا يبلغ به دية الحر وينقص منها شيء، قال بعضهم الدرهم وقال بعضهم العشرة دراهم. وقال الحسن: إذا قتل الحر العبد خطأ فعليه الدية والكفارة ولم يبين إن كانت في ماله أو على العاقلة. وإذ أجمل فيه فينبغي أن يكون حكمها حكم الدية في الخطأ والعمد.
فصل وأما جراح العبد فقد اختلف فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن على جارحه ما نقصه من غير تفصيل قياسا على العروض والحيوان. والثاني: أن جراحاته في قيمته كجراحات الحر في ديته قياسا على الحر. وقال الشافعي: قياس العبد على الحر أولى من قياسه على الحيوان والسلع، لأنه حيوان عاقل مكلف ليس كالحيوان والسلع. والثالث: أن على جارحه ما نقصه إلا أن في ما مومته وجائفته وموضحته فإن ذلك يكون من قيمته كحسابها من دية الحر. وسيأتي حكم الجراحات في موضعها وإنما ذكرناها هنا لما تعلق بها.
[فصل في دية الجنين]
فصل في
دية الجنين بقي من حكم الديات التكلم على دية الجنين. ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قضى في الجنين يطرح من بطن أمه بغرة عبد أو وليدة» . وأجمع أهل العلم على الحكم في ذلك وأن في جنين الحرة المسلمة أو النصرانية من المسلم والأمة من سيدها الحر غرة عبد أو وليدة إذا خرج من بطن أمه ميتا وهي حية ذكرا كان أو أنثى تم خلقه أو لم يتم إذا تيقن أنه جنين. كل ما تكون به الأمة أم ولد إذا أسقطته من سيدها يكون على الجاني فيه غرة عبد أو وليدة، كل على مذهبه في ذلك. هذا كله لا اختلاف بين أحد من أهل العلم فيه. واختلفوا في قيمة الغرة وعلى من تجب في الخطأ وممن تجب.(3/297)
فصل فأما اختلافهم في قيمتها فقال مالك: خمسون دينارا أو ستمائة درهم، وذلك استحسان عنده ليس كالسنة الثابتة. وقال أبو حنيفة: خمسون دينارا أو خمسمائة درهم على أصله أن الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم. وأما الشافعي الذي يرى الدية على أهل الذهب والورق قيمة الإبل بالغة ما بلغت فيقول في الغرة إنها تكون بنت سبع سنين أو ثماني سنين سالمة من العيوب لأنها لا تستغني بنفسها فيما دون هذا السن، ولا يفرق بينها وبين أمها دونه. قال: فإن لم توجد الغرة فقيمتها، وهذا ما لا يختلف فيه إلا ما استحسنه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أن تكون قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم. وقال داود وأهل الظاهر: إن كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ إلا أن يتفق الجميع على سن أنه لا يجزئ.
فصل وأما اختلافهم على تجب في الخطأ فقال مالك: إنها في مال الجاني لأنها أقل من الثلث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إنها على العاقلة.
فصل وأما اختلافهم لمن تجب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها للأم كجرح من جراحها وهو قول ربيعة.
والثاني: أنها للأبوين على الثلث والثلثين، وأيهما خلا بها فهي له كلها، وهذا قول عبد العزيز بن أبي سلمة والمغيرة وابن دينار وقول مالك الأول.
والثالث: أنها موروثة عن الجنين على الفرائض، وإلى هذا رجع مالك وعليه أكثر أصحابه وبالله التوفيق.
فصل وأما جنين النصرانية من النصراني فقال مالك: فيه عشر دية أمه ونصف عشر(3/298)
دية أبيه، وهما سواء. ويأتي على مذهب الشافعي مثل ذلك إلا أن دية النصراني واليهودي والمجوسي عنده كدية المسلم سواء.
فصل وأما جنين الأمة من غير سيدها فإن خرج حيا ثم مات ففيه قيمته بالغة ما بلغت لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك. وأما إن خرج ميتا ففيه اختلاف كثير. ذهب مالك والشافعي إلى أن فيه عشر ثمن أمه. وقال أبو حنيفة: إن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيا، وإن كان أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية. وذكر أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن فيه ما نقص من أمه كما يكون في أجنة البهائم. وقال حماد: فيه حكومة وهو نحو قول أبي يوسف. وقال سعيد بن المسيب: فيه عشرة دنانير.
فصل واختلفوا في الجنين يخرج من بطن أمه ميتا وقد ماتت أمه من ضرب بطنها، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: لا شيء فيه من غرة ولا غيرها إذا ألقته بعد موتها ميتا. وقال ربيعة والليث بن سعد فيه الغرة، وروي ذلك عن ابن شهاب، وهو قول أشهب من أصحابنا. وقد أجمعوا على أنه لو ضرب بطن ميتة فألقت جنينها ميتا أنه لا شيء فيه. وكذلك أجمعوا أنها لو ماتت من الضرب ولم تلق الجنين أنه لا شيء فيه. واختلفوا على القول بأن الغرة لا تجب فيه إلا بأن يسقط من الضرب ميتا وهي حية إذا ماتت وقد خرج بعض الجنين، فحكى ابن شعبان في ذلك قولين: أحدهما: أن الغرة تجب فيه. والثاني: أن الغرة لا تجب إلا أن يخرج جميع الجنين قبل موتها. والصواب أنه إذا خرج الجنين ميتا بعد موت أمه أنه لا شيء فيه على ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبالله التوفيق.(3/299)
[كتاب القسامة] [فصل في وجوب القود في القسامة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد
كتاب القسامة فصل في
وجوب القود بالقسامة قد قلنا فيما تقدم إن القصاص يكون بأحد ثلاثة أشياء:
إما ببينة عادلة على القتل ومعاينته، وإما باعتراف القاتل على نفسه بالقتل، وإما بقسامة.
فأما وجوب القصاص بالبينة والاعتراف فلا خلاف في ذلك بين أحد من أهل العلم. وقد ذكرنا قبل ما في صفته بين أهل العلم من الاختلاف وأما القسامة فأوجب القصاص بها مالك والشافعي في أحد قوليه وجماعة من العلماء. والأصل في وجوب القصاص بها قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ، أي حجة توجب له القصاص، فلا يتعد فيه، لأن السلطان الحجة. فأجمل الله تبارك وتعالى المعنى الذي يصح به القصاص ويوجبه بلفظ السلطان. وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالقسامة في الأنصاري الذي قتل بخيبر فقال لولاته: أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا لم نشهد ولم نحضر، قال فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار. فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» . وهو حديث صحيح لا(3/301)
اختلاف بين أحد من أهل العلم في صحته. وقوله فيه أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم يبين أن القسامة يقتل بها القاتل. ولو كانت القسامة لا توجب القتل وإنما توجب الدية على ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه لقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتحلفون وتستحقون دية صاحبكم. وهذا بين مع ما روي في الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لولاته: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فيسلم إليكم» . فكان هذا من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما روي عنه في غير هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قتل رجلا بالقسامة من بني نصر ببحرة الرغاء على شط لية البحرة. وما روي أيضا عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه قضى بالقسامة في عامر بن الأضبط يوم قتله يحلم بن حمامة الليثي فأقسم ولاته ثم دعاهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الدية فأجابوه إليها ففداه بمائة من الإبل الحديث واقعا موقع البيان لمحمل قول الله عز وجل في القرآن {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] حكى هذين الأثرين ابن حبيب في الواضحة. وتعلق الشافعي فيما ذهب إليه في أحد قوليه أن القسامة لا يستحق بها الدم وإنما يستحق بها الدية بقوله في حديث مالك إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب. ولا حجة له فيه لاحتمال أن يكون معناه إن رضيتم بأخذ الدية وترك القصاص بعد القسامة. وإذا حمل قوله على هذا لم تتعارض ألفاظ الحديث.
فصل وقد روي في هذا الحديث من غير رواية مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ اليهود باليمين، فتعلق بذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: إذا وجد قتيل في محلة وبه أثر وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه أو على أحد منهم بعينه استحلف من المحلة خمسون رجلا يختارهم الولي. بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا. وإن لم(3/302)
يبلغوا خمسين رجلا كررت عليه الأيمان ثم غرموا الدية. وإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا. وقال عثمان الليثي: خلافا لما روي أن عمر بن الخطاب قضى له من رواية الكوفيين أنه أحلف الذين وجد عندهم القتيل وأغرمهم الدية، فقال له الحارث ابن الأزمع: أتحلفون وتغرمون، قال: نعم.
فصل والحجة في السنة لا فيما خالفها، والصحيح منها تبدئة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولياء القتيل بالأيمان على ما رواه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقول من قال إن الحكم بالقسامة وتبدية المدعين بها خلاف الأصول وخلاف ما ثبت من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» ، وقوله «لو يعطى الناس بأيمانهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم» غير صحيح، لأنا لا نبدي أولياء القتيل بالقسامة بمجرد دعواهم، وإنما يحكم لهم بها إذا كان لهم دليل يغلب على الظن به صدق قولهم، فليس هذا خلافا للأصول، بل هو مطابق لها ولا يقول إنه خلاف لها إلا من لم يفهم المعاني ولا وقف على حقيقة الأصول، إذ ليس العلة في تبدئة المدعى عليه باليمين كونه مدعى عليه، ولو كان كذلك لما وجد مدعى عليه إلا والقول قوله مع يمينه، ولا العلة في إيجاب البينة على المدعي كونه مدعيا إذ لو كان كذلك لما وجد مدع إلا عليه إقامة البينة. وإنما العلة في كون المدعى عليه مصدقا مع يمينه أن له سببا يدل على تصديقه وهو كون السلعة بيده. ألا ترى أن السلعة إذا خرجت من يده وحازها الرجل بحضرته مدة طويلة ثم ادعى أنه اشتراها منه فالقول قوله مع يمينه. وإن كان هو المدعي للشراء، لأن له سببا على تصديقه وهو حيازة السلعة بحضرته المدة الطويلة. وإذا كان لكل واحد من المتداعيين سبب يدل على(3/303)
تصديقه بدئ باليمين من قوي سببه على سبب صاحبه، كمن ادعى على رجل أنه اشترى منه سلعة وأقام على ذلك شاهدا واحدا فالقول قوله مع يمينه لأن سببه الدال على صدقه وهو الشاهد أقوى من سبب المدعى عليه وهو اليد. وإن تساوت الأسباب حلفا جميعا ولم يبدأ أحدهما على صاحبه باليمين وذلك كاختلاف المتتابعين.
فصل فالأصل في جميع الأحكام والدعاوي أن يبدأ باليمين من يغلب على الظن صدقه كان مدعيا أو مدعى عليه. ألا ترى أن الرجل إذا دخل بزوجته وأقام معها مدة طويلة فطلقها أو لم يطلقها فطلبته بالصداق وادعت عليه أنه قد مسها وأنكر ذلك أنها مصدقة عليه بيمينها، وقيل بغير يمين وإن كانت هي المدعية وهو المدعى عليه لما يغلب على الظن صدق دعوى ولاة المقتول بسبب يدل على ذلك مثل السبب الذي حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجله بالقسامة على أولياء المقتول أو ما أشبهه وجب الحكم بالقسامة والقود بها.
فإن قيل وما السبب الذي من أجله حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقسامة؟ قيل له:
كانت خيبر دار يهود وكانت محضة لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل. فمثل هذا يغلب على ظن من سمعه أنه لم يقتله إلا اليهود. ولو وقع مثل هذا في زماننا لوجب الحكم به ولم يصح أن يتعدى إلى غيره.
فصل وهذا السبب هو الذي يعبر عنه أصحابنا باللوث وقد سئل مالك في رواية(3/304)
أشهب عنه عن اللوث الذي يوجب القسامة ما هو فقال: الأمر الذي ليس بقوي ولا قاطع. قليل له أترى شهادة المرأة من ذلك؟ قال: نعم فقيل له: فشهادة الرجل الذي ليس بعدل من ذلك؟ شهادة العبد ولا شهادة النصراني، ولم ير في رواية ابن القاسم عنه الشاهد الواحد لوثا إلا أن يكون عدلا. ومن اللوث شهادة الشهود غير العدول، وشهادة اللفيف من النساء والصبيان. ومن اللوث أن يوجد القاتل بحداء المقتول بحد يده بيده أو متلطخا بدمه أو خارجا من موضعه وهو يشخب في دمه ولا يوجد فيه غيره أو ما أشبه ذلك. وقد رأى ربيعة شهادة النصراني لوثا.
فصل وأما الشاهد العدل على معاينة القتل فلا خلاف فيه عند مالك وأصحابه أنه لوث يوجب القسامة، وهو قول أشهب في كتاب ابن المواز. وقال ابن القاسم في كتاب ابن المواز: لا يقسم مع الشاهد الواحد على إقراره، ظاهره في العمد وهو ظاهر ما في المدونة إذا أسقطت منها زيادة سحنون، وذلك قوله دم الخطأ، إلا أنه بعيد. والصواب وجوب القسامة مع الشاهد الواحد على إقراره بالقتل عمدا، إذ لا فرق بين شهادة الشاهد على معاينة القتل وبين شهادته على إقرار القاتل على نفسه. وكذلك اختلف أيضا في شهادة الشاهد الواحد على إقراره بقتل الخطأ هل يكون لوثا أم لا. وقع اختلاف قوله في ذلك في سماع سحنون من كتاب الديات. والصحيح ما في المدونة أنه لا يكون لوثا يوجب القسامة، لأن(3/305)
الاختلاف في قوله قتلت فلانا خطأ معلوم موجود فكيف إذا لم يثبت القول. ووقع الاختلاف في ذلك في الصلح من المدونة، مرة جعل إقراره بالقتل لوثا يوجب الدية على العاقلة بقسامة، مات مكانه أو كانت له حياة. ومعنى ذلك إذا لم يتهم أنه أراد غنى ولده كما قال في كتاب الديات. ومرة قال إن الدية عليه في ماله بقسامة، ومرة قال بغير قسامة، ولم يفرق بين أن تكون له حياة أو لا تكون. والاختلاف في وجوب القسامة إنما يتصور عندي إذا كانت له حياة. وأما إذا كان موته نقضا ولم يكن له حياة فإنما يجب عليه الدية في ماله بغير قسامة. هذا الذي ينبغي أن تحمل عليه الروايات، لأنه إذا جعل الدية عليه في ماله لما جاء من أن العاقلة لا تحمل الاعتراف، فإقراره إنما هو على نفسه، والاختلاف إنما هو في وجوب القسامة مع إقراره إذا كانت له حياة كالاختلاف في إقرار القاتل عمدا على نفسه إذا كانت للمقتول حياة والله أعلم.
فصل وقول الميت دمي عند فلان لم يختلف قول مالك إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقود عدلا كان أو مسخوطا، وتابعه على ذلك جميع أصحابه والليث بن سعد، وخالفهم في ذلك جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعاويهم» الخبر ". وقالوا حرمة المال أخفض من حرمة النفس، فإذا لم يقبل إقراره عليه بالمال فإقراره عليه بالدم أولى ألا يقبل، وهذا كله لا يلزم. أما الذي استدلوا به فلا دليل لهم فيه لأن المدعي للدم الطالب له هو ولي المقتول فلم نعطه بدعواه، وإنما أعطيناه بما انضاف إليه من قول المقتول. وأما قولهم إن قوله إذا لم يقبل في المال فأحرى ألا يقبل في النفس فليس بصحيح، لأن أصل موضوع القسامة إنما هي لحراسة الأنفس وإنما يطلب فيها الشبهة، واللطخ لإيجاب القصاص الذي هو حياة الأنفس. قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] والدليل على صحة قول مالك قول الله عز وجل:(3/306)
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] . والقصة مشهورة في شأن الرجل الذي قتله ابن أخيه ليرثه وادعى قتله على أهل قرية فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضرب ببعضها، ففعل ذلك فقال قتلني ابن أخي، فصار هذا أصلا في قبول دعوى المقتول وتأثيرها في دعوى القتل. وقد قال جماعة منهم الفقيه أبو عمر بن عبد البر وغيره إن الاحتجاج بهذه الآية غفلة شديدة أو شعوذة لأن الذي ذبحت البقرة من أجله وضرب ببعضها كانت فيه آية لا سبيل إليها اليوم ولا تصح إلا لنبي أو بحضرة نبي، ولم يقسم على قتيل بني إسرائيل بل علم صدقة بالآية. وهذا غير صحيح، بل الدليل منها قائم وذلك أن الآية إنما كانت في الإحياء وأما في قَوْله تَعَالَى ابن أخي فلان قتلني فليس فيه آية لأن كل حي عاقل لا آفة فيه من بني آدم يتكلم ويخبر بما في علمه. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول فلان قتل فلان فيكون فيه آيتان آية في إحيائه وآية في إخباره بالغيب. فلما خصه الله بالإحياء من بين سائر الأموات دل ذلك على أن الشرع كان عندهم أن من قتل فأدرك حيا فأخبر بقاتله صدق قوله، فلما فات بالموت ولم تدرك حياته أحياه الله لنبيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليستدرك بإحيائه ما كان فاته من الحكم، فهذا كان سبب تخصيصه بالإحياء والله أعلم، كما كان سبب تخصيص البقرة بالذبح ما أراد الله مجازاة الذي امتنع من تجارته خوفا من إيقاظ أبيه بأن يعوضه أضعاف ما فاته من الربح بسبب ترك إيقاظ أبيه. روي عن ابن عباس في سبب هذه البقرة أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل من أبر الناس لأبيه، وأن رجلا مر به ومعه لؤلؤ يبيعه، وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح فقال له الرجل تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا قال: إبق كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا، فقال الآخر أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا وأبى أن يوقظ أباه برورا به، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة(3/307)
فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة فأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعها منهم ببقرة فأبى فأعطوه اثنتين فأبى، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى، فقالوا له والله لا نتركك حتى نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقالوا يا موسى إنا وجدنا عند هذا بقرة فأبى أن يعطينا إياها وقد أعطيناه ثمنها. فقال له موسى أعطهم بقرتك، فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي، فقال صدقت. وقال للقوم أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فباعهم إياها وأخذ ثمنها، فذبحوها وفعلوا ما أمروا به من ضرب القتيل ببعضها فأحياه الله فأخبر بقاتله.
فصل ومن الدليل أيضا على صحة قول مالك ما روي أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام ليتناهى الناس عن القتل. فظاهر هذا أنها مقرة في الإسلام على ما كانت عليه في الجاهلية، وقد كانت العرب في الجاهلية تقبل دعوى المقتول على قاتله وتحكم به. وأيضا فإنه ليس المبتغى في إيجاب القسامة القطع والبت، وإنما المبتغى شبهة تنضاف إلى دعوى الولاة تقويها وتلطخ المدعى عليه حتى يغلب على الظن صدق دعواهم، ولذلك سمي لطخا ولوثا، كل ذلك حراسة للدماء ومنعا من الاجتراء عليها. والمعلوم من حال الناس عند الموت الإنابة والاستشعار للتوبة والإقلاع عن المعاصي والندم عليها، هذا ما لا يدفع ضرورة، فإذا أخبر في تلك الحال بقاتله غلب على الظن صدق مقاله إذ يبعد أن يتهم من هو في تلك الحال أن يريد أن يبوء بإثم القتل.
فصل وأما قوله قتلني فلان خطأ ففي ذلك عن مالك روايتان:
إحداهما: أن قوله يقبل وتكون معه القسامة كالعمد.(3/308)
والثانية: أن قوله لا يقبل لأنه يتهم أن يكون أراد غناء ولده وهو قول ابن أبي حازم.
وجه الرواية الأولى أنه استحقاق دم فوجب أن يستحق بما يستحق به دم العمد.
ووجه الرواية الثانية أن الواجب في دم الخطأ مال على العاقلة، فأشبه قوله عند الموت لي عند فلان كذا وكذا، وهذا أظهر في القياس. والرواية الأولى أشهر، والله أعلم.
فصل فإن جرح الرجل جرحا له عقل مسمى عمدا أو خطأ فمات من ذلك الجرح لم يخل الأمر من ثلاثة أوجه:
أحدها ألا يعلم الجرح إلا بقول الميت فلان دمي عند فلان هو جرحني هذا الجرح الذي ترون بي فمنه أموت فالصحيح فيه ألا سبيل إلى القصاص من الجرح ولا إلى أخذ الدية فيه إن كان خطأ، لأن الجراح لا يستحق بالقسامة القود منها في العمد ولا الدية في الخطأ، وإنما للولاة أن يقسموا فيقتلوا إن كان الجرح عمدا، أو للورثة أن يقسموا ويستحقوا الدية على العاقلة إن كان(3/309)
الجرح خطأ. قاله محمد بن المواز وعاب ما وقع في سماع يحيى من كتاب الديات أن الولاة بالخيار إن شاءوا أقسموا واستحقوا الدم وإن شاءوا اقتصوا من الجرح وأخذوا ديته إن كان خطأ. وعاب ذلك أيضا يحيى بن يحيى وغيره.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يثبت الجرح بشاهدين، فهذا يكون الولاة فيه بالخيار بين أن يقسموا فيقتلوا في العمد، أو يقسموا فيستحقوا الدية في الخطأ على العاقلة، وبين ألا يقسموا فيقتصوا من الجرح إن كان عمدا أو يأخذوا ديته إن كان خطأ لثبوته بشهادة شاهدين. وقد وقع في سماع أبي زيد ما يدل على خلاف هذا أن الولاة إذا أبوا أن يقسموا فلا سبيل لهم إلى القصاص من الجرح في العمد ولا إلى أخذ ديته إن كان خطأ، وهو على قياس قول أشهب حسبما ذكرناه هناك.
وأما الوجه الثالث: وهو أن يشهد على الجرح شاهد واحد، فينبغي على ما اخترناه وصححناه في الوجهين المتقدمين أن يفترق في هذا الوجه الخطأ من العمد. فأما الخطأ فيكون الورثة فيه مخيرين بين أن يقسموا على الدم فيستحقون الدية على العاقلة، وبين أن يحلفوا على الجرح يمينا واحدا فيستحقون الدية في مال الجاني أو على العاقلة إن بلغ الثلث فصاعدا. وأما العمد فإن نكل الأولياء عن القسامة على الدم لم يكن لهم سبيل إلى الاقتصاص من الجرح، لأن الجرح لا يقتص منه إلا بشهادة شاهدين أو يمين المجروح مع الشاهد الواحد على الاختلاف المعلوم في ذلك. وأما يمين الورثة إذا مات من الجرح وأبى الولاة أن يقسموا أو لم يمكنوا من القسامة على مذهب من لا يرى القسامة بالشاهد الواحد على الجرح فلا، لأن الورثة لا ينزلون منزلته في استحقاق القصاص باليمين مع الشاهد، وإنما ينزلون منزلته في استحقاق دية الجرح في الخطأ لأنه مال من الأموال فيحلفون ويستحقونه بمنزلة الورثة يقوم لهم شاهد واحد على دين لموروثهم قبل رجل فإنهم يحلفون ويستحقونه.
فصل ولا يقسم في قسامة العمد من ولاة المقتول أقل من رجلين. والأصل في(3/310)
ذلك «قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخي المقتول بخيبر وبني عمه: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم» فجمعهم في الأيمان ولم يفرد الأخ بها دون بني عمه. ومن جهة المعنى لما كان لا يقتل بأقل من شاهدين لم يستحق دمه إلا بقسامة رجلين. قال أشهب: وقد جعل الله لكل شهادة رجل في الزنا يمينا من الزوج في لعانه. قال ابن الماجشون: ألا ترى أن النساء لا يقسمن في العمد لما كن لا يشهدن فيه.
فصل فإذا كان ولاة المقتول رجلين حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، فإن طاع أحدهما أن يحمل منها أكثر من خمس وعشرين يمينا لم يجز ذلك. فإن كان ولاته أكثر من اثنين إلى خمسين رجلا وهم في العدد سواء وتشاجروا في حملها قسمت بينهم على عددهم، فإن وقع فيها كسر مثل أن يكون عددهم عشرين فإنه يحلف كل واحد منهم يمينين يمينين ويبقى من الأيمان عشر أيمان، فيقال لهم لا سبيل لكم إلى الدم حتى تأتوا بعشرة منكم فيحلفون العشرة الأيمان فإن حلف منهم عشرة استحقوا الدم، وإن أبى جميعهم من حلفها بطل الدم كنكولهم عن جميع الأيمان.
فصل فإن طاع الاثنان بحمل الخمسين يمينا جاز ذلك عند ابن القاسم ولم يعد من لم يحلف من بقية الأولياء ناكلا، لأن الدم قد قيم فيه. وقال المغيرة وأشهب وابن الماجشون: لا بد أن يحلفوا كلهم ولا يجوز أن يحلف بعضهم وهو كالنكول ممن لم يحلف منهم.
وأما إن كان عددهم أكثر من خمسين فاتفق جميع من سمينا أنه إذا حلف منهم خمسون أجزأهم ولا يعد من بقي ناكلا لتمام القسامة بخمسين يمينا. وقد(3/311)
رأيت لابن الماجشون أن الأولياء إن كان عددهم أكثر من خمسين فلا بد أن يحلف كل واحد منهم يمينا يمينا وإلا لم يستحقوا الدم في كتاب مجهول.
فصل وإن كان ولي الدم الذي له العفو رجلا واحدا فلا يستحقه بقسامة إلا أن يجد من العصبة أو العشيرة من يقسم معه من داناه إلى أب معروف، فإن وجد رجلا واحدا حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن وجد رجلين أو أكثر قسمت الأيمان بينهم على عددهم. فإن رضوا أن يحملوا عنه منها أكثر مما يجب عليهم لم يجز، وإن رضي هو أن يحمل منها أكثر مما يجب عليه فذلك جائز ما بينه وبين خمس وعشرين يمينا، ولا يجوز له أن يحلف أكثر من ذلك.
فصل وإن كان أولياء الدم رجلين فأرادا أن يستعينا في القسامة بغيرهما من الأولياء الذين دونهم في المرتبة فذلك جائز وتقسم الأيمان بينهم على عددهم] فإن رضي المستعان بهم أن يحلف كل واحد منهم أكثر مما يجب عليه من الأيمان لم يجز. وإن رضي الوليان أن يحلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه فذلك جائز. ولا يجوز لأحدهما أن يحلف أكثر من خمس وعشرين يمينا. وإذا حلف كل واحد من الوليين ما يجب عليه من الأيمان إذا قسمت على عددهم فلا بأس أن يحلف بعض المستعان بهم أكثر من بعض.
فصل وإذا حلف أحدهما خمسا وعشرين يمينا ثم وجد صاحبه من يعينه فإن(3/312)
الأيمان التي حلف المستعان به لا تكون محسوبة للمستعين بل تقسم بين الوليين، فإن لم تقسم بينهما وحسبت كلها للمستعين فحلف ما بقي من الخمس والعشرين يمينا، فيزاد عليه حتى يستكمل نصف ما بقي من الخمسين يمينا بعد الأيمان التي حلف بها المستعان به، قاله عبد الملك، وزاد قال إلا أن يكون الأول حلف على يأس ممن يعينه ورأى أن يحلف بغير معين فلا يزاد شيء من الأيمان على المستعين، ويكون جميع الأيمان التي حلف المستعان به محسوبة له لا يقسم بينه وبين صاحبه.
فصل وإن كان الأولياء إخوة وجدّا فإن ابن القاسم قال: الجد كالأخ من الإخوة في العفو، من عفا منهم جاز عفوه، الجد كان أو أخا من الإخوة، وقال: إن الجد يحلف ثلث الأيمان في العمد والخطأ. فأما في الخطأ فصواب، وأما في العمد فكان القياس على مذهبه أن تقسم الأيمان بينهم على عددهم إذا نزل الجد منزلة أخ من الإخوة. وذهب أشهب إلى أنه لا حق للجد مع الإخوة في القيام به ولا في العفو عنه، فالإخوة على مذهبه يقسمون دونه، فإن استعانوا بقسامة الجد قسمت الأيمان بينهم على عددهم.
فصل فإذا نكل ولاة الدم عن اليمين وكانت القسامة وجبت بقول المقتول أو بشاهد على القتل ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف المدعى عليه خمسين يمينا، ويحلف عنه رجلان فأكثر من ولاته خمسين يمينا إن طاعوا بذلك ولا يحلف هو معهم. وهذه رواية سحنون في سماع عيسى عن ابن القاسم في العتبية وقول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
والثاني: أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر(3/313)
خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف فيهم المتهم. فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده. وهو قول ابن القاسم في المجموعة.
والثالث: أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول. وهذا قول مطرف في الواضحة.
فصل وأما إن كانت القسامة إنما وجبت بشاهدين على الجرح، ففي رد الأيمان على القاتل قولان: أحدهما: أنها ترد على المدعى عليه فيحلف ما مات من ضربي، فإن نكل سجن حتى يحلف. وإن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن أقر قتل. هذا قول ابن القاسم وابن الماجشون.
قال في كتاب ابن المواز: ويقتص منه من الجرح إن نكل الأولياء عن القسامة، يريد حلف المدعى عليه أو نكل، لأن الجرح قد ثبت بشهادة شاهدين عليه.
فصل وإما إن كانت القسامة بشاهد على القتل فلا يقتص من الجرح، حلف القاتل خمسين يمينا أو نكل عنها، لأنه لا يقتص من الجرح إلا بيمين المجروح. فأما بيمين ورثته فلا. هذا قول ابن المواز وهو صحيح. وقد تأول على ابن القاسم أنه يقتص منه من الجرح إذا كان جرحا معروفا، وهو بعيد لم يقله ابن القاسم إلا في القسامة بشاهدين على الجرح والله أعلم. قال ابن المواز: وقد ذكر ابن القاسم عن مالك قولا لم يصح عند غيره، قال: إذا ردت اليمين على المدعى عليهم في العمد فنكلوا فالعقل عليهم في مال الجارح خاصة ويقتص منه من الجرح سوى العقل.
وروي عنه رواية أخرى أنه إن حلف ضرب مائة وسجن سنة، وإن نكل سجن حتى يحلف ولا دية فيه وهو الصواب.(3/314)
والقول الثاني: أن الأيمان لا ترد عليه ولا يحلف لأن يمينه إن حلف يمين غموس، فعلى هذا القول إن أقر لم يقتل، وهو قول أشهب وابن عبد الحكم وأصبغ.
فصل وأما إن نكل بعض الولاة وهم في العدد سواء عن القسامة أو عفي عن الدم قبلها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون، أن الدم والدية يبطلان ولا يكون لمن بقي من الأولياء أن يقسم ويأخذ حظه من الدية.
والثاني: وهو قول أشهب، أن الدم يبطل ويحلف من بقي من الأولياء فيأخذ حظه من الدية.
والثالث: وهو قول ابن نافع، أن نكوله إن كان على وجه العفو والترك لحقه حلف من بقي وكانت له الدية، وإن كان على وجه التحرج والتورع حلف من بقي وقتلوا.
فصل وأما إن عفا أحد الأولياء عن الدم بعد ثبوته بالبينة أو بالقسامة أو أكذب نفسه بعد القسامة ففي ذلك أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: قول ابن الماجشون أن الدم والدية تبطلان ولا يكون لمن بقي شيء من دية ولا قصاص. والثاني: أن لمن بقي من الأولياء لم يعف ولا أكذب نفسه حظه من الدية. والثالث: أنه إن عفا كان كاف لمن بقي حظوظهم، وإن أكذب نفسه لم يكن لمن بقي شيء من الدية وإن كانوا قد قبضوها ردوها. هذا مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.
فصل فيأتي على هذا في بطلان الدية بعفو أحد الأولياء عن الدم ثلاثة أقوال:(3/315)
أحدها: أنها تبطل ولا شيء لمن بقي منهم وهو قول ابن الماجشون.
والثاني: أن لمن بقي حظه من الدية بغير قسامة إن كان العفو بعد ثبوت الدم أو بقسامة إن كان العفو قبله.
والثالث: تفرقة ابن القاسم بين أن يكون العفو قبل ثبوت الدم أو بعده. وساوى ابن القاسم بين العفو والنكول عن اليمين قبل القسامة، وفرق بعد القسامة بين أن يعفو أحد الأولياء أو يكذب نفسه، فجعل تكذيب نفسه بعد القسامة كعفوه عن الدم قبل القسامة لا شيء لمن بقي من الدية على ما ذكرناه.
وإذا كان الأولياء رجالا لا نساء معهم، أو كانوا بنين وبنات أو إخوة وأخوات فلا فرق بين أن يثبت الدم ببينة أو بقسامة في حكم العفو عنه. وأما إن كان الأولياء بنات أو إخوة وأخوات أو عصبة ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن من قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماع منهم، ثبت الدم ببينة أو بقسامة. وهذا مذهب ابن القاسم.
والثاني: أن هذا إنما يكون إذا ثبت الدم ببينة، وأما إن ثبت بقسامة فلا حق للنساء فيه مع الرجال في عفو ولا قيام، لأنهم هم الذين استحقوا الدم بقسامتهم. وهذا مذهب ابن القاسم في رواية عيسى عنه.
والثالث: أنه إن ثبت الدم بالبينة فالنساء أحق بالقيام والعفو لأنهن أقرب درجة من الرجال. وإن كان ثبت الدم بقسامة فمن قام بالدم فهو أحق به ولا عفو إلا باجتماعهم. وهذا القول رواه مطرف وابن الماجشون عن مالك.
فصل وأما إذا كان الأولياء بنات وأخوات وعصبة وثبت الدم ببينة فلا حق للعصبة معهم في عفو ولا قيام. وأما إن ثبت بقسامة العصبة ففي ذلك قولان:(3/316)
أحدهما: أن من قام بالدم فهو أولى به كان البنات أو الأخوات أو العصبة، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة.
والثاني: أن العصبة أحق بالقيام بالدم والعفو فيه لأنهم استحقوه بأيمانهم وهذه رواية عيسى عن ابن القاسم. هذا الذي كتبته في هذه الوجوه تلخيص ما قد يتعذر استخراجه من الأصول وسائر حكم الأولياء. وما يرد في الدم وترتيبهم في الدماء ومن له فيه حق ممن لا حق له فيه وما اتفقوا عليه من ذلك كله واختلفوا فيه موجود في الأصل ومشروح فيه فلا معنى للاشتغال بذلك.
فصل وأما دم الخطأ فإنه يثبت بالقسامة أيضا على ما بيناه فيما قبل. ويقسم على الورثة على قدر مواريثهم من الدية رجالا كانوا أو نساء. فإن لم تنقسم الأيمان عليهم على قدر مواريثهم إلا بكسر جبرت اليمين المنكسرة على أكثرهم منها حظا، وقيل على أكثرهم حظا من الأيمان. فإن استوى الورثة في الميراث مثل أن يكونوا إخوة كلهم أو بنين ذكورا فانكسرت عليهم يمين أو أيمان تساوت حظوظهم فيها. مثل أن يكون الورثة ثلاثة إخوة فيجب على كل واحد من الأيمان ست عشرة يمينا وثلثا يمين، أو ثلاثين أخا فيجب على كل واحد منهم يمين وثلثا يمين ففي ذلك اختلاف أيضا: ذهب ابن القاسم إلى أنه يجبر على كل واحد منهم الكسر الذي صار في حظه من الأيمان المنكسرة، فيحلف الثلاثون أخا يمينين يمينين، ويحلف الثلاثة الإخوة سبع عشرة يمينا سبع عشرة يمينا. وخالفه أشهب فقال: يحلف الثلاثون أخا يمينا يمينا ثم يقال لهم ائتوا بعشرين رجلا منكم فيحلفون يمينا يمينا.
وكذلك إن كان عددهم أكثر من خمسين رجلا حلفوا كلهم على مذهب ابن القاسم، وحلف منهم خمسون على مذهب أشهب.
فصل فإن كان الورثة زوجات وبنات وأخوات وما أشبه ذلك من أهل السهام فلا(3/317)
يختلف ابن القاسم وأشهب في قسم الأيمان بين الزوجات والبنات والأخوات، وإنما يختلفان في قسم ما حصل على كل فريق منهن بينهن. فإذا قسمت الأيمان عليهن صار على الزوجات منها ست أيمان وربع يمين، وعلى البنات ثلاث وثلاثون يمينا وثلث يمين، وعلى الأخوات عشر أيمان وثلاثة أثمان يمين وثلث يمين فتجبر اليمين المنكسرة على الأخوات لأن حظهن منها أكثر، أو على البنات لأنهن أكثر حظا من الأيمان على الاختلاف في ذلك. فيبقى على الزوجات من الأيمان ستة أيمان. فإن كن أربعا حلفن يمينين يمينين على مذهب ابن القاسم، وحلفن على مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف اثنتان منهن يمينا يمينا، ويبقى على البنات ثلاث وثلاثون يمينا إن جبرت اليمين المنكسرة على الأخوات فإن كن عشرا على مذهب ابن القاسم يمينين يمينين، وعلى مذهب أشهب يمينا يمينا ثم تحلف واحدة منهن يمينا واحدة. فإن وقع التشاح بينهن فيمن تحلف منهن الأيمان الباقية فرأيت لابن كنانة أن الإمام لا يجبر عليها أحدا ويقال لهم لا تعطون شيئا إلا أن تحلفوا بقية الأيمان، فيشبه أن يقول أشهب مثل ذلك أو يقرع بينهن فيها، وقد قاله بعض أهل النظر إلا أنه ساقه على مذهب ابن القاسم، ولا يصح إلا على مذهب أشهب.
فصل فإن نكلوا عن الأيمان أو نكل واحد منهم ففي ذلك خمسة أقوال في المذهب.
أحدها: أنه ترد الأيمان على العاقلة ويحلفون كلهم ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف لم يلزمه شيء، ومن نكل لزمه ما يجب عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم، وهو أبين الأقاويل وأصحها في النظر.(3/318)
والثاني: أنه يحلف من العاقلة خمسون رجلا يمينا يمينا، فإن حلفوا برئوا وبرئت العاقلة من جميع الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف منهم ولزم بقية العاقلة الدية كاملة حتى يتموا خمسين يمينا. وهذا قول ابن القاسم الثاني.
والثالث: أنهم إن نكلوا فلا حق لهم، أو نكل بعضهم فلا حق لمن نكل، ولا يمين على العاقلة لأن الدية لم تجب عليهم بعد وإنما تجب بالفرض، قاله ابن الماجشون.
والرابع: أن اليمين ترجع على المدعى عليه وحده، فإن حلف برئ، وإن نكل لم يبلغ العاقلة بنكوله شيء، لأن العاقلة لا تحمل الإقرار، والنكول كالإقرار، وإنما هو بنكوله شاهد على العاقلة، روى ابن وهب هذا عن مالك.
والخامس: أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت، وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية، قاله ربيعة، وهو على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعديين وبالله سبحانه التوفيق. لا شريك له ولا ند.(3/319)
[كتاب الجراحات] [فصل في اشتقاق الجراحات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على محمد وآله وصحبه
كتاب الجراحات فصل في اشتقاق الجراحات قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] وَقَالَ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] وَقَالَ {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالجراح مأخوذة من الجوارح لأنها لا تفعل إلا بها. فكل من جنى جناية أو جرح جرحا أو أذنب ذنبا أو اكتسب إثما بيده أو بلسانه أو بجارحة من جوارحه فهو جارح في اللغة، إلا أن الجراح قد تعرفت في جراح الحيوان في أبدانها، كما أن دابة اسم لكل ما دب في الأرض من بني آدم وغيره من الحيوان، وقد تعرفت في الخيل والبغال والحمير. فمن قال اشتريت اليوم دابة لا نفهم من قوله إلا أنه اشترى فرسا أو بغلا أو حمارا وإن كانت الدابة تقع على غير هذا من الحيوان. وكذلك من قال: حكمت اليوم على الجارح بالغرم أو بالأدب لا يفهم عنه إلا على أنه حكم على من جرح حيوانا لا على من جرح غير ذلك من الأشياء. قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .(3/321)
فصل فالجراح تقع على ما كان في الرأس وفي الجسد ويختص ما كان منها في الرأس دون الجسد باسم الشجاج، فكل شجة جرح وليس كل جرح شجة.
فصل فقول الله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] عام فيما كان في الرأس وفي سائر البدن، إلا أنه ليس على عمومه في العمد والخطأ، بل المراد بها العمد دون الخطأ، بدليل إجماعهم على أنه لا قصاص في الخطأ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فأوجب الدية والكفارة دون القصاص. ولا هو على عمومه أيضا في جميع جراح العمد، بل المراد به منها ما أمكن القصاص فيه ولم يخش إتلاف النفس منه. والدليل على أنه لا قود فيما كان مخوفا ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة» فكذلك ما في معناها من الجراح التي هي متالف عظام الرقبة والصلب والصدر وكسر الفخذ ورض الأنثيين وما أشبه ذلك. والدليل على أنه لا قصاص فيما لا يمكن القصاص منه مثل ذهاب بعض النظر وبعض السمع وبعض العقل هو أن القصاص مأخوذ من قص الأثر أي اتباعه، فهو أن يتبع الجارح بمثل الجرح الذي جرح فيؤخذ منه دون زيادة عليه ولا نقصان منه، فإذا لم يقدر على ذلك ارتفع التكليف به لقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فخص من عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] جراح الخطأ كلها وبعض جراح العمد، وبقية الآية محكمة فيما أمكن القصاص فيه من جراح العمد ولم يخش منه ذهاب النفس.(3/322)
فصل وأول الجراح الحارصة وهي التي تحرص الجلد أي تقشره قليلا. ثم الدامية وهي التي تدمي من غير أن يسيل منها شيء. وقيل الدامية أولا ثم الحارصة. وقيل إن الدامية هي الحارصة نفسها ثم الدامغة وهي التي يسيل منها دم، وقيل الدامية والدامغة سواء. ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم شقا، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت من اللحم ثم السمحاق. وقال ابن حبيب السمحاق: هي الحارصة التي تشق الجلد، والأول أعم وأكثر، وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة وهي الملطا ويقال الملطاة بالهاء، ثم الموضحة وهي التي توضح عن العظم أي تبدي وضحه. ثم الهاشمة التي تهشم العظم. ثم المنقلة وهي التي تكسر العظم فينقل منها العظام ليلتئم الجرح. ثم المأمومة وتسمى الآمة وهي التي تبلغ أم الرأس وهي الدماغ.
فصل وأما ما دون الموضحة من الجراح فليس فيه عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عقل مسمى فسواء كانت في الرأس أو في سائر الجسد الحكم فيها عنده سواء، إنما فيهما على مذهبه القصاص في العمد وحكومة في الخطأ إن برئت على شين. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان من رواية مالك عن يزيد بن قسيط عن سعيد بن المسيب أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، وهو يقول في موطأه ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل. فتوجيه هذا أن يحمل قضاء عمر وعثمان في الملطاة على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوقيت كما قالوا في قضاء زيد بن ثابت في العين القائمة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» خرجه أبو داود. وروي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق(3/323)
أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسة أبعرة، يريد إذا كانت في الرأس، وهو قول حسن إلا أن مالكا لم يره ولا أخذ به. وقال الفقهاء السبعة فيما دون الموضحة الخطأ أجر المداوي. ومن أهل العراق من ذهب إلى أنه لا قصاص فيما دون الموضحة وهو بعيد، لأن الله يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فوجب القصاص من كل جرح على سبيل العمد إلا أن يمنع من ذلك مانع، ولا مانع يمنع من القصاص فيما دون الموضحة.
فصل وأما الموضحة فلا تكون عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا في جمجمة الرأس وفيها القصاص في العمد. وخمس من الإبل في الخطأ على ما ثبت «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتابه لعمرو بن حزم إلا أن تكون في الوجه فتشينه فيزاد فيها بقدر شينها» .
وأما الهاشمة وهي التي تهشم العظم فلم يعرفها مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقال: لا أرى هاشمة تكون في الرأس إلا كانت منقلة. واختلف ابن القاسم وأشهب في القود منها، فلم يره ابن القاسم ورآه أشهب، ويقتص منها على مذهبه موضحة، فإن برئت موضحة ولم يصب العظم هشم فلا شيء للمستقيد، وإن أصابه هشم فذلك القصاص، وإن ترامت إلى منقله أو إلى نفسه فذلك قتيل الله لا دية فيه.
فصل ودية الهاشمة عند من عرفها من العلماء، وهم الجمهور، عشر من الإبل، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وروي ذلك عن زيد بن ثابت ولا مخالف له من الصحابة. وأما المنقلة وهي ما أطار فراش العظم ففيها خمس عشرة فريضة، روي ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في كتابه لعمرو بن حزم من غير رواية مالك. واتفق على ذلك العلماء، والخطأ والعمد فيها سواء، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف خلاف ما روي عن عبد الله بن الزبير أنه أقاد من المنقلة. وأما المأمومة وهي التي تخرق العظم وتبلغ الدماغ وهو أم الرأس ففيها ثلث الدية في العمد أيضا والخطأ، إذ لا قصاص فيها لأنها من المتالف، ولا خلاف فيها بين أهل العلم.(3/324)
فصل وأما الجائفة فإنها من جراح البدن لا من شجاج الرأس وهي ما وصل إلى الجوف ولو بمدخل إبرة، فلا تكون إلا في الظهر أو البطن، وفيها ثلث الدية عمدا كانت أو خطأ إذ لا قود فيها لأنها من المتالف. واختلف قول مالك فيها إذا أنفدت، فقال مرة فيها ثلث الدية، وقال مرة فيها ثلثا الدية.
فصل وليس عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شيء من جراح البدن عقل مسمى ما عدا الجائفة. وذكر في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال في كل نافذة في عضو من الأعضاء ثلث دية ذلك العضو ولم يأخذ به. وإنما قاله سعيد بن المسيب والله أعلم قياسا على الجائفة لما كانت جراحة تنفذ إلى الجوف، والجوف مقتل، وكان فيها ثلث الدية، جعل في كل جرح ينفذ عضوا من الأعضاء خطأ ثلث دية ذلك العضو. وهذا نحو ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو قياسا على موضحة الرأس لما كان مقتلا.
فصل فالجراح في الرأس والجسد تنقسم على قسمين: أحدهما: الخطأ، والثاني: العمد. فأما الخطأ فلا قصاص فيه ولا أدب، وإنما فيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من ثلث ديته أو ثلث دية المجني عليه على اختلاف قول مالك في ذلك. فإن كان الثلث فأكثر فعلى العاقلة. هذا مذهب مالك وأصحابه، وهو قول الفقهاء السبعة من أهل المدينة وقول ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن أبي سلمة. وقال الشافعي: تحمل العاقلة القليل والكثير من الدية دية الخطأ. ومن حجته أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حمل العاقلة الأكثر دل على أنها تحمل الأقل، لأنها إذا حملت الكل فقد حملت كل جزء من أجزائها. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة من جناية الرجل ما بلغ نصف عشر ديته، ومن جناية المرأة ما بلغ نصف عشر ديتها.(3/325)
وقال ابن شبرمة والثوري: تحمل العاقلة من جناية الرجل والمرأة ما بلغ أرش الموضحة، وهو قول إبراهيم النخعي قال: ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو على العاقلة، يريد الموضحة فما فوقها، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرض فيما دونها شيئا. والدليل على صحة قول مالك أن الأصل كان ألا يحمل أحد جناية غيره من دم ولا مال لقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] «وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: لا تجني عليه ولا يجني عليك» إلا أن يخص ذلك سنة قائمة أو إجماع. وقد أجمعوا أن العاقلة تحمل الثلث فصاعدا، لأن من قال إن العاقلة تحمل القليل والكثير، ومن قال إنها تحمل العشر أو نصف العشر، فقد قال إنها تحمل الثلث، فكان الثلث مخصوصا بالإجماع من الأصل المتفق عليه.
فصل ودية جراح المرأة كدية جراح الرجل فيما بينهما وبين ثلث الدية. فإذا بلغت إلى ثلث الدية لم تستكملهما ورجعت إلى عقل نفسها فكان لها في ذلك وفيما زاد عليه نصف عقل الرجل، وفي هذا اختلاف كثير. قد قيل إنها تعاقله إلى نصف عشر الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها] ، وقيل إلى نصف الدية ثم ترجع إلى عقل نفسها. وقيل إن لها النصف من عقل الرجل في القليل والكثير، وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة. والدليل على صحة قول مالك أن ذلك قد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مراسيل عمرو بن شعيب وعكرمة، وقد أرسله سعيد بن المسيب أيضا، ومراسيله كالمسندة. ذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطأه «عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سأل سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت كم في أصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل: فقلت كم في أربع؟ فقال:(3/326)
عشرون من الإبل. قلت حين عظم جراحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، فقال: أعراقي أنت؟ قال: فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال: هي السنة يا بن أخي» . فقوله هي السنة دليل على أنه أرسله عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمرسل عند مالك كالمسند سواء في وجوب الحكم به. والشافعي لا يقول بالمراسيل إلا بمراسيل سعيد بن المسيب فإنها عنده كالمسندة لثقته وجلالة قدره. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المرسل أقوى من المسند لأن الثقة لا يرسل إلا ما قد صح عنده، فإذا أرسل فقد تقلد وإذا أسند فقد أحال على السند وتبرأ منه.
ومما يدل على صحة مذهب مالك من طريق الاعتبار أن الله تبارك وتعالى ساوى بين الرجل والمرأة في الأصل والمبدإ إلى الثلث، ثم فصل بينهما فيما بعد الثلث فقال الصادق المصدوق عن ربه عز وجل «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يأتي الملك فيقول: أي رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد، فينفخ فيه الروح» . فيقع الفصل فيه من الله بالتذكير إن شاء أو التأنيث بعد هذا الأمر المشترك فيه وهو من العام ثلثه. وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وبين الاعتبار من قَوْله تَعَالَى في الآيتين إحداهما: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . والثانية: قوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] أن أمد الغيض وهو النقصان من أمد المعلوم في العادة وهو تسعة أشهر في الأغلب والأكثر ثلاثة أشهر فإن الولد نسبه لستة أشهر فإذا اعتبرنا الزيادة بالنقصان اعتبارا عدلا حملنا على التسعة الأشهر ثلاثة أشهر كما نقصنا منها ثلاثة أشهر، وفي حملنا ثلاثة أشهر على تسعة تمام العام. وقد تقدم أن الأربعة(3/327)
الأشهر المشترك فيها ثلث العام فكأنما اشتركا من العام وهو منتهى الأمد على الاعتبار الذي ذكرناه في ثلاثة من الخلقة، ثم وقع الفصل بعد الثلاث وانفرد الذكر لتذكيره والأنثى بتأنيثها، فكذلك يشتركان في العاقلة في الثلث، ثم يرجع بعد الثلث كل واحد منهما إلى نفسه كما رجع بعد ثلث العام إلى صورة نفسه، فحسبك بهذا بيانا واضحا ودليلا راشدا إن شاء الله.
فما كان من الجراح جراح الخطأ فيه دية مسماة بأثر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضي فيه بالمسمى، وما لم يكن فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء مسمى فلا شيء فيه إلا أن يبرأ على عثل فتكون فيه حكومة بالاجتهاد.
فصل وصفة الاجتهاد في ذلك أن يقوم المجني عليه سالما من العثل ويقوم بالعثل أن لو كان عبدا في الحالتين، فما كان بين القيمتين سمى من قيمته سالما فما كان له من الأجزاء كان له ذلك الجزء من ديته.
فصل وأما العمد فإنه ينقسم على قسمين: عمد لا قصاص فيه، وعمد فيه القصاص.
فأما العمد الذي فيه القصاص فلا دية فيه إلا ما يتراضيان عليه على المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك وأصحابه. وابن عبد الحكم من أصحاب مالك يقول: إن المجروح مخير بين أن يقتص أو يأخذ العقل، وهو أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح إنه مخير بين أن يفقأ عين الأعور بعينه أو يأخذ الدية ولا خيار فيه للأعور الجاني(3/328)
وهذا شاذ في الجراح، وإنما القولان مشهوران عن مالك في إيجاب الدية على القاتل في القتل شاء أو أبى.
فصل وأما العمد الذي لا قصاص فيه لأنه متلف أو لأنه لا يستطاع القصاص فيه، ففيه الدية المسماة أو حكومة فيما لا دية فيه مسماة، في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا ففي ذلك ثلاثة أقوال لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
أحدها: أن ذلك في ماله من غير تفصيل لأنه عمد، الخطأ لامتناع القصاص فيه.
والثالث: أن ذلك في ماله إن كان له مال، وعلى العاقلة إن لم يكن له مال.
فصل وكذلك ما كان من قطع الآراب والجوارح وإذهاب الحواس والمنافع بالجنايات عليها ينقسم على قسمين: خطأ- وعمد.
وينقسم العمد على قسمين: قسم فيه القصاص وقسم لا قصاص فيه. فما كان من الخطأ ففيه الدية المسماة إن كان مما له دية مسماة، والحكومة إن لم تكن له دية مسماة في مال الجاني إلا أن يبلغ الثلث فصاعدا. وما كان من العمد الذي لا قصاص فيه ففيه الدية في مال الجاني إن كان أقل من الثلث، وإن كان الثلث فصاعدا فعلى الثلاثة الأقوال التي تقدمت في الجراحات. وما كان من العمد الذي فيه القصاص فالقصاص فيه إلا أن يصطلحا على شيء في المشهور من المذهب،(3/329)
خلاف قول ابن عبد الحكم وإحدى الروايتين عن مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح، وقد تقدم ذكر ذلك.
فصل وقد مضى الكلام في تسمية ديات الجراح، ونذكر هنا ديات الأعضاء والجوارح والحواس والمنافع إن شاء الله. فأول ذلك العقل وفيه الدية كاملة، وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والسمع فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك، والبصر فيه الدية كاملة وإن نقص بعضه فبحساب ذلك. والأنف والأنف فيه الدية كاملة إذا أوعى المارن جدعا، فإن قطع بعضه فبحساب ما قطع منه. والشفتان فيهما الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية خلاف قول سعيد ابن المسيب إن في السفلى منهما ثلثي الدية. وفي اللسان الدية كاملة فإن قطع بعضه فبحساب ما ذهب من كلامه على الأحرف، وقيل بالتوخي والاجتهاد. وأما أشفار العينين وجفونهما والحاجبان فليس في شيء من ذلك عند مالك إلا حكومة بالاجتهاد. وأما شعر الرأس واللحية فلا شيء فيه إن نبت الشعر وعاد لهيئته على مذهب مالك. وإن لم ينبت كان فيه حكومة بالاجتهاد، ولا قصاص فيه بالعمد وإنما فيه الأدب بالاجتهاد. ومن أهل العلم من يرى الدية كاملة في أشفار العينين وفي جفونهما وفي الحاجبين وفي شعر الرأس واللحية، ومعنى ذلك إذا لم ينبت الشعر والله أعلم. ومنهم من يرى في شعر الرأس واللحية القصاص في العمد.
فصل وفي السن خمس من الإبل، والأضراس والأسنان سواء، في كل واحد منهما خمس من الإبل على قضاء معاوية. وذكر مالك في موطأه عن سعيد بن المسيب أنه قال. قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة. قال سعيد: فالدية تنقص في قضاء عمر وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنت أنا لجعلت فيها بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء. وذلك أن الأسنان اثنا عشر سنا وهي أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب،(3/330)
فيجب له ستون بعيرا على خمسة أبعرة في كل سن. والأضراس عشرون: أربع ضواحك وهي التي تلي الأنياب، واثنا عشر رحى ثلاث في كل شق، وأربع نواجد وهي أقصاصا. فيجب لها أربعون بعيرا على قول سعيد بن المسيب، فيأتي في جميع الأسنان مائة بعير وستون بعيرا، وعلى قضاء عمر ثمانون بعيرا.
فصل وفي الصلب الدية كاملة] إذا أقعد لم يقدر على المشي. وفي الذكر الدية كاملة] قطع كله أو الحشفة وحدها، فإن قطع بعضها فبحساب ذلك. وفي الأنثيين الدية كاملة] ، في كل واحدة منهما نصف الدية. وذهب سعيد بن المسيب إلى أن في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى الثلث لأن الولد يكون من اليسرى. وفي إذهاب الجماع الدية كاملة. وفي اليدين الدية كاملة. وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي الرجلين الدية كاملة، وفي كل واحدة منهما نصف الدية. وفي كل أصبع منهما عشر من الإبل. وفي إشراف الأذنين عند أشهب الدية كاملة، وليس في ثدي الرجل وأليته عند مالك إلا حكومة. وأما المرأة ففي ثدييها الدية كاملة، وفي أليتيها على مذهب أشهب الدية كاملة. وفي شفري المرأة الدية كاملة. وذكر أبو الفرج عن ابن الماجشون أن في الشوى وهي جلدة الرأس الدية كاملة. وكذلك في الصدر إذا هدم ولم يرجع إلى ما كان عليه، قال فيه الدية. وفي كتاب الأبهري إذا ضرب أنفه فأذهب شمه والأنف قائم ففيه الدية كاملة، وقاله أبو الفرج وروى ابن نافع عن مالك أن فيه حكومة وهو شاذ. وينبني على أصولهم أن يكون في الذوق الدية كاملة، ولا أعلم فيه لأصحابنا نصا.
فصل فيتحصل فيما يجنى به على الرجل من الديات على المذهب ثمان عشر(3/331)
دية، إحدى عشرة في رأسه، وسبع في جسده. فأما التي في الرأس العقل، والسمع، وأشراف الأذنين عند أشهب، والبصر، والشم على اختلاف، والأنف، والذوق، وإن كنت لا أعلم فيه نصا، والكلام، والشفتان، والشوى وهي جلدة الرأس، والأضراس والأسنان يجتمع فيها على مذهب مالك أكثر من دية. والتي في الجسد: اليدان، والرجلان، والصلب، والصدر، والذكر، والأنثيان، وإذهاب الجماع. ويجتمع في المرأة ثمان عشرة دية أيضا، لأن فيها ثلاث ديات ليست في الرجل، وهي الشفرتان، والحلمتان، والأليتان عند أشهب، كما أن في الرجل ثلاث ديات ليست في المرأة وهي إذهاب الجماع، والذكر، والأنثيان.
فصل والعمد الذي يجب فيه القصاص في إتلاف الجارحة فيما يظهر من حاله وقصده فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يعمد للضرب على وجه العداوة والغضب.
والثاني: أن يعمد له على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب.
والثالث: أن يعمد له على وجه اللعب.
فأما إذا عمد له على وجه العداوة والغضب فلا يخلو أن يكون ضربه في غير الجارحة التالفة أو في الجارحة التالفة. فأما إن كانت ضربته في غير الجارحة التالفة مثل أن يضربه في رأسه فتذهب منها عينه فإنه لا يقتص من العين باتفاق، وإنما فيها الدية في ماله أو على العاقلة على اختلاف قول ابن القاسم في ذلك. وأما إن ضربه بلطمة أو بسوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر فيه أنه لم يقصد إلى فقء عينه فأصاب عينه في ذلك ففقأها ففي ذلك قولان:
أحدهما: وهو المشهور في المذهب، أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا من الأب في ابنه وما أشبه ذلك.(3/332)
والثاني: أن ذلك شبه العمد فلا قصاص فيه وفيه الدية المغلظة في ماله وهو قول جل أهل العلم ورواية العراقيين عن مالك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجراح. والقول الأول أصح، والدليل عليه حديث أنس في شأن أم الربيع. روي في الصحيح «أن ابنة النضر أخت الربيع لطمت جارية فكسرت سنها فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بالقصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أتقتص من فلانة والله لا تقتص منها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سبحان الله يا أم الربيع القصاص في كتاب الله. فقالت والله لا تقتص منها أبدا. قال فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» كذا وقع في كتاب مسلم أن الجارية أخت الربيع عمة أنس بن مالك راوي الحديث وأن الحالف الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره أنس بن النضر» . ووقع في رواية القابسي من كتاب الحدود أن الجارحة أخت الربيع مثل ما في كتاب مسلم. ويجب على الجارح مع القصاص الأدب على مذهب مالك لجرأته. وقال عطاء بن أبي رباح: الجروح قصاص ليس للإمام أن يضربه ولا أن يسجنه إنما هو القصاص وما كان ربك نسيا، ولو شاء لأمر بالضرب والسجن.
وأما إن عمد على وجه اللعب ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: وجوب القصاص على أنه عمد.
والثاني: نفيه وتغليظ الدية على أنه شبه العمد.
والثالث: أنه خطأ ففيه الدية غير مغلظة على العاقلة إن زاد على الثلث على الاختلاف في الضرب إذا كان على وجه اللعب فمات منه. وكذلك إذا عمد على وجه الأدب ممن يجوز له الأدب، فيجري ذلك على ما ذكرته من الاختلاف في النفس فلا معنى لإعادته.
فصل ومن هذه الجوارح ما تختص بمنافع كجارحة العين فإن منفعتها المختصة بها(3/333)
البصر، وجارحة الأذن فإن منفعتها المختصة بها السمع، وكجارحة اليد فإن منفعتها المختصة بها البطش واللمس، وكجارحة اللسان فإن منفعتها المختصة بها الكلام. فما كان من هذه الجوارح التي لها منافع تختص بها فالدية المسماة فيها إنما تجب لذهاب المنفعة المختصة بها، وهي تبع لها إذا ذهبت بذهابها. فإذا ذهبت الجارحة على انفراد دون المنفعة ففيها حكومة أو دية كاملة. مثال هذا الذي ذكرناه أن من أذهب بصر رجل وعينه قائمة فعليه الدية كاملة، وإن أذهب بصره وفقأ عينه ففيه أيضا الدية كاملة وتكون جارحة العين تبعا للبصر. وكذلك الأذن مع السمع، فإن قطع أشراف الأذنين وبقي السمع ففيها على مذهب ابن القاسم حكومة. وكذلك إن كان الرجل أصم فقطع رجل أذنيه ففيهما حكومة، أو كان أعمى قائم العينين ففقأ عينيه ففيهما حكومة.
فصل واختلف في محل العقل فذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن محله القلب، وهو مذهب المتكلمين من أهل السنة. وذهب ابن الماجشون من أصحابنا إلى أن محله الرأس، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الاعتزال. والحجة لمالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] . وقال تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فأضاف تعالى العقل إلى القلب لما كان موجودا به وحالا فيه، كما أضاف البصر إلى العين والسمع إلى الأذن والبطش إلى اليد لما كان كل شيء من ذلك حالا في جارحته المضافة إليه. فمن أصيب بمأمومة فذهب منها عقله فله على مذهب مالك دية العقل ودية المأمومة، لا يدخل بعض ذلك في بعض، إذ ليس الرأس عنده بمحل للعقل ولا يختص به كمن أذهب سمع رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة. وعلى مذهب أبي حنيفة وابن الماجشون(3/334)
إنما له دية العقل ولا شيء في المأمومة لاختصاص العقل عنده بموضعها، كمن أذهب بصر رجل وفقأ عينه في ضربة واحدة، أو أذهب سمع رجل وقطع أذنه في ضربة واحدة.
فصل ومن شرط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر والحرية أو الرق، فإن اختلفا في شيء من ذلك ارتفع القصاص، إلا أن مالكا وقف في رواية أشهب عنه في جراح النصراني للمسلم. وقال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل. وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.(3/335)
[كتاب جنايات العبيد]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على محمد وآله
كتاب الجنايات قد تقدم فيما مضى من الكلام حكم جنايات الأحرار بعضهم على بعض في النفس وفيما دون النفس، ورسم سحنون هذا الكتاب بكتاب جنايات العبيد. والعبيد مخاطبون مكلفون بجناياتهم لاحقة بهم متعلقة برقابهم دون ساداتهم. والأصل في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . وما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنه فقال يا رسول الله هذا ابني فما لي منه. قال: لا تجني عليه ولا يجني عليك» والعبد كذلك فوجب لهذا أن تكون جنايات العبيد متعلقة برقابهم لا يلزم ساداتهم أكثر من إسلامهم بما جنوا، كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا بجب فيها القصاص. وإن أحب ساداتهم أن يفتكوهم بما جنوا ولا يسلموهم بجناياتهم كان ذلك لهم إلا فيما فيه القصاص في أبدانهم فلا يكون ذلك لهم إلا برضى المجني عليهم.
فصل فمعرفة ما يقتص فيه من العبيد مما لا يقتص منه أصل هذا الكتاب وعليه تنبني مسائله فلا بد من ذكر ذلك وتحصيله. أما القصاص فيما بينهم البين فاختلف أهل العلم فيه على أربعة أقوال:
أحدها: قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن تابعه إن القصاص بينهم في النفس وفيما(3/337)
دون النفس كما هو بين الأحرار لاستوائهما في المرتبة كانوا لرب واحد أو لأرباب شتى، إلا أن الخيار في العفو والقصاص لسيد العبد المجروح أو المقتول دونه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه. والدليل على صحته قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الآية. والثاني: أنه لا قصاص بينهم في النفس ولا فيما دون النفس كالصغير والمجنون. روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود وقال به جماعة من التابعين وبعض فقهاء العراقيين، وهو بعيد جدا، لأن القلم مرتفع عن الصغير والمجنون بخلاف العبيد.
والثالث: أن القصاص بينهم في النفس ولا قصاص بينهم في الجراح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، واحتج لهم الطحاوي بحديث قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين «أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يقتص لهم منه» . وبما روي عنه أيضا «أن عبدا لقوم أغنياء قطع أذن عبد لقوم فقراء فلم يجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما قصاصا» . قال: ولو كان واجبا لاقتص لهم لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] إلى قوله {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] قال واستعملنا في النفس بالنفس قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» .
فصل فأما الحديث فلا حجة لهم فيه لأنه يحتمل أنه لم يقتص للفقراء لأنه أمرهم بالعفو على أخذ الأرش لموضع فقرهم ففعلوا ذلك، وأنه لم يقتص للأغنياء لأنه رغبهم في العفو لئلا تنقص قيمة عبد الفقراء بالقصاص منه. ولذلك والله أعلم نقل في الحديث ذكر فقرهم. وإذا وجب القصاص بينهم في النفس فهو فيما دون النفس أوجب، والله أعلم.(3/338)
والقول الرابع: أن القصاص بين العبيد إلا أن يكونوا لمالك واحد وهذا القول وقع في المدونة لبعض الناس.
فصل وأما العبيد والأحرار فإن القصاص بينهم مرتفع في النفس وفيما دون النفس إلا أن يقتل العبد الحر فيقتل به. وقد قيل إن الجراح كالقتل.
[فصل في أقسام جنايات العبيد]
فصل فجنايات العبيد تنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: جناياتهم على العبيد.
والثاني: جناياتهم على الأحرار.
والثالث: جناياتهم على الأموال. فأما جناياتهم على العبيد في مذهب مالك الذي يرى القود بينهم في النفس وفيما دون النفس فإنها تنقسم على وجهين:
أحدهما: أن تكون خطأ في النفس وفيما دون النفس من الجراح، أو عمدا مما لا يستطاع القصاص منه لأنه متلف أو لأنه لا يمكن القصاص منه.
والثاني: أن تكون عمدا في النفس أو فيما دون النفس من الجراح التي يقتص منها وليس بمتالف.
فصل فأما الوجه الأول: وهو أن يقتل أحد العبدين صاحبه خطأ أو يجرحه خطأ أو عمدا لا يجب فيه القصاص فسيد العبد الجاني مخير بين أن يسلمه بجنايته أو يفتكه بقيمة العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه، وإن لم ينقصه الجرح شيئا فلا شيء عليه إلا في المنقلة والمأمومة والجائفة فإنه يفتكه في المأمومة والجائفة بثلث قيمة العبد المجروح، وفي المنقلة بعشر قيمته ونصف عشر قيمته إن برئت على غير شين وإن برئت على شين فنقص ذلك من قيمته افتكه بما نقص الجرح من قيمته(3/339)
على ما هو عليه من الشين،. وقيل يفتكه بالأكثر من الواجب في ذلك الجرح أو مما نقص الجرح من قيمته على ما هو عليه من الشين، لأن هذه الجراح الثلاث يستوي فيها الخطأ والعمد في العبيد. وتثبت الجناية في هذا الوجه بشاهدين وشاهد وامرأتين وباليمين مع الشاهد وبإقرار العبد على نفسه بالجناية بحضرة الجناية عند ابن القاسم خلاف قول ابن نافع.
فصل وأما الوجه الثاني: وهو أن يقتل أحد العبيدين صاحبه عمدا أو يجرحه عمدا جرحا يجب فيه القصاص فإن سيد العبد المقتول أو بما نقص الجرح منه إن نقص إلا أن تكون موضحة فيفتكه بنصف عشر قيمة العبد المجروح إن برئت الموضحة على غير شين، وإن برئت على شين فعلى ما ذكرنا من الاختلاف.
فصل وهذا إذا ثبت القتل أو الجرح بشهادة شاهدين. وأما إن لم يكن على ذلك إلا شاهد واحد فإن السيد يحلف مع الشاهد عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن أراد القصاص أو العقل، ذكره ابن سحنون. وقال أصبغ في العتبية إن أراد السيد العقل حلف، وإن أراد القصاص حلف العبد، وهو قول المغيرة المخزومي. وإن لم تثبت الجناية إلا بإقرار العبد بها على نفسه اقتص منه بقوله لأنه لا يتهم. وقد حكى بعض الرواة(3/340)
عن كثير من أصحاب مالك أنه لا يجوز إقراره على نفسه بجناية العمد لأنه لا يجوز له أن يتلف نفسه على سيده.
فصل وأما جنايات العبيد على الأحرار فإنها تنقسم على وجهين:
أحدهما: جناياتهم عليهم في النفس.
والثاني: جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح.
فأما جناياتهم عليهم في النفس فلا يخلو إذا قتل العبد الحر أن يكون ذلك خطأ أو عمدا. فإن كان خطأ خير سيد القاتل بين أن يسلمه أو يفتكه بالدية، فإن اختار افتكاكه بالدية قيل يفتكه بالدية حالة وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، قاله في مسألة العبد والحر يصطدمان وقيل يفتكه بالدية مؤجلة في ثلاثة أعوام. وقاله ابن القاسم عن مالك في سماعه من كتاب الديات، وهو ظاهر في سماع أصبغ من الكتاب المذكور في مسألة الحر والعبد يصطدمان. وإن كان عمدا خير أولياء الحر بين أن يقتلوا العبد أو يستحيوه، فإن قتلوه بقي ماله لسيده، وإن أخذوه ليقتلوه فاستحيوه ففي ماله قولان: أحدهما: أن المال يكون للسيد كما لو قتلوه، والثاني: أن المال يكون تبعا له كما لو استحيوه فأسلم إليهم في الجناية. والقولان في سماع أصبغ من كتاب الديات. وأما إن استحيوه فأسلم إليهم فلهم أن يأخذوه في الجناية بماله إلا أن يشاء سيده أن يفتكه بماله منهم بدية الحر المقتول فيكون ذلك له. وقد قيل إن ماله إن كان عينا فيه وفاء بالجناية لم يخير سيده ووديت الجناية من ماله.
فصل وأما جناياتهم عليهم فيما دون النفس من الجراح فسواء كان الجرح عمدا أو خطأ لأن العبد لا يقاد من الحر بالجراح، فيخير سيد العبد الجارح بين أن يسلمه أو يفتكه بدية الجرح حالا إن كان عمدا، أو أقل من الثلث إن كان خطأ. وإن كان الجرح خطأ وأرشه أكثر من الثلث فعلى الاختلاف المذكور.(3/341)
فصل وأما جنايتهم على الأموال فسواء كانت لحر أو لعبد ذلك في رقابهم، يخير سيد العبد الجاني بين أن يسلمه بما استهلك من الأموال أو يفتكه بذلك كان ما استهلك من الأموال أقل من قيمته أو أكثر، أو استهلك ألف مثقال وقيمته عشرة دنانير لم يكن له أن يمسكه إلا بغرم ألف مثقال، إلا أن يرضى منه المجني عليه بدون الألف فيجوز ذلك إن كان المجني عليه حرا مالكا لأمر نفسه أو عبدا مأذونا له في التجارة. وأما إن كان عبدا محجورا عليه أو صبيا مولى عليه فلا يجوز ذلك إلا بإذن سيد العبد أو ولي اليتيم. وأما إن رضي المجني عليه بدون قيمة العبد فلا يجوز إلا أن يكون حرا مالكا لأمر نفسه. وإذا أسلم في الجناية فماله تبع له.
فصل وإنما يكون في رقبة العبد ما استهلك من الأموال التي لم يؤتمن عليها. وأما ما استهلك مما أؤتمن عليه بعارية أو كراء أو وديعة أو استعمال أو ما أشبه ذلك فإن ذلك ينقسم على وجهين:
أحدهما: أن يستهلكه بالانتفاع.
والثاني: أن يستهلكه بالإفساد والإهلاك من غير انتفاع به.
فأما إذا استهلكه بالانتفاع مثل أن يكون ثوبا يتعدى عليه فيبيعه ويأكل ثمنه أو طعاما فيأكله بعينه أو ما أشبه ذلك فهذا لا اختلاف فيه أن ذلك في ذمته لا في رقبته.
وأما ما استهلك بالإهلاك والإفساد فقال ابن الماجشون: ذلك في رقبته. وقال ابن القاسم: لا يكون ذلك في رقبته وإنما يكون في ذمته لأنه أؤتمن عليه.
فصل وهذا كله بخلاف ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل، لأن(3/342)
المواشي ليست هي الجانية إذ ليست بمخاطبة ولا بمكلفة، وإنما الجاني ربها إذ لم يمنعها من الإفساد في الليل، فيلزمه غرم ما أفسدت الماشية من الزرع والأموال بالليل من قليل أو كثير، وليس له إسلام الماشية بالفساد. والعبد عاقل مكلف مخاطب فهو الجاني وجناياته في رقبته، فإذا أسلمه سيده فليس عليه أكثر من ذلك، إذ لا يحمل أحد جناية أحد لقول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] . ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي رمثة في ابنه: «لا تجني عليه ولا يجني عليك» . إلا أن يأمره السيد بالجناية فإن أمره بها اقتص منهما جميعا عند ابن القاسم، كان العبد فصيحا أو أعجميا. وقال ابن وهب: إذا أمر السيد عبده بقتل رجل فإن كان فصيحا اقتص من العبد وضرب السيد مائة وسجن عاما. وإن كان أعجميا اقتص من السيد وضرب العبد مائة وسجن عاما. وأما ما أفسدت الماشية بالنهار فلا شيء على صاحبها فيه لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جرح العجماء جبار» .
فصل وإنما يسقط عنه الضمان فيما أفسدت من الزرع بالنهار إذا أخرجها عن جملة مزارع القرية وتركها بالمسرح. وأما إن أطلقها للرعي قبل أن تخرج من جملة مزارع القرية دون راع يذودها عن الزرع فهو ضامن لما أفسدت، وإن كان معها رعاتها فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الراعي إن فرط أو ضيع حتى أفسدت شيئا. على هذا حمل أهل العلم ما ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى على أرباب الزرع بحفظها بالنهار وإن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
فصل والأصل في هذه المسألة قول الله تبارك وتعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] الآية والنفش لا يكون إلا بالليل، وأما بالنهار فهو الهمل. وشرعنا على هذا في إيجاب الضمان على رب(3/343)
الماشية فيما أفسدت ماشيته بالليل، وأما في صفة التضمين فهو على خلاف ما قضى به سليمان، لأنه قضى لصاحب الزرع أن يستوفي من نسل الماشية ورسلها ما كان يخرج من زرعه على المتعارف. وأما ما قضى به داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أن يتأول على شرعنا لأنه قضى بالغنم لصاحب الزرع، فيحتمل أن تكون قيمة الزرع على الرجاء والخوف مثل قيمة الغنم أو أكثر ولا مال لصاحب الغنم غيرها.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: دخل رجلان على داود صلى الله على نبينا وعليه وسلم، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: يا نبي الله إن هذا أرسل غنمه في حرثي ليلا فلم يبق لي منه شيئا. فقال له اذهب فإن الغنم لك كلها، فقضى بذلك داود. فمر صاحب الغنم إلى سليمان فأخبره بالذي قضى به داود فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله إن القضاء سوى الذي قضيت، فقال وكيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه كل عام، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، وإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال له داود قد أصبت والقضاء ما قضيت. فهذا معنى قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] .
فصل وليس في قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دليل على أنه أصاب الحق عند الله في قضائه هذا، وأن داود أخطأه كما يقول من يذهب إلى أن الحق في طرف وأن المجتهد إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه. بل في الآية ما يدل على أن ما حكم به كل واحد منهما حق عند الله في حقه لأنه قال تعالى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ومن أخطأ في قضية فلا يوصف بأنه أوتي حكما وعلما. وطريق هذه المسألة القطع والعلم لا غلبة الظن، فلا يصح أن يستدل فيها بشيء من الظواهر المحتملة. والذي يقوله المحققون أن كل مجتهد مصيب، وهو الصواب الذي لا يصح خلافه، لأن الله تعالى تعبد المجتهد باجتهاده، فهو مأمور أن يقضي به ويحل(3/344)
به ويحرم به، كما تعبده أن يقضي بشهادة الشاهدين ويحل بهما ويحرم بهما. فإذا لم يجز أن يقال لمن قضى بتحليل أو تحريم في مال أو فرج بشهادة شاهدين عدلين إنه خطأ عند الله إذ لم يتعبد ما خوطب به، كذلك لا يجوز أن يقال لمن أحل أو حرم باجتهاده في موضع الاجتهاد إنه مخطئ عند الله، وليس عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك نص. والذي يدل عليه مذهبه القول بتصويب المجتهدين. والذي يدل على ذلك من مذهبه أن المهدي سأله أن يجمع مذهبه في كتاب ويحمل عليه الناس، فقال له مالك: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفرقوا في البلاد وأخذ الناس بآرائهم، فدع الناس وما اختاروه. فلولا أن كل مجتهد مصيب عنده لما جاز أن يقر الناس على ما هو الخطأ عنده. ومما يدل على ذلك من مذهبه أيضا قوله في المدونة في الذي يعرف خطه ولا يذكر الشهادة إنها شهادة لا تجوز عنده ولا تصح ولا يحكم بها، ولكنه يرفعها ويؤديها كما علم. فلولا أن كل مجتهد عنده مصيب لما أمره أن يؤدي شهادة لا يصح الحكم بها، فلعل القاضي الذي رفعت إليه يحكم بها فيكون قد عرضه للحكم بالخطأ، هذا لا يصح، وهو مذهب الشافعي وجماعة أصحابه. واختلف في ذلك عن أبي حنيفة. وقد تأول بعض الناس على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحق في طرف واحد من قوله إذ سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مخطئ ومصيب. وهذا لا يصح، لأنه لم يقل مخطئ عند الله، وإنما أراد أنه مخطئ عنده فلا يصح له اتباعه والحكم بمذهبه. وإذا احتمل قوله هذا بطل الاستدلال به. واستدل أيضا بعض الناس على ذلك من مذهبه من قوله فيمن خفيت عليهم القبلة إنهم يجتهدون في طلبها ولا يصلي أحد منهم مؤتما بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد. قال: فلو كان كل واحد منهم مصيبا في اجتهاده لجاز أن يأتم كل واحد منهم بصاحبه. وهذا لا يلزم لأن من ائتم بمن صلى إلى جهة ما فهو مصل إلى تلك الجهة، لأن صلاته مرتبطة بصلاة إمامه وهو متعبد باجتهاده لا يجوز له أن يتركه لاجتهاد غيره. فمن هذا الوجه قال مالك: إنه لا يجوز أن يأتم أحد منهم بصاحبه إذا خالفه في الاجتهاد، لا من الوجه الذي ذكر والله أعلم.(3/345)
[كتاب الجامع] [باب في ذكر نسب النبي عليه السلام وما يتعلق بشخصه وبيته.]
قال محمد بن رشد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد حمد الله تعالى وجل حق حمده. والصلاة على نبيه الكريم وعبده: إني لما ضمنت الجزء الأول من كتاب المقدمات بيان ما يجب اعتقاده من المعتقدات التي أوجبها الله عز وجل على المكلفين من عباده، من الإيمان به والإقرار بوحدانيته، والمعرفة به على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، بما نصب لهم من الدلالات على ذلك في محكم كتابه، والإيمان برسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتصديق لما جاء به من عنده، والمعرفة لصحة رسالته ونبوته بالدلالة الظاهرة، والمعجزات الباهرة، التي أظهرها الله تعالى وأحكام الكتاب من ناسخه ومنسوخه، وخاصه وعامه، ومفصله ومجمله، ونصه ومحتمله، وحقيقته ومجازه، وأحكام السنن وتقاسيمها، وحقيقة الإجماع، ووجه القياس ووجوب الحكم به فيما لم يرد به نص في الكتاب ولا في السنة ولا فيما اجتمعت عليه الأمة. وما تنقسم عليه أحكام الشرائع من واجب ومستحب ومباح وحرام ومكروه وتفسير ذلك كله وبيانه. وضمنا سائر الأجزاء أحكام جميع شرائع الدين فرائضها وسننها وفضائلها وشرائط صحتها وفسادها، رأيت أن أختمه بجزء جامع يحتوي على ما تهم معرفته من العلم بنسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه وأولاده وعيون(3/347)
سيره وأخباره، من حين مولده إلى وقت وفاته، وعلى جمل مما يحق معرفته مما يجب على الإنسان في خاصته أو يحرم عليه أو يستحب له أو يكره له أو يباح له في مطعمه ومشربه وملبسه وجميع شأنه؛ وعلى بيان فضل مكة والمدينة، وفضل مالك إمام دار الهجرة ومقدار مرتبته في العلم والله الموفق للصواب لا رب غيره ولا معبود سواه.
باب
في ذكر نسب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ومولده ومبعثه وصفته
وأسمائه وأخلاقه وسنه ووفاته وأزواجه وأولاده وهجرته
وبعوثه وغزواته هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. روي هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتفق على صحته أهل العلم بالنسب لم يختلفوا في شيء منه. وإنما اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل بن إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وفيما بين إبراهيم وآدم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - اختلافا كثيرا لا يقطع على صحة شيء منه. روي عن ابن عباس أنه قال: فيما بين معد بن عدنان إلى إسماعيل ثلاثون أبا. ولا اختلاف بينهم في أن نزارا بأسرها وهم ربيعة ومضر هي الصريخ من ولد إسماعيل، وقريش وهم بنو النضر بن كنانة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من بني كنانة واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم» .(3/348)
واسم هاشم عمرو، وإنما قيل لهاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه. واسم قصي يزيد، وإنما قيل له قصي لأنه تقصى مع أمه أخواله ومكن معهم في باديتهم فبعد عن مكة وكان يدعى مجمعا لأنه لما رجع إلى مكة من عند أخواله جمع قبائل قريش بمكة حين انصرافه. واسم عبد مناف المغيرة ويكنى أبا عبد شمس واختلف في عبد المطلب فقيل اسمه عبد المطلب، وقيل اسمه شيبة، وكان يقال له شيبة الحمد لشيبة كانت في ذؤابته. وقال من قال ذلك إنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما قال لأخيه المطلب وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبد المطلب بيثرب فسمي عبد المطلب، والله أعلم.
[فصل في نسب أمه عليه السلام ووقت ولادتها إياه]
فصل في
نسب أمه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ووقت ولادتها إياه وأم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب تزوجها عبد الله ابن عبد المطلب وهو ابن ثلاثين سنة وقيل ابن خمس وعشرين سنة، خرج به أبوه عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته. وقيل كانت آمنة في حجر عمها وهيب بن عبد مناف، فخطب إلية ابنته هالة لنفسه، وخطب إليه ابنة أخيه آمنة على ابنه عبد الله، فزوجه وزوج ابنه في مجلس واحد. فولدت هالة لعبد المطلب حمزة وولدت آمنة لعبد الله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. حملت به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وولدته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة في الدار التي كانت تدعى لحمد بن يوسف أخي الحجاج، عام الفيل إذ ساقته الحبشة إلى مكة في جيشهم لغزو البيت، فردهم الله عز وجل عنه وأرسل عليهم طيرا أبابيل فأهلكتهم، لا اختلاف في ذلك. قيل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من(3/349)
رمضان، وقيل يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وقيل لثمان خلون منه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وقيل أول اثنين منه. وقد قيل إنه ولد في شعب بني هاشم، ولا خلاف أنه ولد عام الفيل. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ولد يوم الفيل، فيحتمل أن يكون أراد اليوم الذي حبس الله فيه الفيل عن وطء الحرم وأهلك الذين جاءوا به، ويحتمل أن يكون أراد بقوله يوم الفيل عام الفيل.
[فصل في مرضعات النبي عليه السلام]
فصل في
مرضعات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأرضعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحمزة ثويبة جارية أبي لهب، وأرضعت معهما أبا سلمة بن عبد الأسد. فالنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وحمزة وأبو سلمة إخوة من الرضاعة. وروي عن ابن عباس أنه قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا تتزوج ابنة حمزة؟ قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة» وروي عن عراك بن مالك «أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله إنا قد تحدثنا أنك خطبت درة بنت أبي سلمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعلى أم سلمة لو أني لم أنكح أم سلمة لم تحل لي لأن أباها أخي من الرضاعة» وأعتق أبو لهب ثويبة بعد أن هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر.
ثم استرضع له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني سعد بن بكر حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. فردته ضئره حليمة إلى أمه آمنة بعد خمس سنين ويومين من مولده، فأخرجته أمه آمنة إلى أخوال أبيه بني النجار تزورهم بعد سبع سنين من مولده، فتوفيت بعد ذلك بالأبواء ومعها النبي، فقدمت به أم أيمن مكة بعد موت أمه بخمسة أيام.(3/350)
[فصل في سن النبي عليه السلام يوم مات أبوه]
فصل في
سن النبي- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم مات أبوه ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب وأمه حامل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: بل توفي بالمدينة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن ثمانية وعشرين شهرا. وقبره بالمدينة في دار من دور بني عدي بن النجار.
وكان خرج إلى المدينة ليمتار قمحا، وقيل إنه كان ابن سبعة أشهر، وقيل إنه كان ابن شهرين، ولم يكن له ولد غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكفله جده وعمه. فتوفي جده عبد المطلب سنة تسع من عام الفيل. وقيل بل توفي وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن ثمان سنين. وقيل بل توفي وهو ابن ثلاث سنين. فأوصى به إلى ابنه أبي طالب، فصار في حجره حتى بلغ خمس عشرة سنة، ثم انفرد بنفسه.
وكان أبو طالب يحبه، وكان هو مائلا إليه لوجاهته في بني هاشم وسنه، وكان مع ذلك شقيق أبيه.
[فصل في سن النبي صلى الله عليه وسلم يوم تزوج خديجة وذكر أولاده منها]
فصل في
سن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم تزوج خديجة
وذكر أولاده منها وتزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة بنت خويلد وهو ابن إحدى وعشرين سنة. قيل وهو ابن ثلاثين سنة. وهي ثيب بعد زوجين كانا لها. قيل إنها كانت يومئذ بنت ثلاث وأربعين سنة. وقيل بنت أربعين سنة، وإنها ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة. وروي أنه خرج في تجارة، فرآه نسطور قد أظلته غمامة فقال: هذا نبي. وتوفيت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وقيل بأربع سنين، وقيل: بخمس سنين. وكانت حين وفاتها بنت خمس وستين سنة، وهي أول من آمن به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يجمع معها غيرها، ولا تزوج سواها من أزواجه إلا بعد موتها.(3/351)
وولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم منها حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، أربع بنات: زينب وفاطمة، ورقية، وأم كلثوم. والأصح أن رقية هي الثانية بعد زينب ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ولا اختلاف في أن زينب أكبرهن. قيل إنها ولدت في سنة ثلاثين من مولد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وماتت في سنة ثمان للهجرة. أسلمت وهاجرت حين أبى زوجها أبو العاصي أن يسلم، ثم أسلم بعدها وهاجر.
وتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، فولدت له هناك ابنا سماه عبد الله فبه كان يكنى. وتوفيت يوم وقعة بدر، وبسبب مرضها تخلف عثمان عن شهود بدر بأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهمه فهو من أهل بدر.
وتزوج بعدها أم كلثوم، فتوفيت عنده ولم تلد منه، فكان نكاحه لها في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة. وتوفيت في سنة تسع منها. وصلى عليها أبوها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب. فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] قال لهما: أبوهما لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد. وقال أبو لهب: رأسي من رأس أمكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما.
وتزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيدة نساء العالمين، بعد وقعة أحد. وقيل إنه تزوجها بعد أن ابتنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزوجه إياها بسبعة أشهر ونصف، وكان سنها يوم تزوجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وسن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم، وزينب، ولم(3/352)
يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير. قيل: بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر. وقيل: بثمانية أشهر.
واختلف في ولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم الذكور من خديجة. فقيل: أربعة: القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله، والطيب، والطاهر. وقيل ثلاثة: القاسم وعبد الله وهو الطيب. سمي بذلك لأنه ولد في الإسلام، والطاهر. وقيل اثنان: القاسم، وعبد الله وهو الطاهر والطيب، فلعبد الله على هذا ثلاثة أسماء.
وقد حكى معمر عن ابن شهاب أن بعض أهل العلم قال: ما نعلمها ولدت له إلا القاسم، وولدت له بناته الأربع. وعاش القاسم فيما روي حتى مشى.
[فصل في ذكر أزواجه عليه السلام]
فصل في
ذكر أزواجه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللواتي لم يختلف فيهن إحدى عشرة امرأة.
أولهن خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية، من بني أسد بن عبد العزى بن قصي، وقد مضى القول فيها.
ثم سودة العامرية من بني عامر بن لؤي. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة بعد موت خديجة، وكانت تحت ابن عم لها يقال له السكران بن عروة. بنى بها بمكة في سنة عشر من الهجرة، وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وأسنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهم بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وأنت حل من شأني، فإنما أريد أن أحشر من نسائك، وإني قد وهبت يومي لعائشة وإني لا أريد ما تريد النساء. فأمسكها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى توفي عنها. فتوفيت بعده في آخر زمان عمر بن الخطاب.(3/353)
ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق التميمية القرشية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة بكرا بعد موت خديجة قبل الهجرة، قيل بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين أو سبع سنين، وابتنى بها في المدينة وهي بنت تسع سنين فأقام معها تسع سنين. وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعاشت بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمان وأربعين سنة. وتوفيت سنة سبع وخمسين، وهي بنت ست وستين سنة. ولم يكن من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تزوج بكرا غيرها.
ثم أم سلمة المخزومية، واسمها هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم. كانت قبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، فولدت له سلمة وبه كانت تكنى، وعمرو، وزينب.
فلما توفي أبو سلمة خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتزوجها سنة اثنتين من الهجرة في شوال، وابتنى بها في شوال، وقال لها: «إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ثم درت. فقالت: ثلث» . وتوفيت سنة ستين في أول خلافة يزيد بن معاوية. وقيل في رمضان من سنة تسع وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة لوصيتها بذلك. وكان والي المدينة يومئذ مروان بن الحكم، وقيل الوليد بن عقبة، ودفنت بالبقيع.
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية القرشية أخت عبد الله بن عمر لأبيه وأمه. أمها زينب بنت مظعون الجمحي. تزوجها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة ثلاث من الهجرة في شعبان. وقيل سنة اثنتين من التاريخ. وكانت قبله تحت: خنيس بن حذافة السهمي. فلما تأيمت منه خطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتزوجها، وطلقها تطليقة ثم ارتجعها، وذلك «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نزل عليه فقال له: ارتجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة» . وتوفيت حين بايع الحسن لمعاوية سنة إحدى وأربعين. وقيل سنة سبع وأربعين.
ثم زينب بنت خزيمة الهلالية العامرية. كانت تدعى في الجاهلية أم(3/354)
المساكين، وذلك- والله أعلم- لرأفتها بهم، وإحسانها إليهم. وكانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة ثلاث. ولم تلبث إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته. ولم تمت من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته غيرها وغير خديجة. وقيل إنها كانت أخت ميمونة لأمها.
ثم زينب بنت جحش الأسدية ابنة عمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من الهجرة. وكانت قبله تحت زيد بن حارثة الذي كان تبنى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي التي قال الله فيها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] . وذلك أنه لما تزوجها قال المنافقون تزوج حليلة ابنه وقد كان ينهي عن ذلك، فأنزل الله الآية المذكورة وأنزل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] . فدعي من حينئذ زيد بن حارثة، وقد كان يدعى زيد بن محمد. وكانت أول أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفاة بعده ولحوقا به، توفيت سنة عشرين في خلافة عمر في السنة التي افتتحت فيها مصر، وقيل سنة إحدى وعشرين في السنة التي افتتحت فيها الإسكندرية.
ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. اسمها رملة وهو المشهور وقيل هند. كانت تحت عبيد الله بن جحش الأسدي خرج بها مهاجرا من مكة إلى أرض الحبشة مع المهاجرين، فولدت له هناك حبيبة التي كانت تكنى بها، ثم افتتن وتنصر ومات نصرانيا. وأبت أم حبيبة أن تتنصر وأبى الله لها إلا الإسلام والهجرة، فتزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل خطبها بعد أن قدمت المدينة فزوجها إياه عثمان وهي بنت عمه، وقيل بل خطبها إلى النجاشي فتزوجها وهي بأرض الحبشة(3/355)
وهو المشهور. فولي عقد نكاحها النجاشي لأنه أسلم فكان وليها هناك، ومهرها أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى شرحبيل ابن حسنة وجهزها من عنده، ولم يبعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها شيئا وكان مهور سائر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعمائة درهم. وقيل أيضا لما أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى النجاشي في أمرها خطبها النجاشي عليه وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم، وعقد عليها خالد بن سعيد بن العاصي. وكان زواجه لها على ما ذكر في ست من تاريخ الهجرة، وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سنة أربع وأربعين.
ثم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار أحد بني المصطلق، سباها يوم المريسيع وحجبها وقسم لها، قال ذلك ابن شهاب. وقال أبو عبيدة تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة خمس من التاريخ، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين وكان اسمها برة فسماها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جويرية. وروي أنها كانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة جميلة.
قالت عائشة: «كانت جويرية امرأة عليها حلاوة وملاحة لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. قالت: فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتستعينه على كتابتها. قالت: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب الحجرة فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فقالت يا رسول الله: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت بن قيس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي وجئتك أستعينك. فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت وما هو يا رسول الله؟ قال أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت نعم. قال: قد فعلت. فخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلوا ما بأيديهم من سبايا بني المصطلق. قالت عائشة: فلم نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها» .
ثم صفية بنت حيي بن أخطب اليهودي من سبط هارون - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من سبايا خيبر، صارت في سهمانه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتقها وتزوجها في سنة سبع من الهجرة،(3/356)
وجعل عتقها صداقها، وقيل إنه اشتراها بأرؤس، وقيل إنه اصطفاها. روي عن أنس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جمع سبي خيبر جاءه دحية فقال أعطني جارية من السبي، فقال اذهب فخذ جارية، فذهب فأخذ صفية بنت حيي فقيل: يا رسول إنها سيدة قريظة والنضير ما تصلح إلا لك. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذ جارية من السبي غيرها» وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في زمن معاوية في رمضان من سنة خمسين. وكانت امرأة حسيبة جميلة عاقلة فاضلة. روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها وهي تبكي، فقال لها ما يبكيك؟ فقالت بلغني أن حفصة وعائشة تنالان مني وتقولان نحن خير من صفية نحن بنات ابن عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه، فقال لها: ألا قلت لهن كيف تكن خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ثم ميمونة بنت الحارث بن حرن الهلالية خالة عبد الله بن عباس. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة سبع في عمرة القضاء، جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل وكانت تحت العباس، فولت أم الفضل زوجها العباس فأنكحها إياه العباس، قيل قبل أن يحرم بعمرته، وقيل وهو محرم بها، وقيل بعد أن حل منها. فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج مكة ولم يمهلوه أن يبني بها فيها، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبني بها بسرف. وتوفيت- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسرف في الموضع الذي ابتنى بها فيه سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة ثلاث وستين، وقيل سنة ست وستين. فهؤلاء أزواجه اللواتي لم يختلف فيهن، فحصل العلم بنقل التواتر بهن، وهن إحدى عشرة امرأة، منهن ست من قريش: خديجة، وسودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وأربع من العرب: زينب بنت خزيمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وميمونة؛ وواحدة من بني إسرائيل وهي صفية. توفي منهن اثنتان في حياته: خديجة أول نسائه، وزينب بنت خزيمة. وتوفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التسع الباقيات على ما تقدم من ذكرهن.(3/357)
[فصل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي فارقهن]
فصل في
وأما اللواتي نقل من طريق الآحاد أنه تزوجهن ثم فارقهن فسبع نسوة، على ما ذكر علي بن المعمر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: جملة من تزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمان عشرة امرأة، وقيل بل أكثر من سبع.
فمنهن فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي. قيل إن أباها الضحاك عرضها على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال إنها لم تصدع قط، فقال لا حاجة لي بها. وقيل إنه تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أنزلت آية التخيير فاختارت الدنيا ففارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت تلقط البعر وتقول أنا الشقية اخترت الدنيا. وليس ذلك بصحيح، إذ قد قيل إنه لم يكن عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين خير أزواجه إلا التسع نسوة وهن اللواتي توفي عنهن. وقد قال جماعة: إن التي كانت تقول أنا الشقية هي التي كانت استعاذت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اختلف في المستعيذة منه اختلافا كثيرا.
ومنهن أسماء بنت النعمان من بني الجون من كندة. لم يختلفوا في أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها، واختلفوا في قصة فراقها، فقيل إنه «لما دخلت عليه دعاها فقالت تعال أنت وأبت أن تجيء؛ وقيل إنها قالت أعوذ بالله منك فقال لها: لقد عذت بمعاذ وقد أعاذك الله مني فطلقها؛» وقيل إن التي استعاذت منه إنما كانت امرأة جميلة من بني سليم تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخاف نساؤه أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يعجبه أن تقولي له أعوذ بالله منك، فقالته لما أدخلت عليه ودعاها فطلقها. وقيل بل إنما قال أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لأسماء بنت النعمان الكندي لأنها(3/358)
كانت من أجمل النساء فخفن أن تغلبهن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل إن التي استعاذت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل إن التي استعاذت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانت امرأة جميلة من سبي بني العنبر كان أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذها. وقيل إنه إنما فارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسماء بنت النعمان الكندية من أجل وضح من بياض كان بها. وقد اختلف في اسمها فقيل أميمة وقيل أمامة. ولما لحقت بأهلها خلف عليها- فيما روي- المهاجر بن أبي أمية المخزومي، ثم قيس بن مكشوح المرادي.
ومنهن العالية بنت ظبيان بن عمرو الكلابية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت عنده ما شاء الله ثم طلقها، فقال ابن شهاب: وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التي تزوجت قبل أن يحرم نساءه نكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم.
ومنهن سناء بنت أسماء بنت الصلت السلمية تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فماتت قبل أن يدخل بها، وقيل إنه طلقها قبل أن يدخل بها. وقد اختلف فيها وفي اسمها فقيل أسماء بنت الصلت وقيل غير ذلك.
ومنهن قتيلة بنت قيس بن معد يكرب الكندية أخت الأشعث بن قيس. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنة عشر ثم قبض ولم تكن قدمت عليه ولا رآها ولا دخل بها فخلف عليها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت فبلغ ذلك أبا بكر الصديق فقال: لقد هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر بن الخطاب ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب. وقيل إنها ارتدت حين ارتد أخوها بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم راجعا الإسلام، فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بارتدادها.
ومنهن أم شريك الأنصارية، تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يدخل بها لأنه كره عفرة نساء الأنصار.(3/359)
ومنهن فاطمة بنت شريح ذكرها أبو عبيدة في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة.
ومنهن هند بنت يزيد بن العرطا من بني بكر بن كلاب. ذكرها أبو عبيدة في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل هي عمرة بنت يزيد. قال ابن عبد البر: والاختلاف فيها كثير.
ومنهن الشفباء فإنها لما دخلت عليه لم تكن بالبشرة لما دخلت عليه فانتظر بها البشر ومات إبراهيم ولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بغتة ذلك، فقالت لو كان نبيا ما مات أحب الناس إليه وأعزهم عليه، فطلقها وأوجب لها المهر وحرمت على الأزواج.
ومنهن مليكة بنت داود الليثية ذكرها ابن حبيب في أزواجه اللواتي يبن بهن، ولم يذكرها ابن عبد البر في الصحابة.
ومنهن شراف بنت خليفة الكلبية، أخت دحية بن خليفة الكلبي. تزوجها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهلكت قبل دخوله بها. ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب الصحابة.
ومنهن ليلى بنت الخطيم بن عدي من بني الحارث بن الخزرج. روي «أنها أقبلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مولي ظهره الشمس فضربت على منكبه، فقال: من هذه؟ قالت: أنا ابنة مباري الريح أنا ليلى بنت الخطيم جئتك أعرض عليك نفسي فتزوجني، قال قد فعلت. فرجعت إلى قومها فقالت تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا بئس ما صنعت. أنت امرأة غيراء والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاحب أزواج استقيلي نفسك. فرجعت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت أقلني، قال قد أقلتك» .
ومنهن خولة بنت الهذيل. روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها، وقع ذلك في كتاب ابن أبي خيثمة، ولم يذكرها ابن عبد البر في كتاب الصحابة.
ومنهن ليلى بنت حكيم الأنصارية الأوسية التي وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكرها(3/360)
أحمد بن صالح المصري في أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكرها غيره فيهن علمت. قاله ابن عبد البر.
[فصل في سراري النبي صلى الله عليه وسلم]
فصل في
سراري النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتسرى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية القبطية، وهي مارية بنت شمعون، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية ومصر، فولدت له ابنه إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي في بني مازن عند مرضعته أم بردة سنة عشر وهو ابن ثمانية عشر شهرا. وقيل بل توفي وهو ابن ستة عشر شهرا. وقيل إن وفاته كانت لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر. وتوفيت مارية في خلافة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وذلك في المحرم من سنة ست عشرة وكان عمر يحشر الناس بنفسه لشهادة جنازتها، فصلى عمر عليها ودفنت بالبقيع.
وتسرى أيضا ريحانة بنت شمعون من بني قريظة، وقيل من بني النضير، والأكثر أنها قريظة، ثم أعتقها فلحقت بأهلها. وقيل إنه تزوجها ثم فارقها، وقيل بل مات عنها وهي زوجة، وقيل ماتت قبل وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويقال إن وفاتها كانت سنة عشر مرجعه من حجة الوداع. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثني أنه كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ولائد: مارية القبطية، وريحانة من بني قريظة، وجارية أخرى جميلة أصابها في السبي فكادها نساءه وخفن أن تغلبهن عليه. وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب بنت جحش، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيي، فلما رضي عنها ودخل عليها وهبتها له، وذلك في الشهر الذي قبض فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فيتحصل من جملة ما ذكر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإحدى عشرة امرأة اللواتي لم يختلف فيهن ونقل التواتر أمرهن خمس عشرة امرأة، والله تعالى أعلم.(3/361)
[فصل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم]
فصل في
صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما روي وجاءت به الآثار أنه كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، فكان طوله على ما وصف به من هذا طولا وسطا حسنا غير معيب، ضخم الرأس كثير شعره، رجلا غير سبط، وجعدا غير قطط، كأنه زهرة بالمشط قد رجل ومشط، كث اللحية توفي وفي عنفقته شعرات بيض، أزهر اللون أبيض مشوب بحمرة، في وجهه تدوير، أدعج العينين عظيمهما تشوبهما حمرة، أهدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين، جليل المشاش وهي رؤوس العظام، ذو مسربة وهي شعرات تتصل بالصدر إلى السرة. إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا. بين كتفيه خاتم النبوءة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[فصل في أخلاقه عليه السلام]
فصل في
أخلاقه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أما أخلاقه فلا يحصى الحسن منها كثرة. منها أنه أجود الناس كفا، وأوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويكفي من ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
وقد «سئلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن خلقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: كان خلقه وأمره القرآن واتباعه تريد أنه كان يعفو ويصفح ويحسن ويعرض عن الجاهلين، لقول(3/362)
الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] » وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] . وروي عنها أنها قالت: «ما ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادما ولا امرأة قط، ولا خير في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه من شيء يؤذى به إلا أن تنتهك لله حرمة فينتقم لله» لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] وقوله في الزناة: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] وقوله في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] الآية إلى قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] ولقد أحسن صاحبنا الفقيه أبو العباس في قوله في قصيدة له حيث قال:
يأيها المتعاطي وصف سؤدده ... لا تعرضن لكيل البحر بالغمر
فإنه كان مفطورا على شيم ... معدومة المثل لم يخلقن في البشر
[فصل في أسمائه عليه السلام]
فصل
في أسمائه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأما أسماؤه فكثيرة. ذكر مالك في موطئه عن ابن شهاب عن محمد بن جبير(3/363)
ابن مطعم «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، يريد يتبعوني، وأنا العاقب» . وليس في قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لي خمسة أسماء دليل على أنه لا أسماء له غيرها، إذ لا ينتفي عنه بذكر بعض أسمائه وإن ذكر عددها سائرها. وهذا كما تقول: في فلان ثلاث خصال وهي كذا وكذا، فلا ينتفي أن تكون له خصال سواها؛ لأن أسماءه هذه الخمسة مشتقة عن صفاته، فلا يمتنع أن يكون له أسماء سواها مشتقة من صفاته. بل قد جاء ذلك، فروي هذا الحديث من رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه وزاد فيه: وقد سماه الله رؤوفا رحيما. وروي أيضا في أسمائه المقفي، ونبي التوبة، ونبي الملحمة. وسماه الله عز وجل خاتم النبيئين. وجائز أن ينضاف إلى هذه الأسماء المروية سواها مما هو مشتق من صفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن هذه أيضا مشتقة من صفاته: محمد وأحمد من الحمد، والماحي من أن الله يمحو به الكفر كما قال في الحديث، ويمحو به ذنوب من تبعه. والحاشر من أن أمته تنحشر إليه يوم القيامة وتتبعه فتكون قدامه وخلفه وعن يمينه وشماله. والعاقب من أنه آخر الأنبياء. والمقفي أنه قفا من قبله من الأنبياء. وخاتم النبيين مثله في المعنى. وسمي نبي التوبة لأن الله تعالى تاب به على من تاب من عباده. وسمي نبي الملحمة لأنه بعث بالقتال على الدين. والحمد لله رب العالمين.
[فصل في سنه عليه السلام يوم نبأه الله عز وجل]
فصل في
سنه- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يوم نبأه الله عز وجل ونبأه الله- عز وجل- وهو ابن أربعين سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، اختلفت الرواية في ذلك عن ابن عباس.(3/364)
[فصل في مراحل دعوته عليه السلام]
فصل
وكان أول ما بعثه الله به الدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه، ولا جزية أحلها له، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين، وهي التي أقام بمكة، أو ثلاث عشرة سنة، وحينئذ أنزل الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] وقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتله، وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] .
فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة، وذلك بعد ثمان من الهجرة، فأمر الله تعالى بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، إلا من كان له عهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/365)
فإن الله أتمه له إلى مدته فقال عز وجل: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] .
فصل فلما بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن أربعين سنة أو ابن ثلاث وأربعين سنة على ما ذكر من ذلك، أسر أمره ثلاث سنين أو نحوها لم يعلن فيها بالدعاء إلى الإسلام، ثم أمره الله عز وجل بإظهار دينه والإعلان بالدعاء إلى الإسلام فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فمعنى قوله: وإن لم تفعل أي إن لم تعلن بالدعاء إلى الإسلام فقد بلغت حق التبليغ، ولا تحذر في ذلك أمر الناس فإن الله يعصمك منهم. وقال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] الآية. فلما أعلن بالدعاء إلى الإسلام كما أمره الله عز وجل وسفه أحلام قريش في عبادتهم الأصنام التي لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، نابذوه وأرادوا قتله، وأقبلوا بالعذاب على من آمن منهم والإذاية لهم. فلم يزل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جوار عمه أبي طالب إلى أن توفي في شوال من السنة الثامنة من مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو التاسعة منه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم فقالوا إلى أين؟ قال إلى هنا" وأشار إلى أرض الحبشة،» فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بنفسه، ومنهم من هاجر بأهله حتى قدموا أرض الحبشة، وأقام بمكة من كان له من عشيرته الكفار منعة.
فلما رأت قريش أن الإسلام يفشو وينتشر اجتمعوا فتعاقدوا على بني هاشم، وأدخلوا معهم بني المطلب من بني عبد مناف، ألا يكلموهم ولا يجالسوهم ولا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقتلوه، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة. فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب من بني عبد مناف(3/366)
كلهم كافرهم ومؤمنهم، المؤمن دينا والكافر حمية، فصاروا في شعب أبي طالب محصورين مبعدين مجتنبين حاشى أبي لهب وولده صاروا مع قريش على قومهم، فبقوا كذلك ثلاث سنين إلى أن جمع الله قلوب قوم من قريش على نقض ما كانت قريش تعاقدت فيه على بني هاشم من بني المطلب من بني عبد المناف. وأعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمه أبا طالب أن الله عز وجل قد بعث الأرضة على صحيفتهم فلحست كل ما كان فيها من عهد لهم وميثاق واسم الله، ولم تترك فيها إلا ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة. وقيل إنه إنما أعلم عمه أبا طالب بأن الأرضة لحست ما كان في الصحيفة من شركهم وظلمهم ولم تترك فيها إلا اسم الله تعالى. فقال أبو طالب لما أخبره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه الله عليه من ذلك: لا والثواقيب ما كذبتني، فانطلق في عصابة من بني عبد المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون من قريش، فلما رأتهم قريش في جماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برمته إلى قريش. فتكلم أبو طالب فقال قد حدثت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها. فأتوا بها معجبين لا يشكون في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدفع إليهم، فوضعوها إليهم وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله إليها دابة فلحست منها كذا وكذا ولم تترك فيها إلا كذا وكذا، فإن كان الحديث كما يقول فأقيموا فلا والله لا أسلمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. فقالوا قد رضينا بالذي تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح. فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وتلاوم منهم قوم وقالوا هذا بغي منا على قومنا، ومشوا في نقض الصحيفة حتى نقضوها.(3/367)
[فصل في بيعة العقبة والهجرة إلى المدينة]
فصل في
وأقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة مع من بقي معه ممن أسلم ولم يهاجر إلى أرض الحبشة صابرا على أذى قومه إلى أن بايع الأنصار بالعقبة. وذلك أنه لقي منهم ستة نفر عند العقبة بالموسم فدعاهم إلى الإسلام، وكان من صنع الله لهم أنهم كانوا جيران اليهود فكانوا يسمعونهم يذكرون أن الله يبعث نبيا قد أظل زمانه. فقالوا هذا والله الذي تهددنا يهود به فلا يسبقنا أحد، فآمنوا وبايعوا وانصرفوا إلى المدينة ودعوا إلى الإسلام حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قدم في العام المقبل إلى الموسم اثنا عشر رجلا من ساداتهم، وهم النقباء، فبايعوا رسول الله عند العقبة، وبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير ليعلما من أسلم منهم القرآن وشرائع الإسلام ويدعوا من لم يسلم منهم إلى الإسلام. فلما كان في العام الثالث قدم منهم نفر كثير ممن أسلم، فبايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأن يرحل إليهم. فلما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت سرا من كفار قريش وكفار قومهم، أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا.
قيل إن أول من خرج منهم أبو سلمة بن عبد الأسد، وحبست عنه امرأته أم سلمة نحوا من سنة ثم أذن لها باللحاق بزوجها فلحقت به، ولم يبق مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة من أصحابه إلا أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، أقاما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمره، وحبس قوم من أصحابه عن الهجرة كرها، منعهم قوم من الكفار فكتب لهم أجر المهاجرين.
فلما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة وقد دخل أهلها في الإسلام قالوا: هذا شيء شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج. فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يعمي عليهم أمره(3/368)
فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض. فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم أن ليس في الدار ديار، فعلموا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فات ونجا. «وكان أبو بكر يستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الهجرة فيقول له: "لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا" فرجا أبو بكر أن يكون هو، فابتاع راحلتين فأعدهما لذلك. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخطئه أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار.
فلما كان يوم أذن الله له بالهجرة أتى أبا بكر بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر قال ما جاء هذه الساعة إلا من حدث. فلما دخل تأخر له عن سريره فجلس، فأعلمه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الله قد أذن له في الهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال الصحبة. فبكى أبو بكر فرحا وأعلمه استعداده الراحلتين لذلك» فبعثهما مع عبد الله بن أرقط يرعاهما، ولم يعلم أحد خبر الهجرة إلا أبو بكر وعلي وآل أبي بكر. وأمر عليا أن يتخلف بعده ليرد الودائع التي كانت عنده، ثم خرج هو وأبو بكر من خويخة في ظهر بيته إلى غار ثور، وهو جبل بأسفل مكة، فدخلاه ليلا، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يسمع ما يقول الناس ثم يأتيهما إذا أمسيا بما يكون، وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه ثم يريحها إلى الغار إذا أمسى. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام إذا أمست. فأقاما في الغار ثلاثة أيام، وجعلت قريش فيه مائة ناقة، حتى إذا سكن الناس عنهما بعد ثلاث أتاهما ذلك الذي استأجراه بالراحلتين، وأتت أسماء بالسفرة ونسيت أن يجعل لها عصاما، فجعلت نطاقها فسميت ذات النطاقين. ويقال شقت نصفه للسفرة وانتطقت بنصفه. وركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الراحلتين ولم يأخذها إلا بالثمن، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما في الطريق، ودليلهما عبد الله بن أرقط.
قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - دليلهما رقيط وكان كافرا، وقال موسى بن عقبة اسمه أريقط. واتبعهما سراقة بن خشعم على فرس له لما جعل المشركون في رده مائة ناقة. قال فلما بدا لي القوم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، فعلمت حين رأيت ذلك أنه قد(3/369)
منع مني وأنه ظاهر، فناديتهم أنا سراقة فانتظروني أكلمكم والله لا أربيكم. فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي بكر: قل له ما تريد؟ فسألني فقلت: تكتب لي كتابا، فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو رقعة ثم ألقاه إلي. فلقيته به يوم فتح مكة وهو بالجعرانة. فنزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقباء يوم الاثنين لهلال شهر ربيع الأول في حرة بني عمرو بن عوف من الأنصار على سعد بن خيثمة، ويقال على كلثوم بن الهدم. ولم يختلفوا أنه نزل بالمدينة على أبي أيوب، واسمه خالد بن زيد، فأقام عنده حتى ابتنى مسكنه ومسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا وركب من بني عمرو يوم الجمعة، فنزل على بني سالم وصلى فيهم الجمعة. ويقال إنه أقام في بني عمرو ثلاث ليال. وقال ابن شهاب وغيره: أقام في بني عمرو بضعة عشر يوما ثم ركب.
[فصل في ذكر الأحداث والغزوات بعد هجرته عليه السلام للمدينة]
فصل والتاريخ محسوب من قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة.
ففي السنة التي بنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجد قباء. وقيل إنه هو المسجد الذي قال الله فيه إنه أسس على التقوى. وقيل بل هو مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الصلاة، وقد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفيها بنى بعائشة في شوال على رأس ثمانية أشهر من قدومه المدينة.
وفيها تزوج علي فاطمة، ويقال في السنة الثانية على رأس اثنين وعشرين شهرا من قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة.(3/370)
[فصل في ذكر أحداث السنة الثانية]
ثم كانت السنة الثانية ففيها كانت غزوة الأبواء في صفر منها، وهي غزوة ودان، غزاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المهاجرين خاصة، وهي أول غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج فوادع بني ضمرة بن عبد مناف، ثم رجع ولم يلق كيدا.
وفيها كان بعث حمزة بن عبد المطلب، بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من كفار أهل مكة، فحجر بينهم مجدي بن عمرو الجهني وتوادع الفريقان ولم يكن بينهم قتال.
وفيها كان بعث عبيدة بن الحارث، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فنهض حتى بلغ أبنى وهي ماء بأسفل ثنية المرة من الحجاز، فلقي جمعا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص كان في ذلك البعث فرمى فيهم بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله. واختلف أهل السير في هذين البعثين أيهما كان قبل صاحبه.
وفيها كانت غزوة بواط، خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلع بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة العشيرة خرج النبي حتى بلغ العشيرة فوادع فيها بني مدلج، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بدر الأولى، أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة،(3/371)
فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بلغ سفوان في ناحية بدر وفاته كرز فرجع إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كان بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، قيل في طلب كرز بن جابر، فبلغ الحرار ثم رجع.
وفيها كان بعث عبد الله بن جحش، بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمانية من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين. والخبر فيما جرى فيه طويل قد ذكرته في الجزء الرابع من جامع كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية، فاكتفيت بذكره هناك لمن أحب الوقوف عليه.
وفيها كانت غزوة بدر الثانية التي أعز الله بها الدين، وذكرها الله عز وجل في محكم التنزيل. والخبر فيما جرى فيها طويل قد ذكرت عيونه في الجزء الرابع من كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية.
وفيها كانت غزوة بني سليم، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد سبعة أيام من منصرفه من بدر يريد بني سليم، فبلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليها ثلاثة أيام ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة السويق. وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف قبل بدر ندب إلى غزو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج في مائتي راكب حتى أتى العريض في طرف المدينة فحرق أصولا من النخل وقتل رجلا من الأنصار وحلفا له وجدهما في حرث لهما ثم كر راجعا. فنفر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونفر المسلمون في أثره، وبلغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان والمشركون وقد طرحوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون بذلك، فأخذه المسلمون فسميت غزوة السويق.(3/372)
وفيها ولد عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود ولد بالمدينة من المهاجرين.
وفيها صرفت القبلة قبل بدر بشهرين، قيل يوم الثلاثاء والناس في صلاة الظهر في النصف من شعبان.
وفيها في شعبان فرض صيام شهر رمضان.
وفيها أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر.
وفيها ماتت رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتخلف عثمان عن بدر من أجلها، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهمه.
[فصل في ذكر أحداث السنة الثالثة]
ثم كانت السنة الثالثة، ففيها كانت غزوة ذي أمر في صفر منها غزا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نجدا يريد غطفان، فأقام- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بنجد صفرا كله ثم انصرف ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بحران في ربيع الآخر منها. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة ربيع الأول، ثم غزا قريشا فبلغ بحران معدنا بالحجاز، فأقام هنالك ربيع الآخر وجمادى الأولى ثم انصرف إلى المدينة ولم يلق حربا.
وفيها كانت غزوة بني قينقاع وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة وادعته اليهود وكتب بينه وبينهم كتابا وألحق كل قوم بحلفائهم، وشرط عليهم فيما اشترط ألا يظاهروا عليه أحدا. فنقض بنو قينقاع من اليهود عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج إليهم وحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فشفع فيهم عبد الله ابن أبي سلول ورغب في حقن دمائهم وألح على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأشفعه فيهم وحقن دماءهم، وهم قوم عبد الله بن سلام. وكان حصاره لهم خمس عشرة ليلة.
وفيها كان «البعث إلى كعب بن الأشرف. وذلك أنه لما اتصل به قتل صناديد قريش ببدر قال: بطن الأرض خير من ظهرها، ونهض إلى مكة يرثي كفار قريش(3/373)
ويحرض على قتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان شاعرا. ثم انصرف إلى موضعه فلم يزل يؤذي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهجو والدعاء إلى خلافه ويسب المسلمين حتى أذاهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من لي بكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله والمؤمنين فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أنا أقتله إن شاء الله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك» فكان من خروجه إليه وتلطفه في قتله بما أذن له فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من القول ما هو مذكور في السير.
وفيها كانت غزوة أحد من المشاهد العظام. والخبر فيها وفي سببها طويل وقد ذكرت ذلك باختصار في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاكتفيت بذلك عن ذكره هاهنا كراهة التطويل.
وفيها كانت غزوة حمراء الأسد في اليوم الثاني من وقيعة أحد.
وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باتباع العدو، فخرج الناس إلى موضع يدعى بحمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة، فأقام فيه يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة. ولما بلغ العدو خروجه في اتباعهم فت ذلك في أعضادهم، وقد كانوا هموا بالرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك وتمادوا إلى مكة.
وفيها في رمضان منها تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت خزيمة من بني عامر ابن صعصعة، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة.
وفيها في شعبان منها تزوج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وفيها تزوج عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أم كلثوم ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفيها ولد الحسن بن علي بن أبي طالب في النصف من شهر رمضان.
وفيها علقت فاطمة بالحسين، فلم يكن بينه وبين الحسن إلا طهر واحد، وقيل خمسون ليلة، والله تعالى أعلم.(3/374)
[فصل في ذكر أحداث السنة الرابعة]
أثم كانت السنة الرابعة ففيها كان بعث النفر الذين كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بهم مع عضل والقارة فغدروا بهم في الرجيع.. وذلك أنه قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صفر منها، وهو آخر السنة الثالثة من الهجرة، نفر من العضل والقارة، فزعموا أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين. فبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم من أصحابه ستة رجال وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم. وقد ذكرت جملة الخبر بذلك مختصرا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاختصرت ذكره هنا مخافة التطويل.
وفيها في شهر صفر منها كان بعث بئر معونة. وقد ذكرنا سببه وما جاء فيه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية فاختصرت ذكره هنا مخافة التطويل.
وفيها في شهر ربيع الأول منها كانت غزوة بني النضير، غزاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتحصنوا منه ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها، فألقوا ما بأيديهم وسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا ذلك إلى خيبر، ومنهم من صار إلى الشام. وقد ذكرنا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية سبب هذه الغزوة وبقية خبرها فاكتفينا بذلك عن ذكره هنا حرصا على التقريب والاختصار.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع في جمادى الأولى منها خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخمس خلون من الشهر يريد بني محارب بن ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلة، فلقي بها جمعا من غطفان وتقارب الناس ولم يكن بينهم قتال. وصلى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف ثم انصرف.(3/375)
وسميت ذات الرقاع لأن أقدامهم تثقبت فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل بل قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا راياتهم فيها، وقيل ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع تدعى بذات الرقاع، وقيل بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حمرة وصفرة وسواد فسموا غزوتهم بذات الرقاع لذلك والله أعلم.
وفيها كانت غزوة بدر الثالثة في شعبان منها. وذلك أن أبا سفيان كان نادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض أصحابه أن يجيبه بنعم. فخرج للميعاد المذكور ونهض حتى أتى بدرا فأقام هنالك ثماني ليال ينتظر أبا سفيان ابن حرب. وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان ثم رجع واعتذر هو وأصحابه بأن العام عام جدب.
وفيها بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق. وفيها بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سيف البحر فرجع ولم يلق كيدا.
[فصل في ذكر أحداث السنة الخامسة]
ثم كانت السنة الخامسة. ففيها في ربيع الأول منها كانت غزوة دومة الجندل. خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دومة الجندل وانصرف من طريقه قبل أن يبلغ إليها ولم يلق حربا.
وفيها في شوال منها كانت غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب التي ذكرها الله في كتابه في سورة الأحزاب فقال فيها: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا - وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 25 - 26] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27] يريد بني قريظة، وقد ذكرنا سببها وجملا مما جرى فيها في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية.(3/376)
وفيها كانت غزوة بني قريظة. وذلك «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أصبح وقد ذهبت الأحزاب رجع إلى المدينة ووضع الناس سلاحهم عند صلاة الظهر، أتاه جبريل في صفة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة فقال: إن كنتم وضعتم سلاحكم فإن الملائكة لم تضع سلاحها، والله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم. فنادى منادي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان سميعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة. فحاصرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى النساء والذراري. فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالهم حيي بن أخطب، وكعب بن سعد في ستمائة أو سبعمائة استنزلهم ثم قتلهم بالمدينة واصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته» .
وروي عن عائشة أنها قالت إن كانت لعندي تضحك وتحدث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقتل رجالهم إذ هتف هاتف أين فلانة؟ قالت: أنا والله وإني لمقتولة. قلت ويلك ولم؟ قالت لحدث أحدثته، فانطلق بها فضرب عنقها.
وفيها كان البعث إلى ابن أبي الحقيق. وذلك أنه لما انقضى شأن الخندق وقريظة تذاكرت الخزرج من في العداوة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كابن الأشرف الذي قتله محمد بن مسلمة حتى لا ينفرد الأوس دوننا بمثل تلك المنقبة، فذكروا ابن أبي الحقيق واستأذنوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتله فأذن لهم، فخرجوا إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة، وطرقوه في بيته بخيبر ليلا فقتلوه. وقد ذكرنا أسمائهم وبقية خبرهم في قتلهم إياه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية.
[فصل في ذكر أحداث السنة السادسة]
ثم كانت السنة السادسة، ففيها في جمادى الأولى منها كانت غزوة بني(3/377)
لحيان. خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مطالبا بثأر عاصم بن ثابت وحبيب بن عدي وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فتمادى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مائتي راكب حتى نزل عسفان، وبعث فارسين من أصحابه بلغا كراع الغميم ثم كرا، ورجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة. وفي هذه الغزوة قالت الأنصار: المدينة بائنة عنا وقد بعدنا عنها ولا نأمن عدونا أن يخالفنا إليهم، فأخبرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أنقابها ملائكة، على كل نقب منها ملك يحجبها بأمر الله.
وفيها كانت غزوة ذي قرد. «لما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوة بني لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليالي وأغار على سرح المدينة عيينة بن حصن في بني عبد الله بن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغابة وناقته العضباء، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري وحملوا المرأة واللقاح. وكان أول من أنذرهم سلمة بن الأكوع كان ناهضا إلى الغابة، فلما أشرف على ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار فصاح وأنذر المسلمين، ووقعت الصيحة بالمدينة، فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس لأبي طلحة وقال: "إن وجدته لبحرا". وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يقال له ذو قرد، فأقام عليه يوما وليلة. ولما نام القوم في ليلة قامت امرأة الغفاري المقتول فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضباء فإذا هي ناقة ذلول، فركبتها ونذرت إن أنجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة عرفت ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر بذلك، فأرسل إليها فجيء بها وبالمرأة، فقالت يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس ما جازيتها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم؛ وأخذ ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وفيها كانت غزوة بني المصطلق. غزاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأغار عليهم وهم غارون على(3/378)
ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل، فقتل من قتل وسبى النساء والذرية. وقيل إنهم جمعوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأرادوه، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع فاقتتلوا فهزمهم الله. والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون. ومن ذلك السبي كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فأدى عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجها. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ما رأيت أعظم بركة منها على قومها، ما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسلم سائر بني المصطلق.
وفي هذه الغزوة أنزلت آية التيمم، وفيها قال أهل الإفك في عائشة ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا في كتابه. وفيها قال عبد الله بن أبي بن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] . وقد ذكرنا الحديث في ذلك بكماله، وحديث الوليد بن عقبة حين وجهه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم بعد إسلامهم بعامين مصدقا وما كان من شأنه معهم، وأن الله أنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] وكل ذلك في الجزء الرابع من شرح الجامع من العتبية لمن أحب الوقوف على ذلك. وقد قيل في هذه الغزوة إنها كانت قبل الخندق وقريظة، والصواب أنها كانت بعدهما.
وفيها كانت عمرة الحديبية. والحديث فيما جرى فيها طويل، وقد ذكرته بكماله في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية، وبينا في أول سماع ابن القاسم من شرح كتاب التجارة إلى أرض الحرب منها معنى ما وقع في المقاضاة بينه وبين كفار قريش من الشرط في أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم لمن أحب الوقوف على ذلك.(3/379)
وفي هذه الغزاة كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة التي قال الله تعالى فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، يريد فتح مكة، {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] يريد مغانم خيبر.
وفيها كان بعث بشير بن سعد بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ناحية خيبر فرجع ولم يلق كيدا.
وفيها كان بعث كعب بن عمير إلى ذات الطلاح من أرض الشام، فقتل هو وأصحابه، وقيل قتل أصحابه وسلم هو جريحا، قتلتهم قضاعة.
وفيها استسقى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجهد أصاب الناس.
وفيها أوقف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبعة حوائط له.
وفيها توفيت أم رومان امرأة أبي بكر ونزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبرها.
وفيها اتخذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتما، وإنما اتخذه حين بعث الرسل فقيل له إن العجم لا تقرأ إلا كتابا مختوما فاتخذه. وكان نقش فصه محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقيل لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[فصل في ذكر أحداث السنة السابعة]
ثم كانت السنة السابعة.
ففيها كانت غزوة خيبر. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة، وخرج في المحرم إلى خيبر، وافتتحها في صفر، ورجع(3/380)
في غرة ربيع الأول. وكانت حصونا كثيرة فافتتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، ثم القموص حصن ابن أبي الحقيق، ومن سباياه كانت «صفية أعتقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتزوجها وجعل عتقها صداقها» . واختلف أهل العلم في ذلك، وهي مسألة قد ذكرنا تحصيل القول فيها في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح من شرح العتبية. وآخر ما افتتح من حصونهم الوطيح والسلالم. حاصرهم بضع عشرة ليلة فسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسيرهم ويحقن دمائهم ففعل. فقيل في هذين الحصنين إنهما افتتحا بصلح فلم يكن فيهما خمس ولا كان لأحد فيهما مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء، فقطع لأزواجه منهما. وكذلك الكتبية قيل فيها إنها كانت صلحا صافية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبني النضير وفدك، وقيل إنها كانت عنوة كلها. وقد ذكرنا الاختلاف في ذلك وفي حكم أرض العنوة في سماع أشهب من كتاب الجهاد من شرح العتبية وذكرنا في الجزء الرابع من شرح الجامع منها جملا مما جرى في افتتاحها.
وفي هذه الغزوة حرم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية.
وفيها «أهدت اليهودية زينب بنت سلام بن مشكم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشاة المصلية، وسمت له منها الذراع وكان أحب اللحم إليه. فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها وقال: هذا العظم يخبرني أنه مسموم ودعا باليهودية فقال ما حملك على هذا فقالت أردت أن أعلم إن كنت نبيا وعلمت أن الله أراد بقاءك أعلمك فلم يقتلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكل معه بشر بن البراء بن معرور فمات من أكلته تلك» . وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة رجل ومائتي فارس.
وفيها كان فتح فدك وذلك أنه لما اتصل بأهلها ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأهل خيبر بعثوا إليه ليؤمنهم ويتركوا الأموال، فأجابهم إلى ذلك. فكانت فدك مما لم(3/381)
يوجف عليه بخيل ولا ركاب أفاءها الله عز وجل على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بما خصه به من الرعب، فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله تعالى.
وفيها كان فتح وادي القرى. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من خيبر فافتتحها عنوة وقسمها، وأصيب بها غلام أسود يسمى مدعم بسهم غرب فقتله. والحديث بذلك في الموطأ بكماله.
وفيها كانت عمرة القضاء. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من خيبر إلى المدينة فأقام فيها شهري ربيع وشهري جمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال، وبعث في خلال ذلك السرايا. من ذلك غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من مشارف الشام. وقد ذكرنا في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية بعض ما جرى في هذه الغزوة. ثم خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذي القعدة قاصدا إلى مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية. فلما اتصل ذلك بقريش خرج أكابرهم من مكة عداوة لله ولرسوله- عَلَيْهِ السَّلَامُ - ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه. فدخل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة وأتم الله له عمرته، وقعد بعض المشركين بقعيقعان ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل ليرى المشركون أن بهم جلدا وقوة، وكانوا قد قالوا في المهاجرين إن حمى يثرب قد وهنتهم. وتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وهي خالة عبد الله بن عباس، وأختها أم الفضل عند العباس قيل قبل أن يحرم بعمرته، وقيل وهو محرم بها، وقيل بعد أن حل منها. فلما تمت الثلاثة الأيام أوصت إليه قريش أن يخرج عن مكة ولم يمهلوه أن يبني بها، فخرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنى بها بسرف.
وفيها «بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم الفرس بكتاب فمزقه فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مزق الله ملكه فأجيبت دعوته» .(3/382)
وفيها بعث دحية الكلبي إلى قيصر عظيم الروم بكتابه.
وفيها بعث زيد بن حارثة إلى من عرض لدحية في خمسمائة راكب.
وفيها بعث عبد الله بن حدرد الأسلمي ورجلين معه إلى الغابة على ثمانية أميال من المدينة، لما بلغه أن رفاعة قيس يريد أن يجمع جيشا لحرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فكمنوا له ورماه عبد الله بن حدرد بسهم فقتله.
وفيها كانت غزوة زيد بن حارثة إلى الطرف من ناحية طريق العراق فرجع ولم يلق كيدا.
وفيها اتخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر، ويقال في سنة ثمان. قال مالك: عوده من طرفاء الغابة عمله له غلام لسعد بن عبادة، وقيل غلام لامرأة من الأنصار. وقيل غلام للعباس بن عبد المطلب، فلعلهم اجتمعوا كلهم على عمله. فلما خطب عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حن الجذع الذي كان يقف عليه حين يخطب حتى ارتج المسجد، فوضع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده عليه فسكن.
[فصل في ذكر أحداث السنة الثامنة]
ثم كانت السنة الثامنة. ففيها كانت غزوة مؤتة. بعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جمادى الأولى منها كان بعث الأمراء إلى الشام وأمر على الجيش زيد بن حارثة مولاه، وقال إن قتل أو قال إن أصيب فعلى الناس جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، وشيعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وودعهم ثم انصرف، ونهضوا فلما بلغوا مكانا من أرض الشام أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم نزل في ناحية البلقاء وهو في مائة ألف من الروم ومائة ألف أخرى من متنصرة العرب أهل البلقاء من لخم وجذام وقبائل قضاعة فصمموا ونهضوا وقالوا إن هي إلا إحدى الحسنيين بعد أن كانوا توقفوا وهموا أن يكتبوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما اتصل بهم من جموع الروم. فالتقوا بهم بقرية يقال لها مؤتة،(3/383)
فقتل الأمراء الذين سماهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا بعد واحد، ثم اتفق المسلمون على خالد بن الوليد فأخذ الراية وانحاز بالمسلمين قيل بعد أن فتح الله عليه وأنذر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه بالمدينة بخبرهم في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بأيام.
وفيها كانت غزوة فتح مكة. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى ورجب، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية. والخبر بذلك وسائر ما جرى في الغزوة يطول، وقد ذكرنا جملة ذلك باختصار في الجزء الرابع من جامع كتاب البيان في شرح العتبية لمن أحب الوقوف عليه.
وفيها كانت غزوة حنين. والخبر فيها يطول ذكره. وقد ذكرنا أيضا في الجزء المذكور من جامع كتاب البيان في شرح العتبية فمن أحب الوقوف عليه تأمله هناك.
وفيها كانت غزوة الطائف. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من حنين إلى الطائف، لم ينصرف إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء. فسلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريقه إلى الطائف على الجعرانة، ثم أخذ على قرن، وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بن عوف النصري فأمر بهدمه. ثم نزل- عَلَيْهِ السَّلَامُ - بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف وحاربهم المسلمون. وحصن ثقيف لا مثل له في حصون العرب. فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين يوما. وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنصب المنجنيق على الطائف، وأمر بقطع أعناب أهلها إلا قطعة كانت للأسود بن(3/384)
مسعود ولابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها فكف عنها. ولما انصرف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الطائف إلى الجعرانة على مقربة من حنين قسم الغنائم هناك. وقد ذكرنا بقية ما جرى في هذه الغزوة أيضا في الجزء الرابع من كتاب البيان في شرح جامع العتبية، فتركت ذكره هنا اختصارا.
وفيها اعتمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجعرانة. وذلك أنه لما أتى على قسمة الغنائم بها خرج منها إلى مكة معتمرا، وأمر ببقاء الفيء فخمس بناحية الظهران. فلما فرغ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عمرته استخلف على مكة عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة، وكان خروجه منها لعشر خلون من رمضان فكانت مدة مغيبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وأوقع بهوازن بحنين وحارب الطائف واعتمر إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وأربعة عشر يوما.
وانهزم يوم حنين مالك بن عوف رئيس جيش المشركين، فلحق بانهزامه بالطائف كافرا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أتاني مسلما لرددت إليه أهله وماله» فبلغه ذلك فلحق برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرج من الجعرانة، فأسلم وأعطاه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم، وهو أحدهم ومعدود فيهم، واستعمله على من أسلم من قومه ومن قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حاشا عيينة بن حصن فلم يزل مغمورا عليه وسائر المؤلفة متفاضلين، منهم الفاضل المجمع على فضله كالحارث ابن هشام، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، ومنهم دون ذلك. وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض وهو أعلم بهم.
وأقام الحج للناس عتاب بن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وكان خيرا فاضلا ورعا.(3/385)
[فصل في ذكر أحداث السنة التاسعة]
ثم كانت السنة التاسعة. ففيها تسارع الناس إلى الإسلام.
وفيها كانت غزوة تبوك بعد فتح مكة، وهي جيش العسرة. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من عمرته بعد فتح مكة وغزوة حنين وحصار الطائف أقام المدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وخرج في رجب في سنة تسع بالمسلمين إلى غزو الروم، وهي آخر غزوة غزاها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنفسه. وكان خروجه إليها في حر شديد حين طاب أول التمر وفي عام جدب. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكاد يخرج غازيا إلى وجه إلا ورى بغيره إلا غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة ونفقة المال والمشقة وقوة العدو المقصود إليه. والخبر في ذكرها وما جرى يطول، وقد ذكرنا منه عيونه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية.
وفيها كان إسلام ثقيف. وقد ذكرنا الخبر بذلك أيضا في الجزء المذكور من شرح الجامع.
وفيها كانت حجة أبي بكر الصديق. وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما انصرف من تبوك أراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت عراة فلا أحب الحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر، ثم أردفه عليا لما أنزلت براءة ليقرأها على الناس بالموسم، وينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج. فأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر. ثم حج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عام قابل حجة الوداع، ولم يحج من المدينة غيرها. فوقعت حجة رسول(3/386)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العام المقبل في ذي الحجة فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» الحديث فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، ولم يحج بعد العام مشرك ولا طاف بالبيت عريان.
وفيها وفي سنة عشر بعدها قدمت وفود العرب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدخول في الإسلام. وذلك أنه لما فتح الله على رسوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكة وأظهره يوم حنين وانصرف من تبوك وأسلمت ثقيف، أقبلت إليه وفود العرب من كل جهة يدخلون في دين الله أفواجا، وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل ومرثد بن قيس في وفد بني عامر، ومسيلمة في وفد بني حنيفة. وقد ذكرنا خبرهم في الجزء الرابع من شرح الجامع من العتبية.
[فصل في ذكر أحداث السنة العاشرة]
ثم كانت السنة العاشرة. ففيها كانت حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل عليه ذو القعدة منها تجهز للحج وأمر الناس بالحج، وخرج لخمس بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، وقيل: سباع بن عرفطة الغفاري ولم يحج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسلام إلا ثلاث حجات، اثنتان بمكة، وواحدة بعد فرض الحج من المدينة. ومن أحسن حديث في صفة حجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأتمه حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجه أصحاب الحديث الصحيح مسلم وغيره، وقطعه مالك في موطأه فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذلك فعل البخاري. وقد ذكرنا الحديث بطوله في كتاب الحج من هذا الكتاب كتاب المقدمات.
وفيها قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمال من البحرين مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم فقسمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الناس.
وفيها بعث عليا إلى اليمن، قيل: مفقها في الدين، وقيل: لقبض الصدقات من(3/387)
العمال وليوافي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، فوافاه فيها ببدنة. وسميت حجة الوداع؛ لأنه ودعهم، وسميت حجة البلاغ؛ لأنه قال في خطبته فيها: «ألا هل بلغت» وسميت حجة الإسلام لأنها الحجة التي كان فيها حج أهل الإسلام ليس فيها مشرك.
وفيها بعث عيينة بن حصن إلى بني العنبر، وبعث عليا إلى اليمن، وبعث أسامة بن زيد إلى الداروم.
[فصل في ذكر أحداث السنة الحادية عشرة]
ثم كانت السنة الحادية عشر.
ففيها توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، في الوقت الذي دخل فيه المدينة في هجرته إليها من مكة. بدأ به وجعه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في بيت ميمونة بنت الحارث يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، ثم انتقل إلى عائشة فمرض عندها، وكان موته في يومها وفي بيتها وعلى صدرها حين استوى الضحى. وصلى أبو بكر بالناس في مرضه سبع عشرة صلاة قبل وفاته - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فكانت وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رأس عشر سنين الهجرة لم يختلف في ذلك. واختلف في سنه يوم نبئ على ما ذكرناه في صدر هذا الكتاب، واختلف أيضا في سنه يوم مات. فذكر البخاري من رواية الزبير بن عدي عن أنس بن مالك أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وروى أيضا حميد عن أنس أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي وهو ابن خمس وستين سنة. وروى عنه ربيعة في الموطأ أنه توفي وهو ابن ستين سنة.
واختلفت الرواية في ذلك أيضا عن ابن عباس، فروي عنه أنه توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثلاث وستين سنة. وروي عنه أنه توفي وهو ابن خمس وستين.
واختلف أيضا في مقامه بمكة بعد أن نبئ إلى أن هاجر منها إلى المدينة، فقيل: عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة. فمن قال: إنه نبئ وهو ابن أربعين سنة(3/388)
وأنه أقام بمكة عشر سنين، أو إنه نبئ وهو ابن أربعين سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة قال: إنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.
والرواية بأنه توفي وهو ابن خمس وستين تقتضي أنه نبئ وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة. وذهب الطحاوي إلى أن أصح ما في هذا أنه توفي وهو ابن ستين على ما روى ربيعة عن أنس في الموطأ بدليل ما روي عن عائشة أنها كانت تقول: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة في مرضه الذي مات فيه مما أسرها به وأخبرت به عائشة بعد وفاته. «قالت عائشة: أخبرتني أنه أخبرها أنه لم يكن نبي بعد نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأخبرني أن عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس ستين» وعن زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» ، قال؛ لأن ما قاله النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في مبلغ سنه يقتضي صحة قول من قال من أصحابه في ذلك كقوله. وليس ما قاله الطحاوي في ذلك ببين، لأن حديث عائشة الذي ذكره وحديث زيد بن أرقم يعارضه ما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن عيسى ابن مريم مات وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة» والله أعلم.
وفيها بعث النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع باليمن يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وقدم جرير وقد قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفيها بعث أسامة بن زيد إلى مؤتة من أرض الشام وأمره أن يهريق بها دما فلم ينفذ لبعثه حتى قبض - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنفذ بعثه أبو بكر.
وفيها بويع أبو بكر الصديق.
وفيها ارتد من ارتد من العرب.(3/389)
وفيها أحرق أبو بكر الفجاءة واسمه إياس بن عبد الله بن ياليل. وذلك أنه سأل أبا بكر أن يعينه على من ارتد من العرب ويحمله ففعل، فجعل يقتل المسلم والمرتد، فكتب فيه فأخذ، فقيل: قتله ثم أحرقه.
وفيها وجه خالد بن الوليد إلى طليحة فهزمه وقتل من قتل من أصحابه، وهرب طليحة ثم أسلم وحسن إسلامه. ثم مضى بأمر أبي بكر إلى مسيلمة باليمامة وقد كانت تنبت امرأة يقال لها: سجاح بنت الحارث من بني تميم فتزوجها مسيلمة، فقتل خالد مسيلمة وافتتح اليمامة بصلح صالحه عليها مجاعة بن مرارة. واستشهد ألف ومائة من المسلمين، وقيل: ألف وأربعمائة منهم سبعون جمعوا القرآن.
وتوفي أبو بكر لثمان بقين من جمادى الآخرة يوم الاثنين سنة ثلاث عشرة، فكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال.
واستخلف أبو بكر عمر بن الخطاب، وقتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. طعنه أبو لؤلؤة غلام نصراني للمغيرة عند صلاة الصبح قبل أن يدخل في الصلاة، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف بأمره، فكانت خلافته فيما قيل: عشر سنين وخمسة أشهر وتسعة وعشرين يوما. ومات عمر وقد جعلها شورى إلى ستة نفر، وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
فاجتمعوا على ولاية عثمان بن عفان. وقتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سنة خمس وثلاثين وهو ابن تسعين سنة، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: ست وثمانين. ودفن ليلا وصلى عليه جبير بن مطعم فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، ويقال: إلا اثني عشرة ليلة.
وبويع علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالخلافة على رأس ستة أشهر من مقتل عثمان، وكانت خلافته فيما يقال: خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.(3/390)
وأصيب غداة يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ومات - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم الأحد لتسع بقين من رمضان سنة أربعين، وهو ابن سبع وخمسين سنة، ويقال: ابن ثمان وخمسين سنة. وكانت الجماعة على معاوية سنة أربعين.
[فصل في مراتب الصحابة]
فصل
مراتب الصحابة] فمراتب هؤلاء الخلفاء الأربعة في الفضل كمراتبهم في الولاية. فالذي عليه عامة أهل السنة وكافة علماء الأمة أن أمة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل الأمم، كما أنه أفضل الأنبياء والرسل وخاتم النبيين وسيد المرسلين وأمين رب العالمين المبعوث إلى الخلق أجمعين، وأن أفضل أصحابه الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب. وقد روي هذا عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: إنه الذي رجع إليه بعد أن كان وقف في عثمان وعلي فلم يفضل أحدهما على صاحبه على ظاهر ما وقع في كتاب الديات من المدونة على أنه كلام محتمل للتأويل. وقد ذكرنا وجوه احتماله واختلاف الروايات فيه في الجزء الرابع من شرح جامع العتبية.
ثم تقدم بعد هؤلاء الخلفاء في التفضيل بقية العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة ومات وهو راض عنهم، وهم الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. فهؤلاء العشرة كلهم بدريون. ثم المقدم بعد هؤلاء العشرة في الفضل بقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان وهم أصحاب الشجرة الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] إلى قوله: {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56](3/391)
ومنهم من اتفقت له هذه المواطن كلها، ومنهم من نال بعضها. ثم من أنفق من بعد الفتح وقاتل وكلا وعد الله الحسنى.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أن مات في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الشهداء مثل حمزة، وجعفر، وسعد بن معاذ، ومصعب بن عمير أو مات في حياته وإن لم يكن من الشهداء، كعثمان ابن مظعون الذي قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذهبت ولم تلبس منها بشيء أفضل ممن بقي بعده، وإياه اختار ابن عبد البر. ومن حجتهم «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لشهداء أحد: هؤلاء أشهد عليهم فقال أبو بكر الصديق: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم أسلمنا كما أسلموا وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي» وهذا لا حجة فيه لأن الحديث ليس على عمومه في أبي بكر وغيره، لأن العموم قد يراد به الخصوص، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» وإنما أراد الكفار منهم دون المؤمنين. فالقول الأول هو الصحيح، ويؤيده ما روي «عن ابن عمر أنه قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم نسكت» . وبالله التوفيق.
[فصل في الزهد والورع]
فصل في
الزهد والورع الورع هو اجتناب المحرمات والمشتبهات. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» الحديث. فاجتناب المحرمات واجب، واجتناب الشبهات مستحب، ولا ينطلق اسم الورع إلا على من اجتنب المحرمات والمشتبهات. والزهد هو ما يبعث(3/392)
على اجتناب المحرمات والمشتبهات، وترك التنعم بالمباح من الشهوات. فكل زاهد ورع وليس كل ورع زاهدا، فالورع أعم من الزهد.
فصل فالزهد في الدنيا هو ضد الرغبة فيها، والرغبة هو الاستعظام لها والحرص عليها والميل إليها. فإذا كان الزهد هو ضد الرغبة فهو الاستصغار للدنيا والاحتقار لشأنها الذي يدعو إلى رفض فضولها وأخذ القوام منها عونا على طاعة الله عز وجل فيها، فلا يترك الزاهد منها شيئا إلا لله، ولا يأخذ منها شيئا إلا لله وعونا على طاعة الله. ولا يتركها كلها إذا صغرت عنده وهانت عليه، فيكون عاصيا لله إذ ترك منها واجبا أمر بأخذه، أو مقصرا في حظه إذ ترك منها ما ندب إلى أخذه، لكنه لما صغرت عنده وهانت عليه اتبع فيها أمر الله في كتابة وما ندب إليه على لسان نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ منها ما أعان على القربة إليه، وترك منها مما يجوز له أخذه تركه زهدا فيه ليتقرب بذلك إلى ربه. هذا هو الزهد عند جماعة من العلماء والزهاد، كالحارث بن أسد المحاسبي وغيره.
وقال سفيان الثوري وغيره منهم: إنه قصر الأمل. وليس بصحيح، لأن قصر الأمل ليس هو الزهد وإنما هو المعين على الزهد، لأن من قصر أمله وتوقع نزول المنية زهد في الدنيا ولم يرغب فيها.
وقال الأوزاعي وغيره منهم: إنه بغض المحمدة وبغض المحمدة إنما هو بعض الزهد لا جميعه، لأن الزهد يكون في المحمدة وفيما سواها من شهوات الدنيا. قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] الآية إلا(3/393)
أنه لما كان حب المحمدة على الطاعة والتزين بها في الدنيا غالبا على قلوب العباد قال: إن ذلك هو الزهد، بمعنى أنه إذا زهد فيها فهو فيما سواها أزهد.
وقال سفيان بن عيينة منهم ورواه عن الزهري: الزهد من غلب صبره الحرام وشكره الحلال. وهذا ليس بالزهد وإنما هو صفة الزاهد، لأن من كان بهذه الصفة فهو زاهد، فهي معنى تكون عن الزهد؛ لأنه إذا زهد قوي صبره عن الحرام فلم يركن إليه، وقوي شكره على الحلال فلم تشغله حلاوته عن الشكر.
وقال الفضيل بن عياض وغيره منهم: الزهد الترك للدنيا. وليس الترك للدنيا هو الزهد، ولكنه كائن عنه؛ لأنه إذا زهد في الدنيا تركها. وليس قوله الترك للدنيا على عمومه؛ لأن من أحوال الدنيا ما لا يجوز تركه، فلو قال: الزهد ترك ما لا قربة فيه من أحوال الدنيا؛ لكان في العبارة عما قصد إليه أولى، وقد قارب الحقيقة في الزهد، إذ جعله المعنى الذي يكون عن الزهد، وهو فائدته التي تقربه من الله عز وجل.
ومنهم من قال: الزهد أن يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما بيده، فجعل الزهد بعض التوكل لما كانت الثقة بما في يد الله دون ما بيده تبعث الواثق بذلك على ألا يدخر ما بيده فيقدمه لآخرته. وليس ذلك بصحيح، إذ قد يكون الرجل بما في يد الله أوثق مما في يده ومع هذا فيدخره ليتنعم به أو يتصدق به للمحمدة والثناء فيكون راغبا فيه. وقد يتصدق به لله لا للمحمدة فيكون زاهدا فيه. وليس التصدق به لله هو الزهد نفسه، ولكنه عن الزهد كان.
ومنهم قال: الزهد بغض للدنيا، وذلك أن الله عز وجل ذم الحب لها فقال: {تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20] والبغض ضد الحب فسمي الزهد به، وذلك إذا أبغضها لاحتقاره لها، وصغر شأنها عنده، إذ قد يبغض الرجل الدنيا لضر نزل به فيها وخطرها عنده عظيم. فليس الزهد في الدنيا ضد الحب لها على الإطلاق، وإنما هو ضد الرغبة فيها، لأن الراغب فيها إنما يرغب فيها لعظم شأنها عنده. والاحتقار لها(3/394)
والبعض فيها المندوب إليه بالشرع لا بالطبع، لأن الله تعالى قد زينها وحذر منها ابتلاء واختبارا. وقد قال بعض الناس: إن الزاهد إنما هو من أبغض الدنيا طبعا بغريزته كما يبغض الأنتان وشبهها، وإن من لم يحل هذا المحل وإن أبغض الدنيا بأجمعها فليس بزاهد وإنما هو صابر. وهو غلط ظاهر، لأن ما طبع عليه الإنسان لا يؤجر عليه إذ لا كسب له فيه، وإنما يؤجر الزاهد على الصبر على الزهد فيما طبع على محبته. قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] الآية. وقال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وَقَالَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] الآية.
ومنهم من قال: الزهد في الدنيا هو التهاون بالدنيا لهوانها على الله. واحتج بما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بسخلة ملقاة على سباطة قوم ومعه أصحابه فقال: أترون أهل هذه ألقوها من كراهتها عليهم أو من هوانها. قالوا: بل من هوانها عليهم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» وندبهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن يهون عليهم ما هان على الله.
وقال الحسن: ويحك يا ابن آدم لا تخالف الله في هواه فإن الله لا يحب الدنيا.
وقال ابن المنكدر: لو لقيت الله وليس لي ذنب إلا حب الدنيا لخشيت أن يقال: هذا أحب ما أبغض الله. فوصف قائل هذا القول الزهد بحقيقة ما يكون عنه ولم يخرج عن معناه. ألا ترى أنك تقول: زهدت في الدنيا فهانت علي، ولا تقول هانت علي فزهدت فيها. وكذلك سائر ما تقدم من الأقوال لم يخرج قائلوها بما قالوه في(3/395)
الزهد عن معناه وإنما أخطؤوا في تسميته، فسماه بعضهم باسم الزاهد، وبعضهم باسم المعين على الزهد، وبعضهم باسم المعنى الذي يورثه الزهد، وبعضهم باسم بعض الزهد، لأن كل واحد منهم يقع المزيد بما سماه لترغيبه إياه فيه.
فصل فالزهد نافلة مستحبة لا فريضة يستوجب الزاهد بها رضى الله تعالى ورفيع الدرجات في جنة المأوى، وإن كانت الواجبات كلها لا تكون إلا بالزهد فلا يسمى شيء منها زاهدا إذ قد اختصت من الأسماء بما هو أليق بها من الزهد. ألا ترى أن الإيمان لا يكون إلا بالزهد في كل معبود سواه، والصلاة لا تكون إلا بالزهد في الاشتغال بما يصد عنها ويمنع منها، وكذلك سائر الفرائض والطاعات.
فصل فالزهد وما يتعلق به من المعاني مختلفة الوجوه، وهي ستة أشياء: الزهد، والزاهد، والمزهود فيه، والمزهد في الدنيا، والمزهود من أجله الباعث على الزهد الذي عنه يكون الزهد، والمزهود له.
فأما الزهد في الدنيا فهو الاستصغار بجملتها والاحتقار لجميع شأنها لتصغير الله تعالى لها وتحقيره إياها وتحذيره من غرورها في غير ما آية من كتابه، من ذلك قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] ؛ لأنه إذا كانت(3/396)
صغيرة حقيرة هانت عليه فترك منها زهدا فيها كل ما لا قربة في أخذه منها من التنعم بنعيمها من المطعم والمشرب والاستمتاع بمتاعها من الملبس والمركب والمسكن والتلذذ بملاذها من المسموعات والمبصرات، والخلود فيها إلى الراحة، فلم يأخذ من ذلك كله إلا قوام عيشه، أو ما كان زائدا على ذلك مما ندب إلى أخذه كاتخاذ ثوبين لجمعته، ولباس ما يغره لباس ما دونه، لأن الله عز وجل يحب أن تُرَى أثر نعمته على عبده على ما جاء في الحديث. وكالراحة التي يستعين بها على الطاعة على ما جاء عن معاذ بن جبل من قوله لأبي موسى الأشعري: أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، فهذا هو الزهد في الدنيا. وأما ترك ما يجب تركه من المحرمات فلا يسمى زهدا،، ولا اسم طاعة، وإن كان في الحقيقة زهدا وطاعة؛ لأنه إنما زهد في ذلك خوف العقاب، وليس هذا هو الزهد الذي يتطوع به رجاء جزيل الثواب ومرضاة الرحمن.
وأما الزاهد فهو المستصغر للدنيا الذي قد انصرف قلبه عنها لصغر قدرها عنده، فلا يفرح بشيء من الدنيا، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذه منها إلا ما أمر بأخذه، أو ما يعينه على طاعة ربه، ويكون مع ذلك قلبه دائم الشغل بذكر الله تعالى، وذكر الآخرة والفكرة فيها، لا ينتقل عما هو فيه من ذلك إلا إلى ما هو في معناه من ذكر الله، أو ذكر الآخرة على قدر الأحوال وطلب القربة لا مالا له، وطلبا للاستراحة منه لما هو أخف عليه مما فيه تسلية لنفسه. وهذا هو أرفع أحوال الزهد، لأن من بلغ إلى هذه المرتبة منه فهو في الدنيا بشخصه، وفي الآخرة بروحه وعقله، قد غلب وساوس الشيطان، واستحق الثواب الجزيل من الله تعالى والرضوان.(3/397)
وأما المزهود فيه فهي الدنيا التي هي ما حواه الليل والنهار، وأظلته السماء، وأقلته الأرض. أمر العباد بالزهد فيها بالاستصغار لها والاحتقار لجميعها، وندبوا إلى أن يتركوا منها كل مباح لا عون فيه على طاعة الله، ولم يندبوا إلى أن يتركوها كلها فيخرجوا عنها، بل فرض عليهم أن يأخذوا منها ما لا يتم ما افترض عليهم إلا بأخذه، وندبوا إلى أن يأخذوا منها كل مباح في أخذه عون على الطاعة.
فالمباح منها من أي نوع كان فيه عون على الطاعة كان الزهد في أخذه، وإن لم يكن فيه عون على طاعة كان الزهد في تركه.
وأما المُزَهِّد في الدنيا فشيئان منها زهدا فيها بعض من لا يؤمن بالبعث وبعض من يؤمن به: أحدهما: كثرة آفاتها، والثاني: فناؤها وفناء أهلها فيها، وزوالهم عنها قبل فنائها.
وأما المزهود من أجله الباعث على الزهد الذي عنه يكون الزهد فخمسة أشياء:
أحدها: أنها مفتنة مشغلة للقلوب عن التفكر في أمر الله.
والثاني: أنها تنقص عند الله تعالى درجات من ركن إليها.
والثالث أن تركها قربة من الله وعلو مرتبة عنده في درجات الجنة.
والرابع طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعم.
والخامس رضوان الله والأمن من سخطه وهو أكبرها. قال الله عز وجل: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] .
وأما المزهود له فهو الله عز وجل الذي رفض الزاهد الدنيا المحببة إليه ابتغاء مرضاته، وخوفا من سؤاله، وتقربا إليه وموافقة له في تصغير ما صغر، وبغض ما أبغض، رغبة فيما عنده عز وجل من جزيل الثواب وبالله التوفيق.
فصل وقد قالت طائفة من العلماء: ليس الزهد في شيء من الحلال، وإنما الزهد(3/398)
في الحرام، لأن العباد لم يؤمروا بالزهد فيما أحل لهم، بل هم مأجورون على اكتسابه إذا تورعوا فيه، فلهم من الأجر على ذلك ما ليس لتارك الاكتساب. قالوا: ففي التمتع بالحلال خلال لا يجوز الزهد فيها، منها الأجر على التحري، والتورع في اكتسابه، وعلى الشكر لله على ذلك. ومنها أنه يكون له في تمتعه بالحلال عصمة عن الحرام، لأن من أكل الطيب ولبس اللين ثم رأى غيره ينال ذلك لم تدعه نفسه إلى الحسد، ولا إلى طلب ذلك من حرامه. واحتجوا لقولهم بما ترك بعض أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من المال إلا أنه لا تورث. قالوا: فلو كان الزهد في الحلال لما أبقى أحد من هؤلاء وراءه شيئا من المال، فلم تفرق هذه الطائفة بين الزهد والورع وجعلوهما شيئا واحدا.
والذي أقول به في هذا: إن الزهد غير الورع، وإن الزهد إنما هو في الحلال لا في الحرام، لأن ترك الحرام فرض فلا يقال فيمن تركه: إنه من أهل الزهد في الدنيا. وإن الزهد هو المعنى الذي يبعث صاحب المال على أن يجود لله عز وجل من ماله بما لا يلزمه من صلة رحم أو عتق أو تحبيس في السبيل، أو بناء مسجد أو هبة أو صدقة أو تحبيس وما أشبه ذلك، وإن لم يستوعب بذلك ماله كله أو أبقى لنفسه منه بعضه لنفقة على نفسه وعياله، وإن أكل من طيب الطعام وشرب من لذيذ الشراب، ولبس لين الثياب من غير إسراف ولا إقتار، إذ قد ندب الله عز وجل إلى ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد سئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن معنى قوله عز وجل: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] فقال: معناه أن يعيش في الدنيا ويأكل ويشرب غير مقتر عليه، ولما عسى أن يراه من وجوه البر، ومخافة أن تطول حياته فيبقى عالة(3/399)
على الناس أو يموت فيترك ورثته عالة يتكففون الناس، فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ، «وقال لكعب بن مالك حين تاب الله عليه فقال يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» وما قال فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه خير للعبد فلا شك في أنه خير له من ضده. فمن جاد لله من ماله بما لا يلزمه زهدا فيه ورغبة فيما له عند الله على ذلك من جزيل الثواب فهو من الزهاد بما زهد لله فيه من ماله وخرج عنه لله عز وجل.
فالصحابة المذكورون بالغنا كلهم زهاد في الدنيا بما بذلوه لله تعالى من أموالهم في حياتهم، وبما نووا فيما أنفقوا منه لأنفسهم إلى حين وفاتهم، وإن كان كثيرا فالذي بذلوا منه في حياتهم أكثر مما أنفقوا بعد وفاتهم. لا أنه لا يقع على الزاهد اسم زاهد حتى ينخلع من جميع ماله لله عز وجل ويترك التنعم بشيء منه خوف السؤال عنه كما قالت الطائفة التي بدأنا بذكرها. فالزهاد في الدنيا يتعاطون في الزهد فيها على قدر مبلغهم على الدنيا إلى الدار الآخرة، لأن الدنيا والآخرة ككفتي الميزان، فإذا مال الرجل عن إحداهما إلى الأخرى رجحت به. فإذا رجحت به كفة الأخرى فهو معدود في جملة الزهاد في الدنيا، فتفاضل الزهاد في الدنيا على قدر رجحان الكفة بهم. ونهاية زهد الزاهد في الدنيا ألا يميل إلى شيء منها إلا أن يكون في ذلك قربة لله تعالى، فتكون كفة الدنيا فارغة لا وزن لها. فإن استوت به الكفتان، أو رجحت به كفة الدنيا فليس بمعدود في الزهاد في الدنيا. فالزهد في الدنيا إنما هو بقدر النيات، فلا يعلمه إلا العالم بقدرها المجازي عليها. فقد يكون صاحب المال الكثير أزهد في الدنيا من صاحب المال القليل وممن لا مال له.
فصل وهذا الباب الاختلاف فيه، قد قالت طائفة من العلماء: إن الزهد(3/400)
فراغ القلب من الدنيا للاشتغال بالآخرة، فليس من الزهد ترك ما يشتهيه والقلب به مشغول عن الآخرة، ولكن من الزهد أخذه ليتفرغ القلب للآخرة، وليس ذلك من تعظيم الشهوة ولكن ليفرغ قلبه للآخرة، وهو قول بعيد.
وقالت طائفة أخرى: الزهد إخفاء الزهد بلباسه الثياب الحسان، واتخاذه في بيته المتاع واستعماله الطيب من الطعام ليلا ينظر إليه الخلق فيتوهموا عليه الزهد فيحسدونه على ذلك، إذ القلب لا يمتنع إذا ظهر منه التقشف والتقلل أن يرتاح لحب حمد الناس على ذلك وتعظيمهم إياه من أجله. وهذا من الأقوال الظاهرة الخطأ.
وقالت طائفة أخرى عامتهم قدرية: إن الزهد إنما هو الجوع وترك كل لذة، ومن أخذ منها شيئا من لذاتها أو تمتع ليستعين بذلك على طاعة كقيام ليل أو غيره مخدوع، وترك ذلك العمل مع الجوع أفضل، لأن الزهد لا يعدله شيء. وما احتجت به هذه الطائفة والرد عليها يطول.
وقالت طائفة أخرى: الزهد كله فيما حرم وما أحل فهو معونة على الطاعة، وكل ما فعله العبد وليس فيه ثواب فهو معصية وقد وجب عليه الزهد فيه. واحتجوا بما جاء من أن صاحب الشمال يكتب كل ما لا يكتب صاحب اليمين، والله أعلم، وبه التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
[فصل في المفاضلة بين الفقر والغنى]
فصل في
المفاضلة بين الفقر والغنى
اختلف الناس في الفقر والغنى على أربعة أقوال، فمنهم من ذهب إلى أن الغنى أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن الفقر أفضل، ومنهم من ذهب إلى أن(3/401)
الكفاف أفضل، ومنهم من توقف في ذلك فلم ير المفاضلة فيه. وهذا فيمن كان يؤدي ما لله عليه من حق في حال الفقر لفقره، وفي حال الغنى لغناه؛ لأن من كان يؤدي حق الله الواجب عليه في الفقر، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الغنى، فلا اختلاف في أن الفقر أفضل له من الغنى. ومن كان يؤدي حق الله الواجب في الغنى، ولا يؤدي حقه الواجب عليه في الفقر، فلا اختلاف في أن الغنى أفضل له، لأن الفضل في الفقر والغنى ليس لذاتهما، وإنما هو لما يكتسب بسبب كل واحد منهما مما يؤجر عليه، فيكتسب بسبب الفقر الصبر والرضا بما قسم الله له منه، والشكر لله تعالى على ذلك والتصرف والخدمة فيما يلزمه من نفقته وكسوته، ونفقة من يلزمه الإنفاق عليهم وكسوتهم فيؤجر على ذلك. ويكتسب بسبب المال الصبر على إنفاقه في الواجبات، وما يندب إليه من القربات، مع حبه إياه. قال الله عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] والشكر لله تعالى على ما آتاه من فضله، فيؤجر على ذلك كله كالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنه كان منهم الفقير والغني ومن أغناه الله من فضله بعد أن كان فقيرا، فكانوا كلهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - محمودين في حال الفقر وفي حال الغنى، لأنهم صبروا في حال الفقر على ضيق العيش وشكروا الله تعالى على ذلك وقنعوا بما أعطوا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لم يعلم مقداره إلا الله تعالى، وشكروا الله تعالى في حال الغنى على ما آتاهم من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وأدوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات الواجبات، وقاموا بما يلزمهم القيام به من النوائب اللازمات، وتطوعوا لوجه الله بما لا يلزمهم من القرب والصدقات، فكان لهم من الأجر على ذلك كله ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجل خالق الأرض والسماوات.(3/402)
والذي أقول به في هذا تفضيل الغنى على الفقر، وتفضيل الفقر على الكفاف. وإنما قلت: إن الغنى أفضل من الفقر؛ لقول الله عز وجل: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد أمرنا أن نسأله تبديل الأفضل بالأدنى، وذلك خلاف المعلوم من المعنى. وقوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فلو كان الفقر أفضل من الغنى لكان تعالى قد امتن عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن نقله من الأفضل إلى الأدنى. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فلو كان ما كانوا فيه أفضل وأولى لم يكن لحزنهم معنى.
وقَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [البقرة: 268] وشتان في الفضل ما بين ما يعد الله به من الغنى، ويعد به الشيطان من الفقر! وقوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] وقوله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وما أشبه ذلك من الآيات كثير. ولقول «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين قيل له: ذهب الأغنياء بالأجور: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما نفعني مالي ما نفعني مال أبي بكر» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من جهز جيش العسرة ضمنت له على الله الجنة» ، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»(3/403)
وأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبول ما أتى من غير مسألة، ونهيه عن إضاعة المال وعن الوصية بما زاد على الثلث وما أشبه ذلك من الأحاديث التي يكثر عدها، ولا يمكن حصرها؛ ولأن الفقير يؤجر من وجهين:
أحدهما: الصبر على الفقر والفاقة مع الرضى بذلك، والشكر لله تعالى عليه.
والثاني: تصرفه وعمله فيما يعيد به على نفسه مما لا بد له منه من نفقته ونفقة من تلزمه نفقته. والغني يؤجر من وجوه كثيرة: منها الشكر لله عز وجل على ما آتاه من فضله. ومنها الصبر على ما يعطيه من ماله لوجه الله عز وجل في الواجبات عليه من الزكوات، وفيما سوى ذلك من القربات، ومن الإنفاق على من يجب عليه الإنفاق عليه من الزوجات وصغار البنين والبنات، والآباء والأمهات المعدمين مع حبه له وشحه عليه. قال الله عز وجل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] ثناء منه عز وجل بذلك عليهم. وقد يتزوج الغني الزوجتين والثلاث والأربع ويتسرى الإماء ذوات العدد، فيستمتع من وطئهن ويؤجر بذلك فيهن، والفقير لا يقدر على شيء من ذلك. وما فضل عند الرجل من ماله بعد أن أدى منه الواجب عليه فيه، واستمتاعه به في الرفيع من اللباس، والطيب من الطعام، والحسن من المركوب، والجيد من السكنى من غير إسراف في شيء من ذلك كله؛ لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أولى من ترك ذلك وإمساك ماله إذ لا أجر في مجرد إمساك المال، وإنما يؤجر على إمساكه إذا أمسكه لخير ينوي أن يفعله منه، وقد يؤجر على الاستمتاع بماله في لباس الحسن؛ لأن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب جابر بن عبد الله لما لبس الثوبين الجديدين بأمره له(3/404)
بذلك ونزع الخلقين: ماله ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له» . وقال عمر بن الخطاب: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم. ويوجد في التوسعة على أهله في الإنفاق. وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى ما تجعله في فِيّ امرأتك» . ففي هذا كله بيان واضح على أن وجود المال خير من عدمه؛ لأنه إذا عدمه لم ينتفع بعدمه، وإذا وجده انتفع بوجوده، إما باستمتاع مباح غير مكروه لا أجر له فيه، وإما باستمتاع مندوب إليه له فيه أجر، إلى ما يفعل منه من الخير الواجب والتطوع.
وإنما قلت: إن الفقر أفضل فيه عما يحتاج إليه، فأغناه ذلك عن الكدح والتصرف فيما يحتاج إليه. والفقير يؤجر من وجهين حسبما ذكرناه. واستدل من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى بقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ولا دليل لهم فيه، لأن الأغنياء يشاركونهم في الصبر، والأجور في الأعمال على قدر النيات فيها. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أوقع أجر العبد على قدر نيته» ومقدار النيات لا يعلمها إلا المجازي عليها. وبما روي من أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء. ولا دليل لهم فيه، إذ ليس على عمومه، للعلم الحاصل بأن طائفة من الأغنياء المسلمين كعبد الرحمن بن عوف،(3/405)
وعثمان بن عفان يدخلون الجنة قبل كثير من الفقراء، وأنهم أفضل من أبي ذر وأبي هريرة. ولأن السبق إلى الجنة لا يدل على زيادة الدرجة فيها. وكذلك ما روي من كون الفقراء أكثر أهل الجنة؛ لأن الفقراء في الناس أكثر من الأغنياء، والمحمودون منهم أكثر من المحمودين من الأغنياء. وليس الكلام في أي الطائفتين أكثر، وإنما هو في أيهما أفضل أي أكثر ثوابا. وقد بينا وجه كثرة الثواب في ذلك.
وأقوى ما يحتج به من ذهب إلى أن الفقر أفضل من الغنى هو أن الفقير أيسر حسابا وأقل سؤالا، إذ لا بد من أن يسأل صاحب المال من أين كسبه وهل أدى الحق الواجب عليه فيه أم لا، ويسأل أيضا على تمتعه فيه بالمباح من المطعم والملبس بنص قول الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] «وقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأصحابه: "لتسألن عن نعيم هذا اليوم» في طعام صنعه لهم أبو الهيثم بن التيهان خبز شعير ولحم وماء مستعذب. وهذا لا حجة لهم فيه أيضا ولا خفاء في أن من وجب عليه شيء فسئل هل عمله أو لم يعمله فوجد قد عمله أفضل ممن لم يجب عليه ولا يسأل عنه؛ لأنه يؤجر على ما عمل من الواجب كما يؤجر على ما عمل من التطوع. وإنما توقف عن المفاضلة بين الفقر والغنى من لم يفضل أحدهما على صاحبه، والله أعلم، من أن لكل طائفة منهما معنى تؤجر عليه دون الأخرى، والأجور في ذلك(3/406)
على قدر النيات في ذلك المعنى، ولا يعلم قدرها إلا المجازي عليها، فوجب الوقوف على ذلك لاحتمال أن يؤجر الفقير على معنى واحد لقوة نيته فيه أكثر مما يؤجر الغني على معان كثيرة لضعف نيته فيها. وهذا صحيح مع التعيين، فلا يصح أن نقول: إن أجر فلان في غناه أكثر لكثرة ما يفعل منه من الخير، أو أكثر من أجر فلان في فقره لصبره ورضاه بما قسم الله له من ذلك، ولا: إن أجره في فقره بصبره ورضاه بما قسم الله له من ذلك أكثر من أجر فلان في غناه على ما يفعل منه من الخير.
وأما في الجملة فالغنى أفضل من الفقر على ما بيناه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما من فضل الكفاف على الفقر أو على الغنى فلا وجه له في النظر والله أعلم.
وأما الفقير الذي لا يقدر أن يقوم بما يحتاج إليه حتى يسأل فالغني أفضل منه قولا واحدا والله أعلم لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اليد العليا خير من اليد السفلى» ؛ لأن اليد العليا هي المنفقة والسفلى السائلة. وقد استعاذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفقر المنسي كما استعاذ من الغنى المطغي وبالله التوفيق.(3/407)
[فصل في البغي والحسد]
فصل في
البغي والحسد الحسد من الذنوب العظام؛ لأن الله تعالى نهى عنه وحرمه في كتابه على لسان رسوله فقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا» . والحسد هو أن يكره الرجل أن يرى النعمة في شيء من الأشياء على غيره ويتمنى أن تنتقل عنه إليه.
وأما أن يسأل الله من فضله أن يعطيه مثل ما أعطى لغيره دون أن تزول النعمة عنه فليس ذلك بمحظور ولا حسد، وإنما هو الغبطة، تقول: غبطت الرجل في كذا وحسدته عليه، فالغبطة مباحة والحسد محظور. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل والنهار» . معناه لا حسد أصلا لكن في هاتين الاثنتين تغابطوا فيهما، فالاستثناء في الحديث استثناء منقطع. ومن أهل العلم من ذهب إلى أن قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تحاسدوا ليس على عمومه» ؛ لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد أباحه في الخبر فقال: «لا حسد إلا في اثنتين» . والذي ذهب إلى هذا قال: «إن الحسد على وجهين: حسد معه بغي، وحسد لا بغي معه» . روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حسدتم فلا تبغوا» . والبغي، والله أعلم، أن يريد(3/409)
الحاسد الإضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه. فالحسد الذي لا بغي معه جائز، والحسد الذي معه البغي محظور. فالحسد على هذا ينقسم على قسمين: حسد في الخير، وحسد في المال. فالحسد في الخير مرغب فيه في غالب الحال، والحسد في المال جائز إن لم يكن معه بغي، ومحظور إن كان معه بغي. وقد قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بلغني أن أول معصية الحسد والكبر والشح حسد إبليس وتكبر على آدم، وشح آدم فقيل له: كل من شجر الجنة كلها إلا التي نهاه الله عنها، فشح فأكل منها. وقد مضى القول في الحسد.
وكذلك التكبر محظور مذموم، لأن الكبرياء إنما هي لله. فمن تكبر قصمه الله، ومن تواضع رفعه الله.
وأما الشح فهو على وجهين: شح بالواجبات، وشح بالمندوبات. فأما الشح بالواجبات فحرام، وأما الشح بالمندوبات فمكروه. فمن وقي الشح في الوجهين فقد أفلح. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقوله في آدم: فشح فأكل منها فلم يأكل منها إبقاء عليها وشحا بها وأكل من التي نهاه الله عنها. وبالله التوفيق.
[فصل في الصدق والكذب]
فصل في
الصدق والكذب الصدق واجب، والكذب محظور. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال عز وجل: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى(3/410)
قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] «وسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيكون المؤمن جبانا وبخيلا؟ قال: نعم. قيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا» أي: لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان؛ لأن الكذب فجور، وكان عبد الله بن مسعود يقول: عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار. ألا ترى أنه يقال: صدق وبرّ، وكذب وفجر. فنص - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن الجبن والبخل أخف من الكذب. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: لا يزال العبد يكذب وينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين. وقد جاء عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: عليك بالصدق وإن ظننت أنه مهلك. ومعناه إن حسبت ذلك ما لم تتيقنه، لأن الظن قد يكون بمعنى الشك وبمعنى اليقين. وذلك فيما يلزم الرجل أن يصدع فيه بالحق لما يرجو في الصدق من الصلاح والخير، ويخافه في الكذب من الشر والفساد، كالكلام عند السلطان وشبه ذلك. فهذا الذي عليه أن يصدع فيه بالحق، وإن خشي أن يكون في ذلك هلاكه ما لم يتقين الهلاك في الصدق وإن خاف على نفسه ما يلزمه بقوله فيما يجب عليه من الحقوق كالقتل والسرقة والزنا وشبه ذلك.
فصل
والكذب محظور وممنوع في الجملة، وهو ينقسم على خمسة أقسام:(3/411)
أحدها: كذب لا يتعلق فيه حق لمخلوق وهو الكذب في ما لا مضرة فيه على أحد، ولا يقصد به وجه من وجوه الخير، وهو قول الرجل في حديثه كان كذا وكذا وجرى كذا وكذا لما لم يكن ولا جرى، فهذا الكذب محرم في الشريعة بإجماع من العلماء، وهو الذي جاء فيه عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن المؤمن لا يكون كذابا» أي لا يكون مؤمنا ممدوح الإيمان، وهو الذي يغلب عليه الكذب حتى يعرف به، وقد يكون مؤمنا ممدوح الإيمان وإن كان جبانا وبخيلا، أي بخيلا بغير الواجبات، لأن البخل بالواجبات فسوق، والتوبة بالإقلاع عنه والاستغفار منه.
والثاني: كذب يتعلق به حق لمخلوق، وهو أن يكذب الرجل على الرجل فينسب إليه أنه فعل ما لم يفعل أو قال ما لم يقل مما يؤذيه أو يغض منه، وهو أشد من الأول، لأن التوبة منه لا تصح إلا بأن يتحلل صاحبه فيحله منه طيبة بذلك نفسه، أو يأخذ حقه منه إن تعين له بذلك عليه حق.
والثالث: كذب يقصد به وجه من وجوه الخير للمسلمين لكذب في الحرب للتخذيل بين المشركين وما أشبه ذلك. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحرب خدعة» . وذلك نحو ما جاء من «أن نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة الخندق مسلما فقال يا رسول الله: إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنما أنت رجل واحد من غطفان، فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا، فاخرج فإن الحرب خدعة؛ فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان يناديهم في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: قل فلست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرحل ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر(3/412)
قريش وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا علي. قالوا: نفعل. قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالا ونسلمهم إليكم تضربوا أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غطفان وقال مثل ذلك. فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا، فأرسلوا إليه أن اليوم السبت وقد علمتم ما نال من تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صدقنا والله نعيم بن مسعود، وخذل الله بينهم واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد قلبت أبنيتهم وكفأت قدورهم فارتحلوا» فهذا الكذب مستحب.
والرابع كذب الرجل فيما يرجو فيه منفعة نفسه ولا ضرر فيه على غيره، ككذب الرجل لامرأته فيما يعدها به ليستصلحها، فهذا الكذب جوزته السنة على ما جاء من «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكذب امرأتي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا خير في الكذب. فقال الرجل: يا رسول الله أعدها وأقول لها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا جناح عليك» وقد قيل: إنه لا يباح فيه إلا بتعريض الكلام لا بنص الكذب، والأول أصح أن التصريح بالكذب في ذلك جائز، يدل عليه قول الله عز وجل حكاية عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله في قصة يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] إلى قوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] . وقد قيل: إن معاريض القول جائزة في كل(3/413)
موضع لما جاء عن بعض السلف أن فيها مندوحة عن الكذب.
والذي أقول به أن ذلك مكروه لما فيه من الإلغاز على المخاطب فيظن أنه كذبه فيعرض نفسه بذلك إلى أن ينسب إليه الكذب، فتركه أحسن.
والخامس كذب الرجل في دفع مظلمة عن أحد مثل أن يختفي عنده رجل مظلوم ممن يريد قتله أو ضربه ظلما فيسأله عنه هل هو عنده أو يعلم مستقره؟ فيقول: ما هو عندي ولا أعلم له مستقرا، فهذا الكذب واجب لما فيه من حقن دم الرجل والدفع عن شرته.
[فصل فيما يجوز فيه النظر من أمر النجوم مما لا يجوز]
فصل
فيما يجوز فيه النظر
من أمر النجوم مما لا يجوز النظر في أمر النجوم فيما يستدل به على معرفة سمت القبلة فيما بعد عنها من البلاد ومعرفة أجزاء الليل وما مضى منها مما بقي لافتراق أحكامها في العبادات المشروعة، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر بأن يميزها ويعرف مواضعها من الجنوب أو الشمال ووقت طلوعها وغروبها جائز، بل هو مستحب، لأن الله تعالى قد أعلم أنه خلقها لهذا. قال عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وأما النظر من أمرها فيما زاد على ذلك مما يتوصل به إلى معرفة نقصان الشهور من كمالها دون رؤية أهلتها فذلك مكروه؛ لأنه من الاشتغال بما لا يعني. إذ لا يجوز(3/414)
لأحد أن يعمل في صومه وفطره على ذلك فيستغني به عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء. فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» .
وإنما اختلف أهل العلم فيمن كان من أهل هذا الشأن إذا أغمي الهلال هل له أن يعمل على معرفته بذلك؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن غم عليكم فاقدروا له أم لا» . فقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إنه يعمل في خاصته على ذلك، وقاله الشافعي أيضا في رواية، والمعلوم من مذهبه ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل على ذلك.
واختلف أهل العلم في معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاقدروا له» فذهب مالك إلى أن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحديث الثاني: «فأكملوا العدد ثلاثين» مفسر له. وذهب الطحاوي إلى أنه ناسخ له وإلى أن معنى التقدير له كان قبل أن ينسخ بأن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر في الليلة الثانية، فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع ساعة علم أنه من تلك الليلة، وإن غاب لمنزلتين وهما ساعة وخمسة أسباع ساعة علم أنه من الليلة الماضية فقضوا اليوم. وهذا قول خطأ لا خفاء به، إذ لا يسقط القمر في أول كل ليلة من جميع الشهور، كان الشهر ناقصا أو تاما، لستة أسباع ساعة، هذا يعلم يقينا بمشاهدة بعض الأهلة في أوائل الشهور أرفع وأبطأ مغيبا من بعض. وأيضا فإنه خلاف ظاهر الحديث ومقتضاه في أن التقدير إنما أمر به ابتداء قبل الفوات ليصوم أو ليفطر، لا في الانتهاء بعد الفوات ليقضي أو لا يقضي.
والذي أقول به في معنى التقدير المأمور به في الحديث إذا غم الهلال أن ينظر إلى ما قبل هذا الشهر الذي غم الهلال عند آخره من الشهور، فإن كان توالى منها شهران أو ثلاثة كاملة عمل على أن هذا الشهر ناقص فأصبح الناس صياما،(3/415)
وإن كانت توالت ناقصة عمل على أن هذا الشهر كامل فأصبح الناس مفطرين، إذ لا تتمادى أربعة أشهر ناقصة ولا كاملة على ما علم لما أجرى الله به العادة، ولا ثلاثة أيضا ناقصة ولا كاملة إلا في النادر. وإن لم تتوال قبل الشهر الذي غم الهلال في آخره شهران فأكثر ناقصة ولا كاملة، احتمل أن يكون هذا الشهر ناقصا وأن يكون كاملا احتمالا واحدا، فوجب أن يكمل عدده ثلاثون يوما كما جاء في الحديث الآخر، فيكون على هذا الحديثان جميعا مستعملين كل واحد منهما في موضع غير موضع صاحبه. وهذا في الصوم، وأما في الفطر إذا غم هلال شوال فلا يفطر بالتقدير الذي يغلب على الظن فيه أن رمضان ناقص.
فصل وأما الكسوفات فقد ندرك معرفتها من طريق الحساب، ومعرفة انتقال الشمس والقمر في البروج، واجتماعهما في درجة واحدة من البرج، وبعد أحدهما من الآخر إلى ما يقابله من درجات البروج، لأن الشمس والقمر مسخران لله تعالى في السماء يجريان في أفلاكهما من برج إلى برج من غرب إلى شرق على ترتيب وحساب لا يتعديانه. قال الله عز وجل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وقال عز وجل: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وَقَالَ {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فالقمر سريع الذهاب في البروج يقطع جميعها في شهر واحد، ولا تقطعها الشمس إلا في اثني عشر شهرا. فهو يدرك الشمس في آخر كل شهر ويصير بإزائها من البرج الذي هي فيه، ثم يخلفها، فإذا بعد عنها استهل، وكلما زاد بعده منها زاد ضوؤه إلى أن ينتهي في البعد ليلة أربعة عشر(3/416)
فيكمل استدارته وضوؤه لمقابلة الشمس له، ثم يأخذ في القرب منها فلا يزال ضوؤه ينقص إلى أن يدرك الشمس فيصبح بإزائها على ما أحكمه خالق الليل والنهار، لا إله إلا هو. فإذا قدَّر الله عز وجل على ما أحكمه من أمره وقدره من منازله في سيره أن يكون بإزاء الشمس بالنهار فيما بين الأبصار وبين الشمس يستر جرمه عنا ضوء الشمس كله إن كان مقابلها، أو بعضها إن كان منحرفا عنها، فكان ذلك هو الكسوف للشمس آية من آيات الله عز وجل يخوف بها عباده كما قال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] ؛ ولذلك أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعاء عند ذلك وسن له صلاة الكسوف. فليس معرفة وقت كون الكسوف بما ذكرناه من جهة النجوم وطريق الحساب ادعاء علم غيب ولا ضلالة وكفر على وجه من الوجوه، ولكنه يكره الاشتغال به؛ لأنه مما لا يعني، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وفي الإخبار به قبل أن يكون ضرر في الدين، لأن من سمعه من الجهال يظن أن ذلك من علم الغيب وأن المنجمين يدركون علم الغيب من ناحية النظر في النجوم، فيجب أن يزجر عن ذلك قائله ويؤدب عليه، كما قال مالك في رواية ابن القاسم عنه من كتاب السلطان من العتبية؛ لأن ذلك من حبائل الشيطان.
فصل وأما شيء من المغيبات فلا يدركها أحد من ناحية النظر في النجوم. وقد اختلف في المنجم يقضي بتنجيمه فيقول: إنه يعلم متى يقدم فلان أو وقت نزول المطر أو ما في الأرحام، أو ما يستتر الناس به من الأخبار وما تحدث من الفتن والأهوال وما أشبه ذلك من المغيبات، فقيل: إن ذلك كفر يجب به القتل دون الاستتابة، لقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} [الفرقان: 50](3/417)
«ولقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» وقيل: إنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن أشهب، وقيل: إنه يزجر عن ذلك ويؤدب عليه، وهو قول مالك في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان من العتبية.
والذي أقول به أن هذا ليس اختلافا من القول في موضع واحد، وإنما هو اختلاف في الأحكام بحسب اختلاف الأحوال. فإذا كان المنجم يزعم أن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب هي الفاعلة لذلك كله وكان مستترا بذلك فحضرته البينة قتل بلا استتابة؛ لأنه كافر زنديق. وإن كان معلنا بذلك غير مستتر به يظهره ويحاج عليه استتيب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد سواء.
وإن كان مؤمنا بالله عز وجل مقرا بأن النجوم واختلافها في الطلوع والغروب لا تأثير لها في شيء مما يحدث في العالم، وأن الله عز وجل هو الفاعل لذلك كله إلا أنه جعلها أدلة على ما يفعله، فهذا يزجر عن اعتقاده ويؤدب عليه أبدا حتى يكف عنه ويرجع عن اعتقاده ويتوب منه، لأن ذلك بدعة يجرح بها فتسقط إمامته وشهادته على ما قاله سحنون في نوازله في كتاب الشهادات من العتبية. ولا يحل لمسلم أن يصدقه في شيء مما يقول، ولا يصح أن يجتمع في قلب مسلم تصديقه مع قول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان: 34] الآية. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من صدق كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على قلب محمد» . ويمكن أن(3/418)
يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر بذلك ويجعله دليلا على صدقه فيما يقول، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من أطلعه عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلا على صحة نبوءته. قال الله عز وجل في كتابه حاكيا عن عيسى بن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49] فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي تعرف ذلك الأنبياء وتخبر به تكذيب لدلالتهم. وفي ما دون هذا كفاية لمن شرح الله صدره وهداه ولم يرد إضلاله ولا إغواءه. والذي ينبغي أن يعتقد فيما يخبرون به من الجمل فيصيبون مثل ما روي عن هرقل أنه أخبر أنه نظر في النجوم فرأى ملك الختان قد ظهر إنما هو على التجربة التي قد تصدق في الغالب، من نحو قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أنشأت بحرية ثم تشأمت فتلك عين غديقة» وبالله التوفيق.
[فصل في شراء المغنيات وبيعهن]
فصل في
شراء المغنيات وبيعهن روي عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام» ، ثم تلا الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] الآية كلها. وهذا الذي عليه أكثر أهل التفسير أن المراد بقوله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث الغناء واستماعه. روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية: ومن(3/419)
الناس من يشتري لهو الحديث فقال: الغناء والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وهو قول مجاهد وعطاء. وقال مكحول: من كانت له جارية مغنية فمات لم يصل عليه؛ لقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] معناه لم يصل عليه رغبة في الصلاة عليه. وقد اختلف في معنى قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقالت طائفة: هو الشراء على الحقيقة بالأثمان، بدليل ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» . فالمعنى على هذا في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] أي من يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فحذف ذا أو ذات وأقام اللهو مقامه، مثل قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية. وقالت طائفة: معنى الآية ومن الناس من يختار لهو الحديث ويستحسنه ولعله ألا ينفق فيه مالا ولكن اشتراؤه استحسانه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية في النضر بن الحارث الداري كان يشتري من كتب أحاديث الأعاجم فارس والروم وصنيعهم، ويحدث قريشا فيستحلونها ويعجبهم ما يسمعون فيها فيلهون ويلهيهم بها. وقال جماعة من أهل التفسير: إن الآية نزلت في أهل الكفر بدليل قوله فيها: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] قالوا: فمعنى لهو الحديث الشرك، وهو كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فمن ذهب إلى هذا رأى الغناء مكروها منهيا عنه غير محرم بالقرآن.
واختار أبو جعفر الطبري أن تحمل الآية على عمومها في كل ما كان ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله عز وجل عم بقوله: {لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ولم يخص بعضها دون بعض، فوجب أن يحمل على عمومه في الغناء والشرك حتى يأتي ما يدل على خصوصه.
وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر الطبري أولى ما قيل في تأويل الآية، لأنها وإن كانت نزلت فيما كان يفعله النضر بن الحارث فهي عامة تحتمل على عمومها، ولا يقتصر على ما كان سبب نزولها مما كان يفعله النضر بن(3/420)
الحارث. وقد دل على حملها على عمومها ما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» . وقد نزل على تصديق ذلك في كتاب الله تعالى يريد ما فهمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عموم قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] .
وقوله في الحديث: لا يحل اشتراء المغنيات ولا بيعهن، معناه إذا اشتراهن المشتري لغنائهن أو باعهن البائع بزيادة على قيمتهن من أجل غنائهن. وأما إذا اشتراهن للخدمة وما أشبهها ولم يزد في أثمانهن من أجل غنائهن فذلك جائز للبائع والمبتاع. فإن اشتراهن للخدمة بأكثر من أثمانهن من أجل غنائهن فذلك حرام على البائع، مكروه للمبتاع؛ لأنه أضاع ماله وأعطاه في الباطل فأطعم البائع ما لا يحل له، فهو بذلك معين له على الإثم. وقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وإن اشتراهن لغنائهن بقيمتهن دون غناء فذلك حرام على المبتاع جائز للبائع.
وظاهر قوله في الحديث أن الثمن كله محرم على البائع، وهو نص قول أصبغ. والذي يحرم عليه منه إنما هو ما زاد على قيمتها من أجل غنائها، كمن باع خمرا وثوبا صفقة واحدة بدنانير، فلا يحرم عليه من الدنانير التي باعها بهما إلا ما ينوب الخمر منها. فالمعنى في ذلك أن الحرام من ثمن المغنية لما كان مشاعا في جملتها لم يحل له أن يأكل منه قليلا ولا كثيرا حتى يخرج الحرام منه فيخلص له الحلال؛ لأنه إذا أكل منه شيئا فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من الحرام وإن كان باقي الثمن عنده وفيه وفاء بجميع الحرام في التمثيل، كرجل سرق دينارا من مال بينه وبين شريكه فأكله فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من حق شريكه حتى يتحلله منه أو يرده إليه.
وقد اختلف فيمن اشترى أمة فألفاها مغنية والغناء يزيد في قيمتها، هل ذلك عيب فيها يجب له به ردها أم لا على قولين. والذي أقول به اتصال إن كانت جارية رفيعة للاتخاذ كان ذلك عيبا فيها يجب له به ردها لما يخاف المبتاع من أن يلحق(3/421)
عار ذلك بولده، وإن كانت وخشا للخدمة لم يكن ذلك عيبا فيها، وهو قول مالك في رواية زياد عنه. وبالله التوفيق..
[فصل في معاملة من خالط ماله الحرام]
فصل في
معاملة من خالط ماله الحرام
وقبول هبته وأكل طعامه ووراثته عنه لا يخلو من خالط ماله الحرام بالربا وثمن الخمر والغلول وأثمان السلع المغتصبات وما أشبه ذلك مما لا اختلاف في حرامه، من أن يكون الغالب عليه الحلال، أو يكون الغالب عليه الحرام، أو يكون جميعه حراما: إما بأن يكون لا مال له حلال، وإما أن يكون قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال.
فأما إذا كان الغالب على ماله الحلال فأجاز ابن القاسم معاملته واستقراضه وقبض الدين منه وقبول هبته وأكل طعامه، وأبى من ذلك كله ابن وهب، وحرمه أصبغ على أصله في أن المال الذي خالطه شيء من الحرام حرام كله تلزم الصدقة بجميعه. والقياس قول ابن القاسم، وقول ابن وهب استحسان، وقول أصبغ تشديد على غير قياس.
وأما إذا كان الغالب على ماله الحرام فمنع أصحابنا من معاملته وقبول هبته، قيل: على وجه الكراهة وهو مذهب ابن القاسم، وقيل: على وجه التحريم وهو مذهب أصبغ، إلا أن يبتاع سلعة حلالا فلا بأس أن يبتاع منه وأن يقبل منه هبة إن علم أنه قد بقي بيده ما بقي بما عليه من التباعات على القول بأن معاملته محظورة.
وأما إذا كان ماله كله حراما إما بأن لا يكون له مال حلال، وإما أن يكون(3/422)
قد ترتب في ذمته من الحرام ما يستغرق ما بيده من الحلال، فاختلف في معاملته وقبول هبته وأكل طعامه على أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك كله لا يجوز وإن كانت السلعة التي وهب أو الطعام الذي أطعم قد علم أنه اشتراه. وأما إن علم أنه ورثه أو وهب له فيكون حكمه حكم ما اشتراه.
والثاني: أن معاملته ومبايعته تجوز في ذلك المال وفيما ابتاعه من السلع وفيما وهب له أو ورثه وإن كان عليه من التباعات ما يستغرقه إذا عامله بالقيمة ولم يحابه. ولا تجوز هبته في شيء من ذلك ولا محاباته فيه.
والثالث: أن مبايعته لا تجوز في ذلك المال، فإن اشترى سلعة بذلك المال جاز أن يشترى منه وأن تقبل منه هبته. وكذلك ما ورثه أو وهب له وإن كان ما عليه من التباعات قد استغرقه، روي هذا القول عن ابن سحنون وابن حبيب. وكذلك هؤلاء العمال ما اشتروه في الأسواق فأهدوه لرجل طاب للمهدى له.
والرابع: أن مبايعته وقبول هبته وأكل طعامه يجوز في ذلك المال وفيما اشتراه أو وهب له أو ورثه وإن كان عليه من التباعات قد استغرقه. فعلى هذا القول يجوز أن يورث عنه ذلك ويسوغ للوارث بالوراثة.
واختلف على القول بأن مبايعته في ذلك المال وقبول هبته وأكل طعامه لا تجوز هل يسوغ للوارث بالوراثة أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك يسوغ له بالوراثة ولا يسوغ له بالهبة، وهو الذي ذهب إليه سحنون على ما وقع في نوازله من جامع العتبية.
والثاني: إنه لا يسوغ له بالميراث كما لا يسوغ له بالهبة، ويلزم الوارث من(3/423)
التنحي من هذا المال والصدقة به ما كان يلزم الموروث. وتوجيه الاختلاف في وجوه هذه المسألة يطول، وقد فرغنا من ذلك في مسألة مشخصة في هذا المعنى وما يتعلق به لمن سألني ذلك من المريدين وبالله سبحانه التوفيق.
[فصل في التحليل من الظلامات والتباعات]
فصل في
التحليل من الظلامات والتباعات سئل مالك عن قول سعيد بن المسيب في فعله أنه كان لا يحلل أحدا، فقال: ذلك يختلف، فقلت له: الرجل يسلف الرجل الذهب فيهلك ولا وفاء له، قال: إنه يحلله فإنه أفضل عندي فإن الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وليس كل ما قال يتبع عليه وإن كان له فضل. قيل: فالرجل يظلم الرجل، قال: لا أرى ذلك، هو مخالف عندي للأول، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] وَيَقُولُ {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فلا أرى أن نجعل في حل من ظلم. ومن أهل العلم من رأى التحليل من الظلامات والتباعات أفضل من ترك التحليل منها. فوجه القول الأول أن التباعات والظلامات يستوفيها صاحبها يوم القيامة من حسنات من وجبت له عليه على ما جاء من أن الناس يقتصون من بعضهم يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وهو في ذلك الوقت مفتقر إلى الزيادة في حسناته ونقصان سيئاته بما له من التباعات والظلامات التي حلل منها وهو لا يدري هل يوازي أجره في التحليل ما يجب له من الحسنات في الظلامات والتباعات أو يزيد عليها أو ينقص منها. فكان الحظ له ألا يحلل منها. ووجه القول الثاني أن التحليل إحسان للمحلل عظيم، وفضل يسديه إليه جسيم، يبتغي عليه المكافآت من الله عز وجل، وهو(3/424)
تعالى أكرم من أن يكافئه بأقل مما وهب، فإنه تعالى يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] فهذا القول أظهر والله أعلم. ووجه تفرقة مالك بين التباعات والظلاماست ما استدل به من قوله: إنما السبيل على الذين يظلمون الناس فرأى أن ترك تحليل الظالم للظالم عقابا له أمرا هو محمود عليه لما في ذلك من الإخافة والردع من أن يعود إلى مثله. فأما في الدنيا فالعفو والصفح عن الظالم أولى من الانتصار منه بأخذ الحق منه في بدنه أو ماله لقول الله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] ولا يعارض هذا قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] لأن المدحة في ذلك وإن كانت متوجهة بهذه الآية لمن انتصر ممن بغى عليه بالحق الواجب ولم يتعد في انتصاره وكان مثابا على ذلك لما فيه من الردع والزجر، فهو في العفو والصفح أعظم ثوابا بدليل قوله بعد ذلك فمن عفا وأصلح فأجره على الله.
وقد قيل: إن الآية نزلت في الباغي المشرك. ويحتمل أن يكون معنى الآية الانتصار مما فيه لله حد لا يجوز العفو عنه والله أعلم.
[فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
فصل في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بثلاثة شروط:(3/425)
أحدها: أن يكون عالما بالمعروف والمنكر؛ لأنه إن لم يكن عارفا بهما لم يصح له أمر ولا نهي، إذ لا يأمن أن ينهى عن معروف أو يأمر بمنكر.
والثاني: أن يأمن من أن يؤدي إنكاره المنكر إلى منكر أكثر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر خمر فيؤول نهيه عن ذلك إلى قتل نفس وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا لم يأمن من ذلك لم يجز له أمر ولا نهي.
والثالث أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع؛ لأنه إذا لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه لم يجب عليه أمر ولا نهي.
فالشرطان الأول والثاني مشترطان في الجواز، والشرط الثالث مشترط في الوجوب. فإذا عدم الشرط الأول والثاني لم يجز أن يأمر ولا ينهى، وإذا عدم الشرط الثالث ووجد الشرطان الأول والثاني جاز له أن يأمر وينهى ولم يجب ذلك عليه، إلا أنه مستحب له وإن غلب على ظنه أنه لا يطيعه، إذ لعله سيطيعه، لا سيما إذا رفق به، فإن الله عز وجل يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقد روي أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقع بالشام وانهمك في الخمر، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فكتب إليه: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2] {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] فترك الرجل الخمر وتاب منها ونزع عنها. وإذا رأى الرجل أحد أبويه على منكر من المناكر فليعظهما برفق وليقل لهما في ذلك قولا كريما كما أمره الله حيث يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] إلى قوله: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] .
والدليل على وجوب ذلك بالشرائط المذكورة قول الله عز وجل:(3/426)
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليصرفن الله قلوب بعضكم عن بعض ويلعنكم كما لعن بني إسرائيل كانوا إذا عمل العاقل منهم بالخطيئة نهاهم الناهي تعزيرا فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم صرف قلوب بعضهم عن بعض ولعنهم على لسان نبيهم داوود وعيسى ابن مريم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] » .
فإذا كثرت المناكير في الطرقات من حمل الخمر فيها ومشي الرجال مع النساء الشواب يحادثونهن وما أشبه ذلك من المناكير الظاهرة وجب على الإمام تغييرها جهده بأن يولي من يجعل إليه تفقد ذلك والقيام به. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم» .
ويستحب لمن دعاه الإمام إلى ذلك أن يجيبه إليه إذا علم أن به قوة عليه لما في ذلك من التعاون على فعل الخير. قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . ومن مر به شيء من ذلك أو اعترضه في طريقه وجب عليه أن ينكره على الشرائط الثلاثة المذكورة، فإن لم يقدر على ذلك بيده ولا بلسانه أنكره بقلبه.
وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105](3/427)
معناه في الزمان الذي لا ينفع فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولا يقوى من ينكره على القيام بالواجب في ذلك، فيسقط الفرض عنه فيه ويرجع أمره إلى خاصة نفسه، ولا يكون عليه سوى الإنكار بقلبه ولا يضره مع ذلك من ضل.
روي «عن أبي أمامة قال: سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: كيف تصنع في هذه الآية قال: أية آية؟ قلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال لي: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، فقال: سألت عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يد لك به فعليك بنفسك وإياك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل منهم يومئذ كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» .
وما أشبه زماننا بهذا الزمان! تغمدنا الله بعفو منه وغفران. فإذا كان الزمان زمانا يوجد فيه على الحق معين فلا يسع أحد السكوت على المناكير وترك تغييرها. قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وبالله التوفيق.
[فصل في اللباس للرجال والنساء وما كان في معناه]
فصل في
اللباس للرجال والنساء وما كان في معناه اللباس ينقسم على خمسة أقسام: واجب، ومندوب إليه، ومباح، ومحظور،(3/428)
ومكروه. منها عام ومنها خاص، ومنها ما يثبت الحكم له بحق الله عز وجل، ومنها ما يثبت له بحق اللابس.
فالواجب بحق الله تعالى ستر العورة على أبصار المخلوقين من الناس، وهو وهو عام في جميع الناس من الرجال والنساء. والواجب منه بحق اللابس ما يقي من الحر والبرد أو يستدفع به الضرر في الحرب، إذ ليس له أن يترك ذلك من أجل الإضرار بنفسه. وهو أيضا عام في جميع الناس من الرجال والنساء.
والمندوب إليه منه بحق الله عز وجل كالرداء للإمام والخروج إلى المسجد للصلاة؛ لقول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] والثياب الحسنة للجمعة والعيدين لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته» . وما في معنى ذلك. والمندوب إليه بحق اللابس ما يتجملون به فيما بينهم من غير إسراف، «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - للذي نزع الثوبين الخلقين ولبس الجديد: ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خيرا له» «وقوله للذي رآه رث الهيئة فسأله هل لك من مال؟ قال: نعم. قال: من أي المال؟ قال: من كل المال. قال: فَلْيُرَ عليك مالُك.» وقول عمر بن الخطاب: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب. وقوله: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم جمع رجل عليه ثيابه. وذلك عام في الوجهين جميعا.
والمباح أن يلبس ما شاء من ثياب الكتان والقطن والصوف ما لم يكن شيء من ذلك سرفا على قدر حاله، وذلك أيضا عام غير خاص.
والمحظور ثياب الحرير؛ «لقول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حلة عطارد: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» ، «وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحرير والذهب: "هذان(3/429)
حل لإناث أمتي محرم على ذكورهم» . فتحريم لباسه خاص للرجال دون النساء. وقد قيل: إنه مباح للرجال في الحرب، قاله ابن الماجشون ورواه عن مالك. فلا اختلاف في أن لباس الرجال له في غير الحرب محظور لا يباح لهم إلا من ضرورة. فقد «أرخص النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير لحكة كانت بهما» .
وكره ذلك مالك ولم يرخص فيه إذ لم يبلغه الحديث والله أعلم. وقد روي عنه أنه أرخص فيه للحكة على ما جاء في الحديث. ومثله التختم بالذهب؛ لأنه من اللباس الذي يجوز للنساء دون الرجال.
وأما التختم بالفضة فإنه جائز مباح للرجال والنساء لا كراهة فيه عند عامة العلماء من السلف والخلف. وقد شذ من كرهه بكل حال، لرواية ابن شهاب «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من ورق ثم نبذه فنبذ الناس خواتمهم» وهي رواية غلط لأن المحفوظ أنه نبذ خاتم الذهب لا خاتم الورق.
وكذلك شذ أيضا من كرهه إلا لذي سلطان، لما «روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الخاتم إلا لذي سلطان» . ومعناه - إن صح - أنه لا يجب أو لا يستحب إلا لذي سلطان.
والاختيار فيه عند الجمهور أن يلبس في الشمال، والوجه في ذلك استحباب التيامن؛ لأنه يتناوله بيمينه فيجعله في شماله. ومن السلف من يختار التختم في اليمين. وقد روي في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والوجه فيه أنه من اللباس والزينة فيؤثر به اليمين على الشمال، كما يؤثر الرجل اليمنى على اليسرى لما جاء في السنة في الانتعال بأن ينتعل اليمين قبلها ويخلع بعدها لتكون أكثر استمتاعا باللباس منها. وقد يكون فيه اسم الله فلا يحتاج إذا تختم في يمينه أن يخلعه عند الاستنجاء لأن ذلك مما يستحب لمن تختم في شماله. ولا يجوز التختم بالحديد؛ لأنه حلية أهل النار، ولا بالشبه، فقد جاء النهي عن التختم بهما عن النبي - عليه(3/430)
السلام - وقد أجاز ذلك من لم يبلغه النهي عن ذلك، كما أنه أجاز التختم بالذهب للرجال والنساء من لم يبلغه النهي عن ذلك، وهو شذوذ، وبالله التوفيق.
[فصل في المخيط في الإحرام والجلوس على بسط الحرير]
فصل
ومثله المخيط في الإحرام
ومثله الجلوس على بسط الحرير والارتفاق بمرافق الحرير يجوز ذلك للنساء دون الرجال على من رأى ذلك لباسا بدليل حديث مالك الذي رواه عن إسحاق بن أبي طلحة «عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: "قوموا فلأصلي لكم " قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلينا وراءه» . فسمى أنس الجلوس عليه لباسا فوجب أن يكون حكمه حكم اللباس. ومن جهة المعنى أن الحرير إنما جاء النهي عنه من جهة التشبه بالكفار فوجب أن يجتنب الجلوس عليه من جهة التشبيه بهم. وكذلك التنقب به؛ لأنه لباس للمتنقب به بخلاف ستور الحرير المعلقة في البيوت لا بأس بها لأنها إنما هي لباس لما سترتها من الحيطان.
وقد رخص بعض العلماء في الجلوس على بسط الحرير والارتفاق بمرافقه إذ لم ير ذلك لباسا، أو هو قول عبد الملك بن الماجشون في سماع عبد المالك بن غانم من جامع المستخرجة. والذي عليه الأكثر والجمهور أن ذلك بمنزلة اللباس بدليل ما ذكرناه. ومن اللباس ما هو محظور على النساء دون الرجال، وهو الرقيق الذي يصف من الجباب لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نساء كاسيات عاريات» الحديث "، يريد كاسيات في الحقيقة عاريات في المعنى.(3/431)
واختلف في العلم من الحرير في الثوب فمن أهل العلم من أجازه لما جاء أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحرير وقال: «لا تلبسوا منه إلا هكذا وهكذا" وأشار بالسبابة والوسطى» . وروي إجازة ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في موضع الأصبع والأصبعين والثلاث والأربع، وكرهه جماعة من السلف. وكذلك اختلف السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في لباس الخز الذي سداه جرير وما كان في معناه اختلافا كثيرا يتحصل فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن لباسها جائز من قبل المباح، من لبسها لم يأثم، ومن تركها لم يؤجر على تركها. وهو مذهب ابن عباس وجماعة من السلف. منهم ربيعة على ما وقع من قوله في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع العتبية، لأنهم تأولوا أن النهي والتحريم في لباس الحرير للرجال إنما ورد في الثوب المصمت الخالص من الحرير.
والثاني: أن لباسها غير جائز وإن لم يطلق عليه أنه حرام، فمن لبسها أثم ومن تركها نجا، إذ قد قيل في حلة عطارد السيراء التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» ، إنها كانت يخالطها الحرير وكانت مضلعة بالقز، وهو مذهب عبد الله بن عمر. والظاهر من مذهب مالك وإن كان قد أطلق القول فيه أنه مكروه، والمكروه ما كان في تركه ثواب ولم يكن في فعله عقاب. إذ قد يطلقه فيما هو عنده غير جائز تجوزا من أن يحرم ما ليس بحرام. والذي يدل على ذلك من مذهبه قوله في المدونة: وأرجو أن يكون الخز للصبيان خفيفا.
والثالث: أن لباسه مكروه على حد المكروه، فمن لبسه لم يأثم ومن تركه أجر على تركه، وهذا هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب، لأن ما اختلف أهل العلم فيه لتكافئ الأدلة في تحليله وتحريمه فهو من المتشبهات التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه من اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه» . وعلى هذا القول يأتي ما حكى مطرف من أنه رأى على مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثوب إبريسم كساه إياه هارون الرشيد، إذ لم يكن ليلبس ما يعتقد أنه يأثم بلبسه.(3/432)
والرابع: الفرق بين ثياب الخز وسائر الثياب المشوبة بالقطن والكتان، فيجوز لباس الخز اتباعا للسلف، ولا يجوز لباس ما سواها من الثياب المشوبة بالقطن والكتان بالقياس عليها، لأن الخز إنما أجيز اتباعا للسلف، فلباسه رخصة، والرخصة لا يقاس عليها. وإلى هذا ذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال، إذ لا فرق في القياس بين الخز وغيره من المحررات التي قيامها حرير وطعمها قطن أو كتان، لأن المعنى الذي من أجله استجاز لباس الخز من لبسه من السلف هو أنه ليس بحرير محض موجود في المحررات وشبهها. فلهذا المعنى استجازوا لبسه لا من أجل أنه خز إذ لم يأت أثر بالترخيص لهم في ثياب الخز فيختلف في قياس غيره عليه.
ومن اللباس المحظور أيضا السرف فيه الزائد على القدر المأذون فيه الذي يخرج به صاحبه إلى الخيلاء والكبر والبطر، وهو عام في الرجال والنساء ممنوع بحق الله تعالى، لأن البطر والكبر ممنوعان في الشرع. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] وَقَالَ {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وَقَالَ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] وَقَالَ {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 29] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» ، وقال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا» .
ومن اللباس المحظور اللبستان اللتان نهى عنهما النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وهو اشتمال الصفاء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء.(3/433)
واشتمال الصماء هو أن يلتحف في الثوب ثم يرفعه ويلقيه على أحد منكبيه ويخرج يده من تحته. وصفة الاحتباء المنهي عنه أن يجلس الرجل ويضم ركبتيه إلى صدره ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ به ركبتيه ويشده حتى يكون كالمعتمد عليه والمسند إليه. فهذا إذا فعله بدت عورته إلا أن يكون تحته ثوب. وكذلك مشتمل الصماء تنكشف عورته من الناحية التي ألقى الثوب منها على منكبه إلا أن يكون عليه إزار، فإن كان عليه إزار جاز له أن يشتمل الصماء عليه لارتفاع علة النهي وهي انكشاف العورة. وقيل: إن ذلك لا يجوز وإن كان عليه إزار، واختلف في ذلك قول مالك فوجه المنع من ذلك اتباع ظاهر الحديث بحمله على عمومه وكيلا يكون ذلك ذريعة للجاهل الذي لا يعلم العلة في ذلك فيفعله ولا إزار عليه إذا رأى العالم يفعله وعليه إزار.
وأما اللباس المكروه فهو ما خالف زي العرب وأشبه زي العجم، ومنه التعميم بغير التحاء، وقد روي أن ذلك عمة الشيطان. وقيل: إنما صفة عمائم قوم لوط، والله أعلم وبه التوفيق.
[فصل في دخول الحمام]
فصل في
دخول الحمام دخول الحمام إذا كان خاليا جائز لا كراهية فيه، وأما دخوله مستترا مع مستترين فقال ابن القاسم في رواية أصبغ عنه من كتاب الجامع من العتبية: لا بأس بذلك أي لا حرج عليه فيه وتركه أحسن. فقد قال مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الوضوء من العتبية وقد سئل عن الغسل بالماء السخن من الحمام: والله ما دخول الحمام بصواب فكيف يغتسل بذلك الماء.
ووجه الكراهة في ذلك وإن دخله مستترا مع مستترين مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير ظن إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس. وأما دخوله غير(3/434)
مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ولا يجوز، لأن ستر العورة فرض ومن فعل ذلك كان جرحة فيه.
والنساء في هذا بمنزلة الرجال. هذا هو الذي يوجبه النظر، لأن المرأة لا يجوز لها أن تنظر من المرأة إلا ما يجوز أن ينظره الرجل من الرجل، بدليل ما روي عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب» . وما روي أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفضين رجل إلى رجل ولا امرأة إلى امرأة» خرج الحديثين أبو داود. فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم المرأة مع المرأة فيما يجوز لها أن تنظر إليه منها كحكم الرجل فيما يجوز له أن ينظر إليه من الرجل.
وقد أجمع أهل العلم فيما علمت أن النساء يغسلن المرأة الميتة كما يغسل الرجل الرجل الميت، ولم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في غسل النساء ذوي محارمهن من الرجال، وفي غسل الرجل ذوات محارمه من النساء حسبما ذكرناه في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب من كتاب الجنائز من العتبية. وقد قال ابن أبي زيد في الرسالة: ولا تدخل المرأة الحمام إلا من علة.
وقال عبد الوهاب في شرحها: هذا لما روي من أن الحمام محرم على النساء فلم يجز لهن دخوله إلا من عذر، ولأن المرأة ليست كالرجل لأن جميع بدنها عورة، ولا يجوز لها أن تظهر لرجل ولا امرأة. والحمام يجتمع فيه النساء ولا يمكن الواحدة أن تخليه لنفسها في العادة، فكره لها ذلك إلا من عذر. هذا نص قول عبد الوهاب وفيه نظر. أما ما ذكرناه من أن الحمام محرم على النساء فلا أعلمه نصا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقد ذكر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب الجامع من المعونة أنه قال: «الحمام بيت لا ستر فيه لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخله إلا بمئزر،(3/435)
ولا امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخله إلا لعلة» . فإن صح ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمعناه في دخولهن إياه على ما جرت به عادتهن من دخولهن إياه غير مستترات. وأما ما قاله من أن بدن المرأة لا يجوز أن يراه رجل ولا امرأة فليس بصحيح، إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة، بدليل ما ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما روي من أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: إنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء المشركين فَانْهَ عن ذلك أشد النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها.
وما اجتمع عليه العلماء من أن النساء يغسلن النساء كما يغسل الرجال الرجال. وإنما قال ابن أبي زيد: إن المرأة لا تدخل الحمام إلا من علة لما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بإزار وامنعوا منها النساء إلا مريضة أو نفساء» . وإنما أمر والله أعلم أن يمنع النساء من دخولها إلا مريضة أو نفساء؛ لأن إباحة ذلك لهن ذريعة إلى أن يدخلنه غير مئتزرات، لا من أجل أن عليهن إثما في دخولهن إياها مئتزرات. فدخول النساء الحمامات مكروه لهن غير محرم عليهن.
وعلى هذا يتأول ما روي في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن عائشة، من ذلك حديثها «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن دخول الحمامات ثم رخص للرجال أن يدخلوها بالميازر» . فيتأول أنه إنما يرخص في ذلك للنساء بدليل هذا الحديث حماية للذرائع في دخولهن إياها بغير ميازر.
ومن ذلك ما «روي عنها أنها أتتها نساء من أهل الشام فقالت: لعلكن من أهل الكورة التي يدخل نساؤها الحمامات. قال: قلن نعم. قالت فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد هتكت ما بينها وبين الله، أو ستر ما بينها وبين الله؛» لأنها إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها حيث لا تأمن أن(3/436)
يطلع أحد من الرجال عليها مكشوفة الرأس والجسم أو تجردت عريانة وإن أمنت أن يطلع عليها أحد من الرجال إذ كان معها النساء في الحمام وشبهه. فقد قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء: إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء حمام مفرد، فأما اليوم فقد زال ذلك فيجب أن يجوز.
وقد روي عن أم كلثوم قالت: أمرتني عائشة فطليتها بالنورة ثم طليتها بالحناء ما بين قرنها إلى قدمها في الحمام من حصر كان بها. قالت: فقلت لها ألم تكوني تنهي النساء عن الحمام؟ قالت: إني سقيمة، وأنا أنهى الآن أيضا ألا تدخل امرأة حماما إلا من سقم. فدل ذلك من قولها وفعلها أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم ونهتهن عن ذلك ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض. ولو كان عليهن حراما لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز، ومع الصحة مكروه إذ كن مستترات متزرات؛ لأن بدن المرأة إنما عورة على الرجل لا على المرأة. وإنما اختلف في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة، فقيل: إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلا إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من المرأة. والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، بدليل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فلولا أنها في النظر إليه كحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه لما أباح لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتداد عنده، وهذا بين والله أعلم وبه التوفيق.(3/437)
[فصل في السلام والمصافحة والاستئذان]
فصل في
السلام والمصافحة والاستئذان الابتداء بالسلام سنة مؤكدة من سنن الإسلام. قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفشوا السلام» وقال: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات» . والرد أوكد وأوجب لما يتعلق في ذلك من حق المسلم. قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] والاختيار في السلام أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم، ويقول الراد عليه وعليك السلام. ويجوز الابتداء بلفظ الرد والرد بلفظ الابتداء ويتنهى إلى لفظ البركة على ما جاء عن ابن عباس من أنه أنكر الزيادة على ذلك وقال: إن السلام انتهى إلى البركة. وفي قول الله عز وجل: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها دليل على جواز الزيادة على البركة إذا انتهى المبتدئ بالسلام في سلامه إليها. وقد ذكر مالك في موطئه أن رجلا سلم على عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات، فقال عبد الله بن عمر: وعليك ألفا ثم كأنه كره ذلك.
فصل روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يسلم الكبير على الصغير والراكب على(3/439)
الماشي» ومعنى ذلك إذا التقيا، فإن كان أحدهما راكبا والآخر ماشيا بدأ الراكب بالسلام، وإن كانا راكبين أو ماشيين بدأ الصغير بالسلام. وأما المار بغيره أو الداخل عليه فهو الذي يبدأ بالسلام وإن كان ماشيا والذي يمر به راكبا أو صغيرا. وكذلك السائر في الطريق إذا لحق بغيره فتقدمه وجب عليه أن يبدأه بالسلام وإن كان صغيرا أو راكبا وهو ماش.
فصل وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم على ما جاء في الحديث، وكذلك في الرد يجزئ رد واحد من المسلم عليهم عن جميعهم على قياس ذلك. وقد قيل في غير المذهب: إنه لا يجزئ ذلك في الرد وهو شذوذ. ويكره السلام على المرأة الشابة ولا بأس به على المتجالة.
فصل والمصافحة جائزة بل هي مستحبة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» وقد كره مالك المصافحة في رواية أشهب من كتاب الجامع من العتبية وقال: هو أخف من المعانقة. والمشهور عن مالك إجازتها واستحبابها، وهو الذي يدل عليه مذهبه في الموطأ بإدخاله فيه حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي تقدم بالأمر بها. والآثار فيها كثيرة، منها حديث البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من مسلمين يتلقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا» . وإنما المعلوم من مذهب مالك كراهية المعانقة، ومن أهل العلم من أجازها، منهم ابن عيينة، روي أنه دخل على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فصافحه وقال له: يا أبا محمد لولا أنها بدعة لعانقناك فقال سفيان بن عيينة: عانق من هو خير منك ومني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال مالك: جعفر؟ قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد(3/440)
ليس بعام. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، فتأذن لي أن أحدث في مجلسك؟ قال: نعم يا أبا محمد. قال: حدثني عبد الله بن طاووس، عن أبيه عن عبد الله بن عباس قال: «لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة اعتنقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل بين عينيه وقال: جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا، ما أعجب ما رأيت بأرض الحبشة» الحديث. ولما لم يرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعلها إلا مع جعفر بن أبي طالب رأى ذلك خصوصا له، وكره ذلك للناس إذ لم يصحبها العمل من الصحابة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنها مما تنفر عنها النفوس في كل وقت، إذ لا يمكن في الغالب إلا لوداع من طول اشتياق لغيبة، أو مع الأهل وما أشبه ذلك. وفارقت عنده المصافحة لوجود العمل بها. ووجه إجازتها اعتبارها بالمصافحة. وقد روي من «حديث أبي ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصافحه فجاءه قرة فلزمه» وهذا يمكن أن يكون فعله مرة ولم يداوم عليه.
فصل ويكره تقبيل اليد في السلام. وقد سئل مالك عن الرجل يقدم من السفر فيتناول غلامه أو مولاه يده فيقبلها فقال: إن ترك ذلك أحب إلي. وهو كما قال: ينبغي لمولاه أو سيده أن ينهاه عن ذلك؛ لأنه بإسلامه أخوه في الله فلعله أفضل منه عند الله إلا أن لا يكون مسلما فلا ينهاه عن ذلك؛ لما جاء من «أن اليهود أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه مختبرين له عن تسع آيات بينات فلما أخبرهم بها قبلوا يديه ورجليه» في حديث طويل.
[فصل ولا يبدأ أهل الذمة بالسلام]
فصل
ولا يبدأ أهل الذمة بالسلام؛ لأن السلام تحية وإكرام، وقد قال الله عز وجل: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] فيجب ألا يكون الكافر أهلا لها. هذا(3/441)
من طريق المعنى. وقد جاء بذلك الأثر أيضا. روي عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أي راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم» . وقد روي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله بمعناه من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وقد روى أشهب عن مالك في الجامع من العتبية أنه لا يسلم على أهل الذمة ولا يرد عليهم، ومعناه أنه لا يرد عليهم بمثل ما يرد على المسلمين وأن يقتصر في الرد عليهم بأن يقال: وعليكم على ما جاء في الحديث. وجاء في حديث الموطأ أن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السلام عليكم، فقل: عليك بغير واو. والذي ينبغي في هذا أن يقول في الرد: عليك - بغير واو - وإن تحققت أنه قال في سلامه: السام عليك وهو الموت، أو السلام عليك - بكسر السين - وهي الحجارة فقل عليك بغير واو. وإن شئت قلت: وعليك بالواو؛ لأنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. روي عن عائشة «أن اليهود دخلوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: السام عليكم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وعليكم. فقالت عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه يا إخوة القردة والخنازير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا عائشة عليك بالحلم وإياك والجهل، فقالت: يا رسول الله: أما سمعت ما قالوا، فقال لها: أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا» وإن لم تتحقق ذلك قلت وعليك. قالوا: ولأنك إن قلت عليك بغير واو وكان هو قد قال: السلام عليك كنت قد نفيت السلام عن نفسك ورددته عليه. ومن أخطأ فابتداء اليهودي بالسلام لم يلزمه أن يقول له: إني إنما بدأتك بالسلام؛ لأني ظننتك مسلما فلا تظن أني قصدتك بذلك وأنا أعلم أنك لست بمسلم، وهذا معنى قول مالك في موطئه: إنه لا يستقيل اليهودي في سلامه من سلم عليه؛ لأنه إن فعل ذلك فقد رجع له في إكرامه له بالسلام وبطلت غبطة الذمي بذلك. وقد قال الداودي معنى ذلك: لا يسأله أن(3/442)
يرد عليه سلامه من أجل أنه لا يلحقه بسلامه عليه بركة وليس ذلك بشيء. وقد قيل: إنه يقول في الرد على الذمي: عليك السلام - بكسر السين - وعلاك السلام: ارتفع عنك. ومن أهل العلم من أجاز أن يبدأ أهل الذمة بالسلام، وهو خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل ولا يسلم على أهل الأهواء كلهم، قاله ابن القاسم في سماعه من جامع العتبية، وحكى أنه رأى ذلك من مذهب مالك. ومعناه في أهل الأهواء الذين يشبهون القدرية من المعتزلة والروافض والخوارج، إذ من الأهواء ما هو كفر صريح لا يختلف في أن معتقده كافر، فلا يختلف في أنه لا يسلم عليه؛ ومنه ما هو خفيف لا يختلف في أنه ليس بكفر ولا في معتقده أنه ليس بكافر فلا يختلف في أنه يسلم عليه. ويحتمل أنه يريد أنه لا يسلم عليهم على وجه التأديب لهم والتبرؤ منهم والبغضة فيهم لله؛ لأنهم عنده كفار بمثال قولهم ويحمل أن يريد أنه لا يسلم عليهم؛ لأنهم عندهم كفار بآل قولهم، وقد اختلف قوله في ذلك. ولا ينبغي أن يسلم على أهل الباطل في حال تشبثهم بالباطل وعملهم به كالملهيين واللاعبين بالشطرنج وشبه ذلك.
فصل والاستئذان واجب، لا يجوز لأحد أن يدخل على أحد بيته حتى يستأذن عليه، أجنبيا كان أو قريبا. وقد جاء أن «رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال الرجل: إني معها في البيت، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استأذن عليها فقال الرجل يا رسول الله: إني خادمها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا قال: فاستأذن عليها» . وروى أبو موسى الأشعري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع» . وقال الله عز وجل: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27](3/443)
أي حتى تستأذنوا وتسلموا. وقد قرئ ذلك. فالاستئناس هو الاستئذان في الصحيح من الأقوال؛ لأنه استفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم مختبرا بذلك من فيه وهل فيه أحد أم لا؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم فيأنس إلى إذنهم له ويأنسوا إلى استئذانه إياهم.
وقد اختلف هل يبدأ بالسلام أو بالاستئذان، والصواب أن يقدم الاستئذان، فإن أذن له بالدخول سلم على من في البيت ودخل.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تأذنوا لمن لا يبدأ بالسلام» . وقد استوفينا الكلام على هذا في رسم باع شاة من سماع عيسى من جامع العتبية، وبالله التوفيق.
[فصل في تشميت العاطس]
فصل في
تسميت العاطس
روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله، وإذا قال: الحمد لله فليقل له يرحمك الله. فإذا قيل له ذلك فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله، وليقل له من عنده يرحمك الله، وليرد عليك يغفر الله لنا ولكم» . وقال مالك: إن شاء قال العاطس في الرد على من سمته: يغفر الله لنا ولكم، وإن شاء قال: يهديكم الله ويصلح بالكم". وقال الشافعي: أي ذلك قال فحسن. وقال أصحاب أبي حنيفة: يقول: يغفر الله لنا ولكم ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: يهديكم الله ويصلح بالكم شيء قالته الخوارج؛ لأنهم لا يستغفرون للناس. والصحيح ما ذهب إليه مالك من أنه يرد عليه بما شاء من ذلك، إذ قد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأمران جميعا. وقد اختار الطحاوي وعبد الوهاب وغيره: يهديكم الله(3/444)
ويصلح بالكم على قوله: يغفر الله لنا ولكم؛ لأن المغفرة لا تكون إلا من ذنب، والهداية قد تعري من الذنوب.
والذي أقول به أن قوله: يغفر الله لنا ولكم أولى، إذ لا يسلم أحد من مواقعة الذنوب، وصاحب الذنب يحتاج إلى الغفران؛ لأنه إن هدي فيما يستقبل ولم يغفر له ما تقدم من ذنوبه بقيت التباعة عليه فيها. وإن جمعها جميعا فقال: يغفر الله لنا ولكم ويهديكم الله ويصلح بالكم كان أحسن وأولى.
والذمي إذا عطس وحمد الله فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال: يهديك الله ويصلح بالك، لأن اليهودي والنصراني لا تغفر له السيئات حتى يؤمن. ومما يدل على هذا ما روي «أن اليهود والنصارى كانوا يتعاطسون عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجاء أن يقول: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم» . وتعليق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشميت بالحمد بقوله: وإذا قال: الحمد لله فليقل له: يرحمك الله دليل على أن العاطس لا يشمت حتى يحمد الله، وهو قول مالك إنه لا يشمته حتى يسمعه يحمد الله. قيل له: فإنه ربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فأسمع القوم يشمتونه، فقال: إذا سمعت الذين يشمتونه فشمته.
وقد اختلف في تشميت العاطس فقيل: هو واجب على كل من سمعه يحمد الله وهو مذهب أهل الظاهر، وقيل: هو واجب على الكفاية كرد السلام، وقيل: هو ندب وإرشاد وليس بواجب. وإنما أمر العاطس أن يحمد الله لما له في العطاس من المنفعة. والدليل على ذلك أنه لا يشمت إذا كان مضنوكا على ما جاء في الحديث من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إن «عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فشمته، ثم إن عطس فقل: إنك مضنوك» . قال عبد الله بن أبي بكر راوي الحديث: لا أدري بعد الثلاثة أو الأربعة.
ويقال: تسميت وتشميت. وقال الخليل: تشميت العاطس لغة في تسميته.
وقال ثعلب: التشميت معناه: أبعد الله عنك الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك. وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن. وبالله التوفيق.(3/445)
[فصل في المهاجرة]
فصل في
المهاجرة ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث لما قد يقع بينه وبينة مما قد تنفر منه الطباع، إلا أن يكون من أهل الأهواء والبدع أو من أهل الفسوق من المسلمين فيهجرهما في ذات الله، لأن الحب في الله والبغض في الله واجب، ولأن في ترك مؤاخاة البدعي حفظا لدينه، إذ قد يسمع من شبهه ما يعلق بنفسه. وفي ترك مؤاخاة الفاسق ردع له عن فسوقه.
والسلام يخرج المهاجر عن هجرانه إذا كان متماديا على إذايته والسبب الذي هجره من أجله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» . وأما إن كان قد أقلع عن ذلك فلا يخرج عن هجرانه فتجوز شهادته عليه إلا بأن يعود معه إلى ما كان عليه قبل. هذا معنى قول مالك. والآثار في الأمر بالتواخي في الله والنهي عن التقاطع والتدابر كثيرة. والثلاث آخر حد اليسير في أشياء كثيرة من أحكام الشرع، فاستخف في المهاجرة لجري العادة في الطباع بها عند وقوع ما يثيرها. والأصل في تحديدها في الهجرة وغيرها قول الله عز وجل: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] وبالله التوفيق.
[فصل في بيان السنن التي في البدن]
فصل في
بيان السنن التي في البدن وهي عشر: خمس في الرأس: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية؛ وخمس في الجسد وهي: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء، والختان. جاء ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما المضمضة والاستنشاق فهما من سنن الوضوء وقد مضى القول فيهما. والسواك تطهير للفم ومرضاة للرب. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء» . والأصبع تجزئ عن السواك ما لم يجد سواكا.(3/446)
وأما قص الشارب فما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأمر به يبين ما جاء عنه من الأمر بإحفائه فيستعمل الأمران جميعا بأن يقص أعلاه ويحفي الإطار منه، ولا يحمل على التعارض.
وهذا الذي ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه رأى حلقه مثلة، وقال في ذلك إنه بدعة وهو صحيح، لأن اتصال العمل بترك إحفائه دليل على نسخ الأمر بذلك. والأولى أن يجعل حديث الأمر بقصه مبينا لحديث الأمر بإحفائه. وكان ابن القاسم يكره أن يؤخذ من أعلاه وقال: معنى الأمر بإحفائه إحفاء الإطار منه.
وأما اللحية فتعفى على ما جاء في الحديث؛ لأن فيها جمالا. وقد جاء في بعض الأخبار أن الله عز وجل زين بني آدم باللحى، فحلقها مثلة وتشبيه بالأعاجم في ذلك، إلا أن تطول فلا بأس بالأخذ منها.
وأما حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار فهو من النظافة المشروعة في الدين.
والاستنجاء من باب زوال النجاسة، ويجزئ فيه الأحجار على ما جاء في الآثار، والماء أطهر وأطيب. ومن قدر على الجمع بينهما فهو أحسن، لأن الله قد أثنى على من فعل ذلك من الأنصار بقباء فقال فيهم: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] .
وأما الختان فهو طهرة الإسلام ومن سنة إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وملته التي أمر الله بالتزامها حيث يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أي التزموها. هو أول من اختتن من الناس حين أمره الله بالختان. قيل: وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: وهو ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة. روي الأمران جميعا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية أبي هريرة.
ويستحب ختان الصبي إذا أمر بالصلاة من السبع سنين إلى العشرة، ويكره(3/447)
أن يختن في سابع ولادته كما تفعله اليهود. وروي عن ابن عباس أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تقبل صلاته ولا تجوز شهادته. وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «لا يحج البيت حتى يختتن» .
وقد اختلف هل للكبير رخصة في ترك الختان أم لا؟ فروي عن الحسن أنه كان يرخص في ذلك للشيخ الكبير، وقال ذلك محمد بن عبد الحكم إذا ضعف وخاف على نفسه، ولم يرخص له سحنون في تركه وإن خاف منه على نفسه.
واختلف فيمن ولد مختونا فقيل: قد كفى الله المؤونة فيه، وقيل: يجري الموسى عليه فإن كان فيه ما يقطع قطع، وبالله التوفيق.
[فصل في التناجي]
فصل في
التناجي ولا يتناجى اثنان دون واحد للنهي الوارد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، وكذلك الجماعة دون الواحد؛ لأن ذلك أشد لحزنه وإساءته وقلة التأدب معه. وقد قيل: إن ذلك إنما يكره في السفر وحيث لا يعرف المتناجيان، ولا يوثق بهما، ويخشى الغرر منهما.
وحجة من ذهب إلى هذا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية عبد الله بن عمر أنه قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان منهما دون صاحبهما» . وهذا لا حجة فيه، إذ ليس في النهي عن ذلك في السفر ما يدل على إباحته في الحضر، فالصواب أن تحمل الأحاديث التي ليس فيها ذكر السفر على عمومها في السفر والحضر، بدليل قوله فيه: لا يحل. فإذا خشي المتناجيان دون صاحبهما أن يظن بهما أنهما يتناجيان في عورة فلا يحل لهما أن يتناجيا دونه، كان ذلك في سفر أو حضر، وإذا أمن من ذلك فهو مكروه لهما في الحضر والسفر من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، وبالله التوفيق لا رب غيره.(3/448)
[فصل في التيامن في الأشياء]
فصل في
التيامن في الأشياء كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التيامن في أمره كله وقال: «إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم» . وقال: «إذا أكل أحدكم أو شرب فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله ويعطي بشماله» .
وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطعامه وطهوره ويده اليسرى لحاجته وما كان من الأذى» .
فما يتصرف به الإنسان منه ما يستحب له فعله بيمينه ومنه ما يستحب له فعله بشماله، فإن فعل ما يستحب له فعله بيمينه بشماله، أو ما يستحب له فعله بشماله بيمينه، أساء ولم يكن عليه شيء، وأجزأه ذلك الفعل إن كان من العبادات التي يستحب له أن يفعله بشماله ما كان فيه أذى.
وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يغسل الرجل باطن قدميه بيمينه» ولا يمتخط بيمينه، ولا ينزع الأذى من أنفه بيمينه.
ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يمتخط بيمينه وينزع الأذى عن أنفه بيمينه على ظاهر ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كانت يمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجهه وشماله لما وراء ذلك» .
وقد روي أن الحسن بن علي امتخط عند معاوية يمينه فقال له معاوية: شمالك، فقال الحسن: يميني لوجهي وشمالي لحاجتي. ومذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الامتخاط مثل الذي فعل ابنه الحسن. وبالله التوفيق.(3/449)
[فصل في المشي في النعل الواحدة]
فصل في
المشي في النعل الواحدة يكره على مذهب مالك وأصحابه أن يمشى في نعل واحدة، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ لأنه عندهم نهي أدب وإرشاد، لما في ذلك من السماحة والشهرة لمخالفة العادة في اللباس، وما ينسب إلى فاعل ذلك من ترك المروءة وقلة التحصيل، لا نهي تحريم خلاف ما ذهب إليه أهل الظاهر من أنه نهي تحريم يأثم عندهم من مشى في نعل واحدة.
واختلف في المذهب هل يباح لمن انقطع قبال نعله وهو يمشي أن يقف في نعل واحدة حتى يصلح نعله الأخرى، فأجاز ذلك ابن القاسم في رواية أصبغ عنه، ولم يجزه أصبغ إلا أن يطول ذلك. وقول ابن القاسم أظهر، إذ ليس ذلك بمشي وإن طال وقوفه.
ولا يجوز له على قولهما جميعا أن يمشي في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى التي انقطع قبالها. وقد روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما انقطع شسع نعله فمشى في نعل واحدة» إلا أنه حديث ضعيف لا يصححه أهل العلم بالحديث.
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر بن عبد الله أنه قال: «إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة حتى يصلح شسعه» . والذي أراه في هذا أن تستعمل الآثار كلها ولا يطرح شيء منها فيقال على استعمالها: إن الرجل لا يمشي ابتداء في نعل واحدة إذا انقطع شسع إحداهما، وإنه إذا انقطع شسع إحدى نعليه وهو يمشي مشى في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى؛ لأن ذلك سير لا يطول، بخلاف ابتداء المشي في النعل الواحدة.
فقد روي عن علي بن أبي طالب أنه رئي يمشي في نعل واحدة وهو يصلح شسع الأخرى. وروي مثله أيضا عن عبد الله بن عمر. وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تجيز المشي في النعل الواحدة وتنكر حديث أبي هريرة في النهي عن ذلك، وروي عنها أنها كانت تمشي في الخف الواحدة وتقول:(3/450)
لأحنثن أبا هريرة. والمعنى في ذلك، والله أعلم، لتبين بفعلها أن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك ليس بنهي تحريم يأثم من فعله، وإنما هو نهي أدب وإرشاد فلا يأثم من فعله ويؤجر من تركه، وبالله التوفيق.
[فصل في السنة في الشراب والطعام]
فصل في
السنة في الشراب والطعام ومن السنة في الأكل والشرب تسمية الآكل الله عز وجل عند ابتدائه، وحمده عند فراغه، لما روي من «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا وضع يده في الطعام قال: بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وإذا فرغ منه قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
» وأن يأكل إذا أكل مع غيره مما يليه؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لربيبه عمرو بن أبي سلمة: قل بسم الله وكل مما يليك» وهذا إذا كان الطعام صنفا واحدا كالثريد واللحم وشبه ذلك. وأما إذا كان أصنافا مختلفة كأنواع الفاكهة في طبق مما تختلف أغراض الآكلين فيه فلا بأس للرجل أن يتناول ما بين يدي غيره.
وذلك منصوص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عبد الله بن عكراش بن ذؤيب. وقد ذكرته بكماله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الجامع. وذلك بين أيضا من «حديث أنس بن مالك: فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبع الدباء من حوالي القصعة» . ولا بأس إذا أكل الرجل مع أهله وبنيه أن يتناول مما بين أيديهم إذ لا يلزمه(3/451)
أن يتأدب معهم ويلزمهم أن يتأدبوا معه في الأكل، فإن لم يفعلوا ذلك أمرهم بذلك كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما قاله لعمرو بن أبي سلمة.
ومن الأدب إذا أكل الرجل مع القوم أن يأكل كما يأكلون من تصغير اللقم والترسيل في الأكل وإن خالف ذلك عادته. ومن هذا المعنى نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القران في التمر، وهو أن يأكل تمرتين إذا لم يقرنوا، وإن كان هو الذي أطعمهم.
ويجوز له ذلك إذا أكل مع من لا يلزمه أن يتأدب معهم من أهله وولده. وقد قيل: إنه إنما نهي عن ذلك لئلا يستأثر في الأكل على من يؤاكله بأكثر من حقه.
فعلى هذا يجوز له إذا كان هو الذي أطعمهم أن يقرن وإن كانوا لا يقرنون. والأظهر أن يكون النهي عن ذلك للمعنيين جميعا، فلا يقرن الرجل دون أصحابه المؤاكلين له الذين يلزمه أن يتأدب معهم وإن كان هو الذي أطعمهم] .
ويستحب للرجل أن لا ينهم في الأكل ويكثر منه، فإن ذلك مما يضر به، فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلثه للماء، وثلثه للنفس. ولا يأكل متكئا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فلا آكل متكئا» ؛ ولأن ذلك من فعل الأعاجم تجبرا وتكبرا. وأن يغسل يده وفمه من الدسم عند فراغه من الأكل؛ لأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك.
«روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب لبنا فمضمض وقال: إن له دسما.» وإن لم يكن لطعامه دسم لم يكن عليه غسل يده منه، فقد كان عمر بن الخطاب إذا أكل ما لا دسم له مسح يده بباطن قدمه.
وأما غسل الرجل يده للأكل فليس من السنة، فقد كرهه مالك وقال فيه: إنه ليس من الأمر أي من السنة المأمور بها فيلزم التزامها؛ لأنها من فعل الأعاجم ولم يرو عن السلف، إلا أن يخشى أن يكون قد مس بيده شيئا يكره أن يباشر به الطعام.(3/452)
ولا ينبغي أن ينفخ في طعام ولا شراب، ولا أن يتنفس في إنائه إذا شرب، وإذا ضاق به النفس فلينح القدح عن فيه، فإذا تنفس أعاده إليه؛ لما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النفخ في الشراب» . والمعنى في ذلك أنه يخشى أن يطير مع نفسه شيء من ريقه فتعافه نفس من رآه، فإذا رأى قذاة في الإناء أراقها ولم ينفخها، وقد جاء الحديث بذلك.
فصل
ويجوز الشراب قائما؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه شرب قائما، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يشربون قياما. وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن الشرب قائما» من رواية أنس بن مالك، ومن رواية أبي سعيد الخدري «أنه زجر رجلا رآه يشرب قائما» . وقال إبراهيم النخعي: إنما كره الشرب قائما؛ لما يأخذ في البطن، فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشرب قائما؛ لما ذكر له أن ذلك يضر بمن فعله، فلما تحقق أن ذلك لا يضر به شرب قائما ولم ينه عن ذلك.
فقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أن ينهى عن الغيلة ثم لم ينه عنها؛ لما ذكر من أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم شيئا. ويحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشرب قائما إلى أن وقف على المعنى الذي من أجله كره الشرب قائما فنهى عنه إشفاقا على أمته وطلبا لمصالحهم. وإذا احتمل أن يكون كل واحد من الحديثين ناسخا للآخر وجب أن يسقطا جميعا، فلا يمتنع من الشرب قائما إلا أن يتيقن على ما ذهب إليه مالك وبوب عليه في موطئه باب شرب الرجل وهو قائم.(3/453)
فصل وإذا أتي الرجل بالشراب وهو في جماعة فشرب ناوله من على يمينه؛ لما جاء من استحباب التيامن في الأمور، ولما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن» .
فصل ولا يجوز الأكل ولا الشرب في أواني الذهب والفضة ولا استعمالها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ولا فرق بين الأكل والشرب في ذلك؛ لأن المعنى فيه واحد وهو التشبه في ذلك بالأعاجم والأكاسرة المتكبرين المتجبرين. وأما الحلقة من الذهب والفضة تكون في القدح والتضبيب في شفتة فقياسه قياس العلم من الحرير في الثوب، كرهه مالك وأجازه جماعة من السلف.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه على قدر الإصبعين والثلاث والأربع، ووقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر.
فصل
ويجب على آكل الثوم نيئا اجتناب المساجد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أكل هذه الشجرة فلا يقرب مساجدنا يؤذينا بريح الثوم» . وكذلك الكراث والبصل إن كان يؤذي ريحهما قياسا على الثوم. فالعلة التي قد نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها في الثوم وهي التأذي بريحها. والأسواق في هذا بخلاف المساجد؛ لأن للمساجد حرمة تختص(3/454)
بها ليست للأسواق إلا أن ذلك مكروه في مكارم الأخلاق، وبالله التوفيق.
[فصل فيما يجب إتيانه من الولائم والدعوات]
فصل
فيما يجب إتيانه من الولائم والدعوات والدعوات إلى الأطعمة تنقسم على خمسة أقسام، منها ما يجب على المدعو إليها إجابة الداعي إليها، ولا يجوز التخلف عنها إلا لعذر، وهي دعوة الوليمة التي أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها وحض عليها وأمر بإجابة الداعي إليها.
ومنها ما تستحب الإجابة إليها وهي المأدبة التي يفعلها الرجل للخاص من إخوانه وجيرانه على حسن العشرة وإرادة التودد والألفة. ومنها ما يجوز إجابة الداعي إليها ولا حرج في التخلف عنها، وهي ما سوى دعوة وليمة العرس من الدعوات التي تصنع على ما جرت به العادة دون مقصد مذموم كدعوة العقيقة والنقيعة والوكيرة والخرس والإعذار وما أشبه ذلك.
ومنها ما يكره إجابة الداعي إليها، وهو ما يقصد به منها قصدا مذموما من تطاول أو امتنان وابتغاء محمدة وشكر وما أشبه ذلك، لا سيما لأهل الفضل والهيئات، لأن إجابتهم إلى مثل هذه الأطعمة إضاعة للتعاون، وإخلاف للهيبة عند دناءة الناس وسبب للإذلال.
فقد قيل: ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له. ومنها ما تحرم الإجابة إليها وهي ما يفعله الرجل لمن يحرم عليه قبول هبته كأحد الخصمين للقاضي، وبالله التوفيق.
[فصل في العيادة]
فصل في
العيادة ويستحب للمسلم عيادة لأخيه المسلم إذا مرض؛ لما في ذلك من الألفة والمواصلة المندوب إليهما في الشريعة. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق المسلم على(3/455)
أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» . وجاء أن الرجل إذا عاد المريض خاض في الرحمة حتى إذا جلس عنده قرت فيه أو نحو ذلك.
وشهود جنازته إذا مات آكد عليه في الاستحباب من عيادته إذا مرض؛ لأنه بعد الموت أحوج إلى الدعاء منه في حال الحياة. وقد جاء أن في الصلاة على الجنازة قيراطا من الأجر وفي حضور دفنها قيراطا أيضا، والقيراط مثل جبل أحد ثوابا وبالله التوفيق
[فصل في الغيبة]
فصل في
الغيبة ولا تحل الغيبة؛ لأن الله عز وجل حرمها في كتابه العزيز فقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] فقرن عز وجل تحريم اغتياب المسلم بتحريم أكل لحمه ميتا؛ لما في ذلك من الإذاية التي تدعو إلى المقاطعة والبغضاء، وتولد الأحقاد والعداوات، وذلك ضد المأمور به من الألفة والتواخي في ذات الله.
والغيبة له هي أن يذكر منه ما يكره سماعه وإن كان حقا، وأما إن كان باطلا فذلك البهتان. وقد قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] إلا في ثلاثة لا غيبة فيهم، وهم الإمام الجائر، والفاسق المعلن، وصاحب البدعة؛ لأن الغيبة إنما هي أن تذكر من المرء ما يكره أن يذكر عنه لمن لا يعلم ذلك منه، والإمام الجائر والفاسق المعلن قد اشتهر أمرهما عند الناس، فلا غيبة في أن يذكر(3/456)
من جور الجائر وفسق الفاسق ما هو معلوم من كل واحد منهما، وصاحب البدعة يدين ببدعته ويعتقد أنه على الحق فيها، وأن غيره على الخطأ في مخالفته في بدعته، فلا غيبة فيه في ذكره بها؛ لأنه كان معلنا بها فهو يحب أن يذكر بها، وإن كان مستترا بها فواجب أن يذكر بها، ويحفظ الناس من اتباعه عليها. وإنما يكون مغتابا لكل واحد منهم إن ذكر عنهم سوى ما اشتهروا به.
وينبغي لأهل الفضل والدين أن يحفظوا ألسنتهم من الخوض فيما لا يعنيهم ويلتزموا الصمت فلا يتكلموا من أمور الدنيا إلا فيما يحتاجون إليه؛ لأن في الإكثار من الكلام السقط والخطل، والتعرض للزلل.
فقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه، وما بين رجليه» ودخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو يجذب لسانه، فقال له: مه، فقال: إن هذا أوردني الموارد.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وبالله التوفيق.
[فصل في التماثيل]
فصل في
التماثيل ولا يجوز عمل التماثيل المصورة على صفة الإنسان أو صفة شيء من الحيوان؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم:(3/457)
أحيوا ما خلقتم» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل وتصاوير» . والمحرم من ذلك بإجماع ما كان مخلوقا له ظل قائم على صفة الإنسان، أو ما يحيى من الحيوان، وما سوى ذلك من المرسوم في الحيطان، والمرقوم في الستور التي تنشر، أو البسط التي تفترش أو الوسائد التي يرتفق بها ويتكأ عليها مكروهة وليست بحرام في الصحيح من الأقوال، لتعارض الآثار في ذلك؛ لأن ما تعارضت فيه الآثار فهو من المشتبهات التي قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها: «فمن اتقى المشتبهات استبرأ لدينه وعرضه» . وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:
أحدها: تحريم جميعها سواء كانت مرسومة في حائط، أو مرقومة في ثوب ينشر أو يتوسد أو يبسط.
والثاني: إباحة جميعها.
والثالث: إباحة ما عدا المرسوم منها في الحيطان والجدر.
وما عدا المرقوم منها في الستور التي تعلق ولا تمتهن بالبسط لها والجلوس عليها.
والذي يباح من ذلك للعب الجواري به ما كان غير تام الخلقة لا يحيى ما كان على صورته في العادة، كالعظام التي يجعل لها وجوه بالرسم وكالترويق في الحائط. وقد قال أصبغ: الذي يباح من ذلك ما يسرع إليه البلى والفساد، وليس ذلك ببين في وجه القياس والنظر، وبالله التوفيق.
[فصل في وصل الشعر وما كان في معناه وفي الخضاب]
فصل في
وصل الشعر وما كان في معناه وفي الخضاب ولا يجوز للمرأة أن تصل شعرها ولا أن تشم وجهها ولا بدنها، ولا أن تنشر(3/458)
أسنانها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والواشمة والمستوشمة، والمتنمصات المتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» . والمعنى في المنع من ذلك أن فيه غرورا وتدليسا.
فالوشم المنهي عنه هو أن المرأة كانت تغرز ظهور كفيها، أو معصمها بإبرة، أو مسلة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه بالكحل فتخضر بذلك.
والوشر هو أن تنشر أسنانها حتى تفلجها وتحددها.
ويجوز لها أن تخضب يديها ورجليها بالحناء. واختلف في تطريف أصابعها، فأجاز ذلك مالك في سماع ابن القاسم من كتاب النكاح، ولم ير به بأسا.
وجاء النهي في ذلك عن عمر بن الخطاب، روي عنه أنه خطب فقال: يا معشر النساء إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا وأشار إلى موضع السوار.
وأما الخضاب فهو صبغ شعر الرأس واللحية بما عدا السواد من الحناء والكتم وشبه ذلك، فقيل: إن ذلك جائز، وقيل: إنه مستحب. وأما بالسواد فمن أهل العلم من أجازه، ومنهم من كرهه؛ لما فيه من التدليس والإيهام أنه باق على حاله من الشباب، فقد تغتر المرأة التي تتزوجه بذلك. ولو فعل ذلك الشيخ في الحرب ليوهم العدو أنه شاب جلد لأوجر في ذلك إذا صحت نيته فيه. وبالله التوفيق. لا إله إلا هو.
[فصل في التفرقة بين الصبيان في المضاجع]
فصل في
التفرقة بين الصبيان في المضاجع ويفرق بين الصبيان في المضاجع، قيل: لسبع سنين إذا أمروا بالصلاة وقيل:(3/459)
لعشر إذا أدبوا عليها وهو ظاهر الحديث ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان متعريين في لحاف واحد؛ للنهي الوارد في ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو نهيه عن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار. ويروى معاكمة. والمكامعة هي أن يضاجع الرجل صاحبه في ثوب واحد أخذا من الكمع وهو الضجيع، ومنه قيل لزوج المرأة: كمعها. وأما المعاكمة فهي مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومنه قيل: عكمت الثياب إذا شددت بعضها إلى بعض. ومن هذا ما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تباشر المرأة المرأة ولا الرجل الرجل» وبالله التوفيق.
[فصل فيما يجوز للرجل أن ينظر إليه من النساء]
فصل
فيما يجوز للرجل أن ينظر إليه من النساء
ولا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة ليست منه بمحرم للنهي عن ذلك، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان ثالثهما» معنى أنه يوسوس إليه مواقعة المعصية بها مع الخلوة حتى تحدثه نفسه بها. .
ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة المتجالة؛ لقول الله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] . ولا يجوز له أن ينظر إلى الشابة إلا لعذر من شهادة أو علاج،(3/460)
أو عند إرادة نكاحها؛ لإباحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك وقوله: «فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» .
وإنما اختلف إذا أراد نكاحها هل له أن يغتفلها النظر من الكوة؟ فكره ذلك مالك ولم يبحه له، وأجاز ذلك ابن وهب وغيره للآثار المروية في ذلك. من ذلك حديث جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم المرأة فقدر على أن يرى منها ما يعجبه فليفعل؛ قال جابر: فلقد خطبت امرأة من بني سلمة وكنت أتخفى لها في أصول النخل حتى رأيت منها بعض ما يعجبني فخطبتها فتزوجتها» . ولم يسمع ذلك مالك ولا صح عنده؛ ولذلك كرهه، والله أعلم، أو لعله إنما كره ذلك مخافة أن يرى منها بعض عريتها. ومن أجاز ذلك للآثار المروية فيه فإنما أجازه إذا أمن من ذلك.
فصل ويجوز للعبد أن يرى من سيدته ما يراه ذو المحرم منها؛ لقوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] إلا أن يكون له منطرة فيكره أن يرى منها ما عدا وجهها. ولها أن تؤاكله إذا كان وغدا دنيا، يؤمن منه التلذذ بها، بخلاف الشاب الذي لا يؤمن ذلك منه.
وقد اختلف في غير أولي الإربة من الرجال الذين عناهم الله تعالى، فقيل: هو الأحمق والمعتوه الذي لا يهتدي لشيء من أمور النساء، وقيل: هو الحصور العنين الذي لا ينتشر للنساء، والخصي مثله في المعنى.
والقول الأول هو الذي ذهب إليه مالك، ويؤيده «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه في المخنث الذي كان عند أم سلمة: "لا يدخل هؤلاء عليكن» الداخلة(3/461)
عليها في استتارها منه. هذا هو القياس إذا لم يكن عبده من غير أولي الإربة. وقد وقع له في موضع إجازة دخوله عليها إذا لم يكن حرا وكان عبدا لها ولزوجها أو لغيره، وذلك استحسان على غير قياس مراعاة للاختلاف وبالله التوفيق.
[فصل في حضور اللهو]
فصل في
حضور اللهو ولا يجوز تعمد حضور شيء من اللهو واللعب، ولا من الملاهي المطربة كالطبل والزمر وما كان في معناه؛ لقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل لهو يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاث» : والثلاث ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه ".
ورخص من ذلك في النكاح الدف وهو الغربال باتفاق، والكبر والمزهر على ثلاثة أقوال: إباحتها جميعا، وكراهتهما جميعا، وإباحة الكبر دون المزهر، قيل: للنساء دون الرجال، وقيل: للنساء والرجال. واختلف هل هو من قبيل المباح الذي يستوي فعله وتركه، أو هو من قبيل المباح الذي تركه أحسن من فعله وبالله التوفيق.(3/462)
[فصل في قراءة القرآن بالألحان]
فصل في
قراءة القرآن بالألحان ولا يجوز قراءة القرآن بالألحان المطربة كالغناء الملهية لسامعها عن الخشوع والاعتبار بآيات القرآن والخشية وتجديد التوبة عند سماع مواعظه. فالواجب أن ينزه القرآن عن ذلك ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق إلى ما عند الله؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] . والألحان تكره في الشعر فكيف في القرآن.
فمن قصد إلى سماع القرآن بالصوت الحسن والقراءة المجودة فهو حسن. وقال عمر بن الخطاب لأبي موسى: ذكرنا ربنا؛ لحسن صوته بالقرآن وتجويده لقراءته. وقد اختلف في تأويل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» اختلافا كثيرا. وأحسن ما في ذلك عندي أن يكون المعنى فيه ليس منا من لم يلتذ بسماع قراءة القرآن؛ لرقة قلبه، وشوقه إلى ما عند ربه كما يلتذ أهل الغواني بسماع غوانيهم، والله أعلم وبه التوفيق. لا رب غيره ولا معبود سواه.
[فصل في السفر بالقرآن إلى أرض العدو والتعوذ به]
ولا يجوز أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ لما في ذلك من الاستخفاف(3/463)
بحقه وحرمته مخافة أن يناله العدو، وللنهي الوارد في ذلك. ويجوز أن يكتب إليهم منه بالآية والآيتين إذا كان الغرض من ذلك الدعاء إلى الإسلام؛ لما روي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إليهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآيات.
فصل
والتعوذ بالقرآن جائز. قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَقَالَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] .
«وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. وكان من تعوذه: أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات من شر ما خلق وبرأ وذرأ ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها.
» والرقية به وبأسماء الله تعالى جائزة؛ لقوله جل ذكره: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 82 - 92] «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابني جعفر بن أبي طالب: استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين» ، إذ دخل عليهما فرآهما ضارعين فسأل عن ذلك حاضنتهما فقالت: إنه تسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك. والآثار في هذا المعنى كثيرة.(3/464)
وتجوز رقية الذمي بكتاب الله؛ لقول أبي بكر الصديق إذ دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها: ارقيها بكتاب الله عز وجل. وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاه عبد الوهاب، فلا اختلاف في جواز الاستعاذة بالقرآن والرقية به.
وإنما اختلف أهل العلم في جواز تعليق الأحراز والتمائم على أعناق الصبيان والمرضى والحبالى والخيل والبهائم إذا كانت بكتاب الله عز وجل، وما هو معروف من ذكره وأسمائه؛ للاستشفاء من المرض، أو في حال الصحة؛ لدفع ما يتوقع من المرض والعين، فظاهر قول مالك من رواية أشهب من كتاب الصلاة إجازة ذلك، وروي عنه أنه قال: لا بأس بذلك للمرضى وكرهه للأصحاء مخافة العين وما يتقى من المرض.
وأما التمائم بغير ذكر الله وهي بالكتاب العبراني وما لا يعرف ما هو فلا يجيزه بحال لمريض ولا صحيح؛ لما جاء في الحديث: «من تعلق شيئا وكل إليه ومن علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له» ؛ ولما رواه في موطئه من أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في بعض أسفاره رسولا والناس في مقيلهم ألا تبقين في رقبة قلادة من وتر أو غيره إلا قطعت» .
ومن أهل العلم من كره التمائم، ولم يجز شيئا منها بحال ولا على حال؛ لما جاء من هذه الآثار، ومنهم من أجازها في المرض، ومنعها في الصحة؛ لما يتقى منه، أو من العين على ما روي عن عائشة أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة.
وقول مالك في رواية أشهب المذكورة أولى الأقوال بالصواب من جهة النظر، إذ يبعد إجازة تعليق تميمة لا ذكر لله فيها في حال من الأحوال، ولا وجه من طريق النظر للتفرقة فيما كان منها بذكر الله بين الصحة والمرض إلا اتباع قول عائشة في ذلك، إذ لا تقوله رأيا والله أعلم.
وقوله الثاني أتبع للأثر لاستعمال الآثار كلها بحمل النهي على ما ليس فيه ذكر الله، وقول عائشة على ما كان منها بذكر الله.
فصل
ومن عين إنسانا أمر العائن أن يتوضأ له. وصفة ذلك أن يغسل وجهه ويديه(3/465)
ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في إناء، ثم يصب على المريض المعين، لورود الخبر بذلك في «حديث عامر بن ربيعة لما مر بسهل بن حنيف فعين سهلا، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ له على هذه الصفة بعد أن تغيظ عليه وقال: علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت» وما يصيب المعين بقول العائن إذا لم يبرك أمر أجرى الله العادة به في الغالب مع القدر السائق.
وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا بركت إن العين حق» . يريد أن الله أجرى العادة به في أغلب الأحوال، لا أن قول العائن هو المحدث لما أصاب المعين وبالله التوفيق.
[فصل في التداوي بالكي وقطع العروق والحجامة وشرب الدواء]
فصل في
التداوي بالكي وقطع العروق
والحجامة وشرب الدواء
لا اختلاف فيما أعلمه في أن التداوي بما عدا الكي من الحجامة، وقطع العروق، وأخذ الدواء مباح في الشريعة غير محظور، وقد كرهه بعض السلف ورأى تركه اتكالا على الله أفضل.
«واحتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حجمه أبو طيبة فأمر له بصاع من طعام وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه. وقال: "إن كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه» . «وتطبب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطبيبي بني أنصار: أيكما أطب فقالا: أوفي الطب خير يا رسول الله؟ فقال: أنزل الله الدواء كما أنزل الأدواء» .
وروي أنه «قيل لعائشة: من أين لك العلم بالطب؟ فقالت: إن العلل كانت تعتاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيرا وكان يشاور الطبيب فكنت أسمع ما يقول له» .
وروي أن أسامة بن شريك قال: «شهدت الأعارب يسألون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل علينا من حرج أن نتداوى؟ فقال: "تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل معه دواء - أو قال: شفاء - علمه من علمه، وجهله من جهله» . ولا يجوز التداوي بشرب الخمر ولا بشرب شيء من النجاسات.(3/466)
وأما التداوي بالكي فاختلف السلف في إجازته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النهي عنه. «روى عمران بن حصين قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن الكي فما زال البلاء بنا حتى اكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا.
قال عمران وكان يسلم علي فلما اكتويت فقدت ذلك ثم راجعته بعد السلام» . وروي «عن جابر بن عبد الله قال: اشتكى منا رجل شكوى شديدة فقال الأطباء: لا يبرأ إلا بالكي فأراد أهله أن يكووه وقال بعضهم: لا حتى نستأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأمروه فقال: لا، فبرئ. فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: هذا صاحب بني فلان؟ قالوا: نعم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن هذا لو كوي لقال الناس: إنما أبرأه الكي»
والذي عليه الأكثر إجازته، فقد «كوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسعد بن زرارة من الذبحة فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بئس الميت ليهود يقولون: لم يغن عنه صاحبه»
وجاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر وابن عباس أنه قال: «إن كان الشعاء ففي ثلاث أو قال: الشفاء في ثلاث: شربة عسل، أو كية نار، أو شرطة محجم» . فقد يحتمل بدليل هذه الآثار أن يكون نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكي إنما كان في أمر ما أو علة ما أو نهي أدب وإرشاد إلى التوكل على الله والثقة به، فلا شافي سواه ولا مهرب لأحد عما قضاه.
ومن الدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما توكل من استرقى أو اكتوى» يريد ما توكل حق التوكل، لأن من لم يسترق ولم يكتو أكثر إخلاصا للتوكل منه. ويعضد هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يدخل الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون» .
[فصل في اللعب بالنرد وبالشطرنج وما كان في معناهما]
فصل في
اللعب بالنرد وبالشطرنج
وما كان في معناهما
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» ، «ومن لعب بالنرد فكأنما غمس يده في لحم خنزير» . وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد. ومثله الأربعة عشر، وهي قطع معروفة كان يلعب(3/467)
بها كالنرد. وقد سئل مالك عن لعب الرجل بها مع امرأته في البيت فقال: ما يعجبني ذلك وليس من شأن المؤمن اللعب؛ لقول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فهذا من الباطل. فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطار لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . وأما اللعب بشيء من ذلك كله على غير وجه القمار فقد وسع فيه بعض العلماء. والصواب أن ذلك لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» . فعم ولم يخص قمارا من غيره.
ولأن اللعب بالشطرنج وما كان في معناه يلهي عن العبادات ويشغل عن ذكر الله والمحافظة على الصلوات، ويؤدي الإدمان على ذلك إلى القمار والأيمان الكاذبة، وذلك كله فسوق. فمن أدمن اللعب به كان ذلك قدحا في إمامته وشهادته، فقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها.
وبلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا عندهم نرد فأرسلت إليهم فيها لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري وأنكرت ذلك عليهم، وبالله التوفيق.
[فصل في قتل الحيات وما يؤذي من الحيوان]
فصل في
قتل الحيات وما يؤذي من الحيوان ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الحيات في غير حديث، من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» فذكر فيهن الحية. وروي عنه أنه قال: «ما سالمناهن منذ حاربناهن» وروي «منذ عاديناهن فمن تركهن فليس منا» . قال أحمد ابن صالح: والمعاداة التي أراد في الحديث كانت منذ أخرج آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من(3/468)
الجنة. قال عز وجل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] فأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الحيات عموما.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا" يريد الحيات، "فإذا رأيتم منها شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» . فكان ذلك مخصصا لعموم أمره بقتل الحيات، فلا يجوز أن تقتل الحيات بالمدينة إلا بعد الاستئذان ثلاثا إلا ذي الطفيتين والأبتر على ما جاء في الحديث من أنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء.
ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل حيات البيوت، فاحتمل أن يريد بيوت المدينة خاصة، وأن يريد جميع البيوت بالمدينة وغيرها، فيستحب لهذا الاحتمال ألا تقتل حيات البيوت في غير المدينة إلا بعد الاستئذان ثلاثا من غير إيجاب بخلاف حيات المدينة. وأما حيات الصحاري والأودية فلا خلاف في أنها تقتل من غير استئذان؛ لأنها باقية على الأمر بقتلها.
وأما الوزغ فيقتل حيثما وجد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله وسماه فوسيقا. وكذلك يقتل سائر ما أمر بقتله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور.
«ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل أربع: النحلة، والنملة، والهدهد، والصرد» فلا تقتل النحلة لأنها ينتفع بها إذا بقيت ولا ينتفع بلحمها إذا قتلت، والنملة؛ لأنها لا ينتفع بلحمها إذا قتلت وهي موصوفة بمعنى محمود من التسبيح على ما جاء من أن الله عز وجل أوحى إلى نبي من الأنبياء؛ لما أحرق قرية النمل إذ لدغته واحدة منهن: لدغته نملة واحدة قرصته أحرقت أمة من الأمم تسبح.
وروي أن نبيا من الأنبياء خرج بالناس يستسقي فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة. إلا أن تؤذي فيجوز قتلها لإذايتها. وكذلك يجوز قتل ما يؤذي من جميع الدواب كالبرغوث والقملة، ولا يجوز قتل شيء من ذلك بالنار؛ لأنه من التمثيل والتعذيب، وبالله التوفيق.(3/469)
[فصل في السنة في السفر للرجال والنساء]
فصل في
السنة في السفر للرجال والنساء الوحدة في السفر مكروهة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير الصحابة أربعة، وخير الطلائع أربعون، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة إلا أن تفترق كلمتهم» .
ويستحب للمسافرين الرفق بدوابهم وإنزالها منازلها في الخصب والتجافي عليها بسقيها في الجدب، وأن لا يعرسوا على الطريق، وأن يعجل الرجل الرجوع إلى أهله إذا قضى نهمته من سفره، وأن يدخل في صدر النهار ولا يأتي أهله طروقا على ما جاء في الحديث من ذلك كله.
ولا بأس بالإسراع في المشي وطي المنازل فيه عند الحاجة إلى ذلك، فقد سار ابن عمر وسعيد بن أبي هند وكانا من خيار الناس من مكة إلى المدينة في ثلاثة أيام وهي مسيرة عشرة أيام على السير المعتاد.
ولا تسافر المرأة إلا مع زوجها أو ذي محرم منها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها» بدليل قول الله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] وفيما عدا الهجرة إلى بلد الإسلام من بلد الكفر إذا أسلمت فيه، وفيما عدا السفر إلى حج الفريضة؛ لأن هجرتها إلى بلد الإسلام مخصصة من عموم الحديث بالإجماع، والسفر إلى الحج مخصص منه بالقياس على الإجماع.(3/470)
ويكره في الأسفار تعليق الأجراس في أعناق الإبل والدواب، فقد «روي أن العير التي فيها الأجراس لا تصحبها الملائكة» وتقليدها الأوتار قيل: إذ لا يأمن أن تختنق بها على أخذ التأويلين في الحديث الذي جاء «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل عبد الله بن أبي بكر في بعض أسفاره والناس في مقيلهم ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» . وقيل معنى ذلك في التمائم المعلقة عليها مخافة العين، قاله مالك في موطئه، وتأويله أظهر، والله أعلم.
[فصل في تنزيه المساجد عما لم توضع له]
فصل في
تنزيه المساجد عما لم توضع له
وينبغي أن تنزه المساجد عن عمل الصناعات وأكل الألوان والمبيت فيها إلا من ضرورة للغرباء، ومن الوضوء فيها واللغط ورفع الصوت فيها وإنشاد الضالة والبيع والشراء؛ لقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ} [النور: 37] إلى آخر الآية؛ لأنه عز وجل أعلم بهذه الآية ما وضعت المساجد له، فوجب أن تنزه عما سوى ذلك مما ذكرناه، ومن تقليم الأظفار، وقص الشعر فيها، والأقذار كلها والنجاسات؛ ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم وسل سيوفكم ورفع أصواتكم واجعلوا مطاهركم على أبوابها» . وقد بنى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رحبة بناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا ويرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة.
وكان عطاء بن يسار إذا مر به من يبيع في المسجد دعاه فسأله ما معه وما تريد، فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه في المسجد قال: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة. وبالله التوفيق.(3/471)
[فصل في وسم الأنعام والدواب وخصائصها]
فصل في
وسم الأنعام والدواب وخصائصها يجوز خصاء الغنم بخلاف الخيل؛ لما روي من «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن خصاء الخيل» وضحى بكبشين أملحين موجوءين، ولم ينكر ذلك؛ لأن الغنم تراد للأكل وخصاؤها لا يمنع من ذلك بل هو صلاح للحومها وتطيب لها. والخيل إنما تراد للركوب والجهاد وذلك ينقص قوتها ويضعفها ويقطع نسلها، فهذا فرق ما بينهما.
ويكره أن يوسم شيء من الحيوان في الوجه، ولا بأس بذلك في أجسادها؛ لما يحتاج الناس إليه من علامات يعرفون بها أنعامهم ودوابهم. وأما الغنم فأرخص في أن توسم في آذانها إذ لا يمكن أن توسم في أجسادها لمغيب السمة فيها بأصوافها.
وقد «نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن السمة في الوجه» وروي عنه «أنه مر به حمار قد كوي في وجهه فعاب ذلك» حكى ذلك عبد الوهاب في المعونة. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا موسوم الوجه فأنكر ذلك» . قال ابن عباس: فوالله لا أسم في شيء من الوجه، فأمر بحمار له فكوي في جاعرتيه، فهو من أول من كوى الجاعرتين، وبالله التوفيق.
[فصل في الرؤيا والحلم]
فصل في
الرؤيا والحلم ينبغي لمن رأى في منامه ما يكره أن يتفل عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ ويستعيذ بالله عز وجل من شر ما رأى ويتحول على جنبه الآخر، فإنه إذا فعل ذلك(3/472)
لم يضره ما رأى إن شاء الله على ما جاء في الحديث الذي ذكره مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: سمعت أبا قتادة بن ربعي يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الرؤية الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فليتفل عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شر ما رأى فإنها لن تضره إن شاء الله» .
قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل فلما سمعت هذا الحديث فما كنت أبالي بها. وفي رواية ابن وهب مثل هذا إلا أنه قال:: «أعوذ بما أعاذت به ملائكة الله ورسله من شر ما رأيت أن يصيبني منه شيء أكرهه في الدنيا والآخرة، وليتحول على شقه الآخر» .
والمعنى في ذلك أن الرؤيا الصالحة وهي الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا أو في الآخرة لا مدخل فيها للشيطان وهي من الله عز وجل من ستة وأربعين جزءا من النبوءة إذا رآها الرجل الصالح، وروي من خمسة وأربعين جزءا، وروي من سبعين جزءا " والمعني في هذه التجزئة أن ما يصاب في تأويله من هذه الرؤيا التي على هذه الصفة المذكورة في الحديث فيخرج على ما تعبر به فما يخطأ في تأويله فلا يخرج على ما يعبره بكونه جزءا من خمسة وأربعين، أو من ستة وأربعين، أو من سبعين، إذ لو خرجت كلها على ما تعبر لكانت كالنبوءة في الإخبار بالمغيبات، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يبقى بعدي من النبوءة إلا المبشرات "، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة» . فالرؤية الصالحة المبشرة من الله جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث إن كانت من الرجل الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها وإن كانت من الله تعالى: إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوءة ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين.(3/473)
والرؤية المكروهة تنقسم على قسمين: منها رؤيا من الله عز وجل قد يصاب في تأويلها فيخرج ما يعبر به، وقد يخطأ في تعبيرها فلا تخرج على ما تعبر به، ولا يقال فيها أيضا: إنها جزء من خمسة وأربعين ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين. ومنها حلم من قبل الشيطان يحزن به الإنسان لا تضر رؤيته شيئا، فأمر الرجل إذا رأى في منامه ما يكرهه أن يستعيذ بالله من شر ما رأى، فإذا فعل ذلك موقنا بما روي في ذلك لم يضره ما رأى.
والمعنى في ذلك أن الله لا يوفقه للاستعاذة مما رأى بيقين صحيح إلا فيما هو من تحزين الشيطان أو فيما هو بخلاف ما تأوله مما كرهه، وقد يصرف الله عنه ما كرهه مما رآه في منامه وإن كان من الله بالاستعاذة منه، كما يصرف عنه سوء القدر بالدعاء الذي قد سبق في علمه أنه يصرفه به على ما قد ذكرناه في رسم سن من الجامع من كتاب البيان وبالله التوفيق.
[فصل في السباق]
فصل في
السباق المسابقة جائزة على مذهب مالك في الخيل والإبل، وبالرمي بالسهام. والأصل في جواز ذلك قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن القوة الرمي» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» . ومن أهل العلم من لم يجز المسابقة إلا في الخيل والإبل، لما روي من أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا سبق إلا في خف أو حافر» . وأجاز محمد بن الحسن المسابقة على الأقدام، وأجاز بعض أصحاب الشافعي المسابقة بالحمير والبغال، وهو شذوذ؛ لأن الغرض في السباق التمرن لقتال العدو، ولا يتأتى ذلك في البغال والحمير، إذ لا تصلح للكر(3/474)
والفر. ألا ترى أنه لا يسهم لها، وإنما يصلح لذلك الخيل وحدها وهي التي يسهم لها. وثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بينهما. والمسابقة في ذلك جائزة على الرهان، والرهان الذي يكون فيها على ثلاثة أوجه: وجه جائز باتفاق، ووجه غير جائز باتفاق، ووجه مختلف في جوازه.
فأما الوجه الجائز باتفاق فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا لا يرجع إليه بحال ولا يخرج من سواه شيئا، فإن سبق مخرج الجعل كان الجعل للسابق، وإن سبق هو صاحبه ولم يكن معه غيره كان الجعل طعمة لمن حضر.
وإن كانوا جماعة كان الجعل لمن جاء سابقا بعده منهم. وهذا الوجه في الجواز مثل أن يخرج الإمام الجعل فيجعله لمن سبق من المتسابقين، فهو مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم أجمعين.
وأما الوجه الذي لا يجوز باتفاق فهو أن يخرج كل واحد من المتسابقين إن كانا اثنين أو كل واحد من المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا، فهذا لا يجوز باتفاق؛ لأنه من الغرر والقمار والميسر والخطار المحرم بالقرآن.
وأما الوجه المختلف فيه فهو أن يخرج أحد المتسابقين إن كانا اثنين أو أحد المتسابقين إن كانوا جماعة جعلا ولا يخرج من سواه شيئا على أنه إن سبق أخذ جعله وإن سبقه غيره كان الجعل للسابق.
فهذا الوجه اختلف فيه قول مالك، وهو على مذهب سعيد بن المسيب جائز. ومن هذا الوجه المختلف فيه أن يخرج كل واحد من المتسابقين جعلا على أن من سبق منهما أحرز جعله وأخذ جعل صاحبه على أن يدخلا بينهما محللا لا يأمنان أن يسبقهما على أنه إن سبقهما أخذ الجعلين جميعا.
فهذا الوجه أجازه سعيد بن المسيب ولم يجزه مالك ولا اختلف فيه قوله كما اختلف في الوجه الأول الذي قبله؛ لأنه أخف في الغرر من الوجه الذي قبله. ويجمع بينهما في المعنى أن حكم مخرج الجعل مع صاحبه من تلك حكم مخرج الجعل مع المحلل في هذه. وسواء كان مع الجماعة المتسابقين محلل واحد أو مع الاثنين المتسابقين جماعة محللون، الخلاف في كل ذلك، إلا أنه كلما كثر المحللون وقل المتسابقون كان الغرر أخف والأمر أجوز. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/475)
أنه قال: «من أدخل فرسا بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق فذالكم القمار» رواه أبو هريرة، وهو حجة لسعيد بن المسيب، وبالله التوفيق.
[فصل في الشؤم والعدوى والطيرة]
فصل في
الشؤم والعدوى والطيرة روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وأنه قال: «إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس» وأنه قال: «لا عدوى ولا طيرة» . فمن أهل العلم من قال: الشؤم في الدار ما يصيب ساكنها من المصائب، وكذلك الفرس والمرأة، وجعل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا طيرة» معارضا له. وضعف حديث الشؤم بما روي أن عائشة أنكرت على أبي هريرة حديثه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ومنهم من صحح الحديث وتأوله على أن الشؤم في الدار معناه سوء الجوار، وفي المرأة سوء خلقها، وفي الفرس كذلك.
والذي أقول به أنه لا تعارض بين الحديثين، لأن المعنى الذي أوجبه في أحدهما غير المعنى الذي نفاه في الآخر. نفى في الحديث الواحد أن يكون لشيء من الأشياء عدوى في شيء من الأشياء أو تأثير فيه؛ لقوله لا عدوى ولا طيرة، إذ لا فاعل إلا الله تعالى.
وأعلم في الحديث الآخر أنه قد يوجد الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وهو تكرار الأذى على ساكن بعض الدور أو نكاح بعض النسوة أو اتخاذ(3/476)
بعض الخيل بقضاء الله عز وجل وقدره السابق على ما أخبر به حيث قال في كتابه العزيز: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] وفي الفرس ركوبه فيما لا ينبغي ركوبه فيه أو مصيبة تحدث عليه بركوبه إياه، لا بعدوى شيء من ذلك على شيء ولا بتأثير له فيه.
فلم ينف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: "لا عدوى وجود ما هو موجود مما يعتدى، وإنما نفي أن يكون شيء من الأشياء يعدى على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهلة بالله ". ألا ترى ما جاء في الحديث الصحيح من قوله: «لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل المريض على المصح وليحل المصح على المريض حيث شاء» . قالوا يا رسول الله: وما ذاك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه إذا نفي أن يكون لشيء عدوى ونهي أن يحل المريض على المصح؛ لأنه قد يتأذى بذلك، على ما هو موجود من جري العادة في ذلك بقضاء الله وقدره السابق، ويبين هذا الذي ذكرناه حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا عدوى ولا هام ولا صفر فقام أعرابي فقال يا رسول الله: إن الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء يرد عليها البعير الجرب فتجرب كلها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن أعدى الأول» . وبالله التوفيق لا شريك له ولا رب غيره ولا معبود سواه.
[فصل في فضل مكة والمدينة والتفضيل بينهما]
فصل في
فضل مكة والمدينة والتفضيل بينهما
لا اختلاف بين أهل العلم في فضل مكة والمدينة وأنهما أفضل البقاع، وإنما اختلفوا في التفضيل بينهما. فذهب جماعة من المالكيين إلى أن المدينة أفضل من مكة، وقال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما من أهل العلم: مكة أفضل من المدينة وهو الأظهر؛ لأن الله عز وجل حرم مكة وعظم حرمتها، وجعل بيته فيها قبلة للصلاة فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ} [البقرة: 144] وَقَالَ {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25](3/477)
الآية وقال: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] وقد جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكة مزية على المدينة بتحريم الله إياها فقال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس» ، وأوجب بذلك أهل العلم كلهم الجزاء على من صاد في حرم مكة، ولم يوجبه على من صاد في حرم المدينة إلا الشاذ منهم. فيستفاد من هذا الإجماع على أن الذنب في الصيد في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة.
وقد رأى جماعة من أهل العلم أن تغليط الحدود في حرم مكة لحرمته، ولا تقام فيه؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم في حرم المدينة.
فإذا كان الذنب في مكة أغلظ منه في المدينة، والصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة على ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا من رواية عطاء ابن أبي رباح عن الزبير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في هذا» . وإذا كان الذنب في حرم مكة أغلظ منه في حرم المدينة، والصلاة في مسجد مكة الذي أوجب الله الحج إليه لفضله بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] أفضل من الصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صح أن مكة أفضل من المدينة، إذ ليس تفضيل بعض البقاع على بعض بمعنى موجود في ذواتها، وإنما هو لتضعيف الحسنات والسيئات فيها. وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لأن أعمل عشر خطايا بالمدينة أحب إلي أن أعمل واحدة بمكة. والمعنى في هذا أن السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف فيها الحسنات.
وقد استدل القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي على ما ذهب إليه من تفضيل المدينة على مكة بظواهر آثار كثيرة لا حجة في شيء منها.(3/478)
من ذلك ما روت عمرة بنت عبد الرحمن عن رافع بن خديج أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدينة خير من مكة» . قال: وهذا نص في تفضيل المدينة على مكة، وليس بنص كما زعم إذ لم يقل: إنها أفضل منها وإنما قال: هي خير منها، فيحمل ذلك لما ذكرناه من الأدلة الظاهرة على أن مكة أفضل من المدينة على أنه إنما أراد بقوله: إن المدينة خير من مكة أنها خير منها في سعة الرزق فيها، بكثرة الزرع والثمرات، وتمكن التجارات؛ لأن الله عز وجل أخبر عن مكة أنها بلد غير ذي زرع بقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فمعنى الحديث، والله أعلم، أنه أراد أن ينبه أصحابه المهاجرين على فضل الله عليهم بأن جعل هجرتهم من مكة إلى بلد هو أوسع في الزرع منها ليشكروا الله على ذلك حق شكره.
ومن ذلك دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمكة ومثله معه. وهذا أيضا لا دليل فيه، إذ ليس في دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك لأهل المدينة في مدينتهم وصاعهم ومدهم على ما جاء في الحديث المذكور ما يدل على أنها أفضل من مكة بوجه.
ومن ذلك قوله: «اللهم كما أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك» . وهذا الحديث ليس على عمومه، ومعناه فأسكني في أحب البقاع إليك بعد مكة، بدليل ما تقدم من أن مكة أفضل من المدينة بالنص الذي ذكرته على ذلك.
ومن ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . وهذا أيضا لا حجة فيه إذ ليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل من صبر على لأواء المدينة وشدتها في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقام معه لنصرته، والصلاة في مسجده بعد وفاته؛ لما جاء من الفضل في الصلاة في مسجده على سائر المساجد إلا المسجد الحرام ما يدل على فضل المدينة على مكة، لا سيما وقد جاء النص بأن الصلاة في مسجد مكة أفضل من الصلاة في مسجد المدينة بمائة صلاة.(3/479)
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن معنى قوله: إن الإيمان ليأرز إلى المدينة أن الناس ينتابونها من كل ناحية للدخول في الإسلام؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فهذا لا دليل فيه على أنها أفضل من مكة.
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بقرية تأكل القرى يقال لها: يثرب تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» . وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن المعنى أمرت بالهجرة إلى قرية تفتح القرى منها أي المدن، فكان ذلك كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حياته وبعد وفاته، وذلك من علامات نبوته أن أخبر بما كان قبل أن يكون، فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة.
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» . وهذا لا دليل فيه أيضا لا سيما وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر ابن عبد الله «أنه يرد على كل ماء وسهل وجبل إلا المدينة ومكة قد حرمها الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها» .
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» ، ولا دليل في ذلك؛ لأن المعنى فيه الإعلام بفضل ذلك الموضع فترفع درجات المصلي فيه ويسمع دعاؤه فيه فيصل بذلك إلى روضة من رياض الجنة. فالكلام ليس بحقيقة وإنما هو من المجاز الذي جاء به القرآن ويعرفه العرب، مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجنة تحت ظلال السيوف» ، وليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل ذلك الموضع ما يدل على أن المدينة أفضل من مكة.
ومما استدل به أيضا على أن المدينة أفضل من مكة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق منها، فتربته أفضل الترب. وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنا قد بينا أن البقاع لم يفضل بعضها على بعض بمعنى موجود فيها من خاصية تختص بها، وإنما فضلت عليها لتفضيل الله لها برفع درجات العاملين فيها.
ولما أكمل احتجاجه بهذه الأحاديث التي ذكرناها وضعفنا احتجاجه بها قال: فإذا ثبت بما ذكرناه فضيلة المدينة على مكة كانت الصلاة في مسجدها أفضل لا محالة من الصلاة في المسجد الحرام، ويكون استثناء المسجد الحرام من تفضيل(3/480)
الصلاة في مسجد الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على سائر المساجد إنما هو في مقدار الفضيلة لا في أصلها، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بدون الألف لفضل مسجد مكة على غيره من المساجد؛ فكانت للمسجد الحرام بذلك مزية على سائر المساجد، كما كان لمسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مزية على المسجد الحرام، فبان بذلك فضل المدينة على مكة. هذا معنى قوله وليس بصحيح؛ لما ذكرنا من تضعيف الاستدلالات التي استدل بها لفضل المدينة على مكة؛ ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا من «أن الصلاة في المسجد الحرام بمكة أفضل من الصلاة بمسجد الرسول بالمدينة،» فالاستثناء في هذا الحديث على ظاهره استثناء لجملة التفضيل، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه لا فضل له عليه، بل له الفضل عليه على ما جاء في الحديث الذي ذكرناه.
وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل المدينة على مكة بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها. يعني المدينة» . وهذا لا حجة فيه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هاجر من مكة فلم يصح له الرجوع إليها وكانت المدينة أحب البقاع إلى الله بعدها استحب ألا ينتقل عنها حتى يموت فيها فيكون قبره بها، وبالله التوفيق.
[فصل في حكم إجماع أهل المدينة وترجيح مذهب مالك رحمه الله وذكر فضله]
فصل في
حكم إجماع أهل المدينة وترجيح مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وذكر فضله وعلو مرتبته في العلم
إجماع أهل المدينة على الحكم فيما طريقه النقل حجة يجب المصير إليها والوقوف عندها وتقديمها على أخبار الآحاد وعلى القياس، كنحو إجماعهم على جواز الأحباس والأوقاف، وعلى صفة الأذان والإقامة، وعلى مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومده، وعلى إسقاط الزكاة من الخضروات وشبه ذلك؛ لأن ذلك كله نقله الخلف(3/481)
منهم عن السلف، فحصل به العلم من جهة نقل التواتر، فوجب أن يقدم على القياس وعلى أخبار الآحاد؛ إذ لا يقع بها العلم وإنما توجب غلبة الظن كشهادة الشاهدين.
وبهذا المعنى احتج مالك على أبي يوسف حين ناظره بحضرة الرشيد لإثبات الأوقاف والصدقات، فقال: هذه صدقات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحباسه مشهورة عندنا بالمدينة معروفة ينقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن. فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول: إنها غير جائزة وأنا أقول: إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى إجازتها. وبمثل هذه الحجة رجع إلى القول بأن مقدار الصاع والمد ما يقوله أهل المدينة وترك مذهب أبي حنيفة لما رأى في ذلك من تواتر النقل وتناصره الموجب للعلم.
وكذلك ما اتصل العمل به بالمدينة من جهة القياس والاجتهاد هو حجة أيضا كمثل ما أجمعوا عليه من جهة النقل، يقدم على أخبار الآحاد وعلى ما خالفه من القياس عند مالك؛ لأن ما اتصل العمل به لا يكون إلا عن توقيف. وأما إجماعهم على الحكم في النازلة من جهة الاجتهاد فقيل: إنه حجة يقدم على اجتهاد غيرهم وعلى أخبار الآحاد لأنهم أعرف بوجوه الاجتهاد وأبصر بطريق الاستنباط والاستخراج؛ لما لهم من المزية عليهم في معرفة أسباب خطاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاني كلامه ومخارج أقواله، لاستفادتهم ذلك من الجم الغفير الذين شاهدوا خطابه وسمعوا كلامه.
وهذا في القرن الثاني والثالث منهم الذين توجهت إليهم المدحة بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» . وقيل: إنه ليس بحجة من أجل أنهم بعض الأمة، والعصمة إنما هي لجميع الأمة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تجتمع أمتي على ضلالة» .
واختلف على القول بأنه ليس بحجة هل له مزية يقدم بها على ما سواه من الاجتهاد ويرجح بها عليه أم لا على قولين. فعلى القول بأن له مزية يقدم بها على ما سواه من الاجتهاد ويرجح بها عليه يقدم خبر الواحد. وعلى القول(3/482)
بأنه لا مزية له على ما سواه من الاجتهاد يرجح بها أحد الأثرين المتعارضين، ويختلف هل يقدم على خبر الواحد أم لا، فحكى ابن القصار عن مالك أن القياس عنده مقدم على خبر الواحد خلافا لأبي حنيفة في تقديمه على القياس والله أعلم.
[فصل في اختلاف علماء المدينة وغيرهم بعدهم]
فصل في
وإذا اختلف علماء المدينة وغيرهم بعدهم في حكم نازلة فالواجب أن يرجع فيها إلى ما يوجبه الاجتهاد والنظر بالقياس على الأصول، ولا يعتقد أن الصواب في قول واحد منهم دون نظر، وإن كان أعلمهم. ولا اعتراض علينا في هذا بانتحالنا لمذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وتصحيحنا له وترجيحنا إياه على ما سواه من المذاهب؛ لأنا لم ننتحل مذهبه في الجملة إلا وقد بانت لنا صحته وعرفنا الأصول التي بناه عليها واعتمد في اجتهاده على الرجوع إليها مع علمنا بمعرفته بأحكام كتاب الله عز وجل من ناسخه ومنسوخه، ومفصله ومجمله، وخاصه وعامه، وسائر أوصافه ومعانيه، وسنن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبيين صحيحها من سقيمها، وأنه كان إماما في ذلك كله غير مدافع فيه بشهادة علماء وقته له بذلك وإقرارهم بالتقديم له فيه؛ ولأنا اعتقدنا أيضا أنه هو الذي عناه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» لوجهين:
أحدهما: أنه هو المسمى بعالم المدينة لتعرفه به، فإذا قال القائل: هذا قول عالم المدينة، أو فقيه المدينة، أو إمام دار الهجرة، علم أنه هو الذي أراد، كما يعلم إذا قال هذا قول الشافعي أنه أراد بذلك محمد بن إدريس الشافعي دون من سواه من أهل نسبه، وكذلك الثوري والأوزاعي.
والثاني: تأويل الأئمة ذلك فيه منهم ابن جريج، وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي من غير خلاف عليهم في ذلك؛ لأن من قال: يحتمل أن يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنى بذلك العمري العابد ليس بصحيح؛ لأن الصفة التي وصفها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أن أكباد(3/483)
الإبل تضرب إليه في طلب العلم إنما هي موجودة في مالك لا في العمري؛ لأن أكباد الإبل لم تضرب إليه في طلب العلم؛ لأنه إنما كان من شأنه أن يخرج إلى البادية التي لا يحضر أهلها الأمصار لطلب العلم ولا يخرج أهل العلم إليهم، فيعلمهم أمر دينهم ويفقههم فيه ويرغبهم فيما يقربهم من ربهم ويحذرهم مما يبعدهم عنه.
وهذا وإن كان فيه من الفضل ما فيه فقد أربى ما وهب الله مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفضل فيما انتشر عنه من العلم وإحيائه من الدين بما لا يعلمه إلا الله الذي يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
لأن علمه لم ينقطع بموته؛ لأن العلم أخذه عنه من ضرب آباط الإبل إليه فيه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأخذ عمن أخذه عنه خلف عن سلف، فأجره جار عليه إلى يوم القيامة» كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وصدقة تجري عليه، وولد صالح يدعو له» . ولولا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومثله من العلماء؛ لدرس العلم وذهب الدين.
وعمل العمري العابد انقطع بموته إذ كان من يعلمهم العلم بالبوادي لا تتعداهم منفعته، فلا يلحق فضل العبادة بفضل العلم بإجماع من العلماء. فقد قالوا جميعا: إن الرجلين إذا كان أحدهما أعلم والثاني أفضل إن الأعلم أولى بالإمامة ولم يكن ذلك كذلك إلا بزيادة فضل العلم على فضل العمل.
وقد روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . وقد روي أن العمري العابد المذكور كتب إلى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحضه على الانفراد للعبادة وترك مجالسة الناس، فكتب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: إن الله قسم بين عباده الأعمال كما قسم بينهم الأرزاق، فرب رجل فتح له في كذا، ولم يفتح له في كذا، ورب رجل فتح له في كذا، ولم يفتح له في كذا، فعدد أنواع أعمال البر ثم قال: وما أظن ما أنت فيه بأفضل مما أنا فيه، وكلانا على خير إن شاء الله.
[فصل في فضائل مالك]
فصل في
وفضائله أكثر من أن تحصى. منها ما روي أن عبد الرحمن بن القاسم قال:(3/484)
يا أبا عبد الله، ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر. فقال مالك: من أين علموا ذلك؟ فقال: منك يا أبا عبد الله، فقال مالك: ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها مني.
وروي عن أبي بكر أحمد بن زهير قال: كان مالك يجلس إلى ربيعة فكانت حلقته في زمن ربيعة مثل حلقة ربيعة وأكثر. وأفتى معه ربيعة عند السلطان. ومن ورعه وفضله توقفه عن كثير مما كان يسأل عنه.
روي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة وذكر أنهم أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال: فأخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بهذا. قال: ومن يعلمها؟ قال: الذي علمه إياها. قال عبد الرحمن: قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا وروي عن أبي الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة قال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
وروي عن خالد بن خداش أنه قال: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة فسألته عنها، فما أجابني إلا في خمس مسائل منها. وروي عنه أنه قال: جنة العالم لا أدري، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله. وروى ابن وهب عن مالك قال: سمعت عبد الله بن يزيد يقول ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول لا أدري حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري.
وقال أبو عمر بن عبد البر: صح عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا أدري نصف العلم. وروي عن محمد بن رمح أنه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام منذ أكثر من خمسين سنة، فقلت له: يا رسول الله: إن مالكا والليث يختلفان فبأيهما نأخذ؟ قال مالك.
وروى أشهب عن الدراوردي قال: رأيت في منامي أني دخلت مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوافيت رسول الله يخطب الناس إذ أقبل مالك فدخل من باب المسجد، فلما أبصره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إلي إلي، فأقبل إليه حتى دنا منه، فسل خاتمه من خنصره ووضعه في خنصر مالك. وروي عن مصعب بن عبد الله الزبيري(3/485)
قال: سمعت أبي يقول: كنت جالسا مع مالك بن أنس في مجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجل فقال: أيكم مالك بن أنس؟ قالوا: هذا. فسلم عليه واعتنقه وضمه إلى صدره وقال: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البارحة جالسا في هذا الموضع فقال: هاتوا مالكا فأوتي بك ترعد مفاصلك فقال: ليس بك بأس يا أبا عبد الله وكناك وقال: اجلس، فجلست، فقال: افتح حجرك ففتحته فملأه مسكا منثورا، وقال ضمه إليك وبثه في أمتي. قال فبكى مالك وقال: الرؤيا تسر ولا تغر، لئن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله.
وروي عن عبد السلام بن عمر بن خالد من أهل الإسكندرية قال: رأى رجل في المنام قوما اجتمعوا في جبانة الإسكندرية يرمون في غرض فكلهم يخطئ الغرض، فإذا برجل يرمي ويصيب القرطاس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا مالك بن أنس. وبالله تعالى التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواه.
[خاتمة]
[تم الجزء الثاني من الجامع وبتمامه كمل جميع الديوان من المقدمات، والحمد لله كثيرا كما هو أهله، وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وعلى آدم وما بينهما من النبيين والمرسلين على يد الفقير الراجي رحمة ربه كثير الذنوب والخطايا الاسم مشطب عليه الصنهاجي. وكان تمامه في يوم الثلاثاء ما بين الظهر والعصر في شهر ذي قعدة عام ثمانية عشر وسبعمائة، وموافقة من شهور العجم شهر يناير، وذلك في خمسة عشر منه، وذلك في التاريخ المؤرخ به. وصلى الله على محمد] .(3/486)