جمع السهمين، وحكي وجه: أن المتألف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يعطى من سهم العاملين. وأما الاظهر من هذا الخلاف في الاصناف، لم يتعرض له الاكثرون، بل أرسلوا الخلاف، وقال الشيخ أبو حامد في طائفة: الاظهر من القولين في الصنفين الاولين أنهم لا يعطون، وقياس هذا أن لا يعطى الصنفان الآخران من الزكاة، لان الاولين أحق باسم المؤلفة من الآخرين، لان في الآخرين معنى الغزاة والعاملين، وعلى هذا فيسقط سهم المؤلفة بالكلية، وقد صار إليه من المتأخرين، الروياني وجماعة، لكن الموافق لظاهر الآية، ثم لسياق الشافعي رضي الله عنه والاصحاب، إثبات سهم المؤلفة، وأن يستحقه الصنفان، وأنه يجوز صرفه إلى الآخرين أيضا، وبه أفتى أقضى القضاة الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية. الصنف الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون، فيدفع إليهم ما يعينهم على العتق، بشرط أن لا يكون معه ما يفي بنجومه، وليس له صرف زكاته إلى مكاتب نفسه على الصحيح، لعود الفائدة إليه. وجوزه ابن خيران، ويشترط كون الكتابة صحيحة، ويجوز الصرف قبل حلول النجم على الاصح، ويجوز الصرف إلى المكاتب بغير إذن السيد، والاحوط الصرف إلى السيد بإذن المكاتب. ولا يجزئ بغير إذن المكاتب، لانه المستحق، لكن يسقط عن المكاتب بقدر المصروف، لان(2/177)
من أدى دين غيره بغير إذنه، برئت ذمته. قلت: هذا الذي ذكره من كون الدفع إلى السيد أحوط وأفضل، هو الذي أطلقه جماهير الاصحاب. وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي الزاهد من أصحابنا: إن كان هذا الحاصل آخر النجوم، ويحصل العتق بالدفع إلى السيد بإذن المكاتب، فهو أفضل، وإن حصل دون ما عليه، لم يستحب دفعه إلى السيد، لانه إذا دفعه إلى المكاتب، أتجر فيه ونماه، فهو أقرب إلى العتق. والله أعلم. فرع إذا استغنى المكاتب عما أعطيناه، أو عتق بتبرع السيد باعتاقه، أو بابرائه، أو بأداء غيره عنه، أو بأدائه هو من مال آخر، وبقي مال الزكاة في يده، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: لا يسترد منه، كالفقير يستغني، وأصحهما: يسترد لعدم حصول المقصود بالمدفوع. ويجري الوجهان في الغارم إذا استغنى عن المأخوذ بإبراء ونحوه، وإن كان قد تلف المال في يده بعد العتق، غرمه، وإن أتلفه قبله، فلا، على الصحيح. وقال في الوسيط: وكذا لو تلفه. وإذا عجز المكاتب، فان كان المال في يده، استرد. وإن كان تالفا، لزمه غرمه على الاصح. وهل يتعلق بذمته، أم برقبته ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: بذمته. والله أعلم. ولو دفعه إلى السيد وعجز عن بقية النجوم، ففي الاسترداد من السيد الخلاف السابق في الاسترداد من المكاتب، فان تلف عنده، ففي الغرم الخلاف السابق أيضا، ولو ملكه السيد شخصا، لم يسترد منه، بل يغرم السيد إن قلنا بتغريمه. قلت: وإذا لم يعجز نفسه واستمر في الكتابة، فتلف ما أخذ، وقع الموقع. والله أعلم. فرع للمكاتب أن يتجر بما أخذه طلبا للزيادة، وحصول الاداء،(2/178)
والغارم، كالمكاتب. فرع نقل بعض الاصحاب للامام، أن للمكاتب أن ينفق ما أخذ ويؤدي النجوم من كسبه. ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب. قلت: قد قطع صاحب الشامل بأن المكاتب يمنع من إنفاق ما أخذ. ونقله أيضا صاحب البيان عنه. ولم يذكره غيره، وهذا أقيس من قول الامام. والله أعلم. فرع قال البغوي في الفتاوى: لو اقترض ما أدى به النجوم فعتق، لم يصرف إليه من سهم الرقاب، ولكن يصرف إليه من سهم الغارمين، كما لو قال لعبده: أنت حر على ألف، فقبل، عتق، ويعطى الالف من سهم الغارمين. الصنف السادس: الغارمون، والديون ثلاثة أضرب. الاول: دين لزمه لمصلحة نفسه، فيعطى من الزكاة ما يقضي به بشروط. أحدها: أن يكون به حاجة إلى قضائه منها، فلو وجد ما يقضيه من نقد أو عرض، فقولان. القديم: يعطى للآية، وكالغارم لذات البين. والاظهر: المنع، كالمكاتب وابن السبيل. فعلى هذا، لو وجد ما يقضي به بعض الدين، أعطي البقية فقط، فلو لم يملك شيئا، ولكن يقدر على قضائه بالاكتساب، فوجهان. أحدهما: لا يعطى كالفقير، وأصحهما: يعطى، لانه لا يقدر على قضائه إلا بعد زمن. والفقير يحصل حاجته في الحال، ويجري الوجهان في المكاتب إذا لم يملك شيئا، لكنه كسوب. وأما معنى الحججة المذكورة، فعبارة الاكثرين، تقتضي كونه فقيرا لا يملك شيئا، وربما صرحوا به. وفي بعض شروح المفتاح، أنه لا يعتبر المسكن، والملبس، والفراش، والآنية. وكذا الخادم، والمركوب إن اقتضاهما حاله، بل(2/179)
يقضى دينه وإن ملكها. وقال بعض المتأخرين: لا يعتبر الفقر والمسكنة هنا، بل لو ملك قدر كفايته، وكان لو قضى دينه لنقص ماله عن كفايته، ترك معه ما يكفيه، وأعطي ما يقضي به الباقي، وهذا أقرب. الشرط الثاني: أن يكون دينه لنفقة في طاعة أو مباح، فإن كان في معصية، كالخمر، والاسراف في النفقة، لم يعط قبل التوبة على الصحيح، فإن تاب، ففي إعطائه وجهان. أصحهما في الشامل والتهذيب: لا يعطى، وبه قال ابن أبي هريرة. وأصحهما عند أبي خلف السلمي والروياني: يعطى، وقطع به في الافصاح وهو قول أبي إسحق. قلت: جزم الامام الرافعي في المحرر بالوجه الاول. والله أعلم. الاصح: الثاني. وممن صححه غير المذكورين، المحاملي في المقنع وصاحب التنبيه، وقطع به الجرجاني في التحرير ولم يتعرض الاصحاب هنا لاستبراء حاله، ومضي مدة بعد توبته يظهر فيها صلاح الحال، إلا أن الروياني قال: يعطى على أحد الوجهين إذا غلب على الظن صدقه في توبته، فيمكن أن يحمل عليه. الشرط الثالث: أن يكون حالا، فإن كان مؤجلا، ففي إعطائه أوجه. ثالثها: إن كان الاجل تلك السنة، أعطي، وإلا، فلا يعطى من صدقات تلك السنة. قلت: الاصح: لا يعطى، وبه قطع في البيان. والله أعلم. الضرب الثاني: ما استدانه لاصلاح ذات البين، مثل أن يخاف فتنة بين(2/180)
قبيلتين أو شخصين، فيستدين طلبا للاصلاح وإسكان الثائرة، فينظر، إن كان ذلك في دم تنازع فيه قبيلتان ولم يظهر القاتل، فتحمل الدية، قضي دينه من سهم الغارمين إن كان فقيرا أو غنيا بعقار قطعا. وكذا إن كان غنيا بنقد على الصحيح. والغنى بالعروض، كالغني بالعقار على المذهب. وقيل: كالنقد، ولو تحمل قيمة مال متلف، أعطي مع الغنى على الاصح. الضرب الثالث: ما التزمه بضمان، فله أربعة أحوال. أحدها: أن يكون الضامن والمضمون عنه معسرين، فيعطى الضامن ما يقضي به الدين. قال المتولي: ويجوز صرفه إلى المضمون عنه، وهو أولى، لان الضامن فرعه، ولان الضامن إذا أخذ وقضى الدين بالمأخوذ، ثم رجع على المضمون عنه، احتاج الامام أن يعطيه ثانيا، وهذا الذي قاله ممنوع، بل إذا أعطيناه لا يرجع، إنما يرجع الضامن إذا غرم من عنده. الحال الثاني: أن يكونا موسرين، فلا يعطى، لانه إذا غرم رجع على الاصيل، وإن ضمن بغير إذنه، فوجهان. الحال الثالث: إذا كان المضمون عنه موسرا، والضامن معسرا، فإن ضمن بإذنه، لم يعط، لانه يرجع، وإلا أعطي في الاصح. الحال الرابع: أن يكون المضمون عنه معسرا، والضامن موسرا، فيجوز أن يعطي المضمون عنه، وفي الضامن وجهان. أصحهما: لا يعطى. فرع إنما يعطى الغارم عند بقاء الدين، فأما إذا أداه من ماله، فلا يعطى، لانه لم يبق غارما. وكذا لو بذل ماله ابتداء فيه، لم يعط فيه، لانه ليس غارما. فرع قال أبو الفرج السرخسي: ما استدانه لعمارة المسجد(2/181)
وقرى الضيف، حكمه حكم ما استدانه لمصلحة نفسه. وحكى الروياني عن بعض الاصحاب: أنه يعطى هذا مع الغنى بالعقار، ولا يعطى مع الغنى بالنقد. قال الروياني: هذا هو الاختيار. فرع يجوز الدفع إلى الغريم، بغير إذن صاحب الدين، ولا يجوز إلى صاحب الدين بغير إذن المديون، لكن يسقط من الدين بقيمة قدر المصروف كما سبق في المكاتب. ويجوز الدفع إليه بإذن المديون، وهو أولى، إلا إذا لم يكن وافيا وأراد المديون أن يتجر فيه. فرع لو أقام بينة أنه غرم وأخذ الزكاة، ثم بان كذب الشهود، ففي سقوط الفرض، القولان، فيمن دفعها إلى من ظنه فقيرا، فبان غنيا، قاله إمام الحرمين. ولو دفع إليه، وشرط أن يقضيه ذلك عن دينه، لم يجزئه قطعا، ولا يصح قضاء الدين بها. قلت: ولو نويا ذلك ولم يشرطاه، جاز. والله أعلم. قال في التهذيب: ولو قال المديون: ادفع إلي زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل، أجزأه عن الزكاة، ولا يلزم المديون دفعه إليه عن دينه. ولو قال صاحب الدين: اقض ما عليك، لارده عليك من زكاتي، ففعل، صح القضاء، ولا يلزمه رده. قال القفال: ولو كان له عند الفقير حنطة وديعة، فقال: كل لنفسك كذا، ونواه زكاة، ففي إجزائه عن الزكاة وجهان. ووجه المنع أن المالك لم يكله. فلو كان وكله بشراء ذلك القدر، فاشتراه فقبضه، وقال الموكل: خذه لنفسك، ونواه زكاة، أجزأه، لانه لا يحتاج إلى كيله. قلت: ذكر صاحب البيان: أنه لو مات رجل عليه دين ولا وفاء له، ففي قضائه من سهم الغارمين وجهان، ولم يبين الاصح. والاصح الاشهر: لا يقضى منه، ولو كان له عليه دين، فقال: جعلته عن زكاتي، لا يجزئه على الاصح(2/182)
حتى يقبضه، ثم يرده إليه إن شاء، وعلى الثاني: يجزئه كما لو كان وديعة، حكاه في البيان ولو ضمن دية مقتول عن قاتل لا يعرف، أعطي مع الفقر والغنى كما سبق. وإن ضمن عن قاتل معروف، لم يعط مع الغني، كذا حكاه في البيان عن الصيمري، وفي هذا التفصيل نظر. والله أعلم. الصنف السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة الذين لا رزق لهم في الفيئ، ولا يصرف شئ من الصدقات إلى الغزاة المرتزقة، كما لا يصرف شئ من الفيئ إلى المطوعة. فإن لم يكن مع الامام شئ للمرتزقة، واحتاج المسلمين إلى من يكفيهم شر الكفار، فهل يعطى(2/183)
المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل الله ؟ فيه قولان. أظهرهما: لا، بل تجب إعانتهم على أغنياء المسلمين، ويعطى الغازي غنيا كان، أو فقيرا. الصنف الثامن: ابن السبيل، وهو شخصان. أحدهما: من أنشأ سفرا من بلده، أو من بلد كان مقيما به. والثاني: الغريب المجتاز بالبلد. فالاول: يعطى قطعا، وكذا الثاني على المذهب. وقيل: إن جوزنا نقل الصدقة، جاز الصرف إليه، وإلا، فلا. ويشترط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره، فيعطى من لا مال له أصلا، وكذا من له مال في غير البلد المنتقل إليه منه. ويشترط أن لا يكون سفره معصية، فيعطى في سفر الطاعة قطعا، وكذا في المباح كالتجارة، وطلب الآبق على الصحيح. وعلى الثاني: لا يعطى، فعلى هذا يشترط كون السفر طاعة، فإذا قلنا: يعطى في المباح، ففي سفر النزهة وجهان، لانه ضرب من الفضول. والاصح: أنه يعطى. فصل في الصفات المشترطة في جميع الاصناف فمنها: أن لا يكون المدفوع إليه كافرا، ولا غازيا مرتزقا كما سبق، وأن لا يكون هاشميا ولا مطلبيا قطعا، ولا مولى لهم على الاصح. فلو استعمل هاشمي أم مطلبي، لم يحل لهم سهم العامل على الاصح. ويجري الخلاف فيما إذا جعل بعض المرتزقة عاملا. ولو انقطع خمس الخمس عن بني هاشم وبني المطلب لخلو بيت المال عن الفيئ والغنيمة، أو لاستيلاء الظلمة عليهما، لم يعطوا الزكاة على الاصح الذي عليه الاكثرون، وجوزه الاصطخري، واختاره القاضي أبو سعد الهروي، ومحمد بن يحيى رحمهم الله.(2/184)
فصل في كيفية الصرف إلى المستحقين وما يتعلق به فيه مسائل. إحداها: فيما يعول عليه في صفات المستحقين. قال الاصحاب: من طلب الزكاة، وعلم الامام أنه ليس مستحقا، لم يجز الصرف إليه. وإن علم استحقاقه، جاز، ولم يخرجوه على القضاء بعلمه. وإن لم يعرف حاله، فالصفات قسمان. خفية وجلية، فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيهما ببينة، لعسرهما. لكن إن عرف له مال، فادعى هلاكه، طولب بالبينة لسهولتها، ولم يفرقوا بين دعواه الهلاك بسبب خفي كالسرقة، أو ظاهر كالحريق. وإن قال: لي عيال لا يفي كسبي بكفايتهم، طولب ببينة على العيال على الاصح. ولو قال: لا كسب لي وحاله تشهد بصدقه، بأن كان شيخا كبيرا، أو زمنا، أعطي بلا بينة ولا يمين. وإن كان قويا جلدا، أو قال: لا مال لي، واتهمه الامام، فهل يحلف ؟ فيه وجهان. أصحهما: لا، فإن حلفناه، فهل هو واجب، أم مستحب ؟ وجهان. فإن نكل وقلنا: اليمين واجبة، لم يعط. وإن قلنا: مستحبة، أعطي. وأما الصفة الجلية، فضربان. أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وهو الغازي، وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا الموعود ويخرجا في السفر، استرد نهما. ولم يتعرض الجمهور لبيان القدر الذي يحتمل تأخير الخروج فيه، وقدره السرخسي في أماليه بثلاثة أيام، فإن انقضت ولم يخرج، استرد منه. ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار الرفقة وتحصيل أهبة وغيرهما. الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وتدخل فيه بقية الاصناف. فإذا ادعى العامل العمل، طولب بالبينة لسهولتها، ويطالب بها المكاتب والغارم. ولو صدقهما المولى، وصاحب الدين، كفى على الاصح، ولو كذبه المقر له، لغا الاقرار.(2/185)
وأما المؤلف قلبه، فإن قال: نيتي في الاسلام ضعيفة، قبل قوله، لان كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة، كذا فصله جمهور الاصحاب، ومنهم من أطلق: أنه لا يطالب بالبينة، ويقوم مقام البينة الاستفاضة باشتهار الحال بين الناس، لحصول العلم، أو غلبة الظن، ويشهد لما ذكرناه من اعتبار غلبة الظن ثلاثة أمور. أحدها: قال بعض الاصحاب: لو أخبر عن الحال واحد يعتمد قوله، كفى. الثاني: قال الامام: رأيت للاصحاب رمزا إلى تردد في أنه لو حصل الوثوق بقول من يدعي الغرم، وغلب على الظن صدقه، هل يجوز اعتماده ؟ الثالث: حكى بعض المتأخرين ما لا بد من معرفته، وهو أنه لا يعتبر في هذه المواضع سماع القاضي، والدعوى والانكار والاشهاد، بل المراد إخبار عدلين. واعلم أن كلامه في الوسيط يوهم أن إلحاق الاستفاضة بالبينة مختص بالمكاتب والغارم، ولكن الوجه تعميم ذلك في كل مطالب بالبينة من الاصناف. المسألة الثانية: في قدر المعطى، فالمكاتب والغارم، يعطيان قدر دينهما، فإن قدرا على بعضه، أعطيا الباقي. والفقير والمسكين يعطيان ما تزول به حاجتهما، وتحصل كفايتهما. ويختلف ذلك باختلاف الناس والنواحي، فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفته، يعطى ما يشتريها به قلت قيمتها، أو كثرت. والتاجر يعطى رأس مال ليشتري ما يحسن التجارة فيه، ويكون قدر ما يفي ربحه بكفايته غالبا، وأوضحوه بالمثال فقالوا: البقلي يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني بعشرة، والفاكهي بعشرين، والخباز بخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف، والبزاز بألفي درهم، والصيرفي بخمسة آلاف، والجوهري بعشرة آلاف.(2/186)
فرع من لا يحسن الكسب بحرفة ولا تجارة، قال العراقيون وآخرون: يعطى كفاية العمر الغالب. وقال آخرون، منهم الغزالي والبغوي: يعطى كفاية سنة، لان الزكاة تتكرر كل سنة. قلت: وممن قطع بالمسألة صاحب التلخيص، والرافعي في المحرر، ولكن الاصح ما قاله العراقيون، وهو نص الشافعي رضي الله عنه، ونقله الشيخ نصر المقدسي عن جمهور أصحابنا، قال: وهو المذهب. والله أعلم. وإذا قلنا: يعطى كفاية العمر، فكيف طريقه ؟ قال في التتمة وغيره: يعطى ما يشتري به عقارا يستغل منه كفايته. ومنهم من يشعر كلامه بأنه يعطى ما ينفق عينه في حاجاته، والاول أصح. فرع وأما ابن السبيل، فيعطى ما يبلغه مقصده، أو موضع ماله إن كان له في طريقه مال، فيعطى النفقة والكسوة إن احتاج إليهما بحسب الحال شتاء وصيفا، ويهيأ له المركوب إن كان السفر طويلا والرجل ضعيفا لا يستطيع المشي. وإن كان السفر قصيرا، أو الرجل قويا، لم يعط، ويعطى ما ينقل زاده ومتاعه، إلا أن يكون قدرا يعتاد مثله أن يحمله بنفسه، ثم قال السرخسي في الامالي: إن كان ضاق المال، أعطي كراء المركوب. وإن اتسع، اشتري له مركوب. فإذا تم سفره، استرد منه المركوب على الصحيح الذي قاله الجمهور. ثم كما يعطى لذهابه، يعطى لايابه إن أراد الرجوع ولا مال له في مقصده. هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يعطى للرجوع في ابتداء السفر، لانه سفر آخر، وإنما يعطى إذا أراد للرجوع، ووجه ثالث: أنه إن كان على عزم أنه يصل الرجوع بالذهاب، أعطي للرجوع أيضا. وإن كان على أن يقيم هناك مدة، لم يعط، ولا يعطى لمدة الاقامة إلا مدة إقامة المسافرين، بخلاف الغازي، حيث يعطى للمقام في الثغر وإن طال،(2/187)
لانه قد يحتاج إليه لتوقع فتح الحصن، وإنه لا يزول عنه الاسم لطول المقام، هذا هو الصحيح. وعن صاحب التقريب، أنه إن أقام لحاجة يتوقع زوالها، أعطي وإن زادت إقامته على إقامة المسافرين. فرع هل يدفع إلى ابن السبيل جميع كفايته، أو ما زاد بسبب السفر ؟ وجهان. أصحهما: الاول. فرع وأما الغازي، فيعطى النفقة والكسوة مدة الذهاب والرجوع، ومدة المقام في الثغر وإن طال. وهل يعطى جميع المؤنة، أم ما زاد بسبب السفر ؟ فيه الوجهان كابن السبيل، ويعطى ما يشتري به الفرس إن كان يقاتل فارسا، وما يشتري به السلاح وآلات القتال، ويصير ذلك ملكا له. ويجوز أن يستأجر له الفرس والسلاح. ويختلف الحال بحسب كثرة المال وقلته. وإن كان يقاتل راجلا، فلا يعطى لشراء الفرس. وأما ما يحمل عليه الزاد ويركبه في الطريق، فكابن السبيل. فرع إنما يعطى الغازي إذا حضر وقت الخروج، ليهئ به أسباب سفره. فإن أخذ ولم يخرج، فقد سبق أنه يسترد. فإن مات في الطريق، أو امتنع من الغزو، استرد ما بقي، وإن غزا فرجع ومعه بقية، فإن لم يقتر على نفسه، وكان الباقي شيئا صالحا، رده. وإن قتر على نفسه أو لم يقتر، إلا أن الباقي شئ يسير، لم يسترد قطعا. وفي مثله في ابن السبيل، يسترد على الصحيح، لانا دفعنا إلى الغازي لحاجتنا، وهي أن يغزو وقد فعل، وفي ابن السبيل يدفع لحاجته وقد زالت. فرع في بعض شروح المفتاح: أنه يعطى الغازي نفقته ونفقة عياله(2/188)
ذهابا ومقاما ورجوعا. وسكت الجمهور عن نفقة العيال، لكن أخذها ليس ببعيد. فرع للامام الخيار، إن شاء دفع الفرس والسلاح إلى الغازي تمليكا، وإن شاء استأجر له مركوبا، وإن شاء اشترى خيلا من هذا السهم ووقفها في سبيل الله تعالى، فيعيرهم إياها وقت الحاجة، فإذا انقضت، استرد. وفيه وجه: أنه لا يجوز أن يشتري لهم الفرس والسلاح قبل وصول المال إليهم. فرع وأما المؤلف، فيعطى ما يراه الامام. قال المسعودي: يجعله على قدر كلفتهم وكفايتهم. فرع وأما العامل، فاستحقاقه بالعمل، حتى لو حمل صاحب الاموال زكاتهم إلى الامام، أو إلى البلد قبل قدوم العامل، فلا شئ له، كما يستحق أجرة المثل لعمله. فإن شاء الامام بعثه بلا شرط ثم أعطاه أجرة مثل عمله، وإن شاء سمى له قدر أجرته إجارة أو جعالة، ويؤديه من الزكاة. ولا يستحق أكثر من أجرة المثل. فإن زاد، فهل تفسد التسمية، أم يكون قدر الاجرة من الزكاة والزائد في خالص مال الامام ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. فإن زاد سهم العاملين على أجرته، رد الفاضل على سائر الاصناف. وإن نقص، فالمذهب: أنه يكمل من مال الزكاة ثم يقسم. وفي قول: من خمس الخمس، وقيل: يتخير الامام بينهما بحسب المصلحة، وقيل: إن بدأ بالعامل كمله من الزكاة، وإلا فمن الخمس لعسر الاسترداد من الاصناف. وقيل: إن فضل(2/189)
عن حاجة الاصناف، فمن الزكاة، وإلا، فمن بيت المال. والخلاف في جواز التكميل من الزكاة، واتفقوا على جواز التكميل من سهم المصالح مطلقا، بل لو رأى الامام أن يجعل أجرة العامل كلها في بيت المال، جاز، ويقسم الزكاة على سائر الاصناف. فرع إذا اجتمع في شخص صفتان، فهل يعطى بهما، أم بأحدهما فقط ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: بإحداهما، فيأخذ بأيتهما شاء. والطريق الثاني: القطع بهذا. والثالث: إن اتحد جنس الصفتين، أعطي بإحداهما، وإن اختلف فيهما، فيعطى بهما. فالاتحاد، كالفقر مع الغرم لمصلحة نفسه، لانهما يأخذان لحاجتهما إلينا. وكالغرم للاصلاح مع الغزو، فإنهما لحاجتنا إليهما. والاختلاف، كالفقر والغزو. فإن قلنا بالمنع، فكان العامل فقيرا، فوجهان. بناء على أن ما يأخذه العامل أجرة، لانه إنما يستحق بالعمل، أم صدقة لكونه معدودا في الاصناف ؟ وفيه وجهان. وإذا جوزنا الاعطاء بمعنيين، جاز بمعان، وفيه احتمال للحناطي. قلت: قال الشيخ نصر: إذا قلنا: لا يعطى إلا بسبب، فأخذ بالفقر، كان لغريمه أن يطالبه بدينه، فيأخذ ما حصل له. وكذا إن أخذه بكونه غارما، فإذا بقي بعد أخذه منه فقيرا، فلا بد من إعطائه من سهم الفقراء، لانه الآن محتاج. والله أعلم. المسألة الثالثة: يجب استيعاب الاصناف الثمانية عند القدرة عليهم، فإن فرق بنفسه، أو فرق الامام، وليس هناك عامل، فرق على السبعة. وحكي قول: أنه إذا فرق بنفسه، سقط أيضا نصيب المؤلفة. والمشهور: ما سبق.(2/190)
ومتى فقد صنف فأكثر، قسم المال على الباقين. فان لم يوجد أحد من الاصناف، حفظت الزكاة حتى يوجدوا، أو يوجد بعضهم. وإذا قسم الامام، لزمه استيعاب آحاد كل صنف، ولا يجوز الاقتصار على بعضهم، لان الاستيعاب لا يتعذر عليه، وليس المراد أنه يستوعبهم بزكاة كل شخص، بل يستوعبهم من الزكوات المحاصلة في يده، وله أن يخص بعضهم بنوع من المال، وآخرين بنوع. وإن قسم المالك، فإن أمكنه الاستيعاب، بأن كان المستحقون في البلد محصورين يفي بهم المال، فقد أطلق في التتمة: أنه يجب الاستيعاب، وفي التهذيب: أنه يجب إن جوزنا نقل الصدقة، وإن لم نجوزه، لم يجب، لكن يستحب، وإن لم يمكن، سقط الوجوب والاستحباب، ولكن لا ينقص الذين ذكرهم الله تعالى بلفظ الجمع من الفقراء وغيرهم عن ثلاثة، إلا العامل، فيجوز أن يكون واحدا وهل يكتفى في ابن السبيل بواحد ؟ فيه وجهان. أصحهما: المنع، كالفقراء. قال بعضهم: ولا يبعد طرد الوجهين في الغزاة لقوله تعالى: * (وفي سبيل الله) * [ التوبة 60 ] بغير لفظ الجمع. فلو صرف ما عليه إلى اثنين مع القدرة على الثالث، غرم للثالث. وفي قدره قولان. المنصوص في الزكاة: أنه يغرم ثلث(2/191)
نصيب ذلك الصنف. والقياس: أنه يغرم قدرا لو أعطاه في الابتداء، أجزأه، لانه الذي فرط فيه، ولو صرفه إلى واحد، فعلى الاول: يلزمه الثلثان، وعلى الثاني: أقل ما يجوز صرفه إليهما. قلت: هكذا قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: إن الاقيس هو الثاني، ثم الجمهور أطلقوا القولين هكذا. قال صاحب العدة: إذا قلنا: يضمن الثلث، ففيه وجهان. أحدهما: أن المراد إذا كانوا سووا في الحاجة، حتى لو كان حاجة هذا الثالث حين استحق التفرقة مثل حاجة الآخرين جميعا. ضمن له نصف السهم ليكون معه مثلهما، لانه يستحب التفرقة على قدر حوائجهم. والثاني: أنه لا فرق. والله أعلم. ولو لم يوجد إلا دون الثلاثة من صنف، يجب إعطاء ثلاثة منهم، وهذا هو الصحيح، ومراده: إذا كان الثلاثة متعينين، أعطى من وجد. وهل يصرف باقي السهم إليه إذا كان مستحقا، أم ينقل إلى بلد آخر ؟ قال المتولي: هو كما لو لم يوجد بعض الاصناف في البلد. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قلت: الاصح، أن يصرف إليه. وممن صححه الشيخ نصر المقدسي، ونقله هو وصاحب العدة وغيرهما عن نص الشافعي رحمة الله عليه ودليله ظاهر. والله أعلم. فرع التسوية بين الاصناف واجبة. وإن كانت حاجة بعضهم أشد، إلا أن العامل لا يزاد على أجرة عمله كما سبق. وأما التسوية بين آحاد الصنف، سواء استوعبوا، أو اقتصر على بعضهم، فلا يجب، لكن يستحب عند تساوي الحاجات. هذا إذا قسم المالك. قال في التتمة: فأما إن قسم الامام، فلا يجوز تفضيل بعضهم عند تساوي الحاجات، لان عليه التعميم، فتلزمه التسوية،(2/192)
والمالك لا تعميم عليه، فلا تسوية. قلت: هذا التفصيل الذي في التتمة وإن كان قويا في الدليل، فهو خلاف مقتضى إطلاق الجمهور استحباب التسوية. وحيث لا يجب الاستيعاب، قال أصحابنا: يجوز الدفع إلى المستحقين من المقيمين بالبلد والغرباء، ولكن المستوطنون أفضل، لانهم جيرانه. والله أعلم. فرع إذا عدم في بلد جميع الاصناف، وجب نقل الزكاة إلى أقرب البلاد إليه. فان نقل إلى أبعد، فهو على الخلاف في نقل الزكاة. وإن عدم بعضهم، فان كان العامل، سقط سهمه. وإن عدم غيره، فان جوزنا نقل الزكاة، نقل نصيب الباقي، وإلا فوجهان: أحدهما: ينقل. وأصحهما: يرد على الباقين. فان قلنا: ينقل، نقل إلى أقرب البلاد. فان نقل إلى غيره، أو لم ينقل، ورده على الباقي، ضمن، وإن قلنا: لا ينقل فنقل، ضمن. ولو وجد الاصناف فقسم، فنقص سهم بعضهم عن الكفاية، وزاد سهم بعضهم عليها، فهل يصرف ما زاد إلى من نقص نصيبه، أم ينقل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد ؟ فيه هذا الخلاف. وإذا قلنا: يرد على من نقص سهمهم، رد عليهم بالسوية. فان استغنى بعضهم ببعض المردود، قسم الباقي بين الآخرين بالسوية. ولو زاد نصيب جميع الاصناف على الكفاية، أو نصيب بعضهم، ولم ينقص نصيب الآخرين، نقل ما زاد إلى ذلك الصنف. المسألة الرابعة: في جواز نقل الصدقة إلى بلد آخر، مع وجود المستحقين في بلده خلاف. وتفصيل المذهب فيه عند الاصحاب: أنه يحرم النقل، ولا(2/193)
تسقط به الزكاة، وسواء كان النقل إلى مسافة القصر أو دونها، فهذا مختصر ما يفتى به. وتفصيله، أن في النقل قولين. أظهرهما: المنع. وفي المراد بهما، طرق. أصحها: أن القولين في سقوط الفرض، ولا خلاف في تحريمه، والثاني: أنهما في التحريم والسقوط معا، والثالث: أنهما في التحريم، ولا خلاف أنه يسقط. ثم قيل: هما في النقل إلى مسافة القصر فما فوقها، فإن نقل إلى دونها، جاز، والاصح: طرد القولين. قلت: وإذا منعنا النقل، ولم نعتبر مسافة القصر، فسواء نقل إلى قرية بقرب البلد، أم بعيدة. صرح به صاحب العدة وهو ظاهر. والله أعلم. فرع إذا أوصى للفقراء والمساكين وسائر الاصناف، أو وجب عليه كفارة، أو نذر، فالمذهب في الجميع جواز النقل، لان الاطماع لا تمتد إليها امتدادها إلي للزكاة. فرع صدقة الفطر كسائر الزكوات في جواز النقل ومنعه، وفي وجوب استيعاب الاصناف، فإن شقت القسمة، جمع جماعة فطرتهم ثم قسموها. وقال الاصطخري: يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء، ويروى: من الفقراء والمساكين. ويروى: من أي صنف اتفق. واختار أبو إسحق الشيرازي، جواز الصرف إلى واحد. قلت: اتفق أصحابنا المتأخرون أو جماهيرهم: على أن مذهب الاصطخري، جواز الصرف إلى ثلاثة من المساكين والفقراء. قال أكثرهم:(2/194)
وكذلك يجوز عنده الصرف إلى ثلاثة من أي صنف كان. وصرح المحاملي والمتولي: بأنه لا يجوز عنده الصرف إلى غير المساكين والفقراء. قال المتولي: ولا يسقط الفرش، واختار الروياني في الحلية صرفها إلى ثلاثة. وحكي اختياره عن جماعة من أصحابنا. والله أعلم. فرع حيث جاز النقل أو وجب، فمؤنته على رب المال، ويمكن تخريجه على الخلاف السابق في أجرة الكيال. فرع الخلاف في جواز النقل وتفريعه، ظاهر فيما إذا فرق رب المال زكاته. أما إذا فرق الامام، فربما اقتضى كلام الاصحاب طرد الخلاف فيه، وربما دل على جواز النقل له، والتفرقة كيف شاء، وهذا أشبه. قلت: قد قال صاحب التهذيب والاصحاب: يجب على الساعي نقل الصدقة إلى الامام إذا لم يأذن له في تفريقها، وهذا نقل. والله أعلم. فرع لو كان المال ببلد، والمالك ببلد، فالاعتبار ببلد المال، لانه سبب الوجوب، ويمتد إليه نظر المستحقين، فيصرف العشر إلى فقراء بلد الارض، التى حصل منها المعشر، وزكاة النقدين والمواشي والتجارة إلى فقراء البلد الذي تم فيه حولها، فإن كان المال عند تمام الحول في بادية، صرف إلى فقراء أقرب البلاد إليه. قلت: ولو كان تاجرا مسافرا، صرفها حيث حال الحول. والله أعلم. ولو كان ماله في مواضع متفرقة، قسم زكاة كل طائفة من مال ببلدها، ما لم يقع تشقيص، فان وقع، بأن ملك أربعين من الغنم، عشرين ببلد، وعشرين بآخر، فأدى شاة في أحد البلدين. قال الشافعي رحمه الله: كرهته، وأجزأه. وهذا(2/195)
هو المذهب، وقطع به جمهور الاصحاب. سواء جوزنا نقل الصدقة، أم لا. وقال أبو حفص ابن الوكيل: هذا جائز، إن جوزنا نقل الصدقة، وإلا فيؤدي في كل بلد نصف شاة. والصواب: الاول. وعللوه بعلتين. إحداهما: أن له في كل بلد مالا، فيخرج فيها شاة منها، والثانية: أن الواجب شاة، فلا تشقيص. ويتفرع عليهما، ما لو ملك مائة ببلد، ومائة ببلد آخر، فعلى الاول، له إخراج الشاتين في أيهما شاء، وعلى الثاني: لا يجزئه ذلك، وهو الاصح. وأما زكاة الفطر، إذا كان ماله ببلد، وهو بآخر، فأيهما يعتبر ؟ وجهان. أصحهما: ببلد المالك. قلت: ولو كان له من تلزمه فطرته وهو ببلد، فالظاهر أن الاعتبار ببلد المؤدى عنه. وقال في البيان: الذي يقتضي المذهب، أنه يبنى على الوجهين في أنها تجب على المؤدي ابتداء، أم على المؤدى عنه فتصرف في بلد من تجب عليه ابتداء. والله أعلم. فرع أرباب الاموال صنفان. أحدهما: المقيمون في بلد، أو قرية، أو موضع من البادية فلا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا، فعليهم صرف زكاتهم إلى من في موضعهم من الاصناف، سواء فيه المقيمون والغرباء. الثاني: أهل الخيام المنتقلون من بقعة إلى بقعة، فينظر، إن لم يكن لهم قرار، بل يطوفون البلاد أبدا، صرفوها إلى من معهم من الاصناف. فإن لم يكن معهم مستحق، نقلوه إلى أقرب البلاد إليهم عند تمام الحول. وإن كان لهم موضع يسكنونه وربما انتقلوا عنه منتجعين ثم عادوا إليه، فإن لم يتميز بعضهم عن بعض في الماء والمرعى، صرفوها إلى من هو دون مسافة القصر من موضع المال. والصرف إلى الذين يقيمون من هؤلاء بإقامتهم ويظعنون بظعنهم، أفضل لشدة جوارهم. وإن تميزت الحلة عن الحلة، وانفرد بالماء والمرعى، فوجهان. أحدهما: أنه كغير المتميزة. وأصحهما: أن كل حلة كقرية، فلا يجوز النقل عنها.(2/196)
فصل يشترط في الساعي كونه مسلما، مكلفا، عدلا، حرا، فقيها بأبواب الزكاة. هذا إذا كان التفويض عاما، فإن عين الامام شيئا يأخذه، لم يعتبر الفقه. قال الماوردي: وكذا لا يعتبر الاسلام والحرية. قلت: عدم اشتراط الاسلام، فيه نظر. والله أعلم. وفي جواز كون العامل هاشميا، أو من المرتزقة، خلاف سبق. وفي الاحكام السلطانية للماوردي: أنه يجوز أن يفوض إلى من تحرم عليه الزكاة من ذوي القربى، ولكن يكون رزقه من المصالح. وإذا قلد الاخذ وحده، أو القسمة وحدها، لم يتول إلا ما قلد، وإن أطلق التقليد تولى الامرين. وإنه إذا كان العامل جائزا في أخذ الصدقة، عادلا في قسمتها، جاز كتمها عنه، وجاز دفعها إليه، وإن كان عادلا في الاخذ، جائزا في القسمة، وجب كتمها عنه. فإن أخذها طوعا أو كرها، لم تجزئ، وعلى أرباب الاموال إخراجها بأنفسهم. وهذا خلاف ما في التهذيب: أنه إذا دفع إلى الامام الجائر، سقط عنه الفرض، وإن لم يوصله المستحقين، إلا أن يفرق بين الدفع إلى الامام وإلى العامل. قلت: لا فرق، والاصح: الاجزاء فيهما. والله أعلم. فصل وسم النعم جائز في الجملة ووسم نعم الزكاة والفيئ، لتتميز، وليردها من وجدها ضالة، وليعرف المتصدق ولا يمتلكها، لانه يكره أن يتصدق بشئ، ثم يشتريه، هكذا قاله الشافعي رحمه الله. وليكن الوسم على موضع صلب ظاهر، لا يكثر الشعر عليه. والاولى في الغنم: الآذان. وفي الابل والبقر: الافخاذ. ويكره الوسم على الوجه. قلت: هكذا قال صاحب العدة وغيره: أنه مكروه. وقال صاحب(2/197)
التهذيب: لا يجوز، وهو الاقوى. وقد صح في صحيح مسلم لعن فاعله، وهو دال على التحريم. والله أعلم. ويكون ميسم الغنم، ألطف من ميسم البقر، وميسم البقر، ألطف من ميسم الابل. وتميز نعم الزكاة من نعم الفئ، فيكتب على الجزية: جزية، أو صغار. وعلى الزكاة: زكاة، أو صدقة، أو لله تعالى. ونص الشافعي رحمه الله على سمة لله تعالى. فرع ويجوز خصاء ما يؤكل لحمه في صغره لطيب لحمه، ولا يجوز في كبره، ولاخصاء ما لا يؤكل. فصل في مسائل متفرقة أحدها: ينبغي للامام والساعي، وكل من يفوض إليه أمر تفريق الصدقات، أن يعتني بضبط المستحقين، ومعرفة أعدادهم، وأقدار حاجاتهم، بحيث يقع الفراغ من جميع الصدقات بعد معرفتهم، أو معها ليتعجل حقوقهم، وليأمن هلاك المال عنده.(2/198)
الثانية: ينبغي أن يبدأ في القسمة بالعالمين، لان استحقاقهم أقوى، لكونهم يأخذون معاوضة. قلت: هذا التقديم مستحب. والله أعلم. الثالثة: لا يجوز للامام ولا للساعي أن يبيع شيئا من الزكاة، بل يوصلها بحالها إلى المستحقين، إلا إذا وقعت ضرورة، بأنأشرفت بعض الماشية على الهلاك، أو كان في الطريق خطر، أو احتاج إلى رد جيران، أو إلى مؤنة نقل، فحينئذ يبيع. ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة، فليس للمالك أن يبيعها ويقسم الثمن، بل يجمعهم ويدفعها إليهم، وكذا حكم الامام عند الجمهور، وخالفهم في التهذيب فقال: إن رأى الامام ذلك، فعله، وإن رأى أن يبيع، باع وفرق الثمن عليهم. قلت: وإذا باع في الموضع الذي لا يجوز، فالبيع باطل، ويسترد المبيع، فإن تلف، ضمنه. والله أعلم. الرابعة: إذا دفع الزكاة إلى من ظنه مستحقا، فبان غير مستحق، ككافر، وعبد، وغني، وذي قربى، فالفرض يسقط عن المالك بالدفع إلى الامام، لانه نائب المستحقين. ولا يجب الضمان على الامام إذا بان غنيا، لانه لا تقصير، ويسترد، سواء أعلمه أنها زكاة، أم لا، فإن كان قد تلف، غرمه وصرف الغرم إلى المستحقين. وفي باقي الصور المذكورة قولان. أظهرهما: لا يضمن، وقيل: لا يضمن قطعا. وقيل: يضمن قطعا، لتفريطه، فإنها لا تخفى غالبا، بخلاف الغني، ولانها أشد منافاة، فإنها تنافي الزكاة بكل حال، بخلافه. ولو دفع المالك بنفسه، فبان المدفوع إليه غنيا، لم يجزه على الاظهر، بخلاف الامام، لانه نائب الفقراء. وإن بان كافرا، أو عبدا، أو ذا قربى، لم يجزه على الاصح. قلت: ولو دفع سهم المؤلفة، أو الغازي إليه، فبان المدفوع إليه امرأة، فهو كما لو بان عبدا. والله أعلم.(2/199)
وإذا لم يسقط الفرض، فإن بين أن المدفوع زكاة، استرد إن كان باقيا، وغرم المدفوع إليه إن كان تالفا. ويتعلق بذمه العبد إذا دفع إليه. وإن لم يذكر أنه زكاة، لم يسترد، ولا غرم، بخلاف الامام، يسترد مطلقا، لان ما يفرقه الامام على الاصناف، هو الزكاة غالبا، وغيره قد يتطوع. والحكم في الكفارة متى بان المدفوع إليه غير مستحق، كحكم الزكاة. الخامسة: في وقت استحقاق الاصناف الزكاة. قال الشافعي رحمه الله: يستحقون يوم القسمة، إلا العامل، فإنه يستحق بالعمل. وقال في موضع آخر: يستحقون يوم الوجوب. قال الاصحاب: ليس في المسألة خلاف. بل النص الثاني محمول على ما إذا لم يكن في البلد إلا ثلاثة، أو أقل، ومنعنا نقل الصدقة، فيستحقون يوم الوجوب، حتى لو مات واحد منهم، دفع نصيبه إلى ورثته، وإن غاب أو أيسر، فحقه بحاله، وإن قدم غريب، لم يشاركهم، والنص الاول، فيما إذا لم يكونوا محصورين في ثلاثة، أو كانوا، وجوزنا نقل الزكاة، فيستحقون بالقسمة، حتى لا حق لمن مات أو غاب أو أيسر بعد الوجوب وقبل القسمة، وإن قدم غريب، شاركهم. السادسة: في فتاوى القفال: أن الامام لو لم يفرق ما اجتمع عنده من مال الزكاة من غير عذر، فتلف، ضمن. والوكيل بالتفريق لو أخر، فتلف، لم يضمن، لان خلوكيل لا يجب عليه التفريق، بخلاف الامام. قلت: قال أصحابنا: لو جمع الساعي الزكاة، فتلفت في يده قبل أن تصل إلى الامام، استحق أجرته من بيت المال. والله أعلم. السابعة: قال صاحب البحر: لو دفع الزكاة إلى فقير وهو غير عارف بالمدفوع، بأن كان مشدودا في خرقة ونحوها، لا يعرف جنسه وقدره، وتلف في يد(2/200)
المسكين، ففي سقوط الزكاة احتمالان. لان معرفة القابض لا تشترط، فكذا معرفة الدافع. قلت: الارجح: السقوط. وبقيت من الباب مسائل تقدمت في باب أداء الزكاة وغيره. وبقيت مسائل، لم يذكرها الامام الرافعي هنا. منها: قال الصيمري: كان الشافعي رحمه الله في القديم، يسمي ما يؤخذ من الماشية صدقة، ومن النقدين زكاة، ومن المعشرات عشرا فقط. ثم رجع عنه وقال: يسمى الجميع زكاة وصدقة. ومنها: الاختلاف. قال أصحابنا: اختلاف رب المال والساعي على ضربين. أحدهما: أن يكون دعوى رب المال لا تخالف الظاهر، والثاني: تخالفه. وفي الضربين، إذا اتهمه الساعي، حلفه، واليمين في الضرب الاول مستحبة بلا خلاف. فان امتنع عن اليمين، ترك ولا شئ. وأما الضرب الثاني: فاليمين فيه مستحبة أيضا على الاصح، وعلى الثاني: واجبة، فإن قلنا: مستحبة، فامتنع، فلا شئ عليه، وإلا أخذت منه لا بالنكول، بل بالسبب السابق. فمن الصور التي لا يكون قوله فيها مخالفا للظاهر، أن يقول: لم يحل الحول بعد. ومنها: أن يقول الساعي: كانت ماشيتك نصابا ثم توالدت، فيضم الاولاد إلى الامات، ويقول رب المال: لم تكن نصابا، وإنما تمت نصابا بالاولاد، فابتدأ الحول من حين التولد. ومنها: أن يقول الساعي: هذه السخال توالدت من نفس النصاب قبل الحول، فقال: بل بعد الحول، أو من غير النصاب. ومن الصور التي تخالف فيها الظاهر، أن يقول الساعي: مضى عليك حول، فقال المالك: كنت بعته في أثناء الحول، ثم اشتريته، أو قال: أخرجت زكاته، وقلنا: يجوز أن يفرق بنفسه. وقد سبقت هذه المسألة في باب أداء الزكاة، ولو قال: هذا المال وديعة، فقال(2/201)
الساعي: بل ملكك، فوجهان. أصحهما: أنه مخالف للظاهر، وبه قطع الاكثرون، والثاني: لا. ومنها: الافضل في الزكاة إظهار إخراجها، ليراه غيره، فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به. ومنها: قال الغزالي في الاحياء: يسأل الآخذ دافع الزكاة عن قدرها، فيأخذ بعض الثمن، بحيث يبقى من الثمن ما يدفعه إلى اثنين من صنفه. فإن دفع إليه الثمن بكماله، لم يحل له الاخذ. قال: وهذا السؤال واجب في أكثر الناس، فإنهم لا يراعون هذا، إما لجهل، وإما لتساهل، وإنما يجوز ترك السؤال عن مثل هذا، إذا لم يغلب الظن احتمال التحريم. والله أعلم.
باب صدقة التطوع
هي مستحبة، وفي شهر رمضان آكد. قلت: وكذا عند الامور المهمة، وعند الكسوف، والمرض، والسفر، وبمكة، والمدينة، وفي الغزو، والحج، والاوقات الفاضلة، كعشر ذي الحجة، وأيام العيد، ففي كل هذا الموضع آكد من غيرها. قال في الحاوي: ويستحب أن يوسع في رمضان على عياله، ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه، لا سيما في العشر الاواخر. والله أعلم. فصل وكانت محرمة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الاظهر تشريفا له، وهي(2/202)
حلال لذوي القربى على المشهور. وتحب للاغنياء والكفار، وصرفها سرا أفضل، وإلى الاقارب والجيران أفضل. وكذا الزكاة والكفارة وصرفهما إليهم أفضل إذا كانوا بصفة استحقاقهما. والاولى أن يبدأ بذي الرحم المحرم، كالاخوة والاخوات، والاعمام والاخوال، ويقدم الاقرب فالاقرب. وقد ألحق الزوج والزوجة بهؤلاء، ثم بذي الرحم غير المحرم، كأولاد العم والخال، ثم المحرم بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم المولى من أعلى وأسفل، ثم الجار. فإذا كان القريب بعيد الدار في البلد، قدم على الجار الاجنبي. فإن كان الاقارب خارجين عن البلد، فإن منعنا نقل الزكاة، قدم الاجنبي، وإلا، فالقريب. وكذا أهل البادية، فحيث كان القريب والاجنبي الجار، بحيث يجوز الصرف إليهما، قدم القريب. فصل يكره التصدق بالردئ، وبما فيه شبهة. فصل ومن فضل عن حاجته وحاجة عياله وعن دينه مال، هل يستحب له التصدق بجميع الفاضل ؟ فيه أوجه. أحدهما: نعم، والثاني: لا، وأصحهما: إن صبر على الاضافة، فنعم، وإلا، فلا. وأما من يحتاج إليه لعياله الذين تلزمه نفقتهم وقضاء دينه، فلا يستحب له التصدق، وربما قيل: يكره. قلت: هذه العبارة موافقة لعبارة الماوردي، والغزالي، والمتولي، وآخرين. وقال القاضي أبو الطيب، وأصحاب الشامل والمهذب والتهذيب والبيان والدارمي، والروياني في الحلية وآخرون: لا يجوز أن يتصدق بما يحتاج إليه لنفقته أو نفقة عياله، وهذا أصح في نفقة عياله، والاول أصح في نفقة نفسه، وأما الدين، فالمختار أنه إن غلب على ظنه حصول وفائه من جهة أخرى، فلا بأس بالتصدق، وإلا، فلا يحل.(2/203)
واعلم أنه بقي من الباب مسائل كثيرة. منها، قال أبو علي الطبري: يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة، ليتألف قلبه، ولما فيه من سقوط الرياء وكسر النفس. ويستحب للغني التنزه عنها، ويكره له التعرض لاخذها. قال في البيان: ولا يحل للغني أخذ صدقة التطوع مظهرا للفاقة. وهذا الذي قاله حسن، وعليه حمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي مات من أهل الصفة، فوجدوا له دينارين، فقال: كيتان من نار. فأما إذا سأل الصدقة، فقال صاحب الحاوي وغيره: إن كان محتاجا، لم يحرم السؤال، وإن كان غنيا بمال أو صنعة، فسؤاله حرام، وما يأخذه حرام عليه. هذا لفظ صاحب الحاوي. ولنا وجه ضعيف، ذكره صاحب الكتاب وغيره في كتاب النفقات: أنه لا يحرم. قال أصحابنا وغيرهم: ينبغي أن لا يمتنع من الصدقة بالقليل احتقارا له. قال الله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * [ الزلزال: 7 ] وفي الحديث الصحيح: اتقوا النار ولو بشق تمرة ويستحب أن يخص بصدقته أهل الخير والمحتاجين. وجاءت أحاديث كثيرة بالحث على الصدقة بالماء. ومن دفع إلى غلامه أو ولده ونحوهما شيئا ليعطيه لسائل، لم يزل ملكه عنه(2/204)
حتى يقبضه السائل، فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك السائل، استحب له أن لا يعود فيه، بل يتصدق به، ومن تصدق بشئ، كره له أن يتملكه من جهة من دفعه إليه بمعاوضة أو هبة. ولا بأس به بملكه منه بالارث، ولا بتملكه من غيره. وينبغي أن يدفع الصدقة بطيب نفس وبشاشة وجه، ويحرم المن بها، وإذا من، بطل ثوابها. ويستحب أن يتصدق مما يحبه. قال صاحب المعاياة: لو نذر صوما أو صلاة في وقت بعينه، لم يجز فعله قبله، ولو نذر التصدق في وقت بعينه، جاز التصحق قبله، كما لو عجل الزكاة. ومما يحتاج إليه، مسائل ذكرها الغزالي في الاحياء. منها: اختلف السلف في أن المحتاج، هل الافضل له، أن يأخذ من الزكاة أو صدقة التطوع ؟ فكان الجنيد، والخواص، وجماعة يقولون: الاخذ من الصدقة أفضل، لئلا يضيق على الاصناف، ولئلا يخل بشرط من شروط الاخذ. وأما الصدقة، فأمرها هين. وقال آخرون: الزكاة أفضل، لانه إعانة على واجب،(2/205)
ولو ترك أهل الزكاة كلهم أخذها، أثموا، ولان الزكاة لا منة فيها. قال الغزالي: والصواب. أنه يختلف بالاشخاص. فإن عرض له شبهة في استحقاقه، لم يأخذ الزكاة، وإن قطع باستحقاقه، نظر، إن كان المتصدق إن لم يأخذ هذا، لا يتصدق، فليأخذ الصدقة، فإن إخراج الزكاة لا بد منه، وإن كان لا بد من إخراج تلك الصدقة ولم يضيق بالزكاة، تخير. وأخذ الزكاة أشد في كسر , النفس. وذكر أيضا اختلاف الناس في إخفاء أخذ الصدقة وإظهاره، أيهما أفضل ؟ وفي كل واحد فضيلة ومفسدة. ثم قال: وعلى الجملة الاخذ في الملاء، وترك الاخذ في الخلاء، أحسن. والله أعلم.(2/206)
كتاب الصيام
يجب صوم رمضان باستكمال شعبان ثلاثين، أو رؤية هلاله، فمن رأى الهلال بنفسه لزمه الصوم. ومن لم يره وشهد بالرؤية عدلان، لزمه. وكذا إن شهد(2/207)
عدل على الاظهر المنصوص في أكثر كتبه. وقيل: يلزم بقول الواحد قطعا. والثاني: لا بد من اثنين. فإن قلنا: لا بد من اثنين، فلا مدخل لشهادة النساء والعبيد فيه. ولا بد من لفظ الشهادة، ويختص بمجلس القضاء، ولكنها شهادة حسية، لا ارتباط لها بالدعوى، وإن قبلنا الواحد، فهل هو بطريق الرواية، أم الشهادة ؟ وجهان. أصحهما: شهادة، فلا يقبل قول العبد والمرأة. نص عليه في الام: وإذا قلنا: رواية، قبلا. وهل يشترط لفظ الشهادة ؟ قال الجمهور: هو على الوجهين في كونه رواية أو شهادة. وقيل: يشترط قطعا. وإذا قلنا: رواية، ففي الصبي المميز الموثوق به طريقان. أحدهما: أنه على الوجهين في قبول رواية الصبي، والثاني: وهو المذهب الذي قطع به الاكثرون: القطع بأنه لا تقبل. وقال الامام، وابن الصباغ تفريعا على أنه رواية: إذا أخبره موثوق به بالرؤية، لزم قبوله وإن لم يذكره عند القاضي، وقالت طائفة: يجب الصوم بذلك إذا اعتقد صدقه.(2/208)
ولم يفرعوه على شئ. ومن هؤلاء، ابن عبدان، والغزالي في الاحياء وصاحب التهذيب. واتفقوا على أنه لا يقبل قول الفاسق على القولين جميعا. ولكن إن اعتبرنا العدد، اشترطنا العدالة الباطنة، وإلا فوجهان جاريان في رواية المستور. ولا فرق على القولين بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة. فرع إذا صمنا بقول واحد تفريعا على الاظهر، ولم نر الهلال بعد ثلاثين، فهل نفطر ؟ فيه وجهان. أصحهما عند الجمهور: نفطر، وهو نصه في الام. ثم الوجهان جاريان، سواء كانت السماء مصحية، أو مغيمة. هذا مقتضى كلام الجمهور. وقال صاحب العدة وحكاه صاحب التهذيب: الوجهان إذا كانت السماء مصحية، فإن كانت مغيمة، أفطرنا قطعا. ولو صمنا بقول عدلين، ولم نر الهلال بعد ثلاثيل، فإن كانت مغيمة، أفطرنا قطعا، وإن كانت مصحية، أفطرنا أيضا على المذهب الذي قطع به الجماهير، ونص عليه في الام وحرملة. وقال ابن الحداد: لا نفطر، ونقل عن ابن سريج أيضا. وفرع بعضهم على قول ابن الحداد فقال: لو شهد اثنان على هلال شوال، ولم نر الهلال، والسماء مصحية بعد ثلاثين، قضينا أول يوم أفطرناه، لانه بان كونه من رمضان، لكن لا كفارة على من جامع فيه، لان الكفارة تسقط بالشبهة، وعلى المذهب: لا قضاء.(2/209)
فرع هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة ؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولين كالحدود، لانه من حقوق الله تعالى، وأصحهما: القطع بثبوته كالزكاة وإتلاف حصر المسجد، وإنما القولان في الحدود المبنية على الاسقاط. فعلى هذا عدد الفروع مبني على الاصول، فإن اعتبرنا العدد في الاصول، فحكم الفروع حكمهم في سائر الشهادات، ولا مدخل فيه للنساء والعبيد، وإن لم نعتبر العدد، فإن قلنا: طريقه الرواية، فوجهان. أحدهما: يكفي واحد كرواية الاخبار، والثاني: لا بد من اثنين. قال في التهذيب: وهو الاصح، لانه ليس بخبر من كل وجه، بدليل أنه لا يكفي أن يقول: أخبرني فلان عن فلان أنه رأى الهلال، فعلى هذا، هل يشترط إخبار حرين ذكرين، أم يكفي امرأتان أو عبدان ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ونازع الامام في أنه لا يكفي قوله: أخبرني فلان عن فلان على قولنا: رواية. وإذا قلنا: طريقه الشهادة، فهل يكفي واحد، أم يشترط اثنان ؟ وجهان. وقطع في التهذيب باشتراط اثنين. فرع لا يجب مما يقتضيه حساب المنجم، الصوم عليه، ولا على(2/210)
غيره. قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر، لا يلزمه الصوم به على الاصح. وأما الجواز، فقال في التهذيب: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم، ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه ؟ وجها. وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال. وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي الطبري. قال: فلو عرف بالنجوم، لم يجز الصوم به قطعا. ورأيت في بعض المسودات، تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم. فرع إذا قبلنا قول الواحد في الصوم، قال في التهذيب: لا نوقع به الطلاق والعتق المعلقين بهلال رمضان، ولا نحكم بحلول الدين المؤجل إليه.(2/211)
فرع لا يثبت هلال شوال، إلا بعدلين، وقال أبو ثور: يقبل فيه قول واحد. قال صاحب التقريب: ولو قلت به لم أكن مبعدا. فرع إذا رئي هلال رمضان في بلد، ولم ير في الآخر، فان تقارب البلدان، فحكمها حكم البلد الواحد، وإن تباعدا، فوجهان. أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر. وفي ضبط البعد ثلاثة أوجه. أحدها وبه قطع العراقيون والصيدلاني وغيرهم: أن التباعد: أن تختلف المطالع، كالحجاز، والعراق، وخراسان. والتقارب: أن لا تختلف، كبغداد، والكوفة، والري، وقزوين. والثاني: اعتباره باتحاد الاقليم واختلافه. والثالث: التباعد مسافة القصر. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي، وصاحب التهذيب وادعى الامام الاتفاق عليه. قلت: الاصح: هو الاول، فإن شك في اتفاق المطالع، لم يجب الصوم على الذين لم يروا، لان الاصل عدم الوجوب. والله أعلم. ولو شرع في الصوم في بلد، ثم سافر إلى بلد بعيد لم ير فيه الهلال في يومه الاول، واستكمل ثلاثين، فان قلنا: لكل بلد حكم نفسه، لزمه أن يصوم معهم على الاصح، لانه صار من جملتهم، والثاني: يفطر، لانه التزم حكم الاول. وإن قلنا: يعم الحكم جميع البلاد، لزم أهل البلد المنتقل إليه موافقته إن ثبت عندهم(2/212)
حال البلد الاول بقوله، أو بطريق آخر، وعليهم قضاء اليوم الاول. ولو سافر من البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد رئي فيه، فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه، فإن عممنا الحكم، أو قلنا: له حكم البلد المنتقل إليه، عيد معهم، وقضى يوما. وإن لم نعم الحكم وقلنا: له حكم المنتقل منه، فليس له الفطر. ولو رأى الهلال في بلد فأصبح معيدا، فسارت به السفينة إلى بلد في حد البعد، فصادف أهلها صائمين، فقال الشيخ أبو محمد: يلزم إمساك بقية النهار إذا قلنا: لكل بلد حكمه. واستبعد الامام والغزالي إيجابه. وتتصور هذه المسألة في صورتين: إحداهما: أن يكون ذلك اليوم يوم الثلاثين من صوم أهل البلدين، لكن المنتقل إليهم لم يروه. والثانية: أن يكون التاسع والعشرين للمنتقل إليهم لتأخر صومهم بيوم. وإمساك بقية اليوم في الصورتين، إن لم نعمم الحكم كما ذكرنا. وجواب الشيخ أبي محمد، كما أنه مبني على أن لكل بلد حكمه، فهو مبني أيضا على أن للمنتقل حكم المنتقل إليه. وإن عممنا الحكم، فأهل البلد المنتقل إليه إذا عرفوا في أثناء اليوم أنه العيد، فهو شبيه بما إذا شهد الشهود على رؤية الهلال يوم الثلاثين. وقد سبق بيانه في صلاة العيد. وإن اتفق هذا السفر لعدلين وقد رأيا الهلال بأنفسهما، وشهدا في المنتقل إليه، فهذا عين الشهادة برؤية الهلال في اليوم الثلاثين في الصورة الاولى. وأما الثانية، فإن عممنا الحكم جميع البلاد، لم يبعد أن يكون الاصغاء إلى كلامهما على ذلك التفصيل، فإن قبلوا قضوا يوما. وإن لم نعمم الحكم، لم يلتفت إلى قولهما. ولو كان الامر بالعكس، فأصبح صائما، فسارت به السفينة إلى قوم عيدوا، فإن عممنا الحكم، وقلنا: له حكم المنتقل إليه، أفطر، وإلا، لم يفطر.(2/213)
وإذا أفطر، قضى يوما، إذ لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما. فرع إذا رأى الهلال بالنهار يوم الثلاثين، فهو لليلة المستقبلة، سواء كان قبل الزوال، أو بعده.
فصل لا يصح الصوم إلا بالنية، ومحلها القلب. ولا يشترط النطق بلا خلاف. وتجب النية لكل يوم. فلو نوى صوم الشهر كله، فهل يصح صوم اليوم الاول بهذه النية ؟ المذهب: أنه يصح، وبه قطع ابن عبدان، وتردد فيه الشيخ أبو محمد. ويجب تعيين النية في صوم الفرض، سواء فيه صوم رمضان، والنذر، والكفارة، وغيرها. ولنا وجه حكاه صاحب التتمة عن الحليمي: أنه يصح صوم رمضان بنية مطلقة، وهو شاذ. وكمال النية في رمضان: أن ينوي صمم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. فأما الصوم وكونه عن رمضان، فلا بد منهما بلا خلاف، إلا وجه الحليمي. وأما الاداء والفرضية والاضافة إلى الله تعالى، ففيها الخلاف المذكور في الصلاة. وأما رمضان هذه السنة، فالمذهب: أنه لا يشترط. وحكى الامام في اشتراطه وجها وزيفه، وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه يجب أن ينوي من فرض هذا الشهر، أم يكفي فرض رمضان ؟ والصواب ما تقدم. فإنه لو وقع التعرض لليوم، لم يضر الخطأ في أوصافه. فلو نوى ليلة الثلاثاء صوم الغد وهو(2/214)
يعتقد أنه يوم الاثنين، أو نوى رمضان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة ثلاث، وكانت سنة أربع، صح صومه، بخلاف ما لو نوى صوم يوم الثلاثاء ليلة الاثنين، أو رمضان سنة ثلاث في سنة أربع، فإنه لا يصح، لانه لا يعين الوقت. ثم إن لفظ الغد، أشهر في كلام الاصحاب في تفسير التعيين، وهو في الحقيقة ليس من حد التعيين، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت. ولا يخفى مما ذكرناه قياس التعيين في القضاء، والكفارة. وأما صوم التطوع، فيصح بنية مطلق الصوم، كما في الصلاة. فرع قال القاضي أبو المكارم في العدة: لو قال: أتسحر لاقوى على الصوم، لم يكف هذا في النية. ونقل بعضهم عن نوادر الاحكام لابي العباس الروياني: أنه لو قال: أتسحر للصوم، أو شرب لدفع العطش نهارا، أو امتنع من الاكل والشرب والجماع مخافة الفجر. كان ذلك نية للصوم. وهذا هو الحق إن خطر بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها، لانه إذا تسحر ليصوم صوم كذا، فقد قصده. فرع تبييت النية شرط في صوم الفرض، فلو نوى قبل غروب الشمس صوم الغد، لم يصح. ولو نوى مع طلوع الفجر لم يصح على الاصح. ولا تختص النية بالنصف الاخير من الليل على الصحيح، ولا تبطل بالاكل والجماع بعدها على المذهب. وحكي عن أبي إسحق بطلانها، ووجوب تجديدها. وأنكر ابن الصباغ نسبة هذا إلى أبي إسحق، وقال الامام: رجع أبو(2/215)
إسحاق عن هذا عام حج، وأشهد على نفسه. فإن ثبت أحد هذين، فلا خلاف في المسألة. ولو نوى ونام وانتبه والليل باق، لم يجب تجديد النية على الصحيح. قال الامام: وفي كلام العراقيين تردد في كون الغفلة، كالنوم، وكل ذلك مطرح. فرع يصح صوم النفل بنية قبل الزوال. وقال المزني وأبو يحيى البلخي: لا يصح إلا من الليل، وهل يصح بعد الزوال ؟ قولان. أظهرهما وهو المنصوص في معظم كتبه: لا يصح. وفي حرملة: أنه يصح. قلت: وعلى نصه في حرملة: يصح في جميع ساعات النهار. والله أعلم. ثم إذا نوى قبل الزوال أو بعده، وصححناه، فهل هو صائم من أول النهار حتى ينال ثواب جميعه، أم من وقت النية ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: أنه صائم من أول النهار. كما إذا أدرك الامام في الركوع، يكون مدركا لثواب جميع الركعة. فإذا قلنا بهذا، اشترط جميع شروط الصوم من أول النهار، وإذا قلنا: يثاب من حين النية، ففي اشتراط خلو الاول عن الاكل والجماع وجهان. الصحيح: الاشتراط، والثاني: لا، وينسب إلى ابن سريج، وأبي زيد، ومحمد بن جرير الطبري. وهل يشترط خلو أوله عن الكفر والحيض والجنون، أم يصح صوم من أسلم، أو أفاق، أو طهرت من الحيض ضحوة ؟ وجهان. أصحهما: الاشتراط. فرع ينبغي أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان أن يصوم غدا إن كان من رمضان، فله حالان.(2/216)
الاول: أن لا يعتقده من رمضان، فينظر، إن ردد نيته فقال: أصوم غدا عن رمضان إن كان منه، وإلا، فأنا مفطر، أو فأنا متطوع، لم يقع صومه عن رمضان إذا بان منه، لجنه صام شاكا. وقال المزني: يقع عن رمضان. ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن كان من رمضان، وإلا فهو مفطر، أجزأه، لان الاصل بقاء رمضان. ولو قال: أصوم غدا من رمضان، أو تطوعا، أو أصوم، أو أفطر، لم يصح صومه لا في الاول ولا في الآخر. أما إذا لم يردد نيته، بل جزم بالصوم عن رمضان، فلا يصح صومه، لانه ذا لم يعتقده من رمضان، لم يتأت منه الجزم بصوم رمضان حقيقة، وإنما يحصل حديث نفس لا اعتبار به. وعن صاحب التقريب حكاية وجه: أنه يصح. الحال الثاني: أن يعتقد كونه من رمضان، فإن لم يستند اعتقاده إلى ما يثير ظنا، فلا اعتبار به، وإن استند إليه، بأن اعتمد قول من يثق به، من حر، أو عبد، أو امرأة، أو صبيين ذوي رشد، ونوى صومه عن رمضان، أجزأه إذا بان من رمضان. فإن قال في نيته والحالة هذه: أصوم عن رمضان، فإن لم يكن من رمضان، فهو تطوع، فظاهر النص: أنه لا يصح صومه إذا بان من رمضان، للتردد. وفيه وجه: أنه يصح، لاستناده إلى أصل. ورأى الامام طرد هذا الخلاف فيما إذا جزم. ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنا، بناء الامر على الحساب حيث جوزناه على التفصيل السابق. ومنها: إذا حكم الحاكم بشهادة عدلين، أو واحد، إذا جوزناه، وجب الصوم، ولا يضر ما قد تبقى من الارتياب. ومنها: المحبوس إذا اشتبه عليه رمضان، فاجتهد، صام شهرا بالاجتهاد.(2/217)
ولا يكفيه صوم شهر بلا اجتهاد وإن وافق رمضان. ثم إذا اجتهد فصام شهرا، فإن وافق رمضان، فذاك، وإن تأخر عنه، أجزأه قطعا، ويكون قضاء على الاصح، وعلى الثاني: أداء. ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا، ورمضان تاما. إن قلنا: قضاء، لزمه يوم آخر، وإن قلنا: أداء، فلا، كما لو كان رمضان ناقصا. وإن كان الامر بالعكس، فإن قلنا: قضاء، فله إفطار اليوم الآخر. وإن قلنا: أداء، فلا، وإن وافق صومه شوالا، حصل منه تسعة وعشرون إن كمل، أو ثمانية وعشرون إن نقص، فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، فلا شئ عليه على التقدير الاول، ويقضي يوما على التقدير الثاني. وإن كان رمضان كاملا، قضى يوما على التقدير الاول، ويومين على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، فعليه قضاء يوم بكل حال. وإن وافق ذا الحجة، حصل منه ستة وعشرون يوما إن كمل، وخمسة وعشرون إن نقص. فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، قضى ثلاثة أيام على التقدير الاول، وأربعة على التقدير الثاني. وإن كان كاملا، قضى أربعة على التقدير الاول، وخمسة على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، قضى أربعة بكل حال. وهذا مبني على أن صوم أيام التشريق لا يصح بحال، فإن صححنا صومها لغير المتمتع، فذو الحجة كشوال. أما إذا اجتهد فوافق صيامه ما قبل رمضان،(2/218)
فينظر، إن أدرك رمضان بعد بيان الحال، لزمه صومه بلا خلاف. وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان، فطريقان. أشهرهما: على قولين. الجديد الاظهر: وجوب القضاء، والقديم: لا قضاء، والطريق الثاني: القطع بوجوب القضاء. فإن بان الحال في بعض رمضان، فطريقان. أحدهما: القطع بوجوب قضاء ما مضى. وأصحهما: أن في إجزائه الخلاف فيما إذا بان بعد مضي جميع رمضان. فرع إذا نوت الحائض صوم الغد قبل انقطاع دمها، ثم انقطع في الليل، فإن كانت مبتدأة يتم لها بالليل أكثر الحيض، أو معتادة عادتها أكثر الحيض، وهو يتم بالليل، صح صومها. وإن كانت عادتها دون أكثره، ويتم بالليل، فوجهان. أصحهما: يصح، لان الظاهر استمرار عادتها. وإن لم يكن لها عادة، ولا يتم أكثر الحيض في الليل، أو كان لها عادات مختلفة، لم يصح. فرع إذا نوى الانتقال من صوم إلى صوم، لم ينتقل إليه، وهل يبطل صومه، أم يبقى نفلا ؟ وجهان. وكذا لو رفض نية الفرض عن الصوم الذي هو فيه. قلت: الاصح: بقاؤه على ما كان. واعلم أن انقلابه نفلا على أحد الوجهين، إنما يصح في غير رمضان، وإلا، فرمضان لا يقبل النفل عندنا ممن هو من أهل الفرض بحال. والله أعلم. فرع لو قال: إذا جاء فلان، خرجت من صومي، فهل يخرج عند مجيئه ؟ وجهان. فإن قلنا: يخرج، فهل يخرج في الحال ؟ وجهان. والمذهب: لا يبطل في الحالين، كما سبق بيانه في صفة الصلاة.
فصل لا بد للصائم من الامساك عن المفطرات، وهي أنواع. منها: الجماع، وهو مفطر بالاجماع.(2/219)
ومنها: الاستمناء، وهو مفطر. ومنها: الاستقاءة، فمن تقيأ عمدا، أفطر. ومن ذرعه القئ، لم يفطر. ثم اختلفوا في سبب الفطر إذا تقيأ عمدا، فالاصح: أن نفس الاستقاءة مفطرة كالانزال، والثاني: أن المفطر رجوع شئ مما خرج وإن قل. فلو تقيأ منكوسا، أو تحفظ، فاستيقن أنه لم يرجع شئ إلى جوفه، ففي فطره الوجهان. قال الامام: فلو استقاء عمدا، أو تحفظ جهده، فغلبه القيئ ورجع شئ، فإن قلنا: الاستقاءة مفطرة بنفسها، فهنا أولى، وإلا فهو كالمبالغة في المضمضة إذا سبق الماء إلى جوفه. فرع من المفطرات دخول شئ في جوفه - وقد ضبطوا الداخل المفطر بالعين الواصلة - الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم. وفيه قيود: منها الباطن الواصل إليه. وفيما يعتبر به وجهان. أحدهما: أنه ما يقع عليه اسم الجوف، والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء. والاول هو الموافق لكلام الاكثرين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويدل(2/220)
عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه. وقال الامام: إذا جاوز الشئ الحلقوم، أفطر. وعلى الوجهين جميعا باطن الدماغ والبطن والامعاء والمثانة، مما يفطر الوصول إليه، حتى لو كان على بطنه جائفة، أو برأسه مأمومة، فوضع عليها دواء فوصل جوفه أو خريطة دماغه، أفطر وإن لم يصل باطن الامعاء أو باطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا. ولنا وجه: أن الوصول إلى المثانة لا يفطر، وهو شاذ. والحقنة تفطر على الصحيح. وقال القاضي حسين: لا تفطر، وهو غذيب. والسعوط إن وصل الدماغ، فطر. وما جاوز الخيشوم في الاسعاط، فقد حصل في حد الباطن وداخل الفم والانف إلى منتهى الغلصمة. والخيشوم له حكم الظاهر من بعض الوجوه، حتى لو خرج إليه القيئ وابتلع منه نخامة، أفطر، ولو أمسك فيه شيئا، لم يفطر، ولو نجس، وجب غسله، وله حكم الباطن من حيث أنه لو ابتلع منه الريق لا يفطر، ولا يجب غسله على الجنب. فرع لا بأس بالاكتحال للصائم، سواء وجد في حلقه منه طعما، أم لا، لان العين ليست بجوف، ولا منفذ منها إلى الحلق. ولو قطر في أذنه شيئا فوصل إلى(2/221)
الباطن، أفطر على الاصح عن الاكثرين، كالسعوط، والثاني: لا يفطر كالاكتحال، قاله الشيخ أبو علي، والقاضي حسين، والفوراني. ولو قطر في إحليله شيئا لم يصل إلى المثانة، فأوجه. أصحها: يفطر، والثاني: لا، والثالث: إن جاوز الحشفة، أفطر، وإلا، فلا. ولا يفطر الفصد والحجامة، لكن يكرهان للصائم. وقال ابن المنذر وابن خزيمة من أصحابنا: يفطر بالحجامة. فرع لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق، أو غرز فيه السكين فوصلت مخه، لم يفطر، لانه لم يعد عضوا مجوفا. ولو طلى رأسه أو بطنه بالدهن فوصل جوفه بشرب المسام، لم يفطر، لانه لم يصل من منفذ مفتوح، كما لا يفطر بالاغتسال والانغماس في الماء وإن وجد له أثرا في باطنه. ولو طعن نفسه، أو طعنه غيره بإذنه، فوصل السكين جوفه، أفطر، سواء كان بعض السكين خارجا، أو لم يكن. وكذا لو ابتلع طرف خيط وطرفها لآخر بارز، أفطر بوصول الطرف الواصل، ولا يعتبر الانفصال من الظاهر. وحكى الحناطي وجها فيمن أدخل طرف خيط في دبره أو جوفه، وبعضه خارج: أنه لا يفطر. فرع لو ابتلع طرف خيط بالليل، وطرفه الآخر خارج، فأصبح كذلك، فإن تركه لم تصح صلاته، وإن نزعه أو ابتلعه لم يصح صومه. فينبغي أن يبادر غيره إلى نزعه وهو غافل، فإن لم يتفق ذلك، فالاصح: أن يحافظ على الصلاة فينزعه أو يبتلعه، والثاني: يتركه محافظة على الصوم، ويصلي على حاله. قلت: ويجب إعادة الصلاة على الصحيح. والله أعلم.(2/222)
فرع من قيود المفطر وصوله بقصد، فلو طارت ذبابة إلى حلقه، أو وصل غبار الطريق، أو غربلة الدقيق إلى جوفه، لم يفطر. فلو فتح فاه عمدا حتى دخل الغبار جوفه، قال في التهذيب: لم يفطر على الاصح. ولو ربطت المرأة ووطئت، أو طعن أو أوجر بغير اختياره، لم يفطر. ونقل الحناطي وجهين فيما إذا أوجر بغير اختياره، وهذا غريب. فلو كان مغمى عليه فأوجر معالجة وإصلاحا له، وقلنا: لا يبطل الصوم بمجرد الاغماء، ففي بطلانه بهذا الايجار وجهان. أصحهما: لا يفطر. ونظير الخلاف إذا عولج المحرم المغمى عليه بدواء فيه طيب، هل تجب الفدية ؟. فرع ابتلاع الريق لا يفطر بشروط. أحدها: أن يتمحض الريق، فلو اختلط بغيره وتغير به، أفطر بابتلاعه، سواء كان الغير طاهرا، كمن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه، أو نجسا كمن دميت لثته وتغير ريقه، فلو ذهب الدم، وابيض الريق، ولم يبق تغير، هل يفطر بابتلاعه ؟(2/223)
وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يفطر، لانه نجس لا يجوز ابتلاعه. وعلى هذا، لو تناول بالليل شيئا نجسا، ولم يغسل فمه حتى أصبح، فابتلع الريق، أفطر. الشرط الثاني: أن يبتلعه من معدته، فلو خرج عن فيه ثم رده بلسانه أو بغيره وابتلعه، أفطر. ولو أخرج لسانه وعليه الريق، ثم رده وابتلع ما عليه، لم يفطر على الاصح. ولو بل الخياط الخيط بالريق، ثم رده إلى فيه على ما يعتاد عند الفتل، فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل، فلا بأس، وإن كانت وابتلعها، فوجهان. قال الشيخ أبو محمد: لا يفطر، كما لا يفطر بالباقي من ماء المضمضة. وقال الجمهور: يفطر، لانه لا ضرورة إليه، وقد ابتلعه بعد مفارقته معدته. وخص صاحب التتمة الوجهين بما إذا كان جاهلا تحريم ذلك، قال: فإن كان عالما، أفطر بلا خلاف. الشرط الثالث: أن يبتلعه على هيئته المعتادة، فان جمعه ثم ابتلعه، فوجهان. أصحهما: لا يفطر. فرع النخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم، فلا تضر، وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم، نظر، إن لم يقدر على صرفها ومجها حتى نزلت إلى الجوف. لم تضر، وإن ردها إلى فضاء الفم، أو ارتدت إليه ثم ابتلعها، أفطر. وإن قدر على قطعها من مجراها، فتركها حتى جرت بنفسها، فوجهان حكاهما الامام، أوفقهما(2/224)
لكلام الائمة: أنه يفطر لتقصيره. فرع إذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه، أو استنشق فسبق إلى دماغه، فالمذهب: أنه إن بالغ فيهما، أفطر، وإلا، فلا. وقيل: يفطر مطلقا، وقيل: عكسه. هذا إذا كان ذاكرا للصوم، فإن كان ناسيا، لم يفطر بحال. وسبق الماء عند غسل الفم لنجاسة، كسبقه في المضمضة، والمبالغة هنا للحاجة ينبغي أن تكون كالمضمضة بلا مبالغة. ولو سبق الماء عند غسل تبرد، أو من المضمضة في المرة الرابعة قال في التهذيب: إن بالغ، أفطر، وإلا فهو مرتب على المضمضة، وأولى بالافطار، لانه غير مأمور به. قلت: المختار في المرة الرابعة، الجزم بالافطار كالمبالغة، لانها منهي عنها. ولو جعل الماء في فمه لا لغرض، فسبق، فقيل: يفطر. وقيل بالقولين. ولو أصبح ولم ينو صوما، فتمضمض ولم يبالغ، فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع، صح على الاصح. قال القاضي حسين في فتاويه: إن قلنا: هذا السبق لا يفطر، صح، وإلا، فلا. قال: والاصح: الصحة في الموضعين. والله أعلم. فرع: إذا بقي طعام في خلل أسنانه، فابتلعه عمدا، أفطر. وإن جرى به الريق بغير قصد، فنقل المزني: أنه لا يفطر. والربيع: أنه يفطر. وقيل: قولان. والاصح حملها على حالتين، فحيث قال: لا يفطر، أراد به ما إذا لم يقدر على تمييزه ومجه. وحيث قال: يفطر، أراد به ما إذا قدر فلم يفعل وابتلعه. وقال إمام الحرمين والغزالي: إن نقى اسنانه بالخلال على العادة، (فهو) كغبار(2/225)
الطريق، وإلا، أفطر لتقصيره، كالمبالغة في المضمضة. ولقائل أن ينازعهما في إلحاقه بالمبالغة التي ورد النص بكراهتها، ولان ماء المبالغة أقرب إلى الجوف. فرع المني إذا خرج بالاستمناء، أفطر، وإن خرج بمجرد فكر ونظر بشهوة، لم يفطر، وإن خرج بمباشرة فيما دون الفرج، أو لمس أو قبلة، أفطر. هذا هو المذهب، وبه قال الجمهور. وحكى إمام الحرمين عن شيخه: أنه حكى وجهين فيما إذا ضم امرأة إلى نفسه وبينهما حائل، فأنزل. قال: وهو عندي كسبق ماء المضمضة، فإن ضاجعها متجردا، فكالمبالغة في المضمضة. فرع تكره القبلة لمن حركت شهوته ولا يأمن على نفسه، وهي كراهة تحريم على الاصح، والثاني: كراهة تنزيه، ولا تكره لغيره، ولكن الاولى تركها. فرع لو اقتلع نخامة من باطنه ولفظها، لم يفطر على المذهب الذي قطع به الحناطي وكثيرون. وحكى الشيخ أبو محمد فيه وجهين. ثم إن الغزالي جعل مخرج الحاء المهملة من الباطن، والخاء المعجمة من الظاهر. ووجهه لائح، فإن المهملة تخرج من الحلق، والحلق باطن، والمعجمة تخرج مما قبل الغلصمة،(2/226)
لكن يشبه أن يكون قدر مما بعد مخرج المهملة من الظاهر أيضا. قلت: المختار أن المهملة أيضا من الظاهر، وعجب كونه ضبطه بالمهملة التي هي من وسط الحلق، ولم يضبطه بالهاء أو الهمزة، فإنهما من أقصى الحلق. وأما المعجمة، فمن أدنى الحلق، وهذا معروف مشهور لاهل العربية. والله أعلم. فرع قدمنا أنه لا يفطر بالايجار مكرها على المذهب، فلو أكره على الاكل، لم يفطر على الاظهر. ويجري الوجهان فيما لو أكرهت على الوطئ، أو أكره الرجل، وقلنا: يتصور إكراهه، ولكن لا كفارة وإن حكمنا بالفطر للشبه. وإن قلنا: لا يتصور الاكراه، أفطر، ولزمته الكفارة. وإن أكل ناسيا، فإن كان قليلا، لم يفطر قطعا، وإن كثر، فوجهان كالوجهين في الكلام الكثير في الصلاة ناسيا. قلت: الاصح هنا: أنه لا يفطر. والله أعلم. وإن أكل جاهلا بكونه مفطرا، فإن كان قريب عهد بالاسلام، أو نشأ ببادية وكان يجهل مثل ذلك، لم يفطر، وإلا أفطر. ولو جامع ناسيا، لم يفطر على المذهب. وقيل قولان: كجماع المحرم ناسيا. ولو أكل ظانا غروب الشمس،(2/227)
فبانت طالعة، أو ظن أن الفجر لم يطلع، فبان طالعا، أفطر على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا يفطر فيهما، قاله المزني وابن خزيمة من أصحابنا. وقيل: يفطر في الاولى دون الثانية لتقصيره في الاولى. فرع الاحوط للصائم، أن لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس، فلو غلب على ظنه الغروب باجتهاد بورد أو غيره، جاز له الاكل على الصحيح. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: لا يجوز، لقدرته على اليقين بالصبر. وأما في آخر الليل، فيجوز الاكل بالاجتهاد دون الظن. فلو هجم في الطرفين، فأكل بلا ظن، فإن تبين الخطأ، فحكمه ما سبق في الفرع قبله، وإن تبين الصواب. استمرت صحة الصوم، وإن لم يبن الخطأ ولا الصواب، فإن كان ذلك في آخر النهار، وجب القضاء، وإن كان في أوله، فلا قضاء، استصحابا للاصل فيهما. ولو أكل في آخر النهار بالاجتهاد، وقلنا: لا يجوز الاكل، كان كمن أكل بالاجتهاد. قلت: والاكل هجوما بلا ظن حرام في آخر النهار قطعا، وجائز في أوله. وقال الغزالي في الوسيط: لا يجوز، ومثله في التتمة، وهو محمول على أنه ليس مباحا مستوي الطرفين، بل الاولى تركه. وقد صرح به الماوردي والدارمي وخلائق بأنه لا يحرم على الشاك الاكل وغيره، ولا خلاف في هذا القول، لقول الله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض...) *. [ البقرة 187 ](2/228)
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما كل ما شككت حتى يتبين لك. والله أعلم. فرع إذا طلع الفجر وفي فيه طعام، فليلفظه، ويصح صومه، فإن ابتلعه، أفطر. فلو لفظ في الحال، فسبق شئ إلى جوفه بغير اختياره، فوجهان مخرجان من سبق الماء في المضمضة. قلت: الصحيح: لا يفطر. والله أعلم. ولو طلع وهو مجامع، فنزع في الحال، صح صومه، نص عليه في(2/229)
المختصر ولهذه المسألة ثلاثة صور. أحدها: أن يحس بالفجر وهو مجامع، فنزع بحيث يوافق آخر نزعه الطلوع. والثانية: يطلع الفجر وهو مجامع، ويعلم بالطلوع في أوله، فينزع في الحال. والثالثة: أن يمضي زمن بعد الطلوع، ثم يعلم بن. أما هذه الثالثة، فليست مرادة بالنص، بل يبطل فيها الصوم على المذهب، ويجئ فيها الخلاف السابق فيمن أكل ظانا أن الصبح لم يطلع، فبان خلافه، فعلى المذهب: لو مكث في هذه الصورة، فلا كفارة عليه، لان مكثه مسبوق ببطلان الصوم. وأما الصورتان الاوليان، فمرادتان بالنص، فلا يبطلان الصوم فيهما. وفي الثانية منهما وجه شاذ: أنه يبطل. وأما إذا طلع الفجر وعلم بمجرد الطلوع، فمكث، فيبطل صومه قطعا، ويلزمه الكفارة على المذهب. وقيل: فيهما قولان. ولو جامع ناسيا ثم تذكر فاستدام، فهو كالماكث بعد الطلوع. فإن قيل: كيف يعلم الفجر بمجرد طلوعه وطلوعه الحقيقي يتقدم على علمنا به ؟ فأجاب الشيخ أبو محمد بجوابين. أحدهما: أنها مسألة علمية على التقدير، ولا يلزم وقوعها. والثاني: أنا تعبدنا بما نطلع عليه، ولا معنى للصبح إلا ظهور الضوء للناظر، وما قبله لا حكم له. فإذا كان الشخص عارفا بالاوقات ومنازل القمر، فترصده بحيث لا حائل، فهو أول الصبح المعتبر. قلت: هذا الثاني هو الصحيح، بل إنكار تصوره غلط. والله أعلم. فصل في شروط الصوم وهي أربعة. الاول: النقاء من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض ولا النفساء.(2/230)
الثاني: الاسلام، فلا يصح صوم كافر أصليا كان أو مرتدا، ويعتبر الشرطان في جميع النهار. فلو طرأ الحيض أو ردة، بطل صومه. والثالث: العقل، فلا يصح صوم المجنون. فلو جن في أثناء النهار، بطل صومه على المذهب. وقيل: هو كالاغماء. ولو نام جميع النهار، صح صومه على الصحيح المعروف. وقال أبو الطيب بن سلمة، والاصطخري: لا يصح صومه. ولو نوى من الليل، ثم أغمي عليه، فالمذهب: أنه إن كان مفيقا في جزء من النهار، صح صومه، وإلا، فلا، وهذا هو المنصوص في المختصر في باب الصيام. وفيه قول: أنه تشترط الافاقة من أول النهار. وفي قول: يبطل بالاغماء ولو لحظة في النهار كالحيض، ومنهم من أنكر هذا القول. وفي قول مخرج: أنه لا يبطل بالاغماء وإن استغرق كالنوم. وفي قول خرجه ابن سريج: تشترط الافاقة في طرف النهار، ومنهم من قطع بالمذهب، ومنهم من قطع بالقول الثاني. ولو نوى بالليل، ثم شرب دواء فزال عقله نهارا، فقال في التهذيب إن قلنا: لا يصح الصوم في الاغماء، فهنا أولى، وإلا فوجهان. والاصح: أنه لا يصح، لانه بفعله. قال في التتمة: ولو شرب المسكر ليلا(2/231)
وبقي سكره جميع النهار، لزمه القضاء، وإن صحا في بعضه، فهو كالاغماء في بعض النهار. وأما الغفلة، فلا أثر لها في الصوم بالاتفاق. الشرط الرابع: الوقت قابل للصوم. وأيام السنة كلها - غير يومي العيدين، وأيام الشريق، ويوم الشك - قابلة للصوم مطلقا. فأما يوما العيدين، فلا يقبلانه. وأما أيام التشريق، فلا تقبل على الجديد. وقال في القديم: يجوز للمتمتع، وللعادم للهدي، صومها عن الثلاثة الواجبة في الحج. فعلى هذا، هل يجوز لغير المتمتع صومها ؟ وجهان. الصحيح وبه قال الاكثرون: لا يجوز. قلت: وإذا جوزنا لغير المتمتع، فهو مختص بصوم له سبب من واجب أو نفل. فأما ما لا سبب له، فلا يجوز عند الجمهور ممن ذكر هذا الوجه وقال إمام الحرمين: هو كيوم الشك، وهذا القديم هو الراجح دليلا، وإن كان مرجوحا عند الاصحاب. والله أعلم. وأما يوم الشك، فلا يصح صومه عن رمضان، ويجوز صومه عن قضاء، أو نذر، أو كفارة. ويجوز إذا وافق وردا صومه تطوعا بلا كراهة. وقال القاضي أبو الطيب: يكره صومه عما عليه (من) فرض. قال ابن الصباغ: هذا خلاف القياس، لانه إذا لم يكره فيه ماله سبب من التطوع، فالفرض أولى. ويحرم أن يصوم فيه تطوعا لا سبب له، فإن صامه، لم يصح على الاصح. وإن نذر صومه، ففي صحة نذره هذان الوجهان. فإن صححنا، فليصم يوما غيره، فإن صامه، خرج عن نذره.(2/232)
ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا وقع في الالسن أنه رئي ولم يقل عدل: أنا رأيته، أو قاله ولم يقبل الواحد، أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق وظن صدقهم. وأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد، فليس بيوم شك، سواء كانت السماء مصحية، أو طبق الغيم، هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه لابي محمد البافي - بالباء الموحدة وبالفاء - إن كانت السماء مصحية ولم ير الهلال، فهو شك. وفي وجه لابي طاهر: يوم الشك: ما تردد بين الجائزين من غير ترجيح، فإن شهد عبد، أو صبي، أو امرأة، فقد ترجح أحد الجانبين، فليس بشك. ولو كان في السماء قطع سحاب يمكن أن يرى الهلال من خللها، وأن يخفى تحتها ولم يتحدث برؤيته. فقال الشيخ أبو محمد: هو يوم شك. وقال غيره: ليس بشك. وقال إمام الحرمين: إن كان في بلد يستقل أهله بطلب الهلال، فليس بشك، وإن كانوا في سفر، ولم تبعد رؤية أهل القرى، فيحتمل أن يجعل يوم الشك. قلت: الاصح: ليس بشك. والله أعلم.
فصل في سنن الصوم
من سنن الصوم، تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس، وأن يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى الماء وقال الروياني: يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى حلاوة أخرى، فإن لم يجد، فعلى الماء. وقال القاضي حسين: الاولى في زماننا أن يفطر على ما يأخذه بكفه من النهر ليكون أبعد عن الشبهة. ويسن السحور وأن يؤخره ما لم(2/233)
يقع في مظنة الشك. والوصال مكروه كراهة تحريم على الصحيح، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، والثاني: كراهة تنزيه. وحقيقة الوصال: أن يصوم يومين فصاعدا ولا يتناول شيئا بالليل. والجود والافضال مستحب في جميع الاوقات، وفي رمضان آكد. والسنة كثرة تلاوة القرآن فيه، والمدارسة به، وهو أن يقرأ على غيره، ويقرأ غيره عليه. ويسن الاعتكاف فيه، لا سيما في العشر الاواخر لطلب ليلة القدر. ويصون الصائم لسانه عن الكذب والغيبة والمشاتمة ونحوها، ويكف نفسه عن الشهوات، فهو سر الصوم والمقصود الاعظم منه. وأن يترك السواك بعد الزوال، وإذا استاك فلا فرق بين الرطب واليابس، بشرط أن يحترز عن ابتلاع شئ منه أو من رطوبته. ولنا وجه: أنه لا يكره السواك بعد الزوال في النفل، ليكون أبعد من الرياء، قاله القاضي حسين، وهو شاذ. ويستحب تقديم غسل الجنابة عن الجماع، والاحتلام على الصبح. ولو طهرت الحائض ليلا، ونوت الصوم، ثم اغتسلت في النهار، صح صومها. والسنة أن يقول عند فطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت وأن يفطر الصائمين معه، فإن عجز عن عشائهم، أعطاهم ما يفطرون به من شربة أو تمرة أو غيرهما. ويستحب أن يحترز عن الحجامة، والعلك، والقبلة، والمعانقة، إذا لم نحرمهما. وذوق الشئ، ومضغ الطعام للطفل، وكل ذلك لا يبطل الصوم.
فصل في مبيحات الفطر في رمضان وأحكامه فالمرض والسفر، مبيحان بالنص والاجماع، وكذلك من غلبه الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، فله الفطر وإن كان مقيما صحيح البدن. ثم شرط كون المرض مبيحا، أن يجهده(2/234)
الصوم معه، فيلحقه ضرر يشق احتماله على ما ذكرنا من وجوه المضار في التيمم. ثم المرض إن كان مطبقا، فله ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع، نظر، إن كان محموما وقت الشروع، فله ترك النية، وإلا، فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد واحتاج إلى الافطار، أفطر. وشرط كون السفر مبيحا، كونه طويلا ومباحا. ولو أصبح صائما، ثم مرض في أثناء النهار، فله الفطر. ولو أصبح مقيما صائما ثم سافر، لم يجز له فطر ذلك اليوم. وقال المزني: يجوز، وبه قال غيره من أصحابنا. فعلى الصحيح: لو أفطر بالجماع، لزمته الكفارة. ولو نوى المقيم بالليل، ثم سافر ليلا، فإن فارق العمران قبل الفجر، فله الفطر، وإلا، فلا. ولو أصبح المسافر صائما، ثم أقام في أثناء النهار، لم يجز له الفطر على الصحيح. ونقل صاحب الحاوي عن حرملة: أن له الفطر. ولو أصبح المريض صائما، ثم برأ في النهار، فقطع كثيرون بتحريم الفطر عليه. وطرد صاحب المهذب فيه الوجهين، ولعله الاولى. ولو أصبح صائما في السفر، ثم أراد الفطر، جاز. وفيه احتمال لامام الحرمين وصاحب المهذب: أنه لا يجوز. وإذا قلنا بالمذهب، ففي كراهة الفطر وجهان. قلت: هذا الاحتمال الذي ذكراه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه في البويطي لكن قال: لا يجوز الفطر إن لم يصح الحديث بالفطر. وقد صح الحديث. والله أعلم. واعلم، أن للمسافر الصوم والفطر. ثم إن كان لا يتضرر بالصوم، فهو(2/235)
أفضل، وإلا، فالفطر أفضل. وذكر في التتمة: أنه لو لم يتضرر في الحال، لكن يخاف الضعف لو صام، أو كان سفر حج، أو غزو، فالفطر أولى. وقد تقدم أصل هذه المسألة في صلاة المسافر. فرع في أحكام الفطر كل من ترك النية الواجبة عمدا أو سهوا، فعليه القضاء. وكذا كل من أفطر، لكن لو كان إفطاره يوجب الكفارة، ففيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى. وما فات بسبب الكفر الاصلي، لا قضاء فيه، ويجب القضاء على المرتد. والمسافر، والمريض إذا أفطرا، قضيا. وما فات بالاغماء، يجب قضاؤه، سواء استغرق جميع الشهر، أم لا، لانه نوع مرض، بخلاف الجنون. ولهذا يجوز الاغماء على الانبياء عليهم السلام، ولا يجوز عليهم الجنون. وعن ابن سريج: أن الاغماء إذا استغرق، فلا قضاء. وم فات بالحيض والنفاس، وجب قضاؤه، ولا يجب على الصبي والمجنون صوم، ولا قضاء، سواء استغرق الجنون النهار، أو الشهر، أم لا. وحكي قول شاذ: أن الجنون كالاغماء، فيجب القضاء. وقول: أنه إذا أفاق في أثناء الشهر، لزمه قضاء ما مضى من الشهر. هذا في الجنون المطلق، أما إذا ارتد ثم جن، أو سكر ثم جن، ففي وجوب القضاء وجهان. ولعل الظاهر: الفرق بين اتصاله بالردة، وبين اتصاله بالسكر كما سبق في الصلاة. فرع لا يجب التتابع في قضاء رمضان، لكن يستحب.
فصل في الامساك تشبها بالصائمين وهو من خواص رمضان، كالكفارة، فلا إمساك على متعد بالفطر في نذر أو قضاء. ثم من أمسك تشبها، ليس في صوم، بخلاف المحرم إذا أفسد إحرامه، ويظهر أثره في أن المحرم لو ارتكب محظورا، لزمه الفدية، ولو ارتكب الممسك محظورا، لا شئ عليه سوى الاثم. ثم الامساك يجب على كل متعد بالفطر في رمضان، سواء أكل أو ارتد، أو نوى(2/236)
الخروج من الصوم وقلنا: يخرج. ويجب على من نسي النية من الليل. فرع لو أقام المسافر أو برأ المريض اللذان يباح لهما الفطر في أثناء النهار، فلهما ثلاثة أحوال. أحدها: أن يصبحا صائمين وداما عليه إلى زوال العذر، فقد تقدم في الفصل السابق أن المذهب: لزوم اتمام الصوم. الثاني: أن يزول بعدما أفطرا، فلا يجب الامساك، لكن يستحب. فإن أكلا، أخفياه لئلا يتعرضا للتهمة وعقوبة السلطان، ولهما الجماع بعد زوال العذر إذا لم تكن المرأة صائمة، بأن كانت صغيرة، أو طهرت من الحيض ذلك اليوم. وحكى صاحب الحاوي وجهين، في أن المريض إذا أفطر، ثم برأ، هل يلزمه الامساك ؟ قال: أوجبه البغداديون دون البصريين. والمذهب: ما قدمنا. الثالث: أن يصبحا غير ناويين، ويزول العذر قبل أن يأكلا، فان قلنا في الحال الاول: يجوز الاكل، فهنا أولى، وإلا، ففي لزوم الامساك وجهان. الاصح: لا يلزم. فرع إذا أصبح يوم الشك مفطرا، ثم ثبت أنه من رمضان، فقضاؤه واجب، ويجب إمساكه على الاظهر. قال في التتمة: القولان، فيما إذا بان أنه من رمضان قبل الاكل، فإن بان بعده، فإن قلنا: هناك لا يجب الامساك، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: الوجوب. فرع إذا بلغ صبي، أو أفاق مجنون، أو أسلم كافر، في أثناء يوم من رمضان، فهل يلزمهم إمساك بقية النهار ؟ فيه أوجه. أصحها: لا، والثاني: نعم، والثالث: يلزم الكافر دونهما، لتقصيره، والرابع: يلزم الكافر والصبي،(2/237)
لتقصيرهما دون المجنون. وهل يلزمهم قضاء اليوم الذي زال العذر في أثنائه ؟. أما الصبي فينظر، إن بلغ صائما، فالصحيح: أنه يلزمه إتمامه ولا قضاء. فلو جامع بعد البلوغ فيه، لزمته الكفارة. وفيه وجه حكي عن ابن سريج: أنه يستحب إتمامه، ويجب القضاء، لانه لم ينو الفرض. وإن أصبح مفطرا، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا قضاء، لعدم تمكنه، والثاني: يلزمه القضاء، كمن أدرك جزءا من وقت الصلاة. وأما المجنون إذا أفاق، والكافر إذا أسلم، فالمذهب: أنهما كالصبي المفطر، فلا قضاء على الاصح. وقيل: يقضي الكافر دون المجنون، وصححه صاحب التهذيب. قال الاصحاب: الخلاف في القضاء في هؤلاء الثلاثة، متعلق بالخلاف في إمساكهم تشبها. ثم اختلفوا في كيفية تعلقه، فقال الصيدلاني: من أوجب التشبه، لم يوجب القضاء، ومن يوجب القضاء، لا يوجب التشبه. وقال غيره: من أوجب القضاء، أوجب الامساك، ومن لا، فلا. وقال آخرون: من أوجب الامساك، أوجب القضاء، ومن لا، فلا. فرع الحائض والنفساء، إذا طهرتا في أثناء النهار، المذهب: أنه لا يلزمهما الامساك. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكى صاحب المعتمد: طرد الخلاف فيهما.
فصل أيام رمضان متعينة لصومه، فللمريض والمسافر، الترخص بالفطر، ولهما الصيام عن رمضان، وليس لهما الصوم فيه عن فرض آخر، ولا تطوعا. وهكذا قطع به الاصحاب، وحكى إمام الحرمين خلافا فيمن أصبح في يوم من رمضان غير ناو، فنوى التطوع قبل الزوال، قال: قال الجماهير: لا يصح. وقال أبو إسحق: يصح. قال: فعلى قياسه يجوز للمسافر التطوع به. فصل تجب الكفارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام(2/238)
أثم به لاجل الصوم، وفي الضابط قيود. منها: الافساد، فمن جامع ناسيا، لا يفطر على المذهب، فلا كفارة. وإن قلنا: يفطر، ففي لزوم الكفارة وجهان. أصحهما: لا تلزم، لعدم الاثم. ومنها: كونه من رمضان، فلا كفارة بافساد التطوع، والنذر، والقضاء، والكفارة. وأما المرأة الموطوءة، فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره، أو صائمة، ولم يبطل صومها، لكونها نائمة مثلا، فلا كفارة عليها، وإن مكنت طائعة صائمة، فقولان. أحدهما: يلزمها كفارة، كما يلزم الزوج، لانها عقوبة، فاشتركا فيها كحد الزنا. وأظهرهما: لا يلزمها، بل تجب على الزوج. فعلى الاول: لو لم تجب الكفارة على الزوج لكونه مفطرا، أو لم يبطل صومه لكونه ناسيا، أو استدخلت ذكره نائما، لزمتها الكفارة، ويعتبر في كل واحد منهما حاله في اليسار والاعسار. وإذا قلنا بالاظهر، فهل الكفارة التي يخرجها عنه خاصة، ولا يلاقيها الوجوب، أو هي عنه وعنها ويتحملها عنها فيه قولان مستنبطان من كلام الشافعي رضي الله عنه، وربما قيل: وجهان. أصحهما: الاول.(2/239)
ويتفرع عليهما صور. إحداها: إذا أفطرت بزنا، أو وطئ شبهة، فإن قلنا بالاول، فلا شئ عليها، وإلا، فعليها الكفارة، لان التحمل بالزوجية. وقيل: تلزمها قطعا. الثانية: إذا كان الزوج مجنونا، فعلى الاول: لا شئ عليها، وعلى الثاني: وجهان. أصحهما: تلزمها، لانه ليس أهلا للتحمل، كما لا يكفر عن نفسه، والثاني: يجب في ماله الكفارة عنها، لان ماله صالح للتحمل. وإن كان مراهقا، فكالمجنون. وقيل: هو كالبالغ تخريجا من قولنا: عمده عمد، وإن كان ناسيا أو نائما، فاستدخلت ذكره، فكالمجنون. الثالثة: إذا كان مسافرا والزوجة حاضرة، فإن أفطر بالجماع بنية الترخص، فلا كفارة عليه. وكذا إن لم يقصد الترخص على الاصح. وكذا حكم المريض الذي يباح له الفطر إذا أصبح صائما ثم جامع. وكذا الصحيح، إذا مرض في أثناء النهار ثم جامع، فحيث قلنا بوجوب الكفارة، فهو كغيره. وحكم التحمل، كما سبق. وحيث قلنا: لا كفارة، فهو كالمجنون. وذكر أصحابنا العراقيون: فيما لو قدم المسافر مفطرا، فأخبرته بفطرها وكانت صائمة، أن الكفارة عليها، إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، لانها غرته، وهو معذور، ويشبه أن يكون هذا تفريعا على قولنا: لا يتحمل المجنون، وإلا، فليس العذر هنا أوضح منه في المجنون. قلت: قال صاحب المعاياة: فيمن وطئ زوجته ثلاثة أقوال. أحدها: تلزمه الكفارة دونها، والثاني: تلزمه كفارة عنهما، والثالث: تلزم كل واحد كفارة، ويتحمل الزوج ما دخله التحمل من العتق والاطعام. فإذا وطئ أربع زوجات في يوم، لزمه على القول الاول كفارة فقط عن الوطئ الاول، ولا يلزمه شئ بسبب باقي(2/240)
الوطآت، ويلزمه على الثاني، أربع كفارات، كفارة عن وطئه الاول عنه وعنها، وثلاث عنهن لا تتبعض، إلا في موضع يوجد تحمل الباقي، ويلزمه على الثالث خمس كفارات، كفارتان عنه وعنها بالوطئ الاول، وثلاث عنهن. قال: ولو كان له زوجتان، مسلمة وذمية، فوطئهما في يوم، فعلى الاول: عليه كفارة واحدة بكل حال. وعلى الثاني: إن قدم وطئ المسلمة، فعليه كفارة، وإلا، فكفارتان، وعلى الثالث: كفارتان بكل حال، لانه إن قدم المسلمة، لزمه كفارتان عنه وعنها، ولا يلزمه للذمية شئ. وإن قدم الذمية، لزمه لنفسه كفارة، ثم للمسلمة أخرى. هذا كلامه، وفيه نظر. والله أعلم. الرابعة: إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، اعتبرنا حالهما جميعا، وقد تتفق، وقد تختلف. فإن اتفق، نظر، إن كانا من أهل الاعتاق أو الاطعام، أجزأ المخرج عنها، وإن كان من أهل الصيام لكونهما معسرين أو مملوكين، لزم كل واحد صوم شهرين، لان العبادة البدنية لاتتحمل. وإن اختلف حالهما، فإن كان أعلى حالا منها، نظر، إن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أو الاطعام، فوجهان. الصحيح وبه قطع العراقيون: أنه يجزئ الاعتاق عنهما، لان من فرضه الصوم أو الاطعام، يجزئه العتق، إلا أن تكون أمة، فعليها الصوم، لان العتق لا يجزئ عنها. قال في المهذب: إلا إذا قلنا: العبد يملك بالتمليك، فإن الامة كالحرة المعسرة. قلت: هذا الذي قاله في المهذب غريب، والمعروف، أنه لا يجزئ العتق عن الامة. وقد قال في المهذب في باب العبد المأذون: لا يصح اعتاق العبد، سواء قلنا: يملك، أم لا، لانه يتضمن الولاء، وليس هو من أهله. والله أعلم. والوجه الثاني: لا يجزئ عنها، لاختلاف الجنس. فظلى هذا، يلزمها الصوم إن كانت من أهله. وفيمن يلزمه الاطعام إن كانت من أهله، وجهان.(2/241)
أصحهما: على الزوج. فإن عجز، ثبت في ذمته إلى أن يقدر، لان الكفارة على هذا القول، معدودة من مؤن الزوجة الواجبة على الزوج، والثاني: يلزمها وإن كان من أهل الصيام وهي من أهل الاطعام. قال الاصحاب: يصوم عن نفسه ويطعم عنها. ومقتضى قول من قال في الصورة السابقة: يجزئ العتق عن الصيام، أن يجزئ هنا الصيام عن الاطعام. أما إذا كانت أعلى حالا منه، فينظر، إن كانت من أهل الاعتاق، وهو من أهل الصيام، صام عن نفسه وأعتق عنها إذا قدر، وإن كانت من أهل الصيام، وهو من أهل الاطعام، صامت عن نفسها وأطعم عن نفسه. واعلم أن جماع المرأة إذا قلنا: لا شئ عليها والوجوب لا يلاقيها، مستثنى عن الضابط. فرع تجب الكفارة بالزنا، وجماع أمته، واللواط، وإتيان البهيمة، وسواء أنزل أم لا، وفي البهيمة والاتيان في الدبر وجه، وهو شاذ منكر. ولو أفسد صومه بغير الجماع، كالاكل، والشرب، والاستمناء، والمباشرات المفضية إلى الانزال، فلا كفارة، لان النص ورد في الجماع، وما عداه ليس في معناه، هذا هو المذهب الصحيح المعروف. وفي وجه قاله أبو خلف الطبري وهو من تلامذة القفال: تجب الكفارة بكل ما يأثم بالافطار به. وفي وجه حكاه في الحاوي عن ابن أبي هريرة: أنه يجب بالاكل والشرب، كفارة فوق كفارة الحامل والمرضع، ودون كفارة المجامع. وهذان الوجهان غلط. وذكر الحناطي، أن ابن عبد الحكم، روي(2/242)
عنه وجوب الكفارة فيما إذا جامع فيما دون الفرج وأنزل، وهذا شاذ. فرع: إذا ظن أن الصبح لم يطلع، فجامع، ثم بان خلافه، فحكم الافطار سبق، ولا كفارة لعدم الاثم. قال الامام: ومن أوجب الكفارة على الناسي بالجماع، يقول مثله هنا لتقصيره في البحث. ولو ظن غروب الشمس، فجامع، فبان خلافه، ففي التهذيب وغيره: أنه لا كفارة، لانها تسقط بالشبهة. وهذا ينبغي أن يكون مفرعا على تجويز الافطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور لوجوب الكفارة. ولو أكل الصائم ناسيا، فظن بطلان صومه، فجامع، فهل يفطر ؟ وجهان. أحدهما: لا، كما لو سلم من الظهر ناسيا وتكلم عامدا، لا تبطل صلاته. وأصحهما وبه قطع الجمهور: يفطر، كما لو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع فبان خلافه. وعلى هذا، لا كفارة لانه وطئ وهو يعتقد أنه غير صائم، وعن القاضي أبي الطيب: أنه يحتمل وجوبها، لانه ظن لا يبيح الوطئ. ولو أفطر المسافر بالزنا مترخصا، فلا كفارة، لانه وإن أثم بهذا الوطئ، لكنه لم يأثم به بسبب الصوم، فان الافطار جائز له. ولو زنا المقيم ناسيا للصوم، وقلنا: الصوم يفسد بالجماع ناسيا، فلا كفارة على الاصح، لانه لم يأثم بسبب الصوم، لانه ناس له. فرع من رأى هلال رمضان وحده، لزمه صومه. فان صامه فأفطر بالجماع، فعليه الكفارة. ولو رأى هلال شوال وحده، لزمه الفطر، ويخفيه لئلا يتهم، وإذا رؤي رجل يأكل يوم الثلاثين من رمضان بلا عذر، عزر. فلو شهد أنه رأى الهلال، لم يقبل، لانه متهم في إسقاط التعزير، بخلاف ما لو شهد أولا فردت شهادته، ثم أكل، لم يعزر. فرع لو أفطر بجماع، ثم جامع ثانيا في ذلك اليوم، فلا كفارة للجماع الثاني، لانه لم يفسد صوما. فلو جامع في يومين أو أيام، فعليه لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الاول، أم لا. فرع لو أفسد صومه بجماع، ثم أنشأ سفرا طويلا في يومه، لم تسقط(2/243)
الكفارة على المذهب. وقيل: كما لو طرأ المرض. ولو جامع، ثم مرض، فقولان. أظهرهما: لا تسقط الكفارة. وقيل: لا تسقط قطعا. ولو طرأ بعد الجماع جنون، أو موت، أو حيض، فقولان. أظهرهما: السقوط. والمسألة في الحيض مفرعة على أن المرأة إذا أفطرت بالجماع، لزمتها الكفارة. فرع كمال صفة الكفارة، مستقصى في كتاب الكفارات. والقول الجملي، أن هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار، فيجب عتق رقبة. فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا. وهل يلزمه مع الكفارة قضاء صوم اليوم الذي أفسده بالجماع ؟ فيه ثلاثة أوجه. وقيل: قولان، ووجه. أصحهما: يلزم. والثاني: لا، والثالث: إن كفر بالصيام، لم يلزم، وإلا لزم. قال الامام: ولا خلاف أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم تلزمها كفارة. وهل تكون شدة الغلمة عذرا في العدول عن الصيام إلى الاطعام ؟ وجهان. أصحهما: أنها عذر، وبه قطع صاحب التهذيب، وهو مقتضى كلام الاكثرين، ورجح الغزالي المنع. فرع لو كان من لزمته هذه الكفارة فقيرا، فهل له صرفها إلى أهله وأولاده ؟ وجهان. أحدهما: يجوز، لحديث الاعرابي المشهور. وأصحهما: لا يجوز، كالزكاة وسائر الكفارات. وأما قصة الاعرابي، فلم يدفع إلى أهله عن الكفارة.(2/244)
فرع إذا عجز عن جميع خصال الكفارة، فهل تستقر في ذمته ؟ قال الاصحاب: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى، ثلاثة أضرب. ضرب يجب لا بسبب مباشرة من العبد، كزكاة الفطر. فإذا عجز وقت الوجوب، لم تثبت في ذمته. وضرب يجب بسبب على جهة البدل، كجزاء الصيد، فإذا عجز وقت وجوبه، ثبت(2/245)
في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة. وضرب يجب بسبب لا على جهة البدل، ككفارة الجماع، واليمين، والقتل، والظهار، ففيها قولان. أظهرهما: يثبت في الذمة عند العجز، فمتى قدر على إحدى الخصال، لزمته. والثاني: لا يثبت.
فصل في الفدية وهي مد من الطعام، لكل يوم من أيام رمضان. وجنسه جنس زكاة الفطر. فيعتبر غالب قوت البلد على الاصح. ولا يجزئ الدقيق والسويق، كما سبق. ومصرفها، الفقراء أو المساكين. وكل مد منها ككفارة تامة. فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة، فإنه يجب صرف كل مد منها إلى مسكين، وتجب الفدية بثلاثة طرق. الاول: فوات نفس الصوم، فمن فاته صوم يوم من رمضان ومات قبل قضائه فله حالان. أحدهما: أن يموت بعد تمكنه من القضاء، سواء ترك الاداء بعذر أم بغيره، فلا بد من تداركه بعد موته. وفي صفة التدارك قولان. الجديد: أنه يطعم من تركته عن كل يوم مد. والقديم: أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، ولا يلزمه. فعلى القديم: لو أمر الولي أجنبيا فصام عنه بأجرة أو بغيرها، جاز كالحج. ولو استقل به الاجنبي، لم يجزه على الاصح. وهل المعتبر على القديم الولاية، أم مطلق القرابة، أم تشترط العصوبة، أم الارث ؟ توقف فيه الامام وقال: لا نقل فيه عندي. قال الرافعي: وإذا فحصت عن نظائره، وجدت الاشبه اعتبار الارث. قلت: المختار، أن المراد مطلق القرابة. وفي صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لامرأة تصوم عن أمها وهذا يبطل احتمال العصوبة. والله أعلم. ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف، لم يقض عنه وليه، ولا يسقط عنه(2/246)
بالفدية. ونقل البويطي: أن الشافعي رحمه الله قال في الاعتكاف: يعتكف عنه وليه. وفي رواية: يطعم عنه. قال صاحب التهذيب: ولا يبعد تخريج هذا في الصلاة، فيطعم عن كل صلاة مد. وإذا قلنا بالاطعام في الاعتكاف، فالقدر المقابل بالمد اعتكاف يوم بليلته. هكذا ذكره الامام عن رواية شيخه قال: وهو مشكل، فإن اعتكاف لحظة، عبادة تامة. قلت: لم يصحح الامام الرافعي واحدا من الجديد والقديم في صوم الولي، وكأنه تركه لاضطراب الاصحاب فيه، فإن المشهور في المذهب: تصحيح الجديد. وذهب جماعة من محققي أصحابنا، إلى تصحيح القديم. وهذا هو الصواب. بل ينبغي أن يجزم بالقديم، فإن الاحاديث الصحيحة ثبتت فيه. وليس للجديد حجة من السنة. والحديث الوارد بالاطعام، ضعيف، فيتعين القول بالقديم. ثم من جوز الصيام، جوز الاطعام. والله أعلم. وحكم صوم الكفارة والنذر، حكم صوم رمضان. الحال الثاني: أن يكون موته قبل التمكن من القضاء، بأن لا يزال مريضا، أو مسافرا من أول شوال حتى يموت، فلا شئ في تركته ولا على ورثته. قلت: قال أصحابنا: ولا يصح الصيام من أحد في حياته بلا خلاف، سواء(2/247)
كان عاجزا أو غيره. والله أعلم. فرع الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم، أو تلحقه به مشقة شديدة، لا صوم عليه. وفي وجوب الفدية عليه، قولان. أظهرهما: الوجوب. ويجري القولان في المريض الذي لا يرجى برؤه. ولو نذر في خلال العجز صوما، ففي انعقاده وجهان. قلت: أصحهما: لا ينعقد. والله أعلم. وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرا، هل تلزمه إذا قدر ؟ قولان، كالكفارة. ولو كان رقيقا فعتق، ففيه خلاف مرتب على المعسر، والاولى: بأن لا تجب، لانه لم يكن أهلا. ولو قدر الشيخ على الصوم بعدما أفطر، فهل يلزمه الصوم قضاء ؟ نقل صاحب التهذيب: أنه لا يلزمه، لانه لم يكن مخاطبا بالصوم، بل كان مخاطبا بالفدية، بخلاف المعضوب إذا حج عنه غيره، ثم قدر، يلزمه الحج في قول، لانه كان مخاطبا به. ثم قال صاحب التهذيب من عند نفسه: إذا قدر قبل أن يفدي، فعليه أن يصوم، وإن قدر بعد الفدية، فيحتمل أن يكون كالحج، لانه كان مخاطبا بالفدية على توهم أن عذره غير زائل، وقد بان خلافه. واعلم أن صاحب التتمة في آخرين نقلوا خلافا في أن الشيخ يتوجه عليه الخطاب بالصوم، ثم ينتقل إلى الفدية بالعجز، أم يخاطب بالفدية ابتداء ؟ وبنوا عليه الوجهين في انعقاد نذره. الطريق الثاني: لوجوب الفدية ما يجب لفضيلة الوقت، وذلك في صور. فالحامل والمرضع، إن خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضتا، ولا(2/248)
فدية كالمريض. وإن لم تخافا من الصوم، إلا على الولد، فلهما الفطر وعليهما القضاء. وفي الفدية أقوال. أظهرها: تجب، والثاني: تستحب، والثالث: تجب على المرضع دون الحامل. فعلى الاظهر: لا تتعدد الفدية بتعدد الاولاد على الاصح، وبه قطع في التهذيب. وهل يفرق بين المرضع ولدها، أو غيره، بإجارة أو غيرها ؟ قال في التتمة: لا فرق، فتفطر المستأجرة وتفدي. كما أن السفر لما أفاد الفطر، يستوي فيه المسافر لغرض نفسه وغيره. وقال الغزالي في الفتاوى: المستأجرة لا تفطر، ولا خيار لاهل الصبي. قلت: الصحيح قول صاحب التتمة وقطع به القاضي حسين في فتاويه فقال: يحل لها الافطار، بل يجب إن أضر الصوم بالرضيع. وفدية الفطر، على من تجب ؟ قال: يحتمل وجهين، بناء على ما لو استأجر للتمتع، فعلى من يجب دمه ؟ فيه وجهان. قال: ولو كان هناك مراضع، فأرادت أن ترضع صبيا، تقربا إلى الله تعالى، جاز الفطر لها. والله أعلم. ولو كانت الحامل أو المرضع، مسافرة أو مريضة، فأفطرت بنية الترخص بالمرض أو السفر، فلا فدية عليها. وإن لم تقصد الترخص، ففي وجوب الفدية وجهان، كالوجهين في فطر المسافر بالجماع. فرع إذا أفطر بغير الجماع عمدا في نهار رمضان، هل تلزمه الفدية مع القضاء ؟ وجهان. أصحهما: لا. فرع لو رأى مشرفا على الهلاك بغرق أو غيره، وافتقر في تخليصه إلى(2/249)
الفطر، فله ذلك، ويلزمه القضاء، وتلزمه الفدية على الاصح أيضا، كالمرضع. قلت: قوله: فله ذلك، فيه تساهل. ومراده: أنه يجب عليه ذلك، وقد صرح به أصحابنا. والله أعلم. الطريق الثالث: ما يجب لتأخير القضاء، فمن عليه قضاء رمضان، وأخره حتى دخل رمضان السنة القابلة، نظر، إن كان مسافرا أو مريضا، فلا شئ عليه، فإن تأخير الاداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى. وإن لم يكن، فعليه مع القضاء لكل يوم مد. وقال المزني: لا تجب الفدية. ولو أخر حتى مضى رمضانان فصاعدا، فهل تكرر الفدية ؟ وجهان. قال في النهاية: الاصح، التكرر. ولو أفطر عدوانا، وألزمناه الفدية، فأخر القضاء، فعليه لكل يوم فديتان، واحدة للافطار، وأخرى للتأخير. هذا هو المذهب. وقال إبرهيم المروذي: إن عددنا الفدية بتعدد رمضان، فهنا أولى، وإلا فوجهان. وإذا أخر القضاء مع الامكان، فمات قبل أن يقضي وقلنا: الميت يطعم عنه، فوجهان. أصحهما: يخرج لكل يوم من تركته مدان. والثاني قاله ابن سريج: يكفي مد واحد. وأما إذا قلنا: يصام عنه، فصام الولي، فيحصل تدارك أصل الصوم، ويفدي للتأخير. وإذا قلنا بالاصح وهو التكرر، فكان عليه عشرة أيام، فمات، ولم يبق من شعبان إلا خمسة أيام، أخرج من تركته خمسة عشر مدا، عشرة لاصل الصوم، وخمسة للتأخير، لانه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة. ولو أفطر بلا عذر، وأوجبنا به الفدية فأخر حتى دخل رمضان آخر، ومات قبل القضاء، فالمذهب وجوب ثلاثة أمداد. فإن تكررت السنون، زادت الامداد. وإذا لم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميع الفائت، فهل يلزمه في الحال الفدية عما لا يسعه الوقت، أم لا يلزمه إلا بعد دخول رمضان ؟ فيه وجهان كالوجهين فيمن حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا، فتلف(2/250)
قبل الغد، هل يحنث في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ ولو أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجئ رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الامكان، ففي جوازه وجهان كالوجهين في تعجيل الكفارة عن الحنث المحرم. قلت: إذا أخر الشيخ الهرم المد عن السنة الاولى، فالمذهب أنه لا شئ عليه. وقال الغزالي في الوسيط: في تكرر مد آخر للتأخير وجهان. وهذا شاذ ضعيف. وإذا أراد الشيخ الهرم إخراج الفدية قبل دخول رمضان، لم يجز، وإن أخرجها بعد طلوع الفجر من يوم من رمضان، أجزأه عن ذلك اليوم. وإن أداها قبل الفجر، ففيه احتمالان حكاهما في البحر عن والده، وقطع الدارمي بالجواز، وهو الصواب. قال الامام الزيادي: ويجوز للحامل تقديم الفدية على الفطر، ولا يقدم إلا فدية يوم واحد. وقد تقدم بعض هذه المسائل في باب تعجيل الزكاة. والله أعلم. باب صوم التطوع
من شرع في صوم تطوع، أو صلاة تطوع، لم يلزمه الاتمام، لكن يستحب. فلو خرج منهما، فلا يجب القضاء، لكن يستحب، ثم إن خرج لعذر، لم يكره، وإلا كره على الاصح. ومن العذر، أن يعز على من ضيفه امتناعه من الاكل. ولو شرع في صوم القضاء الواجب، فإن كان على الفور، لم يجز الخروج منه، وإلا فوجهان. أحدهما: يجوز، قاله القفال، وقطع به الغزالي، وصاحب التهذيب وطائفة. وأصحهما: لا يجوز، وهو المنصوص في الام وبه قطع الروياني في الحلية وهو مقتضى كلام الاكثرين، لانه صار متلبسا بالفرض ولا عذر، فلزمه إتمامه، كما لو شرع في الصلاة أول الوقت. وأما صوم الكفارة، فما لزم منه بسبب(2/251)
محرم، فهو كالقضاء الذي على الفور. وما لزم بسبب غير محرم، كقتل الخطأ، فهو كالقضاء الذي على التراخي. وكذا النذر المطلق. وهذا كله مبني على المذهب، وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور، وعلى التراخي. فالاول: ما تعدى فيه بالافطار، فيحرم تأخير قضائه. قال في التهذيب: حتى يحرم عليه التأخير بعذر السفر. وأما الثاني: فما لم يتعد به، كالفطر بالحيض والسفر والمرض، فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة المقبلة. وقال بعض أصحابنا العراقيين: القضاء على التراخي في المتعدي وغيره. فصل صوم التطوع، منه ما يتكرر بتكرر السنين، ومنه ما يتكرر بتكرر الشهور، ومنه ما يتكرر بتكرر الاسبوع. فمن الاول، يوم عرفة، فيستحب صومه لغير الحجيج، وينبغي للحجيج فطره. وأطلق كثيرون كراهة صومه لهم. فإن كان شخص لا يضعف بالصوم عن الدعاء وأعمال الحج، ففي التتمة أن الاولى له الصوم. وقال غيره: الاولى أن لا يصوم بحال. قلت: قال البغوي وغيره: يوم عرفة، أفضل أيام السنة. وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الطلاق التصريح بذلك مع غيره، في تعليق الطلاق على أفضل الايام. والله أعلم. ومنه يوم عاشوراء، وهو عاشر المحرم، ويستحب أن يصوم معه تاسوعاء، وهو التاسع. وفيه معنيان. أحدهما: الاحتياط حذرا من الغلط في العاشر. والثاني: مخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر فقط. فعلى هذا، لو لم يصم التاسع معه، استحب أن يصوم الحادي عشر. ومنه ستة أيام من شوال، والافضل، أن يصومها متتابعة متصلة بالعيد.(2/252)
ومن الثاني: أيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. قلت: هذا هو المعروف فيها. ولنا وجه غريب حكاه الصيمري، والماوردي، والبغوي، وصاحب البيان: أن الثاني عشر، بدل الخامس عشر، فالاحتياط صومهما. والله أعلم. ومن الثالث: يوم الاثنين والخميس. ويكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد السبت. فرع أطلق صاحب التهذيب في آخرين أن صوم الدهر مكروه. وقال الغزالي: هو مسنون، وقال الاكثرون: إن خاف منه ضررا، أو فوت به حقا، كره. وإلا، فلا. والمراد: إذا أفطر أيام العيد والتشريق. ولو نذر صوم الدهر، لزم وكانت الاعياد و (أيام) التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة. فإن فرض فوات بعذر أو بغيره، فهل تجب الفدية لما أخل به من النذر بسبب القضاء ؟ قال أبو القاسم الكرخي: فيه وجهان، وقطع به في التهذيب: بأنه لا فدية. ولو نذر صوما آخر بعد هذا النذر، لم ينعقد. ولو لزمه صوم كفارة، صام عنها وفدى عن النذر. ولو أفطر يوما من الدهر، لم يمكن قضاؤه، ولا فدية إن كان بعذر، وإلا فتجب الفدية. ولو نذرت المرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، ولا قضاء ولا فدية، وإن أذن لها، أو(2/253)
مات فلم تصم، لزمها الفدية. قلت: ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد، والصوم من آخر كل شهر. وأفضل الاشهر للصوم بعد رمضان، الاشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وأفضلها: المحرم، ويلي المحرم في الفضيلة، شعبان. وقال صاحب البحر: رجب أفضل من المحرم، وليس كما قال. قال أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه. وممن صرح به: صاحبا المهذب والتهذيب. والله أعلم.(2/254)
كتاب الاعتكاف
الاعتكاف سنة مؤكدة، ويستحب في جميع الاوقات، وفي العشر الاواخر من رمضان آكد، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبا لليلة القدر. ومن أراد هذه السنة، فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، حتى لا يفوته شئ، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد. ولو مكث ليلة العيد إلى أن يصلي، أو يخرج منه إلى العيد، كان أفضل. فرع ليلة القدر أفضل ليالي السنة، خص الله تعالى بها هذه الامة، وهي(2/255)
باقية إلى يوم القيامة. ومذهبنا ومذهب جمهور العلماء: أنها في العشر الاواخر من رمضان، وفي أوتارها أرجى. وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين. وقال في موضع: إلى ثلاث وعشرين. وقال ابن خزيمة من أصحابنا: هي ليلة منتقلة في ليالي العشر، تنتقل كل سنة إلى ليلة، جمعا بين الاخبار. قلت: وهذا منقول عن المزني أيضا، وهو قوي. ومذهب الشافعي: أنها تلزم ليلة بعينها. والله أعلم. وعلامة هذه الليلة، أنها طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء، ليس لها كثير شعاع. ويستحب أن يكثر فيها من قول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني. قلت: قال صاحب البحر: قال الشافعي رحمه الله في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في يومها، كاجتهاده في ليلتها. وقال في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها. والله أعلم. ولو قال لزوجته: أنت طالق ليلة القدر. قال أصحابنا: إن قاله قبل رمضان، أو فيه قبل مضي أول ليالي العشر، طلقت بانقضاء ليالي العشر، وإن قاله بعد مضي بعض لياليها، لم تطلق إلى مضي سنة. هكذا نقل الشيخ أبو إسحق في المهذب، وإمام الحرمين وغيرهما. وأما قول الغزالي: لو قال لزوجته في(2/256)
منتصف رمضان: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى تمضي سنة، لان الطلاق لا يقع بالشك. ونقل في الوسيط هذا عن نص الشافعي. فاعلم أنه لا يعرف اعتبار مضي سنة في هذه المسألة إلا في كتب الغزالي. وقوله: الطلاق لا يقع بالشك، مسلم، لكن يقع بالظن الغالب. قال إمام الحرمين: الشافعي رحمه الله متردد في ليالي العشر، ويميل إلى بعضها ميلا لطيفا، وانحصارها في العشر ثابت عنده بالظن القوي، وإن لم يكن مقطوعا به، والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة. واعلم أن الغزالي قال: وقيل: إن ليلة القدر في جميع شهر رمضان. وهذا لا تكاد تجده في شئ من كتب المذهب. قلت: قد قال المحاملي وصاحب التنبيه: تطلب ليلة القدر في جميع شهر مضان. وقول الامام الرافعي في أول المسألة: طلقت بانقضاء ليالي العشر، فيه تجوز تابع فيه صاحب المهذب وغيره. وحقيقته: طلقت في أول الليلة الاخيرة من العشر. وكذا قوله: إن قاله بعد مضي بعض لياليها، لم تطلق إلى مضي سنة، فيه تجوز، وذلك أنه قد يقول لها في آخر اليوم الحادي والعشرين، فلا يقف وقوع الطلاق على سنة كاملة، بل يقع في أول الليلة الحادي والعشرين. والله أعلم.
فصل أركان الاعتكاف، أربعة، اللبث في المسجد، والنية، والمعتكف، والمعتكف فيه. الاول: اللبث، وفي اعتباره وجهان حكاهما في النهاية. أصحهما: لا بد منه، والثاني: يكفي مجرد الحضور، كما يكفي مجرد الؤضور بعرفة. ثم فرع على الوجهين فقال: إن اكتفينا بالحضور، حصل الاعتكاف بالعبور. حتى لو دخل من باب، وخرج من باب، ونوى، فقد اعتكف. وإن اعتبرنا اللبث، لم(2/257)
يكف ما يكفي في الطمأنينة في الصلاة، بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا وإقامة. ولا يعتبر السكون، بل يصح اعتكافه قائما، أو قاعدا، أو مترددا في أطراف المسجد. ولا يقدر اللبث بزمان، حتى لو نذر اعتكاف ساعة، انعقد نذره. ولو نذر اعتكافا مطلقا، خرج من عهدة النذر، بأن يعتكف لحظة. واستحب الشافعي رحمه الله، أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف، فإن مالكا وأبا حنيفة رحمهما الله، لا يجوزان اعتكاف أقل من يوم. ونقل الصيدلاني وجها: أنه لا يصح الاعتكاف إلا يوما، أو ما يدنو من يوم. قلت: ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة، وكلما دخل نوى الاعتكاف، صح على المذهب. وحكى الروياني في خلافا ضعيفا. والله أعلم.
فصل يحرم على المعتكف الجماع، وجميع المباشرات بالشهوة، فإن جامع ذاكرا للاعتكاف، عالما بتحريمه، بطل اعتكافه، سواء جامع في المسجد، أو جامع عند خروجه لقضاء الحاجة. فأما إذا جامع ناسيا للاعتكاف، أو جاهلا بتحريمه، فهو كنظيره في الصوم. وروى المزني عن نصه في بعض المواضع: أنه لا يفسد الاعتكاف من الوطئ إلا ما يوجب الحد. قال الامام: مقتضى هذا، أن لا يفسد بإتيان البهيمة، والاتيان في غير المأتي إذا لم نوجب فيهما الحد. والمذهب: الاول. قلت: نصه محمول على أنه لا يفسد بالوطئ فيما دون الفرج. والله أعلم. أما إذا لمس، أو قبل بشهوة، أو باشر فيما دون الفرج معتمدا، ففيه نصوص وطرق مختلفة، مختصرها ثلاثة أقوال، أو أوجه. أصحها عند الجمهور: إن(2/258)
أنزل، بطل اعتكافه، وإلا، فلا. والثاني: يبطل مطلقا. والثالث: لا يبطل مطلقا. وإن استمنى بيده، فإن قلنا: إذا لمس فأنزل، لا يبطل، فهنا أولى، وإلا فوجهان، لان كمال اللذة باصطكاك البشرتين. ولا بأس على المعتكف بأن يقبل على سبيل الشفقة والاكرام. ولا بأن يلمس بغير شهوة. فرع للمعتكف أن يرجل رأسة ويتطيب، ويتزوج ويزوج، ويتزين بلبس الثياب، ويأمر بإصلاح معاشه، وتعهد ضياعه، وأن يبيع ويشتري، ويخيط ويكتب، وما أشبه ذلك، ولا يكره شئ من هذه الاعمال إذا لم تكثر. فإن أكثر، أو قعد يحترف بالخياطة ونحوها، كره ولم يبطل اعتكافه. ونقل عن القديم: أنه إذا اشتغل بحرفة، بطل اعتكافه، وقيل: بطل اعتكافه المنذور. والمذهب ما قدمناه. قلت: الاظهر، كراهة البيع والشراء في المسجد وإن قل، للمعتكف وغيره، إلا بحاجة. وهو نصه في البويطي وفيه حديث صحيح في النهي. والله أعلم. وإن اشتغل بقراءة القرآن ودراسة العلم، فزياده خير. فرع يجوز أن يأكل في المسجد، والاولى أن يبسط سفرة أو نحوها. وله غسل يده فيه، والاولى غسلها في طست ونحوها لئلا يبتل المسجد فيمتنع غيره من الصلاة والجلوس فيه، ولانه قد يتقذر. ولهذا قال في التهذيب: يجوز نضح المسجد بالماء المطلق، ولا يجوز بالمستعمل وإن كان طاهرا لان النفس قد(2/259)
تعافه. ويجوز الفصد والحجامة في المسجد في إناء، بشرط أن يأمن التلويث، والاولى تركه. وفي البول في الطست احتمالان لصاحب الشامل والاصح: المنع، وبه قطع صاحب التتمة، لانه أقبح من الفصد. ولهذا لا يمنع من الفصد مستقبل القبلة، بخلاف البول.
فصل يصح الاعتكاف بغير صوم، ويصح في الليل وحده، وفي يوم العيد وأيام التشريق، هذا هو المذهب والمشهور. وحكى الشيخ أبو محمد وغيره قولا قديما: أن الصوم شرط، فلا يصح الاعتكاف في العيد، و (أيام) التشريق، والليل المجرد. فرع إذد نذر أن يعتكف يوما هو فيه صائم، أو أياما هو فيها صائم، لزمه الاعتكاف في أيام الصوم، وليس له إفراد أحدهما عن الآخر بلا خلاف. ولو اعتكف في رمضان، أجزأه، لانه لم يلتزم بهذا النذر صوما، وإنما نذر الاعتكاف بصفة وقد وجدت. ولو نذر أن يعتكف صائما، أو يعتكف بصوم، لزمه الاعتكاف والصوم. وهل يلزمه الجمع بينهما ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانهما عبادتان مختلفتان، فأشبه إذا نذر أن يصلي صائما. وأصحهما: يلزمه، وهو نصه في الام كالمسألة(2/260)
السابقة. فعلى هذا، لو شرع في الاعتكاف صائما، ثم أفطر، لزمه استئناف الصوم والاعتكاف. وعلى الاول: يكفيه استئناف الصوم. ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائما، فجامع ليلا، ففيه هذان الوجهان. ولو اعتكف في رمضان، أجزأه عن الاعتكاف في الوجه الاول، وعليه الصوم، وعلى الثاني: لا يجزئه الاعتكاف أيضا. ولو نذر أن يصوم معتكفا، فطريقان. أصحهما: طرد الوجهين، أصحهما عند الاكثرين: لزوم الجمع. والثاني: القطع بأنه لا يجب الجمع. والفرق، أن الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم، بخلاف عكسه، فإن الصوم من مندوبات الاعتكاف. ولو نذر أن يعتكف مصليا، أو يصلي معتكفا، لزمه الاعتكاف والصلاة. وفي لزوم الجمع، طريقان. المذهب: لا يجب. وقيل: بطرد الوجهين. والفرق، أن الصوم والاعتكاف متقاربان، لاشتراكهما في الكف، والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف. فلو نذر أن يعتكف محرما بالصلاة، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة، فالذي يلزمه من الصلاة، هو الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر، وإلا لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه، ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة. وإن نذر اعتكاف أيام مصليا، لزمه ذلك القدر في كل يوم، هكذا ذكره صاحب التهذيب وغيره. ولك أن تقول: ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب، فإن تركنا الظاهر، فلم يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة كل يوم ؟ وهلا اكتفي به مرة في جميع المدة ؟ ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة كذا، ففي وجوب الجمع، الخلاف الذي في الجمع بين الصوم والاعتكاف، قاله القفال، وهو ظاهر. الركن الثاني: النية، فلا بد منها في ابتداء الاعتكاف، ويجب التعرض في المنذور منه للفرضية. ثم إذا نوى الاعتكاف وأطلق، كفاه ذلك وإن طال(2/261)
مكثه. فإن خرج من المسجد، ثم عاد، احتاج إلى استئناف النية، سواء خرج لقضاء الحاجة، أم لغيره، فإن ما مضى عبادة تامة، والثاني: اعتكاف جديد قال في التتمة: فلو عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود، كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية، وفيه نظر، فإن اقتران النية بأول العبادة شرط. فكيف يكتفي بعزيمة سابقة ؟ أما إذا عين زمانا، بأن نوى اعتكاف شهر، أو يوم، فهل يشترط تجديد النية إذا خرج وعاد ؟ فيه أوجه. أصحهما: إن خرج لقضاء الحاجة، لم يجب التجديد، لانه لا بد منه، وإن خرج لغرض آخر، فلا بد من التجديد، وسواء طال الزمان، أم قصر. والثاني: إن طالت مدة الخروج، وجب التجديد، وإلا، فلا، وسواء خرج لقضاء الحاجة، أم لغيره. والثالث: لا حاجة إلى التجديد مطلقا. والرابع: هو ما ذكره صاحب التهذيب: إن خرج لامر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع، وجب التجديد. وإن خرج لامر لا يقطعه ولم يكن منه بد، كقضاء الحاجة، والغسل للاحتلام، لم يجب التجديد. وإن كان منه بد، أو طال الزمان، ففي التجديد على هذا وجهان. وهذا الخلاف مطرد فيما إذا نوى مدة لاعتكاف تطوع، وفيما إذا نذر أياما ولم يشرط فيها التتابع، ثم دخل المسجد بقصد الوفاء بالنذر. أما إذا شرط التتابع، أو كانت المنذورة متواصلة، فسيأتي حكم التجديد فيها إن شاء الله تعالى. فرع لو نوى الخروج من الاعتكاف، لم يبطل على الاصح كالصوم. الركن الثالث: المعتكف، شرطه: الاسلام، والعقل، والنقاء عن الحيض، والجنابة. فيصح اعتكاف الصبي، والرقيق، والزوجة كصيامهم. ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن سيده، ولا للمرأة بغير إذن زوجها، فإن اعتكفا(2/262)
بغير إذن، جاز للزوج والسيد إخراجهما. وكذا لو اعتكفا بإذنهما تطوعا، فإنه لا يلزم بالشروع. ولو نذرا اعتكافا، نظر، إن نذرا بغير إذن، فلهما المنع من الشروع فيه، فإن أذنا في الشروع وكان الزمان متعينا أو غير متعين، ولكن شرطا التتابع، لم يجوز لهما الرجوع. وإن لم يشرطا، فلهما الرجوع على الاصح، وإن نذرا بالاذن، نظر، إن تعلق بزمان معين، فلهما الشروع فيه بغير إذن، وإلا لم يشرعا بغير إذن، وإن شرعا بالاذن، لم يكن لهما المنع من الاتمام، هكذا ذكره أصحابنا العراقيون، وهو مبني على أن النذر المطلق إذا شرع فيه، لزمه إتمامه. وفيه خلاف سبق في آخر كتاب الصوم. ويستوي في جميع ما ذكرناه، القن، والمدبر، وأم الولد. وأما المكاتب، فله أن يعتكف بغير إذن السيد على الاصح. ومن بعضه رقيق، كالقن إن لم يكن مهايأة، فإن كانت، فهو في نوبته كالحر، وفي نوبة السيد كالقن. فرع لا يصح اعتكاف الكافر، والمجنون، والمغمى عليه، والسكران، إذ لا نية لهم. ولو ارتد في أثناء اعتكافه، فالنص في الام: أنه لا يبطل اعتكافه. فإذا أسلم، بنى. ونص أنه لو سكر في اعتكافه، ثم أفاق، يستأنف. واختلف الاصحاب فيهما على طرق. المذهب: بطلان اعتكافهما، فإن ذلك أشد من الخروج من المسجد، ونصه في المرتد محمول على أنه اعتكاف غير متتابع. فإذا أسلم، بنى، لان الردة لا تحبط ما سبق عندنا، إلا إذا مات مرتدا. ونصه في(2/263)
السكران في اعتكاف متتابع. والطريق الثاني: تقرير النصين. والفرق بأن السكران يمنع المسجد بكل حال، بخلاف المرتد. واختار أصحاب الشيخ أبي حامد هذا الطريق، وذكروا أنه المذهب. والثالث: فيهما قولان. والرابع: لا يبطل فيهما. والخامس: يبطل السكر لامتداد زمنه، وكذا الردة إن طال زمنها، وإن قصر، بنى. والسادس: يبطل بالردة دون السكر، لانه كالنوم، والردة تنافي العبادة. وهذا الطريق حكاه الامام الغزالي، ولم يذكره غيرهما. وهذا الخلاف، أنه هل يبقى ما تقدم على الردة والسكر معتدا به فيبنى عليه، أم يبطل فيحتاج إلى الاستئناف إن كان الاعتكاف متتابعا ؟ فأما زمن الردة والسكر فغير معتد به قطعا. وفي وجه شاذ: يعتد بزمن السكر. وأشار إمام الحرمين والغزالي، إلى أن الخلاف في الاعتداد بزمن الردة، والسكر. والمذهب ما سبق. ولو أغمي عليه، أو جن في زمن الاعتكاف، فإن لم يخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه، لانه معذور. وإن أخرج، نظر، إن لم يمكن حفظه في المسجد، لم يبطل، لانه لم يحصل الخروج باختياره، فأشبه ما لو حمل العاقل مكرها. وإن أمكن ولكن شق، ففيه الخلاف الآتي في المريض إذا أخرج. قال في التتمة: ولا يحسب زمن الجنون من الاعتكاف، ويحسب زمن الاغماء على المذهب. فرع لا يصح اعتكاف الحائض، ولا الجنب. ومتى طرأ الحيض على المعتكفة، لزمها الخروج. فإن مكثت، لم يحسب عن الاعتكاف. وهل يبطل ما سبق، أم يبنى عليه ؟ فيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى. وإن طرأت الجنابة بما يبطل الاعتكاف، لم يخف الحكم. وإن طرأت بما لا يبطله، كالاحتلام، والجماع ناسيا، والانزال بالمباشرة دون الفرج، إذا قلنا: لا يبطله، لزمه أن يبادر بالغسل كيلا يبطل تتابعه، وله الخروج للغسل، سواء أمكنه الغسل في المسجد، أم لا، لانه أصون لمروءته وللمسجد. ولا يحسب زمن الجنابة من الاعتكاف على الصحيح.(2/264)
الركن الرابع: المعتكف فيه وهو المسجد، فيختص بالمساجد، ويجوز في جميعها، والجامع أولى. وأومأ في القديم إلى اشتراط الجامع، والمذهب المشهور ما سبق. ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها - وهو المعتزل المهيأ للصلاة - لم يصح على الجديد، ويصح على القديم. فإن صححناه، ففي جواز اعتكاف الرجل فيه، وجهان. وهو أولى بالمنع. وعلى الجديد: كل امرأة يكره لها الخروج إلي للجماعة، يكره لها الخروج للاعتكاف، ومن لا، فلا. قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم. وقالوا: لا يجوز في مسجد بيتها قولا واحدا، وغلطوا من قال: قولان. والله أعلم. فرع إذا نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، فإن عين المسجد الحرام، تعين على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: في تعيينه قولان. وإن عين مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو مسجد الاقصى، تعين على الاظهر. وإن عين غير هذه الثلاثة، لم يتعين على الاصح. وقيل: الاظهر يتعين كما لو عينه للصلاة. وقيل: لا يتعين قطعا. وإذا حكمنا بالتعيين، فإن عين المسجد الحرام، لم يقم غيره مقامه. وإن عين مسجد المدينة، لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام. وإن عين الاقصى، لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة. وإذا حكمنا بعدم التعيين، فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة، جاز على الاصح. أما إذا عين زمن الاعتكاف في نذره، ففي تعيينه وجهان. الصحيح: أنه يتعين، فلا يجوز التقديم عليه، ولو تأخر كان قضاء. والثاني: لا يتعين، كما لا يتعين في الصلاة والصدقة(2/265)
ويجري الوجهان في تعيين زمن الصوم.
فصل من نذر اعتكاف مدة وأطلق، نظر، إن شرط التتابع، لزمه كما لو شرط التتابع في الصوم، وإن لم يشرط، بل قال: علي شهر أو عشرة أيام، فلا يلزمه التتابع على المذهب، لكن يستحب. وخرج ابن سريج قولا: أنه يلزمه، وهو شاذ. فعلى المذهب: لو نوى التتابع بقلبه، ففي لزومه وجهان. أصحهما: لا يلزم. ولو شرط تفريقه، فهل يجزئه المتتابع ؟ وجهان. أصحهما: يجزئه، لانه أفضل. ولو نذر اعتكاف يوم، فهل يجوز تلفيق ساعاته من أيام ؟ وجهان. أصحهما وبه قال الاكثرون: لا، لان المفهوم من اليوم، المتصل. وقد حكي عن الخليل، أن اليوم: اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. ولو دخل المسجد في أثناء النهار وخرج بعد الغروب، ثم عاد قبل الفجر ومكث إلى مثل لك الوقت، فهو على هذين الوجهين. فلو لم يخرج بالليل، فقال الاكثرون: يجزئه، سواء جوزنا التفريق أو منعناه، لحصول التواصل. قال أبو إسحق تفريعا على الاصح: لا يجزئه، لانه لم يأت بيوم متواصل الساعات، والليلة ليست من اليوم، وهذا هو الوجه. ولو قال في أثناء النهار: لله علي أن أعتكف يوما من هذا الوقت، فقد اتفق الاصحاب على أنه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني، ولا يجوز الخروج بالليل ليتحقق التتابع. وفيه نظر، فإن الملتزم يوم وليست الليلة منه، فلا يمنع التتابع. والقياس: أن يجعل فائدة التقييد في هذه الصورة، القطع بجواز التفريق لا غير. ثم حكى الامام عن الاصحاب تفريعا على جواز تفريق الساعات: أنه يكفيه ساعات أقصر الايام، لانه لو اعتكف أقصر الايام، جاز. ثم قال: إن فرق على ساعات أقصر الايام في سنين، فالامر كذلك. وإن اعتكف في أيام متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه، إن كان ثلثا، فقد خرج عن ثلث ما عليه. وعلى هذا القياس، نظرا إلى اليوم الذي يقع فيه الاعتكاف. ولهذا، لو اعتكف من يوم طويل بقدر ساعات أقصر الايام، لم يكفه، وهذا استدراك حسن، وقد أجاب عنه بما لا يشفي. أما إذا عين المدة المنذورة،(2/266)
بأن نذر اعتكاف عشرة أيام من الآن، أو هذه العشرة، أو شهر رمضان، أو هذا الشهر، فعليه الوفاء. فلو أفسد آخره بخروج أو غيره، لم يجب الاستئناف. ولو فاته الجميع، لم يجب التتابع في القضاء، كقضاء رمضان. هذا إذا لم يتعرض للتتابع، فلو صرح به فقال: أعتكف هذه العشرة متتابعة، فهل يجب الاستئناف لفساد آخره، أو التتابع في قضائه ؟ وجهان. أصحهما: يجبان، لتصريحه، والثاني: لا، لان التتابع يقع ضرورة، فلا أثر لتصريحه.
فصل في استتباع الليالي الايام وعكسه فإذا نذر اعتكاف شهر، لزمه الليالي والايام، إلا أن يقول: أيام شهر، أو نهاره، فلا تلزم الليالي. وكذا لو قال: ليالي هذا الشهر، لا تلزمه الايام. ولو لم يلفظ بالتقييد، لكن نواه بقلبه، فالاصح: أنه لا أثر لنيته. ثم إذا أطلق الشهر، فدخل المسجد قبل الهلال، كفاه ذلك الشهر تم أو نقص. فإن دخل في أثناء الشهر، استكمل بالعدد. ولو نذر اعتكاف يوم، لم يلزمه ضم الليلة إليه، إلا أن ينويها، فتلزمه. وحكي قول: أن الليلة تدخل، إلا أن ينوي يوما بلا ليلة. ولو نذر اعتكاف يومين، ففي لزوم الليلة التي بينهما، ثلاثة أوجه. أحدها: لا تلزم، إلا إذا نواها، والثاني: تلزم، إلا أن يريد بياض النهار فقط، والثالث: إن نوى التتابع، أو صرح به، لزمت، ليحصل التواصل، وإلا، فلا. وهذا الثالث أرجح عند الاكثرين. ورجح صاحب المهذب وآخرون: الاول. والوجه: التوسط. فإن كان المراد بالتتابع توالي اليومين، فالحق ما قاله صاحب المهذب وإن كان المراد تواصل الاعتكاف، فالحق ما ذكره الاكثرون. ولو نذر اعتكاف ليلتين، ففي النهار المتخلل بينهما هذا الخلاف. ولو نذر ثلاثة أيام، أو عشرة، أو ثلاثين، ففي لزوم الليالي المتخللة هذا الخلاف. والخلاف إنما هو في الليالي المتخللة، وهي تنقص عن عدد الايام بواحد أبدا، ولا خلاف أنه لا يلزمه ليالي بعدد الايام. ولو نذر اعتكاف العشر الاخير من شهر، دخل فيه الايام والليالي، وتكون الليالي هنا بعدد الايام كما في الشهر،(2/267)
فيدخل قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، ويخرج إذا استهل الهلال تم الشهر أو نقص، لانه مقتضاه. ولو نذر عشرة أيام من آخر الشهر، ودخل قبيل الحادي والعشرين، فنقص الشهر، لزمه يوم من الشهر الآخر، وفي دخول الليالي هنا الخلاف. فرع نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه زيد، فقدم ليلا، لم يلزمه شئ، وإن قدم نهارا، لزمه بقية النهار، ولا يلزمه قضاء ما مضى على الاظهر، وعلى الثاني: يلزمه، فيقضي بقدر ما مضى من يوم آخر. قال المزني: الاولى أن يستأنف اعتكاف يوم، ليكون اعتكافه متصلا. ولو كان الناذر وقت القدوم مريضا أو محبوسا، قضى عند زوال العذر. إما ما بقي، وإما يوما كاملا على اختلاف القولين. وفي وجه: أنه لا شئ عليه لعجزه وقت الوجوب، كما لو نذرت صوم يوم بعينه فحاضت فيه.
فصل إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط الخروج إن عرض عارض، صح شرطه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى صاحب التقريب والحناطي - بالحاء المهملة والنون - قولا: أنه لا يصح، لانه شرط مخالف لمقتضاه، فبطل، كما لو شرط الخروج للجماع، فإذا قلنا بالمذهب، نظر، إن عين نوعا فقال: لا أخرج إلا لعيادة المرضى، أو لعيادة زيد، أو تشييع جنازته، خرج لما عينه دون غيره وإن كان غيره أهم منه. وإن أطلق وقال: لا أخرج إلا لشغل أو عارض، جاز الخروج لكل شغل، ديني أو دنيوي. فالاول: كالجمعة، والجماعة، والعيادة، والثاني: كلقاء السلطان، واقتضاء الغريم، ولا يبطل التتابع بشئ من هذا. ويشترط في الشغل الدنيوي، كونه مباحا. وفي وجه شاذ: لا يشترط. وليست النظارة والنزهة من الشغل. ولو قال: إن عرض عارض، قطعت الاعتكاف، فالحكم كما لو شرط الخروج، إلا أن في شرط الخروج، يلزمه العود عند قضاء تلك الحاجة. وفيما إذا شرط القطع، لا يلزمه ذلك. وكذا لو قال: علي أن أعتكف رمضان، إلا أن أمرض أو أسافر، فإذا مرض، أو سافر، فلا شئ عليه. ولو نذر صلاة وشرط الخروج منها إن عرض عارض، أو نذر صوما وشرط الخروج منه إن(2/268)
جاع أو أضيف، فوجهان. أصحهما وبه قطع الاكثرون: يصح الشرط، والثاني: لا ينعقد النذر، بخلاف الاعتكاف، فإن ما يتقدم على الخروج منه عبادة، وبعض الصلاة والصوم ليس بعبادة، بخلاف الصوم والصلاة. ولو فرض ذلك في الحج، انعقد النذر، كما ينعقد الاحرام المشروط. لكن في جواز الخروج قولان معروفان في كتاب الحج. والصوم، والصلاة، أولى بجواز الخروج عند أصحابنا العراقيين. وقال الشيخ أبو محمد: الحج أولى. ولو نذر التصدق بعشرة دراهم، أو بهذه الدراهم، إلا أن يعرض حاجة ونحوها، فعلى الوجهين، والاصح: صحة المشروط أيضا. فإذا احتاج، فلا شئ عليه. ولو قال في هذه القربات كلها: إلا أن يبدو لي، فوجهان. أحدهما: يصح الشرط، ولا شئ عليه إذا بدا له كسائر العوارض. وأصحهما: لا يصح، لانه علقه بمجرد الخيرة. وذلك يناقض الالتزام. وإذا لم يصح الشرط في هذه الصور، فهل يقال: الالتزام باطل، أم صحيح ويلغو الشرط ؟ قال صاحب التهذيب: لا ينعقد النذر على قولنا: لا يصح شرط الخروج من الصوم والصلاة. ونقل الامام وجهين في صورة تقارب هنا، وهي إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط الخروج مهما أراد، ففي وجه: يبطل التزام التتابع. وفي وجه: يلزم التتابع، ويبطل الاستثناء. فرع إذا شرط الخروج لغرض، وصححناه فخرج له، فهل يجب تدارك الزمن المصروف إليه ؟ ينظر، إن نذر مدة غير معينة، كشهر مطلق، وجب التدارك، لتتم المدة الملتزمة، وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك لغرض منزلة قضاء الحاجة، في أن التتابع لا ينقطع به. وإن نذر مدة معينة، كشهر رمضان، أو هذه العشرة، لم يجب التدارك.(2/269)
فرع فيما يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع، ويخرج إلى الاستئناف وهو أمران. أحدهما: فقد بعض شروط الاعتكاف، وهي الامور التي لا بد منها، كالكف عن الجماع، ومقدماته في قول. ويستثنى عن هذا، عروض الحيض والاحتلام، فإنهما لا يقطعانه. الامر الثاني: الخروج بكل البدن عن كل المسجد بلا عذر، فهذه ثلاثة قيود، احترزنا بالاول عما إذا أخرج رأسه، أو يده، أو إحدى رجليه، أو كلتيهما وهو قاعد مادهما، فلا يبطل اعتكافه. فإن اعتمد عليهما، فهو خارج. واحترزنا بالثاني، عمن صعد المنارة للاذان، ولها حالان. أحدهما: أن يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به، فلا يضر صعودها للاذان أو غيره كسطح المسجد، وسواء كانت في نفس المسجد والرحبة، أو خارجة عن سمت البناء وتربيعه. وأبدى الامام احتمالا في الخارجة عن سمته قال: لانها حينئذ لا بعد من المسجد، ولا يصح الاعتكاف فيها. وكلام الاصحاب، ينازعه فيما وجه به. الحال الثاني: أن لا يكون بابها في المسجد، ولا في رحبته المتصلة به، فلا يجوز الخروج إليها لغير الاذان. وفي المؤذن أوجه. أصحها: لا يبطل الاعتكاف في المؤذن الراتب، ويبطل في غيره. والثاني: لا يبطل فيهما. والثالث: يبطل فيهما. ثم إن الغزالي، فرض الخلاف فيما إذا كان بابها خارج المسجد وهي ملتصقة بحريمه. ولم يشرط الجمهور في صورة الخلاف، سوى كون بابها خارج المسجد. وزاد أبو القاسم الكرخي، فنقل الخلاف فيما إذا كانت في رحبة منفصلة عن المسجد، بينها وبينه طريق. قلت: لكن شرطوا كونها مبنية للمسجد، احترازا من البعيدة. والله أعلم. وأما العذر فمراتب. منها: الخروج لقضاء الحاجة، وغسل الاحتلام، فلا يضر قطعا. ويجوز(2/270)
الخروج للاكل على الصحيح المنصوص. وإن عطش فلم يجد الماء في المسجد فله الخروج. وإن وجده، لم يجز الخروج على الاصح، لانه لا يستحيى منه، ولا يعد ترك مروءة. ثم أوقات الخروج لقضاء الحاجة لا يجب تداركها لعلتين. إحداهما: أن الاعتكاف مستمر فيها، ولهذا لو جامع في ذلك، بطل اعتكافه على الاصح، والثانية: أن زمن الخروج لقضاء الحاجة مستثنى، لانه لا بد منه. ثم إذا فرغ وعاد، لم يجب تجديد النية. وقيل: إن طال الزمان، ففي لزوم وجوب التجديد وجهان والمذهب: الاول. ولو كان للمسجد سقاية، لم نكلفه قضاء الحاجة فيها. وكذا لو كان بجنبه دار صديق له، وأمكنه دخولها، لم نكلفه، بل له الخروج إلى داره وإن بعدت، إلا إذا تفاحش البعد، فإنه لا يجوز على الاصح، إلا أن لا يجد في طريقه موضعا، أو كان لا يليق بحاله أن يدخل لقضاء الحاجة غير داره. ولو كانت له داران، وكل واحدة بحيث لو انفردت، جاز الخروج إليها، وإحداهما أقرب، ففي جواز الخروج إلى الاخرى وجهان. أصحهما: لا يجوز. ولا يشترط لجواز الخروج شدة الحاجة، وإذا خرج، لا يكلف الاسراع، بل يمشي على سجيته المعهودة. قلت: فلو تأنى أكثر من عادته، بطل اعتكافه على المذهب، ذكره في البحر. والله أعلم. ولو كثر خروجه للحاجة لعارض يقتضيه، فوجها - حكاهما إمام الحرمين. أصحهما وهو مقتضى إطلاق كلام المعظم: أنه لا يضر، نظرا إلى جنسه، والثاني: يضر، لندوره. فرع لا يجوز الخروج لعيادة المريض، ولا لصلاة الجنازة. ولو خرج(2/271)
لقضاء الحاجة، فعاد في طريقه مريضا، نظر، إن لم يقف، ولا عدل عن الطريق، بل اقتصر على السؤال والسلام، فلا بأس. وإن وقف وأطال، بطل اعتكافه. وإن لم يطل، لم يبطل علق الصحيح. وادعى إمام الحرمين إجماع الاصحاب عليه. ولو ازور عن الطريق قليلا، فعاده، بطل على الاصح. ولو كان المريض في بيت من الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة، فالعدول لعيادته قليل، وإن كان في دار أخرى، فكثير. ولو خرج لقضاء الحاجة، فصلى في الطريق على جنازة ولم ينتظرها، ولا ازور، لم يضر على المذهب. وقيل: فيه الوجهان فيما لو وقف قليلا للعيادة. وقيل: إن تعينت، لم يضر، وإلا فوجهان. وجعل الامام، والغزالي، قدر صلاة الجنازة حدا للوقفة اليسيرة، واحتمالها لجميع الاغراض. ومنها: أن يأكل لقما، إذا لم نجوز الخروج للاكل. ولو جامع في مروره، بأن كان في هودج، أو جامع في وقفة يسيرة، بطل اعتكافه على الاصح، لانه أشد إعراضا عن العبادة ممن أطال الوقوف لعيادة المريض. وعلى الثاني: لا يبطل، لانه غير معتكف في تلك الحال، ولم يصرف إليه زمنا. فرع إذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى، فله أن يتوضأ خارج المسجد، لان ذلك يقع تابعا، بخلاف ما لو احتاج إلى الوضوء من غير قضاء حاجة، فإنه لا يجوز له الخروج على الاصح إذا أمكن الوضوء في المسجد. فرع إذا حاضت المرأة المعتكفة، لزمها الخروج، وهل ينقطع تتابعها ؟ إن كانت المدة طويلة لا تنفك عن الحيض غالبا، لم ينقطع، بل تبني إذا طهرت كالحيض في صوم الشهرين المتتابعين. وإن كانت تنفك، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: ينقطع. فرع المرض العارض للمعتكف، أقسام. أحدها: خفيف لا يشق معه المقام في المسجد، كالصداع الخفيف، والحمى الخفيفة، فلا يجوز الخروج من المسجد بسببه. فإن خرج، بطل التتابع.(2/272)
والثاني: يشق معه المقام لحاجته إلى الفراش، والخادم، وتردد الطبيب، فيباح الخروج، ولا ينقطع به التتابع على الاظهر. الثالث: مرض يخا ف منه تلويث المسجد، كالاسهال، وإدرار البول، فيخرج. والمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه لا ينقطع التتابع. وقيل: على القولين. فرع لو خرج ناسيا أو مكرها، لم ينقطع تتابعه على المذهب. وقيل: قولان. فإن قلنا بالمذهب: فلم يتذكر الناسي إلا بعد طول الزمان، فوجهان، كما لو أكل الصائم كثيرا ناسيا. ومن أخرجه السلطان ظلما، لمصادرة، أو غيرها، أو خاف من ظالم فخرج واستتر، فكالمكره. وإن أخرجه لحق وجب عليه وهو يماطل، بطل، لتقصيره. وإن حمل وأخرج، لم يبطل. وقيل: كالمكره، لوجود المفارقة بنادر. فرع إذا دعي لاداء شهادة، فخرج لها، فإن لم يتعين عليه أداؤها، بطل تتابعه، سواء كان التحمل معينا، أم لا، لانه ليس له الخروج لحصول الاستغناء عنه، وإن تعين أداؤها، نظر، إن لم يتعين عند التحمل، بطل على المذهب. وقيل: قولان، وإن تعين، فإن قلنا: إذا لم يتعين لا ينقطع، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يبطل. والله أعلم. ولو خرجت المعتكفة للعدة، لم ينقطع على المذهب. وقيل: قولان، وإن خرج لاقامة حد عليه، فإن ثبت بإقراره، انقطع. وإن ثبت بالبينة، لم يبطل على المذهب. نص عليه، وقطع به كثير من العراقيين. ولو لزمها عدة طلاق، أو وفاة، لزمها الخروج لتعتد في مسكنها. فإذا خرجت، فهل يبطل اعتكافها، أم تبني بعد انقضاء القضاء ؟ فيه الطريقان كما في الشهادة. لكن المذهب هنا، البناء. فإن(2/273)
كان اعتكافها بإذن الزوج وقد عين مدة، فهل يلزمها العود إلى المسكن عند الطلاق أو الوفاة قبل استكمال المدة ؟ قولان مذكوران في كتاب العدة. فإن قلنا: لا، فخرجت، بطل اعتكافها بلا خلاف. فرع يجب الخروج لصلاة الجمعة، ويبطل به الاعتكاف على الاظهر، لامكان الاعتكاف في الجامع. وعلى هذا، لو كان اعتكافه المنذور أقل من اسبوع، ابتدأ به من أول الاسبوع، حيث شاء من المساجد. وإن كان في الجامع، فمتى شاء. وإن كان أكثر من أسبوع، وجب أن يبتدأ في الجامع. فإن عين غير الجامع، وقلنا بالتعيين، لم يخرج عن نذره، إلا بأن يمرض فتسقط عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصيا ويدوم على اعتكافه. ولو أحرم المعتكف، فإن أمكنه إتمام الاعتكاف ثم الخروج، ويدرك، لزمه ذلك. وإن خاف فوت الحج، خرج إليه وبطل اعتكافه، فإذا فرغ، استأنف. فرع كل ما قطع التتابع، يحوج إلى الاستئناف بنية جديدة. وكل عذر لم يجعله قاطعا، فعند الفراغ منه يجب العود. فلو أخر، انقطع التتابع وتعذر البناء، ولا بد من قضاء الاوقات المصروفة إلى ما عدا قضاء الحاجة. وهل يجب تجديد النية عند العود ؟ أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد سبق بيانه قريبا. وفي معناه ما لا بد منه، كالاغتسال. وكذا الاذان إذا جوزنا الخروج له. أما ما له منه بد، فوجهان. أحدهما: يجب تجديدها. وأصحهما: لا يجب، لشمول النية جميع المدة. وطرد الشيخ أبو علي، الخلاف فيما إذا خرج لغرض استثناه، ثم عاد. ولو عين مدة، ولم يتعرض للتتابع، ثم جامع، أو خرج بلا عذر، ففسد اعتكافه، ثم عاد ليتم الباقي، ففيه الخلاف في وجوب التجديد. قال الامام: لكن المذهب هنا وجوب التجديد. قلت: لو قال: لله علي اعتكاف شهر نهارا، صح، فيعتكف بالنهار دون الليل. نص عليه في الام. ولو قال: لله علي اعتكاف شهر بعينه، فبان أنه(2/274)
أنقضي، فلا شئ عليه. قال الروياني: قال أصحابنا: لو نذر اعتكافا وقال: إن اخترت جامعت، أو إن اتفق لي جماع، جامعت، لم ينعقد نذره. والله أعلم.(2/275)
كتاب الحج
لا يجب الحج بأصل الشرع إلا مرة واحدة. وقد يجب زيادة لعارض، كالنذر، أو القضاء، أو لدخول مكة على قول. ومن حج، ثم ارتد، ثم أسلم، لم يلزمه الحج، لان الردة إنما تحبط العمل إذا اتصل بها الموت.
فصل ينقسم الناس في الحج إلى من يصح له الحج، ومن يصح منه بالمباشرة، ومن يقع له عن حجة الاسلام، ومن يجب عليه. فأما الصحة المطلقة فشرطها: الاسلام فقط. فلا يصح حج كافر، ولا(2/276)
يشترط التكليف. فيجوز للولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز وعن المجنون. وأما صحة المباشرة، فشرطها: الاسلام، والتمييز. فلا تصح مباشرة المجنون والصبي الذي لا يميز، وتصح من الصبي المميز والعبد. وسيأتي هذا كله في باب حج الصبي إن شاء الله تعالى. وأما وقوعه عن حجة الاسلام، فله شرطان زائدان: البلوغ، والحرية. ولو تكلف الفقير الحج، وقع عن الفرض. وأما وجوب حجة الاسلام، فشروطه خمسة: الاسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والاستطاعة.
فرع الاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره. فالاولى، تتعلق بخمسة أمور: الراحلة، والزاد، والطريق، والبدن، وإمكان السير.(2/277)
فالاول: الراحلة. والناس فيها قسمان. أحدهما: من بينه وبين مكة مسافة القصر، فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة، سواء قدر على المشي، أم لا، لكن يستحب للقادر الحج. وهل الحج راكبا أفضل، أم ماشيا ؟ فيه قولان سنوضحهما في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. قلت: المذهب: أن الركوب أفضل. اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولانه أعون له على المحافظة على مهمات العبادة. والله أعلم. ثم إن كان يستمسك على الراحلة من غير محمل، ولا يلحقه مشقة شديدة، لم يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة، وإلا فيعتبر معها وجدان المحمل. قال في الشامل: ولو لحقه مشقة عظيمة في ركوب المحمل، اعتبر في حقه(2/278)
الكنيسة. وذكر المحاملي وغيره من العراقيين: أن المرأة يعتبر في حقها المحمل، وأطلقوا، لانه أستر لها. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل، فإذا وجد مؤنة محمل، أو شق محمل، ووجد شريكا يركب في الشق الآخر، لزمه الحج. وإن لم يجد الشريك، فلا يلزمه، سواء وجد مؤنة المحمل، أو الشق، كذا قاله في الوسيط وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم أجرة البذرقة. وفي كلام الامام، إشارة إليه. القسم الثاني: من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي، لزمه الحج، ولا تعتبر الراحلة، وإن كان ضعيفا لا يقوى للمشي، أو يناله به ضرر ظاهر، اشترطت الراحلة والمحمل أيضا إن لم يمكنه الركوب بدونه. ولنا وجه: أن القريب كالبعيد منه مطلقا، وهو شاذ منكر، ولا يؤمر بالزحف بحال، وإن أمكنه. قلت: وحكى الدارمي وجها ضعيفا عن حكاية ابن القطان: أنه يلزمه الحبو. والله أعلم. وحيث اعتبرنا وجود الراحلة والمحمل، فالمراد أن يملكهما أو يتمكن من تملكهما أو استئجارهما بثمن المثل، أو أجرة المثل، ويشترط أن يكون ما يصرفه فيهما من المال، فاضلا عما يشترط كون الزاد فاضلا عنه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(2/279)
الامر الثاني: الزاد. فيشترط لوجوب الحج أن يجد الزاد، وأوعيته، وما يحتاج إليه في السفر. فإن كان له أهل، أو عشيرة، اشترط ذلك لذهابه ورجوعه، وإن لم يكونوا، فكذلك على الاصح. وعلى الثاني: لا يشترط للرجوع. ويجري الوجهان في اشتراط الراحلة للرجوع، وهل يخص الوجهان بما إذا لم يملك ببلده مسكنا، أم لا ؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما عنده: التخصيص. وحكى الحناطي وجها: أنه لا يشترط للرجوع في حق من له عشيرة وأهل. وهذا شاذ منكر، وليس المعارف والاصدقاء كالعشيرة، لان الاستبدال بهم متيسر. فرع يشترط كون الزاد والراحلة، فاضلا عن نفقة من لزمه نفقتهم، وكسوتهم، مدة ذهابه ورجوعه. وفي دشتراط كونهما فاضلين عن مسكن وخادم يحتاج إلى خدمته، لزمانته أو منصبه، وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يشترط كما يشترط في الكفارة، وكدست ثوب يليق بمنصبه وعلى هذا، لو كان معه نقد،(2/280)
جاز صرفه إليهما. وهذا فيما إذا كانت الدار مستغرقة بحاجته، وكانت سكنى مثله، والعبد عبد مثله. فأما إذا أمكن بيع بعض الدار ووفى ثمنه بمؤنة الحج، أو كانا نفيسين لا يليقان بمثله، ولو أبدلهما لوفى التفاوت بمؤنة الحج، فإنه يلزمه ذلك. هكذا أطلقوه هنا. لكن في بيع الدار والعبد النفيسين المألوفين في الكفارة وجهان. ولا بد من جريانهما هنا. قلت: ليس جريانهما بلازم، والفرق ظاهر، فإن للكفارة بدلا. ولهذا، اتفقوا على ترك الخادم، والمسكن في الكفارة، واختلفوا فيهما هنا. والله أعلم. فرع لو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه، ولو نقص، بطلت تجارته، أو كانت له مستغلات يحصل منها نفقته، فهل يكلف بيعها ؟ وجهان: أصحهما: يكلف، كما يكلف بيعها في الدين، ويخالف المسكن والخادم، فإنه محتاج إليهما في الحال، وما نحن فيه يتخذه ذخيرة. فرع لو ملك فاضلا عن الوجوه المذكورة، واحتاج إلى النكاح لخوفه العنت، فصرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج. هذه عبارة الجمهور. وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة، والحج على التراخي. والسابق إلى الفهم منه:(2/281)
أنه لا يجب الحج والحالة هذه، ويصرف ما معه في النكاح. وقد صرح الامام بهذا، ولكن كثير من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحج على من أراد التزوج، لكن له أن يؤخره لوجوبه على التراخي. ثم إن لم يخف العنت، فتقديم الحج أفضل، وإلا، فالنكاح أفضل. قلت: هذا الذي نقله عن كثير من العراقيين وغيرهم، هو الصحيح في المذهب، وبه قطع الاكثرون. وقد بينت ذلك واضحا في شرح المهذب. والله أعلم. فرع لو لم يجد ما يصرفه إلى الزاد، لكنه كسوب يكسب ما يكفيه، ووجد نفقة أهله، فهل يلزمه الحج، تعويلا على الكسب ؟ حكى الامام عن أصحابنا العراقيين: أنه إن كان السفر طويلا أو قصيرا، ولا يكسب في كل يوم إلا كفاية يومه، لم يلزمه، لانه ينقطع عن الكسب في أيام الحج. وإن كان السفر قصيرا، ويكسب في يوم كفاية أيام، لزمه الخروج. قال الامام: وفيه احتمال، فإن القدرة على الكسب في يوم الفطر لا تجعل كملك الصاع. فرع ويعتبر أن يكون ماله مع ما ذكرنا فاضلا عن قضاء دين عليه، مؤجلا كان أم حالا. وفيه وجه: أنه إذا كان الاجل بحيث ينقضي بعد رجوعه من الحج، لزمه، وهو شاذ ضعيف. ولو كان ماله دينا يتيسر تحصيله في الحال، بأن كان حالا على ملئ مقر، أو عليه بينة، فهو كالحاصل في يده. وإن لم يتيسر، بأن كان مؤجلا أو على معسر، أو جاحد لا بينة عليه، فكالمعدوم. الامر الثالث: الطريق. فيشترط فيه الامن في ثلاثة أشياء: النفس، والبضع، والمال. قال(2/282)
الامام: وليس الامن المطلوب قطعيا، ولا يشترط الامن الغالب في الحضر، بل الامن في كل مكان بحسب ما يليق به. فأحد الاشياء الثلاثة، النفس. فمن خاف على نفسه من سبع، أو عدو، لم يلزمه الحج، إن لم يجد طريقا آخر آمنا. فإن وجده، لزمه، سواء كان مثل مسافة طريقه أو أبعد، إذا وجد ما يقطعه به. وفيه وجه شاذ: أنه لا يلزمه سلوك الابعد. ولو كان في الطريق بحر، فإن كان في البر طريق أيضا، لزمه الحج قطعا، وإلا، فالمذهب: أنه إن كان الغالب منه الهلاك، إما لخصوص ذلك البحر، وإما لهيجان الامواج، لم يجب. وإن غلبت السلامة، وجب. وإن استويا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يجب. والله أعلم. وقيل: يجب مطلقا. وقيل: لا يجب. وقيل: قولان. وقيل: إن كانت عادته ركوبه، وجب، وإلا، فلا. وإذا قلنا: لا يجب، استحب على الاصح إن غلبت السلامة. وإن غلب الهلاك، حرم. وإن استويا، ففي التحريم وجهان. قلت: أصحهما: التحريم، وبه قطع الشيخ أبو محمد. والله أعلم. ولو توسط البحر وقلنا: لا يجب ركوبه، فهل يلزمه التمادي، أم يجوز له الرجوع ؟ نظر، إن كان ما بين يديه أكثر، فله الرجوع قطعا، وإن كان أقل، لزمه التمادي قطعا. وإن استويا، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يلزمه التمادي. والوجهان فيما إذا كان له في الرجوع طريق غير البحر. فإن لم يكن، فله الرجوع قطعا، لئلا يتحمل زيادة الاخطار. هذا كله في الرجل. فأما المرأة،(2/283)
ففيها خلاف مرتب. وأولى بعدم الوجوب، لضعفها عن احتمال الاهوال، ولكونها عورة معرضة للانكشاف وغيره، لضيق المكان. فإن لم نوجب عليها، لم يستحب لها. وقيل بطرد الخلاف. وليست الانهار العظيمة كجيحون في حكم البحر، لان المقام فيها لا يطول، والخطر فيها لا يعظم. وفي وجه شاذ: أنها كالبحر. وأما البضع، فلا يجب على المرأة الحج حتى تأمن على نفسها بزوج، أو محرم بنسب، أو بغير نسب، أو نسوة ثقات. وهل يشترط أن يكون مع إحداهن محرم ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الاطماع تنقطع بجماعتهن. فإن لم يكن أحد هذه الثلاثة، لم يلزمها الحج على المذهب. وفي قول: يلزمها إذا وجدت امرأة واحدة. وفي قول اختاره جماعة، ونقله الكرابيسي: أنه يلزمها أن تخرج وحدها إذا كان الطريق مسلوكا، كما يلزمها الخروج إذا أسلمت في دار الحرب إلى دار الاسلام وحدها. وجواب المذهب عن هذا، أن الخوف في دار الحرب أكثر من الطريق. هذا في حج الفرض، وهل لها الخروج إلى سائر الاسفار مع النساء الخلص ؟ فيه وجهان. الاصح: لا يجوز. أما المال، فلو خاف على ماله في الطريق من عدو، أو رصدي، لم يجب الحج وإن كان الرصدي يرضى بشئ يسير، إذا تعين ذلك الطريق، وسواء كان(2/284)
الذي يخافه مسلمين أو كفارا. لكن إذا كانوا كفارا وأطاقوا مقاومتهم، يستحب لهم الخروج للحج، ويقاتلونهم لينالوا الحج والجهاد جميعا، وإن كانوا مسلمين، لم يستحب الخروج والقتال. ويكره بذل المال للرصديين، لانهم يحرصون على التعرض للناس بسبب ذلك. ولو بعثوا بأمان الحجيج، وكان أمانهم موثوقا، أو ضمن لهم ما يطلبونه، وأمن الحجيج، لزمهم الحج. ولو وجدوا من يخفرهم بأجرة ويغلب على الظن أمنهم به، ففي لزوم استئجاره وجهان. قال الامام: أصحهما: لزومه، لانه من أهب الطريق كالراحلة. ولو امتنع محرم المرأة من الخروج معها، إلا بأجرة، قال الامام: فهو مرتب على أجرة الخفير، واللزوم في المحرم، أظهر، لان الداعي إلى الاجرة معني في المرأة، فأشبه مؤنة المحمل في حق المحتاج إليه. فرع يشترط لوجوب الحج، وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة بحمل الزاد والماء منها. فإن كانت سنة جدت، وخلا بعض تلك المنازل من أهلها، أو انقطعت المياه، لم يجب الحج. وكذا لو كان يجد فيها الزاد والماء، لكن بأكثر من ثمن المثل، وهو القدر اللائق في ذلك الزمان والمكان. وإن وجدهما بثمن المثل، لزم التحصيل، سواء كانت الاسعار رخيصة أو غالية إذا وفى ماله به. ويجب حملها بقدر ما جرت العادة به في طريق مكة زادها الله تعالى شرفا، كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة، وحمل الماء من مرحلتين أو ثلاثا إذا قدر عليه، ووجد آلات الحمل. أما علف الدابة، فيشترط وجوده في كل مرحلة، لان المؤنة تعظم بحمله(2/285)
لكثرته. ذكره صاحبا التهذيب والتتمة وغيرهما. قلت: إذا ظن كون الطريق فيه مانع من عدو، أو عدم ماء، أو علف، أو غير ذلك، فترك الحج، ثم بان أن لا مانع، فقد لزمه الحج، صرح به الدارمي. ولو لم يعلم وجود المانع ولا عدمه، قال الدارمي: إن كان هناك أصل، عمل عليه، وإلا وجب الحج. والله أعلم. فرع قال صاحب التهذيب وغيره: يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم في الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه. فإن خرجوا قبله، لم يلزمه الخروج معهم. وإن أخروا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا في كل يوم أكثر من مرحلة، لم يلزمه أيضا. فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها، لزمه ولا حاجة إلى الرفقة. الامر الرابع: البدن. ويشترط فيه لاستطاعة المباشرة قوة يستمسك بها على الراحلة. والمراد: أن يثبت على الراحلة بلا مشقة شديدة، فإن وجد مشقة شديدة لمرض أو غيره، فليس مستطيعا. والاعمى إذا وجد مع الزاد والراحلة قائدا، لزمه الحج بنفسه. والقائد له، كالمحرم للمرأة. والمحجور عليه لسفه، كغيره في وجوب الحج عليه، لكن لا يدفع المال إليه، بل يصحبه الولي لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو ينصب قيما ينفق عليه من مال السفيه. قال في التهذيب: وإذا شرع السفيه في حج الفرض، أو حج نذره قبل الحجر بغير إذن الولي، لم يكن للولي تحليله، بل يلزمه الانفاق عليه لن مال السفيه إلى فراغه. ولو شرع في حج تطوع، ثم حجر عليه، فكذلك. ولو شرع فيه بعد الحجر، فللولي تحليله إن كان ما يحتاج إليه للحج يزيد على نفقته المعهودة، ولم يكن له كسب. فإن لم يزد، أو كان له كسب يفي مع قدر النفقة المعهودة، وجب إتمامه، ولم يكن للولي تحليلة.(2/286)
الامر الخامس: إمكان السير. وهو أن يبقى من الزمان عند وجود الزاد والراحلة، ما يمكن السير فيه إلى الحج السير المعهود. فإن احتاج إلى أن يقطع في كل يوم أو في بعض الايام، أكثر من مرحلة، لم يلزمه الحج. وهذا الامر شرطه الائمة في وجوب الحج، وقد أهمله الغزالي. قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي - رحمهما الله - [ تعالى ] اعتراضه على الغزالي، وجعله إمكان السير ركنا لوجوب الحج، وقال: إنما هو شرط استقرار الحج في ذمته، ليجب قضاؤه من تركته لو مات قبل الحج، وليس شرطا لاصل وجوب الحج. بل متى وجدت الاستطاعة من مسلم مكلف حر، لزمه الحج في الحال، كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضي زمن يسعها. ثم استقرارها في الذمة يتوقف على مضي الزمان والتمكن من فعلهما. والصواب: ما قاله الرافعي، وقد نص عليه الاصحاب كما نقل، لان الله تعالى قال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * وهذا غير مستطيع، فلا حج عليه. وكيف يكون مستطيعا وهو عاجز حسا ؟ ! وأما الصلاة، فإنما تجب في أول الوقت لامكان تتميمها. والله أعلم. النوع الثاني: الاستطاعة بغيره. يجوز أن يحج عن الشخص غيره، إذا(2/287)
عجز عن الحج، بموت، أو كسر، أو زمانة، أو مرض لا يرجى زواله، أو كان كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أصلا، أو لا يثبت إلا بمشقة شديدة. فمقطوع اليدين أو الرجلين، إذا أمكنه الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة، لا يجوز له الاستنابة، ولا يجوز أيضا لمن لا يثبت على الراحلة لمرض يرجى زواله. وكذا من وجب عليه الحج ثم جن، ليس للولي أن يستنيب عنه، لانه قد يفيق فيحج بنفسه. فلو استناب عنه فمات قبل الافاقة، ففي إجزائه القولان في استنابة المريض الذي يرجى برؤه إذا مات. هذا كله في حجة الاسلام، والقضاء، والنذر. أما حج التطوع، فلا يجوز الاستنابة فيه عن القادر قطعا. وفي استنابة المعضوب عن نفسه، والوارث عن الميت، قولان. أظهرهما: الجواز، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. ولو لم يكن الميت حج، ولا وجب عليه لعدم الاستطاعة، ففي جواز الاحجاج عنه طريقان. أحدهما: طرد القولين، لانه لا ضرورة إليه. والثاني: القطع بالجواز. لوقوعه عن حجة الاسلام، فإن استأجر للتطوع وجوزناه، فللاجير الاجرة المسماة. ويجوز أن يكون الاجير عبدا، أو صبيا، بخلاف حجة الاسلام، فإنه لا يجوز استئجارهما فيها، لانهما ليسا من أهلها. وفي المنذورة، الخلاف المشهور، في أنه يسلك بالنذر مسلك الواجبات، أم لا ؟ وإن لم نجوز الاسيئجار للتطوع، وقع الحج عن الاجير، ولم يستحق المسمى. وهل يستحق أجرة المثل ؟ قولان: أظهرهما: يستحق. قلت: قال المتولي: هذا الخلاف إذا جهل الاجير فساد الاجارة. فإن علم، لم يستحق شيئا بلا خلاف. قال: والمسألة مفروضة في المعضوب، فإن أوضي(2/288)
الميت بحجة تطوع، وقلنا: لا تدخله النيابة، فحج الاجير، وقع عن نفسه، ولا أجرة له بلا خلاف، لا على الوصي، ولا على الوارث، ولا في التركة. والله أعلم. فرع من به علة يرجى زوالها، ليس له أن يستنيب من يحج عنه. فإن استناب فحج النائب فشفي، لم يجزئه قطعا. وإن مات، فقولان. أظهرهما: لا يجزئه، ولو كان غير مرجو الزوال، فأحج عنه ثم شفي، فطريقان. أصحهما: طرد القولين. والجاني: القطع بعدم الاجزاء. فإن قلنا في الصورتين: يجزئه، استحق الاجير الاجرة المسماة، وإلا، فهل يقع عن تطوع المستأجر، ويكون هذا عذرا في جواز وقوع التطوع قبل الفرض، كالرق، والصبا، أم لا يقع عنه أصلا ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: الثاني، وصحح الغزالي الاول. فإن قلنا: لا يقع عنه أصلا، فهل يستحق الاجير أجرة ؟ قولان. أظهرهما: لا، لان المستأجر لم ينتفع بها. والثاني: نعم، لانه عمل له في اعتقاده فعلى هذا، هل يستحق المسمى، أم أجرة المثل ؟ وجهان. وإذا قلنا: يقع عن تطوعه، استحق الاجير الاجرة. وهل هي أجرة المثل، أم المسماة ؟ قال الشيخ أبو محمد: لا يبعد تخريجه على الوجهين. قلت: الاصح هنا: المسمى. والله أعلم. فرع لا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه، بخلاف قضاء الدين عن غيره، لان الحج يفتقر إلى النية، وهو أهل للاذن. وفيه وجه: أنه يجوز بغير إذنه، وهو شاذ ضعيف. ويجوز الحج عن الميت، ويجب عند استقراره عليه، سواء أوصى به، أم لا. ويستوي فيه الوارث والاجنبي كالدين. وسيأتي تفصيله في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى. وأما المعضوب، فتلزمه الاستنابة في الجملة، سواء طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوبا واجدا للمال. ثم لوجوب الاستنابة عليه طريقان.(2/289)
أحدهما: أن يجد مالا يستأجر به من يحج عنه. وشرطه: أن يكون فاضلا عن الحاجات المذكورة فيمن يحج بنفسه، إلا أنا اعتبرنا هناك، أن يكون المصروف إلى الزاد والراحلة فاضلا عن نفقة عياله إلى الرجوع. وهنا يعتبر كونه فاضلا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار، ولا يعتبر بعد فراغ الاجير من الحج. وهل تعتبر مدة الذهاب ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما في الفطرة والكفارة، بخلاف ما لو حج بنفسه، فإنه إذا لم يفارق أهله، أمكنه تحصيل نفقتهم. ثم إن وفى ما يجده بأجرة راكب، فذاك. وإن لم يف إلا بأجرة ماش، ففي وجوب الاستئجار وجهان. أصحهما: يجب، إذ لا مشقة عليه في مشي الاجير، بخلاف ما إذا حج بنفسه. ولو طلب الاجير أكثر من أجرة المثل، لم يجب الاستئجار، ولو رضي بأقل منها، وجب. ولو امتنع من الاستئجار، فهل يستأجر عنه الحاكم ؟ وجهان. أصحهما: لا. الطريق الثاني: أن لا يجد المال، لكن يجد من يحصل له الحج، وفيه صور. إحداها: أن يبذل له أجنبي مالا ليستأجر له، ففي لزوم قبوله وجهان. الصحيح: لا يلزم. الثانية: أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أولادهم الطاعة في الحج، فيلزمه القبول والحج قطعا، بشرط أن يكون المطيع قد حج عن نفسه، وموثوقا به، وأن لا يكون معضوبا. قلت: وحكى السرخسي في الامالي وجها واهيا: أنه لا يلزمه. والله أعلم. ولو توسم أثر الطاعة فيه، فهل يلزمه الامر ؟ وجهان. الاصح المنصوص: يلزمه، لحصول الاستطاعة. ولو بذل المطيع الطاعة، فلم يأذن المطاع، فهل ينوب الحاكم عنه ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان مبنى الحج على التراخي، وإذا(2/290)
اجتمعت الشرائط، فمات المطيع قبل أن يأذن له، فإن مضى وقت إمكان الحج، استقر الوجوب في ذمته، وإلا، فلا. ولو كان له من يطيع ولم يعلم بطاعته، فهو كما لو كان لن مال موروث ولم يعلم به. وشبهه صاحب الشامل بمن نسي الماء في رحله وتيمم، لا يسقط الفرض على المذهب. وشبهه صاحب المعتمد بالمال الضال في الزكاة. والمذهب: وجوبها فيه. ولك أن تقول: لا يجب الحج بحال، فإنه متعلق بالاستطاعة، ولا استطاعة مع عدم العلم بالمال والطاعة. ولو بذل الولد الطاعة، ثم أراد الرجوع، فإن كان بعد إحرامه، لم يجز، وإلا جاز على الاصح. قلت: وإذا كان رجوعه الجائز قبل أن يحج أهل بلده، تبينا أنه لم يجب على الاب، وقد ذكر الامام الرافعي في كتاب الرهن هذه المسألة في مسائل بيع العدل الرهن. والله أعلم. الثالثة: أن يبذل الاجنبي الطاعة، فيلزم قبولها على الاصح. والاخ كالاجنبي قطعا، لان استخدامه يثقل. وكذا الاب على المذهب الذي قطع به الجمهور. وحكي في بعض الحعاليق وجه: أنه كالابن، لاستوائهما في النفقة. الرابعة: أن يبذل الولد المال، فلا يلزم قبوله على الاصح لعظم المنة فيه. وبذل الاب المال، كبذل الابن، أو كبذل الاجنبي، فيه احتمالان ذكرهما الامام، أصحهما: الاول. فرع جميع المذكور في بذل الطاعة، هو فيما إذا كان الباذل راكبا. فلو بذل الابن الطاعة ليحج ماشيا، ففي لزوم القبول وجهان. قال الشيخ أبو محمد: هما مرتبان على الوجهين في لزوم استئجار الماشي، وهنا أولى بالمنع، لانه يشق عليه مشي ولده. وفي معناه، الوالد إذا أطاع وأوجبنا قبوله. ولا يجئ الترتيب إذا كان المطيع الاجنبي. قلت: الاصح: أنه لا يجب القبول، إذا كان الولد، أو الوالد ماشيا. والله أعلم.(2/291)
وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماش، فهو فيما إذا ملك الزاد. فإن عول على الكسب في الطريق، ففي وجوب القبول وجهان. لان الكسب قد ينقطع. فإن لم يكن مكتسبا، وعول على السؤال، فأولى بالمنع. فإن كان يركب مفازة ليس بها كسب ولا سؤال، لم يجب القبول بلا خلاف، لانه يحرم التغرير بالنفس. قلت: إذا أفسد الباذل حجه، انقلب إليه كما سيأتي في الاجير إن شاء الله تعالى. قال الدارمي: ولو بذل لابويه فقبلا، لزمه، ويبدأ بأيهما شاء، قال: وإذا قبل الاب البذل، لم يجز له الرجوع. وإذا كان على المعضوب حجة نذر، فهي كحجة الاسلام. والله أعلم.
فصل في العمرة
في العمرة قولان. الاظهر الجديد: أنها فرض كالحج. والقديم: سنة. وإذ أوجبناها، فهي في شرط مطلق الصحة. وصحة المباشرة والوجوب والاجزاء عن عمرة الاسلام، على ما ذكرنا في الحج، والاستطاعة الواحدة كافية لهما جميعا.
فصل في الاستئجار للحج
يجوز الاستئجار عليه، لدخول النيابة فيه كالزكاة. ويجوز بالرزق، كما يجوز بالاجارة. وذلك بأن يقول: حج عني(2/292)
شرطنا التعيين، فسدت الاجارة بإهماله. لكن يقع الحج عن المستأجر، لوجود الاذن، ويلزمه أجرة المثل. وإن كانت الاجارة للحج والعمرة، فلا بد من بيان أنه يفرد، أو يقرن، أو يتمتع، لاختلاف الغرض بها. فرع نقل المزني عن نصه في المنثور: أنه لو قال المعضوب: من حج عني، فله مائة درهم، فحج عنه إنسان، استحق المائة. وللاصحاب فيه وجهان. أصحهما وإليه ميل الاكثرين: أن هذا النص على ظاهره. وتصح الجعالة على كل عمل يضح الاستئجار عليه، لان الجعالة تجوز على العمل المجهول، فعلى المعلوم أولى. والثاني: أن النص مخالف أو مؤول، ولا تجوز الجعالة على ما تجوز الاجارة عليه، إذ لا ضرورة إليها لامكان الاجارة. فعلى هذا لو حج عنه إنسان، وقع الحج عن المعضوب للاذن، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد. وفيه وجه: أنه يفسد الاذن، لانه غير متوجه إلى إنسان بعينه. فهو كما لو قال: وكلت من أراد بيع داري، فلا يصح التوكيل، وهذا شاذ ضعيف. قلت: لو قال: من حج عني، أو أول من يحج عني، فله ألف درهم، فسمعه رجلان فأحرما عنه أحدهما بعد الآخر، وقع الاول عن القائل، وله الالف، ووقع حج الثاني عن نفسه، ولا شئ له. وإن وقعا معا وشك في وقوعهما معا، وقع حجهما عنهما ولا شئ لهما على القائل، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر، صرح به القاضي حسين والاصحاب. والله أعلم. فرع مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي، تجويز تقديم الاجارة على خروج الناس للحج، وأن للاجير انتظار خروجهم، ويخرج مع أول رفقة. والذي ذكره جمهور الاصحاب على اختلاف طبقاتهم، ينازع فيه. ويقتضي اشتراط وقوع العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد. حتى قال صاحب التهذيب: لا تصح إجارة العين، إلا في وقت خروج القافلة من ذلك البلد، بحيث يشتغل عقيب العقد بالخروج أن بأسبابه من شراء الزاد ونحوه. فإن كان قبله، لم يصح. وبنوا(2/293)
على ذلك، أنه لو كان الاستئجار بمكة، لم يجز إلا في أشهر الحج، ليمكنه الاشتغال بالعمل عقيب العقد. وعلى ما قاله الامام والغزالي: لو جرى العقد في وقت تراكم الانداء والثلوج، فوجهان. أحدهما: يجوز، وبقطع الغزالي في الوجيز، وصححه في الوسيط لان توقع زوالها مضبوط. والثاني: لا، لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال، بخلاف انتظار خروج الرفقة، فإن خروجها في الحال غير متعذر، وهذا كله في إجارة العين. أما إجارة الذمة، فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك. قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي هذا النقل عن جمهور الاصحاب قال: وما ذكره عن صاحب التهذيب يمكن التوفيق بينه وبين كلام الامام، أو هو شذوذ من صاحب التهذيب لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور الاصحاب، فإن الذي رأيناه في التتمة والشامل والبحر وغيرها، مقتضاه: أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة، أو الاشتغال بأسباب الخروج. قال صاحب البحر: أما عقدها في أشهر الحج، فيجوز في كل موضع، لامكان الاحرام في الحال، هذا كلام الشيخ أبي عمرو. والله أعلم. فرع إذا لم يشرع الاجير في الحج في السنة الاولى لعذر أو لغيره، فإن كانت الاجارة على العين، انفسخت. وإن كانت على الذمة، نظر، إن لم يعينا سنة، فقد سبق أنه كتعيين السنة الاولى. وذكر في التهذيب: أنه يجوز التأخير عن السنة الاولى والحالة هذه، لكن يثبت للمستأجر الخيار. وإن عينا الاولى أو غيرها، فأخر عنها، فطريقان. أصحهما: على قولين، كما لو انقطع المسلم فيه(2/294)
وأعطيك نفقتك. ولو استأجر بالنفقة، لم تصح، لجهالتها. فرع الاستئجار في جميع الاعمال ضربان. استئجار عين الشخص، وإلزام ذمته العمل. مثال الاول من الحج، أن يقول المعضوب: استأجرتك لتحج عني، أو يقول الوارث: لتحج عن ميتي. ولو قال: لتحج بنفسك، كان تأكيدا. ومثال الثاني: ألزمت ذمتك تحصيل الحج. ويفترق الضربان، في أمور ستراها إن شاء تعالى. ثم لصحة الاستئجار شروط. وله آثار وأحكام، موضعها كتاب الاجارة والذي نذكر هنا، ما يتعلق بخصوص الحج. فكل واحد من ضربي الاجارة، قد يعين فيه زمن العمل، وقد لا يعين. وإذا عين، فقد يعين السنة الاولى. وقد يعين غيرها فأما في إجارة العين، فإن عينا السنة الاولى، جاز بشرط أن يكون الخروج والحج فيما بقي منها مقدورا للاجير. فلو كان مريضا لا يمكنه الخروج، أو كان الطريق مخوفا، أو كانت المسافة بحيث لا تنقطع في بقية السنة، لم يصح العقد، للعجز عن المنفعة. وإن عينا غير السنة الاولى، لم يصح العقد - كاستئجار الدار للشهر المسقبل - لكن لو كانت المسافة بعيدة لا يمكن قطعها في سنة، لم يضر التأخير. والمعتبر السنة الاولى من سني الامكان من ذلك البلد. وإن أطلقا ولم يعينا زمنا حمل على السنة الاولى. فيعتبر فيها ما سبق. وأما الاجارة الواردة على الذمة، فيجوز فيها تعيين السنة الاولى وغيرها. فإن أطلق، حمل على الاولى، ولا(2/295)
يقدح فيها مرض الاجير، لامكان الاستنابة، ولا خوف الطريق، ولا ضيق الوقت، إن عين غير السنة الاولى. وليس للاجير أن يستنيب في إجارة العين بحال. وأما إجارة الذمة ففي التهذيب وغيره: أنه إن قال: ألزمت ذمتك تحصيل حجة لي، جاز أن يستنيب، وإن قال: لتحج بنفسك، لم يجز، لان الغرض يختلف باختلاف أعيان الاجراء. وهذا قد حكاه الامام عن الصيدلاني وخطأه فيه، وقال ببطلان الاجارة في الصورة الثانية، لان الدينية مع الربط بمعين تتناقضان. كمن أسلم في ثمرة بستان معين بعينه. وهذا إشكال قوي. فرع أعمال الحج معروفة، فإن علمها المتعاقدان عند العقد، فذاك. وإن جهلها أحدهما، لم يصح العقد. وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الاجير ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: لا يشترط، ويحمل على ميقات تلك البلدة في العادة الغالبة. والثاني: يشترط. الطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفا الميقات، أو طريق يفضي إلى ميقاتين كالعقيق، وذات عرق، اشترط. وان لم يكن له إلا ميقات واحد، لم يشترط. والطريق الثالث: إن كان الاستئجار عن حي، اشترط، وإلا، فلا. فإن(2/296)
في محله. أظهرهما: لا تنفسخ. والثاني: تنفسخ. والطريق الثاني: القطع بأنه لا تنفسخ. فإذا قلنا: لا تنفسخ، فإن كان المستأجر هو المعضوب، فله الخيار، إن شاء فسخ، وإو شاء إخبر ليحج في السنة الاخرى. وإن كان الاستئجار عن منيت من ماله، قال أصحابنا العراقيون: لا خيار للمستأجر. وتوقف الامام في هذا. وذكر صاحب " التهذيب " وغيره: أن على الولي أن يراعي النظر للميت، فإن كانت المصلحة في فسخ العقد لخوف إفلاس الاجير أو هربه فلم يفعل، ضمن، وهذا هو الاصح. ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للائمة. أحدهما: صور بعضهم المنع، فيما إذا كان الميت أوصى بأن يحج عنه إنسان بمائة مثلا، ووجهه: بأن الوصية مستحقة الصرف إليه. الثاني: قال أبو إسحاق في الشرح: للمستأجر لميت، أن يرفع الامر إلى القاضى ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه، وإن كان لا يستقل به، فإذا نزل من ذكروه على المعنى الاول، ارتفع الخلاف. وإن نزل على الثاني، هان أمره. ولو استأجر المعضوب لنفسه، فمات وأخر الاجير الحج عن السنة، فلم نر هذه المسألة مسطورة، وظاهر كلام الغزالي: أنه ليس للوارث فسخ الاجارة. والقياس: ثبوت الخيار للوارث، كالرد بالعيب ونحوه. قلت: الظاهر المختار: أنه ليس له الفسخ، إذ لا ميراث في هذه الاجرة،(2/297)
بخلاف الرد بالعيب. والله أعلم. فرع: لو استأجر إنسان عن الميت من مال نفسه تبرعا، فهو كاستئجار المعضوب لنفسه، فله الخيار. فرع: لو قدم الاجير الحج على السنة المعينة، جاز، وقد زاد خيرا فرع: إذا انتهى الاجير إلى الميقات المتعين، إما بشرطهما إن اعتبرناه، وإما بتعيين الشرع، فلم يحرم عن المستأجر، بل أحرم عن نفسه بعمرة، فلما فرغ منها، أحرم عن المستأجر بالحجج، فله حالان. أحدهما: أن لا يعود إلى الميقات، فيصح الحج عن المستأجر للاذان ويحط شئ من الاجرة المسماة لاخلاله بالاحرام من الميقات الملتزم. وفي قدر المحطوط، خلاف يتعلق بأصل، وهو أنه إذا سار الاجير من بلد الاجارة وحج، فالاجرة تقع في مقابلة أعمال الحج وحدها، أم تتوزع على اليسير والاعمال، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن خصصناها بالاعمال، وزعت الاجرة المسماة على حجة من الميقات، وحجة من مكة، لان المقابل بالاجرة على هذا، هو الحج من الميقات، فإذا كانت أجرة الحجة المنشأة من مكة دينارين، والمنشأة من الميقات خمسة، فالتفاوت ثلاثة أخماس، فتحط ثلاثة أخماس المسمى. فإن وزعنا الاجرة على السير والاعمال وهو المذهب، فقولان.(2/298)
أحدهما: لا تحسب له المسافة هنا، لانه صرفها إلى غرض نفسه لاحرامه بالعمرة من الميقات. فعلى هذا، يوزع المسمى على حجة تنشأ من بلد الاجارة ويقع الاحرام بها من الميقات، وعلى حجة تنشأ من مكة، فيحط من المسمى بنسبته. فإذا كانت أجرة المنشأة من البلد مائة، والمنشأة من مكة عشرة، حط تسعة أعشار المسمى. و أظهرهما: يحتسب قطع المسافة إلى الميقات، لجواز أن يكون قصد الحج منه، إلا أنه عرض له العمرة. فعلى هذا يوزع المسمى على منشأة من بلد الاجارة إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من البلد إحرامها من مكة، فإذا كانت أجرة الاولى: مائة، والثانية: تسعين، حط عشر المسمى، فحصل في الجملة ثلاثة أقوال. المذهب منها. هذا الاخير. ثم الاجير في مسألتنا: يلزمه دم لاحرامه بالحج بعد تجاوزه الميقات، وسنذكر إن شاء الله تعالى خلافا في غير صورة الاعتمار أن إساءة المجاوزة، هل تنجبر بإخراج الدم حتى لا يحط شئ من الاجرة، أم لا ؟ وذلك الخلاف يجئ هنا صرح به ابن عبدان وغيره، فإذا الخلاف في قدر المحظوظ. فرع للقول بإثبات أصل الحط ويجوز أن يفرق بين الصورتين، ويقطع بعدم الانجبار هنا، لانه ارتفق بالمجاوزة حيث أحرم بالعمرة لنفسه. الحال الثاني: أن يعود إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة، فيحرم بالحج منه، فهل يحط شئ من الاجرة ؟ يبني على الخلاف المتقدم. إن قلنا: الاجرة موزعة على العمل والسير، ولم يحسب السير لانصرافه إلى عمرته، وزعت الاجرة المسماة على حجة منشأة من بلد الاجارة إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من الميقات بغير قطع مسافة، ويحط بالنسبة من المسمى. وإن قلنا: الاجرة في مقابلة العمل فقط، أو وزعناها عليه وعلى السير، واحتسبنا المسافة، فلا حط، فتجب الاجرة كلها، وهذا هو المذهب، ولم يذكر كثيرون غيره.(2/299)
فرع إذا جاوز الميقات المتعين بالشرط، أو الشرع، غير محرم، ثم أحرم بالحج عن المستأجر، نظر، إن عاد إليه وأحرم منه، فلا دم عليه، ولا يحط من الاجرة شئ، وإن أحرم من جوف مكة، أو بين الميقات ومكة ولم يعد، لزم دم الاساءة بالمجاوزة، وهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الاجرة ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: ينجبر، ويصير كأن لا مخالفة، فتجب جميع الاجرة. وأظهرهما وهو نصه في المختصر: يحط. والطريق الثاني: القطع بالحط. فإن قلنا بالانجبار فهل نعتبر قيمة الدم، ونقابلها بالتفاوت ؟ وجهان. أحدهما: نعم، فلا ينجبر ما زاد على قيمة الدم. وأصحهما: لا، لان المعول في هذا القول على جبر الخلل، والشرع قد حكم به من غير نظر إلى القيمة. وإذا قلنا بالمذهب وهو الحط، ففي قدره الوجهان بناء على الاصل السابق، وهو أن الاجرة في مقابلة ماذا ؟ فإن قلنا: في مقابلة العمل فقط، وزعنا المسمى على حجة من الميقات، وحجة من حيث أحرم. وإن وزعنا على العمل والسير وهو المذهب، وزعنا المسمى على حجة من بلدة إحرامها من الميقات، وعلى حجة من بلدة إحرامها من حيث أحرم. وعلى هذا، يقل المحطوط. ثم حكى الشيخ أبو محمد وجهين، في أن النظر إلى الفراسخ وحدها، أم يعتبر مع ذلك السهولة والخشونة ؟ والاصح: الثاني. ولو عدل الاجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل المعتبر،(2/300)
فالمذهب: أنه لا شئ عليه، هذا كله في الميقات الشرعي. أما إذا عينا موضعا آخر، فإن كان أقرب إلى مكة من الشرعي، فالشرط فاسد مفسد الاجارة، إذا لا يجوز لمريد النسك مجاوزة الميقات غير محرم. وإن كان أبعد، بأن عينا الكوفة، فهل يلزم الاجير الدم لمجاوزتها غير محرم ؟ وجهان. الاصح المنصوص: نعم. فإن قلنا: لا يلزم السلام، حط قسط الاجرة قطعا، وإلا، ففي حصول الانجبار به الطريقان. وكذلك لو لزمه الدم لترك مأمور، كالرمي والمبيت. فإن لزمه بفعل مخطور كاللبس والقلم، لم يحط شئ من الاجرة، لانه لم ينقص العمل. ولو شرط الاحرام في أول شوال، فأخره، لزمه الدم، وفي الانجبار الخلاف. وكذا لو شرط أن يحج ماشيا فحج راكبا، لانه ترك مقصودا. هكذا نقلت المسألتان عن القاضي حسين، ويشبه أن تكونا مفرعتين على أن الميقات المشروط، كالشرعي، وإلا، فلا يلزم الدم، كما في مسألة تعيين الكوفة. فرع إذا استأجره للقرآن، فتارة يمتثل، وتارة يعدل إلى جهة أخرى، فإن امتثل فقرن، وجب دم القرآن. وعلى من يجب ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: على المستأجر. والثاني: على الاجير. فعلى الاول: لو شرط أن يكون على الاجير، فسدت الاجارة، لانه جمع بين إجارة وبيع مجهول، فإن الدم مجهول الصفة، فلو كان المستأجر معسرا، فالصوم على الاجير، لان بعض الصوم، ينبغي أن يكون في الحج. والذي منهما في الحج، هو الاجير. كذا(2/301)
ذكره في التهذيب. وقال في التتمة: هو كالعاجز عن الهدي والصوم جميعا. وعلى الوجهين: يستحق الاجرة بكمالها. فأما إذ عدل، فينظر، إن عدل إلى الافراد فحج ثم اعتمر، فإن كانت الاجارة على العين، لزمه أن يرد من الاجرة حصة العمرة، نص عليه في المناسك الكبير لانه لا يجوز تأخير العمل في هذه الاجارة عن الوقت المعين. وإن كانت في الذمة، نظر إن عاد إلى الميقات للعمرة، فلا شئ عليه، لانه زاد خيرا، ولا شئ (عليه) ولا على المستأجر أيضا، لانه لم يقرن. وإن لم يعد، فعلى الاجير دم، لمجاوزته الميقات للعمرة. وهل يحط شئ من الاجرة، أم تنجبر الاساءة بالدم ؟ فيه الخلاف السابق. وإن عدل إلى التمتع، فقد أشار صاحب التتمة إلى أنه إن كانت إجارة عين، لم يقع الحج عن المستأجر، لوقوعه في غير الوقت المعين، وهذا هو قياس ما تقدم. وإن كانت على الذمة، نظر، إن عاد إلى الميقات للحج، فلا دم عليه ولا على المستأجر، وإلا، فوجهان. أحدهما: لا يجعل مخالفا لتقارب الجهتين، فيكون حكمه كما لو امتثل. وفي كون الدم على الاجير أو المستأجر، الوجهان. وأصحهما. يجعل مخالفا، فيجب الدم على الاجير، لاساءته. وفي حط شئ من الاجرة، الخلاف. وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد: أنه يجب على الاجير دم لتركه الاحرام من الميقات، وعلى المستأجر دم آخر، لان القران الذي أمر به، يتضمنه. واستبعده ابن الصباغ وغيره. فرع إذا استأجره للتمتع فامتثل، فهو كما لو أمره بالقران فامتثل. وإن أفرد، نظر، إن قدم العمرة وعاد للحج إلى الميقات، فقد زاد خيرا. وإن أخر العمرة، فإن كانت إجارة عين، انفسخت في العمرة، لفوات وقتها المعين، فيرد حصتها من المسمى. وإن كانت على الذمة وعاد إلى الميقات للعمرة، لم يلزمه شئ، وإلا فعليه دم، لتركه الاحرام بالعمرة من الميقات، وفي حط شئ من الاجرة الخلاف، وإن قرن، فقد زاد خيرا، نص عليه، لانه قد أحرم بالنسكين من(2/302)
الميقات، وكان مأمورا بأن يحرم بالحج من مكة. ثم إن عدد الافعال للنسكين، فلا شئ عليه، وإلا، فهل يحط شئ من الاجرة لاختصاره في الافعال ؟ وجهان. وكذا الوجهان في أن الدم على المستأجر، أم الاجير ؟. فرع لو استأجره للافراد فامتثل، فذاك. فلو قرن، نظر، إن كانت الاجارة على العين، فالعمرة واقعة في غير وقتها، فهو كما لو استأجره للحج وحده فقرن، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني من الفصلين الآتيين، وإن كانت في الذمة، وقعا عن المستأجر، وعلى الاجير الدم، وهل يحط شئ من الاجرة للخلل، أم يتخير بالدم ؟ فيه الخلاف. وإن تمتع، فإن كانت الاجارة على العين وقد أمره بتأخير العمرة، وفقد وقعت في غير وقتها، فيرد ما يخصها من الاجرة. وإن أمره بتقديمها، أو كانت على الذمة، وقعا عن المستأجر، ولزم الاجير دم إن لم يعد الحج إلى الميقات، وفي حط شئ من الاجرة الخلاف. فرع إذا جامع الاجير، فسد حجه وانقلب له، فيلزمه الكفارة، والمضي في فاسده، والقضاء. هذا هو المشهور، والذي قطع به الاصحاب. وحكي قول: أنه لا ينقلب، ولا قضاء، لان العبادة للمستأجر، فلا يفسد بفعل غيره. وحكي هذا عن المزني أيضا. فعلى المشهور، إن كان إجارة عين، انفسخت والقضاء الذي يأتي به الاجير يقع عنه. وإن كانت على الذمة، لم تنفسخ. وعمن يقع القضاء ؟ وجهان. وقيل: قولان. أحدهما: عن المتسأجر، لانه قضاء الاول. وأصحهما: عن(2/303)
الاجير، لان الاداء وقع عنه، فعلى هذا يلزمه سوى القضاء حجة أخرى للمستأجر، فيقضي عنه نفسه، ثم يحج عن المستأجر في سنة أخرى، أو يستنيب من يحج عنه في تلك السنة. وإذا لم تنفسخ الاجارة، فللمستأجر خيار الفسخ، لتأخير المقصود. وفرق أصحابنا العراقيون بين أن يستأجر المعضوب، أو تكون الاجارة لميت في ثبوت الخيار. وقد سبق نظيره. فرع إذا أحرم الاجير عن المستأجر، ثم صرف الاحرام إلى نفسه ظنا منه أنه ينصرف، وأتم الحج على هذا الظن، فالحج للمستأجر. وفي استحقاق الاجير الاجرة قولان: أحدهما: لا، لاعراضه عنها. وأظهرهما: يستحق، لحصول الغرض فيستحق المسمى على الاصح. وقيل: أجرة المثل. فرع إذا مات الحاج عن نفسه في أثنائه، فهل يجوز البناء على حجه ؟ قولان. الاظهر الجديد: لا يجوز، كالصوم والصلاة. والقديم: يجوز. فعلى الجديد: يبطل المأتي به إلا في الثواب، ويجب الاحجاج عنه من تركته إن كان استقر في ذمته. وعلى القديم: تارة يموت وقد بقي وقت الاحرام، وتارة لا يبقى، فإن بقي، أحرم النائب بالحج، ويقف بعرفة إن لم يقف الميت، ولا يقف إن كان وقف ويأتي بباقي الاعمال، ولا بأس بوقوع إحرام النائب داخل الميقات، فإنه يبني على إحرام أشئ منه. وإن لم يبق وقت الاحرام، ففيما يحرم به النائب ؟ وجهان. أحدهما:(2/304)
بعمرة، ثم يطوف ويسعى، فيجزئانه عن طواف الحج وسعيه. ولا يبيت، ولا يرمي، فإنهما ليسا من أعمال العمرة، ولكن يجبران بالدم. وأصحهما: يحرم بالحج، ويأتي ببقية الاعمال، وإنما يمتنع إنشاء الاحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه، وهذا يبنى على ما سبق. وعلى هذا، لو مات بين التحللين، أحرم النائب إحراما لا يحرم اللبس والقلم، وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت. هذا كله، إذا مات قبل التحللين، فإن مات بعدهما، فلا خلاف أنه لا يجوز البناء، لانه يمكن جبر ما بقي بالدم. وأوهم بعضهم إجراء الخلاف فيه. فرع إذا مات الاجير في أثناء الحج، فله أحوال. أحدها: أن يكون بعد الشروع في الاركان، وقبل الفراغ منها، فهل يستحق شيئا من الاجرة ؟ قولان. أظهرهما: يستحق، وسواء مات بعد الوقوف بعرفة، أو قبله. هذا هو المذهب. وقيل: يستحق بعده قطعا، وهو شاذ. فإذا قلنا: يستحق، فهل يقسط الاجرة على الاعمال فقط، أم عليها مع السير ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. وقال ابن سريج رحمه الله: إن قال: استأجرتك لتحج عني، قسط على العمل فقط. وإن قال: لتحج من بلد كذا، قسط عليهما، وحمل القولين على الحالين. ثم هل يبنى على ما فعله الاجير ؟ ينظر، إن كانت الاجارة على العين، انفسخت ولا بناء لورثة الاجير، كما لم يكن له أن ينتسب، وهل للمستأجر أن يستأجر من يبني ؟ فيه القولان في جواز البناء. وإن كانت على الذمة(2/305)
فإن قلنا: لا يجوز البناء، فلورثة الاجير أن يستأجروا من يستأنف الحج عن المستأجر له. فإن أمكنهم في تلك السنة لبقاء الوقت، فذاك، وإن تأخر إلى السنة الثانية، ثبت الخيار كما سبق. وإن جوزنا البناء، فلورثة الاجير أن يبنوا. ثم القول فيما يحرم به النائب، وفي حكم إحرامه بين التحللين، على ما سبق. الحال الثاني: أن يموت بعد الاخذ في السير، وقبل الاحرام، فالصحيح المنصوص في كتب الشافعي رضي الله عنه، والذي قطع به الجماهير: لا يستحق شيئا من الاجرة. وقال الاصطخري، والصيرفي: يستحق بقسطه. وقال ابن عبدان: إن قال: استأجرتك لتحج عني، لم يستحق. وإن قال: لتحج من بلد كذا، استحق بقسطه. الحال الثالث: أن يموت بعد فراغ الاركان، وقبل فراغ باقي الاعمال، فينظر، إن فات وقتها، أو لم يفت، ولكن لم نجوز البناء، جبر بالدم من مال الاجير، وهل يرد شيئا من الاجرة ؟ فيه الخلاف السابق. وإن جوزنا البناء، فإن كانت الاجارة على العين، انفسخت في الاعمال الباقية، ووجب رد قسطها من الاجرة، ويستأجر المستأجر من يرمي ويبيت، ولا دم على الاجير. وإن كانت على الذمة، استأجر وارث الاجير من يرمي ويبيت، ولا حاجة إلى الاحرام، لانهما عملان يؤتى بهما بعد التحللين، ولا يلزم الدم، ولا رد شئ من الاجرة، ذكره في التتمة. فرع إذا أحصر الاجير، فله التحلل. فإن تحلل، فعمن يقع ما أتى به ؟ وجهان. أصحهما: عن المستأجر، كما لو مات، إذ لا تقصير. والثاني: عن الاجير كما لو أفسده. فعلى هذا، دم الاحصار على الاجير، وعلى الاول: هو على المستأجر. وفي استحقاقه شيئا من الاجرة، الخلاف المذكور في الموت. وإن لم يتحلل وأقام(2/306)
على الاحرام حتى فاته الحج، انقلب إليه، كما في الافساد، ثم يتحلل بعمل عمرة، وعليه دم الفوات. ولو حصل الفوات بنوم، أو تأخر عن القافلة، أو غيرهما من غير إحصار، انقلب المأتي به إلى الاجير أيضا، كما في الافساد، ولا شئ للاجير على المذهب. وقيل: فيه الخلاف المذكور في الموت. فصل إذا اجتمعت شرائط وجوب الحج، وجب على التراخي. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني: على الفور. ثم عندنا يجوز لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره، أن يؤخره بعد سنة الامكان. فلو خشي العضب، وقد وجب عليه الحج بنفسه، لم يجز التأخير على الاصح. وإذا تأخر بعد الوجوب فمات قبل حج الناس، تبين عدم الوجوب لتبين عدم الامكان، وإن مات بعد حج الناس، استقر الوجوب ولزم الاحجاج من تركته. قال في التهذيب ورجوع القافلة ليس بشرط، حتى لو مات بعد انتصاف ليلة النحر، ومضي إمكان السير إلى منى والرمي بها، وإلى مكة والطواف بها، استقر الفرض عليه، وإن مات، أو جن قبل ذلك، لم يستقر عليه. وإن هلك ماله بعد رجوع الناس، أو مضي إمكان الرجوع، استقر الحج، وإن هلك بعد حجهم، وقبل الرجوع وإمكانه، فوجهان. أصحهما: لا يستقر. هذا حيث نشرط أن يملك نفقة الرجوع. فإن لم نشرطها، استقر قطعا. ولو أحصر الذين أمكنه الخروج معهم، فتحللوا، لم يستقر الحج عليه. فلو سلكوا طريقا آخر فحجوا، استقر، وكذا لو حجوا في السنة التي بعدها إذا عاش وبقي ماله. وإذا دامت الاستطاعة وتحقق الامكان فلم يحج حتى مات، فهل يموت عاصيا ؟ فيه أوجه. أصحهما: نعم. والثاني: لا، والثالث: يعصي الشيخ دون الشاب، والخلاف جار فيما لو كان صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمنا. والاصح: العصيان أيضا. فإذا زمن وقلنا بالعصيان، فهل تجب عليه الاستنابة على الفور لخروجه بالتقصير عن استحقاق البر فيه، أم له تأخير الاستنابة كما لو بلغ(2/307)
معضوبا ؟ فإن استنابته على التراخي، فيه وجهان. أصحهما: الاول. وعلى هذا لو امتنع وأخر، فهل يجبزه القاضي على الاستنابة، أو يستأجر عليه ؟ وجهان. أحدهما: نعم كزكاة الممتنع. وأصحهما: لا. وإذا قلنا: يموت عاصيا، فمن أي وقت يعصي ؟ فيه أوجه. أصحها: من السنة الآخرة من سني الامكان لجواز التأخير إليها. والثاني: من السنة الاولى، لاستقرار الفرض فيها. والثالث: يموت عاصيا، ولا يسند العصيان إلى سنة بعينها. ومن فوائد موته عاصيا، أنه لو شهد شهادة ولم يحكم بها حتى مات، لم يحكم، لبيان فسقه. ولو قضي بشهادته بين السنة الاولى والاخيرة من سني الامكان، فإن عصيناه من الاخيرة، لم ينقض ذلك الحكم بحال. وإن عصيناه من الاول، ففي نقضه القولان، فيما إذا بان فسق الشهود. فصل حجة الاسلام في حق من يتأهل لها، تقدم على حجة القضاء. وصورة اجتماعهما، أن يفسد العبد حجه، ثم يعتق، فعليه القضاء، ولا تجزئه عن حجة الاسلام. وتقدم أيضا حجة الاسلام على النذر. فلو اجتمعت حجة الاسلام، والقضاء، والنذر، قدمت حجة الاسلام، ثم القضاء، ثم النذر. وأشار الامام إلى تردد في تقديم القضاء على النذر. والمذهب: ما قدمناه. ومن عليه حجة الاسلام، أو قضاء، أو نذر، لا يجوز أن يحج عن غيره. فلو قدم ما يجب تأخيره، لغت نيته، ووقع على الترتيب المذكور. والعمرة، إذا أوجبناها، كالحج في جميع ذلك. ولو استأجر المعضوب من يحج عن نذره، وعليه حجة الاسلام، فنوى الاجير(2/308)
النذر، وقع عن حجة الاسلام. ولو استأجر أجيرا لم يحج عن نفسه، فنوى الحج عن المستأجر، لغت نيته، ووقع الحج عن الاجير. ولو نذر من لم يحج أن يحج في هذه السنة، ففعل، وقع عن حجة الاسلام، وخرج عن نذره، وليس في نذره إلا تعجيل ما كان له تأخيره. ولو استؤجر من لم يحج للحج في الذمة، جاز، وطريقه: أن يحج عن نفسه، ثم عن المستأجر. وإجارة العين باطلة، لانها تتعين للسنة الاولى. فإذا بطلت، نظر، إن ظنه حج فبان أنه لم يحج، لم يستحق أجره، لتغريره، وإن علم أنه لم يحج وقال: يجوز في اعتقادي أن يحج عن غيره من لم يحج، فحج الاجير، وقع عن نفسه. وفي استحقاقه أجرة المثل قولان، أو وجهان تقدمت نظائرهما. أما إذا استأجر للحج من حج ولم يعتمر، أو للعمرة من اعتمر ولم يحج، فقرن الاجير وأحرم بالنسكين عن المستأجر، أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر، وبالآخر عن نفسه، فقولان. الجديد: أنهما يقعان عن الاجير، لان نسكي القران لا يفترقان، لاتحاد الاحرام، ولا يمكن صرف ما لم يأمر به المستأجر إليه. والثاني: أن ما استؤجر له يقع عن المستأجر، والآخر عن الاجير. ولو استأجر رجلان شخصا، أحدهما: ليحج عنه، والآخر ليعتمر عنه، فقرن عنهما، فعلى الجديد: يقعان عن الاجير. وعلى الثاني: يقع عن كل واحد ما استأجر له. ولو استأجر المعضوب رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة، أحدهما: حجة الاسلام، والآخر: حجة قضاء أو نذر، فوجهان. أصحهما: يجوز، وهو المنصوص في الام، لان غير حجة الاسلام لم تتقدم عليها. والثاني: لا يجوز. فعلى الثاني: إن أحرم الاجيران معا، انصرف إحرامهما إلى أنفسهما. وإن سبق إحرام أحدهما، وقع ذلك عن حجة الاسلام عن المستأجر، وانصرف إحرام الآخر إلى نفسه.(2/309)
فرع لو أحرم الاجير عن المستأجر، ثم نذر حجا، نظر، إن نذره بعد الوقوف، لم ينصرف حجه إليه، بل يقع عن المستأجر. وإن نذر قبله فوجهان. أصحهما: انصرافه إلى الاجير. ولو أحرم الرجل بحج تطوع، ثم نذر حجا بعد الوقوف، لم ينصرف إليه. وقبل الوقوف، على الوجهين. فرع لو استأجر المعضوب من يحج عنه تلك السنة، فأحرم الاجير عن نفسه تطوعا، فوجهان. قال الشيخ أبو محمد: ينصرف إلى المستأجر. وقال سائر الاصحاب: يقع تطوعا للاجير. قلت: لو حج بمال مغضوب أو نحوه، أجزأه الحج وإن كان عاصيا بالغصب. ولو كان يجن ويفيق، فإن كانت مدة إفاقته يتمكن فيها من الحج، ووجدت الشرائط الباقية، وجب عليه الحج، وإلا فلا. وإذا كان عليه دين حال لا يفضل عنه ما يحج به، فقال صاحب الدين، أمهلتك به إلى ما بعد الحج، لم يلزمه الحج. والله أعلم.
باب مواقيت الحج
ميقات الحج والعمرة، زماني ومكاني. أما الزماني، فوقت الاحرام بالحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، آخرها آخر ليلة(2/310)
النحر، وفي وجه: لا يجوز الاحرام في ليلة النحر، وهو شاذ مردود. وحكى المحاملي قولا عن الاملاء أنه يصح الاحرام به في جميع ذي الحجة، وهذا أشذ وأبعد. وأما العمرة، فجميع السنة وقت للاحرام بها، ولا تكره في وقت منها، ويستحب الاكثار منها في العمر، وفي السنة الواحدة. وقد يمتنع الاحرام بالعمرة لا بسبب الوقت، بل لعارض، كالمحرم بالحج، لا يصح إحرامه بالعمرة على الاظهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وإذا تحلل عن الحج التحللين، وعكف بمنى للمبيت والرمي، لم ينعقد إحرامه بالعمرة، لعجزه عن التشاغل بعملها، نص عليه. فإن نفر النفر الاول، فله الاحرام بها، لسقوط بقية الرمي، والمبيت عنه. فرع لو أحرم بالحج في غير أشهره، لم ينعقد حجا. وهل ينعقد عمرة ؟ فيه طرق. المذهب: أنه ينعقد ويجزئه عن عمرة الاسلام. وعلى قول: يتحلل بعمل عمرة، ولا تحسب عمرة. ومنهم من قطع بهذا القول. وقيل: ينعقد إحرامه مبهما، فإن صرفه إلى عمرة، كان عمرة صحيحة، وإلا تحلل بعمل عمرة. ولو أحرم قبل أشهر الحج إحراما مطلقا، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور: أنه لا ينعقد إحرامه بعمرة. وقيل: فيه وجهان: أحدهما: هذا.(2/311)
والثاني: وهو محكي عن الخضري: ينعقد مبهما. فإذا دخلت أشهر الحج، صرفه إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران. فصل في الميقات المكاني أما المقيم بمكة مكيا كان أو غيره، ففي ميقاته للحج وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: نفس مكة. والثاني: مكة وسائر الحرم. فعلى الاول: لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم، فهو مسئ، يلزمه الدم وإن لم يعد كمجاوزة سائر المواقيت. وعلى الثاني: حيث أحرم في الحرم، فلا إساءة. أما إذا أحرم خارج الحرم، فمسئ قطعا، فيلزمه الدم، إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفة إلى مكة على الاصح، أو الحرم على الثاني. ثم من أي موضع أحرم من مكة، جاز. وفي الافضل: قولان. أحدهما: أن يتهيأ للاحرام، ويحرم من المسجد قريبا من البيت. وأظهرهما: الافضل أن يحرم من باب داره، ويأتي المسجد محرما. وأما غير المقيم بمكة، فتارة يكون مسكنه فوق الميقات الشرعي، ويسمى هذا الافقي، وتارة يكون بينه وبين مكة. والمواقيت الشرعية خمسة. أحدها: ذو الحليفة، وهو ميقات من توجه من المدينة، وهو على نحو عشر مراحل من مكة. الثاني: الجحفة، ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب. الثالث: يلملم، وقيل: ألملم، ميقات المتوجهين من اليمن. الرابع: قرن، وهو ميقات المتوجهين من نجد اليمن، ونجد الحجاز.(2/312)
والخامس: ذات عرق، ميقات المتوجهين من العراق وخراسان. والمراد بقولنا: يلملم ميقات اليمن، أي: ميقات تهامته، فإن اليمن يشمل نجدا وتهامة. والاربعة الاولى، نص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف. وفي ذات عرق وجهان. أحدهما وإليه مال الاكثرون: أنه منصوص كالاربعة. والثاني: أنه باجتهاد(2/313)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والافضل في حق أهل العراق: أن يحرموا من العقيق، وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق. فرع إذا انتهى الافقي إلى الميقات وهو يريد الحج، والعمرة، أو القران، حرم عليه مجاوزته غير محرم. فإن جاوزه، فهو مسئ، ويأتي حكمه إن شاء الله تعالى وسواء كان من أهل تلك الناحية، أم من غيرها، كالشامي، يمر بميقات أهل المدينة. فرع إذا مر الافقي بالميقات غير مريد نسكا، فإن لم يكن على قصد التوجه إلى مكة، ثم عن له قصد النسك بعد مجاوزة الميقات، فميقاته حيث عن له. وإن كان على قصد التوجه إلى مكة لحاجة، فعن له النسك بعد المجاوزة، فإن قلنا: من أراد دخول الحرم لحاجة يلزمه الاحرام، فهذا يأثم بمجاوزته غير محرم، وهو كمن جاوزه غير محرم على قصد النسك. وإن قلنا: لا يلزمه، فهذا كمن جاوز غير قاصد دخول مكة. فرع من مسكنه بين الميقات ومكة، فميقاته القرية التي يسكنها، أو الحلة التي ينزلها البدوي. فرع يستحب لمن يحرم من ميقات شرعي، أو من قريته، أو حلته، أن يحرم من طرفه الابعد من مكة. فلو أحرم من الطرف الآخر، جاز لوقوع الاسم(2/314)
عليه. والاعتبار بالمواقيت الشرعية، بتلك المواضع، لا بالقرى والابنية، فلا يتغير الحكم لو خرب بعضها، ونقلت العمارة إلى موضع قريب منه وسمي بذلك الاسم. فرع لو سلك البحر أو طريقا في البر لا ينتهي إلى شئ من المواقيت المعينة، فميقاته محاذاة المعين. فإن اشتبه، تحرى. وطريق الاحتياط لا يخفى. ولو حاذى ميقاتين طريقه بينهما، فإن تساويا في المسافة إلى مكة، فميقاته ما يحاذيهما. وإن تفاوتا فيها، وتساويا في المسافة إلى طريقه، فوجهان. أحدهما: يتخير، إن شاء أحرم من المحاذي لابعد الميقاتين، وإن شاء لاقربهما. وأصحهما: يتعين محاذاة أبعدهما. وقد يتصور في هذا القسم محاذاة ميقاتين دفعة واحدة، وذلك بانحراف أحد الطريقين والتوائه، أو لو عورة وغيرها، فيحرم من المحاذاة. وهل هو منسوب إلى أبعد الميقاتين، أم إلى أقربهما ؟ وجهان حكاهما الامام، قال: وفائدتهما، أنه لو جاوز موضع المحاذاة بغير إحرام، وانتهى إلى موضع يفضي إليه طريقا الميقاتين، وأراد العود لرفع الاساءة، ولم يعرف موضع المحاذاة، هل يرجع إلى هذا الميقات، أم إلى ذاك ؟ ولو تفاوت الميقاتان في المسافة إلى مكة، وإلى طريقه، فالاعتبار بالقرب إليه، أم إلى مكة ؟ وجهان. أصحهما: الاول.(2/315)
فرع لو جاء من ناحية لا يحاذي في طريقها ميقاتا، لزمه أن يحرم إذا لم يبق بينه وبين مكة إلا مرحلتان. فصل إذا جاوز موضعا - وجب الاحرام منه - غير محرم، أثم، وعليه العود إليه، والاحرام منه إن لم يكن له عذر. فإن كان له عذر، كخوف الطريق، أو الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، أحرم ومضى، وعليه دم إذا لم يعد. فإن عاد، فله حالان. أحدهما: يعود قبل الاحرام فيحرم منه. فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أنه لا دم عليه، سواء كان دخل مكة، أم لا. وقال إمام الحرمين والغزالي، إن عاد قبل أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر، سقط الدم. وإن عاد بعد دخول مكة، وجب الدم. وإن عاد بعد مسافة القصر، فوجهان. أصحهما: يسقط، وهذا التفصيل شاذ. الحال الثاني: أن يحرم، ثم يعود إلى الميقات محرما. فمنهم من أطلق(2/316)
في سقوط الدم وجهين. وقيل: قولان. والمذهب والذي قاله الجمهور: أنه يفصل. فإن عاد فبل التلبس بنسك، سقط الدم، وإلا فلا، سواء كان النسك ركنا، كالوقوف، أو سنة، كطواف القدوم. وقيل: لا أثر للتلبس بالسنة. ولا فرق في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز عامدا عالما، والجاهل والناسي. لكن يفترقون في الاثم، فلا إثم على الناس والجاهل. فصل هل الاحرام من الميقات أفضل، أم من فوقه ؟ نص في البويطي والجامع الكبير للمزني، أنه من الميقات أفضل، وقال في الاملاء: الافضل من دويرة أهله. وللاصحاب طرق. أصحهما: على قولين. أظهرهما: الافضل من دويرة أهله. والثاني: من الميقات. بل أطلق جماعة الكراهة على تقديم(2/317)
الاحرام على الميقات. والطريق الثاني: القطع بدويرة أهله. والثالث: إن أمن على نفسه من ارتكاب محظورات الاحرام، فدويرة أهله، وإلا، فالميقات. قلت: الاظهر عند أكثر أصحابنا، وبه قطع كثيرون من محققيهم: أنه من الميقات أفضل، وهو المختار أو الصواب، للاحاديث الصحيحة فيه، ولم يثبت لها معارض. والله أعلم. فصل في ميقات العمرة إن كان المعتمر خارج الحرم، فميقات عمرته ميقات حجه بلا فرق. وإن كان في الحرم، مكيا كان أو مقيما بمكة، فله ميقا واجب، وأفضل. أما الواجب، فأن يخرج إلى أدنى الحل ولو خطوة من أي جانب شاء، فيحرم بها. فإن خالف وأحرم بها في الحرم، انعقد إحرامه. ثم له حالان. أحدهما: أن لا يخرج إلى الحل، بل يطوف ويسعى ويحلق بها، فهل يجزئه ذلك عن عمرته. قولان نص عليهما في الام، أظهرهما: يجزئه، ويلزمه دم، لتركه الاحرام من الميقات. والثاني: لا يجزئه ما أتى به، بل يشترط أن يجمع في عمرته بين الحل والحرم، كما في الحج. فعلى الاول: لو وطئ بعد الحلق، فلا(2/318)
شئ عليه، لوقوعه بعد التحلل. وعلى الثاني: الوطئ واقع قبل التحلل، لكنه يعتقد أنه تحلل، فهو كوطئ الناسي. وفي كونه مفسدا، قولان. فإن جعلناه مفسدا، فعليه المضي في فاسده بأن يخرج إلى الحل ويعود، فيطوف ويسعى، ويحلق، ويلزمه القضاء وكفارة الافساد ودم الحلق لوقوعه قبل التحلل. الحال الثاني: أن يخرج إلى الحل ثم يعود، فيطوف ويسعى ويحلق، فيعتد بما أتى به قطعا. وهل يسقط عنه دم الاساءة ؟ فيه طريقان. المذهب وبه قطع الجماهير: سقوطه. والثاني: على طريقين. أصحهما: القطع بسقوطه، والثاني: تخريجه على الخلاف في عود من جاوز الميقات غير محرم. فإذا قلنا بالمذهب، فالواجب خروجه إلى الحل قبل الاعمال، إما في ابتداء الاحرام، وإما بعده. وإن قلنا: لا يسقط الدم، فالواجب هو الخروج في ابتداء الاحرام. فرع أفضل البقاع من أطراف الحل لاحرام العمرة: الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية.(2/319)
قلت: هذا هو الصواب. وأما قول صاحب التنبيه: والافضل أن يحرم بها من التنعيم، فغلط. والله أعلم.
باب بيان وجوه الاحرام وما يتعلق بها
اتفقوا على جواز إفراد الحج عن العمرة، والتمتع، والقران. وأفضلها: الافراد، ثم التمتع، ثم القران، هذا هو المذهب، والمنصوص في عامة كتبه. وفي قول: التمتع أفضل، ثم الافراد. وحكي قول: أن الافضل: الافراد، ثم القران، ثم التمتع. وقال المزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي: أفضلها: القران. فأما الافراد، فمن صوره أن يحرم بالحج وحده ويفرغ منه، ثم يحرم بالعمرة. وسيأتي باقي صوره إن شاء الله تعالى في شروط التمتع. ثم تفضيل الافراد على التمتع والقران، شرطه أن يعتمر تلك السنة. فلو أخر العمرة عن سنته، فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه، لان تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. وأما القران، فصورته الاصلية، أن يحرم بالحج والعمرة معا. فتندرج أفعال العمرة في أعمال الحج، ويتحد الميقات والفعل. ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، نظر، إن أدخله في غير أشهر الحج، لغا إدخاله ولم يتغير إحرامه بالعمرة. وإن أدخله في أشهره، نظر، إن كان(2/320)
أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، ففي صحة إدخاله وجهان. أحدهما، وهو اختيار الشيخ أبي علي، وحكاه عن عامة الاصحاب: لا يصح الادخال، لانه يؤدي إلى صحة الاحرام بالحج قبل أشهره. والثاني: يصح، وهو اختيار القفال، وبه قطع صاحب الشامل وغيره، لانه إنما يصير محرما بالحج وقت إدخاله، وهو وقت صالح للحج. قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخله عليها في أشهره، فإن لم يكن شرع في طوافها، صح وصار قارنا، وإلا لم يصح إدخاله. وفي علة عدم الصحة، أربعة معان. أحدها: لانه اشتغل بعمل من أعمال العمرة. والثاني: لانه أتى بفرض من فروضها. والثالث: لانه أتى بمعظم أفعالها. والرابع: لانه أخذ في التحلل، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر الفارسي في عيون المسائل. وحيث جوزنا الادخال عليها، فذاك إذا كانت عمرة صحيحة. فإن أفسدها، ثم أدخل عليها الحج، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. أما لو أحرم بالحج في وقته، ثم أدخل عليه لعمرة، فقولان. القديم: أنه يصح، ويصير قارنا. والجديد: لا يصح. فإذا قلنا بالقديم، فإلى متى يجوز الادخال ؟ فيه أربعة أوجه مفرعة على المعاني السابقة. أحدها: يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم. وقال في التهذيب: هذا أصحها.(2/321)
والثاني: يجوز بعد طواف القدوم ما لم يشرع في السعي أو غيره من فروض الحج، قاله الخضري. والثالث: يجوز وإن اشتغل بفرض ما لم يقف بعرفة. فعلى هذا، لو كان سعى، فعليه إعادة السعي ليقع عن النسكين جميعا، كذا قاله الشيخ أبو علي. والرابع: يجوز، وإن وقف ما لم يشتغل بشئ من أسباب التحلل من الرمي وغيره. وعلى هذا لو كان سعى، فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو علي: وجوب إعادته. وحكى الامام فيه وجهين، وقال: المذهب أنه لا يجب. فرع يجب على القارن دم كدم التمتع، وحكى الحناطي قولا قديما: أنه يجب بدنة. فصل أما المتمتع، فهو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده، ويدخل مكة ويفرغ من أفعال العمرة، ثم ينشئ الحج من مكة، سمي متمتعا لاستمتاعه بمحظورات الاحرام بينهما، فإنه يحل له جميع المحظورات، إذا تحلل من العمرة، سواء ساق هديا، أم لا، ويجب عليه دم.
ولوجوب الدم شروط.
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهم من مسكنه دون مسافة القصر من الحرم. وقيل: من نفس مكة. فإن كان مسافة القصر، فليس بحاضره. فإن كان له مسكنان، أحدهما في حد القرب، والآخر بعيد، فإن كان مقامه بأحدهما أكثر، فالحكم له. فإن استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما(2/322)
دائما أو أكثر، فالحكم له. فإن استويا في ذلك، وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما، فالحكم له. فإن لم يكن له عزم، فالحكم للذي خرج منه. ولو استوطن غريب مكة، فهو حاضر. وإن استوطن مكي العراق، فغير حاضر. ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعا ناويا الاقامة بها بعد الفراغ من النسكين، أو من العمرة، أو نوى الاقامة بها بعد ما اعتمر، فليس بحاضر، فلا يسقط عنه الدم. فرع ذكر الغزالي رحمه الله مسألة، وهي من مواضع التوقف، ولم أجدها لغيره بعد البحث. قال: والافقي إذا جاوز الميقات غير مريد النسك، فاعتمر عقب دخوله مكة، ثم حج، لم يكن متمتعا، إذ صار من الحاضرين، إذ ليس يشترط فيه قصد الاقامة، وهذه المسألة تتعلق بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الاحرام بحج أو عمرة أم لا ؟ ثم ما ذكره من اعتبار اشتراط الاقامة، ينازعه فيه كلام الاصحاب ونقلهم عن نصه في الاملاء والقديم، فإنه ظاهر في اعتبار الاقامة، بل في اعتبار الاستيطان. وفي النهاية والوسيط حكاية وجهين في صورة تداني هذه. وهي أنه لو جاوز الغريب الميقات، وهو لا يريد نسكا، ولا دخول الحرم، ثم بدا له بقرب مكة أن يعتمر، فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التقتع، هل يلزمه الدم ؟ أحد الوجهين: لا يلزمه لانه حين بدا له، كان على مسافة الحاضر. وأصحهما: يلزمه، لانه وجدت صورة التمتع، وهو غير معدود من الحاضرين.(2/323)
قلت: المختار في الصورة التي ذكرها الغزالي أولا: أنه متمتع ليس بحاضر، بل يلزمه الدم. والله أعلم. فرع لا يجب على حاضر المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب عليه دم التمتع. هذا هو المذهب. وحكى الحناطي وجها: أنه يلزمه. ويشبه أن يكون هذا الخلاف مبنيا على وجهين نقلهما صاحب العدة في أن دم القران، دم جبر، أم دم نسك ؟ المذهب المعروف: أنه دم جبر. فرع هل يجب على المكي إذا قرن، إنشاء الاحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة، أم يجوز أن يحرم من جوف مكة، إدرجا للعمرة تحت الحج ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ويجريان في الافقي إذا كان بمكة وأراد القران. الشرط الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. فلو أحرم وفرغ منها قبل أشهره، ثم حج، لم يلزمه الدم. فلو أحرم بها قبل أشهره، وأتى بجميع أفعالها في أشهره، ثم حج، فقولان. أظهرهما: نصه في الام: لا دم. والثاني: نصه في القديم والاملاء: يجب الدم. وقال ابن سريج: ليست على قولين، بل على حالين. إن أقام بالميقات محرما بالعمرة حتى دخلت أشهر الحج، أو عاد إليه في الاشهر محرما بها، وجب الدم. وإن جاوزه قبل الاشهر ولم يعد إليه، فلا دم. ولو سبق الاحرام بها وبعض أعمالها في أشهره، فالخلاف مرتب إن لم نوجب إذا لم يتقدم إلا الاحرام، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الاصح: لا يجب. وإذا لم نوجب دم المتمتع في هذه الصورة،(2/324)
ففي وجوب دم الاساءة وجهان. أحدهما: يجب، لانه أحرم بالحج من مكة. وأصحهما: لا، لان المسئ من ينتهي إلى الميقات على قصد النسك ويجاوزه غير محرم، وهذا جاوز محرما. الشرط الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة. فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة، فلا دم، سواء أقام بمكة إلى أن حج، أو رجع وعاد. الشرط الرابع: أن لا يعود إلى الميقات، بأن أحرم بالحج من نفس مكة واستمر. فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، أو إلى مسافة مثله وأحرم بالحج، فلا دم. ولو أحرم به من مكة، ثم ذهب إلى الميقات محرما، ففي سقوطه الخلاف السابق فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه محرما. ولو عاد إلى ميقات أقرب منه إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه، بأن كان ميقات عمرته الجحفة فعاد إلى ذات عرق، فهل هو كالعود إلى ميقات عمرته ؟ وجهان. أحدهما: لا، وعليه دم. وأصحهما: نعم، لانه أحرم من موضع ليس ساكنوه من حاضري المسجد الحرام، وهذا اختيار القفال والمعتبرين. فرع لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات، فالمذهب، أنه لا دم، نص عليه في الاملاء وصححه الحناطي. وقال الامام: إن قلنا: المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه، لا يسقط عنه الدم، فهنا أولى، وإلا، فوجهان والفرق، أن اسم القران لا يزول بالعود، بخلاف التمتع. الشرط الخامس: مختلف فيه، وهو أنه، هل يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد ؟ وجهان. قال الخضري: يشترط. وقال الجمهور: لا يشترط.(2/325)
ويتصور فوات هذا الشرط في صور. إحداها: أن يستأجره شخص لحج، وآخر لعمرة. الثانية: أن يكون أجيرا لعمرة، فيفرغ ثم يحج لنفسه. الثالثة: أن يكون أجيرا لحج، فيعتمر عن نفسه، ثم يحج للمستأجر. فإن قلنا بقول الجمهور، فقد ذكروا أن نصف دم التمتع على من يقع له الحج، ونصفه على من تقع له العمرة. وليس هذا الاطلاق على ظاهره، بل هو محمول على تفصيل ذكره صاحب التهذيب. أما في الصورة الاولى فقال: إن أذنا في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا فعلى الاجير. وعلى قياسه: إن أذن أحدهما فقط، فالنصف على الآذن، والنصف على الاجير. وأما في الصورتين الآخرتين، فقال: إن أذن له المستأجر في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا، فالجميع على الاجير. واعلم بعد هذا أمورا. أحدها: أن إيجاب الدم على المستأجرين، أو أحدهما، مفرع على الاصح، وهو أن دم التمتع والقران على المستأجر، وإلا فهو على الاجير بكل حال. الثاني: إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الاولى، أو المستأجر في الثالثة، وكان ميقات البلد معينا في الاجارة، أو نزلنا المطلق عليه، لزمه مع دم التمتع دم الاساءة لمجاوزة ميقات نسكه. الثالث: إذا أوجبنا الدم على المستأجرين فكانا معسرين، لزم كل واحد منهما خمسة أيام، لكن صوم التمتع، بعضه في الحج، وبعضه في الرجوع، وهما لم يباشرا حجا. وقد قدمنا - في فروع الاجارة، فيمن استأجره ليقرن فقرن أو ليتمتع فتمتع، وكان المستأجر معسرا، وقلنا: الدم عليه - خلافا بين صاحبي التهذيب والتتمة. فعلى قياس قول صاحب التهذيب: الصوم على(2/326)
الاجير. وعلى قياس صاحب التتمة: هو كما لو عجز المتمتع عن الهدي والصوم جميعا. ويجوز أن يكون الحكم كما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج، كيف يقضي ؟ فإذا أوجبنا التفريق، فتفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة، يبعض القسمين فيكملان، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقس على هذا. أما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الآخرتين على الاجير والمستأجر، وإذا فرعنا على قول الخضري، فإذا اعتمر عن المستأجر، ثم حج عن نفسه، ففي كونه مسيئا، الخلاف السابق فيمن اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من مكة، لكن الاصح هنا: أنه مسئ، لامكان الاحرام بالحج حين حضر الميقات. قال الامام: فإن لم يلزمه الدم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فوات فضيلة التمتع على قولنا: إنه أفضل من الافراد. وإن ألزمناه الدم، فله أثران. أحدهما: هذا. والثاني: أن المتمتع لا يلزمه العود إلى الميقات. وإن عاد وأحرم منه، سقط عنه الدم بلا خلاف. والمسئ، يلزمه العود. وإذا عاد، ففي سقوط الدم عنه، خلاف. وأيضا، فالدمان يختلف بدلهما. الشرط السادس: مختلف فيه، وهو نية التمتع. والاصح: أنها لا تشترط، كما لا تشترط نية القران. فإن شرطناها، ففي وقتها أوجه. أحدها: حالة الاحرام بالعمرة. والثاني: ما لم يفرغ من العمرة. والثالث: ما لم يشرع في الحج. الشرط السابع: أن يحرم بالعمرة من الميقات. فلو جاوزه مريدا للنسك، ثم أحرم بها، فالمنصوص: أنه ليس عليه دم التمتع، لكن يلزمه دم الاساءة، فأخذ(2/327)
بإطلاق هذا النص آخرون. وقال الاكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر. فإن بقيت مسافة القصر، فعليه الدمان جميعا. الشرط الثامن: مختلف فيه. حكي عن ابن خيران: اشتراط وقوع النسكين في شهر واحد، وخالفه عامة الاصحاب. فرع الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم وفاقا وخلافا. وهل يعتبر في نفس التمتع ؟ فيها وجهان. أحدهما: نعم. فلو فات شرط، كان مفردا. وأشهرهما: لا تعتبر. ولهذا قال الاصحاب: يصح التمتع والقران من المكي، خلافا لابي حنيفة رحمه الله. فرع إذا اعتمر ولم يرد العود إلى الميقات، لزمه أن يحرم بالحج من مكة، وهي في حقه كهي في حق المكي. والكلام في الموضع الذي هو أفضل لاحرامه، وفيما لو خالف فأحرم خارج مكة في الحرم أو خارجه، ولم يعد إلى الميقات، ولا إلى مسافته على ما ذكرنا في المكي. وإذا اقتضى الحال وجوب دم الاساءة، وجب أيضا مع دم التمتع.
فصل المتمتع، يلزمه دم شاة بصفة الاضحية.
ويقوم مقامها سبع بدنة، أو سبع بقرة. ووقت وجوبه، الاحرام بالحج. وإذا وجب، جاز إراقته، ولم يتوقت بوقت كسائر دماء الجبرانات، لكن الافضل إراقته يوم النحر. وهل يجوز إراقته بعد التحلل من العمرة وقبل الاحرام بالحج ؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: الجواز. فعلى هذا، هل يجوز قبل التحلل من العمرة ؟ وجهان. أصحهما: لا، وقيل: لا يجوز قطعا، ولا يجوز قبل الشروع في العمرة بلا خلاف. فرع إذا عدم المتمتع الدم في موضعه، لزمه صوم عشرة أيام، سواء كان له مال غائب في بلده، أو غيره، أم لم يكن، بخلاف الكفارة، فإنه يعتبر في الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا.(2/328)
والفرق أن بدل الدم موقت بكونه في الحج، ولا توقيت في الكفارة. ثم إن الصوم يقسم، ثلاثة أيام، وسبعة. فالثلاثة يصومها في الحج، ولا يجوز تقديمها على الاحرام بالحج، ولا يجوز صوم شئ منها في يوم النحر. وفي أيام التشريق قولان تقدما في كتاب الصيام. ويستحب أن يصوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة، لانه يستحب للحاج فطر يوم عرفة، وإنما يمكنه هذا إذا تقدم إحرامه بالحج على اليوم السادس من ذي الحجة. قال الاصحاب: المستحب للمتمتع الذي هو من أهل الصوم، أن يحرم بالحج قبل السادس. وحكى الحناطي وجها: أنه إذا لم يتوقع هديا، وجب تقديم الاحرام بالحج على السابع، ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم النحر. وأما واجد الهدي، فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، ويتوجه بعد الزوال إلى منى. وإذا فات صوم الثلاثة في الحج، لزمه قضاؤها، ولا دم عليه. وعن ابن سريج، وأبي إسحق تخريج قول: أنه يسقط الصوم ويستقر الهدي في ذمته. واعلم أن فواتها يحصل بفوات يوم عرفة إن قلنا: إن أيام التشريق لا يجوز صومها، وإلا حصل الفوات بخروج أيام التشريق. ولا خلاف أنها تفوت بفوات أيام التشريق. حتى لو تأخر طواف الزيارة عن أيام التشريق، كان بعد في الحج، وكان صوم الثلاثة بعد التشريق قضاء وإن بقي الطواف، لان تأخره بعيد في العادة، فلا يقع مرادا من قول الله تعالى: * (ثلاثة أيام في الحج) * هكذا حكاه الامام وغيره. وفي التهذيب حكاية وجه ضعيف ينازع فيه. فرع وأما السبعة، فوقتها إذا رجع. وفي المراد بالرجوع، قولان. أظهرهما: الرجوع إلى الاهل والوطن، نص عليه في المختصر وحرملة. والثاني: أنه الفراغ من الحج. فإن قلنا بالاول، فإن توطن مكة بعد فراغه من(2/329)
الحج، صام بها. وإن لم يتوطنها، لم يجز صومه بها. وهل يجوز في الطريق إذا توجه إلى وطنه ؟ فيه طريقان. المذهب: لا يجوز، وبه قطع العراقيون. والثاني: وجهان. أصحهما: لا يجوز. وإذا قلنا: إنه الفراغ، فلو أخره حتى يرجع إلى وطنه، جاز. وهل هو أفضل، أم التقديم ؟ قولان. أظهرهما: التأخير أفضل، للخروج من الخلاف. والثاني: التقديم مبادرة إلى الواجب. ولا يصح صوم شئ من السبعة في أيام التشريق بلا خلاف وإن قلنا: إنها قابلة للصوم، سواء قلنا: المراد بالرجوع الفراغ، أو الوطن، لانه بعد في الحج وإن حصل التحلل. وحكي قول: إن المراد بالرجوع، الرجوع إلى مكة من منى. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا قولا سوى قول الفراغ من الحج، ومقتضى كلام كثير من الائمة: أنهما شئ واحد، وهو الاشبه. وعلى تقدير كونه قولا آخر، يتفرع عليه، أنه لو رجع من منى إلى مكة، صح صومه وإن تأخر طواف الوداع. فرع إذا لم يصم الثلاثة في الحج، ورجع، لزمه صوم العشرة. وفي الثلاثة، القول المخرج الذي سبق. فعلى المذهب: هل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة والسبعة ؟ قولان. وقيل: وجهان. أصحهما عند الجمهور: يجب. والاصح عند الامام: لا يجب. فعلى الاول، هل يجب التفريق بقدر ما يقع تفريق الاداء ؟ قولان. أحدهما: لا، بل يكفي التفريق بيوم، نص عليه في الاملاء. وأظهرهما: يجب. وفي قدره أربعة أقول تتولد من أصلين سبقا، وهما صوم المتمتع أيام(2/330)
التشريق، وأن الرجوع ماذا ؟ فإن قلنا: ليس للمتمتع صوم التشريق، وأن الرجوع إلى الوطن، فالتفريق بأربعة أيام. ومدة إمكان السير إلى أهله، على العادة الغالبة. وإن قلنا: ليس له صومها، وأن الرجوع، الفراغ، فالتفريق بأربعة فقط. وإن قلنا: له صومها، وأن الرجوع إلى الوطن، فالتفريق بمدة إمكان السير. وإن قلنا: له صومها، والرجوع، الفراغ، فوجهان. أصحهما: يجب التفريق. والثاني: لا بد من التفريق بيوم. فإن أردت حصر الاقوال التي تجئ فيمن لم يصم الثلاثة في الحج مختصرا، حصلت ستة. أحدها لا صوم، بل ينتقل إلى الهدي. والثاني: عليه صوم عشرة، متفرقة أو متتابعة. والثالث: عشرة، ويفرقبيوم فصاعدا. والرابع: يفرق بأربعة ومدة إمكان السير إلى الوطن. والخامس: يفرق بأربعة فقط. والسادس: بمدة إمكان السير فقط. قلت: المذهب منها: هو الرابع. والله أعلم. ولو صام عشرة متوالية، وقلنا بالمذهب، وهو وجوب قضاء الثلاثة، أجزأه إن لم نشترط التفريق. فإن شرطناه واكتفينا بيوم، لم يعتد باليوم الرابع، ويحسب ما بعده، فيصوم يوما آخر. هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه: لا يعتد بشئ سوى الثلاثة. وفي وجه للاصطخري: لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى التتابع، وهما شاذان. وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم، لم يعتد بذلك القدر.(2/331)
فرع كل واحد من صوم الثلاثة، والسبعة، لا يجب فيه التتابع، لكن يستحب. وحكي في وجوب التتابع قول مخرج من كفارة اليمين، وهو شاذ ضعيف. فرع إذا شرع في صوم الثلاثة أو السبعة، ثم وجد الهدي، لم يلزمه الهدي، لكن يستحب. وقال المزني: يلزمه. ولو أحرم بالحج ولا هدي، ثم وجده قبل الشروع في الصوم، بني على أن المعتبر في الكفارة حال الوجوب، أم الاداء، أم أغلظهما ؟ إن اعتبرنا حال الوجوب، أجزأه الصوم، وإلا لزم الهدي، وهو نصه في هذه المسألة. فرع المتمتع الواجد للهدي، إذا مات قبل فراغ الحج، هل يسقط عنه الدم ؟ قولان. أظهرهما: لا يسقط، بل يخرج من تركته، لوجود سبب الوجوب. ولو مات بعد فراغ الحج، أخرج من تركته بلا خلاف. فأما الصوم، فإن مات قبل التمكن منه، فقولان. أظهرهما: يسقط، لعدم التمكن، كصوم رمضان. والثاني: يهدى عنه، وهذا القول يتصور فيما إذا لم يجد الهدي في موضعه، وله ببلده مال، أو وجده بثمن غال. وإن تمكن من الصوم، فلم يصم حتى مات، فهل هو كصوم رمضان ؟ فيه طريقان. أصحهما: نعم، فيصوم عنه وليه على القديم. وفي الجديد: يطعم عنه من تركته لكل يوم مد. فإن كان تمكن من الايام العشرة، فعشرة أمداد، وإلا فبالقسط. وهل يتعين صرفه إلى فقراء الحرم، أم(2/332)
يجوز إلى غيرهم أيضا ؟ قولان. أظهرهما: الثاني. والطريق الثاني: لا يكون كصوم رمضان. فعلى هذا قولان. أظهرهما: الرجوع على الدم، لانه أقرب إلى هذا الصوم من الامداد، فيجب في ثلاثة أيام إلى العشرة شاة، وفي يوم ثلث شاة، وفي يومين ثلثاها. وعن أبي إسحق إشارة إلى أن اليوم واليومين، كإتلاف الشعرة والشعرتين من المحرم. وفي الشعرة، ثلاثة أقوال. أحدها: مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث شاة. والقول الثاني: لا يجب شئ أصلا. وأما التمكن المذكور، فصوم الثلاثة، يتمكن منه بأن يحرم بالحج لزمن يسع صومها قبل الفراغ، ولا يكون عارض من مرض وغيره. وذكر الامام: أنه لا يجب شئ في تركته ما لم ينته إلى الوطن، لان دوام السفر كدوام المرض، فلا يزيد تأكد الثلاثة على صوم رمضان. وهذا الذي قاله، غير واضح، لان صوم الثلاثة، يتعين إيقاعه في الحج بالنص. وإن كان مسافرا، فلا يكون السفر عذرا فيه، بخلاف رمضان. وأما السبعة، فإن قلنا: الرجوع إلى الوطن، فلا تمكن قبله. وإن قلنا: الفراغ من الحج، فلا تمكن قبله. ثم دوام السفر عذر على ما قاله الامام. وقال القاضي حسين: إذا استحببنا التأخير إلى أن يصل الوطن تفريعا على قول الفراغ، فهل يفدى عنه إذا مات ؟ وجهان.(2/333)
باب الاحرام
ينبغي لمريد الاحرام، أن ينوي ويلبي. فإن لبى ولم ينو، فنص في رواية الربيع: أنه يلزمه ما لبى به. وقال في المختصر: وإن لم يرد حجا ولا عمرة، فليس بشئ. واختلف الاصحاب على طريقين. المذهب: القطع بأنه لا ينعقد إحرامه. وتأويل نقل الربيع، على ما إذا أحرم مطلقا، ثم تلفظ بنسك معين ولم ينوه، فيجعل لفظه تعيينا للاحرام المطلق. والطريق الثاني: على قولين. أظهرهما: لا ينعقد إحرامه، لان الاعمال بالنيات. والثاني: يلزمه ما سمى، لانه التزمه بقوله. وعلى هذا، لو أطلق التلبية، انعقد الاحرام مطلقا، يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين، أو أحدهما. قلت: هذا القول، ضعيف جدا، والتأويل المذكور، أضعف منه، لانا سنذكر قريبا - إن شاء الله تعالى - أن الاحرام المطلق، لا يصح صرفه إلا بنية القلب. والله أعلم. واعلم أن نصه في المختصر يحتاج إلى قيد آخر، يعني: لم يرد حجا ولا عمرة، ولا أصل الاحرام، هذا كله إذا لبى ولم ينو. فلو نوى ولم يلب، انعقد إحرامه على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقال أبو علي بن خيران وابن أبي هريرة، وأبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إلا بالتلبية. وحكى الشيخ أبو محمد(2/334)
وغيره قولا للشافعي رحمة الله عليه: أنه لا ينعقد إلا بالتلبية، لكن يقوم مقامها سوق الهدي، وتقليده، والتوجه معه. وحكى الحناطي هذا القول في الوجوب دون الاشتراط، وذكر تفريعا عليه: أنه لو ترك التلبية، لزمه دم. قلت: صفة النية: أن ينوي الدخول في الحج أو العمرة أو فيهما والتلبس به. والواجب: أن ينوي هذا بقلبه. فإن ضم إلى نية القلب التلفظ، كان أفضل. والله أعلم. فرع إذا قلنا بالمذهب: إن المتعبر هو النية، فلو لبى بالعمرة ونوى الحج، فهو حاج، وبالعكس معتمر. ولو تلفظ بأحدهما، ونوى القران، فقارن. ولو تلفظ بالقران، وونوى أحدهما، فهو لما نوى. فرع الاحرام حالان. أحدهما: ينعقد معينا، بأن ينوي أحد النسكين بعينه، أو كليهما. فلو أحرم بحجتين، أو عمرتين، انعقدة واحدة فقط، ولم يلزمه الاخرى. الثاني: ينعقد مطلقا، بأن ينوي نفس الاحرام، ولا يقصد القران، ولا أحد النسكين، وهذا جائز بلا خلاف. ثم ينظر، إن أحرم في أشهر الحج، فله صرفه إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران، ويكون التعيين بالنية، لا باللفظ، ولا يجزئه العمل قبل النية. وإن أحرم قبل الاشهر، فإن صرفه إلى العمرة، صح، وإن صرفه إلى الحج بعد دخول الاشهر، فوجهان. الصحيح: لا يجوز، بل انعقد إحرامه. والثاني: ينعقد مبهما، وله صرفه بعد دخول الاشهر، إلى حج، أو قران. فإن صرفه إلى الحج قبل الاشهر، كان كمن أحرم بالحج قبل الاشهر، وقد سبق بيانه. فرع هل الافضل إطلاق الاحرام، أم تعيينه ؟ قولان. قال في الاملاء: الاطلاق أفضل. وفي الام: التعيين أفضل، وهو الاظهر.(2/335)
فعلى هذا، هل يستحب التلفظ في تلبيته بما عينه ؟ وجهان. الصحيح المنصوص: لا، بل يقتصر على النية. والثاني: يستحب، لانه أبعد عن النسيان. فصل إذا أحرم عمرو بما أحرم به زيد، جاز. ثم لزيد أحوال. أحدها: أن يكون محرما، ويمكن معرفة ما أحرم به، فينعقد لعمرو مثل إحرامه، إن كان حجا، فحج. وإن كان عمرة، فعمرة. وإن كان قرانا، فقران. قلت: وإن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع، كان عمرو محرما بعمرة، ولا يلزمه التمتع. والله أعلم. وإن كان مطلقا، انعقد إحرام عمرو مطلقا أيضا، ويتخير كما يتخير زيد، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد. وحكي وجه: أنه يلزمه، وهو شاذ ضعيف. قال في التهذيب: إلا إذا أراد إحراما كإحرام زيد بعد تعيينه. وإن كان إحرام زيد فاسدا، فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقا، أم لا ينعقد أصلا ؟ وجهان. قلت: الاصح: انعقاده. قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان كالوجهين فيمن نذر صلاة فاسدة، هل ينعقد نذره بصلاة صحيحة، أم لا. ينعقد ؟ والاصح: لا ينعقد. والله أعلم. وإن كان زيد أحرم مطلقا، ثم عينه قبل إحرام عمرو، فوجهان. أصحهما:(2/336)
ينعقد إحرام عمرو مطلقا. والثاني: معينا، ويجري الوجهان فيما لو أحرم زيد بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، فعلى الاول: يكون عمرو معتمرا، وعلى الثاني: قارنا، والوجهان فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال، ولا في أوله، فإن خطر التشبيه بأوله، أو بالحال، فالاعتبار بما خطر بلا خلاف. ولو أخبره زيد بما أحرم به، ووقع في نفسه خلافه، فهل يعمل بخبره، أو بما وقع في نفسه ؟ وجهان. قلت: أصحهما: بخبره. والله أعلم. ولو قال له: أحرمت بالعمرة، فعمل بقوله، فبان أنه كان محرما بالحج، فقد بان أن إحرام عمرو كان منعقدا بحج. فإن فات الوقت، تحلل وأراق دما. وهل الدم في ماله، أو مال زيد، للتغرير ؟ وجهان. قلت: أصحهما: في ماله. والله أعلم. الحال الثاني: أن لا يكون زيد محرما أصلا، فينظر إن كان عمرو جاهلا به، انعقد إحرامه مطلقا، لانه جزم بالاحرام. وإن كان عالما بأنه غير محرم، بأن علم موته، فطريقان. المذهب الذي قطع به الجمهور: أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقا. والثاني: على الوجهين. أصحهما: هذا. والثاني: لا ينعقد أصلا، كما لو قال: إن كان زيد محرما، فقد أجرمت، فلم يكن محرما. والصواب: الاول. ويخالف قوله: إن كان زيد محرما فإنه تعليق لاصل الاحرام. فلهذا يقول: إن كان زيد محرما، فهذا المعلق محرم، وإلا، فلا. وأما هنا، فأصل الاحرام محزوم به. واحججوا للمذهب بصورتين نص عليهما في الام.(2/337)
أحدهما: لو استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما، لم ينعقد عن واحد منهما، وانعقد عن الاجير، لان الجمع بينهما متعذر، فلغت الاضافة، وسواء كانت الاجارة في الذمة، أم على العين، لانه وإن كانت إحدى إجارتي العين فاسدة، إلا أن الاحرام عن غيره لا يتوقف على صحة الاجارة. الصورة الثانية: لو استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن نفسه وعن المستأجر، لغت الاضافتان، وبقي الاحرام للاجير. فلما لغت الاضافة في الصورتين، وبقي أصل الاحرام، جاز أن يلغو هنا التشبيه، ويبقى أصل الاحرام. الحال الثالث: أن يكون زيد محرما، وتتعذر مراجعته، لجنون، أو غيبة،(2/338)
أو موت. ولهذه المسألة مقدمة، وهي لو أحرم بأحد النسكين، ثم نسيه، قال في القديم: أحب أن يقرن. وإن تحرى، رجوت أن يجزئه. وقال في الجديد: هو قارن. وللاصحاب فيه طريقان. أحدهما: القطع بجواز التحري. وتأويل الجديد على ما إذا شك، هل أحرم بأحد النسكين، أم قرن ؟ وأصحهما وبه قطع الجمهور: أن المسألة على قولين. القديم: جواز التحري، ويعمل بظنه. والجديد: لا يتحرى. فإن قلنا بالقديم، فتحرى، مضى فيما ظنه من النسكين، وأجزأه على الصحيح. وقيل: لا يجزئه الشك. وفائدة التحري: الخلاص من الاحرام، وهذا شاذ ضعيف. وإن قلنا بالجديد، فللشك صورتان. إحداهما: أن يعرض قبل الاتيان بشئ من الاعمال، فلفظ النص: أنه قارن. وقال الاصحاب: معناه: أن ينوي القران، ويجعل نفسه قارنا. وحكي قول أنه يصير قارنا بلا نية، وهو شاذ ضعيف. ثم إذا نوى القران وأتى بالاعمال، تحلل وبرئت ذمته عن الحج بيقين، وأجزأه عن حجة الاسلام، لانه إن كان محرما بالحج، لم يضر تجديد العمرة بعده، سواء قلنا: يصح إدخالها عليه، أم لا. وإن كان محرما بالعمرة، فإدخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها، جائز. وأما العمرة، فإن جوزنا إدخالها على الحج، أجزأته عن عمرة الاسلام، وإلا فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، لاحتمال تأخر العمرة. والثاني: تجزئه، قاله أبو إسحق. ويكون الاشتباه عذرا في جواز تأخيرها. فإن قلنا: تجزئ، لزمه دم القران، فإن لم يجد، صام عشرة أيام، جلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. وإن قلنا: لا تجزئه العمرة، لم يجب الدم على الاصح. وقولنا: يجعل نفسه قارنا، ليس على سبيل الالزام. قال الامام: لم يذكر الشافعي رحمة الله عليه القران على معنى أنه(2/340)
لا بد منه، بل ذكره على أنه ليستفيد منه الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين. فلو اقتصر بعد النسيان على الاحرام بالحج، وأتى بأعماله، حصل التحلل قطعا، وتبرأ ذمته عن الحج، ولا تبرأ عن العمرة، لاحتمال أنه أحرم ابتداء بعمرة بالحج. وعلى هذا القياس: لو اقتصر على الاحرام بالعمرة، وأتى بأعمال القران، حصل التحلل، وبرئت ذمته من العمرة إن جوزنا إدخالها على الحج، ولا تبرأ عن الحج، لاحتمال أنه أحرم ابتداء ولم يغيرها. ولو لم يجدد إحراما بعد النسيان، واقتصر على الاتيان بعمل الحج، حصل التحلل، ولا تبرأ ذمته عن واحد من النسكين، لشكه فيما أتى به. ولو اقتصر على عمل العمرة، لم يحصل التحلل، لاحتمال أنه أحرم بالحج ولم يتم أعماله. الصورة الثانية: أن يعرض الشك بعد الاتيان بشئ من الاعمال، وله أحوال. أحدها: أن يعرض بعد الوقوف بعرفة، وقبل الطواف، فإذا نوى القران، فيجزئه الحج، لانه إن كان محرما به، فذاك. وإن كان بالعمرة، فقد أدخله عليها قبل الطواف، وذلك جائز. ولا تجزئه العمرة إذا قلنا بالمذهب: إنه لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في التحلل. وهذا الحال مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند مصيره قارنا ثم وقف ثانيا، وإلا، فيحتمل أنه كان محرما بالعمرة، فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج. الحال الثاني: أن يعرض بعد الطواف وقبل الوقوف، فإذا نوى القران، وأتى بأفعال القارن، لم يجزئه الحج، لاحتمال أنه كان محرما بالعمرة، فيمتنع إدخال الحج عليها بعد الطواف.(2/341)
وأما العمرة، فإن قلنا بجواز إدخالها على الحج بعد الطواف، أجزأته، وإلا، فلا، وهو المذهب. وذكر ابن الحداد في هذه الحال أنه يتم أعمال العمرة، بأن يصلي ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج، ويأتي بأعماله. فإذا فعل هذا، صح حجه، لانه إن كان محرما بالحج، لم يضر تجديد إحرامه. وإن كان بالعمرة، فقد تمتع، ولا تصح عمرته، لاحتمال أنه كان محرما بالحج، ولا تدخل العمرة عليه إذا لم ينو القران. قال الشيخ أبو زيد، وصاحب التقريب والاكثرون: إن فعل هذا، فالجواب ما ذكره. لكن لو استفتانا، لم نفته به، لاحتمال أنه كان محرما بالحج وإن كان هذا الحلق يقع في غير أوانه. وهذا، كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره، لا يفتى صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة. فلو ذبح، لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة، وكذا لو تقابلت دابتان لشخصين على شاهق، وتعذر مرورهما، لا يفتى أحدهما بإهلاك دابة الآخر، لكن لو فعل، خلص دابته، ولزمه قيمة دابة صاحبه، واختار الغزالي قول ابن الحداد. ووجهه الشيخ أبو علي: بأن الحلق في غير وقته، يباح بالعذر، كمن به أذى من رأسه، فضرر الاشتباه لو لم يحلق أكثر، فإنه يفوت الحج، وسواء أفتيناه بما قاله ابن الحداد، أم لم نفته، ففعل، لزمه دم، لانه إن كان محرما بحج، فقد حلق في غير وقته، وإن كان بعمرة، فقد تمتع، فيريق دما عن الواجب عليه، ولا يعين الجهة كما في الكفارة. فإن كان معسرا لا يجد دما ولا طعاما، صام عشرة أيام كصوم المتمتع. فإن كان الواجب دم المتمتع، فذاك، وإن كان دم الحلق، أجزأه ثلاثة أيام، الباقي تطوع. ولا يعنى الجهة في صوم الثلاثة، ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة. ولو اقتصر على صوم ثلاثة، هل تبرأ ذمته ؟ مقتضى كلام الشيخ أبي علي: أنه لا تبرأ. قال الامام: ويحتمل أن تبرأ، وعبر الغزالي في الوسيط عن هذين بوجهين. ويجزئه الصوم مع وجود(2/342)
الطعام، لانه لا مدخل للطعام في التمتع. وفدية الحلق على التخيير. ولو أطعم، هل تبرأ ذمته ؟ فيه كلاما الشيخ والامام. هذا كله إذا استجمع الرجل شروط وجوب دم التمتع، فإن لم يستجمعها، كالمكي، لم يجب الدم، لان دم التمتع مفقود، والاصل، عدم الحلق. وإذا جوز أن يكون إحرامه أولا بالقران، فهل يلزمه دم آخر مع الدم الذي وصفناه ؟ فيه الوجهان السابقان. الحال الثالث: أن يعرض الشك بعد الطواف والوقوف. فإن أتى ببقية أعمال الحج، لم يحصل له حج ولا عمرة. أما الحج، فلجواز أنه كان محرما بعمرة، فلا ينفعه الوقوف. وأما العمرة، فلجواز أنه كان محرما بحج، ولم يدخل عليه العمرة. فإن نوى القران، ولبى، وأتى بأعمال القران، فإجزاء العمرة يبنى على أنها، هل تدخل على الحج بعد الوقوف ؟ ثم قياس المذكور في الحال السابق. ثم لو أتم أعمال العمرة، وأحرم بالحج، وأتى بأعماله مع الوقوف، أجزأه الحج، وعليه دم كما سبق. ولو أتم أعمال الحج، ثم أحرم بعمرة، وأتى بأعمالها، أجزأته العمرة. فرع لو تمتع بالعمرة إلى الحج، فطاف للحج طواف الافاضة، ثم بان له أنه كان محدثا في طواف العمرة، لم يصح طوافه ذلك، ولا سعيه بعده، وبان أن حلقه وقع في غير وقته، ويصير بإحرامه بالحج مدخلا الحج على العمرة قبل الطواف، فيصير قارنا، ويجزئه طوافه وسعيه في الحج عن الحج، وعليه دمان، دم القران، ودم الحلق. وإن بان أنه كان محدثا في طواف الحج، توضأ وأعاد الطواف والسعي، وليس عليه إلا دم التمتع إذا استجمعت شروطه. فلو شك في أي الطوافين كان حدثه، فعليه إعادة الطواف والسعي. فإذا أعادهما، صح حجه وعمرته، وعليه دم، لانه قارن أو متمتع، وينوي بإراقته(2/343)
الواجب عليه، ولا تعين الجهة. وكذا لو لم يجد الدم فصام. والاحتياط: أن يريق دما آخر، لاحتمال أنه حالق قبل الوقت. فلو لم يحلق في العمرة، وقلنا: الحلق استباحة محظور، فلا حاجة إليه. وكذا لا يلزمه عند تبين الحدث في طواف العمرة، إلا دم واحد. ولو كانت المسألة بحالها، لكن جامع بعد العمرة، ثم أحرم بالحج، فهذه المسألة تفرع على أصلين. أحدهما: جماع الناسي، هل يفسد النسك ويجب الفدية كالعمد ؟ فيه قولان. الثاني: إذا أفسد العمرة بجماع، ثم أدخل الحج عليها، هل يدخل ويصير محرما بالحج ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: يصير محرما بالحج، وبه قال ابن سريج، والشيخ أبو زيد. فعلى هذا، هل يكون الحج صحيحا مجزءا ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لان المفسد متقدم. وأصحهما: لا. فعلى هذا، هل ينعقد فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد ؟ وجهان. أحدهما: ينعقد صحيحا ثم يفسد، كما لو أحرم مجامعا. وأصحهما: ينعقد فاسدا. ولو انعقد صحيحا، لم يفسد، إذ لم يوجد بعد انعقاده مفسد. فإن قلنا: ينعقد فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد، مضى في النسكين وقضاهما. وإن قلنا: ينعقد صحيحا ولا يفسد، قضى العمرة دون الحج. وعلى الاوجه الثلاثة: يلزمه دم القران، ولا يجب للافساد إلا بدنة واحدة، كذا قاله الشيخ أبو علي. وحكى الامام: وجهين آخرين، إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا. أحدهما: يلزمه بدنة أخرى، لفساد الحج. والثاني: يلزمه البدنة للعمرة، وشاة للحج، كما لو جامع، ثم جامع. إذا عرفت هذين الاصلين، فانظر، إن كان الحدث في طواف العمرة، فالطواف والسعي فاسدان، والجماع واقع قبل التحلل، لكن لا يعلم كونه قبل التحلل، فهل يكون كالناسي ؟ فيه طريقان. أحدهما: نعم، وبه قطع الشيخ أبو علي. والثاني: لا. فإن لم تفسد العمرة به، صار قارنا وعليه دم للقران، ودم للحلق قبل وقته إن كان حلق كما سبق. وإن أفسدنا العمرة، فعليه للافساد بدنة، وللحلق شاة. وإذا أحرم بالحج، فقد أدخله على عمرة فاسدة،(2/344)
فإن لم يدخل، فهو في عمرته كما كان، فيتحلل منها ويقضيها. وإن دخل وقلنا بفساد الحج، فعليه بدنة للافساد، ودم للحلق قبل وقته، ودم للقران، ويمضي في فاسدهما ثم يقضيهما. وإن قال: كان الحدث قبل طواف الحج، فعليه إعادة الطواف والسعي، وقد صح نسكاه، وليس عليه إلا دم التمتع. وإن قال: لا أدري في أي الطوافين كان، أخذ في كل حكم باليقين، فلا يتحلل ما لم يعد الطواف والسعي، لاحتمال أن حدثه كان في طواف الحج، ولا يخرج عن عهدة الحج والعمرة، إن كانا واجبين عليه، لاحتمال كونه محدثا في طواف العمرة، وتأثير الجماع في إفساد النسكين على المذهب، فلا تبرأ ذمته بالشك. وإن كان متطوعا، فلا قضاء، لاحتمال أن لا فساد، وعليه دم إما للتمتع إن كان الحدث في طواف الحج. وإما للحلق إن كان في طواف العمرة. ولا تلزمه البدنة لاحتمال أنه لم يفسد العمرة، لكن الاحتياط ذبح بدنة وشاة إذا جوزنا إدخال الحج على العمرة الفاسدة، لاحتمال أنه صار قارنا بذلك. هذا آخر المقدمة. فإذا تعذرت معرفة إحرام زيد، فطريقان. أحدهما: يكون عمرو كمن نسي ما أحرم به. وفيه القولان: القديم والجديد. والطريق الثاني وهو المذهب، وبه قال الاكثرون: لا يتحرى بحال، بل ينو القران. وحكوه عن نصه في القديم. والفرق، أن الشك في مسألة النسيان وقع في فعله، فله سبيل إلى التحري، بخلاف إحرام زيد. فرع هذا الذي ذكرناه من الاحوال الثلاثة لزيد، هو فيما إذا أحرم عمرو في الحال بإحرام كإحرام زيد. أما لو علق إحرامه فقال: إذا أحرم زيد، فأنا محرم، فلا يصح إحرامه، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنا محرم. هكذا نقله صاحب التهذيب وغيره. ونقل في المعتمد في صحة الاحرام المعلق بطلوع الشمس ونحوه وجهين. وقياس تجويز تعليق أصل الاحرام بإحرام الغير، تجويز هذا، لان التعليق موجود في الحالين، إلا أن هذا تعليق بمستقبل، وذلك تعليق بحاضر، وما يقبل التعليق من العقود، يقبلهما جميعا. قلت: قال الروياني: لو قال أحرمت كإحرام زيد وعمرو، فإن كانا محرمين(2/345)
بنسك متفق، كان كأحدهما. وإن كان أحدهما بعمرة، والآخر بحج، كان هذا المعلق قارنا، وكذا إن كان أحدهما قارنا. قال: ولو قال: كإحرام زيد الكافر، وكان الكافر قد أتى بصورة إحرام، فهل ينعقد له ما أحر به الكافر، أم ينعقد مطلقا ؟ وجهان، وهذا ضعيف أو غلط، بل الصواب انعقاده مطلقا. قال الروياني: قال أصحابنا: لو قال: أحرمت يوما أو يومين، انعقد مطلقا كالطلاق. ولو قال: أحرمت بنصف نسك، انعقد بنسك كالطلاق. وفيما نقله، نظر. والله أعلم. فصل في سنن الاحرام من سننه: الغسل إذا أراده. يستوي في استحبابه، الرجل، والصبي، والحائض، والنفساء. ولو أمكن الحائض المقام بالميقات حتى تطهر، فالافضل أن تؤخر الاحرام حتى تطهر، فتغتسل ليقع إحرامها في أكمل أحوالها. وحكي قول أن: الحائض والنفساء، لا يسن لهما الغسل، وهو شاذ ضعيف. وإذا اغتسلتا، نوتا. ولامام الحرمين في نيتهما احتمال. فإن عجز المحرم عن الماء، تيمم، نص عليه في الام. وذكرنا في غسل الجمعة(2/346)
احتمالا للامام، أنه لا تيمم، وذاك عائد هنا. وإذا وجد ماء لا يكفيه للغسل، توضأ، قاله في التهذيب. قلت: هذا الذي قاله في التهذيب قاله أيضا المحاملي. فإن أراد أنه يتوضأ، ثم يتيمم، فحسن. وإن أراد الاقتصار على الوضوء، فليس بجيد لان المطلوب هو الغسل، فالتيمم يقوم مقامه دون الوضوء. والله أعلم. ويسن الغسل للحاج في مواطن. أحدها: عند الاحرام. والثاني: لدخول مكة. والثالث: للوقوف بعرفة. والرابع: للوقوف بمزدلفة بعد الصبح يوم النحر. والخامس، والسادس، والسابع: ثلاثة أغسال لرمي جمار أيام التشريق. وهذه الاغسال، نص عليها الشافعي، رحمة الله عليه، قديما وجديدا. ويستوي في استحبابها، الرجل والمرأة. وحكم الحائض ومن لم يجد ماء، كما سبق في غسل الاحرام. وزاد في القديم ثلاثة أغسال: لطواف الافاضة، والوداع، وللحلق، ولم يستحبه لرمي جمرة العقبة، اكتفاء بغسل العيد، ولان وقته متسع، بخلاف رمي أيام التشريق. قلت: قال الشافعي رحمه الله في الام: أكره ترك الغسل للاحرام. وهذا الذي ذكره في الغسل الرابع: أنه للوقوف بمزدلفة، هو الذي ذكره الجمهور، وكذا نص عليه في الام. وجعل المحاملي في كتبه، وسليم الرازي، والشيخ نصر المقدسي، الغسل الرابع للمبيت بالمزدلفة، ولم يذكروا غسل الوقوف بها. والله أعلم. فرع يستحب أن يتأهب للاحرام بحلق العانة، ونتف الابط، وقص(2/347)
الشارب، وقلم الاظفار، وغسل الرأس بسدر أو خطمي ونحوه. فرع يستحب أن يتطيب للاحرام. وسواء الطيب الذي يبقى له أثر وجرم بعد الاحرام، والذي لا يبقى، وسواء الرجل والمرأة، هذا هو المذهب. وحكي وجه: أن التطيب مباح، ليس بمستحب. وقول: أنه لا يستحب للنساء بحال. ووجه: أنه يحرم عليهن التطيب بما تبقي عينه. ثم إذا تطيب، فله إستدامته بعد الاحرام، بخلاف المرأة إذا تطيبت ثم لزمتها عدة، تلزمها إزالة الطيب في وجه، لان العدة حق آدمي، فالمضايقة فيه أكثر. ولو أخذ الطيب من موضعه بعد الاحرام ورده إليه، أو إلى موضع آخر، لزمه الفدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو انتقل من موضع إلى موضع آخر بالعرق، فالاصح: أنه لا شئ عليه. والثاني: عليه الفدية إن تركه. هذا كله في تطييب البدن. وفي تطييب إزار الاحرام وردائه وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز كالبدن. والثاني: التحريم، لانه يلبس مرة بعد أخرى. ووجه ثالث: إن بقي عينه بعد الاحرام، لم يجز، وإلا، جاز. وهذا الخلاف، فيمن قصد تطييب الثوب. أما من طيب بدنه فتعطر ثوبه تبعا، فلا بأس بلا خلاف. فإن جوزنا تطييب الثوب للاحرام، فلا بأس باستدامة ما عليه بعد الاحرام، كالبدن. فلو نزعه ثم لبسه، لزمه الفدية على الاصح كما لو أخذ الطيب من بدنه، ثم رده إليه، أو ابتدأ لبس ثوب مطيب. فرع يستحب للمرأة أن تخضب يديها إلى الكوعين بالحناء قبل الاحرام، وتمسح وجهها أيضا بشئ من الحناء لتستر البشرة، فإنها تؤمر بكشفهما، ولا فرق في استحباب الخضاب للمحرمة بين المزوجة وغيرها. وأما في غير الاحرام، فيستحب للمزوجة الخضاب، ويكره لغيرها. وحيث استحببناه، فإنما يستحب تعميم اليد دون النقش، والتسويد، والتطريف، وهو خضب أطراف(2/348)
الاصابع. ويكره لها الخضاب بعد الاحرام. قلت: سواء في استحباب الخضاب، العجوز والشابة. ولا تختضب الخنثى، كما لا يختضب الرجل. والله أعلم. فرع فإذا أراد الاحرام، نزع المخيط، ولبس إزارا ورداء ونعلين. ويستحب أن يكون الازار والرداء أبيضين جديدين، وإلا فمغسولين، ويكره المصبوغ. فرع يستحب أن يصلي قبل الاحرام ركعتين. فإن أحرم في وقت فريضة فصلاها، أغنته عن ركعتي الاحرام. وإن كان في وقت الكراهة، لم يصلهما على الاصح. قلت: والمستحب، أن يقرأ فيهما: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. قال أصحابنا: فإن كان في الميقات مسجد، استحب أن يصليهما فيه. والله أعلم. فرع فإذا صلى، نوى ولبى. وفي الافضل قولان. أظهرهما: أن ينوي ويلبي حين تنبعث به دابته إلى صوب مكة، إن كان راكبا، أو حين يجوجه إلى(2/349)
الطريق، إن كان ماشيا. والثاني: أن ينوي ويلبي ذقب الصلاة وهو قاعد، ثم يسير. قلت: وعلى القولين: يستحب أن يستقبل القبلة عند الاحرام. والله أعلم. فرع السنة، أن يكثر من التلبية في دوام الاحرام. وتستحب قائما، وقاعدا، وراكبا، وماشيا، وجنبا، وحائضا. ويتأكد استحبابها، في كل صعود، وهبوط، وحدوث أمر، من ركوب أو نزول، أو اجتماع رفاق، أو فراغ من صلاة، وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر. وتستحب التلبية في المسجد الحرام، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فإنها مواضع نسك. وفي سائر المساجد قولان. الجديد: يلبي. والقديم: لا يلبي، لئلا يشوش على المصلين والمتعبدين. ثم قال الجمهور: القولان في أصل التلبية، فإن استجبناهما، استحببنا رفع الصوت بها، وإلا، فلا. وجعلهما إمام الحرمين في استحباب رفع الصوت، ثم قال: إن لم تستحب رفعه في سائر المساجد، ففي الرفع في المساجد الثلاثة، وجهان. وهل تستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده ؟ قولان. الجديد: لا، لان لهما أذكارا. والقديم: يستحب. ولا يجهر بها، ولا يلبي في طوافي الافاضة والوداع بلا خلاف، لخروج وقت التلبية. ويستحب للرجل رفع صوته بالتلبية، بحيث لا يضر بنفسه، ولا تجهر بها المرأة، بل تقتصر على إسماع(2/350)
نفسها. قال الروياني: فإن رفعت صوتها، لم يحرم، لانه ليس بعورة على الصحيح. قلت: لكن يكره، نص عليه الدارمي. ويستحب أن يكون صوت الرجل في صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب التلبية دون صوته بها. والله أعلم. ويستحب للملبي، أن لا يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل يكررها، وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك. ويجوز كسر همزة - إن - وفتحها. قلت: الكسر أصح وأشهر. والله أعلم. فإن زاد على هذه التلبية، لم يكره. ويستحب إذا رأى شيئا يعجبه، أن يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة. ويستحب إذا فرغ من التلبية، أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ به من النار، ثم يدعو بما أحب، ولا يتكلم في أثناء تلبيته بأمر، أو نهي أو غيرهما لكن لو سلم عليه، رد، نص عليه.(2/351)
قلت: ويكره التسليم عليه في حال التلبية. والله أعلم. ومن لا يحسن التلبية بالعربية، يلبي بلسانه. باب دخول مكة زادها الله شرفا وما يتعلق به
السنة أن يدخل المحرم بالحج مكة قبل الوقوف بعرفة. ولدخوله سنن. منها: الغسل بذي طوى، وأن يدخل من ثنية كداء - بفتح الكاف(2/352)
والمد - وهي بأعلى مكة. وإذا خرج، خرج من ثنية كدى - بضم الكاف - بأسفل مكة. والذي يشعر به كلام الاكثرين: أنها بالمد أيضا. ويدل عليه أنهم كتبوها بالالف، ومنهم من قالها بالياء. قلت: الصواب الذي أطبق عليه المحققون من أهل الضبط: أن الثنية السفلى - بالقصر وتنوين الدال - ولا اعتداد بشياع خلافه عند غيرهم. وأما كتابته بالالف، فليست ملازمة للمد. والثنية: الطريق الضيق بين جبلين، وهذه الثنية عند جبل قعيقعان. والله أعلم. قال الاصحاب: وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام. فأما الآتي من غيرها، فلا يؤمر أن يدور حول مكة ليدخل من ثنية كداء، وكذا الغسل بذي طوى. قالوا: وإنما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الثنية، اتفاقا، لا قصدا. ومقتضى هذا: أن لا يتعلق نسك بالدخول منها للآتي من جهة المدينة. وكذا قاله الصيدلاني، وقال الشيخ أبو محمد: ليست الثنية على طريق المدينة، بل عدل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فيستحب الدخول منها لكل آت. ووافق إمام الحرمين الجمهور، وسلم للشيخ بأن موضع الثنية على ما ذكره.(2/353)
قلت: الصحيح: أن يستحب الدخول من الثنية لكل آت من أي جهة. والله أعلم. فرع هل الافضل دخول مكة ماشيا، أم راكبا ؟ وجهان. فإن دخل ماشيا، فقيل: الاولى أن يكون حافيا. قلت: الاصح: ماشيا أفضل، وله دخول مكة ليلا ونهارا بلا كراهة، فقد ثبتت السنة فيهما. والاصح: أن النهار أفضل، وبه قال أبو إسحق، واختاره صاحب التهذيب وغيره. وقال القاضي أبو الطيب وغيره: هما سواء في الفضيلة. والله أعلم. فرع يستحب إذا وقع بصره على البيت، أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه، أو اعتمره، تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا. ويضيف إليه: اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها سؤال المغفرة. واعلم أن بناء البيت رفيع يرى قبل دخول المسجد، في موضع يقال له: رأس الردم، إذا دخل من أعلى مكة. وحينئذ يقف ويدعو بما ذكرنا. فإذا فرغ من الدعاء، قصد المسجد ودخله من باب بني شيبة، وهذا مستحب لكل قادم بلا(2/354)
خلاف. ويبتدئ عند دخوله بطواف القدوم، ويؤخر اكتراء منزله، وتغيير ثيابه، إلى أن يفرع طوافه. فلو دخل والناس في مكتوبة، صلاها معهم أولا. وكذا لو أقيمت الجماعة وهو في أثناء الطواف، قدم الصلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهارا وهي جميلة، أو شريفة لا تبرز للرجال، أخرت الطواف إلى الليل، وليس في حق من دخل مكة بعد الوقوف، طواف قدوم، إنما هو لمن دخلها أولا. ويسمى طواف القدوم أيضا، طواف الورود، وطواف التحية، لانه التحية البقعة. ويأتي به كل من دخلها، سواء كان تاجرا، أو حاجا، أو غيرهما. ولو كان معتمرا فطاف للعمرة، أجزأه عن طواف القدوم، كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد. فصل من قصد مكة لا لنسك، له حالان. أحدهما: أن لا يكون ممن يتكرر دخوله، بأن دخلها لزيارة، أو تجارة، أو رسالة، وكالمكي إذا دخلها عائدا من سفره، هل يلزمه أن يحرم بالحج، أو العمرة ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: يلزمه، وهو الاظهر عند المسعودي، وصاحب التهذيب وغيرهما في آخرين، واختاره صاحب(2/355)
التلخيص. والثاني: يستحب، وهو الاظهر عند الشيخ أبي حامد ومتابعيه، والشيخ أبي محمد والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالاستحباب. قلت: الاصح في الجملة: استحبابه، وقد صححه الرافعي في المحرر. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون ممن يتكرر دخوله، كالحطابين والصيادين ونحوهم، فإن قلنا في الحال الاول: لا يلزمه، فهنا أولى، وإلا، فالمذهب: أنه لا يلزمه أيضا. وقيل: قولان. وفي وجه ضعيف: يلزمهم الاحرام كل سنة مرة. وحيث قلنا بالوجوب، فله شروط. أحدها: أن يجئ الداخل من خارج الحرم، فأما أهل الحرم، فلا إحرام عليهم بلا خلاف. الثاني: أن لا يدخلها لقتال، ولا خائفا. فإن دخلها لقتال باغ، أو قاطع طريق، أو غيرهما، أو خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه الظهور لاداء النسك، لم يلزمه الاحرام بلا خلاف. الثالث: أن يكون حرا. فالعبد لا إحرام عليه. وقيل: إن أذن سيده في الدخول محرما، فهو كحر، والمذهب: الاول. وإذا اجتمعت شرائط الوجوب، فدخل غير محرم، فطريقان. أصحهما وبه قطع الاكثرون: لا قضاء عليه. والثاني: على وجهين. وقيل: قولين. أحدهما: هذا. والثاني: يلزمه القضاء، تداركا للواجب. وسبيله على هذا، أن يخرج ثم يعود محرما. وعللوا عدم القضاء بعلتين. إحداهما: أنه لا يمكن القضاء، لان الدخول الثاني يقتضي إحراما آخر،(2/356)
فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر يوما. وفرع صاحب التلخيص على هذه العلة، أنه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين، ثم صار منهم، قضى، لتمكنه. وربما نقل عنه: أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم. والعلة الثانية وهي الصحيحة، وبها قال العراقيون والقفال: أنه تحية للبقعة، فلا تقضى، كتحية المسجد. وأبطلوا العلة الاولى. قال ابن كج تفريعا على قول الوجوب: إنه إذا انتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة، لزمه أن يحرم من الميقات. فلو أحرم بعد مجاوزته، فعليه دم، بخلاف ما لو ترك الاحرام من أصله. وهل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه ؟ قال بعض الشارحين: نعم، والمراد بمكة في هذا، الحرم. ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره. قلت: الصواب: القطع بأن الحرم كمكة في هذا. وقد اتفق الاصحاب عليه، وصرح به خلائق، منهم، صاحب الحاوي والمحاملي في المقنع وغيره، والجرجاني في التحرير والشاشي في المستظهري والروياني في الحلية وغيرهم. وعجب قول الرافعي: قال بعض الشارحين، مع شهرة هذه الكتب. والله أعلم.
فصل في أحكام الطواف
للطواف بأنواعه وظائف واجبة، وأخرى مسنونة. فالواجب: ثمانية، مختلف في بعضها. الاول: الطهارة عن الحدث، والنجس، وستر العورة، كما في(2/357)
الصلاة. فلو طاف محدثا، أو عاريا، أو على بدنه، أو ثوبه، نجاسة غير معفو عنها، لم يصح طوافه، وكذا لو كان يطأ في مطافه النجاسة. ولم أر للائمة تشبيه مكان الطواف بالطريق في حق المتنفل ماشيا، أو راكبا، وهو تشبيه لا بأس به. ولو أحدث في أثناء طوافه عمدا، لزمه الوضوء. وهل يبني على ما مضى من طوافه، أم يستأنف ؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: له البناء. والثاني: يجب الاستئناف. فلو سبقه الحدث، فإن قلنا: يبني العامد، فهذا أولى، وإلا فقولان، أو وجهان. الاصح: البناء. هذا كله إذا لم يطل الفصل. فإن طال، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وحيث لا نوجب الاستئناف، نستحبه. الواجب الثاني: الترتيب، وهو أن يبتدئ من الحجر الاسود، فيحاذيه(2/358)
بجميع بدنه، ويمر تلقاء وجهه والبيت على يساره. فلو جعل البيت على يمينه، ومر من الحجر الاسود إلى الركن اليماني، لم يصح طوافه. فلو لم يجعله على يمينه ولا على يساره، بل استقبله بوجهه معترضا، أو جعل البيت على يمينه، ومشى قهقرى نحو الباب، فوجهان. أصحهما: لا يصح، وهو الموافق لعبارة الاكثرين. والقياس جريان هذا الخلاف فيما لو مر معترضا مستدبرا. قلت: الصواب: القطع بأنه لا يصح الطواف في هذا الصورة، فإنه منابذ لما ورد الشرع به. والله أعلم.(2/359)
ولو ابتدأ من غير الحجر الاسود، لم يعتد بما فعله حتى ينتهي إلى الحجر الاسود، فيكون منه ابتداء الطواف. وينبغي أن يمر في الابتداء بجميع بدنه على جميع الحجر الاسود، فلا يقدم جزءا من بدنه على جزء من الحجر الاسود. فلو حاذاه ببعض بدنه، وكان بعضه مجاوزا إلى جانب الباب، فقولان. الجديد: أنه لا يعتد بتلك الطوفة. والقديم: يعتد بها. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا الخلاف وجهين، وليس كما قالا، بل هما قولان منصوصان، حكاهما الاصحاب. ولو حاذى بجميع البدن بعض الحجر دون بعضه، أجزأه، ذكره أصحابنا العراقيون. كما يجزئه أن يستقبل في الصلاة بجميع بدنه بعض الكعبة. الواجب الثالث: أن يكون خارجا بجميع بدنه عن جميع البيت. فلو مشى على الشاذروان، لم يصح طوافه، فإنه جزء من البيت. وينبغي أن يدور في(2/360)
طوافه حول الحجر وهو المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير، بينه وبين كل واحد من الركنين فتحة. وكلام كثير من الاصحاب يقتضي كون جميعه من البيت، وهو ظاهر نصه في المختصر. لكن الصحيح: أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت، قدر ست أذرع تتصل بالبيت. وقيل: ست أذرع، أو سبع. ولفظ المختصر محمول على هذا. فلو دخل إحدى الفتحتين، وخرج من الاخرى، لم يحسب له ذلك، ولا ما بعده حتى ينتهي إلى الفتحة التي دخل منها بلا خلاف. ولو لم يدخل الفتحة، وخلف القدر الذي من البيت، ثم اقتحم الجدار، وقطع الحجر على السمت، صح طوافه. قلت: الاصح: أنه لا يصح الطواف في شئ من الحجر، وهو ظاهر المنصوص، وبه قطع معظم الاصحاب تصريحا وتلويحا. ودليله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف خارج الحجر. والله أعلم. ولو كان يطوف ويمس الجدار بيده في موازاة الشاذروان أو غيره من أجزاء البيت، ففي صحة طوافه وجهان. الصحيح باتفاق فرق الاصحاب: أنه لا يصح، لان بعض بدنه في البيت، فهو كما لو كان يضع إحدى رجليه أحيانا على الشاذروان، ويقفز بالاخرى. الواجب الرابع: أن يقع الطواف في المسجد الحرام، ولا بأس بالحائل فيه بين الطائف والبيت، كالسقاية والسواري. ويجوز في أخريات المسجد، وأروقته، وعند باب المسجد من داخله، ويجوز على سطوحه إذا كان البيت أرفع بناء كما هو اليوم. فإن جعل سقف المسجد أعلى، فقد ذكر في العدة: أنه لا يجوز الطواف على سطحه. ولو صح قوله، لزم أن يقال: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - لم(2/361)
يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد. فرع لو وسع المسجد، اتسع المطاف، وقد جعلته العباسية أوسع مما كان في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أول من وسع المسجد الحرام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشترى دورا وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة. وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام، ثم وسعه عثمان بن عفإن رضي الله عنه كذلك، واتخذ له الاروقة، وكان أول من اتخذها، ثم وسعه عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي. وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا. والله أعلم. الواجب الخامس: العدد. وهو أن يطوف سبعا. الواجب السادس: مختلف فيه. وهو، أنه إذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين. وهل هما واجبتان، أم سنة ؟ قولان. أظهرهما: سنة، هذا إذا كان الطواف فرضا. فإن كان سنة، فطريقان. أحدهما: طرد القولين. والثاني: القطع بأن الصلاة سنة. وقيل: تجب الصلاة في الطواف المفروض قطعا. ويستحب أن يقرأ في الاولى بعد الفاتحة: * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثانية: * (قل هو الله أحد) *: وأن يصليها خلف المقام. فإن لم يفعل، ففي الحجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. ويجهر فيهما بالقراءة ليلا، ويسر نهارا. وإذا قلنا: هما سنة، فصلى فريضة بعد الطواف، أجزأه عنها، كتحية المسجد، نص عليه في القديم، وحكاه الامام عن الصيدلاني، لكنه استبعده.(2/362)
وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها، بجريان النيابة فيها إذ الاجير يؤديها عن المستأجر. قلت: اختلف أصحابنا في صلاة الاجير هذه، فقيل: تقع عنه. وقيل: تقع عن المستأجر، وهو الاشهر. والله أعلم. فرع ركعتا الطواف وإن أوجبناهما، فليستا بشرط في صحته، ولا ركنا منه، بل يصح بدونهما. وفي تعليل جماعة من الاصحاب، ما يقتضي اشتراطهما. قلت: الصواب: أنهما ليستا شرطا ولا ركنا. والله أعلم. ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيا، ولا يجبر تأخيرها، ولا تركها بدم، لكن حكى صاحب التتمة عن نص الشافعي رضي الله عنه: أنه إذا أخر، تستحب له إراقة دم. وقال الامام: لو مات قبل الصلاة، لم يمتنع جبرها بالدم. قلت: وإذا أراد أن يطوف طوافين أو أكثر، استحب أن يصلي عقيب كل طواف ركعتيه. فلو طاف طوافين أو أكثر بلا صلاة، ثم صلى لكل طواف ركعتيه، جاز. والله أعلم. الواجب السابع: مختلف فيه، وهو النية. وفي وجوبها في الطواف،(2/363)
وجهان. أصحهما: لا تجب، لان نية الحج تشمله. وهل يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر من طلب غريم ونحوه ؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو نام في الطواف أو بعضه على هيأة لا ينتقض الوضوء. قال الامام: هذا يقرب من صرف الطواف إلى طلب الغريم. ثم قال: ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. قلت: الاصح: صحة طوافه. والله أعلم. فرع لو حمل رجل محرما، من صبي، أو مريض، أو غيرهما، وطاف به، فإن كان الحامل حلالا، أو قد طاف عن نفسه، حسب الطواف للمحمول بشرطه، وإلا، فإن قصد الطواف عن المحمول، فثلاثة أوجه. أصحها: يقع للمحمول فقط، تخريجا على قولنا: يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر. والثاني: يقع عن الحامل فقط، تخريجا على قولنا: لا يشترط ذلك، فإن الطواف حينئذ يكون محسوبا له، فلا ينصرف عنه، بخلاف ما إذا حمل محرمين وطاف بهما وهو حلال أو محرم قد طاف، فإنه يجزئهما جميعا، لان الطواف غير محسوب للحامل، فيكون المحمولان كراكبي دابة. والثالث: يقع عنهما جميعا. ولو قصد الطواف عن نفسه، وقع عنه، ولا يحسب عن المحمول، قاله الامام، وحكى اتفاق الاصحاب عليه. قال: وكذا لو قصد الطواف لنفسه، وللمحمول. وحكى صاحب التهذيب وجهين في حصوله للمحمول، مع الحامل. ولو لم يقصد شيئا من الاقسام الثلاثة، فهو كما لو قصد نفسه أو كليهما. وسواء في الصبي المحمول، حمله وليه الذي أحرم عنه أو غيره. قلت: لو طاف المحرم بالحج معتقدا أنه محرم بعمرة، أجزأه عن الحج، كما لو طاف عن غيره، وعليه طواف، ذكره الروياني. والله أعلم. الواجب الثامن: مختلف فيه، وهو الموالاة بين الطوفات السبع، وفيها قولان. أظهرهما: أنها سنة، فلا تبطل بالتفريق الكثير. والثاني: واجبة، فتبطل بالتفريق الكثير بلا عذر. فإن فرق يسيرا أو كثيرا بعذر، فهو كما قلنا في الوضوء. قال الامام: والكثير ما يغلب على الطن تركه الطواف. ولو أقيمت المكتوبة وهو في أثناء الطواف، فالتفريق بها، تفريق بعذر. وقطع الطواف المفروض لصلاة الجنازة أو الرواتب، مكروه، إذ لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية.(2/364)
أما سنن الطواف، فخمس. الاولى: أن يطوف ماشيا، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره ليستفتي. ولو طاف راكبا بلا عذر، جاز بلا كراهة، كذا قاله الاصحاب. قال الامام: وفي القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شئ. فإن أمكن الاستيثاق، فذاك، وإلا، فإدخالها مكروه. الثانية: أن يستلم الحجر الاسود بيده في ابتداء الطواف، ويقبله، ويضع جبهته عليه. فإن منعته الزحمة من التقبيل، اقتصر على الاستلام. فإن لم يمكن، اقتصر على الاشارة باليد، ولا يشترط بالفم إلا التقبيل. ولا يقبل الركنين الشاميين، ولا يستلمهما. ويستلم الركن اليماني، ولا يقبله. ويستحب، أن(2/365)
يقبل اليد بعد استلام اليماني، وبعد استلام الحجر الاسود إذا اقتصر على استلامه للزحمة. وذكر إمام الحرمين: أنه مخير بين أن يستلم ثم يقبل اليد، وبين أن يقبل اليد، ثم يستلم. والمذهب: القطع بتقديم الاستلام، ثم تقبيلها، وبهذا قطع الجمهور. ولو لم يستلم بيده، فوضع عليه خشبة، ثم قبل طرفها، جاز. قلت: الاستلام بالخشبة ونحوها، مستحب إذا لم يتمكن من الاستلام باليد. والله أعلم. ويستحب تقبيل الحجر، واستلامه، واستلام اليماني عند محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الاوتار آكد، لانها أفضل. قلت: ولا يستحب للنساء استلام، ولا تقبيل، إلا عند خلو المطاف في الليل أو غيره. والله أعلم. الثالثة: الدعاء، فيستحب أن يقول في ابتداء الطواف: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. ويقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي(2/366)
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويدعو في جميع طوافه بما شاء. وقراءة القرآن في الطواف أفضل من الدعاء غير المأثور. وأما المأثور، فهو أفضل منها على الصحيح. وعلى الثاني: أنها أفضل منه. الرابعة: الرمل - بفتح الميم والراء - وهو الاسراع في المشي مع تقارب الخطى دون الوثوب والعدو. ويقال له: الخبب. وغلط الائمة من ظن أنه دون الخبب. ويسن الرمل في الطوفات الثلاث الاول. ويسن المشي على الهينة في الاربعة الاخيرة. ثم هل يستوعب البيت بالرمل ؟ قولان. المشهور: يستوعب. والثاني: لا يرمل بين الركنين اليمانيين. ولا خلاف أن الرمل لا يسن في كل طواف، بل فيما يسن فيه قولان. أظهرهما عند الاكثرين: إنما يسن في طواف يستعقب السعي. والثاني: يسن في طواف القدوم. فعلى القولين: لا رمل في طواف الوداع. ويرمل من قدم مكة معتمرا لوقوع طوافه مجزئا عن القدوم واستعقابه السعي. ويرمل أيضا الحاج الافقي إن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف، وإن دخلها قبل الوقوف، فهل يرمل في طواف القدوم ؟ ينظر، إن كان لا يسعى عقبه، فعلى القول الثاني: يرمل. وعلى الاول: لا يرمل، وإنما يرمل في طواف الافاضة. وإن كان يسعى عقبه، يرمل فيه على القولين. وإذا رمل فيه، وسعى بعده، فلا يرمل في طواف الافاضة إن لم يرد السعي عقبه، وكذا إن أراده على الاظهر. وإذا طاف للقدوم، وسعى بعده ولم يرمل، فهل يقضيه في طواف الافاضة ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: لا.(2/367)
ولو طاف ورمل ولم يسع، قال الاكثرون: يرمل في طواف الافاضة هنا، لبقاء السعي، والظاهر أنهم فرعوا على القول الاول، وإلا، فالقول الثاني لا يعتبر السعي. وهل يرمل المكي المنشئ حجه من مكة ؟ إن قلنا بالقول الثاني، فلا، إذ لا قدوم في حقه، وإلا، فنعم، لاستعقابه السعي. فرع لو ترك الرمل في الطوفات الثلاث، لم يقضه في الاربع الاخيرة، لان هيئتها السكينة فلا يغير. فرع القرب من البيت مستحب للطائف، ولا ينظر إلى كثرة الخطى لو تباعد. فلو تعذر الرمل مع القرب للزحمة، فإن كان يرجو فرجة، وقف ليرمل فيها، وإلا، فالمحافظة على الرمل مع البعد عن البيت أفضل، لان القرب فضيلة تتعلق بموضع العبادة، والرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة، والمتعلق بنفس العبادة أولى بالمحافظة. ألا ترى أن الصلاة بالجماعة في البيت، أفضل من الانفراد في المسجد. ولو كان في حاشية المطاف نساء، ولم يأمن ملامستهن لو تباعد، فالقرب بلا رمل أولى من البعد مع الرمل، حذرا من انتقاض الطهارة وكذا لو كان بالقرب أيضا نساء، وتعذر الرمل في جميع المطاف، لخوف الملامسة، فترك الرمل في هذه الحالة أولى. ومتى تعذر الرمل، استحب أن يتحرك في مشيه، ويرى من نفسه أنه لو أمكنه الرمل، لرمل. وإن طاف راكبا أو محمولا، قولان. أظهرهما: يرمل به الحامل ويحرك الدابة. وقيل: القولان في المحمول البالغ. ويرمل حامل الصبي قطعا. فرع ليكن من دعائه في الرمل: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا.(2/368)
الخامسة: الاضطباع. وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الايمن، وطرفيه على عاتقه الايسر، ويبقي منكبه الايمن مكشوفا. وكل طواف سن فيه الرمل، سن فيه الاضطباع، وما لا، فلا. لكن الرمل مخصوص بالطوفات الثلاث الاول، والاضطباع يعم جميعها. ويسن أيضا في السعي بين الصفا والمروة على المذهب الذي قطع به الجمهور. وحكي وجه: أنه لا يسن فيه. ولا يسن في ركعتي الطواف على الاصح، لكراهة الاضطباع في الصلاة. فعلى هذا، إذا فرغ من الطواف، أزال الاضطباع ثم صلى الركعتين، ثم أعاد الاضطباع وخرج للسعي. فرع لا ترمل المرأة، ولا تضطبع. وأما الصبي، فيضطبع على الصحيح. قلت: ومتى كان عليه طواف الافاضة، فنوى غيره عن غيره، أو عن نفسه، تطوعا، أو قدوما، أو وداعا، وقع عن طواف الافاضة، كما في واجب الحج والعمرة. ولو نذر أن يطوف، فطاف عن غيره، قال الروياني: إن كان زمن النذر معينا، لم يجز أن يطوف فيه عن غيره. وإن طاف في غيره، أو كان زمانه غير معين، فهل يصح أن يطوف عن غيره والنذر في ذمته ؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز كالافاضة. والله أعلم. فصل في السعي إذا فرغ من ركعتي الطواف، استحب أن يعود إلى(2/369)
الحجر الاسود ويستلمه، ثم يخرج من باب الصفا، ليسعى بين الصفا والمروة، فيبدأ بالصفا، ويرقى على الصفا بقدر قامة رجل، حتى يتراءى البيت، ويقع بصره عليه، فإذا رقي عليه، استقبل البيت، وهلل وكبر، وقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. ثم يدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا، ثم يعيد هذا الذكر والدعاء ثانيا، ثم يعيد الذكر ثالثا، ولا يدعو. قلت: ولنا وجه: أنه يدعو بعد الثالثة، وبه قطع الروياني، وصاحب التنبيه، والماوردي وغيرهم، وهو الصحيح. وقد صح ذلك في صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.(2/370)
ثم ينزل من الصفا، ويمشي إلى المروة، ويرقى عليها بقدر قامة رجل، ويأتي بالذكر والدعاء كما فعل على الصفا. ثم المستحب في قطع هذه المسافة، أن يمشي من الصفا على عادته حتى يبقى بينه وبين الميل الاخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ست أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يتوسط بين الميلين الاخضرين. أحدهما: في ركن المسجد. والآخر: متصل بدار العباس رضي الله عنه. ثم يمشي على عادته حتى يصعد المروة. وإذا عاد من المروة إلى الصفا مشى في موضع مشيه، وسعى في موضع رعيه أولا. ويستحب أن يقول في سعيه: رب اغفر، وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الاعز الاكرم. فرع الرقي على الصفا والمروة سنة، والواجب هو السعي بينهما، ويحصل ذلك بغير رقي، بأن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه من الصفا والمروة. وفيه وجه ضعيف: أنه يجب الرفي عليهما بقدر قامة رجل. وأما الذكر، والدعاء، والاسراع في السعي، وعدم الاسراع، فسنة. والموالاة في مرات السعي، سنة، وكذا الموالاة بين الطواف والسعي، سنة، فلو تخلل بينهما فصل طويل، لم يضر، بشرط أن لا يتخلل ركن. فلو طاف للقدوم، ثم وقف بعرفة، لم يصح سعيه بعد الوقوف، بل عليه أن يسعى بعد طواف الافاضة. وذكر في التتمة: أنه إذا طال الفصل بين مرات السعي، أو بين الطواف والسعي، ففي صحة السعي قولان وإن لم يتخلل ركن، والمذهب ما سبق. فرع في واجبات السعي وشروطه فيشترط وقوعه بعد طواف صحيح، سواء طواف القدوم والافاضة. ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع، لان طواف الوداع هو المأتي به بعد الفراغ، وإذا بقي السعي، لم يكن المأتي به طواف وداع. ولو سعى عقيب طواف القدوم، لم تستحب إعادته بعد طواف الافاضة، بل قال(2/371)
الشيخ أبو محمد: تكره إعادته. ويشترط الترتيب: وهو أن يبدأ بالصفا. فإن بدأ بالمروة، لم يحسب مروره منها إلى الصفا. قلت: ويشترط في المرة الثانية: أن يبدأ بالمروة. فلو أنه لما وصل المروة ترك العود في طريقه، وعدل إلى المسجد، وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا، لم يصح أيضا على الصحيح. وفيه وجه شاذ في البحر وغيره. والله أعلم. ويجب أن يسعى بينهما سبعا، ويحسب الذهاب بمرة، والعود بأخرى. فيبدأ بالصفا، ويختم بالمروة. وقال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وابن الوكيل، وأبو بكر الصيرفي: يحسب الذهاب والعود مرة واحدة، والصحيح ما قدمناه، وعليه العمل، ولا يشترط فيه الطهارة، ولا ستر العورة، ولا سائر شروط الصلاة. ويجوز السعي راكبا، والافضل ماشيا. فرع لو طاف أو سعى، وشك في العدد، أخذ بالاقل. ولو كان عنده أنه أتمهما، فأخبره ثقة عن بقاء شئ، لم يلزمه الاتيان به، لكن يستحب. والسعي ركن، لا يحبر بدم، ولا يتحلل بدونه. قلت: الافضل: أن يتحرى لسعيه زمن خلو المسعى. وإذا عجز عن السعي الشديد للزحمة، فليتشبه بالساعي كما قلنا في الرمل. والله أعلم. والمرأة تمشي، ولا تسعى. قلت: وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل والله أعلم. فصل في الوقوف وما يتعلق به له مقدمة. فيستحب للامام إذا لم يحصر بنفسه الحج، أن ينصب أميرا على الحجيج، فيطيعونه فيما ينوبهم. ويستحب للحجيج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف. فمن كان منهم مفردا أو قارنا، أقام بعد طواف القدوم على إحرامه إلى أن يخرج إلى عرفة. ومن كان متمتعا، طاف وسعى وحلق، فيحل من عمرته، ثم يهل بالحج من مكة على ما سبق في صورة التمتع، وكذا يفعل المقيم بمكة. ويستحب للامام أو(2/372)
منصوبه أن يخطب بمكة في اليوم السابع من ذي الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة، يأمر الناس بالغدو فيها إلى منى، ويخبرهم بما بين أيديهم من المناسك، ويأمر المتمتعين أن يطوفوا للوداع قبل الخروج. ولو كان السابع يوم جمعة، خطب لها وصلاها، ثم خطب هذه الخطبة، لان السنة فيها التأخير عن الصلاة. ثم يخرج بهم في اليوم الثامن، وهو يوم التروية إلى منى، ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح، بحيث يصلون الظهر بمنى، هذا هو المشهور. وفي قول: يصلون الظهر بمكة، ثم يخرجون، فإن كان يوم التروية يوم جمعة، استحب أن يخرجوا قبل طلوع الفجر، لان السفر يوم الجمعة إلى حيث لا تصلى الجمعة، حرام أو مكروه كما سبق، وهم لا يصلون الجمعة بمنى. وكذا لو كان يوم عرفة يوم جمعة، لا يصلونها، لان الجمعة شرطها دار الاقامة. قال الشافعي رضي الله عنه: فإن بني بها قرية، واستوطنها أربعون من أهل الكمال، أقاموا الجمعة والناس معهم. فإذا خرجوا إلى منى، صلوا بها الصلوات مع الامام، وباتوا بها. وهذا(2/373)
المبيت، سنة، وليس بنسك مجبور بالدم. فإذا طلعت الشمس يوم عرفة على ثبير، ساروا إلى عرفات. فإذا وصلوا نمرة، ضربت بها قبة الامام، فإذا زالت الشمس، ذهب الامام والناس إلى مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فيخطب فيه الامام خطبتين، يبين لهم في الاولى ما بين أيديهم من المناسك، ويحرهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف، ويخفف هذه الخطبة، لكن لا يبلغ تخفيفها تخفيف الثانية. وإذا فرغ منها، جلس بقدر سورة (الاخلاص) ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، ويأخذ المؤذن في الاذان، ويخفف الخطبة يحيث يفرغ منها مع فراغ المؤذن من الاقامة. وقيل: مع فراغه من الاذان. قلت: الاصح: مع فراغه من الاذان، وبه قطع الجمهور. والله أعلم. ثم ينزل فيصلي بالناس الظهر، ثم يقيم المؤذن فيصلي بهم العصر جمعا. فإن كان الامام مسافرا، فالسنة له القصر، ولا يقصر المكيون والمقيمون حولها. فإذا سلم الامام قال: أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر. وهل يختص الجمع بالمسافرين من الحجيج، أم يجوز لغيرهم ؟ فيه كلام تقدم في صلاة المسافر. وأشار جماعة: إلى أنه يخطب ويصلي بنمرة. وصرح الجمهور: بأنه يخطب ويصلي بمسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كما سبق. فرع في الحج أربع خطب مسنونة إحداها: بمكة في اليوم السابع. والثانية: يوم عرفة، وقد ذكرناهما. والثالثة: يوم النحر بمنى. والرابعة: يوم النفر الاول بمنى. ويخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك وأحكامها إلى الخطبة الاخرى، وكلهن أفراد، وبعد صلاة الظهر، إلا يوم عرفة، فإنها خطبتان، وقبل الصلاة.(2/374)
فرع ثم بعد الصلاتين، يذهبون إلى الموقف. والسنة، أن يقفوا عند الصخرات، ويستقبلوا الكعبة - والوقوف راكبا أفضل على الاظهر. والثاني: هو والماشي سواء - ويذكروا الله تعالى ويدعوه حتى تغرب الشمس، ويكثروا التهليل فإذا غربت الشمس، دفعوا من عرفات منصرفين إلى مزدلفة - ويؤخروا المغرب ليصلوها مع العشاء بمزدلفة، ويذهبوا بسكينة ووقار. فمن وجد فرجة أسرع. فإذا وصلوا المزدلفة، مع بهم الامام المغرب والعشاء. وحكم الاذان والاقامة، سبق في باب الاذان. ولو انفرد بعضهم بالجمع بعرفة، أو بمزدلفة، أو صلى إحدى الصلاتين مع الامام، والاخرى وحده، جاز. ويجوز أن يصل المغرب بعرفة، وفي الطريق. قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يتنفلون بين الصلاتين إذ جمعوا، ولا على إثرهما. فأما بينهما، فلمراعاة الموالاة. وأما على إثرهما، فقال ابن كج: لا يتنفل الامام، لانه متبوع. فلو اشتغل بالنفل، لاقتدى به الناس، وانقطعوا عن المناسك. وأما المأموم، ففيه وجهان. أحدهما: لا يتنفل كالامام. والثاني: الامر واسع له، لانه غير متبوع. هذا في النافلة دون الرواتب. ثم أكثر الاصحاب، أطلقوا القول بتأخير الصلاتين إلى المزدلفة. وقيل: يؤخرهما ما لم يخش فوت وقت الاختيار للعشاء. فإن خافه، لم يؤخر، بل يجمع بالناس في الطريق. والسنة: أن ينصرفوا من عرفة إلى المزدلفة عن طريق المأزمين، وهو الطريق بين الجبلين. فرع من مكة إلى منى، فرسخان. ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات، منها إلى كل واحدة منهما فرسخ. قلت: المختار: أن المسافة بين مكة ومنى، فرسخ فقط. كذا قاله جمهور العلماء المحققين، منهم الازرقي، وغيره ممن لا يحصى. والله أعلم. فرع في بيان الوقوف بعرفة المعتبر فيه، الحضور بعرفة لحظة، بشرط كونه أهلا للعبادة، سواء حضرها ووقف، أو مر بها. وفي وجه: لا يكفي المرور المجرد، وهو شاذ. ولو حضر بها، ولم يعلم أنها عرفة، أو حضر مغمى عليه، أو نائما، أو دخلها قبل وقت الوقوف، ونام حتى خرج الوقت، أجزأه على الصحيح.(2/375)
وفي الجميع وجه: أنه لا يجزئه قال في التتمة: هو مبني على أن كل ركن من أركان الحج يجب إفراده بالنية. قلت: الاصح عند الجمهور: لا يصح وقوف مغمى عليه. والله أعلم. ولو حضر في طلب غريم، أو دابة شاردة، أجزأه قطعا، قال الامام: ولم يذكروا فيه الخلاف السابق في صرف الطواف إلى جهة أخرى. ولعل الفرق، أن الطواف قربة مستقلة، قال: ولا يمتنع طرد الخلاف. ولو حضر مجنون، لم يجزئه، قال في التتمة: لكن يقع نفلا، كحج الصبي الذي لا يميز. ومنهم من طرد في الجنون الوجه المنقول في الاغماء. فرع في أي موضع وقف من عرفة، أجزأه. وأما حد عرفة، فقال الشافعي رحمة الله عليه: هي ما جاوز حد عرنة - بضم العين وفتح الراء وبعدها نون - إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وليس وادي عرنة، من عرفات، وهو على منقطع عرفات مما يلي منى ومسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، صدره من عرنة، وآخره من عرفات. ويميز بينهما صخرات كبار فرشت هناك، فمن وقف في صدره، فليس بواقف في عرفات. قال في التهذيب: وهناك يقف الامام للخطبة والصلاة. وأما نمرة، فقال صاحب الشامل وطائفة: هي من عرفات. وقال الاكثرون: ليست من عرفات، بل بقربها، وجبل الرحمة في وسط عرصة عرفات، وموقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده معروف. قلت: الصواب: أن نمرة، ليست من عرفات. وأما مسجد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الشافعي رحمه الله: إنه ليس من عرفة، فلعله زيد بعده في آخره. وبين هذا المسجد وموقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصخرات نحو(2/376)
ميل. قال إمام الحرمين: ويطيف بمنعرجات عرفات جبال، وجوهها المقبلة من عرفة. والله أعلم. فرع وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، ولنا وجه: أنه يشترط كون الوقوف بعد الزوال، وبعد مضي زمان إمكان صلاة الظهر، وهذا شاذ ضعيف جدا. فلو اقتصر على الوقوف ليلا، صح حجه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: في صحته قولان. ولو اقتصر على الوقوف نهارا، وأفاض قبل الغروب. صح وقوفه بلا خلاف. ثم إن عاد إلى عرفة وبقي بها حتى غربت الشمس، فلا دم. وإن لم يعد حتى طلع الفجر، أراق دما. وهل هو واجب أو مستحب ؟ فيه ثلاثة طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: مستحب. والثاني: واجب. والطريق الثاني: مستحب قطعا. والثالث: إن أفاض مع الامام، فمعذور، وإلا، فعلى القولين. وإذا قلنا بالوجوب، فعاد ليلا، فلا دم على الاصح. فرع إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة، فإما أن يغلطوا بالتأخير، وإما بالتقديم. الحال الاول: إن غلطوا بالتأخير، فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة،(2/377)
أجزأهم، وتم حجهم، ولا قضاء. هذا إذا كان الحجيج على العادة. فإن قلوا، أو جاءت شرذمة يوم النحر فظنت أنه يوم عرفة، وأن الناس قد أفاضوا، فوجهان. أحدهما، يدركون، ولا قضاء. وأصحهما: لا يدركون، فيجب القضاء. وإذا لم يجب القضاء، فلا فرق بين أن تبين الحال بعد يوم الوقوف، أو في حال الوقوف. فلو بان قبل الزوال، فوقفوا بعده، قال في التهذيب: المذهب: أنه لا يجزئهم، لانهم وقفوا على يقين الفوات، وهذا غير مسلم، لان عامة الاصحاب قالوا: لو قامت بينة برؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة لا يتمكنون من الوقوف بالليل، وقفوا من الغد، وحسب لهم، كما لو قامت البينة بعد الغروب اليوم الثلاثين من رمضان على رؤية الهلال ليلة الثلاثين، نص على أنهم يصلون من الغد العيد. فإذا لم يحكم بالفوات لقيام البينة ليلة العاشر، لزم مثله في اليوم العاشر. هذا إذا شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة فردت شهادتهم، فيلزم الشهود الوقوف في التاسع عندهم وإن كان الناس يقفون بعدهم. أما إذا غلطوا فوقفوا في الحادي عشر، فلا يجزئهم بحال. الحال الثاني: أن يغلطوا بالتقديم، فيقفوا في الثمن. فإن بان الحال قبل فوات وقت الوقوف، لزمهم الوقوف في وقته. وإن بان بعده، فوجهان. أحدهما:(2/378)
لا قضاء. وأصحهما عند الاكثرين: وجوب القضاء. ولو غلطوا في المكان، فوقفوا في غير عرفة، لم يصح حجهم بحال. قلت: ومما يتعلق بالوقوف: أنه يستحب أن يرفع يديه في الدعاء، بحيث لا تجاوزان رأسه، ولا يفرط في الجهر في الدعاء، فإنه مكروه، وأن يقف متطهرا. والله أعلم. فصل في المبيت بالمزدلفة وما يتعلق به المزدلفة، ما بين مأزمي عرفة، ووادي محسر. وقد سبق، أنهم يفيضون من عرفة بعد الغروب، فيأتون مزدلفة، فيجمعون الصلاتين. وينبغي أن يبيتوا بها، وهذا المبيت ليس بركن. قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبو بكر بن خزيمة من أصحابنا: هو ركن. والصحيح: الاول. ثم المبيت نسك. فإن دفع بعد منتصف الليل لعذر، أو لغيره، أو دفع قبل نصف الليل، وعاد قبل طلوع الفجر، فلا شئ عليه. وإن ترك المبيت من أصله، أو دفع قبل نصف الليل، ولم يعد، أراق دما. وهل هو واجب، أم مستحب ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين كالافاضة من عرفة قبل الغروب. والثاني: القطع بالايجاب. والثالث: بالاستحباب. قلت: لو لم يحضر مزدلفة في النصف الاول، وحضرها ساعة في النصف الثاني، حصل المبيت، نص عليه في الام، وفي قول ضعيف نص عليه في الاملاء والقديم: يحصل بساعة بين نصف الليل وطلوع الشمس. وفي قول: يشترط معظم الليل. والاظهر: وجوب الدم بترك المبيت. والله أعلم. والاولى، تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى. وأما غيرهم، فيمكثون حتى يصلوا الصبح بها، ويغلسون بالصبح. والتغليس هنا، أشد استحبابا من باقي الايام. فرع يستحب أن يأخذوا حصى الجمار من المزدلفة. ولو أخذوا من موضع آخر، جاز، لكن يكره من المسجد والحش والمرمى. وقد قدر المأخوذ وجهان. أحدهما: سبعون حصاة لرمي يوم النحر والتشريق، قاله في المفتاح وهو، ظاهر(2/379)
نصه في المختصر. والثاني: سبع حصيات لرمي يوم النحر فقط، وبهذا قال الجمهور: ونقلوه عن نصه، وجعلوه بيانا لما أطلقه في المختصر. وجمع بعضهم بينهما فقال: يستحب الاخذ للجميع، لكن ليوم النحر أشد. ثم قال الجمهور: يتزودوا الحصى بالليل. وفي التهذيب: يتزودوها بعد صلاة الصبح. فصل في الدفع إلى منى وما يتعلق به ثم بعد صلاة الصبح، يدفعون إلى منى. فإذا انتهوا إلى قزح، وهو جبل مزدلفة، وقفوا فذكروا الله تعالى ودعوا إلى الاسفار مستقبلين الكعبة. ولو وقفوا في موضع آخر من المزدلفة، حصل أصل هذه السنة، لكن أفضله، ما ذكرناه. ولو فاتت هذه السنة، لم تجبر بدم كسائر الهيئات. فإذا أسفروا، ساروا إلى منى وعليهم السكينة، ومن وجد فرجة، أسرع. فإذا بلغوا وادي محسر، استحب للراكب تحريك دابته، وللماشي الاسراع قدر رمية حجر. وفي وجه: لا يسرع الماشي، وهو ضعيف شاذ. ثم يسيرون وعليهم السكينة، ويصلون منى بعد طلوع الشمس، فيرمون سبع حصيات إلى جمرة العقبة، وهي أسفل الجبل مرتفعة عن الجادة، على يمين السائر إلى مكة، ولا ينزل الراكبون حتى يرموا. والسنة، أن يكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية إذ بدأ بالرمي. وقال القفال: إذا رحلوا من مزدلفة، خلطوا التلبية بالتكبير في مسيرهم.(2/380)
فإذا افتتحوا الرمي محضوا التكبير. قال الامام: ولم أر هذا لغيره. فإذا رمى، نحر إن كان معه هدي، ثم حلق أو قصر. فإذا فرغ منه، دخل مكة وطاف طواف الافاضة، وهو الركن. وسعى بعده أن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم يعود إلى منى للمبيت بها والرمي أيام التشريق. ويستحب أن يعود إليها قبل أن يصلي الظهر. فرع الحلق في وقته في الحج والعمرة، فيه قولان. أحدهما: أنه استباحة محظور، وليس بنسك. وأظهرهما: أنه نسك، وهو ركن لا يجبر بالدم. حتى لو كانت برأسه علة لا يمكنه بسببها التعرض للشعر، صبر إلى الامكان، ولا يفدي بخلاف من لا شعر على رأسه، فإنه لا يؤمر بالحلق بعد نباته، لان النسك حلق شعر يشتمل الاحرام عليه. ويقوم التقصير مقام الحلق، لكن الحلق أفضل. والمرأة لا تؤمر بالحلق، بل تقصر. ويستحب أن يكون(2/381)
تقصيرها بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها. ويختص الحلق والتقصير بشعر الرأس. ويستحب أن يبدأ بحلق الشق الايمن، ثم الايسر، وأن يستقبل القبلة، وأن يدفن شعره. والافضل، أن يحلق أو يقصر جميع الرأس. وأقل ما يجزئ حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها. ولنا وجه بعيد: أن الفدية تكمل في الشعرة الواحدة في الحلق المحظور، وذلك الوجه عائد في حصول النسك بحلق الشعة الواحدة. ولو حلق ثلاث شعرات في دفعات، أو أخذ من شعرة واحدة شيئا، ثم عاد ثانيا فأخذ منها، ثم عاد ثالثا وأخذ منها، فإن كملنا الفدية بها، لو كان محظورا حصل به النسك، وإلا، فلا. وإذا قصر، فسواء أخذ مما يحاذي الرأس أو مما استرسل عنه، وفي وجه شاذ: لا يجزئ المسترسل. ولا يتعين للحلق والتقصير آلة، بل حكم النتف، والاحراق، والاخذ بالموسى أو النورة أو المقصدين واحد. ومن لا شعر على رأسه، لا شئ عليه. ويستحب له إمرار الموسى على رأسه. قال الشافعي رحمه الله: ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئا، كان أحب إلي. وجميع ما ذكرناه، فيمن لم يلتزم الحلق. أما من نذر الحلق في وقته، يلزمه، ولا يجزئه التقصير، ولا النتف والاحراق. وفي استئصال الشعر بالمقصين وإمرار الموسى من غير استئصال، تردد للامام. والظاهر: المنع، لعدم اسم الحلق. ولو لبد رأسه في الاحرام، فهل هو كالنذر ؟ قولان. الجديد: لا. وفي وجه غريب: لا يلزم الحلق بالنذر إذا لم نجعله نسكا. فرع وقت حلق المعتمر، إذا فرغ من السعي. فلو جامع بعد السعي وقبل الحلق، فسدت عمرته إذا قلنا: الحلق نسك، لوقوع جماعه قبل التحلل. فصل أعمال الحج يوم النحر أربعة كما سبق، وهي: رمي جمرة العقبة،(2/382)
والذبح، والحلق، والطواف، وهذا يسمى: طواف الافاضة، والزيارة، والركن، وقد يسمى أيضا: طواف الصدر، والاشهر: أن طواف الصدر طواف الوداع. وترتيب الاربعة على ما ذكرناه، ليس بواجب، بل مسنون. فلو طاف قبل أن يرمي، أو ذبح في وقته قبل أن يرمي، فلا بأس، ولا فدية. ولو حلق قبل الرمي والطواف. فإن قلنا: الحلق استباحة محظور، لزمه الفدية، وإلا، فلا، على الصحيح. وإذا أتى بالطواف قبل الرمي، أو بالحلق، وقلنا: نسك، قطع التلبية بشروعه فيه، لانه أخذ في أسباب التحلل. وكذا المعتمر، يقطع التلبية بأخذه في الطواف. ويستحب في هذه الاعمال: أن يرمي بعد طلوع الشمس، ثم يأتي بباقيها، فيقطع الطواف في ضحوة، ويدخل وقت جميعها بانتصاف ليلة النحر. ومتى يخرج ؟ أما الرمي: فيمتد إلى غروب الشمس يوم النحر. وهل يمتد تلك الليلة ؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. وأما الذبح، فالهدي لا يختص بزمن، لكن يختص بالحرم. بخلاف الضحايا، فإنها تختص بالعيد وأيام التشريق، ولا تختص بالحرم. قلت: كذا جزم الامام الرافعي هنا: بأن الهدايا لا تختص بزمن. والصحيح: أنها كالاضحية، تختص بالعيد والتشريق. وقد ذكره هو على الصواب في باب الهدي، وسيأتي بيانه فيه إن شاء الله تعالى قريبا. والله أعلم.(2/383)
وأما الحلق والطواف، فلا يتوقت أحدهما لكن ينبغي أن يطوف قبل خروجه من مكة. فإن طاف للوداع وخرج وقع عن طواف الافاضة، وإن خرج ولم يطف أصلا، لم تحل له النساء وإن طال الزمان. ثم مقتضى كلام الاصحاب: لا يتوقت آخر الطواف، وأنه لا يصير قضاء. وفي التتمة: أنه إذا تأخر عن أيام التشريق، صار قضاء. فرع للحج تحللان، وللعمرة تحلل واحد. قال الاصحاب: لان الحج يطول زمنه، وتكثر أعماله. بخلاف العمرة، فأبيح بعض محرماته في وقت، وبعضها في وقت. ثم أسباب تحلل الحج: الرمي، والطواف، والحلق إن قلنا: هو نسك، وإلا، فالرمي والطواف. إن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الاول بأحدهما، والتحلل الثاني بالآخر، وإلا حصل التحلل الاول باثنين من الثلاثة، إما الرمي والحلق، وإما الحلق والطواف، وإما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث. ولا بد من السعي مع الطواف وإن لم يكن سعى. هذا الذي ذكرنا، هو المذهب المعروف الذي قطع به معظم الاصحاب. وفي وجه للاصطخري: دخول وقت الرمي، كالرمي في حصول التحلل. ووجه للداركي: أنا إن جعلنا الحلق نسكا، حصل التحللان جميعا بالحلق مع الطواف، أو بالطواف والرمي، ولا يحصل بالرمي والحلق إلا أحدهما. ووجه: أنه يحصل التحلل الاول بالرمي فقط، أو الطواف فقط، وإن قلنا: الحلق نسك. ولو فاته الرمي، فهل يتوقف تحلله على الاتيان ببدله ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: نعم. والثالث: إن افتدى بالدم، توقف. وإن افتدى بالصوم، فلا، لطول زمنه. وأما العمرة: فتحللها بالطواف والسعي، ويضم إليهما الحلق إن قلنا: نسك. ويحل بالتحلل الاول في الحج: اللبس، والقلم، وستر الرأس، والحلق(2/384)
إن لم نجعله نسكا. ولا يحل الجماع إلا بالتحللين بلا خلاف. والمستحب: أن لا يطأ حتى يرمي في أيام التشريق. وفي عقد النكاح، والمباشرة فيما سوى الفرج، كالقبلة، والملامسة، قولان. أظهرهما عند الاكثرين: لا يحل إلا بالتحللين، وأظهرهما عند صاحب المهذب وطائفة: يحل بالاول، ويحل الصيد بالاول على الاظهر باتفاقهم. والمذهب: حل الطيب بالاول، بل هو مستحب بين التحللين. فصل مبيت أربع ليال، نسك في الحج: ليلة النحر بمزدلفة، وليالي التشريق بمنى. لكن الليلة الثالثة، إنما تكون نسكا لمن لم ينفر النفر الاول. وفي قدر الواجب من المبيت، قولان حكاهما الامام عن نقل شيخه، وصاحب التقريب. أظهرهما: معظم الليل. والثاني: المعتبر كونه حاضرا حال طلوع الفجر. قلت: المذهب: ما نص عليه الشافعي رحمه الله في الام وغيره: أن الواجب في مبيت المزدلفة، ساعة في النصف الثاني من الليل، وقد سبق بيانه قريبا. والله أعلم. ثم هذا المبيت، مجبور بالدم. وهل هو واجب، أم مستحب ؟ أما ليلة المزدلفة، فسبق حكمه. وأما الباقي، فقولان. أظهرهما: الاستحباب. والثاني: الايجاب. وقيل: مستحب قطعا. قلت: الاظهر: الايجاب. والله أعلم. ثم إن ترك ليلة مزدلفة وحدها، أراق دما. وإن ترك الليالي الثلاث، فكذلك على المذهب. وحكى صاحب التقريب قولا: أن في كل ليلة دما، وهو شاذ. وإن ترك ليلة، فأقوال: أظهرها: تجبر بمد. والثاني: بدرهم. والثالث: بثلث دم. وإن ترك ليلتين، فعلى هذا القياس. وإن ترك الليالي الاربع، فقولان. أظهرهما: دمان، دم للمزدلفة، ودم للباقي. والثاني: دم للجميع. هذا في حق من كان بمنى وقت الغروب. فإن لم يكن حينئذ، ولم يبت، وأفردنا المزدلفة بدم، فوجهان، لانه لم يترك إلا ليلتين. أحدهما: مدان، أو درهمان، أو ثلثا دم. والثاني: دم كامل لتركه جنس المبيت بمنى، وهذا أصح، وهو جار فيما لو ترك ليلتين من الثلاث دون المزدلفة. هذا كله في غير المعذور. أما من ترك مبيت مزدلفة(2/385)
أو منى لعذر، فلا دم عليه. وهم أصناف، منهم، رعاء الابل، وأهل سقاية العباس، فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق، وللصنفين جميعا أن يدعوا رمي يوم، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم أن يدعوا رمي يومين متواليين. فإن تركوا رمي اليوم الثاني، بأن نفروا اليوم الاول بعد الرمي، عادوا في اليوم الثالث. وإن تركوا رمي اليوم الاول، بأن نفروا يوم النحر بعد الرمي، عادوا في الثاني. ثم لهم أن ينفروا مع الناس، هذا هو الصحيح. وفي وجه: ليس لهم ذلك. وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى، لزمهم المبيت تلك الليلة، والرمي من الغد، ولاهل السقاية أن ينفروا بعد الغروب على الصحيح، لان عملهم بالليل، بخلاف الرعي. ورخصة أهل السقاية، لا تختص بالعباسية على الصحيح. وفي وجه: تختص بهم، وفي وجه: تختص ببني هاشم. ولو أحدثت سقاية الحاج، فللمقيم بسببها ترك المبيت، قاله في التهذيب. وقال ابن كج وغيره: ليس له. قلت: الاصح: قوله في التهذيب. والله أعلم. ومن المعذورين، من انتهى إلى عرفة ليلة النحر، واشتغل بالوقوف عن مبيت المزدلفة، فلا شئ عليه، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون. ولو أفاض من عرفة إلى مكة، وطاف للافاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت، قال القفال: لا شئ عليه لاشتغاله بالطواف. وقال الامام: وفيه احتمال. ومن المعذورين، من له مال يخاف ضياعه. ولو اشتغل بالمبيت، أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقا، أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته ففي هؤلاء وجهان. الصحيح المنصوص: أنه لا شئ عليهم بترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب. فصل فيما يتعلق بالرمي إذا فرغ الحجاج من طواف الافاضة، عادوا إلى منى وصلوا بها الظهر، ويخطب الامام بها بعد الظهر خطبة، ويعلمهم فيها سنة الرمي والافاضة، ليتدارك من أخل بشئ منها، ويعلمهم رمي أيام التشريق، وحكم المبيت، والرخصة للمعذورين. وفي وجه: تكون هذه الخطبة بمكة. والصحيح: أنها بمنى. ويخطب بهم في الثاني من أيام التشريق. ويعلمهم جواز النفر فيه. ويودعهم، ويأمرهم بختم الحج بطاعة الله تعالى. واعلم أن مجموع الرمي سبعون(2/386)
حصاة. لجمرة العقبة يوم النحر سبعة. ولكل يوم من أيام التشريق إحدى وعشرين إلى الجمرات الثلاث، لكل جمرة سبع. ومن أراد النفر في اليوم الثاني قبل غروب الشمس، فله ذلك، ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة، ورمي الغد، ولا دم عليه. ومن لم ينفر حتى غربت الشمس، لزمه مبيت الليلة الثالثة، ورمي يومها. ولو ارتحل فغربت الشمس قبل انفصاله من منى، فله النفر ولو غربت وهو في شغل الارتحال، أو نفر قبل الغروب فعاد لشغل قبل الغروب أو بعده، جاز النفر على الاصح. قلت: فلو تبرع في هذه الحالة بالمبيت، لم يلزمه الرمي في الغد، نص عليه الشافعي رحمه الله. والله أعلم. ومن نفر وقد بقي معه شئ من الحصى التي تزودها، طرحها أو دفعها إلى غيره. قال الائمة: ولم يؤثر شئ فيما يعتاده الناس من دفنها. أما وقت رمي يوم النحر، فسبق، وأما أيام التشريق، فيدخل بزوال الشمس، ويبقى إلى غروبها. وهل يمتد إلى الفجر ؟ أما في اليوم الثالث، فلا، لخروج وقت المناسك، وأما اليومان، فوجهان. أصحهما: لا يمتد. فرع اليوم الاول من أيام التشريق، يسمى: يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - لانهم قارون بمنى. واليوم الثاني: النفر الاول. والثالث: النفر الثاني. فإذا ترك رمي يوم القر عمدا أو سهوا، هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ؟ أو ترك رمي الثاني، أو رمي اليومين الاولين، هل يتدارك في الثالث ؟ قولان. أظهرهما: نعم. فإن قلنا: لا يتدارك في بقية الايام، فهل يتدارك في الليلة الواقعة بعده من ليالي التشريق ؟ وجهان تفريعا على الاصح: أن وقته لا يمتد تلك الليلة. وإن قلنا(2/387)
بالتدارك، فتدارك، فهل هو أداء، أم قضاء ؟ قولان. أظهرهما: أداء، كأهل السقاية والرعاء. فإن قلنا: أداء، فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، فكل يوم للقدر المأمور به وقت اختيار، كأوقات الاختيار للصلوات. ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال. ونقل الامام، أن على هذا القول، لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم، لكن يجوز أن يقال: إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الاول، فلا يجوز التقديم. قلت: الصواب: الجزم بمنع التقديم، وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما. والله أعلم. وإذا قلنا: جنه قضاء، فتوزيع الاقدار المعينة على الايام مستحق، ولا سبيل إلى تقديم رمي يوم إلى يوم، ولا إلى تقديمه على الزوال. وهل يجوز بالليل ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لان القضاء لا يتوقت. والثاني: لا، لان الرمي عبادة النهار كالصوم. وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك ؟ قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم كالترتيب في المكان، وهما مبنيان على أن المتدارك قضاء، أم أداء ؟ إن قلنا: أداء، وجب الترتيب، وإلا، فلا. فإن لم نوجب الترتيب، فهل يجب على أهل العذر كالرعاء ؟ وجهان. قال المتولي: نظيره أن من فاتته الظهر، لا يلزمه ترتيب بينها وبين العصر. ولو أخرها للجمع، فوجهان. ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه، أجزأه إن لم نوجب الترتيب، وإلا، فوجهان. أصحهما: يجزئه ويقع عن القضاء. والثاني: لا يجزئه أصلا. قال الامام: ولو صرف الرمي إلى غير النسك، بأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة، ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف. فإن لم ينصرف، وقع عن أمسه، ولغا قصده. وإن انصرف، فإن شرطنا الترتيب، لم يجزئه أصلا، وإلا أجزأه عن يومه. ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة، سبعا عن أمسه، وسبعا عن يومه، جاز، إن لم نعتبر الترتيب، وإلا، فلا. وهو نصه في المختصر. هذا كله في رمي اليوم الاول أو الثاني من أيام التشريق. أما إذا ترك رمي يوم النحر، ففي تداركه في أيام التشريق طريقان. أصحهما: أنه على القولين. والثاني: القطع بعدم التدارك، للمغايرة بين الرميين قدرا ووقتا وحكما، فإن رمي النحر يؤثر في التحلل.(2/388)
فرع يشترط في رمي التشريق، الترتيب في المكان، بأن يرمي الجمرة التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة. ولا يعتد برمي الثانية، قبل تمام الاولى، ولا بالثالثة، قبل تمام الاوليين. ولو ترك حصاة ولم يدر من أين تركها، جعلها من الاولى، فرمى إليها حصاة وأعاد الاخريين. وفي اشتراط الموالاة بين رمي الجمرات، ورميات الجمرة الواحدة، الخلاف السابق في الطواف. فرع السنة أن يرفع يده عند الرمي، وأن يرمي أيام التشريق مستقبل القبلة، ويوم النحر مستدبرها، وأن يكون نازلا في رمي اليومين الاولين، وراكبا في اليوم الاخير، فيرمي، وينفر عقيبه. كما أنه يوم النحر، يرمي، ثم ينزل، هكذا قاله الجمهور. ونص عليه في الاملاء. وفي التتمة: أن الصحيح ترك الركوب في الايام الثلاثة. قلت: هذا الذي في التتمة ليس بشئ والصواب: ما تقدم. وأما جزم الرافعي، بأنه يستدبر القبلة يوم النحر، فهو وجه، قاله الشيخ أبو حامد وغيره. ولنا وجه: أنه يستقبلها. والصحيح: أنه يجمل القبلة على يساره، وعرفات على يمينه، ويستقبل الجمرة، فقد ثبتت فيه السنة الصحيحة. والله أعلم. والسنة، إذا رمى الاولى، أن يتقدم قليلا بحيث لا يبلغه حصى الرامين، فيقف مستقبلا القبلة، ويدعو، ويذكر الله تعالى طويلا قدر سورة (البقرة) وإذا رمى الجمرة الثانية، فعل مثل ذلك، ولا يقف إذا رمى الثالثة. فرع لو ترك رمي بعض الايام وقلنا: يتدارك، فتدارك، فلا دم عليه على المشهور. وفي قول: يجب دم مع التدارك، كمن أخر قضاء رمضان حتى دخل(2/389)
رمضان آخر، يقضي ويفدي. ولو نفر يوم النحر، أو يوم القر قبل أن يرمي، ثم عاد ورمى قبل الغروب، أجزأه ولا دم. ولو فرض ذلك يوم النفر الاول، فكذا على الاصح. والثاني: يلزمه الدم، لان النفر في هذا اليوم جائز في الجملة، فإذا نفر فيه، خرج عن الحج، فلا يسقط الدم بعوده. وحيث قلنا: لا يتدارك، أو قلنا به، فلم يتدارك، وجب الدم، وكم قدره ؟ فيه صور. فإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق، والصورة فيمن توجه عليه رمي اليوم الثالث، فثلاثة أقوال أحدها: دم. والثاني: دمان. والثالث: أربعة دماء، وهذا الاخير أظهرها عند صاحب التهذيب. لكن مقتضى كلام الجمهور: ترجيح الاول. ولو ترك رمي يوم النحر أو يوما من التشريق، وجب دم. وإن ترك رمي بعض يوم من التشريق، ففيه طريقان. أحدهما: الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في بعضها. بل إن ترك جمرة، ففيها الاقوال الثلاثة، فيمن حلق شعرة. أظهرها: مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث دم. وإن ترك جمرتين، فعلى هذا القياس.(2/390)
وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، قال صاحب التقريب: إن قلنا: في الجمرة ثلث دم، ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم، وإن قلنا: في الجمرة مد أو درهم، فيحتمل أن نوجب سبع مد، أو سبع درهم، ويحتمل أن لا نبعضهما. والطريق الثاني: يكمل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة، كما يكمل في جمرة النحر. وفي الحصاة والحصاتين الاقوال الثلاثة، وهذا الخلاف في الحصاة، أو الحصاتين، من آخر أيام التشريق. فأما لو تركها من الجمرة الاخيرة يوم القر، أو النفر الاول، ولم ينفر، فإن قلنا: لا يجب الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، صح رميه، لكنه ترك حصاة، ففيه الخلاف، وإلا، ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم، هل يقع عن الماضي ؟ إن قلنا: نعم، تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده، لكنه يكون تاركا للجمرة الاولى والثانية في ذلك اليوم، فعليه دم. وإن قلنا: لا، كان تاركا رمي حصاة ووظيفة يوم، فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم، وإلا فعليه لوظيفة اليوم دم. وفي ما يجب لترك الحصاة، الخلاف. وإن تركها من إحدى الجمرتين الاوليين من أول يوم كان، فعليه دم، لان ما بعدهد غير صحيح، لوجوب الترتيب في المكان. هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق، فإن ترك بعض رمي النحر، فقد ألحقه في التهذيب بما إذا ترك من الجمرة الاخيرة من اليوم الاخير. وقال في التتمة: يلزمه دم ولو ترك حصاة، لانها من أسباب التحلل، فإذا ترك شيئا منها، لم يتحلل إلا ببدل كامل. وحكى في النهاية وجها غريبا ضعيفا: أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقا. فرع قال في التتمة: لو ترك ثلاث حصيات من جملة الايام لم يعلم موضعها، أخذ بالاسوإ، وهو أنه ترك حصاة من يوم النحر، وحصاة من الجمرة الاولى يوم القر، وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر الاول. فإن لم نحسب ما يرميه بنية وظيفة اليوم عن الفائت، فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر، سواء(2/391)
شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، أم لا. وإن حسبناه، فالحاصل رمي يوم النحر وأحد أيام التشريق لا غير، سواء شرطنا الترتيب، أم لا، ودليله يعرف مما سبق من الاصول. فرع في بيان ما يرمى شرطه كونه حجرا، فيجزئ المرمر، والبيرام، والكذان، وسائر أنواع الحجر. ويجزئ حجر النورة قبل أن يطبح ويصير نورة. وأما حجر الحديد، فتردد فيه الشيخ أبو محمد. والمذهب: جوازه، لانه حجر في الحال، إلا أن فيه حديدا كامنا يستخرج بالعلاج وفي ما تتخذ منه الفصوص، كالفيروزج، والياقوت، والعقيق، والزمرد، والبلور، والزبرجد، وجهان. أصحهما: الاجزاء، لانها أحجار. ولا يجزئ اللؤلؤ، وما ليس بحجر من طبقات الارض، كالنورة، والزرنيخ، والاثمد، والمدر، والجص، والجواهر المنطبعة، كالتبرين وغيرهما. والسنة أن يرمي بمثل حصى الخذف، وهو دون الانملة طولا وعرضا في قدر الباقلاء، يضعه على بطن الابهام، ويرميه برأس السبابة. ولو رمى بأصغر من ذلك، أو أكبر، كره وأجزأه. ويستحب أن يكون الحجر طاهرا. قلت: جزم الامام الرفاعي رحمه الله، بأن يرميه على هيأة الخذف، فيضعه على بطن الابهام، وهذا وجه ضعيف. والصحيح المختار: أن يرميه على غير هيأة الخذف. والله أعلم. فرع في حقيقة الرمي الواجب، ما يقع عليه اسم الرمي. فلو وضع الحجر في المرمى، لم يعتد به على الصحيح. ويشترط قصد المرمى. فلو رمى في الهواء فوقع في المرمى، لم يعتد به. ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلا يضر تدحرجه وخروجه بعد الوقوع، لكن ينبغي أن يقع فيه. فإن شك في وقوعه فيه، فقولان. الجديد: لا يجزئه. ولا يشترط كون الرامي خارج الجمرة. فلو وقف في الطرف، ورمى إلى الطرف الآخر، جاز. ولو انصدمت الحصاة المرمية بالارض خارج الجمرة، أو بمحمل في الطريق، أو عنق بعير، أو ثوب إنسان، ثم ارتدت فوقعت في المرمى، اعتد بها، لحصولها في المرمى بفعله من غير معاونة. ولو حرك صاحب المحمل المحمل فنفضها، أو صاحب الثوب، أو تحرك البعير فدفعها(2/392)
فوقعت في المرمى، لم يعتد بها. ولو وقعت على المحمل أو عنق البعير، ثم تدحرجت إلى المرمى، ففي الاعتداد بها وجهان. لعل أشبههما المنع، لاحتمال تأثرها به. ولو وقعت في غير المرمى، ثم تدحرجت إلى المرمى، أو ردتها الريح إليه، فوجهان. قال في التهذيب: أصحهما: الاجزاء، لحصولها فيه لا بفعل غيره. ولا يجزئ الرمى عن القوس، ولا الدفع بالرجل. ويستحب أن يرمي الحصيات في سبع دفعات. فلو رمى حصاتين أو سبعا دفعة، فإن وقعن في الرمى معا، حسبت واحدة فقط، وإن ترتبت في الوقوع، حسبت واحدة على الصحيح. ولو أتبع حجرا حجرا. ووقعت الاولى قبل الثانية، فرميتان. وإن تساوتا، أو وقعت الثانية قبل الاولى، فرميتان على الاصح. ولو رمى بحجر قد رمى به غيره، أو رمى هو به إلى جمرة أخرى، أو إلى هذه الجمرة في يوم آخر، جاز. وإن رمى به هو تلك الجمرة في ذلك اليوم، فوجهان. أصحهما: الجواز، كما لو دفع إلى فقير مدا في كفارة، ثم اشتراه ودفعه إلى آخر، وعلى هذا تتأدى جميع الرميات بحصاة واحدة. فرع العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس، يستنيب من يرمي عنه. ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر، ويكبر هو. وإنما تجوز النيابة لعاجز بعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي، ولا يمنع الزوال بعده. ولا يصح رمي النائب عن المستنيب إلا بعد رميه عن نفسه، فلو خالف وقع عن نفسه كأصل الحج. ولو أغمي عليه ولم يأذن لغيره في الرمي عنه، لم يجز الرمي عنه. وإن أذن، جاز الرمي عنه على الصحيح. قلت: شرطه أن يكون أذن قبل الاغماء، في حال تصح الاستنابة فيه، صرح به الماوردي وآخرون، ونقله الروياني عن الاصحاب. والله أعلم. وإذا رمى النائب، ثم زال عذر المستنيب والوقت باق، فالمذهب: أنه ليس عليه إعادة الرمي، وبهذا قطع الاكثرون. وفي التهذيب: أنه على القولين فيما إذا حج المعضوب عن نفسه ثم برئ. فصل ثم إذا فرغ الحاج من رمى اليوم الثالث من أيام التشريق، استحب أن يأتي المحصب، فينزل به ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به(2/393)
ليلة الرابع عشر. ولو ترك النزول به، فلا شئ عليه. وحد المحصب: ما بين الجبلين إلى المقبرة. فصل في طواف الوداع قولان. أظهرهما: يجب. والثاني: يستحب. وقيل يستحب قطعا. فإن تركه، جبره بدم. فإن قلنا: إنه واجب، كان جبره واجبا، وإلا، مستحبا. والمذهب: أن طواف القدوم، لا يجبر. وعن صاحب التقريب: أنه كالوداع في وجوب الجبر، وهو شاذ. وإذا خرج بلا وداع، وقلنا: يجب الدم، فعاد قبل بلوغه مسافة القصر، سقط عنه الدم. وإن عاد بعد بلوغها، فوجهان. أصحهما: لا يسقط، ولا يجب العود في الحالة الثانية. وأما الاولى، فستأتي إن شاء الله تعالى. وليس على الحائض طواف وداع. فلو طهرت قبل مفارقة خطة مكة، لزمها العود والطواف. وإن طهرت بعد , بلوغها مسافة القصر، فلا. وإن لم تبلغ مسافة القصر، فنص أنه لا يلزمها العود، ونص أن المقصر بالترك يلزمه العود. فالمذهب: الفرق، كما نص عليه. وقيل: فيهما قولان. فإن قلنا: لا يلزم العود، فالنظر إلى نفس مكة أو الحرم ؟ وجهان. أصحهما: مكة. ثم إن أوجبنا العود، فعاد وطاف سقط الدم، وإن لم يعد، لم يسقط. وإن لم نوجبه، فلم يعد، فلا دم على الحائض، ويجب على المقصر. فرع ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الاشغال، ويعقبه الخروج بلا مكث. فإن مكث، نظر، إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج، كشراء متاع، أو قضاء دين، أو زيارة صديق أو عيادة مريض، فعليه إعادة الطواف. وإن اشتغل بأسباب الخروج، كشراء الزاد، وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان. قطع الجمهور بأنه لا يحتاج. وفي النهاية: وجهان. قلت: لو أقيمت الصلاة فصلاها، لم يعده. والله أعلم. فرع حكم طواف الوداع، حكم سائر أنواع الطواف في الاركان(2/394)
والشرائط. وفيه وجه لابي يعقوب الابيوردي: أنه يصح بلا طهارة، وتجبر الطهارة بالدم. فرع هل طواف الوداع من جملة المناسك ؟ فيه خلاف، قال الامام، والغزالي: هو من المناسك، وليس على الخارج من مكة وداع، لخروجه منها. وقال صاحبا التتمة و التهذيب وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك، بل يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، سواء كان مكيا أو أفقيا، وهذا أصح، تعظيما لحرم، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الاحرام، ولانهم اتفقوا على أن المكي إذا حج وهو على أنه يقيم بوطنه، لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا الافقي إذا حج وأراد الاقامة بمكة، لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك، لعم الحجيج. قلت: ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك، ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، ووجه الدلالة: أن طواف الوداع يكون عند الرجوع، فسماه قبله: قاضيا للمناسك، وحقيقته: أن يكون قضاها كلها. والله أعلم. فرع استحب الشافعي رحمه الله للحاج إذا طاف للوداع، أن يقف بحذاء الملتزم بين الركن والباب ويقول: اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك، حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضى، وإلا فالآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، قال: وما زاد فحسن، وقد زيد فيه: واجمع لي خير الدنيا والآخرة، إنك قادر على(2/395)
ذلك، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصرف. وينبغي أن يتبع نظره البيت ما أمكنه، ويستحب أن يشرب من زمزم، وأن يزور بعد الفراغ قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يستحب للحاج دخول البيت حافيا ما لم يؤذ أو يتأذ بزحام أو غيره. ويستحب أن يصلي فيه، ويدعو في جوانبه، وأن يكثر الاعتمار والطواف تطوعا قال صاحب الحاوي: الطواف أفضل من الصلاة. وظاهر عبارة صاحب المهذب وآخرين في قولهم: أفضل عبادات البدن الصلاة، أنها أفضل منه، ولا ينكر هذا. ويقال: الطواف صلاة، لان الصلاة عند الاطلاق لا تنصرف إليه، لا سيما في كتب المصنفين الموضوعة للايضاح، وهذا أقوى في الدليل. والله أعلم. فصل أعمال الحج ثلاثة أقسام: أركان، وأبعاض، وهيآت. فالاركان خمسة: الاحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، والحلق إن قلنا: هو(2/396)
نسك. وهذه هي أركان العمرة سوى الوقوف، ولا مدخل للجبران في الاركان. والترتيب يعتبر في معظمها، فلا بد من تقديم الاحرام والوقوف على الطواف والحلق. ولا بد من تأخير السعي عن طواف. وينبغي أن يعد الترتيب من الاركان، كما عدوه من أركان الصلاة والوضوء. ولا يقدح في ذلك عدم الترتيب بين الطواف والحلق كما لا يقدح عدم الترتيب بين القيام والقراءة في الصلاة. وأما الابعاض، فمجاوزة الميقات قبل الاحرام والرمى، مجبوران بالدم قطعا. وفي الجمع بين الليل والنهار بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع، قولان. أحدهما: الايجاب، فيكون من الابعاض المجبورة بالدم وجوبا. والثاني: الاستحباب، فيكون من الهيآت، وما سواها هيآت وتقدم وجه ضعيف: وجوب جبر طواف القدوم.
باب حج الصبي ومن في معناه
حج الصبي صحيح، فإن كان مميزا، أحرم بإذن وليه. فإن استقل، فوجهان. أصحهما: لا يصح. والثاني: يصح، ولوليه تحليله. ولو أحرم عنه وليه، فإن قلنا: يصح استقلاله، لم يصح، وإلا، فوجهان. أصحهما: يصح. وإن لم يكن مميزا، أحرم عنه وليه، سواء كان حلالا أو محرما، حج عن نفسه أم لا. ولا يشترط حضور الصبي ومواجهته على الاصح. والمجنون، كصبي لا يميز، يحرم عنه وليه. وفيه وجه غريب ضعيف: أنه لا يجوز الاحرام عنه، إذ ليس له أهلية العبادات. والمغمى عليه، لا يحرم عنه غيره. وأما الولي الذي يحرم عن الصبي، أو يأذن له، فالاب يتولى ذلك، وكذا الجد وإن علا عند عدم الاب، ولا يتولاه عند وجود الاب على الصحيح. وفي الوصي والقيم، طريقان. قطع العراقيون بالجواز، وقال آخرون: وجهان. أرجحهما عند الامام: المنع. وفي(2/397)
الاخ والعم، وجهان. أصحهما: المنع. وفي الام، طريقان. أحدهما: القطع بالجواز. وأصحهما، وبه قال الاكثرون: أنه مبني على ولايتها التصرف في ماله. فعلى قول الاصطخري: تليه. وعلى قول الجمهور: لا تلي. قلت: ولو أذن الاب لمن يحرم عن الصبي، ففي صحته وجهان حكاهما الروياني. الصحيح: صحته، وبه قطع الدارمي. والله أعلم. فصل متى صار الصبي محرما بإحرامه، أو بإحرام وليه، فعل ما قدر عليه بنفسه، وفعل به الولي ما عجز عنه. فإن قدر على الطواف، علمه فطاف، وإلا طيف به على ما سبق. والسعي كالطواف. ويصلي عنه وليه ركعتي الطواف إن لم يكن مميزا، وإلا صلاهما بنفسه على الصحيح. وفي الوجه الضعيف: لا بد أن يصليهما الولي بكل حال. ويشترط إحضاره عرفة، ولا يكفي حضور غيره عنه. وكذا يحضر المزدلفة والمواقف. ويناول الاحجار فيرميها إن قدر، وإلا رمي عنه من لا رمي عليه. ويستحب أن يضعها في يده أولا، ثم يأخذها فيرمي. قلت: لو أركبه الولي دابة وهو غير مميز، فطافت به، قال الروياني: لم يصح إلا أن يكون الولي سائقا أو قائدا. والله أعلم. فصل القدر الزائد من النفقة بسبب السفر، هل في مال الصبي أو الولي ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: في مال الولي. فعلى هذا، لو أحرم بغير إذنه، وصححناه، حلله. فإن لم يفعل، أنفق عليه. فصل يمنع الصبي المحرم من محظورات الاحرام. فلو تطيب، أو لبس ناسيا، فلا فدية عليه. وإن كان عامدا، فقد بنوه على أصل مذكور في الجنايات،(2/398)
وهو أن عمده عمد، أو خطأ ؟ إن قلنا: خطأ، فلا. وإن قلنا: عمد، وهو الاظهر، وجبت. قال الامام: وبهذا قطع المحققون، لان عمده في العبادات كعمد البالغ، ألا ترى أنه إذا تعمد الكلام، بطلت صلاته، أو الاكل، بطل صومه ؟ ونقل الداركي قولا فارقا، بين أن يكون الصبي ممن يلتذ بالطيب واللباس، أم لا ؟ ولو حلق، أو قلم، أو قتل صيدا، وقلنا: عمد هذه الافعال وسهوها سواء، وجبت الفدية، وإلا، فهي كالطيب واللباس. ومتى وجبت الفدية، فهي على الولي، أم في مال الصبي ؟ قولان. أظهرهما: في مال الولي، هذا إذا أحرم بإذنه. فإن أحرم بغير إذنه وجوزناه، فالفدية في مال الصبي بلا خلاف، قاله في التتمة. وفي وجه: إن أحرم به الاب أو الجد، ففي مال الصبي. وإن أحرم به غيرهما، فعليه. ومتى وجبت في مال الصبي ؟ إن كانت. مرتبة، فحكمها حكم كفارة القتل، وإلا، فهل يجزئ أن يفتدي بالصوم في حال الصبي ؟ وجهان مبنيان على صحة قضائه الحج الفاسد في الصبي، وليس للولي والحالة هذه أن يفدي عنه بالمال، لانه غير متعين. فرع لو جامع الصبي ناسيا، أو عامدا، وقلنا: عمده خطأ، ففي فساد حجه قولان، كالبالغ إذا جامع ناسيا، أظهرهما: لا يفسد. وإن قلنا: عمده عمد، فسد حجه. وإذا فسد، هل عليه القضاء ؟ قولان. أظهرهما: نعم لانه إحرام صحيح، فوجب فإفساده القضاء كحج التطوع. فعلى هذا، هل يجزئه القضاء في حال الصبي ؟ قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم، اعتبارا بالاداء. والثاني: لا، لانه ليس أهلا لاداء فرض الحج. فعلى هذا، إذا بلغ، نظر في الحجة التي أفسدها، فإن كانت بحيث لو سلمت من الفساد أجزأته عن حجة الاسلام بأن بلغ قبل فوات الوقوف، تأدت حجة الاسلام بالقضاء، وإلا، فلا، وعليه أن يبدأ بحجة الاسلام، ثم يقضي. فإن نوى القضاء أولا، انصرف إلى حجة الاسلام. وإذا جوزنا القضاء في حال الصبي، فشرع فيه، وبلغ قبل الوقوف، انصرف إلى حجة الاسلام، وعليه القضاء. ومهما فسد حجه وأوجبنا القضاء، وجبت الكفارة أيضا، وإلا، ففي الكفارة وجهان. أصحهما: الوجوب. وإذا وجبت، ففي مال الصبي أو الولي ؟ فيه الخلاف السابق.(2/399)
فرع حكم المجنون، حكم الصبي الذي لا يميز في جميع المذكور. ولو خرج الولي بالمجنون بعد استقرار فرض الحج عليه، وأنفق من ماله، نظر، إن لم ينفق حتى فات الوقوف، غرم له الولي زيادة نفقة السفر. وإن أفاق، وأحرم، وحج، فلا غرم، لانه قضى ما عليه. وتشترط إفاقته عند الاحرام، والوقوف، والطواف، والسعي. ولم يتعرضوا لحالة الحلق. وقياس كونه نسكا، اشترط الافاقة فيه، كسائر الاركان. فصل لو بلغ الصبي في أثناء الحج، نظر، إن بلغ بعد خروج وقت الوقوف بعرفة، لم يجزئه عن حجة الاسلام. ولو بلغ بعد الوقوف وقبل خروج وقته، ولم يعد إلى الموقف، لم يجزئه عن حجة الاسلام على الصحيح. ولو عاد فوقف في الوقت، أو بلغ قبل وقت الوقوف، أو في حال الوقوف، أجزأه عن حجة الاسلام، لكن يجب إعادة السعي إن كان سعى عقيب طواف القدوم قبل البلوغ على الاصح، ويخالف الاحرام، فإنه مستدام في حال البلوغ. وإذا وقع حجه عن الاسلام، فهل يلزمه الدم ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: لا إذ لا إساءة. والثاني: نعم، لفوات الاحرام الكامل من الميقات. والطريق الثاني: القطع بأن لا دم. والخلاف فيمن لم يعد بعد البلوغ إلى الميقات، فإن عاد، فلا دم على الصحيح والطواف في العمرة، كالوقوف في الحج. فإذا بلغ قبله، أجزأته عمرته عن عمرة الاسلام. وعتق العبد في أثناء الحج والعمرة، كبلوغ الصبي في أثنائهما.(2/400)
فرع ذمي أتى الميقات يريد النسك، فأحرم منه، لم ينعقد إحرامه، فإن أسلم قبل فوات الوقوف، ولزمه الحج، فله أن يحج من سنته، وله التأخير، لان الحج على التراخي. فإن حج من سنته، وعاد إلى الميقات فأحرم منه، أو عاد محرما، فلا دم عليه. وإن لم يعد، لزمه دم كالمسلم إذا جاوزه بقصد النسك. وقال المزني: لا دم. فصل إذا طيب الولي الصبي، أو ألبسه، أو حلق رأسه، نظر، إن فعله لحاجة الصبي، فطريقان. أصحهما: أنه كمباشرة الصبي ذلك، فيكون فيمن تجب عليه الفدية القولان المتقدمان. والثاني: القطع بأنها على الولي. ولو طيبه لا لحاجة، فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي. وهل يكون الصبي طريقا ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: لا يكون. والله أعلم.
باب محرمات الاحرام
وهي سبعة أنواع. الاول: اللبس. أما رأس الرجل، فلا يجوز ستره لا بمخيط كالقلنسوة، ولا بغيره كالعمامة، والازار والخرقة، وكل ما يعد ساترا. فإن ستر، لزمه الفدية. ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء، أو استظل بمحمل أو هودج، فلا بأس، سواء مس المحمل رأسه، أم لا. وقال في التتمة: إذا مس المحمل رأسه، وجبت الفدية. ولم أر هذا لغيره، وهو ضعيف. ولو وضع على(2/401)
رأسه زنببيلا أو حملا، فلا فدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو صلى رأسه بطين، أو حناء، أو مرهم، أو نحوهما، فإن كان رقيقا لا يستر، فلا فدية. وإن كان ثخينا ساترا، وجبت على الاصح. ولا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس، كما لا يشترط في فدية الحلق الاستيعاب، بل تجب بستر قدر يقصد ستره لغرض، كشد عصابة، أو إلصاق لصوق لشجة ونحوها، وكذا ضبطه الامام والغزالي. واتفق الاصحاب على أنه لو شد خيطا على رأسه، لم يضر، ولا فدية. وهذا ينقض ما ضبطا به، فإن ستر المقدار الذي يحويه شد الخيط، قد يقصد لمنع الشعر من الانتشار وغيره. فالوجه: الضبط بتسميته ساترا كل الرأس أو بعضه. قلت: تجب الفدية بتغطية البياض الذي وراء الاذن، قاله الروياني وغيره، وهو ظاهر. ولو غطى رأسه بكف غيره، فالمذهب: أنه لا فدية، ككف نفسه. وفي الحاوي والبحر وجهان لجواز السجود على كف غيره. والله أعلم. أما غير الرأس، فيجوز ستره. لكن لا يجوز لبس القميص، ولا السراويل، والتبان، والخف، ونحوها. فإن لبس شيئا من هذا مختارا، لزمه الفدية، قصر الزمان، أم طال ولو لبس القباء، لزمه الفدية، سواء أخرج يده من الكمين، أم لا. وفيه وجه قاله في الحاوي: أنه إن كان من أقبية خراسان ضيق الاكمام قصير الذيل، لزمت الفدية وإن لم يدخل يده في الكم. وإن كان من أقبية العراق واسع الكم طويل الذيل، لم يجب حتى يدخل يديه في كميه. والصحيح المعروف: ما سبق. ولو ألقى على نفسه قباء، أو فرجيه، وهو مضطجع. قال الامام: إن أخذ من بدنه ما إذا قام عد لابسه، لزمه الفدية. وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر، فلا. والليس مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في كل ملبوس. فلو ارتدى بقميص، أو قباء، أو التحف بها، أو اتزر بسراويل، فلا فدية. كما لو اتزر بإزار لفقه من رقاع. ولا يتوقف التحريم والفدية في الملبوس على المخيط، بل لا فرق بين المخيط والمنسوج، كالزرد، والمعقود، كجبة اللبد،(2/402)
والملفق بعضه ببعض، سواء المتخذ من القطن والجلد وغيرهما. ويجوز أن يعقد الازار ويشد عليه خيطا، وأن يجعل له مثل الحجزة، ويدخل فيها التكة، وأن يشد طرف إزاره في طرف ردائه، ولا يعقد رداءه، وله أن يغرزه في طرف إزاره. ولو اتخذ لردائه شرجا وعرى، وربط الشرج بالعرى، وجبت الفدية على الاصح. قلت: المذهب والمنصوص: أنه لا يجوز عقد الرداء، وكذا لا يجوز خله بخلال أو مسلة، ولا ربط طرفه إلى طرفه بخيط ونحوه. والله أعلم. ولو شق الازار نصفين، ولف على كل ساق نصفا وعقده، فالذي نقله الاصحاب: وجوب الفدية، لانه كالسراويل. وقال إمام الحرمين: لا فدية لمجرد اللف والعقد، وإنما تجب إن كانت خياطة أو شرجا وعرى. وله أن يشتمل بالازار والرداء طاقين، وثلاثة، وأكثر، بلا خلاف. وله أن يتقلد المصحف والسيف، ويشد الهميان والمنطقة على وسطه. أما المرأة، فالوجه في حقها، كرأس الرجل. وتستر جميع رأسها وسائر بدنها بالمخيط، كالقميص والسراويل والخف، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي الرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستر الرأس إلا به. والمحافظة على ستر الرأس بكماله لكونه عورة، أولى من المحافظة على كشف ذلك الجزء من الوجه. ولها أن تسدل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة من حر أو(2/403)
برد، أو فتنة ونحوها، أم لغير حاجة. فإن وقعت الخشبة، فأصاب الثوب وجهها بغير اختيارها، ورفعته في الحال، فلا فدية. وإن كا عمدا، أو استدامته، لزمتها الفدية. وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه فقط، أو وجهه فقط، فلا فدية، وإن سترهما، وجبت. فرع يحرم على الرجل لبس القفازين، وفي تحريمه على المرأة، قولان. أظهرهما عند الاكثرين: يحرم، نص عليه في الام والاملاء، وتجب به الفدية. والثاني: لا يحرم، فلا فدية. ولو اختضبت ولفت على يديها خرقة فوق الخضاب، أو لفتها بلا خضاب، فالمذهب: أنه لا فدية. وقيل: قولان كالقفازين. وقال الشيخ أبو حامد: إن لم تشد الخرقة، فلا فدية، وإلا، فالقولان. فإن أوجبنا الفدية، فهل تجب بمجرد الحناء ؟ فيه ما سبق في الرجل إذا خضب رأسه بالحناء. ولو اتخذ الرجل لساعده، أو لعضو آخر شيئا مخيطا، أو(2/404)
للحيته خريطة يغلفها بها إذا خضبها، فهل يلحق بالقفازين ؟ فيه تردد عن الشيخ أبي محمد. والاصح: الالحاق، وبه قطع كثيرون. ووجه المنع: أن المقصود اجتناب الملابس المعتادة، وهذا ليس بمعتاد. فرع أما المعذور، ففيه صور. إحداها: لو احتاج الرجل إلى ستر الرأس، أو لبس المخيط لعذر، كحر، أو برد، أو مداواة، أو احتاجت المرأة إلى ستر الوجه، جاز، ووجبت الفدية، الثانية: لو لم يجد الرجل الرداء، لم يجز لبس القميص، بل يرتدي به. ولو لم يجد الازار ووجد السراويل، نظر، إن لم يتأت منه إزار لصغره، أو لفقد آلة الخياطة، أو لخوف التخلف عن القافلة، فله لبسه، ولا فدية. وإن تأتى، فلبسه على حاله، فلا فدية أيضا على الاصح. وإذا لبسه في الحالتين، ثم وجد الازار، وجب نزعه. فإن أخر، وجبت الفدية. الثالثة: لو لم يجد نعلين، لبس المكعب، أو قطع الخف أسفل من الكعب ولبسه. ولا يجوز لبس المكعب والخف المقطوع مع وجود التعين، على الاصح. فعلى هذا، لو لبس المقطوع لفقد النعلين، ثم وجدهما، وجب نزعه. فإن أخر، وجبت الفدية. وإذا جاز لبس الخف المقطوع، لم يضر استتار ظهر القدم بما بقي منه. والمراد بفقد الازار والنعل: أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده، وإما لعدم بذل مالكه، وإما لعجزه عن ثمنه أو أجرته. ولو بيع بغبن، أو نسيئة، أو وهب له، لم يلزمه قبوله. وإن أعير، وجب قبوله. النوع الثاني: التطيب فتجب الفدية باستعمال الطيب قصدا. فأما الطيب، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض. فالمسك، والكافور، والعود، والعنبر، والصندل، طيب. وأما ما له رائحة طيبة من نبات الارض، فأنواع.(2/405)
منها: ما يطلب للتطيب واتخاذ الطيب منه، كالورد، والياسمين، والزعفران، والخيري، والورس، فكله طيب. وحكي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيري. ومنها: ما يطلب للاكل، أو للتداوي غالبا، كالقرنفل، والدارصيني، والسنبل، وسائر الابازير الطيبة، والتفاح، والسفرجل، والبطيخ، والاترج، والنارنج، ولا فدية في شئ منها. ومنها: ما يتطيب به ولا يؤخذ منه الطيب، كالنرجس، والريحان الفارسي، وهو الضيمران، والمرزنجوش، ونحوها، ففيها قولان. القديم لا فدية. والجديد: وجوبها. وأما البنفسج، فالمذهب: أنه طيب. وقيل: لا. وقيل: قولان. والنيلوفر، كالنرجس. وقيل: طيب قطعا. ومنها: ما ينبت بنفسه، كالشيخ، والقيصوم، والشقائق، وفي معناها نور الاشجار، كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكذا العصفر، والحناء ولا فدية في شئ من هذا. وحكى بعض الاصحاب وجها: أنه تعتبر عادة كل ناجية فيما يتخذ طيبا، وهذا غلط نبهنا عليه. فرع الادهان ضربان. دهن ليس بطيب، كالزيت، والشيرج، وسيأتي في النوع الثالث إن شاء الله تعالى. ودهن هو طيب، فمنه دهن الورد، والمذهب: وجوب الفدية فيه، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ومنه دهن البنفسج، فإن لم نوجب الفدية في نفس البنفسج، فدهنه أولى، وإلا، فكدهن الورد. ثم اتفقوا على أن ما طرح فيه الورد والبنفسج، فهو دهنهما. ولو طرحا على السمسم فأخذ رائحة، ثم استخرج منه الدهن، قال الجمهور: لا يتعلق به فدية، وخالفهم الشيخ أبو محمد. ومنه ألبان ودهنه، أطلق الجمهور: أن كل واحد منهما طيب. ونقل الامام عن نص الشافعي رحمه الله: أنهما ليس بطيب، وتابعه الغزالي، ويشبه أن لا(2/406)
يكون خلافا محققا، بل هما محمولان على توسط حكاه صاحبا المهذب والتهذيب، وهو أن دهن ألبان المنشوش، وهو المغلي في الطيب، طيب وغير المنشوش، ليس بطيب. قلت: وفي كون دهن الاترج طيبا، وجهان حكاهما الماوردى، والروياني. وقطع الدارمي: بأنه طيب. والله أعلم. فرع ولو أكل طعاما فيه زعفران، أو طيب آخر، أو استعمل مخلوطا بالطيب لا بجهة الاكل، نظر إن استهلك الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا لون، فلا فدية. وإن ظهرت هذه الصفات، أو بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية. وإن بقي اللون وحده، فقولان. أظهرهما: لا فدية. وقيل: لا فدية قطعا. وإن بقي الطعم فقط، فكالرائحة على الاصح. وقيل: كاللون. ولو أكل الخلنجين المربى بالورد، نظر في استهلاك الورد فيه عدمه، وخرج على هذا التفصيل. قلت: قال صاحب الحاوي والروياني: لو أكل العود، فلا فدية عليه، لانه لا يكون متطيبا به، إلا بأن يتبخر به، بخلاف المسك. والله أعلم. فرع لو خفيت رائحة الطيب، أو الثوب المطيب، لمرور الزمان، أو لغبار وغيره، فإن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته، حرم استعماله. وإن بقي اللون، لم يحرم على الاصح. ولو انغمر شئ من الطيب في غيره كماء ورد انمحق في ماء كثير، لم تجب الفدية باستعماله على الاصح. فلو انغمرت الرائحة وبقي اللون أو الطعم، ففيه الخلاف السابق. فرع في بيان الاستعمال هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه، على الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءا من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق، أو ماء ورد، لزمه الفدية، سواء الالصاق بظاهر البدن، أو باطنه، بأن أكله، أو احتقن به، أو استعط. وقيل: لا فدية في الحقنة والسعوط. ولو عبق به الريح دون العين، بأن جلس في دكان عطار، أو عند الكعبة وهي تبخر، أو في بيت تبخر ساكنوه، فلا فدية. ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإلا،(2/407)
كره على الاظهر. وقال القاضي حسين: يكره قطعا. والقولان في وجوب الفدية، والمذهب: الاول ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه، أو ثيابه، لزمه الفدية. فلو مس طيبا فلم يعلق به شئ من عينه، لكن عبقت به الرائحة، فلا فدية على الاظهر. ولو شد المسك، أو العنبر، أو الكافور في طرف ثوبه، أو وضعته المرأة في جيبها، أو لبست الحلي المحشو بشئ منها، وجبت الفدية، لانه استعماله. قلت: ولو شد العود، فلا فدية، لانه لا يعد تطيببا، بخلاف شد المسك. والله أعلم. ولو شم الورد، فقد تطيب. ولو شم ماء الورد، فلا، بل استعماله أن يصبه على بدنه أو ثوبه. ولو حمل مسكا أو طيبا غيره، في كيس، أو خرقة مشدودة، أو قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في ظرف، فلا فدية، نص عليه في الام. وفي وجه شاذ: أنه إن كان يشم قصدا، لزمه الفدية. ولو حمل مسكا في فأرة غير مشقوقة، فلا فدية على الاصح. ولو كانت الفأرة مشقوقة، أو القارورة مفتوحة الرأس، قال الاصحاب: وجبت الفدية، وفيه نظر، لانه لا يعد تطيبا. ولو جلس على فراش مطيب، أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضيا ببدنه أو ملبوسه إليها، لزمه الفدية. فلو فرش فوقه ثوبا، ثم جلس عليه، أو نام، لم تجب الفدية. لكن إن كان الثوب رقيقا، كره. ولو داس بنعله طيبا، لزمه الفدية. فرع في بيان القصر فلو تطيب ناسيا لاحرامه، أو جاهلا بتحريم الطيب، فلا فدية. وقال المزني: تجب ولو علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوب الفدية. ولو علم تحريم الطيب، وجهل كون الممسوس طيبا، فلا فدية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ولو مس طيبا رطبا وهو يظنه يابسا لا يعلق به شئ منه، ففي وجوب الفدية قولان. رجح الامام وغيره: الوجوب. ورجحت طائفة: عدم الوجوب، وذكر صاحب التقريب: أنه القول الجديد. ومتى لصق الطيب بدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية، بأن كان ناسيا، أو ألقته الريح عليه، لزمه أن يبادر إلى غسله، أو ينحيه، أو يعالجه بما يقطع ريحه.(2/408)
والاولى أن يأمر غيره بإزالته، فإن باشره بنفسه، لم يضر، فإن أخر إزالته مع الامكان، فعليه الفدية، فإن كان زمنا لا يقدر على الازالة، فلا فدية، كمن أكره على التطيب، قاله في التهذيب. قلت: ولو لصق به طيب يوجب الفدية، لزمه أيضا المبادرة إلى إزالته. والله أعلم. النوع الثالث: دهن شعر الرأس واللحية، قد سبق، أن الدهن مطيب وغيره. فالمطيب: سبق. وأما غيره: كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد، ودهن الجوز، واللوز، فيحرم استعماله في الرأس واللحية. فلو كان أقرع، أو أصلع، فدهن رأسه. أو أمرد، فدهن ذقنه، فلا فدية. وإن كان محلوق الرأس، وجبت الفدية على لاصح. ويجوز استعمال هذا الدهن في سائر البدن، شعره وبشره، ويجوز أكله. ولو كان على رأسه شجة، فجعل هذا الدهن في داخلها، فلا فدية. فرع للمحرم أن يغتسل، ويدخل الحمام، ويزيل الوسخ عن نفسه، ولا كراهة في ذلك على المشهور، وبه قطع الجمهور. وقيل: يكره على القديم. وله غسل رأسه بالسدر والخطمي، لكن المستحب أن لا يفعله. ولم يذكر الجمهور(2/409)
كراهته، وحكى الحناطي كراهته على القديم. وإذا غسله، فينبغي أن يرفق، لئلا ينتف شعره. فرع يحرم الاكتحال بما فيه طيب، ويجوز بما لا طيب فيه. ثم نقل المزني: أنه لا بأس به. وفي الاملاء: أنه يكره. وتوسط قوم فقالوا: إن لم يكن فيه زينة، كالتوتياء الابيض، لم يكره. وإن كان فيه زينة كالاثمد، كره، إلا لحاجة الرمد ونحوه. فرع نقل الامام عن الشافعي رحمه الله: اختلاف قول، في وجوب الفدية إذا خضب الرجل لحيته، وعن الاصحاب طرقا في مأخذه. أحدها: التردد في أن الحناء طيب، أم لا ؟ وهذا غريب ضعيف. والاصحاب قاطعون: بأنه ليس بطيب كما سبق. الثاني: أن من يخضب، قد يتخذ لموضع الخضاب غلافا يحيط به، فهل يلحق بالملبوس المعتاد ؟ وقد سبق الخلاف فيه. الثالث وهو الصحيح: أن الخضاب تزيين للشعر، فتردد القول في إلحاقه بالدهن. والمذهب: أنه لا يلتحق، ولا تجب الفدية في خضاب اللحية. قال الامام: فعلى المأخذ الاول: لا شئ على المرأة إذا خضبت يدها بعد الاحرام. وعلى الثاني والثالث: يجري التردد. وقد سبق بيان خضاب يدها وشعر الرجل. فرع للمحرم أن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع شعرا. ولا بأس بنظره في المرآة. ونقل أن الشافعي رحمه الله، كرهه في بعض كتبه. قلت: المشهور من القولين: أنه لا يكره. ويجوز للمحرم إنشاد الشعر الذي يجوز للحلال إنشاده. والسنة: أن يلبد رأسه عند إرادة الاحرام، وهو أن يعقص شعره ويضرب عليه الخطمي، أو الصمغ، أو غيرهما، لدفع القمل وغيره. وقد صحت في استحبابه الاحاديث واتفق أصحابنا عليه وصرحوا باستحبابه، ونقله(2/410)
صاحب البحر أيضا عن الاصحاب. والله أعلم. النوع الرابع: الحلق والقلم، فتحرم إزالة الشعر قبل وقت التحلل، وتجب فيه الفدية، سواء فيه شعر الرأس والبدن، وسواء الازالة بالحلق، أو التقصير، أو النتف، أو الاحراق، أو غيرها. وإزالة الظفر، كإزالة الشعر، سواء قلمه أو كسره، أو قطعه. ولو قطع يده أو بعض أصابعه وعليها شعر أو ظفر، فلا فدية، لانهما تابعان غير مقصودين. ولو كشط جلدة الرأس، فلا فدية، والشعر تابع. وشبهوه بما إذا أرضعت امرأته الكبيرة الصغيرة، بطل النكاح ولزمها مهر الصغيرة. ولو قتلتها، فلا مهر عليها، لاندراج البضع في القتل. ولو مشط لحيته، فنتف شعرا، فعليه الفدية. فإن شك هل كان منسلا، أو انتتف بالمشط ؟ فلا فدية على الصحيح. وقيل: الاظهر. فرع سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الدماء، أن فدية الحلق والقلم، لها خصال. إحداها: إراقة دم، فلا يتوقف وجوب كمال الدم على حلق جميع الرأس، ولا على قلم جميع الاظفار بالاجماع، بل يكمل الدم في ثلاث شعرات، أو ثلاثة أظفار، سواء كانت من أظفار اليد أو الرجل، أو منهما. هذا إذا أزالها دفعة في مكان. فإن فرق زمانا أو مكانا، فسيأتي بعد النوع السابع إن شاء الله تعالى. فإن حلق شعرة أو شعرتين، فأقوال. أظهرها وهو نصه في أكثر كتبه: أن في الشعرة، مدا من طعام، وفي شعرتين، مدين. والثاني: في شعرة، درهم، وفي(2/411)
شعرتين، درهمان. والثالث: في شعرة، ثلث دم، وفي شعرتين، ثلثاه. والرابع: في الشعرة الواحدة، دم كامل. والظفر، كالشعرة، والظفران، كالشعرتين. ولو قلم دون المعتاد، فكتقصير الشعر. ولو أخذ من بعض جوانبه، ولم يستوعب رأس الظفر، فإن قلنا: في الظفر الواحد دم أو درهم، وجب بقسطه. وإن قلنا: مد، لم يبعض. فرع هذا الذي سبق في الحلق لغير عذر. فأما الحلق لعذر، فلا إثم فيه. وأما الفدية، ففيها صور. إحداها: لو كثر القمل في رأسه، أو كان به جراحة أحوجه أذاها إلى الحلق، أو تأذى بالحر لكثرة شعره، فله الحلق، وعليه الفدية. الثانية: لو نبتت شعرة أو شعرات داخل جفنه، وتأذى بها، قلعها، ولا فدية على المذهب. وقيل: وجهان. ولو طال شعر حاجبه أو رأسه , وغطى عينه، قطع قدر المغطى، ولا فدية. وكذا لو انكسر بعض ظفره، وتأذى به، قطع المنكسر، ولا يقطع معه من الصحيح شيئا.(2/412)
الثالثة: ذكرنا أن النسيان يسقط الفدية في الطيب واللباس، وكذا حكم ما عدا الوطئ من الاستمتاعات، كالقبلة، واللمس بشهوة. وفي وطئ الناسي، خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. وهل تجب الفدية بالحلق والقلم ناسيا ؟ وجهان. أصحهما: تجب، وهو المنصوص. والثاني: مخرج في أحد قولين له في المغمى عليه إذا حلق، والمجنون. والصبي الذي لا يميز، كمغمى عليه. ولو قتل الصيد ناسيا، قال الاكثرون: فيه القولان كالحلق. وقيل: تجب قطعا. فرع للمحرم حلق شعر الحلال. ولو حلق المحرم أو الحلال شعر المحرم، أثم. فإن حلق بإذنه، فالفدية على المحلوق، وإلا، فإن كان نائما، أو مكرها، أو مغمى عليه، فقولان. أظهرهما: الفدية على الحالق، والثاني: على المحلوق. فعلى الاول: لو امتنع الحالق من الفدية مع قدرته، فهل للمحلوق مطالبته بإخراجها ؟ وجهان: أصحهما، وبه قال الاكثرون: نعم. ولو أخرج المحلوق الفدية بإذن الحالق، جاز وبغير إذنه، لا يجوز على الاصح، كما لو أخرجها أجنبي بغير إذنه. وإن قلنا: الفدية على المحلوق، نظر، إن فدى بالهدي أو الاطعام، رجع بأقل الامرين من الاطعام وقيمة الشاة على الحالق. وإن فدى بالصوم، فأوجه. أصحها: لا يرجع. والثاني: يرجع بثلاثة أمداد من طعام، لانها بدل صومه. والثالث: يرجع بما يرجع به لو فدى بالهدي، أو الاطعام. وإذا قلنا: يرجع، فإنما يرجع بعد الاخراج على الاصح. وعلى الثاني: له أن يأخذ منه ثم يخرج. وهل للحالق أن يفدي على هذا القول ؟ أما بالصوم، فلا، وأما بغيره، فنعم، لكن بإذن المحلوق. وإن لم يكن نائما، ولا مكرها، ولا مغمى عليه، لكنه سكت فلم يمنعه من الحلق، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: هو كما لو حلق بإذنه، والثاني: كما لو حلقه نائما. ولو أمر حلال حلالا بحلق شعر محرم نائم، فالفدية على الآمر إن لم يعرف الحالق الحال، وإلا، فعليه على الاصح. قلت: ولو طارت نار إلى شعره فأحرقته، قال الروياني: إن لم يمكنه إطفاؤها، فلا شئ عليه، وإلا، فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت. والله أعلم. النوع الخامس: الجماع. وهو مفسد للحج إن وقع قبل التحللين، سواء(2/413)
قبل الوقوف وبعده. وإن وقع بينهما، لم يفسد على المذهب: وحكي وجه: أنه يفسد. وقول قديم: أنه يخرج إلى أدنى الحل، ويجدد منه إحرجما، ويأتي بعمل عمرة. وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل. وقد قدمنا إنه ليس لها إلا تحلل واحد فإن قلنا: الحلق نسك، فهو مما يقف التحلل عليه، وإلا فلا. واللواط، كالجماع. وكذا إتيان البهيمة على الصحيح. فرع ما سوى الحج والعمرة من العبادات، لا حرمة لها، بعد الفساد. ويخرج منها بالفساد. وأما الحج والعمرة، فيجب المضي في فاسدهما، وهو إتمام ما كان يعمله لولا الفساد. فرع يجب على مفسد الحج بالجماع بدنة. وعلى مفسد العمرة أيضا بدنة على الصحيح، و على الثاني: شاة. ولو جامع بين التحللين، وقلنا: لا يفسد، لزمه شاة على الاظهر، وبدنة على الثاني. وفيه وجه: أنه لا شئ عليه، وهو شاذ منكر. ولو أفسد حجه بالجماع، ثم جامع ثانيا، ففيه خلاف تجمعه أقوال. أظهرها: يجب بالجماع الثاني شاة. والثاني: بدنة. والثالث: لا شئ فيه. والرابع: إن كان كفر عن الاول، فدى الثاني، وإلا، فلا. والخامس: إن طال الزمان بين الجماعين، أو اختلف المجلس، فدى عن الثاني، وإلا، فلا. فرع يجب على مفسد الحج، القضاء بالاتفاق، سواء كان الحج فرضا أو تطوعا، ويقع القصاء عن المفسد. فإن كان فرضا، وقع عنه، وإن كان تطوعا، فعنه. ولو أفسد القضاء بالجماع، لزمه الكفارة، ولزمه قضاء واحد. ويتصور القضاء في عام الافساد، بأن يحصر بعد الافساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد،(2/414)
فيتحلل ثم يزول الحصر والوقت باق، فيشتغل بالقضاء. وفي وقت القضاء، وجهان. أصحهما: على الفور. والثاني: على التراخي. فإن كان أحرم في الاداء قبل الميقات من دويرة أهله أو غيرها، لزمه أن يحرم في القضاء من ذلك الموضع. فإن جاوزه غير محرم، لزمه دم. كالميقات الشرعي. وإن كان أحرم من الميقات، أحرم منه في القضاء. وإن كان أحرم بعد مجاوزة الميقات، نظر، إن جاوزه مسيئا، لزمه في القضاء الاحرام من الميقات الشرعي، وليس له أن يسئ ثانيا. وهذا معنى قول الاصحاب: يحرم في القضاء من أغلظ الموضعين، من الميقات، أو من حيث أحرم في الاداء. وإن جاوزه غير مسئ، بأن لم يرد النسك، ثم بدا له، فأحرم، ثم أفسد، فوجهان. أصحهما، وبه قطع صاحب التهذيب وغيره: أن عليه أن يحرم في القضاء من الميقات الشرعي. والثاني: له أن يحرم من ذلك الموضع ليسلك بالقضاء مسلك الاداء. ولهذا لو اعتمر من الميقات، ثم أحرم بالحج من مكة، وأفسده، كفاه في القضاء أن يحرم من نفس مكة. ولو أفرد الحج، ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل، ثم أفسدها، كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل. والوجهان فيمن لم يرجع إلى الميقات. أما لو رجع ثم عاد، فلا بد من الاحرام من الميقات. ولا يجب أن يحرم بالقضاء في الزمن الذي أحرم منه بالاداء، بل له التأخير عنه، بخلاف المكان. والفرق أن اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل، فإن مكان الاحرام يتعين بالنذر، وزمانه لا يتعين. حتى لو نذر الاحرام في شوال، له تأخيره. وأظن أن هذا الاستشهاد لا يخلو من نزاع. قلت: ولا يلزمه في القضاء، أن يسلك الطريق الذي سلكه في الاداء بلا خلاف، لكن يشترط إذا سلك غيره أن يحرم من قدر مسافة الاحرام في الاداء. والله أعلم. فرع لو كانت المرأة محرمة أيضا، نظر، إن جامعها مكرهة أو نائمة، لم يفسد حجها. وإن كانت طائعة عالمة، فسد. وحينئذ، هل يجب على كل واحد منهما بدنة ؟ أم يجب على الزوج فقط بدنة عن نفسه ؟ أم عليه بدنة عنه وعنها ؟ فيه ثلاثة أقوال، كالصوم. وقطع قاطعون بإلزامها البدنة. وإذا خرجت الزوجة للقضاء، فهل يلزم الزوج ما زاد من النفقة بسبب السفر ؟ وجهان. أصحهما: يلزمه. وإذا(2/415)
خرجا للقضاء معا، استحب أن يفترقا من حين الاحرام. فإذا وصلا إلى الموضع الذي أصابها فيه، فقولان. قال في الجديد: لا تجب المفارقة. وقال في القديم: تجب. فرع ذكرنا في كون القضاء على الفور وجهين. قال القفال: هما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان، لانالكفارة في وضع الشرع، على التراخي كالحج. والكفارة بلا عدوان، على التراخي قطعا. وأجرى الامام الخلاف في المتعدي بترك الصوم. وقد سبق في كتاب الصوم انقسام قضاء الصوم إلى الفور والتراخي. قال الامام: والمتعدي بترك الصلاة، لزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف. وذكر غيره وجهين. أصحهما: هذا. والثاني: أنها على التراخي. وربما رجحه العراقيون. وأما غير المتعدي، فالمذهب: أنه لا يلزمه القضاء على الفور، وبهذا قطع الاصحاب. وفي التهذيب وجه: أنه يلزمه على الفور، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فليصلها إذا ذكرها. فرع يجوز للمفرد بأحد النسكين إذا أفسده، أن يقضيه مع الآخر قارنا، وأن يتمتع. ويجوز للمتمتع والقارن القضاء على سبيل الافراد. ولا يسقط دم القران بالقضاء على سبيل الافراد. وإذا جامع القارن قبل التحلل الاول، فسد نسكاه، وعليه بدنة واحدة، لاتحاد الاحرام، ويلزمه دم القران مع البدنة على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ثم إذا اشتغل بقضائهما، فإن قرن أو تمتع، فعليه دم آخر، وإلا، فقد أشار الشيخ أبو علي إلى خلاف فيه، ومال إلى أنه لا يجب شئ آخر. قلت: المذهب: وجوب دم آخر إذا أفرد في القضاء، وبه قطع الجمهور. وممن قطع به، الشيخ أبو حامد، والماوردي والمحاملي، والقاضي أبو الطيب في كتابيه، والمتولي، وخلائق آخرون، وهو مراد الامام الرافعي بقوله في أوائل هذا الفرع: لا يسقط دم القران، لكنه ناقضه بهذه الحكاية عن أبي علي. والله أعلم.(2/416)
وإن جامع بعد التحلل الاول، لم يسقط واحد من نسكيه، سواء كان أتى بأعمال العمرة، أم لا. وفيه وجه قاله الاودني: أنه إذا لم يأت بشئ من أعمال العمرة، كسدت عمرته. وهذا شاذ ضعيف، لان العمرة في القران تتبع الحج. ولهذا يحل للقارن معظم مخطورات الاحرام بعد التحلل الاول وإن لم يأت بأعمال العمرة ولو قدم القارن مكة، وطاف، وسعى، ثم جامع، بطل نسكاه وإن كان بعد أعمال العمرة. فرع إذا فات القارن الحج، لفوات الوقوف، فهل يحكم بفوات عمرته ؟ قولان. أظهرهما: نعم، تبعا للحج، كما تفسد بفساده. والثاني: لا، لانه يتحلل بعملها. فإن قلنا بفواتها، فعليه دم واحد للفوات، ولا يسقط دم القران. وإذا قضاهما، فالحكم على ما ذكرناه في قضائهما عند الافساد. إن قرن، أو تمتع، فعليه الدم، وإلا، فعلى الخلاف. فرع جميع ما ذكرناه، هو في جماع العامد العالم بالتحريم. فأما إذا جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فقولان. الاظهر: الجديد: لا يفسد. والقديم: يفسد. ولو أكره على الوطئ، فقيل: وجهان، بناء على الناسي، وقيل: يفسد قطعا، بناء على أن إكراه الرجل على الوطئ ممتنع. ولو أحرم عاقلا، ثم جن، فجامع، فيه القولان في الناسي. فرع لو أحرم مجامعا. فأوجه. أحدها: ينعقد صحيحا. فإن نزع في الحال، فذاك، وإلا، فسد نسكه، وعليه البدنة، والمضي في فاسده، والقضاء. والثاني: ينعقد فاسدا، وعليه القضاء والمضي في فاسده، سواء مكث، أو نزع. ولا تجب البدنة إن نزع في الحال وإن مكث، وجبت شاة في قول، وبدنة في قول كما سبق في نظائره. والجالث: لا ينعقد أصلا، كما لا تنعقد الصلاة مع الحدث.(2/417)
قلت: هذا الثالث: أصحها. والله أعلم. فصل إذا ارتد في أثناء حجه أو عمرته، فوجهان. أصحهما: يفسد، كالصوم والصلاة. والثاني: لا يفسد، لكن لا يعتد بالمفعول في الردة. ولا فرق على الوجهين بين طول زمنها وقصره. فإذا قلنا بالفساد، فوجهان. أصحهما: يبطل النسك من أصله، ولا يمضي فيه، لا في الردة، ولا بعد الاسلام. والثاني: أنه كالافساد بجماع، فيمضي في فاسده إن أسلم، لكن لا كفارة. النوع السادس: مقدمات الجماع. فيحرم على المحرم المباشرة بشهوة، كالمفاخذة، والقبلة، واللمس باليد بشهوة قبل التحلل الاول. وفي حكمها بين التحللين ما سبق من الخلاف. ومتى ثبت التحريم، فباشر عمدا، لزمه الفدية. وإن كان ناسيا، فلا شئ عليه بلا خلاف، لانه استمتاع محض. ولا يفسد شئ منها نسكه، ولا يوجب الفدية بحال وإن كان عمدا، سواء أنزل، أم لا. والاستمناء باليد، يوجب الفدية على الاصح. ولو باشر دون الفرج، ثم جامع، هل تدخل الشاة في البدنة، أم تجبان معا ؟ وجهان. قلت: الاصح: تدخل. ولا يحرم اللمس بغير شهوة. وأما قوله في الوسيط والوجيز: تحرم كل مباشرة تنقض الوضوء، فشاذ، بل غلط. والله أعلم. فرع لا ينعقد نكاح المحرم، ولا إنكاحه، ولا نكاح المحرمة. والمستحب ترك الخطبة للمحرم والمحرمة. وتمام هذه المسألة في كتاب النكاح. النوع السابع: الاصطياد. فيحرم عليه كل صيد(2/418)
مأكول، أو في أصله مأكول ليس مائيا، وحشيا كان، أو في أصله وحشي. ولا فرق بين المستأنس وغيره، ولا بين المملوك وغيره. ويجب في المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيا ومذبوحا لمالكه، إذا رده إليه مذبوحا. قلت: قال أصحابنا: هذا إذا قلنا: ذبيحة المحرم حلال، فإن قلنا: ميتة، لزمه له كل القيمة. وقد ذكره الرافعي بعد هذا بقليل. وقال الماوردي وغيره: وإذا قلنا: ميتة، فالجلد للمالك. والله أعلم. وقال المزني: لا جزاء في المملوك. ولو توحش حيوان إنسي، لم يحرم، لانه ليس بصيد. ويحرم التعرض لاجزاء الصيد، بالجرح والقطع. ولو جرحه فنقصت قيمته، فسيأتي بيان ما يجب بنقصه إن شاء الله تعالى. وإن برأ ولم يبق نقص ولا أثر، فهل يلزمه شئ ؟ وجهان، كالوجهين في جراحة الآدمي إذا اندملت ولم يبق نقص ولا شين، ويجريان فيما لو نتف ريشه فعاد كما كان. وبيض الطائر المأكول، مضمون بقيمته، فإن كانت مذرة، فلا شئ عليه بكسرها، إلا بيضة النعامة، ففيها قيمتها، لان قشرها قد ينتفع به. ولو نفر صيدا عن بيضته التي(2/419)
حضنها، ففسدت، لزمه قيمتها. ولو أخذ بيض دجاجة، فأحضنه صيدا، ففسد بيض الصيد، أو لم يحضنه، ضمنه، لان الظاهر أن فساد بيضه بسبب ضم بيض الدجاجة إليه. ولو أخذ بيض صيد وأحضنه دجاجة، فهو في ضمانة حتى يخرج الفرخ ويسعى. فلو خرج ومات قبل الامتناع، لزمه مثله من النعم. ولو كسر بيضة فيها فرخ له روح، فطار وسلم، فلا شئ عليه. وإن مات، فعليه مثله من النعم ولو حلب لبن صيد، ضمنه، قاله كثيرون من أصحابنا العراقيين وغيرهم. وقال الروياني: لا يضمن. فصل ما ليس بمأكول من الدواب والطيور، ضربان. ما ليس له أصل مأكول، وما أحد أصليه مأكول. فالاول: لا يحرم التعرض له بالاحرام، ولا جزاء على المحرم بقتله ثم من هذا الضرب: ما يستحب قتله للمحرم وغيره، وهي المؤذيات،(2/420)
كالحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب، والاسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبق، والزنبور. ولو ظهر القمل على بدن المحرم أو ثيابه، لم يكره تنحيته. ولو قتله، لم يلزمه شئ. ويكره له أن يفلي رأسه ولحيته. فإن فعل فأخرج منهما قملة وقتلها، تصدق ولو بلقمة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الاكثرون: هذا التصدق مستحب. وقيل: واجب، لما فيه من إزالة الاذى عن الرأس. قلت: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وللصئبان حكم القمل، وهو بيض القمل. والله أعلم ومنه: ما فيه منفعة ومضرة، كالفهد، والصقر، والبازي، فلا يستحب قتلها، لنفعها، ولا يكره، لضررها. ومنه: ما لا يظهر فيه منفعة ولا ضرر، كالخنافس، والجعلان، والسرطان، والرخم والكلب الذي ليس بعقور، فيكره قتلها. ولا يجوز قتل النمل، والنحل، والخطاف، والضفدع. وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد، خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما.(2/421)
قلت: قوله: إن الكلب الذي ليس بعقور يكره قتله، مراده كراهة تنزيه. وفي كلام غيره، ما يقتضي التحريم. والمراد: الكلب الذي لا منفعة فيه مباحة. فأما ما فيه منفعة مباحة، فلا يجوز قتله بلا شك، سواء في هذا، الكلب الاسود، وغيره. والامر بقتل الكلاب منسوخ. والله أعلم. الضرب الثاني: ما أحد أصليه مأكول، كالمتولد بين الذئب والضبع، وبين حماري الوحش والانس، فيحرم التعرض له، ويجب الجزاء فيه. قلت: قال الشافعي رحمه الله: فإن شك في شئ من هذا، فلم يدر أخالطه وحشي مأكول، أم لا، استحب فداؤه. والله أعلم. فرع الحيوان الانسي: كالنعم، والخيل، والدجاج، يجوز للمحرم ذبحها، ولا جزاء. والمتولد بين الانسي والوحشي، كالمتولد بين الظبي والشاة، أو بين اليعقوب والدجاجة، يجب فيه الجزاء كالمتولد بين المأكول وغيره. فرع صيد البحر حلال للمحرم، وهو ما لا يعيش إلا في البحر. أما ما يعيش في البر والبحر، فحرام كالبري. وأما الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج، فبرية. والجراد بري على المشهور. فصل جهات ضمان الصيد ثلاث. المباشرة، والتسبب، واليد. فالمباشرة، معروفة. وأما التسبب، فموضع ضبطه كتاب الجنايات. ويذكر هنا صور. إحداها: لو نصب الحلال شبكة في الحرم، أو نصبها المحرم حيث كان، فتعقل بها صيد وهلك، فعليه الضمان، سواء نصبها في ملكه أو غيره. قلت: ولو نصب الشبكة، أو الاحبولة وهو حلال، ثم أحرم فوقع بها صيد، لم يلزمه شئ، ذكره القفال، وصاحب البحر وغيرهما. وهو معنى نص(2/422)
الشافعي رحمه الله تعالى. والله أعلم. الثانية: لو أرسل كلبا، أو حل رباطه ولم يرسله، فأتلف صيدا، لزمه ضمانه. ولو انحل الرباط لتقصيره فيه، ضمن على المذهب، هذا إذا كان هناك صيد. فإن لم يكن، فأرسل الكلب أو حل رباطه، فظهر صيد، ضمنه أيضا على الاصح. قلت: قال القاضي أبو حامد وغيره: يكره للمحرم حمل البازي وكل صائد. فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله، فلا جزاء، لكن يأثم. ولو انفلت بنفسه فقتله. فلا ضمان. والله أعلم. الثالثة: لو نفر المحرم صيدا فعثر وهلك به، أو أخذه سبع، أو انصدم بشجرة، أو جبل، لزمه الضمان، سواء قصده تنفيره، أم لا، ويكون في عهدة التنفير حتى يعود الصيد إلى عادته في السكون. فإن هلك بعد ذلك، فلا ضمان. ولو هلك قبل سكون النفار بآفة سماوية، فلا ضمان على الاصح، إذ لم يتلف بسببه ولا في يده. ووجه الثاني: استدامة أثر النفار. الرابعة: لو حفر المحرم بئرا حيث كان، أو حفرها حلال في الحرم في محل عدوان، فهلك فيها صيد، لزمه الضمان. ولو حفرها في ملكه أو في موات، فثلاثة أوجه. أصحها: يضمن في الحرم دون الاحرام. قلت: وقيل: إن حفرها للصيد، ضمن، وإلا، فلا، واختاره صاحب الحاوي. والله أعلم. فرع لو دل الحلال محرما على صيد فقتله، وجب الجزاء على المحرم، ولا ضمان على الحلال، سواء كان في يده، أم لا، لكنه يأثم.(2/423)
ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فإن كان في يد المحرم، لزمه الجزاء، لانه ترك حفظه وهو واجب، فصار كالمودع إذا دل السارق، وإلا، فلا جزاء على واحد منهما. ولو أمسك محرم صيدا حتى قتله غيره، فإن كان القاتل حلالا، وجب الجزاء على المحرم وهل يرجع به على الحلال ؟ وجهان. قال الشيخ أبو حامد: لا، لانه غير حرام عليه. وقال القاضي أبو الطيب: نعم، وبه قطع في التهذيب كما لو غصب شيئا فإتلفه إنسان في يده. قلت: الاصح: الاول، لانه غير مضمون في حقه بخلاف شيئا فأتلفه إنسان في يد المغصوب. والله أعلم. وإن كان محرما أيضا، فوجهان. أصحهما: الجزاء كله على القاتل. والثاني: عليهما نصفين. وقال صاحب العدة: الاصح: أن الممسك يضمنه باليد، والقاتل بالاتلاف. فإن أخرج الممسك الضمان، رجع به على المتلف، وإن أخرج المتلف، لم يرجع على الممسك. قلت: قال صاحب البحر: لو رمى حلال صيدا، ثم أحرم، ثم أصابه، ضمنه على الاصح. ولو رمى محرم ثم تحلل، بأن قصر شعره، ثم أصابه، فوجهان. ولو رمى صيدا، فنفذ منه إلى صيد آخر، فقتلهما، ضمنهما. والله أعلم. الجهة الثالثة: اليد. فيحرم على المحرم إثبات اليد على الصيد ابتداء، ولا يحصل به الملك، وإذا أخذه، ضمنه كالغاصب. بل لو حصل التلف بسبب في يده، بأن كان راكب دابة، فتلف صيد بعضها، أو رفسها، أو بالت في الطرق،(2/424)
فزلق به صيد فهلك، لزمه الضمان. ولو انفلت بعيره فأتلف صيدا، فلا شئ عليه. نص على هذا كله. ولو تقدم ابتداء اليد على الاحرام، بأن كان في يده صيد مملوك له، لزمه إرساله على الاظهر. والثاني: لا يلزمه. وقيل: لا يلزمه قطعا، بل يستحب. فإن لم نوجب الارسال، فهو لى ملكه، له بيعه وهبته، لكن لا يجوز له قتله. فإن قتله، لزمه الجزاء. كما لو قتل عبده، تلزمه الكفارة. ولو أرسله غيره، أو قتله، لزمه قيمته للمالك، ولا شئ على المالك. وإن أوجبنا الارسال، فهل يزول ملكه عنه ؟ قولان. أظهرهما: يزول. فعلى هذا، لو أرسله غيره، أو قتله، فلا شئ عليه. ولو أرسله المحرم، فأخذه غيره، ملكه. ولو لم يرسله حتى تحلل، لزمه إرساله على الاصح المنصوص. وحكى الامام على هذا القول وجهين: في أنه يزول ملكه بنفس الاحرام، أم الاحرام يوجب عليه الارسال، فإذا أرسل، زال حينئذ ؟ وأولهما: أشبه بكلام الجمهور. وإن قلنا: لا يزول ملكه، فليس لغيره أخذه، فلو أخذه، لم يملكه. ولو قتله، ضمنه. وعلى القولين: لو مات في يده بعد إمكان الارسال، لزمه الجزاء، لانهما مفرعان على وجوب الارسال، وهو مقصر بالامساك. ولو مات الصيد قبل إمكان الارسال، وجب الجزاء على الاصح. ولا يجب تقديم الارسال على الاحرام بلا خلاف. فرع لو اشترى المحرم صيدا، أو اتهبه، أو أوصي له به، فقبل، فهو مبني على ما سبق. فإن قلنا: يزول ملكه عن الصيد بالاحرام، لم يملكه بهذه الاسباب، وإلا، ففي صحة الشراء والهبة قولان، كشراء الكافر عبدا مسلما فإن لم نصحح هذه العقود، فليس له القبض. فإن قبض فهلك في يده، لزمه الجزاء، ولزمه القيمة للبائع. فإن رده عليه، سقطت القيمة، ولم يسقط ضمان(2/425)
الجزاء إلا بالارسال. وإذا أرسل، كان كمن اشترى عبدا مرتدا فقتل في يده. وفيمن يتلف من ضمانه، خلاف موضعه كتاب البيع. قلت: كذا ذكر الامام الرافعي هنا، أنه إذا هلك في يده، ضمنه بالقيمة للآدمي مع الجزاء، وهذا في الشراء صحيح، أما في الهبة، فلا يضمن القيمة على الاصح، لان العقد الفاسد كالصحيح في الضمان، والهبة غير مضمونة، وقد ذكر الرافعي هذا الخلاف في كتاب الهبة: وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فرع لو مات للمحرم قريب يملك صيدا، ورثه على المذهب. وقيل: هو كالشراء. فإن قلنا: يرث، قال الامام، والغزالي: يزول ملكه عقب ثبوته، بناء على أن الملك زول عن الصيد بالاحرام. وفي التهذيب وغيره، خلافه. لانهم قالوا: إذا ورثه، لزمه إرساله. فإن باعه، صح بيعه ولا يسقط عنه ضمان الجزاء. حتى لو مات في يد المشتري، وجب الجزاء على البائع. وإنما يسقط عنه، إذا أرسله المشتري. وإن قلنا: لا يرث، فالملك في الصيد لباقي الورثة. وإحرامه بالنسبة إلى الصيد، مانع من موانع الارث، كذا قاله في التتمة. وقال الشيخ أبو القاسم الكرخي على هذا الوجه: إنه أحق به، فيوقف حتى يتحلل فيتملكه. قلت: هذا المنقول عن أبي القاسم الكرخي، هو الصحيح، بل الصواب المعروف على المذهب، وبه قطع الاصحاب في الطريقين. فممن صرح به الشيخ أبو حامد، والدارمي وأبو علي البندنيجي، والمحاملي في كتابيه، والقاضي أبو الطيب في المجرد، وصاحب الحاوي، والقاضي حسين، وصاحبا العدة والبيان. قال الدارمي: فإن مات الوارث قبل تحلله، قام وارثه مقامه. والله أعلم. فرع لو اشترى صيدا، فوجده معيبا وقد أحرم البائع، فإن قلنا: يملك الصيد بالارث، رده عليه، وإلا، فوجهان، لان منع الرد إضرار بالمشتري. ولو باع صيدا وهو حلال،، فأحرم ثم أفلس المشتري بالثمن، لم يكن له الرجوع على(2/426)
الاصح كالشراء، بخلاف الارث، فإنه قهري. فرع لو استعار المحرم صيدا، أو أودع عنده، كان مضمونا عليه بالجزاء، وليس له التعرض له. فإن أرسله، سقط عنه الجزاء وضمن القيمة للمالك. فإن رد إلى المالك، لم يسقط عنه الجزاء ما لم يرسله المالك. قلت: نقل صاحب البيان في باب العارية، عن الشيخ أبي حامد: أن المحرم إذا استودع صيدا لحلال، فتلف في يده، لم يلزمه الجزاء، لانه لم يمسكه لنفسه. والله أعلم. فرع حيث صار الصيد مضمونا على المحرم بالجزاء، فإن قتله حلال في يده، فالجزاء على المحرم. وإن قتله محرم آخر، فهل الجزاء عليهما، أم على القاتل ومن في يده طريق ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم. فرع لو خلص المحرم صيدا من فم سبع، أو هرة، أو نحوهما، وأخذه ليداويه ويتعهده، فمات في يده، لم يضمن على الاظهر. فرع الناسي، كالعامد في وجوب الجزاء، ولا أثم. وقيل: في وجوب الجزاء عليه قولان. والمذهب: الوجوب. ولو أحرم ثم جن، فقتل صيدا،(2/427)
ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما. قلت: أظهرهما: لا تجب. والله أعلم. فرع لو صال صيد على محرم، أو في الحرم، فقتله دفعا، فلا ضمان، ولو ركب إنسان صيدا، وصال على محرم، ولا يمكنه دفعه إلا بقتل الصيد، فقتله، فالمذهب: وجوب الجزاء على المحرم، وبه قطع الاكثرون، لان الاذى ليس من الصيد. وحكى الامام أن القفال ذكر فيه وجهين. أحدهما: الضمان على الراكب، ولا يطالب به المحرم. والثاني: يطالب المحرم، ويرجع بما غرم على الراكب. فرع لو ذبح صيدا في مخمصة وأكله، ضمن، لانه أهلكه لمنفعته من غير إيذاء من الصيد. ولو أكره محرم على قتل صيد، فقتله، فوجهان. أحدهما: الجزاء على الآمر. والثاني: على المحرم ويرجع به على الآمر، سواء صيد الحرم أو الاحرام. قلت: الثاني: أصح. والله أعلم. فرع ذكرنا أن الجراد وبيضه مضمونان بالقيمة. فلو وطئه عامدا أو جاهلا، ضمن. ولو عم المسالك ولم يجد بدا من وطئه، فوطئه، فالاظهر: أنه لا ضمان. وقيل: لا ضمان قطعا، ولو باض صيد في فراشه ولم يمكنه رفعه إلا بالتعرض للبيض، ففسد بذلك، ففيه هذا الخلاف. فرع إذا ذبح المحرم صيدا، لم يحل له الاكل منه. وهل يحل لغيره، أم يكون ميتة ؟ فيه قولان. الجديد: أنه ميتة. فعلى هذا، إن كان مملوكا،(2/428)
وجب مع الجزاء، قيمته للمالك. والقديم: لا يكون ميتة، فيحل لغيره. فإن كان مملوكا، لزمه مع الجزاء ما بين قيمته مذبوحا وحيا. وهل يحل له بعد زوال الاحرام ؟ وجهان. أصحهما: لا. وفي صيد الحرم إذا ذبح: طريقان. أصحهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالمنع، لانه محرم على جميع الناس، وفي جميع الاحوال. قلت: قال صاحب البحر: قال أصحابنا: إذا كسر بيض صيد، فحكم البيض حكم الصيد إذا ذبحه، فيحرم عليه قطعا. وفي غيره، القولان. وكذا إذا كسره في الحرم. قال أصحابنا: وكذا لو قتل المحرم الجراد، قال: وقيل: يحل البيض لغيره قطعا، بخلاف الصيد المذبوح على أحد القولين، لان إباحته تقف على الذكاة، بخلاف البيض. وعلى هذا، لو بلعه إنسان قبل كسره، لم يحرم. وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي الطبري. قال الروياني: وهو الصحيح. والله أعلم. فصل في بيان الجزاء الصيد ضربان، مثلي، وهو ما له مثل من النعم، وغير مثلي. فالمثلي: جزاؤه على التخيير والتعديل، فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم، إما بأن يفرق اللحم عليهم، وإما بأن يملكهم جملته مذبوحا. ولا يجوز أن يدفعه حيا، وبين أن يقوم المثل دراهم. ثم لا يجوز أن يتصدق بالدراهم، لكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. وأما غير المثلي، ففيه قيمته، ولا يتصدق بها دراهم، بل يجعلها طعاما، ثم إن شاء تصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوما. فان انكسر مد في الضربين، صام يوما. فحصل من هذا أنه في المثلي مخير بين الحيوان، والطعام، والصيام وفي غيره مخير بين الطعام،(2/429)
والصوم، هذا هو المذهب، والمقطوع به في كتب الشافعي والاصحاب. وروى أبو ثور قولا: أنها على الترتيب. وإذا لم يكن الصيد مثليا، فالمعتبر قيمته بمحل الاتلاف، وإلا، فقيمته بمكة ويومئذ، لان محل ذبحه مكة. فإذا عدل عن ذبحه، وجبت قمته بمحل الذبح. هذا نصه في المسألتين، وهو المذهب. وقيل: فيهما قولان. وحيث اعتبرنا محل الاتلاف، فللامام احتمالان، في أنه يعتبر في العدول إلى الطعام سعر الطعام في ذلك المكان، أم سعره بمكة ؟ والظاهر منهما: الثاني. فرع في بيان المثلي اعلم أن المثل ليس معتبرا على التحقيق، بل يعتبر على التقريب. وليس معتبرا في القيمة، بل في الصورة والخلقة. والكلام في الدواب ثم الطيور. أما الدواب: فما ورد فيه نص - أو حكم فيه صحابيان، أو عدلان من التابعين، أو من بعدهم - من النعم أنه مثل الصيد المقتول، اتبع، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم. وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضبع بكبش وحكمت الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنه، وفي حمار الوحش وبقرته، ببقرة، وفي الغزال، بعنز، وفي الارنب، بعناق، وفي اليربوع بجفرة. وعن عثمان رضي الله عنه: أنه حكم في(2/430)
أم حبين بحلان. وعن عطاء، ومجاهد: أنهما حكما في الوبر بشاة. قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن كانت العرب تأكله، ففيه جفرة، لانه ليس أكبر بدنا منها. وعن عطاء: في الثعلب شاة. وعن عمر رضي الله عنه: في الضب جدي. وعن بعضهم: في الابل، بقرة. أما العناق: فالانثى من المعز من حين تولد، إلى حين ترعى. والجفرة: الانثى من ولد المعز تفطم وتفصل عن أمها، فتأخذ في الرعي، وذلك بعد أربعة أشهر. والذكر جفر، هذا معناها في اللغة. لكن يجب، أن يكون المراد بالجفر هنا، ما دون العناق، فإن الارنب، خير من اليربوع. أما أم حبين، فدابة على خلقة الحرباء عظيمة البطن. الارنب، خير من اليربوع وفي حل أكلها، خلاف مذكور في الاطعمة. ووجوب الجزاء، يخرج على الخلاف. وأما الحلان، ويقال الحلام. فقيل: هو الجدي. وقيل: الخروف. ووقع في بعض كتب الاصحاب: في الظبي كبش. وفي الغزال عنز. وكذا قاله أبو القاسم الكرخي، وزعم أن الظبي: ذكر الغزلان، وأن الانثى غزال. قال الامام: هذا وهم، بل الصحيح: أن في الظبي عنزا، وهو شديد الشبه بها، فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب. وأما الغزال، فولد الظبي، فجب فيه ما يجب في الصغار. قلت: قول الامام، هو الصواب. قال أهل اللغة: الغزال: ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه، ثم هي ظبية، والذكر: ظبي. والله أعلم. هذا بيان ما فيه حكم. أما ما لانقل فيه عن السلف، فيرجع فيه إلى قول عدلين فقيهين فطنين. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد أحد الحكمين، أو يكون قاتلاه الحكمين ؟ نظر، إن كان القتل عدوانا، فلا، لانه يفسق. وإن كان خطأ، أو(2/431)
مضطرا إليه، جاز على الاصح، ولو حكم عدلان أن له مثلا، وعدلان أن لا مثل له، فهو مثلي. قلت: ولو حكم عدلان بمثل، وعدلان بمثل آخر، فوجهان في الحاوي والبحر. أصحهما: يتخير. والثاني: يلزمه الاخذ بأعظمهما، وهما مبنيان على اختلاف المفتيين. والله أعلم. وأما الطيور فحمام وغيره. فالحمامة، فيها شاة وغيرها إن كان أصغر منها جثة، كالزرزور، والصعوة، والبلبل، والقبرة، والوطواط ففيه القيمة. وإن كان أكبر من الحمام، أو مثله، فقولان. الجديد، وأحد قولي القديم: الواجب القيمة. والثاني: شاة، والمراد بالحمام: كل ما عب في الماء، وهو أن يشربه جرعا، وغير الحمام يشرب قطر قطرة. وكذا نص الشافعي رضي الله عنه في عيون المسائل، ولا حاجة في وصف الحمام، إلى ذكر الهدير مع العب، فإنهما متلازمان. ولهذا اقتصر الشافعي رضي الله عنه على العب، ويدخل في اسم الحمام، اليمام التي تألف البيوت، والقمري، والفاختة، والدبسي، والقطاة. فرع يفدى الكبير من الصيد بالكبير من مثله من النعم، والصغير بالصغير، والمريض بالمريض، والمعيب بالمعيب، إذا اتحد جنس العيب، كالعور والعور. وإن اختلف، كالعور والجرب، فلا. وإن كان عور أحدهما في اليمين، والآخر في اليسار، ففي إجزائه، وجهان. الصحيح: الاجزاء، وبه قطع العراقيون، لتقاربهما. ولو قابل المريض بالصحيح، أو المعيب بالسليم، فهو(2/432)
أفضل. وإن فدى الذكر بالانثى، فطرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: الاجزاء. والطريق الثاني: القطع بالجواز. والثالث: إن أراد الذبح، لم يجز. وإن أراد التقويم، جاز، لان قيمة الانثى أكثر، ولحم الذكر أطيب. والرابع: إن لم تلد الانثى، جاز، وإلا، فلا. فإن جوزنا الانثى فهل هي أفضل ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: تفضيل الذكر، للخروج من الخلاف. والله أعلم. وإن فدى الانثى بالذكر، فوجهان. وقيل: قولان قلت: أصحهما الاجزاء، وصححه البندنيجي. والله أعلم. فإذا تأملت ما ذكرنا من كلام الاصحاب، وجدتهم طاردين الخلاف مع نقص اللحم. وقال الامام: الخلاف فيما إذا لم ينقص اللحم في القيمة ولا في الطيب، فإن كان واحد من هذين النقصين، لم يجز بلا خلاف. فرع لو قتل صيدا حاملا، قابلناه بمثله حاملا. ولا يذبح الحامل، بل يقوم لمثل حاملا ويتصدق بقيمته طعاما. وفيه وجه: أنه يجوز ذبح حائل نفيسة بقيمة حامل وسط، ويجعل التفاوت بينهما، كالتفاوت بين الذكر والانثى ولو ضرب بطن صيد حامل، فألقى جنبنا ميتا، نظر، إن ماتت الام أيضا، فهو كقتل الحامل، وإلا، ضمن ما نقصت الام، ولا يضمن الجنين، بخلاف جنين الامة، يضمن بعشر قيمة الام، لان الحمل يزيد في قيمة البهائم، وينقص الآدميات، فلا يمكن اعتبار التفاوت في الآدميات، وإن ألقت جنينا حيا، ثم ماتا، ضمن كل واحد منهما بانفراده. وإن مات الولد وعاشت الام، ضمن الولد بانفراد، وضمن نقص الام. فرع قال الشافعي رحمه الله في المختصر: إن جرح ظبيا نقص عشر(2/433)
قيمته، فعليه عشر قيمة شاة. وقال المزني تخريجا عليه: عشر شاة. قال جمهور الاصحاب: الحكم ما قاله المزني، وإنما ذكر الشافعي القيمة، لانه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة، فأرشده إلى ما هو أسهل، فإن جزاء الصيد على التخيير. فعلى هذا، هو مخير، إن شاء أخرج العشر، وإن شاء صرف قيمته في طعام وتصدق به، وإن شاح صام عن كل مد يوما. ومنهم من جرى على ظاهر النص وقال: الواجب عشر القيمة. وجعل في المسألة قولين: المنصوص، وتخريج المزني. فعلى هذا إذا قلنا بالمنصوص، فأوجه، أصحها: تتعين الصدقة بالدراهم. والثاني، لا تجزئه الدراهم، بل يتصدق بالطعام، أو يصوم. والثالث: يتخير بين عشر المثل، وبين إخراج الدراهم. والرابع: إن وجد شريكا في الدم، أخرجه ولم تجزئه الدراهم، وإلا، أجزأته. هذا في الصيد المثلي. وأما غير المثلي، فالواجب ما نقص من قيمته قطعا. قلت: لو قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة، أو سبع شياه، لم يجز على الاصح ذكره في البحر. والله أعلم. فرع لو جرح صيدا، فاندمل جرحه وصار زمنا، فوجهان. أصحهما: يلزمه جزاء كامل، كما لو أزمن عبدا، لزمه كل قيمته. والثاني: أرش النقص. وعلى هذا، يجب قسط من المثل، أو من قيمة المثل ؟ فيه الخلاف السابق في الفرع قبله. ولو جاء محرم آخر، فقتله بعد الاندمال، أو قبله، فعليه جزاؤه زمنا، ويبقي الجزاء على الاول بحاله. وقيل: إن أوجبنا جزاء كاملا، عاد هنا إلى قدر النقص، لانه يبعد إيجاب جزاءين لمتلف واحد. ولو عاد المزمن فقتله، نظر، إن قتله قبل الاندمال، لزمه جزاء واحد. كما لو قطع يدي رجل ثم قتله، فعليه دية. وفي وجه: أن أرش الطرف ينفرد عن دية النفس، فيجئ مثله هنا. وإن قتله بعد الاندمال، أفرد كل واحد بحكمه. ففي القتل جزاؤه زمنا، وفيما يجب بالازمان، الخلاف السابق. وإذا أوجبنا بالازمان جزاءا كاملا، وكان للصيد امتناعان، كالنعامة، تمتنع بالعدو وبالجناح، فأبطل أحد امتناعيه، فوجهان. أحدهما: يتعدد الجزاء، لتعدد الامتناع. وأصحهما: لا، لاتحاد الممتنع. وعلى هذا، فما الواجب ؟ قال الامام: الغالب على الظن، أنه يعتبر ما نقص، لان امتناع النعامة في(2/434)
الحقيقة واحد، إلا أنه يتعلق بالرجل والجناح، فالزائل، بعض الامتناع. فرع جرح صيدا فغاب، ثم وجد ميتا ولم يدر أمات بجراحته أم بحادث فهل يلزمه جزاء كامل، أم أرش الجرح فقط ؟ قولان. قلت: أظهرهما: الثاني. والله أعلم. فرع إذا اشترك محرمون في قتل صيد، حرمي أو غيره، لزمهم جزاء واحد. ولو قتل القارن صيدا، لزمه جزاء واحد. وكذا لو ارتكب محظورا آخر، فعليه فدية واحدة. ولو اشترك محرم وحلال في قتل صيد، لزم المحرم نصف الجزاء، ولا شئ على الحلال. فرع قد سبق، أنه يحرم على المحرم أكل الصيد الذي ذبحه، وكذا يحرم عليه أكل ما اصطاده له حلال، أو بإعانته، أو بدلالته بلا خلاف. فإن أكل منه، فقولان. الجديد: لا جزاء عليه. والقديم: يلزمه القيمة بقدر ما أكل. ولو أكل المحرم ما ذبحه بنفسه، لم يلزمه لاكله بعد الذبح شئ آخر بلا خلاف، كما لا يلزمه في أكل صيد المحرم بعد الذبح شئ آخر. فرع يجوز للمحرم أكل صيد ذبحه الحلال إذا لم صده له، ولا كان بدلالته أو إعانته، ولا جزاء عليه قطعا. فصل صيد حرم مكة، حرام على المحرم والحلال. وبيان المحرم منه وما يجب به الجزاء وقدر الجزاء، يقاس بما سبق في صيد الاحرام. ولو أدخل حلال الحرم صيدا مملوكا، كان له إمساكه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء كالنعم، لانه صيد حل. ولو رمى من الحل صيدا في الحرم، أو من الحرم صيدا في الحل، أو أرسل كلبا في الصورتين، أو رمى صيدا بعضه في الحل وبعضه في الحرم - والاعتبار بقوائمه لا بالرأس - أو رمى حلال إلى صيد فأحرم قبل أن يصيبه، أو رمى محرم إليه، فتحلل قبل أن يصيبه، لزمه الضمان في كل ذلك. قلت: هذا الذي ذكره، فيما إذا كان بعضه في الحرم، هو الاصح. وذكر(2/435)
الجرجاني في المعاياة فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا يضمنه، لانه لم يكمل حرميا. والثاني: إن كان أكثره في الحرم، ضمنه، وإن كان أكثره في الحل، فلا. والثالث: إن كان خارجا من الحرم إلى الحل، ضمنه، وإن كان عكسه، فلا. والله أعلم. ولو رمى من الحل صيدا في الحل، فقطع السهم في مروره هواء الحرم، فوجهان. أحدهما: لا يضمن، كما لو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل، فتخطى طرف الحرم، فإنه لا يضمن. وأصحهما: يضمن، بخلاف الكلب، لان للكلب اختيارا، بخلاف السهم. ولهذا قال الاصحاب: لو رمى صيدا في الحل فعدا الصيد، فدخل الحرم، فأصابه السهم، وجب الضمان. وبمثله، لو أرسل كلبا، لا يجب. ولو رمى صيدا في الحل فلم يصبه، وأصاب صيدا في الحرم، وجب الضمان. وبمثله لو أرسل كلبا، لا يجب. ثم في مسألة إرسال الكلب وتخطيه طرف الحرم، إنما لا يجب الضمان إذا كان للصيد مفر آخر. فأما إذا تعين دخوله الحرم عند الهرب، فيجب الضمان قطعا، سواء كان المرسل عالما بالحال، أو جاهلا، غير أنه لا يأثم الجاهل. فرع لو أخذ حمامة في الحل، أو أتلفها، فهلك فرخها في الحرم، ضمنه، ولا يضمنها. ولو أخذ الحمامة من الحرم، أو قتلها، فهلك فرخها في الحل، ضمن الحمامة والفرخ جميعا، كما لو رمى من الحرم إلى الحل. ولو نفر صيدا حرميا، عامدا، أو غير عامد، تعرض للضمان. حتى لو مات بسبب التنفير بصدمة، أو أخذ سبع، لزمه الضمان. وكذا لو دخل الحل فقتله حلال، فعلى(2/436)
المنفر الضمان. بخلاف ما لو قتله محرم، فإن الجزاء عليه، تقديما للمباشرة. فرع لو دخل الكافر الحرم، وقتل صيدا، لزمه الضمان. وقال صاحب المهذب: يحتمل أن لا يلزمه. فصل قطع نبات الحرم حرام، كاصطياد صيده. وهل يتعلق به الضمان ؟ قولان. أظهرهما: نعم. والقديم: لا. ثم النبات: شجر وغيره. أما الشجر، فيحرم التعرض بالقلع والقطع لكل شجر رطب غير مؤذ حرمي. فيخرج بقيد الرطب اليابس، فلا شئ في قطعه، كما لو قد صيدا ميتا نصفين. وبقيد غير مؤذ: العوسج، وكل شجرة ذات شوك، فإنها كالحيوان المؤذي، فلا يتعلق(2/437)
بقطعها ضمان على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه اختاره صاحب التتمة: أنها مضمونة، لاطلاق الخبر، ويخالف الحيوان، فإنه يقصد بالاذية. ويخرج بقيد الحرمي أشجار الحل، فلا يجوز أن يقلع شجرة من أشجار الحرم، وينقلها إلى الحل، محافظة على حرمتها. ولو نقل، فعليه ردها، بخلاف ما لو نقل من بقعة من الحرم إلى أخرى، لا يؤمر بالرد. وسواء نقل أشجار الحرم، أو أغصانها، إلى الحل، أو إلى الحرم، ينظر، إن يبست، لزمه الجزاء. وإن نبتت في الموضع المنقول إليه، فلا جزاء عليه. فلو قلعها قالع، لزمه الجزاء إبقاء لحرمة الحرم. ولو قلع شجرة من الحل وغرسها في الحرم فنبتت، لم يثبت لها حكم الحرم، بخلاف الصيد يدخل الحرم، فيجب الجزاء بالتعرض له، لان الصيد ليس بأصل ثابت، فاعتبر مكانه. والشجر أصل ثابت، فله حكم منبته. حتى لو كان أصل الشجرة في الحرم، وأغصانها في الحل، فقطع من أغصانها شيئا، وجب الضمان للغصن. ولو كان عليه صيد فأخذه، فلا ضمان. وعكسه: لو كان أصلها في الحل، وأغصانها في الحرم، فقطع غصنا منها، فلا شئ عليه. ولو كان عليه صيد فأخذه، لزمه ضمانه. قلت: قال صاحب البحر: لو كان بعض أصل الشجرة في الحل، وبعضه في الحرم، فلجميعها حكم الحرم. قال بعض أصحابنا: لو انتشرت أغصان الشجرة الحرمية، ومنعت الناس الطريق، أو آذتهم، جاز قطع المؤذي منها. والله أعلم. فرع إذا أخذ غصنا من شجرة حرمية، ولم يخلف، فعليه ضمان النقصان، وسبيله سبيل جرح الصيد. وإن أخلف في تلك السنة لكون الغصن لطيفا، كالسواك، وغيره، فلا ضمان. وإذا أوجبنا الضمان، فنبت وكان المقطوع مثله، ففي سقوط الضمان قولان، كالقولين في السن إذا نبت بعد القلع.(2/438)
فرع يجوز أخذ أوراق الاشجار، لكن لا يخبطها، مخافة من أن يصيب قشورها. فرع يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، وإن شاء ببدنة، وما دونها بشاة، والمضمونة بشاة ما كانت قريبة من سبع الكبيرة، فإن صغرت جدا، فالواجب القيمة. ثم ذلك كله على التعديل والتخيير كالصيد. فرع هل يعم التحريم والضمان من الاشجار، ما ينبت بنفسه، وما يستنبت، أم يختص بالضرب الاول ؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما عند العراقيين والاكثرين من غيرهم: التعميم. والثاني: التخصيص، وبه قطع الامام، والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالتعميم. فإذا قلنا: بالتخصيص زاد قيد آخر، وهو كون الشجر مما ينبت بنفسه. وعلى هذا، يحرم الاراك والطرفاء وغيرهما من أشجار البوادي. وأدرج الامام فيه العوسج، لكنه ذو شوك، وقد سبق بيانه. ولا تحرم المستنبتات، مثمرة كانت، كالنخل والعنب، أو غير مثمرة، كالخلاف. وعلى هذا القول، لو نبت ما يستنبت أو عكسه، فالصحيح الذي قاله الجمهور: أن الاعتبار بالجنس، فيجب الضمان في الثاني دون الاول. وقيل: الاعتبار بالقصد، فينعكس. أما غير الاشجار، فكلا الحرم يحرم قطعه. فإن قلعه، لزمه القيمة، إن لم يخلف. فإن أخلف، فلا قيمة قطعا، لان الغالب هنا الاخلاف كسن الصبي. فلو كان يابسا، فلا شئ في قطعه كما سبق في الشجر. فلو قلعه، لزمه الضمان، لانه لو لم يقلع، لنبت ثانيا، ذكره في التهذيب. ويجوز تسريح البهائم في حشيشه لترعى. ولو أخذ الحشيش لعلف البهائم، جاز على الاصح. ويستثنى من المنع، الاذخر، فإنه يجوز لحاجة السقوف وغيرها، للحديث الصحيح.. ولو احتيج إلى شئ من نبات الحرم للدواء، جاز قطعه على الاصح.(2/439)
فرع يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع، ولا يكره نقل ماء زمزم. قال الشيخ أبو الفضل بن عبدان: ولا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة، ونقله، وبيعه، وشراؤه، خلاف ما تفعله العامة، يشترونه من بني شيبة، وربما وضعوه في أوراق المصاحف. ومن حمل منه شيئا، لزمه رده. قلت: الاصح: أنه لا يجوز إخراج تراب الحرم، ولا أحجاره إلى الحل. ويكره إدخال تراب الحل وأحجاره الحرم. وبهذا قطع صاحب المهذب والمحققون من أصحابنا. وأما ستر الكعبة، فقد قال الحليمي، رحمه الله، أيطا: لا ينبغي أن يؤخذ منها شئ. وقال صاحب التلخيص: لا يجوز بيع أستار الكعبة. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن عبدان والحليمي: الامر فيها إلى الامام، يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما رواه الازرقي صاحب كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينزع كروة البيت كل سنة، فيقسمها على الحاج. وهذا الذي اختاره الشيخ، حسن متعين، لئلا يتلف بالبلى، وبه قال ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم قالوا: ويلبسها من صارت إليه من جنب وحائض وغيرهما. ولا يجوز أخذ طيب الكعبة، فإن أراد التبرك، أتى بطيب من عنده فمسحها به، ثم أخذه. والله أعلم. فصل لا يتعرض لصيد حرم المدينة وشجره، وهو حرام على المذهب. وحكي قول ووجه: أنه مكروه. فإذا حرمناه، ففي الضمان قولان. الجديد: لا يضمن. والقديم: يضمن. وفي ضمانه وجهان. أحدهما: كحرم مكة. وأصحهما: أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر. وفي المراد بالسلب: وجهان. الصحيح وبه قطع الاكثرون: كسلب القتيل من الكفار. والثاني: ثيابه(2/440)
فقط. وفي مصرفه: أوجه. الصحيح: أنه للسالب كالقتيل. والثاني: لفقراء المدينة. والثالث: لبيت المال. واعلم أن ظاهر الحديث، وكلام الائمة: أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط الاتلاف. وقال إمام الحرمين: لا أدري أيسلب إذا أرسل الصيد، أم لا يسلب حتى يتلفه ؟ قلت: ذكر صاحب البحر وجهين: في أنه هل يترك للمسلوب من ثيابه ما يستر عورته ؟ واختار: أنه يترك، وهو قول صاحب الحاوي، وهو الاصوب. والله أعلم. فصل وج: واد بصحراء الطائف، وصيده حرام على المذهب. وقيل: في تحريمه وكراهته خلاف. فعلى التحريم، قيل: حكمه في الضمان كحرم المدينة. والصحيح الذي قطع به صاحب التلخيص والاكثرون: أنه لا ضم فيه قطعا. فصل النقيع - بالنون وقيل: بالباء - ليس بحرم، ولكن حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لابل الصدقة، ونعم الجزية، فلا يحرم صيده، لكن لا(2/441)
تملك أشجاره ولا حشيشه. وفي وجوب ضمانهما على متلفهما، وجهان. أحدهما: لا، كصيده. وأصحهما: يجب، لانه ممنوع، بخلاف الصيد. فعلى هذا، ضمانهما بالقيمة، ومصرفهما مصرف نعم الجزية والصدقة. قلت: ينبغي أن يكون مصرفه بيت المال. والله أعلم. فصل المحظورات، تنقسم إلى استهلاك، كالحلق، وإلى استمتاع، كالطيب. وإذا باشر محظورين. فله أحوال. أحدها: أن يكون أحدهما استهلاكا، والآخر استمتاعا، فينظر، إن لم يستند إلى سبب واحد، كحلق الرأس، ولبس القميص، تعددت الفدية كالحدود المختلفة. وإن استند إلى سبب، كمن أصابت رأسه شجة واحتاج إلى حلق جوانبها وسترها بضماد فيه طيب، تعددت أيضا على الاصح. والثاني: تتداخل. الحال الثاني: أن يكونا استهلاكا، وهذا ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون مما يقابل بمثله، وهو الصيود فتعدد الفدية، سواء فدى عن الاول، أم لا، اتحد المكان، أو اختلف، وإلى بينهما، أو فرق، كضمان المتلفات. الضرب الثاني: أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله، والآخر ليس مقابلا، كالصيد والحلق، فحكمه حكم الضرب الاول بلا خلاف. الضرب الثالث: أن لا يقابل واحد منهما، فينظر، إن اختلف نوعهما، كالحلق والقلم، تعددت، سواء فرق أو والى في مكان أو مكانين، بفعلين أم بفعل، كمن لبس ثوبا مطيبا، فإنه يلزمه فديتان. وفي هذه الصورة وجه ضعيف: أنه فدية واحدة.(2/442)
قلت: الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أن من لبس ثوبا مطيبا وطلى رأسه بطيب ستره بكفيه، فعليه فدية واحدة، لاتحاد الفعل وتبعية الطيب. والله أعلم. وإن اتحد النوع، بأن حلق فقط، فقد سبق، أن حلق ثلاث شعرات، فيه فدية كاملة. ولو حلق جميع الرأس دفعة في مكان واحد، ففديه فقط. ولو حلق شعر رأسه وبدنه متواصلا، ففدية على الصحيح. وقال الانماطي: فديتان. ولو حلق رأسه في مكانين أو مكان، في زمانين متفرقين، فالمذهب: التعدد. وقيل: هو كما لو اتحد نوع الاستمتاع، واختلف المكان أو الزمان، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ولو حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة، أو ثلاثة أزمنة متفرقة، فإن قلنا: كل شعرة تقابل بثلث دم، فلا فرق بين حلقها دفعة أو دفعات. وإن قلنا: الشعرة بمد أو درهم، والشعرتان بمدين أو درهمين، بني على الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن لم نعدد الفدية فيما إذا حلق افرأس في دفعات، ولم نجعل لتفرق الزمان أثرا، فالواجب دم. وإن عددنا وجعلنا التفريق مؤثرا، قطعنا حكم كل شعرة عن الاخريين، وأوجبنا ثلاثة أمداد في قول، وثلاثة دراهم في قول. الحال الثالث: أن يكون استمتاعا. فإن اتحد النوع، بأن تطيب بأنواع من الطيب، أو ليس أنواعا، كالعمامة، والقميص، والسراويل، والخف، أو نوعا واحدا مرة بعد أخرى، نظر، إن فعل ذلك في مكان على التوالي، لم تتعدد الفدية، ولا يقدح في التوالي طول الزمان في مضاعفة القمص وتكوير العمامة. وإن فعل ذلك في مكانين، أو مكان، وتخلل زمان، نظر، إن لم يتخلل التكفير، فقولان. الجديد: يجب للثاني فدية أخرى. والقديم: يتداخل. فإن قلنا بالجديد فجمعهما سبب واحد، بأن تطيب، أو لبس مرارا لمرض واحد، فوجهان. أصحهما: التعدد. وإن تحلل، وجبت فدية أخرى بلا خلاف. فإن كان نوى بما أخرجه الماضي والمستقبل جميعا، بني على جواز تقديم الكفارة على الحنث المحظور. إن قلنا: لا يجوز، فلا أثر لهذه النية. وإن جوزناه، فوجهان. أحدهما: أن الفدية كالكفارة في جواز التقديم، فلا يلزمه للثاني شئ. والثاني:(2/443)
المنع. أما إذا اختلف النوع، بأن لبس وتطيب، فالاصح: التعدد، وإن اتحد الزمان، والمكان، والسبب. والثاني: التداخل. والثالث: إن اتحد السبب، تداخل، وإلا، فلا. هذا كله في غير الجماع، فإن تكرر الجماع، فقد سبق حكمه. قلت: لا يتعدد الجزاء، بتعدد جهة التحريم إذا اتحد الفعل كما سبق في محرم قتل صيدا حرميا وأكله، لزمه جزاء واحد. ولو باشر امرأته مباشرة توجب شاة لو انفردت، ثم جامعها، ففي وجه: يكفيه البدنة عنهما. ووجه: تجب شاة وبدنة. ووجه: إن قصد بالمباشرة الشروع في الجماع، فبدنة، وإلا فشاة وبدنة. ووجه: إن طال الفصل، فشاة وبدنة، وإلا فبدنة. والاول: أصح. والله أعلم.
باب موانع إتمام الحج بعد الشروع فيه هي ستة نواع. الاول: الاحصار، فإذا أحصر العدو المحرمين عن المضي في الحج من جميع الطرق، كان لهم أن يتحللوا. فإن كان الوقت واسعا، فالافضل أن لا يعجل التحلل، فربما زال المنع فأتم الحج. وإن كان الوقت ضيقا، فالافضل تعجيل التحلل، لئلا يفوت الحج. ويجوز للمحرم بالعمرة، التحلل عند الاحصار. ولو(2/444)
منعوا ولم يتمكنوا من المضي إلا ببذل مال، فلهم التحلل، ولا يبذلون المال وإن قل، بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارا، لما فيه من الصغار. وإن احتاجوا إلى قتال ليسيروا، نظر، إن كان المانعون مسلمين، فلهم التحلل، ولا يلزمهم القتال وإن قدروا عليه. وإن كانوا كفارا، فقيل: يلزمهم قتالهم إن لم يزد عدد الكفار على الضعف. وقال إمام الحرمين: هذا الاطلاق ليس بمرضي، بل شرطه وجدانهم السلاح، وأهبة القتال. فإن وجدوا، فلا سبيل إلى التحلل. والصحيح الذي قاله الاكثرون: أنه لا يجب القتال، وإن كان في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، لكن إن كان بالمسلمين قوة، فالاولى أن يقاتلوهم، نصرة للاسلام، وإتماما للحج. وإن كان بالمسلمين ضعف، فالاولى أن يتحللوا، وعلى كل حال لو قاتلوا، فلهم لبس الدروع والمغافر، وعليهم الفدية كمن لبس لحر أو برد. فرع ما ذكرناه من جواز التحلل بلا خلاف، هو فيما إذا منعوا المضي، دون الرجوع. فأما لو أحاط بهم العدو من الجوانب كلها، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: جواز التحلل أيضا. والثاني: لا، إذ لا يحصل به أمن. فصل ليس للمحرم التحلل بعذر المرض، بل يصبر حتى يبرأ. فإن كان محرما بعمرة، أتمها. وإن كان بحج وفاته، تحلل بعمل عمرة، لانه لا يستفيد بالتحلل زوال المرض، بخلاف المحصر. هذا إذا لم يشرط التحلل بالمرض. فإن شرط أنه إذا مرض تحلل، فطريقان. قال الجمهور: يصح الشرط في القديم. وفي الجديد: قولان. أظهرهما: الصحة. والثاني: المنع. والطريق الثاني قاله الشيخ أبو حامد وغيره: القطع بالصحة، لصحة الحديث فيه ولو شرط التحليل لغرض اخر، كضلال الطريق. وفراغ النفقة، والخطأ في(2/445)
العدد، فهو كالمرض على المذهب. وقييل: لا يصح قطعا وحيث صححنا الشرط، فتحلل، فإن كان اشترط التحلل بالهدي، لزمه الهدي. وإن كان شرط التحلل بلا هدي، لم يلزمه الهدي. وإن أطلق، لم يلزمه على الاصح. ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض، فهو أولى بالصحة من شرط التحلل، ونص عليه. ولو قال: إذا مرضت، فأنا حلال، فيصير حلالا بنفس المرض، أم لا بد من التحلل ؟ فيه وجهان. المنصوص: الاول فصل يلزم من تحلل بالاحصار، دم شاة إن لم يكن سبق منه شرط. فإن كان شرط عند إحرامه، أنه يتحلل إذا أحصر، ففي تأثير هذا الشرط في إسقاط الدم طريقان. أحدهما: على وجهين كما سبق فيمن تحلل بشرط المرض. وأصحهما: القطع بأنه لا يؤثر، لان التحلل بالاحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغ. فرع اختلف القول في أن دم الاحصار، هل له بدل وما بدله ؟ وهو على الترتيب، أم التخيير ؟ وسيأتي إيضاح هذا كله في الباب الآتي إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: لا بدل، وكان واجدا لدم، ذبحه، ونوى التحلل عنده. وإنما اشترطت النية، لان الذبح قد كون للتحلل ولغيره، فيشترط قصد صارف. وإن لم يجد الهدي لاعساره أو غير ذلك، فهل يتحلل في الحال، أم يتوقف التحلل على وجوده ؟ قولان. أظهرهما: التحلل في الحال، ولا بد من نية التحلل. وهل يجب الحلق ؟ إن قلنا: هو نسك، فنعم، وإلا، فلا. والحاصل: أنا إن اعتبرنا الذبح والحلق مع النية، فالتحلل بالثلاثة. وإن لم نعتبر الذبح، حصل بالنية مع الحلق على الاظهر، وبالنية وحدها على الآخر، وهو قولنا: الحلق ليس بنسك. وإن قلنا: لدم الاحصار بدل، فإن كان يطعم، توقف التحلل عليه، كتوقفه على(2/446)
الذبح. وإن كان يصوم، فكذلك مع ترتب الخلاف. ومنع التوقف هنا أولى للمشقة في الصبر على الاحرام، لطول مدة الصوم. فرع لا يشترط بعث دم الاحصار إلى الحرم، بل يذبحه حيث أحصر ويتحلل، وكذا ما لزمه من دماء المحظورات قبل الاحصار، وما معه من هدي، ويفرق لحومها على مساكين ذلك الموضع. هذا إن صد عن الحرم. فإن صد عن البيت دون أطراف الحرم، فهل له الذبح في الحل ؟ وجهان. أصحهما: الجواز. المانع الثاني: الحصر الخاص الذي يتفق لواحد، أو شرذمة من الرفقة. فينظر، إن لم يكن المحرم معذورا فيه، كمن حبس في دين يتمكن من أدائه، فليس له التحلل، بل عليه أن يؤدي ويمضي في حجه. فإن فاته الحج في الحبس، لزمه أن يسير إلى مكة ويتحلل بعمل عمرة. وإن كان معذورا، كمن حبسه السلطان ظلما، أو بدين لا يتمكن من أدائه، جاز له التحلل على المذهب، وبه قطع العراقيون، وقال المراوزة: في جواز التحلل قولان. أظهرهما: الجواز. المانع الثالث: الرق. فإحرام العبد ينعقد بإذن سيده وبغير إذنه. فإن أحرم بإذنه، لم يكن له تحليله، سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده. ولو باعه والحالة هذه، لم يكن للمشتري تحليله، وله الخيار إن جهل إحرامه، فإن أحرم بغير إذنه، فالاولى أن يأذن له في إتمام نسكه. فإن حلله، جاز على المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى ابن كج وجها: أنه ليس له تحليله، لانه يلزمه بالشروع، تخريجا من أحد القولين في الزوجة إذا أحرمت بحج التطوع، وهذا شاذ منكر. قلت: قال الجرجاني في المعاياة: ولو باعه والحالة هذه،، فللمشتري تحليله كالبائع، ولا خيار له. والله أعلم. ولو أذن له في الاحرام، فله الرجوع قبل الاحرام. فإن رجع ولم يعلم العبد، فأحرم، فله تحليله على الاصح. ولو أذن له في العمرة، فأحرم بالحج، فله تحليله، ولو كان بالعكس، لم يكن له تحليله. قاله في التهذيب. وظني أنه لا يسلم عن الخلاف.(2/447)
قلت: ذكر الدارمي في الصورتين وجهين، لكن الاصح قول صاحب التهذيب. والله أعلم. ولو أذن له في التمتع، فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة، وليس له تحليله عن العمرة، ولا عن الحج، بعد الشروع. ولو أذن في الحج أو التمتع، فقرن، لم يجز تحليله. ولو أذن أن يحرم في ذي القعدة، فأحرم في شوال، فله تحليله قبل دخول ذي القعدة، وبعد دخوله، فلا. وإذا أفسد العبد حجه بالجماع، لزمه القضاء. وهل يجزئه القضاء في الرق ؟ فيه قولان كما سبق في الصبي. فإن قلنا: يجزئ، لم يلزم السيد أن يأذن له فيه إن كان إحرامه الاول من غير إذنه، وكذا إن كان بإذنه على الاصح. وكل دم لزمه بفعل محظور، كاللباس، والصيد، أو بالفوات، لم يلزمه السيد بحال سواء أحرم بإذنه أم بغير إذنه. ثم العبد، لا ملك له حتى يتحلل بذبح. فإن ملكه السيد، فعلى القديم: يملك، فيلزم إخراجه. وعلى الجديد، لا يملك، ففرضه الصوم، وللسيد منعه منه في حال الرق إن كان أحرم بغير إذنه، وكذا بإذنه على الاصح، لانه لم يأذن في موجبه. ولو قرن، أو تمتع بغير إذن سيده، فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات. وإن قرن أو تمتع بإذنه، فهل يجب الدم على السيد ؟ الجديد: أنه لا يجب. وفي القديم قولان، بخلاف ما لو أذن له في النكاح، فإن السيد يكون ضامنا للمهر على القديم قولا واحدا، لانه لا بدل للمهر، وللدم بدل، وهو الصوم، والعبد من أهله. وعلى هذا، لو أحرم بإذن السيد، فأحصر وتحلل، فإن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، صار السيد ضامنا على القديم قولا واحدا. وإن قلنا: له بدل، ففي صيرورته ضامنا له في القديم، قولان. وإذا لم نوجب الدم على السيد، فالواجب على العبد الصوم، وليس لسيده منعه منه على الاصح، لاذنه في سببه. ولو ملك السيد هديا، وقلنا: يملكه، أراقه، وإلا، لم تجز إراقته. ولو أراقه السيد عنه فهو على هذين القولين. ولو أراق عنه بعد موته، جاز قولا واحدا، لانه حصل اليأس من تكفيره. والتمليك بعد الموت، ليس بشرط. ولهذا، لو تصدق عن ميت جاز. ولو عتق العبد قبل صومه ووجد هديا، فعليه الهدي إن اعتبرنا في الكفارة حال الاداء أو الاغلظ. وإن اعتبرنا حال الوجوب، فله الصوم. وهل له الهدي ؟ قولان. فرع حيث جوزنا للسيد تحليله، أردنا أنه يأمره بالتحلل، لا أنه يستقل بما(2/448)
يحصل به التحلل، إذ غايته أن يستخدمه ويمنعه المضي، ويأمره بفعل المحظورات، أو يفعلها به، ولا يرتفع الاحرام بشئ من هذا. وإذا جاز للعبد تحليله، جاز للعبد التحلل. ثم إن ملكه السيد هديا، وقلنا: يملك، ذبح ونوى التحلل، أو حلق ونوى التحلل، وإلا فطريقان. أحدهما: أنه كالحر، فيتوقف تحلله على وجود الهدي، إن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، أو على الصوم، إن قلنا: له بدل. كل هذا على أحد القولين. وعلى أظهرهما: لا يتوقف، بل يكفيه نية التحلل والحلق إن قلنا: نسك. والطريق الثاني، القطع بهذا القول الثاني. وهذا الطريق، هو الاصح عند الاصحاب، لعظم المشقة في انتظار العتق، ولان منافعه لسيده، وقد يستعمله في محظورات الاحرام. فرع أم الولد، والمدبر، والمعلق عتقه بصفة، ومن بعضه حر، كالقن. ولو أحرم المكاتب بغير إذن المولى، فقيل: في جواز تحليله قولان، كمنعه من سفر التجارة. وقيل: له تحليله قطعا، لان للسيد منفعة في سفر التجارة. فرع ينعقد نذر الحج من العبد وإن لم يأذن له السيد على الاصح، فيكون في ذمته. فلو أتى به في حال الرق، هل يجزئه ؟ وجهان. قلت: الاصح. يجزئه. والله أعلم. المانع الرابع: الزوجية. يستحب للمرأة أن لا تحرم بغير إذن زوجها،(2/449)
ويستحب له الحج بها. فلو أرادت أداء فرض حجها، فللزوج منعها على الاظهر. والثاني: ليس له، بل لها أن تحرم بغير إذنه. ومنهم من قطع بهذا، والمذهب: الاول. ولو أحرمت بغير إذنه، إن قلنا: ليس له منعها، لم يملك تحليلها، وإلا، فيملكه على الاظهر. وأما حج التطوع، فله منعها منه. فإن أحرمت به، فله تحليلها على المذهب، وقييل: قولان. وحيث قلنا: يحللها. فمعناه: يأمرها به كما سبق في العبد. وتحللها كتحلل الحر المحصر سواء. ولو لم تتحلل، فللزوج أن يستمتع بها، والاثم عليها، كذا حكاه الامام عن الصيدلاني، ثم توقف فيه الامام. فرع لو كانت مطلقة، فعليه حبسها للعدة، وليس لها التحلل، إلا أن تكون رجعية، فيراجعها ويحللها. فرع الامة المزوجة، ليس لها الاحرام إلا بإذن الزوج والسيد جميعا. المانع الخامس: منع الابوين، فمن له أبوان، أو أحدهما، يستحب أن لا يحج إلا بإذنهما، أو بإذنه. ولكل منهما منعه من الاحرام بالتطوع على المذهب. وحكي فيه وجه شاذ. وهل لهما تحليله ؟ قولان سبق نظيرهما. وأما حج الفرض، فليس لهما منعه من الاحرام به على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: قولان كالزوجة، فإن أحرم به، فلا منع بحال، وحكي فيه وجه شاذ منكر. المانع السادس: الدين. فمن عليه دين حال وهو موسر، يجوز لمستحق الدين منعه من الخروج وحبسه. فإن أحرم، فليس له التحلل كما سبق، بل عليه قضاء الدين والمضي فيه. وإن كان معسرا، فلا مطالبة ولا منع، وكذا لا منع لو كان الدين مؤجلا، لكن يستحب أن لا يخرج حتى يوكل من يقضي الدين عند حلوله. فصل إذا تحلل المحصر، فإن كان نسكه تطوعا، فلا قضاء، وإلا، فإن لم يكن مستقرا كحجة الاسلام في السنة الاولى من سني الامكان، فلا حج عليه، إلا أن تجتمع شروط الاستطاعة بعد ذلك. وإن كان مستقرا كحجة الاسلام فيما بعد السنة الاولى من سني الامكان، وكالقضاء والنذر، فهو باق في ذمته. ثم ما ذكرناه من نفي القضاء، هو في الحصر العام. فأما الخاص، فالاصح: أنه كالعام. وقيل: يجب فيه القضاء.(2/450)
فرع لو صد عن طريق، وهناك طريق آخر، نظر، إن تمكن من سلوكه، بأن وجد شرائط الاستطاعة فيه، لزمه سلوكه، سواء طال هذا الطريق، أم قصر، سواء رجا الادراك، أم خاف الفوات، أم تيقنه، بأن أحصر في ذي الحجة وهو بالعراق مثلا، فيجب المضي والتحلل بعمل عمرة، ولا يجوز التحلل بحال، وإذا سلكه كما أمرناه، ففاته الحج لطول الطريق الثاني، أو خشونته، أو غيرهما مما يحصل الفوات بسببه، لم يلزمه القضاء على الاظهر، لانه محصر، ولعدم تقصيره. والثاني: يلزمه كما لو سلكه ابتداء ففاته بضلال الطريق ونحوه. ولو استوى الطريقان من كل وجه، وجب القضاء قطعا، لانه فوات محض. وإن لم يتمكن من سلوك الطريق الآخر، فهو كالصد المطلق. ولو أحصر، فصابر الاحرام متوقعا زواله، ففاته الحج، والاحصار دائم، تحلل بعمل عمرة، وفي القضاء، طريقان. أصحهما: طرد القولين فيمن فاته لطول الطريق الثاني. والطريق الثاني: القطع بوجوب القضاء، فإنه تسبب بالمصابرة في الفوات. فرع لا فرق في جواز التحلل بالاحصار بين أن يتفق قبل الوقوف أو بعده، ولا بين الاحصار عن البيت فقط، أو عن الموقف فقط، أو عنهما. ثم إن كان قبل الوقوف، وأقام على إحرامه إلى أن فاته الحج، فإن أمكنه التحلل بالطواف والسعي، لزمه وعليه القضاء والهدي، للفوات. وإن لم يزل الحصر، تحلل بالهدي، وعليه مع القضاء هديان. أحدهما: للفوات، والآخر: للتحلل. وإن كان الاحصار بعد الوقوف، فإن تحلل، فذاك. وهل يجوز البناء لو انكشف الاحصار ؟ فيه الخلاف السابق. الجديد: لا يجوز. والقديم: يجوز. ويحرم إحراما ناقصا ويأتي ببقية الاعمال. وعلى هذا، لو لم يبن مع الامكان، وجب القضاء. وقيل: فيه وجهان. وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فهو فيما يرجع إلى وجوب الدم لفواتهما، كغير المحصر. وبماذا يتحلل ؟ بني على أن الحلق نسك، أم لا ؟ وأن فوات زمن الرمي كالرمي، أم لا ؟ وقد سبق بيانهما. فإن قلنا: فوات وقت الرمي كالرمي، وقلنا: الحلق نسك، حلق وتحلل التحلل الاول. وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الاول بمضي زمن الرمي، وعلى(2/451)
التقديرين، فالطواف باق عليه. فمتى أمكنه طاف، فيتم حجه. ثم إذا تحلل بالاحصار الواقع بعد الوقوف، فالمذهب: أنه لا قضاء عليه، وبه قطع العراقيون. وحكى صاحب التقريب في وجوب القضاء قولين، وطردهما في كل صورة أتى فيها بعد الاحرام بنسك لتأكد الاحرام بذلك النسك. ولو صد عن عرفات ولم يصد عن مكة، فيدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة. وفي وجوب القضاء قولان سبقا. فصل في حكم فوات الحج فواته بفوات الوقوف، وإذا فات تحلل بالطواف والسعى والحلق، والطواف لا بد منه قطعا. وكذا السعي على المذهب إن لم يكن سعي عقيب طواف القدوم. وفي قول: لا حاجة إلى السعي. ومنهم من أنكر هذا القول. وأما الحلق، فيجب إن قلنا: هو نسك، وإلا، فلا. ولا يجب الرمي والمبيت بمنى وإن بقي وقتهما. وقال المزني والاصطخري: يجب. ثم إذا تحلل بأعمال العمرة، لا ينقلب حجه عمرة، ولا يجزئه عن عمرة الاسلام. وفي وجه: ينقلب عمرة، وهو شاذ. ثم من فاته الحج، إن كان حجه فرضا، فهو باق في ذمته كما كان. وإن كان تطوعا، لزمه قضاؤه كما لو أفسده. وفي وجوب الفور في القضاء، الخلاف السابق في الافساد. ولا يلزمه قضاء عمرة مع الحج عندنا، ويلزم مع القضاء للفوات دم واحد، وفيه قول مخرج: أنه يلزمه دمان. أحدهما: للفوات. والآخر: لانه في معنى المتمتع من حيث أنه تحلل بين النسكين. ولا فرق بين أن يكون سبب الفوات مما يعذر فيه كالنوم، أم فيه تقصير.
باب الدماء
الدماء الواجبة في المناسك، سواء تعلقت بترك واجب، أو ارتكاب منهي،(2/452)
إذا أطلقناها، أردنا شاة. فإن كان الواجب غيرها، كالبدنة في الجماع، نصصنا عليها. ولا يجزئ فيها جميعها إلا ما يجزئ في الاضحية، إلا في جزاء الصيد، فيجب المثل، في الصغير صغير، وفي الكبير كبير. وكل من لزمه شاة، جاز له ذبح بقرة أو بدنة مكانها، إلا في جزاء الصيد. وإذا ذبح بدنة أو بقرة مكان الشاة، فهل الجميع فرض حتى لا يجوز أكل شئ منها، أم الفرض سبعها حتى يجوز له أكل الباقي ؟ فيه وجهان. قلت: الاصح: أنه سبعها، صححه صاحب البحر وغيره. والله أعلم. ولو ذبح بدنة ونوى التصدق بسبعها عن الشاة الواجبة عليه، وأكل الباقي، جاز. وله أن ينحر البدنة عن سبع شياه لزمته. ولو اشترك جماعة في ذبح بدنة أو بقرة، وأراد بعضهم الهدي، وبعضهم الاضحية، وبعضهم اللخم، جاز، ولا يجوز أن يشترك اثنان في شاتين، لامكان الانفراد فصل في كيفية وجوب الدماء وما يقوم مقامها وفيه نظران. لامكان الانفراد أحدهما: النظر في أي دم يجب على الترتيب، وأي دم يجب على التخيير(2/453)
وهاتان الصفتان متقابلتان، فمعنى الترتيب: أن يتعين عليه الذبح، ولا يجوز العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه. ومعنى التخيير: أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة. والنظر الثاني: في أنه، أي دم يجب على سبيل التقدير، وأي دم يجب على سبيل التعديل ؟ وهاتان الصفتان متقابلتان. فمعنى التقدير: أن الشرع قدر البدل المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا بقدر لا يزيد ولا ينقص. ومعنى التعديل: أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة. فكل دم بحسب الصفات المذكورة، لا يخلو من أحد أربعة أوجه. أحدها: الترتيب والتقدير. والثاني: الترتيب والتعديل. والثالث: التخيير والتقدير. والرابع: التخيير والتعديل. وتفصيلها بثمانية أنواع. أحدها: دم التمتع، وهو دم ترتيب وتقدير، كما ورد به نص القرآن العزيز. وقد سبق شرحه، وذكرنا أن دم القران في معناه. وفي دم الفوات، طريقان. أصحهما وبه قطع الجمهور: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الاحكام. والثاني: على قولين. أحدهما: هذا. والثاني: أنه كدم الجماع في الاحكام، إلا أن هذا شاة، والجماع بدنة، لاشترك الصورتين في وجوب القضاء. الثاني: جزاء الصيد، وهو دم تخيير وتعديل، ويختلف بكون الصيد مثليا أو غيره، وسبق إيضاحه. وجزاء شجر الحرم، كجزاء الصيد. وسبق حكاية قول عن رواية أبي ثور، أن دم الصيد على الترتيب، وهو شاذ. الثالث: دم الحلق والقلم، وهو دم تخيير وتقدير. فإذا حلق جميع شعره، أو ثلاث شعرات، يخير بين أن يذبح شاة، وبين أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين، وبين أن يصوم ثلاثة أيام. وإذا تصدق بالآصع، وجب أن يعطي كل مسكين نصف صاع. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى في العدة وجها: أنه لا يتقدر ما يعطى كل مسكين. الرابع: الدم المنوط بترك المأمورات، كالاحرام من الميقات، والرمي(2/454)
والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي التشريق، والدفع من عرفة قبل الغروب، وطواف الوداع. وفي هذا الدم أربعة أوجه. أصحها وبه قطع العراقيون وكثيرون من غيرهم: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير. فإن عجز عن الدم، صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. والثاني: أنه ترتيب وتعديل، لان التعديل هو القياس، وإنما يصار إلى التقدير بتوقيف. فعلى هذا، يلزمه ذبح شاة. فإن عجز، قومها دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وإذا ترك حصاة، فقد ذكرنا أقوالا في أن الواجب مد، أو درهم، أو ثلث شاة ؟ فإن عجز، فالطعام، ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة. والثالث: أنه دم ترتيب. فإن عجز، لزمه صوم الحلق. والرابع: دم تخيير وتعديل، كجزاء الصيد، وهذان الوجهان شاذان ضعيفان. الخامس: دم الاستمتاع، كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع، فيه أربعة أوجه. الاصح: أنه دم تخيير، وتقدير، كالحلق، لاشتراكهما في الترفه. والثاني: تخيير وتعديل، كالصيد. والثالث: ترتيب وتعديل. والرابع: ترتيب وتقدير، كالتمتع. السادس: دم الجماع، وفيه طرق للاصحاب، واختلاف منتشر، المذهب منه: أنه دم ترتيب وتعديل، فيجب بدنة. فإن عجز عنها، فبقرة. فإن عجز، فسبعة من الغنم. فإن عجز، قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام، ثم يتصدق به. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وقيل: إذا عجز عن الغنم، قوم البدنة وصام. فإن عجز، أطعم، فيقدم الصيام على الاطعام، ككفارة القتل ونحوها، وقيل: لا مدخل للاطعام والصيام هنا، بل إذا عجز عن الغنم، ثبت الهدي في ذمته إلى أن يجد تخريجا من أحد القولين في دم الاحصار. ولنا قول: وقيل وجه: أنه يتخير بين البدنة، والبقرة، والغنم. فإن عجز عنها، فالاطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين البدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، والاطعام، والصيام. السابع: دم الجماع الثاني، أو الجماع بين التحللين. وقد سبق الخلاف، أن واجبهما بدنة، أم شاة ؟ إن قلنا: بدنة، فهي في الكيفية كالجماع الاول قبل التحللين، وإلا، فكمقدمات الجماع.(2/455)
الثامن: دم الاحصار، فمن تحلل بالاحصار، فعليه شاة، ولا عدول عنها إذا وجدها. وإن لم جدها، فهل له بدل ؟ قولان. أظهرهما: نعم، كسائر الدماء. والثاني: لا، إذ لم يذكر في القرآن بدله، بخلاف غيره. فإن قلنا بالبدل، ففيه أقوال. أحدها: بدله الاطعام بالتعديل. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وقيل: يتخير على هذا، بين صوم الحلق وإطعامه. والقول الثاني: بدله الاطعام فقط، وفيه وجهان. أحدهما: ثلاثة آصع، كالحلق. والثاني: يطعم ما يقتضيه التعديل. والقول الثالث: بدله الصوم فقط،، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: عشرة أيام. والثاني: ثلاثة. والثالث: بالتعديل عن كل مد يوما. ولا مدخل للطعام على هذا القول، غير أنه يعتبر به قدر الصيام. والمذهب على الجملة: الترتيب والتعديل. فصل في بان زمان إراقة الدماء ومكانها أما الزمان: فالدماء الواجبة في الاحرام لارتكاب محظور أو ترك مأمور، لا تختص بزمان، بل تجوز في يوم النحر وغيره. وإنما تختص بيوم النحر والتشريق الضحايا، ثم ما سوى دم الفوات يراق في النسك الذي هو فيه. وأما دم الفوات، فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء. وهل تجوز إراقته في سنة الفوات ؟ قولان. أظهرهما: لا، بل يجب تأخيره إلى سنة(2/456)
القضاء. والثاني، نعم، كدماء الافساد. فعلى هذا، وقت الوجوب سنة الفوات. وإن قلنا بالاظهر، ففي وقت الوجوب وجهان. أصحهما: وقته إذا أحرم بالقضاء، كما يجب دم التمتع بالاحرام بالحج. ولهذا نقول: لو ذبح قبل تحلله من الفائت، لم يجزه على الصحيح كما لو ذبح المتمتع قبل الفراغ من العمرة، هذا إذا كفر بالدم، أما إذا كفر بالصوم، فإن قلنا: وقت الوجوب أن يحرم بالقضاء، لم يقدم صوم الثلاثة على القضاء، ويصوم السبعة إذا رجع، وإن قلنا: تجب بالفوات، ففي جواز صوم الثلاثة في حجة الفوات وجهان. ووجه المنع: أنه إحرام ناقص. وأما المكان، فالدماء الواجبة على المحرم ضربان. واجب على المحصر بالاحصار، أو بفعل محظور. وقد سبق بيانه في الاحصار. وواجب على غيره، فيختص بالحرم، ويجب تفريق لحمه على مساكين الحرم، سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل. وهل يختص ذبحه بالحرم ؟ قولان. أظهرهما: نعم. فلو ذبح في طرف الحل، لم يجزه. والثاني: يجوز ذبحه خارج الحرم، بشرط أن ينقل ويفرق في الحرم قبل تغير اللحم، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران، وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم، أو بسبب مباح، كالحلق للادنى، أو بسبب محرم. وفي القديم قولان. ما أنشئ بسببه في الحل، يجوز ذبحه وتفرقته في الحل، كدم الاحصار. وفي وجه: ما وجب بسبب مباح، لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم. ووجه: أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق، جاز. وكل هذا شاذ ضعيف. وأفضل الحرم للذبح في حق الحاج، منى. وفي حق المعتمر، المروة، لانهما محل تحللهما. وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي. قلت: قال القاضي حسين في الفتاوي: ولو لم يجد في الحرم مسكينا،(2/457)
لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر، سواء جوزنا نقل الزكاة، أم لا، لانه وجب لمساكين الحرم، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجدهم، يصبر إلى أن يجدهم، ولا يجوز نقلها، ويخالف الزكاة على قول، لانه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد، بها، بخلاف هذا. والله أعلم. فرع لو كان يتصدق بالاطعام بدلا عن الذبح، وجب تخصيصه بمساكين الحرم، بخلاف الصوم، يأتي به حيث شاء، إذ لا غرض للمساكين فيه. قلت: قال صاحب البحر: أقل ما يجزئ أن يدفع الواجب إلى ثلاثة من مساكين الحرم إن قدر. فإن دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث، ضمن. وفي قدر الضمان، وجهان. أحدهما: الثلث والثاني: أقل ما يقع عليه الاسم، وتلزمه النية عند التفرقة، قال: فإن فرق الطعام، فهل يتعين لكل مسكين مد كالكفارة، أم لا ؟ وجهان. الاصح: لا يتقيد، بل تجوز الزيادة على مد، والنقص منه. والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. والله أعلم. فرع لو ذبح الهدي في الحرم، فسرق منه، لم يجزئه عما في ذمته، وعليه إعادة الذبح، وله شراء اللحم والتصدق به بدل الذبح. وفي وجه ضعيف: يكفيه التصدق بالقيمة. فصل الايام المعلومات: هن العشر الاول من ذي الحجة، آخرها يوم النحر. والايام المعدودات: أيام التشريق.
باب الهدي
يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة، أن يهدي إليها شيئا من النعم، ولا يجب ذلك إلا بالنذر. وإذا ساق هديا تطوعا أو منذورا، فإن كان بدنة أو بقرة، استحب أن يقلدها نعلين، وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضا، والاشعار الاعلام. والمراد هنا: أن يضرب صفحة سنامها الايمن بحديدة وهي مستقبلة القبلة فيدميها ويلطخها بالدم، ليعلم من رآها أنها هدي، فلا يتعرض لها.(2/458)
وإن ساق غنما، استحب تقليدها بخرب القرب، وهي عراها وآذانها، لا بالنعل، ولا يشعرها. قلت: وفي الافضل مما يقدم من الاشعار والتقليد، وجهان. أحدهما: يقدم الاشعار، وقد صح فيه حديث في صحيح مسلم والثاني: يقدم التقليد، وهو المنصوص. وصح ذلك من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. قال صاحب البحر: وإن قرن هديين في حبل، أشعر أحدهما في سنامه الايمن، والآخر في الايسر، ليشاهدا، وفيما قاله احتمال. والله أعلم. وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هديا واجبا على المشهور، كما لو كتب الوقف على باب داره. وإذا عطب الهدي في الطريق، فإن كان تطوعا، فعل به ما شاء من بيع أو أكل وغيرهما. وإن كان واجبا، لزمه ذبحه. فلو تركه حتى هلك ضمنه. وإذا ذبحه، غمس النعل التي قلده في دمه، وضرب بها سنامه، وتركه ليعلم من مر به أنه هدي، يأكل منه. وهل تتوقف الاباحة على قوله: أبحته لمن يأكل منه ؟ قولان. أظهرهما: لا تتوقف، لانه بالنذر زال ملكه وصار للمساكين. ولا يجوز للمهدي، ولا لاغنياء الرفقة، الاكل منه قطعا، ولا لفقراء الرفقة على الصحيح.(2/459)
قلت: الاصح الذي يقتضيه ظاهر الحديث وقول الاصحاب: أن المراد بالرفقة: جميع القافلة. وحكى الروياني في البحر وجها استحسنه: أنهم الذين يخالطونه في الاكل وغيره، دون باقي القافلة. والله أعلم. وفي وقت ذبح الهدي، وجهان. الصحيح، أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، كالاضحية. وبهذا قطع العراقيون وغيرهم. والثاني: لا يختص بزمن، كدماء الجبران. فعلى الاول، لو أخر الذبح حتى مضت مدة هذه الايام، فإن كان الهدي واجبا، ذبحه قضاء، وإن كان تطوعا، فقد فات. فإن ذبحه، قال الشافعي رحمه الله: كان شاة لحم. قلت: وإذا عطب هدي التطوع، فذبحه، قال صاحب الشامل وغيره: لا يصير مباحا للفقراء إلا بلفظه، وهو أن يقول: أبحته للفقراء أو المساكين. قال: ويجوز لمن سمعه الاكل. وفي غيره، قولان. قال في الاملاء: لا يحل حتى يعلم الاذن. وقال في القديم والام: يحل، وهو الاظهر. والله أعلم.(2/460)
كتاب الضحايا
اعلم أن الامام الرافعي رحمه الله، ذكر كتاب الضحايا، والصيد والذبائح، والعقيقة، والاطعمة، والنذور، في أواخر الكتاب بعد المسابقة. وهناك ذكرها المزني، وأكثر الاصحاب. وذكرها طائفة منهم هنا، وهذا أنسب، فاخترته. والله أعلم. التضحية، سنة مؤكدة، وشعار ظاهر، ينبغي لمن قدر أن يحافظ عليها. وإذا التزمها بالنذر، لزمته. ولو اشترى بدنة أو شاة تصلح للضحية بنية التضحية، أو الهدي، لم تصر بمجرد الشراء ضحية ولا هديا. وفي تتمة التتمة وجه: أنها تصير، وهو غلط حصل عن غفلة. وموضع الوجه، النية في دوام الملك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال صاحب البحر: لو قال: إن اشتريت شاة، فلله علي أن أجعلها نذرا، فهو نذر مضمون في الذمة. فإذا اشترى شاة، فعليه أن يجعلها ضحية، ولا تصير بالشراء ضحية، فلو عين فقال: إن اشتريت هذه الشاة،(2/461)
فعلي أن أجعلها ضحية، فوجهان. أحدهما: لا يلزمه جعلها ضحية، تغليبا لحكم التعيين، وقد أوجبها قبل الملك. والثاني: يلزم، تغليبا للنذر.
فصل للتضحية شروط وأحكام.
أما الشروط، فأربعة. أحدها: أن يكون المذبوح من النعم، وهي الابل، والبقر، والغنم، سواء الذكر والانثى، وكل هذا مجمع عليه. ولا يجزئ من الضأن إلا الجذع أو الجذعة، ولا من الابل والبقر والمعز إلا الثني أو الثنية. وفي وجه: يجزئ الجذع من المعز، وهو شاذ. ثم الجذع: ما استكمل سنة على الاصح. وقيل: ما استكملت ستة أشهر. وقيل: ثمانية. فعلى الاول، قال أبو الحسن العبادي: لو أجذع قبل تمام السنة، كان مجزئا، كما لو تمت السنة قبل أن يجذع. ويكون ذلك، كالبلوغ بالسن، أو الاحتلام، فإنه يكفي فيه أحدهما، وبهذا صرح صاحب التهذيب فقال: الجذعة: ما استكملت سنة، أو أجذعت قبلها، أي: أسقطت سنها. وأما الثني من الابل، فهو ما استكمل خمس سنين، وطعن في السادسة. وروى حرملة عن الشافعي رحمه الله: أنه الذي استكمل ستا ودخل في السابعة. قال الروياني: وليس ذلك قولا آخر، وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني. وما ذكره الجمهور، بيان ابتداء سنه. وأما الثني من البقر، فما استكمل سنتين ودخل في الثالثة. وروى حرملة: أنه ما استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة. والمشهور المعروف، هو الاول. وأما الثني من المعز، فالاصح: أنه الذي استكمل سنتين ودخل في الثالثة. وقيل: ما استكمل سنة. فصل في صفتها وفيه مسائل. إحداها: المريضة، إن كان مرضها يسيرا، لم يمنع الاجزاء وإن كان بينا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم، منع الاجزاء، وهذا هو المذهب. وحكى ابن كج(2/462)
قولا: أن المرض لا يمنع بحال، وأن المرض المذكور في الحديث المراد به الجرب. وحكي وجه: أن المرض يمنع الاجزاء وإن كان يسيرا، وحكاه في الحاوي قولا قديما. وحكي وجه في الهيام خاصة، أنه يمنع الاجزاء، وهو من أمراض الماشية، وهو أن يشتد عطشها، فلا تروى من الماء. قلت: هو - بضم الهاء - قال أهل اللغة: هو داء يأخذها، فتهيم في الارض لا ترعى. وناقة هيماء - بفتح الهاء والمد -. والله أعلم. الثانية: الجرب، يمنع الاجزاء، كثيره وقليله، كذا قاله الجمهور، ونص عليه في الجديد، لانه يفسد اللحم والودك. وفي وجه: لا يمنع إلا كثيره، كالمرض، واختاره الامام، والغزالي. والصحيح: الاول، وسواء في المرض والجرب، ما يرجى زواله، وما لا يرجى. الثالثة: العرجاء، إن اشتد عرجها، بحيث تسبقها الماشية إلى الكلا الطيب وتتخلف عن القطيع، لم تجزئ. وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية، لم يضر. فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف بثلاث لم تجزئ. ولو أضجعها ليضحي بها وهي سليمة، فاضطربت وانكسرت رجلها، أو عرجت تحت السكين، لم تجزئه على الاصح، لانها عرجاء عند الذبح، فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة فبادر إلى التضحية بها، فإنها لا تجزئ. الرابعة: لا تجزئ العمياء، ولا العوراء التي ذهبت حدقتها، وكذا إن بقيت حدقتها على الاصح. وتجزئ العشواء على الاصح، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل، لانها تبصر وقت الرعى. وأما العمش وضعف بصر العينين جميعا، فقطع الجمهور بأنه لا يمنع. وقال(2/463)
الروياني إن غطى بياض، أذهب أكثره منع وإن أذهب أقله، لم يمنع على الصحيح. الخامسة: العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها، لا تجزئ، وإن كان بها بعض الهزال ولم يذهب مخها، أجزأت، كذا أطلقه كثيرون. وقال في الحاوي: إن كان خلقيا، فالحكم كذلك، وإن كان لمرض، منع، لانه داء. وقال إمام الحرمين: كما لا يعتبر السمن البالغ للاجزاء، لا يعتبر العجف البالغ للمنع. وأقرب معتبر أن يقال: إن كان لا ترغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة اللحم في سني الرخاء، منعت. السادسة: ورد النهي عن الثولاء، وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا ترعى إلا قليلا فتهزل. السابعة: يجزئ الفحل وإن كثر نزوانه، والانثى وإن كثرت ولادتها، وإن لم يطلب لحمها، إلا إذا انتهيا إلى العجف البين. الثامنة: لا تجزئ مقطوعة الاذن، فإن قطع بعضها، نظر، فإن لم يبن منها شئ، بل شق طرفها وبقي متدليا، لم يمنع على الاصح، وقال القفال: يمنع. وإن أبين، فإن كان كثيرا بالاضافة إلى الاذن، منع قطعا، وإن كان يسيرا، منع أيضا على الاصح، لفوات جزء مأكول. وقال الامام: وأقرب ضبط بين الكثير واليسير: أنه إن لاح النقص من البعد، فكثير، وإلا فقليل. التاسعة: لا يمنع الكي في الاذن وغيرها على المذهب، وقيل: وجهان، لتصلب الموضع، وتجزئ صغيرة الاذن، ولا تجزئ التي لم يخلق لها أذن. العاشرة: لا تجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالاضافة إليه، ولا(2/464)
يمنع قطع الفلقة اليسيرة من عضو كبير ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها، لم تجزئ على المذهب، وتجزئ التي خلقت بلا ضرع أو بلا ألية على الاصح، كما يجزئ الذكر من المعز، بخلاف التي لم يخلق لها أذن، لان الاذن عضو لازم غالبا. والذنب كالالية، وقطع بعض الالية أو الضرع كقطع كله، ولا تجوز مقطوعة بعض اللسان. الحادية عشرة: يجزئ الموجوء والخصي، كذا قطع به الاصحاب، وهو الصواب. وشذ ابن كج، فحكى في الخصي قولين، وجعل المنع: الجديد. الثانية عشرة: تجزئ التي لا قرن لها والتي انكسر قرنها، سواء دمي قرنها بالانكسار، أم لا. قال القفال: إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم، فيكون كالجرب وغيره، وذات القرن أفضل. الثالثة عشرة: تجزئ التي ذهب بعض أسنانها، فإن انكسر أو تناثر جميع أسنانها، فقد أطلق صاحب التهذيب وجماعة: أنها لا تجزئ، وقال الامام: قال المحققون: تجزئ. وقيل: لا تجزئ. وقال بعضهم: إن كان ذلك لمرض أو كان يؤثر في الاعتلاف وينقص اللحم، منع، وإلا، فلا، وهذا حسن، ولكنه يؤثر بلا شك، فيرجع الكلام إلى المنع المطلق. قلت: الاصح: المنع. وفي الحديث نهي عن المشيعة. قال في البيان: هي المتأخرة عن الغنم، فإن كان ذلك لهزال أو علة، منع، لانها عجفاء، وإن كان عادة وكسلا، لم يمنع. والله أعلم. فرع في صفة الكمال فيه مسائل. إحداها: يستحب للتضحية الاسمن الاكمل، حتى أن التضحية بشاة سمينة، أفضل من شاتين دونها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: استكثار القيمة في(2/465)
الاضحية أحب من استكثار العدد، وفي العتق عكسه، لان المقصود هنا اللحم. والسمين أكثر، وأطيب، والمقصود في العتق التخليص من الرق، وتخليص عدد، أولى من واحد وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم، إلا أن يكون لحما رديئا. الثانية: أفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز. وسبع من الغنم، أفضل من بدنة أو بقرة على الاصح. وقيل: البدنة أو البقرة أفضل، لكثرة اللحم، والتضحية بشاة، أفضل من المشاركة في بدنة. الثالثة: أفضلها البيضاء، ثم العفراء، وهي التي لا يصفو بياضها، ثم السوداء. الرابعة: التضحية بالذكر أفضل من الانثى على المذهب، وهو نصه في البويطي. وحكي عن نص الشافعي رحمه الله، أن الانثى أفضل، فقيل: ليس مراده تفضيل الانثى في الاضحية، وإنما أراد تفضيلها في جزاء الصيد، إذا قومت لاخراج الطعام، فالانثى أكثر قيمة. وقيل: المراد أن أنثى لم تلد أفضل من الذكر إذا كثر نزوانه، فإن فرضنا ذكرا لم ينز، وأنثى لم تلد، فهو أفضل منها.
فصل الشاة الواحدة لا يضحى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد من أهل بيت، تأدى الشعار والسنة لجميعهم، وعلى هذا حمل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ضحى بكبش وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد. وكما أن الفرض ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، فقد ذكروا أن التضحية(2/466)
كذلك، وأن التضحية مسنونة لكل أهل بيت. قلت: وقد حمل جماعة الحديث على الاشراك في الثواب، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فرع البدنة تجزئ عن سبعة، وكذا البقرة، سواء كانوا أهل بيت، أو بيوت، سواء كانوا متقربين بقربة متفقة أو مختلفة، واجبة أم مستحبة، أم كان بعضهم يريد اللحم. وإذا اشتركوا، فالمذهب أن قسمة لحمها تبنى على أن القسمة بيع، أم إفراز ؟ إن قلنا: إفراز، جازت. وإن قلنا: بيع، فبيع اللحم الرطب بمثله، لا يجوز، فالطريق أن يدفع المتقربون نصيبهم إلى الفقراء مشاعا، ثم يشتريها منهم من يريد اللحم بدراهم، أو يبيع مريد اللحم نصيبه للمتقربين بدراهم. وإن شاءوا جعلوا اللحم إجزاء باسم كل واحد جزء، ثم يبيع صاحب الجزء نصيبه من باقي الاجزاء بدراهم، ويشتري من أصحابه نصيبهم في ذلك الجزء بالدراهم، ثم يتقاصون. وقال صاحب التلخيص: تصح القسمة، قطعا للحاجه. وكما يجوز تضحية سبعة ببدنة أو بقرة، يجوز أن يقصد بعضهم التضحية، وبعضهم الهدي، ويجوز أن ينحر الواحد البدنة أو البقرة عن سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة، كالتمتع، والقران، والفوات، ومباشرة محظورات الاحرام، ونذر التصدق بشاة، والتضحية بشاة، لكن في جزاء الصيد، تراعى المماثلة ومشابهة الصورة، فلا تجزئ البدنة عن سبعة من الظباء. ولو وجب شاتان على رجلين في قتل صيدين، لم يجز أن يذبحا عنهما بدنة، ويجوز أن يذبح الواحد بدنة أو بقرة، سبعها عن شاة لزمته، ويأكل الباقي كمشاركة من يريد اللحم. ولو جعل جميع البدنة أو البقرة مكان الشاة، فهل يكون الجميع واجبا حتى لا يجوز أكل شئ منه، أم الواجب السبع فقط حتى يجوز الاكل من الباقي ؟ فيه وجهان، كالوجهين في ماسح جميع رأسه في الوضوء، هل يقع جميعه فرضا، أم الفرض ما يقع عليه الاسم ؟ قلت: قيل: الوجهان في المسح فيما إذا مسح دفعة واحدة، فإن مسح شيئا فشيئا، فالثاني سنة قطعا، وقيل: الوجهان في الحالين، ومثلهما إذا طول الركوع والسجود والقيام زيادة على الواجب، وفائدته في زيادة الثواب في الواجب،(2/467)
والارجح في الجميع أن الزيادة تقع تطوعا. والله أعلم. ولو اشترك رجلان في شاتين، لم تجزئهما على الاصح، ولا يجزئ بعض شاة بلا خلاف بكل حال. الشرط الثاني: الوقت. فيدخل وقت التضحية إذا طلعت الشمس يوم النحر، ومضى قدر ركعتين وخطبتين خفيفات على المذهب. وفي وجه: تعتبر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطبته. وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ب ق و * (اقتربت الساعة) * وخب خطبة متوسطة. وقالت المراوزة: الخلاف في طول الصلاة فقط، والخطبة مخففة قطعا، فإنه السنة. قال الامام: وما أرى من يعتبر ركعتين خفيفتين، يكتفي بأقل ما يجزئ، وظاهر كلام صاحب الشامل خلافه. وفي وجه: يكفي مضي ما يسع ركعتين بعد خروج وقت الكراهة، ولا تعتبر الخطبتان. ويخرج وقت التضحية بغروب الشمس في اليوم الثالث من أيام التشريق. ويجوز ليلا ونهارا، لكن تكره التضحية والذبح مطلقا في الليل، فإن ذبح قبل الوقت، لم تكن أضحية، فإن لم يضح حتى خرج الوقت، فاتت، فإن ضحى في السنة الثانية في الوقت، وقع عن الوقت، لا عن الماضي، وهذا كله في أضحية التطوع فأما المنذورة، ففي توقيتها خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. الشرط الثالث: أهلية الذابح. وفيه مسائل: إحداها: يستحب أن يذبح ضحيته وهديه بنفسه. وله أن يوكل في ذبحها من تحل ذبيحته، والاولى أن يوكل مسلما فقيها، لعلمه بشروطها. ولا يجوز توكيل المجوسي والوثني، بخلاف الكتابي. وإذا وكل فيستحب أن يحضر الذبح.(2/468)
ويكره توكيل الصبي في ذبحها. وفي كراهة توكيل الحائض، وجهان. قلت: الاصح: لا يكره، لانه لم يصح فيه نهي. والله أعلم. والحائض أولى من الصبي والصبي المسلم أولى من الكتابي. الثانية: النية شرط في التضحية. وهل يجوز تقديمها على الذبح، أم يجب أن تكون مقرونة به ؟ وجهان. أصحهما: الجواز. ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فهل يكفيه التعيين والقصد عن نية الذبح ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: لا يكفيه، لان التضحية قربة في نفسها، فوجبت النية فيها، واختار الامام، والغزالي: الاكتفاء. ولو التزم ضحية في ذمته، ثم عين شاة عما في ذمته، بني على الخلاف في أن المعينة، هل تتعين عن المطلقة في الذمة ؟ إن قلنا: لا فلا بد من النية عند الذبح، وإلا، فعلى الوجهين، ولو وكل ونوى عند ذبح الوكيل، كفى ولا حاجة إلى نية الوكيل، بل لو لم يعلم أنه مضح، لم يضر. وإن نوى عند الدفع إلى الوكيل فقط، فعلى الوجهين في تقديم النية. ويجوز أن يفوض النية إلى الوكيل إن كان مسلما، وإن كان كتابيا، فلا. الثالثة: العبد القن، والمدبر، والمستولدة، لا يجوز لهم التضحية إن قلنا بالمشهور: إنهم لا يملكون بالتمليك، فإن أذن السيد، وقعت التضحية عن السيد. فإن قلنا: يملكون، لم يجز تضحيتهم بغير إذنه، لان له حق الانتزاع. فإن أذن، وقعت عنهم، كما لو أذن لهم في التصدق، وليس له الرجوع بعد الذبح ولا بعد جعلها ضحية. والمكاتب لا تجوز تضحيته بغير إذن السيد، فإن أذن، فعلى القولين(2/469)
في تبرعه بإذنه. ومن بعضه رقيق، له أن يضحي بما ملكه بحريته، ولا يحتاج إلى إذن. الرابعة: لو ضحى عن الغير بغير إذنه، لم يقع عنه. وفي التضحية عن الميت، كلام يأتي في الوصية إن شاء الله تعالى. قلت: إذا ضحى عن غيره بلا إذن، فإن كانت الشاة معينة بالنذر، وقعت عن المضحي، وإلا، فلا، كذا قاله صاحب العدة وغيره. وأطلق الشيخ إبرهيم المروروذي: أنها تقع عن المضحي، قال هو وصاحب العدة: لو أشرك غيره في ثواب أضحيته وذبح عن نفسه، جاز، قالا: وعليه يحمل الحديث المتقدم: اللهم تقبل من محمد وآل محمد. والله أعلم. الشرط الرابع: الذبح. فالذبح الذي يباح به الحيوان المقدور عليه، إنسيا كان أو وحشيا، ضحية كان أو غيرها، هو التذفيف بقطع جميع الحلقوم والمرئ من حيوان فيه حياة مستقرة بآلة ليست عظما ولا ظفرا، فهذه قيود. أما القطع، فاحتراز مما لو اختطف رأس عصفور أو غيره، بيده، أو ببندقة، فإنه ميتة. وأما الحلقوم، فهو مجرى النفس خروجا ودخولا، والمرئ مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم، وراءهما عرقان في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم، وقيل: بالمرئ، ويقال لهما: الودجان، ويقال للحلقوم والمرئ معهما: الاوداج. ولا بد من قطع الحلقوم والمرئ، على الصحيح المنصوص. وقال الاصطخري: يكفي أحدهما، لان الحياة لا تبقى(2/470)
بعده. قال الاصحاب: هذا خلاف نص الشافعي رحمه الله، وخلاف مقصود الذكاة، وهو الازهاق بما يوحي - لا يعذب. ويستحب معهما قطع الودجين، لانه أوحى، والغالب أنهما ينقطعان بقطع الحلقوم والمرئ، فإن تركهما، جاز. ولو ترك من الحلقوم أو المرئ شيئا يسيرا، أو مات الحيوان، فهو ميتة. وكذا لو انتهى إلى حركة المذبوح، فقطع المتروك، فميته. وفي الحاوي وجه: إن بقي اليسير، فلا يضر، واختاره الروياني في الحلية، والصحيح: الاول. ولو قطع من القفا حتى وصل الحلقوم والمرئ، عصى، لزيادة الايلام. ثم ينظر، إن وصل إلى الحلقوم والمرئ وقد انتهى إلى حركة المذبوح، لم يحل بقطع الحلقوم والمرئ بعد ذلك، وإن وصلهما وفيه حياة مستقرة، فقطعهما، حل، كما لو قطع يده ثم ذكاه. قال الامام: ولو كان فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المرئ، ولكن لما قطعه مع بعض الحلقوم انتهى إلى حركة المذبوح لما ناله بسبب قطع القفا، فهو حلال، لان أقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المذبح. والقطع من صفحة العنق، كالقطع من القفا. ولو أدخل السكين في أذن الثعلب ليقطع المرئ والحلقوم من داخل الجلد، ففيه هذا التفصيل. ولو أمر السكين ملصقا باللحيين فوق الحلقوم والمرئ، وأبان الرأس، فليس هو بذبح، لانه لم يقطع الحلقوم والمرئ. وأما كون التذفيف حاصلا بقطع الحلقوم والمرئ، ففيه مسألتان. إحداهما: لو أخذ الذابح في قطع الحلقوم والمرئ، وأخذ آخر في نزع حشوته، أو نخس خاصرته، لم يحل، لان التذفيف لم يتمخض بالحلقوم والمرئ. وسواء كان ما يجري به قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد، أو كان يعين على التذفيف. ولو اقترن قطع الحلقوم بقطع رقبة الشاة من قفاها، بأن كان يجري سكينا من القفا، وسكينا من الحلقوم حتى التقتا، فهي ميتة، بخلاف ما إذا تقدم قطع القفا وبقيت الحياة مستقرة إلى وصول السكين المذبح. المسألة الثانية: يجب أن يسرع الذابح في القطع، ولا يتأنى بحيث يظهر انتهاء الشاة قبل استتمام قطع المذبح إلى حركة المذبوح، وهذا قد يخالف ما(2/471)
سبق: أن المتعبد به، كون الحياة مستقرة عند الابتداء، فيشبه أن المقصود هنا، إذا تبين مصيره إلى حركة المذبوح، وهناك، إذا لم يتحقق الحال. قلت: هذا الذي قاله الامام الرافعي، خلاف ما سبق تصريح الامام به، بل الجواب: أن هذا مقصر في الثاني، فلم تحل ذبيحته، بخلاف الاول فإنه لا تقصير، ولو لم يحلله، أدى إلى حرج. والله أعلم. وأما كون الحيوان عند القطع فيه حياة مستقرة، ففيه مسائل. إحداها: لو جرح السبع صيدا، أو شاة، أو انهدم سقف على بهيمة أو جرحت هرة حمامة، ثم أدركت حية فذبحت، فإن كان فيها حياة مستقرة، حلت وإن تيقن هلاكها بعد يوم ويومين، وإن لم يكن فيها حياة مستقرة، لم تحل، هذا هو المذهب والمنصوص، وبه قطع الجمهور. وحكي قول: أنها تحل في الحالين، وقول: أنها لا تحل فيهما، وهذا بخلاف الشاة إذا مرضت، فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت، فإنها تحل قطعا، لانه لم يوجد سبب يحال الهلاك عليه. ولو أكلت الشاة نباتا مضرا، فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت، قال القاضي حسين مرة: فيها وجهان، وجزم مرة بالتحريم، لانه وجد سبب يحال الهلال عليه، فصار كجرح السبع. ثم كون الحيوان منتهيا إلى حركة المذبوح، أو فيه حياة مستقرة، تارة يستيقن، وتارة يظن بعلامات وقرائن لا تضبطها العبارة، وشبهوه بعلامات الخجل والغضب ونحوهما. ومن أمارات بقاء الحياة المستقرة: الحركة الشديدة بعد قطع الحلقوم والمرئ، وانفجار الدم وتدفقه. قال الامام: ومنهم من قال: كل واحد منهما يكفي دليلا على بقاء الحياة المستقرة. قال: والاصح: أن كلا منهما لا يكفي، لانهما قد يحصلان بعد الانتهاء إلى حركة المذبوح، لكن قد ينضم إلى أحدهما أو كليهما قرائن أو أمارات أخر تفيد الظن أو اليقين، فيجب النظر والاجتهاد. قلت: اختار المزني وطوائف من الاصحاب: الاكتفاء بالحركة الشديدة، وهو الاصح. والله أعلم. وإذا شككنا في الحياة المستقرة، ولم يترجح في ظننا شئ، فوجهان.(2/472)
أصحهما: التحريم، للشك في المبيح. وأما كون الآلة ليست عظما، فمعناه: أنه يجوز بكل قاطع إلا الظفر والعظم، سواء من الآدمي وغيره، المتصل والمنفصل. وحكي وجه في عظم الحيوان المأكول، وهو شاذ، وستأتي هذه المسألة مستوفاة في الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى.
فصل في سنن الذبح وآدابه سواء ذبح الاضحية وغيرها. إحداها: تحديد الشفرة. الثانية: إمرار السكين بقوة وتحامل ذهابا وعودا، ليكون أوحى وأسهل. الثالثة: استقبال الذابح القبلة، وتوجيه الذبيحة إليها، وذلك في الهدي والاضحية أشد استحبابا، لان الاستقبال مستحب في القربات. وفي كيفية توجيهها ثلاثة أوجه. أصحها: يوجه مذبحها إلى القبلة، ولا يوجه وجهها، ليمكنه هو أيضا الاستقبال. والثاني: يوجهها بجميع بدنها. والثالث: يوجه قوائمها. الرابعة: التسمية مستحبة عند الذبح، والرمي إلى الصيد، وإرسال الكلب. فلو تركها عمدا أو سهوا، حلت الذبيحة، لكن تركها عمدا، مكروه على الصحيح. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يأثم به. وهل يتأدى الاستحباب بالتسمية عند عض الكلب وإصابة السهم ؟ وجهان. أصحهما: نعم. وهذا الخلاف في كمال الاستحباب. فأما إذا ترك التسمية عند الارسال فيستحب أن يتداركها عند الاصابة قطعا، كمن ترك التسمية في أول الوضوء والاكل، يستحب أن(2/473)
يسمي في أثنائهما. ولا يجوز أن يقول الذابح والصائد: باسم محمد ولا باسم الله واسم محمد، بل من حق الله تعالى أن يجعل الذبح باسمه، واليمين باسمه، والسجود له، ولا يشاركه في ذلك مخلوق. وذكر في الوسيط: أنه لا يجوز أن يقول: باسم الله ومحمد رسول الله، لانه تشريك. قال: ولو قال: بسم الله ومحمد رسول الله، بالرفع، فلا بأس. ويناسب هذه المسائل ما حكاه في الشامل وغيره عن نص الشافعي رحمه الله: أنه لو كان لاهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله تعالى، كالمسيح، لم تحل. وفي كتاب القاضي ابن كج: أن اليهودي لو ذبح لموسى، والنصراني لعيسى صلى الله عليهما وسلم، أو للصليب، حرمت ذبيحته، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقوى أن يقال: يحرم، لانه ذبح لغير الله تعالى. قال: وخرج أبو الحسين وجها آخر: أنها تحل، لان المسلم يذبح لله تعالى، ولا يعتقد في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعتقده النصراني في عيسى. قال: وإذا ذبح للصنم، لم تؤكل ذبيحته، سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا. وفي تعليقة للشيخ إبراهيم المروروذي رحمه الله: أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لانه مما أهل به لغير الله تعالى. واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازل منزلة السجود له، وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفرا، كمن سجد لغيره سجد عبادة، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه، بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيما لها لانها بيت الله تعالى، أو الرسول لانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة، وإلى هذا المعنى، يرجع قول القائل: أهديت للحرم، أو(2/474)
للكعبة، ومن هذا القبيل، الذبح عند استقبال السلطان، فإنه استبشار بقدومه، نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود للغير تذللا وخضوعا. وعلى هذا، إذا قال الذابح: باسم الله وباسم محمد، وأراد: أذبح باسم الله، وأتبرك باسم محمد، فينبغي أن لا يحرم. وقول من قال: لا يجوز ذلك، يمكن أن يحمل على أن اللفظة مكروهة، لان المكروه، يصح نفي الحواز والاباحة المطلقة عنه. ووقعت منازعة بين جماعة ممن لقيناهم من فقهاء قزوين في أن من ذبح باسم الله واسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هل تحل ذبيحته ؟ وهل يكفر بذلك ؟ وأفضت تلك المنازعة إلى فتنة، والصواب ما بيناه. وتستحب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، نص عليه في الام، قال ابن أبي هريرة: لا تستحب ولا تكره. قلت: أتقن الامام الرافعي رحمه الله هذا الفصل، ومما يؤيد ما قاله، ما ذكره الشيخ إبراهيم المروروذي في تعليقه، قال: وحكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله: أن النصراني إذا سمى غير الله تعالى، كالمسيح، لم تحل ذبيحته، قال صاحب التقريب: معناه أنه يذبحها له، فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجائز. قال: وقال الحليمي: تحل مطلقا، وإن سمى المسيح. والله أعلم. الخامسة: المستحب في الابل النحر، وهو قطع اللبة أسفل العنق، وفي البقر والغنم الذبح، وهو قطع الحلق أعلى العنق. والمعتبر في الموضعين، قطع الحلقوم والمرئ. فلو ذبح الابل ونحر البقر والغنم، حل، ولكن ترك المستحب، وفي كراهته قولان، المشهور: لا يكره. السادسة: يستحب أن ينحر البعير قائما على ثلاث قوائم معقول الركبة،(2/475)
وإلا فباركا، وأن تضجع البقرة والشاة على جنبها الايسر، وتترك رجلها اليمنى وتشد قوائمها الثلاث. السابعة: إذا قطع الحلقوم المرئ، فالمستحب أن يمسك ولا يبين رأسه في الحال، ولا يزيد في القطع، ولا يبادر إلى سلخ الجلد، ولا يكسر الفقار، ولا يقطع عضوا، ولا يحرك الذبيحة، ولا ينقلها إلى مكان، قبل يترك جميع ذلك حتى تفارق الروح، ولا يمسكها بعد الذبح مانعا لها من الاضطراب. والاولى أن تساق إلى المذبح برفق، وتضجع برفق، ويعرض عليها الماء قبل الذبح، ولا يحد الشفرة قبالتها، ولا يذبح بعضها قبالة بعض. الثامنة: يستحب عند التضحية أن يقول: اللهم منك وإليك، تقبل مني. وفي الحاوي وجه ضعيف: أنه لا يستحب. ولو قال: تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك ومحمد عبدك ورسولك صلى الله عليهما، لم يكره ولم يستحب، كذا نقله في البحر عن الاصحاب. قال في الحاوي: يختار في الاضحية أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثا فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. فصل قدمنا أن النية شرط في التضحية، وأن الشاة إذا جعلها أضحية، هل يكفيه ذلك عن تجديد النية عند الذبح ؟ وجهان. الاصح: لا يكفيه. فإن قلنا: يكفيه، استحب التجديد. ومهما كان في ملكه، بدنة أو شاة، فقال: جعلت هذا ضحية، أو هذه ضحية، أو علي أن أضحي بها، صارت ضحية معينة. وكذا لو قال: جعلت هذه هديا، أو هذا هدي، أو علي أن أهدي هذه، صار هديا. وشرط بعضهم أن يقول مع ذلك: لله تعالى، والمذهب: أنه ليس بشرط. وقد صرح الاصحاب بزوال الملك عن الهدي والاضحية المعينين، كما سيأتي تفريعه إن شاء الله تعالى. وكذا لو نذر أن يتصدق بمال معين زال ملكه عنه، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه، لا يزول ملكه عنه ما لم يعتقه، لان الملك في الهدي،(2/476)
والاضحية، والمال المعين، ينتقل إلى المساكين، وفي العبد لا ينتقل الملك إليه، بل ينفك الملك بالكلية. أما إذا نوى جعل هذه الشاة هديا، أو أضحية، ولم يتلفظ بشئ، فالمشهور الجديد: أنها لا تصير. وقال في القديم: تصير، واختاره ابن سريح والاصطخري. وعلى هذا، فيما يصير به هديا، أو أضحية، أوجه. أحدها: بمجرد النية، كما يدخل في الصوم بالنية، وبهذا قال ابن سريج. والثاني: بالنية والتقليد أو الاشعار، لتنضم الدلالة الظاهرة إلى النية، قاله الاصطخري. والثالث: بالنية والذبح، لان المقصود به كالقبض في الهبة. والرابع: بالنية والسوق إلى المذبح. ولو لزمه هدي أو أضحية بالنذر، فقال: عينت هذه الشاة لنذري، أو جعلتها عن نذري، أو قال: لله علي أن أضحي بها عما في ذمتي، ففي تعينها وجهان: الصحيح، التعين وبه قطع الاكثرون. وحكى الامام هذا الخلاف في صور رتب بعضها على بعض، فلنوردها بزوائد. فلو قال ابتداء: علي التضحية بهذه البدنة أو الشاة، لزمه التضحية قطعا، وتتعين تلك الشاة على الصجيح. ولو قال: علي أن أعتق هذا العبد، لزمه العتق، وفي تعيين هذا العبد، وجهان مرتبان على الخلاف في مثل هذه الصورة من الاضحية، والعبد أولى بالتعيين، لانه ذو حق في العتق، بخلاف الاضحية. فلو نذر إعتاق عبد، ثم عين عبدا عما التزم، فالخلاف مرتب على الخلاف في مثله في الاضحية. ولو قال: جعلت هذا العبد عتيقا، لم يخف حكمه، ولو قال: جعلت هذا المال، أو هذه الدراهم صدقة، تعينت على الاصح كشاة الاضحية، وعلى الثاني، لا، إذ لا فائدة في تعيين الدراهم لتساويها، بخلاف الشاة. ولو قال: عينت هذه الدراهم عما في ذمتي من زكاة أو نذر، لغا(2/477)
التعيين باتفاق أصحاب، كذا نقله الامام، لان التعيين في الدراهم ضعيف، وتعيين ما في الذمة ضعيف، فيجتمع سببا ضعف. قال: وقد يقاس بتعيين الدراهم، كديون الآدميين، وقال: لا تخلو الصورة عن احتمال. فرع سبق بيان وقت ضحية التطوع، فلو أراد التطوع بالذبح وتفريق اللحم بعد أيام التشريق، لم يحصل له أضحية ولا ثوابها، لكن يحصل ثواب صدقة. ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فوقتها وقت المتطوع بها. ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة، فهل تتوقت بذلك الوقت ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانها في الذمة كدماء الجبران. وأصحهما: نعم، لانه التزم ضحية في الذمة، والضحية مؤقتة، وهذا موافق، نقل الروياني عن الاصحاب: أنه لا تجوز التضحية بعد أيام التشريق، إلا واحدة، وهي التي أوجبها في أيام التشريق أو قبلها، ولم يذبحها حتى فات الوقت، فإنه يذبحها قضاء. فإن قلنا: لا تتوقت، فالتزم بالنذر ضحية، ثم عين واحدة عن نذره، وقلنا: إنها تتعين، فهل تتوقت التضحية بها ؟ وجهان. أصحهما: لا.
فصل من أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة، كره أن يحلق شعره أو يقلم ظفره حتى يضحي. وفيه وجه: أنه يحرم، حكاه صاحب الرقم، وهو شاذ. والحكمة فيه أن يبقى كامل الاجزاء لتعتق من النار، وقيل: للتشبيه بالمحرم، وهو ضعيف، فإنه لا يترك الطيب ولبس المخيط وغيرهما. وحكي وجه: أن الحلق والقلم، لا يكرهان إلا إذا دخل العشر واشترى ضحية، أو عين شاة من مواشيه للتضحية. وحكي قول: أنه لا يكره القلم. قلت: قال الشيخ إبراهيم المروروذي في تعليقه: حكم سائر أجزاء البدن كالشعر. والله أعلم.(2/478)
فصل وأما أحكام الاضحية، فثلاثة أنواع. الاول: فيما يتعلق بتلفها وإتلافها، وفيه مسائل. إحداها: الاضحية المعينة، والهدي المعين، يزول ملك المتقرب عنهما بالنذر، فلا ينفذ تصرفه فيهما ببيع ولا هبة، ولا إبدال بمثلهما، ولا بخير منهما. وحكي وجه: أنه لا يزول ملكه حتى يذبح ويتصدق باللحم، كما لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد، لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاق. والصحيح: الاول. والفرق: ما سبق. ولو نذر إعتاق عبد بعينه، لم يجز بيعه وإبداله وإن لم يزل الملك عنه. ولو خالف فباع الاضحية أو الهدي المعين، استرد إن كانت العين باقية، ويرد الثمن. فإن أتلفها المشتري، أو تلفت عنده، لزمه قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، ويشترى الناذر بتلك القيمة مثل التالفة، جنسا ونوعا وسنا. فإن لم يجد بالقيمة المثل لغلاء حدث، ضم إليها من ماله تمام الثمن. وهذا معنى قول الاصحاب: يضمن ما باع بأكثر الامرين من قيمته ومثله، وإن كانت القيمة أكثر من ثمن المثل، لرخص حدث، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في نظيره. ثم إن اشترى المثل بعين القيمة، صار المشترى ضحية بنفس الشراء. وإن اشتراه في الذمة، ونوى عند الشراء أنها أضحية، فكذلك، وإلا فليجعله بعد الشراء ضحية. المسألة الثانية: كما لا يصح بيع الاضحية المعينة، لا يصح إجارتها، ويجور إعارتها، لانها إرفاق، فلو أجرها فركبها المستأجر فتلفت، لزم المؤجر قيمتها، والمستأجر الاجرة. وفي الاجرة، وجهان. أصحهما: أجرة المثل. والثاني: الاكثر من أجرة المثل والمسمى. ثم هل يكون مصرفها مصرف الضحايا، أم الفقراء فقط ؟ وجهان.(2/479)
قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. الثالثة: إذا قال: جعلت هذه البدنة، أو هذه الشاة، ضحية، أو نذر أن يضحي ببدنة أو شاة عينها، فماتت قبل يوم النحر، أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر، فلا شئ عليه. وكذا الهدي المعين، إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو بعده قبل التمكن من ذبحه. الرابعة: إذا كان في ذمته دم عن تمتع، أو قران. أو أضحية، أو هدي عن نذر مطلق، ثم عين بدنة أو شاة عما في ذمته، فقد سبق خلاف في تعيينه، والاصح، التعيين. وحينئذ المذهب: زوال الملك عنها كالمعينة ابتداء، لكن لو تلفت، ففي وجوب الابدال طريقان. قطع الجمهور بالوجوب، لان ما التزمه ثبت في ذمته، والمعين وإن زال الملك عنه، فهو مضمون عليه، كما لو كان له دين على رجل، فاشترى منه سلعة بذلك الدين، فتلفت السلعة قبل القبض في يد بائعها، فإنه ينفسخ البيع، ويعود الدين كما كان، فكذا هنا يبطل التعيين، ويعود ما في ذمته كما كان. والطريق الثاني: فيه وجهان نقلهما الامام. أحدهما: لا يجب الابدال، لانها متعينة، فهي كما لو قال: جعلت هذه أضحية. الخامسة: إذا أتلفها أجنبي، لزمه القيمة، بأخذها المضحي، ويشترى بها مثل الاولى، فإن لم يجد بها مثلها، اشترى دونها، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه فقتل، فإنه يأخذ القيمة لنفسه، ولا يلزمه أن يشترى بها عبدا يعتقه، لان ملكه هنا لم يزل عنه ومستحق العتق هو العبد، وقد هلك، ومستحقو الاضحية باقون. فإن لم يجد بالقيمة ما يصلح للهدي والاضحية، ففي الحاوي: أنه يلزم المضحي أن يضم من عنده إلى القيمة ما يحصل به أضحية، لانه التزمها. ومن قال بهذا، يمكن أن يطرده في اللف. وهذا الذي في الحاوي شاذ. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا شئ عليه، لعدم تقصيره. فعلى هذا إن أمكن أن يشترى بها شقص هدي، أو أضحية، ففيه ثلاثة أوجه. الاصح: أنه يلزمه شراؤه والذبح مع الشريك، ولا يجوز إخراج القيمة، كأصل الاضحية، والثاني: يجوز(2/480)
إخراج القيمة دراهم. فعلى هذا أطلق مطلقون: أنه يتصدق بها. وقال الامام: يصرفها مصرف الضحايا، حتى لو أراد أن يتخذ منه خاتما يقتنيه ولا يبيعه، فله ذلك، وهذا أوجه. ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق، بل المراد: أن لا يجب شقص، ويجوز إخراج الدراهم، وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا. قلت: هذا الذي حكاه عن الامام، من جواز اتخاذ الخاتم، تفريع على جواز الاكل من الاضحية الواجية. والله أعلم. والوجه الثالث: يشترى بها لحما، ويتصدق به. وأما إذا لم يمكن أن يشترى بها شقص، لقلتها، ففيه الوجه الثاني والثالث. ورتب صاحب الحاوي هذه الصور ترتيبا حسنا، فقال: إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا، ولم يمكن أن يشترى بالقيمة مثلها، وأمكن شراء جذعة ضأن وثنية معز، تعين الاول رعاية للنوع، وإن أمكن ثنية معز ودون جذعة ضأن، تعين الاول، لان الثاني لا يصلح للضحية، وإن أمكن دون الجذعة، وشراء سهم في ضحية، تعين الاول، لان التضحية لا تحصل بواحد منهما، وفي الاول إراقة دم كامل. وإن أمكن شراء لحم، وشراء سهم، تعين الاول، لان فيه شركة في إراقة دم. وإن لم يمكن إلا شراء اللحم وتفرقة الدراهم، تعين الاول، لانه مقصود الاضحية. السادسة: إذا أتلفها المضحي فوجهان. أحدهما: يلزمه قيمتها يوم الاتلاف كالاجنبي. وأصحهما: يلزمه أكثر الامرين من قيمتها وتحصيل مثلها، كما لو باع الاضحية المعينة وتلفت عند المشتري. فعلى هذا لو كانت قيمتها يوم الاتلاف أكثر، وأمكن شراء مثل الاولى ببعضها، اشترى بها كريمة أو شاتين فصاعدا. فإن لم توجد كريمة، وفضل ما لا يفي بأخرى، فعلى ما ذكرنا فيما إذا أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بشاة. وهنا وجه آخر: أن له صرف ما فضل عن شاة إلى غير المثل، لان الزيادة بعد حصول المثل كابتداء تضحية. ووجه: أنه يملك ما فضل. السابعة: إذا تمكن من ذبح الهدي بعد بلوغه المنسك، أو من ذبح الاضحية(2/481)
يوم النحر، فلم يذبح حتى هلك، فهو كالاتلاف لتقصيره بتأخيره. الثامنة: استحب الشافعي رحمه الله، أن يتصدق بالفاضل الذي لا يبلغ شاة أخرى، ولا يأكل منه شيئا. وفي معناه: البدل الذي يذبحه. وفي وجه لابي علي الطبري: لا يجوز أكله منه، لتعديه بالاتلاف. التاسعة: إذا جعل شاته أضحية، أو نذر أن يضحي بمعينة، ثم ذبحها قبل يوم النحر، لزمه التصدق بلحمها، ولا يجوز له أكل شئ منه، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلا عنها. وكذا لو ذبح الهدي المعين قبل بلوغ المنسك، تصدق بلحمه، وعليه البدل. ولو باع الهدي أو الاضحية المعينين، فذبحها المشتري، واللحم باق، أخذه البائع وتصدق به، وعلى المشترى أرش ما نقص بالذبح، ويضم البائع إليه ما يشترى به البدل. وفي وجه: لا يغرم المشتري شيئا، لان البائع سلطه. والصحيح: الاول. ولو ذبح أجنبي الاضحية المعينة قبل يوم النحر لزمه ما نقص من القيمة بسبب الذبح. ويشبه أن يجئ خلاف في أن اللحم يصرف إلى مصارف الضحايا، أم ينفك عن حكم الاضحية ويعود ملكه، كما سنذكر مثله إن شاء الله تعالى، فيما لو ذبح الاجنبي يوم النحر، وقلنا: لا يقع ضحية ؟ ثم ما حصل من الارش من اللحم، إن عاد ملكا له، اشترى به أضحية يذبحها يوم النحر. ولو نذر أضحية، ثم عين شاة عما في ذمته، فذبحها أجنبي قبل يوم النحر، أخذ اللحم ونقصان الذبح، وملك الجميع، وبقي الاصل في ذمته. العاشرة: لو ذبح أجنبي أضحية معينة ابتداء في وقت التضحية، أو هديا معينا بعد بلوغه المنسك، فالمشهور: أنه يقع الموقع، فيأخذ صاحب الاضحية لحمها ويفرقه، لانه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة،(2/482)
ولان ذبحها لا يفتقر إلى النية. فإذا فعله غيره، أجزأ كإزالة النجاسة. وحكي قول عن القديم: أن لصاحب الاضحية أن يجعلها عن الذابح، ويغرمه القيمة بكمالها بناء على وقف العقود. فإذا قلنا بالمشهور، فهل على الذابح أرش ما نقص بالذبح ؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولين. وقيل: وجهين. أحدهما: لا، لانه لم يفوت مقصودا، بل خفف مؤنة الذبح. وأصحهما، وهو المنصوص، وهو الطريق الثاني، وبه قطع الجمهور: نعم، لان إراقة الدم مقصودة وقد فوتها، فصار كما لو شد قوائم شاته ليذبحها، فجاء آخر فذبحها بغير إذنه، فإنه يلزمه أرش النقص. وقال الماوردي: عندي أنه إذا ذبحها وفي الوقت سعة، لزمه الارش، وإن لم يبق إلا ما يسع ذبحها فذبحها، فلا أرش، لتعين الوقت. وإذا أوجبنا الارش، فهل هو للمضحي لانه ليس من عين الاضحية ولا حق للمساكين في غيرها ؟ أم للمساكين لانه بدل نقصها وليس للمضحي إلا الاكل ؟ أم سلك به مسلك الضحايا ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث. فعلى هذا، يشترى به شاة. فإن لم تتيسر، عاد الخلاف السابق أنه يشترى به جزء ضحية أو لحم، أو يفرق نفسه، هذا كله إذا ذبح الاجنبي واللحم باق، فإن أكله أو فرقه في مصارف الضحية، وتعذر استرداده، فهو كالاتلاف بغير ذبح، لان تعيين المصروف إليه، إلى المضحي، فعليه الضمان، والمالك يشترى بما يأخذه أضحية. وفي وجه: تقع التفرقة عن المالك، كالذبح. والصحيح: الاول. وفي الضمان الواجب، قولان. المشهور، واختيار الجمهور: أنه يضمن قيمتها عند الذبح، كما لو أتلفها بلا ذبح. والثاني: يضمن الاكثر من قيمتها وقيمة اللحم لانه فرق اللحم متعديا. وقيل: يغرم أرش الذبح وقيمة اللحم وقد يزيد الارش مع قيمة اللحم على قيمة الشاة، وقد ينقص، وقد يتساويان. ولا اختصاص لهذا الخلاف بصورة الضحية، بل يطرد في كل من ذبح شاة إنسان ثم أتلف لحمها. هذا كله تفريع على أن الشاة التي ذبحها الاجنبي تقع ضحية. فإن قلنا: لا تقع، فليس على الذابح إلا أرش النقص. وفي حكم اللحم، وجهان. أحدهما: أنه مستحق لجهة الاضحية. والثاني: يكون ملكا له. ولو التزم ضحية أو هديا بالنذر، ثم عين شاة(2/483)
عما في ذمته، فذبحها أجنبي يوم النحر، أو في الحرم، فالقول في وقوعها عن صاحبها وفي أخذه اللحم وتصدقه به، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح، على ما ذكرنا إذا كانت معينة في الابتداء. فإن كان اللحم تالفا، قال صاحب التهذيب وغيره: يأخذ القيمة ويملكها، ويبقى الاصل في ذمته. وفي هذا اللفظ ما يبين أن قولنا في صورة الاتلاف: يأخذ القيمة ويشترى بها مثل الاول، يريد به: أن يشترى بقدرها، فإن نفس المأخوذ ملكه، فله إمساكه. النوع الثاني من أحكام الاضحية: في عيبها. وفيه مسائل. إحداها: لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، أو نذر التضحية بشاة معينة، فحدث بها قبل وقت التضحية عيب يمنع ابتداء التضحية، لم يلزمه شئ بسببه كتلفها. ولا تنفك هي عن حكم الاضحية، بل تجزئه عن التضحية، ويذبحها في وقتها. وفي وجه: لا تجزئه، بل عليه التضحية بسليمة، وهو شاذ ضعيف. فعلى الصحيح: لو خالف فذبحها قبل يوم النحر، تصدق باللحم، ويلزمه أيضا التصدق بقيمتها، ولا يلزمه أن يشتري بها ضحية أخرى، لانها بدل حيوان لا يجوز التضحية به ابتداءا. ولو تعيبت يوم النحر قبل التمكن من الذبح، ذبحها وتصدق بلحمها، وإن تعيبت بعد التمكن، ذبحها وتصدق بلحمها، وعليه ذبح بدلها، وتقصيره بالتأخير كالتعييب. الثانية: لو لزم ذمته ضحية بنذرر، أو هدي عن قران، أو تمتع، أو نذر، فعين شاة عما في ذمته، فحدث بها عيب قبل وقت التضحية، أو قبل بلوغ المنسك، جرى الخلاف السابق، في أنها هل تتعين ؟ إن قلنا: لا، فلا أثر لتعيينها. وإن قلنا: تتعين، وهو الاصح، فهل عليه ذبح سليمة ؟ فيه طريقان. وقيل: وجهان. وقطع الجمهور بالوجوب، لان الواجب في ذمته سليم، فلا يتأدى بمعيب. وهل تنفك تلك المعينة عن الاستحقاق ؟ وجهان. أحدهما: يلزمه ذبحها والتصدق بلحمها، لانه التزمها بالتعيين. وأصحهما وهو المنصوص: لا تلزمه، بل له تملكها وبيعها، لانه لم يلتزم التصدق بها ابتداء، إنما عينها لاداء ما عليه، وإنما يتأدى بها بشرط السلامة. ويقرب الوجهان من وجهين فيمن عين أفضل مما عليه ثم تعيب،(2/484)
هل يلزمه رعاية تلك الزيادة في البدل ؟ ففي وجه: يلزم، لالتزامه تلك الزيادة بالتعيين. والاصح: لا يلزم، كما لو التزم معيبة ابتداء، فهلكت بغير تعد منه. الثالثة: إذا تعيب الهدي بعد بلوغ المنسك، فوجهان. أحدهما: يجزئ ذبحه، لانه لما وصل موضع الذبح، صار كالحاصل في يد المساكين، ويكون كمن دفع الزكاة إلى الامام، فتلفت في يده، فإنه يقع زكاة. وأصحهما: لا يجزئ، لانه في ضمانه ما لم يذبح. وقال في التهذيب: إنتعيب بعد بلوغ المنسك والتمكن من الذبح، فالاصل في ذمته وهل يتملك المعين، أم يلزمه ذبحه ؟ فيه الخلاف. وإن تعيب قبل التمكن، فوجهان. أصحهما: أنه كذلك. والثاني: يكفيه ذبح المعيب والتصدق به. ويقرب من الوجهين الاولين الوجهان السابقان فيمن شد قوائم الشاة للتضحية، فاضطربت وانكسرت رجلها. ورأى الامام تخصيصهما بمن عين عن نذر في الذمة، والقطع بعدم الاجزاء إن كانت تطوعا. قلت: قال صاحب البحر: لو مات، أو سرق بعد وصوله الحرم، أجزأه على الوجه الاول. والله أعلم. الرابعة: لو قال لمعيبة بعور ونحوه: جعلت هذه ضحية، أو نذر أن يضحي بها ابتداء، وجب ذبحها، لالتزامه، كمن أعتق عن كفارته معيبا، يعتق، ويثاب عليه وإن كان لا يجزئ عن الكفارة، ويكون ذبحها قربة، وتفرقة لحمها صدقة ولا تجزئ عن الهدايا والضحايا المشروعة، لان السلامة معتبرة فيها. وهل يختص ذبحها بيوم النحر، وتجري مجرى الضحايا في المصرف ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانها ليست أضحية، بل شاة لحم. وأصحهما: نعم، لانه أوجبها باسم الاضحية، ولا محمل لكلامه إلا هذا. فعلى هذا، لو ذبحها قبل يوم النحر، تصدق بلحمها ولا يأكل منه شيئا، وعليه قيمتها يتصدق بها، ولا يشتري أخرى لان المعيب لا يثبت في الذمة، قاله في التهذيب. ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلت هذه ضحية، فهو لاغ.(2/485)
ولو أشار إلى فصيل أو سخلة وقال: هذه أضحية، فهل هو كالظبية، أم كالمعيب ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا أوجبه معيبا ثم زال العيب، فهل يجزئ ذبحه عن الاضحية ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانه زال ملكه عنه وهو ناقص، فلا يؤثر الكمال بعده، كمن أعتق أعمى عن كفارته، ثم عاد بصره. والثاني: يجوز، لكماله وقت الذبح، وحكى هذا قولا قديما. الخامسة: لو كان في ذمته أضحية، أو هدي، بنذر أو غيره، فعين معينة عما عليه، لم تتعين، ولا تبرأ ذمته بذبحها. وهل يلزمه بالتعيين ذبح المعينة ؟ نظر، إن قال: عينت هذه عما في ذمتي، لم يلزمه، وإن قال: لله علي أن أضحي بهذه عما في ذمتي، أو أهدي هذه، أو قال: لله علي ذبحها عن الواجب في ذمتي، لزمه على الاصح كالتزامه ابتداء ذبح معيبة، ويكون كإعتاقه الاعمى عن الكفارة، ينفذ ولا يجزئ. فعلى هذا، هل يختص ذبحها بوقت التضحية إن كانت ضحية ؟ فيه الوجهان السابقان. ولو زال عيب المعينة المعيبة قبل ذبحها، فهل تحصل البراءة ؟ فيه الوجهان السابقان. السادسة: هذا الذي سبق، كله فيما إذا تعيبت لا بفعله. فلو تعيبت المعينة ابتداء، أو عما في الذمة بفعله، لزمه ذبح صحيحة. وفي انفكاك المعيبة عن حكم الالتزام، الخلاف السابق. السابعة: لو ذبح الاضحية المنذورة يوم النحر، أو الهدي المنذور بعد بلوغ المنسك، ولم يفرق لحمه حتى فسد، لزمه قيمة اللحم، ويتصدق بها، ولا(2/486)
يلزمه شراء أخرى، لانه حصلت إراقة الدم. وكذا لو غصب اللحم غاصب وتلف عنده، أو أتلفه متلف، يأخذ القيمة ويتصدق بها. الثامنة: لو نذر التضحية بمعيبة غير معينة، كقوله: لله علي أن أضحي بشاة عرجاء، فثلاثة أوجه: أصحها فيما يقتضيه كلام الغزالي: يلزمه ما التزم. والثاني: يلزمه صحيحة. والثالث: لا يلزمه شئ. ويشبه أن يكون الحكم في لزوم ذبحها، والتصدق بلحمها، وفي أنها ليست من الضحايا وفي أن مصرفها، هل هو مصرف الضحايا، على ما سبق فيمن قال: جعلت هذه المعيبة ضحية. ولو التزم التضحية بظبية، أو فصيل، ففيه الترتيب الذي تقدم في المعينة. ويشبه أن يجئ الخلاف في قوله: لله على أن أضحي بظبية، وإن لم يذكر خلاف في قوله: جعلت هذه الظبية ضحية. النوع الثالث: في ضلالها، وفيه مسائل. إحداها: إذا ضل هديه، أو ضحيته المتطوع بها، لم يلزمه شئ. قلت: لكن يستحب ذبحها إذا وجدها، والتصدق بها. ممن نص عليه القاضي أبو حامد. فإن ذبحها بعد أيام التشريق، كانت شاة لحم يتصدق بها. والله أعلم. الثانية: الهدي الملتزم معينا، يتعين ابتداءا، إذا ضل بغير تقصيره، لم يلزمه ضمانه، فإن وجده، ذبحه. والاضحية، إن وجدها في وقت التضحية، ذبحها، وإن وجدها بعد الوقت، فله ذبحها قضاء، ولا يلزمه الصبر إلى قابل. وإذا ذبحها، صرف لحمها مصارف الضحايا. وفي وجه لابن أبي هريرة: يصرفه إلى المساكين فقط، ولا يأكل، ولا يدخر، وهو شاذ ضعيف. الثالثة: مهما كان الضلال بغير تقصيره، لم يلزمه الطلب إن كان فيه مؤنة، فإن لم تكن، لزمه. وإن كان بتقصيره، لزمه الطلب. فإن لم يجد، لزمه الضمان. فإن علم أنه لا يجدها في أيام التشريق، لزمه ذبح بدلها في أيام التشريق. وتأخير الذبح إلى مضي أيام التشريق بلا عذر، تقصير يوجب الضمان. وإن مضى بعض أيام التشريق، ثم ضلت، فهل هو تقصير ؟ وجهان. قلت: الارجح: أنه ليس بتقصير، كمن مات في أثناء وقت الصلاة الموسع،(2/487)
لا يأثم على الاصح. والله أعلم. الرابعة: إذا عين هديا أو أضحية عما في ذمته، فضلت المعينة، قال الامام: هو كما لو تلفت هذه المعينة. وفي وجوب البدل، وجهان. وذكرنا هناك حال هذا الخلاف، وما في إطلاق لفظ البدل من التوسع. وقال الجمهور: يلزم إخراج البدل الملتزم. فإن ذبح واحدة عما عليه، ثم وجد الضالة، فهل يلزم ذبحها ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما في التهذيب: لا يلزمه، بل يتملكها كما سبق فيما لو تعيبت. والثاني: يلزمه، وقطع به في الشامل، لازالة ملكه بالتعيين، ولم يخرج عن صفة الاجزاء، بخلاف المعيبة. فلو عين عن الضالة واحدة، ثم وجدها قبل ذبح البدل، فأربعة أوجه. أحدها: يلزمه ذبحهما معا. والثاني: يلزمه ذبح البدل فقط. والثالث: ذبح الاول فقط. والرابع: يتخير فيهما. قلت: الاصح: الثالث. والله أعلم. فرع لو عين شاة عن أضحية في ذمته، وقلنا: تتعين، فضحى بأخرى عما في ذمته، قال الامام: يخرج على أن المعينة لو تلفت، هل تبرأ ذمته ؟ إن قلنا: نعم، لم تقع الثانية عما عليه، كما لو قال: جعلت هذه أضحية، ثم ذبح بدلها. وإن قلنا: لا، وهو الاصح، ففي وقوع الثانية ما عليه تردد. فإن قلنا: تقع عنه، فهل تنفك الاولى عن الاستحقاق ؟ فيه الخلاف السابق. فرع لو عين من عليه كفارة عبدا عنها، ففي تعيينه خلاف، وقطع الشيخ(2/488)
أبو حامد بالتعيين. قلت: الاصح: التعيين. والله أعلم. فإن تعيب المعين، لزمه إعتاق سليم. ولو مات المعين، بقيت ذمته مشغولة بالكفارة. وإن أعتق عبدا أجزأ عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر: براءة ذمته. قوله: الظاهر، أي: من الوجهين. النوع الرابع: في الاكل من الاضحية والهدي وفيه فصلان. الاول: في الاكل من الواجب، فكل هدي وجب ابتداء من غير التزام، كدم التمتع والقران وجبرانات الحج، لا يجوز الاكل منه. فلو أكل منه، غرم، ولا تجب إراقة الدم ثانيا. وفيما يغرمه، أوجه. أصحها وهو نصه في القديم: يغرم قيمة اللحم كما لو أتلفه غيره. والثاني: يلزمه مثل - ذلك اللحم. والثالث: يلزمه شراء شقص من حيوان مثله، ويشارك في ذبحه، لان ما أكله بطل حكم إراقة الدم فيه، فصار كما لو ذبحه وأكل الجميع، فإنه يلزمه دم آخر. وأما الملتزم بالنذر من الضحايا والهدايا، فإن عين بالنذر عما في ذمته من دم حلق وتطيب أو غيرهما شاة، لم يجز له الاكل منها، كما لو ذبح شاة بهذه النية بغير نذر، وكالزكاة. وإن نذر نذر مجازاة، كتعليقه التزام الهدي، أو الاضحية بشفاء المريض ونحوه، لم يجز الاكل أيضا، كجزاء الصيد. ومقتضى كلامهم: أنه لا فرق بين كون الملتزم معينا، أو مرسلا في الذمة، ثم يذبح عنه. فإن أطلق الالتزام، فلم يعلقه بشئ، وقلنا بالمذهب: إنه يلزمه الوفاء، فإن كان الملتزم معينا، بأن قال: لله علي أن أضحي بهذه، أو أهدي هذه، ففي جواز الاكل منها(2/489)
قولان، ووجه، أو ثلاث أوجه. الثالثة: يجوز الاكل من الاضحية دون الهدي، حملا لكل واحد على المعهود الشرعي. ومن هذا القبيل، ما إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية من غير تقدم التزام. أما إذا التزم في الذمة، ثم عين شاة عما عليه، فإن لم نجوز الاكل في المعينة ابتداء، فهنا أولى، وإلا، فقولان، أو وجهان. هكذا فصل حكم الاكل في الملتزم كثيرون من المعتبرين، وهو المذهب. وأطلق جماعة وجهين، ولم يفرقوا بين نذر المجازاة وغيره، ولا بين الملتزم المعين والمرسل، وبالمنع قال أبو إسحق. قال المحاملي: وهو المذهب، والجواز اختيار القفال، والامام. قال في العدة: وهو المذهب. ويشبه أن يتوسط فيرجح في المعين: الجواز، وفي المرسل: المنع، سواء عينه عنه ثم ذبح، أو ذبح بلا تعيين، لانه عن دين في الذمة، فأشبه الجبرانات. وإلى هذا ذهب صاحب الحاوي، وهو مقتضى سياق الشيخ أبي علي. وحيث منعنا الاكل في المنذور فأكل، ففيما يغرمه، الاوجه الثلاثة السابقة في الجبرانات. وحيث جوزنا، ففي قدر ما يأكله، القولان في أضحية التطوع. هكذا قاله في التهذيب. ولك أن تقول ذاك الخلاف في قدر المستحب أكله، ولا يبعد أن يقال: لا يستحب الاكل، وأقل ما في تركه: الخروج من الخلاف. الفصل الثاني: في الاكل من الاضحية والهدي المتطوع بهما. وليس له أن يتلف منهما شيئا، بل يأكل ويطعم، ولا يجوز بيع شئ منهما، ولا أن يعطي الجزار شيئا منهما أجرة له، بل مؤنة الذبح على المضحي والمهدي كمؤنة الحصاد. ويجوز أن يعطيه منهما شيئا لفقره، جو يطعمه إن كان غنيا. ولا يجوز تمليك الاغنياء(2/490)
منهما، وإن جاز إطعامهم. ويجوز تمليك الفقراء منهما، ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره. بل لو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء، قال الامام: الذي ينقدح عندي - إذا أوجبنا التصدق بشئ -: أنه لا بد من التمليك كما في الكفارات، وكذا صرح به الروياني فقال: لا يجوز أن يدعو الفقراء ليأكلوه مطبوخا، لان حقهم في تملكه فإن دفع مطبوخا، لم يجز، بل يفرقه نيئا، فإن المطبوخ، كالخبز في الفطرة. وهل يشترط التصدق بشئ منهما، أم يجوز أكل الجميع ؟ وجهان. أحدهما: يجوز أكل الجميع، قاله ابن سريج، وابن القاص، والاصطخري، وابن الوكيل، وحكاه ابن القاص عن نصه. قالوا: ويحصل الثواب بإراقة الدم بنية القربة، وأصحهما: يجب التصدق بقدر ينطلق عليه الاسم، لان المقصود إرفاق المساكين. فعلى هذا، إن أكل الجميع، لزمه ضمان ما ينطلق عليه الاسم، وفي قول، أو وجه: يضمن القدر الذي يستحب أن لا ينقص في التصدق عنه، وسيأتي فيه قولان، هل هو النصف، أم الثلث ؟ وحكى ابن كج والماوردي وجها: أنه يضمن الجميع بأكثر الامرين من قيمتها أو مثلها، لانه بأكله الكل، عدل عن حكم الضحية، فكأنه أتلفها. وينسب هذا إلى أبي إسحق، وابن أبي هريرة. وعلى هذا، يذبح البدل في وقت التضحية. فإن أخره أيام التشريق، ففي إجزائه وجهان. وفي جواز الاكل من البدل وجهان. وهذا الوجه المذكور عن ابن كج، وما تفرع عليه، شاذ ضعيف. والمعروف، ما سبق من الخلاف. ثم ما يضمنه على الخلاف السابق، لا يتصدق به ورقا. وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية، أم يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته ؟ وجهان. وعلى الوجهين: يجوز تأخير الذبح والتفريق عن أيام التشريق، لان الشقص ليس بأضحية، فلا يعتبر فيه وقتها، ولا يجوز أن يأكل منه. فرع الافضل والاحسن في هدي التطوع وأضحيته، التصدق بالجميع(2/491)
إلا لقمة، أو لقما يتبرك بأكلها، فإنها مسنونة. وحكى في الحاوي عن أبي الطيب بن سلمة: أنه لا يجوز التصدق بالجميع، بل يجب أكل شئ. وفي القدر الذي يستحب أن لا نقص التصدق عنه، قولان. القديم: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، واختلفوا في التعيين عن الجديد. فنقل جماعة عنه: أنه يأكل الثلث، ويتصدق بالثلثين. ونقل آخرون عنه: أنه يأكل الثلث، ويهدي إلى الاغنياء الثلث، ويتصدق بالثلث. وكذا حكاه الشيخ أبو حامد، ثم قال: ولو تصدق بالثلثين كان أحب. ويشبه أن لا يكون اختلاف في الحقيقة، لكن من اقتصر على التصدق بالثلثين، ذكر الافضل، أو توسع فعد الهدية صدقة. والمفهوم من كلام الاصحاب: أن الهدية لا تغني عن التصدق بشئ إذا أوجبناه، وأنها لا تحسب من القدر الذي يستحب التصدق به، ويجوز صرف القدر الذي لا بد منه إلى مسكين واحد، بخلاف الزكاة. فرع يجوز أن يدخر من لحم الاضحية، وكان ادخارها فوق ثلاثة أيام قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أذن فيه. قال الجمهور: كان نهي تحريم. وقال أبو علي الطبري: يحتمل التنزيه. وذكروا على الاول وجهين، في أن النهي كان عاما، ثم نسخ، أم كان مخصوصا بحالة الضيق الواقع في تلك السنة، فلما زالت، انتهى التحريم ؟ ووجهين على الثاني: في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا وبلادنا، هل يحكم به ؟ والصواب المعروف: أنه لا يحرم اليوم بحال. وإذا أراد الادخار، فالمستحب أن يكون من نصيب الاكل، لا من نصيب الصدقة والهدية. وأما قول الغزالي في الوجيز: يتصدق بالثلث، ويأكل الثلث، ويدخر الثلث، فبعيد منكر نقلا ومعنى، فإنه لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر، والمعروف الصواب: ما قدمناه.(2/492)
قلت: قال الشافعي رحمه الله في المبسوط: أحب أن لا يتجاوز بالاكل والادخار الثلث، أن يهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، هذا نصه بحروفه، وقد نقله أيضا القاضي أبو حامد في جامعه، ولم يذكر غيره. وهذا تصريح بالصواب، ورد لما قاله الغزالي. والله أعلم. النوع الخامس: الانتفاع بها، وما في معناه أو يخالفه، وفيه مسائل. إحداها: لا يجوز بيع جلد الاضحية، ولا جعله أجرة للجزار وإن كانت تطوعا، بل يتصدق به المضحي، أو يتخذ منه ما ينتفع بعينه من خف أو نعل أو دلو، أو فرو، أو يعيره لغيره ولا يؤجره. وحكى صاحب التقريب قولا غربيا: أنه يجوز بيع الجلد، ويصرف ثمنه مصرف الاضحية وحكي وجه: أنه لا يجوز أن ينفرد بالانتفاع بالجلد، لانه نوع يخالف الانتفاع باللحم، فيجب التشريك فيه، كالانتفاع باللحم. والمشهور: الاول. ولا فرق في تحريم البيع، بين بيعه بشئ ينتفع به في البيت وغيره. الثانية: التصدق بالجلد لا يكفي إذا أوجبنا التصدق بشئ من الاضحية، والقرن كالجلد. الثالثة: لا يجز صوفها إن كان في بقائه مصلحة، لدفع حر، أو برد، أو كان وقت الذبح قريبا ولم يضر بقاؤه، وإلا، فيجزه، وله الانتفاع به. والافضل: التصدق. وفي التتمة: أن صوف الهدي يستصحبه ويتصدق به على مساكين الحرم، كالولد. الرابعة: إذا ولدت الاضحية أو الهدي المتطوع بهما، فهو ملكه كالام. ولو ولدت المعينة بالنذر ابتداء، تبعها الولد، سواء كانت حاملا عند التعيين، أم حملت بعده. فإن ماتت الام، بقي الولد أضحية، كولد المدبرة لا يرتفع تدبيره بموتها. ولو عينها بالنذ على ما في ذمته، فالصحيح: أن حكم ولدها كولد المعينة بالنذر ابتداء. وفي وجه: لا يتبعها، بل هو ملك للمضحي أو المهدي، لان ملك(2/493)
الفقراء غير مستقر في هذه، فإنها لو عابت عادت إلى ملكه. وفي وجه: يتبعها ما دامت حية. فإن ماتت، لم يبق حكم الاضحية في الولد. والصحيح: بقاؤه، والخلاف جار في ولد الامة المبيعة إذا ماتت في يد البائع. وإذا لم يطق ولد الهدي المشي، يحمل على أمه أو غيرها ليبلغ الحرم. ثم إذا ذبح الام والولد، ففي تفرقة لحمهما أوجه. أحدها: لكل واحد منهما حكم ضحية، فيتصدق من كل واحد بشئ، لانهما ضحيتان. والثاني: يكفي التصدق من أحدهما، لانه بعضها. والثالث: لا بد من التصدق من لحم الام، لانها الاصل، وهذا هو الاصح عند الغزالي. وقال الروياني: الاول: أصح ويشترك الوجهان الاخيران في جواز أكل جميع الولد. ولو ذبحها، فوجد في بطنها جنينا، فيحتمل أن يطرد فيه هذا الخلاف، ويحتمل القطع بأنه بعضها. قلت: ينبغي أن يبنى على الخلاف المعروف، في أن الحمل له حكم، وقسط من الثمن، أم لا ؟ إن قلنا: لا، فهو بعض، كيدها، وإلا، فالظاهر: طرد الخلاف، ويحتمل القطع بأنه بعض. والاصح على الجملح: أنه يجوز أكل جميعه. والله أعلم. الخامسة: لبن الاضحية والهدي، لا يحلب إن كان قدر كفاية ولدها. فإن حلبه فنقص الولد، ضمن النقص. وإن فضل عن ري الولد، حلب. ثم قال الجمهور: له شربه، لانه يشق نقله، ولانه يستخلف، بخلاف الولد. وفي وجه: لا يجوز شربه.(2/494)
وقال صاحب التتمة: إن لم نجوز أكل لحمها، لم يشربه. وينقل لبن الهدي إلى مكة إن تيسر أو أمكن تجفيفه، وإلا، فيتصدق به على الفقراء هناك. وإن جوزنا اللحم، شربه. السادسة: يجوز ركوبهما وإركابهما بالعارية، والحمل عليهما من غير إجحاف. فإن نقصا بذلك ضمن. ولا تجوز إجارتهما. السابعة: لو اشترى شاة فجعلها ضحية، ثم وجد بها عيبا قديما، لم يجز ردها لزوال الملك عنها، كمن اشترى عبدا فأعتقه ثم علم به عيبا، لكن يرجع على البائع بالارش. وفيما يفعل به، وجهان. أحدهما: يصرف مصرف الاضحية، فينظر، أيمكنه أن يشتري به ضحية، أو جزءا، أم لا ؟ ويعود فيه ما سبق في نظائره، وفرقوا بينه وبين أرش العيب بعد إعتاق العبد، فإنه للذي أعتقه، بأن المقصود من العتق تكميل الاحكام، والعيب لا يؤثر فيه. والمقصود من الاضحية اللحم، ولحم المعيب ناقص. والوجه الثاني: أنه للمضحي، لا يلزمه صرفه للاضحية، لان الارش بسبب سابق للتعيين. وبالوجه الاول قاله الاكثرون، لكن الثاني أقوى، ونسبه الامام إلى المراوزة وقال لا: يصح غيره، وإليه ذهب ابن الصباغ، والغزالي، والروياني. قلت: قد نقل في الشامل هذا الثاني عن أصحابنا مطلقا، ولم يحك فيه خلافا، فهو الصحيح. والله أعلم. فصل في مسائل منثورة إحداها: قال ابن المرزبان: من أكل بعض لحم الاضحية، وتصدق ببعضها، هل يثاب على الكل، أو على ما تصدق به ؟ وجهان كالوجهين فيمن نوى صوم التطوع ضحوة، هل يثاب من أول النهار أم من وقته ؟ وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل، والتصدق بالبعض.(2/495)
قلت: هذا الذي قاله الرافعي، هو الصواب الذي تشهد به الاحاديث والقواعد. وممن جزم به تصريحا، الشيخ الصالح إبرهيم المروروذي. والله أعلم. الثانية: في جواز الصرف من الاضحية إلى المكاتب وجهان، في وجه: يجوز كالزكاة. قلت: الاصح: الجواز. ودلله أعلم. الثالثة: قال ابن كج: من ذبح شاة، وقال: أذبح لرضى فلان، حلت الذبيحة، لانه لا يتقرب إليه، بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم. وذكر الروياني: أن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه، فهو حلال، وإن قصد الذبح لهم، فحرام. الرابعة: قال في البحر: قال أبو إسحق: من نذر الاضحية في عام، فأجر، عصى، ويقضي كمن أخر الصلاة. الخامسة: قال الروياني: من ضحى بعدد، فرقه على أيام الذبح، فإن كان شاتين، ذبح شاة في اليوم الاول، والاخرى في آخر الايام. قلت: هذا الذي قاله، وإن كان أرفق بالمساكين، إلا أنه خلاف السنة، فقد نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم واحد مائة بدنة أهداها، فالسنة: التعجيل والمسارعة إلى الخيرات، والمبادرة بالصالحات، إلا ما ثبت خلافه. والله أعلم. السادسة: محل التضحية، بلد المضحي، بخلاف الهدي. وفي نقل الاضحية، وجهان، تخريجا من نقل الزكاة.(2/496)
السابعة: الافضل أن يضحي في بيته بمشهد أهله. وفي الحاوي: أنه يختار للامام أن يضحي للمسلمين كافة من بيت المال ببدنة، ينحرها في المصلى. فإن لم يتيسر، فشاة، وأنه يتولى النحر بنفسه، وإن ضحى من ماله، ضحى حيث شاء. قلت: قال الشافعي رحمه الله في البويطي: الاضحية سنة على كل من وجد السبيل من المسلمين من أهل المدائن والقرى، والحاضر والمسافر، والحاج من أهل مني وغيرهم، من كان معه هدي، ومن لم يكن. هذا نصه بحروفه. وفيه رد على ما حكاه العبدري في كتابه الكفاية: أن الاضحية سنة، إلا في حق الحاج بمنى، فإنه لا أضحية عليهم، لان ما ينحر بمنى هدي، وكما لا يخاطب الحاج في منى بصلاة العيد، فكذا الاضحية. وهذا الذي قاله، فاسد مخالف للنص الذي ذكرته. وقد صرح القاضي أبو حامد في جامعه وغيره من أصحابنا: بأن أهل منى كغيرهم في الاضحية، وثبت في صحيحي البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى في منى عن نسائه بالبقر. والله أعلم.
باب العقيقة
هي سنة، والمستحب ذبحها يوم السابع من يوم الولادة، ويحسب من السبعة(2/497)
يوم الولادة على الاصح. قلت: وإن ولد ليلا، حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة قطعا، نص عليه في البويطي، ونص أنه لا يحسب اليوم الذي ولد في أثنائه. والله أعلم. ويجزئ ذبحها قبل فراغ السبعة، ولا يحسب قبق الولادة، بل تكون شاة لحم. ولا تفوت بتأخيرها عن السبعة، لكن الاختيار أن لا تؤخر إلى البلوغ. قال أبو عبد الله البوشنجي من أصحابنا: إن لم تذبح في السابع، ذبحت في الرابع عشر، وإلا ففي الحادي والعشرين. وقيل: إذا تكررت السبعة ثلاث مرات، فات وقت الاختيار. فإن أخرت حتى بلغ، سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مخير في العقيقة عن نفسه. واستحسن القفال والشاشي: أن يفعلها. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه عق عن نفسه بعد النبوة. ونقلوا عن نصه في البويطي: أنه لا يفعل ذلك، واستغربوه. قلت: قد رأيت نصه في نفس كتاب البويطي قال: ولا يعق عن كبير. هذا لفظه، وليس مخالفا لما سبق، لان معناه: لا يعق عن غيره، وليس فيه نفي عقه عن نفسه. والله أعلم. فصل إنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته. وأما عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين رضي الله عنهما، فمؤول. قلت: تأويله: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أباهما بذلك، أو أعطى أبويهما ما عق به أو(2/498)
: أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين، فيكونان في نفقة جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. ولا يعق عن المولود من ماله، فلو كان المنفق عاجزا عن القيقة، فإيسر في السبعة،. استحب له العق. وإن أيسر بعدها، أو بعد مدة النفاس، فهي ساقطة عنه وإن أيسر في مدة النفاس، ففيه احتمالان للاصحاب، لبقاء أثر الولادة. فصل العقيقة جذعة ضأن، أو ثنية معز، كالاضحية. وفي الحاوي: أنه يجزئ ما دونهما، ويشترط سلامتهما من العيب المانع في الاضحية. وفي العدة: إشارة إلى وجه مسامح، قال بعض الاصحاب: الغنم أفضل من الابل والبقر، والصحيح خلافه، كالاضحية. وينبغي أن تتأدى السنة بسبع بدنة أو بقرة. فصل حكم العقيقة في التصدق منها، والاكل، والهدية، والادخار، وقدر المأكول، وامتناع البيع، وتعيين الشاة إذا عينت للعقيقة، كما ذكرنا في الاضحية. وقيل: إن جوزنا دون الجذعة، لم يجب التصدق منها، وجاز تخصيص الاغنياء بها. فصل ينوي عند ذبحها، أنها عقيقة. لكن إن جعلها عقيقة من قبل، ففي الحاجة إلى النية عند الذبح، ما ذكرنا في الاضحية. فصل يستحب أن لا يتصدق بلحمها نيئا، بل يطبخه. وفي الحاوي: أنا إذا لم نجوز ما دون الجذعة والثنية، وجب التصدق بلحمها نيئا. وكذا قال الامام: إن أوجبنا التصدق بمقدار، وجب تمليكه وهو نيئ. والصحيح: الاول. وفيما يطبخه به، وجهان. أحدهما: بحموضة، ونقله(2/499)
في التهذيب عن النص. وأصحهما: بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاق المولود. وعلى هذا، لو طبخ بحامض، ففي كراهته وجهان. أصحهما: لا يكره. ويستحب أن لا يكسر عظام العقيقة ما أمكن، فإن كسر، لم يكره على الاصح. والتصدق بلحمها ومرقها على المساكين، بالبعث إليهم، أفضل من الدعوة إليها. ولو دعا إليها قوما، فلا بأس. فصل يعق عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتان، ويحصل أصل السنة بواحدة. ويستحب أن تكون الشاتان متساويتين، وأن يكون ذبح العقيقة في صدر النهار، وأن يعق عمن مات بعد الايام السبعة والتمكن من الذبح. وقيل: يسقط بالموت. وأن يقول الذابح بعد التسمية: اللهم لك وإليك عقيقة فلان. ويكره لطخ رأس الصبي بدم العقيقة، ولا بأس بلطخه بالزعفران والخلوق. وقيل باستحبابه. فصل ستحب أن يسمى المولود في اليوم السابع، ولا بأس بأن يسمى قبله. واستحب بعضهم أن لا يفعله، ولا يترك تسمية السقط، ولا من مات قبل تمام السبعة، ولتكن التسمية باسم حسن، وتكره الاسماء القبيحة وما يتطير بنفيه، كنافع، ويسار، وأفلح، ونجيح، وبركة. فصل يستحب أن يحلق رأس المولود يوم السابع، ويتصدق بوزن شعره ذهبا. فإن لم يتيسر، ففضة، سواء فيه الذكر والانثى. قال في التهذيب:(2/500)
يحلق بعد الذبح العقيقة. والذي رجحه الروياني، ونقله عن النص: أنه يكون قبل الذبح. قلت: وبهذا قطع المحاملي في المقنع، وبالاول قطع صاحب المهذب والجرجاني في التحرير، وفي الحديث إشارة إليه، فهو أرجح. والله أعلم. فصل يستحب أن يؤذن من ولد له ولد في أذنه. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله، إذا ولد له ولد، أذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، واستحبه بعض أصحابنا. ويستحب أن يقول في أذنه: * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) *، وأن يحنكه بتمر، بأن يمضغه ويدلك به حنكه، فإن لم يكن تمر، حنكه بشئ آخر حلو، وأن يهنأ الوالد بالمولود، ويستحب أن يعطي القابلة رجل العقيقة. فصل في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا فرع ولا عتيرة. فالفرع - بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة - أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الام وكثرة نسلها. والعتيرة - بفتح العين المهملة - ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الاول من رجب. ويسمونها: الرجبية أيضا. وذكر ابن كج وغيره فيهما وجهين. أحدهما: تكرهان للخبر. والثاني: لا كراهة فيهما، والمنع راجع إلى ما كانوا يفعلونه، وهو الذبح لآلهتهم، أو أن المقصود نفي الوجوب، أو أنهما ليستا كالاضحية في الاستحباب، أو في ثواب إراقة الدم. فأما تفرقة اللحم على(2/501)
المساكين، فبر وصدقة. وحكي أن الشافعي رحمه الله قال: إن تيسر ذلك كل شهر، كان حسنا. قلت: هذا النص للشافعي رحمه الله في سنن حرملة، والحديث المذكور في أول الفصل في صحيح البخاري وغيره، وفي سنن أبي داود وغيره حديث آخر يقتضي الترخيص فيهما، بل ظاهره الندب، فالوجه الثاني يوافقه، وهو الراجح. واعلم أن الامام الرافعي رحمه الله، ترك مسائل مهمة تتعلق بالباب. إحداها: يكره القزع، وهو حلق بعض الرأس، سواء كان متفرقا أو من موضع واحد، لحديث الصحيحين بالنهي عنه. وقد اختلف في حقيقة القزع، والصحيح: ما ذكرته. وأما حلق جميع الرأس، فلا بأس به لمن لا يخف عليه تعاهده، ولا بأس بتركه لمن خف عليه. الثانية: يستحب فرق شعر الرأس. الثالثة: يستحب الادهان غبا، أي: وقتا بعد وقت، بحيث يجف الاول. الرابعة: يستحب الاكتحال وترا. والصحيح في معناه: ثلاثا في كل عين. والخامسة: تقليم الاظفار، وإزالة شعر العانة، بحلق، أو نتف، أو قص، أو نورة، أو غيرها، والحلق أفضل. ويستحب إزالة شعر الابط بأحذ هذه الامور، والنتف أفضل لمن قوي عليه. ويستحب قص الشارب، بحيث يبين طرف الشفة بيانا ظاهرا. ويبدأ في(2/502)
هذه كلها، باليمين، ولا يؤخرها عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة، تأخيرها عن أربعين يوما، للحديث في صحيح مسلم بالنهي عن ذلك. السادسة: من السنة غسل البراجم، وهي عقد الاصابع ومفاصلها، ويلتحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الاذن وصماخها، وفي الانف وسائر البدن. السابعة: خضاب الشعر الشائب بحمرة أو صفرة، سنة، وبالسواد حرام. وقيل: مكروه. وأما خضاب اليدين والرجلين، فمستحب في حق النساء، كما سبق في باب الاحرام، وحرام في حق الرجال إلا لعذر. الثامنة: يستحب ترجيل الشعر، وتسريح اللحية، ويكره نتف الشيب. التاسعة: ذكر الغزالي وغيره، في اللحية عشر خصال مكروهة: خضابها بالسواد إلا للجهاد، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة، ونتفها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة، ونتف الشيب، وتصفيفها طاقة فوق طاقة تحسنا، والزيادة فيها، والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس، ونتف جانبي العنفقة، وغير ذلك، وتركها شعثة إظهارا لقلة المبالاة بنفسه، والنظر في بياضها وسوادها إعجابا وافتخارا، ولا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب. العاشرة: في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أحب أسمائكم إلى الله عزوجل، عبد الله، وعبد الرحمن، وإذا سمي إنسان باسم قبيح، فالسنة(2/503)
تغييره. وينبغي للولد والتلميذ والغلام، أن لا يسمي أباه ومعلمه وسيده باسمه. ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد، أم لا، وسواء كني بولده، أم بغيره. ولا بأس بكنية الصغيرة، وإذا كني من له أولاد، فالسنة أن يكنى بأكبرهم، ونص الشافعي رحمه الله، أنه لا يجوز التكني بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمدا، أم غيره، للحديث الصحيح في ذلك، وسنوضحه في أول النكاح إن شاء الله تعالى. ولا بأس بمخاطبة الكافر والمبتدع والفاسق بكنيته إذا لم يعرف بغيرها، أو خيف من ذكره باسمه فتنة، وإلا فينبغي أن لا يزيد على الاسم. وا لادب، أن لا يذكر الانسان كنيته في كتابه ولا غيره، إلا أن لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من اسمه. ولا بأس بترخيم الاسم إذا لم يتأذ صاحبه، ولا بتلقيب الانسان بلقب لا يكره. واتفقوا على تحريم تلقيبه بما يكرهه، سواء كان صفة له، كالاعمش والاعرج، أو لابيه، أو لامه، أو غير ذلك. ويجوز ذكره بذلك للتعريف، لمن لا يعرفه بغيره، ناويا التعريف فقط. وثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل، فخلوهم، وأغلقوا الباب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم وفي رواية: لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء وفي رواية: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون. فهذه سنن ينبغي المحافظة عليها، وجنح الليل بضم الجيم وكسرها: ظلامه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: تعرضوا عليها شيئا - بضم الراء - على المشهور. وقيل: بكسرها، أي: تجعلوه عرضا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا ترسلوا فواشيكم هي - بالفاء جمع فاشية - وهو كل ما ينشر من المال كالبهائم وغيرها، وفحمة العشاء: ظلمتها. والله أعلم.(2/504)
كتاب الصيد والذبائح
الحيوان المأكول، إنما يصير مذكى بأحد طريقين. أحدهما: الذبح في الحلق واللبة، وذلك في الحيوان المقدور عليه. والثاني: العقر المزهق في أي موضع كان، وذلك في غير المقدور عليه. ثم الذبح والعقر أربعة أركان. الاول: الذابح، والعاقر يشترط كونه مسلما أو كتابيا. وتحل ذبيحة الكتابي،(2/505)
سواء فيه ما يستحله الكتابي، وما لا. وحقيقة الكتابي تأتي في كتاب النكاح إن شاء الله. تعالى. وفي ذبيحة المتولد بين الكتابي والمجوسية، قولان، كمناكحته، والمناكحة والذبيحة، لا يفترقان، إلا أن الامة الكتابية، تحل ذبيحتها دون مناكحتها. ولو صاد مجوسي سمكة، حلت، لان ميتتها حلال. وكما تحرم ذبيحة المجوسي، والوثني، والمرتد، وغيرهم ممن لا كتاب له، يحرم صيده بسهم، أو كلب. ويحرم ما يشارك فيه مسلما. فلو أمرا سكينا على حلق شاة، أو قطع هذا بعض الحلقوم، وهذا بعضه، أو قتلا صيدا بسهم أو كلب، فهو حرام. ولو رميا سهمين، أو أرسلا كلبين، فإن سبق سهم المسلم أو كلبه، فقتل الصيد، أو أنهاه إلى حركة المذبوح، حل، كما لو ذبح مسلم شاة، ثم قدها المجوسي. وإن سبق ما أرسله المجوسي، أو جرحاه معا، أو مرتبا، ولم يذفف واحد منهما، فهلك بهما، أو لم يعلم أيهما قتله، فحرام. وقال صاحب البحر: متى اشتركا في إمساكه وعقره، أو في أحدهما، وانفرد واحد بالآخر، أو انفرد كل واحد بأحدهما، فحرام. ولو كان لمسلم كلبان معلم وغيره، أو معلمان، ذهب أحدهما بلا إرسال، فقتلا صيدا، فكاشتراك كلبي المسلم والمجوسي. ولو هرب الصيد من كلب المسلم، فعارضه كلب مجوسي، فرده عليه، فقتله كلب المسلم، حل، كما لو ذبح المسلم شاة أمسكها مجوسي. ولو جرحه مسلم أولا، ثم قتله مجوسي، أو جرحه جرحا غير مذفف، ومات بالجرحين، فحرام. فلو كان المسلم أثخنه بجراحته، فقد ملكه. ويلزم المجوسي قيمته له، لانه أفسده بجعله ميتة. ويحل ما اصطاده المسلم بكلب المجوسي، كالذبح بسكينه. قلت: لو أكره مجوسي مسلما على ذبح شاة، أو محرم حلالا على ذبح صيد، فذبح، حل، ذكره الشيخ إبرهيم المروزي في مسألة الاكراه على القتل. والله أعلم. فرع تحل ذبيحة الصبي المميز على الصحيح، وفي غير المميز(2/506)
والمجنون والسكران، قولان. أحدهما: الحل، كمن قطع حلق شاة يظنه خشبة. والثاني: المنع، كنائم بيده سكين وقعت على حلقوم شاة. وصحح الامام، والغزالي، وجماعة، الثاني. وقطع الشيخ أبو حامد وصاحب المهذب بالحل. قلت: الاظهر: الحل. والله أعلم. قال صاحب التهذيب: فإن كان للمجنون أدنى تمييز، وللسكران قصد، حل قطعا. وتحل ذبيحة الاعمى قطعا لكن تكره. وفي صيده بالكلب والرمي، وجهان. أصحهما: لا يحل. ومنهم من قطع به. وقيل: عكسه. والاشبه: أن الخلاف مخصص بما إذا أخبره بصير الصيد، فأرسل السهم أو الكلب. وكذا صورها في التهذيب، وأطلق الوجهين جماعة، ويجريان في اصطياد الصبي والمجنون بالكلب والسهم. وقيل: يختصان بالكلب، وقطع بالحل في السهم كالذبح. فرع الاخرس، إن كان له إشارة مفهومة، حلت ذبيحته، وإلا، فكالمجنون، قاله في التهذيب: ولتكن سائر تصرفاته على هذا القياس. قلت: الاصح: الجزم بحل ذبيحة الاخرس الذي لا يفهم، وبه قطع الاكثرون. والله أعلم.
الركن الثاني : الذبيح. الحيوان ثلاثة أقسام.(2/507)
الاول: ما لا يؤكل. والثاني: مأكول يحل ميته. والثالث: مأكول، لا يحل ميته. فالاول: ذبحه كموته. والثاني: كالسمك والجراد، ولا حاجة إلى ذبحه. وهل يحل أكل السمك الصغار إذا شويت ولم يشق جوفها ويخرج ما فيه ؟ فيه وجهان. وجه الجواز: عسر تتبعها، وعلى المسامحة بها جرى الاولون. قال الروياني: بهذا أفتي، ورجيعها طاهر عندي، وهو اختيار القفال. ولو وجدت سمكة في جوف سمكة، فهي حلال، كما لو ماتت حتف أنفها، بخلاف ما لو ابتلعت طائرا فوجد ميتا في جوفها، لا يحل. ولو تقطعت السمكة في جوف سمكة، وتغير لونها، لم تحل على الاصح، لانها كالروث والقئ. ويكره ذبح السمك، إلا أن يكون كبيرا يطول بقاؤه، فيستحب ذبحه على الاصح، إراحة له. وقيل: يستحب تركه ليموت بنفسه. ولو ابتلع سمكة حية، أو قطع فلقة منها، لم يحرم على الاصح، لكن يكره. قلت: وطردوا الوجهين في الجراد. ولو ذبح مجوسي سمكة، حلت. ولو قلى السمك قبل موته، فطرحه في الزيت المغلي وهو يضطرب، قال الشيخ أبو حامد: لا يحل فعله، لانه تعذيب. وهذا تفريع على اختياره في ابتلاع السمكة حية: أنه حرام. وعلى إباحة ذلك، يباح هذا. والله أعلم. أما القسم الثالث: فضربان، مقدور على ذبحه، ومتوحش. فالمقدور عليه: لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة، كما سبق في كتاب الاضحية، وسواء الانسي والوحشي إذا ظفر به. وأما المتوحش، كالصيد، فجميع أجزائه مذبح ما دام متوحشا. فلو رماه بسهم، أو أرسل عليه جارحة، فأصاب شيئا من بدنه ومات، حل بالاجماع. ولو توحش إنسي، بأن ند بعير، أو شردت شاة، فهو كالصيد، يحل بالرمي إلى غير(2/508)
مذبحه، وبإرسال الكلب عليه. ولو تردى بعير في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي. وهل يحل بإرسال الكلب ؟ وجهان. أصحهما عند صاحب البحر: التحريم، واختار البصريون الحل. قلت: الاصح: تحريمه. وصححه أيضا الشاشي. والله أعلم. وليس المراد بالتوحش مجرد الافلات، بل متى تيسر اللحوق بعدو، أو استعانة بمن مسك الدابة، فليس ذلك توحشا، ولا يحل إلا بالذبح في المذبح. ولو تحقق الشرود، وحصل العجز في الحال، فقد أطلق الاصحاب: أن البعير كالصيد، لانه قد يريد الذبح في الحال، فتكليفه الصبر إلى القدر، يشق عليه. قال الامام: والظاهر عندي: أنه لا يلحق بالصيد بذلك، لانها حالة عارضة قريبة الزوال، لكن لو كان الصبر والطلب يؤدي إلى مهلكة أو مسبعة، فهو حينئذ كالصيد. وإن كان يؤدي إلى موضع لصوص وغصاب مترصدين، فوجهان. والفرق أن تصرفهم وإتلافهم متدارك بالضمان. والمذهب: ما قدمناه عن الاصحاب. ثم في كيفية الجرح المفيد للحل في الناد والمتردي، وجهان. أصحهما وبه أجاب الاكثرون: يكفي جرح يفضي إلى الزهوق كيف كان. والثاني: لا بد من جرح مذفف، واختاره القفال، والامام. فصل إذا أرسل سلاحا، كسهم، وسيف، وغيرهما، أو كلبا معلما على صيد، فأصابه، ثم أدرك الصيد حيا، نظر، إن لم يبق فيه حياة مستقرة، بأن كان قطع حلقومه ومريه، أو أجافه، أو خرق أمعاءه، فيستحب أن يمر السكين على حلقه ليريحه. فإن لم يفعل، وتركه حتى مات، فهو حلال، كما لو ذبح شاة فاضطربت أو عدت. وإن بقيت فيه حياة مستقرة، فله حالان. أحدهما: أن يتعذر ذبحه بغير تقصير من صائده حتى يموت، فهو حلال أيضا، للعذر.(2/509)
والثاني: أن لا يتعذر ذبحه، فتركه حتى مات، أو تعذر بتقصيره، فمن صور الحال الاول، فمات، فهو حرام، كما لو تردى بعير فلم يذبحه حتى مات. فمن صور الحال الاول أن يشغل بأخذ الآلة وسل السكين، فيموت قبل إمكان ذبحه. ومنها: أن يمتنع بما فيه من بقية قوة، ويموت قبل قدرته عليه. ومنها: أن لا يجد من الزمان ما يمكن الذبح فيه. ومن صور الثاني: أن لا يكون معه آلة ذبح، أو تضيع آلته منه، فلو نشبت في الغمد، فلم يتمكن من إخراجها حتى مات، فهو حرام على الصحيح، لان حقه أن يستصحب غمدا يواتيه. وقال أبو علي بن أبي هريرة، والطبري: يحل. ولو غصبت الآلة، فالصيد حرام على الاصح. والثاني: تحل كما لو لم يصل إلى الصيد لسبع حائل حتى مات، قال الروياني: ولو اشتغل بطلب المذبح فلم يجده حتى مات، فهو حلال، لانه لا بد منه، بخلاف ما لو اشتغل بتحديد السكين، لانه يمكن تقديمه. ولو كان يمر ظهر السكين على حلقه غلطا، فمات، فحرام، لانه تقصير. ولو وقع الصيد منكسا، واحتاج إلى قلبه ليقدر على الذبح، فمات، أو اشتغل بتوجيهه إلى القبلة، فمات، فحلال. ولو شك بعد موت الصيد، هل تمكن من ذكاته فيحرم، أم لم يتمكن فيحل ؟ فقولان. أظهرهما: يحل. وهل يشترط العدو إلى الصيد إذا أصابه السهم أو الكلب ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لانه المعتاد في هذه الحالة، لكن لا يكلف المبالغة بحيث يفضي إلى ضرر ظاهر. وأصحهما: لا، بل يكفي المشي. وعلى هذا، فالصحيح الذي قطع به الصيدلاني، وصاحب التهذيب وغيرهما: أنه لو كان يمشي على هينته، فأدركه ميتا، حل وإن كان لو أسرع لادركه حيا. وقال الامام: عندي أنه لا بد من الاسراع قليلا، لان الماشي على هينته، خارج عن عادة الطلب. فإن شرطنا العدو، فتركه، فصادف الصيد ميتا ولم يدر أمات في الزمن الذي يسع العدو، أم بعده، فينبغي أن يكون على القولين، فيما إذا(2/510)
شك في التمكن من الذكاة. فرع لو رمى صيدا فقده قطعتين متساويتين أو متفاوتتين، فهما حلال. ولو أبان منه - بسيف أو غيره - عضوا، كيد ورجل، نظر، إن أبانه بجراحة مذففة ومات في الحال، حل العضو وباقي البدن. وإن لم يذففه فأدركه وذبحه، أو جرحه جرحا آخر مذففا، فالعضو حرام، لانه أبين من حي، وباقي البدن حلال. وإن أثبته بالجراحة الاولى، فقد صار مقدورا عليه، فتعين ذبحه، ولا تجزئ سائر الجراحات. ولو مات من تلك الجراحة بعد مضي زمن، ولم يتمكن من ذبحه، حل باقي البدن، ولم يحل العضو على الاصح لانه أبين من حي، فهو كمن قطع ألية شاة ثم ذبحها، لا تحل الالية قطعا. والثاني: تحل، لان الجرح كالذبح للجملة، فتبعها العضو. وإن جرحه جراحة أخرى والحالة هذه، فإن كانت مذففة، فالصيد حلال، والعضو حرام، وإلا، فالصيد حلال أيضا، والعضو حرام على الصحيح، لان الابانة لم تتجرد ذكاة للصيد.
الركن الثالث : آلة الذبح والاصطياد، هي ثلاثة أقسام. الاول: المحددات الجارحة بحدها من الحديد، كالسيف، والسكين، والسهم، والرمح، أو من الرصاص أو من النحاس أو الذهب أو الخشب المحدد، أو القصب أو الزجاج أو الحجر، فيحصل الذبح بجميعها، ويحل الصيد المقتول بها، إلا الظفر والسن وسائر العظام، فإنه لا يحل بها، سواء عظم الآدمي وغيره، المتصل والمنفصل.(2/511)
وفي وجه: أن عظم المأكول تحصل الذكاة به، وهو شاذ ضعيف. ولو ركب عظما على سهم، وجعله نصلا له، فقتل به صيدا، لم يحل على المشهور. القسم الثاني: الآلات المثقلات، إذا أثرت بثقلها دقا أو خنقا، لم يحل الحيوان، وكذا المحدد إذا قتل بثقله، بل لا بد من الجرح. فيحرم الطير إذا مات ببندقة رمي بها، خدشته، أم لا، قطعت رأسه، أم لا. ولو وقع صيد في بئر محفورة له، فمات بالانصدام، أو الخنق بأحبولة منصوبة له، أو كان رأس الحبل بيده، فجره ومات الصيد، أو مات بسهم لا نصل فيه ولا حد له، أو بثقل السيف، أو مات الطير الضعيف بإصابة عرض السهم، أو قتل بسوط، أو عصا، فكله حرام. ولو ذبح بحديدة لا تقطع، لم يحل، لان القطع هنا بقوة الذابح وشدة الاعتماد، لا بالآلة. ولو خسق فيه العصا ونحوه، حكى الروياني: أنه إن كان محددا يمور مور السلاح، فهو حلال. وإن كان لا يمور إلا مستكرها، نظر، إن كان العود خفيفا قريبا من السهم، حل. وإن كان ثقيلا، لم يحل. فرع إذا لم يجرح الكلب الصيد، لكن تحامل عليه، فقتله بضغطته، حل على الاظهر. فرع إذا مات الصيد بشيئين: محرم، ومبيح، بأن مات بسهم وبندقة أصاباه من رام أو راميين، أو صيب الصيد طرف من النصل، فيجرحه ويؤثر فيه عرض السهم في مروره فيموت منهما، أو يرمي إلى صيد سهما فيقع على طرف سطح، ثم يسقط منه، أو على جبل فيتدهور منه، أو يقع في ماء، أو على شجر فينصدم بأغصانه، أو يقع على محدد من سكين وغيره، فكل هذ حرام.(2/512)
ولو تدحرج المجروح من الجبل من جنب إلى جنب، حل، ولا يضر ذلك، لانه لا يؤثر في التلف. وإن أصاب السهم الطائر في الهواء فوقع على الارض ومات، حل، سواء مات قبل وصوله الارض أو بعده، لانه لا بد من الوقوع، فعفي عنه، كما لو كان الصيد قائما فأصابه السهم ووقع على جنبه وانصدم بالارض ومات، فإنه يحل. ولو زحف على قليلا بعد إصابة السهم، فهو كالوقوع على الارض، فيحل. ولو لم يجرحه السهم في الهواء، لكن كسر جناحه فوقع ومات، فحرام، لانه لم يصبه جرح يحال الموت عليه. ولو كان الجرح خفيفا لا يؤثر مثله، لكن عطل جناحه فسقط ومات، فحرام. ولو جرحه السهم في الهواء فوقع في بئر، إن كان فيها ماء، فقد سبق بيانه، وإلا، فهو حلال، وقعر البئر كالارض. والمراد: إذا لم تصادمه جدران البئر. ولو كان الطائر على شجرة فأصابه السهم فوقع على الارض ومات، حل. وإن وقع على غصن ثم على الارض، لم يحل. وليس الانصدام بالاغصان، أو بأحرف الجبل عند التدهور من أعلاه، كالانصدام بالارض، فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب، والانصدام بالارض، لازم. وللامام احتمال في الصورتين، لكثرة وقوع الطير على الشجر، والانصدام بطرف الجبل إذا كان الصيد فيه. فرع إذا رمي طير الماء، إن كان على وجه الماء فأصابه ومات، حل، والماء له كالارض. وإن كان خارج الماء، ووقع فيه بعد إصابة السهم، ففي حله وجهان ذكرهما في الحاوي. وقطع في التهذيب: بالتحريم. وفي شرح مختصر الجويني: بالحل. فلو كان الطائر في هواء البحر، قال في التهذيب: إن كان الرامي في البر، لم يحل. وإن كان في السفينة في البحر، حل. فرع جميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة(2/513)
المذبوح. فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم والمرئ، أو غيره، فقد تمت ذكاته، ولا أثر لما يعرض بعده. فرع لو أرسل كلب في عنقه قلادة محددة، فجرح الصيد بها، حل كما لو أرسل سهما، قاله في التهذيب. وقد يفرق بأنه قصد بالسهم الصيد، ولم يقصده بالقلادة. القسم الثالث: الجوارح، فيجوز الاصطياد بجوارح السباع، كالكلب، والفهد، والنمر، وغيرها. وبجوارح الطير، كالبازي، والشاهين، والصقر. وفي وجه يحكى عن أبي بكر الفارسي: لا يجوز الاصطياد بالكلب الاسود، وهو شاذ ضعيف. والمراد بجواز الاصطياد بها: أن ما أخذته وجرحته وأدركه صاحبها ميتا، أو في حركة المذبوح، حل أكله. ويقوم إرسال الصائد وجرح الجارح في أي موضع كان، مقام الذبح في المقدور عليه. وأما الاصطياد بمعنى إثبات الملك، فلا يختص، بل يحصل بأي طريق تيسر. ثم يشترط لحل ما قتله الجوارح، كون الجارح معلما. فإن لم يكن معلما، لم يحل ما قتله. فإن أدرك وفيه حياة مستقرة، ذكاه كغيره. ويشترط في كون الكلب معلما، أربعة أمور. أحدها: أن ينزجر بزجر صاحبه، كذا أطلقه الجمهور، وهو المذهب. وقال(2/514)
الامام: يعتبر ذلك في ابتداء الامر. فأما إذا انطلق واشتد عدوه، في اشتراطه وجهان. أصحهما يشترط. الثاني: أن يسترسل بإرساله. ومعناه: أنه إذا أغري بالصيد هاج. الثالث: أن يمسك الصيد فيحبسه على صاحبه، ولا يخليه. الرابع: أن لا يأكل منه على المشهور. وفي قول شاذ: لا يضر الاكل. هذا حكم الكلب، وما في معناه من جوارح السباع. وذكر الامام: أن ظاهر المذهب: أنه يشترط أيضا أن ينطلق بإطلاق صاحبه، وأنه لو انطلق بنفسه، لم يكن معلما. ورآه الامام مشكلا، من حيث أن الكلب على أي صفة كان، إذا رأى صيدا بالقرب منه وهو على كلب الجوع، يبعد انكفافه. وأما جوارح الطير، فيشترط فيها أن تهيج عند الاغراء أيضا. ويشترط ترك أكلها من الصيد أيضا على الاظهر. قال الامام: ولا يطمع في انزجارها بعد الطيران، ويبعد أيضا اشتراط انكفافها في أول الامر. ثم في الفصل مسائل. إحداها: الامور المشترطة في التعليم، يشترط تكررها ليغلب على الظن تأدب الجارحة. والرجوع في عدد ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح، على الصحيح الذي اقتضاه كلام الجمهور. وقيل: يشترط تكرره ثلاث مرات. وقيل: مرتين. الثانية: إذا ظهر أنه معلم، ثم أكل من صيد قبل قتله أو بعده، ففي حل ذلك الصيد قولان. أظهرهما: لا يحل. قال الامام: وددت لو فصل فاصل بين أن ينكف زمانا ثم يأكل، وبين أن يأكل(2/515)
بنفس الاخذ، لكن لم يتعرضوا له. قلت: فصل الجرجاني وغيره فقالوا: إن أكل عقيب القتل، ففيه القولان، وإلا، فيحل قطعا. والله أعلم. فإذا قلنا بالتحريم، فلا بد من استئناف التعليم، ولا ينعطف التحريم على ما اصطاده من قبل. فإذا قلنا بالحل، فتكرر أكله وصار عادة له، حرم الصيد الذي أكل منه بلا خلاف. وفي تحريم الصيود التي أكل منها من قبل، وجهان، وقد ترجح منهما التحريم. قال في التهذيب: إذا أكل من الصيد الثاني، حرم، وفي الاول، الوجهان. وإذا أكل من الثالث، حرم، وفيما قبله، الوجهان. وهذا ذهاب إلى أن الاكل مرتين، يخرجه عن كونه معلما. وقد ذكرنا خلافا في تكرر الصفات التي يصير بها معلما، ويجوز أن يفرق بينهما بأن أثر التعليم في الحل، وأثر الاكل في التحريم، فعملنا بالاحتياط فيهما. وعلى هذا، لو عرفنا كونه معلما، لم ينعطف الحل على ما سبق بلا خلاف. وفي انعطاف التحريم، الخلاف المذكور. ولو لعق الكلب الدم، لم يضر على الفذهب. وأشار الامام إلى وجه ضعيف. ولو أكل حشوة الصيد، فطريقان. أصحهما: على قولي اللحم. والثاني: القطع بالحل، لانها غير مقصودة كالدم. ولو لم يسترسل عند الارسال، أو لم ينزجر عند الزجر، فينبغي أن يكون في تحريم الصيد وخروجه عن كونه معلما، الخلاف في الاكل(2/516)
قال القفال: لو أراد الصائد أخذ الصيد منه فامتنع، وصار يقاتل دونه، فهو كالاكل. وجوارح الطير إذا أكلت منه، وقلنا: يشترط في التعليم تركها الاكل، فطريقان. أصحهما: طرد القولين كالكلب. والثاني: القطع بالحل. الثالثة: معض الكلب من الصيد نجس، يجب غسله سبعا مع التعفير كغيره. فإذا غسل، حل أكله، هذا هو المذهب. وقيل: إنه طاهر. وقيل: نجس يعفى عنه ويحل أكله بلا غسل. وقيل: نجس لا يطهر بالغسل، بل يجب تقوير ذلك الموضع وطرحه، لانه يتشرب لعابه، فلا يتخلله الماء. قال الامام: وهذا القائل، يطرد ما ذكره في كل لحم، وما في معناه بعضه الكلب، بخلاف موضع يناله لعابه بغير عض. وقيل: إن أصاب ناب الكلب عرقا نضاخا بالدم، سرى حكم النجاسة إلى جميع الصيد، ولم يحل أكله. قال الامام: هذا غلط، لان النجاسة وإن اتصلت بالدم، فالعرق وعاء حاجز بينه وبين اللحم، ثم الدم إذا كان يفور، امتنع غوص النجاسة فيه كالماء المتصعد من فواره، إذا وقعت نجاسة على أعلاه، لم ينجس ما تحته. فرع ذكرنا أن النمر والفهد، كالكلب في حل ما قتلاه. وهكذا نص عليه الشافعي والاصحاب. وذكر الامام: أن الفهد يبعد فيه التعلم، لانفته وعدم انقياده. فإن تصور تعلمه على ندور، فهو كالكلب. وهذا الذي قاله، لا يخالف ما قاله الشافعي والاصحاب. وفي كلام الغزالي ما يوهم خلاف هذا، وهو محمول على ما ذكره الامام، فلا خلاف فيه.
الركن الرابع : نفس الذبح وعقر الصيد.
أما نفس الذبح، فسبق في باب الاضحية.(2/517)
وأما العقر الذي يبيح الصيد بلا ذكاة، فهو الجرح المقصود المزهق الوارد على حيوان وحشي. أما الجرح، فيخرج عنه الخنق والوقذ ونحوهما. وأما القصد، فله ثلاث مراتب. الاولى: قصد أصل الفعل الجارح. فلو كان في يده سكين، فسقط فانجرح به صيد، ومات، أو نصب سكينا أو منجلا أو حديدة فانعقر به صيد ومات أو كان في يده سكين فاحتكت بها شاة، فانقطع حلقومها، أو وقعت على حلقها فقطعته، فهي حرام. وحكي وجه عن أبي إسحق: أنه تحل الشاة في صورة وقوع السكين من يده، ولا شك أن الصيد في معناها، وهذا الوجه شاذ ضعيف. ولو كان في يده حديدة فحركها، وحكت الشاة أيضا حلقها بالحديدة فحصل انقطاع حلقها بالحركتين، فهي حرام. فرع إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه، فقتل صيدا، فهو حرام. فلو أكل منه، لم يقدح ذلك في كونه معلما، بلا خلاف، وإنما يعتبر الامساك إذا أرسله صاحبه. ولو زجره صاحبه لما استرسل، فانزجر ووقف، ثم أغراه فاسترسل وقتل الصيد، حل بلا خلاف. وإن لم ينزجر ومضى على وجهه، لم يحل، سواء زاد عدوه وحدته، أم لا. فلو لم يزجره، بل أغراه، فإن لم يزد عدوه، فحرام. وكذا إذا زاد على الاصح. فإن كان الاغراء وزيادة العدو بعد ما زجره، فلم ينزجر، فعلى الوجهين، وأولى بالتحريم، وبه قطع العراقيون. ولو أرسل مسلم كلبا، فأغراه مجوسي فازداد عدوه، فإن قلنا في الصورة السابقة: لا ينفأما ينقطع الاسترسال، ولا يؤثر الاغراء، حل هنا. ولا يؤثر إغراء المجوسي. وإن قطعناه، وأحلنا على الاغراء، لم يحل هنا، كذا ذكر الجمهور هذا البناء. وقطع في التهذيب: بالتحريم. واختاره القاضي أبو الطيب، لانه قطع للاول أو مشاركة، وكلاهما يحرمه.(2/518)
ولو أرسل مجوسي كلبا فأغراه مسلم، فازداد عدوه، فوجهان بناء على عكس ما تقدم، ومنهم من قطع بالتحريم. ولو أرسل مسلم كلبه، فزجره فضولي فانزجر، ثم أغراه فاسترسل، فأخذ صيدا، فلمن يكون الصيد ؟ وجهان. أصحهما: للغاصب. ولو زجره فلم ينزجر، فأغراه، أو لم يزجره، بل أغراه وزاد عدوه، وقلنا: الصيد للغاصب، خرج على الخلاف في أن الاغراء يوسف يقطع حكم الابتداء، أم لا ؟ إن قلنا: لا، وهو الاصح، فالصيد لصاحب الكلب، وإلا، فللغاصب الفضولي. قال الامام: ولا يمتنع تخريج وجه باشتراكهما. فرع لو أصاب السهم الصيد بإعانة الريح، وكان يقصر عنه لولا الريح، حل قطعا، لانه لا يمكن الاحتراز عن هبوبها، هكذا صرح به الاصحاب كلهم، وأبدى الامام فيه ترددا. ولو أصاب الارض أو انصدم بحائط ثم ازدلف وأصاب الصيد، أو أصاب حجرا فنبا عنه وأصاب الصيد أو نفذ فيه إلى الصيد، أو كان الرامي في نزع القوس فانقطع الوتر وصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد، حل على الاصح. المرتبة الثانية: قصد جنس الحيوان، فلو أرسل سهما في الهواء، أو فضاء من الارض، لاختبار قوته، أو رمى إلى هدف، فاعترض صيد فأصابه وقتله، وكان لا يخطر له الصيد، أو كان يراه، ولكن رمى إلى الهدف. أو ذئب، ولا يقصد الصيد فأصابه، لم يحل على الاصح المنصوص، لعدم قصده. ولو كان يجيل سيفه فأصاب عنق شاة وقطع الحلقوم والمرئ من غير علم بالحال، فقطع الامام وغيره: بأنها ميتة قد يجئ في هذا الخلاف وأيضا الوجه المنقول فيما لو وقع السكين من يده. ولو أرسل كلبا حيث لا صيد، فاعترض صيد فقتله، لم يحل على المذهب.(2/519)
وفي الكافي للروياني وغيره: فيه وجهان، ولو رمى ما ظنه حجرا، أو جرثومة، أو آدميا معصوما، أو غير معصوم، أو خنزيرا، أو حيوانا آخر محرما، فكان صيدا فقتله، أو ظنه صيدا غير مأكول فكان مأكولا، أو قطع في ظلمة ما ظنه ثوبا، فكان حلق شاة، فانقطع الحلقوم والمرئ، أو أرسل كلبا إلى شاخص يظنه حجرا، فكان صيدا، أو لم يغلب على ظنه شئ من ذلك، أو ذبح في ظلمة حيوانا يظنه محرما، فبان أنه ذبح شاة، حل جميع ذلك على الصحيح. ولو رمى إلى شاته الربيطة سهما جارحا، فأصاب الحلقوم والمرئ وفاقا، وقطعهما، ففي حل الشاة مع القدرة على ذبحها احتمال للامام، وقال: ويجوز أن يفرق بين أن يقصد المذبح بسهمه، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح. قلت: الارجح: الحل. والله أعلم. المرتبة الثالثة: قصد عين الحيوان، فإذا رمى صيدا يراه، أو لا يراه، لكن يحس به في ظلمة، أو من وراء حجاب، بأن كان بين أشجار ملتفة وقصده، حل، فإن لم يعلم به، بأن رمى وهو لا يرجو صيدا فأصاب صيدا، ففيه الخلاف السابق في المرتبة الثانية. وإن كان يتوقع صيدا فبنى الرمي عليه، بأن رمى في ظلمة الليل وقال: ربما أصبت صيدا فأصابه، فأوجه. أصحها: التحريم. والثاني: يحل. والثالث: إن توقعه بظن غالب، حل، وإن كان مجرد تجويز، حرم. ولو رمى إلى سرب من الظباء، أو أرسل كلبا فأصاب واحدة منها، فهي حلال قطعا. ولو قصد منها ظبية بالرمي، فأصاب غيرها، فأوجه. أصحها: الحل مطلقا. والثاني: التحريم. والثالث: إن كان حالة الرمي يرى المصاب حل، وإلا، فلا. والرابع: إن كان المصاب من السرب الذي رآه ورماه، حل، وإلا، فلا. ومنهم من قطع بالحل، وسواء عدل السهم عن الجهة التي قصدها إلى غيرها، أم لا. ولو رمى شاخصا يعتقده حجرا، وكان حجرا، فأصاب ظبية، لم تحل على الاصح، وبه قطع الصيدلاني وغيره. وإن كان الشاخص صيدا، ومال السهم عنه وأصاب(2/520)
صيدا آخر، ففيه الوجهان، وأولى بالحل. ولو رمى شاخصا ظنه خنزيرا، وكان خنزيرا، أو صيدا فلم يصبه، وأصاب ظبية، لم يحل على الاصح فيهما، لانه قصد محرما. والخلاف فيما إذا كان خنزيرا أضعف. ولو رمى شاخصا ظنه صيدا، فبان حجرا أو خنزيرا، أو أصاب السهم صيدا، قال في التهذيب: إن اعتبرنا ظنه فيما إذا رمى ما ظنه حجرا، فكان صيدا، وأصاب السهم صيدا آخر، وقلنا بالتحريم، فهنا يحل الصيد الذي أصابه. وإن اعتبرنا الحقيقة، وقلنا بالحل هناك، حرم هنا. وأما إذا أرسل كلبا على صيد، فقتل صيدا أخر، فينظر، إن لم يعدل عن جهة الارسال، بل كان فيها صيود، فأخذ غير ما أغراه عليه، حل على الصحيح كما في السهم، وإن عدل إلى جهة أخرى، فأوجه. أصحها: الحل، لانه تعسر تكليفه ترك العدول، ولان الصيد لو عدل فتبعه، حل قطعا. والثاني: يحرم. والثالث وهو اختيار صاحب الحاوي: إن خرج عادلا عن الجهة، حرم، وإن خرج إليها ففاته الصيد، فعدل إلى غيرها وصاد، حل، لانه يدل على حذقه حيث لم يرجع خائبا. وقطع الامام بالتحريم إذا عدل وظهر من عدوله واختياره بأن امتد في جهة الارسال زمانا ثم ثار صيد آخر فاستدبر المرسل إليه وقصد الآخر. وأما كون الجرح مزهقا، فيخرج منه ما لو مات بصدمة أو افتراس سبع، أو أعان ذلك الجرح غيره على ما بينا في نظائره، فلا يحل. ولو غاب عنه الكلب والصيد، ثم وجده ميتا، لم يحل على الصحيح، لاحتمال موته بسبب آخر، ولا أثر لتضمخه بدمه، فربما جرحه الكلب وأصابته جراحة أخرى. وإن جرحه فغاب، ثم أدركه ميتا، فإن انتهى إلى حركة المذبوح بالجرح، حل، ولا أثر لغيبته. وإن لم ينته، فإن وجد في ماء، أو وجد عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى، لم يحل. وإن لم يكن عليه أثر آخر، فثلاث طرق. أحدها: يحل قطعا. والثاني: يحرم قطعا. وأصحها على قولين. أظهرهما عند الجمهور من العراقيين وغيرهم: التحريم. وأظهرهما عند صاحب(2/521)
التهذيب: التحليل، وتسمى هذه: مسألة الانماء. قلت: الحل أصح دليلا. وصححه أيضا الغزالي في الاحياء: وثبتت فيه الاحاديث الصحيحة، ولم يثبت في التحريم شئ، وعلق الشافعي الحل على صحة الحديث. والله أعلم.
فصل تستحب التسمية عند الذبح، وعند إرسال الكلب والسهم. وقد سبق بيان ذلك، وما يتفرع عليه، في باب الاضحية.
فصل في بيان ما يملك به الصيد
يملك بطرق. منها: أن يضبطه بيده، ولا يعتبر قصد التملك في أخذه بيده، حتى لو أخذ صيدا لينظر إليه، ملكه. ولو سعى خلف صي فوقف الصيد للاعياء، لم يملكه حتى يأخذه بيده. ومنها: أن يجرحه جراحة مذففة، أو يرميه فيثخنه ويزمنه، فيملكه، وكذا إن كان طائرا فكسر جناحه، فعجز عن الطيران والعدو جميعا. ويكفي للتملك إبطال شدة العدو وصيرورته بحيث يسهل لحاقه. ولو جرحه فعطش فثبت، لم يملكه إن كان العطش لعدم الماء. وإن كان لعجزه عن الوصول إلى الماء، ملكه، لان عجزه بالجراحة. ومنها: وقوعه في شبكة منصوبة له. فلو طرده طارد فوقع في الشبكة، فهو لصاحب الشبكة، لا للطارد. وفي الحاوي: أنه لو وقع في شبكة ثم تقطعت فأفلت الصيد، فإن كان ذلك بقطع الصيد الواقع، عاد مباحا، فيملكه من صاده، وإلا، فهو باق على ملك صاحب الشبكة، فلا يملكه غيره. وقال الغزالي في(2/522)
الوسيط في باب النثر: لو وقع في شبكته فأفلت، لم يزل ملكه على الصحيح. ومنها: إذا أرسل كلبا فأثبت صيدا، ملكه، فلو أرسل سبعا آخر فعقره وأثبته، قال في الحاوي: إن كان له يد على السبع، ملكه كإرسال الكلب، وإلا، فلا. وإن أفلت الصيد بعد ما أخذه الكلب، ففي البحر: أن بعض الاصحاب قال: إن كان ذلك قبل أن يدركه صاحبه، لم يملكه، وإلا، فوجهان، لانه لم يقبضه، ولا زال امتناعه. قلت: أصحهما: لا يملكه. والله أعلم. ومنها: إذا ألجأه إلى مضيق لا يقدر على الانفلات منه، ملكه. وذلك بأن يدخله بيتا ونحوه. وقد يرجع جميز هذا إلى شئ واحد، فيقال: سبب ملك الصيد إبطال امتناعه، وحصول الاستيلاء عليه، وذلك يحصل بالطرق المذكورة. فرع لو توحل صيد بمزرعته وصار مقدورا عليه فوجهان. أحدهما: يملكه كما لو وقع في شبكته. وأصحهما: لا، لان لا يقصد بسقي الارض الاصطياد. قال الامام: الخلاف فيما إذا لم يكن سقى الارض بما يقصد به توحل الصيود، فإن كان يقصد، فهو كنصب الشبكة. ولم يتعرض الروياني لمزرعة الشخص، بل قال: لو توحل وهو في طلبه، لم يملكه، لان الطين ليس من فعله. فلو كان هو أرسل الماء في الارض، ملكه، لان الوحل حصل بفعله، فهو كالشبكة. ويشبه أن يرجع هذا إلى ما ذكره الامام من قصد الاصطياد بالسقي. ولو وقع صيد في أرضه وصار مقدورا عليه، أو عشش طائر فيها وباض وفرخ، وحصلت القدرة على البيض والفرخ، لم يملكه على الاصح، وبه قطع في التهذيب وقال: لو حفر حفرة لا للصيد، فوقع فيها صيد، لم يملكه. وإن حفر للصيد، ملك ما وقع فيه. ولو أغلق باب الدار لئلا يخرج، ملكه، قال الامام: قال الاصحاب: إذا(2/523)
قلنا: لا يملكه صاحب الدار، فهو أولى بتملكه، وليس لغيره أن يدخل ملكه ويأخذه. فإن فعل، فهل يملكه ؟ وجهان كمن تحجر مواتا وأحياه غيره، هل يملكه ؟ وهذه الصورة أولى بثبوت الملك، لان التحجر، للاحياء، ولا يقصد ببناء الدار تملك الصيد الواقع فيها. ولو قصد ببناء الدار، تعشيش الطائر، فعشش فيها طير، أو وقعت الشبكة من يده بغير قصد، فتعقل بها صيد، فوجهان، لانه وجد في الاولى قصد، لكنه ضعيف. وفي الثانية: حصل استيلاء بملكه، لكن بلا قصد. والاصح: أنه يملك في الاولى. دون الثانية. فرع لو اضطر سمكة إلى بركة صغيرة، أو حوض صغير على شط نهر، ملكها كما سبق فيمن ألجأ صيدا إلى مضيق. والصغير ما يسهل أخذها منه. فلو دخلت بنفسها، عاد الخلاف فيما إذا دخل الصيد ملكه. فإن قلنا بالاصح: إنه لا يملك بالدخول، فسد منافذ البركة، ملكها، لانه تسبب إلى ضبطها. ولو اضطرها إلى بركة واسعة يعسر أخذ السمكة منها، أو دخلتها السمكة فسد منافذها، لم يملكها، لكن يثبت له اختصاص كالمتحجر. فرع لو دخل بستان غيره وصاد فيه طائرا، ملكه الصائد بلا خلاف. فصل من ملك صيدا، ثم أفلت منه، لم يزل ملكه عنه. ومن أخذه، لزمه رده إليه، وسواء كان يدور في البلد وحوله، أو التحق بالوحوش. ولو أرسله مالكه، لم يزل عنه ملكه على الاصح المنصوص كما لو سيب دابته، ولا يجوز ذلك، لانه يشبه سوائب الجاهلية، لانه قد يختلط بالمباح فيصاد. وقيل: يزول.(2/524)
وقيل: إن قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى، زال، وإلا، فلا. فإن قلنا: يزول، عاد مباحا، فمن صاده ملكه، وإن قلنا: لا يزول، لم يجز لغيره أن يصيده إذا عرفه. فإن قال عند الارسال: أبحته لمن أخذه، حصلت الاباحة، ولا ضمان على من أكله، لكن لا ينفذ تصرفه فيه. وإذا قلنا بالوجه الثالث، فأرسله تقربا إلى الله تعالى، فهل يحل اصطياده لرجوعه إلى الاباحة، أم لا، كالعبد المعتق ؟ وجهان. قلت: الاصح: الحل، لئلا يصير في معنى سوائب الجاهلية. والله أعلم. ولو ألقى كسرة خبز معرضا، فهل يملكها من أخذها ؟ فيه وجهان مرتبان على إرسال الصيد. وأولى بأن لا يملك، بل تبقى على ملك الملقي، لان سبب الملك في الصيد، اليد، وقد أزالها. قال الامام: هذا الخلاف في زوال الملك، وما فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب، لان القرائن الظاهرة، تكفي الاباحة. هذا لفظ الامام، ويوضحه ما نقل عن الصالحين من التقاط السنابل.(2/525)
قلت: الاصح: أنه يملك الكسرة والسنابل ونحوها، ويصح تصرفه فيها بالبيع وغيره، وهذا ظاهر أحوال السلف، ولم يحك أنهم منعوا من أخذ شيئا من ذلك، من التصرف فيه. والله أعلم. فرع لو أعرض عن جلد ميتة، فأخذ غيره ودبغه، ملكه على المذهب، لانه لم يكن مملوكا للاول، وإنما كان له اختصاص ضعيف زال بالاعراض. فرع من صاد صيدا عليه أثر ملك، بأن كان موسوما، أو مقرطا، أو مخضوبا، أو مقصوص الجناح، لم يملكه، لانه يدل على أنه كان مملوكا فأفلت، ولا ينظر إلى احتمال أنه صاده محرم، ففعل به ذلك ثم أرسله، فإنه تقدير بعيد. فرع لو صاد سمكة في جوفها درة مثقوبة، لم يملك الدرة، بل تكون لقطة. وإن كانت غير مثقوبة، فهي له مع السمكة. ولو اشترى سمكة فوجد في جوفها ذرة غير مثقوبة، فهي للمشتري. وإن كانت مثقوبة، فهي للبائع إن ادعاها، كذا قال في التهذيب. ويشبه أن يقال: الدرة لصائد السمكة، كالكنز الموجود في الارض يكون لمحييها.
فصل إذا تحول بعض حمام برجه إلى برج غيره. فإن كان المتحول ملكا للاول، لم يزل ملكه عنه، ويلزم الثاني رده. فإن حصل بينهما بيض أو فرخ، فهو تبع للانثى دون الذكر. ولو ادعى تحول حمامه إلى برج غيره، لم يصدق إلا ببينة، والورع أن يصدقه، إلا أن يعلم كذبه. وإن كان المتحول مباحا دخل برج الاول، فعلى الخلاف السابق في دخول الصيد ملكه. فإن قلنا بالاصح: إنه لا يملكه، فللثاني أن يتملكه ومن دخل برجه حمام وشك هل هو مباح، أم مملوك ؟ فهو أولى به، وله التصرف فيه، لان الظاهر أنه مباح. ولو تحقق أنه اختلط بملكه ملك غيره،(2/526)
وعسر التمييز، ففي التهذيب: أنه لو اختلطت حمامة واحدة بحماماته، فله أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة حتى تبقى واحدة. كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره. والذي حكاه الروياني: أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه. ولهذا قال بعض مشايخنا: ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج، وأن يجتنب بناءها. ونقل الامام وغيره: أنه ليس لواحد منهما التصرف في شئ منها ببيع أو هبة لثالث، لانه لا يتحقق الملك. ولو باع أحدهما أو وهب للآخر، صح على الاصح، وتحتمل الجهالة للضرورة. ولو باعا الحمام المختلط كله أو بعضه لثالث، ولا يعلم كل واحد منهما عين ماله، فإن كان الاعداد معلومة كمائتين ومائة، والقيمة متساوية، ووزعا الثمن على أعدادهما، صح البيع باتفاق الاصحاب، وإن جهلا العدد، لم يصح، لانه لا يعلم كل واحد حصته من الثمن. فالطريق أن يقول كل واحد: بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوما. ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة. قال في الوسيط: لو تصالحا على شئ، صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع، ويقرب من هذا، ما أطلق في مقاسمتهما. واعلم أن الضرورة قد تجوز المسامحة ببعض الشروط المعتبرة في العقود، كالكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل الاختيار، يصح اصطلاحهن على القسمة بالتساوي أو بالتفاوت مع الجهل بالاستحقاق، فيجوز أن تصح القسمة هنا أيضا بحسب تراضيهما، ويجوز أن يقال: إذا قال كل منهما: بعت مالي من حمام هذا البرج بكذا، والاعداد مجهولة، يصح أيضا مع الجهل بما يستحق كل واحد منهما، والمقصود أن ينفصل الامر بحسب ما يتراضيان عليه ولو باع أحدهما جميع حمام البرج بإذن الآخر، فيكون أصيلا في البعض ووكيلا في البعض، جاز، ثم يقتسمان الثمن. فرع لو اختلطت حمامة مملوكة، أو حمامات بحمامات مباحة محصورة، لم يجز الاصطياد منها.(2/527)
ولو اختلطت بحمام ناحية، جاز الاصطياد في الناحية. ولا يتغير حكم ما لا يحصر في العادة باختلاط ما يحصر به. وإن اختلط حمام أبراج مملوكة لا يكاد يحصر بحمام بلدة أخرى مباحة، ففي جواز الاصطياد منها وجهان. أصحهما: يجوز، وإليه ميل معظم الاصحاب. قلت: من أهم ما يجب معرفته، ضبط العدد المحصور، فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقل من بينه، قال الغزالي في الاحياء في كتاب الحلال والحرام: تحديد هذا غير ممكن، وإنما يضبط بالتقريب. قال: فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد، يعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر، كالالف ونحوه، فهو غير محصور. وما سهل كالعشرة والعشرين، فهو محصور وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن. وما وقع فيه الشك، استفتي فيه القلب. والله أعلم. فرع إذا انثالت حنطته على حنطة غيره، أو انصب مائعه في مائعه، وجهلا قدرهما، فليكن الحكم فيهما على ما ذكرنا في الحمام المختلط. فرع لو ملك الماء بالاستقاء، ثم انصب في نهر، لم يزل ملكه منه، ولا يمنع الناس من الاستقاء، وهو في حكم اختلاط المحصور بغير محصور. قلت: ولو اختلط درهم حرام، أو درهم بدراهمه ولم تتميز، أو دهن بدهن، أو نحو ذلك، قال الغزالي في الاحياء وغيره من أصحابنا: طريقه: أن يفصل قدر الحرام فيصرفه إلى الجهة التي يحب صرفه إليها، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد. والله أعلم.
فصل في الاشتراك والازدحام على الصيد وله أربعة أحوال. الاول: أن يتعاقب جرحان من اثنين. فالاول منهما إن لم يكن مذففا ولا مزمنا، بل بقي على امتناعه، وكان الثاني مذففا أو مزمنا، فالصيد للثاني، ولا شئ على الاول بجراحته. وإن كان جرح الاول مذففا، فالصيد للاول، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده. وإن كان جرح الاول مزمنا، فله الصيد به، وينظر في الثاني، فإن ذفف بقطع(2/528)
الحلقوم والمرئ، فهو حلال للاول، وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومزمنا. قال الامام: وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة، فإن كان متألما، بحيث لو لم يذبح لهلك، فما عندي أنه ينقص منه بالذبح شئ. وإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمرئ، أو لم يذفف ومات بالجرحين، فهو ميتة. وكذا الحكم لو رمى إلى صيد فأزمنه، ثم رمى إليه ثانيا وذفف لا بقطع المذبح، ويجب على الثاني كمال قيمة الصيد مجروحا إن ذفف. فإن جرح بلا تذفيف، ومات بالجرحين، ففيما يجب عليه كلام له مقدمة نذكرها أولا، وهي: إذا جنى رجل على عبد أو بهيمة، أو صيد مملوك قيمته عشرة دنانير، جراحة أرشها دينار، ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار أيضا، فمات بالجرحين، ففيما يلزم الجارحين، أوجه. أحدها: يجب على الاول خمسة دنانير، وعلى الثاني أربعة ونصف، لان الجرحين سريا وصارا قتلا، فلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته، قاله ابن سريج، وضعفه الائمة، لان فيه ضياع نصف دينار على المالك. والثاني، قاله المزني، وأبو إسحق، والقفال: يلزم كل واحد خمسة. وعلى هذا لو نقصت جناية الاول دينارا، والثاني دينارين، لزم الاول أربعة ونصف، والثاني خمسة ونصف، ولو نقصت جناية الاول دينارين، والثاني دينارا، انعكس، فيلزم الاول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف. وضعفوا هذا الوجه، لانه سوى بينهما مع اختلاف قيمته حال جنايتهما. والوجه الثالث، حكاه الامام عن القفال أيضا: يلزم الاول خمسة ونصف، والثاني خمسة، لان جناية كل واحد نقصت دينارا، ثم سرتا، والارش يسقط إذا صارت الجناية نفسا، فيسقط عن كل واحد نصف الارش، لان الموجود منه نصف القتل. واعترض عليه، بأن فيه زيادة الواجب على المتلف. وأجاب القفال، بأن الجناية قد تنجر إلى إيجاب زيادة، كمن قطع يدي عبد فقتله آخر، وأجيب عنه،(2/529)
بأن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتل يقطع أثر القتل، ويقع موقع الاندمال، وهنا بخلافه. والوجه الرابع، قال أبو الطيب بن سلمة: يلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته، ونصف الارش، لكن لا يزيد الواجب على القيمة، فيجمع ما لزمهما تقديرا، وهو عشرة ونصف، ويقسم القيمة وهي عشرة على العشرة والنصف، ليراعي التفاوت بينهما، فتبسط أنصافا، فتكون أحدا وعشرين، فيلزم الاول أحد عشر جزءا من أحد وعشرين جزءا من شرة، ويلزم الثاني عشرة من أحد وعشرين من عشرة، وفيه ضعف، لافراد أرش الجناية عن بدل النفس. والوجه الخامس، عن صاحب التقريب وغيره، واختاره الامام، والغزالي: يلزم الاول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف، لان الاول لو انفرد بالجرح والسراية، لزمه العشرة، فلا يسقط عنه إلا ما يلزم الثاني، والثاني إنما جنى على نصف ما يساوي تسعة، وفيه ضعف أيضا. والوجه السادس، قاله ابن خيران، واختاره صاحب الافصاح، وأطبق العراقيون على ترجيحه: أنه يجمع بين القيمتين، فيكون تسعة عشر، فيقسم عليه ما فوتا وهو عشرة، فيكون على الاول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة. أما إذا كان الجناة ثلاثة، وأرش كل جناية دينار والقيمة عشرة، فعلى طريقة المزني: يلزم كل واحد منهم ثلاثة وثلث. وعلى الوجه الثالث: يلزم الاول أربعة، منها ثلاثة وثلث هي ثلث القيمة، وثلثان وهما ثلثا الارش. ويلزم الثاني ثلاثة وثلثان، ثلاثة منها ثلث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلث الارش، ويلزم الثالث، ثلاثة، منها ديناران وثلث هي ثث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلثا الارش، فالجملة عشرة وثلثان. وعلى الوجه الرابع: توزع العشرة على عشرة وثلثين. وعلى الخامس: يلزم الاول أربعة وثلث، والثاني ثلاثة، والثالث ديناران وثلثان. وعلى السادس: تجمع القيم، فتكون سبعة وعشرين، فتقسم العشرة عليها.(2/530)
أما إذا جرح مالك العبد أو الصيد جراحة، وأجنبي أخرى، فينظر في جناية المالك، أهي الاولى، أم الثانية ؟ وتخرج على الاوجه، فتسقط حصته وتجب حصة الاجنبي. وعن القاضي أبي حامد: أن المذكور في الجنايتين على العبد، هو فيما إذا لم يكن للجناية أرش مقدر، فإن كان، فليس العبد فيها كالبهيمة والصيد المملوك، حتى لو جنى على عبد غيره جناية ليس لها أرش مقدر، وقيمته مائة، فنقصته الجناية عشرة، ثم جنى آخر جناية لا أرش لها، فنقصت عشرة أيضا، ومات العبد منهما، فعلى الاول خمسة وخمسون، وعلى الثاني خمسون يدفع منها خمسة إلى الاول. قال: فلو قطع رجل يد عبد قيمته مائة، ثم قطع آخر يده الاخرى، لزم الاول نصف أرش اليد وهو خمسة وعشرون، ونصف قيمته يوم جنايته وهو خمسون، ولزم الثاني نصف أرش اليد، وهو خمسة وعشرون، ونصف القيمة يوم جنايته وهو أربعون، فالجملة مائة وأربعون جميعها للسيد، لان الجناية التي لها أرش مقدر، يجوز أن يزيد واجبها على قيمة العبد، كما لو قطع يديه فقتله آخر. هذا بيان المقدمة، ونعود إلى مسألة الصيد فنقول: إذا جرح الثاني جراحة غير مذففه، ومات الصيد بالجرحين، نظر، إن مات قبل أن يتمكن الاول من ذبحه، لزم الثاني تمام قيمته مزمنا، لانه صار ميتة بفعله، بخلاف ما لو جرح شاة نفسه، وجرحها آخر وماتت، فإنه لا يجب على الثاني إلا نصف القيمة، لان كل واحد من الجرحين هناك حرام، والهلاك حصل بهما، وهنا فعل الاول اكتساب وذكاة. ثم مقتضى كلامهم أن يقال: إذا كان الصيد يساوي عشرة غير مزمن، وتسعة مزمنا، لزم الثاني تسعة. واستدرك صاحب التقريب فقال: فعل الاول وإن لم يكن إفسادا، فيؤثر في الذبح وحصول الزهوق قطعا، فينبغي أن يعتبر فيقال: إذا كان غير مزمن يساوي عشرة، ومزمنا تسعة، ومذبوحا ثمانية، لزمه ثمانية ونصف، فإن الدرهم أثر في فواته الفعلان، فيوزع عليهما. قال الامام: وللنظر في هذا مجال، ويجوز أن يقال: المفسد يقطع أثر فعلي الاول من كل وجه. والاصح: ما ذكره صاحب التقريب. وإن تمكن من ذبحه فذبحه، لزم الثاني أرش جراحته إن نقص بها، وإن لم يذبحه وتركه حتى مات، فوجهان. أحدهما: لا شئ على الثاني سوى أرش النقص، لان الاول مقصر بترك الذبح. وأصحهما: يضمن زيادة على الارش، ولا(2/531)
يكون تركه الذبح مسقطا للضمان، كما لو جرح رجل شاته فلم يذبحها مع التمكن، لا يسقط الضمان. فعلى هذا فيما يضمن وجهان، قال الاصطخري: كمال قيمته مزمنا، كما لو ذفف، بخلاف ما إذا جرح عبده أو شاته وجرحه غيره أيضا، لان كل واحد من الفعل هناك إفساد، والتحريم حصل بهما، وهنا الاول إصلاح. والاصح وقول جمهور الاصحاب: لا يضمن جميع القيمة، بل هو كمن جرح عبده وجرحه غيره، لان الموت حصل بهما، وكلاهما إفساد. أما الثاني، فظاهر. وأما الاول، فلان ترك الذبح مع التمكن، يجعل الجرح وسرايته إفسادا. ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني فترك الذبح، كان الصيد ميتة. فعلى هذا تجئ الاوجه في كيفية التوزيع على الجرحين، فحصة الاول تسقط، وحصة الثاني تجب. الحال الثاني: إذا وقع الجرحان معا، نظر إن تساويا في سبب الملك، فالصيد بينهما، وذلك بأن يكون كل واحد مذففا، أو مزمنا لو انفرد، أو أحدهما مزمنا، والآخر مذففا، وسواء تفاوت الجرحان صغيرا وكبيرا، أو تساويا، أو كانا في المذبح، أو غيره، أو أحدهما فيه، والآخر في غيره. وإن كان أحدهما مذففا، أو مزمنا لو انفرد والآخر غير مؤثر، فالصيد لمن ذفف أو أزمن، ولا ضمان على الثاني، لانه لم يجرح ملك الغير. ولو احتمل أن يكون الازمان بهما أو بأحدهما، فالصيد بينهما في ظاهر الحكم، ويستحب أن يستحل كل واحد الآخر تورعا. ولو علمنا أن أحدهما مذفف، وشككنا هل للآخر أثر في الازمان والتذفيف، أم لا ؟ قال القفال: هو بينهما. فقيل له: لو جرح رجل جراحة مذففة، وجرحه أخر جراحة لا ندري أهي مذففة، أم لا ؟ فمات، فقال: يجب القصاص عليهما. قال الامام: هذا بعيد، والوجه تخصيص القصاص بصاحب المذففة. وفي الصيد، يسلم نصفه لمن جرحه مذففا، ويوقف نصفه بينهما إلى التصالح أو تبين الحال. فإن لم يتوقع بيان، جعل النصف الآخر بينهما نصفين. الحال الثالث: إذا ترتب الجرحان، وأحدهما مزمن لو انفرد، والآخر مذفف وارد على المذبح، ولم يعرف السابق، فالصيد حلال. فإن اختلفا وادعى كل واحد أنه جرحه أولا وأزمنه، وأنه له، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فالصيد بينهما، ولا شئ لاحدهما على الآخر. فإن حلف أحدهما فقط، فالصيد له، وله على الناكل أرش ما نقص بالذبح. ولو ترتبا، وأحدهما مزمن، والآخر مذفف في(2/532)
غير المذبح، ولم يعرف السابق، فالمذهب: أن الصيد حرام، لاحتمال تقدم الازمان، فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمرئ. وقيل: فيه قولان، كمسألة الانماء السابقة. ووجه الشبه: اجتماع المبيح والمحرم. والفرق على المذهب: أنه يقدم هناك جرح يحال عليه. فإن ادعى كل وإحد أنه أزمنه أولا، وأن الآخر أفسده، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فذاك. وإن حلف أحدهما، لزم الناكل قيمته مزمنا. ولو قال الجارح أولا: أزمنته أنا، ثم أفسدته بقتلك، فعليك القيمة. وقال الثاني: لم تزمنه، بل كان على امتناعه إلى أن رميته فأزمنته أو ذففته. فإن اتفقا على عين جراحة الاول، وعلمنا أنه لا يبقى امتناع معها، ككسر جناحه، وكسر رجل الممتنع بعدوه، فالقول قول الاول بلا يمين، وإلا، فقول الثاني، لان الاصل بقاء الامتناع. فإن حلف، فالصيد له، ولا شئ عليه للاول، وإن نكل، حلف الاول، واستحق قيمته مجروحا بالجراحة الاولى، ولا يحل الصيد، لانه ميتة بزعمه. وهل للثاني أكله ؟ وجهان. قال القاضي الطبري: لا، لان إلزامه القيمة حكم بأنه ميتة. وقيل: نعم، لان النكول في خصومة الآدمي لا تغير الحكم فيما بينه وبين الله تعالى. ولو علمنا أن الجراحة المذففة سابقة على التي لو انفردت لكانت مزمنة، فالصيد حلال. فإن قال كل واحد: أنا ذففته، فلكل تحليف الآخر. فإن حلفا، كان بينهما. وإن حلف أحدهما، فالصيد له، وعلى الآخر ضمان ما نقص. فرع قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لو رماه الاول والثاني، ولم يدر أجعله الاول ممتنعا، أم لا، جعلناه بينهما نصفين. واعترض عليه فقيل: ينبغي أن يحرم هذا الصيد، لاجتماع ما يقتضي الاباحة والتحريم. وبتقدير الحل، ينبغي أن لا يكون بينهما، بل لمن أثبته. واختلف في الجواب، فقيل: النص محمول على ما إذا أصاب المذبح، فيحل، سواء أصابه الاول أو الثاني، أو على ما إذا رمياه ولم يمت، ثم أدركه(2/533)
أحدهما، فذكاه، ثم اختلفا فيه. وإنما كان بينهما، لانه في أيديهما. وقد يجعل الشئ لاثنين، وإن كنا نعلمه في الباطن لاحدهما، كمن مات عن ابنين، مسلم ونصراني، وادعى كل واحد أنه مات على دينه. وحمل أبو إسحق النص على ظاهره فقال: إذا رمياه مات، ولم يدر أثبته الاول، أم الثاني، كان الاصل بقاؤه على امتناعه إلى أن عقره الثاني، فيكون عقره ذكاة، ويكون بينهما لاحتمال الاثبات من كليهما ولا مزية. وقيل: في حله قولان، كمسألة الانماء. الحال الرابع: إذا ترتب الجرحان وحصل الازمان بمجموعهما، وكل واحد لو انفرد لم يزمن، فالاصح عند الجمهور: أن الصيد للثاني. وقيل: بينهما، ورجحه الامام، والغزالي فإن قلنا: إنه للثاني، أو كان الجرح الثاني مزمنا لو انفرد، فلا شئ على الاول بسبب جرحه. فلو عاد بعد إزمان الثاني، وجرحه جراحة أخرى، نظر، إن أصاب المذبح، فهو حلال، وعليه للثاني ما نقص من قيمته بالذبح، وإلا حرم، وعليه إن ذفف، قيمته مجروحا بجراحته الاولى، وجراحة الثاني، وكذا إن لم يذفف ولم يتمكن الثاني من ذبحه، فإن تمكن وترك الذبح، عاد الخلاف السابق فعلى أحد الوجهين ليس على الاول إلا أرش الجراحة الثانية، لتقصير المالك، وعلى أصحهما: لا يقصر الضمان عليه. وعلى هذا، ففي وجه: عليه نصف القيمة. وخرجه جماعة على الخلاف فيمن جرح عبدا مرتدا فأسلم فجرحه سيده، ثم عاد الاول وجرحه ثانية ومات منهما وفيما يلزمه وجهان. أحدهما: ثلث القيمة. والثاني: ربعها، قاله القفال. فعلى هذا، يجب هنا ربع القيمة. وعن صاحب التقريب: أنه تعود في التوزيع الاوجه السابقة. واختار الغزالي وجوب تمام القيمة. والمذهب: التوزيع، كما سبق. فرع الاعتبار في الترتيب والمعية بالاصابة، لا بابتداء الرمي.(2/534)
فصل في مسائل منثورة إحداها: وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن الاعلى، فمات الاسفل بثقله، حرم الاسفل. فإن نفذت الطعنة فأصابته أيضا، حلا جميعا. فإن شك، هل مات بالثقل، أو الطعنة النافذة، وقد علم أنها أصابته قبل مفارقة الروح ؟ حل. وإن شك، هل أصابته قبل مفارقة الروح، أم بعدها ؟ قال صاحب التهذيب في الفتاوى: يحتمل وجهين بناء على العبد الغائب المنقطع خبره، هل يجزئ إعتاقه عن الكفارة. الثانية: رمى غير مقدور عليه فصار مقدورا عليه، ثم أصاب غير المذبح، لم يحل. ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه فأصاب مذبحه، حل. الثالثة: أرسل سهمين فأصابا معا، حل. وإن أصاب أحدهما بعد الآخر. فإن أزمنه الاول ولم يصب الثاني المذبح، لم يحل. وإن أصابه، حل وإن لم يزمنه الاول، وقتله الثاني، حل. وكذا لو أرسل كلبين، فأزمنه الاول، وقتله الثاني، لم يحل، قطع المذبح، أم لا ؟ وكذا لو أرسل سهما وكلبا، إن أزمنه السهم ثم أصابه الكلب، لم يحل. وإن أزمنه الكلب، ثم أصاب السهم المذبح، حل. الرابعة: صيد دخل دار إنسان وقلنا بالصحيح: إنه لا يملكه، فأغلق أجنبي الباب، لا يملكه صاحب الدار، ولا الاجنبي، لانه متعد لم يحصل الصيد في يده، بخلاف ما لو غصب شبكة واصطاد بها. الخامسة: لو أخذ الكلب المعلم صيدا بغير إرسال، ثم أخذه أجنبي من فيه، ملكه الآخذ على الصحيح، كما لو أخذ فرخ طائر من شجرته. وغير المعلم إذا أرسله صاحبه فأخذ صيدا، فأخذه غيره من فيه وهو حي، وجب أن يكون للمرسل، ويكون إرساله كنصب شبكة تعقل بها الصيد. ويحتمل خلافه، لان للكلب اختيارا. السادسة: تعقل الصيد بالشبكة، ثم قلعها وذهب بها، فأخذه إنسان، نظر، إن كان يعدو ويمتنع مع الشبكة، ملكه الآخذ، وإن كان ثقل الشبكة يبطل امتناعه، بحيث يتيسر أخذه، فهو لصاحب الشبكة لا يملكه غيره.(2/535)
السابعة: إذا أرسل كلبه فحبس صيدا، فلما انتهى إليه، أفلت، فهل يملكه من أخذه، أم هو ملك الاول بالحبس ؟ وجهان. قلت: أصحهما: يملكه الآخذ. والله أعلم. الثامنة: رجلان أقام كل واحد منهما بينة أنه اصطاد هذا الصيد، ففيه القولان في تعارض البينتين. التاسعة: رجل في يده صيد، فقال آخر: أنا اصطدته، فقال صاحب اليد: لا علم لي بذلك. قال ابن كج: لا يقنع منه بهذا الجواب، بل يدعيه لنفسه أو يسلمه إلى مدعيه. قلت: لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذكى هذه الشاة، قبلناه، لانه من أهله، ذكره في التتمة. ولو وجد شاة مذبوحة، ولم يدر أذبحها مسلم، أو كتابي، أم مجوسي ؟ فإن كان في البلد مجوس ومسلمون، لم يحل، للشك في الذكاة المبيحة. والله أعلم.(2/536)
كتاب الاطعمة
فيه بابان.
الاول في حال الاختيار قال الاصحاب: ما يتأتى أكله من الجماد والحيوان، لا يمكن حصر أنواعه، لكن الاصل في الجميع الحل، إلا ما يستثنيه أحد أصول. الاول: نص الكتاب أو السنة على تحريمه، كالخنزير، والخمر، والنبيذ، والميتة، والدم، والمنخنقة، والموقوذة، والنطيحة، والحمر الاهلية. ويحل الحمار الوحشي، والخيل، والمتولد بينهما. وتحرم البغال وسائر ما(2/537)
يتولد من مأكول وغيره، سواء كان الحرام من أصليه، الذكر أو الانثى. ويحرم أكل كل ذي ناب من السبا، وذي مخلب من الطائر. والمراد: ما يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه، فيحرم الكلب، والاسد والذئب، والنمر، والدب، والفهد، والقرد، والفيل، والببر. قلت: هو الببر - بباءين موحدتين - الاولى مفتوحة، والثانية ساكنة، وهو حيوان معروف يعادي الاسد، ويقال له: الفرانق - بضم الفاء وكسر النون -. والله أعلم. واختار أبو عبد الله البوشنجي من أصحابنا مذهب مالك، فقال: يحل الفيل، وقال: لا يعدو من الفيلة إلا الفحل المغتلم، كالابل. والصحيح: تحريمه. ويحرم من الطير: البازي، والشاهين، والنسر، والصقر، والعقاب، وجميع جوارح الطير. فرع يحل الضب، والضبع، والثعلب، والارنب،(2/538)
واليربوع. ويحرم ابن آوي، وابن مقرض على الاصح عند الاكثرين، وبه قطع المراوزة. ويحل الوبر، والدلدل على الاصح المنصوص. والهرة الاهلية حرام على الصحيح، وقال البوشنجي: حلال. والوحشية حرام على الاصح، وقال الخضري: حلال. ويحل السمور، والسنجاب، والفنك، والقماقم، والحواصل، على الاصح المنصوص. الثاني: الامر بقتله. قال أصحابنا: ما أمر بقتله من الحيوان، فهو حرام، كالحية، والعقرب والفأرة، والغراب، والحدأة، وكل سبع ضار، ويدخل في هذا، الاسد والذئب وغيرهما مما سبق. وقد يكون للشئ سببان، أو أسباب تقتضي تحريمه.(2/539)
فرع تحرم البغاثة، والرخمة. وأما الغراب، فأنواع. منها: الابقع وهو فاسق محرم بلا خلاف. ومنها: الاسود الكبير، ويقال له: الغداف الكبير، ويقال: الغراب الجبلي، لانه يسكن الجبال، وهو حرام على الاصح، وبه قطع جماعة. ومنها: غراب الزرع، وهو أسود صغير يقال له: الزاغ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، وهو حلال على الاصح. ومنها: غراب آخر صغير أسود، أو رمادي اللون. وقد يقال له: الغداف الصغير، وهو حرام على الاصح، وكذا العقعق. الثالث: ما نهي عن قتله، فهو حرام فيحرم النمل، والنحل، والخطاف، والصرد، والهدهد على الصحيح في الجميع. ويحرم الخفاش قطعا، وقد يجري فيه الخلاف. ويحرم اللقلق على الاصح. فرع كل ذات طوق من الطير، حلال، واسم الحمام يقع على جميعها،(2/540)
فيدخل في القمري، والدبسي، واليمام، والفواخت. وأدرج في هذا القسم، الورشان، والقطا، والحجل، وكلها من الطيبات. وما على شكل العصفور في حده، فهو حلال، ويدخل في ذلك الصعوة، والزرزور، والنغر، والبلبل، وتحل الحمرة، والعندليب على الصحيح فيهما. وتحل النعامة، والدجاج، والكركي، والحبارى. وفي البغبغاء والطاووس، وجهان. قال في التهذيب: أصحهما: التحريم. والشقراق. قال في التهذيب: حلال. وقال الصيمري: حرام. قال أبو عاصم: يحرم ملاعب ظله، وهو طائر يسبح في الجو مرارا، كأنه ينصب على طائر. قال: والبوم حرام كالرخم. والضوع حرام. وفي قول: حلال. وهذا يقتضي أن الضوع غير البوم، لكن في الصحاح: أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام. وقال المفضل: هو ذكر البوم. فعلى هذا إن كان في الضوع قول، لزم إجزاؤه في البوم، لان الذكر والانثى من الجنس الواحد لا يفترقان. قلت: الضوع - بضاد معجمة مضمومة وواو مفتوحة وعين مهملة - والاشهر: أنه من جنس الهام. والله أعلم. قال أبو عاصم: النهاس حرام كالسباع التي تنهس. واللقاط، حلال، إلا ما استثناه النص، وأحل البوشنجي اللقاط بلا استثناء. قال: وما تقوت بالطاهرات، فحلال، إلا ما استثناه النص، وما تقوت بالنجس، فحرام. فرع أطلق مطلقون القول بحل طير الماء، فكلها حلال، إلا اللقلق، ففيه خلاف سبق. وحكي عن الصيمري: أنه لا يؤكل لحم طير الماء الابيض، لخبث لحمها. فصل الحيوان الذي لا يهلكه الماء، ضربان.(2/541)
أحدهما: ما يعيش فيه، وإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح، كالسمك بأنواعه، فهو حلال. ولا حاجة إلى ذبحه كما سبق، وسواء مات بسبب ظاهر، كضغطة، أو صدمة، أو انحسار ماء، أو ضرب من الصياد، أو مات حتف أنفه. وأما ما ليس على صورة السموك المشهورة، ففيه ثلاثة أوجه. ويقال: ثلاثة أقوال. أصحها: يحل مطلقا، وهو المنصوص في الام، وفي رواية المزني واختلاف العراقيين، لان الاصح أن اسم السمك يقع على جميعها. والثاني: يحرم. والثالث: ما يؤكل نظيره في البر، كالبقر والشاء، فحلال، وما لا، كخنزير الما في كلبه، فحرام. فعلى هذا، ما لا نظير له، حلال. قلت: وعلى هذا لا يحل ما أشبه الحمار، وإن كان في البر حمار الوحش المأكول، صرح به صاحبا الشامل والتهذيب وغيرهما. والله أعلم. وإذا أبحنا الجميع، فهل تشترط الذكاة، أم تحل ميتته ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: تحل ميتته. الضرب الثاني: ما يعيش في الماء وفي البر أيضا، فمنه طير الماء، كالبط، والاوز ونحوهما، وهي حلال كما سبق، ولا تحل ميتتها قطعا. وعد الشيخ أبو حامد والامام، وصاحب التهذيب من هذا الضرب، الضفدع، والسرطان، وهما محرمان على المشهور. وذوات السموم حرام قطعا. ويحرم التمساح على الصحيح، والسلحفاة على الاصح. واعلم أن جماعة استثنوا الضفدع من الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء، تفريعا على الاصح، وهو حل الجميع. وكذا استثنوا يوسف الحيات، والعقارب. ومقتضى هذا الاستثناء أنها لا تعيش إلا في الماء. ويمكن أن يكون منها نوع كذا، ونوع كذا. واستثنى القاضي الطبري، النسناس على ذلك الوجه أيضا. وامتنع الروياني وغيره من مساعدته. قلت: ساعده الشيخ أبو حامد. والله أعلم. الاصل الرابع: المستخبثات من الاصول المعتبرة في الباب، في التحليل(2/542)
والتحريم، للاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي رحمه الله تعالى الاصل الاعظم الاعم، ولذلك افتتح به الباب والمعتمد فيه، قوله تعالى: * (يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات) *. وليس المراد بالطيب هنا، الحلال. ثم قال الائمة: ويبعد الرجوع في ذلك إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه، لانه يوجب اختلاف الاحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع، فرأوا العرب أولى الامم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخباثهم، لانهم المخاطبون أولا، وهم جيل لا تغلب عليهم العيافة الناشئة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس. وإنما يرجع من العرب، إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي الذين يتناولون ما دب ودرج من غير تمييز. وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، دون المحتاجين، وتعتبر حالة الخصب والرفاهية، دون الجدب والشدة. وذكر جماعة: أن الاعتبار بعادة العرب الذي كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لان الخطاب لهم. ويشبه أن يقال: يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان حلال، فهو حلال. وإن استخبثته، أو سمته باسم محرم، فحرام. فإن استطابته طائفة، واستخبثته أخرى اتبعنا الاكثرين. فأن استويا، قال صاحب الحاوي وأبو الحسن العبادي: تتبع قريش، لانهم قطب العرب. فإن اختلفت قريش ولا ترجيح، أو شكوا فلم يحكموا بشئ، أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب اعتبرناه بأقرب الحيوان شبها به. والشبه تارة يكون في الصورة، وتارة في طبع الحيوان من الصيانة والعدوان، وتارة في طعم اللحم. فإن استوى الشبهان، أو لم نجد ما يشبهه، فوجهان. أصحهما: الحل. قال الامام: وإليه ميل الشافعي رحمه الله تعالى. واعلم أنه إنما يراجع العرب في حيوان لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم، ولا أمر بقتله، ولا نهي عنه. فإن وجد شئ من هذه الاصول، اعتمدناه ولم نراجعهم قطعا. فمن ذلك أن الحشرات كلها مستخبثة، ما يدرج منها وما يطير. فمنها: ذوات السموم والابر.(2/543)
ومنها: الوزغ وأنواعها، كحرباء الظهيرة والعظاء، وهي ملساء تشبه سام أبرص، وهي أحسن منه، الواحدة عظاة، وعظاية، فكل هذا حرام. ويحرم الذر، والفأر، والذباب، والخنفساء، والقراد، والجعلان، وبنات وردان، وحمار قبان، والديدان. وفي دود الخل والفاكهة وجه. وتحرم اللحكاء، وهي دويبة تغوص في الرمل إذا رأت إنسانا. ويستثنى من الحشرات، اليربوع، والضب، وكذا أم حبين، فإنها حلال على الاصح. ويستثنى من ذوات الابر، الجراد، فإنه حلال قطعا، وكذا القنفذ على الاصح. والصرارة حرام على الاصح كالخنفساء. فصل إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة حكمه من كتاب ولا سنة، ولا استطابة، ولا استخباث، ولا غير ذلك مما تقدم من الاصول، وثبت تحريمه في شرع من قبلنا، فهل يستصحب تحريمه ؟ قولان. الاظهر: لا يستصحب، وهو مقتضى كلام عامة الاصحاب، فإن استصحبناه، فشرطه أن يثبت تحريمه في شرعهم بالكتاب أو السنة، أو يشهد به عدلان أسلما منهم يعرفان المبدل من غيره. قال في الحاوي: فعلى هذا لو اختلفوا، اعتبر حكمه في أقرب الشرائع إلى الاسلام، وهي النصرانية. فإن اختلفوا، عاد الوجهان عند تعارض الاشباه. فصل يحرم أكل نجس العين، والمتنجس، كالدبس، والخل، واللبن والدهن. وسبق في كتاب الطهارة وجه: أن الدهن يطهر بالغسل، فعلى هذا إذا غسل، حل. فرع يكره أكل لحم الجلالة كراهة تنزيه على الاصح الذي ذكره أكثرهم، منهم العراقيون، والروياني وغيرهم وقال أبو إسحق والقفال: كراهة تحريم. ورجحه الامام، والغزالي، والبغوي. والجلالة: هي التي تأكل العذرة(2/544)
والنجاسات، وسواء كانت من الابل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج. ثم قيل: إن كان أكثر علفها النجاسة، فهي جلالة. وإن كان الظاهر أكثر، فلا. والصحيح: أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة والنتن. فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة، فجلالة، وإلا، فلا. وقيل: الخلاف فيما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها، أو قربت الرائحة من الرائحة. فإن قلت الرائحة الموجودة، لم تضر. ولو حبست بعد ظهور النتن، وعلفت طاهرا فزالت الرائحة، ثم ذبحت، فلا كراهة فيها. ولو لم تعلف، لم يزل المنع يغسل اللحم بعد الذبح، ولا بالطبخ وإن زالت الرائحة به، وكذا لو زالت بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل خلافه. وكما يمنع لحمها، يمنع لبنها وبيضها، ويكره الركوب عليها إذا لم يكن بينها وبين الراكب حائل. ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا حرمنا لحمها فهو نجس، ويطهر جلدها بالدباغ، وهذا يقتضي نجاسة الجلد أيضا. وهو نجس إن ظهرت الرائحة فيه، وكذا إن لم تظهر على الاصح، كاللحم. ثم ظهور النتن وإن حرمنا به اللحم ونجسناه، فلا نجعله موجبا لنجاسة الحيوان في حياته، بل إذا حكمنا بالتحريم، كان كما لا يؤكل لحمه، لا يطهر جلده بالذكاة، ويطهر بالدباغ. فرع السخلة المرباة بلبن الكلبة، لها حكم الجلالة. ولا يحرم الزرع وإن كثر الزبل وسائر النجاسات في أصله، لانه لا يظهر فيه أثر النجاسة وريحها. قلت: وإذا عجن دقيقا بماء نجس وخبزه، فهو نجس يحرم أكله. ويجوز أن يطعمه لشاة وبعير ونحوهما، ونص عليه الشافعي رحمه الله تعالى، ونقله البيهقي في(2/545)
السنن الكبير في باب نجاسة الماء الدائم عن نصه، واستدل له بحديث صحيح. وفي فتاوى صاحب الشامل: أنه يكره إطعام الحيوان المأكول نجاسة. وهذا لا يخالف ما نص عليه الشافعي في الطعام، لانه ليس بنجس العين. قال ابن الصباغ: ولا يكره أكل البيض المسلوق بماء نجس، كما لا يكره الوضوء بماء سخن بالنجاسة. والله أعلم. فصل الحيوان المأكول، إنما يحل إذا ذبح الذبح المعتبر ويستثنى السمك، والجراد، والجنين الذي يوجد ميتا في بطن المذكاة، فإنه حلال، سواء أشعر، أم لا. قال الشيخ أبو محمد في كتاب الفرق: إنما يحل إذا سكن في البطن عقيب ذبح الام، فأما لو بقي زمنا طويلا يضطرب ويتحرك، ثم سكن، فالصحيح: أنه حرام. ولو خرج الجنين في الحال وبه حركة المذبوح، حل. وإن خرج رأسه وفيه حياة مستقرة، قال القاضي حسين وصاحب التهذيب: لا يحل إلا بذبحه، لانه مقدور عليه. وقال القفال: يحل، لان خروج بعض الولد كعدم خروجه في العدة وغيرها. قلت: قول القفال أصح. والله أعلم. قال صاحب التهذيب: لو أخرج رجله، فقياس ما قاله القاضي: أن يخرج ليحل، كما لو تردى بعير في بئر. ولو وجدت مضغة لم تبن فيها الصورة، ولا تشكل الاعضاء، ففي حلها وجهان، بناء على وجوب الغرة فيها، وثبوت الاستيلاد. قلت: إذا ذكى الحيوان وله يد شلاء، هل تحل بالذكاة، أم هي ميتة ؟ وجهان. الصحيح: الحل. وقد ذكرهما الرافعي في باب القصاص في الاطراف. والله أعلم. فصل كسب الحجام حلال، هذا هو المذهب المعروف. وقال ابن(2/546)
خزيمة: حرام على الاحرار، ويجوز أن يطعمه العبيد والدواب، وهذا شاذ. ولا يكره أكل كسب الحجام للعبيد، سواء كسبه حر أم عبد. ويكره للحر، سواء كسبه حر أم عبد. وللكراهة معنيان. أحدهما: مخالطة النجاسة. والثاني: دناءته. فعلى الثاني: يكره كسب الحلاق ونحوه. وعلى الاول: يكره كسب الكناس، والزبال، والدباغ، والقصاب، والخاتن. وهذا الذي أطلقه جمهور الاصحاب. ولا يكره كسب الفاصد على الاصح. وفي الحمامي، والحائك، وجهان. قلت: الاصح: لا يكره كسب الحائك. والله أعلم. وكره جماعة كسب الصواغ. فرع قال الماوردى: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة. وأيها أطيب ؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس. أشبهها مذهب الشافعي: أن التجارة أطيب. قال: والاشبه عندي: أن الزراعة أطيب، لانها أقرب إلى التوكل.(2/547)
قلت: في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - صلى الله عليه وسلم -، كان يأكل من عمل يده فهذا صريح في ترجيح الزراعة، والصنعة، لكونهما من عمل يده، لكن الزراعة أفضلهما، لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها. والله أعلم. فصل كل ما ضر، كالزجاج، والحجر، والسم، يحرم. وكل طاهر لا ضرر فيه، يحل أكله، إلا المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط ونحوهما، فإنها محرمة على الصحيح، وإلا الحيوان الذي تبتلعه حيا، سوى السمك والجراد، فإنه يحرم قطعا، وكذا ابتلاع السمك والجراد على وجه كما سبق. وفي جلد الميتة المدبوغ خلاف سبق في الطهارة. ويجوز شرب دواء فيه قليل سم، إذا كان الغالب منه السلامة، واحتيج إليه. قال الامام: ولو تصور شخص لا يضره أكل السموم الظاهرة، لم تحرم عليه. وقال الروياني: النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة، يحرم أكله، ولا حد على آكله، ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر إذا لم يكن منه بد. وما يسكر مع غيره ولا يسكره بنفسه، إن لم ينتفع به في دواء وغيره، حرم أكله. وإن كان ينتفع به في الدواء، حل التداوي به.
الباب الثاني في حال الاضطرار
فيه مسائل. إحداها: للمضطر إذا لم يجد حلالا، أكل المحرمات، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما في معناها. والاصح: وجوب أكلها عليه، كما يجب دفع(2/548)
الهلاك بأكل الحلال. والثاني: يباح فقط. الثانية: في حد الضرورة، لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الحرام، ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت، فإن الاكل حينئذ لا ينفع. ولو انتهى إلى تلك الحالة، لم يحل له الاكل، فإنه غير مفيد. ولا خلاف في الحل إذا كان يخاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو الركوب، وينقطع عن رفقته ويضيع، ونحو ذلك. فلو خاف حدوث مرض مخيف جنسه، فهو كخوف الموت. وإن خاف طول المرض، فكذلك على الاصح أو الاظهر. ولو عيل صبره وجهده الجوع، فهل يحل له المحرم، أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق ؟ قولان. قلت: أظهرهما: الحل. والله أعلم. ولا يشترط فيما يخاف منه تيقن وقوعه لو لم يأكل، بل يكفي غلبة الظن. الثالثة: يباح للمضطر أن يأكل من المحرم ما يسد الرمق قطعا، ولا تحل الزيادة على الشبع قطعا. وفي حل الشبع، ثلاثة أقوال. ثالثها: إن كان قريبا من العمران، لم يحل، وإلا، فيحل. ورجح القفال وكثير من الاصحاب المنع. ورجح صاحب الافصاح والروياني وغيره، الحل. هكذا أطلق الخلاف أكثرهم. وفصل الامام، والغزالي، تفصيلا حاصله: إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع لا يقطعها(2/549)
ويهلك، وجب القطع بأنه يشبع. وإن كان في بلد وتوقع الطعام الحلال قبل عود الضرورة، وجب القطع بالاقتصار على سد الرمق. وإن كان لا يظهر حصول طعام حلال، وأمكنه الرجوع إلى الحرام مرة بعد أخرى، إن لم يجد الحلال، فهو موضع الخلاف. قلت: هذا التفصيل، هو الراجح. والاصح من الخلاف: الاقتصار على سد الرمق. والله أعلم. الرابعة: يجوز له التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى الحلال. وإن رجاه، قال في التهذيب وغيره: يحرم. وعن القفال: أن من حمل الميتة من غير ضرورة، لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة. وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة وأولى. قلت: الاصح: جواز التزود إذا رجا. والله أعلم. الخامسة: إذا جوزنا الشبع، فأكل ما سد رمقه، ثم وجد لقمة حلالا، لم يجز أن يأكل من المحرم حتى يأكلها، فإذا أكلها، هل له الاتمام إلى الشبع ؟ وجهان. وجه المنع: أنه باللقمة عاد إلى المنع، فيحتاج إلى عود الضرورة. قلت: الاصح: الجواز. والله أعلم. السادسة: لو لم يجد المضطر إلى طعام غيره وهو غائب أو ممتنع من البذل، فهل يقتصر على سد الرمق، أم له الشبع ؟ فيه طرق أصحها: طرد الخلاف كالميتة. والثاني: له الشبع قطعا. والثالث: ليس له قطعا. السابعة: المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان، مسكر، وغيره، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا. وكذا الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة على الاصح فهم. ولو كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار، فله قتله قصاصا، وأكله، وإن لم يحضره السلطان. وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب، ففي التهذيب: أنه لا يجوز(2/550)
قتلهم للاكل وجوزه الامام، والغزالي، لانهم ليسوا بمعصومين. والمنع من قتلهم، ليس لحرمة أرواحهم، ولهذا لا كفارة فيهم. قلت: الاصح: قول الامام. والله أعلم. والذمي، والمعاهد، والمستأمن، معصومون، فيحرم أكلهم. ولا يجوز للوالد قتل ولده للاكل، ولا للسيد قتل عبده. ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله قال الشيخ إبرهيم المروذي: إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا. قال في الحاوي: فإذا جوزنا، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق، حفظا للحرمتين. قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا، لان الضرورة تندفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الاقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة. ولو كان المضطر ذميا، والميت مسلما، فهل له أكله ؟ حكى فيه صاحب التهذيب وجهين. قلت: القياس: تحريمه. والله أعلم. ولو وجد ميتة ولحم آدمي، أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير. وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي، أكل الصيد. ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الاكل أو أشد، حرم، وإلا، جاز على الاصح، بشرط أن لا يجد غيره. فإن وجد، حرم قطعا. ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر. القسم الثاني: المسكر، والمذهب عند جمهور الاصحاب: أنه لا يحل شرب الخمر، لا للتداوي، ولا للعطش. وقيل: يجوز لهما. وقيل: لهذا دون(2/551)
ذاك. وقيل: بالعكس. فإذا جوزنا للعطش، فوجد خمرا وبولا، شرب البول، لان تحريمه أخف. كما لو وجد بولا وماء نجسا، شرب الماء، لان نجاسته طارئة. وما سوى المسكر من النجاسات، يجوز التداوي به كله على الصحيح المعروف. وقيل: لا يجوز. وقيل: لا يجوز إلا بأبوال الابل. وفي جواز التبخر بالند الذي فيه خمر، وجهان بسبب دخانه. قلت: الاصح: الجواز، لانه ليس دخان نفس النجاسة. والله أعلم. الثامنة: إذا وجد المضطر طعاما حلالا لغيره، فله حالان. أحدهما: أن يكون مالكه حاضرا. فإن كان مضطرا إليه، فهو أولى به، وليس للاول أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته، إلا أن يكون نبيا، فإنه يجب على المالك بذله له، فإن آثر المالك غيره على نفسه، فقد أحسن. قال الله تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. وإنما يؤثر على نفسه مسلما. فأما الكافر، فلا يؤثره حربيا كان ذميا، وكذا لا يؤثر بهيمة على نفسه. وإن لم يكن المالك مضطرا، لزمه إطعام المضطر مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الاصح. وللمضطر أن يأخذه قهرا أو يقاتله عليه وإن أتى القتال على نفس المالك، فلا ضمان فيه. وإن قتل المالك المضطر في الدفع عن طعامه، لزمه القصاص. وإن منعه الطعام فمات جوعا، فلا ضمان. قال في الحاوي: ولو قيل: يضمن، كان مذهبا. وهل القدر الذي يجب على المالك بذله، ويجوز للمضطر أخذه قهرا والقتال عليه ما يسد الرمق، أم قدر الشبع ؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحلال من(2/552)
الميتة. وهل يجب على المضطر الاخذ قهرا والقتال ؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في وجوب الاكل من الميتة، وأولى بأن لا يجب. قلت: المذهب: لا يجب القتال، كما لا يجب دفع الصائل وأولى. والله أعلم. وخصص صاحب التهذيب الخلاف بما إذا لم يكن عليه خوف في الاخذ قهرا. قال: فإن كان، لم يجب قطعا. فرع حيث أوجبنا على المالك بذله للمضطر، ففي الحاوي وجه: أنه يلزمه بذله مجانا، ولا يلزمه المضطر شئ، كما يأكل الميتة بلا شئ. والمذهب: أنه لا يلزمه البذل إلا بعوض، وبهذا قطع الجمهور. وفرقوا بينه وبين ما إذا خلص مشرفا على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار، فإنه لا تثبت أجرة المثل، لان هناك يلزمه التخليص، ولا يجوز التأخير إلى تقرير الاجرة، وهنا بخلافه، وسوى القاضي أبو الطيب وغيره بينهما، فقالوا: إن احتمل الحال هناك موافقته على أجرة يبذلها أو يلتزمها، لم يلزم تخليصه حتى يلتزمها كما في المضطر. وإن لم يحتمل حال التأخير في صورة المضطر، فأطعمه، لم يلزمه العوض، فلا فرق بينهما. ثم إن بذل المالك طعامه مجانا، لزمه قبوله، ويأكله إلى أن يشبع، فإن بذله بالعوض، نظر، إن لم يقدر العوض، لزم المضطر قيمة ما أكل في ذلك الكان والزمان، وله أن يشبع، وإن قدره، فإن لم يفرد ما يأكله فالحكم كذلك. وإن أفرده، فإن كان المقدر ثمن المثل، فالبيع صحيح، وللمضطر ما فضل عن الاكل.(2/553)
وإن كان أكثر والتزمه، ففيما يلزمه أوجه. أقيسها وهو الاصح عند القاضي أبي الطيب: يلزمه المسمى، لانه التزمه بعقد لازم. وأصحها عند الروياني: لا لزمه إلا ثمن المثل في ذلك الزمان والمكان، لانه كالمكره. والثالث، وهو اختيار صاحب الحاوي: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره، لزمته، وإلا، فلا. قال أصحابنا: وينبغي للمضطر أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد، ليكون الواجب القيمة قطعا، وقد يفهم من كلامهم، القطع بصحة البيع، وأن الخلاف فيما يلزم ثمنا. لكن الوجه: جعل الخلاف في صحة العقد لمعنى الاكراه، وأن المضطر هل هو مكره، أم لا ؟ وفي تعليق الشيخ أبي حامد ما يبين ذلك. وقد صرح به الامام، فقال: الشراء بالثمن الغالي للضرورة، هل يجعله مكروها حتى لا يصح الشراء ؟ وجهان أقيسهما: صحة البيع. قال: وكذا المصادر من جهة السلطان الظالم، إذا باع ماله للضرورة، ولدفع الاذى الذي يناله. والاصح: صحة البيع، لانه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان، وبهذا قطع الشيخ إبرهيم المروذي، واحتج به لوجه لزوم المسمى في مسألة المضطر. فرع متى باع المالك بثمن المثل ومع المضطر مال، لزمه شراؤه، وصرف ما معه إلى الثمن، حتى لو كان معه إزار فقط، لزمه صرفه إليه إن لم يخف الهلاك بالبرد، ويصلي عاريا، لان كشف العورة أخف من أكل الميتة. ولهذا يجوز أخذ الطعام قهرا، ولا يجوز أخذ ساتر العورة قهرا وإن لم يكن معه مال، لزمه التزامه في ذمته، سواء كان له مال في موضع آخر، أم لا. ويلزم المالك في هذا الحال، البيع نسيئة. فرع ليس للمضطر الاخذ قهرا إذا بذل المالك بثمن المثل. فإن طلب أكثر، فله أن لا يقبل ويأخذه قهرا ويقاتله عليه. فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان أخذه قهرا، فهو مختار في الالتزام، فيلزمه المسمى بلا خلاف.(2/554)
والخلاف السابق إنما هو فيمن عجز عن الاخذ قهرا. فرع لو أطعمه المالك ولم يصرح بالاباحة، فالاصح: أنه لا عوض عليه، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام. ولو اختلفا فقال: أطعمتك بعوض فقال: بل مجانا، فهل يصدق المالك لانه أعرف بدفعه، أم المضطر لبراءة ذمته ؟ وجهان. أصحهما: الاول. ولو أوجر المالك المضطر قهرا، أو أوجره وهو مغمى عليه، فهل يستحق القيمة ؟ وجهان. أحسنهما: يستحق، لانه خلصه من الهلاك، كمن عفا عن القصاص، ولما فيه من التحريض على مثل ذلك. فرع كما يجب بذل المال لابقاء الآدمي المعصوم، يجب بذله لابقاء البهيمة المحترمة،، وإن كان ملكا للغير. ولا يجب البذل للحربي، والمرتد، والكلب العقور. ولو كان لرجل كلب غير عقور جائع، وشاة، لزمه ذبح الشاة لاطعام الكلب. قال في التهذيب: وله أن يأكل من لحمها، لانها ذبحت للاكل. الحال الثاني: أن يكون المالك غائبا، فيجوز للمضطر أكل طعامه ويغرم له القيمة. وفي وجوب الاكل وقدر المأكول، ما سبق من الخلاف. وإن كان الطعام لصبي أو مجنون، والولي غائب، فكذلك. وإن كان حاضرا، فهو في ما لهما ككامل الحال في ماله، وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها بيع مال الصبي نسيئة. المسألة التاسعة: إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير وهو غائب، فثلاثة أوجه. ويقال: أقوال. أصحها: يجب أكل الميتة. والثاني: الطعام. والثالث: يتخير بينهما، وأشار الامام، إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي. وإن كان صاحب الطعام حاضرا، فإن بذله بلا عوض، أو بثمن مثله، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه، أو رضي بذمته، لزمه(2/555)
القبول. وإن لم يبعه إلا بزيادة كبيرة، فالمذهب الذي قطع به العراقيون والطبريون وغيرهم: أنه لا يلزمه شراؤه، لكن يستحب، وإذا لم يلزمه الشراء، فهو كما لو لم يبذله أصلا. وإذا لم يبذله، لا يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه، أو خاف إهلاك المالك في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف لضعف المالك وسهولة دفعه، فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا. وقال في التهذيب: يشتريه بالثمن الغالي، ولا يأكل الميتة. ثم يجئ الخلاف، في أنه يلزمه المسمى، أو ثمن المثل ؟ قال: وإذا لم يبذل أصلا، وقلنا: طعام الغير أولى من الميتة، يجوز أن يقال: يقاتله ويأخذه قهرا. العاشرة: لو اضطر محرم ولم يجد إلا صيدا، فله ذبحه وأكله، ويلزمه الفدية. وإن وجد صيدا وميتة، فالمذهب: أنه يلزمه أكل الميتة. وفي قول: الصيد. وفي قول أو وجه: يتخير. وقيل: يأكل الميتة قطعا. ولو وجد المحرم لحم صيد ذبح، وميتة، فإن ذبحه حلال لنفسه، فهذا مضطر وجد ميتة، وطعام الغير، وإن ذبحه هذا المحرم قبل إحرامه، فهو واجد طعاما حلالا لنفسه، فليس مضطرا. وإن ذبحه في الاحرام، أو ذبحه محرم آخر، فأوجه. أصحها: يتخير بينهما. والثاني: تتعين الميتة. والثالث: الصيد. ولو وجد المحرم صيدا، وطعام الغير، فهل يتعين الصيد، أم الطعام، أم يتخير ؟ فيه ثلاثة أوجه، أو أقوال، سواء جعلنا الصيد الذي يذبحه المحرم ميتة، أم لا. وإن وجد صيدا، وميتة، وطعام الغير، فسبعة أوجه. أصحها: تتعين الميتة. والثاني: الطعام. والثالث: الصيد. والرابع: يتخير بينها. والخامس: تخير بين الطعام والميتة. والسادس: يتخير بين الصيد والميتة. والسابع: يتخير بين الصيد والطعام. فرع إذا لم نجعل ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة، فهل على المضطر قيمة ما يأكل منه ؟ وجهان، بناء على القولين في أن المحرم، هل يستقر ملكه على الصيد. الحاديه عشرة لو وجد ميتتين، احداهما من جنس المأكول، دون الاخرى أو احداهما طاهره في الحياه دون الاخرى كشاه، وحمار أو كلب فهل يتخير بينهما، ام تتعين الشاه ؟ وجهان.(2/556)
قلت: ينبغي أن يكون الراجح ترك الكلب، والتخيير بين الثانيه عشره: ليس بين الباقي. والله أعلم. الثانية عشرة: ليس للعاصي بسفره أكل الميتة حتى يتوب على الصحيح. وسبق بيانه في صلاة المسافر. الثالثة عشرة: نص الشافعي رضي الله عنه: أن المريض إذا وجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه، جاز له تركه وأكل الميتة، ويلزم مثله لو كان الطعام له. وعد هذا من أنواع الضرورة، وكذا التداوي كما سبق. وسبق أيضا في أول الكتاب، بيان الانتفاع بالنجاسات. ولو تنجس الخف بخرزه بشعر الخنزير، فغسل سبعا إحداهن بتراب، طهر ظاهره دون باطنه، وهو موضع الخرز. وقيل: كان الشيخ أبو زيد يصلي في الخف النوافل دون الفرائض، فراجعه القفال فيه فقال: الامر إذا ضاق اتسع، أشار إلى كثرة النوافل. قلت: بل الظاهر أنه أراد أن هذا القدر مما تعم به البلوى، ويتعذر أو يشق الاحتراز منه، فعفي عنه مطلقا. وإنما كان لا يصلي فيه الفريضة احتياطا لها، وإلا، فمقتضى قوله العفو فيهما. ولا فرق بين الفريضة والنفل في اجتناب النجاسة ومما يدل على صحة ما تأولته، أن القفال قال في شرحه التلخيص: سألت أبا زيد عن الخف يخرز بشعر الخنزير، هل تجوز الصلاة فيه ؟ فقال: الامر إذا ضاق اتسع، قال القفال: مراده أن بالناس حاجة إلى الخرز به، فللضرورة جوزنا ذلك. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالاطعمة
إحداها: قال الشيخ إبرهيم المروذي في تعليقه وردت أخبار في النهي عن أكل الطين، ولا يثبت شئ منها، وينبغي أن نحكم بالتحريم إن ظهرت المضرة فيه. قلت: قطع صاحب المهذب وغيره بتحريم أكل التراب. والله أعلم. الثانية: يكره أن يأكل من الطعام الحلال فوق شبعه، ويكره أن يعيب الطعام. ويستحب أن يأكل من أسفل الصحفة، وأن يقول بعد الفراغ: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.(2/557)
الثالثة: إذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلما، استحب له ضيافته، ولا تجب. والاحاديث الواردة في الباب، محمولة على الاستحباب. الرابعة: من مر بثمر غيره أو زرعه، لم يجز له أن يأخذ منه، ولا يأكل بغير إذن صاحبه، إلا أن يكون مضطرا، فيأكل ويضمن. وحكم الثمار الساقطة من الاشجار، حكم سائر الثمار إن كانت داخل الجدار. فإن كانت خارجه، فكذلك إن لم تجر عادتهم بإباحتها، فإن جرت بذلك، فهل تجري العادة المطردة مجرى الاباحة ؟ وجهان. قلت: الاصح: تجري. والمختار: أنه يجوز أكل الانسان من طعام قريبه وصديقه بغير إذنه إذا غلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، فإن تشكك، فحرام بلا خلاف. ويستحب ترك التبسط في الاطعمة المباحة، فإنه ليس من أخلاق السلف، هذا إذا لم تدع إليه حاجة، كقرى الضيف، والتوسعة على العيال في الاوقات المعروفة. والسنة: اختيار الحلو من الاطعمة، وتكثير الايدي على الطعام، والتسمية في أوله. فإن نسي وتركها في أوله، أتى بها في أثناء الاكل. ويستحب الجهر بها ليذكره غيره، ويستحب الحديث الحسن على الاكل وقد بقيت آداب تتعلق بالاكل، أخرتها إلى باب الوليمة لكونه أليق بها. والله أعلم.(2/558)
كتاب النذر
هو التزام شئ، وفيه فصلان.
أحدهما: في أركانه، وهي ثلاثة: الناذر، والمنذور، والصيغة. الاول: الناذر. وهو كل مكلف مسلم، فلا يصح نذر الصبي والمجنون. وفي نذر السكران، الخلاف في تصرفاته. ولا يصح نذر الكافر لى الصحيح. ويصح من السفيه المحجور عليه بفلس نذر القرب البدنية، ولا تصح المالية من السفيه. وأما المفلس، فإن التزم في ذمته ولم يعين مالا، صح نذره، ويؤديه بعد قضاء حقوق الغرماء. فإن عين مالا، بني على ما لو أعتق أو وهب، هل يوقف صحة تصرفه، أم يكون باطلا ؟ فإن أبطلناه، فكذا النذر. وإن توقفنا، توقف النذر، قاله في التتمة. قال: ولو نذر عتق المرهون، انعقد نذره. فإن نفذنا، عتقه في الحال، أو عند أداء المال، وإلا، فهو كمن نذر إعتاق من لا يملكه.(2/559)
الركن الثاني: الصيغة. فلا يصح النذر إلا باللفظ. وفي قول قديم: تصير الشاة ونحوها هديا وأضحية بالنية وحدها، أو بها مع التقليد كما سبق في بابه. ثم النذر قسمان. أحدهما: نذر التبرر، وهو نوعان. أحدهما: نذر المجازاة، وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة، أو اندفاع بلية، كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولدا، فلله علي أعتاق، أو صوم، أو صلاة. فإذا حصل المعلق عليه، لزمه الوفاء بما التزم. ولو قال: فعلي، ولم يقل: فلله علي، فالصحيح: أنه كذلك. وقيل: لا بد من التصريح بذكر الله تعالى، وهو قريب من الخلاف في وجوب الاضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء والصلاة. النوع الثاني: أن يلتزم ابتداء من غير تعليق على شئ، فيقول: لله علي أن أصلي أو أصوم أو أعتق، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: يصح، ويلزم الوفاء به. والثاني: لا يصح، ولا يلزمه شئ. فرع لو عقب النذر بالمشيئة فقال: لله علي كذا إن شاء الله تعالى، لم يلزمه شئ، كما هو في تعقيب الايمان، والطلاق، والعقود. ولو قال: لله علي كذا إن شاء زيد، لم يلزمه شئ وإن شاء زيد. القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو أن يمنع نفسه من فعل، أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة الفعل أو بالترك. ويقال فيه: يمين اللجاج والغضب. ويقال له أيضا: يمين الغلق. ويقال: نذر الغلق - بفتح العين المعجمة(2/560)
واللام - فإذا قال: إن كلمت فلانا، أو دخلت الدار، أو إن لم أخرج من البلد، فإنه علي صوم شهر، أو صلاة، فلله أو حج، أو إعتاق رقبة، ثم كلمه، أو دخل، أو لم يخرج، ففيما يلزمه طرق. أشهرها: على ثلاثة أقوال. أحدها: يلزمه الوفاء بما التزم. والثاني: يلزمه كفارة يمين. والثالث: يتخير بينهما، وهذا الثالث هو الاظهر عند العراقيين، لكن الاظهر على ما ذكره صاحب التهذيب، والروياني، وإبرهيم المروذي، والموفق بن طاهر، وغيرهم، وجوب الكفارة. والطريق الثاني: القطع بالتخيير. والثالث: نفي التخيير، والاقتصار على القولين الاولين. والرابع: الاقتصار على التخيير وقول وجوب الكفارة، ونفي القول الاول. والخامس: الاقتصار على التخيير، ولزوم الوفاء، ونفي وجوب الكفارة. قلت: الاظهر: التخيير بين الجميع. والله أعلم. فإن قلنا بوجوب الكفارة، فوفى بما التزم، لم تسقط الكفارة على الاصح، فإن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة، فالزيادة على قدر الكفارة تقع تطوعا. وإن قلنا بالتخيير، فلا فرق بين الحج والعمرة، وسائر العبادات. وخرج قول: أنه يلزم الوفاء بهما خاصة، لعظم أمرهما، كما يلزمان بالشروع. فرع إذا التزم على وجه اللجاج إعتاق عبد بعينه، فإن قلنا: واجبه الوفاء بما التزم، أعتقه كيف كان. وإن قلنا: عليه كفارة يمين، فإن كان بحيث يجزئ في الكفارة، فله أن يعتقه أو يعتق غيره، أو يطعم، أو يكسو. وإن كان بحيث لا(2/561)
يجزئ، واختار الاعتاق، أعتق غيره. وإن قلنا: يتخير، فإن اختار الوفاء، أعتقه كيف كان، وإن اختار التكفير، اعتبر في إعتاقه صفات الاجزاء. وإن التزم إعتاق عبيده، فإن أوجبنا الوفاء، أعتقهم. وإن أوجبنا الكفارة، أعتق واحدا، أو أطعم، أو كسا. وإن قال: إن فعلت كذا، فعبدي حر، وقع العتق إذا فعله بلا خلاف. فرع لو قال: إن فعلت كذا، فعلي نذر، أو فلله علي نذر، نص الشافعي رحمه الله: أنه يلزمه كفارة يمين، وبهذا قطع صاحب التهذيب وإبرهيم المروذي: وقال القاضي حسين وغيره: هذا تفريع على قولنا: تجب الكفارة. فأما إن أوجبنا الوفاء، فيلزمه قربة من القرب، والتعيين إليه، وليكن ما يعينه مما يلتزم بالنذر. وعلى قول التخيير: يتخير بين ما ذكرنا وبين الكفارة. ولو قال: إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين، فالواجب كفارة على الاقوال كلها. ولو قال: فعلي يمين، أو فلله علي يمين، فالصحيح: أنه لغو، لانه لم يأت بنذر ولا صيغة يمين، وليست اليمين مما يثبت في الذمة. وقيل: يلزمه كفارة يمين إذا فعله. قال الامام: وعلى هذا، فالوجه: أن يجعل كناية ويرجع إلى نيته. ولو قال: نذرت لله لافعلن كذا، فإن نوى اليمين، فهو يمين. وإن أطلق، فوجهان. ولو عدد أجناس قرب فقال: إن دخلت فعلي حج، وعتق، وصدقة، فإن أوجبنا الوفاء، لزمه ما التزمه، وإن أوجبنا الكفارة، لزمه كفارة واحدة على المذهب. وعن الشيخ أبي محمد، احتمال في تعددها. ولو قال ابتداء: لله علي أن أدخل الدار اليوم، قال في التهذيب: المذهب: أنه يمين، وعليه كفارة يمين إن لم يدخل. وكذا لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فلله علي أن أطلقك، فهو كقوله: إن لاطلقنك، حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق، لزمه كفارة يمين. ولو قال: إن دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز، فدخلها، لزمه كفارة يمين على الصحيح. وقيل: هو لغو. فرع لو قال ابتداء: مالي صدقة، أو في سبيل الله، ففيه أوجه. أحدها(2/562)
وهو الاصح عند الغزالي، وقطع به القاضي حسين: أنه لغو، لانه لم يأت بصيغة التزام. والثاني: أنه كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي، فيلزمه التصدق. والثالث: يصير ماله بهذا اللفظ صدقة، كما لو قال: جعلت هذه الشاة أضحية. وقال في التتمة: إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر، أو نواه، فهو كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي أو أنفقه في سبيل الله، وإلا، فلغو. وأما إذا قال: إن كلمت فلانا، أو فعلت كذا، فمالي صدقة، فالمذهب الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي رحمه الله: أنه بمنزلة قوله: فعلي أن أتصدق بمالي، أو بجميع مالي. وطريق الوفاء: أن يتصدق بجميع أمواله. وإذا قال: في سبيل الله، يتصدق بجميع أمواله على الغزاة. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يخرج هذا على الاوجه الثلاثة في الصورة الاولى. والمعتمد، ما نص عليه وقاله الجمهور. فرع الصيغة قد تتردد، فتحتمل نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج، فيرجع فيها إلى قصد الشخص وإرادته، وفرقوا بينهما، بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب، وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب، وهو القربة المسماة. وفي اللجاج، يرغب عن السبب لكراهته الملتزم. وذكر الاصحاب في ضبطه، أن الفعل، إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح. والالتزام في كل واحد منهما، تارة يعلق بالاثبات، وتارة بالنفي. أما الطاعة، ففي طرف الاثبات يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن صليت، فلله علي صوم يوم، معناه: إن وفقني الله للصلاة، صمت. فإذا وفق لها، لزمه الصوم. ويتصور اللجاج، بأن يقال له: صل، فيقول: لا أصلي، وإن صليت فعلي صوم أو عتق، فإذا صلى، ففيما يلزمه، الاقوال والطرق السابقة. وأما في طرف النفي، فلا يتصور نذر التبرر، لانه لا بر في ترك الطاعة، ويدخله اللجاج، بأن يمنع من الصلاة، فيقول: إن لم أصل، فلله علي كذا، فإذا لم يصل، ففيما يلزمه الاقوال. وأما المعصية، ففي طرف النفي، يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن لم(2/563)
أشرب الخمر، فلله علي كذا، ويقصد: إن عصمني الله من الشرب. ويتصور نذر اللجاج، بأن يمنع من شربها، ويقول: إن لم أشربها، فلله علي صوم أو صلاة. وفي طرف الاثبات لا يتصور إلا اللجاج، بأن يؤمر بالشرب، فيقول: إن شربت، فلله علي كذا. وأما المباح، فيتصور في طرفي النفي والاثبات فيه النوعان معا. فالتبرر في الاثبات: أن أكلت كذا، فلله علي صوم، يريد: أن يسره الله تعالى لي. واللجاج، أن يؤمر بأكله فيقول: إن أكلت، فلله علي كذا. والتبرر في النفي: إن لم آكل كذا، فلله علي صوم، يريد: إن أعانني الله تعالى على كسر شهوتي فتركته. واللجاج، أن يمنع من أكله فيقول: إن لم آكله، فلله علي كذا. وإن قال: إن رأيت فلانا، فعلي صوم. فإن أراد: إن رزقني الله رؤيته، فهو نذر تبرر. وإن ذكره لكراهته رؤيته، فهو لجاج. وفي الوسيط وجه في منع التبرر في المباح. فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين قوله: فعلي كذا، وبين قوله: فلله علي كذا، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يلزمه شئ إذا لم يذكر الله تعالى. فرع لو قال: أيمان البيعة لازمة لي - قال أصحابنا: كانت البيعة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمصافحة، فلما ولي الحجاج، رتبها أيمانا تشتمل على ذكر اسم الله تعالى، وعلى الطلاق، والاعتاق، والحج، وصدقة المال - فإن لم يرد القائل الايمان التي رتبها الحجاج، لم يلزمه شئ. وإن أرادها، نظر، إن قال: فطلاقها وعتاقها لازم لي وانعقدت يمينه بهما ولا حاجة إلى النية. وإن لم يصرح بذكرهما، لكن نواهما، فكذلك، لانهما ينعقدان بالكناية مع النية. وإن نوى اليمين بالله تعالى، أو لم ينو شيئا، لم تنعقد يمينه، ولا شئ عليه. فرع نص الشافعي رضي الله عنه، في نذر اللجاج، أنه لو قال: إن فعلت(2/564)
كذا، فلله علي نذر حج إن شاء فلان، فشاء، لم يكن عليه شئ. قال في التتمة: هذا إذا غلبنا في اللجاج معنى في النذر. فإن قلنا: هو يمين، فهو كمن قال: والله لا أفعل كذا إن شاء زيد، وسيأتي في الايمان إن شاء الله تعالى أن من قال: والله لا أدخلها إن شاء فلان أن لا أدخلها. فإن شاء فلان، انعقدت يمينه عند المشيئة، وإلا، فلا. الركن الثالث: المنذور. الملتزم بالنذر: معصية، أو طاعة، أو مباح. فالمعصية، كنذر شرب الخمر، أو الزنا، أو القتل، أو الصلاة في حال الحدث، أو الصوم في حال الحيض، أو القراءة حال الجنابة، أو نذر ذبح نفسه أو ولده، فلا ينعقد نذره. فإن لم يفعل المعصية المنذورة، فقد أحسن، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع جمهور الاصحاب. وحكى الربيع قولا في وجوبها. واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي، للحديث لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين. قال الجمهور: المراد بالحديث، نذر اللجاج. قالوا: ورواية الربيع من كيسه. وحكى بعضهم الخلاف وجهين. قلت: هذا الحديث بهذا اللفظ، ضعيف باتفاق المحدثين، وإنما صح حديث عمران بن الحصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نذر في معصية الله رواه مسلم، وحديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم. والله أعلم.(2/565)
وأما الطاعة فأنواع: أحدها: الواجبات، فلا يصح نذرها، لانها واجبة بإيجاب الشرع، فلا معنى لالتزامها، وذلك كنذر الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر، ولا يزني. وسواء علق ذلك بحصول نعمة، أو التزمه ابتداء. وإذا خالف ما ذكره، ففي لزوم الكفارة ما سبق في قسم المعصية. وادعى صاحب التهذيب أن الظاهر هنا، وجوبها. النوع الثاني: العبادات المقصودة، وهي التي شرعت للتقرب بها. وعلم من الشارع الاهتمام بتكلف الخلق إيقاعها عبادة، كالصوم والصلاة والصدقة والحج والاعتكاف والعتق، فهذه تلزم بالنذر بلا خاف. قال الامام: وفروض الكفاية التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة، تلزم بالنذر أيضا، كالجهاد وتجهيز الموتى. ويجئ مما سنذكره إن شاء الله تعالى في نذر السنن الراتبة وجه: أنها لا تلزم. وعن القفال: أن من نذر الجهاد، لا يلزمه شئ. وفي صلاة الجنازة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما ليس فيه بذل مال، ولا كبير مشقة، وجهان. أصحهما: لزومها بالنذر أيضا. فرع كما يلزم أصل العبادة بالنذر، يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت في النذر، كمن شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام، أو الركوع، أو السجود. أو شرط المشي في الحجة الملتزمة إذا قلنا: المشي في الحج أفضل من الركوب، فلو أفردت الصفة بالنذر، والاصل واجب شرعا، كتطويل القراءة والركوع والسجود في الفرائض، أو أن يقرأ في الصبح مثلا سورة كذا، أو أن يصلي الفرض(2/566)
في جماعة، فالاصح: لزومها، لانها طاعة. والثاني: لا، لئلا تغير عما وضعها الشرع عليه. ولو نذر فعل السنن الراتبة، كالوتر، وسنة الفجر، والظهر، فعلى الوجهين. ولو نذر صوم رمضان في السفر، فوجهان. أحدهما وبه قطع في الوجيز، ونقله إبرهيم المروذي عن عامة الاصحاب: لا ينعقد نذره، وله الفطر، لانه التزام يبطل رخصة الشرع. والثاني، وهو اختيار القاضي حسين وصاحب التهذيب: انعقاده ولزوم الوفاء كسائر المستحبات. ويجري الوجهان، فيمن نذر إتمام الصلاة في السفر، إذا قلنا: الاتمام أفضل. ويجريان فيمن نذر القيام في النوافل، أو استيعاب الرأس بالمسح، أو التثليث في الوضوء أو الغسل، أو أن يسجد للتلاوة والشكر عند مقتضيهما. قال الامام: وعلى مساق الوجه، لو نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة، أو نذر صوما، وشرط أن لا يفطر بالمرض، لم يلزم الوفاء، لان الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا، والمرض مرخص. النوع الثالث: القربات التي لم تشرع لكونها عبادة، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها. وقد يبتغى بها وجه الله تعالى، فينال الثواب فيها، كعيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام بين المسلمين، وتشميت العاطس. وفي لزومها بالنذر، وجهان. الصحيح: اللزوم. ويلزم(2/567)
تجديد الوضوء بالنذر على الاصح. قال في التتمة: لو نذر الاغتسال لكل صلاة، لزمه الوفاء، وليبن هذا على أن تجديد الغسل، هل يستحب ؟ قال: ولو نذر الوضوء، انعقد نذره ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث، بل بالتجديد. قلت: جزم أيضا بانعقاد نذر الوضوء، القاضي حسين. وفي التهذيب وجه ضعيف: أنه لا يلزم. وقولهم: لا يخرج عن النذر إلا بالتجديد، معناه: بالتجديد حيث يشرع، وهو أن يكون قد صلى بالاول صلاة ما، على الاصح. والله أعلم. قال: ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة، لزم الوضوء لكل صلاة. وإذا توضأ لها عن حدث، لا يلزمه الوضوء لها ثانيا، بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي الشرع والنذر. قال: ولو نذر التيمم، لم ينعقد على المذهب. قال: ولو نذر أن لا يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار، فإن علم من نفسه القدرة على مقاومتهم، انعقد نذره، وإلا، فلا. وفي كلام الامام: أنه لا يلزم بالنذر انكفاف قط، حتى لو نذر أن لا يفعل مكروها، لا ينعقد نذره. ولو نذر أن يحرم بالحج في شوال، أو من بلد كذا، لزمه على الاصح. وأما المباح فالذي لم يرد فيه ترغيب، كالاكل، والنوم، والقيام، والقعود، فلو نذر فعلها أو تركها، لم ينعقد نذره. قال الائمة: وقد يقصد بالاكل التقوي على العبادة، وبالنوم النشاط عند التهجد، فينال الثواب، لكن الفعل غير(2/568)
مقصود، والثواب يحصل بالقصد الجميل. وهل يكون نذر المباح يمينا توجب الكفارة عند المخالفة ؟ فيه ما سبق في نذر المعاصي والفرض. وقطع القاضي بوجوب الكفارة في المباح، وذكر في المعصية وجهين، وعلق الكفارة باللفظ من غير حنث، وهذا لا يتحقق ثبوته. والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه. فرع لو نذر الجهاد في جهة بعينها، ففي تعيينها أوجه. قال صاحب التلخيص: يتعين، لاختلاف الجهات. وقال أبو زيد: لا يتعين، بل يجزئه أن يجاهد في جهة أسهل وأقرب منها. وقال الشيخ أبو علي: وهو الاصح الاعدل، لا يتعين، لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة والمؤنة، وتجعل مسافات الجهات كمسافات مواقيت الحج. فرع يشترط في القربة المالية، كالصدقة، والتضحية، والاعتاق، أن يلتزمها في الذمة، أو يضيف إلى معين يملكه. فإن كان لغيره، لم ينعقد نذره قطعا، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وذكر في التتمة في لزومها وجهين، وهو شاذ. قال في التتمة: لو قال: إن ملكت عبدا فلله علي أن أعتقه، انعقد نذره. قال: ولو قال إن ملكت عبد فلان فلله على ان اعتقه على الاظهر هذا ان قصد الشكر على حصول الملك، فإن قصد الامتناع من تملكه فهو نذر لجاج، ولو قال إن شفى الله مريضي، فكل عبد أملكه حر، أو فعبد فلان حر إن ملكته، لم ينعقد نذره قطعا، لانه لم يلتزم التقرب بقربة، لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط، وليس هو مالكا في حال التعليق، فلغا، كما لو قال: إن ملكت عبدا أو عبد فلان، فهو حر، فإنه لا يصح قطعا. قال: ولو قال: إن شفى الله مريضي، فعبدي حر إن دخل الدار، انعقد، لانه(2/569)
مالكه، وقد علقه بصفتين، الشفاء، والدخول. قال: ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أشتري عبدا وأعتقه، انعقد. فرع قال: في التهذيب في باب الاستسقاء: لو نذر الامام أن يستسقي، لزمه أن يخرج في الناس ويصلي بهم. ولو نذره واحد من الناس، لزمه أن يصلي منفردا. وإن نذر أن يستسقي بالناس، لم ينعقد، لانهم لا يطيعونه. ولو نذر أن يخطب وهو من أهله، لزمه. وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته القيام ؟ فيه خلاف كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الصلاة المنذورة. فرع سئل الغزالي رحمه الله في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري: إن خرج المبيع مستحقا، فلله علي أن أهبك ألف دينار، فهل يصح هذا النذر، أم لا ؟ وإن حكم حاكم بصحته، هل يلزمه ؟ فأجاب بأن الصاحات لا تلزم بالنذر، وهذا مباح، ولا يؤثر فيه قضاء القاضي، إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك النذر. فرع قال بعضهم: لو نذر أن يكسو يتيما لم يخرج عن نذره باليتيم الذمي، لان مطلقه في الشرع للمسلم. قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه، كما لو نذر إعتاق رقبة. والله أعلم.
الفصل الثاني في أحكام النذر
إذا صح النذر، لزم الوفاء به. والمعتبر فيه: مقتضى ألفاظ الالتزام. والملتزمات أنواع.(2/570)
الاول: الصوم، فإن أطلق التزامه فقال: لله علي صوم، أو أن أصوم، لزمه صوم يوم. ويجئ فيه وجه ضعيف: أنه يكفيه إمساك بعض يوم، بناء على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صوم، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو نذر صوم أيام وقدرها، فذاك. وإن أطلق ذكر الايام، لزمه ثلاثة. ولو قال: أصوم دهرا أو حينا، كفاه صوم يوم. فرع هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور، أم تكفي نيته قبل الزوال ؟ يبنى ذلك على أنه إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها، فعلى أي شئ ينزل نذره ؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي رحمه الله. أحدهما: ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع، لان المنذور واجب، فجعل كواجب بالشرع ابتداء. والثاني: ينزل على أقل ما يصح من جنسه. وقد يقال: على أقل جائز الشرع، لان لفظ الناذر لا يقتضي التزام زيادة عليه. وهذا الثاني، أصح عند الامام، والغزالي، ولكن الاول أصح، فقد صححه العراقيون، والروياني، وغيرهم. فإن قلنا بالقول الاول، أوجبنا التبييت، وإلا، جوزناه بنية من النهار، هذا إذا أطلق نذر الصوم. فأما إذا نذر صوم يوم أو أيام، فصحته بنية النهار مع التنزيل على أقل ما يصح، تنبني على أصل آخر، وهو أن صوم التطوع إذا نواه نهارا، هل يكون صائما من وقت النية، أم من أول النهار ؟ وفيه خلاف سبق في بابه. والاصح: الثاني. فإن قلنا به، صح صوم الناذر بنية النهار، وإلا، وجب التبييت. وينبني على القولين في تنزيل النذر، مسائل. منها: لو نذر أن يصلي وأطلق، إن قلنا بالقول الثاني، فركعة، وإلا، فركعتان، وهو المنصوص. ومنها: جواز الصلاة قاعدا مع القدرة على القيام، فيه وجهان بناء عليهما. فلو نذر أن يصلي قاعدا، جاز القعود قطعا، كما لو صرح بنذر ركعة، أجزأته(2/571)
قطعا. فإن صلى قائما، فهو أفضل. ولو نذر أن يصلي قائما، لزمه القيام قطعا. ولو نذر أن يصلي ركعتين، فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو بتشهدين، قطع صاحب التهذيب بجوازه. وفي التتمة: فيه وجهان. ويمكن بناؤه على الاصل السابق: إن نزلنا على واجب الشرع، لم يجزئه كما لو صلى الصبح أربعا، وإلا، أجزأه. وإن نذر أربع ركعات، فإن نزلنا على واجب الشرع، أمرناه بتشهدين. فإن ترك الاول، سجد للسهو، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين. وان نزلنا على الجائز. تخير، إن شاء بتشهدين. ويجوز بتسلمتين، بل هو أفضل. قلت: الاصح: أنه يجوز بتسليمتين. والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل المخرجة على هذا الاصل عليه، وقوع الصلاة مثنى، وزيادة فضلها. والله أعلم. ولو نذر أن يصلي ركعتين على الارض مستقبلا القبلة، لم يجز فعلهما على الراحلة. ولو نذر فعلهما على الراحلة، فله فعلهما على الارض مستقبلا. وأن أطلق، فعلى أيهما يحصل ؟ فيه خلاف مبني على هذا الاصل. وأما لو نذر أن يتصدق، فإنه لا يحمل على خمسة دراهم، أو نصف دينار، بل يجزئه أن يتصدق بدانق ودونه مما يتمول، لان الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة. ومنها: إذا نذر إعتاق رقبة، فإن نزلنا على واجب الشرع، لزمه رقبة مؤمنة سليمة، وإلا، أجزأه كافرة معيبة. قال الداركي: الاول أصح. قلت: الاصح عند الاكثرين: الثاني. منهم المحاملي، وصاحبا التنبيه والمستظهري، وهو الراجح في الدليل. والله أعلم. فلو قيد فقال: لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة، لم تجزه الكافرة ولا المعيبة قطعا. ولو قال: كافرة، أو معيبة، أجزأته قطعا. ولو أعتق مسلمة، أو سليمة(2/572)
، فقيل: لا تجزئه، والصحيح: أنها تجزئه، لانها أكمل، وذكر الكفر والعيب، ليس للتقرب، بل لجواز الاقتصار على الناقص، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة، يجوز له التصدق بالجيدة. ولو قال: علي أن أعتق هذا الكافر، أو المعيب، لم يجزئه غيره، لتعلق النذر بعينه. أما لو نذر أن يعتكف، فليس جنس الاعتكاف واجبا بالشرع، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث، أم يكفي المرور في المسجد مع النية ؟ والاول أصح. فعلى هذا لابد من لبث، ويخرج عن النذر بلبث ساعة، ويستحب أن يمكث يوما. وإن اكتفينا بالمرور، فللامام فيه احتمالان. أحدهما: يشترط لبث، لان لفظ الاعتكاف يشعر به. والثاني: لا، حملا له على حقيقته شرعا.
فصل إذا لزمه صوم يوم النذر، استحب المبادرة به، ولا تجب المبادرة، بل يخرج عن نذره بأي يوم كان ما يقبل الصوم، غير رمضان. ولو نذر صوم خميس ولم يعين، صام أي خميس شاء. فإذا مضى خميس ولم يصمه، استقر في ذمته، حتى لو مات قبل الصوم، فدي عنه. ولو عين في نذره يوما كأول خميس من الشهر، أو خميس هذا الاسبوع، تعين على المذهب، وبه قطع الجمهور، فلا يجوز الصوم قبله، وإذا تأخر عنه، صار قضاء، فإن أخر بلا ذر، أثم، وإن أخر بعذر سفر أو مرض، لم يأثم. وقال الصيدلاني وغيره: فيه وجهان. والثاني منهما: لا يتعين، كما لو عين مكانا، فعلى هذا يجوز الصوم قبله وبعده. ولو عين يوما من أسبوع، والتبس عليه، فينبغي أن يكون يوم الجمعة، لانه آخر الاسبوع، فإن لم يكن هو المعين، أجزأه وكان قضاء. ولو نذر صوم يوم مطلق من الاسبوع المعين، صام منه أي يوم كان. فرع اليوم المعين بالنذر وإن عيناه، لا يثبت له خواص رمضان من الكفارة بالفطر بالجماع فيه، ووجوب الامساك لو أفطر فيه، وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة، بل لو صامه عن قضاء أو كفارة، صح بلا خلاف، كذا قاله الامام. وفي التهذيب وجه آخر: أنه لا ينعقد كأيام رمضان. فرع الخلاف السابق في أن اليوم المعين بالنذر، هل يتعين ؟ يجري مثله في الصلاة إذا عين لها في نذرها وقتا، وفي الحج إذا عين له سنة. وجزم صاحب(2/573)
التهذيب بالتعيين، قال: لو نذر صلاة في وقت معين غير أوقات النهي، تعين، فلا يجوز قبله، ولا يجوز التأخير عنه، وإذا لم يصل فيه، وجب القضاء. ولو نذر أن يصلي ضحوة، صلى في ضحوة أي يوم شاء، فلو صلى في غير الضحوة، لم يجزه. ولو عين ضحوة، فلم يصل فيها، قضى أي وقت كان من ضحوة وغيرها. ولو عين للصدقة وقتا، قال الصيدلاني: يجوز تقديمها على وقتها بلا خلاف. فرع لو نذر صوم أيام، مثل أن قال: لله تعالى علي صوم عشرة أيام، فالقول في أن المبادرة تستحب ولا تجب، وفي أنه إذا عينها هل تتعين ؟ على ما ذكرناه في اليوم الواحد. ويجري الخلاف في تعين الشهر والسنة المعينين. وحيث لا نذكره نحن ولا الاصحاب، نقتصر على الصحيح. ويجوز صومها متتابعة ومتفرقة، لحصول الوفاء بالمسمى. وإن قيد النذر بالتتابع، لزمه. فلو أخل به، فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين. ولو قيد بالتفريق، فوجهان. أحدهما: لا يجب التفريق، وأقربهما: أنه يجب، وبه قطع ابن كج، وصاحب التهذيب وغيرهما، لان التفريق معتبر في صوم التمتع. فعلى هذا، قالوا: لو صام عشرة متتابعة، حسبت له خمسة، ويلغى بعد كل يوم يوم. فرع لو نذر صوم شهر، نظر، إن عين كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم شهرا من الآن، فالصوم يقع متتابعا لتعين أيام الشهر. وليس التتابع مستحقا في نفسه، حتى لو أفطر يوما، لا يلزمه الاستئناف. ولو فاته الجميع، لا يلزمه التتابع في قضائه كرمضان فلو شرط التتابع، فوجهان. أحدهما: لا يلزمه، لان شرط التتابع مع تعيين الشهر لغو. وأصحهما وبه قطع العراقيون: يجب، حتى لو أفسد يوما، لزمه الاستئناف. وإذا فات، قضاه متتابعا. وإن أطلق وقال: أصوم شهرا، فله التفريق والتتابع. فإن فرق، صام ثلاثين يوما. وإن تابع وابتدأ بعد مضي بعض الشهر الهلالي، فكذلك، وإن ابتدأ في أول الشهر وخرج ناقصا، كفاه.(2/574)
فرع إذا نذر صوم سنة، فله حالان. أحدهما: أن يعين سنة متوالية، كقوله: أصوم سنة كذا، أو أصوم سنة من أول شهر كذا، أو من الغد فصيامها يقع متتابعا بحق الوقت، ويصوم رمضان عن فرضه، ويفطر العيدين، وكذا أيام التشريق، بناء على المذهب: أنه يحرم صومها، ولا يجب قضاؤها، لانها غير داخلة في النذر. وإذا أفطرت بحيض أو نفاس، ففي وجوب القضاء قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: لا يجب كالعيد، وبه قال الجمهور، وصححه أبو علي الطبري، وابن القطان، والروياني. ولو أفطر بالمرض، ففيه هذا الخلاف. ورجح ابن كج وجوب القضاء، لانه لا يصح أن تنذر صوم أيام الحيض، ويصح أن تنذر صوم أيام المرض. ولو أفطر بالسفر، وجب القضاء على المذهب، وقيل: على الخلاف، وبه قال ابن كج. وإذا أفطر بعض الايام بغير عذر، أثم ولزمه القضاء بلا خلاف. وسواء أفطر بعذر، أم بغيره، لا يلزمه الاستئناف. وإذا فات صوم السنة، لم يجب التتابع في قضائه كرمضان. هذا كله إذا لم يتعرض للتتابع. فإن شرط التتابع مع التعيين للسنة، فعلى الوجهين السابقين في الشهر. فإن قلنا: تجب رعايته فأفطر بغير عذر، وجب الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض، لم يجب. والافطار بالسفر والمرض، له حكم الشهرين المتتابعين. فإن قلنا: لا يبطل التتابع، ففي القضاء الخلاف السابق. ولو قال: لله علي صوم هذه السنة، تناول السنة الشرعية، وهي من المحرم إلى المحرم فإن كان مضى بعضها، لم يلزمه إلا صوم الباقي. فإن كان رمضان باقيا، لم يلزمه قضاؤه عن(2/575)
النذر، ولا قضاء العيدين. وفي التشريق والحيض والمرض، ما ذكرنا في جميع السنة. الحال الثاني: نذر صوم سنة وأطلق، نظر، إن لم يشرط التتابع، صام ثلاثمائة وستين يوما، أو اثني عشر شهرا بالهلال، وكل شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل. وإن انكسر شهر، أتمه ثلاثين. وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق، ولا يلزم التتابع. فإن صام سنة متوالية، قضى رمضان والعيدين والتشريق. ولا بأس بصوم يوم الشك عن النذر، وتقضي أيام الحيض، هذا الذي ذكرناه هو المذهب. وحكي وجه أنه لا يخرج عن نذره إلا بثلاثمائة وستين يوما. ووجه: أنه إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من شهر آخر إلى مثله، أجزاه، لانه يقال: صام سنة، ولا يلزمه قضاء رمضان والعيدين والتشريق. أما إذا شرط التتابع فقال: لله على أن أصوم سنة متتابعا، فيلزمه التتابع، ويصوم رمضان عن فرضه، ويفطر العيدين والتشريق. وهل يلزمه قضاؤها للنذر ؟ فيه طريقان. المذهب وهو المنصوص، وبه قطع الجمهور: أنه يلزمه القضاء على الاتصال بآخر المحسوب من السنة. والثاني: في وجوبه وجهان. أحدهما: لا يلزمه كالسنة المعينة، ثم يحسب بالشهر الهلالي وإن كان ناقصا. وإذا أفطر بلا عذر، وجب الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض لم يجب الاستئناف. وفي السفر والمرض، ما ذكرنا في الشهرين المتتابعين. ثم في قضاء أيام الحيض والمرض، الخلاف المذكور في الحال الاول. وإذا نذر صوم شهر بعينه، فقضاء ما يفطره لمرض أو حيض، على ما سبق في السنة. وكذا لو نذرت صوم يوم معين، فحاضت، ففي وجوب القضاء القولان. ولو نذرت صوم يوم غير معين، فشرعت في صوم، فحاضت، لزمها القضاء. فرع لو نذر صوم ثلاثمائة وستين يوما، لزمه صوم هذا العدد، ولا يجب(2/576)
التتابع. ولو قال: متتابعة، وجب التتابع، ويقضي لرمضان والعيدين والتشريق على الاتصال. وحكي وجه: أن التتابع يلغو هنا، وهو شاذ.
فصل من شرع في صوم تطوع فنذر إتمامه، لزمه إتمامه على الصحيح، ويجري الخلاف فيمن نذر أن يتم صوم كل يوم نوى فيه صوم النفل. وإذا أصبح ممسكا ولم ينو، فهو متمكن من صوم التطوع. فلو نذر أن يصوم، فقد أطلقوا في لزوم الوفاء قولين بناء على أن النذر ينزل على واجب الشرع، أم على ما يصح ؟ قال الامام: والذي أراه، اللزوم، قال: وقال الاصحاب: لو قال: علي أن أصلي ركعة واحدة، لم يلزمه إلا ركعة. ولو قال: علي أن أصلي كذا قاعدا، لزمه القيام عند القدرة إذا حملنا المنذور على واجب الشرع، وإنهم تكلفوا فرقا بينهما، قال: ولا فرق، فيجب تنزيلهما على الخلاف. فرع لو نذر صوم بعض يوم، لم ينعقد نذره على الاصح. وعلى الثاني، ينعقد وعليه صوم يوم كامل. وذكر في التتمة تفريعا على الانعقاد: أنه لو أمسك بقية نهاره عن النذر، أجزأه إن لم يكن أكل شيئا في أوله. فإن أكل، لا يجزئه على الصحيح. وقد سبق في كتاب الصوم وجه: أنه إذا نوى التطوع بعد الاكل، أجزأه. فعلى ذلك الوجه: يجزئه هذا عن نذره. ولو نذر أن يصلي بعض ركعة، ففي انعقاده وجهان كالصوم. ووجه الانعقاد: أنه قد يؤمر بفعل ما دون ركعة، ويثاب عليه، وهو ما إذا أدرك الامام بعد الركوع، حتى يدرك به فضيلة الجماعة في الركعة الاخيرة. قال في التتمة: فعلى هذا، يلزمه ركعة كاملة إن أراد أن يأتي بالمنذور منفردا. وإن اقتدى بإمام بعد الركوع في الركعة الاخيرة، خرج عن نذره، لانه أتى بما التزمه وهو قربة في نفسه. وقطع غيره، بأنه يلزمه ركعة مطلقا. ولو نذر ركوعا، لزمه ركعة باتفاق المفرعين. ولو نذر تشهدا، ففي التتمة: أنه يأتي بركعة يتشهد في آخرها، أو يقتدي بمن قعد للتشهد في آخر صلاته، أو يكبر ويسجد سجدة،(2/577)
ويتشهد على طريقة من يقول: سجود التلاوة يقتضي التشهد، فيخرج به عن نذره. ولو نذر سجدة فردة، فطريقان. في التتمة: أن السجدة قربة، بدليل سجدتي التلاوة والشكر. فيكون في انعقاد نذره، الوجهان في نذر عيادة المريض، وتشميت العاطس. فإن قلنا: لا ينعقد، فالحكم كما في الركوع، والطريق الثاني: لا ينعقد نذر السجدة قطعا، وهو الاصح، وبه قطع الشيخ أبو محمد بناء على الاصح، أنها ليست قربة بلا سبب. فرع لو نذر أن يحج هذه السنة. وهو على مائة فرسخ، ولم يبق إلا يوم واحد، فالمذهب: أنه لا ينعقد نذره، ولا شئ عليه. وقيل: في لزوم كفارة بذلك خلاف سبق نظائره. وقيل: ينعقد نذره، ويقضي في سنة أخرى. فرع لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ففي انعقاد نذره قولان أظهرهما عند الاكثرين: انعقاده. فعلى هذا، إن قدم ليلا، فلا صوم على الناذر، إذ لم يوجد يوم قدومه. ولو عنى باليوم الوقت، فالليل غير قابل للصوم، ويستحب أن يصوم الغد، أو يوما آخر. وإن قدم نهارا، فللناذر أحوال. أحدها: أن يكون مفطرا، فيلزمه أن يصوم عن نذره يوما. وهل نقول: لزمه بالنذر الصوم من أول اليوم، أم من وقت القدوم ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: الاول، وبه قال ابن الحداد. وتظهر فائدة الخلاف في صور. منها: لو نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم نصف النهار. إن قلنا بالاول، اعتكف باقي اليوم وقضى ما مضى. قال الصيدلاني: وله أن يعتكف يوما مكانه. والظاهر: أنه يتعين. وإن قلنا بالثاني، اعتكف باقي اليوم، وليس عليه شئ آخر.(2/578)
ومنها: إذا قال لعبده: أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان، فباعه ضحوة، ثم قدم فلان في بقية يومه، فإن قلنا بالاول، بان بطلان البيع وحرية العبد، وبه قال ابن الحداد، وإن قلنا بالثاني، فالبيع صحيح، ولا حرية. هذا إذا كان قدوم فلان بعد تفرقهما عن المجلس ولزوم العقد. أما لو قدم قبل انقضاء الخيار، فيحصل العتق على الوجهين، لانه إذا وجدت الصفة المعلق عليها، والخيار ثابت، حصل العتق. ولو مات السيد ضحوة، ثم قدم فلان، لم يورث عنه على الوجه الاول، ويورث على الثاني. ولو أعتقه عن كفارته، ثم قدم، لم يجزه على الاول، ويجزئه على الثاني. ومنها: لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم فلان، فماتت، أو مات الزوج في بعض الايام، ثم قدم فلان في بقية ذلك اليوم، فإن قلنا بالاول، بان أن الموت بعد الطلاق، فلا توارث بينهما إن كان الطلاق بائنا، وإن قلنا بالثاني، لم يقع الطلاق. ولو خالعها في صدر النهار، ثم قدم فلان في آخره، فعلى الاول يتبين بطلان الخلع إن كان الطلاق بائنا، وعلى الثاني، يصح الخلع، ولا يقع الطلاق المعلق. الحال الثاني: أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر، فيتم ما هو فيه، ويصوم لهذا النذر يوما آخر. واستحب الشافعي رحمه الله، أن يعيد الصوم الواجب الذي هو فيه، لانه بان أنه صام يوما مستحق الصوم، لكونه يوم قدوم فلان. قال في التهذيب: في هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم صامه عن نذر آخر أو قضاء، ينعقد، ويقضي نذر هذا اليوم. الحال الثالث: أنه يقدم وهو صائم تطوعا، أو غير صائم، لكنه ممسك، قال في التهذيب: ويكون ذلك قبل الزوال، فيبنى على أنه يلزمه الصوم من أول النهار، أم من وقت القدوم ؟ إن قلنا بالاول، لزمه صوم يوم آخر، ويستحب أن يمسك بقية النهار، وإن قلنا بالثاني، ففي التتمة: أنه يبنى على(2/579)
جواز نذر صوم بعض يوم. إن جوزناه، نوى إذا قدم، وكفاه ذلك، ويستحب أن يعيد يوما كاملا للخروج من الخلاف. وإن لم نجوزه، فلا شئ عليه، ويستحب أن يقضي. وقال في التهذيب: إن قلنا: يلزم الصوم من وقت القدوم، فهنا وجهان. أصحهما: يلزمه صوم يوم آخر. والثاني: يلزمه إتمام ما هو فيه، ويكون أوله تطوعا، وآخره فرضا. كمن دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، يلزمه الاتمام. هذا إذا كان صائما عن تطوع، وإن لم يكن صائما، نوى، ويصوم بقية النهار إن كان قبل الزوال. أما إذا تبين للناذر أن فلانا يقدم غدا، فنوى الصوم من الليل، ففي إجزائه عن نذره وجهان. أصحهما: يجزئه، وبه قطع الاكثرون، لانه بنى النية على أصل مظنون. وخص صاحب التتمة الوجهين بما إذا قلنا: يلزم الصوم من أول اليوم، قال: فإن قلنا باللزوم من وقت القدوم، لم يجزه. الحال الرابع: أن يقدم فلان يوم العيد، أو في رمضان، فهو كما لو قدم ليلا.
فصل إذا نذر صوم يوم الاثنين أبدا، لزمه الوفاء، تفريعا على الصحيح: أن الوقت المعين للصوم يتعين. ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا، فقدم يوم الاثنين، ففي انعقاد نذر ذلك اليوم الخلاف السابق، وسائر الاثانين تلزمه كما لو نذر صوم الاثانين. ولا يجب قضاء الاثانين الواقعة في رمضان، لكن لو وقع فيه خمسة أثانين، ففي قضاء الخامس قولان - وكذا لو وقع يوم عيد في يوم الاثنين - أظهرهما: لا قضاء كالاثانين في رمضان، وأيام التشريق كالعيد، بناء على المذهب: أنها لا تقبل الصوم. ولو صدر هذا النذر من امرأة، وأفطرت في بعض الاثانين بحيض أو نفاس، فالمذهب: أن القضاء على القولين كالعيد، وبه قطع(2/580)
الاكثرون. وقيل، يجب قطعا، لان واجبه شرعا يقضى، فكذا بالنذر. ثم الطريقان فيما إذا لم يكن لها عادة غالبة، فإن كانت، فعدم القضاء فيما يقع في عادتها أظهر، وقطع به بعضهم. وقيل: خلافه، لان العادة قد تختلف. ولو أفطر الناذر بعض الاثانين بالمرض، فالمذهب: وجوب القضاء، وبه قطع قاطعون، وقيل: هو على الخلاف فيمن نذر سنة بعينها. ولو لزمه صوم شهرين متتابعين عن كفارة، قدم صوم الكفارة على الاثانين، سواء تقدم وجوب الكفارة، أو تأخر، لانه يمكن قضاء الاثانين. ولو عكس، لم يتمكن من الكفارة، لفوات التتابع. ثم إن لزمت الكفارة بعد نذر الاثانين، قضى الاثانين الواقعة في الشهرين، لانه أدخل على نفسه صوم الشهرين بعد النذر وإن لزمت الكفارة قبله، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند صاحب التهذيب وطائفة من العراقيين: يجب القضاء، ويحكى عن رواية الربيع. والثاني: لا، وهو الاصح عند القاضيين أبي الطيب، وابن كج، وإمام الحرمين، والغزالي. قلت: الثاني: أصح. والله أعلم. ولو نذر أن يصوم شهرا متتابعا، أو شهرين، أو أسبوعا، ثم نذر الاثانين، فإن لم يعين الشهر، أو الشهرين، فهو كما لو لزمته الكفارة، ثم نذر الاثانين. وإن عين، ففي التتمة: أنه يبنى على أنه إذا عين وقتا للصوم، هل يجوز أن يصوم فيه عن قضاء، أو نذر آخر ؟ وقد سبق فيه الخلاف. فإن جوزناه، فهو كما لو لم يعين. وإن لم نجوزه، فحكم ذلك الشهر حكم رمضان، وبهذا قطع صاحب التهذيب. وقال أيضا: إذا صادف نذران زمانا معينا، فيحتمل أن يقال: لا ينعقد النذر الثان، وطرد هذا الاحتمال فيما إذا قال: إن قدم زيد، فلله علي أن أصوم اليوم التالي لقدومه، وإن قدم عمرو، فلله علي أن أصوم أول خميس بعد قدومه، فقدما معا يوم الاربعاء. ونقل أنه يصوم عن أول نذر نذره، ويقضي يوما للنذر الثاني. وفي تعليق الشيخ أبي حامد وغيره: أنه لو نذر أن يصوم أول خميس بعد شفاء مريضه، ونذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فشفي المريض، وأصبح الناذر في أول الخميس(2/581)
صائما، فقدم فيه فلان، يقع صوما عما نواه، والنذر للآخر. فإن قلنا: لا ينعقد، فلا شئ عليه. وإن قلنا: ينعقد، قضى عنه يوما آخر.
فصل إذا نذر صوم الدهر، انعقد نذره، ويستثنى عنه أيام العيد، وأيام التشريق، وقضاء رمضان. وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر. فلو لزمه كفارة بعد النذر، فالمذهب: أنه يصوم عنها ويفدي عن النذر. وقال في التتمة: يبنى على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أم جائزة ؟ إن قلنا بالاول، لم يصم عن الكفارة، ويصير كالعاجز عن جميع الخصال، وإن قلنا بالثاني، صام عن الكفارة. ثم إن لزمت بسبب هو فيه مختار، لزمه الفدية، وإلا، فلا. ولو أفطر في رمضان بعذر أو غيره، لزمه القضاء، ويقدمه على النذر، كما يقدم الاداء. ثم أن أفطر بعذر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته. ولو أفطر يوما، فلا سبيل إلى قضائه، لاستغراق العمر. ثم إن كان بعذر مرض، أو سفر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته. قال الامام: ولو نوى في بعض الايام قضاء يوم أفطره متعديا، فالوجه: أنه يصح وإن كان الواجب غير ما فعل، ثم يلزمه المد لما ترك من الاداء في ذلك اليوم. وينبغي أن يكون في صحته الخلاف السابق في أن الزمن المعين لصوم النذر، هل يصح فيه غيره لان أيام عمره متعينة للنذر ؟ قال الامام: وهل يجوز أن يصوم عن المفطر المتعدي وليه في حياته تفريعا على أنه يصوم عن الميت وليه ؟ الظاهر: جوازه، لتعذر القضاء منه. وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له، ويتصور تكلف القضاء منه، وقد يستفاد مما ذكره الامام: أنه إذا سافر، قضى ما أفطر فيه متعديا، وينساق النظر إلى أنه هل يلزمه أن يسافر ليقضى ؟ فصل لو نذر صوم يوم العيد، لم ينعقد، كما لو نذرت صوم يوم الحيض. ولو نذر صوم أيام التشريق، لم ينعقد على المذهب. وإذا جوزنا على وجه صومها لغير المتمتع، ففي انعقادها وجهان، كنذر الصلاة في وقت الكراهة. والاصح: أنه لا ينعقد نذر صوم يوم الشك، ولا الصلاة في الاوقات المكروهة. النوع الثاني من الملتزمات: الحج، والعمرة. الحج والعمرة، يلزمان بالنذر، فإذا نذرهما ماشيا، فهل يلزمه المشي، أم له الركوب ؟ فيه قولان. أظهرهما: الاول، وهما مبنيان على أن الحج ماشيا أفضل،(2/582)
أم راكبا ؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: المشي أفضل. والثاني: الركوب أفضل. والثالث: هما سواء. وقال ابن سريج: هما سواء ما لم يحرم. فإذا أحرم، فالمشي أفضل. قال الغزالي في الاحياء: من سهل عليه المشي، فهو أفضل في حقه، ومن ضعف وساء خلقه لو مشى، فالركوب أفضل. فان قلنا المشى افضل لزمه النذر وان قلنا الركوب أو سوينا لم يلزمه المشى بالنذر قلت: الصواب: أن الركوب أفضل وإن كان الاظهر لزوم المشي بالنذر، لانه مقصود. والله أعلم. ويتفرع على لزوم المشي مسائل. إحداها: لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ، هل يلزمه المشي قبل الاحرام ؟ وجهان. أصحهما: نعم، فلو أطلق الحج ماشيا، فإن قلنا: لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح به، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: يلزمه من وقت الاحرام، سواء أحرم من الميقات أو قبله، وبهذا قطع جماعة. وبنى صاحب التتمة الوجهين على أنه من أين يلزمه الاحرام ؟ فعن أبي إسحاق: من دويرة أهله. وعن غيره: من الميقات. فعلى الاول: يمشي من دويرة أهله. وعلى الثاني: من الميقات. ولو قال: أمشي حاجا، فالصحيح أنه كقوله: أحج ماشيا. ومقتضى كل واحد منهما، اقتران الحج والمشي. وفيه (وجه) أن قوله: أمشي حاجا، يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج. الثانية: في نهاية المشي طريقان. المذهب: أنه يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين، وبهذا قطع الجمهور، وهو المنصوص، وله الركوب بعد التحللين وإن بقي عليه الرمي أيام منى. والطريق الثاني: فيه وجهان حكاهما الامام. أحدهما: هذا. والثاني: له الركوب بعد التحلل الاول. وأما العمرة، فليس لها إلا بحلل واحد، فيمشي حتى يفرغ منها. والقياس: أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها، فله أن يركب، ولم يذكروه.(2/583)
الثالثة: لو فاته الحج، لزمه القضاء ماشيا. وإذا تحلل في سنة الفوات بأعمال عمرة، هل يلزمه المشي في تلك الاعمال ؟ قولان: أظهرهما عند الاكثرين: لا يلزمه، لانه خرج بالفوات عن أن يجزئه عن نذره. ولو فسد الحج بعد الشروع فيه، فهل يجب المشي في المضي في فاسده ؟ فيه القولان. الرابعة: لو ترك المشي بعذر، بأن عجز، فحج راكبا، وقع حجه عن النذر. وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة الدم ؟ قولان. أحدهما: لا، كما لو نذر الصلاة قائما، فعجز، صلى قاعدا ولا شئ عليه. وأظهرهما: اعم. فعلى هذا، يلزمه شاة على المشهور. وفي قول: بدنة، وإن ترك المشي مع القدرة، فحج راكبا، فقد أساء. وفيه قولان: القديم. لا تبرأ ذمته من حجه، بل عليه القضاء، لانه لم يأت به على صفته الملتزمة. والاظهر: أنه تبرأ ذمته. فعلى هذا، هل يلزمه الدم ؟ قولان، أو وجهان. أظهرهما: نعم. وهل هو شاة، أم بدنة ؟ فيه الخلاف السابق. فرع من نذر حجا، استحب أن يبادر إليه في أول سني الامكان. فإن مات قبل الامكان، فلا شئ عليه كحجة الاسلام. وإن مات بعده، أحج عنه من ماله ؟ وإن عين في نذره سنة، تعينت على الصحيح كالصوم، فلو حج قبلها، لم يجزئه. ولو قال: أحج في عامي هذا، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام، لزمه الوفاء تفريعا على الصحيح. فإن لم يفعل مع الامكان، صار دينا في ذمته يقضيه بنفسه. فإن مات ولم يقض، أحج عنه من ماله. وإن لم يمكنه، قال في التتمة: إن كان مريضا وقت خروج الناس، ولم يتمكن من الخروج معهم، أو لم يجد رفقة، وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه، فلا قضاء عليه، لان المنذور حج في تلك السنة، ولم يقدر عليه، وكما لا تستقر حجة الاسلام والحالة هذه. ولو صده عدو أو سلطان بعد ما أحرم حتى مضى العام، قال الامام: إذا امتنع عليه الاحرام للعدو، فالمنصوص: أنه لا قضاء. وخرج ابن سريج قولا: أنه يجب، وبه قال المزني. كما لو قال: أصوم غدا، فأغمي عليه حتى مضى الغد، يجب القضاء. والمذهب: الاول. ولو منعه عدو أو سلطان وحده، أو منعه رب الدين وهو لا يقدر على وفائه، لم يلزمه القضاء على الاظهر. ولو منعه المرض بعد الاحرام، فالمذهب وجوب القضاء، وبه قطع الجمهور، ولا ينزل منزلة الصد،(2/584)
لانه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض. وحكى الامام عن الاصحاب، تخريجه على الخلاف في الصد، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد الاستطاعة. وإذا رأيت كتب الاصحاب، وجدتها متفقة على أن الحجة المنذورة في ذلك، كحجة الاسلام، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائط فرض الحج، وجب الوفاء واستقر في الذمة، وإلا، فلا. والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه، كالمرض. ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر، أو طرأ العضب ولم يجد المال حتى مضت السنة المعينة، فلا قضاء عليه. ولو نذر صلاة، أو صوما أو اعتكافا في وقت معين، فمنعه عما نذر عدو أو سلطان، لزمه القضاء، بخلاف الحج، لان الواجب بالنذر، كالواجب بالشرع، وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز، فلزما بالنذر. والحج لا يجب إلا بالاستطاعة. فرع إذا نذر حجات كثيرة، انعقد نذره، ويأتي بهن على توالي السنين بشرط الامكان. فإن أخر، استقر في ذمته ما أخره. فإذا نذر عشر حجات، ومات بعد خمس سنين أمكنه الحج فيهن، قضي من ماله خمس حجات. ولو نذرها المعضوب، ومات بعد سنة وكان يمكنه أن يحج عن نفسه الحجج العشر في تلك السنة، قضيت من ماله. وإن لم يف ماله إلا بحجتين أو ثلاث، لم يستقر إلا المقدور عليه. فرع من نذر الحج، لزمه أن يحج بنفسه، إلا أن يكون معضوبا فيحج عن نفسه. فرع لو نذر الحج راكبا، فإن قلنا: المشي أفضل، أو سوينا بينهما، فإن شاء مشى، وإن شاء ركب. وإن قلنا: الركوب أفضل، لزمه الوفاء. فإن مشى، فعليه دم. وقال صاحب التهذيب: عندي أنه لا دم، لانه عدل إلى أشق الامرين. ولو نذر أن يحج حافيا، فله لبس النعلين، ولا شئ عليه. فرع يخرج الناذر عن حج النذر بالافراد، وبالتمتع، وبالقران. وإذا نذر القران، فقد التزم النسكين. فإن أتى بهما مفردين، فقد أتى بالافضل، وخرج عن(2/585)
نذره. وإن تمتع، فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين، فقرن، أو تمتع وقلنا بالمذهب: إن الافراد أفضل، فهو كما لو نذر الحج ماشيا وقلنا: المشي أفضل، فحج راكبا. فرع من نذر أن يحج، وعليه حجة الاسلام، لزمه للنذر حجة أخرى، كما لو نذر أن يصلي، وعليه صلاة الظهر، يلزمه صلاة أخرى. النوع الثالث: إتيان المساجد. فإذا قال: لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو آتيه، أو أمشي إلى البيت الحرام، لزمه إتيانه على المذهب. وقيل: في لزومه قولان. ولو قال: أمشي إلى بيت الله، أو آتيه، ولم يقل: الحرام، فوجهان، أو قولان. أحدهما: يحمل على البيت الحرام. وأصحهما: لا ينعقد نذره، إلا أن ينوي البيت الحرام. ولو قال: أمشي إلى الحرام، أو المسجد الحرام، أو إلى مكة، أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم، كالصفا، والمروة، ومسجد الخيف، ومنى، ومزدلفة، ومقام إبرهيم، وقبة زمزم، وغيرها، فهو كما لو قال: إلى بيت الله الحرام. حتى لو قال: آتي دار أبي جهل، أو دار الخيزران، كان الحكم كذلك، لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره. ولو نذر أن يأتي عرفات، فإن أراد التزام الحج وعبر عنه بشهود عرفة، أو نوى أن يأتيها محرما، انعقد نذره بالحج. فإن لم ينو ذلك، لم ينعقد نذره، لان عرفات من الحل، فهو كبلد آخر. وعن ابن أبي هريرة: أنه إن نذر إتيان عرفات يوم عرفات، لزمه أن يأتيها حاجا. وقيد في التتمة هذا الوجه بما إذا قال ذلك يوم عرفة بعد الزوال. وعن القاضي حسين: الاكتفاء بأن يحصل له شهودها يوم عرفة، وربما قال بهذا الجواب على الاطلاق. والصحيح، ما قدمناه. ولو قال: آتي مر(2/586)
الظهران، أو بقعة أخرى قريبا من الحرم، لم يلزمه شئ قطعا، وسواء في لزوم الاتيان، لفظ المشي، والاتيان، والانتقال، والذهاب، والمضي، والمصير، والمسير، ونحوها. ولو نذر أن يمس بثوبه حطيم الكعبة، فهو كما لو نوى إتيانها. ولو نذر أن يأتي مسجد المدينة، أو المسجد الاقصى، ففي لزوم إتيانهما قولان. قال في البويطي: يلزم، وقال في الام: لا يلزم، ويلغو النذر. وهذا هو الاظهر عند العراقيين والروياني وغيرهم. التفريع: إن قلنا بالمذهب: إنه يلزم إتيان المسجد الحرام بالتزامه، قال الصيدلاني وغيره: إن حملنا النذر على الواجب شرعا، لزمه حج أو عمرة، وهذا نص الشافعي رحمه الله في المسألة، وهو المذهب. وإن قلنا: لا يحمل على الواجب، بني على أصل آخر، وهو أن دخول مكة هل يقتضي الاحرام بحج أو عمرة، أم لا ؟ إن قلنا: نعم، فإذا أتاه، لزمه حج أو عمرة. وإن قلنا: لا، فهو كمسجد المدينة والاقصى، ففيه القولان في أنه هل يلزم إتيانه ؟ وإذا لزم، فتفريعه كتفريع المسجدين. أما إذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والاقصى، فهل يلزمه مع الاتيان شئ آخر ؟ وجهان. أحدهما: لا، إذ لم يلتزمه. وأصحهما: نعم، إذ الاتيان المجرد ليس بقربة. فعلى هذا فيما يلزمه أوجه. أحدها: يتعين أن يصلي في المسجد الذي أتاه. قال الامام: الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان، بل يكفيه ركعة قولا واحدا. وذكر ابن الصباغ والاكثرون: أنه يصلي ركعتين. قال ابن القطان: وهل يكفي أن يصلي فريضة، أم لا بد من صلاة زائدة ؟ وجهان بناء على وجهين فيمن نذر أن يعتكف شهرا بصوم، فهل يكفيه أن يعتكف في رمضان ؟ والوجه الثاني: يتعين أنه يعتكف فيه ولو ساعة، لان الاعتكاف أخص القربات بالمسجد. والثالث وهو الاصح: يتخير بينهما، وبه قطع في التهذيب. وقال الشيخ أبو علي: يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتوقف فيه الامام من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد، أو(2/587)
صام يوما، كفاه. والظاهر: الاكتفاء بالزيارة. وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة المسجدين، وأوجبنا ضم قربة إلى الاتيان، ففي تلك القربة أوجه. أحدها: الصلاة. والثاني: الحج أو العمرة. والثالث: يتخير. قال الامام: ولو قيل: يكفي الطواف، لم يبعد. ثم مهما قال: أمشي إلى بيت الله الحرام، لم يكن له الركوب على الاصح، بل يلزمه المشي كما سبق فيما إذا قال: أحج ماشيا. والوجه الآخر: يمشي من الميقات. وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين: أنه لا خلاف بين الاصحاب أنه يمشي من دويرة أهله. لكن يحرم من دويرة أهله، أم من الميقات ؟ وجهان. قال أبو إسحق: من دويرة أهله. وقال صاحب الافصاح: من الميقات، وهو الاصح. ولو قال: أمشي إلى مسجد المدينة، أو الاقصى، وأوجبنا الاتيان، ففي وجوب المشي وجهان. أصحهما: الوجوب. ولو كان لفظ الناذر الاتيان، أو الذهاب، أو غيرهما مما سوى المشي، فله الركوب بلا خلاف. وأما إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة، فلا ينعقد نذره، إذ ليس في قصدها قربة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد... الحديث. قال الامام: كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه(2/588)
المساجد الثلاثة، وربما كان يقول: يحرم. قال: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو على، ومقصود الحديث، تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة. قال الشيخ أبو علي واعلم أنه سبق في الاعتكاف، أن من عين بنذره مسجد المدينة، أو الاقصى للاعتكاف، تعين على الاظهر. والفرق: أن الاعتكاف عبادة في نفسه، وهو مخصوص بالمسجد، فإذا كان للمسجد فضل، فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة، والاتيان بخلافه، ويوضحه: أنه لا خلاف في أنه لو نذر إتيان سائر المساجد، لم يلزمه، وفي مثله في الاعتكاف خلاف. فرع إذا نذر الصلاة في موضع معين، لزمه الصلاة لا محالة، ثم إن عين المسجد الحرام، تعين للصلاة الملتزمة. وإن عين مسجد المدينة أو الاقصى، فطريقان. قال الاكثرون: في تعيينه القولان في لزوم الاتيان. وقطع المراوزة بالتعين، والتعيين هنا أرجح كالاعتكاف، وإن عين سائر المساجد والمواضع، لم يتعين. وإذا عين مسجد المدينة أو الاقصى للصلاة، وقلنا بالتعيين، فصلى في المسجد الحرام، خرج عن نذره على الاصح، بخلاف العكس. وهل تقوم الصلاة في أحدهما مقام الصلاة في الآخر ؟ وجهان. قلت: فيه وجه ثالث: أنه يقوم مسجد المدينة مقام الاقصى، دون عكسه.(2/589)
وهذا هو الاصح، ونص عليه في البويطي. والله أعلم. وذكر الامام، أنه لو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في غيره ألف صلاة، لم يخرج عن نذره، كما لو نذر ألف صلاة، لا يخرج عن نذره بصلاة واحدة في مسجد المدينة وإن شيخه كان يقول: لو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أطراف المسجد، خرج عن نذره. فرع قد سبق أن المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام، أنه يجب قصده بالحج أو العمرة. فلو قال في نذره: أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة، فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره ويلغو قوله: بلا حج ولا عمرة. والثاني: لا ينعقد، ثم إذا أتاه، فإن أوجبنا إحراما لدخول مكة، لزمه حج أو عمرة. وإن قلنا: لا، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والاقصى. قلت: أصحهما: ينعقد. والله أعلم. فرع لو قال: أصلي الفرائض في المسجد. قال في الوسيط: يلزمه إذا قلنا: صفات الفرائض تفرد بالالتزام. فرع قال القاضي ابن كج: إذا نذر أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا. ولو نذر أن يزور قبر غيره، فوجهان. فرع قال في التتمة: لو قال: أمشي، ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا، انعقد النذر إلى ما نوى، وإن نوى إلى بيت الله الحرام، جعل ما نواه كأنه تلفظ به. النوع الرابع: الهدايا والضحايا. إذا نذر ذبح حيوان، ولم يتعرض لهدي ولا أضحية، بأن قال: لله علي أن أذبح هذه البقرة، أو أنحر هذه البدنة، فإن قال مع ذلك: وأتصدق بلحمها، أو نواه، لزمه الذبح والتصدق. وإن لم يقله ولا نواه، فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره، ويلزمه الذبح والتصدق. وأصحهما: لا ينعقد. ولو نذر أن يهدي بدنة أو شاة إلى مكة، أو أن يتقرب بسوقها إليها ويذبحها ويفرق لحمها على فقرائها، لزمه الوفاء، ولو لم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم، لزمه الذبح بها أيضا. وفي تفرقة اللحم بها وجهان. أحدهما: لا تجب تفرقته بها إلا أن ينوي،(2/590)
بل له أن يفرق في موضع آخر. وأصحهما: الوجوب. ولو نذر أن يذبح خارج الحرم ويفرق اللحم في الحرم على أهله. قال في التتمة: الذبح خارج الحرم لا قربة فيه، فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم، وكأنه نذر أن يهدي إلى مكة لحما. ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرق اللحم على فقراء بلد آخر، وفى بما التزم. ولو قال: لله علي أن أنحر أو أذبح بمكة، ولم يتعرض للفظ القربة والتضحية، ولا التصدق باللحم، ففي انعقاد نذره وجهان. أصحهما: الانعقاد، وبه قطع الجمهور. وعلى هذا في وجوب التصدق باللحم على فقرائها الوجهان السابقان. ولو نذر الذبح بأفضل بلد، كان كنذر الذبح بمكة، فإنها أفضل البلاد. ولو نذر الذبح أو النحر ببلدة أخرى ولم يقل مع ذلك: وأتصدق على فقرائها، ولا نواه، فوجهان، أو قولان. أصحهما وهو نصه الام: لا ينعقد. والثاني: ينعقد. فإن قلنا: ينعقد لو تلفظ مع ذلك بالتصدق أو نواه، فهل يتعين التصدق باللحم، على فقرائها، أم يجوز نقله إلى غيرهم ؟ فيه طريقان. المذهب: أنهم يتعينون. وقيل: فيه خلاف مأخوذ من نقل الصدقة. فإن قلنا: لا يتعينون، لم يجب الذبح بتلك البلدة، بخلاف مكة، فإنها محل ذبح الهدايا. وإن قلنا: يتعينون، فوجهان. أحدهما: لا يحب الذبح بها، بل لو ذبح خارجها ونقل اللحم إليها طريا، جاز، وبهذا قطع صاحب التهذيب وجماعة. والثاني: تتعين إراقة الدم بها كمكة، وبهذا قطع العراقيون وحكوه عن نصه في الام. ولو قال: أضحي ببلد كذا، وأفرق اللحم على أهلها، انعقد نذره، ويغني ذكر التصدق، ونيته. وجعل الامام وجوب التفرقة على أهلها وجوب الذبح بها على الخلاف السابق. قال: ولو اقتصر على قوله: أضحي بها، فهل يتضمن ذلك تخصيص التفرقة بهم ؟ وجهان. الصحيح الذي جرى عليه الائمة: أنه تجب التفرقة والذبح بها. وفي فتاوى القفال: أنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بعشرة على فلان، فشفاه الله تعالى، لزمه التصدق عليه. فإن لم يقبل، لم يلزمه شئ. وهل لفلان مطالبته بالتصدق بعد الشفاء ؟ يحتمل أن يقال: نعم، كما لو نذر إعتاق عبد معين إن شفي، فشفي، له المطالبة بالاعتاق، وكما لو وجبت الزكاة والمستحقون في البلد محصورون، لهم المطالبة. فصل إذا قال: لله علي أن أضحي ببدنة أو أهدي بدنة. قال الامام:(2/591)
البدنة في اللغة: الابل، ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة، أو سبعا من الغنم. وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: اسم البدنة يقع على الابل والبقر والغنم جميعا. ثم له حالان. أحدهما: أن يطلق التزام البدنة، فله إخراجها من الابل. وهل له العدول إلى بقرة أو سبع من الغنم ؟ فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا. والثاني: نعم. والصحيح المنصوص: أنه إن وجدت الابل، لم يجز العدول، وإلا جاز. الحال الثاني: أن يقيد فيقول: علي أن أضحي ببدنة من الابل أو ينويها، فلا يجزئه غير الابل إذا وجدت بلا خلاف، فإن عدمت، فوجهان. أحدهما: يصبر إلى أن يجدها ولا يجزئه غيرها. والصحيح المنصوص: أن البقرة تجزئه بالقيمة. فإن كانت قيمة البقرة دون قيمة البدنة من الابل، فعليه إخراج الفاضل. وفي وجه: لا تعتبر القيمة كما في حالة الاطلاق. والصحيح: الاول. واختلفوا في كيفية إخراج الفاضل، ففي الكافي للقاضي الروياني: أنه يشتري به بقرة أخرى إن أمكن، وإلا، فهل يشتري به شقصا، أو يتصدق به على المساكين ؟ وجهان. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يتصدق به. وقال المتولي: يشارك إنسانا في بدنة أو بقرة، أو يشتري به شاة. وإذا عدل إلى الغنم في هذه الحالة، اعتبرت القيمة أيضا. ثم نقل الروياني في جمع الجوامع: أنه إذا لم يجد الابل في حالة التقييد، يتخير بين البقرة والغنم، لان الاعتبار بالقيمة. والذي ذكره ابن كج والمتولي: أنه لا يعدل إلى الغنم مع القدرة على البقرة، لانها أقرب. ولو وجد ثلاث شياه بقيمة البدنة، فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، بل عليه ان يتم السبع من عنده. والثاني: تجزئه لوفائهن بالقيمة، قاله أبو الحسين النسوي من أصحابنا شيخ كان في زمن أبي إسحق وابن خيران. ولو نذر شاة، فجعل بدلها بدنة، جاز. وهل يكون الكل فرضا ؟ وجهان. فرع في الصفات المعتبرة في الحيوان المنذور مطلقا فإذا قال: لله علي أن أهدي بعيرا، أو بقرة، أو شاة، فهل يشترط فيه السن المجزئ في الاضحية والسلامة من العيوب ؟ قولان بناء على أن مطلق النذر يحمل على أقل ما وجب من ذلك الجنس، أو على أقل ما يتقرب به. والاول: أظهر. ولو قال:(2/592)
أضحي ببعير، أو بقرة، ففيه مثل هذا الخلاف. قال الامام: وبالاتفاق لا يجزئ الفصيل، لانه لا يسمى بعيرا، ولا العجل إذا ذكر البقرة، ولا السخلة إذا ذكر الشاة. ولو قال: أضحي ببدنة أو أهدي بدنة، جرى الخلاف. ورأى الامام هذه الصورة أولى باشتراط السن والسلامة. ولو قال: لله علي هدي، أو أن أهدي ولم يسم شيئا، ففيه القولان إن حملنا على أقل ما يتقرب به من جنسه، خرج عن نذره بكل منحة حتى الدجاجة والبيضة وكل ما يتمول، لوقوع الاسم عليه. وعلى هذا، فالصحيح: أنه لا يجب إيصاله مكة، وصرفه إلى فقرائها، بل يجوز التصدق به على غيرهم. وينسب هذا القول إلى الاملاء والقديم. وإن حملنا على أقل ما يجب من جنسه، حمل على ما يجزئ في الاضحية، وينسب هذا إلى الجديد. وعلى هذا يجب إيصاله مكة، فإن محل الهدي الحرم. وفيه وجه ضعيف: أنه لا يجب إلا أن يصرح به. فرع ولو نذر ولو قال: علي أن أهدي الهدي، حمل على المعهود الشرعي بلا خلاف. فرع ولو نذر أن يهدي مالا معينا، وجب صرفه إلى مساكين الحرم. وفيه وجه ضعيف: أنهم لا يتعينون. ثم ينظر، إن كان المعين من النعم، بأن قال: أهدي هذه البدنة أو الشاة، وجب التصدق بها بعد الذبح، ولا يجوز التصدق بها حية، لان في ذبحها قربة، ويجب الذبح في الحرم على الاصح. وعلى الثاني: يجوز أن يذبح خارج الحرم، بشرط أن ينقل اللحم إليه قبل أن يتغير. وإن كان من غير النعم وتيسر نقله إلى الحرم، بأن قال: أهدي هذه الظبية، أو الطائر، أو الحمار، أو الثوب، وجب حمله إلى الحرم. وأطلق مطلقون: أن مؤنة النقل على الناذر، فإن لم يكن له مال، بيع بعضه لنقل الباقي. وأستحسن ما حكي عن القفال: أنه إن قال: أهدي هذا، فالمؤنة عليه، وإن قال: جعلته هديا، فالمؤنة فيه، يباع بعضه. لكن مقتضى جعله هديا، أن يوصل كله الحرم، فيلتزم مؤنته، كما لو قال: أهدي. ثم إذا بلغ الحرم، فالصحيح: أنه يجب صرفه إلى مساكين الحرم. لكن لو نوى صرفه إلى تطييب الكعبة، أو جعل الثوب سترا لها، أو قربة أخرى هناك، صرفه إلى ما نوى. وفيه وجه: أنه وإن أطلق، فله صرفه إلى ما يرى. ووجه أضعف منه: أن الثوب الصالح للستر، يحمل عليه عند الاطلاق. قال الامام: قياس المذهب والذي صرح به الائمة: أن ذلك المال المعين، يمتنع بيعه(2/593)
وتفرقة ثمنه، بل يتصدق بعينه، وينزل تعيينه منزل تعيين الاضحية والشاة في الزكاة، فيتصدق بالظبية والطائر وما في معناهما حيا، ولا يذبحه، إذ لا قربة في ذبحه. ولو ذبحه فنقصت القيمة، تصدق باللحم وغرم ما نقص. وفي التتمة وجه آخر ضعيف: أنه يذبح. وطردهما فيما إذا أطلق ذكر الحيوان وقلنا: لا يشترط أن يهدي ما يجزئ في الاضحية. أما إذا نذر إهداء بعير معيب، فهل يذبحه ؟ وجهان. أحدهما: نعم، نظرا إلى جنسه. وأصحهما: لا، لانه لا يصلح للتضحية كالظبية. أما إذا كان المال المعين مما لا يتيسر نقله، كالدار، والارض، والشجر، وحجر الرحى، فيباع وينقل ثمنه فيتصدق به على مساكين الحرم. قال في التهذيب: ويتولى الناذر البيع والنقل بنفسه. فرع في مسائل من الام لو قال: أنا أهدي هذه الشاة نذرا، لزمه أن يهديها، إلا أن تكون نيته: إني سأحدث نذرا، أو سأهديها. ولو نذر أن يهدي هديا، ونوى بهيمة، أو جديا، أو رضيعا، أجزأه. والقولان السابقان فيما إذا أطلق نذر الهدي، ولم ينو شيئا. ولو نذر أن يهدي شاة عوراء، أو عمياء، أو ما لا يجوز التضحية به، أهداه، ولو أهدى تاما، كان أفضل.
فصل في مسائل منثورة
إحداها: إذا نذر الصوم في بلد، لم يتعين، بل له أن يصوم حيث شاء، سواء عين مكة أو غيرها. وفي وجه شاذ: إذا عين الحرم، اختص به. الثانية: ستر الكعبة وتطييبها من القربات، سواء سترها بالحرير وغيره. ولو نذر سترها وتطييبها، صح نذره. وإذا نذر أن يجعل ما يهديه في رتاج الكعبة وطيبها، قال إبرهيم المروذي: ينقله إليها ويسلمه إلى القيم ليصرفه في الجهة المذكورة، إلا أن يكون ند نص في نذره أنه يتولى ذلك بنفسه. ولو نذر تطييب مسجد المدينة، أو الاقصى، أو غيرهما من المساجد، ففيه تردد للامام. ومال الامام إلى تخصيصه بالكعبة، والمسجد الحرام. الثالثة: نقل القاضي ابن كج وجهين فيمن قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعجل زكاة مالي، هل يصح نذره ؟ ووجهين فيمن قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أذبح عن ولدي، هل يلزمه الذبح عن ولده، لان الذبح عن(2/594)
الاولاد مما يتقرب به ؟ ووجهين فيما إذا قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أذبح ابني، فإن لم يجز فشاة مكانه، هل يلزمه ذبح شاة ؟ ووجهين فيما إذا نذر النصراني أن يصلي أو يصوم، ثم أسلم، هل يلزمه أن يصلي صلاة شرعنا وصومه ؟ قلت: الاصح في الصورة الثانية: الصحة. وفي الباقي: البطلان. والله أعلم. الرابعة: في فتاوى القفال: أنه لو نذر أن يضحي بشاة، ثم عين شاة لنذره، فلما قدمها للذبح صارت معيبة، لا تجزئ. ولو نذر أن يهدي شاة، ثم عين شاة، وذهب بها إلى مكة، فلما قدمها للذبح تعيبت، أجزأته، لان الهدي ما يهدى إلى الحرم، وبالوصول إليه حصل الاهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح. الخامسة: قال صاحب التقريب: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أشتري بدرهم خبزا وأتصدق به، لا يلزمه الشراء، بل يلزمه أن يتصدق بخبز قيمته درهم. السادسة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله على رجلي حج ماشيا، صح نذره، إلا أن يريد إلزام الرجل حاجة. ولو قال: على نفسي أو رقبتي، صح. السابعة: إذا نذر إعتاق رقبة وكان عليه رقبة عن كفارة، فأعتق رقبتين، ونواهما عن الواجب، أجزأه وإن لم يعين، كما لو كان عليه كفارتان مختلفتان. الثامنة: لو نذر صلاتين، لم يخرج عن نذره بأربع ركعات بتسليمة واحدة. التاسعة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بشئ، صح نذره، ويتصدق بما شاء من قليل وكثير. ولو قال: فعلي ألف، ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية، لم يلزمه شئ. العاشرة: ولو نذر صوم شهر، ومات قبل إمكان الصوم، يطعم عنه عن كل يوم مد، بخلاف ما لو لزمه قضاء رمضان لمرض، أو سفر، ومات قبل إمكان القضاء، لا يطعم عنه، لان المنذور مستقر بنفس النذر، قاله القفال، وبنى على هذا: أنه لو(2/595)
حلف وحنث في يمينه وهو معسر فرضه الصيام، فمات قبل الامكان، يطعم عنه. وأنه لو نذر حجة، ومات قبل الامكان، يحج عنه، وهذا بخلاف ما قدمناه في الحج. الحادية عشرة: قال القفال: من التزم بالنذر أن لا يكلم الآدميين، يحتمل أن يقال: يلزمه، لانه مما يتقرب به، ويحتمل أن يقال: لا، لما فيه من التضييق والتشديد، وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس. قلت: الاحتمال الثاني أصح. واعلم أنه ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر. وفي فتاوى القاضي حسين: أنها لو كانت تلد أولادا ويموتون، فقالت: إن عاش لي ولد، فلله علي عتق رقبة، قال: يشترط للزوم العتق أن يعيش لها ولد أكثر مما عاش أكبر أولادها الموتى، وإن قلت تلك الزيادة. وقال العبادي: متى ولدت حيا، لزمها العتق وإن لم يعش أكثر من ساعة، لانه عاش. والاول: أصح. وأنه لو نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها، لا ينعقد. وأنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدينار، فشفى، فاراد التصدق به على ذلك المريض وهو فقير، فان كان لا يلزمه نفقه، جاز، والا، فلا. وانه لو قال إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق على ولدى أو على زيد وزيد موسر يلزمه الوفا لان الصدقة على الغنى جائزه وقربه وإنه لو نذر صوم سنه معينه ثم قال ان شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم الاثانين من هذه السنة. قال: لا ينعقد نذر الثاني، لان الزمان مستحق لغيره. وقال العبادي: ينعقد ويلزمه القضاء. قيل له: لو كان له عبد فقال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتقه، ثم وفي فتاوى القاضي حسين: أنها لو كانت تلد أولادا ويموتون، فقالت: إن عاش لي ولد، فلله علي عتق رقبة، قال: يشترط للزوم العتق أن يعيش لها ولد أكثر مما عاش أكبر أولادها الموتى، وإن قلت تلك الزيادة. وقال العبادي: متى ولدت حيا، لزمها العتق وإن لم يعش أكثر من ساعة، لانه عاش. والاول: أصح. وأنه لو نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها، لا ينعقد. وأنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدينار، فشفى، فاراد التصدق به على ذلك المريض وهو فقير، فان كان لا يلزمه نفقه، جاز، والا، فلا. وانه لو قال إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق على ولدى أو على زيد وزيد موسر يلزمه الوفا لان الصدقة على الغنى جائزه وقربه وإنه لو نذر صوم سنه معينه ثم قال ان شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم الاثانين من هذه السنة. قال: لا ينعقد نذر الثاني، لان الزمان مستحق لغيره. وقال العبادي: ينعقد ويلزمه القضاء. قيل له: لو كان له عبد فقال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتقه، ثم قال: إن قدم زيد، فعلي عتقه، قال: ينعقدان، فإن وقعا معا، أقرع بينهما، هذا آخر المنقول من فتاوى القاضي.(2/596)
ومما يحتاج إليه: إذا نذر زيتا، أو شمعا، أو نحوه ليسرج به في مسجد أو غيره، إن كان بحيث ينتفع به - ولو على الندور - مصل هناك أو نائم أو غيرهما، صح ولزم. وإن كان يغلق ولا يتمكن أحد من الدخول والانتفاع به، لم يصح. ولو وقف شيئا ليشترى من غلته زيت أو غيره ليسرج به في مسجد أو غيره، فحكمه في الصحة ما ذكرناه في النذور. والله أعلم. انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث واوله " كتاب البيع "(2/597)
روضة الطالبين
محيى الدين النووي ج 3(3/)
روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبورع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلاك الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الشيخ علي محمد معوض الجزء الثالث دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(3/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان(3/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيع
باب ما يصح به البيع
البيع: مقابلة مال بمال أو نحوه. ويعتبر في صحته ثلاثة أمور.(3/3)
الاول: الصيغة، وهي الايجاب من جهة البائع، كقوله: بعتك أو ملكتك ونحوهما. وفي ملكتك وجه ضعيف. والقبول من المشتري، كقوله: قبلت، أو ابتعت، أو اشتريت، أو تملكت. ويجئ في تملكت ذلك الوجه، وسواء تقدم قول البائع: بعت، أو قول المشتري: اشتريت، فيصح البيع في الحالين، ولا يشترط اتفاق اللفظين، بل لو قال البائع: بعتك، أو اشتريت،(3/4)
فقال المشتري: تملكت، أو قال البائع: ملكتك. فقال: اشتريت، صح، لان المعنى واحد. فرع المعاطاة، ليست بيعا على المذهب. وخرج ابن سريج قولا من الخلاف في مصير الهدي منذورا بالتقليد: أنه يكتفى بها في المحقرات، وبه أفتى الروياني وغيره. والمحقر، كرطل خبز وغيره، مما يعتاد فيه المعاطاة. وقيل: هو ما دون نصاب السرقة. فعلى المذهب في حكم المأخوذ بالمعاطاة، وجهان. أحدهما: أنه إباحة لا يجوز الرجوع فيها، قاله القاضي أبو الطيب. وأصحهما: له حكم المقبوض بعقد فاسد، فيطالب كل واحد صاحبه بما دفعه إن كان باقيا، أو بضمانه إن تلف. فلو كان الثمن الذي قبضه البائع مثل القيمة، قال الغزالي في الاحياء: هذا مستحق ظفر بمثل حقه، والمالك راض، فله تملكه لا محالة. وقال الشيخ أبو حامد: لا مطالبة لواحد منهما، وتبرأ ذمتهما بالتراضي، وهذا يشكل بسائر العقود الفاسدة، فإنه لا براءة وإن وجد التراضي. وقال مالك رضي الله عنه: ينعقد بكل ما يعده الناس بيعا، واستحسنه ابن الصباغ. قلت: هذا الذي استحسنه ابن الصباغ، هو الراجح دليلا، وهو المختار، لانه لم يصح في الشرع اشتراط لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الالفاظ. وممن اختاره: المتولي والبغوي وغيرهما. والله أعلم. فرع لو قال: بعني، فقال: بعتك. إن قال بعده: اشتريت، أو قبلت، انعقد قطعا، وإلا، انعقد على الاصح. وقيل: على الاظهر. وقيل: ينعقد قطعا. ولو قال: اشتر مني، فقال: اشتريت، قال في التهذيب: هو كالصورة السابقة. وقال بعضهم: لا ينعقد قطعا. ولو قال: أتبيعني عبدك بكذا، أو قال: بعتني بكذا، فقال: بعت، لم ينعقد، حتى يقول بعده: اشتريت. وكذا لو قال البائع: أتشتري داري ؟ أو اشتريت مني ؟ فقال: اشتريت، لا ينعقد حتى يقول بعده: بعت. فرع كل تصرف يستقل به الشخص، كالطلاق والعتاق والابراء، ينعقد(3/5)
بالكناية مع النية كانعقاده بالصريح. وما لا يستقل به، بل يفتقر إلى إيجاب وقبول، ضربان أحدهما: ما يشترط فيه الشهادة كالنكاح وبيع الوكيل إذا شرط الموكل الاشهاد، فهذا لا ينعقد بالكناية، لان الشاهد لا يعلم النية. والثاني: ما لا يشترط فيه، وهو نوعان. أحدهما: ما يقبل مقصوده التعليق بالغرر، كالكتابة، والخلع، فينعقد بالكناية مع النية. والثاني: ما لا يقبل، كالبيع والاجارة وغيرهما. وفي انعقاد هذه التصرفات بالكناية مع النية، وجهان. أصحهما: الانعقاد كالخلع. ومثال الكناية في البيع، أن يقول: خذه مني، أو تسلمه بألف، أو أدخلته في ملكك، أو جعلته لك بكذا وما أشبهها. ولو قال: سلطتك عليه بألف، ففي كونه كناية وجهان. أحدهما: لا، كقوله: أبحتكه بألف. قلت: الاصح: أنه كناية. والله أعلم. فرع لو كتب إلى غائب بالبيع ونحوه، ترتب ذلك على أن الطلاق، هل يقع بالكتب مع النية ؟ إن قلنا: لا، فهذه العقود أولى أن لا تنعقد، وإلا، ففيها الوجهان في انعقادها بالكنايات. فإن قلنا: تنعقد، فشرطه أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب على الاصح. قلت: المذهب: أنه ينعقد البيع بالمكاتبة لحصول التراضي، لا سيما وقد قدمنا أن الراجح انعقاده بالمعاطاة. وقد صرح الرافعي بترجيح صحته بالمكاتبة في كتاب الطلاق، وستأتي هذه المسائل كلها مبسوطة فيه إن شاء الله تعالى. واختار الغزالي في الفتاوى: أنه ينعقد، قال: وإذا قبل المكتوب إليه، ثبت له خيار المجلس، ما دام في مجلس القبول، ويتمادى خيار الكاتب أيضا إلى أن ينطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الايجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه، صح رجوعه، ولم ينعقد البيع. والله أعلم. ولو تبايع حاضران بالمكاتبة، فإن منعناه في الغيبة، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. وحكم الكتب على القرطاس، والرق، واللوح، والارض، والنقش على الحجر والخشب، واحد، ولا أثر لرسم الاحرف على الماء والهواء. قال بعض أصحابنا تفريعا على صحة البيع بالمكاتبة.(3/6)
لو قال: بعت داري لفلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر قال: قبلت، انعقد البيع، لان النطق أقوى من الكتب. قال إمام الحرمين: والخلاف المذكور، في أن البيع ونحوه، هل ينعقد بالكناية مع النية هو فيما إذا عدمت قرائن الاحوال، فإن توفرت وأفادت التفاهم، وجب القطع بالصحة، لكن النكاح لا يصح بالكناية وإن توفرت القرائن. وأما البيع المقيد بالاشهاد، فقال في الوسيط: الظاهر انعقاده عند توفر القرائن. قلت: قال الغزالي في الفتاوى: لو قال أحد المتبايعين: بعني، فقال: قد باعك الله، أو بارك الله لك فيه، أو قال في النكاح: زوجك الله بنتي، أو قال في الاقالة: قد أقالك الله، أو قد رده الله عليك، فهذا كناية، فلا يصح النكاح بكل حال. وأما البيع والاقالة، فإن نواهما، صحا، وإلا، فلا. وإذا نواهما، كان التقدير: قد أقالك الله لاني قد أقلتك. والله أعلم. فرع لو باع مال ولده لنفسه، أو مال نفسه لولده، فهل يفتقر إلى صيغتي الايجاب والقبول، أم تكفي إحداهما ؟ وجهان سيأتيان إن شاء الله تعالى بفروعهما في باب الخيار. فرع يشترط أن لا يطول الفصل بين الايجاب والقبول، وأن لا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال، أو تخلل، لم ينعقد، سواء تفرقا عن(3/7)
المجلس، أم لا. ولو مات المشتري بين الايجاب والقبول، ووارثه حاضر، فقبل، فالاصح: المنع. وقال الداركي: يصح. فرع يشترط موافقة القبول الايجاب. فلو قال: بعت بألف صحيحة، فقال: قبلت بألف قراضة، أو بالعكس. أو قال: بعت جميع الثوب بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة، لم يصح. ولو قال: بعتك هذا بألف، فقال: قبلت نصفه بخمسمائة، ونصفه بخمسمائة، قال في التتمة: يصح العقد، لانه تصريح بمقتضى الاطلاق، وفيه نظر. وفي فتاوى القفال: أنه لو قال: بعتك بألف درهم، فقال: اشتريت بألف وخمسمائة، صح البيع، وهو غريب. فرع لو قال المتوسط للبائع: بعت كذا ؟ فقال: نعم، أو بعت. وقال للمشتري: اشتريت بكذا ؟ فقال: نعم، أو اشتريت، انعقد على الاصح، لوجود الصيغة والتراضي. والثاني: لا، لعدم تخاطبهما. فرع لو قال: بعتك بألف، فقال: قبلت، صح قطعا، بخلاف النكاح، يشترط فيه على رأي أن يقول: قبلت نكاحها، احتياطا للابضاع. ولو قال: بعتك بألف إن شئت، فقال: اشتريت، انعقد على الاصح، لانه مقتضى الاطلاق.(3/8)
فرع يصح بيع الاخرس وشراؤه بالاشارة والكتابة. فرع جميع ما سبق، هو فيما ليس بضمني من البيوع. فأما البيع الضمني فيما إذا قال: أعتق عبدك عني على ألف، فلا تعتبر فيه الصيغ التي قدمناها، بل يكفي فيه الالتماس والجواب قطعا. الامر الثاني: أهلية البائع والمشتري، ويشترط فيهما لصحة البيع: التكليف، فلا ينعقد بعبارة الصبي والمجنون، لا لانفسهما، ولا لغيرهما، سواء كان الصبي مميزا أو غير مميز، باشر بإذن الولي أو بغير إذنه، وسواء بيع الاختبار وغيره. وبيع الاختبار: هو الذي يمتحنه الولي به ليستبين رشده عند مناهزة الاحتلام، ولكن يفوض إليه الاستيام وتدبير العقل، فإذا انتهى الامر إلى اللفظ، أتى به الولي. وفي وجه ضعيف: يصح منه بيع الاختبار. قلت: ويشترط في المتعاقدين، الاختيار. فإن أكرها على البيع، لم يصح، إلا إذا أكره بحق، بأن يتوجه عليه بيع ماله لوفاء دين عليه، أو شراء مال أسلم إليه فيه، فأكرهه الحاكم عليه، صح بيعه وشراؤه، لانه إكراه بحق. فأما بيع المصادر، فالاصح: صحته. وقد سبق بيانه في نصف الباب الثاني من الاطعمة. ويصح بيع السكران وشراؤه على المذهب، وإن كان غير مكلف كما تقرر في كتب(3/9)
الاصول، وسنوضحه في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فرع لو اشترى الصبي شيئا فتلف في يده، أو أتلفه، فلا ضمان عليه في الحال، ولا بعد البلوغ. وكذا لو اقترض مالا، لان المالك هو المضيع بالتسليم إليه. وما داما باقيين، فللمالك الاسترداد. ولو سلم ثمن ما اشتراه، لزم الولي استرداده، ولزم البائع رده إلى الولي. فإن رده إلى الصبي، لم يبرأ من الضمان. وهذا كما لو سلم الصبي درهما إلى صراف لينقده، أو سلم متاعا إلى مقوم ليقومه، فإذا أخذه، لم يجز رده إلى الصبي، بل يرده إلى وليه إن كان المال للصبي. وإن كان لكامل، فإلى المالك. فلو أمره الولي بدفعه إلى الصبي، فدفعه إليه، سقط عنه الضمان إن كان المال للولي وإن كان للصبي، فلا، كما لو أمره بإلقاء مال الصبي في البحر ففعل، فإنه يلزمه الضمان. ولو تبايع صبيان وتقابضا، وأتلف كل واحد ما قبضه، نظر، إن جرى ذلك بإذن الوليين، فالضمان عليهما، وإلا، فلا ضمان عليهما، وعلى الصبيين الضمان، لان تسليمهما لا يعد تسليطا وتضييعا. فرع لا ينعقد نكاح الصبي وسائر تصرفاته، لكن في تدبير المميز ووصيته خلاف مذكور في موضعه. ولو فتح بابا وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول، أو أوصل هدية وأخبر عن إهداء مهديها، فهل يجوز الاعتماد عليه ؟ نظر، إن انضمت قرائن تحصل العلم بذلك، جاز الدخول والقبول، وهو في الحقيقة عمل بالعلم، لا بقوله. وإن لم ينضم، نظر، إن كان غير مأمون القول، لم يعتمد، وإلا، فطريقان. أصحهما: القطع بالاعتماد. والثاني: على الوجهين في قبول روايته. فرع كما لا تصح تصرفاته اللفظية، لا يصح قبضه في تلك التصرفات، فلا يفيد قبضه الملك في الموهوب له وإن اتهبه الولي، ولا لغيره إذا أمره الموهوب له بالقبض له. ولو قال مستحق الدين لمن عليه: سلم حقي إلى هذا الصبي، فسلم إليه قدر حقه، لم يبرأ من الدين، وكان ما سلمه باقيا في ملكه، حتى لو ضاع، لضاع عليه، ولا ضمان على الصبي، لان الدافع ضيعه بتسليمه، ويبقى الدين بحاله، لان ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، فلا يزول عن الذمة، كما لو قال: ألق حقي في البحر، فألقى قدر حقه، لا يبرأ، بخلاف ما لو قال مالك الوديعة للمودع: سلم مالي إلى هذا الصبي، فسلم، خرج من العهدة، لانه امتثل أمره في(3/10)
حقه المتعين كما لو قال: ألقها في البحر، فامتثل. ولو كانت الوديعة للصبي، فسلمها إليه، ضمن، سواء كان بإذن الولي أو بغير إذنه، إذ ليس له تضييعها وإن أمره الولي به. فصل إسلام المتعاقدين ليس بشرط في مطلق التبايع، لكن لو اشترى كافر عبدا مسلما، أو اتهبه، أو أوصي له به، فقبل، لم يملكه على الاظهر. قال في التتمة: القولان في الوصية، إذا قلنا: يملكها بالقبول. وإن قلنا بالموت، ثبت بلا خلاف كالارث. ولو اشترى مصحفا، أو شيئا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالمذهب: القطع بأنه لا يملك. وقيل: على القولين. قال العراقيون: وكتب الفقه التي فيها آثار السلف، لها حكم المصحف في هذا. وقال صاحب الحاوي: كتب الفقه والحديث يصح بيعها للكافر. وفي أمره بإزالة الملك عنها، وجهان. قلت: الخلاف في بيع العبد، والمصحف، والحديث، والفقه، إنما هو في صحة العقد، مع أنه حرام بلا خلاف. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما، فاشترى من يعتق عليه كأبيه وابنه، صح على الاصح. ويجري الوجهان في كل شراء يستعقب عتقا، كقول الكافر لمسلم: أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغير عوض، وإجابته، وكما إذا(3/11)
أقر بحرية عبد مسلم في يد غيره ثم اشتراه. ورتب الامام الخلاف في هاتين الصورتين على شراء القريب. وقال: الاولى أولى بالصحة، لان الملك فيها ضمني، والثانية أولى بالمنع، لان العتق فيها وإن حكم به، فهو ظاهر غير محقق، بخلاف القريب. ولو اشترى الكافر عبدا مسلما بشرط الاعتاق، وصححنا الشراء بهذا الشرط، فهو كما لو اشتراه مطلقا، لان العتق لا يحصل بنفس الشراء. وقيل: هو كشراء القريب. فرع يجوز أن يستأجر الكافر مسلما على عمل في الذمة، كدين في ذمته. ويجوز أن يستأجره بعينه على الاصح، حرا كان أو عبدا. فعلى هذا، هل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع، بأن يؤجره مسلما ؟ وجهان. قطع الشيخ أبو حامد: بأنه يؤمر. قلت: وإذا صححنا إجارة عينه، فهي مكروهة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم. وفي ارتهانه العبد المسلم، وجهان. ويجوز إعارة العبد المسلم لكافر قطعا. وكذا إيداعه عنده. قلت: الاصح: صحة ارتهانه العبد المسلم والمصحف، ويسلم إلى عدل. وفي الاعارة وجه: أنها لا تجوز، وبه جزم صاحب المهذب والتنبيه والجرجاني: وهو ضعيف. والله أعلم. فرع لو باع الكافر عبدا مسلما - ورثه، أو أسلم عنده - ثم وجد بالثوب عيبا، فالمذهب: أنه له رد الثوب بالعيب. وهل له استرداد العبد ؟ وجهان. أصحهما: له ذلك. والثاني: لا، بل يسترد قيمته، لانه كالهالك. وطرد الامام والغزالي، الوجهين في جواز رد الثوب. والصواب: الاول، وبه قطع في التهذيب وغيره. ولو وجد مشتري العبد به عيبا، ففي رده واسترداده الثوب طريقان. أحدهما: القطع بالجواز. والثاني: على الوجهين. ولو باع الكافر العبد(3/12)
المسلم، ثم تقايلا، فإن قلنا: الاقالة بيع، لم ينفذ، وإن قلنا: فسخ، فعلى الوجهين في الرد بالعيب. فرع: ولو وكل كافر مسلما ليشتري عبدا مسلما، لم يصح، لان العقد يقع للموكل اولا، وينتقل إليه آخرا (وان) وكل مسلم كافرا ليشتري له عبدا مسلما، فإن سمى الموكل في الشراء، صح، وإلا، فإن قلنا: يقع الملك للوكيل أولا، لم يصح: وإن قلنا: يقع للموكل، صح. فرع لو اشترى كافر مرتدا، فوجهان، لبقاء علقة الاسلام كالوجهين في قتل المرتد بذمي. فرع لو اشترى كافر كافرا، فأسلم قبل قبضه، فهل يبطل البيع كمن اشترى عصيرا فتخمر قبل قبضه، أم لا كمن اشترى عبدا فأبق قبل قبضه ؟ وجهان. فإن قلنا: لا يبطل، فهل يقبضه المشتري، أم ينصب الحاكم من يقبض عنه ثم يأمره بإزالة الملك ؟ وجهان. وقطع القفال في فتاويه: بأنه لا يبطل، ويقبضه الحاكم، وهذا أصح. فرع جميع ما سبق، تفريع على قول المنع. أما إذا صححنا شراءه، فإن علم الحاكم به قبل القبض، فيمكنه من القبض، أم ينصب من يقبضه ؟ فيه الوجهان. وإذا حصل القبض، أو علم به بعد قبضه، أمر بإزالة الملك فيه، كما نذكره في الفرع بعده إن شاء الله تعالى. فرع إذا كان في يد الكافر عبد، فأسلم، لم يزل ملكه عنه، ولكن لا يقر في يده، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه، ببيع، أو هبة، أو عتق، أو غيرها. ولا يكفي الرهن والتزويج، والاجارة، والحيلولة، وتكفي الكتابة على الاصح، وتكون كتابة صحيحة. وإن قلنا: لا تكفي، فوجهان. أحدهما: أنها كتابة فاسدة، فيباع العبد. والثاني: صحيحة. ثم إن جوزنا بيع المكاتب، بيع مكاتبا، وإلا، فسخت الكتابة وبيع. ولو امتنع من إزالة ملكه، باعه الحاكم عليه بثمن المثل، كما يبيع مال(3/13)
من امتنع من أداء الحق. فإن لم يجد مشتريا بثمن المثل، صبر وحال بينه وبينه، ويستكسب له، وتؤخذ نفقته منه. ولو أسلمت مستولدة كافر، فلا سبيل إلى نقلها إلى غيره بالبيع والهبة ونحوهما على المذهب. وهل يجبر على إعتاقها ؟ وجهان. الصحيح: لا يجبر، بل يحال بينهما وينفق عليها وتستكسب له في يد مسلم. ولو مات كافر أسلم عبد في يده، صار لوارثه، وأمر بما كان يؤمر به مورثه، فإن امتثل، وإلا، بيع عليه. قلت: قال المحاملي في كتابه اللباب: لا يدخل عبد مسلم في ملك كافر ابتداء، إلا في ست مسائل. إحداها: بالارث. الثانية: يسترجعه بإفلاس المشتري. الثالثة: يرجع في هبته لولده. الرابعة: إذا رد عليه بعيب. الخامسة: إذا قال لمسلم: أعتق عبدك عني، فأعتقه وصححناه. السادسة: إذا كاتب عبده الكافر، فأسلم العبد، ثم عجز عن النجوم، فله تعجيزه، وهذه السادسة فيها تساهل، فإن المكاتب لا يزول الملك فيه ليتجدد بالتعجيز. وترك سابعة، وهي: إذا اشترى من يعتق عليه. والله أعلم.(3/14)
الامر الثالث: صلاحية المعقود عليه، فيعتبر في المبيع لصحة بيعه، خمسة شروط. أحدها: الطهارة، فالنجس ضربان، نجس العين، ونجس بعارض. فالاول: لا يصح بيعه، فمنه الكلب، والخنزير، وما تولد من أحدهما، وسواء الكلب المعلم وغيره، ومنه الميتة، وسرجين جميع البهائم، والبول، ويجوز بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت، لانه بقاءه من مصالحه، كالنجاسة في جوف الحيوان. قلت: الفيلج - بالفاء - وهو القز. ويجوز بيعه وفيه الدود، سواء كان ميتا أو حيا، وسواء باعه وزنا، أو جزافا، صرح به القاضي حسين في فتاويه. والله أعلم. وفي بيع بزر القز وفأرة المسك، وجهان بناء على طهارتهما. الضرب الثاني: قسمان. أحدهما: متنجس يمكن تطهيره، كالثوب، والخشبة، والآجر، فيجوز بيعها، لان جوهرها طاهر. فإن استتر شئ من ذلك بالنجاسة الواردة، خرج على بيع الغائب. والثاني: ما لا يمكن تطهيره، كالخل،(3/16)
واللبن، والدبس، إذا تنجست، فلا يجوز بيعها. وأما الدهن، فإن كان نجس العين، كودك الميتة، لم يصح بيعه بحال. وإن نجس بعارض، فهل يمكن تطهيره ؟ وجهان. أصحهما: لا. فعلى هذا، لا يصح بيعه كالبول. والثاني: يمكن. فعلى هذا، في صحة بيعه وجهان. أصحهما: لا يصح، هذا ترتيب الاصحاب. وقيل: إن قلنا: يمكن تطهيره، جاز بيعه، وإلا، فوجهان. قلت: هذا الترتيب غلط ظاهر، وإن كان قد جزم به في الوسيط. وكيف يصح بيع ما لا يمكن تطهيره ؟ قال المتولي: في بيع الصبغ النجس طريقان. أحدهما: كالزيت. والثاني: لا يصح قطعا، لانه لا يمكن تطهيره، وإنما يصبغ به الثوب ثم يغسل. والله أعلم. وفي بيع الماء النجس، وجهان، كالدهن إذا قلنا: يمكن طهارته، لان تطهير الماء ممكن بالمكاثرة. وأشار بعضهم إلى الجزم بالمنع، وقال: إنه ليس بتطهير، بل يستيحل ببلوغه قلتين من صفة النجاسة إلى الطهارة، كالخمر تتخلل. ويجوز نقل الدهن النجس إلى الغير بالوصية، كالكلب. وأما هبته والصدقة به، فعن القاضي أبي الطيب: منعهما. ويشبه أن يكون فيهما ما في هبة الكلب من الخلاف. قلت: ينبغي أن يقطع بصحة الصدقة به للاستصباح ونحوه. وقد جزم المتولي، بأنه يجوز نقل اليد فيه بالوصية وغيرها. قال الشافعي(3/17)
رضي الله عنه في المختصر: لا يجوز اقتناء الكلب إلا لصيد، أو ماشية، أو زرع، وما في معناها، هذا نصه. واتفق الاصحاب على جواز اقتنائه لهذه الثلاثة، وعلى اقتنائه لتعليم الصيد ونحوه، والاصح: جواز اقتنائه لحفظ الدور والدروب وتربية الجرو لذلك، وتحريم اقتنائه قبل شراء الماشية الزرع. وكذا كلب الصيد لمن لا يصيد. ويجوز اقتناء السرجين، وتربية الزرع به، لكن يكره. واقتناء الخمر مذكوذ في كتاب الرهن. والله أعلم. الشرط الثاني: أن يكون منتفعا به. فما لا نفع فيه، ليس بمال، فأخذ المال في مقابلته باطل. ولعدم المنفعة سببان. أحدهما: القلة، كالحبة والحبتين من الحنطة والزبيب ونحوهما، فإن ذلك القدر لا يعد مالا، ولا ينظر إلى ظهور النفع إذا ضم إليه غيره، ولا إلى ما يفرض من وضع الحبة في فخ. ولا فرق في ذلك بين زمان الرخص والغلاء. ومع هذا، فلا يجوز أخذ الحبة من صبرة الغير. فإن أخذ، لزمه ردها. فإن تلفت، فلا ضمان، إذ لا مالية لها. وقال القفال: يضمن مثلها. وحكى صاحب التتمة وجها: أنه يصح بيع مالا منفعة فيه لقلته، وهو شاذ ضعيف. السبب الثاني: الخسة، كالحشرات. والحيوان الطاهر، ضربان، ضرب ينتفع به، فيجوز بيعه، كالنعم، والخيل، والبغال، والحمير، والظباء، والغزلان. ومن الجوارح، كالصقور، والبزاة، والفهد. ومن الطير، كالحمام، والعصفور، والعقاب. وما ينتفع بلونه كالطاووس، أو صوته(3/18)
كالزرزور. ومما ينتفع به، القرد، والفيل، والهرة، ودود القز. وبيع النحل في الكوارة، صحيح إن شاهد جميعه، وإلا، فهو من بيع الغائب. وإن باعه وهو طائر، فوجهان. قطع في التتمة: بالصحة، وفي التهذيب: بالبطلان. قلت: الاصح: الصحة. والله أعلم. الضرب الثاني: ما لا ينتفع به، فلا يصح بيعه، كالخنافس، والعقارب، والحيات، والفأر، والنمل، ونحوها، ولا نظر إلى منافعها المعدودة من خواصها، وفي معناها السباع التي لا تصلح للصيد والقتال عليها، كالاسد والذئب والنمر. ولا ينظر إلى اقتناء الملوك لها للهيبة والسياسة. ونقل القاضي حسين وجها في جواز بيعها، لانها طاهرة. والانتفاع بجلودها متوقع بالدباغ. ونقل أبو الحسن العبادي وجها آخر: أنه يجوز بيع النمل في عسكر مكرم وهي المدينة المشهورة بخراسان، لانه يعالج به السكر، ونصيبين، لانه تعالج به العقارب الطيارة. والوجهان شاذان ضعيفان. ولا يجوز بيع الحدأة، والرخمة، والغراب. فإن كان في أجنحة بعضها فائدة، جاء فيها الوجه الذي حكاه القاضي، كذا قاله الامام، ولكن بينهما فرق، فإن الجلود تدبغ، ولا سبيل إلى تطهير الاجنحة.(3/19)
قلت: وجه الجواز، الانتفاع بريشها في النبل، فانه وإن قلنا بنجاسته، يجوز الانتفاع به في النبل وغيره من اليابسات. والله أعلم. ويصح بيع العلق على الاصح لمنفعته امتصاص الدم، ولا يصح بيع الحمار الزمن الذي لا نفع فيه على الاصح، بخلاف العبد الزمن، فإنه يتقرب بإعتاقه. والثاني: يجوز لغرض جلده إذا مات. فرع السم إن كان يقتل كثيره وينفع قليله، كالسقمونيا، والافيون، جاز بيعه. وإن قتل كثيره وقليله، فقطع بالمنع. ومال الامام وشيخه إلى الجواز ليدس في طعام الكافر. فرع آلات الملاهي: كالمزمار والطنبور وغيرهما، إن كانت بحيث لا تعد بعد الرض والحل مالا، لم يصح بيعها، لان منفعتها معدومة شرعا. وإن كان رضاضها يعد مالا، ففي صحة بيعها وبيع الاصنام والصور المتخذة من الذهب والخشب وغيرهما، وجهان. الصحيح: المنع. وتوسط الامام، فذكر الامام وجها ثالثا اختاره هو والغزالي: أنه إن اتخذت من جوهر نفيس، صح بيعها. وإن اتخذت من خشب ونحوه، فلا، والمذهب: المنع المطلق، وبه أجاب عامة الاصحاب. فرع الجارية المغنية التي تساوي ألفا بلا غناء، إذا اشتراها بألفين، فيه أوجه. قال المحمودي: بالبطلان، والاودني: بالصحة، وأبو زيد: إن قصد الغناء، بطل، وإلا، فلا. قلت: الاصح: قول الاودني. قال إمام الحرمين: هو القياس السديد ولو بيعت بألف، صح قطعا. ويجري الخلاف في كبش النطاح والديك الهراش. ولو باع إناء من ذهب أو فضة، صح قطعا، لان المقصود الذهب فقط، ذكره القاضي أبو الطيب: قال المتولي: يكره بيع الشطرنج. قال: والنرد، إن صلح لبياذق الشطرنج، فكالشطرنج، وإلا، فكالمزمار. والله أعلم.(3/20)
فرع بيع الماء المملوك صحيح على الصحيح، وستأتي تفاريعه في إحياء الموات إن شاء الله تعالى. فإذا صححناه، ففي بيعه على شط النهر، وبيع التراب في الصحراء، وبيع الحجارة بين الشعاب الكثيرة، والاحجار، وجهان. أصحهما: الجواز. فرع بيع لبن الآدميات صحيح. قلت: ولنا وجه: أنه نجس، فلا يصح بيعه، حكاه في الحاوي عن الانماطي، وهو شاذ مردود، وسبق ذكره في كتا ب الطهارة. والله أعلم. الشرط الثالث: أن يكون المبيع مملوكا لمن يقع العقد ل. فإن باشر العقد لنفسه، فليكن له، وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة، فليكن لذلك الغير. فلو باع مال غيره بلا إذن ولا ولاية، فقولان. الجديد: بطلانه. والقديم: أنه ينعقد موقوفا على إجازة المالك، فإن أجاز، نفذ، وإلا، لغا. ويجري القولان فيما لو زوج أمة غيره أو ابنته، أو طلق منكوحته، أو أعتق عبده، أو أجر داره، أو وهبها بغير إذنه. ولو اشترى الفضولي لغيره، نظر، إن اشترى بين مال الغير، ففيه القولان وإن اشترى في الذمة، نظر، إن أطلق أو نوى كونه للغير، فعلى الجديد: يقع للمباشر، وعلى القديم: يقف على الاجازة، فإن رد، نفذ في حق الفضولي. ولو قال: اشتريت لفلان بألف في ذمته، فهو كاشترائه بعين مال الغير. ولو اقتصر على قوله: اشتريت لفلان بألف، ولم يضف الثمن إلى ذمته، فعلى الجديد: وجهان.(3/21)
أحدهما: يلغو العقد، والثاني: يقع عن المباشر. وعلى القديم: يقف على إجازة فلان، فإن رد، ففيه الوجهان. ولو اشترى شيئا لغيره بمال نفسه، نظر، إن لم يسمه، وقع العقد عن المباشر، سواء أذن ذلك الغير، أم لا. وإن سماه، نظر، إن لم يأذن له، لغت التسمية. وهل يقع عنه، أم يبطل ؟ وجهان. وإن أذن له، فهل تلغو التسمية ؟ وجهان. فإن قلنا: نعم، فهل يبطل من أصله، أم يقع عن المباشر ؟ فيه الوجهان. وإن قلنا: لا، وقع عن الآذن. وهل يكون الثمن المدفوع قرضا، أم هبة ؟ وجهان. قال الشيخ أبو محمد: وحيث قلنا بالقديم، فشرطه أن يكون للعقد مجيز في الحال، مالكا كان أو غيره. حتى لو أعتق عبد الطفل، أو طلق امرأته، لا يتوقف على إجازته بعد البلوغ، والمعتبر إجازة من يملك التصرف عند العقد. حتى لو باع مال الطفل، فبلغ وأجاز، لم ينفذ، وكذا لو باع مال الغير، ثم ملكه وأجاز، قال إمام الحرمين: لم يعرف العراقيون هذا القول القديم، وقطعوا بالبطلان. قلت: قد ذكر هذا القديم من العراقيين، المحاملي في اللباب، والشاشي، وصاحب البيان، ونص عليه في البويطي، وهو قوي، وإن كان الاظهر عند الاصحاب هو الجديد. والله أعلم. فرع لو غصب أموالا وباعها وتصرف في أثمانها مرة بعد أخرى، فقولان. أظهرهما: بطلان الجميع. والثاني: للمالك أن يجيزها ويأخذ الحاصل منها، لعسر تتبعها بالابطال. فرع لو باع مال أبيه على ظن أنه حي وهو فضولي، فبان ميتا حينئذ، وأنه ملك العاقد، فقولان. أظهرهما: أن البيع صحيح، لصدوره من مالك. والثاني:(3/22)
البطلان، لانه في معنى المعلق بموته، ولانه كالغائب. ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف ببيع الهازل - هل ينعقد ؟ فيه وجهان - وبالخلاف في بيع التلجئة. وصورته: أن يخاف غصب ماله، أو الاكراه على بيعه، فيبيعه لانسان بيعا مطلقا. وقد توافقا قبله على أنه لدفع الشر، لا على حقيقة البيع. والصحيح: صحته. ويجري الخلاف فيما لو باع العبد على ظن أنه آبق أو مكاتب، فبان أنه قد رجع، وفسخ الكتابة. ويجري فيمن زوج أمة أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتا، هل يصح النكاح ؟ فإن صححنا، فقد نقلوا وجهين فيمن قال: إن مات أبي فقد زوجتك هذه الجارية. فرع القولان في أصل بيع الفضولي، وفي الفرعين بعده يعبر عنهما بقولي وقف العقود. وحيث قالوا: فيه قولا وقف العقود، أرادوا هذين القولين. وسميا بذلك، لان الخلاف آيل إلى أن العقد، هل ينعقد على التوقف، أم لا بل يكون باطلا ؟ ثم ذكر الامام: أن الصحة على قول الوقف ناجزة، لكن الملك لا يحصل إلا عند الاجازة. قال: ويطرد الوقف في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبيوع، والاجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها. الشرط الرابع: القدرة على تسليم المبيع، ولا بد منها. وفواتها قد يكون حسا، وقد يكون شرعا. وفيه مسائل. إحداها: بيع الآبق والضال باطل، عرف موضعه، أم لا، لانه غير مقدور(3/23)
على تسليمه في الحال. هذا هو المذهب المعروف. قال الاصحاب: لا يشترط في الحكم بالبطلان، اليأس من التسليم، بل يكفي ظهور التعذر. وأحسن بعض الاصحاب فقال: إذا عرف موضعه وعلم أنه يصله إذارام وصوله، فليس له حكم الآبق. الثانية: إذا باع المالك ماله المغصوب، نظر، إن قدر البائع على استرداده وتسلمه، صح البيع، كما يصح بيع الوديعة. وإن عجز، نظر، إن باعه لمن لا يقدر على انتزاعه من الغاصب، لم يصح. وإن باعه من قادر على انتزاعه، صح على الاصح. ثم إن علم المشتري بالحال، فلا خيار له. لكن لو عجز عن انتزاعه لضعف عرض له أو قوة عرضت للغاصب، فله الخيار على الصحيح. وإن كان جاهلا حال العقد، فله الخيار. ولو باع الآبق ممن يسهل عليه رده، ففيه الوجهان في المغصوب. ويجوز تزويج الآبقة والمغصوبة، وإعتاقهما. قال في البيان: لا يجوز كتابة المغصوب، لانها تقتضي التمكين من التصرف. الثالثة: لا يجوز بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وإن كان مملوكا له، لما فيه من الغرر. ولو باع السمك في بركة لا يمكنه الخروج منها، فإن كانت صغيرة يمكن أخذه بغير تعب ومشقة، صح. وإن كانت كبيرة لا يمكن أخذه إلا بتعب شديد، لم يصح على الاصح. وحيث صححنا، فهو إذا لم يمنع الماء(3/24)
رؤيته، فإن منعها، فعلى قولي بيع الغائب إن عرف قدره وصفته، وإلا، فلا يصح قطعا. وبيع الحمام في البرج على تفصيل بيع السمك في البركة. ولو باعها وهي طائرة اعتمادا على عادة عودها ليلا، فوجهان كما سبق في النحل. أصحهما عند الامام: الصحة، كالعبد المبعوث في شغل. وأصحهما عند الجمهور: المنع، إذ لا وثوف بعودها، لعدم عقلها. قلت: ولو باع ثلجا أو جمدا وزنا، وكان ينماع إلى أن يوزن، لم يصح على الاصح، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في المسائل المنثورة في آخر كتاب الاجارة. والله أعلم. الرابعة: لو باع جزءا شائعا من سيف أو إناء ونحوهما، صح وصار مشتركا. ولو عين بعضه وباعه، لم يصح، لان تسليمه لا يحصل إلا بقطعه، وفيه نقص وتضييع للمال. ولو باع ذراعا فصاعدا من ثوب، فإن لم يعين الذراع، فسنذكره ان شاء الله تعالى. وان عينه، فان كان الثوب نفيسا تنقض قيمته بالقتع، لم يصح البيع على الاصح المنصوص. والثانى: يصح كذراع من الارض، وكما في مسالة السيف والاناء. وان لم تنقص قيمته بالقطع كغليظ الكرباس، صح على(3/25)
الخامسة: لا يصح بيع المرهون بعد الاقباض قبل الفكاك. السادسة: جناية، إن أوجبت مالا متعلقا بذمته، لم يمنع بيعه بحال. وإن أوجبته متعلقا برقبته، فإن باعه بعد اختيار الفداء، صح، كذا أطلقه في التهذيب. وإن باعه قبله وهو معسر، فلا، ومنهم من طرد الخلاف الآتي في الموسر، وحكم بالخيار للمجني عليه إن صححنا. وإن كان موسرا، فالاظهر: أنه لا يصح. وقيل: لا يصح قطعا. وقيل: موقوف. فإن فداه، نفذ، وإلا، فلا. فإن لم نصحح البيع، فالسيد على خيرته، إن شاء فداه، وإلا، فيسلمه ليباع في الجناية. وإن صححناه، فالسيد ملتزم للفداء ببيعه مع العلم بجنايته، فيجبر على تسليم الفداء، كما لو أعتقه أو قتله. وقيل: هو على خيرته، إن فدى، أمضى البيع، وإلا، فسخ والصحيح: أنه ملتزللفداء. فإن تعذر تحصيل الفداء أو تأخر لافلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس، فسخ البيع، وبيع في الجناية، لان حق(3/26)
المجني عليه سبق حق المشتري. هذا كله إذا أوجبت الجناية المال، لكونها خطأ، أو شبه عمد، أو عفا مستحق القصاص على مال، أو أتلف العبد مالا. أما إذا أوجبت قصاصا ولا عفو، فالمذهب صحة البيع كبيع المريض المشرف على الموت. وقيل: فيه القولان. وإذا اختصرت، قلت: المذهب: أنه لا يصح بيعه إن تعلق برقبته مال، ويصح إن تعلق به قصاص. ولو أعتق الجاني، فإن كان السيد معسرا، لم ينفذ على الاظهر. وقيل: لا ينفذ قطعا. وإن كان موسرا، نفذ على أظهر الاقوال. والثالث: موقوف. إن فداه، نفذ، وإلا، فلا. واستيلاد الجانية، كإعتاقها. ومتى فدى السيد الجاني، فالاظهر: أنه يفديه بأقل الامرين من الارش وقيمة العبد. والثاني: يتعين الارش وإن كثر. قلت: ولو ولدت الجارية، لم يتعلق الارش بالولد قطعا، ذكره القاضي أبو الطيب في نماء الرهن. والله أعلم. الشرط الخامس: كون المبيع معلوما. ولا يشترط العلم به من كل وجه، بل يشترط العلم بعين المبيع وقدره وصفته. أما العين، فمعناه: أنه لو قال: بعتك عبدا من العبيد، أو أحد عبدي أو عبيدي هؤلاء، أو شاة من هذا القطيع، فهو(3/27)
باطل. وكذا لو قال: بعتهم، إلا واحدا، مبهما. وسواء تساوت قيمة العبيد والشياه، أم لا، وسواء قال: ولك الخيار في التعيين، أم لا. وحك في التتمة قولا قديما: أنه لو قال: بعتك أحد عبيدي، أو عبيدي الثلاثة، على أن تختار من شئت في ثلاثة أيام أو أقل، صح العقد، وهذا شاذ ضعيف. ولو كان له عبد فاختلط بعبيد لغيره، فقال: بعتك عبدي من هؤلاء، والمشتري يراهم ولا يعرف عينه. قال في التتمة: له حكم بيع الغائب. وقال صاحب التهذيب: عندي أنه باطل. فرع بيع الجزء الشائع من كل جملة معلومة، من دار، وأرض، وعبد، وصبرة، وثمرة، وغيرها، صحيح. لكن لو باع جزءا شائعا من شئ بمثله من ذلك الشئ، كالدار والفرس، كما إذا كان بينهما نصفين، باع نصفه بنصف صاحبه، فوجهان. أحدهما: لا يصح البيع، لعدم الحاجة إليه. وأصحهما: يصح، لوجود شرائطه، وله فوائد. منها: لو كانا جميعا أو أحدهما ملك نصيبه بالهبة من أبيه، انقطعت ولاية الرجوع. ومنها: لو ملكه بالشراء، ثم اطلع بعد هذا التصرف على عيب، لم يملك الرد على بائعه. ومنها: لو ملكته بالصداق، فطلقها قبل الدخول، لم يكن له الرجوع فيه. قلت: ولو باع نصفه بالثلث من نصف صاحبه، ففي صحته الوجهان. أصحهما: الصحة، ويصير بينهما أثلاثا، وبهذا قطع صاحب التقريب، واستبعده الامام. وقد ذكر الامام الرافعي هذه المسألة في كتاب الصلح. والله أعلم.(3/28)
ولو باع الجملة، واستثنى منها جزءا شائعا، جاز. مثاله: بعتك ثمرة هذا البستان، إلا ربعها وقدر الزكاة منها. ولو قال: بعتك ثمرة هذا البستان بثلاثة آلاف درهم، إلا ما يخص ألفا، فإن أراد ما يخصه إذا وزعت الثمرة على المبلغ المذكور، صح، وكان استثناء للثلث. وإن أراد ما يساوي ألفا عند التقويم، فلا، لانه مجهول. فرع إذا باع أذرعا من أرض أو دار أو ثوب، فإن كانا يعلمان جملة ذرعانها، بأن باع ذراعا من عشرة، ويعلمان أن الجملة عشرة، صح على الصحيح، وكأنه باعه العشر. قال الامام: إلا أن يعني معينا فيبطل، كشاة من القطيع. ولو اختلفا، فقال المشتري: أردت الاشاعة، فالعقد صحيح. وقال البائع: بل أردت معينا، ففيمن يصدق ؟ احتمالان. قلت: أرجحهما: البائع. والله أعلم. وإن كان أحدهما لا يعلم جملة الذرعان، لم يصح البيع. ولو وقف على طرف الارض وقال: بعتك كذا ذراعا من موقفي هذا في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول، صح على الاصح. فرع إذا قال: بعتك صاعا من هذه الصبرة، فله حالان. أحدهما: أن يعلما مبلغ صيعانها فالعقد صحيح قطعا، وينزل على الاشاعة. ولو كانت الصبرة مائة صاع، فالمبيع عشر العشر، فلو تلف بعضها، تلف بقدره من المبيع. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الامام في تنزيله وجهين. أحدهما: هذا. والثاني: المبيع صاع من الجملة غير مشاع، أي صاع كان. فعلى هذا، يبقى المبيع ما بقي صاع. الحال الثاني: أن لا يعلما أو أحجها مبلغ صيعانها، فوجهان. أحدهما، وهو اختيار القفال: لا يصح، كما لو فرق صيعان الصبرة، وقال: بعتك صاعا منها، فإنه لا يصح. وأصحهما: يصح وهو المنصوص. وفي فتاوى القفال: أنه كان إذا(3/29)
سئل عن هذه المسألة، يفتي بهذا الثاني مع ذهابه إلى الاول، ويقول: المستفتي يستفتيني عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، لا عما عندي. وعلى هذا، المبيع صاع منها، أي صاع كان. فلو تلف جميعها إلا صاعا، تعين العقد فيه، والبائع بالخيار بين أن يسلم صاعا من أعلى الصبرة أو أسفلها وإن لم يكن الاسفل مرئيا، لان رؤية ظاهر الصبرة كرؤية كلها. قلت: وأما استدلال الاول بأنه لو فرقت صيعانها فباع صاعا لم يصح، فهكذا قطع به الجمهور. وحكى صاحب المهذب في تعليقه في الخلاف عن شيخه القاضي أبي الطيب صحة بيعه، لعدم الغرر. والصحيح: المنع. والله أعلم. فرع إبهام ممر الارض المبيعة، كإبهام نفس المبيع. وصورته: أن يبيع أرضا محفوفة بملكه من جميع الجوانب، ويشرط للمشتري حق الممر من جانب، ولم يعينه، فالبيع باطل، لاختلاف الغرض بالممر. فإن عين الممر من جانب، صح البيع. ولو قال: بعتكها بحقوقها، صح، وثبت للمشتري حق الممر من كل جانب كما كان ثابتا للبائع قبل البيع. وإن أطلق البيع ولم يتعرض للممر، فوجهان. أصحهما: يصح، ويكون كما لو قال: بعتكها بحقوقها. والثاني: أنه لا يقتضي الممر، فعلى هذا هو كما لو صرح بنفي الممر، وفيه وجهان. أصحهما: بطلان البيع، لعدم الانتفاع في الحال، والثاني: الصحة، لامكان تحصيل الممر، وقال في التهذيب: إن أمكن تحصيل ممر، صح البيع، وإلا، فلا. ولو كانت الارض المبيعة ملاصقة للشارع، فليس للمشتري سلوك ملك البائع، فإن العادة في مثلها الدخول من الشارع، فينزل الامر عليه. ولو كانت ملاصقة ملك المشتري، لم يتمكن من المرور فيما بقي للبائع، بل يدخل من ملكه القديم. وأبدى الامام فيه احتمالا، قال: وهذا إذا أطلق البيع، أما إذا قال: بحقوقها، فله الممر في ملك البائع. ولو باع دارا وازتثنى لنفسه بيتا فله الممر، فإن نفى الممر، نظر، إن أمكن اتخاذ ممر، صح البيع، وإلا، فوجهان قلت: أصحهما: البطلان كمن باع ذراعا من ثوب ينقص بالقطع. والله أعلم.(3/30)
فصل وأما القدر، فالمبيع قد يكون في الذمة، وقد يكون معينا، والاول هو السلم، والثاني هو المشهور باسم البيع، والثمن فيهما جميعا قد يكون في الذمة وإن كان يشترط في السلم تسليم رأس المال في مجلس العقد، وقد يكون معينا، فما كان في الذمة من العوضين، اشترط كونه معلوم القدر، حتى لو قال: بعتك مل ء هذا البيت حنطة، أو بزنة هذه الصنجة ذهبا، لم يصح البيع. ولو قال: بعت بما باع به فلافرسه أو ثوبه، وأحدهما لا يعلم، لم يصح على الصحيح، للغرر. وقيل: يصح، للتمكن من العلم، كما لو قال: بعتك هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، يصح البيع وإن كانت الجملة مجهولة في الحال. وقيل: إن حصل العلم قبل التفرق، صح. ولو قال: بعتك بمائة دينار إلا عشرة دراهم، لم يصح إلا أن يعلما قيمة الدينار بالدراهم. قلت: ينبغي ألا يكفي علمهما بالقيمة، بل يشترط معه قصدهما استثناء القيمة. وذكر صاحب المستظهري فيما إذا لم يعلما حال العقد قيمة الدينار بالدراهم، ثم علما في الحال طريقين. أصحهما: لا يصح كما ذكرنا. والثاني: على وجهين. والله أعلم. ولو قال: بعتك بألف من الدراهم والدنانير، لم يصح. فرع إذا باع بدرامم أو دنانير، اشترط العلم بنوعها، فإن كان في البلد نقد واحد، أو نقود يغلب التعامل بواحد منها، انصرف العقد إلى المعهود وإن كان فلوسا، إلا أن يعين غيره. فإن كان نقد البلد مغشوشا، ففي صحة المعاملة به وجهان ذكرناهما في كتاب الزكاة، إلا أنا خصصناهما بما إذا كان قدر النقرة مجولا، وربما نقل العراقيون الوجهين مطلقا، ووجهوا المنع بأن المقصود غير متميز(3/31)
عما ليس بمصود، فصار كما لو شيب اللبن بالماء وبيع، فإنه لا يصح. وحكي وجه ثالث: أنه إذا كان الغش غالبا، لم يجز التعامل بها. وإن كان مغلوبا، جاز. وعلى الجملة، الاصح الصحة مطلقا، وعلى هذا، ينصرف إليه العقد عند الاطلاق. ولو باع بمغشوشة، ثم بان أن فضتها قليلة جدا، فله الرد على المذهب. وقيل: وجهان. أما إذا كان في البلد نقدان أو نقود لا غلبة لبعضها، فلا يصح البيع حتى يعين. وتقويم المتلف يكون بغالب نقد البلد. فإن كان فيه نقدان فصاعدا، ولا غالب، عين القاضي واحدا للتقويم. ولو غلب من جنس العروض نوع، فهل ينصرف الذكر إليه عند الاطلاق ؟ وجهان. أصحهما: ينصرف كالنقد. ومن صوره: أن يبيع صاعا من الحنطة بصاع منها أو بشعير في الذمة، ثم يحضره قبل التفرق. وكما ينصرف العقد إلى النقد الغالب، ينصرف في الصفات إليه أيضا. حتى لو باع بدينار أو بعشرة دنانير، والمعهود في البلد الصحاح، انصرف إليه، وإن كان المعهود المكسر، انصرف إليه. قال في البيان: إلا أن تتفاوت قيمة المكسر، فلا يصح. وعلى هذا القياس، لو كان المعهود، أن يؤخذ نصف الثمن من هذا، ونصفه من ذاك، أو أن يؤخذ على نسبة أخرى، فالبيع صحيح محمول عليه. وإن كان يعهد التعامل بهذا مرة، وبهذا مرة، ولم يكن بينهما تفاوت، صح البيع، وسلم ما شاء منهما. وإن كان بينهما تفاوت بطل البيع كما لو كان في البلد نقدان غالبان وأطلق. ولو قال: بعت بألف صحاح ومكسرة، فوجهان. أصحهما: البيع باطل. والثاني: أنه صحيح ويحمل على التنصيف. ويشبه أن يجري هذا الوجه فيما إذا قال: بعت بألف ذهبا وفضة. قلت: لا جريان له هناك، والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة، فيعظم الغرر. والله أعلم. فرع لو قال: بعتك بدينار صحيح، فجاء بصحيحين وزنهما مثقال، لزمه القبول، لان الغرض لا يختلف بذلك. وإن جاء بصحيح وزنه مثقال ونصف، قال(3/32)
في التتمة: لزمه قبوله، والزيادة أمانة في يده. والصواب: أنه لا يلزمه القبول، لما في الشركة من الضرر، وقد ذكر في البيان نحو هذا. فلو تراضيا به، جاز. وحينئذ لو أراد أحدهما كسره، وامتنع الآخر، لم يجبر عليه، لما في هذه القسمة من الضرر. ولو باع بنصف دينار صحيح بشرط كونه مدورا، جاز إن كان يعم وجوده. وإن لم يشترط، فعليه شق وزنه نصف مثقال. فإن سلم إليه صحيحا أكثر من نصف مثقال وتراضيا بالشركة فيه، جاز. ولو باعه شيئا بنصف دينار صحيح، ثم باعه شيئا آخر بنصف دينار صحيح، فإن سلم صحيحا عنهما، فقد زاد خيرا، وإن سلم قطعتين وزن كل واحدة نصف دينار، جاز. فلو شرط في العقد الثاني تسليم صحيح عنهما، فالعقد الثاني فاسد، والاول ماض على الصحة إن جرى الثاني بعد لزومه، وإلا، فهو إلحاق شرط فاسد بالعقد في زمن الخيار، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. فرع لو باع بنقد قد انقطع عن أيدي الناس، فالعقد باطل لعدم القدرة على التسليم. وإن كان لا يوجد في تلك البلدة، ويوجد في غيرها، فإن كان الثمن حالا، أو مؤجلا إلى مدة لا يمكن نقله فيها، فهو باطل أيضا. وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها، صح. ثم إن حل الاجل وقد أحضره، فذاك، وإلا، فيبنى على أن الاستبدال عن الثمن، هل يجوز ؟ إن قلنا: لا، فهو كانقطاع المسلم فيه. وإن قلنا: نعم، استبدل، ولا ينفسخ العقد على الصحيح. وفي وجه: ينفسخ. فإن كان يوجد في البلد، إلا أنه عزيز، فإن جوزنا الاستبدال، صح العقد. فإن وجد، فذاك، وإلا فيستبدل. وإن لم نجوزه، لم يصح. فلو كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا، ثم انقطع. فإن جوزنا الاستبدال، استبدل، وإلا، فهو كانقطاع المسلم فيه. فرع لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد، لم يكن للبائع إلا ذاك النقد، كما لو أسلم في حنطة فرخصت، فليس له غيرها. وفيه وجه شاذ ضعيف: أنه مخير إن شاء أجاز العقد بذلك النقد، وإن شاء فسخه، كما لو تعيب قبل القبض. فرع لو قال: بعتك هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، أو هذه الارض، أو(3/33)
الثوب، كل ذراع بدرهم، أو هذه الاغنام، كل شاة بدرهم، صح العقد في الجميع على الصحيح، ولا تضر جهالة جملة الثمن، لانه معلوم التفصيل. وقال ابن القطان: لا يصح. ولو قال: بعتك عشرة من هذه الاغنام بكذا، لم يصح وأن علم عدد الجملة، بخلاف مثله في الثوب والصبرة والارض، لان قيمة الشياة تختلف. ولو قال: بعتك من هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، لم يصح. وقال ابن سريج: يصح في صاع فقط. قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الاجارة، أنه لو قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، لم يصح على الصحيح الذي قطع به الجمهور، واختار الامام وشيخه الصحة. والله أعلم. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم، كل صاع بدرهم، أو قال مثله في الارض والثوب، نظر، إن خرج كما ذكر، صح البيع. وإن خرج زائدا أو ناقصا، ففيه قولان. أظهرهما: لا يصح، لتعذر الجمع بين الامرين. والثاني: يصح، لاشارته إلى الصبرة ويلغو الوصف. فعلى هذا، إن خرج ناقصا، فالمشتري بالخيار. فإن أجاز، فهل يجيز بجميع الثمن لمقابلة الصبرة به، أم بالقسط لمقابلة كل صاع بدرهم ؟ وجهان. وإن خرج زائدا، فلمن تكون الزيادة ؟ وجهان. أصحهما، للمشتري، فلا خيار له قطعا، ولا للبائع على الاصح. والثاني: يكون للبائع، فلا خيار له، وللمشتري الخيار على الاصح. فرع هذا الذي سبق، هو فيما إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا كان معينا، فلا تشترط معرفة قدره بالكيل والوزن. فلو قال: بعتك هذه الصبرة، أو بعتك بهذه الدراهم، صح وتكفي المشاهدة، لكن هل يكره بيع الصبرة جزافا ؟ قولان. قلت: أظهرهما: يكره، وقطع به جماعة، وكذا البيع بصبرة ادراهم مكروه. والله أعلم. ولو كانت الصبرة على موضع من الارض فيه ارتفاع وانخفاض، أو باع السمن أو نحوه في ظرف مختلف الاجزاء رقة وغلظا، فثلاث طرق. أصحها: أن في صحة البيع قولي بيع الغائب، والثاني: القطع بالصحة، والثال ث: القطع(3/34)
بالبطلان، وهو ضعيف وإن كان منسوبا إلى المحققين. فإن قلنا: بالصحة فوقت الخيار هنا معرفة مقدار الصبرة، أو التمكن من تخمينه برؤية ما تحتها، وإن قلنا: بالبطلان، فلو باع الصبرة والمشتري يظنها على استواء الارض، ثم بان تحتها دكة، فهل نتبين بطلان العقد ؟ وجهان: أصحهما: لا، ولكن للمشتري الخيار، كالعيب والتدليس، وبه قطع صاحب الشامل وغيره. والله أعلم. فرع لو قال: بعتك هذه الصبرة إلا صاعا، فإن كانت معلومة الصيعان، صح، وإلا، فلا. فصل وأما الصفة: ففيها مسائل. إحداها: في بيع الاعيان الغائبة والحاضرة التي لم تر، قولان. قال في القديم والاملاء: والصرف من الجديد يصح، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم، وقال بتصحيحه طائفة من أئمتنا، وأفتوا به، منهم، البغوي، والروياني. وقال في الام والبويطي: لا يصح، وهو اختيار المزني. وفي محل القولين، ثلاث طرق. أصحها: أنهما فيما لم يره المتعاقدان أو أحدهما جلا فرق. والثاني: أنهما فيما شاهده البائع دون المشتري. فإن لم يشاهده البائع، فباطل قطعا. والثالث: إن رآه المشتري، صح قطعا، وإلا، فالقولان. الثانية: القولان في شراء الغائب وبيعه يجريان في إجارته، وفيما إذا أجر بعين غائبة، أو صالح عليها، أو جعلها رأس مال السلم وسلمها في المجلس. أما إذا أصدقها عينا غائبة، أو خالعها عليها، أو عفا عن القصاص على عين غائبة، فيصح النكاح وتقع البينونة، ويسقط القصاص قطعا. وفي صحة المسمى، القولان. فإن لم يصح، وجب مهر المثل على الرجل في النكاح، وعلى المرأة في الخلع، ووجبت الدية على المعفو عنه. ويجريان في رهن الغائب وهبته، وهما أولى بالصحح، لعدم الغرر. ولهذا، إذا صححناهما، فلا خيار عند الرؤية. الثالثة: إن لم يجز بيع الغائب وشراؤه، لم يجز بيع الاعمى وشراؤه، وإلا، فوجهان. أصحهما: لا يجوز أيضا، إذ لاسبيل إلى رؤيته، فيكون كبيع الغائب على أن لا خيار. والثاني: يجوز، ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم. فإذا قلنا: لا يصح بيعه وشراؤه، لم يصح منه(3/35)
الاجارة والرهن والهبة أيضا. وهل له أن يكاتب عبده ؟ قال في التهذيب: لا. وقال في التتمة: المذهب جوازه، تغليبا للعتق. قلت: الاصح: الجواز. والله أعلم. ويجوز أن يؤجر نفسه، وللعبد الاعمى أن يشتري نفسه، وأن يقبل الكتابة على نفسه لعلمه بنفسه، ويجوز أن يتزوج. وإذا زوج موليته تفريعا على أن العمى غير قادح في الولاية، والصداق عين مال، لم يثبت المسمى، وكذا لو خالع الاعمى على مال. أما إذا أسلم في شئ، أو أسلم إليه، فينظر، إن عمي بعد بلوغه سن التمييز، صح، لانه يعرف الاوصاف، ثم يوكل من يقبض عنه على الوصف المشروط، ولا يصح قبضه بنفسه على الاصح، لانه لا يميز بين المستحق وغيره. وإن خلق أعمى، أو عمي قبل التميز، فوجهان. أصحهما عند العراقيين والاكثرين من غيرهم: الصحة، لانه يعرف بالسماع. فعلى هذا، إنما يصح إذا كان رأس المال موصوفا معينا في المجلس، فإن كان معينا، فهو كبيعة العين. ثم كل ما لا يصح من الاعمى من التصرفات، فطريقه أن يوكل، ويحتمل ذلك للضرورة. قلت: لو كان الاعمى رأى شيئا مما لا يتغير، صح بيعه وشراؤه إياه إذا صححنا ذلك من البصير، وهو المذهب. والله أعلم. الرابعة: إذا لم نجوز بيع الغائب وشراءه، فعليه فروع. أحدها: لو اشترى غائبا رآه قبل العقد، نظر، إن كان مما لا يتغير غالبا، كالارض، والاواني، والحديد، والنحاس، ونحوها، أو كان لا يتغير في المدة المتخللة بين الرؤية والشراء، صح العقد، لحصول العلم المقصود. وقال(3/36)
الانماطي: لا يصح، وهو شاذ مردود. فإذا صححناه، فوجده كما رآه أولا، فلا خيار. وإن وجده متغيرا، فالمذهب: أن العقد صحيح، وله الخيار، وبهذا قطع الجمهور. وذكر في الوسيط وجها: أنه يتبين بطلان البيع لتبين انتفاء المعروفة. قال الامام: وليس المراد بتغيره حدوث عيب، فإن خيار الغيب لا يختص بهذه الصورة، بل الرؤية بمنزلة الشرط في الصفات الكائنة عند الرؤية. فكل ما فات منها، فهو كتبين الخلف في الشرط. وأما إذا كان المبيع مما يتغير في مثل تلك المدة غالبا، بأن رأى ما يسرع فساده من الاطعمة، ثم اشتراه بعد مدة صالحة، فالبيع باطل. وإن مضت مدة يحتمل أن يتغير فيها، ويحتمل أن لا يتغير، أو كان حيوانا، فالاصح الصحة. فإن وجده متغيرا، فله الخيار. وإذا اختلفا، فقال المشتري: تغير. وقال البائع: هو بحاله، فالاصح المنصوص، أن القول قول المشتري مع يمينه، لان البائع يدعي عليه علمه بهذه الصفة، فلم يقبل كادعائه اطلاعه على العيب. والثاني: القول قول البائع. الثاني: استقصاء الاوصاف على الحد المعتبر في السلم، هل يقوم مقام الرؤية - وكذا سماع وصفه - بطرق التواتر ؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قطع العراقيون. الثالث: لو رأى بعض الشئ دون بعض، فإن كان مما يستدل برؤية بعضه(3/37)
على الباقي، صح البيع قطعا، وذلك مثل رؤية ظاهر صبرة الحنطة ونحوها. ثم لا خيار إذا رأى باطنها، إلا إذا خالف ظاهرها. وحكي قول شاذ ضعيف: أنه لا يكفى رؤية ظاهر الصبرة، بل لا بد من أن يقلبها ليعرف باطنها، والمشهور، هو الاول. وفي معنى الحنطة والشعير، صبرة الجوز واللوز والدقيق. فلو كان شئ منها في وعاء، فرأى أعلاه، أو رأى أعلى السمن والخل وسائر المائعات في ظروفها، كفى. ولو كانت الحنطة في بيت مملوء منها، فرأى بعضها من الكوة أو الباب، كفى إن عرف سعة البيت وعمقه، وإلا، فلا. وكذا حكم الجمد في المجمدة. ولا تكفي رؤية صبرة البطيخ، والسفرجل، والرمان، بل لا بد من رؤية كل واحدة منها. ولا يكفي في سلة العنب والخوخ ونحوهما، رؤية أعلاها، لكثرة الاختلاف فيها، بخلاف الحبوب. وأما التمر، فإن لم تلزق حباته، فصبرته كصبرة الجوز، واللوز. وإن التزقت كالقوصرة، كفى رؤية أعلاها على الصحيح. وأما القطن في العدل، فهل تكفي رؤية أعلاه، أم لا بد من رؤية جميعه ؟ فيه خلاف حكاه الصيمري وقال: الاشبه عندي، أنه كقوصرة التمر. الرابع: لو أراه أنموذجا وبنى أمر البيع عليه، نظر، إن قال: بعتك من هذا النوع كذا، فهو باطل، لانه لم يعين مالا ولم يراع شروط السلم، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السلم على الصحيح، لانالوصف باللفظ يرجع إليه عند النزاع. وإن قال: بعتك الحنطة التي في هذا البيت، وهذا الانموذج منها، فإن لم يدخل الانموذج في البيع، لم يصح على الاصح، لان المبيع غير. مرئي. وإن أدخله، صح على الاصح. ولا يخفى أن مسألة الانموذج، مفروضة في المتماثلات. الخامس: إذا كان الشئ مما لا يستدل برؤية بعضه على الباقي. فإن كان المرئي صوانا له، كقشر الرمان والبيض، كفى رؤيته، وكذا شراء الجوز(3/38)
واللوز في القشر الاسفل. ولا يصح بيع اللب وحده على القولين جميعا، لان تسليمه لا يمكن إلا بكسر القشر فينقص عين المبيع. ولو رأى المبيع من وراء قارورة هو فيها، لم يكف، لان المعرفة التامة لا تحصل به، وليس فيه صلاح له، بخلاف السمك يراه في الماء الصافي، يجوز بيعه. وكذا الار ض يعلوها ماء صاف، لان الماء من صلاحهما. وإن لم يكن كذلك، لم تكف رؤية البعض على هذا القول الذي تفرع عليه. وأما على القول الآخر، فيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المسألة الخامسة. السادس: الرؤية في كل شئ على حسب ما يليق به. ففي شراء الدار، لا بد من رؤية البيوت، والسقوف والسطوح، والجدران، داخلا وخارجا، والمستحم والبالوعة. وفي البستان، يشترط رؤية الاشجار، والجدران، ومسايل الماء، ولا حاجة إلى رؤية أساس البنيان وعروق الاشجار ونحوهما. وقيل: في اشتراط رؤية طريق الدار، ومجرى الماء الذي تدور به الرحى، وجهان. ويشترط في شراء العبد رؤية الوجه، والاطراف، ولا يجوز رؤية العورة. وفي باقي البدن، وجهان. أصحهما: الاشتراط، وبه قطع صاحبا التهذيب والرقم. وفي الجارية أوجه. أحدها: كالعبد. والثاني: يشترط رؤية ما يظهر عند الخدمة. والثالث: تكفي رؤية الوجه والكفين. وفي الاسنان واللسان، وجهان. ويشترط رؤية الشعر على الاصح. قلت: الاصح: أنها كالعبد. والله أعلم. ويشترط في الدواب رؤية مقدمها، ومؤخرها وقوائمها، ويشترط رفع السرج والاكاف، والجل. وفي وجه: يشترط أن يجري الفرس بين يديه ليعرف سيره، ويشترط في الثوب المطوي نشره. قال الامام: ويحتمل عندي أن يصحح بيع الثياب(3/39)
التي لا تنشر أصلا إلا عند القطع، لما في نشرها من النقص. قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو اشترى الثوب المطوي وصححناه، فنشره، واختار الفسخ، وكان لطيه مؤنة، ولم يحسن طيه، لزم المشتري مؤنة الطي، كما لو اشترى شيئا ونقله إلى بيته فوجد به عيبا، فإن مؤنة الرد على المشتري. والله أعلم. ثم إذا نشرت، فما كان صفيقا كالديباج المنقش، فلا بمن رؤية وجهيه، وكذا البسط والزلالي. وما كان رقيقا، لا يختلف وجهاه، كالكرباس، كفى رؤية أحد وجهيه على الاصح. ولا يصح بيع الثياب التوزية في المسوح على هذا القول، ولا بد في شراء المصحف والكتب من تقليب الاوراق ورؤية جميعها. وفي الورق البياض، لا بد من رؤية جميع الطاقات. قال أبو الحسن العبادي: الفقاع يفتح رأسه فينظر فيه بقدر الامكان، ليصح بيعه. وأطلق الغزالي في الاحياء: المسامحة به. قلت: الاصح: قول الغزالي. والله أعلم. المسألة الخامسة: إذا جوزنا بيع الغائب، فعليه فروع. أحدها: بيع اللبن في الضرع باطل. فلو قال: بعتك من اللبن الذي في ضرع هذه البقرة كذا، لم يجز على المذهب، لعدم تيقن وجود ذلك القدر. وقيل: فيه قولا بيع الغائب. ولو حلب شيئا من اللبن فأراه، ثم باعه رطلا مما في الضرع، فوجهان كالانموذج. وذكر الغزالي الوجهين، فيما لو قبض قدرا من الضرع وأحكم شده وباع ما فيه. قلت: الاصح في الصورتين، البطلان، لانه يختلط بغيره مما ينصب في الضرع. والله أعلم. الثاني: لا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم. وفي وجه: يجوز بشرط(3/40)
الجز، وهو شاذ ضعيف. ويجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان بعد الذكاة، وتجوز الوصية باللبن فالضرع، والصوف على الظهر. الثالث: بيع الشاة المذبوحة قبل السلخ، باطل، سواء بيع الجلد واللحم معا، أو أحدهما. ولا يجوز بيع الاركاع والرؤوس قبل الابانة. وفي الاركاع وجه شاذ. ويجوز بيعها بعد الابانة نيئة ومشوية. وكذا المسموط نيئا ومشويا. وفي النئ احتمال للامام. الرابع: بيع المسك في الفأرة، باطل، سواء بيع معها أو دونها، كاللحم في الجلد، سواء فتح رأس الفأرة، أم لا. وقال في التتمة: إذا كانت مفتوحة، نظر، إن لم يتفاوت ثخنها، وشاهد المسك فيها، صح البيع، وإلا، فلا. وقال ابن سريج: يجوز بيعه مع الفأرة مطلقا، كالجوز. ولو رأى المسك خارج الفأرة، ثم اشتراه بعد الرد إليها، فإن كان رأسها مفتوحا فرآه، جاز، وإلا، فعلى قولي بيع الغائب. قلت: قال أصحابنا: لو باع المسك المختلط بغيره، هم يصح، لان المقصود مجهول. كما لا يصح بيع اللبن المخلوط بماء. ولو باع سمنا في ظرف، ورأى أعلاه مع ظرفه أو دونه، صح. فإن قال: بعتكه بظرفه، كل رطل بدرهم، فإن لم يكن للظرف قيمة، بطل. وإن كان، فقد قيل: يصح وإن اختلفت قيمتهما، كما لو باع فواكه مختلطة، أو حنطة مختلطة بشعير وزنا أو كيلا. وقيل: باطل، لان المقصود السمن، وهو مجهول، بخلاف الفواكه، فكلها مقصودة. وقيل: إن علما وزن الظرف والسمن، جاز، وإلا، فلا، وهذا هو الاصح، صححه الجمهور، وقطع به معظم العراقيين. وإن باع المسك بفأرة، كل مثقال(3/41)
بدينار، فكالسمن بظرفه، ذكره البغوي وغيره. والله أعلم. الخامس: لو رأى بعض الثوب، وبعضه الآخر في صندوق، فالمذهب: أنه على القولين في الغائب، وبه قال الجمهور. وقيل: باطل قطعا. ولو كان المبيع شيئين، رأى أحدهما فقط، فإن أبطلنا بيع الغائب، بطل فيما لم يره، وفي المرئي قولا تفريق الصفقة، وإلا، ففي صحة العقد فيهما، القولان فيمن جمع في صفقة بين مختلفي الحكم، لان ما رآه لا خيار فيه، وما لم يره فيه الخيار. فإن صححنا، فله رد ما لم يره وإمساك ما رآه. السادس: إذا لم يشرط الرؤية، فلا بد من ذكر جنس المبيع ونوعه، بأن يقول: بعتك عبدي التركي، أو فرسي العربي. ولا يكفي: بعتك ما في كمي أو كفي أو خزانتي، أو ميراثي من فلان، إذا لم يعرفه المشتري. وفي وجه: يكفي. وفي وجه آخر: يكفي ذكر الجنس، ولا حاجة إلى النوع، فيقول: عبدي، وهما شاذان ضعيفان. وإذا ذكر الجنس والنوع، لم يفتقر إلى ذكر الصفات على الاصح المنصوص في الاملاء والقديم. وفي وجه: يفتقر إلى ذكر معظم الصفات، وضبط ذلك بما يصف به المدعى عند القاضي، قاله القاضي أبو حامد. وفي وجه أضعف منه: يفتقر إلى صفات السلم، قاله أبو علي الطبري. فعلى الاصح: لو كان له عبدان من أنواع، فلا بد من زيادة يقع بها التمييز كالتعرض للسن أو غيره. السابع: إذا قلنا: يشترط الوصف فوصف، فإن وجده كما وصف، فله الخيار على الاصح. وقيل: له الخيار قطعا. وإن وجده دون وصفه، فله الخيار قطعا. وإن قلنا: لا حاجة إلى الوصف، فللمشتري الخيار عند الرؤية، سواء شرط الخيار، أم لا. وقيل: لا يثبت الخيار إلا أن يشرطه. والصحيح: الاول. وهل له الخيار قبل الرؤية ؟ فيه أوجه. الصحيح: أنه يند فسخه قبل الرؤية، ولا تنفذ إجارته. والثاني: ينفذان. والثالث: لا ينفذان. وأما البائع، فالاصح: أنه لا خيار له، سواء كان رأى المبيع، أم لا. وقيل: له الخيار في الحالين. وقيل: له الخيار إن لم يكن رآه، وبه قطع الشيخ ومتابعوه كالمشتري. ثم خيار الرؤية حيث ثبت، هل هو على الفور، أم يمتد امتداد مجلس الرؤية ؟ وجهان. أصحهما: يمتد. قال الشيخ أبو محمد. الوجهان بناء على وجهين في أنه هل يثبت خيار(3/42)
المجلس مع خيار الرؤية كشراء العين الحاضرة، أم لا يثبت للاستغناء بخيار الرؤية ؟ فعلى الاول: خيار الرؤية على الفور، لثلا يثبت خيار مجلسين. وعلى الثاني: يمتد. الثامن: لو تلف المبيع في يد المشتري قبل الرؤية، ففي انفساخ البيع وجهان، كنظيره في خيار الشرط. ولو باعه قبل الرؤية، لم يصح، بخلاف ما لو باعه في زمن خيار الشرط، فإنه يصح على الاصح، لانه يصير مجيزا للعقد، وهنا لا إجازة قبل الرؤية. التاسع: هل يجوز أن يوكل في الرؤية من يفسخ أو يجيز ما يستصوبه ؟ وجهان. أصحهما: يجوز كالتوكيل في خيار العيب والخلف. والثاني: لا، لانه خيار شهوة لا يتوقف على نقص ولا غرض، فأشبه ما لو أسلم على أكثر من أربع نسوة، يوكل في الاختيار. العاشر: نقل صاحب التتمة والروياني وجها: أنه يعتبر على قول اشتراط الرؤية، الذوق في الخل ونحوه، والشم في المسك ونحوه، واللمس في الثياب ونحوها، والصحيح المعروف: أنها لا تعتبر. الحادي عشر: ذكر بعضهم: أنه لا بد من ذكر موضع المبيع الغائب. فلو كان في غير بلد التبايع، وجب تسليمه في ذلك البلد، ولا يجوز شرط تسليمه في بلد التبايع. بخلاف السلم، فإنه مضمون في الذمة. والعين الغائبة غير مضمونة في الذمة، فاشتراط نقلها، يكون بيعا وشرطا. الثاني عشر: لو رأى ثوبين فسرق أحدهما، فاشترى الباقي ولا يعلم أيهما المسروق، قال الغزالي في الوسط: إن تساوت صفتهما وقدرهما وقيمتهما، كنصفي كرباس واحد، صح قطعا، وإن اختلفا في شئ من ذلك، خرج على بيع الغائب. الثالث عشر: إذا لم نشرط الرؤية، فاختلفا، فقال البائع للمشتري: رأيت ا لمبيع فلا خيار لك، فأنكر المشتري، فالقول قول البائع على الاصح. وإن شرطنا(3/43)
الرؤية فاختلفا، قال الغزالي في فتاويه: القول قول البائع، لان إقدام المشتري على العقد، اعتراف بصحته، ولا ينفك هذا عن خلاف. قلت: هذه مسألة اختلافهما في مفسد للعقد، وفيها الخلاف المعروف. والاصح: أن القول قول من يدعي الصحة، وعليه فرعها الغزالي. وبقيت مسائل تعلق بالباب، منها بيع أستار الكعبة، فيه خلاف قدمته في أواخر الحج. وبيع أشجار الحرم وصيده، حرام باطل. قال القفال: إلا أن يقطع شيئا يسيرا لدواء، فيجوز بيعه حينئذ. وفيما قاله نظر، وينبغي أن لا يجوز كالطعام الذي أبيح له أكله، لا يجوز بيعه. قال صاحب التلخيص: حكم شجر النقيع - بالنون - الذي هو الحمى، حكم أشجار الحرم، فلا يجوز بيعه. ومما تعم به البلوى ما اعتاده الناس من بيع نصيبه من الماء الجاري لن النهر. قال المحاملي في اللباب: هذا باطل لوجهين. أحدهما: أن المبيع غير معلوم القدر. والثاني: أن الماء الجاري غير مملوك، وسيأتي هذا مع غيره مبسوطا في آخر كتاب إحياء الموات إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
باب الربا
إنما يحرم الربا في المطعوم، والذهب، والفضة. فأما المطعوم، فسواء كان(3/44)
مما يكال أو يوزن، أم لا، هذا هو الجديد، وهو الاظهر. والقديم: أنه يشترط مع الطعم الكيل أو الوزن. فعلى هذا، لا ربا في السفرجل، والرمان، والبيض، والجوز، وغيره مما لا يكال ولا يوزن. وقال الاودني من أصحابنا: لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلا، ولا يشترط الطعم، وهذا شاذ مردود. والمراد بالمطعوم: ما يعد للطعم غالبا تقوتا، أو تأدما، أو تفكها، أو غيرها، فيدخل في الفواكه، والحبوب، والبقول، والتوابل، وغيرها. وسواء ما أكل نادرا كالبلوط، والطرثوث، وما أكل غالبا، وما أكل وحده أو مع غيره. ويجري الربا في الزعفران على الاصح، وسواء ما أكل للتداوي كالاهليلج، والبليلج، والسقمونيا وغيرها، وما أكل لغرض آخر. وفي التتمة وجه: أنه ما يقتل كثيره ويستعمل قليله في الادوية كالسقمونيا، لا ربا فيها، وهو ضعيف. والطين الخراساني، ليس ربويا على المذهب. والارمني، ربوي على الصحيح، لانه دواء. ودهن البنفسج، والورد، والبان، ربوي على الاصح. ودهن الكتان، والسمك، وحب الكتان، وماء الورد، والعود، ليس ربويا على الاصح.(3/45)
والزنجبيل، والمصطكى، ربوي على الاصح. والماء إذا صححنا بيعه، ربوي على الاصح. ولا ربا في الحيوان، ولكن ما يباح أكله على هيئته كالسمك الصغير، على وجه يجري فيه الربا على الاصح. وأما الذهب والفضة، فقيل: يثبت الربا فيهما لعينهما، لا لعلة. وقال الجمهور: العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة. وإن شئت قلت: جوهرية الاثمان غالبا. والعبارتان تشملان التبر، والمضروب، والحلى، والاواني منهما. وفي تعدى الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه، والصحيح: أنه لا ربا فيهما لانتفاء الثمنية الغالبة. ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرها قطعا.
فصل إذا باع مالا بمال، فله حالان. أحدهما: أن لا يكونا ربوبين. والثاني: أن يكونا. فالحال الاول يشمل ما إذا لم يكن فيهما ربوي، وما إذا كان أحدهما ربويا.(3/46)
وعلى التقديرين في هذا الحال، لا تجب رعاية التماثل، ولا الحلول، ولا التقابض في المجلس، سواء اتفق الجنس، أو اختلف. حتى لو باع حيوانا بحيوانين من جنسه، أو أسلم ثوبا في ثوبين من جنسه، جاز. وأما الحال الثاني: فتارة يكونان ربويين بعلتين، وتارة بعلة. فإن كانا بعلتين، لم تجب رعاية التماثل ولا التقابض ولا الحلول.(3/47)
ومن صوره: أن يسلم أحد النقدين في الحنطة، أو يبيع الحنطة بالذهب أو بالفضة، نقدا، أو نسيئة وإن كانا بعلة. فإن اتحد الجنس، بأن باع الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة، ثبتت أحكام الربا الثلاثة، فتجب رعاية التماثل والحلول والتقابض في المجلس. وإن اختلف الجنس، كالحنطة وبالشعير، والذهب بالفضة، لم تعتبر الماثلة، ويعتبر الحلول والتقابض في المجلس. فرع حيث اعتبرنا التقابض، فتفرقا قبله، بطل العقد. ولو تقابضا بعض كل واحد من العوضين، ثم تفرقا، بطل فيما لم يقبض. وفي المقبوض قولا تفريق الصفقة. والتخاير في المجلس قبل التقابض، كالتفرق، فيبطل العقد. وقال ابن سريج: لا يبطل. والصحيح: الاول. ولو وكل أحدهما وكيلا بالقبض، فقبض قبل مفارقة الموكل المجلس، جاز، وبعده لا يجوز. فرع قد سبق بيع مال الربا بجنسه مع زيادة، لا يجوز. فلو أراد بيع صحاح بمكسرة، أو غير ذلك مع الزيادة، فله طرق. منها: أن يبيع الدراهم بالدنانير، أو بعرض. فإذا تقابضا وتخايرا، أو تفرقا، اشترى منه الدراهم المكسرة بالدنير أو العرض، فيصح ذلك، سواء اتخذه عادة، أم لا. ولو اشترى المكسرة بالدنانير، أو العرض الذي اشتراه منه قبل قبضه، لم يجز. وإن كان بعد قبضه وقبل التفرق والتخاير، جاز على المذهب، بخلاف ما لو باعه لغير بائعه قبل التفرق والتخاير، فإنه لا يجوز، لما فيه من إسقاط خيار العاقد الآخر، وهنا يحصل بتجايعهما الثاني إجازة الاول.(3/48)
ومنها: أن يقرض صاحبه الصحاح، ويستقرض منه المكسرة، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه. ومنها: أن يهب كل واحد ماله للآخر. ومنها: أن يبيع الصحاح بوزنها مكسورة، ويهبه صاحب المكسورة الزيادة، فجميع هذه الطرق جائزة، إذا لم يشرط في إقراضه وهبته وبيعه ما يفعله الآخر. قلت: هذه الطرق وإن كانت جائزة عندنا، فهي مكروهة إذا نويا ذلك. ودلائل الكراهة أكثر من أن تحصى. والله أعلم. فرع لو باع نصفا شائعا من دينار قيمته عشرة دراهم بخمسة، جاز، ويسلم إليه الدينار ليحصل تسليم النصف، ويكون النصف الآخر أمانة في يد القابض، بخلاف ما لو كان له عشرة عليه، فأعطاه عشرة عددا فوزنت، فكانت أحد عشر، كان الدينار الفاضل للدافع على الاشاعة، ويكون مضمونا على القابض، لانه قبضه لنفسه. ثم إذا سلم الدراهم الخمسة، فله أن يستقرضها ويشتري بها النصب الآخر. ولو باعه كل الدينار بعشرة، وليس معه إلا خمسة، فدفعها إليه، واستقرض منه خمسة أخرى، فقبضها وردها إليه عن الثمن، جاز، ولو استقرض الخمسة المدفوعة، لم يكف على الاصح.
فصل معيار الشرع الذي ترعى المماثلة به، هو الكيل والوزن. فالمكيل، لا يجوز بيع بعضه ببعض وزنا، ولا يضر مع الاستواء في الكيل التفاوت وزنا. والموزون لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلا، ولا يضر مع الاستواء في الوزن التفاوت كيلا. والذهب والفضة، موزونان. والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والملح، ونحوها، مكيلة، وكل ما كان مكيلا بالحجاز على عهد(3/49)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو مكيل، وما كان موزونا، فموزون. فلو أحدث الناس خلاف ذلك، فلا اعتبار بإحداثهم. فلو كان الملح قطعا كبارا، فوجهان. أحدهما: يسحق ويباع كيلا، فإنه الاصل. وأصحهما: يباع وزنا اعتبارا بهيئته في الحال. وكذا كل شئ يتجافى في الكيل، يباع بعضه ببعض وزنا، وما لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كان ولم يعلم هل كان يكال، أم يوزن ؟ أو علم أنه كان يوزن مرة ويكال أخرى، ولم يكن أحدهما أغلب، قال المتولي: إن كان أكبر جرما من التمر، اعتبر فيه الوزن، وإن كان مثله أو أصغر، ففيه أوجه. أصحها: تعتبر عادة الوقت في بلد البيع. والثاني: عادة الوقت في أكثر البلاد. فإن اختلفت ولا غالب، اعتبرنا شبه الاشياء به. والثالث: يعتبر الوزن. والرابع: الكيل. والخامس: يعتبر بأشبه الاشياء به. والسادس: يتخير بين الكيل والوزن، وهو ضعيف. ثم منهم من خص هذا الخلاف بما إذا لم يكن للشئ أصل معلوم العيار. أما إذا استخرج ماهذا حاله من أصل. فهو معتبر بأصله. ومنهم من أطلق، قال الامام: وسواء المكيال المعتاد في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسائر المكاييل المحدثة بعده، كما أنا إذا عرفنا التساوي بالتعديل في كفتي الميزان، تكتفي به وإن لم نعرف قدر ما في كل كفة. وفي الكيل بالقصعة ونحوها مما لا يعتاد الكيل به. تردد للقفال. والاصح، الجواز. والوزن بالطيار والقرسطون، وزن. وأما الماء، فقد يتأتى به الوزن، بأن يوضع الشئ في ظرف ويلقى في الماء، وينظر قدر غوصه، لكنه ليس وزنا شرعيا ولا عرفيا، فالظاهر: أنه لا يجوز التعويل عليه في الربويات. قلت: قد عول أصحابنا عليه في أداء المسلم فيه، وفي الزكاة، في مسألة الاناء بعضه ذهب وبعضه فضة، وقد ذكرناه في بابه، ولكن الفرق ظاهر. والله أعلم. فرع هذا الذي ذكرناه، كله في مقدر يباع بجنسه. أما ما لا يقدر بكل ولا وزن، كالبطيخ، والقثاء، والرمان، والسفرجل، فإن قلنا بالقديم: إنه لا ربا(3/50)
فيها، جاز بيع بعضها ببعض كيف شاء، حتى قال القفال: لو جفف شئ منها، وكان يوزن في جفافه، فلا ربا فيه أيضا، لانه لا ربا فيه في أكمل أحواله وهو حال الرطوبة. قال الامام: والظاهر جريان الربا فيه، فإنه في حال الجفاف مطعوم مقدر. وإن قلنا بالجديد: إن فيه الربا، جاز بيعه بغير جنسه كيف شاء. وأما بجنسه، فينظر، إن كان مما يجفف، كالبطيخ الذي يفلق، وحب الرمان الحامض، وكل ما يجفف من الثمار، وإن مقدرا كالمشمش، والخوخ، والكمثري الذي يفلق، لم يجز بيع بعضه ببعض في حال الرطوبة، ويجوز حال الجفاف على الصحيح. وعلى الشاذ: لا يجوز، إذ ليس له حال كمال. وإن كان مما لا يجفف، كالقثاء ونحوه، فهل يجوز بيع بعضه ببعض في حال رطوبته ؟ فيه وفي المقدرات التي لا تجفف، كالرطب الذي لا يتتمر، والعنب الذي لا يتزبب، قولان. أظهرهما: لا يجوز، كالرطب، بالرطب. والثاني: يجوز، كاللبن باللبن. فعلى هذا، إن لم يمكن كيله، كالبطيخ والقثاء، بيع وزنا. وإن أمكن، كالتفاح والتين، فيباع كيلا أو وزنا ؟ وجهان. أصحهما: وزنا، ولا بأس على الوجهين بتفاوت العدد. فرع لو أراد شريكان قسمة ربوي، فإن قلنا بالاظهر: إن القسمة بيع، لم يجز قسمة المكيل وزنا، ولا الموزون كيلا. وما لا يباع بعضه ببعض، كالرطب والعنب، لا يقسم أصلا. وإن قلنا: القسمة إفراز، جاز قسمة المكيل وزنا وعكسه، وجاز قسمة الرطب ونحوه وزنا. ولا يجوز قسمة غير الرطب والعنب خرصا. ويجوز قسمتهما خرصا إذا قلنا: إفراز. وقيل: لا يجوز. والاول هو الاصح المنصوص. فرع لا يجوز بيع الربوي بجنسه جزافا، ولا بالتخمين والتحري. فلو باع(3/51)
صبرة حنطة بصبرة، أو دراهم بدراهم جزافا، وخرجنا متماثلتين، لم يصح العقد، لان التساوي شرط. وشرط العقد يعتبر العلم به عند العقد. ولهذا، لو نكح امرأة لا يعلم أهي أخته، أم معتدة، أم لا ؟ لم يصح النكاح، وسواء جهلا الصبرتين أو إحداهما. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بهذه مكايلة، أو كيلا بكيل، أو هذه الدراهم بتلك موازنة، أو وزنا بوزن، فإن كالا، أو وزنا، وخرجتا سواء، صح العقد، وإلا، لم يصح على الاظهر. وعلى الثاني: يصح في الكبيرة بقدر ما يقابل الصغيرة، ولمشتري الكبيرة الخيار. وحيث صححنا، فتفرقا بعد تقابض الجملتين، وقبل الكيل والوزن، لم يبطل العقد على الاصح. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بكيلها من صبرتك، وصبرة المخاطب أكبر، صح. ثم إن كالا في المجلس وتقابضا، تم العقد. وإن تقابضا الجملتين وتفرقا قبل الكيل، فعلى الوجهين. ولو باع صبرة حنطة بصبرة شعير جزافا، جاز، ولو باعها بها صاعا بصاع، أو بصاعين، فهو كما لو كانتا من جنس واحد. قلت: قال أكثر أصحابنا: إذا باع صبرة حنطة بصبرة شعير، صاعا بصاع، وخرجتا متساويتين، صح. وإن تفاضلتا، فرضي صاحب الزائدة بتسليم الزيادة، تم البيع، ولزم الآخر قبولها. وإن رضي صاحب الناقصة بقدرها من الزائدة، أقر ا لعقد. وإن تشاحا، فسخ البيع. والله أعلم.
فصل في بيان القاعدة المعروفة بمد عجوة ومقصوده: أن يشتمل العقد على ربوي من الجانبين، ويختلف العوضان أو أحدهما، جنسا، أو نوعا، أو صفة، وهو ضربان. أحدهما: يكون الربوي من الجانبين جنسا، والثاني: يكون جنسين. فالاول: فيه تقع القاعدة المقصودة.(3/52)
فمن صوره: أن يختلف الجنس من الطرفين أو أحدهما، كما إذا باع مد عجوة، ودرهما بمد عجوة ودرهم، أو بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو باع صاع حنطة وصاع شعير بصاع حنطة وصاع شعير، أو بصاعي حنطة، أو بصاعي شعير. ومن صوره: أن يختلف النوع أو الصفة من الطرفين أو أحدهما، كما إذا باع مد عجوة ومد صيحاني، بمد عجوة، ومد صيحاني، أو بمدي عجوة، أو بمدي صيحاني أو باع مائة دينار جيدة، ومائة دينار رديئة بمائتي دينار جيد، أو ردئ، أو وسط، أو بمائة جيد، ومائة ردئ، فلا يصح البيع في شئ من هذه الصور ونظائرها. هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الجمهور، ولنا وجه: أنه إذا باع مد عجوة ودرهما بمد ودرهم، والدرهمان من ضرب واحد، والمدان من شجرة واحدة، أو باع صاع حنطة وصاع شعير بمثلهما، وصاعا الحنطة من صبرة، وكذا الشعير، صح. ويحكى هذا عن القاضيين أبي الطيب وحسين، واختاره الروياني. وحكى صاحب البيان وجها: أنه لا يضر اختلاف النوع والصفة، إذا اتحد الجنس. والمعروف ما سبق. ومن صور هذا الاصل: أن يبيع دينارا صحيحا ودينارا مكسرا بدينار صحيح وآخر مكسر، أو بصحيحين، أو بمكسرين إذا كانت قيمة المكسر دون الصحيح، ولنا وجه ضعيف: أن صفة الصحة في محل المسامحح. ثم إن الاصحاب، أطلقوا القول بالبطلان في حكايتهم المذهب. وحكى صاحب التتمة: أنه إذا باع مدا ودرهما بمدين، بطل العقد في المد المضموم إلى الدرهم وفيما يقابله من المدين. وهل يبطل في الدرهم وما يقابله من المدين ؟ قيه قولا تفريق الصفقة. وعلى هذا قياس ما لو باعهما بدرهمين، أو باع صاع حنطة وصاع شعير، بصاعي حنطة، أو بصاعي شعير. ويمكن أن يكون كلام من أطلق محمولا على ما فصله. ولو كان الجيد مخلوطا بالردئ، فباع صاعا منه بمثله، أو بجيد، أو بردئ، جاز، لان التوزبع إنما يكون عند تميز أحد النوعين عن الآخر. أما إذا لم يتميز، فهو كما لو باع صاعا وسطا بجيد، أو ردئ، فيجوز. ثم صور البطلان مفروضة فيما إذا قابل الجملة بالجملة. فلو فصل، فتبايعا مد عجوة ودرهما بمد ودرهم، وجعلا المد في مقابلة المد، والدرهم في مقابلة الدراهم، أو جعلا المد في مقابلة الدراهم، والدراهم في مقابلة المد جاز، وكان كصفقتين متباينتين.(3/53)
الضرب الثاني: أن يكون الربوي من الطرفين جنسين، وفي الطرفين أو أحدهما شئ آخر، فاختلفت علة الربا، بأن باع درهما ودينارا بصاع حنطة وصاع شعير، جاز. وإن اتفقت، فإن كان التقابض شرطا في جميع العوضين، بأن باع صاع حنطة أو صاع شعير، بصاعي تمر، أو بصاع تمر وصاع ملح، جاز أيضا. وإن كان التقابض شرطا في البعض فقط، بأن باع صاع حنطة ودرهما، بصاعي شعير، ففيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم، لان ما يقابل الدرهم من الشعير، لا يشترط فيه التقابض. وما يقابل الحنطة يشترط فيه. فرع لو باع صاع حنطة بصاع حنطة، وفيهما أو في أحدهما زوان، أو عقد التبن، أو مدر، أو حبات شعير، لم يجز. وضبط الامام المنع، بأن يكون الخليط قدرا لو ميز ظهر على المكيال، فإن كان لا يظهر، لم يضر، ولو كان فيهما أو في أحدهما دقاق تبن، أو قليل تراب، لم يضر، لان ذلك يدخل في تضاعيف الحنطة، ولا يظهر في المكيال، بخلاف ما لو باع موزنا بجنسه وفيهما أو في أحدهما قليل تراب، لا يجوز، لانه يؤثر في الوزن. ولو باع حنطة بشعير وفيهما أو في أحدهما حبات من الآخر يسيرة، صح، وإن كثر، لم يصح، قال الامام: ولا يضبط ذلك بالتأثير في الكيل، ولا بالتمل، بل ضبط الكثير أن يكون الشعير المخالط للحنطة قدرا يقصد تمييزه ليستعمل شعيرا، وكذا بالعكس. فرع لو باع دارا بذهب، فظهر فيها معدن ذهب، أو باع دارا فيها بئر ماء بدار فيها بئر ماء، وقلنا: الماء ربوي، صح البيع في المسألتين على الاصح، لانه تابع، والثاني: لا يصح، كبيع دار موهت بذهب تمويها يحصل منه شئ بذهب.(3/54)
فصل في الحال الذي تعتبر فيه المماثلة، الربوي ضربان. ما يتغير من حال إلى حال، وما لا يتغير. فالمتغير، تعتبر المماثلة في بيع الجنس منه بالجنس في أكمل أحواله. فمنه: الفواكه، فتعتبر المماثلة حال الجفاف خاصة، فلا يجوز بيع الرطب بتمر ولا رطب، ولا بيع العنب بعنب ولا زبيب، وكذا كل ثمرة لها حال جفاف، كالتين، والمشمش، والخوخ، والبطيخ والكمثري الذين يفلقان، والاجاص، والرمان الحامض، لا يباع رطبها برطبها ولا بيابسها. وحكى وجه في المشمش والخوخ، وما لا يعم تجفيفه عموم تجفيف الرطب: أنه يجوز بيعها بعضها ببعض في حال الرطوبة، لانها أكمل أحوالها. وهذا الوجه شاذ. ويجوز بيع الجديد بالعتيق، إلا أن تبقى في الجديد نداوة بحيث يظهر أثر زوالها في المكيال. وأما ما ليس له حال جفاف، كالعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمر، والبطيخ والكمثرى اللذين لا يفلقان، والرمان الحلو، والباذنجان، والقرع، والبقول، فقد سبق أنه لا يجوز جيع بعضها ببعض على الاظهر. ويجوز المزني بيع الرطب بالرطب، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، رضي الله عنهم. ويستثنى من بيع الرطب بالتمر، صورة العرايا، وستأتي إن شاء الله تعالى.(3/55)
فرع يجوز بيع الحنطة بالحنطة بعد التنقية من القشر والتبن، مادامت على هيأتها بعد تناهي جفافها. فإذا بطلت تلك الهيئة خرجت عن الكمال فلا يجوز بيع الحنطة بشئ مما يتخذ منها من المطعومات، كالدقيق، والسويق، والخبز، والنشا، ولا بما فيه شئ مما يتخذ من الحنطة، كالمصل ففيه الدقيق، والفالوذج ففيه النشا. وكذا لا يجوز بيع الاشياء بعضها ببعض، لخروجها عن حال الكمال. هذا هو المذهب والمشهور. وحكي قول: أنه يجوز بيع الحنطة بالدقيق كيلا، وجعل إمام الحرمين هذا القول، في أن الحنطة والدقيق جنسان يجوز التفاضل فيهما. ويشبه أن يكون منفردا بهذه الرواية. وحكي البويطي والمزني قولا: أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق، كالدهن بالدهن. وحكي قول في جواز بيع الخبز الجاف المدقوق بمثله كيلا. وقول: أن الحنطة مع السويق جنسان. وكل هذه الاقوال شاذة. ولا يجوز بيع الحنطة المقلية ولا المبلولة بمثلها ولا بغيرها. وإن جففت المبلولة، لم يجز أيضا، لتفاوت جفافها، والحنطة التي فركت وأخرجت من السنابل ولم يتم جفافها، كالمبلولة. والنخالة ليس ربوية، وكذا الحنطة المسوسة التي لم يبق فيها شئ من اللب، فيجوز بيعها بالحنطة وبعضها ببعض متفاضلا. فرع السمسم وغيره من الحبوب التي تتخذ منها الادهان حال كمالها ما دامت على هيأتها كالاقوات، فلا يجوز بيع طحينها بطحينها، كالدقيق بالدقيق. وأما دهنها المستخرج، فكامل، فيجوز بيع بعضه ببعض متماثلا على الصحيح. وقيل: لا يجوز لما يطرح فيه من ملح ونحوه. فرع قد يكون للشئ حالتا كمال، كالزبيب والخل كاملان، وأصلهما العنب. وكذا العصير، كامل على الاصح، فيجوز بيع عصير العنب بعصير العنب، وعصير الرطب بعصير الرطب. والمعيار فيه وفي الدهن، الكيل. ويجوز بيع الكسب بالكسب وزنا إن لم يكن فيه خلط. فإن كان، لم يجز. فرع الادهان المطيبة، كدهن الورد، والبنفسج، والنيلوفر، كلها مستخرجة من السمسم. فإذا قلنا: يجري فيها الربا، جاز بيع بعضها ببعض وإن ربى السمسم فيها ثم استخرج دهنه. وإن استخر الدهن ثم طرحت أوراقها فيه، لم يجز.(3/56)
فرع عصير الرمان والتفاح وسائر الثمار، كعصير العنب والرطب، وكذا عصير قصب السكر. ويجوز بيع خل الرطب، بخل الرطب، وخل العنب، بخل العنب كيلا. ولا يجوز بيع خل الزبيب بمثله، ولا خل التمر بمثله، لان فيهما ماء، فيمتنع العلم بالمماثلة. ولا يجوز بيع خل العنب بخل الزبيب، ولاخل الرطب بخل التمر، لان في أحدهما ماء. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل التمر إذا قلنا: الماء ربوي. قلت: فإن قلنا: الماء غير ربوي، فمقتضى كلام الرافعي جوازه، وبه صرح الجمهور. وقيل: فيه القولان، فيمن جمع بين عقدين مختلفي الحكم، لان الخلين يشترط فيهما القبض في المجلس، بخلاف الماءين. وممن ذكر ذا الطريق، البغوي في كتابه التعليق في شرح مختصر المزني. وهذا الطريق هو الصواب، ولعل الاصحاب اقتصروا على أصح القولين، وهو أنه يجوز جمع مختلفي الحكم. والله أعلم. ويجوز بيع خل الزبيب بخل الرطب، وخل التمر بخل العنب، لان الماء في أحد الطرفين، والمماثلة بين الخلين غير معتبرة، تفريعا على الصحيح أنهما جنسان. فرع اللبن كامل، فيباع بعضه ببعض، سواء فيه الحليب، والحامض، والرائب الخاثر، ما لم يكن مغلي بالنار، فيباع بعضها ببعض كيلا. ولا مبالاة بكون ما يحويه المكيال من الخاثر أكثر وزنا، لان الاعتبار بالكيل، كالحنطة الصلبة بالرخوة. وفي كلام الامام ما يقتضي جواز الكيل والوزن جميعا. ويجوز بيع السمن بالسمن كيلا إن كان ذائبا، ووزنا إن كان جامدا، قاله في التهذيب، وهو توسط بين وجهين أطلقهما العراقيون. المنصوص: أنه يوزن. وقال أبو إسحق: يكال. ويجوز بيع المخيض بالمخيض، إذا لم يكن فيهما ماء. ومال المتولي إلى المنع. والمذهب: الجواز. ولا يجوز بيع الاقط بالاقط، ولا المصل بالمصل، ولا الجبن(3/57)
بالجبن، ولا يجوز بيع الزبد بالزبد، ولا بالسمن على الاصح. ولا يجوز بيع اللبن بما تخذ منه، كالسمن والمخيض وغيرهما. فرع الربوي المعروض على النار، ضربان. أحدهما: المعروض للعقد والطبخ، كالدبس واللحم المشوي، فلا يجوز بيع الدبس بالدبس، والسكر بالسكر، والفانيد بالفانيد، واللبأ باللبأ، على الاصح في الجميع. ولا يجوز بيع قصب السكر بقصب السكر، ولا بالسكر، كالرطب بالرطب، وبالتمر. أما اللحم، إذا بيع بجنسه، فإن كانا طريين، أو أحدهما، لم يجز على الصحيح. وإن كانا مقددين، جاز، إلا أن يكون فيهما، أو في أحدهما من الملح ما يظهر في الوزن. ويشترط أن يتناهى جفافه، بخلاف التمر، فإنه يباع الجديد منه بالعتيق وبالجديد، لانه مكيل، وأثر الرطوبة الباقية، لا تظهر في المكيال، واللحم موزون، فيظهر أثر الرطوبة في الوزن. هذا إذا لم يكن اللحم مطبوخا ولا مشويا. فأما المطبوخ، فلا يجوز بيعهما بمثلهما ولا بالنئ. الضرب الثاني: المعروض للتمييز والتصفية، فهو كامل، فيجوز بيع بعضه ببعض، كالسمن. وفي العسل المصفى بالنار، وجهان. أصحهما: أنه كامل كالمصفى بالشمس، ومعياره معيار السمن. ولا يجوز بيع الشهد بالشهد، ولا بالعسل. ويجوز بيع الشمع بالعسل وبالشهد، لان الشمع ليس ربويا. فرع التمر إذا نزع نواه، بطل كماله، لانه يسرع إليه الفساد. فلا يجوز بيع منزوع النوى بمثله، ولا بغير منزوعه على الصحيح. وقيل: يجوز فيهما. وقيل: يجوز بمثله فقط. ومفلق المشمش، والخوخ، ونحوهما، لا يبطل كماله بنزع النوى على الاصح. ولا يبطل كمال اللحم بنزع عظمه، لانه لا يتعلق صلاحه ببقائه. وهل يشترط نزع العظم في جواز بيع بعضه ببعض ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: الاشتراط. والثاني: يسامح به. فعلى هذا يجوز بيع لحم الفخذ بالجنب، ولا يضر تفاوت العظام، كما لا يضر تفاوت النوى.(3/58)
فصل في معرفة الجنسية قد سبق في أول الباب، أن بيع الربوي بجنسه، يشترط فيه المماثلة. وبغير جنسه، يجوز فيه التفاضل. والتجانس وعدمه، قد يظهران، وقد يشتبهان، فما ظهر، فلا حاجة إلى تنصيص عليه، وما اشتبه، يحتاج. فمن ذلك، لحوم الحيوانات، هل هي جنس، أم أجناس ؟ قولان. أظهرهما: أنهما أجناس. فإن قلنا: جنس، فالحيوانات البرية وحشيها وأهليها كلها جنس، وكذا البحرية كلها جنس. وفي البحرية مع البرية، وجهان. أصحهما: جنس. والثاني: جنسان. وإن قلنا: أجناس، فحيوان البر مع البحر جنسان، والاهلي مع الوحشي جنسان. ثم لكل واحد منهما أجناس، فلحوم الابل على اختلاف أنواعها جنس واحد، ولحوم البقر جواميسها وغيرها جنس، والغنم ضأنها ومعزها جنس، والبقر الوحشي جنس، والظباء جنس. وفي الظبي مع الابل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه أنهما كالضأن والمعز. وأما الطيور، فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس. وعن الربيع: أن الحمام بالمعنى المتقدم في الحج، وهو كل ما عب وهدر، جنس. فيدخل فيه القمري، والدبسي، والفواخت. واختار هذا جماعة، منهم الامام، وصاحب التهذيب، واستبعده العراقيون، وجعلوا كل واحد منها جنسا. وسموك البحر جنس. وأما غنم الماء وبقره وغيرهما، ففيها - مع السمك - أو مع مثلها، قولان. أظهرهما: أنها أجناس. وفي الجراد أوجه. أحدها: أنه ليس من جنس اللحوم. والثاني: أنه من لحوم البريات. والثالث: أنه من لحوم البحريات. قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. وأما أعضاء الحيوان الواحد، كالكرش، والكبد، والطحال، والقلب،(3/59)
والرئة، فالمذهب: أنها أجناس. والمخ، جنس آخر، وكذا الجلد. قلت: المعروف، أن الجلد ليس ربويا، فيجوز بيع جلد بجلود وبغيرها، فلا حاجة إلى قوله: إنه جنس آخر. والله أعلم. وشحم الظهر مع شحم البطن، جنسان. وسنام البعير معهما، جنس آخر. والرأس، والاكارع، من جنس اللحوم. وفي الاكارع احتمال للامام. وأما الادقة والخلول والادهان، فهي أجناس على المذهب. وكذا عصير العنب مع عصير الرطب. وحكي في الادقة قول أنها جنس، ووجه أبعد منه في الخلول والادهان، ويجري مثله في عصبر العنب مع عصير الرطب. والالبان، أجناس على المذهب، فيجوز بيع لبن البقر بلبن الغنم متفاضلا، وبيع أحدهما بما يتخد من الآخر. ولبن الضأن والمعز، جنس، ولبن الوعل مع المعز الاهلي، جنسان. وبيوض الطير، أجناس على المذهب. وقيل: وجهان. أصحهما: أنها أجناس. وزيت الزيتون مع زيت الفجل، والتمر المعروف مع التمر الهندي، أجناس على المذهب. وفي ا لبطيخ المعروف مع الهندي، والقثار مع الخيار، وجهان. قلت: الاصح: أنهما جنسان. والله أعلم. والبقول، كالهندبا والنعنع وغيرهما، أجناس إن قلنا: إنها ربوية. ودهن السمسم وكسبه، جنسان، كالمخيص مع السمن. وفي عصير العنب مع خله، والسكر مع الفانيذ، وجهان. أصحهما: جنسان. والسكر الطبرزد والنبات، جنس واحد. والسكر الاحمر مع الابيض، جنس على الاصح، لانه عكر الابيض، ألا أن صفتهما مختلفة. فرع بيع اللحم بالحيوان المأكول من جنسه، باطل، خلافا للمزني. وإن باعه بحيوان مأكول من غير جنسه كلحم غنم ببقرة، فإن قلنا: اللحوم جنس، بطل. وإن قلنا: أجناس، بطل أيضا على الاظهر. وإن باعه بحيوان غير مأكول، بطل على الاظهر. وفي بيع الشحم والالية والطحال والقلب والكلية والرئة بالحيوان، والسنام بالبعير، ولحم السمك بالشاة، وجهان. أصحهما: البطلان. ويجري الوجهان في بيع الجلد بالحيوان إن لم يكن مدبوغا. فإن دبغ فلا منع.(3/60)
فرع لا يجوز بيع دهن السمسم ولا كسبه بالسمسم، ولا دهن الجوز بلبه، ولا بيع السمن باللبن. ويجوز بيع الجوز بالجوز وزنا، واللوز باللوز كيلا مع قشرهما على المذهب. وحكي قول: أنه لا يجوز، ويجوز بيع لب الجوز بلبه، ولب اللوز بلبه على الصحيح. ويجوز بيع البيض بالبيض في قشره وزنا، على المذهب. ويجوز بيع لبن الشاة بشاة بيع في ضرعها لبن، بأن جرى البيع عقيب الحلب، فإن كان في ضرعها لبن، لم يجز. ولو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن، لم يصح على الصحيح. وبيع بيض بدجاجة كبيع لبن بشاة. ولو باع لبن شاة ببقرة في ضرعها لبن، فإن قلنا: الالبان جنس، لم يجز، وإلا، فقولان، للجمع ين مختلفي الحكم، فإن ما يقابل اللبن من اللبن، يشترط فيه التقابض، وما يقابل الحيوان، لا يشترط. فرع يجري الربا في دار الحرب جريانه في دار الاسلام، سواء فيه المسلم، والكافر.
باب البيوع المنهي عنها
ما ورد فيه النهي من البيوع، قد يحكم بفساده وهو الاغلب، لانه مقتضى النهي. وقد لا يحكم بفساده، لكون النهي ليس لخصوصية البيع، بل لامر آخر. فالقسم الاول، أنواع. منها: بيع اللحم بالحيوان، وقد سبق. ومنها: بيع ما لم يقبض، وبيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، وبيع(3/61)
الكالئ بالكالئ. وسنشرحها بعد، إن شاء الله تعالى ومنها: بيع الغرر. ومنها: بيع ما لم يقدر على تسليمه، وقد سبق. ومنها: بيع مال الغير. ومنها: بيع ما ليس عنده، وفيه تفسيران. أحدهما: أن يبيع غائبا. والثاني: ما لا يملكه ليشتريه فيسلمه. ومنها: بيع الكلب والخنزير، وقد سبق ذكرهما في شرائط المبيع. ومنها: بيع عسب الفحل - بفتح العين وإسكان السين المهملتين -، والمشهور في كتب الفقه: أنه ضرابه، وقيل: أجرة ضرابة، وقيل: هو ماؤه. فعلى الاول والثالث، تقديره: بدل عسب الفحل. وفي رواية الشافعي رضي الله عنه نهى عن ثمن عسب الفحل. والحاصل: إن بذل عوضا عن الضرا ب، إن كان بيعا، فباطل قطعا، وكذا إن كان إجارة على الاصح. ويجوز أن يعطي صاحب الانثى صاحب الفحل شيئا على سبيل الهدية. ومنها: بيع حبل الحبلة، هو نتاج النتاج. ومعناه: أن يبيع بثمن إلى أن(3/62)
يلد ولد هذه الدابة. كذا فسره ابن عمر والشافعي وغيرهما رضي الله عنهم. وقيل: هو بيع ولد نتاج هذه الدابة، قاله أبو عبيد وأهل اللغة. ومنها: بيع الملاقيح، وهي ما في بطون الامهات من الاجنة، الواحدة: ملقوحة. وبيع المضامين، وهي ما في أصلاب الفحول. ومنها: بيع الملامسة. وفيه تأويلات. أحدها: تأويل الشافعي رضي الله عنه، وهو أن يأتي بثوب مطوي، أو في ظلمة، فيلمسه المستام فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. والثاني: أن يجعل نفس اللمس بيعا، فيقول: إذا لمسته فهو مبيع لك. والثالث: أن يبيعه شيئا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره، ولزم البيع. وهذا البيع باطل على التأويلات كلها. وفي الاول، احتمال للامام، وقاله صاحب التتمة تفريعا على صحة نفي خيار الرؤية. قال في التتمة: وعلى التأويل الثاني، له حكم المعاطاة. والمذهب: الجزم بالبطلان على التأويلات. ومنها: بيع المنابذة، وفيه تأويلات. أحدها: أن يجعلا نفس النبذ بيعا، قاله الشافعي رضي الله عنه، وهو بيع باطل. قال الاصحاب: ويجئ فيه(3/63)
الخلاف في المعاطاة، فإن المنابذة مع قرينة البيع، هي نفس المعاطاة. والثاني: أن يقول: بعتك على أني إذا نبذته إليك، لزم البيع، وهو باطل. والثالث: أن المراد نبذ الحصاة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: بيع الحصاة، وفيه تأويلات. أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الاثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الارض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي الحصاة. والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بيعا، فيقول: إذا رميت الحصاة، فهذا الثوب مبيع لك بكذا، والبيع باطل في جميعها. ومنها: بيعتان في بيعة، وفيه تأويلان نص عليهما في المختصر. أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بألف، على أن تبيعني دارك بكذا، أو تشتري مني داري بكذا، وهو باطل. والثاني: أن يقول: بعتكه بألف نقدا، أو بألفين نسيئة، فخذه بأيهما شئت أو شئت أنا، وهو باطل. أما لو قال: بعتك بألف نقدا، وبألفين نسيئة، أو قال: بعتك نصفه بألف، ونصفه بألفين، فيصح العقد. ولو قال: بعتك هذا العبد بألف، نصفه بستمائة، لم يصح، لان ابتداء كلامه يقتضي توزيع الثمن على المثمن بالسوية، وآخره يناقضه. ومنها: بيع المحاقلة والمزابنة، وسيأتي بيانهما أن شاء الله تعالى. ومنها: بيع المجر - بفتح الميم وإسكان الجيم والراء - وهو ما في الرحم، وقيل: هو الربا. وقيل: هو المحاقلة والمزابنة. ومنها: بيع السنين، وله تفسيران. أحدهما: بيع ثمرة النخلة سنين. والثاني: أن يقول: بعتك هذا سنة، على أنه إذا انقضت السنة فلا بيع بيننا، فترد إلي المبيع وأرد إليك الثمن.(3/64)
ومنها: بيع العربان. ويقال: العربون، وهو أن يشتري سلعة من غيره ويدفع إليه دراهم، على أنه إن أخذ السلعة، فهي من الثمن، وإلا، فهي للمدفوع إليه مجانا. ويفسر أيضا بأن يدفع دراهم إلى صانع ليعمل له خفا أو خاتما أو ينسج له ثوبا، على أنه إن رضيه، فالمدفوع من الثمن، وإلا، فهو للمدفوع إليه. ومنها: بيع العنب قبل أن يسود، والحب قبل أن يشتد، وبيع الثمار قبل أن تنجو من العاهة، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى. ومنها: بيع السلاح لاهل الحرب، لا يصح، ويجوز بيعهم الحديد، لانه لا يتعين للسلاح. قلت: بيع السلاح لاهل الذمة في دار الاسلام، صحيح. وقيل: وجهان، حكاهما المتولي والبغوي والروياني وغيرهم. والله أعلم. ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن ثمن الهرة. قال القفال: المراد: الهرة الوحشية، إذ ليس فيها منفعة استئناس ولا غيره. قلت: مذهبنا: أنه يصح بيع الهرة الاهلية، نص عليه الشافعي رضي الله عنه وغيره. والجواب عن الحديث من أوجه، ذكرها الخطابي. أحدها: أنه تكلم في صحته. والثاني: جواب القفال.(3/65)
والثالث: أنه نهي تنزيه. والمقصود: أن الناس يتسامحون به ويتعاورونه. هذه أجوبه الخطابي، لكن الاول باطل، فإن الحديث في صحيح مسلم من رواية جابر رضي الله عنه. والله أعلم. ومنها: النهي عن بيع وسلف، وهو البيع بشرط القرض. ومنها: النهي عن بيع وشرط. والشرط ينقسم إلى فاسد، وصحيح. فالفاسد: يفسد العقد على المذهب، وفيه كلام سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. فمن الفاسد، إذا باع عبده بألف، بشرط أن يبيعه داره، أو يشتري منه داره، وبشرط أن يقرضه عشرة، فالعقد الاول باطل. فإذا أتيا بالبيع الثاني، نظر، إن كانا يعلمان بطلان الاول، صح، وإلا، فلا، لانهما يأتيان به على حكم الشرط الفاسد، كذا قطع به صاحب التهذيب وغيره. والقياس: صحته، وبه قطع الامام، وحكاه عن شيخه في كتاب الرهن. ولو اشترى زرعا، وشرط على بائعه أن يحصده، بطل البيع على المذهب. وقيل: فيه قولان، لانه جمع بين بيع وإجارة. وقيل: شرط الحصاد باطل. وفي البيع قولا تفريق الصفقة. وكذا الحكم لو أفرد الشراء بعوض والاستئجار بعوض، فقال: اشتريته بعشرة، على أن تحصده بدرهم، لانه جعل الاجارة شرطا في البيع، فهو في معنى بيعتين في بيعة. ولو قال: اشتريت هذا الزرع، واستأجرتك على حصاده بعشرة، فقال: بعت وأجرت، فطريقان. أحدهما: على القولين في الجمع بين مختلفي الحكم. والثاني: تبطل الاجارة. وفي البيع قولا تفريق الصفقة. ولو قال: اشتريت هذا الزرع بعشرة، واستأجرتك لحصده بدرهم، صح الشراء، ولم تصح الاجارة، لانه استأجره للعمل فيما لم يملكه.(3/66)
ونظائر مسألة الزرع تقاس بها، كما إذا اشترى ثوبا وشرط عليه صبغه، وخياطته، أو لبنا وشرط عليه طبخه، أو نعلا وشرط عليه أن ينعل به دابته، أو عبدا رضيعا على أنه يتم إرضاعه، أو متاعا على أن يحمله إلى بيته، والبائع يعرف بيته، فإن لم يعرفه، بطل قطعا. ولو اشترى حطبا على ظهر بهيمة مطلقا، فهل يصح العقد ويسلمه إليه في موضعه، أم لا يصح حتى يشترط تسليمه في موضعه، لان العادة قد تقتضي حمله إلى داره ؟ فيه وجهان. قلت: أصحهما: الصحة. والله أعلم. وأما الشرط الصحيح في البيع، فمن أنواعه شرط الاجل المعلوم في الثمن. فإن كان الثمن مجهولا، بطل. قال الروياني: ولو أجل الثمن ألف سنة، بطل العقد، للعلم بأنه لا يعيش هذه المدة. فعلى هذا، يشترط في صحة الاجل، احتمال بقائه إليه. قلت: لا يشترط احتمال بقائه إليه، بل ينتقل إلى وارثه، لكن التأجيل بألف سنة وغيرها مما يبعد بقاء الدنيا إليه، فاسد. والله أعلم. ثم موضع الاجل، إذا كان العوض في الذمة. فأما ذكره في المبيع أو في الثمن المعين، مثل أن يقول: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا، فباطل، يبطل البيع. ولو حل الاجل، فأجل البائع المشتري مدة، أو زاد في الاجل قبل حلول الاجل المضرو ب، فهو وعد لا يلزم. كما أن بدل الاتلاف لا يتأجل وإن أجله. ولو أوصى من له دين حال على إنسان بإمهاله مدة، لزم ورثته إمهاله تلك المدة، لان التبرعات بعد الموت تلزم، قاله في التتمة. ولو أسقط من عليه الدين المؤجل الاجل، فهل يسقط حتى يتمكن المستحق من مطالبته في الحال ؟ وجهان. أصحهما: لا يسقط، لان الاجل صفة تابعة، والصفة لا تفرد(3/67)
بالاسقاط، ألا ترى أن مستحق الحنطة الجيدة، أو الدنانير الصحاح، لو أسقط صفة الجودة والصحة، لم تسقط. ومن أنواعه، شرط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومنها: شرط الرهن، والكفيل، والشهادة، فيصح البيع بشرط أن يرهن المشتري بالثمن، أو يتكفل به كفيل، أو يشهد عليه، سواء كان الثمن حالا أو مؤجلا. ويجوز أيضا أن يشرط المشتري على البائع كفيلا بالعهدة، ولا بد من تعبين الرهن والكفيل. والمعتبر في الرهن المشاهدة أو الوصف بصفة المسلم فيه. وفي الكفيل المشاهدة، أو المعرفة بالاسم والنسب، ولا يكفي الوصف، كقوله: رجل موسر ثقة. هذا هو المنقول للاصحاب. ولو قال قائل: الاكتفاء بالوصف أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله، لم يكن مبعدا. وقال القاضي ابن كج: لا يشترط تعيين الكفيل. فإذا أطلق، أقام من شاء كفيلا، وهذا شاذ مردود. ولا يشترط تعيين الشهود على الاصح. وادعى الامام، أنه لا يشترط قطعا، ورد الخلاف إلى أنه لو عين الشهود، هل يتعينون ؟ ولا يشترط التعرض لكون المرهون عند المرتهن أو عند عدل على الاصح، بل إن اتفقا على يد المرتهن، أو عدل، وإلا جعله الحاكم في يد عدل. وينبغي أن يكون المشروط رهنه، غير المبيع. فلو شرط كون المبيع نفسه رهنا بالثمن، بطل البيع على المذهب، وبه قطع الاصحاب، إلا الامام، فإنه قال: هو مبني على أن البداءة بالتسليم بمن ؟ فإن قلنا: بالبائع أو يجبران، أو لا يجبران، بطل البيع، لانه شرط ينافي مقتضاه. وإن قلنا: بالمشتري، فوجهان. أحدهما: هذا. والثاني: يصح البيع والشرط، سواء كان الثمن حالا، أو مؤجلا. ولو شرط أن يرهنه بالثمن بعد القبض ويرده إليه، بطل البيع أيضا.(3/68)
ولو رهنه بالثمن من غير شرط، صح إن كان بعد القبض. فإن كان قبله، فلا إن كان الثمن حالا، لان الحبس ثابت له. وإن كان مؤجلا، فهو كرهن المبيع بدين آخر قبل القبض. ثم إذا لم يرهن المشتري ما شرطه، أو لم يشهد، أو لم يتكفل الذي عينه، فلا إجبار، لكن للبائع الخيار. ولا يقوم رهن وكفيل آخر مقام المعين. فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز، فلا خيار للمشتري. ولو عين شاهدين، فامتنعا من التحمل، فإن قلنا: لا بد من تعيين الشاهدين، فللبائع الخيار، وإلا، فلا. ولو باع بشرط الرهن، فهلك المرهون قبل القبض، أو تعيب، أو وجد به عيبا قديما، فله الخيار في فسخ البيع، وإن تعيب بعد القبض، فلا خيار. ولو ادعى الراهن أنه حدث بعد القبض، وقال المرتهن: قبله، فالقول قول الراهن. ولو هلك الرهن بعد القبض، أو تعيب ثم اطلع على عيب قديم، فلا أرش له، وليس له فسخ البيع على الاصح. فرع في بيع الرقيق بشرط العتق، ثلاثة أقوال. المشهور: أنه يصح العقد والشرط. والثاني: يبطلان. والثالث: يصح البيع ويبطل الشرط. فإذا صححنا الشرط، فذاك إذا أطلق، أو قال: بشرط أن تعتقه عن نفسك. أما إذا قال: بشرط أن تعتقه عني، فهو لاغ. ثم في العتق المشروط، وجهان.(3/69)
أصحهما: أنه حق لله تعالى، كالملتزم بالنذر. والثاني: أنه حق للبائع، فعلى هذا للبائع المطالبة به قطعا. وإن قلنا: إنه لله تعالى، فللبائع المطالبة به أيضا على الاصح. وإذا أعتقه المشتري، فالولاء له بلا خلاف، سواء قلنا: الحق لله تعالى، أم للبائع، لانه أعتق ملكه. فإن امتنع من العتق، فإن قلنا: الحق لله تعالى، أجبر عليه. وإن قلنا: للبائع، لم يجبر، بل يخير البائع في فسخ البيع. وإذا قلنا بالاجبار، قال في التتمة: يخرج على الخلاف في المولى إذا امتنع من الطلاق، فيعتقه القاضي على قول، ويحبسه حتى يعتق على قول. وذكر الامام احتمالين. أحدهما: هذا. والثاني: يتعين الحبس. فإذا قلنا: العتق حق للبائع، فأسقطه، سقط، كما لو اشترط رهنا أو كفيلا ثم عفا عنه. وعن الشيخ أبي محمد: أن شرط الرهن والكفيل لا يفرد بالاسقاط، كالاجل، فلو أعتق المشتري هذا العبد عن الكفارة، فإن قلنا: الحق لله تعالى، أو للبائع، ولم يأذن، لم يجز. وإن أذن، أجزأه عنها على الاصح. ويجوز استخدامه، والوطئ والاكساب للمشتري. ولو قتل، كانت القيمة له، ولا يكلفه صرفها إلى عبد آخر ليعتقه. ولو باعه لغيره وشرط عليه عتقه، لم يصح على الصحيح. ولو أولد الجارية، لم يجزئه عن الاعتاق على الصحيح. ولو مات العبد قبل عتقه، فأوجه. أصحها: ليس عليه إلا الثمن المسمى، لانه لم يلتزم غيره. والثاني: عليه مع ذلك قدر التفاوت بمثل نسبته من الثمن. والثالث: للبائع الخيار، إن شاء أجاز العقد ولا شئ له، وإن شاء فسخ ورد ما أخذ من الثمن ورجع بقيمة العبد. والرابع: ينفسخ. ثم إن هذه الاوجة، مفرعة على أن العتق للبائع، أم مطردة سواء قلنا: له، أو لله تعالى ؟ فيه رأيان للامام. أظهرهما: الثاني. قلت: وهذا الثاني، مقتضى كلام الاصحاب وإطلاقهم. والله أعلم. ولو اشترى عبدا بشرط أن يدبره، أو يكاتبه، أو يعتقه بعد شهر أو سنة، أو دارا بشرط أن يجعلها وقفا، فالاصح: أن البيع باطل في جميع ذلك. وقيل: إنه كشرط الاعتاق. وجميع ما سبق في شرط الاعتاق مفروض فيما إذا لم يتعرض(3/70)
للولاء. فأما إذا شرط مع العتق كون الولاء للبائع، فالمذهب: أن البيع باطل، وبهذا قطع الجمهور. وحكي قول: أنه يصح البيع، ويبطل الشرط. وحكى الامام وجها: أنه يصح الشرط أيضا، ولا يعرف هذا الوجه عن غير الامام. ولو اشترى بشرط الولاء دون شرط الاعتاق، بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون لي الولاء إن أعتقته، فالبيع باطل قطعا، ذكره في التتمة. ولو اشترى أباه أو ابنه بشرط أن يعتقه، فالبيع باطل قطعا، لتعذر الوفاء بالشرط، فإنه يعتق عليه قبل إعتاقه، قاله القاضي حسين. قلت: قد حكى الرافعي في كتاب كفارة الظهار عن ابن كج: أنه لو اشترى عبدا بشرط أن يعلق عتقه بصفة، لم يصح البيع على الاصح. وحكى وجهين فيما لو اشترى جارية حاملا بشرط العتق، فولدت ثم أعتقها، هل يتبعها الولد ؟ وأنه لو باع عبدا بشرط أن يبيعه المشتري بشرط العتق، فالمذهب: بطلان البيع. وعن ابن القطان: أنه على وجهين. والله أعلم.
فصل في ضبط صحيح الشروط في البيع وفاسدها قال الاصحاب: الشرط ضربان. ما يقتضيه مطلق العقد، وما لا يقتضيه. فالاول: كالاقباض والانتفاع، والرد بالعيب ونحوها، فلا يضر التعرض لها ولا ينفع. والثاني: قسمان. ما يتعلق بمصلحة العقد، وما لا يتعلق. فالاول: قد يتعلق بالثمن، كشرط الرهن والكفيل، وقد يتعلق بالمثمن، كشرط أن يكون العبد خياطا، أو كاتبا، وقد يتعلق بهما، كشرط الخيار. فهذه الشروط، لا تفسد العقد، وتصح في أنفسها. والقسم الثاني: نوعان. ما لا يتعلق به غرض يورث تنازعا، وما يتعلق.(3/71)
فالاول: كشرط أن لا يأكل إلا الهريسة، ولا يلبس إلا الخز، ونحو ذلك، فهذا لا يفسد العقد، بل يلغو، هكذا قطع به الامام، والغزالي. وقال صاحب التتمة: لو شرط التزام ما ليس بلازم، بأن باع بشرط أن يصلي النوافل، أو يصوم شهرا غير رمضان، أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها، فالبيع باطل، لانه ألزم ما ليس بلازم. ومقتضى هذا فساد العقد في مسألة الهريسة. والثاني: كشرطه أن لا يقبض ما اشتراه، أو لا يتصرف فيه بالبيع والوطئ ونحوهما، وكشرط بيع أخر، أو قرض، وكشرط أن لا خسارة عليه في ثمنه إن باعه فنقص، فهذه الشروط وأشباهها فاسدة تفسد البيع، إلا الاعتاق على ما سبق. فرع لا يجوز بيع الحمل، لا من مالك الام، ولا من غيره. ولو باع حاملا بيعا مطلقا، دخل الحمل في البيع. ولو باعها واستثنى حملها، لم يصح البيع على المذهب، وبه قطع الجمهور، وحكى الامام فيه وجهين. ولو كانت الام لانسان، والحمل لآخر، فباع الام لمالك الحمل أو لغيره، أو باع جارية حاملا بحر، فالمذهب: أن البيع باطل، وبه قطع الاكثرون. وقيل: يصح، واختاره(3/72)
الامام، والغزالي. ولو باع جارية، أو دابة بشرط أنها حامل، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: يصح البيع. والثاني: لا يصح. وقيل: يصح في الجارية قطعا، وهما مبنيان على أن الحمل يعلم، أم لا. إن قلنا: لا، لم يصح، وإلا، صح. ولو قال: بعتك هذه الدابة وحملها، أو هذه الشاة وما في ضرعها من اللبن، لم يصح على الاصح. وبه قال ابن الحداد، والشيخ أبو علي، لانه جعل المجهول مبيعا مع المعلوم، بخلاف البيع بشرط أنها حامل، فإنه وصف تابع. وقال أبو زيد: يصح، لانه يدخل عند الاطلاق، فلا يضر ذكره كأساس الدار. ولو قال: بعتك الجبة بحشوها، فقيل: هو على الخلاف. وقيل: يصح قطعا، لان الحشو داخل في مسمى الجبة، فذكره تأكيد للفظ الجبة، بخلاف الحمل، فإذا قلنا بالبطلان في هذه الصور، قال الشيخ أبو علي: في صورة الجبة في صحة البيع في الظهارة والبطانة قولا تفريق الصفقة، وفي صورة الدابة، يبطل البيع في الجميع، لان الحشو يمكن معرفة قيمته. قال الامام: هذا حسن. ولو باع حاملا وشرط وضعها لرأس الشهر ونحوه، لم يصح البيع قطعا، وبيض الطير، كحمل الدابة والجارية في جميع ذلك. ولو باع شاة بشرط أنها لبون، فطريقان. أصحهما: أنه على الخلاف في البيع بشرط الحمل، لكن الصحة هنا أقوى. والطريق الثاني: يصح قطعا، لان هذا شرط صفة فيها لا يقتضي وجود اللبن فيها حالة العقد، فهو كشرط الكتابة في العبد. فلو شرط كون اللبن في الضرع، كان كشرط الحمل قطعا. ولو شرط كونها تدر كل يوم كذا رطلا من اللبن، بطل البيع قطعا، لان ذلك لا ينضبط، فصار كما لو شرط في العبد أن يكتب كل يوم عشر ورقات. ولو باع لبونا، واستثنى لبنها، لم يصح العقد على الصحيح، كاستثناء حمل الجارية، والكسب في بيع السمسم، والحب في بيع القطن. فرع ومن الشروط الصحيحة باتفاق، أو على خلاف مسائل نشير الى(3/73)
بعبضها مختصربة. منها البيع بشرط البراءة من العيوب ومنها: بيع الثمار بشرط القطع وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومنها: لو باع مكيلا أو موزونا أو مذروعا، بشرط أن يكال بمكيال معين، أو بوزن معين، أو بذرع معين، أو شرط ذلك في الثمن، ففيه خلاف نشرحه في باب السلم إن شاء الله تعالى. وفي معناه، تعيين رجل يتولى الكيل أو الوزن. ومنها: لو باع دارا واستثنى لنفسه سكناها، أو دابة استثنى ظهرها، إن لم يبين المدة، لم يصح البيع قطعا، وإن بينها، لم يصح أيضا على الاصح. ومنها: لو باع بشرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفي الثمن، فإن كان مؤجلا، بطل العقد. وإن كان حالا، بني على أن البداءة بالتسليم بمن ؟ فإن جعلنا ذلك من مقتضى العقد، لم يضر ذكره، وإلا، فيفسد العقد. ومنها: لو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعا، فإن أراد هبة صاع أو بيعه من موضع آخر، فالعقد باطل، لانه شرط عقد في عقد. وإن أراد أنها إن خرجت عشرة آصع أخذت تسعة دراهم، فإن كانت الصيعان مجهولة، لم يصح، لانه لا يعلم حصة كل صاع. وإن كانت معلومة، صح. فإن كانت عشرة، فقد باع كل صاع وتسعا بدرهم، ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، على أن أنقصك صاعا، فإن أراد رد صاع إليه، فهو فاسد. وإن أراد أنها إن خرجت تسعة آصع، أخذت عشرة دراهم، فإن كانت الصيعان مجهولة، لم يصح، وإن كانت معلومة، صح. فإن كانت تسعة آصع، فقد باع كل صاع بدرهم وتسع. وفيه وجه: أنه لا يصح مع العلم أيضا، لقصور العبارة عن المحمل المذكور. ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، على أن أزيدك صاعا، أو أنقصك، ولم يبين إحدى الجهتين، فهو فاسد. ومنها: لو باع أرضا على أنها مائة ذراع، فخرجت دون المائة، فقولان. أظهرهما: صحة البيع. وقيل: يصح قطعا للاشارة، وصار كالخلف في الصفة(3/74)
فعلى هذا، للمشتري الخيار في الفسخ، ولا يسقط بحط البائع من الثمن قدر النقص. وإذا أجاز، يجيز بجميع الثمن على الاظهر، وبقسطه على القول الآخر. ولو خرجت أكثر من مائة، ففي صحة البيع القولان. فإن صححناه، فالصحيح: أن للبائع الخيار. فإن أجاز، كانت كلها للمشتري، ولا يطالبه للزيادة بشئ. والوجه الآخر، اختاره صاحب التهذيب: أنه لا خيار للبائع، ويصح البيع في الجميع، بجميع الثمن المسمى، وينزل شرطه منزلة من شرط كون المبيع معيبا فخرج سليما، لا خيار له. فإذا قلنا بالصحيح، فقال المشتري: لا تفسخ، فأنا أقنع بالقدر المشروط شائعا ولك الزيادة، لم يسقط خيار البائع على الاظهر. ولو قال: لا تفسخ لازيدك في الثمن لما زاد، لم يكن له ذلك، ولم يسقط به خيار البائع بلا خلاف. ويقاس بهذه المسألة ما إذا باع الثوب على أنه عشرة أذرع، أو القطيع على أنه عشرون شاة، أو الصبرة على أنها ثلاثون صاعا، وحصل نقص أو زيادة. وفرق صاحب الشامل بين الصبرة وغيرها، فقال: إن زادت الصبرة، رد الزيادة. وإن نقصت وأجاز المشتري، أجاز بالحصة، وفيما سواها يجيز بجميع الثمن. ومنها: لو قال: بع عبدك من زيد بألف على أن علي خمسمائة، فباعه على هذا الشرط، لم يصح البيع على الاصح. والثاني: يصح ويجب على زيد ألف، وعلى الآمر خمسمائة، كما لو قال: ألق متاعك في البحر على أن علي كذا.
فصل البيع الصحيح إذا ضم إليه شرط، فذلك الشرط ضربان، صحيح، وفاسد. فإن كان صحيحا، فالعقد صحيح. وإن كان فاسدا، فإن كان مما لا يفرد بالعقد، نظر، إن لم يتعلق به غرض يورث تنازعا، لم يؤثر ذلك في العقد كما سبق. قال الامام: ومن هذا القبيل، ما إذا عين الشهود لتوثيق الثمن، وقلنا: لا يتعينون، فلا يفسد به العقد، وإن تعلق به غرض، فسد البيع بفساده، للنهي عن بيع وشرط. هذا هو المشهور. ولنا قول رواه أبو ثور: أن البيع لا يفسد بفساد الشرط بحال، لقصة بريرة رضي الله عنها. وإن كان مما يفرد بالعقد،(3/75)
كالرهن والكفيل، فهل يفسد البيع لفسادهما ؟ قولان. أظهرهما: يفسد، كسائر الشروط الفاسدة. والثاني: لا، كالصداق الفاسد لا يفسد النكاح. ولو باع بشرط نفي خيار المجلس، أو خيار الرؤية، ففيه خلاف نذكره في باب الخيار إن شاء الله تعالى.
فصل إذا اشترى شيئا شراء فاسدا، إما لشرط فاسد، وإما لسبب آخر، ثم قبضه، لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه، ويلزمه رده، وعليه مؤنة رده كالمغصوب. ولا يجوز حبسه، لاسترداد الثمن. ولا يقدم به على الغرماء على المذهب. وحكي قول ووجه للاصطخري: أن له حبسه ويقدم به، وهو شاذ ضعيف. وتلزمه أجرة المثل للمدة التي كان في يده، سواء استوفى المنفعة، أم تلفت تحت يده. وإن تعيب في يده، فعليه أرش النقص، وإن تلف، فعليه قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، كالمغصوب، لانه مخاطب كل لحظة من جهة الشرع برده. وفي وجه: تعتبر قيمته يوم التلف. وفي وجه: يوم القبض. وقد يعبر عن هذا الخلاف بالاقوال. وكيف كان، فالمذهب: اعتبار الاكثر. وما حدث من الزوائد المنفصلة، كالولد، والثمرة، والمتصلة، كالسمن، وتعلم صنعة، مضمون عليه كزوائد المغصوب. وفي وجه شاذ: لا يضمن الزيادة عند التلف. ولو أنفق على العبد مدة، لم يرجع بها على البائع إن كان المشتري عالما بفساد البيع، وإلا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يرجع. والله أعلم. وإن كانت جارية، فوطئها المشتري، فإن كان الواطئ والموطوءة جاهلين، فلا حد، ويجب المهر. وإن كانا عالمين، وجب الحد إن اشتراها بميتة، أو دم. وإن اشتراها بخمر، أو بشرط فاسد، فلا حد، لاختلاف العلماء في حصول(3/76)
الملك، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه، يملكه في هذه الحالة، فصار كالوطئ في النكاح بلا ولي ونحوه. قال الامام: ويجوز أن يقال: يجب الحد، فإن أبا حنيفة رحمة الله عنه، لا يبيح الوطء، وإن كان يثبت الملك، بخلاف الوطئ في النكاح بلا ولي. وإذا لم يجب الحد، وجب المهر. فإن كانت بكرا، وجب مع مهر البكر أرش البكارة. أما مهر البكر، فللاستمتاع ببكر. وأما الارش، فلاتلاف البكارة. وإن استولدها، فالولد حر للشبهة. فإن خرج حيا، فعليه قيمته يوم الولادة، وتستقر عليه قيمته. بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها فخرجت مستحقة، فإنه يغرم قيمة الولد، ويرجع بها على البائع، لانه غره، ولا تصير الجارية في الحال أم ود. فإن كان ملكها في وقت، فقولان. وإن نقصت بالحمل أو الوضع، لزمه الارش. وإن خرج الولد ميتا، فلا قيمة. لكن إن سقط بجناية، وجبت الغرة على عاقلة الجاني، وعلى المشتري أقل الامرين من قيمة الولد يوم الولادة والغرة، ويطالب به المالك من شاء من الجاني والمشتري. ولو ماتت في الطلق، لزمه قيمتها، وكذا لو وطئ أمة الغير بشبهة فأحبلها فماتت في الطلق. وهذه الصورة وأخواتها، مذكورة في كتاب الرهن واضحة فرع لو اشترى شيئا شراء فاسدا، فباعه لآخر، فهو كالغاصب يبيع المغصوب. فإن حصل في يد الثاني، لزمه رده إلى المالك. فإن تلف في يده، نظر، إن كانت قيمته في يدهما سواء، أو كانت في يد الثاني أكثر، رجع المالك بالجميع على من شاء منهما، والقرار على الثاني، لحصول التلف في يده. وإن كانت القيمة في يد الاول أكثر، فضمان النقص على الاول، والباقي يرجع به على من شاء منهما، والقرار على الثاني. وكل نقص حدث في يد الثاني، يطالب به الاول، ويرجع به على الثاني، وكذا حكم أجرة المثل.
فصل إذا فسد العقد بشرط فاسد، ثم حذفا الشرط، لم ينقلب العقد صحيحا، سواء كان الحذف في المجلس أو بعده. وفي وجه: ينقلب صحيحا إن(3/77)
حذف في المجلس، وهو شاذ ضعيف. ولو زاد في الثمن أو المثمن، أو زاد إثبات الخيار، أو الاجل، أو قدرهما، نظر، إن كان ذلك بعد لزوم العقد، لم يلحق بالعقد. وكذا الحكم في رأس مال السلم والمسلم فيه والصداق وغيرها، وكذا الحط، لا يلحق شئ من ذلك بالعقد، حتى أن الشفيع يأخذ بما سمي في العقد، لا بما بقي بعد الحط. وإن كانت هذه الالحاقات قبل لزوم العقد، بأن كانت في مجلس العقد، أو في زمن خيار الشرط، فأوجه. أحدها: لا يلحق. وصححه في التتمة. والثاني: يلحق في خيار المجلس، دون خيار الشرط، قاله أبو زيد، والقفال. والثالث، وهو الاصح عند الاكثرين: يلحق في مدة الخيارين جميعا، وهو ظاهر النص. فعلى هذا في محل الجواز، وجهان. أحدهما قاله أبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو علي، وصاحب التهذيب وغيرهما: أنه مفرع على قولنا: الملك في زمن الخيار للبائع، أو قلنا: موقوف وفسخ العقد، فأما إن قلنا للمشتري، أو قلنا إنه موقوف وأمضي العقد، فلا يلحق كما بعد اللزوم. والوجه الثاني: أن الجواز مطرد عى الاقوال كلها، وهو الصحيح عند العراقيين. فإذا قلنا: يلحق، فالزيادة تلزم الشفيع كما تلزم المشتري. وفي الحط قبل اللزوم، مثل هذا الخلاف. فإن ألحقناه بالعقد، انحط عن الشفيع. وعلى هذا الوجه: ما يلحق بالعقد من الشروط الفاسدة قبل انقضاء الخيار، له حكم المقترن بالعقد في إفساده، وينحط جميع الثمن، فهو كما لو باع بلا ثمن. القسم الثاني من المناهي: ما لا يقتضي الفساد. فمنه الاحتكار، وهو حرام على الصحيح، وقيل: مكروه، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يدعه للضعفاء، ويحبسه ليبيعه بأكثر عند اشتداد الحاجة. ولا بأس بالشراء في وقت الرخص ليبيع في وقت الغلاء. ولا بأس بإمساك غلة ضيعته ليبيع في وقت الغلاء، ولكن الاولى أن يبيع مفضل عن(3/78)
كفايته. وفي كراهة إمساكه، وجهان. ثم تحريم الاحتكار يختص بالاقوات. ومنها: التمر، والزبيب، ولا يعم جميع الاطعمة. ومنها: التسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح. والثاني: يجوز في وقت الغلاء دون الرخص. وقيل: إن كان الطعام مجلوبا، حرم التسعير. وإن كان يزرع في البلد ويكون عند القناة، جاز. وحيث جوزنا التسعير، فذلك في الاطعمة، ويلحق بها علف الدواب على الاصح. وإذا سعر الامام عليه، فخالف، استحق التعزير. وفي صحة البيع، وجهان مذكوران في التتمة. قلت: الاصح: صحة البيع. والله أعلم.
فصل يحرم أن يبيع حاضر لباد، وهو أن يقدم إلى البلد بدوي أو قروي بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت، ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلدي فيقول: ضع متاعك عندي لابيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. ولتحريمه، شروط. أحدها: أن يكون عالما بالنهي فيه. وهذا شرط يعم جميع المناهي. والثاني: أن يكون المتاع المجلوب مما تعم الحاجة إليه، كالاطعمة ونحوها. فأما ما لا يحتاج إليه إلا نادرا، فلا يدخل في النهي. والثالث: أن يظهر ببيع ذلك المتاع سعة في البلد، فإن لم يظهر لكبر البلد، أو قلة ما معه، أو لعموم وجوده ورخص السعر، فوجهان أوفقهما للحديث التحريم. والرابع: أن يعرض الحضري، ذلك على البدوي ويدعوه إليه. أما إذا التمس البدوي منه بيعه تدريحا، أو قصد الاقامة في البلد ليبيعه كذلك، فسأل البلدي تفويضه إليه، فلا بأس، لانه لم يضر بالناس، ولا سبيل إلى منع المالك منه، ولو أن البلدي استشار البلدي فيما فيه حظه، فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج ؟ وجهان. حكى القاضي ابن كج عن أبي(3/79)
الطيب بن سلمة، وأبي إسحق المروزي: أنه يجب عليه إرشاده إليه، أداء للنصيحة. وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه لا يرشده إليه توسيعا على الناس. ثم لو باع البلدي للبدوي عند اجتماع شروط التحريم، أثم وصح البيع. قلت: قال القفال: الاثم على البلدي دون البدوي، ولا خيار للمشتري. والله أعلم.
فصل يحرم تلقي الركبان، وهو أن يتلقى طائفة يحملون طعاما إلى البلد، فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفة سعره. وشرط تحريمه، أن يعلم النهي ويقصد التلقي. فلو خالف فتلقى واشترى، أثم، وصح البيع، ولا خيار لهم قبل أن يقدموا ويعلموا السعر، وبعده يثبت لهم الخيار إن كان الشراء بأرخص من سعر البلد، سواء أخبر كاذبا أو لم يخبر. وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر، فوجهان. الاصح: لا خيار لهم. ولو ابتدأ القادمون فالتمسوا منه الشراء وهم عالمون بسعر البلد أو غير عالمين، فعلى الوجهين. ولو لم يقصد التلقي، بل خرج لشغل من اصطياد وغيره، فرآهم فاشترى منهم، فوجهان. أحدهما: لا يعصي، لعدم التلقي، وأصحهما عند الاكثرين: يعصي، لشمول المعنى. فعلى الاول: لا خيار لهم، وإن كانوا مغبونين. وقيل: إن أخبر بالسعر كاذبا، فلهم الخيار. وحيث أثبتنا الخيار في هذه الصور، فهو على الفور على الاصح. والثاني: يمتد ثلاثة أيام. ولو تلقى الركبان وباعهم ما يقصدون شراءه من البلد، فهل هو كالمتلقي للشراء ؟ وجهان فصل يحرم السوم على سوم أخيه.(3/80)
وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه، فيجئ إليه غيره ويقول: رده حتى أبيعك خيرا منه بهذا الثمن، أو يقول لمالكه: استرده لاشتريه منك بأكثر. وإنما يحرم بعد استقرار الثمن. فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب، فلغيره الدخول عليه والزيادة فيه. وإنما يحرم، إذا حصل التراضي صريحا. فإن لم يصرح، ولكن جرى ما يدل على الرضى، ففي التحريم وجهان. أصحهما: لا يحرم. فإن لم يجر شئ، بل سكت، فالمذهب: أنه لا يحرم، كما لو صرح بالرد. وقيل: هو على الوجهين. ويحرم أن يبيع على بيع أخيه، وأن يشتري على شراء أخيه. فالبيع على بيع أخيه، أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ لابيعك خيرا منه، أو أرخص. والشراء على شرائه أن يقول للبائع: افسخ لاشتريه منك بأكثر. وشرط القاضي ابن كج في البيع على البيع، أن لا يكون المشتري مغبونا غبنا مفرطا. فإن كان، فله أن يعرفه ويبيع على بيعه، لانه ضرب من النصيحة. قلت: هذا الشرط انفرد به ابن كج، وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث، والمختار: أنه ليس بشرط. والله أعلم. ولو أذن البائع في بيعه، ارتفع التحريم على الصحيح.
فصل يحرم النجش، وهو أن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع وهو(3/81)
غير راغب فيها ليغر غيره. فإن اغتر به إنسان فاشتراها، صح البيع، ثم لا خيار له إن لم يكن الذي فعله الناجش بمواطأة من البائع، وإن كان، فلا خيار أيضا على الاصح. ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا، فصدقه واشتراه، فبان خلافه، قال ابن الصباغ: في ثبوت الخيار، الوجهان. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه، أطلق القول بتعصية الناجش، وشرط في تعصية البائع على بيع أخيه أن يكون عالما بالنهي. قال الاصحاب: السبب فيه أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، معلوم من الالفاظ العامة وإن لم يعلم هذا الحديث، والبيع على بيع أخيه، إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد فيه فلا يعرفه من لا يعرف هذا الخبر، قال الرافعي: ولك أن تقول: البيع على بيع أخيه، إضرار أيضا، وتحريم الاضرار معلوم من الالفاظ العامة، والوجه تخصيص التعصية بمن عرف التحريم بعموم أو خصوص.
فصل يحرم التفريق بين الجارية وولدها الصغير بالبيع والقسمة والهبة ونحوها، ولا يحرم التفريق في العتق، ولا في الوصية. وفي الرد بالعيب،(3/82)
وجهان. وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي رحمه الله: لو اشترى جارية وولدها الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما، جاز، وحكم التفريق في الرهن مذكور في بابه. وإذا فرق بينهما في البيع والهبة، ففي صحة العقد قولان. أظهرهما: لا يصح، لانه منهي عن تسليمه. قال أبو الفراج البزاز: القولان في التفريق بعد أن تسقيه اللبأ، أما قبله، فلا يصح قطعا. وإلى متى يمتد (تحريم) التفريق ؟ قولان. أحدهما: إلى البلوغ. وأظهرهما: إلى بلوغه سن التمييز سبع سنين، أو ثمان سنين تقريبا. ويكره التفريق بعد البلوغ. فلو فرق بعده ببيع أو هبة، يصح قطعا. ولو كانت الام رقيقة والولد حرا، أو بالعكس، فلا منع من بيع الرقيق منهما. وهل الجدة والاب وسائر المحارم كالام ؟ فيه كلام يأتي في كتاب السير إن شاء الله تعالى.(3/83)
والتفريق بين البهيمة وولدها بعد استغنائه عن اللبن، جائز على الصحيح، وبه قطع الجمهور. قلت: هذا الوجه الشاذ في منع التفريق بين البهيمة وولدها، هو في التفريق بغير الذبح. وأما ذبح أحدهما، فجائز بلا خلاف. والله أعلم.
فصل بيع الرطب والعنب ممن يتوهم اتخاذه إياه نبيذا، أو خمرا، مكروه. وإن تحقق اتخاذه ذلك، فهل يحرم، أو يكره ؟ وجهان. فلو باع، صح على التقديرين. قلت: الاصح: التحريم. ثم قال الغزالي في الاحياء: بيع الغلمان المرد، إن عرف بالفجور بالغلمان، له حكم بيع العنب من الخمار. وكذا كل تصرف يفضي إلى معصية. والله أعلم. وبيع السلاح للبغاة وقطاع الطريق، مكروه، ولكنه يصح. وتكره مبايعة من اشتملت يده على حلال وحرام، وسواء كان الحلال أكثر، أو بالعكس. فلو باعه، صح.(3/84)
قلت: قال أصحابنا: لو دخل قرية يسكنها مجوس، لم يصح شراء اللحم منها حتى يعلم أهلية الذبح، لان الاصل التحريم، فلا يزال إلا يقين أو ظاهر. والله أعلم.
فصل ليس من المناهي بيع العينة - بكسر العين المهملة وبعد الياء(3/85)
نون - وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا. وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الاول، أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد، أم لا. هذا هو الصحيح المعروف في كتب الاصحاب، وأفتى الاستاذ أبو إسحق الاسفراييني، والشيخ أبو محمد: بأنه إذا صار عادة له، صار البيع الثاني كالمشروط في الاول، فيبطلان جميعا.(3/86)
فصل يجوز بيع دور مكة، وبيع المصحف، وكتب الحديث. وقال الصيمري: يكره بيع المصحف. قلت: ونص الشافعي رضي الله عنه، على كراهة بيع المصحف. وقال الروياني وغيره: لا يكره، وسائر الكتب المشتملة على ما يباح الانتفاع به، يجوز بيعها بلا كراهة. ومن المناهي: البيع في وقت النداء يوم الجمعة، وسبق بيانه في بابها. ومنها في الحديث: نهى عن بيع المضطر. قال الخطابي: فيه تأويلان. أحدهما: المراد به: المكره، فلا يصح بيعه إن أكره بغير حق، وإن كان بحق، صح. والثاني: أن يكون عليه ديون مستغرقة، فتحتاج إلى بيع ما معه بالوكس، فيستحب أن لا يبتاع منه، بل يعان، إما بهبة، وإما بقرض، وإما باستمهال صاحب الدين. فإن اشترى منه، صح. ومنها: النهي عن بيع المصراة، والنهي عن بيع ما فيه عيب، إلا أن يبينه، وكلاهما حرام، إلا أنه ينعقد ومنها: النهي عن البيع في المسجد، وسبق تفصيله في الاعتكاف. ومنها: يكره غبن المسترسل، ويكره بيع العينة، وسبق بيانه. ومنها: ما قاله صاحب التلخيص. قال: نهى عن بيع الماء، وهو محمول على ما إذا أفرد ماء عين أو بئر أو نهر بالبيع، فإن باعه مع الارض، بأن باع أرضا مع شربها من الماء في نهر أو واد، صح، ودخل الماء في البيع تبعا. وكذا إذا كان الماء في إناء أو حوض أو غيرهما مجتمعا، فبيعه صحيح مفردا وتابعا. والله أعلم.(3/87)
باب تفريق الصفقة إذا جمع شيئين في صفقة، فهو ضربان. أحدهما: أن يجمع بينهما في عقد واحد. والثاني: في عقدين مختلفي الحكم. أما الاول: فله حالان. أحدهما: أن يقع التفريق في الابتداء. والثاني: أن يقع في الانتهاء. فالحال الاول: ينظر، إن جمع بين شيئين يمتنع الجمع بينهما من حيث هو جمع، بطل العقد في الجميع، كمن جمع بين أختين، أو خمس نسوة في عقد نكاح. وإن لم يكن كذلك، فإما أن يجمع بين شيئين كل واحد منهما قابل لما أورده عليه من العقد، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الاول، بأن جمع بين عينين في البيع، صح العقد يهما. ثم إن كانا من جنسين كعبد وثوب، أو من جنس، لكنهما مختلفا القيمة كعبدين، وزع الثمن عليهما باعتبار القيمة. وإن كانا من جنس ومتفقي القيمة كقفيزي حنطة واحدة، وزع عليهما باعتبار الاجزاء. وإن كان الثاني، فإما أن لا يكون واحد منهما قابلا لذلك العقد، كمن باع خمرا وميتة، فالعقد باطل، وإماأن يكون أحدهما قابلا، فالذي هو غير قابل، قسمان. أحدهما: أن يكون متقوما، كمن باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة، ففي صحة البيع في عبده، قولان. أظهرهما: يصح، واختاره المزني. والثاني: لا(3/88)
يصح. وفي علته، وجهان. وقيل: قولان. أحدهما: الجمع بين حلال وحرام. والثاني: جهالة العوض الذي يقابل الحلال. والقسم الثاني: أن لا يكون متقوما، وهو نوعان. أحدهما: يتأتى تقدير التقويم فيه من غير تقدير تغير الخلقة، كمن باع حرا وعبدا، فالحر غير متقوم، لكن يمكن تقديره رقيقا. وفي المسألة، طريقان. أصحهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالفساد. قال الشيخ أبو محمد: القولان على الطريق الاول فيما إذا كان المشتري جاهلا بالحال. فإن كان عالما، فالوجه: القطع بالبطلان. ولو باع عبده ومكاتبه، أو أم ولده، فهو كما لو باع عبده وعبد غيره، لانهما متقومان بدليل الاتلاف. النوع الثاني: أن لا يتأتى تقدير تقويمه من غير فرض تغير الخلقة، كمن باع خلا وخمرا، أو مذكاة وميتة، أو شاة وخنزيرا، ففي صحة البيع في الخل والمذكاة والشاة، خلاف مرتب على العبد مع الحر، وأولى بالفساد، لانه لا بد في التقويم من التقدير بغيره، ولا يكون المقوم هو المذكور في العقد. ولو رهن عبده وعبد غيره، أو حرا وعبدا، أو وهبهما، فإن صححنا البيع، فهنا أولى، وإلا، فقولان بناء على العلتين. ولو زوج أخته وأجنبية، أو مسلمة ومجوسية، فكالرهن والهبة. الحال الثاني: أن يقع التفريق في الانتهاء، وهو قسمان. أحدهما: أن لا يكون اختياريا، كمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل قبضهما، انفسخ البيع في التالف، وفي الباقي، طريقان. أحدهما: على القولين في جمع عبده وعبد غيره. وأصحهما: القطع بأنه لا ينفسخ، لعدم العلتين. ولو تفرقا في السلم وبعض رأس المال غير مقبوض، أو في الصرف وبعض العوض غير(3/89)
مقبوض، انفسخ العقد في غير المقبوض. وفي الباقي، الطريقان. فلو قبض أحد العبدين وتلف الآخر في يد البائع، ترتب الانفساخ في المقبوض على الصور السابقة، وهذه أولى بعدم الانفساخ، لتأكد العقد فيه بانتقال الضمان إلى المشتري هذا إن كان المقبوض باقيا في يد المشتري. فإن تلف في يده، ثم تلف الآخر في يد البائع، فالقول بالانفساخ أضعف، لتلفه على ضمانه. وإذا قلنا بعدم الانفساخ، فهل له الفسخ ؟ وجهان. أحدهما: نعم، ويرد قيمته. والثاني: لا، وعليه حصته من الثمن. ولو اكترى دارا وسكنها بعض المدة، ثم انهدمت، انفسخ العقد في المستقبل، ويخرج في الماضي على الخلاف في المقبوض التالف. فإن قلنا: لا ينفسخ، فهل له الفسخ ؟ فيه الوجهان. فإن قلنا: لا فسخ، فعليه من المسمى ما يقابل الماضي.. وإن قلنا بالفسخ، وفسخ، فعليه أجرة المثل للماضي. ولو انقطع بعض المسلم فيه عند المحل والباقي مقبوض، أو غير مقبوض، وقلنا: لو انقطع الكل، ينفسخ العقد، انفسخ في المنقطع. وفي الباقي، الخلاف فيما إذا تلف أحد الشيئين قبل قبضهما. فإذا قلنا: لا ينفسخ، فله الفسخ. فإن أجاز، فعليه حصته من رأس المال فقط. وإن قلنا: إنه لو انقطع الكل، لم ينفسخ العقد، فالمسلم بالخيار، إن شاء فسخ العقد في الكل، وإن شاء أجازه في الكل. وهل له الفسخ في القدر المنقطع والاجازة في الباقي ؟ قولان، بناء على ما سنذكره في القسم الذي يليه. القسم الثاني: أن يكون اختياريا، كمن اشترى عبدين صفقة واحدة، فوجد بأحدهما عيبا، فهل له إفراده بالرد ؟ قولان. أظهرهما: ليس له، وبه قطع الشيخ أبو حامد. والقولان، في العبدين وكل شيئين لا تتصل منفعة أحدهما بالآخر. فأما في زوجي خف ومصراعي باب ونحوهما، فلا يجوز الافراد قطعا. وشذ بعضهم، فطرد القولين، ولا فرق على(3/90)
القولين بين أن يتفق ذلك بعد القبض أو قبله. فإن لم نجوز الافراد، فقال: رددت المعيب، فهل يكون ذلك ردا لهما ؟ أصحهما: لا، بل هو لغو. ولو رضي البائع بإفراده، جاز على الاصح. وإذا جوزنا الافراد، فرده، استرد قسطه من الثمن. وعلى هذا القول، لو أراد رد السليم والمعيب جميعا فله ذلك على الصحيح. ولو وجد العيب بالعبدين معا، وأراد إفراد أحدهما بالرد، جرى القولان. ولو تلف أحد العبدين أو باعه، ووجد الباقي عيبا، ففي إفراده بالرد قولان مرتبان، وأولى بالجواز، لتعذر ردهما. فإن جوزنا الافراد، رد الباقي واسترد من الثمن حصته. وطريق التوزيع: تقدير العبدين سليمين، وتقويمهما، وتقسيط المسمى على القيمتين. فلو اختلفا في قيمة التالف، فادعى المشتري ما يقتضي ز يادة المرجوع به على ما اعترف به البائع، فالاظهر: أن القول قول البائع مع يمينه، لان الثمن ملكه، فلا يسترد منه إلا ما اعترف به. وإن لم نجوز الافراد، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا فسخ له، ولكن يرجع بأرش العيب، لان الهلاك أعظم من العيب. ولو حدث عنده عيب لم يتمكن من الرد. فعلى هذا، إن اختلفا في قيمة التالف، عاد القولان. وهل النظر في قيمة التال ف إلى يوم العقد، أو يوم القبض ؟ فيه الخلاف الذي سيأتي في معرفة أرش العيب القديم. والوجه الثاني: أنه يضم قيمة التالف إلى الباقي، ويردهما ويفسخ العقد. فإن اختلفا في(3/91)
قيمة التالف، فالقول قول المشتري مع يمينه، لانه غارم. وفيه وجه شاذ: أن القول قول البائع، لئلا تزال يده عما لم يعترف به. فرع لو باع شيئا يتوزع الثمن على أجزائه، بعضه له، كعبد، أو صاع حنطة له نصفها، أو صاعي حنطة له أحدهما، صفقة واحدة، ترتب على ما إذا باع عبدين أحدهما له. فإن قلنا: يصح هناك في ملكه، فهنا أولى، وإلا، فقولان. إن عللنا بالجمع بين حلال وحرام، لم يصح، وإن عللنا بالجهالة، صح، لان حصة المملوك معلومة. ولو باع جميع الثمار وفيها الزكاة، فهل يصح البيع في قدر الزكاة ؟ سبق بيانه في كتاب الزكاة. فإن قلنا: لا يصح، فالترتيب في الباقي كما ذكرنا فيمن باع عبدا له نصفه. ولو باع أربعين شاة فيها واجب الزكاة، وقلنا: لا يصح بيع قدر الزكاة، فالترتيب في الباقي كما سبق فيمن باع عبده وعبد غيره. فرع ومما يتفرع على العلتين، لو ملك زيد عبدا، وعمرو آخر، فباعاهما صفقة واحدة بثمن واحد، ففي صحة العقد قولان. وكذا لو باع عبدين له لرجلين، لكل واحد واحدا بعينه بثمن واحد، إن عللنا بالجمع بين حلال وحرام، صح، وإن عللنا بالجهالة، فلا، لان حصة كل واحد مجهولة. ولو باع عبده وعبد غيره وسمى لكل واحد ثمنا، فقال: بعتك هذا بمائة، وهذا بخمسين، فإن عللنا بالجمع، فسد، وإن عللنا بالجهالة، صح في عبده، كذا قاله في التتمة. ولك أن تقول: سنذكر أن تفصيل الثمن من أسباب تعدد العقد، وإن تعدد، وجب القضاء بالصحة على العلتين. فرع اعلم أن طائفة من الاصحاب، توسطوا بين قولي تفريق الصفقة،(3/92)
فقالوا: الاصح: الصحة في المملوك إذا كان المبيع مما يتوزع الثمن على أجزائه. والاصح: الفساد إن كان مما يتوزع على قيمته. وقال الاكثرون: الاصح: الصحة في القسمين. فصل إذا باع ماله ومال غيره، وصححناه في ماله، نظر، إن كان المشتري جاهلا بالحال، فله الخيار. فإن، أجاز، فكم يلزمه من الثمن ؟ قولان. أظهرهما: حصة المملوك فقط إذا وزع على القيمتين. والثاني: يلزمه جميع الثمن، ثم قيل: القولان فيما إذا كان المبيع مما يتقسط الثمن عليه بالقيمة. فإن كان مما يتقسط على أجزائه، فالواجب القسط قطعا. والاصح: طرد القولين في الحالين. فإن قلنا: الواجب جميع الثمن، فلا خيار للبائع. وإن قلنا: القسط، فلا خيار له أيضا على الاصح. وإن كان المشتري عالما بالحال، فلا خيار له كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه. وكم يلزمه من الثمن ؟ فيه طريقان. المذهب: أنه على القولين. وقيل: يجب الجميع قطعا، لانه التزمه عالما. ولو اشترى عبدا وحرا، أو خلا وخمرا، أو مذكاة وميتة، أو شاة وخنزيرا، وصححنا العقد فيما يقبله، وكان المشتري جاهلا بالخال، فأجاز، أو كان عالما، ففيما يلزمه ؟ الطريقان. فإن أوجبنا القسط، ففي كيفية توزيع الثمن على هذه الاشياء، وجهان. أصحهما عند الغزالي: ينظر إلى قيمتها عند من يرى لها قيمة. والثاني: يقدر الخمر خلا، ويوزع عليهما باعتبار الاجزاء، وتقدر الميتة مذكاة، والخنزير شاة، ويوزع عليهما باعتبار القيمة. وقيل: يقدر الخمر عصيرا، والخنزير بقرة. قلت: هذا الذي صححه الغزالي، احتمال للامام. والصحيح: هو الثاني، وبه قطع الدارمي والبغوي وآخرون، وحكاه الامام عن طوائف من أصحاب القفال. والله أعلم. ولو نكح مسلمة ومجوسية في عقد، وصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطع به الجماهير: أنه لا يلزمه جميع المسمى قطعا، لانه لا خيار له، بخلاف الجيع على قول. ويقل: في قول: يلزمه جميع المسمى، وله الخيار في رد المسمى والرجوع إلى مهر المثل. فإذا قلنا بقول الجمهور، ففيما يلزمه قولان. أظهرهما: مهر المثل. والثاني: قسطها من المسمى إذا وزع على مهر مثلها ومهر مثل المجوسية(3/93)
ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فانفسخ العقد فيه، وقلنا: لا ينفسخ في الباقي، فله الخيار فيه. فإن أجاز، فالواجب قسطه من الثمن قطعا. كذا قاله الجمهور، لان الثمن يوزع عليهما في الابتداء. وطرد أبو إسحق المروزي فيه القولين. فرع لو باع ربويا بجنسه، فخرج بعض أحد العوضين مستحقا، وصححنا العقد في الباقي، فأجاز، فالواجب القسط بلا خلاف، لان الفصل بينهما حرام. فرع لو باع معلوما ومجهولا، لم يصح في المجهول، وينبني في المعلوم على ما لو كانا معلومين وأحدهما لغيره. فإن قلنا: لا يصح فيما له، لم يصح هنا في المعلوم، وإلا، فقولان، بناء على أنه كم يلزمه من الثمن ؟ فإن قلنا: الجميع، صح، ولزمه هنا أيضا جميع الثمن. وإن قلنا: القسط، لم يصح، لتعذر التقسيط. وحكي قول شاذ: أنه يصح، وله الخيار. فإن أجاز، لزمه جميع الثمن. فرع في الاشارة إلى طرف من مسائل الدور يتعلق بتفريق الصفقة واعلم أن محاباة المريض مرض الموت في البيع والشراء، حكمها حكم هبته وسائر تبرعاته، تعتبر من الثلث. فإذا باع المريض عبدا يساوي ثلاثين بعشرة، ولا مال له غيره، بطل البيع في بعض المبيع، وفي الباقي، طريقان. أصحهما عند الجمهور: أنه على قولي تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالصحة، وهو الاصح عند صاحب التهذيب، لان المحاباة هنا وصية، وهي تقبل من الغرر ما لا يقبل غيرها. فإن صححنا بيع الباقي، ففي كيفيته قولان. ويقال: وجهان. أحدهما: يصح البيع في القدر الذي يحتمله الثلث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن، ويبطل في الباقي، فيصح في ثلثي العبد بالعشرة، ويبقى مع الورثة ثلث العبد وقيمته عشرة، والثمن وهو عشرة، وذلك مثل المحاباة وهي عشرة. ولا تدور المسألة على هذا القول. والثاني: أنه إذا ارتد البيع في بعض المبيع، وجب أن يرتد إلى المشتري ما يقابله من الثمن، فتدور المسألة، لان ما ينفذ فيه البيع، يخرج من التركة، وما يقابله من الثمن، يدخل فيها. ومعلوم أن ما ينفذ فيه البيع، يزيد بزيادة(3/94)
التركة، وينقص بنقصها. ويتوصل إلى معرفة المقصود بطرق. منها، أن ينسب ثلث المال إلى قدر المحاباة. ويصحح البيع في المبيع بمثل نسبة الثلث من المحاباة. فنقول في هذه الصورة: ثلث المال عشرة، والمحاباة عشرون، والعشرة نصف العشرين، فيصح البيع في نصف العبد، وقيمته خمسة عشر، بنصف الثمن وهو خمسة، كأنه اشترى سدسه بخمسة، ووصى له بثلثه، ويبقى مع الورثة نصف العبد، وهو خمسة عشر، والثمن وهو خمسة، فالمبلغ عشرون. وذلك مثل المحاباة. واختلف الاصحاب في الاصح في هذين القولين، أو الوجهين، في الكيفية، فذهب الاكثرون إلى ترجيح الاول، وبه قال ابن الحداد. قال القفال والاستاذ أبو منصور البغدادي وغيرهما: هو المنصوص للشافعي رضي الله عنه. قالوا: والثاني: خرجه ابن سريج. وذهب آخرون إلى ترجيح الثاني، وهو اختيار أكثر الحساب، وبه قال ابن القاص، وابن اللبان، وتابعهما إمام الحرمين، وهذا أقوى في المعنى. ولو باع مريض صاع حنطة يساوي عشرين، بصاع لصحيح يساوي عشرة، ومات ولا مال له غيره، فإن قلنا بالقول الاول، فالبيع باطل فيهما بلا خلاف، لان مقتضاه صحة البيع في قدر الثلث وهو ستة وثلثان. وفيما يقابله من صاع الصحيح المشترى، وهو نصفه، فيكون خمسة أسداس صاع في مقابلة صاع، وذلك ربا. وإن قلنا بالثاني، صح البيع في ثلثي صاع المريض بثلثي صاع ا لصحيح، وبطل في الباقي. وقطع قاطعون بهذا الثاني هنا، لئلا يبطل غرض الميت في الوصية. قال في التهذيب: وهو الاصح. وطريقه: أن ثلث مال المريض ستة وثلثان، والمحاباة عشرة، والستة والثلثان ثلثا العشرة، فنفذ البيع في ثلثي صاع، ويثبت الخيار للصحيح، لتبعيض صفقته، ولا خيار لورثة الميت، لئلا يبطلوا المحاباة التي هي وصية، وهذا متفق عليه. وغلطوا صاحب التلخيص في إطلاقه قولين في ثبوت الخيار. ولو كانت المسألة بحالها، وصاع المريض يساوي ثلاثين، وقلنا: يتقسذ الثمن، صح البيع في نصف صاع بنصف صاع. ولو كانت بحالها وصاع المريض يساوي أربعين، صح البيع في أربعة أتساع الصاع بأربعة أتساع الصاع. ولو أتلف المريض الصاع الذي أخذه ثم مات، وفرعنا على القول الذي يجئ عليه الدور، صح البيع في ثلثة بثلث صاع صاحبه، سواء كانت قيمة(3/95)
صاع المريض عشرين أو ثلاثين، أو أكثر، لان ما أتلفه قد نقص من ماله. أما ما صح البيع فيه، فهو ملكه، وقد أتلفه. وأما ما بطل فيه البيع، فعليه ضمانه، فينقص قدر الغرم من ماله. ومتى كثرت القيمة، كان المصروف إلى الغرم أقل، والمحاباة أكثر. ومتى قلت، كان المصروف إلى الغرم أكثر، والمحاباة أقل. مثاله: كانت قيمة صاع المريض عشرين، وصاع الصحيح عشرة، فمال المريض عشرون، وقد أتلف عشرة نحطها من ماله، يبقى عشرة كأنها كل ماله، والمحاباة عشرة، فثلث ماله هو ثلث المحاباة، فيصح البيع في ثلث الصاع، لان ثلث صاع المريض ستة وثلثان وثلث صاع، الصحيح: ثلاثة وثلث، فالمحاباة بثلاثة وثلث، وقد بقي في يد الورثة ثلثا صاع، وهو ثلاثة عشر وثلث، يؤدون منه قيمة ثلثي صاع الصحيح، وهو ستة وثلثان، تبقى في أيديهم ستة وثلثان، وهي مثلا المحاباة. فلو كانت بحالها وصاع المريض يساوي ثلاثين، فمال المريض ثلاثون، وقد أتلف عشرة نحطها من ماله، يبقى عشرون كأنها كل ماله، والمحاباة عشرون مثل ماله، فثلث ماله هو ثلث المحاباة، فصح البيع في ثلث صاع، لان ثلث صاع المريض عشرة، وثلث صاع الصحيح ثلاثة وثلث، فالمحاباة بستة وثلثين، وقد بقي في يد الورثة ثلثا صاع، وهو عشرون، يؤدون منه قيمة ثلثي صاع الصحيح، وهو ستة وثلثان، يبقى في أيديهم ثلاثة عشر وثلث، وهي مثلا المحاباة. الضرب الثاني من جمع الصفقة: أن يجمع عقدين مختلفي الحكم. فإذا جمع في صفقة بين إجارة وسلم، أو إجارة وبيع، أو سلم وبيع عين، أو صرف وغيره، فقولان. أظهرهما: يصح العقد فيهما. والثاني: لا يصح في واحد منهما.(3/96)
وصورة الاجارة والسلم: أجرتك داري سنة، وبعتك كذا سلما بكذا. وصورة الاجارة والبيع: بعتك عبدي وأجرتك داري سنة بكذا. ولو جمع بيعا ونكاحا فقال: زوجتك جاريتي هذه، وبعتك عبدي هذا بكذا، والمخاطب ممن يحل له نكاح الامة، أو قال: زوجتك بنتي، وبعتك عبدها، وهي في حجره أو رشيدة وكلته في بيعه، صح النكاح بلا خلاف. وفي البيع والمسمى في النكاح، القولان. فإن صححنا، وزع المسمى على قيمة المبيع ومهر المثل، وإلا، وجب في النكاح مهر المثل. ولو جمع بيعا وكتابة، فقال لعبده: كاتبتك على نجمين، وبعتك ثوبي هذا جميعا بألف، فإن حكمنا بالبطلان في الصور السابقة، فهنا أولى، وإلا، فالبيع باطل، وفي الكتابة القولان. فصل محل القولين في مسائل الباب، إذا اتحدت الصفقة دون ما إذا تعددت، حتى لو باع ماله في صفقة، ومال غيره في صفقة أخرى، صح في ماله بلا خلاف. وأما بيان تعددها واتحادها، فطريقه أن يقول: إذا سمى لكل واحد من الشيئين ثمنا مفصلا فقال: بعتك هذا بكذا، وهذا بكذا، فقبل المشتري كذلك(3/97)
على التفصيل، فهما عقدان متعددان. ولو جمع المشتري في القبول فقال: قبلت فيهما، فكذلك على المذهب، لان القبول يترتب على الايجاب. فإذا وقع مفسرا، فكذلك القبول. وقيل: إن الصفقة متحدة، وهو شاذ. وتتعدد الصفقة أيضا بتعدد البائع وإن اتحد المشتري والمعقود عليه، كما إذا باع رجلان عبدا لرجل صفقة واحدة. وهل تتعدد بتعدد المشتري، مثل أن يشتري رجلان من رجل عبدا ؟ فقولان. أظهرهما: تعدد كالبائع. والثاني: لا، لان المشتري بان على الايجاب السابق، فالنظر إلى من أوجب العقد. وللتعدد والاتحاد فوائد غير ما ذكرنا. منها: إذا حكمنا بالتعدد، فوزن أحد المشتريين نصيبه من الثمن، لزم البائع تسليم قسطه من المبيع بتسليم المشاع. وإن قلنا بالاتحاد، لم يجب تسليم شئ إلى أحدهما وإن وزن جميع ما عليه، حتى يزن الآخر، لثبوت حق الحبس، كما لو اتحد المشتري وسلم بعض الثمن، لا يسلم إليه قسطه من المبيع. وفيه وجه: أنه يسلم إليه القسط إذا كان مما يقبل القسمة، وهو شاذ. ومنها: إذا قلنا بالتعدد، فخاطب رجل رجلين، فقال: بعتكما هذا العبد بألف، فقبل أحدهما نصف بخمسمائة، أو قال مالكا عبد لرجل: بعناك هذا العبد بألف، فقبل نصيب أحدهما بعينه بخمسمائة، لم يصح على الاصح. فرع إذا وكل رجلان رجلا في البيع، أو الشراء، وقلنا: الصفقة تتعدد بتعدد المشتري، أو وكل رجلين في البيع أو الشراء، فهل الاعتبار في تردد العقد واتحاده بالعاقد، أو المعقود له ؟ فيه أوجه. أصحها عند الاكثرين: أن الاعتبار بالعاقد، وبه قال ابن الحداد، لان أحكام العقد تتعلق به. ألا ترى أن المعتبر رؤيته دون رؤية الموكل، وخيار المجلس يتعلق به دون الموكل. والثاني: الاعتبار بالمعقود له، قاله أبو زيد، والخضري، وصححه الغزالي في الوجيز، لان الملك له. والثالث: الاعتبار في طرف البيع بالمعقود له، وفي الشراء بالعاقد، قاله أبو إسحق المروزي. والفرق، أن العقد يتم في الشراء بالمباشر دون المعقود له. ولهذا، لو أنكر المعقود له الاذن في المباشرة، وقع العقد للمباشر، بخلاف طرف(3/98)
البيع. قال الامام: وهذا الفرق فيما إذا كان التوكيل بالشراء في الذمة. فإن وكله بشراء عبد بثوب معين، فهو كالتوكيل بالبيع. والرابع: الاعتبار في جانب الشراء بالموكل وفي البيع بهما جميعا، فأيهما تعدد، تعدد العقد اعتبارا بالشقص المشفوع، فإن العقد يتعدد بتعدد الموكل في حق الشفيع، ولا يتعدد بتعدد الوكيل. ويتفرع على هذا الاوجه، مسائل. منها: لو اشترى شيئا بوكالة رجلين، فخرج معيبا، فإن اعتبرنا العاقد، فليس لاحد الموكلين إفراد نصيبه بالرد، كما لو اشترى ومات عن ابنين وخرج معيبا، لم يكن لاحدهما إفراد نصيبه بالرد. وهل لاحد الموكلين والابنين أخذ الارش ؟ إن وقع اليأس من رد الآخر، بأن رضي به، فنعم، وإن لم يقع، فكذلك على الاصح. ومنها: لو وكل رجلان رجلا ببيع عبد لهما، أو وكل أحد الشريكين صاحبه، فباع الكل، ثم خرج معيبا، فعلى الوجه الاول: لا يجوز للمشتري رد نصيب أحدهما. وعلى الاوجه الاخر: يجوز. ولو وكل رجل رجلين في بيع عبده، فباعاه لرجل، فعلى الوجه الاول: يجوز للمشتري رد نصيب أحدهما. وعلى الاوجه الاخر: لا يجوز. ولو وكل رجلان رجلا في شراء عبد، أو وكل رجل رجلا في شراء عبد له ولنفسه، ففعل، وخرج العبد معيبا، فعلى الوجه الاول والثالث: ليس لاحد الموكلين إفراد نصيبه بالرد. وعلى الثاني والرابع: يجوز. وقال القفال: إن علم البائع أنه يشتري لهما، فلاحدهما رد نصيبه لرضى البائع بالتشقيص. وإن جهله، فلا. ومنها: لو وكل رجلان رجلا في بيع عبد، ورجلان رجلا في شرائه، فتبايع الوكيلان، فخرج معيبا، فعلى الوجه الاول: لا يجوز التفريق. وعلى الوجوه الاخر: يجوز. ولو وكل رجل رجلين في بيع عبد، ووكل رجل آخرين في شراء، فتبايع الوكلاء، فعلى الوجه الاول: يجوز التفريق. وعلى الاوجه الاخر: لا يجوز(3/99)
باب خيار المجلس والشرط الخيار ضربان. خيار نقص، وهو ما يتعلق بفوات شئ مظنون الحصول. وخيار شهوة، وهو ما لا يتعلق بفوات شئ. فالاول، له باب نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما الثاني، فله سببان: المجلس، والشرط. وإذا صححنا بيع الغائب، أثبتنا خيار الرؤية، فتصير الاسباب ثلاثة. السبب الاول كونهما مجتمعين في مجلس العقد، فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا أو يتخايرا.
فصل في بيان العقود التي يثبت فيها خيار المجلس والتي لا تثبت فيها العقود، ضربان. أحدهما: العقود الجائزة، إما من الجانبين، كالشركة، والوكالة، والقراض، والوديعة، والعارية، وإما من أحدهما، كالضمان، والكتابة، فلا خيار فيها، وكذا الرهن، لكن لو كان الرهن مشروطا في بيع وأقبضه قبل التفرق، أمكن فسخ الرهن، بأن يفسخ البيع، فينفسخ الرهن تبعا. وحكي وجه: أنه يثبت الخيار في الكتابة والضمان، وهو شاذ ضعيف. الضرب الثاني: العقود اللازمة، وهي نوعان. واردة على العين، وواردة على المنفعة. فالاول: كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، والسلم، والتولية، والتشريك، وصلح المعاوضة، فيثبت فيها جميعا خيار المجلس، وتستثنى صور.(3/100)
إحداها: إذا باع ماله لولده أو بالعكس، ففي ثبوت خيار المجلس، وجهان. أصحهما: يثبت. فعلى هذا، يثبت خيار للاب، وخيار للولد، والاب نائبه. فإن ألزم البيع لنفسه وللولد، لزم. وإن ألزم لنفسخ، بقي الخيار للولد. وإذا فارق المجلس، لزم العقد على الاصح. والثاني: لا يلزم إلا بالالزام، لانه لا يمكن أن يفارق نفسه وإن فارق المجلس. الثانية: لو اشترى من يعتق عليه، كأبيه وابنه، قال جمهور الاصحاب: يبنى ثبوت خيار المجلس على أقوال الملك في زمن الخيار. فإن قلنا: إنه للبائع، فلهما الخيار، ولا نحكم بالعتق حتى يمضي زمن الخيار. وإن قلنا: موقوف، فلهما الخيار. وإذا أمضينا العقد، تبينا أنه عتق بالشراء. وإن قلنا: الملك للمشتري، فلا خيار له، ويثبت للبائع. ومتى يعتق ؟ وجهان. أصحهما: لا يحكم بعتقه حتى يمضي زمن الخيار، ثم نحكم يومئذ بعتقه من يوم الشراء. والثاني: نحكم بعتقه حين الشراء. وعلى هذا، هل ينقطع خيار البائع ؟ وجهان كالوجهين في ما إذا أعتق المشتري العبد الاجنبي في زمن الخيار، وقلنا: الملك له. قال في التهذيب: ويحتمل أن نحكم بثبوت الخيار للمشتري أيضا، تفريعا على أن الملك له، وأن لا يعتق العبد في الحال، لانه لم يوجد منه الرضى إلا بأصل العقد. هذه طريقة الجمهور. وقال إمام الحرمين: المذهب، أنه لا خيار. وقال الاودني: يثبت، وتابع الغزالي إمامه على ما اختاره، وهو شاذ، والصحيح ما سبق عن الاصحاب. الثالثة: الصحيح: أن شراء العبد نفسه من سيده، جائز. وفي ثبوت خيار المجلس، وجهان حكاهما أبو حسن العبادي، ومال إلى ترجيح ثبوته، وقطع الغزالي وصاحب التتمة بعدم ثبوته. الرابعة: في ثبوت الخيار في شراء الجمد في شدة الحر، وجهان، لانه يتلف بمضي الزمان. الخامسة: إن صححنا بيع الغائب، ولم نثبت خيار المجلس مع خيار(3/101)
الرؤية، فهذا البيع من صور الاستثناء. السادسة: إن باع بشرط نفي خيار المجلس، فثلاثة أوجه سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى. أحدها: يصح البيع والشرط. فعلى هذا، تكون هذه الصورة مستثناة، هذا حكم المبيع بأنواعه. ولا يثبت خيار المجلس في صلح الحطيطة، ولا في الابراء، ولا في الاقالة إن قلنا: إنها فسخ، وإن قلنا: إنها بيع، ففيها ا لخيار. ولا يثبت في الحوالة إن قلنا: إنها ليست معاوضة، وإن قلنا: معاوضة، فكذا أيضا على الاصح، لانها ليست على قواعد المعاوضات. ولا يثبت في الشفعة للمشتري، وفي ثبوته للشفيع، وجهان. فإن أثبتناه، فقيل: معناه: أنه بالخيار بين الاخذ والترك ما دام في المجلس مع تفريعنا على قول الفور. قال إمام الحرمين: هذا غلط، بل الصحيح: أنه على الفور. ثم له الخيار في نقض الملك ورده. ومن اختار عين ماله لافلاس المشتري، فلا خيار له، وفي وجه ضعيف: له الخيار، ما دام في المجلس. ولا خيار في الوقف كالعتق، ولا في الهبة إن لم يكن ثواب. فإن كان ثواب مشروط، أو قلنا: يقتضيه الاطلاق، فلا خيار أيضا على الاصح، لانه لا يسمى بيعا، والحديث ورد في المتبايعين. ويثبت الخيار في القسمة، إن كان فيها رد، زإلا، فإن جرت بالاجبار، فلا خيار، وإن جرت بالتراضي، فإن قلنا: إنها إقرار، فلا خيار، وإن قلنا: بيع، فكذا على الاصح. النوع الثاني: العقد الوارد على المنفعة. فمنه: النكاح، ولا خيار فيه، ولا خيار في الصداق على الاصح. فإن(3/102)
أثبتناه، ففسخت، وجب مهر المثل. وعلى هذين الوجهين، ثبوت خيار المجلس في عوض الخلع، ولا تندفع الفرقة بحال. ومنه: الاجارة، وفي ثبوت خيار المجلس فيها، وجهان. أصحهما عند صاحب المهذب وشيخه الكرخي: يثبت، وبه قال الاصطخري وصاحب التلخيص، وأصحهما عند الامام وصاحب التهذيب والاكثرين: لا يثبت، وبه قال أبو إسحق وابن خيران. قال القفال في طائفة: الخلاف في إجارة العين. أما الاجارة على الذمة، فيثبت فيها قطعا كالسلم. فإن أثبتنا الخيار في إجارة العين، ففي ابتداء مدتها، وجهان. أحدهما: من وقت انقضاء الخيار بالتفرق. فعلى هذا، لو أراد المؤجر أن يؤجره لغيره في مدة الخيار، قال الامام: لم يجزه أحد فيما أظن، وإن كان محتملا في القياس. وأصحهما: أنها تحسب من وقت العقد. فعلى هذا، على من تحسب مدة الخيار ؟ إن كان قبل تسليم العين إلى المستأجر، فهي محسوبة على المؤجر. وإن كانت بعده، فوجهان، بناء على أن المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمن الخيار، من ضمان من يكون ؟ الاصح: أنه من ضمان المشتري. فعلى هذا، يحسب على المستأجر، وعليه تمام الاجرة. والثاني: من ضمان البائع. فعلى هذا، يحسب على المؤجر، ويحط من الاجرة قدر ما يقابل تلك المدة. وأما المساقاة، ففي ثبوت خيار المجلس فيها، طريقان. أصحهما: على الخلاف في الاجارة. والثاني: القطع بالمنع، لعظم الغرر فيها، فلا يضم إليه غرر الخيار. والمسابقة، كالاجارة، إن قلنا: إنها لازمة، وكالعقود الجائزة، إن قلنا: جائزة. فرع لو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس، فثلاثة أوجه: أصحها: البيع(3/103)
باطل، والثاني: أنه صحيح، ولا خيار. والثالث: صحيح، والخيار ثابت ولو شرط نفي خيار الرؤية على قول صحة بيع الغائب، فالمذهب: أن البيع باطل، وبه قطع الاكثرون. وطرد الامام، والغزالي فيه الخلاف. وهذا الخلاف، يشبه الخلاف في شرط البراءة من العيوب. ويتفرع على نفي خيار المجلس ما إذا قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر، ثم باعه بشرط نفي الخيار، فإن قلنا: البيع باطل، أو صحيح، ولا خيار، لم يعتق. وإن قلنا: صحيح، والخيار ثابت، عتق، لان عتق البائع في مدة الخيار نافذ.
فصل فيما ينقطع به خيار المجلس وجملته: أن كل عقد ثبت فيه هذا الخيار، فإنه ينقطع بالتخاير، وينقطع أيضا بأن يتفرقا بأبدانهما عن مؤلس العقد. أما التخاير، فهو أن يقولا: تخايرنا، أو اخترنا إمضاء العقد، أو أمضيناه، أو أجزناه، أو ألزمناه، وما أشبهها. فلو قال أحدهما: اخترت إمضاءه، انقطع خياره، وبقي خيار الآخر، كما إذا أسقط أحدهما خيار الشرط. وفي وجه ضعيف: لا يبقى خيار الآخر، لان هذا الخيار لا يتبعض ثبوته، فلا يتبعض سقوطه. ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر أو خيرتك، فقال الآخر: اخترت، انقطع خيارهما. وإن سكت، لم ينقطع خياره، وينقطع خيار القائل على الاصح، لانه دليل الرضى. ولو أجاز واحد، وفسخ الآخر، قدم الفسخ. ولو تقابضا في المجلس، وتبايعا العوضين بيعا ثانيا، صح البيع الثاني أيضا على المذهب، وبه قطع الجمهور، لانه رضى بلزوم الاول. وقيل: إنه يبنى على أن الخيار، هل يمنع انتقال الملك ؟ إن قلنا: يمنع، لم يصح. ولو تقابضا في الصرف، ثم أجازا في المجلس، لزم العقد. فإن أجازاه قبل التقابض، فوجهان. أحدهما: تلغو الاجازة، فيبقى الخيار. والثاني: يلزم العقد، وعليهما التقابض. فإن تفرقا قبل التقابض، انفسخ العقد، ولا يأثمان إن تفرقا عن تراض. وإن انفرد أحدهما بالمفارقة، أثم. وأما التفرق، فأن يتفرقا بأبدانهما، فلو أقاما في ذلك لمجلس مدة متطاولة، أو قاما وتماشيا مراحل، فهما على خيارهما. هذا هو الصحيح، وبه قطع(3/104)
الجمهور. وحكي وجه: أنه لا يزيد على ثلاثة أيام. ووجه: أنهما لو شرعا في أمر آخر، وأعرضا عما يتعلق بالعقد، وطال الفصل، انقطع الخيار. ثم الرجوع في التفرق إلى العادة. فما عده الناس تفرقا، لزم به العقد. فلو كانا في دار صغيرة، فالتفرق أن يخرج أحدهما منها، أو يصعد السطح. وكذا لو كانا في مسجد صغير، أو سفينة صغيرة. فإن كانت الدار كبيرة، حصل التفرق بأن يخرج أحدهما من البيت إلى الصحن، أو من الصحن إلى بيت أو صفة. وإن كانا في صحراء أو في سوق، فإذا ولى أحدهما ظهره ومشى قليلا، حصل التفرق على الصحيح. وقال الاصطخري: يشترط أن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع الصوت، لم يسمع كلامه. ولا يحصل التفرق، بأن يرخى ستر بينهما، أو يشق نهر. ولا يحصل ببناء جدار بينهما من طين أو جص على الاصح. وصحن الدار والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما، كالصحراء. فرع لو تناديا متباعدين، وتبايعا، صح البيع. قال الامام: يحتمل أن يقال: لا خيار لهما، لان التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته. ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في موضعهما، وبهذا قطع صاحب التتمة. ثم إذا فارق أحدهما موضعه، بطل خياره. وهل يبطل خيار الآخر، أم يدوم إلى أن يفارق مكانه ؟ فيه احتمالان للامام. قلت: الاصح: ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه، بطل خيار الآخر. ولو تبايعا وهما في بيتين من دار أو صحن وصفة، ينبغي أن يكونا كالمتباعدين فيما ذكرنا، وأن يثبت الخيار حتى يفارق أحدهما. والله أعلم. فرع لو مات أحدهما في المجلس، نص أن الخيار لوارثه، وقال في المكاتب: إذا باع ومات في المجلس، وجب البيع. وللاصحاب ثلاث طرق. أصحها: في المسألتين قولان. أظهرهما: يثبت الخيار للوارث والسيد، كخيار الشرط والعيب. والثاني: يلزم، لانه أبلغ من المفارقة بالبدن. والطريق الثاني:(3/105)
يثبت لهما قطعا. وقوله في المكاتب: وجب البيع، معناه: لا يبطل، بخلاف الكتابة. والثالث: تقرير النصين. والفرق، بأن الوارث خليفة الميت، بخلاف السيد. وحكي قول مخرج من خيار المجلس في خيار الشرط: أنه لا يورث، وهو شاذ. ولو باع العبد المأذون، أو اشترى، ومات في المجلس، فكالمكاتب. وكذا الوكيل بالشراء إذا مات في المجلس، هل للموكل الخيار ؟ فيه الخلاف كالمكاتب. هذا إذا فرغنا على الصحيح أن الاعتبار بمجلس التوكيل. وفي وجه: يعتبر مجلس الموكل، وهو شاذ. ثم إن لم يثبت الخيار للوارث، فقد انقطع خيار الميت. وأما الحي، ففي التهذيب: أن خياره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس. وقال الامام: يلزم العقد من الجانبين، ويجوز تقدير خلاف فيه، لما سبق أن هذا الخيار لا يتبعض سقوطه كثبوته. قلت: قول صاحب التهذيب أصح، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي حسين: يمتد حتى يجتمع هو والوارث. ورابع حكاه الروياني: أنه ينقطع خياره بموت صاحبه. فإذا بلغ الخبر الوارث، حدث لهذا الخيار معه. والله أعلم. وإن قلنا: يثبت الخيار للوارث، فإن كان حاضرا في المجلس، امتد الخيار بينه وبين العاقد الآخر حتى يتفرقا أو يتخايرا. وإن كان غائبا، فله الخيار إذا وصل الخبر إليه. وهل هو على الفور، أم يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر إليه ؟ وجهان كالوجهين في خيار الشرط إذا ورثه الوارث وبلغه الخبر بعد مضي مدة الخيار، ففي وجه: يمتد كما كان يمتد للميت لو بقي. ومنهم من بناهما على وجهين في كيفية ثبوته للعاقد الباقي. أحدهما: له الخيار ما دام في مجلس العقد. فعلى هذا، يكون خيار الوارث في المجلس الذي يشاهد فيه المبيع. والثاني: يتأخر خياره إلى أن يجتمع هو والوارث في مجلس، فحينئذ يثبت الخيار للوارث. قلت: حاصل الخلاف في خيار المجلس للوارث الغائب، أربعة أوجه. منها ثلاثة جمعها القاضي حسين. أصحها: يمتد الخيار حتى يفارق مجلس الخبر. والثاني: حتى يجتمعا. والثالث: على الفور. والرابع: يثبت له الخيار إذا أبصر المبيع، ولا يتأخر. والله أعلم. فرع إذا ورثه اثنان فصاعدا، وكانوا حضورا في مجلس العقد، فلهم(3/106)
الخيار إلى أن يفارقوا العاقد الآخر، ولا ينقطع بمفارقة بعضهم على الاصح. وإن كانوا غائبين عن المجلس، قال في التتمة: إن قلنا في الوارث الواحد: يثبت الخيار في مجلس مشاهدة المبيع، فههم الخيار إذا اجتمعوا في مجلس واحد. وإن قلنا: له الخيار إذا اجتمع هو والعاقد، فكذا لهم الخيار إذا اجتمعوا به. ومتى فسخ بعضهم، وأجاز بعضهم، ففي وجه: لا ينفسخ في شئ والاصح: أنه ينفسخ في الجميع، كالمورث إذا فسخ في حياته في البعض وأجاز في البعض. قلت: وسواء فسخ بعضهم في نصيبه فقط، أو في الجميع. والله أعلم فرع إذا حمل أحد المتعاقدين، فأخرج من المجلس مكرها، فإن منع الفسخ بأن سد فمه، لم ينقطع خياره على المذهب. وقيل: وجهان كالقولين في الموت، وهنا أولى ببقائه، لان إبطال حقه قهرا، بعيد. وإن لم يمنع الفسخ، فطريقان. أحدهما: ينقطع. وأصحهما: على وجهين. أصحهما: لا ينقطع. فإن قلنا: ينقطع خياره، انقطع أيصا خيار الماكث، وإلا، فله التصرف بالفسخ والاجارة إذا تمكن. وهل هو على الفور ؟ فيه الخلاف السابق. فإن قلنا: لا يتقيد بالفور، وكان مستقرا حين زايله الاكراه في المجلس، امتد الخيار امتداد ذلك المجلس. وإن كان مارا، فإذا فارق في مروره مكان التمكن، انقطع خياره، وليس عليه الانقلاب إلى مجلس العقد ليجتمع بالعاقد الآخر إن طال الزمان. وإن قصر، ففيه احتمال للامام. وإذا لم يبطل خيار المخرج، لم يبطل خيار الماكث أيضا إن منع الخروج معه، وإلا، بطل على الاصح. ولو ضربا حتى تفرقا بأنفسهما، ففي انقطاع الخيار قولان كحنث المكر. ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر مع التمكن، بطل خيارهما، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب وحده، قاله في التهذيب. قلت: أطلق الفوراني، والمتولي، وصاحبا العدة والبيان وغيرهم: أنه يبطل خيارهما بلا تفصيل، وهو الاصح، لانه تمكن من الفسخ بالقول، ولان(3/107)
الهارب فارق مختارا، بخلاف المكره، فإنه لا فعل له. والله أعلم. فرع لو جن أحدهما، أو أغمي عليه، لم ينقطع الخيار، بل يقوم وليه أو الحاكم مقامه، فيفعل ما فيه الحظ من الفسخ والاجازة. وفي وجه مخرج من الموت: أنه ينقطع. ولو خرس أحدهما في المجلس، فإن كانت له إشارة مفهومة، أو كتابة، فهو على خياره، وإلا، نصب الحاكم نائبا عنه. فرع لو جاء المتعاقدان معا، فقال أحدهما: تفرقنا بعد البيع، فلزم، وأنكر الثاني التفرق، وأراد الفسخ، فالقول قول الثاني مع يمينه، للاصل. ولو اتفقا على التفرق، وقال أحدهما: فسخت قبله، وأنكر الآخر، فالقول قول المنكر مع يمينه على الصحيح، وعلى الثاني: قول مدعي الفسخ، لانه أعلم بتصرفه. ولو اتفقا على عدم التفرق، وادعى أحدهما الفسخ، وأنكر الآخر، فدعواه الفسخ، فسخ. السبب الثاني للخيار: الشرط. يصح خيار الشرط بالاجماع، ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، فإن زاد، بطل البيع، ويجوز دون الثلاثة. فلو كان المبيع مما يتسارع إليه الفساد، فهل يبطل البيع، أو يصح ويباع عند الاشراف على الفساد، ويقام ثمنه مقامه ؟ وجهان حكاهما صاحب البيان.(3/108)
قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم ويشترط أن تكون المدة متصلة بالعقد. فلو شرطا خيار ثلاثة فما دونها من آخر الشهر، أو متى شاءا، أو شرطا خيار الغد دون اليوم، بطل البيع. ولا يجوز شرط الخيار مطلقا، ولا تقديره بمدة مجهولة. فإن فعل، بطل العقد، ولو شرطا الخيار إلى وقت طلوع الشمس من الغد، جاز. ولو قالا: إلى طلوعها، قال الزبيري: لا يجوز، لان السماء قد تغيم فلا تطلع، وهذا بعيد، فإن التغيم إنما يمنع من الاشراق واتصال الشعاع، لا من الطلوع. واتفقوا على أنه يجوز أن يقول: إلى الغروب، وإلى وقت الغروب. قلت: الاصح: خلاف قول الزبيري. والله أعلم. ولو تبايعا نهارا بشرط الخيار إلى الليل، أو عكسه، لم يدخل فيه الليل والنهار، كما لو باع بألف إلى رمضان، لا يدخل رمضان في الاجل. فرع لو باع عبدين بشرط الخيار في أحدهما لا بعينه، بطل البيع، كما لو باع أحدهما لا بعينه. ولو شرط الخيار في أحدهما بعينه، ففيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم، وكذا لو شرط في أحدهما خيار يوم، وفي الآخر، يومين. فإن صححنا البيع، ثبت الخيار فيما شرط كما شرط. ولو شرط الخيار فيهما، ثم أراد ا لفسخ في أحدهما، فعلى قولي تفريق الصفقة في الرد بالعيب. ولو اشترى اثنان شيئا من واحد صفقة واحدة بشرط الخيار، فلاحدهما الفسخ في نصيبه، كما في الرد بالعيب. ولو شرط لاحدهما الخيار، دون الآخر، صح البيع على الاظهر. فرع لو اشترى بشرط أنه إن لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام، فلابيع بينهما، أو باع بشرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، بطل البيع، كما لو تبايعا بشرط أنه إن قدم زيد اليوم، فلا بيع بينهما، هذا هو الصحيح. وعن أبي إسحق: أنه يصح العقد، والمذكور في الصورة الاولى: شرط الخيار للمشتري. وفي الثانية: شرط للبائع. فرع قد اشتهر في الشرع، أن قوله: لا خلابة، عبارة عن اشتراط(3/109)
الخيار ثلاثة أيام. فإذا أطلقاها عالمين بمعناها، كان كالتصريح بالاشتراط. وإن كانا جاهلين، لم يثبت الخيار. فإن علم البائع دون المشتري، فوجهان. قلت: الصحيح: أنه لا يثبت. والله إعلم. فرع إذا شرطا الخيار ثلاثة أيام، ثم أسقطا اليوم الاول، سقط الكل. فرع إذا تبايعا بشرط الخيار ثلاثة فما دونها، فابتداء المدة من وقت العقد، أم من وقت التفرق، أو التخاير ؟ فيه وجهان. أصحهما: الاول. وأما ابتداء مدة الاجل، فإن جعلنا الخيار من العقد، فالاجل أولى، وإلا، فوجهان. فإذا قلنا: ابتداء الخيار من العقد، فانقضت المدة وهما مصطحبان بعد، انقطع خيار الشرط، وبقي خيار المجلس. وإن تفرقا والمدة باقية، فالحكم بالعكس. ولو أسقطا أحد الخيارين، لم يسقط الآخر. ولو قالا: ألزمنا العقد، أو أسقطنا الخيار مطلقا، سقطا. ولو شرطا الابتداء من وقت التفرق، بطل العقد على الصحيح. وفي وجه يصح البيع والشرط. وأما إذا قلنا: ابتداء الخيار من التفرق: فإذا تفرقا، انقطع خيار المجلس، واستؤنف خيار الشرط. ولو أسقطا الخيار قبل التفرق، بطل خيار المجلس، ويبطل الآخر على الاصح، لانه غير ثابت. ولو شرطا ابتداءه من حين العقد، فوجهان. أصحهما: يصح العقد والشرط. ولو شرطا الخيار بعد العقد وقبل التفرق، وقلنا بثبوته، فالحكم على الوجه الثاني لا يختلف، وعلى الاول: يحسب من وقت الشرط، لا من وقت العقد، ولا من التفرق. فرع من له خيار الشرط، له فسخ العقد حضر صاحبه أو غاب، ولا يفتقر نفوذ هذا الفسخ إلى الحاكم.
فصل فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود وما لا يثبت والقول الجملي فيه: أنه مع خيار المجلس يتلازمان في الاغلب، لكن خيار المجلس أسرع وأولى ثبوتا من خيار الشرط، فربما انفكا لذلك، فإذا أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس. واعلم بأنهما متفقان في صورة الخلاف والوفاق، إلا أن البيوع التي يشترط فيها(3/110)
التقابض في المجلس، كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، أو القبض في أحد العوضين، كالسلم، لا يجوز شرط الخيار فيها وإن ثبت خيار المجلس، وإلا أن خيار الشرط لا يثبت في الشفعة بلا خلاف. وكذا في الحوالة على ما حكاه العراقيون، وإلا أن الوجه الغريب المذكور في خيار المجلس للبائع لمفلس، لم يطردوه هنا، وإلا أن في الهبة بشرط الثواب طريقة قاطعة تنفي خيار الشرط، وإلا أن في الاجارة أيضا طريقة مثل ذلك. وحكم شرط الخيار في الصداق، مذكور في كتاب الصداق.
فصل يجوز شرط الخيار للعاقدين ولاحدهما بالاجماع. ويجوز أن يشرط لاحدهما يوم، وللآخر يومان أو ثلاثة. فإن شرطه لغيرهما، فإن كان الغير أجنبيا، فقولان. أحدهما: يفسد البيع. وأظهرهما: يصح البيع والشرط، ويجري القولان في بيع العبد بشرط الخيار للعبد. ولا فرق على القولين بين أن يشرطا جميعا أو أحدهما الخيار لشخص واحد، وبين أن يشرط هذا الخيار لواحد، وهذا لآخر. فإذا قلنا بالاظهر، ففي ثبوت الخيار للشارط أيضا قولان، أو وجهان. أظهرهما، وهو ظاهر نصه في الصرف: أنه لا يثبت، اقتصارا على الشرط. فإذا لم نثبت الخيار للعاقد مع الاجنبي، فمات الاجنبي في زمن الخيار، ثبت له الآن على الاصح. وإن أثبتنا الخيار للعاقد مع الاجنبي، فلكل واحد منهما الاستقلال بالفسخ. ولو فسخ أحدهما، وأجاز الآخر، فالفسخ أولى. ولو اشترى شيئا على أن يؤامر فلانا، فيأتي بما يأمره به من الفسخ والاجازة، فالمنصوص: أنه يجوز، وليس له الرد حتى يقول: استأمرته، فأمرني بالفسخ. وتكلموا فيه من وجهين، أحدهما: أنه لماذا شرط أن يقول: استأمرته ؟ قال الذين خصوا الخيار المشروط للاجنبي به: هذا جواب على المذهب الذي قلناه ومؤيد له. وقال الآخرون: إنه مذكور احتياطا. والوجه الثاني: أنه أطلق في التصوير شرط(3/111)
المؤامرة، فهل يحتمل ذلك ؟ الصحيح: أنه لا يحتمل، واللفظ محمول على ما إذا قيد المؤامرة بالثلاث فما دونها. وقيل: يحتمل الاطلاق والزيادة على الثلاث، كخيار الرؤية. أما إذا كان ذلك الغير هو الموكل، فيثبت الخيار للموكل فقط، وللوكيل بالبيع والشراء شرط الخيار للموكل على الاصح، لان ذلك لا يضره. وطرد الشيخ أبو علي الوجهين في شرط الخيار لنفسه أيضا. وليس للوكيل في البيع شرط الخيار للمشتري، ولا للوكيل في الشراء شرطه للبائع، فإن خالف، بطل العقد. وإذا شرط الخيار لنفسه، وجوزناه، أو أذن فيه صريحا، ثبت له الخيار، ولا يفعل إلا ما فيه الحظ للموكل، لانه مؤتمن، بخلاف الاجنبي المشروط له الخيار، لا يلزمه رعاية الحظ، هكذا ذكروه. ولقائل أن يجعل شرط الخيار له ائتمانا، وهذا أظهر إذا جعلناه نائبا عن العاقد. ثم هل يثبت للموكل الخيار معه في هذه الصورة ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا شرط للاجنبي، هل يثبت للعاقد ؟ وحكى الامام فيما إذا أطلق الوكيل شرط الخيار بالاذن المطلق من الموكل، ثلاثة أوجه، أن الخيار يثبت للوكيل، أو للموكل، أم لهما ؟ قلت: أصحهما: للوكيل. ولو حضر الموكل مجلس العقد، فحجر على الوكيل في خيار المجلس، فمنعه الفسخ والاجازة، فقد ذكر الغزالي كلاما معناه: أن فيه احتمالين. أحدهما: يجب الامتثال، وينقطع خيار الوكيل، قال: وهو مشكل، لانه يلزم منه رجوع الخيار إلى الموكل، وهو مشكل. والثاني: لا يمتثل، لانه من لوازم السبب السابق، وهو البيع، ولكنه مشكل، لانه يخالف شأن الوكالة التي مقتضاها امتثال قول الموكل، وهذا الثاني أرجح، وهذا معنى كلام الغزالي في البسيط والوسيط. وليس في المسألة خلاف وإن كانت عبارته موهمة إثبات خلاف. والله أعلم. فصل ملك المبيع في زمن الخيار لمن ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها، للمشتري، والملك في الثمن للبائع. والثاني: للبائع، والملك في الثمن للمشتري. والثالث: موقوف. فإن تم البيع، بان حصول الملك للمشتري بنفس البيع، وإلا، بان أن ملك البائع لم يزل. وكذا يتوقف في الثمن.(3/112)
وفي موضع الاقوال، طرق. أحدها: أنها إذا كان الخيار لهما، إما بالشرط، وإما بالمجلس. أما إذا كان لاحدهما، فهو مالك المبيع، لنفوذ تصرفه. والثاني: أنه لا خلاف في المسألة، ولكن إن كان الخيار للبائع، فالملك له. وإن كان للمشتري، فله. وإن كان لهما، فموقوف. وتنزل الاقوال على هذه الاحوال. والثالث: طرد الاقوال في جميع الاحوال، وهو الاصح عند عامة الاصحاب، منهم العراقيون، والحليمي. وأما الاظهر من الاقوال، فقال الشيخ أبو حامد ومن نحا نحوه: الاظهر: أن الملك للمشتري، وبه قال الامام. وقال آخرون، الاظهر: الوقف، وبه قال صاحب التهذيب، والاشبه: توسط ذكره جماعة، وهو أنه إن كان الخيار للبائع، فالاظهر: بقاء الملك له. وإن كان للمشتري، فالاظهر: انتقاله إليه. وإن كان لهما، فالاظهر: الوقف. التفريع. لهذه الاقوال، فروع كثيرة. منها: ما يذكر في أبوابه. ومنها: ما يذكر هنا. فمن ذلك، كسب العبد والامة المبيعين في زمن الخيار، فإن تم البيع، فهو للمشتري إن قلنا: الملك له، أو موقوف. وإن قلنا: للبائع، فوجهان. قال الجمهور: الكسب للبائع، لان الملك له عند حصوله. وقال أبو علي الطبري: للمشتري. وإن فسخ البيع، فهو للبائع إن قلنا: الملك له، أو موقوف. وإن قلنا: للمشتري، فوجهان. أصحهما: للمشتري. وقال أبو إسحق: للبائع. وفي معنى الكسب: اللبن، والثمرة، والبيض، ومهر الجارية إذا وطئت بشبهة. ومنه النتاج، فإن فرض حدوث الولد وانفصاله في مدة الخيار لامتداد المجلس، فهو كالكسب. وإن كانت الجارية أو البهيمة حاملا عند البيع، وولدت في زمن الخيار، بني على أن الحمل هل يأخذ قسطا من الثمن ؟ وفيه قولان. أحدهما: لا، كأعضائها. فعلى هذا، هو كالكسب بلا فرق. وأظهرهما: نعم، كما لو بيع بعد الانفصال مع الام. فعلى هذا، الحمل مع الام كعينين بيعتا معا. فإن فسخ البيع، فهما للبائع، وإلا، فللمشتري.(3/113)
ومنه العتق، فإذا أعتق البائع في زمن الخيار المشروط لهما، أو للبائع، نفذ إعتاقه على كل قول. وإن أعتقه المشتري، فإن قلنا: الملك للبائع، لم ينفذ إن فسخ البيع، وكذا إن تم على الاصح. وإن قلنا: موقوف، فالعتق أيضا موقوف، فإن تم العقد، بان نفوذه، وإلا، فلا. وإن قلنا: الملك للمشتري، ففي العتق وجهان. أصحهما وهو ظاهر النص: لا ينفذ، صيانة لحق البائع عن الابطال. وعن ابن سريج: أنه ينفذ، لمصادفته الملك. ثم قيل بالنفوذ عنه مطلقا. وقيل: إنه يفرق بين أن يكون موسرا، فينفذ، أو معسرا، فلا ينفذ، كالمرهون. فإن قلنا: لا ينفذ، فاختار البائع الاجارة، ففي الحكم بنفوذه الآن، وجهان. وإن قلنا: ينفذ، فمن وقت الاجازة، أم الاعتاق ؟ وجهان. أصحهما: الاول. وإن قلنا بوجه ابن سريج، ففي بطلان خيار البائع، وجهان. أحدهما: يبطل، وليس له إلا الثمن. وأصحهما: لا يبطل، لكن لا يرد العتق، بل إذا فسخ، أخذ منه قيمة العبد، كنظيره في الرد بالعيب. هذا كله إذا كان الخيار لهما، أو للبائع. أما إذا كان للمشتري، فينفذ إعتاقه على جميع الاقوال، لانه إما مصادف ملكه، وإما إجازة، وليس فيه إبطال حق الغير. وإن أعتقه البائع، فإن قلنا: الملك للمشتري، لم ينفذ، تم البيع أم فسخ. ويجئ فيما لو فسخ الوجه الناظر إلى المآل. وإن قلنا بالوقف، لم ينفذ إن تم البيع، وإلا، نفذ. وإن قلنا: إنه للبائع، فإن اتفق الفسخ، فهو نافذ، وإلا، فقد أعتق ملكه الذي تعلق به حق لازم، فهو كإعتاق الراهن. ومنه: الوطئ، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع، ففي حله للبائع، طرق. أحدها: أنا إن جعلنا الملك له، فهو حلال، وإلا، فوجهان. وجه الحل: أنه يتضمن الفسخ، وفي ذلك عود الملك إليه معه، أو قبيله. والطريق الثاني: إن لم نجعل الملك له، فحرام، وإلا، فوجهان. وجه التحريم: ضعف الملك، والطريق الثالث: القطع بالحل مطلقا. والمذهب من هذا كله: الحل، إن جعلنا الملك له، والتحريم، إن لم نجعله له، ولا مهر عليه بحال.(3/114)
وأما وطئ المشتري، فحرام قطعا، لانه وإن ملك على قول، فملك ضعيف، ولكن لا حد عليه على الاقوال، لوجود الملك أو شبهته. وهل يلزمه المهر ؟ إن تم ا لبيع، فلا، إن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف. وإن قلنا: للبائع، وجب المهر له على الصحيح. وقال أبو إسحق: لا يجب، نظرا إلى المآل. وإن فسخ البيع، وجب المهر للبائع إن قلنا: الملك له أو موقوف. وإن قلنا: للمشتري، فلا مهر على الاصح. ولو أولدها، فالولد حر نسيب على الاقوال. وهل يثبت الاستيلاد ؟ إن قلنا: الملك للبائع، فلا. ثم إن تم البيع، أو ملكها بعد ذلك، ففي ثبوته حينئذ قولان، كمن وطئ جارية غيره بشبهة ثم ملكها. وعلى وجه الناظر إلى المآل، إذا تم البيع، نفذ الاستيلاد بلا خلاف. وعلى قول الوقف، إن تم البيع، بان ثبوت الاستيلاد، وإلا، فلا. فلو ملكها يوما، عاد القولان. وعلى قولنا: الملك للمشتري في ثبوت الاستيلاد، الخلاف المذكور في العتق. فإن لم يثبت في الحال، وتم البيع، بان ثبوته. ورتب الائمة الخلاف في الاستيلاد على الخلاف في العتق، فقيل: الاستيلاد أولى بالثبوت. وقيل: عكسه. وقال الامام: ولا يبعد القول بالتسوية. والقول في وجوب قيمة الولد على المشتري، كالقول في المهر. أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، فحكم حل الوطئ كما سبق في حل الوطئ في طرف البائع إذا كان الخيار لهما، أو له. وأما البائع، فيحرم عليه الوطئ هنا. فلو وطئ، فالقول في وجوب المهر وثبوت الاستيلاد ووجوب القيمة كما ذكرناه في طرف المشتري، إذا كان الخيار لهما، أو للبائع. فرع إذا تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار، نظر، إن كان قبل القبض، انفسخ العقد. وإن كان بعده وقلنا: الملك للبائع، انفسخ أيضا، فيسترد الثمن، ويغرم للبائع القيمة. وفي القيمة، الخلاف المذكور في كيفية غرامة المستعير والمستام. وإن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف، فوجهان أو قولان. أحدهما: ينفسخ أيضا، لحصول الهلاك قبل استقرار العقد. وأصحهما: لا ينفسخ، لدخوله في ضمان المشتري بالقبض، ولا أثر لولاية الفسخ كما في خيار العيب. فإن قلنا بالانفساخ، فعلى المشتري القيمة. قال الامام: وهنا يقطع باعتبار(3/115)
قيمة يوم التلف، لان الملك قبل ذلك لمشتري. وإن قلنا بعدم الانفساخ، فهل ينقطع الخيار ؟ وجهان. أحدهما: نعم، كما ينقطع خيار الرد بالعيب بتلف المبيع. وأصحهما: لا، كما لا يمتنع التحالف بتلف المبيع، ويخالف الرد بالعيب، لان الضرر ثم يندفع بالارش، فإن قلنا بالاول، استقر العقد، ولزم الثمن. وإن قلنا بالثاني، فإن تم العقد، لزم الثمن، وإلا، وجبت القيمة على المشتري، واسترد الثمن. فإن تنازعا في تعيين القيمة، فالقول قول المشتري. ومن الاصحاب من قطع بعدم الانفساخ وإن قلنا: الملك للبائع. وذكروا تفريعا: على أنه لو لم ينفسخ حتى انقضى زمن الخيار، فعلى البائع رد الثمن، وعلى المشتري القيمة. قال الامام: هذا تخليط ظاهر. فرع لو قبض المشتري المبيع في زمن الخيار، وأتلفه متلف قبل انقضائه، إن قلنا: الملك للبائع، انفسخ البيع كالتلف. وإن قلنا: للمشتري أو موقوف، نظر، إن أتلفه أجنبي، بني على ما لو تلف. إن قلنا: ينفسخ العقد هناك، فهو كإتلاف الاجنبي المبيع قبل القبض، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: لا ينفسخ، وهو الاصح، فكذا هنا، وعلى الاجنبي القيمة، والخيار بحاله. فإن تم البيع، فهي للمشتري، وإلا، فللبائع. وإن أتلفه المشتري، استقر الثمن عليه. فإن أتلفه في يد البائع، وجعلنا إتلافه قبضا، فهو كما لو تلف في يده. وإن أتلفه البائع في يد المشتري، ففي التتمة: أنه يبنى على أن إتلافه كإتلاف الاجنبي، أم كالتلف بآفة سماوية ؟ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فرع لو تلف بعض المبيع في زمن الخيار بعد القبض، بأن اشترى عبدين، فمات أحدهما، ففي الانفساخ في التالف، الخيار السابق. فإن انفسخ، جاء في الانفساخ في الباقي قولا تفريق الصفقة. وإن لم ينفسخ، فقي خياره في الباقي، إن قلنا: يجوز رد أحد العبدين إذا اشتراهما بشرط الخيار، وإلا، ففي بقاء الخيار في الباقي، الوجهان. وإذا بقي الخيار فيه، ففسخ، رده مع قيمة الهالك. فرع إذا قبض المبيع في زمن الخيار، ثم أودعه عند البائع، فتلف في يده، فهو كما لو تلف في يد المشتري. حتى إذا فرعنا على أالملك للبائع،(3/116)
ينفسخ البيع، ويسترد الثمن، ويغرم القيمة، حكاه الامام عن الصيدلاني. ثم أبدى احتمالا في وجوب القيمة لحصول التلف بعد العود إلى يد المالك. فرع لا يجب على البائع تسليم المبيع، ولا على المشتري تسليم الثمن في زمن الخيار. فلو تبرع أحدهما بالتسليم، لم يبطل خياره، ولا يجبر الآخر على تسليم ما عنده، وله استرداد المدفوع. وقيل: ليس له استرداده، وله أخذ ما عند صاحبه دون رضاه. والاول: أصح. فرع لو اشترى زوجته بشرط الخيار، ثم خاطبها بالطلاق في زمن الخيار، فإن تم العقد وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف، لم يقع الطلاق. وإن قلنا: للبائع، وقع. وإن فسخ وقلنا: للبائع أو موقوف، وقع. وإن قلنا: للمشتري، فوجهان. وليس له الوطئ في زمن الخيار، لانه لا يدري أيطأ بالملك، أو بالزوجية ؟ هذا هو الصحيح المنصوص. وفي وجه: له الوطئ.
فصل فيما يحصل به الفسخ والاجازة لا يخفى ما يحصلان به من الالفاظ، كقول البائع: فسخت البيع، أو استرجعت المبيع، أو رددت الثمن. وقال الصيمري: قول البائع في زمن الخيار: لا أبيع حتى يزيد في الثمن، وقول المشتري: لا أفعل، فسخ، وكذا قول المشتري: لا أشتري حتى تنقص لي من الثمن، وقول البائع: لا أفعل، وكذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، وطلب المشتري تأجيل الثمن الحال. فرع إذا كان للبائع خيار، فوطؤه المبيعة في زمن الخيار، فسخ على الصحيح، لاشعاره باختيار الامساك. وفي وجه: لا يكون فسخا. وفي وجه: إنما يكون فسخا إذا نوى به الفسخ. فعلى الصحيح، لو قبل أو باشر فيما دون الفرج، أو لمس بشهوة، لا يكون فسخا على الاصح، وكذا الركوب والاستخدام. وقطع في التهذيب بأن الجميع فسخ. فرع إعتاق البائع إن كان له الخيار، فسخ بلا خلاف. وفي بيعه،(3/117)
وجهان. أصحهما: أنه فسخ. فعلى هذا، في صحة البيع المأتي به، وجهان. أصحهما: الصحة، كالعتق. ويجري هذا الخلاف في الاجارة والتزويج، وكذا في الرهن والهبة إن اتصل بهما القبض، وسواء وهب لمن لا يتمكن من الرجوع في هبته، أو يتمكن، كولده. فإن تجرد الرهن والهبة عن القبض، فهو كالعرض على البيع، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فرع إذا علم البائع أن المشتري يطأ الجارية، وسكت عليه، هل يكون مجيزا ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو سكت على بيعه وإجارته، وكما لو سكت على وطئ أمته، لا يسقط به المهر. ولو وطئ بالاذن، حصلت الاجازة، ولم يجب على المشتري مهر ولا قيمة ولد، وثبت الاستيلاد قطعا. وما سبق في الفصل الماضي، مفروض فيما إذا لم يأذن له البائع في الوطئ ولا علم به. فرع وطئ المشتري، هل هو إجازة منه ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وإعتاقه إن كان بإذن البائع، نفذ، وحصلت الاجازة في الطرفين، وإلا، ففي نفوذه ما سبق. فإن نفذ، حصلت الاجازة، وإلا، فوجهان. أصحهما: الحصول، لدلالته على اختيار التملك. قال الامام: ويتجه أن يقال: إن أعتق وهو يعلم عدم نفوذه، لم يكن إجازة قطعا. وإن باع، أو وقف، أو وهب وأقبض بغير إذن البائع لم ينفذ قطعا، ولكن يكون إجازة على الاصح. ولو باشر هذه التصرفات بإذن البائع، أو باع للبائع نفسه، صح على الاصح. قال ابن الصباغ: وعلى الوجهين جميعا، يلزم البيع، ويسقط الخيار. وقياس ما سبق: أنا إذا لم ننفذها، كان سقوط الخيار على وجهين. ولو أذن له البائع في طحن الحنطة المبيعة، فطحنها، كان مجيزا. ومجرد الاذن في هذه التصرفات، لا يكون إجازة من البائع، حتى لو رجع قبل التصرف، كان على خياره، ذكره الصيدلاني وغيره. فرع في العرض على البيع والاذن والتوكيل فيه وجهان - وكذا في الرهن والهبة، دون القبض -. أحدهما: أنها كلها فسخ من جهة البائع، وإجازة من(3/118)
جهة المشتري. وأصحهما: أنها ليست فسخا، ولا إجازة. ولو باع المبيع في زمن الخيار بشرط الخيار، قال الامام: إن قلنا: لا يزول ملك البائع، فهو قريب من الهبة الخالية من القبض، وإن قلنا: يزول، ففيه احتمال، لانه أبقى لنفسه مستدركا. فرع اشترى عبدا بجارية، ثم أعتقهما معا، نظر، إن كان الخيار لهما، عتقت الجارية، بناء على ما سبق أن إعتاق البائع نافذ متضمن للفسخ، ولا يعتق العبد المشتري وإن جعلنا الملك فيه لمشتريه، لما فيه من إبطال حق صاحبه على الاصح. وعلى الوجه القائل بنفاذ إعتا المشتري، تفريعا على أن الملك للمشتري، يعتق العبد، ولا تعتق الجارية. وإن كان الخيار لمشتري العبد، فثلاثة أوجه. أصحها: يعتق العبد، لانه إجازة. والاصل: استمرار العقد. والثاني: تعتق الجارية، لان عتقها فسخ، فقدم على الاجازة. ولهذا لو فسخ أحد المتبايعين، وأجاز الآخر، قدم الفسخ. والثالث: لا يعتق واحد منهما. وإن كان الخيار لبائع العبد وحده، فالمعتق بالاضافة إلى العبد مشتر، والخيار لصاحبه، وبالاضافة إلى الجارية بائع. وقد سبق الخلاف في إعتاقهما والذي يفتى به: أنه(3/119)
لا ينفذ العتق في واحد منهما في الحال. فإن فسخ صاحبه، نفذ في الجارية، وإلا، ففي العبد. ولو كانت المسألة بحالها وأعتقهما مشتري الجارية، فقس الحكم بما ذكرناه، وقل: إن كان الخيار لهما، عتق العبد دون الجارية على الاصح. وإن كان للمعتق وحده، فعلى الاوجه الثلاثة. في الاول: يعتق العبد، وفي الثاني: الجارية، ولا يخفى الثالث.
باب خيار النقيصة
هو منوط بفوات شئ من المعقود عليه كان يظن حصوله، وذلك الظن من أحد ثلاثة أمور. أولها: شرط كونه بتلك الصفة. وثانيها: اطراد العرف بحصولها فيه. وثالثها: أيفعل العاقد ما يورث ظن حصولها. فالاول: من أسباب الظن: كقوله: بعت هذا العبد بشرط كونه كاتبا. والصفات الملتزمة بالشرط، قسمان. أحدهما: يتعلق به غرض مقصود، فالخلف فيها يثبت الخيار وفاقا، أو على خلاف فيه، وذلك بحسب قوة الغرض وضعفه. والثاني: لا يتعلق به غرض مقصود، فاشتراطه لغو، ولا خيار بفقده. فإذا شرط كون العبد كاتبا أو خبازا أو صائغا، فهو من القسم الاول. ويكفي أن يوجد من الصفة المشروطة ما ينطلق عليه الاسم، ولا تشترط النهاية فيها. ولو شرط إسلام العبد، فبان كافرا، أو شرط كون الجارية يهودية أو نصرانية، فبانت مجوسية، ثبت الخيار. ولو شرط كفره، فبان مسلما، ثبت الخيار على الصحيح. وقيل: إن كان قريبا من بلاد الكفر، أو في ناحية أغلب أهلها الذميون، ثبت الخيار، وإلا، فلا. وقال المزني: لا خيار أصلا. ولو شرط بكارة الجارية، فبانت ثيبا، فله الرد، سواء كانت مزوجة، أم لا.(3/120)
وقال أبو إسحق: لا خيار إن كانت مزوجة، لان الافتضاض حق للزوج. والصحيح: الاول، لانه قد يطلقها. ولو شرط ثيابتها، فبانت بكرا، أو شرط سبوطة شعرها، فبان جعدا، فلا خيار على الاصح، لانها أفضل، كما لو شرط كون العبد أميا، فبان كاتبا، أو كونه فاسقا، فبان عفيفا. ولو شرط الجعودة، فبان سبطا، ثبت الخيار. ولو شرط كون العبد خصيا، فبان فحلا أو عكسه، فله الرد، لشدة اختلاف الاغراض. وقيل: لا رد في الصورة الاولى. ولو شرط كونه مختونا، فبان أقلف، فله الرد، وبالعكس لا رد. وقال في التتمة: إلا أن يكون العبد مجوسيا. وهناك مجوس يشترون الاقلف بزيادة، فله الرد. ولو شرط كونه أحمق أو ناقص الخلقة، فهو لغو. وخيار الخلف على الفور، فيبطل بالتأخير كما سنذكر في العيب إن شاء الله تعالى. ولو تعذر الرد بهلاك وغيره، فله الارش كما في العيب. ومسائل الفصل كلها مبنية على أن الخلاف في الشرط لا يفسد البيع. وحكي قول ضعيف: أنه يفسده. الثاني من أسباب الظن: اطراد العرف. فمن اشترى شيئا، فوجده معيبا، فله الرد. ومن باع شيئا يعلم به عيبا، وجب عليه بيانه للمشتري. قلت: ويجب أيضا على غير البائع ممن علمه إعلام المشتري. والله أعلم. فمن العيوب: الخصاء، والجب، والزنا، والسرقة في العبيد والاماء، والاباق، والبخر والصنان فيهما. والبخر الذي هو عيب، هو الناشئ من تغير(3/121)
المعدة، دون ما يكون لقلح الاسنان، فإن ذلك يزول بتنظيف الفم. والصنان الذي هو عيب، هو المستحكم الذي يخالف العادة، دون ما يكون لعارض عرق، أو حركة عنيفة، أو اجتماع وسخ. ونص الاصحاب على أنه لو زنا مرة واحدة في يد البائع، فللمشتري الرد وإن تاب وحسنت حاله، لان تهمة الزنا لا تزول، ولهذا لا يعود إحصان الحر الزاني بالتوبة، وكذلك الاباق والسرقة، يكفي في كونهما عيبا مرة واحدة. ومن العيوب: كون الدار أو الضيعة منزل الجند. قال القاضي حسين في فتاويه: هذا إذا اختصت من بين ما حواليها بذلك، فإن كان ما حواليها من الدور بمثابتها، فلا رد، وكونها ثقيلة الخراج، عيب، وإن كنا لا نرى أصل الخراج في تلك البلاد، لتفاوت القيمة والرغبة. ونعني بثقل الخراج، كونه فوق المعتاد في أمثالها. وفي وجه: لا رد بثقل الخراج، ولا بكونها منزل الجند. وألحق في التتمة بهاتين الصورتين، ما إذا اشترى دارا، فوجد بقربها قصارين يؤذون بصوت الدق، ويزعزعون الابنية، أو أرضا فوجد بقربها خنازير تفسد الزرع. ولو اشترى أرضا يتوهم أن لا خراج عليها، فبان خلافه، فإن لم يكن على مثلها خراج، فله الرد. وإن كان على مثلها ذلك القدر، فلا رد. وبول الرقيق في(3/122)
الفراش، عيب في العبد والامة، إذا كان في غير أوانه. أما في الصغر، فلا. وقدره في التهذيب بما دون سبع سنين. والاصح: اعتبار مصيره عادة. ومن العيوب: مرض الرقيق وسائر الحيوانات، سوى المرض المخوف وغيره. ومنها: كون الرقيق مجنونا، أو مخبلا، أو أبله، أو أبرص، أو مجذوما، أو أشل، أو أقرع، أو أصم، أو أعمى، أو أعور، أو أخفش، أو أجهر، أو أعشى، أو أخشم، أو أبكم، أو أرت لا يفهم، أو فاقد الذوق أو أنملة أو الشعر أو الظفر، أو له أصبع زائدة، أو سن شاغية، أو مقلوع بعض الاسنان، وكون البهيمة درداء، إلا في السن المعتاد، وكونه ذا قروح، أو ثآليل كثيرة، أو بهق، أو أبيض الشعر في غير أوانه، ولا بأس بحمرته. قلت: البهق - بفتح الباء الموحدة والهاء - وهو بياض يعتري الجلد يخالف لونه، ليس ببرص. وأما السن الشاغية، فهي الزائدة المخالفة لنبات الاسنان. والاخفش، نوعان. أحدهما: ضعيف البصر خلقة. والثاني: يكون بعلة حدثت، وهو الذي يبصر بالليل دون النهار، وفي يوم الغيم دون الصحو، وكلاهما عيب. وأما الاجهر - بالجيم - فهو الذي لا يبصر في الشمس. والاعشى: هو الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل. والمرأة عشواء. والاخشم: الذي في أنفه داء لا يشم شيئا. وتقدم بيان الارت في صفة الائمة. والله أعلم. ومنها: كونه نماما، أو ساحرا، أو قاذفا للمحصنات، أو مقامرا، أو تاركا للصلوات، أو شاربا للخمر. وفي وجه ضعيف: لا رد بالشرب وترك الصلاة. ومنها: كونه خنثى مشكلا، أو غير مشكل. وفي وجه ضعيف: إن كان رجلا ويبول من فرج الرجال، فلا رد(3/123)
ومنها: كون العبد مخنثا، أو ممكنا من نفسه، وكون الجارية رتقاء، أو قرناء، أو مستحاضة، أو معتدة، أو محرمة، أو مزوجة، وكون العبد مزوجا. وفي التزويج، وجه ضعيف. قلت: إذا أحرم بإذن السيد، فللمشتري الخيار، وإلا، فلا، لان له تحليله، كالبائع، وقد قدمنا هذا في آخر كتاب الحج. والله أعلم. ومنها: تعلق الدين برقبتهما، ولا رد بما يتعلق بالذمة. ومنها: كونهما مرتدين، فلو بانا كافرين أصليين، فقيل: لا رد، لا في العبد، ولا في الاماء، سواء كان ذلك الكفر مانعا من الاستمتاع، كالتمجس والتوثن، أو لم يكن، كالتهود، وبهذا قطع صاحب التتمة. والاصح ما في التهذيب: أنه إن وجد الجارية مجوسية، أو وثنية، فله الرد، وإن وجدها كتابية، أو وجد العبد كافرا أي كفر كان، فلا رد إن كان قريبا من بلاد الكفر، بحيث لا تقل الرغبة فيه. وإن كان في بلاد الاسلام، حيث تقل الرغبة في الكافر وتنقص قيمته، فله الرد. ولو وجد الجارية لا تحيض وهي صغير، أو آيسة، فلا رد. وإن كانت في سن تحيض النساء في مثلها غالبا، فله الرد. ولو تطاول طهرها، وجاوز العادات الغالبة، فله الرد. والحمل في الجارية عيب وفي سائر الحيوان، ليس بعيب على الصحيح. وقال في التهذيب: عيب. ومن العيوب: كون الدابة جموحا، أو عضوضا، أو رموحا، وكون(3/124)
الماء مشمسا، والرمل تحت الارض إن كانت مما تطلب للبناء، والاحجار إن كانت مما تطلب للزرع والغرس. وليست حموضة الرمان بعيب، بخلاف البطيخ. فرع لا رد بكون الرقيق رطب الكلام، أو غليظ الصوت، أو سيئ الادب، أو ولد زنا، أو مغنيا، أو حجاما، أو أكولا، أو قليل الاكل. وترد الدابة بقلة الاكل. ولا بكون الامة ثيبا، إلا إذا كانت صغيرة والمعهود في مثلها البكارة، وإلا بكونها عقيما، وكون العبد عنينا. وعن الصيمري، إثبات الرد بالتعنين، وهو الاصح عند الامام. ولا بكون الامة مختونة، أو غير مختونة، ولا بكون العبد مختونا، أو غير مختون، إلا إذا كان كبيرا يخاف عليه من الختان. وفي وجه: لا تستثنى هذه الحالة أيضا. ولا بكون الرقيق ممن يعتق على المشتري، ولا بكون الامة أخته من الرضاع، أو النسب، أو موطوءة أبيه، أو ابنه، بخلاف المحرمة والمعتدة، لان التحريم هناك عام، فتقل الرغبة، وهنا خاص به. وفي وجه: يلحق ما نحن فيه بالمحرمة والمعتدة. ولا أثر لكونها صائمة على الصحيح. وفي وجه: باطل. ولو اشترى شيئا، فبان أن بائعه باعه بوكالة، أو وصاية، أو ولاية، أو أمانة، فهل له الرد لخطر فساد النيابة ؟ وجهان. قلت: الاصح: أنه لا رد. والله أعلم. ولو بان كون العبد مبيعا في جناية عمد، وقد تاب عنها، فوجهان. فإن لم يتب، فعيب. وجناية الخطأ، ليست بعيب، إلا أن يكثر. فرع من العيوب: نجاسة المبيع إذا كان ينقص بالغسل. ومنها: خشونة مشي الدابة، بحيث يخاف منها السقوط، وشرب البهيمة لبن نفسها.(3/125)
فرع ذكر القاضي أبو سعد بن أحمد في شرح أدب القاضي لابي عاصم العبادي، فصلا في عيوب العبيد والجواري. منها: اصطكاك الكعبين، وانقلاب القدمين إلى الوحشي، والخيلان الكثيرة، وآثار الشجاج والقروح والكي، وسواد الاسنان، والكلف المغير للبشرة، وذهاب الاشفار، وكون أحد ثديي الجارية أكبر من الآخر، والحفر في الاسنان، وهو تراكم الوسخ الفاحش في أصولها. قلت: في فتاوي الغزالي: إذا اشترى أرضا، فبان أنها تنز إذا زادت دجلة، وتضر بالزرع، فله الرد إن قلت الرغبة بسببه. والله أعلم. هذا ما حضر ذكره من العيوب، ولا مطمع في استيعابها. فإن أردت ضبطا، فأشد العبارات ما أشار إليه الامام رحمه الله، وهو أن يقال: يثبت الرد بكل ما في المعقود عليه من منقص العين، أو القيمة تنقيصا يفوت به غرض صحيح، بشرط أن يكون الغالب في أمثاله عدمه، وإنما اعتبرنا نقص العين لمسألة الخصاء. وإنما لم نكتف بنقص العين، بل شرطنا فوات غرض صحيح، لانه لو قطع من فخذه أو ساقه قطعة يسيرة لا تورث شينا ولا تفو ت غرضا، لا يثبت الرد. ولهذا قال صاحب التقريب: إن قطع من أذن الشاة ما يمنع التضحية، ثبت الرد، وإلا، فلا. وإنما اعتبرنا الشرط المذكور، لان الثيابة مثلا في الاماء، معنى ينقص القيمة، لكن لا رد بها، لانه ليس الغالب فيهن عدم الثيابة.
فصل العيب ينقسم إلى ما كان موجودا قبل البيع، فيثبت به الرد، وإلى ما(3/126)
حدث بعده، فينظر، إن حدث قبل القبض، فكمثل. وإن حدث بعده، فله حالان. أحدهما: أن لا يستند إلى سبب سابق على القبض، فلا رد به. والثاني: أن يستند، وفيه صور. إحداها: بيع المرتد صحيح على الصحيح، كالمريض المشرف على الهلاك. وفي وجه: لا يصح كالجاني. وأما القاتل في المحاربة، فإن تاب قبل الظفر به، فبيعه كبيع الجاني، لسقوط العقوبة المتحتمة. وكذا إن تاب بعد الظفر وقلنا بسقوط العقوبة، وإلا، فثلاث طرق. أصحها: أنه كالمرتد، والثاني: القطع بأنه لا يصح بيعه، إذ لا منفعة فيه لاستحقاق قتله، بخلاف المرتد فإنه قد يسلم. والثالث: أنه كبيع الجاني. فإن صححنا البيع في هذه الصور، فقتل المرتد، أو المحارب، أو الجاني جناية توجب القصاص، نظر، إن كان ذلك قبل القبض، انفسخ البيع، وإن كان بعده، وكان المشتري جاهلا بحاله، فوجهان. أحدهما: أنه من ضمان المشتري. وتعلق القتل به، كالعيب. فإذا هلك، رجع على البائع بالارش، وهو ما بين قيمته مستحق القتل، وغير مستحقه من الثمن. وأصحهما: أنه من ضمان البائع، فيرجع المشتري عليه بجميع الثمن، ويخرج على الوجهين مؤنة تجهيزه من الكفن والدفن وغيرهما. ففي الاول: هي على المشتري. وفي الثاني: على البائع. وإن كان المشتري عالما بالحال عند الشراء، أو تبين له بعد الشراء، ولم يرد، فعلى الوجه الاول: لا يرجع بشئ كسائر العيوب. وعلى الثاني: وجهان. أحدهما: يرجع بجميع الثمن. وأصحهما: لا يرجع بشئ، لدخوله في العقد على بصيرة، وإمساكه مع العلم بحاله.(3/127)
قلت: قال صاحب التلخيص: كل ما جاز بيعه، فعلى متلفه القيمة، إلا في مسألة، وهو العبد المرتد يجوز بيعه، ولا قيمة على متلفه. قال القفال: هذا صحيح، لا قيمة على متلفه، لانه مستحق الاتلاف. قال: وكذا العبد إذا قتل في قطع الطريق، فقتله رجل، فلا قيمة عليه، لانه مستحق القتل. قال: فهذا يجوز بيعه، ولا قيمة على متلفه، فهذه صورة ثانية. والله أعلم. الصورة الثانية: بيع من وجب قطعه بقصاص أو سرقة، صحيح بلا خلاف. فلو قطع في يد المشتري، عاد التفصيل المذكور في الصورة السابقة. فإن كان جاهلا بحاله حتى قطع، فعلى الوجه الاول: ليس له الرد، لكون القطع من ضمانه، لكن يرجع على البائع بالارش، وهو ما بين قيمته مستحق القطع وغير مستحقه من الثمن. وعلى الاصح: له الرد واسترجاع جميع الثمن، كما لو قطع في يد البائع. فلو تعذر الرد بسبب، فالنظر في الارش على هذا الوجه إلى التفاوت بين العبد سليما وأقطع. وإن كان المشتري عالما، فليس له الرد ولا الارش. الثالثة: إذا اشترى مزوجة لم يعلم حالها حتى وطئها الزوج بعد القبض، فإن كانت ثيبا، فله الرد. وإن كانت بكرا، فنقص الافتضاض من ضمان البائع أو المشتري ؟ فيه الوجهان. إن جعلناه من ضمان البائع، فللمشتري الرد بكونها مزوجة. فإن تعذر الرد بسبب، رجع بالارش، وهو ما بين قيمتها بكرا غير مزوجة ومزوجة مفتضة من الثمن. وإن جعلناه من ضمان المشتري، فلا رد له، وله الارش، وهو ما بين قيمتها بكرا غير مزوجة وبكرا مزوجة من الثمن. وإن كان عالما(3/128)
بزواجها، أو علم ورضي، فلا رد له. فإن وجد بها عيبا قديما بعد ما افتضت في يده، فله الرد إن جعلناه من ضمان البائع، وإلا، رجع بالارش، وهو ما بين قيمتها مزوجة ثيبا سليمة ومثلها معيبة الرابعة: لو اشترى عبدا مريضا، واستمر مرضه إلى أن مات في يد المشتري، فطريقان. أحدهما: أنه على الخلاف في الصورة السابقة، وبه قال الحليمي. وأصحهما وأشهرهما: القطع بأنه من ضمان المشتري، لان المرض يتزايد، والردة خصلة واحدة وجدت في يد البائع. فعلى هذا، إن كان جاهلا، رجع بالارش، وهو ما بين قيمته صحيحا ومريضا. وتوسط صاحب التهذيب بين الطريقين، فقطع فيما إذا لم يكن المرض مخوفا، بأنه من ضمان المشتري، وجعل المرض المخوف والجرح الساري على الوجهين. الثالث من أسباب الظن: الفعل المغرر. والاصل فيه: التصرية، وهي أن يربط أخلاف الناقة، أو غيرها، ويترك حلبها يوما فأكثر حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فيظن المشتري غزارة لبنها، فيزيد في ثمنها. وهذا الفعل حرام، لما فيه من التدليس، ويثبت به الخيار للمشتري. وفي خياره، وجهان. أصحهما: أنه على الفور. والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام. ولو عرف التصرية قبل ثلاثة أيام بإقرار البائع أو ببينة، فخياره على الفور على الوجه الاول. وعلى الثاني: يمتد إلى آخر الثلاثة.(3/129)
وهل ابتداؤها من العقد أو من التفرق ؟ فيه الوجهان في خيار الشرط. ولو عرف التصرية في آخر الثلاثة أو بعدها، فعلى الوجه الثاني: لا خيار، لامتناع مجاوزة الثلاثة. وعلى الاول: يثبت على الفور قطعا. ولو اشترى عالما بالتصرية، فله الخيار على الثاني، للحديث، ولا خيار على الاول كسائر العيوب فرع إن علم التصرية قبل الحلب، ردها ولا شئ عليه. وإن كان بعده، فإن كان اللبن باقيا، لم يكلف المشتري رده مع المصراة، لان ما حدث بعد البيع، ملكه، وقد اختلط بالمبيع، وتعذر التمييز. وإذا أمسكه، كان كما لو تلف. فإن أراد رده، فهل يجبر عليه البائع ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لانه أقرب من بدله. وأصحهما: لا، لذهاب طراوته. ولا خلاف، أنه لو حمض، لم يكلف أخذه. وإن كان تالفا، فيرد مع المصراة صاعا من تمر. وهل يتعين جنس التمر وقدر الصاع ؟ أما الجنس، فالاصح: أنه يتعين التمر. فإن أعوز، قال الماوردي: رد قيمته بالمدينة. والثاني: لا يتعين. فعلى هذا، وجهان. أصحهما: القائم مقامه الاقوات، كصدقة الفطر. قال الامام: ولا يتعدى هنا إلى الاقط. وعلى هذا، وجهان. أحدهما: يتخير بين الاقوات. وأصحهما: الاعتبار بغالب قوت البلد. والوجه الثاني: يقوم مقامه أيضا غير الاقوات. حتى لو عدل إلى مثل اللبن، أو قيمته عند إعواز المثل، أجبر البائع على القبول كسائر المتلفات. وهذا كله إذا لم يرض البائع، فأما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره، أو على رد اللبن المحلوب عند بقائه، فيجوز بلا خلاف، كذا قاله في التهذيب وغيره. وذكر ابن كج وجهين في جواز إبدال التمر بالبر إذا تراضيا. وأما القدر، فوجهان. أصحهما: الواجب صاع، قل اللبن أو كثر، للحديث. والثاني: يتقدر الواجب بقدر اللبن. وعلى هذا، فقد يزيد الواجب على الصاع، وقد ينقص. ثم منهم من خص هذا الوجه بما إذا زادت قيمة(3/130)
الصاع على نصف قيمة الشاة، وقطع بوجوب الصاع إذا نقصت عن النصف، ومنهم من أطلقه. ومتى قلنا بالثاني، قال الامام: تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز، وقيمة مثل ذلك الحيوان بالحجاز. فإذا كان اللبن عشر الشاة مثلا، أوجبنا من الصاع عشر قيمة الشاة. فرع لو اشترى شاة بصاع تمر، فوجدها مصراة، فعلى الاصح: يردها وصاعا، ويسترد الصاع الذي هو ثمن. وعلى الثاني: تقوم مصراة وغير مصراة، ويجب بقدر التفاوت من الصاع. فرع غير المصراة إذا حلب لبنها، ثم ردها بعيب، قال في التهذيب: رد بدل اللبن كالمصراة. وفي تعليق أبي حامد حكاية عن نصه: أنه لا يرده، لانه قليل غير معتنى بجمعه، بخلاف المصراة. ورأى الامام تخريج ذلك على أن اللبن، هل يأخذ قسطا من الثمن، أم لا ؟ والصحيح: الاخذ. فرع لو لم يقصد البائع التصرية، لكن ترك الحلب ناسيا، أو لشغل عرض، أو تصرت بنفسها، ففي ثبوت الخيار وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع الغزالي لعدم التدليس. وأصحهما عند صاحب التهذيب: نعم، لحصول الضرر. فرع خيار التصرية، يعم الحيوانات المأكولة. وفي وجه شاذ: يختص بالنعم. ولو اشترى أتانا فوجدها مصراة، فأوجه. الصحيح: أنه يردها، ولا يرد للبن شيئا، لانه نجس. والثاني: يردها ويرد بدله، قاله الاصطخري، لذهابه إلى أنه طاهر مشروب. والثالث: لا يردها لحقارة لبنها. ولو اشترى جارية، فوجدها مصراة، فأوجه. أصحها: يرد، ولا يرد بدل اللبن، لانه لا يعتاض عنه غالبا. والثاني: يرد، ويرد بدله. والثالث: لا يرد، بل يأخذ الارش. فرع هذا الخيار، غير منوط بالتصرية لذاتها، بل لما فيها من التلبيس، فيلتحق بها ما يشاركها فيه. حتى لو حبس ماء القناة، أو الرحى، ثم أرسله عند البيع أو الاجارة، فظن المشتري كثرته، ثم تبين له الحال، فله الخيار. وكذا لو(3/131)
حمر وجه الجارية، أو سود شعرها، أو جعده، أو أرسل الزنبور على وجهها، فظنها المشتري سمينة، ثم بان خلافه، فله الخيار. ولو لطخ ثوب العبد بالمداد، أو ألبسه ثوب الكتاب، أو الخبازين، وخيل كونه كاتبا، أو خبازا، فبان خلافه، أو أكثر علف البهيمة حتى انتفخ بطنها، فظنها المشتري حاملا، أو أرسل الزنبور في ضرعها فانتفخ وظنها لبونا، فلا خيار على ا لاصح، لتقصير المشتري. فرع لو بانت التصرية، لكن در اللبن على الحد الذي أشعرت به التصرية، واستمر كذلك، ففي ثبوت الخيار، وجهان كالوجهين فيما إذا لم يعرف العيب القديم، إلا بعد زواله، وكالقولين فيما لو عتقت الامة تحت عبد ولم يعلم عتقها حتى عتق الزوج. فرع رضي بإمساك المصراة، ثم وجد بها عيبا قديما، نص أنه يردها ويرد بدل اللبن، وهو المذهب. وقيل: هو كمن اشترى عبدين فتلف أحدهما، وأراد رد الآخر، فيخرج على تفريق الصفقة. فرع الخيار في تلقي الركبان مستنده التعزير، كالتصرية. وكذا خيار النجش إن أثبتناه. وقد سبق بيانهما في باب المناهي. فرع مجرد الغبن، لا يثبت الخيار وإن تفاحش. ولو اشترى زجاجة بثمن كثير يتوهمها جوهرة، فلا خيار له، ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن، لان التقصير منه حيث لم يراجع أهل الخبرة، ونقل المتولي وجها شاذا: أنه كشراء الغائب، وتجعل ا لرؤية التي لا تفيد المعرفة ولا تنفي الغرر، كالمعدومة.
فصل إذا باع بشرط أنه برئ من كل عيب بالمبيع، فهل يصح هذا الشرط ؟ فيه أربع طرق. أصحها: أن المسألة على ثلاثة أقوال. أظهرها: يبرأ في الحيوان عما لا يعلمه البائع دون ما يعلمه، ولا يبرأ في(3/132)
غير الحيوان بحال. والثاني: يبرأ من كل عيب، ولا رد بحال. والثالث: لا يبرأ من عيب ما. والطريق الثاني: القطع بالقول الاول. والطريق الثالث: يبرأ في الحيوان من غير المعلوم، دون المعلوم، ولا يبرأ في غير الحيوان من المعلوم، وفي غير المعلوم قولان. والطريق الرابع: فيه ثلاثة أقوال في الحيوان وغيره. ثالثها: الفرق بين المعلوم وغيره. ولو قال: بعتك بشرط أن لا ترد العيب، جرى فيه هذا الخلاف. وزعم صاحب التتمة: أنه فاسد قطعا، مفسد للعقد. ولو عين عيبا وشرط البراءة منه، نظر، إن كان مما لا يعاين، كقوله: بشرط براءتي من الزنا، أو السرقة، أو الاباق، برئ منه بلا خلاف، لان ذكرها إعلام بها. وإن كان مما يعاين، كالبرص، فإن أراه قدره وموضعه، برئ قطعا، وإلا، فهو كشرط البراءة مطلقا، لتفاوت الاغراض باختلاف قدره وموضعه. ووهكذا فصلوا، وكأنهم تكلموا فيما يعرفه في المبيع من العيوب. فأما ما لا يعرفه ويريد البراءة منه لو كان، فقد حكى الامام تفريعا على فساد الشرط فيه خلافا. التفريع: إن بطل هذا الشرط، لم يبطل به البيع على الاصح. وإن صح، فذلك في العيوب الموجودة حال العقد. فأما الحادث بعده، وقبل القبض، فيجوز ارد به. ولو شرط البراءة من العيوب الكائبة والتي ستحدث، فوجهان. أصحهما وبه قطع الاكثرون: أنه فاسد. فإن أفرد ما سيحدث بالشرط، فأولى بالفساد. وأما إذا فرعنا على أظهر الاقوال، فكما لا يبرأ عما علمه وكتمه، فكذا لا يبرأ عن العيوب الظاهرة من الحيوان، لسهولة معرفتها، وإنما يبرأ عن عيوب باطن الحيوان التي لا يعلمها. ومنهم من اعتبر نفس العلم، ولم يفرق بين الظاهر والباطن. وهل يلحق ما مأكوله في جوفه بالحيوان ؟ قيل: نعم، لعسر معرفته. وقال الاكثرون: لا، لتبدل أحوال الحيوان.
فصل من موانع الرد أن لا يتمكن المشتري من رد المبيع، وذلك، قد يكون لهلاكه، وقد يكون مع بقائه. وعلى التقدير الثاني، قد يكون لخروجه عن(3/133)
قبول النقل من شخص إلى شخص، وربما كان مع قبوله للنقل. وعلى التقدير الثاني، فربما كان لزوال ملكه، وربما كان مع بقائه لتعلق حق مانع. الحال الاول والثاني: إذا هلك المبيع في يد المشتري، بأن مات العبد، أو قتل، أو تلف الثوب، أو أكل الطعام، أو خرج عن أن يقبل النقل، بأن أعتق العبد، أو استولد الجارية، أو وقف الضيعة، ثم علم كونه معيبا، فقد تعذر الرد، لفوات المردود، لكن يرجع على البائع بالارش، والارش جزء من الثمن، نسبته إليه نسبة ما ينقص العيب من قيمة المبيع لو كان سليما إلى تمام القيمة. وإنما كان الرجوع بجزء من الثمن، لانه لو بقي كل المبيع عند البائع، كان مضمونا عليه بالثمن. فإذا احتبس جزء منه، كان مضمونا بجزء من الثمن. مثاله: كانت القيمة مائة دون العيب، وتسعين مع العيب، فالتفاوت بالعشر، فيكون الرجوع بعشر الثمن. فإن كان مائتين، فبعشرين. وإن كان خمسين، فبخمسة. وأما القيمة المعتبرة، فالمذهب: أنه تعتبر أقل القيمتين من يوم البيع ويوم القبض، وبهذا قطع الاكثرون. وقيل: فيها أقوال. أظهرها: هذا. والثاني: يوم القبض. والثالث: يوم البيع. وإذا ثبت الارش، فلو كان الار ش بعد في ذمة المشتري، برئ من قدر الارش. وهل يبرأ بمجرد الاطلاع على العيب، أم يتوقف على الطلب ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وإن كان قد وفاه وهو باق في يد البائع، فهل يتعين لحق المشتري، أم يجوز للبائع إبداله ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ولو كان المبيع باقيا، والثمن تالفا، جاز الرد، ويأخذ مثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان متقوما أقل ما كانت من يوم البيع إلى يوم القبض، ويجوز الاستبدال(3/134)
عنه كالقرض، وخروجه عن ملكه بالبيع ونحوه، كالتلف. ولو خرج وعاد، فهل يتعين لاخذ المشتري، أم للبائع إبداله ؟ وجهان. أصحهما: أولهما. وإن كان الثمن باقيا في يده بحاله، فإن كان معينا في العقد، أخذه. وإن كان في الذمة ونقده، ففي تعيينه لاخذ المشتري، وجهان. وإن كان ناقصا، نظر، إن تلف بعضه، أخذ الباقي وبدل التالف. وإن كان نقص صفة، كالشلل ونحوه، لم يغرم الارش على الاصح. كما لو زاد زيادة متصلة، يأخذها مجانا. ولو لم تنقص القيمة بالعيب، كخروج العبد خصيا، فلا أرش. ولو اشترى عبدا بشرط العتق، ثم وجد به عيبا بعدما أعتقه، نقل ابن كج، عن ابن القطان: أنه لا أرش له هنا. ونقل عنه وجهين فيمن اشترى من يعتق عليه ثم وجد به عيبا، قال: وعندي له الارش في الصورتين. الحال الثالث: لو زال ملكه عن المبيع، ثم علم به عيبا، فلا رد في الحال. وأما الرجوع بالارش، فإن زالال بعوض كالهبة بشرط الثواب والبيع، فقولان. أحدهما: يرجع كما لو مات، وهذا تخريج ابن سريج. فعلى تخريجه لو أخذ الارش ثم رد عليه مشتريه بالعيب، فهل له رده مع الارش، واسترداد الثمن ؟ وجهان. والقول الثاني، وهو المشهور: لا يرجع. ولم لا يرجع ؟ قال أبو إسحق وابن الحداد: لانه استدرك الظلامة. وقال ابن أبي هريرة: لانه ما أيس من الرد، فربما عاد إليه فرده. وهذا المعنى، هو الاصح، وهو منصوص عليه في اختلاف العراقيين. وإن زال بلا ع وض، فعلى تخريج ابن سريج: يرجع بالارش. وعلى المشهور، وجهان، بناء على المعنيين. إن قلنا بالاول: رجع، لانه لم يستدرك الظلامة. وإن قلنا بالثاني، فلا، لانه ربما عاد إليه. ومنهم من قطع بعدم الرجوع هنا. وإن عاد الملك إليه بعد زواله، نظر، هل زال بعوض، أم بغيره ؟ فهما ضرب. الضرب الاول: أن يزول بعوض، بأن باعه، فينظر، أعاد بطريق الرد بالعيب، أم بغيره ؟ فهما قسمان. الاول: أن يعود بطريق الرد بالعيب، فله رده على بائعه، لانه زال التعذر(3/135)
وبان أنه لم يستدرك الظلامة، وليس للمشتري الثاني رده على البائع الاول، لانه لم يملك منه. ولو حدث به عيب في يد المشتري الثاني، ثم ظهر عيب قديم فعلى تخريج ابن سريج: للمشتري الاول أخذ الارش من بائعه، كما لو لم يحدث عيب، ولا يخفى الحكم بينه وبين المشتري الثاني. وعلى المشهور: ينظر، إن قبله المشتري الاول مع عيبه الحادث، خير بائعه، إن قبله، فذاك، وإلا، أخذ الارش منه. وعن ابن القطان: لا يأخذه، واسترداده رضى بالعيب. وإن لم يقبله، وغرم الارش للثاني، ففي رجوعه بالارش على بائعه وجهان. أحدهما: لا يرجع، وبه قال ابن الحداد، لانه لو قبله، ربما قبله منه بائعه، فكان متبرعا بغرامة الارش وأصحهما: يرجع، لانه ربما لا يقبله بائعه، فيتضرر. وعلى الوجهين: لا يرجع ما لم يغرم للثاني، لانه ربما لا يطالبه فيبقى مستدركا للظلامة. ولو كانت المسألة بحالها، وتلف المبيع في يد المشتري الثاني أو كان عبدا فأعتقه، ثم ظهر العين القديم، رجع المشتري الثاني بالارش على المشتري الاول، والاول بالارش على بائع بلا خلاف، لحصول اليأس من الرد، لكن هل يرجع على بائعه قبل أن يغرمه لمشتريه ؟ وجهان بناء على المعنيين. إن عللنا باستدراك الظلامة، لم يرجع ما لم يغرم، وإن عللنا بالثاني، رجع. ويجري الوجهان، فيما لو أبرأه الثاني، هل يرجع هو على بائعه ؟ القسم الثاني: أن يعود لا بطريق الرد، بأن عاد بإرث، أو هبة، أو قبول وصية، أو إقالة، فهل له رده على بائعه ؟ وجهان لهما مأخذان. أحدهما: البناء على المعنيين السابقين. إن عللنا بالاول، لم يرد، لانه استدرك الظلامة، ولم يبطل ذلك الاستدراك، بخلاف ما لو رد عليه بالعيب. وإن عللنا بالثاني، رد، لزوال التعذر، كما لو رد عليه بعيب. وأما المأخذ الثاني: أن الملك العائد، هل ينزل منزلة غير الزائل ؟ وإن عاد بطريق الشراء، ثم ظهر عيب قديم كان في يد البائع الاول، فإن عللنا بالمعنى الاول، لم يرد على البائع الاول، لحصول الاستدراك، ويرد على الثاني. وإن عللنا بالثاني، فإن شاء، رد على الاول، وإن شاء على الثاني. وإذا رد على ا لثاني، فله أن يرد عليه، وحينئذ يرد على الاول. ويجئ وجه: أنه لا يرد على الاول، بناء على أن الزائل العائد، كالذي لم يعد. ووجه: أنه لا يرد على الثاني،(3/136)
لانه لو رد عليه، لرد هو أيضا عليه. الضرب الثاني: أن يزول لا بعوض، فينظر، إن عاد أيضا لا بعوض، فجواز الرد مبني على أنه هل يأخذ الارش لو لم يعد ؟ إن قلنا: لا، فله الرد. وإن قلنا: يأخذ، فهل ينحصر الحق فيه، أم يعود إلى الرد عند القدرة ؟ وجهان. وإن عاد بع وض، بأن اشتراه، فإن قلنا: لا يرد في الحالة الاولى، فكذا هنا، ويرده على البائع الاخير. وإن قلنا: يرد، فهنا نل يرد على الاول، أو على الثاني، أم يتخير ؟ فيه ثلاثة أوجه. فرع باع زيد عمرا شيئا، ثم اشتراه منه، فظهر عيب كان في يد زيد، فإن كانا عالمين بالحال، فلا رد. وإن كان زيد عالما، فلا رد له ولا لعمرو أيضا، لزوال ملكه، ولا أرش له على الصحيح، لاستدراك الظلامة، أو لتوقع العود. فإن تلف في يد زيد، أخذ الارش على التعليل الثاني. وهكذا الحكم لو باعه لغيره. وإن كان عمرو عالما، فلا رد له، ولزيد الرد. وإن كانا جاهلين، فلزيد الرد إن اشتراه بغير جنس ما باعه، أو بأكثر منه، ثم لعمرو أن يرد عليه. وإن اشتراه بمثله، فلا رد لزيد في أحد الوجهين، لان عمرا يرده عليه، فلا فائدة، وله الرد في أصحهما، لانه ربما رضي به، فلم يرد. ولو تلف في يد زيد، ثم علم به عيبا قديما، فحيث يرد لو بقى، يرجع بالارش، وحيث لا يرد، لا يرجع. الحال الرابع: إذا تعلق به حق، بأن رهنه، ثم علم العيب، فلا رد في الحال وهل له الارش ؟ إن عللنا باستدراك الظلامة، فنعم. وإن عللنا بتوقع العود، فلا. فعلى هذا، لو تمكن من الرد، رده. وإن حصل اليأس، أخذ الارش. وإن أجره ولم نجوز بيع المستأجر، فهو كالرهن. وإن جوزناه، فإن رضي البائع به مسلوب المنفعة مدة الاجارة، رد عليه، وإلا، تعذر الرد، وفي الارش وجهان. ويجريان فيما لو تعذر الرد بإباق أو غصب. ولو عرف العيب بعد تزويج الجارية أو العبد، ولم يرض البائع بالاخذ، قطع بعضهم بأن المشتري يأخذ الارش هنا، لانه لم يستدرك الظلامة، والنكاح يراد للدوام، فاليأس حاصل. واختاره الروياني، والمتولي. ولو عرفه بعد الكتابة، ففي التتمة: أنه كالتزويج. وذكر الماوردي: أنه لا يأخذ الارش على المعنيين، بل يصبر، لانه قد يستدرك الظلامة(3/137)
بالنجوم، وقد يعود إليه بالعجز، فيرده. والاصح أنه كالرهن، وأنه لا يحصل الاستدراك بالنجوم. فصل الرد بالعيب على الفور، فيبطل بالتأخير بلا عذر. ولا يتوقف على حضور الخصم وقضاء القاضي. والمبادرة إلى الرد، معتبرة بالعادة، فلا يؤمر بالعدو والركض ليرد. ولو كان مشغولا بصلاة أو أكل أو قضاء حاجة، فله التأخير إلى فراغه. وكذا لو اطلع حين دخل وقت هذه الامور فاشتغل بها، فلا بأس. وكذا لو لبس ثوبا أو أغلق بابا. ولو اطلع ليلا، فله التأخير إلى الصباح. وإن لم يكن عذر، فقد ذكر الغزالي فيه ترتيبا مشكلا خلاف المذهب. واعلم أن كيفية المبادرة، وما يكون تقصيرا، وما لا يكون، إنما نبسطه في كتاب الشفعة، ونذكر هنا ما لا بد منه، فالذي فهمته من كلام الاصحاب: أن البائع إن كان في البلد، رد عليه بنفسه أو بوكيله، وكذا إن كان وكيله حاضرا، ولا حاجة إلى المرافعة إلى القاضي. ولو تركه، ورفع الامر إلى القاضي، فهو زيادة توكيد. وحاصل هذا، تخييره بين الامرين. وإن كان غائبا عن البلد، رفع إلى القاضي.(3/138)
قال القاضي حسين في فتاويه: يدعي شراء ذلك الشئ من فلان الغائب بثمن معلوم، وأنه أقبضه الثمن وظهر العيب، وأنه فسخ، ويقيم البينة على ذلك في وجه مسخر ينصبه القاضي، ويحلفه القاضي مع البينة، لانه قضاء على غائب، ثم يأخذ المبيع منه ويضعه على يد عدل، ويبقى الثمن دينا على الغائب، فيقضيه القاضي من ماله. فإن لم يجد له سوى المبيع، باعه فيه. وإلى أن ينتهي إلى الخصم أو القاضي في الحالين، لو تمكن من الاشهاد على الفسخ، هل يلزمه ؟ وجهان. قطع صاحب التتمة وغيره، باللزوم. ويجري الخلاف فيما لو أخر بعذر مرض، أو غيره. ولو عجز في الحال عن الاشهاد، فهل عليه التلفظ بالفسخ ؟ وجهان. أصحهما عند الامام، وصاحب التهذيب: لا حاجة إليه. وإذا لقي البائع فسلم عليه، لم يضر. فلو اشتغل بمحادثته، بطل حقه. فرع لو أخر الرد مع العلم بالعيب، ثم قال: أخرت لاني لم أعلم أن لي الرد، فإن كان قريب عهد بالاسلام، أو نشأ في برية لا يعرفون الاحكام، قبل قوله، وله الرد، وإلا، فلا. ولو قال: لم أعلم أنه يبطل بالتأخير، قبل قوله، لانه يخفى على العوام. قلت: إنما يقبل قوله: لم أعلم أن الرد على الفور، وقول الشفيع: لم أعلم أن الشفعة على الفور، إذا كان ممن يخفى عليه مثله، وقد صرح الغزالي وغيره بهذا في كتاب الشفعة. والله أعلم.(3/139)
فرع حيث بطل الرد بالتقصير، بطل الارش. فرع ليس لمن له الرد، أن يمسك المبيع ويطالب بالارش، وليس للبائع أن يمنعه من الرد، ويدفع الارش. فلو رضيا بترك الرد على جزء من الثمن، أو مال آخر، ففي صحة هذه المصالحة وجهان ؟ أصحهما: المنع، فيجب على المشتري رد ما أخذ. وهل يبطل حقه من الرد ؟ وجهان. أصحهما: لا، والوجهان إذا ظن صحة المصالحة. فإن علم بطلانها، بطل حقه قطعا. فرع كما أن تأخير الرد مع الامكان تقصير، فكذا الاستعمال والانتفاع والتصرف، لاشعارها بالرضى. فلو كان المبيع رقيقا، فاستخدمه في مدة طلب الخصم أو القاضي، بطل حقه. وإن كان بشئ خفيف، كقوله: اسقني أو ناولني الثوب أو أغلق الباب، ففيه وجه: أنه لا يضر، لانه قد يؤمر به غير المملوك، وبه قطع الماوردي وغيره. والاصح الاشهر: أنه لا فرق. قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو جاءه العبد بكوز ماء، فأخذ الكوز، لم يضر، لان وضع الكوز في يده، كوضعه على الارض. فإن شرب، ورد الكوز إليه، فهو استعمال. والله أعلم. ولو ركب الدابة لا للرد، بطل حقه، وإن ركبها للرد أو السقي، فوجهان. أصحهما: البطلان أيضا، كما لو لبس الثوب للرد، فإن كانت جموحا يعسر سوقها وقودها، فهو معذور في الركوب. ولو ركبها للانتفاع، فاطلع على العيب، لم تجز استدامة الركوب وإن توجه للرد. وإن كان لابسا، فاطلع على عيب الثوب في الطريق فتوجه للرد ولم ينزع، فهو معذور، لان نزع الثوب في الطريق لا يعتاد، قال الماوردي. ولو علف الدابة أو سقاها أو حلبها في الطريق، لم يضر. ولو كان عليها سرج أو إكاف، فتركه عليها، بطل حقه، لانه انتفاع، ولولا ذلك لاحتاج إلى حمل، أو تحميل. ويعذر بترك العذار واللجام، لانهما خفيفان لا يعد(3/140)
تعليقهما على الدابة انتفاعا، ولان القود يعسر دونهما. ولو أنعلها في الطريق، قال الشيخ أبو حامد: إن كانت تمشى بلا نعل، بطل حقه، وإلا، فلا. ونقل الروياني وجها في جواز الانتفاع في الطريق مطلقا، حتى روى عن أبيه جواز وطئ الجارية الثيب. قلت: لو اشترى عبدا فأبق قبل القبض، فأجاز المشتري البيع، ثم أراد الفسخ، فلذلك ما لم يعد العبد إليه. وذكره الامام الرافعي في آخر المسائل المنثورة في آخر كتاب الاجارة وسأذكره إن شاء الله تعالى هناك. والله أعلم.
فصل إذا حدث بالمبيع عيب في يد المشتري بجناية أو آفة، ثم اطلع على عيب قديم، لم يملك الرد قهرا، لما فيه من الاضرار بالبائع، ولا يكلف المشتري الرضى به بل يعلم البائع به فإن رضي به معيبا، قيل للمشتري: إما أن ترده، وإما أن تقنع به ولا شئ لك. وإن لم يرض به، فلا بد من أن يضم المشتري أرش العيب الحادث إلى المبيع ليرده، أو يغرم البائع للمشتري أرش العيب القديم ليمسكه. فإن اتفقا على أحد هذين المسلكين، فذاك. وإن اختلفا، فدعا أحدهما إلى الرد مع أرش العيب الحادث، ودعا الآخر إلى الامساك وغرامة أرش العيب القديم، ففيه أوجه. أحدها: المتبع قول المشتري. والثاني: رأي البائع والثالث وهو أصحها: المتبع رأي من يدعو إلى الامساك والرجوع بأرش القديم، سواء كان البائع أو المشتري. وما ذكرناه من إعلام المشتري البائع، يكون على الفور. فإن أخره بلا عذر، بطل حقه من الرد والارش، إلا أن يكون العيب الحادث قريب الزوال غالبا، كالرمد والحمى، فلا يعتبر الفور على أحد القولين، بل له انتظار زواله ليرده سليما عن العيب الحادث. ومهما زال العيب الحادث بعدما أخذ المشتري أرش العيب القديم، أو قضى به القاضي، ولم يأخذه، فهل له الفسخ ورد(3/141)
الارش ؟ وجهان. أصحهما: لا. ولو تراضيا، ولا قضاء، فالاصح: أن له الفسخ. فرع لو علم العيب القديم بعد زوال الحادث، رد على الصحيح، وفيه وجه ضعيف جدا. ولو زال القديم قبل أخذ أرشه، لم يأخذه. وإن زال بعد أخذه، رده على المذهب. وقيل: وجهان، كما لو نبتت سن المجني عليه بعد أخذ الدية، هل يردها ؟ فرع كل ما يثبت الرد على البائع لو كان عنده، يمنع الرد إذا حدث عند المشتري. وما لا رد به على البائع، لا يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري، إلا في الاقل. فلو خصي العبد، ثم علم به عيبا قديما، فلا رد، وإن زادت قيمته. ولو نسي القرآن، أو صنعة، ثم علم به عيبا قديما، فلا رد، لنقصا القيمة. ولو زوجها، ثم علم بها عيبا، فكذلك. قال الروياني: إلا أن يقول الزوج: إن ردك المشتري بعيب، فأنت طالق، وكان ذلك قبل الدخول، فله الرد، لزوال المانع. ولو علم عيب جارية اشتراها من أبيه أو ابنه بعد أن وطئها وهي ثيب، فله الرد وإن حرمت على البائع، لان القية لم تنقص بذلك. وكذا لو كانت الجارية رضيعة، فأرضعتها أم البائع أو ابنته في يد المشتري، ثم علم بها عيبا. وإقرار الرقيق على نفسه في يد المشتري بدين المعاملة، أو بدين الاتلاف، مع تكذيب المولى، لا يمنع الرد بالعيب القديم. وإن صدقه المولى على دين الاتلاف، منع منه. فإن عفا المقر له بعد ما أخذ المشتري الارش، فهل له الفسخ ورد الارش ؟ وجهان جاريان فيما إذا أخذ المشتري الارش لرهنه العبد، أو كتابته، أو إباقه، أو غصبه ونحوها. إن مكناه من ذلك، ثم زال المانع من الرد، قال في التهذيب: أصحهما: لا فسخ. فرع حدث في يد المشتري نكتة بياض في عين العبد، ووجد نكتة قديمة، فزالت إحداهما فقال البائع: الزائلة القديمة، فلا رد ولا أرش. وقال المشتري: بل الحادثة، ولي الرد، حلفا على ما قالا. فإن حلف أحدهما دون الآخر، قضي له. وإن حلفا، استفاد البائع دفع الرد، والمشتري أخذ الارش. فإن اختلفا في الارش، فليس له إلا الاقل، لانه المستيقن.(3/142)
فرع إذا اشترى حليا من ذهب أو فضة وزنه مائة مثلا، بمائة من جنسه، ثم اطلع على عيب قديم، وقد حدث عنده عيب، فأوجه. أصحها عند الاكثرين: يفسخ البيع، ويرد الحلي مع أرش النقص الحادث، ولا يلزم الربا، لان المقابلة، بين الحلي والثمن، وهما متماثلان. والعيب الحادث، مضمون عليه، كعيب المأخوذ على جهة السوم، فعليه غرامته. والثاني، وهو قول ابن سريج: أنه يفسخ العقد، لتعذر إمضائه، ولا يرد الحلي على البائع، لتعذر رده مع الارش ودونه، فيجعل كالتالف، فيغرم المشتري قيمته من غير جنسه معيبا بالعيب القديم، سليما عن الحادث. واختار الغزالي هذا الوجه، وضعفه الامام وغيره. والثالث، وهو قول صاحب التقريب، والداركي، واختاره الامام وغيره: أنه يرجع بأرش العيب القديم، كسائر الصور. والمماثلة في الربوي، إنما تشترط في ابتداء العقد، والارش حق وجب بد ذلك لا يقدح في العقد السابق. وقياس هذا الوجه: تجويز الرد مع الارش عن الحادث كسائر الاموال. وإذا أخذ الارش، فقيل: يشترط كونه من غير جنس العوضين، حذرا من الربا. والاصح: جوازه منهما، لانه لو امتنع الجنس، لامتنع غيره، لانه بيع ربوي بجنسه مع شئ آخر. ولو عرف العيب القديم بعد تلف الحلي عنده، فالذي ذكره صاحبا الشامل والتتمة: أنه يفسخ العقد، ويسترد الثمن، ويغرم قيمة التالف، ولا يمكن أخذ الارش للربا. وفي وجه: يجوز أخذ الارش، وصححه في التهذيب. وعلى هذا، ففي اشتراط كونه من غير الجنس، ما سبق. ولا يخفى أن المسألة لا تختص بالحلي والنقد، بل تجري في كل ربوي بيع بجنسه. فرع لو أنعل الدابة، ثم علم بها عيبا قديما، نظر، إن لم يعبها نزع النعل، فله نزعه والرد. فإن لم ينزع والحالة هذه، لم يجب على البائع قبول النعل. وإن كان النزع يخرم ثقب المسامير، ويعيب الحافر، فنزع، بطل حقه من الرد والارش، وفيه احتمال للامام. ولو ردها مع النعل، أجبر البائع على القبول، وليس للمشتري طلب قيمة النعل. ثم ترك النعل، هل هو تمليك من المشتري،(3/143)
فيكون للبائع لو سقط، أم إعراض فيكون للمشتري ؟ وجهان. أشبههما: الثاني. فرع لو صبغ الثوب بما زاد في قيمته، ثم علم عيبه، فإن رضي بالرد من غير أن يطالب بشئ، فعلى البائع القبول، ويصير الصبغ ملكا للبائع، لانه صفة للثوب لا تزايله، وليس كالنعل. هذا لفظ الامام، قال: ولا صائر إلى أنه يرد، ويبقى شريكا في الثوب كما في المغصوب، والاحتمال يتطرق إليه. وإن أراد الرد وأخذ قيمة الصبغ، ففي وجوب الاجابة على البائع، وجهان. أصحهما: لا تجب، لكن يأخذ المشتري الارش. ولو طلب المشتري أرش العيب، وقال البائع: رد الثوب لاغر لك قيمة الصبغ، ففيمن يجاب ؟ وجهان. وقطع ابن الصباغ والمتولي، بأن المجاب البائع، ولا أرش للمشتري. فرع لو قصر الثوب، ثم علم العيب، بني على أن القصارة عين أو أثر ؟ إن قلنا: عين، فكالصبغ. وإن قلنا: أثر، رد الثوب بلا شئ، كالزيادات المتصلة، وعلى هذا فقس نظائره. فصل إذا اشترى ما مأكوله في جوفه، كالرانج، والبطيخ، والرمان، والجوز، واللوز، والفندق، والبيض، فكسره فوجده فاسدا، نظر، إن لم يكن لفاسده قيمة كالبيضة المذرة التي لا تصلح لشئ، والبطيخة الشديدة التغير، رجع بجميع الثمن، نص عليه. وكيف طريقه ؟ قال معظم الاصحاب: يتبين فساد البيع لوروده على غير متقوم. وقال القفال وطائفة: لا يتبين فساد البيع، بل طريقه استدراك الظلامة. وكما يرجع بجزء من الثملنقص جزء من المبيع، يرجع بكله لفوات كل المبيع. وتظهر فائدة الخلاف في أالقشور الباقية بمن يختص حتى يكون عليه تنظيف الموضع منها ؟ أما إذا كان لفاسدة قيمة، كالرانج، وبيض(3/144)
النعام، والبطيخ إذا وجده حامضا، أو مدود بعض الاطراف، فللكسر حالان. أحدهما: أن لا يوقف على ذلك الفساد إلا بمثله، فقولان. أظهرهما عند الاكثرين: له رده قهرا كالمصراة. والثاني، لا، كما لو قطع الثوب. فعلى هذا هو كسائر العيوب الحادثة، فيرجع المشتري بأرش العيب القديم، أو يضم أرش النقصان إليه، ويرده كما سبق. وعلى الاول، هل يغرم أرش الكسر ؟ قولان. أظهرهما: لا، لانه معذور. والثاني: يغرم ما بين قيمته صحيحا فاسد اللب ومكسورا فاسد اللب، ولا ينظر إلى الثمن. الحال الثاني: أن يمكن الوقوف على ذلك الفساد بأقل من لك الكسر، فلا رد على المذهب كسائر العيوب. وقيل بطرد القولين. إذا عرفت هذا، فكسر الجوز ونحوه، وثقب الرانج، من صور الحال الاول. وكسر الرانج وترضيض بيض النعام، من صور الحال الثاني. وكذا تقوير البطيخ الحامض إذا أمكن معرفة حموضته بغرز شئ فيه، وكذا التقوير الكبير إذا أمكن معرفته بالتقوير الصغير. والتدويد لا يعرف إلا بالتقوير، وقد يحتاج إلى الشق ليعرف، وقد يستغنى في معرفة حال البيض بالقلقلة عن الكسر.(3/145)
ولو شرط في الرمان الحلاوة، فبان حامضا بالغرز، رد. وإن بان بالشق، فلا. فرع اشترى ثوبا مطويا وهو مما ينقص بالنشر، فنشره ووقف على عيب به لا يوقف عليه إلا بالنشر، ففيه القولان. كذا أطلقه الاصحاب على طبقاتهم مع جعلهم بيع الثوب المطوي من صور بيع الغائب، ولم يتعرض الائمة لهذا الاشكال إلا من وجهين. أحدهما: ذكر إمام الحرمين أن هذا الفرع مبني على تصحيح بيع الغائب. والثاني: قال صاحب الحاوي وغيره: إن كان مطويا على أكثر من طاقين، لم يصح البيع إن لم نجوز بيع الغائب. وإن كان مطويا على طاقين، صح، لانه يرى جميع الثوب من جانبيه، وهذا حسن، لكن المطوي على طاقين، لا يرى من جانبيه إلا أحد وجهي الثوب، وفي الاكتفاء به تفصيل وخلاف سبق. ووراء هذا تصويران. أحدهما: أن تفرض رؤية الثوب قبل الطي، والطي قبل البيع. والثاني: أن ما نقص بالنشر مرة، ينقص به مرتين أو أكثر. فلو نشر مرة، وبيع وأعيد طيه، ثم نشره المشتري فزاد النقص به، انتظم التصوير.
فصل المبيع في الصفقة الواحدة، إن كان شيئين، بأن اشترى عبدين فخرجا معيبين، فله ردهما، وكذا لو خرج أحدهما معيبا. وليس له رد بعضه إن(3/146)
كان الباقي باقيا في ملكه، لما فيه من التشقيص على البائع، فإن رضي به البائع، جاز على الاصح. وإن كان الباقي زائلا عن ملكه، بأن عرف العيب بعد بيع بعض المبيع، ففي رد الباقي طريقان. أحدهما: على قولي تفريق الصفقة. وأصحهما: القطع بالمنع، كما لو كان باقيا في ملكه. فعلى هذا، هل يرجع بالارش ؟ أما للقدر المبيع، فعلى ما ذكرنا فيما إذا باع الكل. وأما للقدر الباقي، فوجهان أصحهما: يرجع، لتعذر الرد، ولا ينتظر عود الزائل ليرد الجميع، كما لا ينتظر زوال العيب الحادث. ويجري الوجهان فيما لو اشترى عبدين وباع أحدهما ثم علم العيب ولم نجوز رد الباقي، هل يرجع بالارش ؟ ولو اشترى عبدا، ومات وخلف ابنين، فوجدا به عيبا، فالاصح، وهو قول ابن الحداد: لا ينفرد أحدهما بالرد، لان الصفقة وقعت متحدة. ولهذا لو سلم أحد الابنين نصف الثمن، لم يلزم البائع تسليم النصف إليه. والثاني: ينفرد، لانه رد جميع ما ملك. هذا كله إذا اتحد العاقدان، أما إذا اشترى رجل من رجلين عبدا وخرج معيبا، فله أن يفرد نصيب أحدهما بالرد، لان تعدد البائع يوجب تعدد العقد. ولو اشترى رجلان عبدا من رجل فقولان. أظهرهما: أن لاحدهما أن ينفرد بالرد، لانه رد جميع ما ملك، فإن جوزنا الانفراد، فانفرد أحدهما، فهل تبطل الشركة بينهما ويخلص للممسك ما أمسك، وللراد ما استرد، أم تبقى الشركة بينهما فيما أمسك واسترد ؟ وجهان. أصحهما: الاول. وإن منعنا الانفراد، فذاك فيما ينقص بالتبعيض. أما ما لا ينقص، كالحبوب، فوجهان بناء على أن المانع ضرر التبعيض، أو اتحاد الصفقة ؟ ولو أراد الممنوع من الرد الارش، قال الامام: إن حصل اليأس من إمكان رد نصيب الآخر، بأن أعتقه وهو معسر، فله أخذ الارش، وإلا، نظر، فإن رضي صاحبه(3/147)
بالعيب، بني على أنه لو اشترى نصيب صاحبه وضمه إلى نصيبه، وأراد الكل والرجوع بنصف الثمن، هل يجبر على قبوله كما في مسألة النعل ؟ وفيه وجهان. إن قلنا: لا، أخذ الارش. وإن قلنا: نعم، فكذلك على الاصح، لانه توقع بعيد. وإن كان صاحبه غائبا لا يعرف الحال، ففي الارش وجهان بسبب الحيلولة الناجزة. ولو اشترى رجلان عبدا من رجلين، كان كل واحد منهما مشتريا ربع العبد من كل واحد من البائعين، فلكل واحد رد الربع إلى أحدهما. ولو اشترى ثلاثة من ثلاثة، كان كل واحد مشتريا تسع العبد من كل واحد من البائعين. ولو اشترى رجلان، عبدين من رجلين، فقد اشترى كل واحد من كل واحد ربع كل عبد، فلكل واحد رد جميع ما اشترى من كل واحد عليه. ولو رد ربع أحد العبدين وحده، ففيه قولا التفريق. ولو اشترى بعض عبد في صفقة، وباقيه في صفقة من البائع الاول أو غيره، فله رد أحد البعضين وحده، لتعدد الصفقة. ولو علم العيب بعد العقد الاول، ولم يمكنه الرد، فاشترى الباقي، فليس له رد الباقي، وله رد الاول عند الامكان.
فصل إذا وجد بالمبيع عيب، فقال البائع: حدث عند المشتري، وقال المشتري: بل كان عندك، نظر، إن كان العيب مما لا يمكن حدوثه بعد البيع كالاصبع الزائدة، وشين الشجة المندملة، وقد جرى البيع أمس، فالقول قول المشتري. وإن لم يحتمل تقدمه، كجراحة طرية، وقد جرى البيع والقبض من سنة، فالقول قول البائع من غير يمين. وإن احتمل قدمه وحدوثه كالمرض، فالقول قول البائع، لان الاصل لزوم العقد واستمراره. وكيف يحلف ؟ ينظر في جوابه(3/148)
للمشتري. فإن ادعى المشتري أن بالمبيع عيبا كان قبل القبض، فأراد الرد، فقال في جوابه: ليس له الرد علي بالعيب الذي يذكره، أو لا يلزمني قبوله، حلف على ذلك، ولا يكلف التعرض لعدم العيب يوم البيع، ولا يوم القبض، لجواز أنه أقبضه معيبا وهو عالم به، أو أنه رضي به بعد البيع، ولو نطق به لصار مدعيا مطالبا بالبينة. وإن قال في الجواب: ما بعته إلا سليما، أو ما أقبضته إلا سليما، فهل يلزمه أن يحلف كذلك، أم يكفيه الاقتصار على أنه لا يستحق الرد، أو لا يلزمني قبوله ؟ فيه وجهان. أصحهما: يلزمه التعرض لما تعرض له في الجواب، لتطابق اليمين الجواب، وبهذا قطع صاحب التهذيب وغيره. وهذا التفصيل والخلاف، جاريان في جميع الدعاوى والاجوبة. ثم يمينه تكون على البت، فيحلف: لقد بعته وما به هذا العيب. ولا يكفيه أن يقول: بعته ولا أعلم به هذا العيب. وتجوز اليمين على البت إذا اختبر حال العبد، وعلم خفايا أمره، كما يجوز بمثله الشهادة على الاعسار وعدالة الشهود، وغيرهما. وعند عدم الاختبار، يجوز أيضا الاعتماد على ظاهر السلامة إذا لم يعلم، ولا ظن خلافه. فرع لو زعم المشتري أن بالمبيع عيبا، فأنكره البائع، فالقول قوله. ولو اختلفا في بعض الصفات، هل هو عيب ؟ فالقول قول البائع مع يمينه، وهذا إذا لم يعرف الحال من غيرهما. قال في التهذيب: إن قال واحد من أهل المعرفة به: إنه عيب، ثبت الرد. واعتبر في التتمة شهادة اثنين. ولو ادعى البائع علم المشتري بالعيب، أو تقصيره في الرد، فالقول قول المشتري. فرع مدار الرد على التعيب عند القبض، حتى لو كان معيبا عند البيع، فقبضه وقد زال العيب، فلا رد بما كان، بل مهما زال العيب قبل العلم أو بعده وقبل الرد، سقط حقه من الرد.(3/149)
فصل الفسخ يرفع العقد من حينه، لا من أصله على الصحيح. وفي وجه: يرفعه من أصله. وفي وجه: يرفعه من أصله إن كان قبل القبض. فرع الاستخدام لا يمنع الرد بلا خلاف. ولو وطئ المشتري الثيب، فله الرد، ولا مهر عليه. ووطئ الاجنبي والبائع بشبهة كوطئ المشتري، لا يمنع الرد. وأما وطؤهما مختارة زنى، فهو عيب حادث. هذا في الوطئ بعد القبض، فإن وطئها المشتري قبل القبض، فله الرد، ولا يصير قابضا لها ولا مهر عليه إن سلمت وقبضها. فإن تلفت قبل القبض، فهل عليه المهر للبائع ؟ وجهان، بناء على أن الفسخ قبل القبض، رفع للعقد من أصله، أو حينه ؟ الصحيح: لا مهر. وإن وطئها أجنبي وهي زانية، فهو عيب حدث قبل القبض. وإن كانت مكرهة، فللمشتري المهر، ولا خيار له بهذا الوطئ. وطئ البائع كوطئ الاجنبي، لكن لا مهر عليه إن قلنا: إن جناية البائع قبل القبض كالآفة السماوية. أما البكر، فافتضاضها بعد القبض عيب حادث، وقبله جناية على المبيع قبل القبض. وإن افتضها الاجنبي بغير آلة الافتضاض، فعليه ما نقص من(3/150)
قيمتها. وإن افتض بآلته، فعليه المهر. وهل يدخل فيه أرش البكارة، أم يفرد ؟ وجهان. أصحهما: يدخل، فعليه مهر مثلها بكرا. والثاني: يفرد، فعليه أرش البكارة، ومهر مثلها ثيبا. ثم المشتري إن أجاز العقد، فالجميع له، وإلا، فقدر أرش البكارة للبائع، لعودها إليه ناقصة، والباقي للمشتري. وإن افتضها البائع، فإن أجاز المشتري، فلا شئ على البائع إن قلنا: جنايته كالآفة السماوية. وإن قلنا: إنها كجناية الاجنبي، فحكمه حكمه. وإن فسخ المشتري، فليس على البائع أرش البكارة. وهل عليه مهرها ثيبا ؟ إن افتض بآلته، بني على أن جنايته كالآفة السماوية، أم لا ؟ وإن افتضها المشتري، استقر عليه من الثمن بقدر ما نقص من قيمتها. فإن سلمت حتى قبضها، فعليه الثمن بكماله. وإن تلفت قبل القبض، فعليه بقدر الافتضاض من الثمن. وهل عليه مهر مثل ثيب ؟ إن افتضها بآلة الافتضاض، يبنى على أن العقد ينفسخ من أصله، أو من حينه ؟ هذا هو الصحيح. وفي وجه: افتضاض المشتري قبل القبض، كافتضاض الاجنبي. فرع زياد المبيع ضربان، متصلة، ومنفصلة. أما المتصلة: كالسمن، والتعليم، وكبر الشجرة، فهي تابعة للاصل في الرد، ولا شئ على البائع بسببها. وأما المنفصلة: كالاجرة، والولد، والثمرة، وكسب الرقيق، ومهر الجارية الموطوءة بشبهة، فلا تمنع الرد بالعيب، وتسلم للمشتري، سواء الزوائد الحادثة قبل القبض وبعده. وفيما إذا كان الرد قبل القبض، وجه ضعيف: أنها(3/151)
للبائع، تفريعا على أن الفسخ دفع للعقد من أصله. فلو نقصت الجارية أو البهيمة بالولادة، امتنع الرد للنقص الحادث وإن لم يكن الولد مانعا. وتكلموا في إفراد الجارية بالرد وإن لم تنقص بالولادة بسبب التفريق بينها وبين الولد، فقيل: لا يجوز الرد، ويتعين الارش، إلا أن يكون العلم بالعيب بعد بلوغ الولد حدا يجوز فيه التفريق. وقيل: لا يحرم التفريق هنا للحاجة، وستأتي المسألة مع نظيرها في الرهن إن شاء الله تعالى. فرع اشترى جارية أو بهيمة حاملا، فوجد بها عيبا، فإن كانت بعد حاملا، ردها كذلك. وإن وضعت الحمل ونقصت بالولادة، فلا رد. وإن لم تنقص، ففي رد الولد معها قولان، بناء على أن الحمل هل يعرف ويأخذ قسطا من الثمن، أم لا ؟ والاظهر: نعم. ويخرج على هذا الخلاف: أنه هل للبائع حبس الولد إلى استيفاء الثمن ؟ وأنه لو هلك قبل القبض، هل يسقط من الثمن بحصته ؟ وأنه هل للمشتري بيع الولد قبل القبض ؟ فإن قلنا: له قسط من الثمن، جاز الحبس، وسقط الثمن، ولم يجز البيع، وإلا، انعكس الحكم. ولو اشترى نخلة وعليها طلع مؤبر، ووجد بها عيبا بعد التأبير، ففي الثمرة طريقان. أصحهما: على قولين كالحمل. والثاني: القطع بأخذها قسطا، لانها مشاهدة مستيقنة. ولو اشترى جارية أو بهيمة حائلا، فحبلت، ثم اطلع على عيب، فإن نقصت بالحمل، فلا رد إن كان الحمل حصل في يد المشتري. وإن لم ينقص الحمل، أو كان الحمل في يد البائع، فله الرد. وحكم الولد مبنى على الخلاف. إن قلنا: يأخذ قسطا، بقي للمشتري فيأخذه إذا انفصل على الصحيح. وفي وجه: أنه للبائع، لاتصاله بالام عند الرد. وإن قلنا: لا يأخذ، فهي للبائع. وأطلق بعضهم: أن الحمل الحادث(3/152)
نقص، لانه في الجارية يؤثر في النشاط والجمال، وفي البهيمة ينقص اللحم ويخل بالحمل عليها والركوب. ولو اشترى نخلة وأطلعت في يده، ثم علم عيبا، فلمن الطلع ؟ فيه وجهان. ولو كان على ظهر الحيوان صوف عند البيع، فجزه، ثم علم به عيبا، رد الصوف معه. فإن استجز ثانيا وجزه، ثم علم العيب، لم يرد الثاني، لحدوثه في ملكه. وإن لم يجزه، رده تبعا. ولو اشترى أرضا فيها أصول الكراث ونحوه، وأدخلناها في البيع، فنبتت في يد المشتري، ثم علم بالارض عيبا، ردها وبقي النابت للمشتري، فإنها ليست تبعا للارض.
فصل الاقالة بعد البيع جائزة، بل إذ ندم أحدهما، يستحب للآخر إقالته، وهي أن يقول المتبايعان: تقايلنا، أو تفاسخنا. أو يقول أحدهما: أقلتك، فيقول الآخر: قبلت وما أشبهه. وفي كونها فسخا أو بيعا، قولان. أظهرهما: فسخ. وقيل: القولان في لفظ الاقالة. فأما إن قالا: تفاسخنا، ففسخ قطعا. فإن قلنا: بيع، تجددت بها الشفعة، وإلا، فلا.(3/153)
ولو تقايلا في الصرف، وجب التقابض في المجلس إن قلنا: بيع، وإلا، فلا. وتجوز الاقالة قبل قبض المبيع، إن قلنا: فسخ، وإلا، فهي كبيع المبيع من البائع قبل القبض. وتجوز في السلم قبل القبص إن قلنا: فسخ، وإلا، فلا. ولا تجوز الاقالة بعد تلف المبيع إن قلنا: بيع، وإلا، فالاصح: الجواز، كالفسخ بالتحالف، فعلى هذا، يرد المشتري على البائع مثل المبيع إن كان مثليا، أو قيمته إن كان متقوما. ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ففي الاقالة في الباقي خلاف مرتب، لان الاقالة تصادف القائم، فيستتبع التالف. وإن تقابلا والمبيع في يد المشتري، لم ينفذ تصرف البائع فيه إن قلنا: بيع، ونفذ إن قلنا: فسخ. فإن تلف في يده، انفسخت الاقالة إن قلنا: بيع، وبقي البيع الاول بحاله، وإلا، فعلى المشتري ضمانه، لانه مقبوض على حكم العوض، كالمأخوذ قرضا أو سوما، والواجب فيه، إن كان متقوما، أقل القيمتين من يوم العقد والقبض. وإن تعيب في يده، فإن قلنا: بيع، يخير البائع بين أن يجيز الاقالة ولا شئ له، وبين أن يفسخ ويأخذ الثمن. وإن قلنا: فسخ، غرم أرش العيب. ولو استعمله بعد الاقالة. فإن قلنا: بيع، فهو كالبيع يستعمله البائع، وإلا، فعليه الاجرة. ولو علم البائع بالمبيع عيبا كان حدث في يد المشتري قبل الاقالة، فلا رد له إن قلنا: فسخ، وإلا، فله رده. ويجوز للمشتري حبس المبيع، لاسترداده الثمن على القولين، ولا يشترط في الاقالة ذكر الثمن، ولا يصح إلا بذلك الثمن. فلو زاد أو نقص، بطلت، وبقي البيع بحاله، حتى لو أقاله على أن ينظره بالثمن، أو على أن يأخذ الصحاح عن المكسر، لم يصح. ويجوز للورثة الاقالة بعد موت المتبايعين، وتجوز في بعض المبيع. قال الامام: هذا إذا لم تلزم جهالة. أما إذا اشترى عبدين، فتقايلا في(3/154)
أحدهما مع بقاء الثاني، فلا يجوز على قولنا: بيع، للجهل بحصة كل واحد. وتجوز الاقالة في بعض المسلم فيه، لكن لو أقاله في البعض ليعجل الباقي، أو عجل المسلم إليه البعض ليقيله في الباقي، فهي فاسدة. قلت: قال القفال في شرحه التلخيص: لو تقايلا، ثم اختلفا في الثمن، ففيه ثلاثة أوجه، سواء قلنا: الاقالة بيع، أو فسخ، أصحها، وهو قول ابن المرزبان: أن القول قول البائع. والثاني: قول المشتري. والثالث: يتحالفان وتبطل الاقالة، قال الدارمي: وإذا تقايلا وقد زاد المبيع، فالزيادة المتميزة للمشتري، وغيرها للبائع. قال: ولو اختلفا في وجود الاقالة، صدق منكرها. قال: ولو باعه، ثم تقايلا بعد حلول الاجل ودفع المال، استرجعه المشتري في الحال، ولا يلزمه أن يصبر قدر الاجل. وإن لم يكن دفعه، سقط وبرئا جميعا. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالباب إحداها: الثمن المعين إذا خرج معيبا، يرد بالعيب كالمبيع. وإن لم يكن معيبا، استبدل، ولا يفسخ العقد، سواء خرج معيبا بخشونة، أو سواد، أو وجدت سكته مخالفة سكة النقد الذي تناوله العقد، أو خرج نحاسا، أو رصاصا. الثانية: تصارفا وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما قبض خللا، فله حالان. أحدهما: أن يرد العقد على معينين فإن خرج أحدهما نحاسا، بطل العقد، لانه بان أنه غير ما عقد عليه. وقيل: إنه صحيح، تغليبا للاشارة. هذا إن كان له قيمة، فإن لم يكن، لم يجئ هذا الوجه الضعيف. وإن خرج بعضه بهذه الصفة، لم يصح العقد فيه، وفي الباقي قولا تفريق الصفة. فإن لم يبطل، فله الخيار. فإن أجاز والجنس مختلف، بأن تبايعا ذهبا بفضة، جاء القولان في أن الاجازة بجميع الثمن، أم بالقسط ؟ وإن كان الجنس متفقا، فالاجازة الحصة قطعا، لامتناع التفاضل. وإن خرج أحدهم خشبا، فلمن أخذه الخيار، ولا يجوز الاستبدال وإن خرج بعضه كذلك، فله الخيار أيضا. وهل له الفسخ في(3/155)
المعيب، والاجازة في الباقي ؟ فيه قولا التفريق. فإن جوزنا، فالاجازة بالحصة. الحال الثاني: أن يرد عى ما في الذمة، ثم يحضراه ويتقابضا، فإن خرج أحدهما نحاسا وهما في المجلس، استبدل. وإن تفرقا، فالعقد باطل، لان المقبوض غير ما عقد عليه. وإن خرج خشنا، أو أسود، فإن لم يتفرقا، فله الخيار بين الرضى به والاستبدال وأن تفرقا، فهل له الاستبدال ؟ قولان. أظهرهما: نعم. كالمسلم فيه إذا خرج معيبا، لان القبض الاول صحيح، إذ لو رضي به، لجاز. والبدل قائم مقامه، ويجب أخذ البدل قبل التفرق عن مجلس الرد. وإن خرج البعض كذلك، وقد تفرقا، فإن جوزنا الاستبدال، استبدل، وإلا، فله الخيار بين فسخ العقد في الكل والاجازة. وهل له الفسخ في ذلك القدر والاجازة في الباقي ؟ فيه قولا التفريق. ورأس مال السلم، حكمه حكم عوض الصرف. ولو وجد أحد المتصارفين بما أخذه عيبا بعد تلفه، أو تبايعا طعاما بطعام، ثم وجد أحدهما بالمأخوذ عيبا بعد تلفه، نظر، وإن ورد العقد في معينين، واختلف الجنسان، فهو كبيع العرض بالنقد. وإن كان متفقا، ففيه الخلاف السابق في مسألة الحلي. وإن ورد على ما في الذمة ولم يتفرقا بعد، غرم ما تلف عنده، ويستبدل. وكذا إن تفرقا، وجوزنا الاستبدال. ولو وجد المسلم إليه برأس مال السلم عيبا بعد تلفه عنده، فإن كان معينا أو في الذمة، وعين وتفرقا، ولم نجوز الاستبدال، سقط من المسلم فيه بقدر نقصان العيب من قيمة رأس المال. وإن كان في الذمة وهما في المجلس، غرم التالف واستبدل. وكذا إن كان بعد التفرق وجوزنا الاستبدال. المسألة الثالثة: باع عبدا بألف، وأخذ بالالف ثوبا، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، ورده، قال القاضي أبو الطيب: يرجع بالثوب، لانه إنما تملكه بالثمن. وإذا فسخ البيع، سقط الثمن فانفسخ بيع الثوب. وقال الجمهور: يرجع بالالف، لان الثوب مملوك بعقد آخر.(3/156)
ولو مات العبد قبل القبض، وانفسخ البيع، قال ابن سريج: يرجع بالالف دون الثوب، لان الانفساخ بالتلف يقطع العقد، ولا يرفعه من أصله، وهو الاصح، وفيه وجه آخر. الرابعة: باع عصيرا، فوجد المشتري به عيبا بعدما صار خمرا، فلا سبيل إلى رد الخمر، فيأخذ الارش. فإن تخلل، فللبائع أن يسترده، ولا يدفع الارش. ولو اشترى ذمي من ذمي خمرا، ثم أسلما، وعلم المشتري بالخمر عيبا، استرد جزءا من الثمن على سبيل الارش، ولا رد. ولو أسلم البائع وحده، فلا رد أيضا. ولو أسلم المشتري وحده، فله الرد، قاله ابن سريج، وعلل بأن المسلم لا يتملك الخمر، بل نزيل يده عنها. الخامسة: مؤنة رد المبيع بعد الفسخ بالعيب، على المشتري، ولو هلك في يده، ضمنه. السادسة: اختلفا في الثمن بعد رد المبيع، فالصحيح: أن القول قول البائع، لانه غارم، كما لو اختلفا في الثمن بعد الاقالة. وقيل: يتحالفان، وتبقى السلعة في يد المشتري، وله الارش على البائع، قاله ابن أبي هريرة. فقيل له: إذا لم يعرف الثمن، كيف يعرف الارش ؟ فقال: أحكم بالارش من القدر المتفق عليه. السابعة: لو احتيج إلى الرجوع بالارش، فاختلفا في الثمن، فالقول قول البائع على الاظهر. وعلى الثاني: قول المشتري. الثامنة: أوصى إلى رجل ببيع عبده أو ثوبه وشراء جارية بثمنه وإعتاقها، ففعل الوصي ذلك، ثم وجد المشتري بالبيع عيبا، فله رده على الوصي ومطالبته بالثمن، كما يرد على الوكيل، ثم الوصي يبيع العبد المردود، ويدفع الثمن إلى المشتري. ولو فرض الرد بالعيب على الوكيل، فهل للوكيل بيعه ثانيا ؟ وجهان. أحدهما: نعم، كالوصي. وأصحهما: لا، لان هذا ملك جديد فاحتاج إلى إذن جديد، بخلاف الايصاء، فإنه تولية وتفويض كلي. ولو وكله في البيع بشرط(3/157)
الخيار للمشتري، فامتثل ورد المشتري، فإن قلنا: ملك البائع لم يزل، فله بيعه ثانيا. وإن قلنا: زال وعاد، فهو كالرد بالعيب. ثم إذا باعه الوصي ثانيا، نظر، إن باعه بمثل الثمن الاول، فذاك. وإن باعه بأقل، فهل النقص على الوصي، أو في ذمة الموصي ؟ وجهان. أصحهما: الاول، وبه قال ابن الحداد، لانه إنما أمره بشراء الجارية بثمن العبد، لا بالزيادة. وعلى هذا، لو مات العبد في يده بنفس الرد، غرم جميع الثمن. ولو باعه بأكثر من الثمن الاول، فإن كان ذلك لزيادة قيمة أو رغبة راغب، دفع قدر الثمن إلى المشتري، والباقي للوارث. وإن لم يكن كذلك فقد بان أن البيع الاول باطل، للغبن. ويقع عتق الجارية عن الوصي إن اشتراها في الذمة، وإن اشتراها بعين ثمن العبد، لم ينفذ الشراء ولا الاعتاق، وعليه شراء جارية أخرى بهذا الثمن وإعتاقها عن الموصي، هكذا أطلقه الاصحاب، ولا بد فيه من تقييد وتأويل، لان بيعه بالغبن وتسليمه عن علم بالحال، خيانة. والامين ينعزل بالخيانة، فلا يتمكن من شراء جارية أخرى. قلت: ليس في كلام الاصحاب، أنه باع بالغبن عالما، فالصورة مفروضة فيمن لم يعلم الغبن، ولا يحتاج إلى تكلف تصويرها في العالم وأن القاضي جدد له ولاية. وهذه مسائل ألحقتها. لو اشترى سلعة بألف في الذمة، فقضاه عنه أجنبي متبرعا فردت السلعة بعيب، لزم البائع رد الالف. وعلى من يرد ؟ وجهان. أحدهما: على الاجنبي، لانه الدافع. والثاني: على المشتري، لانه يقدر دخوله في ملكه. فإذا رد المبيع، رد إليه ما قابله، وبهذا الوجه قطع صاحب المعاياة ذكره في باب الرهن. قال: ولو خرجت السلعة مستحقة، رد الالف على الاجنبي قطعا، لانا تبينا أن لا ثمن ولا بيع.(3/158)
قال أصحابنا: إذا انعقد البيع، لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب، خيار المجلس، والشرط، والعيب، وخلف المشروط المقصود، والاقالة، والتحالف، وهلاك المبيع قبل القبض. قال القفال، والصيدلاني، وآخرون: لو اشترى ثوبا وقبضه وسلم ثمنه، ثم وجد بالثوب عيبا قديما، فرده، فوجد الثمن معيبا ناقص الصفة بأمر حدث عند البائع، يأخذه ناقصا، ولا شئ له بسبب النقص. وفيه احتمال لامام الحرمين، ذكره في باب تعجيل الزكاة. والله أعلم.
باب حكم المبيع قبل القبض وبعده وصفة القبض للقبض حكمان. أحدهما: انتقال الضمان إلى المشتري. فالمبيع قبل القبض، من ضمان البائع، ومعناه، أنه لو تلف، انفسخ العقد وسقط الثمن.(3/159)
فلو أبرأ المشتري البائع من ضمان المبيع قبل القبض، فهل يبرأ، حتى لو تلف لا ينفسخ العقد ولا يسقط الثمن ؟ قولان. أظهرهما: لا يبرأ، ولا يتغير حكم العقد. ثم إذا انفسخ البيع، كان المبيع هالكا على ملك البائع. حتى لو كان عبدا، كانت مؤنة تجهيزه على البائع. وهل نقول بانتقال الملك إليه قبيل الهلاك، أم يرتفع العقد من أصله ؟ وجهان خرجهما ابن سريج. أصحهما وهو اختياره واختيار ابن الحداد: لا يرتفع من أصله كالرد بالعيب، وفي الزوائد الحادثة بيد البائع، من الولد والثمرة واللبن والبيض والكسب وغيرها هذان الوجهان، وذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب قبل القبض، وطردهما جماعة في الاقالة إذا جعلناها(3/160)
فسخا، وخرجوا عليهما الزوائد. والاصح في الجميع: أنها للمشتري، وتكون أمانة في يد البائع. ولو هلكت، والاصل باق بحاله، فلا خيار للمشتري. وفي معنى الزوائد، الركاز الذي يجده العبد وما وهب له، فقبضه وقبله، وما أوصي له به فقبله، هذا حكم التلف بآفة سماوية. أما إذا أتلف المبيع قبل القبض، فله ثلاثة أقسام. الاول: أن يتلفه المشتري، فهو قبض منه على الصحيح، لانه أتلف ملكه، فصار كما لو أتلف المالك المغصوب في يد الغاصب، يبرأ الغاصب، ويصير المالك مستردا بالاتلاف. وفي وجه: إتلافه ليس بقبض، لكن عليه القيمة للبائع، ويسترد الثمن، ويكون التلف من ضمان البائع. هذا عند العلم. أما إذا كان جاهلا، بأن قدم البائع الطعام المبيع إلى المشتري فأكله، فهل يجعل قبضا ؟ وجهان بناء على القولين، فيما إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المالك فأكله جاهلا، هل يبرأ الغاصب ؟ فإن لم نجعله قابضا، فهو كإتلاف البائع. القسم الثاني: أن يتلفه أجنبي، فطريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: أنه كالتلف بآفة سماوية، لتعذر التسليم. وأظهرهما: أنه لا ينفسخ، بل(3/161)
للمشتري الخيار، إن شاء فسخ واسترد الثمن، ويغرم الاجنبي للبائع، وإن شاء أجاز وغرم الاجنبي. والطريق الثاني: القطع بالقول الثاني، قاله ابن سريج. وإذا قلنا به، فهل للبائع حبس القيمة لاخذ الثمن ؟ وجهان. أحدهما: نعم. كما يحبس المرتهن قيمة ا لمرهون. وأصحهما: لا، كالمشتري إذا أتلف المبيع، لا يغرم القيمة ليحبسها البائع. وعلى الاول، لو تلفت القيمة في يده بآفة سماوية، هل ينفسخ البيع لانها بدل المبيع ؟ وجهان. أصحهما: لا. القسم الثالث: أن يتلفه البائع، فطريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: ينفسخ البيع كالافة. والثاني: لا، بل إن شاء فسخ وسقط الثمن، وإن شاء أجاز وغرم البائع القيمة وأدى له الثمن. وقد يقع ذلك في أقول التقاص. والطريق الثاني: القطع بالقول الاول. فإن لم نقل بالانفساخ، عاد الخلاف في حبس القيمة. وقيل: لا حبس هنا قطعا، لتعديه بإتلاف العين. فرع باع شقصا من عبد وأعتق باقيه قبل القبض وهو موسر، عتق كله، وانفسخ البيع، وسقط الثمن إن جعلنا إتلاف البائع كالآفة السماوية، وإلا، فللمشتري الخيار. فرع لو استعمل البائع المبيع قبل القبض، فلا أجرة عليه إن جعلنا إتلافه كالآفة، وإلا، فعليه الاجرة. فرع إتلاف الاعجمي، والصبي الذي لا يميز، بأمر البائع أو المشتري، كإتلافهما. وإتلاف المميز بأمرهما، كإتلاف الاجنبي. وذكر القاضي حسين، أن إذن المشتري للاجنبي في الاتلاف يلغو، وإذا أتلف، فله الخيار. وأنه لو أذن البائع(3/162)
في الاكل والاحراق، ففعل، كان التلف من ضمان البائع، بخلاف ما لو أذن للغاصب ففعل، فإنه يبرأ، لان الملك هناك مستقر. وفي فتاوى القفال: أن إتلاف عبد البائع، كإتلاف الاجنبي. وكذا، إتلاف عبد المشتري بغير إذنه. فإن أجاز، جعل قابضا، كما لو أتلفه بنفسه. وإن فسخ، اتبع البائع الجاني. وأنه لو كان المبيع علفا، فاعتلفه حمار المشتري بالنهار، ينفسخ البيع. وإن اعتلفه بالليل، لم ينفسخ، وللمشتري الخيار، فإن أجاز، فهو قابض، وإلا، طالبه البائع بقيمة ما أتلف حماره. وأطلق القول، بأن إتلاف بهيمة البائع، كالآفة السماوية. فقيل له: فهلا فرقت فيها أيضا بين الليل والنهار ؟ فقال: هذا موضع فكر. فرع لو صال العبد المبيع على المشتري في يد البائع، فقتله دفعا، قال القاضي: يستقر عليه الثمن، لانه أتلفه لغرضه. وقال الشيخ أبو علي: لا يستقر. قلت: قول أبي علي أصح. ولهذا، لا يضمنه الاجنبي، ولا المحرم لو كان صيدا. وكذا لو صال المغصوب على مالكه فقتله دفعا، لم يبرأ الغاصب، سواء علم أنه ملكه، أم لا. وفي العالم، وجه شاذ، وسيأتي إيضاحه في أول كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. والله أعلم. فرع لو أخذ المشتري المبيع بغير إذن البائع، فللبائع الاسترداد إذا ثبت له حق الحبس، فإن أتلفه في يد المشتري، فقولان. أحدهما: عليه القيمة ولا خيار للمشتري، لاستقرار العقد بالقبض وإن كان ظالما فيه. والثاني: يجعل مستردا بالاتلاف، كما أن المشتري قابض بالاتلاف. وعلى هذا، فيفسخ البيع، أو يثبت الخيار للمشتري. قال الامام: الظاهر: الثاني. فرع وقوع الدرة في البحر قبل القبض، كالتلف، فينفسخ به البيع. وكذا انفلات الصيد المتوحش والطير، قاله في التتمة: ولو غرق الماء الارض المشتراة، أو وقع عليها صخور عظيمة من جبل، أو ركبها رمل، فهل هو كالتلف أو يثبت الخيار ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فرع لو أبق العبد قبل القبض، أو ضاع في انتهاب العسكر، لم ينفسخ البيع، لبقاء المالية ورجاء العود. وفي وجه ضعيف: ينفسخ كالتلف.(3/163)
ولو غصبه غاصب، فليس له إلا الخيار. فإن أجاز، لم يلزمه تسليم الثمن، وإن سلمه، قال القفال: ليس له الاسترداد، لتمكنه من الفسخ. وإن أجاز، ثم أراد الفسخ، فله ذلك، كما لو انقطع المسلم فيه فأجاز ثم أراد الفسخ، لانه يتصرر كل ساعة. وحكي عن القفال مثله فيما إذا أتلف الاجنبي المبيع قبل القبض، وأجاز المشتري ليتبع الاجنبي، ثم أراد الفسخ، قال القاضي: في هذه الصورة، ينبغي أن لا يمكن من الرجوع، لانه رضي بما في ذمة الاجنبي، فأشبه الحوالة. فرع لو جحد البائع العين قبل القبض، فللمشتري الفسخ، للتعذر. فرع منقول من فتاوى القاضي باع عبده رجلا، ثم باعه لآخر وسلمه إليه، وعجز عن انتزاعه منه وتسليمه إلى الاول، فهذا جناية منه على المبيع، فهو كالجناية الحسية، فينفسخ البيع على الاظهر، ويثبت للمشتري الخيار في القول الثاني، بين أن يفسخ وبين أن يجيز ويأخذ القيمة من البائع. ولو طالب البائع بالتسليم، وزعم قدرته عليه، وقال البائع: أنا عاجز عنه، حلف. فإن نكل، حلف المشتري أنه قادر، وحبس إلى أن يسلمه أو يقيم البينة بعجزه، فإن ادعى ا لمشتري الاول على الثاني العلم بالحال، فأنكر: حله، فإن نكل، حلف هو وأخذ منه.
فصل إذا طرأ على المبيع قبل القبض، عيب أو نقص، نظر إن كان بآفة سماوية، بأن عمي العبد، أو شلت يده، أو سقطت، فللمشتري الخيار، إن شاء فسخ، وإلا، أجاز بجميع الثمن، ولا أرش له مع القدرة على الفسخ. وإن كان بجناية، عادت الاقسام الثلاثة. أولها: أن يكون الجاني هو المشتري. فإذا قطع يد العبد مثلا قبل القبض، فلا خيار له، لان النقص بفعله، بل يمتنع بسببه الرد بجميع العيوب القديمة، ويجعل قابضا لبعض المبيع، حتى يستقر عليه ضمانه. فإن مات العبد في يد البائع بعد الاندمال، لم يضمن المشتري اليد بأرشها المقدر، ولا بما نقص من القيمة، وإنما(3/164)
يضمنها بجزء من الثمن، كما يضمن الجميع بكل الثمن. وفي معياره، وجهان. أصحهما وبه قال ابن سريج وابن الحداد: يقوم العبد صحيحا ثم مقطوعا، ويعرف التفاوت، فيستقر عليه من الثمن بمثل تلك النسبة. بيانه: قوم صحيحا بثلاثين، ومقطوعا بخمسة عشر، فعليه نصف الثمن. ولو قوم مقطوعا بعشرين، كان عليه ثلث الثمن. والوجه الثاني، قاله القاضي أبو الطيب: يستقر من الثمن بنسبة أرش اليد من القيمة، وهو النصف. وعلى هذا، لو قطع يديه واندملتا، ثم مات العبد في يد البائع، لزم المشتري تمام الثمن هذا كله تفريع على الصحيح أن إتلاف المشتري قبض. فأما على الوجه الضعيف أنه ليس بقبض، فلا يجعل قابضا لشئ من العبد، وعليه ضمان اليد بأرشها المقدر، وهو نصف القيمة كالاجنبي. وقياسه: أن يكون له الخيار. القسم الثاني: أن يكون الجاني أجنبيا، فيقطع يده قبل القبض، فللمشتري الخيار، إن شاء فسخ، وتبع البائع الجاني، وإن شاء أجاز البيع بجميع الثمن وغرم الجاني. قال الماوردي: وإنما يغرمه إذا قبض العبد. أما قبله، فلا، لجواز موت العبد في يد البائع وانفساخ البيع. ثم الغرامة الواجبة على الاجنبي، هل هي نصف القيمة، أو ما نقص من القيمة بالقطع ؟ قولان جاريان في جراح العبيد مطلقا. والمشهور: الاول. القسم الثالث: أن يجني البائع، فيقطع يد العبد قبل تسليمه، فإن قلنا بالاظهر: إن جنايته كالآفة السماوية، فللمشتري الخيار، إن شاء فسخ واسترد(3/165)
الثمن، وإن شاء أجاز بجميع الثمن. وإن قلنا: كجناية الاجنبي، فله الخيار أيضا، إن فسخ، فذاك، وإن أجاز، رجع بالارش على البائع. وفي قدره القولان المذكوران في الاجنبي.
فصل إذا اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، انفسخ البيع فيه، وفي الباقي قولا التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ، وأجاز، فبكم يجيز ؟ فيه خلاف قدمناه في باب تفريق الصفقة. ولو احترق سقف الدار المبيعة قبل القبض، أو تلف بعض أبنيتها، فوجهان. أحدهما: أنه كالتعيب، كسقوط يد المبيع ونحوه. وأصحهما: أنه كتلف أحد العبدني، فينفسخ البيع فيه. وفي الباقي، القولان، لان السقف يمكن بيعه منفصلا، بخلاف يد العبد. وذكر بعض المتأخرين: أنه إذا احترمن الدار ما يفوت الغرض المطلوب منها، ولم يبق إلا طرف، انفسخ البيع في الكل، وجعل فوات البعض في ذلك، كفوات الكل. الحكم الثاني للقبض: التسلم على التصرف، فلا يجوز بيع المبيع قبل القبض، عقارا كان أو منقولا، لا بإذن البائع، ولا دون إذنه، لا قبل أداء الثمن، ولا بعده.(3/166)
وفي الاعتاق قبل القبض أوجه. أصحها: يصح، ويصير قبضا، سواء كان للبائع حق الحبس، أم لا. والثاني: لا يصح. والثالث: إن لم يكن للبائع حق الحبس، بأن كان الثمن مؤجلا أو حالا وقد أداه المشتري، صح، وإلا، فلا. وإن وقف المبيع قبل القبض. قال في التتمة: إن قلنا: الوقف يفتقر إلى القبول، فهو كالبيع، وإلا، فهو كالاعتاق، وبه قطع في الحاوي، وقال: يصير قابضا، حتى لو لم يرفع البائع يده عنه، صار مضمونا عليه بدلقيمة. وكذا قال في إباحة الطعام للمساكين إذا كان قد اشتراه جزافا. والكتابة كالبيع على الاصح، إذ ليس لها قوة العتق وغلبته، والاستيلاد كالعتق. وفي الرهن والهبة، وجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند جمهور الاصحاب: لا يصحان. وإذا صححناهما، فنفس العقد ليس بقبض، بل يقبضه المشتري من البائع، ثم يسلمه للمتهب والمرتهن. فلو أذن للمتهب والمرتهن في قبضه، قال في التهذيب: يكفي، ويتم به البيع والرهن والهبة بعده. وقال الماوردي: لا يكفي ذلك للبيع وما بعده، ولكن ينظر، إن قصد قبضه للمشتري، صح قبض البيع، ولا بد من استئناف قبض للهبة، ولا يجوز أن يأذن له في قبضه من نفسه لنفسه. وإن قصد قبضه لنفسه، لم يحصل القبض للبيع، ولا للهبة، لان قبضها، يجب أن يتأخر عن تمام البيع.(3/167)
والاقراض والتصدق كالهبة والرهن، ففيهما الخلاف. ولا تصح إجارته على الاصح عند الجمهور. ويصح التزويج على أصح الاوجه، ولا يصح في الثاني. وفي الثالث: إن كان للبائع حق الحبس، لم يصح، وإلا، صح. وطرد هذا الوجه في الاجارة. وإذا صححنا التزويج، فوطئ الزوج، لم يكن قبضا. فرع كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض، لا يجوز جعله أجرة ولا عوضا في صلح. ولا يجوز السلم ولا التولية والاشراك. وفي التولية والاشراك، وجه ضعيف. فرع جميع ما ذكرنا، في تصرفه مع غير البائع. أما إذا باعه للبائع، فوجهان. أصحهما: أنه كغيره. والثاني: يصح، وهما فيما إذا باعه بغير جنس الثمن، أو بزيادة، أو نقص، أو تفاوت صفة، وإلا، فهو إقالة بصيغة البيع، قاله في التتمة. ولو رهنه أو وهبه له، فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. وأصحهما: أنه على الخلاف كغيره. فإن جوزنا، فأذن له في القبض، فقبض، ملك في صورة الهبة، وثبت الرهن. ولا يزول ضمان البيع في صورة الرهن، بل إن تلف، انفسخ البيع. ولو رهنه عند البائع بالثمن، فقد سبق حكمه. فرع لابن سريج باع عبدا بثوب، وقبض الثوب، ولم يسلم العبد، فله بيع الثوب، وليس للآخر بيع العبد. فلو باع الثوب وهلك العبد، بطل العقد فيه، ولا يبطل في الثوب، ويغرم قيمته لبائعه. ولا فرق بين أن يكون هلاك العبد بعد تسليم الثوب أو قبله، لخروجه عن ملكه بالبيع، ولو تلف الثوب والعبد في يده،(3/168)
غرم لبائع الثوب القيمة، ولمشتريه الثمن.
فصل المال المستحق للانسان عند غيره، عين، ودين. أما الثاني، فسيأتي في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما الاول: فضربان، أمانة، ومضمون. الضرب الاول: الامانات، فيجوز للمالك بيعها، لتمام الملك، وهي كالوديعة في يد المودع، ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل، والمال في يد الوكيل في البيع ونحوه، وفي يد المرتهن بعد فكاك الرهن، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة، والمال في يد القيم بعد بلوغ الصبي رشيدا، وما كسبه العبد باحتطاب وغيره، أو قبله بالوصية قبل أن يأخذه السيد. ولو ورث مالا، فله بيعه قبل أخذه، إلا إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضا مثل ما اشتراه ولم يقبضه. ولو اشترى من مورثه شيئا، ومات المورث قبل التسليم، فله بيعه، سواء كان على المورث دين، أم لا. وحق الغريم يتعلق بالثمن، فإن كان له وارث آخر، لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الآخر حتى يقبضه. ولو أوصى له بمال، فقبل الوصية بعد موت الموصي، فلبيعه قبل قبضه. وإن باعه بعد الموت وقبل القبول، جاز إن قلنا: تملك الوصية بالموت. وإن قلنا: بالقبول، أو هو موقوف، فلا. الضرب الثاني: المضمونات، وهي نوعان. الاول: المضمون بالقيمة، ويسمى: ضمان اليد، فيصح بيعه قبل القبض، لتمام الملك فيه. ويدخل فيه ما صار مضمونا بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره. حتى لو باع عبدا، فوجد المشتري به عيبا، وفسخ البيع، كان للبائع بيع العبد وإن لم يسترده، قال في التتمة: إلا إذا لم يؤد الثمن، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع(3/169)
الثمن. ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه، فللمسلم بيع رأس المال قبل استرداده. وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بإفلاس المشتري، ولم يسترده بعد. ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستام، وفي يد المشتري والمتهب في الشراء والهبة الفاسدين. ويجوز بيع المغصوب للغاصب. النوع الثاني: المضمون بعوض في عقد معاوضة، لا يصح بيعه قبل القبض، لتوهم الانفساخ بتلفه، وذلك كالمبيع والاجرة والعوض المصالح عليه عن المال. وفي بيع الصداق قبل القبض، قولان، بناء على أنه مضمون على الزوج ضمان العقد، أو ضمان اليد ؟ والاظهر: ضمان العقد. يجري القولان في بيع الزوج بدل الخلع قبل القبض، وبيع العافي عن القود المال المعفو عليه قبل القبض لمثل هذا المأخذ. فرع وراء ما ذكرنا صور، إذا تأملتها عرفت من أي ضرب هي. فمنها: حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي رضي الله عنه: أن الارزاق التي يخرجها السلطان للناس، يجوز بيعها قبل القبض. فمن الاصحاب من قال: هذا إذا أفرزه السلطان، فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز له، ويكفي ذلك لصحة البيع. ومنهم من لم يكتف بذلك، وحمل النص على ما إذا وكل وكيلا في قبضه، فقبضه الوكيل، ثم باعه الموكل، وإلا، فهو بيع شئ غير مملوك، وبهذا قطع القفال في الشرح. قلت: الاول: أصح وأقرب إلى النص. وقوله: وبه قطع القفال، يعني بعدم الاكتفاء، لا بالتأويل المذكور، فإني رأيت في شرح التلخيص للقفال، المنع المذكور. قال: ومراد الشافعي رضي الله عنه بالرزق، الغنيمة، ولم يذكر غيره. ودليل ما قاله الاول، أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة، احتمل للمصلحة والرفق بالجند، لمسيس الحاجة. والله أعلم. ومنها: بيع أحد الغانمين نصيبه على الاشاعة قبل القبض، صحيح إذا كان معلوما وحكمنا بثبوت الملك في الغنيمة. وفيما يملكها به خلاف مذكور في بابه. ومنها: لو رجح فيما وهب لولده، فله بيعه قبل قبضه على الصحيح. ومنها: الشفيع إذا تملك الشقص، قال في التهذيب: له بيعه قبل(3/170)
القبض. وقال في التتمة: ليس له ذلك، لان الاخذ بها معاوضة. قلت: الثاني: أقوى. والله أعلم. ومنها: للموقوف عليه بيع الثمرة الخارجة من الشجرة الموقوفة، قبل أن يأخذها. ومنها: إذا استأجر صباغا لصبغ ثوب وسلمه إليه، فليس للمالك بيعه قبل صبغه، لان له حبسه لعمل ما يستحق به الاجرة. وإذا صبغه، فله بيعه قبل استرداده إن دفع الاجرة، وإلا، فلا، لانه يستحق حبسه إلى استيفاء الاجرة. ولو استأجر قصارا لقصر ثوب وسلمه إليه، لم يجز بيعه قبل قصره، فإذا قصره، بني على أن القصارة عين فيكون كمسألة الصبغ، أو أثر، فله البيع، إذ ليس للقصار الحبس على هذا، وعلى هذا قياس صبغ الذهب، ورياضة الدابة، ونسج الغزل. ومنها: إذا قاسم شريكه، فبيع ما صار له قبل قبضه، يبنى على أن القسمة بيع، أو إفراز ؟ ومنها: إذا أثبت صيدا بالرمي، أو وقع في شبكه، فله بيعه وإن لم يأخذه، ذكره صاحب التلخيص هنا، قال القفال: ليس هو مما نحن فيه، لانه بإثباته قبضه حكما. فرع تصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض، كالولد، والثمرة، يبنى على أنها تعود إلى البائع لو عرض انفساخ، أو لا تعود، فإن أعدناها، لم يتصرف فيها كالاصل، وإلا، تصرف. ولو كانت الجارية حاملا عند البيع، وولدت قبل القبض، إن قلنا: الحمل يقابله قسط من الثمن، لم يتصرف فيه، وإلا، فهو كالولد الحادث بعد البيع. فرع إذا باع متاعا بدراهم، أو بدنانير معينة، فلها حكم المبيع، فلا يجوز تصرف البائع فيها قبل قبضها، لانها تتعين بالتعيين، فلا يجوز للمشتري إبدالها بمثلها، ولو تلفت قبل القبض، انفسخ البيع، ولو وجد البائع بها عيبا، لم يستبدل(3/171)
بها، بل إن رضيها، وإلا، فسخ العقد، فلو أبدلها بمثلها، أو بغير جنسها برضى البائع، فهو كبيع المبيع للبائع.
فصل الدين في الذمة ثلاثة أضرب. مثمن، وثمن، وغيرهما. وفي حقيقة الثمن أوجه. أحدها: ما ألصق به الباء، قاله القفال والثاني: النقد، والمثمن ما يقابله على الوجهين. وأصحها: أن الثمن: النقد، والمثمن: ما يقابله. فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما ألصق به الباء، والمثمن ما يقابله. فلو باع أحد النقدين بالآخر، فعلى الوجه الثاني: لا مثمن فيه. ولو باع عرضا بعرض، فعلى الوجه الثاني: لا ثمن فيه، وإنما هو مبادلة. ولو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الوجه الاول: العبد ثمن، والدراهم مثمن. وعلى الوجه الثاني والثالث: في صحة العقد، وجهان، كالسلم في الدراهم والدنانير. فإن صححنا، فالعبد مثمن. ولو قال: بعتك هذا الثوب بعبد، ووصفه، صح العقد، فإن قلنا: الثمن ما ألصق به الباء، فالعبد ثمن. ولا يجب تسليم الثوب في المجلس، وإلا، ففي وجوب تسليم الثوب وجهان، لانه ليس فيه لفظ السلم، لكن فيه معناه، فإذا عرفت هذا، عدنا إلى بيان الاضرب. الضرب الاول: المثمن، وهو المسلم فيه، فلا يجوز الاستبدال عنه، ولا بيعه. وهل تجوز الحوالة به، بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث: لا تجوز عليه، وتجوز به. وهكذا حكوا الثالث، وعكسه في الوسيط فقال: تجوز عليه لا به، ولا أظن نقله ثابتا. الضرب الثاني: الثمن، فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة، ففي الاستبدال(3/172)
عنها، طريقان. أحدهما: القطع بالجواز، قاله القاضي أبو حامد، وابن القطان. وأشهرهما: على قولين. أظهرهما، وهو الجديد: جوازه. والقديم: منعه. ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير، فإن قلنا: الثمن ما ألصق به الباء، جاز الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى في التهذيب: أنه المذهب، وإلا، فلا، لان ما ثبت في الذمة مثمنا، لم يجز الاستبدال عنه. والاجرة كالثمن، والصداق وبدل الخلع، كذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا، فهما كبدل الاتلاف. التفريع: إن منعنا الاستبدال عن الدراهم، فذاك إذا استبدل عنها عرضا. فلو استبدل نوعا منها بنوع، أو استبدل الدراهم عن الدنانير، فوجهان. لاستوائهما في الرواج، وإن جوزناه، فلا فرق بين بدل وبدل. ثم ينظر، إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم، اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيع بها شعيرا إن جوزنا ذلك. وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد، وجهان. أحدهما: يشترط، وإلا، فهو بيع دين بدين. وأصحهما: لا، كما لو تصارفا في الذمة، ثم عينا وتقابضا في المجلس. وإن استبدل ما لا يوافقها في علة الربا، كالطعام والثياب عن الدراهم، نظر، إن عين البدل، جاز. وفي اشتراط قبضه في المجلس، وجهان. صحح الغزالي وجماعة الاشتراط، وهو ظاهر نصه في المختصر، وصحح الامام والبغوي عدمه. قلت: الثاني: أصح، وصححه في المحرر. والله أعلم. وإن لم يعين، بل وصف في الذمة، فعلى الوجهين السابقين. إن جوزنا، اشترط التعيين في المجلس. وفي اشتراط القبض، الوجهان.(3/173)
الضرب الثالث: ما ليس بثمن ولا مثمن، كدين القرض والاتلاف، فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية، يجوز بيعه له، ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض، على ما سبق. وفي الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف. فإن بقي في يده، فلا، ولم يفرق الجمهور. ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال، ويجوز عكسه. فرع اعلم أن الاستبدال، بيع لمن عليه دين. فأما بيعه لغيره، كمن له على إنسان مائة، فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة، فلا يصح على الاظهر، لعدم القدرة على التسليم. وعلى الثاني: يصح، بشرط أن يقبض مشتري الدين الدين ممن عليه، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل قبض أحدهما، بطل العقد. قلت: الاظهر: الصحة. والله أعلم. ولو كان له دين على إنسان، والآخر مثله على ذلك الانسان، فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه، لم يصح، اتفق الجنس أو اختلف، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ.(3/174)
فصل في حقيقة القبض والقول الجملي فيه، أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة. ويختلف بحسب اختلاف المال. وتفصيله أن المبيع نوعان. النوع الاول: ما لا يعتبر فيه تقدير، إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه، فينظر، إن كان مما لا ينقل كالارض والدور، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه. ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع، توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. قلت: وقد حكى الرافعي بعد هذا وجها عند بيع الارض المزروعة في باب الالفاظ المطلقة في البيع، أنه لا يصح بيع الدار المشحونة، وأن إمام الحرمين، ادعى أنه ظاهر المذهب. والله أعلم. ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار، وخلى بين المشتري وبين الدار، حصل القبض فيما عدا ذلك البيت. وفي اشتراط حضور المتبايعين عند المبيع، ثلاثة أوجه. أحدها: يشترط، فإن حضرا عنده، فقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع، حصل القبض، وإلا، فلا. والثاني: يشترط حضور المشتري دون البائع. وأصحها: لا يشترط حضور واحد منهما، لان ذلك يشق. فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي ؟ وجهان. أصحهما: نعم. وفي معنى الارض الشجر الثابت، والثمرة المبيعة على ا لشجر قبل أوان الجداد. وإن كان المبيع من المنقولات، فالمذهب والمشهور: أنه(3/175)
لا يكفي فيه التخلية، بل يشترط النقل والتحريك. وفي قول رواه حرملة: يكفي. وفي وجه: يكفي لنقل الضمان إلى المشتري، ولا يكفي لجواز تصرفه. فعلى المذهب: يأمر العبد بالانتقال من موضعه، ويسوق الدابة أو يقودها. قلت: ولا يكفي استعماله الدابة وركوبها بلا نقل، وكذا وطئ الجارية على الصحيح. ذكره في البيان. والله أعلم. وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع، كموات، ومسجد، وشارع، أو في موضع يختص بالمشتري، فالتحويل إلى مكان منه، كاف. وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع، فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ويكفي لدخوله في ضمانه. وإن نقل بإذنه، حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل إليه. ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة، فخلى البائع بينها وبينه، حصل القبض في الدار. وفي الامتعة، وجهان. أصحهما: يشترط نقلها كما لو أفردت. والثاني: يحصل فيها القبض تبعا، وبه قطع الماوردي وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الارض التي عليها الصبرة، وخلى البائع بينه وبينها، حصل القبض في الصبرة. قلت: قال: ولو استأجرها، فوجهان. الصحيح: أنه ليس قبضا. والله أعلم. فرع لو لم يتفقا على القبض، فجاء البائع بالمبيع، فامتنع المشتري من قبضه، أجبره الحاكم عليه. فإن أصر، أمر الحاكم من يقبضه عنه، كما لو كان غائبا.(3/176)
فرع لو جاء البائع بالمبيع، فقال المشتري: ضعه، فوضعه بين يديه، حصل القبض، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا، أو قال: لا أريده، فوجهان. أحدهما: لا يحصل القبض، كما لا يحصل الايداع. وأصحهما: يحصل، لوجوب التسليم، كما لو وضع الغاصب المغصوب بين يدي المالك، يبرأ من الضمان. فعلى هذا، للمشتري التصرف فيه، ولو تلف، فمن ضمانه. لكن لو خرج مستحقا ولم نجز إلا وضعه، فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان، لان هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب. ولو وضع المديون الدين بين يدي مستحقه، ففي حصول التسليم خلاف مرتب على المبيع، وأولى بعدم الحصول، لعدم تعين الدين فيه. فرع للمشتري الاستقلال بنقل المبيع، إن كان دفع الثمن، أو كان مؤجلا، كما للمرأة قبض الصداق بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها، وإلا، فلا، وعليه الرد، لان البائع يستحق الحبس لاستيفاء الثمن، ولا ينفذ تصرفه فيه، لكن يدخل في ضمانه. فرع دفع ظرفا إلى البائع وقال: اجعل المبيع فيه، ففعل، لا يحصل التسليم، إذ لم يوجد من المشتري قبض، والظرف غير مضمون على البائع، لانه استعمله في ملك المشتري بإذنه. وفي مثله في السلم، يكون الظرف مضمونا على المسلم إليه، لانه استعمله في ملك نفسه. ولو قال للبائع: أعرني ظرفك، واجعل المبيع فيه، ففعل، لا يصير المشتري قابضا. النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير، بأن اشترى ثوبا أو أرضا مذارعة، أو متاعا موازنة، أو صبرة مكايلة، أو معدودا بالعدد، فلا يكفي للقبض ما سبق في النوع الاول، بل لا بد مع ذلك من الذرع، أو الوزن، أو الكيل، أو العد. وكذا لو أسلم في آصع طعام، أو أرطال منه، يشترط في قبضه الكيل والوزن. فلو قبض جزافا ما اشتراه مكايلة، دخل المقبوض في ضمانه. وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه، فإن باع الجميع، لم يصح، لانه قد يزيد على لمستحق. فإن باع ما يتيقن أنه له، لم يصح أيضا على الصحيح الذي قاله(3/177)
الجمهور. وقبض ما اشتراه كيلا بالوزن، أو وزنا بالكيل، كقبضه جزافا. ولو قال البائع: خذه، فإنه كذا، فأخذه مصدقا له، فالقبض فاسد أيضا حتى يقع اكتيال صحيح. فإن زاد، رد الزيادة. وأن نقص، أخذ التمام. فلو تلف المقبوض، فزعم الدافع أنه كان قدر حقه أو أكثر، وزعم القابض أنه كان دون حقه أو قدره، فالقول قول القابض. فلو أقر بجريان الكيل، لم يسمع منه خلافه. وللمبيع مكايلة صور. منها: قوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم. ومنها: بعتكها على أنها عشرة آصع. ومنها: بعتك عشرة آصع منها، وهما يعلمان صيعانها، أو لا يعلمان إذا جوزنا ذلك. فرع ليس على البائع الرضى بكيل المشتري، ولا على المشتري الرضى بكيل البائع، بل يتفقان على كيال، وإن لم يتراضيا، نصب الحاكم أمينا يتولاه، قاله في الحاوي فرع مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع، كمؤنة إحضار المبيع الغائب، ومؤنة وزن الثمن على المشتري، لتوقف التسليم عليه. ومؤنة نقد الثمن هل على البائع، أو المشتري ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يكون الاصح، أنها على البائع. والله أعلم. فرع لو كان لزيد على عمرو طعام سلما، ولآخر مثله على زيد، فأراد زيد أداء ما عليه مما له على عمرو، فقال لغريمه: اذهب إلى عمرو واقبض لنفسك ما لي عليه، فقبضه، فهو فاسد، وكذا لو قال: احضر معي لاكتاله منه لك، ففعل. وإذا فسد القبض، فالمقبوض مضمون على القابض. وهل تبرأ ذمة عمرو من حق زيد ؟ وجهان. أصحهما: نعم. فإن قلنا: لا تبرأ، فعلى القابض رد المقبوض إلى عمرو. ولو قال زيد: اذهب فاقبضه لي، ثم اقبضه مني لنفسك بذلك الكيل، أو(3/178)
قال: احضر معي لاقبضه لنفسي، ثم تأخذه بذلك الكيل، ففعل، فقبضه لزيد في الصورة الاولى، وقبض زيد لنفسه في الثانية، صحيحان، وتبرأ ذمة عمرو من حق زيد، والقبض الآخر فاسد، والمقبوض مضمون عليه. وفي وجه: يصح قبضه لنفسه في الصورة الاولى. ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه، ثم كاله على مشتري وأقبضه، فقد جرى الصاعان، وصح القبضان. فلو زاد حين كاله ثانيا، أو نقص، فالزيادة لزيد، والنقص عليه إن كان قدرا يقع بين الكيلين. فإن كان أكثر، علمنا أن الكيل الاول غلط، فيرد زيد الزيادة، ويرجع بالنقصان. ولو أن زيدا لما اكتاله لنفسه لم يخرجه من المكيال، وسلمه كذلك إلى مشتريه، فوجهان. أحدهما: لا يصح القبض الثاني حتى يخرجه ويبتدئ كيلا. وأصحهما عند الاكثرين: أن استدامته في المكيال، كابتداء الكيل. وهذه الصورة، كما تجري في ديني السلم، تجري فيما لو كان أحدهما مستحقا بالسلم، والآخر بقرض أو إتلاف. فرع للمشتري أن يوكل في القبض، وللبائع أن يوكل في الاقباض، ويشترط فيه أمران. أحدهما: أن لا يوكل المشتري من يده يد البائع، كعبده، ومستولدته، ولا بأس بتوكيل أبيه وابنه ومكاتبه. وفي توكيله عبده المأذون له، وجهان. أصحهما: لا يجوز. ولو قال للبائع: وكل من يقبض لي منك، ففعل، جاز، ويكون وكيلا للمشتري. وكذا لو وكل البائع بأن يأمر من يشتري منه للموكل. الامر الثاني: أن لا يكون القابض والمقبض واحدا، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلا بالاقباض، ويوكله المشتري بالقبض. كما لا يجوز أن يوكله هذا بالبيع، وذاك بالشراء. ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره، فدفع إلى المستحق دراهم، وقال: اشتر بها مثل ما تستحقه لي، واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء والقبض للموكل، ولا يصح قبضه لنفسه، لاتحاد القابض(3/179)
والمقبض، ولامتناع كونه وكيلا لغيره في حق نفسه. وفي وجه ضعيف: يصح قبضه لنفسه، وإنما يمتنع قبضه من نفسه لغيره. ولو قال: اشتر بهذه الدراهم لي، واقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء، ولم يصح قبضه لنفسه، ويكون المقبوض مضمونا عليه. وهل تبرأ ذمة الدافع من حق الموكل ؟ فيه الوجهان السابقان. ولو قال: اشتر لنفسك، فالتوكيل فاسد، وتكون الدراهم أمانة في يده، لانه لم يقبضها ليملكها. فإن اشترى في الذمة، وقع عنه وأدى الثمن من ماله. وإن اشترى بعينها، فهو باطل على الصحيح. ولو قال لمستحق الحنطة: اكتل حقك من الصبرة، لم يصح على الاصح، لان الكيل أحد ركني القبض، وقد صار نائبا فيه من جهة البائع، متأصلا لنفسه. فرع يستثنى عن الشرط الثاني، ما إذا اشترى الاب لابنه الصغير من مال نفسه، أو لنفسه من مال الصغير، فإنه يتولى طرفي القبض، كما يتولى طرفي البيع. وفي احتياجه إلى النقل في المنقول، وجهان. أصحهما: يحتاج، كما يحتاج إلى الكيل إذا باع كيلا. فرع يستثنى عن صورة القبض المذكور، إتلاف المشتري المبيع، فإنه قبض كما سبق. قلت: ومما يستثنى أيضا، إذا كان المبيع خفيا يتناول باليد، فقبضه بالتناول واحتواء اليد عليه، كذا قاله المحاملي وصاحب التنبيه وغيرهم، لانه يعد قبضا. والله أعلم. فرع قبض الجزء الشائع، إنما يحصل بتسليم الجميع، ويكون ما عدا المبيع أمانة في يده، ولو طلب القسمة قبل القبض، قال في التتمة: يجاب إليها، لانا إن قلنا: القسمة إفراز، فظاهر. وإن قلنا: بيع، فالرضي غير(3/180)
معتبر فيه، فإن الشريك يجبر عليه. وإذا لم يعتبر الرضى، جاز أن لا يعتبر القبض كالشفعة. فصل يلزم كل واحد من المتبايعين تسليم العوض الذي يستحقه الآخر. فإن قال كل: لا أسلم حتى أقبض ما أستحقه، فأربعة أقول. أحدها: يلزم الحاكم كل واحد بإحضار ما عليه، فإذا أحضر، سلم الثمن إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، يبدأ بأيهما شاء، أو يأمرهما بالوضع عند عدل ليفعل العدل ذلك. والثاني: لا يجبر واحدا منهما، بل يمنعهما من التخاصم. فإذا سلم أحدهما، أجبر الآخر. والثالث: يجبر المشتري. وأظهرهما: يجبر البائع. وقيل: يجبر البائع قطعا، واختاره الشيخ أبو حامد. هذا إذا كان الثمن في الذمة، فإن كان معينا، سقط القول الثالث. قلت: الذي قطع به الجمهور وهو المذهب: أنه يسقط الرابع أيضا، كما إذا باعه عرضا بعرض، لان الثمن يتعين بالتعيين عندنا. والله أعلم. وإن تبايعا عرضا بعرض، سقط القول الرابع أيضا، وبقي الاولان.(3/181)
أظهرهما: يجبران، وبه قطع في الشامل. فإذا قلنا: يجبر البائع أولا، أو قلنا: لا يجبر، فتبرع، وسلم أولا، أجبر المشتري على تسليم الثمن في الحال إن كان حاضرا في المجلس، وإلا، فللمشتري حالان. أحدهما: أن يكون موسرا، فإن كان ماله في البلد، حجر عليه أن يسلم الثمن، لئلا يتصرف في أمواله بما يبطل حق البائع. وحكى الغزالي وجها: أنه لا يحجر عليه، ويمهل إلى أن يأتي بالثمن. ولم أر هذا الوجه على هذا الاطلاق لغيره. فإذا قلنا بالمذهب المعروف، قال جماهير الاصحاب: يحجر عليه في المبيع وسائر أمواله. وقيل: لا يحجر في سائر أمواله إن كان ماله وافيا بديونه. وعلى هذا، هل يدخل المبيع في الاحتساب ؟ وجهان. أشبههما: يدخل. قلت: هذا الحجر، يخالف الحجر على المفلس من وجهين، أحدهما: أنه لا يسلط على الرجوع إلى عين المال. والثاني: أنه لا يتوقف على ضيق المال عن الوفاء. واتفقوا، على أنه إذا كان محجورا عليه بالفلس، لم يحجر أيضا هذا الحجر، لعدم الحاجة إليه. والله أعلم. وإن كان ماله غائبا عن البلد، نظر، إن كان على مسافة القصر، لم يكلف البائع الصبر إلى إحضاره. وفيما يفعل ؟ وجهان. أحدهما: يباع في حقه ويودى من ثمنه. وأصحهما عند الاكثرين: أن له فسخ البيع، لتعذر تحصيل الثمن، كما لو أفلس المشتري بالثمن. فإن فسخ، فذاك، وإن صبر إلى الاحضار، فالحجر على ما سبق. وقال ابن سريج: لا فسخ، بل يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري، ويمهل إلى الاحضار، وزعم في الوسيط أنه الاصح، وليس كذلك. وإن كان دون مسافة القصر، فهل هو كالذي في البلد، أو كالذي على مسافة القصر ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الاول، وبه قطع في المحرر. والله أعلم.(3/182)
الحال الثاني: أن يكون معسرا، فهو مفلس، والبائع أحق بمتاعه، هذا هو ا لصحيح المنصوص. وفيه وجه ضعيف: أنه لا فسخ، بل تباع السلعة، ويوفى من ثمنها حق البائع، فإن فضل شئ، فللمشتري. فرع جميع ما ذكرناه من الاقول والتفريع، جار فيما إذا اختلف المكري والمستأجر في الابتداء بالتسليم بلا فرق. فرع هنا أمر مهم، وهو أن طائفة توهمت أن الخلاف في الابتداء بالتسليم، خلاف في أن البائع، هل له حق الحبس، أم لا ؟ إن قلنا: الابتداء بالبائع، فليس له حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وإلا، فله. ونازع الاكثرون فيه، وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا كان نزاعهما في مجرد الابتداء، وكان كل واحد يبذل ما عليه، ولا يخاف فوت ما عند صاحبه. فأما إذا لم يبذل البائع المبيع وأراد حبسه خوفا من تعذر الثمن، فله ذلك بلا خلاف، وكذلك للمشتري حبس الثمن خوفا من تعذر المبيع. وبهذا صرح الشيخ أبو حامد، والماوردي. والمثبتون من المتأخرين قالوا: وإنما يحبس البائع المبيع إذا كان الثمن حالا. أما المؤجل، فليس له الحبس به، لرضاه بتأخيره. ولو لم يتفق التسليم حتى حل الاجل، فلا حبس أيضا. ولو تبرع بالتسليم، لم يكن له رده إلى حبسه، وكذا لو أعاره للمشتري على الاصح. ولو أودعه إياه، فله ذلك. ولو صالح من الثمن على مال، فله إدامة حبسه لاستيفاء العوض. ولو اشترى بوكالة اثنين شيئا، ووفى نصف الثمن عن أحدهما، لم يلزم البائع تسليم النصف، بناء على أن الاعتبار بالعاقد. ولو باع بوكالة اثنين، فإذا قبض نصيب أحدهما من الثمن، لزم تسليم النصف، كذا قاله في التهذيب(3/183)
وينبغي أن يجئ وجه في لزوم تسليم النصف من الوجهين السابقين في باب تفريق الصفقة، أن البائع إذا قبض بعض الثمن، هل يلزمه تسليم قسطه من المبيع ؟ ووجه في جواز أخذ الوكيل لاحدهما وحده من الوجهين في العبد المشترك إذا باعاه، هل لاحدهما أن يتفرد بأخذ نصيبه ؟ باب بيان الالفاظ التي تطلق في البيع وتتأثر بالقرائن المنضمة إليها هي ثلاثة أقسام، راجعة إلى مطلق العقد، وإلى الثمن، وإلى المبيع. القسم الاول: لفظان. أحدهما: التولية، وهي أن يشتري شيئا، ثم يقول لغيره: وليتك هذا العقد، فيجوز. ويشترط قبوله في المجلس على عادة التخاطب، بأن يقول: قبلت، أو توليت، ويلزمه مثل الثمن الاول قدرا وصفة، ولا يشترط ذكره إذا علماه، فإن لم يعلمه المشتري، أعلمه به ثم ولاه. وهي نوع بيع، فيشترط فيه القدرة على التسليم والتقابض إذا كان صرفا، وسائر الشروط، ولا يجوز قبل القبض على الصحيح. والزوائد المنفصلة قبل التولية، تبقى للمولي، ولو كان المبيع شقصا مشفوعا، وعفا الشفيع، تجددت الشفعة بالتولية. ولو حط البائع بعد التولية بعض الثمن، انحط على المولى أيضا. ولو حط الكل، فكذلك، لانه وإن كان بيعا جديدا، فخاصيته وفائدته التنزيل على الثمن الاول. وعن القاضي حسين: أنه ينبغي جريان خلاف في جميع هذه الاحكام. ففي وجه: يجعل المولى نائبا عن المولي، فتكون الزوائد للنائب، ولا تتجدد(3/184)
الشفعة، ويلحقه الحط. وفي وجه: تعكس هذه الاحكام، ونقول: هي بيع جديد. والمذهب: ما سبق. وعلى هذا، لو حط البعض قبل التولية، لم تصح التولية إلا بالباقي. ولو حط الكل، لم تصح التولية. فرع من شرط التولية، كون الثمن مثليا. فلو اشتراه بعرض، لم يصح، إلا إذا انتقل ذلك العرض من البائع إلى إنسان فولاه العقد. ولو اشتراه بعرض وقال: قام علي بكذا، وقد وليتك العقد بما قام علي، أو أرادت عقد التولية على صداقها بلفظ القيام، أو أرادها الرجل في عوض الخلع، فوجهان. ولو أخبر المولي عما اشترى وكذب، فقيل: هو كالكذب في المرابحة، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: يحط قدر الخيانة قولا واحدا. اللفظ الثاني: الاشراك، وهو أن يشتري شيئا، ثم يشرك غيره فيه ليصير بعضه له بقسطه من الثمن. ثم إن صرح بالمناصفة وغيرها، فذاك. وإن أطلق الاشراك، فوجهان. أحدهما وبه قطع صاحب التهذيب: يفسد العقد، وأصحهما عند الغزالي وقطع به في التتمة: أنه يصح ويحمل على المناصفة. قلت: قطع القفال في شرح التلخيص بالوجه الثاني، وصححه في المحرر وهو الاصح. قال القفال، وصورة التصريح بالاشراك في النصف، أن يقول: أشركتك بالنصف. فإن قال: أشركتك في النصف، كان له الربع. والله أعلم. والاشراك في البعض، كالتولية في الكل في الاحكام السابقة. القسم الثاني: المرابحة: بيع المرابحة جائز من غير كراهة، وهو عقد يبنى(3/185)
الثمن فيه على ثمن المبيع الاول مع زيادة، بأن يمشتري شيئا بمائة، ثم يقول لغيره: بعتك هذا بما اشتريته وربح درهم زيادة، أو بربح درهم لكل عشرة، أو في كل عشرة، ويجوز أن يضم إلى رأس المال شيئا ثم يبيعه مرابحة، مثل أن يقول: اشتريته بمائة، وقد بعتكه بمائتين وربح درهم زيادة، وكأنه قال: بعت بمائتين وعشرين. وكما يجوز البيع مرابحة، يجوز محاطة مثل أن يقول: بعت بما اشتريت به وحط ده زيادة. وفي القدر المحطوط، وجهان. أحدهما: من كل عشرة واحد، كما زيد في المرابحة على كل عشرة واحد. وأصحهما: يحط من كل أحد عشر واحد، لان الربح في المرابحة جزء من أحد عشر، فكذا الحط، وليس في حط واحد من عشرة رعاية للنسبة. فإذا كان قد اشترى بمائة، فالثمن على الوجه الاول: تسعون. وعلى الثاني: تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من درهم. ولو اشترى بمائة وعشرة، فالثمن على الوجه الاول، تسعة وتسعون. وعلى الثاني، مائة. وطرد كثير من العراقيين وغيرهم الوجهين. فمن قال: بعت بما اشتريت، بحط درهم من كل عشرة، قال إمام الحرمين: هذا غلط، فإن في هذه الصيغة تصريحا بحط واحد من كل عشرة، فلا وجه للخلاف فيه. وهذا الذي قاله الامام بين. وذكر الماوردي وغيره: أنه إذا قال: بحط درهم من كل عشرة، فالمحطوط درهم من كل عشرة. وإن قال: بحط درهم لكل عشرة، فالمحطوط واحد من أحد عشر.
فصل لبيع المرابحة عبارات. أكثرها دورانا على الالسنة ثلاث. إحداهن بعت بما اشتريت، أو بما بذلت من الثمن وربح كذا. الثانية: بعت بما قام علي وربح كذا. ويختلف حكم العبارتين فيما يدخل تحتهما، وفيما يجب الاخبار عنه، كما سنفصله إن شاء الله تعالى. فإذا قال: بعت بما أشتريت، لم يدخل فيه سوى الثمن. فإذا قال: بما قام علي، دخل فيه مع الثمن أجرة الكيال والدلال والحمال والحارس والقصار والرفاء والصباغ، وقيمة(3/186)
الصبغ، وأجرة الختان، وتطيين الدار، وسائر المؤن التي تلتزم للاسترباح، وألحق بها كراء البيت الذي فيه المتاع. وأما المؤن التي يقصد بها استبقاء الملك، دون الاسترباح، كنفقة العبد وكسوته، وعلف الدابة، فلا تدخل على الصحيح. ويقع ذلك في مقابلة الفوائد المستوفاة من المبيع، لكن العلف الزائد على المعتاد للتسمين، يدخل. وأجرة الطبيب إن اشتراه مريضا، كأجرة القصار. فإن حدث المرض عنده، فكالنفقة. وفي مؤنة السائس، تردد عند الامام. والاصح: أنها كالعلف. ولو قصر الثوب بنفسه، أو كال، أو حمل، أو طين الدار بنفسه، لم تدخل الاجرة فيه، لان السلعة إنما تعد قائمة عليه بما بذل، وكذا لو كان البيت ملكه، أو تبرع أجنبي بالعمل، أو بإعارة البيت، فإن أراد استدراك ذلك، فطريقه أن يقول: اشتريت، أو قام علي بكذا، وعملت فيه ما أجرته كذا، وقد بعتكه بهما وربح كذا. العبارة الثالثة: بعتك برأس المال وربح كذا، فالصحيح: أنه كقوله: بما اشتريت، وقال القاضي أبو الطيب: هو كقوله: بما قام علي، واختاره ابن الصباغ. فرع قال في التتمة: المكس الذي يأخذه السلطان، يدخل في لفظ القيام. قال: وفي دخول فداء العبد إذا جنى ففداه، وجهان. وقطع الجمهور بأن الفداء لا يدخل، ولا ما أعطاه لمن رد المغصوب في شئ من الالفاظ. فرع العبارات الثلاث، تجري في المحاطة جريانها في المرابحة. فصل ينبغي أن يكون رأس المال، أو ما قامت به السلعة، معلوما عند المتبايعين مرابحة. فإن جهله أحدهما، لم يصح العقد على الاصح كغير المرابحة. فعلى هذا، لو زالت الجهالة في المجلس، لم ينقلب صحيحا على(3/187)
الصحيح. والثاني من الوجهين الاولين: يصح، لان الثمن الثاني مبني على الاول، ومعرفته سهلة، فصار كالشفيع يطلب الشفعة قبل معرفة الثمن لسهولتها. فعلى هذا، في اشتراط زوال الجهالة في المجلس، وجهان. ومهما كان الثمن دراهم معينة غير معلومة الوزن. ففي جواز بيعه مرابحة، الخلاف المذكور، الاصح: البطلان. فصلان بيع المرابحة مبني على الامانة، فعلى البائع الصدق في الاخبار عما اشترى به، وعما قام به عليه إن باع بلفظ القيام. ولو اشترى بمائة، وخرج عن ملكه، ثم اشتراه بخمسين، فرأس ماله خمسون، ولا يجوز ضم الثمن الاول إليه. ولو اشتراه بمائة، وباعه بخمسين، ثم اشتراه ثانيا بمائة، فرأس ماله مائة، ولا يجوز أن يضم إليه خسرانه أولا، فيخبر بمائة وخمسين. ولو اشتراه بمائة، وباعه بمائة وخمسين، ثم اشتراه بمائة، فإن باعه مرابحة بلفظ رأس المال، أو بلفظ ما اشتريت، أخبر بمائة. وإن باعه بلفظ قام علي، فوجهان. أصحهما: يخبر بمائة. والثاني: بخمسين. فرع يكره أن يواطئ صاحبه فيبيعه بما اشتراه، ثم يشتريه منه بأكثر، ليخبر به في المرابحة. فإن فعل ذلك، قال ابن الصباغ: ثبت للمشتري الخيار،(3/188)
وخالفه غيره. قلت: ممن خالفه صاحب المهذب وغيره. وقول ابن الصباغ أقوى. والله أعلم. فرع لو اشترى سلعة، ثم قبل لزوم العقد، ألحقا بالثمن زيادة أو نقصا، وصححناه، فالثمن ما استقر عليه العقد. وإن حط عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد، وباع بلفظ ما اشتريت، لم يلزمه حط المحطوط عنه، وإن باع بلفظ قام علي، لم يخبر إلا بالباقي. فإن حط الكل، لم يجز بيعه مرابحة بهذا اللفظ، ولو حط عنه بعض الثمن بعد جريان المرابحة، لم يلحق الحط المشترى منه على الصحيح. وفي وجه: يلحق كما في التولية والاشراك. فرع لو اشترى شيئا بعرض، وباعه مرابحة بلفظ الشراء، أو بلفظ القيام، ذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، ولا يقتصر على ذكر القيمة. وإن اشتراه بدين على البائع، فإن كان مليئا غير مماطل، لم يجب الاخبار به. وإن كان مماطلا، وجب. فرع يجوز أن يبيع مرابحة بع ض ما اشتراه، ويذكر قسطه من الثمن. وكذا(3/189)
لو اشترى قفيزي حنطة ونحوها، وباع أحدهما مرابحة. ولو اشترى عبدين أو ثوبين، وأراد بيع أحدهما مرابحة، فطريقه أن يعرف قيمة كل واحد منهما يوم الشراء، ويوزع الثمن على القيمتين، ثم يبيعه بحصته من الثمن. فرع يجب الاخبار بالعيوب الحادثة في يده، سواء حدث العيب بآفة سماوية، أو بجنايته، أو بجناية غيره، سواء نقص العين، أو القيمة. ولو اطلع على عيب قديم، فرضي به، ذكره في المرابحة. ولو تعذر رده بعيب حادث وأخذ الارش، فإن باعه بلفظ قام علي، حط الارش، وإن باع بلفظ ما اشتريت، ذكما جرى به العقد والعيب، وأخذ الارش. ولو أخذ أرش جنايته، ثم باعه، فإن باع بلفظ ما اشتريت، ذكر الثمن والجناية. وإن باع بلفظ قام علي فوجهان. أحدهما: أنه كالكسب والزيادات، والمبيع قائم عليه بتمام الثمن. وأصحهما: يحط الارش من الثمن، كأرش العيب. والمراد من الارش هنا: قدر النقص، لا المأخوذ بتمامه. فإذا قطعت يد العبد، وقيمته مائة فنقص ثلاثين، أخذ خمسين من الجاني، وحط من الثمن ثلاثين، لا خمسين، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يحط جميع المأخوذ من الثمن، وهو شاذ. ولو نقص من القيمة أكثر من الارش المقدر، حط ما أخذ من الثمن، وأخبر عن قيامه عليه بالباقي، وأنه نقص من قيمته كذا. فرع لو اشتراه بغبن، لزم الاخبار به على الاصح عند الاكثرين. واختار الامام والغزالي: أنه لا يلزم. ولو اشترى من ابنه الطفل، وجب الاخبار به، لان الغالب في مثله الزيادة، نظرا للطفل، ودفعا للتهمة. ولو اشترى من أبيه أو إبنه(3/190)
الرشيد، لم يجب الاخبار به على الاصح باتفاقهم، كالشراء من زوجته ومكاتبه. وفي الشامل ما يقتضي ترددا في المكاتب. فرع لو اشتراه بثمن مؤجل، وجب الاخبار به على الصحيح. فرع لا يجب الاخبار بوطئ الثيب، ولا مهرها الذي أخذه، ولا الزيادات المنفصلة، كالولد، واللبن، والصوف، والثمرة. ولو كانت حاملا يوم الشراء، أو كان في ضرعها لبن، أو على ظهرها صوف، أو على النخلة طلع، فاستوفاها، حط بقسطها من الثمن. وهذا في الحمل بناء على أنه يأخذ قسطا من الثمن. فصل لو قال: اشتريت بمائة، وباعه مرابحة، ثم بان أنه اشتراه بتسعين بإقراره أو ببينة، فالبيع صحيح على الصحيح. فعلى هذا، كذبه ضربان، خيانة، وغلط. وفي الضربين، قولان. أظهرهما: يحكم بسقوط الزيادة وحصتها من الربح. والثاني: لا تسقط. فإن قلنا بالسقوط، ففي ثبوت الخيار للمشتري طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: لا خيار. والثاني: يثبت. والطريق الثاني: إن بان كذبه بالبينة، فله الخيار. وإن بان بالاقرار، فلا، لانه إذا ظهر بالبينة، لا يؤمن خيانة أخرى، والاقرار يشعر بالامانة. فإن قلنا: لا خيار، أو قلنا به، فأمسك بما بقي بعد الحط، فهل للبائع خيار ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا. وقيل الوجهان في صورة الخيانة. وأما في صورة الغلط، فله الخيار قطعا. وإن قلنا بعدم السقوط، فللمشتري(3/191)
الخيار، إلا أن يكون عالما بكذب البائع، فيكون كمن اشترى معيبا وهو يعلمه. وإذا ثبت الخيار، فقال البائع: لا تفسخ، فإني أحط عنك الزيادة، ففي سقوط خياره، وجهان. وجميع ما ذكرناه، إذا كان المبيع باقيا. فأما إذا ظهر الحال بعد هلاك المبيع، فقطع الماوردي بسقوط الزيادة وربحها. والاصح: طرد القولين. قلت: هذا الذي قطع به الماوردي، نقله صاحب المهذب والشاشي عن أصحابنا مطلقا. والله أعلم. فإن قلنا بالسقوط، فلا خيار للمشتري. وأما البائع، فإن لم يثبت له الخيار عند بقاء السلعة، فكذا هنا، وإلا، فيثبت هنا، وإن قلنا بعدم السقوط، فهل للمشتري الفسخ ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو علم العيب بعد تلف المبيع، لكن يرجع بقدر التفاوت وحصته من الربح، كما يرجع بأرش العيب. ولو اشتراه بمؤجل فلم يبين الاجل، لم يثبت في حق المشتري الثاني، ولكن له الخيار، وكذا إذا ترك شيئا آخر مما يجب ذكره. قال الغزالي: إذا لم يخبر عن العيب، ففي استحقاق حط قدر التفاوت القولان في الكذب - ولم أر لغيره تعرضا لذلك - فإن ثبت الخلاف، فالطريق على قول الحط النظر إلى القيمة وتقسيط الثمن عليها. قلت: المعروف في المذهب: أنه لا حط بذلك، ويندفع الضرر عن المشتري بثبوت الخيار. والله أعلم. فرع إذا كذب بالنقصان فقال: كان الثمن، أو رأس المال، أو ما قامت به السلعة مائة، وباع مرابحة، ثم قال: غلطت، إنما هو مائة وعشرة، فينظر، إن صدقه المشتري، فوجهان. أحدهما: يصح البيع، كما لو غلط بالزيادة، وبه قطع الماوردي، والغزالي في الوجيز، وأصحهما عند الامام والبغوي: لا يصح، لتعذر إمضائه. قلت: الاول: أصح، وبه قطع المحاملي، والجرجاني، وصاحب المهذب، والشاشي، وخلائق. والله أعلم. فإن قلنا بالاول، فالاصح: أن الزيادة لا تثبت، لكن للبائع الخيار.(3/192)
والثاني: أنها ثبت مع ربحها، وللمشتري الخيار. وإن كذبه المشتري، فله حالان. أحدهما: أن لا يبين للغلط وجها محتملا، فلا يقبل قوله، ولو أقام بينة، لم تسمع. فلو زعم أن المشتري عالم بصدقه، وطلب تحليفه أنه لا يعلم، فهل له ذلك ؟ وجهان. قلت: أصحهما: له تحليفه، وبه قطع المحاملي في المقنع وغيره. والله أعلم. فإن قلنا: يحلفه، فنكل، ففي رد اليمين على المدعي، وجهان. قلت: أصحهما: ترد. والله أعلم. وإذا قلنا: يحلف المشتري، حلف على نفي العلم، فإن حلف، أمضي العقد على ما حلف عليه. وإن نكل، ورددنا اليمين، فالبائع يحلف على القطع. وإذا حلف، فلمشتري الخيار بين إمضاء العقد بما حلف عليه، وبين الفسخ، كذا أطلقوه. ومقتضى قولنا: إن اليمين المردودة مع نكول المدعى عليه كالاقرار، أن يعود فيه ما ذكرنا في حالة التصديق. الحال الثاني: أن يبين للغلط وجها محتملا، بأن يقول: إنما اشتراه وكيلي وأخبرت أن الثمن مائة فبان خلافه، أو ورد علي منه كتاب فبان مزوطا، أو كنت راجعت جريدتي، فغلطت من ثمن متاع إلى غيره، فتسمع دعواه للتحليف. وقيل بطرد الخلاف في التحليف. فإن قلنا: لا يحلف، لم تسمع بينته، وإلا، سمعت على الاصح.
فصل قوله في المرابحة : بعتك بكذا، يقتضي أن يكون الربح من جنس الثمن الاول، ولكن يجوز جعل الربح من غير جنس الاصل. ولو قال: اشتريت(3/193)
بكذا، وبعتك به وربح درهم على كل عشرة، فالربح يكون من نقد البلد، لاطلاقه الدراهم، ويكون الاصل مثل الثمن، سواء كان من نقد البلد أو غيره. فصل لو اتهب بغير عوض، لم يجز بيعه مرابحة إلا أن يبين القيمة، ويبيع بها مرابحة. ولو اتهب بشرط الثواب، ذكره وباع به مرابحة، وإذا أجر دارا بعبد، أو نكحت على عبد، أو خالعها على عبد، أو صالح من دم عليه، لم يجز بيع العبد مرابحة بلفظ الشراء، ويجوز بلفظ قام علي. ويذكر في الاجارة، أجرة مثل الدار. وفي النكاح والخلع، مهر المثل. وفي الصلح، الدية. فصل أطبقوا على تصوير المرابحة، فيما إذا قال: بعتك بما اشتريت وربح كذا، وبما قام علي، ولم يذكروا فيه خلافا. وذكروا فيما إذا قال: أوصيت له بنصيب ابني، وجها أنه لا يصح، وإنما يصح، إذا قال: بمثل نصيب ابني، فكأنهم اقتصروا هنا على الاصح، وإلا، فلا فرق بين البابين. قلت: هذا التأويل، خلاف مقتضى كلامهم، والفرق ظاهر، فإن السابق إلى الفهم من قوله: بما اشتريت، أن معناه: بمثل ما اشتريت، وحذفه اختصار، ولا يظهر هذا التقدير في الوصية. والله أعلم. القسم الثالث: فيما يطلق من الالفاظ في المبيع، وهي ستة. الاول: لفظ الارض، وفي معناها، البقعة، والساحة، والعرصة. فإذا قال: بعتك هذه الارض، وكان فيها أبنية وأشجار، نظر، إن قال: دون ما فيها من الشجر والبناء، لم تدخل الاشجار والابنية في البيع. وإن قال: بما فيها، دخلت. وكذا إن قال: بعتكها بحقوقها على الصحيح. فإن أطلق، فنص هنا أنها تدخل. ونص فيما لو رهن الارض، وأطلق: أنها لا تدخل. وللاصحاب طرق. أصحها عند الجمهور: تقرير النصين. والثاني: فيهما قولان. والثالث: القطع بعدم(3/194)
الدخول فيهما، قاله ابن سريج، واختاره الامام، والغزالي. فصل الزرع، ضربان. الاول: ما يؤخذ دفعة واحدة، كالحنطة والشعير، فلا يدخل في مطلق بيع الارض. ويصح بيع الارض المزروعة على المذهب، كما لو باع دارا مشحونة بأمتعته. وقيل: يخرج على القولين في بيع المستأجرة. فإذا قلنا بالمذهب، فللمشتري الخيار إن جهل الحال، بأن كانت رؤية الارض سابقة على البيع، وإلا، فلا. وهل يحكم بمصير الارض في يد المشتري ودخولها في ضمانه إذا خلى البائع بينه وبينها ؟ وجهان. أحدهما: لا، لانها مشغولة فاشتبهت المشحونة بأمتعته. وأصحهما: نعم، لحصول تسليم الرقبة المبيعة. ويخالف الدار، فإن تفريغها ممكن في الحال وقد سبق فيها خلاف. فرع إذا كان في الارض جزر أو فجل أو سلق أو ثوم، لم يدخل في بيع الارض كالحنطة.(3/195)
واعلم أن كل زرع لا يدخل عند الاطلاق، لا يدخل وإن قال: بحقوقها. فرع الضرب الثاني: ما تؤخذ ثمرته مرة بعد أخرى في سنتين أو أكثر، كالقطن الحجازي، والنرجس، والبنفسج، فالظاهر من ثمارها عند بيع الارض يبقى للبائع. وفي دخول الاصول، الخلاف السابق في الاشجار. وحكي وجه في النرجس والبنفسج: أنهما من الضرب الاول. وأما ما يجز مرارا، كالقت، والقصب، والهندباء، والنعنع، والكرفس، والطرخون، فتبقى جزتها الظاهرة عند البيع للبائع. وفي دخول الاصول، الخلاف. وعن الشيخ أبي محمد، القطع بدخولها في بيع الارض. وإذا قلنا: بدخولها، فليشترط على البائع قطع الجزة الظاهرة، لانها تزيد، ويشتبه المبيع بغيره. وسواء كان ما ظهر بالغا أوان الجز، أم لا. قال في التتمة: إلا القصب، فلا يكلف قطعه، إلا أن يكون ما ظهر قدرا ينتفع به. ولو كان في الارض أشجار خلاف تقطع من وجه الارض، فهي كالقصب. فرع لو كانت الارض المبيعة مبذورة، ففي البذر الكامن مثل التفصيل(3/196)
المذكور في الزرع. فالبذر الذي لا ثبات لنباته، ويؤخذ دفعة واحدة، لا يدخل في بيع الارض، ويبقى إلى أوان الحصاد، وللمشتري الخيار إن كان جاهلا به، فإن تركه البائع له، سقط خياره، وعليه القبول، ولو قال: آخذه وأفرغ الارض، سقط الخيار أيضا إن أمكن ذلك في زمن يسير. والبذر الذي يدوم، كنوى النخيل، والجوز، واللوز، وبذر الكراث ونحوه من البقول، حكمه في الدخول تحت بيع الارض، حكم الاشجار. وجميع ما ذكرنا في المسألتين، هو فيمن أطلق بيع الارض. فأما إن باعها مع الزرع أو البذر، فسنذكره في اللفظ السادس إن شاء الله تعالى. فصل الحجارة إن كانت مخلوقة في الارض، أو مثبتة، دخلت في بيع الارض. فإن كانت تضر بالزرع والغرس، فهو عيب إن كانت الارض تقصد لذلك. وفي وجه ضعيف: أنه ليس بعيب، وإنما هو فوات فضيلة. وإن كانت مدفونة فيها، لم تدخل في البيع، كالكنوز والاقمشة في الدار. ثم إن كان المشتري عالما به، فلا خيار له في فسخ العقد، وله إجبار البائع على القلع والنقل، تفريغا لملكه، بخلاف الزرع، فإن له أمدا ينتظر، ولا أجرة للمشتري في مدة القلع والنقل وإن طالت، كما لو اشترى دارا فيها أقمشة يعلمها، فلا أجرة له في مدة نقلها، ويجب على البائع إذا نقل تسوية الارض. وإن كان جاهلا، فللحجارة مع الارض، أربعة أحوال. أحدها: أن لا يكون في قلعها ولا في تركها ضرر، بأن لا يحوج النقل وتسوية الارض إلى مدة لمثلها أجرة، ولا تنقص الارض بها، فللبائع النقل، وعليه تسوية الارض، ولا خيار للمشتري، وله إجبار البائع على النقل على الصحيح. وفي وجه: لا يجبره، والخيار للبائع. الحال الثاني: أن لا يكون في قلعها ضرر، ويكون في تركها ضرر، فيؤمر البائع بالنقل. ولا خيار للمشتري، كما لو اشترى دارا، فلحق سقفها خلل يسير يمكن تداركه في الحال، أو كانت منسدة البالوعة، فقال البائع: أنا أصلحه(3/197)
وأنقيها، لا خيار للمشتري. الحال الثالث: أن يكون القلع والترك مضرين، فللمشتري الخيار، سواء جهل أصل الاحجار، أو كون قلعها مضا، ولا يسقط خياره بترك البائع الاحجار لان لقاءها مضر. وهل يسقط بقول البائع: لا تفسخ لاغرم لك أجرة المثل مدة النقل ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو قال البائع: لا تفسخ بالعيب لاغرم لك الارش. ثم إن اختار المشتري إمضاء البيع، لزم البائع النقل، وتسوية الارض، سواء كان النقل قبل القبض أو بعده. وهل تجب أجرة المثل لمدة النقل قبل القبض بني على أن جناية البائع قبل القبض كآفة سماوية، أم كجناية الاجنبي ؟ إن قلنا بالاول، لم تجب، وإلا، فهو كما لو نقل بعد القبض. وإن كان النقل بعد القبض، ففي وجوبها وجهان. أصحهما عند الاكثرين: تجب، كما لو جنى على المبيع بعد القبض، عليه ضمانه. وإن اختصرت قلت: في الاجرة أوجه. أصحها ثالثها: إن كان النقل قبل القبض، لم يجب، وبعده، يجب. ويجري هذا الخلاف في وجوب الارش لو بقي في الارض بعد التسوية عيب. الحال الرابع: أن يكون في قلعها ضرر، وليس في تركها ضرر، فللمشتري الخيار، فإن أجاز، ففي وجوب الاجرة والارش ما سبق، ولا يسقط خياره بقول البائع: اقلع وأغرم الاجرة أو أرش النقص، قاله في التهذيب. ويجئ فيه الخلاف المذكور في الحالة الثالثة. ولو رضي بترك الاحجار في الارض، سقط خيار المشتري. ثم ينظر، إن قال: تركتها للمشتري، فهل هو تمليك للمشتري، أم مجرد إعراض لقطع الخصومة ؟ وجهان. كالوجهين في ترك نعل الدابة المردودة بالعيب. أصحهما: الثاني. فإن قلنا بالاول، فلو قلعها المشتري يوما، فهي له. ولو أراد البائع الرجوع فيها، لم يكن له. وإن قلنا بالثاني، فهي للبائع. فلو أراد الرجوع، قال الاكثرون: له ذلك، ويعود خيار المشتري. وقال الامام: لا(3/198)
رجوع له، ويلزمه الوفاء بالترك. وإن قال: وهبتها لك، واجتمعت شرائط الهبة، حصل الملك، وقيل بطرد الخلاف. فإن لم تجتمع، ففي صحتها للضرورة، وجهان. فإن صححنا، ففي حصول الملك ما ذكرنا في لفظ الترك. وجميع ما ذكرنا، إذا كانت الارض بيضاء. أما إذا كان فيها غراس، فينظر، إن كان حاصلا يوم البيع واشتراه مع الارض، فنقصان الغراس وتعيبه بالاحجار، كتعيب الارض في إثبات الخيار وسائر الاحكام. وإن أحدثه المشتري عالما بالاحجار، فللبائع قلعها، وليس عليه ضمان نقص الغراس. وإن أحدثه جاهلا، لم يثبت الخيار على الاصح، لان الضرر راجع إلى غير المبيع. فإن كانت الارض تنقص أيضا بالاحجار، نظر، إن لم يحصل بالغرس وقلع المغروس نقص في الارض، فله القلع والفسخ. وإن حصل، فلا خيار في الفسخ، إذ لا يجوز رد المبيع ناقصا، لكن يأخذ الارش. وإذا قلع البائع، فنقص الغراس، لزمه أرش النقص بلا خلاف، أما إذا كان فوق الاحجار زرع للبائع أو للمشتري، ففي التهذيب: أنه يترك إلى أوان الحصاد، لان له غاية منتذرة، بخلاف الغراس. ومنهم من سوى بينه وبين الغراس. قلت: الاصح: قول صاحب التهذيب، وقد وافقه جماعة. قال صاحب الابانة: إذا قلع البائع الاحجار بعد الحصاد، فعليه تسوية الارض. والله أعلم. فرع هل له الاجرة في مدة بقاء الزرع ؟ قطع الجمهور، بأن لا أجرة. وقيل: وجهان. الاصح: لا أجرة، وتقع تلك المدة مستثناة، كمن باع دارا مشحونة بأمتعة، لا يستحق المشتري أجرة لمدة التفريغ. فرع تكلم إمام الحرمين، في أن الاصحاب رحمهم الله، لم يوجبوا على هادم الجدار إعادته، بل أوجبوا أرشه، وأوجبوا تسوية الحفر على البائع والغاصب، وأجاب عنه، بأن طم الحفر لا يكاد يتفاوت، وهيآت الابنية تتفاوت، فشبه الطم بذوات الامثال، والجذار بذوات القيم. حتى لو رفع لبنة أو لبنتين من رأس جدار، وأمكن الرد من غير خلل في الهيئة، فهو كطم الحفر. وفي وجوب إعادة الجدار، خلاف نذكره في الصلح إن شاء الله تعالى.(3/199)
واللفظ الثاني: البستان، والباغ - بالغين المعجمة -، وهو بمعنى البستان. فإذا قال: بعتك هذا الباغ أو البستان، دخل في البيع الارض والاشجار والحائط. وفي دخول البناء الذي فيه، ما سبق في دخوله في لفظ الارض، وفي العريش الذي توضع عليه القضبان تردد للشيخ أبي محمد. والظاهر عند الامام: دخوله. وذكروا أن لفظ الكرم، كلفظ البستان. لكن العادة في نواحينا، إخراج الحائط عن مسمى الكرم، وإدخاله في مسمى البستان. ولكن لا يبعد أن يكون الحكم على ما استمر الاصطلاح عليه. ولو قال: هذه الدار، البستان، دخل الابنية والاشجار جميعا. ولو قال: هذا الحائط، البستان، أو هذه المحوطة، دخل الحائط المحوط وما فيه من الاشجار، وفي البناء، الخلاف السابق، كذا ذكره في التهذيب، ولا يظهر في لفظ المحوطة فرق بين الابنية والاشجار، فليدخلا، أو ليكونا على الخلاف. فرع لو قال: بعتك هذه القرية، دخلت الابنية والساحات التي يحيط بها السور. وفي الاشجار وسطها، الخلاف. الصحيح: دخولها. وفي المزارع، ثلاثة أوجه. الصحيح الذي عليه الجمهور: لا تدخل، سواء قال: بحقوقها، أم لا، بل لا تدخل إلا بالنص على المزارع. والثاني قاله إمام الحرمين: تدخل. والثالث قاله ابن كج: إن قال: بحقوقها، دخلت، وإلا، فلا. قلت: قد قال الغزالي وغيره: بعتك الدسكرة كبعتك القرية. والله أعلم اللفظ الثالث: الدار، فإذا قال: بعتك هذه الدار، دخلت الارض والابنية جميعها، حتى يدخل الحمام المعدود من مرافقها. وحكي عن نصه: أن الحمام لا يدخل، وحملوه على حمامات الحجاز، وهي بيوت من خشب تنقل. ولو كان في وسطها شجر، ففي دخوله الخلاف السابق في لفظ الارض. ونقل الامام في(3/200)
دخولها، ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كثرت بحيث يجوز تسمية الدار بستانا، لم تدخل، وإلا، دخلت. وأما الآلات في الدار، فثلاثة أضرب. أحدها: المنقولات، كالدلو، والبكرة، والرشاء، والمجارف، والسرر، والرفوف الموضوعة على الاوتاد، والسلالم التي لم تسمر ولم تطين، والاقفال، والكنوز، والدفائن، فلا يدخل شئ منها. وفي مفتاح المغلاق المثبت، وجهان. أصحهما: يدخل. ويجري الوجهان في ألواح الدكاكين، وفي الاعلى من حجري الرحى. الضرب الثاني: ما أثبت تتمة للدار ليبقى فيها، كالسقف والابواب المنصوبة وما عليها من الاغلاق والحلق والسلاسل والضبات، فتدخل قطعا. الثالث: ما أثبت على غير هذا الوجه، كالرفوف والدنان والاجانات المثبتة والسلالم المسمرة، والاوتاد المثبتة في الارض، أو في الجدار، والاسفل من حجري الرحى، وخشب القصار، ومعجن الخباز، فيدخل كل ذلك على الاصح، لثباتها. وأشار إمام الحرمين إلى القطع بدخول الحجرين في البيع باسم الطاحونة، وتدخل الاجانات المثبتة إذا باع باسم المدبغة والمصبغة، وإن الخلاف إنما هو في البيع باسم الدار. وفي التتمة ما يقتضي التسوية بين اسم الدار والمدبغة.(3/201)
قلت: ويجري الوجهان في قدر الحمام، قاله في التتمة. والله أعلم. فرع لا تدخل مسايل الماء في بيع الارض، ولا يدخل فيه شربها من القناة والنهر المملوكين، إلا أن يشرطه، أو يقول: بحقوقها. وفي وجه: لا يكفي ذكر الحقوق. فرع لو كان في الدار المبيعة بئر ماء، دخلت في البيع، والماء الحاصل في البئر حال البيع، لا يدخل على الصحيح. وفي وجه: يدخل، كالثمرة التي لم تؤبر، للعرف. وإن شرط دخوله في البيع، صح على قولنا: الماء مملوك، بل لا يصح البيع دون هذا الشرط، وإلا، اختلط الماء الموجود للبائع بماء يحدث للمشتري، وانفسخ البيع. قلت: هذا الشرط على قولنا: الماء مملوك. فإن قلنا: لا يملك، صح البيع مطلقا، بل لا يجوز شرطه، لانه لا يملكه، ويكون المشتري أحق به، لانه في يده، كما لو توحل صيد في أرضه. والله أعلم. وذكر الخلاف في الماء وفروعه، يأتي في إحياء الموات إن شاء الله تعالى. فرع لو كان في الارض أو الدار معدن ظاهر، كالنفط، والملح، والقار، والكبريت، فهو كالماء. وإن كان باطنا، كالذهب، والفضة، دخل في البيع، إلا أنه لا يجوز بيع ما فيه معدن ذهب بالذهب، بسبب الربا. وفي بيعه بالفضة قولان، للجمع بين الصرف والبيع في صفقة. فرع باع دارا في طريق غير نافذ، دخل حريمها في البيع. وفي دخول الاشجار، الخلاف السابق. وإن كان في طريق نافذ، لم يدخل الحريم والاشجار(3/202)
في البيع، بل لا حريم لمثل هذه الدار، مما سنذكره في إحياء الموات إن شاء الله تعالى. اللفظ الرابع: العبد، إذا ملك السيد عبده مالا، لم يملكه على الاظهر. فلو ملكه، ثم باعه، لم يدخل المال في البيع. فإن باعه مع المال، فإن قلنا: لا يملك، اعتبر في المال شروط المبيع. حتى لو كان مجهولا أو غائبا، أو دينا والثمن دين، أو ذهبا والثمن ذهب، لم يصح. فلو كان ذهبا، والثمن فضة، أو عكسه، ففيه قولا الجمع بين بيع وصرف. وإن قلنا: يملك، فقد نص أن المال ينتقل إلى المشتري مع العبد، وأنه لا بأس بجهالته وغيبته. واختلفوا في سبب احتمال ذلك، فقال الاصطخري: لان المال تابع، ويحتمل في التابع ما لا يحتمل في الاصل، كما يحتمل الجهل بحقوق الدار. والاصح عند الاصحاب، ما قاله ابن سريج وأبو إسحق: أن المال ليس مبيعا أصلا ولا تبعا، ويكون شرطه تبقية له على العبد كما كان، فللمشتري انتزاعه كما كان للبائع (الانتزاع). فعلى هذا، لو كان الثمن ربويا، والمال من جنسه، فلا بأس. وعلى الاول: لا يجوز. ولا يحتمل الربا في التابع، كما لا يحتمل في الاصل. فرع الثياب التي على العبد في دخولها في بيعه، أوجه. أصحها: لا يدخل شئ منها. والثاني: تدخل. والثالث: يدخل ساتر العورة فقط. ولا يدخل عذار الدابة في بيعها على الاصح كالسرج، ويدخل النعل، وبرة الناقة، إلا أن يكون من ذهب.(3/203)
اللفظ الخامس: الشجر، فإذا باع الشجرة مطلقا، دخلت الاغصان لكن لا يدخل الغصن اليابس في بيع الشجرة الرطبة، لان العادة قطعة كالثمار، وقال في التهذيب: ويحتمل أن يدخل كالصوف على الغنم، وتدخل العروق والاوراق، إلا أن شجرة الفرصاد إذا بيعت في الربيع وقد خرجت أوراقها، ففي دخولها وجهان. أصحهما: الدخول كغير وقت الربيع، وتدخل أوراق شجر النبق على المذهب، وقيل: كالفرصاد. قلت: وتدخل الكمام تحت اسم الشجرة، لانها تبقى بقاء الاغصان، قاله في الوسيط. والله أعلم. ولو باع شجرة يابسة نابتة، لزم المشتري تفريغ الارض منها، للعادة. وقال في التتمة: لو شرط إبقاءها، بطل البيع، كما لو اشترى ثمرة مؤبرة وشرط عدم القطع عند الجداد، وإن باعها بشرط القطع، جاز. وتدخل العروق في البيع عند شرط القلع، ولا تدخل عند شرط القطع، بل تقطع عن وجه الارض. وإن كانت الشجرة رطبة، فباعها بشرط الابقاء أو بشرط القلع، اتبع الشرط، وإن أطلق، جاز الابقاء للعادة. وهل يدخل المغرس في البيع ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الاسم لا يتناوله، فإن أدخلناه فانقلعت الشجرة، أو قلعها المالك، كان له غرس بدلها، وله بيع المغرس، وإلا، فلا. ويجري الوجهان، فيما لو اشترى أرضا وشرط البائع لنفسه شجرة، هل يبقى له المغرس، أم لا ؟ قلت: وإذا لم يدخل المغرس في الصورة الاولى، فليس للبائع قلع الشجرة(3/204)
مجانا. وهل يجب عليه إبقاؤها ما أراد المشتري، أم له قلعها بغير رضاه ويغرم ما نقص بالقلع كالعارية ؟ وجهان محكيان في النهاية والبسيط في كتاب الرهن. أصحهما: الاول. والله أعلم. فصل في بيان الحال الذي تندرج فيه الثمرة في بيع الشجرة النخل، ذكور وإناث. ومعظم المقصود من الذكور، استصلاح الاناث بها. والذي يبدو فيها أولا أكمة صغار، ثم تكبر وتطول حتى تصير كأذان الحمر. فإذا كبرت، شققت فظهرت العناقيد في أوساطها، فيذر فيها طلع الذكور ليكون رطبها أجود. والتشقيق وذر الطلع فيها، يسمى: التأبير، ويسمى: التلقيح. ثم الاكثرون يسمون الكمام الخارج كله: طلعا. والامام خص اسم الطلع بما يظهر من النور على العنقود عند تشقق الكمام. ثم المتعهدون للنخل، لا يؤبرون جميع الكمام، بل يكتفون بتأبير البعض، ويتشقق الباقي بنفسه، وتنبث ريح الذكور إليه. وقد لا يؤبر في ا لحائط شئ، وتتشقق الاكمة بنفسها، إلا أن رطبه لا يجئ جيدا. وكذا الخارج من الذكور، يتشقق بنفسه، ولا يشقق غالبا. فإذا باع نخلة عليها ثمرة، فإن شرطت لاحدهما، اتبع الشرط. وإن أطلقا، فإن كانت شققت أو تشققت بنفسها، فهي للبائع، وإلا، فللمشتري. وإن باع الذكور من النخل بعد تشقق طلعها، فالطلع للبائع، وإلا، فوجهان. أصحهما: للمشتري. والثاني: للبائع. فرع ما عدا النخل من الشجر، أقسام. أحدها: ما يقصد منه الورق، كشجر الفرصاد، وقد ذكرناه. قال في البيان: وشجر الحناء ونحوه، يجوز أن يكون فيخلاف كالفرصاد، ويجوز أن يقطع بأنه إذا ظهر ورقه، كان للبائع، لانه لا ثمر لها سوى الورق، بخلاف الفرصاد، فإن له ثمرة مأكولة. القسم الثاني: ما يقصد منه الورد، وهو ضربان.(3/205)
أحدهما: يخرج في كمام، ثم يتفتح كالورد الاحمر. فإذا بيع أصله بعد خروجه وتفتحه، فهو للبائع كطلع النخل المتشقق. إن بيع قبل تفتحه، فللمشتري على الاصح. والضرب الثاني: يخرج ورده ظاهرا كالياسمين. فإن خرج ورده، فللبائع، وإلا، فللمشتري. القسم الثالث: ما يقصد منه الثمرة، وهو نوعان. ما تخرج ثمرته بارزة بلا قشر ولا كمام، كالتين، والعنب، فهو كالياسمين. والثاني: ما تخرج بهما، وهو ضربان. أحدهما: ما تخرج ثمرته في نور، ثم يتناثر نوره فتبرز الثمرة بلا حائل، كالمشمش، والتفاح، والكمثرى وشبهها. فإن باع الاصل قبل انعقاد الثمرة، انعقدت للمشتري وإن كان النور قد خرج. وإن باعه بعد الانعقاد وتناثر النور، فللبائع. وإن باعه بعد الانعقاد وقبل تناثر النور، فوجهان. أصحهما وهو نصه: أنها للمشتري. والثاني: للبائع الثاني: ما يبقى له حائل على الثمرة المقصودة، وهو صنفان. أحدهما: له قشر واحد كالرمان. فإذا بيع أصله وقد ظهر الرمان، فهو للبائع، وإلا، فهو للمشتري. والثاني: ما له قشران، كالجوز واللوز والفستق والرانج. فإن باعها قبل خروجها، فالذي يخرج للمشتري، وإلا، فللبائع. ولا يعتبر مع ذلك تشقق القشر(3/206)
الاعلى على الاصح. ثم من هذين الصنفين، ما تخرج ثمرته في قشر بغير نور، كالجوز والفستق. ومنها: ما تخرج في نور، ثم يتناثر نوره، كالرمان، واللوز. وما ذكرناه من حكمهما، هو فيما إذا بيع الاصل بعد تناثر النور. فإن بيع قبله، عاد فيه الكلام السابق. فرع القطن نوعان. أحدهما: له ساق يبقى سنين يثمر كل سنة، وهو قطن الحجاز والشام والبصرة، فهو كالنخل، وإن بيع أصله قبل تشقق الجوزق، فالثمر للمشتري، وإلا، فللبائع. والثاني: ما لا يبقى أكثر من سنة، هو كالزرع، إن باعه قبل خروج الجوزق، أو بعده وقبل تكامل القطن، وجب شرط القطع. ثم إن لم يقطع حتى خرج الجوزق، فهو للمشتري، لحدوثه في ملكه. قاله في التهذيب: وإن باعه بعد تكامل القطن، فإن تشقق الجوزق، صح البيع مطقا، ودخل القطن في البيع، بخلاف الثمرة المؤبرة، لا تدخل، لان الشجرة مقصودة لثمار جميع الاعوام، ولا مقصود هنا سوى الثمرة الموجودة. وإن لم يتشقق، لم يصح البيع على الاصح، لان المقصود مستور بما ليس من صلاحه، بخلاف الجوز واللوز في القشر الاسفل. فرع لا يشترط لبقاء الثمرة على ملك البائع التأبير في كل كمام وعنقود، بل إذا باع نخلة أبر بعضها، فالكل للبائع، وإن باع نخلات أبر بعضها فقط، فله حالان. أحدهما: أن يكون في بستان واحد، فينظر، إن اتحد النوع والصفقة، فجميع الثمار للبائع. وإن أفرد بالبيع غير المؤبر، فالاصح أن الثمرة للمشتري، والثاني للبائع اكتفاء بوقت التأبير عنه. وإن اختلف النوع، فالاصح أن الجميع للبائع. وقال ابن خيران: غير المؤبر للمشتري، والمؤبر للجائع. الحال الثاني: أن تكون في بستانين، فالمذهب: أنه يستفرد كل بستان بحكمه. وقيل: هما كالبستان الواحد، سواء تباعد البستانان أو تلاصقا.(3/207)
فرع باع نخلة وبقيت الثمرة له، ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة، أو من أخرى حيث يقتضي الحال اشتراكهما، فوجهان. أصحهما: الطلع الجديد للبائع أيضا، لانه من ثمرة العام. وقال ابن أبي هريرة: للمشتري، لحدوثه في ملكه. فرع جمع في صفقة ذكور النخل وإناثها، له حكم الجمع بين نوعين من الاناث. فرع قال في التهذيب: تشقق بعض جوز القطن، كتشقق كله. وما تشقق من الورد، للبائع، وما لم يتشقق، للمشتر وإن كانا على شجرة واحدة، ولا يتبع بعضه بعضا، بخلاف النخل، لان الورد يجنى في الحال، فلا يخاف اختلاطه. قال: ولو ظهر بعض التين والعنب، فالظاهر للبائع، وغيره للمشتري، وفي هذه الصورة نظر. فصل إذا باع الشجرة، وبقيت الثمرة للبائع، فإن شرط القطع في الحال، لزمه. وإن أطلق، فليس للمشتري تكليفه القطع في الحال، بل له الابقاء إلى أوان الجداد وقطاف العنب. فإذا جاء وقت الجداد، لم يمكن من أخذها على التدريج، ولا أن يؤخرها إلى نهاية النضج. ولو كانت الثمرة من نوع يعتاد قطعه قبل النضج، كلف القطع على العادة.. ولو تعذر السقي لانقطاع الماء وعظم ضرر النخل ببقاء الثمرة، فالاظهر أنه ليس له الابقاء. ولو أصاب الثمار آفة، ولم يكن في تركها فائدة، فهل له الابقاء ؟ قولان. وسقي الثمار عند الحاجة على البائع، وعلى المشتري تمكينه من دخول البستان للسقي. فإن لم يأتمنه، نصب الحاكم أمينا للسقي، ومؤنته على البائع. وإذا كان السقي ينفع الثمار والاشجار، فلكل واحد(3/208)
السقي، وليس للآخر منعه. وإن كان يضر بهما، فليس لاحدهما السقي إلا برضى الآخر، وإن أضر بالثمار ونفع الاشجار، فأراد المشتري السقي، فمنعه البائع، فوجهان. أحدهما: له السقي. وأصحهما: أنه إن سامح أحدهما بحقه أقر، وإلا، فسخ البيع، وإن أضر بالشجر ونفع الثمار، فتنازعا، فعلى الوجهين، الاصح: يفسخ إن لم يسامح. والثاني: للبائع السقي. هذا نقل الجمهور. وقال الامام: في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: يجاب المشتري. والثاني: البائع. والثالث: يتساويان. ولو كان السقي يضر بواحد، وتركه يمنع حصول زيادة للآخر، ففي إلحاقه بتقابل الضرر، احتمالان عند الامام. ولو لم يسق البائع، وتضرر المشتري ببقاء الثمار لامتصاصها رطوبة الشجر، أجبر على السقي أو القطع. فإن تعذر السقي لانقطاع الماء، ففيه القولان السابقان. قلت: هذان القولان، فيما إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة. فإن لم يكن، وجب القطع بلا خلاف، كذا قاله الامام، وصاحب التهذيب. والله أعلم. اللفظ السادس: الثمار، وهي تباع بعد بدو الصلاح وقبله. الحالة الاولى: إذا بيعت بعد بدو الصلاح، جاز مطلقا، وبشرط إبقائها إلى وقت الجداد، وبشرط القطع، سواء كانت الاصول للبائع، أم للمشتري، أم لغيرهما. فإن أطلق، فله الابقاء إلى وقت الجداد، ولا يجوز بيع الثمار بعد الصلاح مع ما يحدث بعدها.(3/209)
الثانية: إذا بيعت قبل بدو الصلاح، فإما أن تباع مفردة عن الشجر، وإما معه. الضرب الاول: المفردة. وللاشجار صورتان. إحداهما: أن تكون للبائع الغلة أو للمشتري أو لغيرهما. فلا يجوز بيع الثمار مطلقا، ولا بشرط الابقاء، ويجوز بشرط القطع بالاجماع. ولو كانت الكروم في بلاد شديدة البرد بحيث لا تنتهي ثمارها إلى الحلاوة، واعتاد أهلها قطع الحصرم، فوجهان. قال القفال: يجوز بيعها بغير شرط القطع، ويكون المعتاد كالمشروط. ومنع الاكثرون ذلك. ويجري الخلاف فيما لو جرت عادة قوم بانتفاع ا لمرتهن بالمرهون، حتى تنزل عادتهم على رأي منزله شرط الانتفاع، ويحكم بفساد الرهن. ولو باع بشرط القطع، وجب الوفاء به. فلو تراضيا على تركه، فلا بأس، ويكون بدو الصلاح، ككبر العبد الصغير. وإنما يجوز البيع بشرط القطع، إذا كان المقطوع منتفعا به، كالحصرم واللوز ونحوهما. فأما ما لا منفعة فيه، كالجوز والكمثرى، فلا يصح بيعه بشرط القطع أيضا. الصورة الثانية: أن تكون الاشجار للمشتري، بأن يبيع إنسانا شجرة، وتبقى الثمرة له، ثم يبيعه الثمرة، أو يوصي لانسان بالثمرة فيبيعها لصاحب الشجرة، ففي اشتراط القطع، وجهان. أصحهما عند الجمهور: يشترط، ولكن لا يلزمه الوفاء بالشرط هنا، بل له الابقاء، إذ لا معنى لتكليفه قطع ثماره عن أشجاره ولو باع شجرة عليها ثمرة مؤبرة، فبقيت للبائع، فلا حاجة إلى شرط القطع، لان المبيع هو(3/210)
الشجرة، وهي غير متعرضة للعاهات، والثمرة مملوكة له بحكم الدوام. ولو كانت الثمرة غير مؤبرة، فاستثناها لنفسه، ففي وجوب شرط القطع وجهان. أصحهها: لا يجب، لانه في الحقيقة استدامة لملكها. فعلى هذا، له الابقاء إلى وقت الجداد. ولو صرح بشرط الابقاء، جاز. والثاني: يجب، ولا يصح التصريح بالابقاء. قلت: قال الامام: إذا قلنا: يجب شرط القطع، فأطلق، فظاهر كلام الاصحاب أن الاستثناء باطل، والثمرة للمشتري. قال: وهذا مشكل، فإن صرف الثمرة إليه مع التصريح باستثنائها محال. قال: فالوجه عد الاستثناء المطلق شرطا فاسدا مفسدا للعقد في الاشجار، كاستثناء الحمل. والله أعلم. الضرب الثاني أن تباع الثمرة مع الشجر، فيجوز من غير شرط القطع، بل لا يجوز شرط القطع. قلت: لو قطع شجرة عليها ثمرة ثم باع الثمرة وهي عليها، جاز من غير شرط القطع، لان الثمرة لا تبقى عليها، فيصير كشرط القطع. والله أعلم. فرع لا يشترط للاستغناء عن شرط القطع بدو الصلاح في كل عنقود، بل إذا باع ثمرة شجرة واحدة بدا الصلاح في بعضها، صح من غير شرط القطع. ولو باع ثمار أشجار بدا الصلاح في بعضها، نظر، إن اختلف الجنس، لم يغير بدو الصلاح في جنس حكم جنس آخر. فلو باع رطبا وعنبا بدا الصلاح في أحدهما فقط، وجب شرط القطع في الآخر. وإن اتحد الجنس، فالكلام في اتحاد البستان وتعدده. وإذا اتحد، ففي بيعها صفقة واحدة وإفراد ما لم يبد فيه الصلاح بالبيع. وحكم الاقسام كلها على ما سبق في التأبير بلا فرق، حتى أن الاصح: أنه لا(3/211)
تبعية عند الافراد، وأنه لا أثر لاختلاف النوع، وأنه لا يتبع بستان بستانا. ولو بدا الصلاح في ملك غير البائع، ولم يبد في ملكه، فإن كانا في بستانين، فلا عبرة به قطعا، وكذا إن كانا في بستان واحد على الاصح. ويجري الوجهان، فيما لو أبر ملك غير البائع في بستان واحد. والاصح: أنه لا يكون للمبيع حكم المؤبر. فرع يحصل بدو الصلاح بظهور النضج، ومبادئ الحلاوة، وزوال العفوصة أو الحموضة المفرطتين، وذلك فيما لا يتلون، بأن يتموه ويلين، وفيما يتلون، بأن يحمر أو يصفر أو يسود، وهذه الاوصاف وإن عرف بها بدو الصلاح، فليس واحد منها شرطا فيه، لان القثاء لا يتصور فيه شئ منها، بل يستطاب أكله صغيرا وكبيرا. وإنما بدو صلاحه، أن يكبر بحيث يجنى في الغالب ويؤكل، وإنما يؤكل في الصغر على الندور. وكذا الزرع، لا يتصور فيه شئ منها، وبدو صلاحه باشتداد الحب. قال صاحب التهذيب: بيع أوراق الفرصاد قبل تناهيها، لا يجوز إلا بشرط القطع، وبعده يجوز مطلقا وبشرط القطع.(3/212)
والعبارة الشاملة، أن يقال: بدو الصلاح في هذه الاشياء، ضرورتها إلي الصفة التي تطلب غالبا لكونها على تلك الصفة. فرع بيع البطيخ قبل بدو صلاحه، لا يصح من غير شرط القطع، فإن بدا الصلاح في كله أو بعضه، نظر، إن كان يخاف خروج غيره، فلا بد من شرط القطع، فإن شرط فلم يقطع حتى اختلط، ففي انفساخ البيع قولان يأتي نظيرهما إن شاء الله تعالى. وإن كان لا يخاف خروج غيره، جاز بيعه من غير شرط القطع. هذا إذا أفرد البطيخ بالبيع، ووراءه حالتان. إحداهما: لو أفرد أصوله بالبيع، قال العراقيون وغيرهم: يجوز، ولا حاجة إلى شرط القطع إذا لم يخف الاختلاط. ثم الحمل الموجود، يبقى للبائع، وما يحدث، يكون للمشترى. وإن خيف اختلاط الحملين، فلا بد من شرط القطع. فإن شرط، فلم يتفق حتى وقع الاختلاط، فطريقان سنذكرهما في نظيره إن شاء الله تعالى. ولو باع الاصول قبل خروج الحمل، فلا بد من شرط القطع والقلع، كالزرع الاخضر. وإذا شرط، ثم اتفق بقاؤه حتى خرج الحمل، فهو للمشترى. الحالة الثانية: باع البطيخ مع أصوله، قال الامام والغزالي: لا بد من شرط القطع، لان البطيخ مع أصوله متعرض للعاهة، بخلاف الشجرة مع الثمرة. فلو باع البطيخ مع الارض، استغني عن شرط القطع، والارض كالشجر. ومقتضى ما ذكرناه في بيع الاصول وحدها إذا لم يخف الاختلاط، أنه لا حاجة إلى شرط القطع. والباذنجان ونحوه، كالبطيخ في الاحوال الثلاث. فرع لابن الحداد لو باع نصف الثمار على رؤوس الشجر مشاعا قبل بدو الصلاح، لم يصح. وعللوه بأن هذا البيع يفتقر إلى شرط القطع، ولا يمكن قطع النصف إلا بقطع الكل، فيتضرر البائع بقطع غير المبيع، فأشبه ما إذا باع نصفا معينا من سيف. وما ذكروه من أن قطع النصف لا يمكن إلا بقطع الجميع، إنما يستمر بتقدير دوام الاشاعة وامتناع القسمة.(3/213)
أما إذا جوزنا قسمة الثمار الرطبة بناء على أنها إفراز، فيمكن قطع النصف من غير قطع الجميع، بأن يقسم أولا، فليكن منع البيع مبنيا على القول بامتناع القسمة، لا مطلقا، وعلى هذا يدل كلام ابن الحداد. قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح. ولو باع نصفها مع نصف النخل، صح وكانت الثمار تابعة. ولو كانت الثمرة لواحد، والشجرة لآخر، فباع صاحب الثمرة صاحب الشجرة نصفها، فوجهان بناء على اشتراط القطع هنا. ولو كانت الاشجار والثمار مشتركة بين رجلين، فاشترى أحدهما نصيب شريكه من الثمرة، لم يصح. ولو اشترى نصيب شريكه من الثمرة بنصيبه من الشجر، لم يجز مطلقا، ويجوز بشرط القطع، لان جملة الثمار تصير لمشترى الثمرة، وجملة الشجر للآخر، ويلزم مشترى الثمرة قطع الجميع، لانه بهذه المعاملة التزم قطع النصف المشترى، وتفريغ الاشجار لصاحبه، وبيع الشجرة على أن يفرغها البائع، جائز. وكذا لو كانت الاشجار لاحدهما، والثمرة بينهما، فاشترى صاحب الشجر نصيب صاحبه من الثمر بنصف الشجر على شرط القطع، جاز. فرع لا يصح بيع الزرع الاخضر إلا بشرط القطع. فإن باعه مع الارض، جاز تبعا. وكذا لا يجوز بيع البقول في الارض دون الارض إلا بشرط القطع أو القلع، سواء كان مما يجز مرارا، أو لا يجز إلا مرة، هكذا نقله صاحب التهذيب وغيره في البقول. وقال الغزالي: بيع أصول البقول لا يتقيد بشرط القطع، إذ لا تتعرض للآفة. وبيع الزرع بعد اشتداد حبه، كبيع الثمر بعد صلاحه،(3/214)
فلا يحتاج إلى شرط القطع. فرع يشترط ظهور المقصود. فإذا باع ثمرة لا كمام لها، كالتين والعنب والكمثرى، جاز، سواء باعها على الشجرة، أو على الارض. ولو باع الشعير أو السلت مع سنبله، جاز بعد الحصاد وقبله، لان حباته ظاهرة. ولو كانت للثمر أو الحب كمام لا يزال إلا عند الاكل، كالرمان والعلس، فكمثل. وأما ما لكمامان يزال أحدهما، ويبقى الآخر إلى وقت الاكل، كالجوز واللوز والرانج، فيجوز بيعه في القشر الاسفل، ولا يجوز في الاعلى، لا على الشجر، ولا على الارض. وفي قول: يجوز في القشر الاعلى ما دام رطبا. وبيع الباقلاء في القشر الاعلى، فيه هذا الخلاف. وادعى إمام الحرمين، أن الظاهر فيه الصحة، لان الشافعي رضي الله عنه، أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب. قلت: المنصوص في الام: أنه لا يصح بيعه. قال صاحب التهذيب وغيره: هو الاصح، وبه قطع صاحب التنبيه. هذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبا. فإن بقي في قشره الاعلى، فيبس، لم يجز بيعه وجها واحدا إذا لم نجوز بيع الغائب، كذا قاله الامام وصاحب التهذيب وغيرهما. وحكى فيه صاحب التتمة وجها: أنه يصح وإن أبطلنا بيع(3/215)
الغائب. ويصح بيع طلع النخل مع قشره في الاصح. والله أعلم. وأما ما لا يرى حبه في سنبله، كالحنطة، والعدس، والسمسم، فما دام في سنبله، لا يجوز بيعه مفردا عن سنبله قطعا، ولا معه على الجديد الاظهر، كبيع تراب الصاغة، وكبيع الحنطة في تبنها، فإنه لا يصح قطعا. وفي الارز، طريقان. المذهب: أنه كالشعير، فيصح بيعه في سنبله. وقيل: كالحنطة. ولا يصح بيع الجزر، والثوم، والبصل، والفجل، والسلق في الارض، لتستر مقصودها. ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع. ويجوز بيع القنبيط في الارض، لظهوره، وكذا نوع من السلجم يكون ظاهرا. ويجوز بيع اللوز في القشر الاعلى قبل انعقاد الاسفل، لانه مأكول كله كالتفاح. وهل المنع في صور ا لفرع مقطوع به، أم مفرع على منع بيع الغائب ؟ قال الامام: هو مفرع عليه. فإن جوزنا بيع الغائب صح البيع في جميعها. وفي التهذيب: أن المنع في بيع الجزر ونحوه في الارض، ليس مفرعا عليه، لان في بيع الغائب يمكن رد المبيع بعد الرؤية بصفته، وهنا لا يمكن. قلت: هذا أصح، ونقله الماوردي عن جمهور الاصحاب. ونقل عن بعضهم كقول إمام الحرمين في الجزر ونحوه. والله أعلم. وإذا قلنا بالمنع، فباع الجوز مثلا في القشر الاعلى مع الشجرة، أو باع الحنطة في سنبلها مع الارض، فطريقان. أحدهما: يبطل في الجوز والحنطة، وفي الشجرة والارض قولا تفريق الصفقة. وأصحهما: القطع بالبطلان - في الجميع، للجهل بأحد المقصودين، وتعذر التوزيع. ولو باع أرضا مبذورة مع البذر، فقيل: يصح في البذر أيضا تبعا للارض. والمذهب: بطلان البيع فيه. ثم في الارض الطريقان. ومن قال بالصحة في الارض، لا يذهب إلى التوزيع، بل يوجب جميع الثمن بناء على قولنا في تفريق الصفقة، بأخذ جميع الثمن. فصل لا يصح بيع المحاقلة، وهو أن يبيع الحنطة في سنبلها بكيل(3/216)
معلوم من الحنطة. ولبطلانه علتان. إحداهما: أنه بيع حنطة وتبن بحنطة، وذلك ربا. والثانية: أنه بيع حنطة في سنبلها. فلو باع شعيرا في سنبله بحنطة خالصة، وتقابضا في المجلس، أو باع زرعا قبل ظهور الحب بحب، جاز، لان الحشيش غير ربوي. فصل قد سبق أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر، ويستثنى منه بيع العرايا، فإنه جائز، وهو أن يبيع رطب نخلة أو نخلات باعتبار الخرص بقدر كيلها من التمر، ولا يصح إلا بالخرص. ويشترط التقابض في المجلس بتسليم التمر إلى البائع بالكيل، وتخلية البائع بينه وبين النخلة. فإن كان التمر غائبا عنهما، أو كانا غائبين عن النخل، فأحضراه، أو حضرا عند النخل، جاز. ثم إن لم يظهر تفاوت بين التمر المجعول عوضا، وبين ما في الرطب من التمر، بأن أكيل الرطب في الحال، فذاك. وإن ظهر، نظر، فإن(3/217)
كان قدر ما يقع بين الكيلين، لم يضر. وإن كان أكثر، فالعقد باطل. وفي وجه ضعيف: يصح في قدر القليل من الكثير، ولمشترى الكثير الخيار. ويجوز بيع العرايا في العنب كالرطب، ولا يجوز في سائر الثمار على الاظهر. ويجوز فيما دون خمسة أسوق من التمر، لا فيما زاد على الخمسة قطعا، ولا في خمسة على الاظهر. هذا إذا باع في صفقة. فلو باع قدرا كثيرا في صفقات لا تزيد كل واحدة على ما ذكرنا، جاز. وكذا لو باع في صفقة لرجلين بحيث يخص كل واحد القدر الجائز. فلو باع رجلان لرجل، فوجهان. أصحهما: أنه كبيع رجل لرجلين. والثاني: كبيعه لرجل صفقة. ولو باع رجلان لرجلين صفقة، لم يجز فيما زاد على عشرة أوسق، ويجوز فيما دون العشرة. وفي العشرة القولان. قلت: وسواء في هذه الصور كانت العقود في مجلس أو مجالس. حتى لو باع رجل لرجل ألف وسق في مجلس واحد بصفقات كل واحدة دون خمسة أوسق، جاز. والله أعلم. وجميع ما ذكرنا في بيع الرطب بالتمر، فلو باع رطبا على النخل، برطب على النخل خرصا فيهما، أو برطب على الارض كيلا فيه، فأوجه. أصحها: لا يجوز، قاله الاصطخري. والثاني: يجوز، قاله ابن خيران. والثالث: إن اختلف نوعهما، جاز، وإلا، فلا، قاله أبو إسحق. والرابع: جريان هذا التفصيل إن كانا على النخل، فإن كان أحدهما على الارض، لم يجز، حكي أيضا عن أبي إسحق. ولو باع الرطب بالرطب على الارض، لم يصح على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقال القفال: فيه هذا الخلاف، لانه إذا جاز البيع وهما على النخل، وإحتملت جهالة الخرص، فالجواز مع تحقق المساواة بالكيل أولى. فرع يجوز بيع العرايا للمحتاجين، وفي الاغنياء قولان. أظهرهما: الجواز.(3/218)
فصل إذا باع الثمرة بعد بدو الصلاح، لزمه سقيها قبل التخلية وبعدها بقدر ما تنمى به الثمار وتسلم من التلف والفساد. فلو شرط كون السقي على المشترى، بطل البيع، ثم المشترى يتسلط على التصرف في الثمرة بعد تخلية البائع بينه وبينها من كل وجه. فإن عرضت جائحة من حر، أو برد، أو جراد، أو حريق، أو نحوها قبل التخلية، فهي من ضمان البائع. فإن تلف جميع الثمار، انفسخ البيع. وإن تلف بعضها، انفسخ فيه. وفي الباقي قولا التفرق. وإن عرضت بعدها، فإن كان باعها بعد بدو الصلاح، فقولان. الجديد الاظهر: أن الجوائح من ضمان المشترى. والقديم: أنها من ضمان البائع. ولا فرق على القولين، بين أن يشرط القطع، أم لا. وقيل: إن شرطه، كانت من ضمان المشترى قطعا، لتفريطه، ولانه لا علقة بينهما، إذ لا يجب السقي على البائع هنا، وحكي هذا عن القفال. وقيل: إن شرطه، كانت من ضمان البائع قطعا، لان ما شرط قطعه، فقبضه بالقطع والنقل، فقد تلفت قبل القبض. ويتفرع على كونها من ضمان البائع، فروع. أحدها: أن المحكوم بكونه من ضمان البائع، ما تلف قبل وقت الجداد أما ما تلف بعد وقت الجداد، وإمكان النقل، فمن ضمان المشترى على الاظهر. وقيل: على الاصح لتقصيره. وعلى الثاني: من ضمان البائع، لعدم التسليم التام. قال الامام: وهذا الخلاف إذا لم يعد مقصرا مضيعا بتأخيره، كاليوم واليومين. فإن عد، فلا مساغ للخلاف. الثاني: لو تلف بعض الثمر، فالحكم على هذا القول كما لو تلف قبل التخلية. ولو عابت الثمرة بالجائحة، ثبت الخيار على هذا القول، كما لو عابت قبل(3/219)
التخلية. وعلى الجديد: لا يثبت. الثالث: لو ضاعت الثمرة بغصب أو سرقة، فالمذهب: أنها من ضمان المشترى، وبه قطع الاكثرون. وقيل: على القولين فالجائحة، وبه قطع العراقيون. قلت: إذا قلنا بالقديم، فاختلفا في الفائت بالجائحة، فقال البائع: ربع الثمرة. وقال المشترى: نصفها، فالقول قول البائع، لان الاصل براءة ذمته وعدم الهلاك. قال في التتمة: لو اختلفا في وقوع الجائحة، فالغالب أنها لا تخفى، فإن لم تعرف أصلا، فالقول قول البائع بلا يمين. وإن عرف وقوعها عاما، فالقول قول المشترى بلا يمين وإن أصابت قوما دون قوم، فالقول قول البائع بيمينه، لان الاصل عدم الهلاك ولزوم الثمن. والله أعلم. فرع هذا الذي ذكرناه من القولين، هو في الجوائح السماوية التي لا تنسب إلى البائع بحال. فأما إن ترك السقي وعرضت في الثمار آفة بسبب العطش. فإن تلفت، فالمذهب: القطع بانفساخ العقد. وقيل: فيه القولان كالسماوية. فإن قلنا: لا انفساخ، لزم البائع الضمان بالقيمة، أو المثل. وإنما يضمن ما تلف، ولا ينظر إلى ما كان ينتهي إليه لولا العارض. وإن تعيبت، فللمشترى الخيار. وإن قلنا: الجائحة من ضمانه، لان الشرع ألزم البائع تنمية الثمار بالسقي، فالتعيب الحادث بترك السقي، كالعيب المتقدم على القبض. وإن أفضى التعيب إلى تلف، نظر، إن لم يشعر به المشترى حتى تلف، عاد الخلاف في الانفساخ، ولزم البائع الضمان إن قلنا: لا انفساخ ولا خيار بعد التلف، كذا قاله الامام. وإن شعر به ولم يفسخ حتى تلف، فوجهان. أحدهما: يغرم البائع، لعدوانه. والثاني: لا، لتقصير المشترى بترك الفسخ. فرع باع الثمر مع الشجر، فتلف الثمر بجائحة قبل التخلية، بطل العقد فيه. وفي الشجر القولان. وإن تلف بعد التخلية، فمن ضمان المشترى بلا خلاف. قلت: ولو كانت الثمرة لرجل، والشجر لآخر، فباعها لصاحب الشجرة،(3/220)
وخلى بينهما، ثم تلفت، فمن ضمان المشترى بلا خلاف، لانقطاع العلائق. والله أعلم. فرع اشترى طعاما مكايلة، وقبضه جزافا، فهلك في يده، ففي انفساخ البيع وجهان، لبقاء الكيل بينهما. فرع من العوارض، اختلاط الثمار المبيع بغيرها لتلاحقها. فأما الاختلاط الذي يبقى معه التمييز، فلا اعتبار به. وأما غيره، فإذا باع الثمرة بعد بدو الصلاح والشجرة تثمر في السنة مرتين، نظر، إن كان ذلك مما يغلب التلاحق فيه، وعلم أن الحمل الثاني يختلط بالاول، كالتين، والبطيخ، والقثاء، والباذنجان، لم يصح البيع، إلا أن يشرط أن المشترى يقطع ثمرته عند خوف الاختلاط. وفي قول أو وجه: أنه موقوف. فإن سمح البائع بما حدث، تبين انعقاد البيع، وإلا، فلا. ثم إذا شرط القطع فلم يتفق حتى اختلط، فهو كالتلاحق فيما يندر. وإن كان مما يندر فيه التلاحق، وعلم عدم الاختلاط، أو لم يعلم كيف يكون الحال، فيصح البيع مطلقا، وبشرط القطع والتبقية. ثم إن حصل الاختلاط، فله حالان. أحدهما: أن يحصل قبل التخلية، فقولان. أحدهما: ينفسخ البيع، لتعذر التسليم قبل القبض. وأظهرهما: لا، لبقاء عين المبيع، فعلى هذا، يثبت للمشترى الخيار. وفي قول ضعيف: لا خيار. والاختلاط قبل القبض، كهو بعده. ثم إن سمح البائع بترك الثمرة الجديدة للمشترى، سقط خياره على الاصح كما سبق في نعل الدابة. وإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فلم يتفق القطع حتى اختلطت، جرى القولان في الانفساخ، ويجريان فيما إذا باع حنطة فانصب عليها مثلها قبل القبض، وكذا في المائعات. وإن اختلط الثوب بأمثاله،(3/221)
أو الشاة المبيعة بأمثالها، فالصحيح الانفساخ. وفي وجه: لا، لامكان تسليمه بتسليم الجميع. ولو باع جزة من القت بشرط القطع، فلم يقطعها حتى طالت، وتعذر التمييز، جرى القولان. وقيل: لا ينفسخ هنا قطعا، تشبيها لطولها بكبر الثمرة والشجرة، وبنماء الحيوان، وهو ضعيف، لان البائع يجبر على تسليم الاشياء المذكورة بزيادتها، وهنا لا يجبر على تسليم ما زاد. الحال الثاني: أن يحصل الاختلاط بعد التخلية، فطريقان. أحدهما: القطع بعدم الانفساخ. وأصحهما عند الجمهور: أنه على القولين. فإن قلنا: لا انفساخ، فإن تصالحا وتوافقا على شئ، فذاك، وإلا، فالقول قول صاحب اليد في قدر حق الآخر. ولمن اليد في صورة الثمار ؟ فيه أوجه. أحدها: للبائع. والثاني: للمشترى. والثالث: لهما. وفي صورة الحنطة للمشترى، فإن كان المشترى أودعه الحنطة بعد القبض ثم اختلطت، فالقول قول البائع. فرع باع شجرة عليها ثمرة للبائع، وهي مما تثمر في السنة مرتين، ويغلب تلاحقها، لا يصح البيع إلا بشرط قطع البائع ثمرته عند خوف الاختلاط، ويجئ فيه الخلاف المذكور فيما إذا كان المبيع هو الثمرة. ثم إذا تبايع بهذا الشرط، فلم يتفق القطع حتى اختلطا، أو كانت الشجرة مما يندر فيها التلاحق والاختلاط، فاتفق وقوعه، فطريقان. قال الاكثرون: في الانفساخ القولان. وقيل: لا انفساخ قطعا. فإن قلنا: لا انفساخ، فسمح البائع بترك الثمرة القديمة، أجبر المشترى على القبول. وإن رضي المشترى بترك الثمرة الحادثة، أجبر البائع على القبول وأقر العقد. ويحتمل خلاف في الاجبار، فأن استمرا على النزاع، فالمثبتون للقولين قالوا: يفسخ العقد. والقاطعون قالوا: لا فسخ، بل أيهما كانت الثمرة والشجرة في يده، فالقول قوله في قدر ما يستحقه الآخر. قال في التهذيب: هذا هو القياس، لان الفسخ لا يرفع النزاع، لبقاء الثمرة الحادثة(3/222)
للمشترى. وإن قلنا بالانفساخ، استرد المشترى الثمن ورد الشجرة مع جميع الثمار، قاله في التتمة.
باب معاملات العبيد
العبد مأذون له في التجارة، وغيره. الاول: المأذون له، فيجوز للسيد أن يأذن لعبده في التجارة وسائر التصرفات، كالبيع والشراء بالاجماع. ويستفيد بالاذن في التجارة كل ما يندرج تحت اسمها، وما كان من لوازمها وتوابعها، كالنشر، والطي، وحمل المتاع إلى الحانوت، والرد بالعيب، والمخاصمة في العهدة، ونحوها. ولا يستفيد غير ذلك، هذا جملة القول فيه. وتفصيله بصور. إحداها: ليس للمأذون في التجارة أن ينكح، كما ليس للمأذون في النكاح أن يتجر. الثانية: لا يجوز أن يؤجر نفسه على الصحيح، وله أن يؤجر مال التجارة(3/223)
كعبيدها وثيابها ودوابها على الاصح. الثالثة: إذا أذن له في التجارة في نوع، أو شهر، أو سنة، لم يتجاوز المأذون. الرابعة: لو دفع إليه ألفا وقال: اتجر فيه، فله أن يشترى بعين الالف، وبقدره في الذمة، ولا يزيد. ولو قال: اجعله رأس مالك، وتصرف أو اتجر، فله أن يشترى بأكثر من الالف. الخامسة: ليس للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة. فإن أذن له فيه السيد، جاز، ثم ينعزل المأذون الثاني بعزل السيد، سواء انتزعه من يد المأذون الاول، أم لا. وهل له أن يوكل عبده في آحاد التصرفات ؟ وجهان. أصحهما عند الامام والغزالي: نعم. والثاني: لا، وهو مقتضى كلام صاحب التهذيب. قلت: وليس له أن يوكل أجنبيا، كالوكيل لا يوكل، بخلاف المكاتب، لانه يتصرف لنفسه. والله أعلم. السادسة: لا يتخذ دعوة للمجهزين، ولا يتصدق، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة، لانه ملك السيد، ولا يعامل سيده بيعا وشراء. السابعة: ما كسبه المأذون بالاحتطاب، والاصطياد، والاتهاب، وقبول الوصية، والاخذ من المعدن، هل يضم إلى مال التجارة حتى يتصرف فيه ؟ فيه وجهان. أصحهما في التهذيب: نعم، لانها من الاكساب. والثاني: لا، وبه(3/224)
قطع الفوراني، والامام، والغزالي. الثامنة: لا ينعزل المأذون بالاباق، بل له التصرف في البلد الذي صار إليه، إلا إذا خص السيد الاذن بهذا البلد. قلت: وفي التتمة وجه ضعيف: أنه لا يصح تصرفه في الغيبة. والله أعلم. التاسعة: له أن يأذن في التجارة لمستولدته قطعا. ولو أذن لامته، ثم استولدها، لم تنعزل على الصحيح. العاشرة: لو رأى عبده يبيع ويشتري، فسكت عنه، لم يصر مأذونا. الحادية عشرة: لو ركبته الديون، لم يزل ملك سيده عما في يده. فلو تصرف فيه ببيع، أو هبة، أو إعتاق بإذن المأذون والغرماء، جاز، ويبقى الدين في ذمة العبد. وإن أذن العبد دون الغرماء، لم يجز. وإن أذنوا دونه، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يجوز. وصححه البغوي، لان الدين يتعلق بذمة العبد ولم يرض. والله أعلم. الثانية عشرة: إقرار المأذون بدين المعاملة مقبول، سواء أقر لابيه أو ابنه، أو لاجنبي. الثالثة عشرة: لا. يجوز أن يبيع بنسيئة، ولا بدون ثمن المثل، ولا يسافر بمال التجارة إلا بإذن السيد، ولا يتمكن من عزل نفسه، بخلاف الوكيل.(3/225)
قلت: ولو كان لرجلين عبد، فأذن له أحدهما في التجارة، لم يصح حتى يأذن الآخر، كما لو أذن له في النكاح، لا يصح حتى يأذن الآخر. والله أعلم. فرع قال صاحب التتمة: في جواز معاملة من لا يعرف رقه وحريته، قولان. أظهرهما: الجواز. لان الاصل والغالب الحرية. والثاني: المنع، لان الاصل بقاء الحجر. وقطع إمام الحرمين بالجواز. ومن عرف رقة، لم يجز له أن يعامله حتى يعرف إذن السيد. ولا يكفي قول العبد: أنا مأذون، كما لو زعم الراهن إذن المرتهن في بيع المرهون، وإنما يعرف كونه مأذونا بسماع الاذن من السيد، أو ببينة. فإن شاع في الناس كونه مأذونا، كفى على الاصح. وإذا علم كونه مأذونا، فقال: حجر علي السيد، لم تجز معاملته. فإن قال السيد: لم أحجر عليه، فوجهان. أصحهما: لا يعامل أيضا، لانه العاقد، وهو يقول: العقد باطل. ولو عامل المأذون من يعلم رقه، ولم يعلم الاذن، فبان مأذونا، قال الائمة: هو كمن باع مال أبيه على أنه حي فبان ميتا، ومثله قولان حكاهما الحليمي فيما إذا ادعى الوكالة فكذبه، فعامله، ثم بان أنه وكيل. قلت: ولو باع مالا يظنه لنفسه، فبان مال أبيه وكان متيا حال العقد، صح بلا خلاف، كذا نقله الامام عن شيخه. والله أعلم. فرع لو علم كونه مأذونا فعامله، ثم امتنع من التسليم إليه حتى يشهد على الاذن، فله ذلك خوفا من إنكار السيد، كما لو صدق مدعي الوكالة بقبض الحق، ثم امتنع من التسليم حتى يشهد الموكل على الوكالة. فصل إذا باع المأذون سلعة، وقبض الثمن، فاستحقت وقد تلف الثمن في يد العبد، فللمشتري الرجوع ببدله على العبد على الصحيح، لانه مباشر(3/226)
العقد. وفي وجه: لا يرجع عليه، لان يده يد السيد. وفي مطالبته السيد أوجه. أصحها: يطالب أيضا، لان العقد له. والثاني: لا. والثالث: إن كان في يد العبد وفاء، لم يطالب، وإلا، فيطالب. وقال ابن سريج: إن كان السيد دفع إليه عين مال وقال: بعها وخذ ثمنها واتجر فيه، أو قال: اشتر هذه السلعة وبعها واتجر في ثمنها، ففعل، ثم ظهر الاستحقاق، فطالبه المشتري بالثمن، فله أن يطالب السيد بقضاء الدين عنه، لانه أوقعه فيه. وإن إشترى باختياره سلعة وباعها، ثم ظهر الاستحقاق، فلا. ولو اشترى المأذون شيئا للتجارة، ففي مطالبة السيد بالثمن هذه الاوجه. والوجه الاول والثاني جاريان في رب المال مع عامل القراض. ولو سلم الرجل إلى وكيله ألفا، وقال: اشتر لي عبدا وأد هذا الالف في ثمنه، فاشترى الوكيل، ففي مطالبة الموكل طريقان. أقيسهما: طرد الوجهين. والثاني: القطع بالمطالبة، ولا حكم لهذا التعيين. وإذا توجهت المطالبة على العبد، ثم تندفع بعتقه. وفي رجوعه بالمغروم بعد العتق على سيده، وجهان. أصحهما: لا يرجع. فصل لو سلم إلى عبده ألفا ليتجر فيه، فاشترى بعينه شيئا، ثم تلف الالف في يده، انفسخ البيع. وإن اشترى في الذمة على عزم صرف الالف في الثمن، فأربعة أوجه. أصحها: لا ينفسخ العقد، بل أن أخرج السيد ألفا آخر، امضي العقد، وإلا، فللبائع فسخه. والثاني: يجب على السيد ألف آخر. والثالث: يجب الثمن في كسب العبد. والرابع: ينفسخ العقد. فإذا قلنا: على السيد ألف آخر، فهل يتصرف العبد فيه بالاذن السابق، أم يشترط إذن جديد ؟ وجهان. قال الامام: وإنما يطالب بالالف الجديد البائع دون العبد. ولا شك أن العبد لا يمد يده إلى ألف من مال السيد، وأنه لا يتصرف فيما يسلمه البائع. وإنما تظهر فائدة الوجهين، فيما لو ارتفع العقد بسبب ورجع الالف. قلت: قال صاحب التهذيب: لو اشترى المأذون شيئا بعرض، فتلف الشئ ثم خرج العرض مستحقا، فالقيمة في كسبه، أم على السيد ؟ وجهان. والله أعلم. فصل ديون معاملات المأذون، تؤدى مما في يده من مال التجارة، سواء الارباح الحاصلة بتجارته ورأس المال. وهل تؤدى من أكسابه بغير التجارة(3/227)
كالاحتطاب والاصطياد ؟ وجهان. أحدهما: لا، كسائر أموال السيد. وأصحهما: نعم. كما يتعلق به المهر ومؤن النكاح، ثم ما فضل، يكون في ذمته إلى أن يعتق، ولا يتعلق برقبته، ولا بذمة السيد قطعا، ولا بما يكسبه المأذون بعد الحجر على الاصح. وإذا باعه السيد، أو أعتقه، صار محجورا عليه على الاصح. وفي قضاء ديونه مما يكسبه في يد المشتري، الخلاف المذكور فيما كسبه بعد الحجر عليه. ولو كان للمأذون لها أولاد، لم يتعلق الدين بهم. ولو أتلف السيد ما في يد المأذون من مال التجارة، لزمه ما أتلف بقدر الدين. ولو قتله السيد وليس في يده مال، لم يلزمه قضاء الديون. فرع لو تصرف السيد فيما في يد المأذون ببيع أو هبة أو إعتاق، ولا دين على المأذون، جاز. وفي وجه ضعيف: يشترط أن يقدم عليه حجرا. وإن كان عليه دين، فقد سبق حكم تصرفه. فرع لو أذن لعبده في التجارة مطلقا، ولم يعين مالا، فعن أبي طاهر الزيادي، أنه لا يصح هذا الاذن. وعن غيره: أنه يصح، وله التصرف في أنواع أمواله. وقد بقيت من أحكام المأذون مسائل مذكورة في موضعها. قلت: قال في التهذيب: لو جني على المأذون، أو كانت أمة فوطئت(3/228)
بشبهة، لا تقضى ديون التجارة من الارش والمهر. ولو اشترى المأذون من يعتق على سيده بغير إذنه، لم يصح على الاظهر. فإن قلنا: يصح، ولم يكن على المأذون دين، عتق على المولى. وإن كان دين، ففي عتقه قولان، كما لو اشترى بإذن المولى. وإن اشترى بإذنه، صح. فإن لم يكن على المأذون دين، عتق. وإن كان، فقولان. أحدهما: لا يعتق. والثاني: يعتق ويغرم قيمته للغرماء. ولو مات المأذون وعليه ديون مؤجلة، وفي يده أموال، حلت المؤجلة، كما تحل بموت الحر، ذكره القاضي حسين في الفتاوى. والله أعلم. فصل وأما غير المأزون، فقد يكون مأذونا في غير التجارة، وقد لا يكون مأذونا أصلا. وأحكامه مفرقة في أبوابها، لكن نذكر منها طرفا، فليس للعبد أن يتزوج بغير إذن السيد، وهكذا حكم كل تصرف يتعلق برقبته. فإن وصي له، أو وهب له، كان وصية وهبة لسيده. وفي صحة قبوله فيهما بغير إذن سيده، وجهان. والاصح: الصحة، كما لو خالع، صح، ودخل العوض في ملك سيده قهرا. وفي صحة ضمانه وجهان مذكوران بفروعهما في بابه. وفي صحة شرائه بغير إذن سيده، طريقان. أحدهما: القطع ببطلانه. وأصحهما: على وجهين. أصحهما: البطلان، فإن صححناه، فالثمن في ذمته. وذكروا وجهين. أحدهما: أن الملك للسيد. ثم إن علم البائع رقه، لم يطالبه بشئ حتى يعتق، وإلا، فله الخيار، إن شاء صبر إلى العتق، وإن شاء فسخ ورجع إلى عين ماله. والثاني: أن الملك للعبد، ثم السيد بالخيار بين أن يقره عليه، وبين أن ينزعه منه. وللبائع الرجوع إلى عين المبيع ما دام في يد العبد، لتعذر الثمن، كالافلاس. وإن تلف في يده، فليس له إلا الصبر، إلى أن يعتق. وإن انتزعه السيد، فليس للبائع الرجوع فيه على الصحيح الذي قاله الاكثرون، كما لو زالت يد المفلس عما اشتراه. وفي وجه: يرجع فيأخذه من السيد. وأما إذا أبطلنا شراءه، فللمالك استرداد العين ما دامت باقية، سواء كانت في يد السيد، أو العبد. فإن تلفت في يد العبد، تعلق الضمان بذمته. وإن تلفت في يد السيد، فللبائع مطالبته، وله مطالبة العبد بعد العتق. وإن أدى الثمن من مال السيد، فله استرداده، ولا يجب على السيد الضمان إذا رآه فلم يأخذه من يد العبد. والاستقراض كالشراء في جميع ما ذكرناه. فرع للعبد إجارة نفسه بإذن سيده، وله بيعها ورهنها على الاصح. ولو(3/229)
اشترى أو باع لغيره بالوكالة بغير إذن السيد، لم يصح على الاصح، لتعلق العهدة بالوكيل. فصل لا يملك العبد بتمليك غير سيده. وفي ملكه بتمليك سيده، قولان. الاظهر الجديد: لا يملك. فعلى القديم: للسيد الرجوع فيه متى شاء، وليس للعبد التصرف فيه لا بإذن سيده. فلو كان له عبدان، فملك كل واحد منهما صاحبه، فالحكم للتمليك الثاني، وهو رجوع عن الاول. فإن وقعا معا من وكيلين، تدافعا. فإن ملكه جارية، وقلنا بالقديم، فهل للعبد وطؤها ؟ فيه أوجه. الصحيح: يجوز بإذن السيد، ولا يجوز بغيره. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا، لضعف ملكه. قلت: قال في التهذيب: لو أولدها، فالولد مملوك للعبد، ولا يعتق عليه، لنقصان ملكه. فإذا عتق، عتق الولد. قال: والمدبر، والمعلق عتقه على صفة، كالقن، فلا يحل لهم الوطئ على الجديد وإن أذن السيد فيه. وفي حله على القديم ما ذكرنا. ومن بعضه حر، إذا ملك بحريته مالا، فاشترى جارية، ملكها، ولا يحل له وطؤها على الجديد، ويحل في القديم بإذن اليد، ولا يحل بغير إذنه، لان بعضه مملوك، فلم يصح التسري. ولا يحل للمكاتب التسري بغير إذن سيده، وبإذنه قولان، كتبرعه. وقيل: إن حرمنا التسري على العبد، فالمكاتب أولى، وإلا، فقولان. والله أعلم.
باب اختلاف المتبايعين وتحالفهما
إذا اختلفا في قدر الثمن، أو جنسه، أو صفته، أو شرط الخيار أو الاجل، أو قدرهما، أو في شرط الرهن أو الكفيل مع الاتفاق على عقد صحيح، فإن كان لاحدهما بينة، قضي بها. فإن أقاما بينتين وقلنا بالتساقط، فكأنه لا بينة، وإلا،(3/230)
توقفنا إلى ظهور الحال. وإن لم تكن بينة، تحالفا، سواء كانت السلعة باقية أو تالفة، وسواء اختلف المتبايعان أو ورثتهما، وكذا لو اختلفا في قدر المبيع، فقال البائع: بعتك العبد بألف، فقال: بعتنيه مع الجارية بألفين، تحالفا. فلو قال البائع: بعتك العبد، فقال: بل الجارية، واتفقا على الثمن، فإن كان الثمن معينا، تحالفا. وإن كان في الذمة، فوجهان. أحدهما: يتحالفان، قاله ابن الحداد، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ. والثاني: لا، قاله الشيخ أبو حامد، واختاره الامام، وصاحب التهذيب. فإن قلنا: لا تحالف، حلف كل واحد على نفي ما ادعي عليه فقط، ولا يتعلق بيمينيهما فسخ ولا انفساخ. ولو كانت بحالها وأقام كل واحد بينة توافقه، سلمت الجارية للمشتري. وأما العبد، فقد أقر البائع ببيعه، وقامت البينة عليه. فإن كان في يد المشتري، أقر عنده. وإن كان في يد البائع، فوجهان. أحدهما: يسلم إلى المشتري ويجبر على قبوله. والثاني: لا يجبر، بل يقبضه الحاكم وينفق عليه من كسبه. فإن لم يكن له كسب، ورأى الحظ في بيعه وحفظثمنه، فعل. فرع يجري التحالف في جميع عقود المعاوضات، كالسلم، والاجارة والقراض، والمساقاة، والجعالة، والصلح عن الدم، والكتابة. ثم في البيع ونحوه، يفسخ العقد بعد التحالف، أو ينفسخ ويترادان، كما سيأتي إن شاء الله(3/231)
تعالى. وفي الصلح عن الدم، لا يعود استحقاقه، بل أثر التحالف الرجوع إلى الدية، وكذا لا يرجع البضع، بل في النكاح ترجع المرأة إلى مهر المثل. وفي الخلع يرجع إليه الزوج. قال الامام: إن قيل: أي معنى للتحالف في القراض، مع أن لكل واحد فسخه بكل حال، وقد منع القاضي حسين التحالف في البيع في زمن الخيار، لامكان الفسخ بالخيار ؟ فالجواب: أن التحالف ما وضع للفسخ، بل عرضت الايمان رجاء أن ينكل الكاذب، فيقرر العقد بيمين الصادق. فإن لم يتفق ذلك، وأصرا، فسخ العقد للضرورة، ونازع القاضي فيما ذكره، ثم مال إلى موافقته، ورأى في القراض أن يفصل فيقال: التحالف قبل الشروع في العمل لا معنى له، وبعده يؤول النزاع إلى مقصود من ربح أو أجرة مثل، فيتحالفان، والجعالة كالقراض. فرع لو قال: بعتك هذا بألف، فقال: بل وهبتنيه، فلا تحالف إذا لم يتفقا على عقد، بل يحلف كل واحد على نفي ما يدعى عليه. فإذا حلفا، لزم مدعي الهبة رده بزوائده على المشهور. وفي قول: القول قول مدعي الهبة. وشذ صاحب التتمة فحكى وجها: أنهما يتحالفان، وزعم أنه الصحيح. ولو قال: بعتكه بألف، فقال: وهبتنيه، حلف كل واحد على نفي ما ادعي عليه، ورد الالف، واسترد العين. ولو قال: وهبتكه بألف استقرضته، فقال: بل بعتنيه، فالقول قول المالك مع يمينه، ويرد الالف، ولا يمين على الآخر، ولا يكون رهنا، لانه لا يدعيه.
فصل وإن اختلفا من غير اتفاق على عقد صحيح، بأن يدعي أحدهما صحة العقد، والآخر فساده. مثل أن يقول: بعتك بألف، فقال: بل بألف وزق خمر، أو قال: شرطنا شرطا مفسدا، فأنكر، فلا تحالف. والاصح عند الاكثرين: أن القول قول من يدعي الصحة، وهو ظاهر نصه. كما لو قال: هذا الذي بعتنيه حر الاصل، فقال: بل هو مملوك، فإن القول قول البائع. والثاني: القول قول الآخر.(3/232)
ولو قال: بعتك بألف، فقال: بل بخمر، فعلى الوجهين. وفيل: يقطع بالفساد، فإذا قلنا: القول قول من يدعي الصحة، فقال: بعتك بألف، فقال: بل بخمسمائة وزق خمر، وحلف البائع على نفي سبب الفساد، صدق، وبقي النزاع في قدر الثمن، فيتحالفان.
فصل لو اشترى شيئا، فقبضه، ثم جاء بمعيب ليرده بالعيب، فقال البائع: ليس هذا هو الذي سلمته إليك، فالقول قول البائع، لان الاصل السلامة. فلو كان ذلك في السلم، فقال: ليس هذا على الوصف الذي سلمت إليك، فوجهان. أحدهما: القول قول المسلم إليه، كما أن القول قول البائع. وأصحهما: القول قول المسلم، لان اشتغال الذمة بمال السلم معلوم، والبراءة غير معلومة، ويخالف البيع، لانهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشراء، وتنازعا في سبب الفسخ، والاصل بقاء العقد. ويجري الوجهان في الثمن في الذمة، أن القول قول الدافع، أم القابض ؟ وعن ابن سريج وجه ثالث، يفرق بينما يمنع صحة القبض، وما لا يمنع. فإن كان الثمن دراهم في الذمة، وكان ما أراده البائع رده زيوفا، فالقول قول البائع، لانكاره أصل القبض الصحيح. وإن كانت ورقا رديئة النوع، لخشونة، أو اضطراب سكة، فالقول قول المشتري. ولا يخفى مثل هذا التفصيل في المسلم فيه. ولو كان الثمن معينا، فهو كالمبيع، فإذا وقع فيه هذا الخلاف، فالقول قول المشتري مع يمينه. قال في التهذيب: لكن لو كان المعين نحاسا لا قيمة له، فالقول قول الراد. وينبغي أن يكون هذا على الخلاف فيما إذا ادعى أحدهما صحة العقد، والآخر فساده.(3/233)
فرع اشترى طعاما كيلا، وقبضه بالكيل، أو وزنا، وقبضه بالوزن، أو أسلم فيه وقبضه، ثم جاء وادعى نقصا، فإن كان قدرا ينفع مثله في الكيل والوزن، قبل، وإلا، فلا على الاظهر. فرع اختلفا في القبض، فالقول قول المشتري. فرع باع عصيرا وأقبضه، ووجد خمرا، فقال البائع: تخمرفي يدك، فقال: بل سلمته خمرا فيكون القبض فاسدا، وأمكن صدقهما، فأيهما يصدق ؟ قولان. قلت: أظهرهما: تصديق البائع. والله أعلم. ولو قال أحدهما: كان خمرا عند البيع، فهذا يدعي فساد العقد، والآخر يدعي صحته، وقد سبق حكمه. وعلى هذا يقاس ما لو اشترى لبنا، فأخذه المشتري في ظرف، ثم وجدت فيه فأرة ميتة، وتنازعا في نجاسته عند البيع، أو عند القبض. فرع قال بعتنيه بشرط أنه كاتب، وأنكر البائع الشرط، فوجهان. أصحهما: يتحالفان، كاختلافهما في الاجل. واثاني: القول قول البائع، كاختلافهما في العيب. ولو كان الثمن مؤجلا، فاختلفا في انقضاء الاجل، فالاصل بقاؤه.
فصل في كيفية التحالف قاعدته: أن يحلف كل واحد على إثبات قوله، ونفي قول صاحبه. وفيمن يبدأ بيمينه ؟ طريقان. أحدهما: البائع.(3/234)
وأصحهما: أنه على ثلاثة أقوال. أظهرها: البائع. والثاني: المشتري. والثالث: يتساويان. وعلى هذا، وجهان. أصحهما: يتخير الحاكم فيبدأ بمن اتفق. والثاني: يقرع بينهما. ولو تحالف الزوجان في الصداق، فعلى الطريق الاول يبدأ بالزوج. وعلى الثاني: إن قدمنا البائع، فوجهان. أصحهما وأقربهما الى النص: يبدأ بالزوج. والثاني: بالمرأة. وإن قدمنا المشتري، فالقياس انعكاس الوجهين. ولا يخفى من ينزل منزلة البائع في سائر العقود. ثم جميع ما ذكرناه في الاستحباب دون الاشتراط، نص عليه الشيخ أبو حامد، وصاحبا التتمة والتهذيب. وتقديم أحد الجانبين، مخصوص بما إذا باع عرضا بثمن في الذمة. فأما إذا تبادلا عرضا بعرض، فلا يتجه إلا التسوية، قاله الامام. وينبغي أن يخرج على أن الثمن ماذا فرع المذهب، وظاهر النص: الاكتفاء بيمين واحدة - من كل واحد تجمع النفي والاثبات، فيقول البائع: ما بعت بخمسمائة، وإنما بعت بألف ويقول المشتري: ما اشتريت بألف، وإنما اشتريت بخمسمائة، وفيه قول ضعيف مخرج: أنه يحلف أولا على مجرد النفي. فإن اكتفينا بيمين تجمع النفي والاثبات، فحلف أحدهما، ونكل الآخر، قضي للحالف، سواء نكل عن النفي والاثبات معا، أو عن أحدهما. وينبغي أن يقدم النفي على الاثبات، لان النفي هو الاصل. وقال الاصطخري: يقدم الاثبات، لانه المقصود. والصحيح: الاول. وهذا الخلاف في الاستحباب على الاصح. وقيل: في الاستحقاق. فإذا قلنا بالمخرج:(3/235)
إنه يحلف أولا على مجرد النفي، فأضاف إليه الاثبات، كان لغوا. فإذا حلف من ابتدئ به، عرضنا اليمين على الآخر. فإن نكل، حلف الاول يمينا ثانية على الاثبات، وقضي له، وإن نكل عن الاثبات، لم يقض له. قال الشيخ أبو محمد: ويكون كما لو تحالفا، لان نكول المردود عليه عن يمين الرد، نازل في الدعاوى منزلة حلف الناكل أولا. ولو نكل الاول عن يمين النفي أولا، حلف الآخر على النفي والاثبات، وقضي له. ولو حلفا على النفي، فوجهان. أصحهما وبه قال الشيخ أبو محمد: يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى يمين الاثبات، لان المحوج إلى الفسخ جهالة الثمن وقد حصلت. والثاني: تعرض يمين الاثبات عليهما. فإن حلفا، تم التحالف. وإن نكل أحدهما، قضي للحالف. والكلام على هذا القول المخرج في تقديم النفي أو الاثبات كما ذكرنا، على المذهب. فلو نكلا جميعا، فوجهان. أحدهما: أنه كتحالفهما. والثاني: يوقف الامر وكأنهما تركا الخصومة. قلت: هذان الوجهان، ذكرهما إمام الحرمين احتمالين لنفسه، وذكر أن أئمة المذهب لم يتعرضوا لهذه المسألة، ثم ذكر في آخر كلامه أنه رأى التوقف لبعض المتقدمين. وقال الغزالي في البسيط: له حكم التحالف على الظاهر. والاصح: اختيار التوقف. والله أعلم. فصل إذا تحالفا، فالصحيح المنصوص: أنه لا ينفسخ العقد بمجرد التحالف وفي وجه: ينفسخ، حكي ذلك عن أبي بكر الفارسي، فإن قلنا: ينفسخ، فتصادقا بعده، لم يعد البيع، بل لا بد من تجديد عقد. وهل ينفسخ في الحال، أو نتبين ارتفاعه من أصله ؟ وجهان. أصحهما: الاول، لنفوذ تصرفات المشتري قبل الاختلاف. وإن قلنا: لا ينفسخ، دعاهما الحاكم بعد التحالف إلى الموافقة، فإن دفع المشتري ما طلبه البائع، أجبر عليه البائع، وإلا، فإن قنع بما قاله المشتري، فذاك، وإ، فيفسخ العقد. وفي من يفسخ وجهان. أحدهما: الحاكم. وأصحهما للعاقدين أيضا أن يفسخا، ولاحدهما أن ينفرد به كالفسخ بالعيب. قال الامام: وإذا قلنا: الحاكم هو الذي يفسخ، فذاك إذا استمرا على النزاع ولم يفسخا، أو التمسا الفسخ. أما إذا أعرضا عن الخصومة، ولم يتفقا على شئ، ولا فسخا، ففيه تردد. ثم إذا فسخ العقد، ارتفع في الظاهر. وفي ارتفاعه(3/236)
في الباطن، ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كان البائع صادقا، ارتفع، لتعذر وصوله إلى حقه. كما لو فسخ بإفلاسه. وإن كان كاذبا، فلا، لتمكنه بالصدق من حقه. وهل يجري مثل هذا الخلاف إذا قلنا: ينفسخ بمجرد التحالف، أم يقطع بالارتفاع باطنا ؟ وجهان. فإذا قلنا: يرتفع باطنا، ترادا، وتصرف كل واحد فيما عاد إليه. وإن منعناه، لم يجز لهما التصرف، لكن إن كان البائع صادقا، فقد ظفر بمال من ظلمه، وهو المبيع الذي استرده، فله بيعه بالحاكم على وجه، وبنفسه على الاصح، ويستوفي حقه من ثمنه. وقال الامام: إن صدر الفسخ من المحق، فالوجه تنفيذه باطنا. وإن صدر من المبطل، فالوجه منعه. وإن صدر منهما، فلا شك في الانفساخ باطنا، وليس ذلك موضع الخلاف، ويكون كما لو تقابلا. وإذا صدر من المبطل، ولم ينفذه باطنا، فطريق الصادق إنشاء الفسخ إن أراد الملك فيما عاد إليه. وإن صدر من القاضي، فالظاهر: الانفسا باطنا ليتنفع به المحق. فرع إذا انفسخ البيع بالتحالف، أو فسخ، لزم المشتري رد المبيع إن كان باقيا بحاله، ويبقى له الولد والثمرة والكسب والمهر. وإن كان تالفا، لزمه قيمته، سواء كانت أكثر من الثمن الذي يدعيه البائع، أم لا. قلت: وفي وجه ضعيف لابن خيران: لا يستحق البائع زيادة على ما ادعاه. والله أعلم. وفي القيمة المعتبرة، أوجه. وقال الامام: أقوال. أصحها: قيمة يوم التلف. والثاني: يوم القبض. والثالث: أقلها. والرابع: أكثر القيم من القبض إلى التلف. ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ثم اختلفا وتحالف، فهل يرد العبد الباقي ؟ فيه الخلاف المذكور في مثله إذا وجد الباقي معيبا. إن قلنا: يرد، فيضم قيمة التالف إليه. وفي القيمة المعتبرة هذه الاوجه. ولو كان المبيع باقيا، لكن حدث به عيب، رده مع الارش، وهو قدر ما نقص(3/237)
من القيمة، لان الكل مضمون عليه بجميع القيمة، فبعضه ببعضها، بخلاف ما لو تعيب المبيع في يد البائع، واقتضى الحال الارش، يجب جزء من الثمن، لان الكل مضمون على البائع بجميع الثمن، فبعضه ببعضه. قال الشيخ أبو علي: هذا أصل مطرد في المسائل: أن ما ضمن كله بالقيمة، فبعضه ببعضها كالمغصوب وغيره، إلا في صورة، وهي لو عجل زكاة ماله، فتلف قبل الحول، وكان ما عجله تالفا، يغرم القابض القيمة. ولو كان معيبا، ففي الارش وجهان. وقد ذكرنا هذه المسألة في الزكاة، وميل الشيخ إلى طرد الاصل فيها. ثم التلف قد يكون حكميا، بأن وقف المبيع، أو أعتقه، أو باعه، أو وهبه وأقبضه، فتجب القيمة، وهذه التصرفات ماضية على الصحة. وقا أبو بكر الفارسي: نتبين بالتحالف فسادها، وترد العين، والصحيح، الاول. والتعيب أيضا، قد يكون حقيقيا، وقد يكون حكميا، بأن زوج الامة، فعليه ما بين قيمتها مزوجة وخلية، وتعود إلى البائع، والنكاح صحيح. وعن الفارسي: أنه يبطل النكاح. ومهما اختلفا في القيمة أو الارش، فالقول قول المشتري. ولو كان العبد المبيع قد أبق من يد المشتري حين تحالفا، لم يمتنع الفسخ، فإن الاباق لا يزيد على التلف، ويغرم المشتري قيمته، لتعذر حصوله. وكذا لو كاتبه كتابة صحيحة. وإن رهنه، فالبائع بالخيار، إن شاء صبر إلى فكاكه، وإن شاء أخذ القيمة. وإن آجره، بني على جواز بيع المستأجر. إن منعناه، فهو كما لو رهنه، وإن جوزناه، فللبائع أخذه، لكنه يترك عند المستأجر إلى انقضاء المدة، والاجرة المسماة للمشتري، وعليه للبائع أجرة المثل للمدة الباقية. وإن كان آجره للبائع، فله أخذه قطعا. وفي انفساخ الاجارة، وجهان، كما لو باع الدار(3/238)
لمستأجرها. إن قلنا: لا تنفسخ، فعلى البائع الاجرة المسماة للمشتري، وعلى المشتري أجرة مثل المدة الباقية للبائع. وإذا غرم القيمة في هذه الصور، ثم ارتفع السبب الحائل، وأمكن الرد، فهل يرد العين ويسترد القيمة ؟ يبنى ذلك على أنه قبل ارتفاع الحائل ملك لمن ؟ أما الآبق، ففيه وجهان. أحدهما: أنه ملك للمشتري، ولا يرد عليه الفسخ، كما لا يباع، وإنما هو وارد على القيمة، وأصحهما: أنه في إباقة ملك البائع، والفسخ وارد عليه. وإنما وجبت القيمة للحيلولة. وأما المرهون والمكاتب، ففيهما طريقان. أحدهما: طرد الوجهين. وأصحهما: القطع ببقاء الملك للمشتري، وبه قال الشيخ أبو محمد، كما إذا أفلس والمبيع آبق، يجوز للبائع الفسخ والرجوع إليه. ولو كان مكاتبا أو مرهونا، لم يكن له ذلك. وأما المستأجر، فإن منعنا بيعه، فهل هو كالمرهون، أم كالآبق ؟ فيه احتمالان للامام. فإن قلنا ببقاء الملك للمشتري، فالفسخ وارد على القيمة كما لو تلف، فلا رد ولا استرداد. وإن قلنا بانقلابه إلى البائع، ثبت الرد والاسترداد عند زوال الحيلولة.
فصل لو اختلفا، ثم حلف كل واحد منهما بعد التحالف أو قبله بحرية العبد، لم يكن الامر كما قال، لم يعتق في الحال، لانه ملك المشتري وهو صادق بزعمه، فإن عاد العبد إلى البائع بالفسخ أو بغيره، عتق عليه، لان المشتري كاذب بزعمه، فهو كمن أقر بحريته ثم اشتراه. ولا يعتق في الباطن إن كان البائع كاذبا، ويعتق على المشتري أن كان صادقا. وولاء هذا العبد موقوف لا يدعيه ا لبائع ولا المشتري. ولو صدق المشتري البائع، حكم بعتقه عليه، ويرد الفسخ إن تفاسخا. كما لو رد العبد بعيب ثم قال: كنت أعتقته، يرد الفسخ، ويحكم بعتقه. فلو صدق البائع المشتري، نظر، إن حلف البائع بالحرية أولا، ثم المشتري، فإذا صدقه البائع بعد يمينه، ثم عاد إليه، لم يعتق، لانه لم يكذب المشتري بعدما حلف بالحرية حتى يجعل مقرا بعتقه. وأن حلف المشتري بحريته أولا، ثم حلف البائع، وصدقه، عتق إذا عاد إليه، لان حلفه بعد حلف المشتري، تكذيب له، واعتراف بالحرية عليه. ولو كانت المسألة بحالها، لكن المبيع بعض العبد، فإذا عاد إلى ملك(3/239)
البائع، عتق ذلك القدر عليه، ولم يقوم عليه الباقي، لانه لم يقع العتق بمباشرته.
فصل لو جرى العقد بين وكيلين، ففي تحالفهما وجهان، لان فائدة اليمين الاقرار، وإقرار الوكيل لا يقبل. قلت: ينبغي أن يكون الاصح: التحالف. وفائدته الفسخ، أو أن ينكل أحدهما، فيحلف الآخر، ويقضى له إذا قلنا: حلفه مع النكول كالبينة. والله أعلم.
فصل لو كان المبيع جارية، فوطئها المشتري، ثم اختلفا وتحالف، فإن كانت ثيبا، فلا شئ عليه مع ردها. وإن كانت بكرا، ردها مع أرش البكارة، لانه نقصان جزء. ولو ترافع المتنازعان إلى مجلس الحكم، ولم يتحالفا بعد، فهل للمشتري وط المبيعة ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لبقاء ملكه. وفي جوازه بعد التحالف وقبل الفسخ، وجهان مرتبان، وأولى بالتحريم.
فصل لو تقابلا، أو رد المشتري المبيع بعد قبض البائع الثمن، واختلفا في قدر الثمن، فالقول قول البائع مع يمينه، لانه غارم. قلت: ولو قال البائع: بعتك الشجرة بعد التأبير، فالثمرة لي، فقال المشتري: بل قبله، فلي، فالقول قول البائع، كأن الاصل بقاء ملكه. ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ووجد بالآخر عيبا فرده، وقلنا: يجوز رد أحدهما، فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول البائع على الاظهر، لانه ملك الثمن، فلا يزال ملكه إلا عما يقر به، والثاني: قول المشتري، كالغارم. وذكر في التتمة وجها: أنهما إذا اختلفا في صفة البيع، لا يتحالفان، بل القول قول البائع، لان الصفة المشروطة تلحقه بالعيب، فصار كدعواه عيبا. ولو اختلفا في وقت وجود العيب، كان القول قول البائع. والصحيح: أنهما يتحالفان كما سبق، وبه قطع الاصحاب. قال في التتمة: ولو اختلفا في انقضاء الاجل، حكي عن نصه: أن القول قول البائع. قال أصحابنا: صورة المسألة في السلم، لان الاجل في السلم حق البائع، فإذا ادعى المسلم انقضاءه، فقد ادعى استحقا مطالبة، والبائع المسلم(3/240)
إليه ينكرها، فالقول قوله، ولان اختلافهما في انقضاء الاجل مع اتفاقهما على قدره، اختلاف في تاريخ العقد، فكان المسلم يدعي وقوعه في شهر، والمسلم إليه ينكره. فلو اختلفا في أصل العقد، كان القول قول منكره، فكذا هنا. وأما في باب الشراء، الاجل حق المشتري، فالقول قوله، لما ذكرنا من العلتين. فلو باع شيئا ومات، فظهر أن المبيع كان لابن الميت، فقال المشتري: باعه عليك أبوك في صغرك لحاجة، وصدقه الابن أن الاب باعه في صغره، لكن قال: لم يبعه علي، بل باعه لنفسه متعديا، قال الغزالي في الفتاوى: القول قول المشتري، لان الاب نائب الشرع، فلا يتهم إلا بحجة، كما لو قال: اشتريت من وكيلك، فقال: هو وكيلي، ولكن باع لنفسه، فالقول قول المشتري. والله أعلم.(3/241)
كتاب السلم
يقال: السلم والسلف، ولفظة السلف تطلق أيضا على القرض، ويشترك السلم والقرض في أن كلا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال، وذكروا في تفسير السلم عبارات متقاربة. منها: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا. وقيل: إسلام عوض حاضر في موصوف في الذمة. وقيل: إسلاف عاجل في عوض لا يجب تعجيله. ثم السلم: بيع، كما سبق،
ويختص بشروط.
الشرط الاول: تسليم رأس المال في مجلس العقد.(3/242)
فلو تفرقا قبل قبضه، بطل العقد. ولو تفرقا قبل قبض بعضه، بطل فيما لم يقبض، وسقط بقسطه من المسلم فيه. والحكم في المقبوض، كمن إشترى شيئين نتلف أحدهما قبل القبض. ولا يشترط تعيين رأس المال عند العقد، بل لو قال: أسلمت إليك دينارا في ذمتي في كذا، ثم عين وسلم في المجلس، جاز، وكذلك في الصرف لو باع دينارا بدينار، أو بدراهم في الذمة، عين وسلم في المجلس، ولو باع طعاما بطعام في الذمة، ثم عين وسلم في المجلس، فوجهان، أصحهما عند الاصحاب: الجواز. والثاني: المنع، لان الوصف فيه يطول بخلاف الصرف. فلو قبض رأس المال ثم أودعه عند المسلم فبل التفرق، جاز. ولو رده إليه عن دين، قال أبو العباس الروياني: لا يصح، لانه تصرف قبل إنبرام ملكه. فإذا تفرقا، فعن بعض الاصحاب أنه يصح السلم لحصول القبض وانبرام الملك، ويستأنف إقباضه للدين. ولو كان له في ذمة رجل دراهم، فقال: أسلمت إليك الدراهم التي لي في ذمتك في كذا، فإن أسلم مؤجلا أو حالا ولم يقبض المسلم فيه قبل التفرق، فهو باطل، وكذا إن أحضره وسلمه في المجلس على الاصح وأطلق صاحب التتمة الوجهين في أن تسليم المسلم فيه في المجلس وهو حال، هل يغني عن تسليم رأس المال ؟ والاصح: المنع. فرع لا يجوز أن يحيل المسلم برأس المال على رجل، وإن قبضه المسلم إليه من الرجل في المجلس. فلو قال للمحال عليه: سلمه إليه، ففعل، لم يكف لصحة السلم، لان الانسان في إزالة ملكه لا يصير وكيلا لغيره، لكن يصير المسلم إليه وكيلا عن المسلم في قبض ذلك. ثم السلم يقتضي قبضا آخرا، ولا يصح قبضه من نفسه. ولو أحال المسلم إليه برأس المال على المسلم، فتفرقا قبل التسليم، بطل العقد وإن جعلنا الحوالة قبضا، لان المعتبر في السلم القبض الحقيقي. ولو(3/243)
أحضر رأس المال، فقال المسلم إليه: سلمه إليه، ففعل، صح، ويكون المحتال وكيلا عن المسلم إليه في القبض. فرع لو كان رأس المال دراهم في الذمة، فصالح عنها على المال، لم يصح وإن قبض ما صالح عليه. ولو كان عبدا فأعتقه المسلم إليه قبل القبض، لم يصح إن لم يصحح إعتاق المشتري قبل القبض، وإلا فوجهان. والفرق أنه لو نفذ، لكان قبضا حكما، ولا يكفي ذلك في السلم، فإن صححنا متفرقا قبل قبضه، بطل العقد. وإلا فيصح. وفي نفوذ العتق وجهان. فرع متى فسخ السلم بسبب يقتضيه، وكان رأس المال معينا في إبتداء العقد وهو باق، رجع المشتري بعينه. وإن كان تألفا، رجع إلى بدله، وهو المثل في المثلي، والقيمة في غيره. وإن كان موصوفا في الذمة، وعين في المجلس وهو باق، فهل له المطالبة بعينه، أم للمسلم إليه الابدال ؟ وجهان، أصحهما: الاول.(3/244)
فرع لو وجدنا رأس المال في يد المسلم إليه، فقال المسلم: أقبضتكه بعد التفرق، وقال: بل قبله، وأقام كل واحد بينة على قوله، فبينة المسلم إليه أولى. حكي ذلك عن ابن سريج. فرع إذا كان رأس المال في الذمة، اشترط معرفة قدره، وذكر صفته أيضا إن كان عوضا. فان كان معينا وهو مثلي، فهل تكفي معاينته، أم لا بد من ذكر صفته وقدره، كيلا في المكيل، ووزنا في الموزون، وذرعا في المذروع ؟ قولان. أظهرهما: الاول. وقيل: إن كان حالا، كفت قطعا. والمذهب: طرد القولين فيهما. وإن كان متقوما وضبطت صفاته بالمعاينة، ففي اشتراط معرفة قيمته طريقان. قطع الاكثرون بعدم الاشتراط، وهو المذهب. وقيل بطرد القولين، ولا فرق على القولين بين السلم الحال والمؤجل على المذهب. وقيل القولان في المؤجل، فأما الحال، فتكفي فيه المعاينة قطعا، كما في البيع. ثم موضع القولين، إذا تفرقا قبل العلم بالقدر، والقيمة. فلو علما، ثم تفرقا، صح بلا خلاف. وبنى كثير من الاصحاب على هذين القولين، أنه هل يجوز أن يجعل رأس المال يجوز السلم فيه، كالجوهرة ؟ إن قلنا بالاظهر، جاز، وإلا فلا. قال امام رجمه الله هو على هذا الاطلاق، بل الجوهرة المثمنة إذا عرفا قيمتها وبالغا في وصفها، وجب أن يجوز جعلها رأس مال، منع السلم فيه سببه عزة الموجود، ولا معنى لاشتراط عموم الوجود في رأس المال. وإذا جوزنا السلم، ورأس المال جزاف، واتفق فسخ، وتنازعا في قدره، فالقول قول المسلم إليه لانه غارم. قلت: إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير، حمل على غالب نقد البلد. فلو(3/245)
استوت، لم يصح حتى يبين كالثمن في البيع. والله أعلم. الشرط الثاني: كون المسلم فيه دينا، فلو استعمل لفظ السلم في العين فقال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد، فليس هذا سلما. وفي إنعقاده بيعا قولان. أظهرهما: لا لاختلال لفظه. ولو قال: بعتكه بلا ثمن، أو لا ثمن لي عليك، فقال: إشتريت، وقبضه، فهل يكون هبة ؟ فيه مثل هذين القولين، وهل يكون المقبول مضمونا ؟ وجهان. ولو قال: بعتك هذا ولم يتعرض للثمن أصلا، لم يكن تمليكا على المذهب، والمقبوض مضمون. وقيل: فيه الوجهان، ولو أسلم بلفظ الشراء، فقال: اشتريت طعاما أو ثوبا صفته كذا بهذه الدراهم، فقال: بعتك، انعقد. وهل هو سلم اعتبارا بالمعنى، أم بيع اعتبارا بلفظه ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا، لا يجب تسليم الدراهم في المجلس، ويثبت فيه خيار الشرط. وفي جواز الاعتياض عن الثوب قولان، كما في الثمن. ومنهم من قطع بالمنع. وإن قلنا: الاعتبار بالمعنى، وجب تسليم الدراهم في المجلس، ولم(3/246)
يثبت فيه خيار الشرط، ولم يجز الاعتياض عن الثوب. ولو قال: اشتريت ثوبا صفته كذا في ذمتك بعشرة دراهم في ذمتي، فإن جعلناه سلما، وجب تعيين الدراهم وتسليمها في المجلس. وإن قلنا: بيع، لم يجب. فصل يصح السلم الحال، كالمؤجل. فان صرح بحلول أو تأجيل، فذاك، وإن أطلق، فوجهان. وقيل: قولان، أصحهما عند الجمهور: يصح ويكون حالا. والثاني، لا ينعقد. ولو أطلقا العقد ثم ألحقا به أجلا في المجلس، فالنص لحوقه، وهو المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق في سائر الالحاقات. ولو صرحا بالاجل في نفس العقد، ثم أسقطاه في المجلس، سقط وصار العقد حالا. فرع الشرط المفسد للعقد، إذا حذفاه في المجلس، هل ينحذف وينقلب العقد صحيحا ؟ وجهان. الصحيح الذي عليه الجمهور: لا. وفي وجه: لو حذفا الاجل المجهول في المجلس، انقلب العقد صحيحا. واختلفوا في جريان هذا(3/247)
الوجه في سائر المفسدات، كالخيار والرهن الفاسدين وغيرهما. قال الامام: الاصح تخصيصه بالاجل. واختلفوا في أن زمن الخيار المشروط، هل يلحق بالمجلس في حذف الاجل المجهول تفريعا على هذا الوجه الضعيف ؟ والاصح أنه لا يلحق به. فصل إذا أسلم مؤجلا، اشترط كونه معلوما، فلا يجوز توقيته بما يختلف، كالحصاد، وقدوم الحاج. ولو قال: إلى العطاء، لم يصح، إن أراد وصوله، فان أراد وقت خروجه وقد عين السلطان له وقتا، جاز، بخلاف ما إذا قال: إلى وقت الحصاد، إذ ليس له وقت معين. ولو قال: إلى الشتاء، أو الصيف، لم يجز إلا أن يريد الوقت. ولنا وجه شاذ قاله ابن خزيمة من أصحابنا: أنه يجوز التوقيت باليسار. فرع التوقيت بشهور الفرس والروم جائز كشهور العرب، لانها معلومة، وكذا التوقيت بالنيروز، والمهرجان جائز على الصحيح. وفي وجه: لا(3/248)
يصح. قال الامام: لانهما يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلى أوائل برجي الحمل والميزان، وقد يتفق ذلك ليلا، ثم ينحبس مسير الشمس كل سنة قدر ربع يوم وليلة. ولو وقت بفصح النصارى، نص الشافعي رضي الله عنه: أنه لا يصح، فقال بعض أصحابه بظاهره اجتنابا لمواقيت الكفار. وقال جمهور الاصحاب: إن اختص بمعرفته الكفار، لم يصح، لانه لا اعتماد على قولهم، وإن عرفه المسلمون، جاكالنيروز. ثم إعتبر جماعة فيهما معرفة المتعاقدين. وقال أكثر الاصحاب: يكفي معرفة الناس. وسواء اعتبرنا معرفتهما، أم لا. فلو عرفا، كفى على الصحيح. وفي وجه: يشترط معرفة عدلين من المسلمين سواهما، لانهما قد يختلفان، فلا بد من مرجع. وفي معنى الفصح سائر أعياد أهل الملل، كفطير اليهود ونحوه. قلت: الفصح، بكسر الفاء وإسكان الصاد والحاء المهملتين، وهو عيد لهم معروف، وهو لفظ عربي. والفطير، عيد اليهود، ليس عربيا، وقد طرد صاحب الحاوي، الوجه في الفصح في شهور الفرس وشهور الروم. والله أعلم. فرع لو وقتا بنفر الحجيج وقيدا بالاول أو الثاني، جاز. وإن أطلقا، فوجهان. أحدهما: لا يصح. والاصح المنصوص: صحته، ويحمل على النفر الاول لتحقق الاسم به، ويجري الخلاف في التوقيت بشهور ربيع، أو جمادي، أو العيد، ولا يحتاج إلى تعيين السنة إذا حملنا المذكور على الاول. وفي الحاوي وجه: أن التوقيت بالنفر الاول، أو الثاني، لا يجوز لغير أهل مكة، لان أهل مكة يعرفونه دون غيرهم. وذكر وجهين في التوقيت بيوم القر لاهل مكة، لانه لا يعرفه إلا خواصهم. وهذا الذي قاله ضعيف، لانا إن اعتبرنا علم العاقدين، فلا فرق، وإلا فهي مشهورة في كل ناحية عند الفقهاء وغيرهم. قلت: يوم القر، بفتح القاف وتشديد الراء، وهو الحادي عشر من ذي الحجة، سمي به لانهم يقرون فيه بمنى، وينفرون بعده النفرين، في الثاني عشر،(3/249)
والثالث عشر. وهذا الوجه الذي ذكره في الحاوي قوي. ودعوى الامام الرافعي رحمه الله شهرته عند غير الفقهاء ومن في معناهم لا تقبل، بل ربما لا يعرف القر كثير من المتفقهين. والله أعلم. فرع لو أجلا إلى سنة أو سنين مطلقة، حمل على الهلالية. فان قيد بالرومية، أو الفارسية، أو الشمسية، أو العددية. وهي ثلاثمائة وستون يوما، تقيد. وكذا مطلق الاشهر محمول على الاشهر الهلالية. ثم إن جرى العقد في أول الشهر، اعتبر الجميع بالاهلة، تامة كانت أو ناقصة. وإن جرى بعد مضي بعض الشهر، عد باقيه بالايام، واعتبرت الشهور بعده بالاهلة، ثم يتمم المنكسر بثلاثين. وفيه وجه: أنه إذا انكسر شهرا، اعتبر جميع الشهور بالعدد. وضرب الامام مثلا للتأجيل بثلاثة أشهر مع الانكسار فقال: عقدا وقد بقي من صفر لحظة، ونقص الربيعان وجمادى، فيحسب الربيعان بالاهلة، ويضم جمادى إلى اللحظة من صفر، ويكمل جمادى الآخرة يوم إلا لحظة. ثم قال الامام: كنت أود أن يكتفي في هذه الصورة بالاشهر الثلاثة، فانها جرت عربية كوامل. وما تمناه الامام، هو الذي نقله صاحب التتمة وغيره، وقطعوا بحلول الاجل بانسلاخ جمادى الاولى. قالوا: وإنما يراعى العدد، إذا عقد في غير اليوم الاخير، وهذا هو الصواب. فرع لو قال: إلى يوم الجمعة، أو إلى رمضان، حل بأول جزء منه، لتحقق الاسم. وربما يقال: بانتهاء ليلة الجمعة، وبانتهاء شعبان، وهما بمعنى، ولو قال محله: في الجمعة، أو في رمضان، فوجهان. أصحهما: لا يصح العقد، لانه جعل اليوم ظرفا، فكأنه قال: في وقت من أوقاته. والثاني: يصح ويحمل على الاول. قلت: كذا قاله جمهور الاصحاب. إذا قال في يوم كذا، أو شهر كذا، أو سنة كذا، لا يصح على الاصح، وسووا بينهما، وحكى الطبري في العد وجها: أنه(3/250)
يصح في يوم كذا دون الشهر، وجعل صاحب الحاوي هذه الصور على مراتب، فقال: من الاصحاب من قال: يبطل في السنة دون الشهر، قال: فأما اليوم، فالصحيح فيه الجواز لقرب ما بين طرفيه. والاصح المعتمد قدمناه. والله أعلم. ولو قال: إلى أول رمضان أو آخره، بطل، كذا قاله الاصحاب، لانه يقع على جميع النصف الاول أو الاخير. قال الامام والبغوي: ينبغي أن يصح، ويحمل على الجزء الاول من كل نصف، كمسألة النفر، وكاليوم والشهر، يحمل على أولهما، وكتعليق الطلاق. فرع لو أسلم في جنس إلى أجلين، أو جنسين إلى أجل، صح على الاظهر. الشرط الثالث: القدرة على التسليم، وهذا الشرط ليس من خواص السلم، بل يعم كل بيع كما سبق، وإنما تعتبر القدرة على التسليم عند وجوبه. وذلك في البيع والسلم الحال في الحال، وفي السلم المؤجل عند المحل. فلو أسلم في منقطع لدى المحل، كالرطب في الشتاء، أو فيما يعز وجوده كالصيد حيث يعز، لم يصح. فلو غلب على الظن وجوده، لكن لا يحصله إلا بمشقة عظيمة، كالقدر الكثير في الباكورة، فوجهان. أقربهما إلى كلام الاكثرين: البطلان. ولو أسلم في شئ لا يوجد ببلده ويوجد في غيره، قال الامام: إن كان قريبا منه، صح، وإلا فلا، قال: ولا تعتبر فيه مسافة القصر، وإنما التقريب فيه أن يقال: إن كان يعتاد نقله إليه في غرض المعاملة، لا للتحف والمصادرات، صح السلم، وإلا فلا. ولو كان المسلم فيه عام الوجود عند المحل، فلا بأس بانقطاعه(3/251)
قبله وبعده. وإن أسلم فيما يعم، ثم انقطع عند المحل لجائحة، فقولان. أحدهما: ينفسخ العقد. وأظهرهما: لا، بل يتخير المسلم، فإن شاء فسخ، وإن شاء صبر إلى وجوده. ولا فرق في جريان القولين بين أن لا يوجد عند المحل أصلا، أو وجد فسوف المسلم إليه حتى انقطع. وقيل: القولان في الحالة الاولى. أما الثانية، فلا ينفسخ فيها قطعا بحال، فإن أجاز ثم بدا له، مكن من الفسخ كزوجة المولى إذا رضيت ثم أرادت المطالبة، كان لها ذلك. قلت: هذا هو الصحيح، وذكر صاحب التتمة في باب التفليس وجهين في أن هذا الخيار على الفور، أم لا ؟ كالوجهين في خيار من ثبت له الرجوع في المبيع بالافلاس. والله أعلم. ولو صرح بإسقاط حق الفسخ، لم يسقط على الاصح. ولو قال المسلم إليه: لا تصبر وخذ رأس مالك، لم يلزمه على الصحيح. ولو حل الاجل بموت المسلم إليه في أثناء المدة، والمسلم فيه معدوم، جرى القولان. وكذا لو كان موجودا عند المحل وتأخر التسليم لغيبة أحد المتعاقدين، ثم حضر وقد انقطع بعض المسلم فيه، فقد ذكرنا حكمة في باب تفريق الصفقة. ولو أسلم فيما يعم عند المحل، فعرضت آفة علم بها انقطاع الجنس عن المحل، فهل يتنجز حكم الانقطاع في الحال، أم يتأخر إلى المحل ؟ وجهان. أصحهما الثاني.(3/252)
فرع فيما يحصل به الانقطاع فإذا لم يوجد المسلم فيه أصلا، بأن كان ذلك الشئ ينشأ بتلك البلدة، فأصابه جائحة مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقي. ولو وجد في غير ذلك البلد، لكن يفسد بنقله، أو لم إلا عند قوم امتنعوا من بيعه، فهو انقطاع. ولو كانوا يبيعونه بثمن غال، فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله. ولو أمكن نقله، وجب إن كان قريبا. وفيما يضبط به القرب خلاف، نقل فيه صاحب التهذيب في آخرين وجهين. أصحهما: يجب نقله مما دون مسافة القصر. والثاني: من مسافة لو خرج إليها بكرة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا. وقال الامام: لا اعتبار لمسافة القصر. فان أمكن النقل على عسر، فالاصح أنه لا ينفسخ قطعا. وقيل: على القولين. الشرط الرابع: بيان محل التسليم. في اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه المؤجل اختلاف نص وطرق للاصحاب. أحدها: فيه قولان مطلقا. والثاني: إن عقدا في موضع يصلح للتسليم، لم يشترط التعيين، وإلا، اشترط. والثالث: إن كان لحمله مؤنة، اشترط، وإلا، فلا. والرابع: إن لم يصلح الموضع، اشترط، وإلا، فقولان. والخامس: إن لم يكن لحمله مؤنة، لم يشترط، وإلا، فقولان. والسادس: إن كان له مؤنة، اشترط. وإلا فقولان. قال الامام: هذا اصح الطرق، وهو اختيار القفال. والمذهب الذي يفتى به من هذا كله: وجوب التعيين إن لم يكن الموضع صالحا، أو كان لحمله مؤنة، وإلا، فلا، ومتى شرطنا التعيين، فتركاه، بطل العقد. وإن لم نشرطه فعين، تعين. وعند الطلاق يحمل على مكان العقد على الصحيح. وفي التتمة: إذا لم يكن لحمله مؤنة، سلمه في أي موضع صالح شاء. وحكى وجها: أنه إذا لم يكن الموضع صالحا للتسليم، حمل على أقرب موضع صالح. ولو عين موضعا فخرب، وخرج عن صلاحية التسليم، فأوجه.(3/253)
أحدها: يتعين ذلك الموضع. والثاني: لا، وللمسلم الخيار. والثالث: يتعين أقرب موضع صالح. قلت: الثالث، أقيسها. والله أعلم. وأما السلم الحال، فلا يشترط فيه التعيين، كالبيع. ويتعين موضع العقد للتسليم، لكن لو عينا غيره، جاز، بخلاف البيع، لان السلم يقبل التأجيل، فقبل شرطا يتضمن تأخير التسليم. والايمان لا تحتمل التأجيل، فلا تحتمل ما يتضمن تأخير التسليم. قال في التهذيب: ولا نعني بمكان العقد ذلك الموضع بعينه، بل تلك الناحية. وحكم الثمن في الذمة، حكم المسلم فيه. وإن كان معينا، فهو كالمبيع. قلت: قال في التتمة: الثمن في الذمة والاجرة إذا كانت دينا، وكذا الصداق، وعوض الخلع، والكتابة ومال الصلح عن دم العمد، وكل عوض ملتزم في الذمة، له حكم السلم في الحال، إن عين للتسليم مكان، جاز، وإلا تعيين موضع العقد، لان كل الاعواض الملتزمة في الذمة تقبل التأجيل كالمسلم فيه. والله أعلم. الشرط الخامس: العلم بالمقدار، والعلم يكون بالكيل، أو الوزن، أو الذرع، أو العد. ويجوز السلم في المكيل وزنا، وفي الموزون كيلا إذا تأتى كيله. وفي وجه ضعيف: لا يجوز في الموزون كيلا، وحمل إمام الحرمين إطلاق الاصحاب جواز كيل الموزون على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، حتى لو أسلم في فتات المسك والعنبر ونحوهما كيلا، لم يصح.(3/254)
وأما البطيخ، والقثاء، والبقول، والسفرجل، والرمان، والباذنجان، والرانج، والبيض، فالمعتبر فيها الوزن. ويجوز السلم في الجوز واللوز وزنا إذا لم تختلف قشوره غالبا، ويجوز كيلا على الاصح، وكذا الفستق والبندق. فصل لا يجوز السلم في البطيخة، والسفرجلة، ولا في عدد منها، لانه يحتاج إلى ذكر حجمها ووزنها، وذلك يورث عزة الوجود. وكذا لو أسلم في ثوب وصفه، وقال: وزنه كذا، أو في مائة صاع حنطة على أن وزنها كذا، لا يصح لما ذكرنا. ولو ذكر وزن الخشب مع صفاته المشروطة، جاز، لانه إن زاد، أمكن نحته. وأما اللبن، فيجمع فيه بين العدد والوزن. فيقول: كذا لبنة، وزن كل واحدة كذا، لانه باختياره، فلا يعز، ثم الامر فيها على التقريب. قلت: هكذا قال أصحابنا الخراسانيون يشترط في اللبن الجمع بين العدد والوزن، ولم يعتبر العراقيون أو معظمهم الوزن. ونص الشافعي رضي الله عنه في آخر كتاب السلم من الام على أن الوزن فيه مستحب، لو تركه فلا بأس، لكن يشترط أن يذكر طوله وعرضه وثخانته، وأنه من طين معروف. والله أعلم. فرع لو عين للكيل مالا يعتاد الكيل به، كالكوز، بطل السلم.(3/255)
ولو قال في البيع: بعتك مل ء هذا الكوز من هذه الصبرة، جاز على الاصح، لعدم الغرر. ولو عين في البيع أو السلم مكيالا معتاد، لم يفسد العقد على الاصح، بل يلغو تعيينه كسائر الشروط التي لا غرض فيها. وهل السلم الحال كالمؤجل، أم كالبيع ؟ وجهان. قطع الشيخ أبو حامد، بأنه كالمؤجل، لان الشافعي رضي الله عنه قال: لو أصدقها مل ء هذه الجرة خلا، لم يصح، لانها قد تنكسر، فلا يمكن التسليم، فكذا هنا. ولو قال: أسلمت اليك في ثوب كهذا الثوب، أو مائة صاع حنطة كهذه الحنطة، قال العراقيون: لا يصح كمسألة الكوز، لان هذه الحنطة والثوب قد يتلفان. وقال في التهذيب: يصح ويقوم مقام الوصف. ولو أسلم في ثوب وصفه، ثم أسلم في ثوب آخر بتلك الصفة، جاز إن كانا ذاكرين لتلك الاوصاف. فرع لو أسلم في حنطة قرية صغيرة بعينها، أو ثمرة بستان بعينه، لم يصح. وإن أسلم في ثمرة ناحية، أو قرية كبيرة، نظر، إن أفاد تنويعا كمعقلي البصرة، جاز، لانه مع معقلي بغداد صنف (واحد)، لكن يختلفان في الاوصاف، فله غرض في ذلك. وإن لم يفد تنويعا، فوجهان. أحدهما: أنه كتعيين المكيال لعدم الفائدة. وأصحهما: الصحة، لانه لا ينقطع غالبا. الشرط السادس: معرفة الاوصاف. فذكر أوصاف المسلم فيه في العقد، شرط، فلا يصح السلم فيما لا ينضبط أوصافه، أو كانت تنضبط، فتركا بعض ما يجب ذكره.(3/256)
ثم من الاصحاب من يشترط التعرض للاوصاف التي يختلف بها الغرض، ومنهم من يعتبر الاوصاف التي تختلف بها القيمة، ومنهم من يجمع بينهما، وليس شئ منها على إطلاقه، فان كون العبد قويا في العمل، أو ضعيفا، أو كاتبا، أو أميا، وما أشبه ذلك، أوصاف يختلف بها الغرض والقيمة، ولا يجب التعرض لها. ولتعذر الضبط أسباب، منها: الاختلاط، والمختلطات أربعة أنواع. الاول: المختلطات المقصودة الاركان، ولا ينضبط أقدار أخلاطها، وأوصافها، كالهريسة، ومعظم المرق، والحلوى، والمعجونات، والغالية المركبة من المسك، والعود، والعنبر، والكافور، والقسي، فلا يصح السلم فيها، ولا يجوز في الخفاف، والنعال على الصحيح. والترياق المخلوط كالغالية. فان كان نباتا واحدا، أو حجرا، جاز السلم فيه. والنيل بعد الخرط، والعمل عليه لا يجوز السلم فيه، وقبلهما، يجوز، والمغازل كالنبال. الثاني: المختلطات المقصودة الاركان، التي تنضبط أقدارها وصفاتها، كثوب العتابي، والخز المركب من الابريسم، والوبر، ويجوز السلم فيها على الصحيح المنصوص لسهولة ضبطها. ويجري الوجهان في الثوب المعمول عليه بالابرة بعد النسج من غير جنس الاصل، كالابريسم على القطن، والكتان، فان كان تركيبها بحيث لا تنضبط أركانها، فهي كالمعجونات. الثالث: المختلطات التي لا يقصد منها إلا الخليط الواحد، كالخبز فيه الملح، لكنه غير مقصود في نفسه. وفي السلم فيه وجهان، أصحهما عند(3/257)
الجمهور: لا يصح، وأصحهما عند الامام والغزالي: الصحة. ويجوز السلم في الجبن، والاقط، وخل التمر، والزبيب، والسمك الذي عليه شئ من الملح على الاصح في الجميع، لحقارة أخلاطها. وأما الادهان المطيبة، كدهن البنفسج، والبان، الورد، فان خالطها شئ من جرم الطيب، لم يجز السلم فيها، وإن تروح السمسم بها واعتصر، جاز. ولا يجوز في المخيض الذي يخالطه الماء، نص عليه. وفي التتمة: أن المصل كالمخيض، لانه يخالطه الدقيق. الرابع: المختلطات خلقة، كالشهد، والاصح: صحة السلم فيه، والشمع فيه كنوى التمر. ويجوز في العسل والشمع. فرع سبق أن ما يندر وجوده لا يجوز السلم فيه، والشئ قد يندر من حيث جنسه، كلحم الصيد في غير موضعه، وقد يندر باستقصاء الاوصاف لندور اجتماعها، فلا يجوز السلم في اللآلئ الكبار، واليواقيت، والزبرجد، والمرجان، ويجوز في اللآلئ الصغار إذا عم وجودها كيلا ووزنا. قلت: هذا مخالف لما تقدم في الشرط الخامس عن إمام الحرمين: أن مالا يعد الكيل فيه ضبطا، لا يصح السلم فيه كيلا، فكأنه اختار هنا، ما تقدم من إطلاق الاصحاب. والله أعلم. واختلف في ضبط الصغير، فقيل: ما يطلب للتداوي، صغير، وما طلب للزينة، كبير. وعن الشيخ أبي محمد: أن ما وزنه سدس دينار، يجوز السلم فيه، وإن كان يطلب للتزين. والوجه: أن اعتباره السدس للتقريب.(3/258)
فرع لو أسلم في الجارية وولدها، أو أختها، أو عمتها، أو شاة وسخلتها، لم يصح لندور اجتماعهما بالصفات، هكذا أطلقه الشافعي رضي الله عنه والاصحاب. وقال الامام: لا يمتنع ذلك في الزنجية التي لا تكثر صفاتها، وتمتنع فيمن تكثر. ولو أسلم في عبد وجارية، وشرط كونه كاتبا وهي ماشطة، جاز. ولو أسلم في الجارية، وشرط كونها حاملا، بطل السلم في المذهب. وقيل: قولان بناء على أن الحمل، هل له حكم، أم لا ؟ إن قلنا: نعم، جاز، وإلا، فلا. لو أسلم في شاة لبون، ففي صحته قولان. أظهرهما: المنع، وبه أجاب البغوي.
فصل يجوز السلم في الحيوان، وهو أنواع. منها، الرقيق، فإذا أسلم فيه، وجب التعرض لامور. أحدها: النوع، فيذكر أنه تركي أو رومي، فان اختلف صنف النوع، وجب ذكره على الاظهر. الثاني: اللون، فيذكر انه أبيض أو أسود، ويصف البياض بالسمرة أو الشقرة، والسواد بالصفاء أو الكدرة، هذا إن اختلف لون الصنف، فان لم يختلف، لم يجب ذكر اللون. الثالث: الذكورة والانوثة.(3/259)
الرابع: السن، فيقول: محتلم، أو ابن ست، أو سبع، والامر في السن على التقريب، حتى لو شرط كونه ابن سبع سنين مثلا بلا زيادة ولا نقصان، لم يجز لندوره. والرجوع في الاحتلام، إلى قول العبد. وفي السن، يعتمد قوله إن كان بالغا، وقول سيده إن ولد في الاسلام، وإلا، فالرجوع إلى النخاسين، فتعتبر ظنونهم. الخامس: القد، فيبين أنه طويل، أو قصير، أو ربع، ونقل الامام عن العراقيين، إنه لا يجب ذكر القد. والموجود في كتب العراقيين، القطع بوجوبه، ولا يشترط وصف كل عضو على حياله بأوصافه المقصودة، وإن تفاوت به الغرض والقيمة، لان ذلك يورث غرة. وفي ذكر الاوصاف التي يعتبرها أهل الخبرة ويرغب في الارقاء، كالكحل، والدعج، وتكلثم الوجه، وسمن الجارية وما أشبهها، وجهان، أحدهما: يجب، قاله الشيخ أبو محمد، وأصحهما: لا. والاصح: أنه لا يشترط ذكر الملاحة. ويستحب أن يذكر كونه مفلج الاسنان أو غيره، وجعد الشعر أو سبطه. ويجب ذكر الثيابة، والبكارة، على الاصح. فرع لو شرط كون العبد يهوديا أو نصرانيا، جاز. قال الصيمري: ولو(3/260)
شرط أنه ذو زوجة، أو أنها ذات زوج، جاز، وزعم أنه لا يندر. قال: ولو شرط كونه زانيا، أو قاذفا، أو سارقا، جاز، بخلاف ما لو شرط كون الجارية مغنية، أو قوادة، لا يصح. فرع لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة، فوجهان. قال أبو إسحاق: لا يجوز، لانها قد تكبر وهي بالصفة المشروطة، فيسلمها بعد أن يطأها، فيكون في معنى اقتراض الجواري. والصحيح: الجواز، كاسلام صغار الابل في كبارها. وهل يمكن من تسليمها عما عليه ؟ وجهان. فان قلنا: يمكن، فلا مبالاة بالوطئ كوطئ الثيب، وردها بالعيب. ومنها الابل، ويجب فيها ذكر الانوثة، والذكورة، والسن، واللون، والنوع، فيقول: من نعم بني فلان ونتاجهم، هذا إذا كثر عددهم وعرف لهم النتاج، كبني تميم. فأما النسبة إلى طائفة يسيرة، فكتعين ثمرة بستان. ولو اختلف نعم بني فلان، فالاظهر: أنه يشترط التعيين. ومنها الخيل، فيجب ذكر ما يجب في الابل. ولو ذكر معها الشيات كالاغر، والمحجل، واللطيم، كان أولى. فان تركه، جاز. وهكذا القول في البقر، والغنم، والبغال، والحمير. وما لا يبين نوعه(3/261)
بالاضافة إلى قوم، يبين بالاضافة إلى بلد وغيره. ويجوز السلم في الطيور على الصحيح، وبه قطع الجماهير. وفي المهذب: لا يجوز. فان جوزناه، وصف منها النوع، والصغر، والكبر من حيث الجثة، ولا يكاد يعرف سنها. فان عرف، وصف به. ويجوز السلم في السمك والجراد حيا وميتا عند عموم الوجود، ويوصف كل جنس من الحيوان بما يليق به.
فصل السلم في اللحم جائز، ويجب فيه بيان أمور. أحدها: الجنس، كلحم بقر أو غنم. الثاني: النوع. فيقول: لحم بقر عراب أو جواميس، وضأن أو معز. الثالث: ذكر أو أنثى، خصي أو فحل. الرابع: السن، فيقول: لحم صغير أو كبير، ومن الصغير، رضيع أو فطيم. ومن الكبير، جذع أو ثني. الخامس: يبين أنه من راعية أو معلوفة. قال الامام: ولا أكتفي بالعلف بالمرة والمرات، حتى ينتهي إلى مبلغ يؤثر في اللحم. السادس: يبين أنه من الفخد، أو الكتف أو الجنب. وفي كتب العراقيين، أمر سابع، وهو بيان السمن والهزال. ولا يجوز شرط الاعجف، لانه عيب، وشرطه مفسد للعقد. ويجوز في اللحم المملح، والقديد إذا لم يكن عليه غير المملح. فان كان، فقد سبق الخلاف في جوازه في نظيره. ثم إذا أطلق السلم في اللحم، وجب قبول ما فيه من العظم على العادة. وإن شرط نزعه، جاز ولم يجب قبوله. فرع يجوز السلم في الشحم، والالية، والكبد، والطحال، والكلية، والرئة.(3/262)
فرع إذا أسلم في لحم صيد، ذكر ما يجب في سائر اللحوم. لكن الصيد لا يكون خصيا، ولا معلوفا، فلا يجب ذكر هذين الامرين. قال الشيخ أبو حامد والمقتدون به: يبين أنه صيد بأحبولة، أو بسهم، أو بجارحة، وأنها كلب، أو فهد، لان صيد الكلب أطيب. فرع في لحم الطير والسمك يبين الجنس، والنوع، والصغر، والكبر من حيث الجثة. ولا يشترط ذكر الذكورة والانوثة، إلا إذا أمكن التمييز، وتعلق به غرض. ويبين موضع اللحم إذا كان الطير والسمك كبيرين. ولا يلزمه قبول الرأس والرجل من الطير، والذنب من السمك.
فصل لا يجوز السلم في اللحم المطبوخ والمشوي، ولا في الخبز على الاصح كما سبق. وفي الدبس، والعسل المصفى بالنار، والسكر، والفانيذ، واللبأ، وجهان، واستبعد الامام المنع فيها كلها. قلت: وممن اختار الصحة في هذه الاشياء الغزالي وصاحب التتمة. والله أعلم. وتردد صاحب التقريب في السلم في الماء، ورد لاختلاف تأثير النار فيما(3/263)
يتصعد ويقطر، ولا عبرة بتأثير الشمس، فيجوز السلم في العسل المصفى بالشمس فرع لا يجوز السلم في رؤوس الحيوان على الاظهر، والاكارع كالرؤوس. قلت: فإذا جوزناه في الاكارع، فمن شرطه أن يقول: من الايدي والارجل. والله أعلم. فان جوزنا، فله ثلاثة شروط. أن تكون نيئة، وأن تكون منقاة من الشعر والصوف، ويسلم فيها وزنا، فان فقد شرط، لم يجز قطعا.
فصل يذكر في التمر النوع، فيقول: معقلي أو برني، والبلد، فيقول: بغدادي، واللون، وصغر الحبات، وكبرها، وكونه جديدا، أو عتيقا. والحنطة، وسائر الحبوب، كالتمر. وفي الرطب، يذكر جميع ذلك، إلا الجديد والعتيق. قال في الوسيط يجب ذكر ذلك في الرطب دون الحنطة والحبوب، وهو خلاف ما عليه الاصحاب. وفي العسل، يذكر أنه جبلي، أو بلدي، صيفي أو خريفي، أو أصفر أو أبيض، ولا يشترط ذكر الجديد والعتيق، ويقبل ما رق بسبب الحر، ولا يقبل ما رق رقة عيب. فصل يجوز السلم في اللبن، ويبين فيه ما يبين في اللحم، سوى الامر(3/264)
الثالث والسادس، ويبين نوع العلف، لاختلاف الغرض به، ولا حاجة إلى ذكر اللون والحلاوة، لان المطلق ينصرف إلى الحلو، بل لو أسلم في اللبن الحامض، لم يجز، لان الحموضة عيب. وإذا أسلم في لبن يومين أو ثلاثة، فإنما يجوز إذا بقي حلوا في تلك المدة. وإذا أسلم في السمن، يبين ما يبين في اللبن، ويذكر أنه أبيض، أو أصفر. وهل يحتاج إلى ذكر العتيق والجديد ؟ وجهان. قال الشيخ أبو حامد: لا بل العتيق معيب لا يصح السلم فيه. وقال القاضي أبو الطيب: العتيق المتغير هو المعيب، لا كل عتيق، فيجب بيانه. وفي الزبد يذكر ما يذكر في السمن، وأنه زبد يومه أو أمسه. ويجوز في اللبن كيلا ووزنا، لكن لا يكال حتى تسكن رغوته، ويوزن قبل سكونها. والسمن يكال ويوزن، إلا إذا كان جامدا يتجافى في المكيال، فيتعين الوزن، وليس في الزبد الا الوزن، وكذا اللبأ المجفف، وقبل الجفاف، هو كاللبن. وإذا جوزنا السلم في الجبن، وجب بيان نوعه وبلده، وأنه رطب أو يابس. وأما المخيض الذي فيه ماء، فلا يجوز السلم فيه، نص الشافعي رضي الله عنه. وإن لم يكن فيه ماء، جاز، وحينئذ لا يضر وصف الحموضة، لانها مقصودة فيه.
فصل إذا أسلم في الصوف، قال: صوف بلد كذا، وذكر لونه وطوله وقصره، وأنه خريفي أو ربيعي، من ذكور أو إناث، لان صوف الاناث أشد نعومة. واستغنوا بذلك عن ذكر اللين والخشونة، ولا يقبل إلا خالصا من الشوك والبعر، فان شرط كونه مغسولا، جاز، إلا أن يعيبه الغسل. والشعر والوبر، كالصوف، ويضبط الجميع وزنا فصل يبين في القطن بلده، ولونه، وكثرة لحمه، وقلته، والخشونة،(3/265)
والنعومة، وكونه عتيقا أو جديدا إن اختلف الغرض به، والمطلق يحمل على الجاف وعلى ما فيه الحب. ويجوز في الحليج، وفي حب القطن، ولا يجوز في القطن في الجوزق قبل التشقق. وأما بعده، ففي التهذيب: أنه يجوز. وقال في التتمة: ظاهر المذهب: أنه لا يجوز، لاستتار المقصود بما لا مصلحة فيه، وهذا هو الذي أطلق العراقيون حكايته عن النص.
فصل يبين في الابريسم لونه، وبلده، ودقته، وغلظه، ولا يشترط ذكر الخشونة والنعومة، ولا يجوز السلم في القز وفيه الدود، لا حيا ولا ميتا، لانه يمنع معرفة وزن القز. وبعد خروج الدود، يجوز.
فصل وإذا أسلم في الغزل، ذكر ما يذكر في القطن، ويذكر الدقة والغلظ. ويجوز السلم في غزل الكتان، ويجوز شرط كونه مصبوغا، ويشترط بيان الصبغ.
فصل إذا أسلم في الثياب، ذكر جنسها من إبريسم، أو قطن، أو كتان، والنوع، والبلد الذي ينسج فيه إن اختلف به الغرض، وقد يغني ذكر النوع عنه، وعن الجنس أيضا، ويبين الطول، والعرض، والغلظ، والدقة، والنعومة، والخشونة، ويجوز في المقصود، والمطلق محمول على الخام. ولا يجوز في الملبوس، لانه لا ينضبط. ويجوز فيما صبغ غزله قبل النسج، كالبرود. والمعروف في كتب الاصحاب: أنه لا يجوز المصبوغ بعد النسج. وفيه وجه: أنه يجوز، قاله طائفة، منهم الشيخ أبو محمد، وصاحب الحاوي، وهو القياس. قال(3/266)
الصيمري: يجوز السلم في القمص، والسراويلات، إذا ضبطت طولا وعرضا، وسعة وضيقا. فصل الخشب أنواع. منها الحطب، فيذكر نوعه، وغلظه، ودقته، وأنه من نفس الشجر، أو أغصانه، ووزنه، ولا يجب التعرض للرطوبة، والجاف، والمطلق محمول على الجفاف، ويجب قبول المعوج، والمستقيم. ومنها ما يطلب للبناء، كالجذوع، فيذكر النوع، والطول، والغلظ، والدقة، ولا يشترط الوزن على الصحيح، وشرطه الشيخ أبو محمد، ولو ذكر، جاز، بخلاف الثياب. ولا يجوز في المخروط، لاختلاف أعلاه وأسفله. ومنها ما يطلب ليغرس، فيذكر العدد، والنوع، والطول، والغلظ. ومنها ما يطلب ليتخذ منه القسي والسهام، فيذكر فيه النوع، والدقة، والغلظ، وزاد بعضهم كونه سهليا، أو جبليا، لان الجبلي أصلح. ومنهم من شرط الوزن فيه، وفي خشب البناء.
فصل إذا أسلم في الحديد، ذكر نوعه، وأنه ذكر أو أنثى، ولونه، وخشونته، ولينه. وفي الرصاص يذكر نوعه من قلع وغيره. وفي الصفر، من شبه وغيره، ولونهما، وخشونتهما، ولينهما، ولا بد من الوزن في جميع ذلك. فرع كل شئ لا يتأتى وزنه بالقبان لكبره، يوزن بالعرض على الماء. قلت: قد سبقت كيفية الوزن بالماء في باب الربا. والله أعلم. فصل في مسائل منثورة تتعلق بما سبق إحداها: السلم في المنافع، كتعليم القرآن وغيره، جائز، ذكره الروياني(3/267)
الثانية: السلم في الدراهم والدنانير، جائز على الاصح، بشرط أن يكون رأس المال غيرهما. قلت: اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز إسلام الدراهم في الدنانير، ولا عكسه سلما مؤجلا. وفي الحال وجهان محكيان في البيان وغيره. الاصح المنصوص في الام في مواضع: أنه لا يصح. والثاني: يصح بشرط قبضهما في المجلس، قاله القاضي أبو الطيب. والله أعلم. الثالثة: يجوز السلم في أنواع العطر العامة الوجود، كالمسك، والعنبر، والكافور، فيذكر وزنها ونوعها فيقول: عنبر أشهب. الرابعة: يجوز السلم في الزجاج، والطين، والجص، والنورة، وحجارة الارحية، والابنية، والاواني، فيذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها، ولا يشترط الوزن. قلت: عدم اشتراط الوزن في الارحية، هو الاصح، وبه قطع الشيخ أبو حامد، والبغوي، وآخرون، وقطع الغزالي باشتراطه. وادعى إمام الحرمين الاتفاق عليه، وليس كما ادعى. والله أعلم. الخامسة: لا يجوز السلم في الحباب، والكيزان، والطسوت، والقماقم، والطناجير والمنائر، والبرام المعمولة، لندور اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة. ويجوز السلم فيما يصب منها في القالب، لعدم اختلافه، وفي الاسطال المربعة. السادسة: يجوز السلم في الكاغد عددا، ويبين نوعه وطوله. ويجوز في الآجر على الاصح. وفي وجه: لا يصح لتأثير النار. ولا يجوز السلم في العقار، ولا في الارز، والعلس، لاستتارهما بالكمام، ويجوز في الدقيق على الصحيح.(3/268)
فصل هل يشترط ذكر الجودة والرداءة في المسلم فيه ؟ وجهان. قال العراقيون: يشترط، وهو ظاهر النص، لاختلاف الغرض به. وقال غيرهم: لا يشترط، ويحمل المطلق على الجيد، وهو الاصح. قلت: قوله: ظاهر النص، مما ينكر عليه. فقد نص عليه في مواضع من الام نصا صريحا، وهو مبين في شرح المهذب. والله أعلم. وسواء قلنا بالاشتراط، أو شرطا، ينزل على أقل الدرجات. ولو شرط الاجود، لم يصح العقد على المذهب. وقيل: فيه قولان كالاردأ. ولو شرطا الرداءة، فان كانت رداءة العيب، لم يصح العقد. وإن كانت رداءة النوع، فقال كثيرون: يصح. وأطلق الغزالي في الوجيز البطلان. قلت: وقد قال بالبطلان أيضا إمام الحرمين. والاصح: الصحة، وبه قطع العراقيون. ونص عليه الشافعي رضي الله عنه في الام نصا صريحا في مواضع. والله أعلم. وإن شرط الاردأ، جاز على الاظهر. وقيل: الاصح. فرع ينزل الوصف في كل شئ على أقل درجاته. فإذا أتى بما يقع على إسم الوصف المشروط، كفى، ووجب قبوله، لان الرتب لا نهاية لها، وهي كمن باع بشرط أنه كاتب أو خباز.
فصل صفات المسلم فيه مشهورة عند الناس، وغير مشهورة، ولابد من معرفة العاقدين صفاته. فان جهلها أحدهما، لم يصح العقد، وهل يكفي(3/269)
معرفتهما ؟ وجهان. أصحهما: لا، وهو منصوص، بل لا بد من معرفة عدلين ليرجع إليهما عند تنازعهما. وقيل: تعتبر فيها الاستفاضة، ويجري الوجهان فيما إذا لم يعرف المكيال المذكور إلا عدلان. وما ذكرناه الآن، يخالف ما قدمناه في فصح النصارى من بعض الوجوه. ولعل الفرق، أن الجهالة هناك عائدة إلى الاجل، وهنا إلى المعقود عليه، فجاز أن يحتمل هناك ما لا يحتمل هنا. فصل في أداء المسلم فيه، والكلام في صفته وزمانه ومكانه أما صفته، فإن أتى بغير جنسه، لم يجز قبوله، إذ لا يجوز الاعتياض عنه. وإن أتى بجنسه وعلى صفته المشروطة، وجب قبوله قطعا، وإن كان أجود، جاز قبوله قطعا، ووجب على الاصح. وإن كان أردأ، جاز قبوله ولم يجب. وإن أتى بنوع آخر، بأن أسلم في التمر المعقلي، فأحضر البرني، أو في ثوب هروي، فأتى بمروي، فأوجه. أصحها: يحرم قبوله. والثاني: يجب. والثالث: يجوز، كما لو اختلفت الصفة، واختلفوا في أن التفاوت بين التركي والهندي، تفاوت جنس، أم تفاوت نوع ؟ والصحيح: الثاني. وفي أن التفاوت بين الرطب والتمر، وبين ما سقي بماء السماء وما سقي بغيره، تفاوت نوع، أو صفة ؟ والاصح الاول. فرع ما أسلم فيه كيلا قبضه كيلا. وما أسلم فيه وزنا، قبضه وزنا ولا يجوز العكس. وإذا كال لا يزلزل المكيال، ولا يضع الكف على جوانبه. ويجب تسليم الحنطة ونحوها نقية من الزوان والمدر والتراب، فان كان فيها شئ قليل من ذلك، وقد أسلم كيلا، جاز، وإن أسلم وزنا، لم يجز. قلت: هكذا أطلق جمهور الاصحاب، وقال صاحب الحاوي: فيما إذا أسلم كيلا، إلا أن يكون لاخراج التراب مؤنة، فلا يلزمه قبولها. قال في البيان دقاق التبن كالتراب. والله أعلم.(3/270)
ويجب تسليم التمر جافا، والرطب صحيحا غير مشدخ. وأما زمانه: فان كان السلم مؤجلا، لم يخف انه لا مطالبة قبل المحل. فان أتى به المسلم إليه قبله، فامتنع من قبوله، قال جمهور الاصحاب: إن كان له غرض في الامتناع، بأن كان وقت نهب، أو كان حيوانا يحتاج علفا، أو ثمرة، أو لحما يريد أكلها عند المحل طريا، أو كان يحتاج إلى مكان له مؤنة، كالحنطة وشبهها، لم يجبر على القبول. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، فان كان للمؤدي غرض سوى براءة الذمة، بأن كان به رهن أو كفيل، أجبر على القبول على المذهب. وقيل: قولان. وهل يلحق بهذه الاعذار خوفه من انقطاع الجنس قبل الحلول ؟ وجهان. الاصح: يلحق. وإن لم يكن للمؤدي غرض سوى براءة الذمة، فقولان، أصحهما: يجبر، وإن تقابل غرضاهما، فالمرعي جانب المستحق على المذهب. وقيل بطرد القولين، وعكس الغزالي هذا الترتيب، وهو شاذ مردود. وحكم سائر الديون المؤجلة فيما ذكرنا حكم المسلم فيه. وأما إذا كان السلم حالا، فله المطالبة به في الحال. فلو أتى به المسلم إليه، فامتنع من قبضه، فان كان للدافع غرض سوى البراءة، أجبر على القبول، وإلا، فالمذهب: أنه يجبر على القبول أو الابراء. وقيل: على القولين، وحيث ثبت الاجبار، فلو أصر على الامتناع، أخذه الحاكم له. وأما مكانه: فإذا قلنا: يتعين مكان العقد للتسليم، أو قلنا: لا يتعين فعيناه، وجب التسليم فيه. فلو وجد المسلم إليه في غير ذلك المكان، فإن كان لنقله مؤنة، لم يطالب به. وهل يطالب بالقيمة للحيلولة ؟ وجهان. الصحيح: لا، لان أخذ العوض عن المسلم فيه قبل القبض غير جائز، وبهذا قطع العراقيون(3/271)
وصاحب التهذيب، فعلى هذا، للمسلم الفسخ واسترداد رأس المال، كما لو انقطع المسلم فيه. وإن لم يكن لنقله مؤنة كالدراهم والدنانير، فله مطالبته به، وأشار إمام الحرمين إلى الخلاف فيه. ولو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الغصب أو الاتلاف، فهل له مطالبته بالمثل ؟ فيه خلاف، الاصح: ليس له المطالبة إلا بالقيمة. ولو أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التسليم، فامتنع المستحق من أخذه، فان كان لنقله مؤنة، أو كان الموضع مخوفا، لم يجز، وإلا فوجهان بناء على القولين في التعجيل قبل المحل. فلو رضي، وأخذه، لم يكن له أن يكلفه مؤمنة النقل. قلت: أصحهما: إجباره. ولو اتفق كون رأس المال على صفة المسلم فيه، فأحضره، فوجهان مشهوران. أصحهما: يجب قبوله. والثاني: لا يجوز. والله أعلم.
باب القرض
هو مندوب إليه.(3/272)
وأركانه أربعة. العاقدان، والصيغة، والشئ المقرض، فلا يصح إلا من أهل التبرع. وأما الصيغة، فالايجاب لا بد منه، وهو أن يقول أقرضتك، أو أسلفتك، أو خذه هذا بمثله، أو خذ هذا واصرفه في حوائجك ورد بدله، أو ملكتك على أن ترد بدله، فلو اقتصر على ملكتكه فهو هبة، فان اختلفا في ذكر البدل، فالقول قول الآخذ. قلت: وحكي وجه: أن القول قول الدافع، وهو متجه. وفي التتمة وجه: أن الاقتصار على ملكتكه قرض. والله أعلم. وأما القبول، فشرط على الاصح، وبه قطع الجمهور. وادعى إمام المحرمين أن عدم الاشتراط أصح. قلت: وقطع صاحب التتمة بأنه لا يشترط الايجاب، ولا القبول، بل إذا قال لرجل: أقرضني كذا، أو أرسل إليه رسولا، فبعث إليه المال، صح القرض. وكذا قال رب المال: أقرضتك هذه الدراهم، وسلمها إليه، ثبت القرض. والله أعلم.(3/273)
وأما الشئ المقرض، فالمال ضربان. أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانا كان، أو غيره. لكن إن كان جارية، نظر، إن كانت محرما للمستقرض، بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، جاز إقراضها قطعا. وإن كانت حلالا، لم يجز على الاظهر المنصوص قديما وجديدا. قلت: هذا الذي جزم به من جواز إقراض المحرم، هو الذي قطع به الجماهير. وقال في الحاوي، إن كانت ممن لا يستبيحها المستقرض، بأن اقترضها محرم، أو امرأة، فوجهان. قال البغداديون: يجوز. وقال البصريون: لا يجوز ويصرن جنسا لا يجوز قرضه. والله أعلم. الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالاول، لم يجز. وبالثاني، جاز. وفي إقراض الخبز، وجهان، كالسلم فيه. أصحهما في التهذيب: لا يجوز. واختار صاحب الشامل وغيره: الجواز. وأشار في البيان إلى ترتيب الخلاف، إن(3/274)
جوزنا السلم، جاز هنا، وإلا فوجهان. قال: فان جوزناه، رد مثله وزنا إن أوجبنا في المتقومات المثل. وإن أوجبنا القيمة، وجبت هنا. فان شرط المثل فوجهان. قلت: قطع صاحب التتمة والمستظهري، بجواز قرضه وزنا. واحتج صاحبا الشامل والتتمة باجماع أهل الامصار على فعله في الاعصار بلا إنكار، وهو مذهب أحمد رضي الله عنه، وأبي يوسف، ومحمد، وذكر صاحب التتمة وجهين في إقراض الخمير الحامض. أحدهما: الجواز، لاطراد العادة. وفي فتاوى القاضي حسين: لا يجوز إقراض الروبة، لانها تختلف بالحموضة. قال: ولا يجوز إقراض المنافع، لانه لا يجوز السلم فيها، ولا إقراض ماء القناة، لانه مجهول. والله أعلم. فرع يشترط أن يكون المقرض معلوم القدر، ويجوز إقراض المكيل وزنا وعكسه كالسلم. وقال القفال: لا يجوز إقراض المكيل وزنا، بخلاف السلم، فانه لا يشترط فيه استواء العوضين. وزاد فقال: لو أتلف مائة رطل حنطة، ضمنها بالكيل. ولو باع شقصا بمائة رطل حنطة، أخذ الشفيع بمثلها كيلا. والاصح في الجميع: الجواز.
فصل يحرم كل قرض جر منفعة، كشرط رد الصحيح عن المكسر، أو الجيد عن الردئ، وكشرط رده ببلد آخر، فان شرط زيادة في القدر، حرم إن كان المال ربويا، وكذا إن كان غير ربوي على الصحيح. وحكى الامام أنه يصح الشرط الجار للمنفعة في غير الربوي، وهو شاذ غلط. فان جرى القرض بشرط من هذه،(3/275)
فسد القرض على الصحيح، فلا يجوز التصرف فيه. وقيل: لا يفسد، لانه عقد مسامحة. ولو أقرضه بلا شرط، فرد أجود أو أكثر أو ببلد آخر، جاز، ولا فرق بين الربوي وغيره، ولا بين الرجل المشهور برد الزيادة أو غيره على الصحيح. قلت: قال في التتمة: لو قصد إقراض المشهور بالزيادة للزيادة، ففي كراهته وجهان. والله أعلم. ولو شرط رد الاردأ أو المكسر، لغا الشرط، ولا يفسد العقد على الاصح، وأشار بعضهم إلى خلاف في صحة الشرط. ولايجوز شرط الاجل فيه، ولا يلزم بحال. فلو شرط أجلا، نظر، إن لم يكن للمقرض غرضفيه، فهو كشرط رد المكسر عن الصحيح. وإن كان، بأن كان زمن نهب والمستقرض ملئ، فهو كالتأجيل بلا غرض، أم كشرط رد الصحيح عن المكسر ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، ويجوز فيه شرط الرهن والكفيل، وشرط أن يشهد عليه أو يقر به عند الحاكم. فان شرط رهنا بدين آخر، فهو كشرط زيادة الصفة.(3/276)
ولو شرط أن يقرضه مالا آخر، صح على الصحيح، ولم يلزمه ما شرط، بل هو وعد، كما لو وهبه ثوبا بشرط أن يهبه غيره.
فصل فيما يملك به المقرض قولان منتزعان من كلام الشافعي رضي الله عنه. أظهرهما: بالقبض. والثاني: بالتصرف. فان قلنا: بالقبض، فهل للمقرض أن يلزمه رده بعينه ما دام باقيا، أم للمستقرض رد بدله مع وجوده ؟ وجهان. أصحهما عند الاكثرين: الاول. ولو رده المستقرض بعينه لزم المقرض قبوله قطعا. وإ قلنا: يملك بالتصرف، فمعناه: إذا تصرف، تبين ثبوت ملكه. ثم في ذلك التصرف، أوجه. أصحها: أنه كل تصرف يزيل الملك. والثاني: كل تصرف يتعلق بالرقبة. والثالث: كل تصرف يستدعي الملك. فعلى الاوجه: يكفي البيع، والهبة، والاعتاق، والاتلاف. ولا يكفي الرهن، والتزويج، والاجارة، وطحن الحنطة، وخبز الدقيق، وذبح الشاة، على الوجه الاول. قلت: فتكون هذه العقود باطلة والله أعلم. ويكفي ما سوى الاجارة على الثاني، وما سوى الرهن، على الثالث، لانه يجوز أن يستعير الرهن، فيرهنه. وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنه كل تصرف يمنع رجوع الواهب والبائع عند إفلاس المشتري. فان قلنا بالاول، فهل يكفي البيع بشرط الخيار ؟ إن قلنا: لا يزيل الملك، فلا، وإلا، فوجهان، لانه لا يزيله بصفة اللزوم. فرع اقترض حيوانا، إن قلنا: يملك بالقبض، فنفقته على المفترض، وإلا، فعلى المقرض إلى أن يتصرف المستقرض. ولو اقترض من يعتق عليه، عتق(3/277)
إذا قبضه إن قلنا: يملك به، ولا يعتق إن قلنا: بالتصرف. قال في التهذيب ويجوز أن يقال: يعتق ويحكم بالملك قبيله. قلت: جزم صاحب التتمة بهذا الاحتمال، ولكن المعروف: أن لا يعتق. والله أعلم.
فصل أداء القرض في الصفة والمكان والزمان، كالمسلم فيه. ولو ظفر بالمستقرض في غير مكان الاقراض، فليس له مطالبته بالمثل، وله مطالبته بالقيمة. فلو عاد إلى مكان الاقراض، فهل له رد القيمة والمطالبة بالمثل ؟ وهل اللمقرد مطالبته برد القيمة ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا. والله أعلم. والقيمة التي يطالب بها، قيمة بلد القرض يوم المطالبة. وكذا في السلم يطالب بقيمة بلد العقد إذا جورنا أخذ قيمته. قلت: المعتبر في السلم، قيمة الموضع الذي يستحق فيه التسليم. والله أعلم. فرع إذا اقترض مثليا، رد مثليا، وإن رد متقوما، فالاصح عند الاكثرين: أنه يرد مثله من حيث الصورة. والثاني: يرد القيمة يوم القبض إن(3/278)
قلنا: يملك به. وإن قلنا بالتصرف، فوجهان. أحدهما: كذلك. والثاني: تجب قيمته أكثر ما كانت من القبض إلى التصرف. وإذا اختلفا في قدر القيمة، أو صفة المثل، فالقول قول المستقرض. قلت: قال في المهذب لو قال: أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا، ثم دفع إليه ألفا، فان لم يطل الفصل، جاز، وإلا، فلا، لانه لا يمكن البناء مع طول الفصل. وإذا جوزنا إقراض الخبز، فهل يرد المثل أو القيمة ؟ فيه الوجهان. فان قلنا: القيمة، فشرط الخبز، فوجهان. أحدهما: يصح الشرط، لان مبناه على المساهلة والرفق. قال الشاشي: قال القاضي أبو حامد: إذا أهدى المستقرض للمقرض هدية، جاز قبولها بلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب ابن عباس، وكرهها ابن مسعود. قال المحاملي وغيره من أصحابنا: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخر، للحديث الصحيح في ذلك ولا يكره للمقرض أخذ ذلك. ولو أقرضه نقدا، فابطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقض الذي أقرضه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ونقله عنه أيضا ابن المنذر، وقد سبق نظيره في البيع.(3/279)
وفي فتاوى القاضي حسين: أنه لو قال: أقرضني عشرة، فقال: خذها من فلان، فأخذها منه، لا يكون قرضا، بل هذا توكيل بقبض الدين، فبعد القبض لا بد من قرض جديد. ولو كانت العشرة في يد فلان معينة، وديعة أو غيرها، صح. والله أعلم.(3/280)
كتاب الرهن
فيه أربعة أبواب.
الاول: في أركانه، وهي أربعة. الاول: المرهون، وله شروط. والاول: كونه عينا، فلا يصح رهن المنفعة، بأن يرهنه سكنى الدار مدة،(3/281)
سواء كان الدين المرهون به حالا أو مؤجلا. ولا يصح رهن الدين على الاصح، ويصح رهن المشاع سواء رهنه عند شريكه أو غيره، قبل القسمة أم لم يقبلها. قلت: سواء كان الباقي من المشاع المراهن أم لغيره. والله أعلم. ولو رهن نصيبه من بيت من دار باذن شريكه، صح، وبغير إذنه، وجهان. أصحهما عند الامام: صحته كما يصح بيعه. وأصحهما عند البغوي: فاسده، وادعى طرد الخلاف في البيع. قلت: وممن وافق الامام في تصحيح صحته الغزالي في البسيط، وصاحب التتمة، وغيرهما. وأما طرد الخلاف في البيع، فشاذ، فقد قطع الاصحاب بصحته. والله أعلم. فان قسمت الدار، فوقع هذا البيت في نصيب شريكه، فهل هو كتلف المرهون بآفة سماوية، أم يغرم الراهن قيمته ويكون رهنا لكونه حصل له بدله ؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما: الثاني. وقال الامام محمد بن يحيى: إن كان مختارا في القسمة، غرم، وإن كان مجبرا، فلا. قلت: هذا المذكور تفريع على الصحيح الذي قطع به جماهير الاصحاب: أن هذه الدار تقسم قسمة واحدة. وشذ صاحب التتمة فقال: لا تقسم قسمة واحدة، بل يقسم البيت وحده، ويسلم نصيب الرهن للمرتهن، ثم يقسم الباقي،(3/282)
كما لو باع نصيبه من ذلك البيت. وقد أشار صاحب المهذب ومن تابعه، إلى أنهما إذا اقتسما فخرج البيت في نصيب شريكه، يبقى مرهونا، وهذا ضعيف. والمتحصل من هذا الخلاف: أن المختار جواز قسمتهما جملة، وأن لا يبقى مرهونا، بل يغرم. والله أعلم. فرع إذا رهن المشاع، فقبضه بتسليم له، فإذا قبض، جرت المهايأة بين المرتهن والشريك جريانها بين الشريكين. ولا بأس بتبعض اليد بحكم الشرع، كما لا بأس به لاستيفاء الراهن المنافع. قلت: قال أصحابنا: إن كان المرهون مما لا ينقل، خلى الراهن بين المرتهن وبينه، سواء حضر الشريك أم لا. وإن كان مما ينقل، لم يحصل قبضه إلا بالنقل، ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك. فان أذن، قبض، وان امتنع، فان رضي المرتهن بكونها في يد الشريك، جاز، وناب عنه في القبض، وإن تنازعا، نصب الحاكم عدلا يكون في يده لهما، فان كان له منفعة آجره. والله أعلم. الشرط الثاني: مختلف فيه، وهو صلاحية المرتهن، لثبوت اليد عليه. فان رهن عبدا مسلما أو مصحفا عند كافر، أو السلاح عند حربي، أو جارية حسناء عند أجنبي، صح على المذهب في جميعها، فيجعل العبد والمصحف في يد عدل. قلت: وإذا صححنا رهن العبد والمصحف عند الكافر، ففي تهذيب الشيخ نصر المقدسي الزاهد وغيره: أن العقد حرام. وفي التهذيب للبغوي: أنه مكروه، ذكره في كتاب الجزية. والله أعلم. ثم إن كانت الجارية صغيرة لا تشتهى، فهي كالعبد، وإلا، فان رهنت عند(3/283)
محرم أو امرأة، فذاك. وإن رهنت عند أجنبي ثقة وعنده زوجته، أو جاريته، أو نسوة يؤمن معهم الالمام بها، فلا بأس، وإلا، فلتوضع عند محرم لها أو امرأة ثقة، أو رجل عدل بالصفة المذكورة في المرتهن. فان شرط وضعها عند غير من ذكرنا، فهو شرط فاسد. وألحق الامام بالصغيرة، الخسيسة مع دمامة الصورة، لكن الفرق ظاهر. ولو كان المرهون خنثى، فكالجارية، إلا أنه لا يوضع عند امرأة. الشرط الثالث: كون العين قابلة للبيع عند حلول الدين، فلا يصح رهن أم الولد، والمكاتب، والوقف، وسائر ما لا يصح بيعه. وسواد العراق وقف على المسلمين على المذهب، فلا يجوز رهنه. وأبنيته، وأشجاره، إن كانت من تربته وغراسه الذي كان قبل الوقف، فهي كالارض. وإن أحدثت فيها من غيرها، جاز رهنها. فان رهنت مع الارض، فهي من صور تفريق الصفقة، وكذا رهن الارض مطلقا إن قلنا: إن البناء والغراس يدخلان فيه. وإذا صح الرهن في البناء، فلا(3/284)
خراج على المرتهن، وإنما هو على الراهن. فان أداه المرتهن بغير إذنه، فهو متبرع، وإن أداه بإذنه بشرط الرجوع، رجع. وإن لم يشرط الرجوع، فوجهان يجريان في أداء دين الغير باذنه مطلقا، وظاهر النص: الرجوع.
فصل التفريق بين الأم وولدها الصغير، حرام، وفي إفساده البيع قولان سبقا. ويصح رهن أحدهما دون الآخر. وإذا أريد البيع، ففيه وجهان. أحدهما: يباع المرهون وحده، ويحتمل التفريق للضرورة. وأصحهما: يباعان جميعا، ويوزع الثمن على قيمتهما. وفي كيفيته كلام يحتاج إلى مقدمة، وهي رجل رهن أرض بيضاء، فنبت فيها نخل، فله حالان. أحدهما: أن يرهن الارض ثم يدفن النوى فيها، أو يحمله السيل أو الطير، فهي للراهن، ولا يجبر في الحال على قلعها، فلعله يؤدي الدين من موضع آخر. فان دعت الحاجة إلى بيع الارض، نظر، إن وفى ثمن الارض إذا بيعت وحدها بالدين، بيعت وحدها ولم يقلع النخل. وكذا لو لم يف به، إلا أن قيمة الارض وفيها الاشجار كقيمتها بيضاء. ولو لم يف به وقيمتها تنقص بالاشجار، فللمرتهن قلعها لبيع الارض بيضاء، إلا أن يأذن الراهن في بيعها مع الارض، فتباعان ويوزع الثمن عليها. هذا إذا لم يكن الراهن محجور عليه بالافلاس. فان كان، فلا قلع بحال، لتعلق حق الغرماء به، بل يباعان ويوزع الثمن عليهما، فما قابل الارض، اختص به المرتهن، وما قابل الاشجار، قسم بين الغرماء. فان نقصت قيمة الارض بسبب الاشجار، حسب النقص على الشجر، لان حق المرتهن في الارض فارغة.(3/285)
الحال الثاني: أن يكون النوى مدفونا في الارض يوم الرهن، ثم ينبت. فان كان المرتهن جاهلا بالحال، فله الخيار في فسخ البيع الذي شرط فيه هذا الرهن. فان فسخ، وإلا فهو كما لو كان عالما، وإن كان عالما فلا خيار. وإذا بيعت الارض مع النخل، وزع الثمن عليهما. والمعتبر في الحال الاول، قيمة الارض فارغة. وفي الحال الثاني، قيمة أرض مشغولة، لانها كانت مشغولة يوم الرهن. وفي كيفية اعتبار الشجر وجهان نقلهما الامام في الحالين. أصحهما: تقوم الارض وحدها. فإذا قيل: هي مائة، قومت مع الاشجار، فإذا قيل: هي مائة وعشرون، فالزيادة بسبب الاشجار سدس، فيراعي في الثمن نسبة الاسداس. والثاني: تقوم الاشجار وحدها. فإذا قيل: هي خمسون، كانت النسبة بالثلث، ثم في المثال المذكور لايضاح الوجهين تكون قيمة الارض ناقصة بسبب الاجتماع، لانا فرضنا قيمتها وحدها مائة، وقيمة الاشجار وحدها ثابتة خمسين، وقيمة المجموع مائة وعشرين. عدنا إلى مسألة الام والولد، فإذا بيعا معا، وأردنا التوزيع، ففيه طريقان. أحدهما: أن التوزيع عليهما كالتوزيع على الارض والشجر، فتعتبر قيمة الام وحدها. وفي الولد الوجهان. والثاني: أن الام لا تقوم وحدها، بل تقوم مع الولد وهي خاصته، لانها رهنت وهي ذات ولد، والارض بلا أشجار. وبهذا الوجه قطع الاكثرون. فلو حدث الولد بعد الرهن والتسليم من نكاح أو زنى، وبيعا معا، فللمرتهن قيمة جارية لا ولد لها. قلت: ذكر الامام الرافعي في مسألة الغراس والارض الفرق بين علم المرتهن وجهله في ثبوت الخيار، ولم يذكره هنا، فكأنه أراد أنه مثله. وقد صرح صاحب الشامل بذلك فقال: إن كان عالما بالولد حال الارتهان، فلا خيار، وإلا، فله الخيار في فسخ البيع المشروط فيه الرهن. وقال صاحب الحاوي: إن علم، فلا خيار، وإلا، فان قلنا: تباع الام دون الولد، فلا خيار، وإن قلنا: يباعان، ففي الخيار وجهان. وجه المنع: أنه لا يتحقق نقصها، بل قد تزيد. فان قيل: ما فائدة الخلاف في التوزيع، والراهن يجب عليه قضاء الدين بكل حال ؟ ! قلنا: تظهر فائدته عند ازدحام غرماء الميت والمفلس، وفي تصرف الراهن في الثمن قبل قضاء(3/286)
الدين، فينفذ في حصة الولد دون الام، ذكره الامام، والغزالي في البسيط. والله أعلم.
فصل إذا رهن ما يتسارع إليه الفساد، فان أمكن تجفيفه كالرطب والعنب، صح رهنه وجفف. وإن لم يمكن كالثمرة التي لا تجفف، والريحان، والجمد، فان رهنه بدين حال، صح، ثم إن بيع في الدين، أو قضي الدين من موضع آخر، فذاك، وإلا بيع وجعل الثمن رهنا، فلو تركه المرتهن حتى فسد، قال في التهذيب: إن كان الراهن أذن له في بيعه، ضمن، وإلا، فلا. ويجوز أن يقال: عليه الرفع إلى القاضي ليبيعه. قلت: هذا الاحتمال الذي قاله الامام الرافعي رحمه الله، قوي أو متعين. وقد قال صاحب التتمة في هذه الصورة: إن سكتا حتى فسد، أو طلب المرتهن بيعه، فامتنع الراهن، فهو من ضمان الراهن. وإن طلب الراهن بيعه، فامتنع المرتهن، فمن ضمان المرتهن. والله أعلم. وإن رهنه بدين مؤجل، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يعلم حلول الاجل قبل فساده، فهو كرهنه بالحال. الثاني: أن يعلم عكسه. فان شرط في الرهن بيعه عند الاشراف على الفساد، وجعل ثمنه رهنا، صح ولزم الوفاء بالشرط. فلو شرط أن لا يباع بحال عند حلول الاجل، بطل الرهن لمناقضته مقصود الرهن. وإن لم يشرط ذا ولا ذاك، فهل هو كشرط البيع أم كشرط عدم البيع ؟(3/287)
قولان، أظهرهما عند العراقيين: الثاني، وميل غيرهم إلى الاول. قلت: قال الامام الرافعي في المحرر أظهرهما: لا يصح الرهن. والله أعلم. الثالث: أن لا يعلم واحد من الامرين وهما محتملان، فالمذهب: الصحة. ولو رهن ما لا يسرع إليه الفساد، فحدث ما عرضه للفساد قبل الاجل، بأن ابتلت الحنطة، وتعذر تجفيفها، لم ينفسخ بحال. ولو طرأ ذلك قبل قبض المرهون، ففي الانفساخ وجهان، كما في حدوث الموت والجنون. وإذا لم ينفسخ، بيع وجعل الثمن رهنا مكانه. قلت: الارجح: أنه لا ينفسخ، وهذا الذي قطع به، من أنه إذا لم ينفسخ يباع، وهو المذهب. ونقل الامام: أن الائمة قطعوا بأنه يستحق بيعه. ونقل صاحب الحاوي فيه قولين. أحدهما: يجبر الراهن على بيعه حفظا للوثيقة، كما يجبر على نفقته. والثاني: لا، لان حق المرتهن في حبسه فقط، وهذا ضعيف. والله أعلم.
فصل رهن العبد المحارب، كبيعه. ورهن المرتد صحيح على المذهب كبيعه. فان علم المرتهن ردته، فلا خيار له في فسخ البيع المشروط فيه الرهن. وإن جهل، يخير، فان قتل قبل قبضه، فله فسخ البيع. وإن قتل بعده، فمن ضمان من ؟ فيه وجهان سبقا في البيع. فان قلنا: من ضمان البائع، فللمرتهن فسخ البيع، وإلا فلا فسخ ولا أرش، كما لو مات في يده.(3/288)
قلت: ولو رهنه عبدا مريضا، لم يعلم بمرضه المرتهن حتى مات في يده، فلا خيار له، قاله في المعاياة، قال: لان الموت بألم حادث، بخلاف قتل المرتد. والله أعلم. فرع الجاني إن لم نصحح بيعه، فرهنه أولى، وإلا، فقولان، لان الجناية الطارئة، يقدم صاحبها على حق المرتهن، فالمتقدمة أولى. فان لم نصحح رهنه، ففداه السيد، أو أسقط المجني عليه حقه، فلا بد من استئناف رهن. وإن صححناه، فقال المسعودي والامام: يكون مختارا للفداء كما لو باعه، وقال ابن الصباغ: لا يلزمه الفداء، بخلاف البيع، لان محل الجناية باق هنا، والجناية لا تنافي الرهن. قلت: قال البغوي أيضا: يكون ملتزما للفداء. ولكن الاكثرون قالوا كقول ابن الصباغ منهم الشيخ أبو حامد، والماوردي، وصاحب العدة وغيرهم. قالوا: هو مخير بين فدائه وتسليمه للبيع في الجناية. فان فداه، بقي الرهن، وإلا بيع في الجناية، وبطل الرهن إن استغرقه الارش، وإلا بيع بقدره، واستقر الرهن في الباقي. وإذا قلنا: لا يصح رهن الجاني، فسواء كان الارش درهما، والعبد يساوي الوفاء، أم غير ذلك، نص عليه الشافعي رضي الله عنه والاصحاب. وأما إثبات الخيار للمرتهن في فسخ البيع المشروط فيه رهنه، ففيه تفصيل في الحاوي وغيره. إن كان عالما بالجناية، فلا خيار في الحال. فان اقتص منه في طرفه، بقي رهنا، ولا خيار للمرتهن في البيع، لعلمه بالعيب. وإن قتل قصاصا، فان قلنا: إنه من ضمان البائع، فله الخيار كما لو بان مستحقا، وإن قلنا: من ضمان المشتري، فلا خيار، لانه معيب علم به، وإن عفا مستحق القصاص على(3/289)
ماله، فان فداه، بقي رهنا، ولا خيار للمرتهن، وإن بيع للجانية، بطل الرهن. وفي الخيار وجهان. وإن عفا عن القصاص، سقط أثر الجناية. أما إذا كان جاهلا بالجناية، فان علم قبل استقرار حكمها، يخير. فان فسخ، وإلا فيصير عالما، وحكمه ما سبق. وإن لم يعلم إلا بعد استقرار حكمها على قصاص طرف، لم يبطل الرهن بالقصاص، لكن للمرتهن الخيار. وإن كان قصاص نفس، بطل الرهن. وفي الخيار الوجهان. وإن استقر حكمها على مال، فان فداه، كان كالعفو على مال. وإن بيع، بطل الرهن. وفي الخيار الوجهان. وإن عفا بلا مال، سقط أثر الجناية، ثم إن لم يتب العبد من الجناية وكان مصرا، فهذا عيب، فللمرتهن الخيار. وإن تاب، فهل ذلك عيب في الحال ؟ وجهان. فان قلنا: عيب، فله الخيار، وإلا، فوجهان. أحدهما: يعتبر الابتداء فيثبته. والآخر: ينظر في الحال، هذا كلام صاحب الحاوي وفيه نفائس. والله أعلم. وإذا قلنا: يصح رهن الجاني جناية توجب القصاص، ولا يصح إذا أوجبت مالا، فرهن والواجب القصاص، فعفا على مال، فهل يبطل الرهن من أصله، أم يكون كجناية تصدر من المرهون حتى يبقى الرهن لو يبع في الجناية ؟ وجهان. اختار الشيخ أبو محمد أولهما. فعلى هذا لو كان العبد حفر بئرا في محل عدوان، فمات فيها بعدما رهن إنسان، ففي تبين الفساد، وجهان. والفرق أنه رهن في الصورة الاولى وهو جان. فرع رهن المدبر باطل على المذهب، وهو نصه، ورجحه الجمهور. فعلى هذا، التدبير باق على صحته. وإن صححنا رهنه، بطل التدبير بناء على أنه وصية، فقد رجع عنها. وقيل: لا يبطل فيكون مدبرا مرهونا. فعلى هذا إن قضى الدين من غيره، فذاك، وإن رجع في التدبير وباعه في الدين، بطل التدبير. وإن امتنع من الرجوع ومن بيعه، فان كان له مال آخر، أجبر على قضائه منه، وإلا فوجهان. أصحهما: يباع في الدين. والثاني: يحكم بفساد الرهن.(3/290)
قلت: هذا الذي ذكر حكم المذهب، ولا يغتر بقوله في الوسيط: ذهب أكثر الاصحاب إلى صحة رهنه، وإن كان قويا في الدليل. والله أعلم. فرع رهن المعلق عتقه بصفة، له صور. إحداها: رهنه بدين حال أو مؤجل تيقن حلوله قبل وجود الصفة، فيصح ويباع في الدين. فان لم يتفق بيعه حتى وجدت الصفة، بني على القولين في أن الاعتبار بالعتق المعلق بحالة التعليق، أم بحال وجود الصفة ؟ إن قلنا بالاول، عتق، وللمرتهن فسخ البيع المشروط فيه الرهن إن كان جاهلا. قلت: هذا الذي جزم به من ثبوت الفسخ للمرتهن على هذا القول، هو الذي جزم به صاحب التهذيب وجزم صاحب التتمة بأنه لا خيار له، وقد سقط حقه، لان الرهن سلم له ثم بطل فصار كموته، والاول: أصح، وأقيس. والله أعلم. وإن قلنا بالثاني، فهو كاعتاق المرهون، وسنذكره إن شاء الله تعالى. الثانية: رهنه بدين مؤجل تيقن وجود الصفة قبل حلوله، فالمذهب: بطلان الرهن. وقيل: قولان، وهو ضعيف. فعلى الصحة: يباع إذا قرب أوان الصفة. ويجعل ثمنه رهنا. الثالثة: أن لا يتيقن تقدم الصفة على الحلول وعكسه، فالاظهر: بطلانه. وقيل: باطل قطعا. فرع رهن الثمر على الشجر له حالان. أحدهما: أن يرهنه مع الشجر. فان كان الثمر مما يمكن تجفيفه، صح، سوابدا فيها الصلاح. أم لا، وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا، وإن لم يمكن ولم نصحح رهن ما يسرع الفساد، فالمذهب: بطلان رهن الثمر. وفي الشجر قولا تفريق الصفقة. وقيل: يصح فيهما قطعا. الثاني: رهن الثمر وحده. فان لم يمكن تجفيفه، فهو كرهن ما يسرع فساده، وإلا، فهو ضربان. أحدهما: يرهن قبل بدو الصلاح. فان رهن بدين حال وشرط قطعها وبيعها بشرط القطع، جاز. وإن أطلق، جاز أيضا على الاظهر.(3/291)
وإن رهن بمؤجل، نظر، إن كان يحل قبل بلوغ الثمر وقت الادراك أو بعده، فهو كالحال. وإن كان يحل قبل بلوغه وقت الادراك، فان رهنها مطلقا، لم يصح عل الاظهر. وقيل: لا يصح قطعا كالبيع. وإن شرط القطع، فقيل: يصح قطعا. وقيل: على القولين، وجه المنع: التشبيه بمن باع بشرط القطع بعد مدة. قلت: المذهب الصحة فيما إذا شرط القطع، وبه قطع جماعة. والله أعلم. الضرب الثاني: أن يرهن بعد بدو الصلاح، فيجوز بشرط القطع ومطلقا. إن رهن بحال أو مؤجل، هو في معناه. وإن رهنه بمؤجل يحل قبل بلوغها وقت الادراك، فعلى ما سبق في الضرب الاول. ومتى صح رهن الثمار على الاشجار، فمؤنة السقي والجداد والتجفيف على الراهن. فان لم يكن له شئ، باع الحاكم جزءا منها وأنفقه عليها. ولو توافق الراهن والمرتهن على ترك السقي، جاز على الصحيح. وقيل: يجبر عليه كما يجبر على علف الحيوان. وادعى الروياني أنه لا يصح. ولو أراد أحدهما قطع الثمرة قبل وقت الجداد، فللآخر الامتناع، وليس له الامتناع بعد وقت الجداد، بل يباع في الدين إن حل، وإلا، أمسكه رهنا. فرع الشجرة التي تثمر في السنة مرتين، يجوز رهن ثمرها الحاصل بدين حال. وبمؤجل يحل قبل اختلاط الثمرة الثانية بالاولى، وإلا، فان شرط أن لا يقطع عند خروج الثانية، لم يصح. وإن شرط قطعه، صح. وإن أطلق، فقولان. فان صححنا، أو رهن بشرط القطع، فلم يقطع حتى اختلط، ففي بطلان الرهن قولان كالقولين في البيع إذا عرضت هذه الحالة قبل القبض. والرهن بعد القبض، كالبيع قبله، فان قلنا: يبطل الرهن، فذاك. وإن قلنا: لا يبطل، فلو اتفقا قبل القبض، بطل على الصحيح. وإذا لم يبطل، فان رضي الراهن، يكون الجميع رهنا أو توافقا على كون النصف - من الجملة مثلا - رهنا، فذاك، وإن اختلفا في قدر المرهون، هل هو نصف المختلط، أو ثلثه، أو نحو ذلك ؟ فالقول قول الراهن مع يمينه. وقال المزني: قول المرتهن. فرع رهن زرعا بعد اشتداد حبه، فكبيعه، إن كان ترى حباته في سنبله، صح، وإلا فلا، على الاظهر. وإن رهنه وهو بقل، فكرهن الثمرة قبل بدو الصلاح. وقال صاحب التلخيص: لا يجوز قطعا إن كان الدين مؤجلا، وإن(3/292)
صرح بشرط القطع عند المحل، لان الزرع لا يجوز بيعه مسنبلا. وقد يقع الحلول في تلك الحالة، ولان زيادة الزرع يطوله، فهو كثمرة تحدث وتختلط.
فصل لا يشترط كون المرهون ملك الراهن على المذهب، فلو استعاد عبدا ليرهنه بدين، فرهنه، جاز. وهل سبيله سبيل الضمان، أم العارية ؟ قولان. أظهرهما: الاول. ومعناه: أنه ضمن الدين في رقبة عبده. قال الامام: هذا العقد أخذ شبها من ذا، وشبها من ذاك، وليس القولان في تمحضه عارية أو ضمانا، وإنما هما في أن المغلب أيهما ؟ وقال ابن سريج: إذا جعلناه عارية، لم يصح هذا التصرف، لان الرهن ينبغي أن يلزم بالقبض، والعارية لا يلتزم. فعلى هذا يشترط في المرهون كونه ملك الراهن. والصواب، ما سبق، وعليه التفريع. والعارية قد تلزم، كالاعارة للدفن، ونظائره. ويتفرع على المذهب فروع. أحدها: لو أذن في رهن عبده، ثم رجع قبل أن يقبض المرتهن، جاز، وبعد قبضه: لا رجوع على قول الضمان قطعا، ولا على قول العارية على الاصح، وإلا، فلا فائدة في هذا العقد ولا وثوق به. وقال صاحب التقريب إن كان الدين حالا، رجع. وإن كان مؤجلا، ففي جواز رجوعه قبل الاجل، وجهان، كما لو أعار للغراس مدة. ومتى جوزناه فرجع، وكان الرهن مشروطا في بيع، فللمرتهن فسخ البيع إن جهل الحال. الثاني: لو أراد المالك إجبار الراهن على فكه، فله ذلك بكل حال، إلا إذا كان الدين مؤجلا، وقلنا: إنه ضمان، وإذا حل الاجل وأمهل المرتهن الراهن، فللمالك أن يقول للمرتهن: إما أ ترد إلي، وإما أن تطالبه بالدين ليؤدي فينفك الرهن، كما إذا ضمن دينا مؤجلا ومات الاصيل، فللضامن أن يقول: إما أن تطالب بحقك، وإما أن تبرئني.(3/293)
الثالث: إذا حل المؤجل، أو كان حالا، قال الامام: إن قلنا: إنه ضمان، لم يبع في حق المرتهن، إن قدر الراهن على إداء الدين إلا باذن جديد، وإن كان معسرا، بيع وإن سخط المالك. وإن قلنا: عارية، لم يبع إلا باذن جديد، سواء كان الراهن موسرا، أو معسرا. ولك أن تقول: الرهن وإن صدر من المالك، لا يسلط على البيع إلا باذن جديد، فان لم يأذن، بيع عليه، فالمراجعة لا بد منها. ثم إذا لم يأذن في البيع، فقياس المذهب أن يقال: إن قلنا: عارية، عاد الوجهفي جواز رجوعه، وإن قلنا: ضمان، ولم يؤد الراهن الدين، لم يمكن من الانتفاع، ويباع عليه معسرا كان الراهن أو موسرا، كما لو ضمن في ذمته، يطالب موسرا كان الاصيل، أو معسرا، ثم إذا بيع في الدين بقيمته، رجع بها المالك على الراهن. وإن بيع بأقل، بقدر يتغابن الناس بمثله، فان قلنا: ضمان، رجع بما بيع به. وإن قلنا: عارية، رجع بقيمته، وإن بيع بأكثر من قيمته رجع بما بيع به إن قلنا: ضمان. وإن قلنا: عارية، فقال الاكثرون: لا يرجع إلا بالقيمة، لان العارية بها يضمن. وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بما بيع به كله، لانه ثمن ملكه وقد صرف إلى دين الراهن، وهذا أحسن، واختاره الامام، وابن الصباغ، والروياني. قلت هذا الذي قاله القاضي، وهو الصواب، واختاره أيضا الشاشي وغيره. والله أعلم. الرابع: لو تلف في يد المرتهن، فان قلنا: عارية، لزم الراهن الضمان. وإن قلنا: ضمان، فلا شئ عليه ولا شئ على المرتهن بحال، لانه مرتهن لا مستعير. ولو تلف في يد الراهن، قال الشيخ أبو حامد: هو على القولين، كما لو تلف في يد المرتهن، وأطلق الغزالي، أنه يضمن، لانه مستعير. قلت: المذهب: الضمان. والله أعلم. الخامس: لو جنى في يد المرتهن، فبيع في الجناية، فان قلنا: عارية، لزم الراهن القيمة. قال الامام: هذا إذا قلنا: العارية تضمن ضمان المغصوب، وإلا، فلا شئ عليه. السادس: إذا قلنا: ضمان، وجب بيان جنس الدين وقدره وصفته في الحلول(3/294)
والتأجيل وغيرهما، وحكي قول قديم غريب ضعيف: ان الحلول والتأجيل لا يشترط ذكرهما، والاصح: أنه يشترط بيان من يرهن عنده، ولا خلاف أنه إذا عين شيئا من ذلك، لم يجز مخالفته، لكن لو عين قدرا فرهن بما دونه، جاز، ولو زاد عليه، فقيل: يبطل في الزائد، وفي المأذون قولا تفريق الصفة والمذهب: القطع بالبطلان في الجميع للمخالفة. وكم الو باع الوكيل بغبن فاحش، لا يصح في شئ. ولو قال: أعرني لارهنه بألف، أو عند فلان، كان ذلك كتقييد المعير على الاصح. قلت: وإذا قلنا: عارية، فله أن يرهن عند الاطلاق بأي جنس شاء، وبالحال والمؤجل. قال في التتمة لكن لا يرهنه بأكثر من قيمته، لان فيه ضررا. فانه لا يمكنه فكه إلا بقضاء جميع الدين. ولو أذن في حال فرهنه بمؤجل، لم يصح كعكسه، لانه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل. والله أعلم. السابع: لو اعتقه المالك، إن قلنا: ضمان، فقد حكى الامام عن القاضي: أنه ينفذ ويوقف فيه. وفي التهذيب أنه كإعتاق المرهون، وإن قلنا: عارية، قال القاضي: كاعتاق المرهون، وهذا تفريع على اللزوم هذا الرهن على قول العارية. وفي التهذيب أنه يصح ويكون رجوعا، وهو تفريع على عدم اللزوم. الثامن: لو قال مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا، قال القاضي: صح ذلك على قول الضمان، ويكون كالاعارة للرهن. قال الامام: وفيه تردد من جهة أن المضمون له لم يقبل، ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتعلق بالاعيان، تقريبا له من المرهون، وإن لم يعتبر ذلك في الضمان المطلق في الذمة. التاسع: لو قضى المعير الدين بمال نفسه، انفك الرهن، ثم رجوعه على الراهن يتعلق بكون القضاء باذن الراهن أم بغيره، وسنوضحه في باب الضمان إن شاء الله تعالى. فلو اختلفا في الاذن، فالقول قول الراهن، ولو شهد المرتهن للمعير، قبلت شهادته لعدم التهمة. ولو رهن عبده بدين غيره دون إذنه، جاز، وإذا بيع فيه، فلا رجوع.
الركن الثاني : المرهون به، وله ثلاثة شروط.(3/295)
أحدهما: كونه دينا، فلا يصح بالاعيان المضمونة بحكم العقد، كالمبيع، أو بحكم اليد كالمغصوب، والمستعار، والمأخوذ على جهة السوم، وفي وجه ضعيف: يجوز كل ذلك. الثاني: كونه ثابتا، فلا يصح بما لم يثبت، بأن رهنه بما يستقرضه، أو بثمن ما سيشتريه. وفي وجه شاذ: يصح أن عين ما يستقرضه. وفي وجه: لو تراهنا بالثمن، ثم لم يتفرقا حتى تبايعا، صح الرهن إلحاقا للحاصل في المجلس بالمقارن، والصحيح: الاول. فعلى الصحيح: لو ارتهن قبل ثبوت الحق وقبضه، كان مأخوذا على جهة سوم الرهن. فإذا استقرض أو اشترى منه، لم يصر دينا إلا برهن جديد. وفي وجه ضعيف: يصير. ولو امتزج الرهن وسبب ثبوت الدين، بأن قال: بعتك هذا بألف، وارتهنت هذا الثوب به، فقال: اشتريت ورهنت، أو قال: أقرضتك هذه الدراهم، وارتهنت بها عبدك، فقال: استقرضتها ورهنته، صح(3/296)
الرهن على الاصح، وهو ظاهر النص. ولو قال البائع: ارتهنت وبعت، وقال المشتري اشتريت ورهنت، لم يصح لتقدم شقي الرهن على أحد شقي البيع. وكذا لو قال: ارتهنت وبعت، وقال المشتري: رهنت واشتريت، لتقدم شقي الرهن على شقي البيع، فالشرط أن يقع أحد شقي الرهن بين شقي البيع، والآخر بعد شقي البيع. ولو قال: بعني عبدك بكذا ورهنت به هذا الثوب، فقال: بعت وارتهنت، بني على الخلاف في مسألة الايجاب والاستيجاب. ولو قال: بعني بكذا على أن ترهنني دارك، فقال اشتريت ورهنت، فوجهان. أحدهما، يتم العقد بما جرى. قال في التتمة هو ظاهر النص. والثاني، قاله القاضي: لا يتم بل يشترط أن يقول بعده: ارتهنت أو قبلت، لان الذي وجد منه الشرط إيجاب الرهن لا استيجابه، كما لو قال: افعل كذا لتبيعني، لا يكون مستوجبا للبيع، وهذا أصح عند صاحب التهذيب والاولى أن يفرق، فانه لم يصرح في المقيس عليه بالتماس، وإنما أخبر عن السبب الداعي له إلى ذلك الفعل، وهنا باع وشرط الرهن، وهو يشتمل الالتماس، أو أبلغ منه. الشرط الثالث: كونه لازما. والديون الثابتة ضربان. أحدهما: ما لا يصير لازما بحال، كنجوم الكتابة، فلا يصح الرهن به، والآخر غيره. وهو نوعان. لازم في حال الرهن، وغير لازم. فالاول يصح الرهن به، سواء كان مسبوقا بحالة الجواز، أم لا، وسواء كان مستقرا، كالقرض وأرش الجناية، وثمن المبيع المقترض، أو غير مستقر، كالثمن(3/297)
قبل قبض المبيع، والاجرة قبل استيفاء المنفعة والصداق قبل الدخول. وأما الثاني: فينظر، إن كان الاصل في وضعه اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، صح الرهن به أيضا، لقربه من اللزوم، قال الامام: وهذا مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع، فأما إذا جعلناه مانعا، فالظاهر منع الرهن، لوقوعه قبل ثبوت الدين، ولا شك أنه لا يباع المرهون في الثمن ما لم يمض مدة الخيار. أما ما كان أصل وضعه على الجواز، كالجعل في الجعالة بعد الشروع في العمل، وقبل تمامه، فلا يصح الرهن به على الاصح. وإن كان بعد الفراغ من العمل، صح قطعا، للزومه. وإن كان قبل الشروع، لم يصح قطعا، لعدم ثبوته، وعدم تعين المستحق. قلت: هذا الذي جزم به الامام الرافعي هو الصواب، لكن ظاهر كلام كثيرين من الاصحاب، أو أكثرهم، إجراء الوجهين قبل الشروع في العمل، لا سيما عبارة الوسيط وتعليله. والله أعلم. أما المسابقة، فان جعلناها كالاجارة، أو كالجعالة، فلها حكمها. فرع يصح الرهن بالمنافع المستحقة بالاجارة إن وردت على الذمة، ويباع المرهون عند الحاجة، وتحصل المنفعة من ثمنه، وإن كانت إجارة عين، لم يصح لفوات الشرط الاول. فرع لا يصح رهن الملاك بالزكاة، والعاقلة بالدية قبل تمام الحول، لفوات الشرط الثاني، ويجوز بعده. فرع التوثق بالرهن والضمان شديد التقارب، فما جاز الرهن به، جاز ضمانه، وكذا عكسه إلا أن ضمان العهدة جائز. ولا يجوز الرهن به. هذا هو المذهب وحكي وجه: أنه لا يصح ضمان العهدة. ووجه عن القفال: أنه يصح الرهن بها. قلت: كذا قال الشيخ أبو حامد في التعليق والغزالي في الوسيط ما صح ضمانه، صح الرهن به إلا في مسألة العهدة ويستثنى أيضا، أن ضمان رد الاعيان المضمونة، صحيح على المذهب بها، باطل على الصحيح، وممن استثناها(3/298)
الغزالي في البسيط. والله أعلم.
فصل يجوز أن يرهن بالدين الواحد رهنا بعد رهن، ثم هو كما لو رهنهما معا. ولو كان الشئ مرهونا بعشرة، وأقرضه عشرة أخرى على أن يكون مرهونا بها أيضا، لم يصح على الجديد الاظهر. فان أراد ذلك، فطريقه أن يفسخ المرتهن الرهن الاول، ثم يرهنه بالجميع. ولو جنى المرهون، ففداه المرتهن باذن الراهن ليكون مرهونا، بالدين والفداء، صح على المذهب وهو نصه، لانه من مصالح الرهن، فإنه يتضمن إبقاءه. وقيل: فيه القولان. ولو اعترف الراهن أنه مرهون بعشرين، ثم رهنه أولا بعشرة ثم بعشرة، وقلنا: لا يجوز، ونازعه المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه، لان اعتراف الراهن، يقوي جانبه، ولو قال المرتهن في جوابه: فسخنا الرهن الاول، واستأنفنا بالعشرين رهنا، فهل القول قول المرتهن لاعتضاده بقول الراهن، رهن بعشرين أم قول الراهن لان الاصل عد الفسخ ؟ وجهان، ميل الصيدلاني إلى أولهما، وصحح صاحب التهذيب الثاني، ورتب عليه فقال: لو شهد شاهدان أنه رهنه بألف، ثم بألفين، لم يحكم بأنه رهن بألفين، ما لم يصرحا بأن الثاني كان بعد فسخ الاول. فرع رهن بعشرة ثم استقرض عشرة ليكون رهنا بهما، وأشهد شاهدين أنه رهن بالعشرين، فإن لم يعلم الشاهدان الحال ونقلا ما سمعا، فهل يحكم بكونه رهنا بالعشرين، إذا كان الحاكم يعتقد القول الجديد، وجهان. وإن عرفا(3/299)
الحال، فإن كانا يعتقدان جواز الالحاق، فهل لهما أن يشهدا بأنه رهن بالعشرين، أم عليهما بيان الحال ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا يجوز، لان الاجتهاد إلى الحاكم، لا إليهما. والله أعلم. وإن كانا يعتقدان منع الالحاق، لم يشهدا إلا بما جرى باطنا على الصحيح. وهذا التفصيل، فيما إذا شهدا بنفس الرهن، وفيه صور الجمهور: فان شهدا على إقرار الراهن، فالوجه تجويزه مطلقا. قلت: كذا أطلق الجمهور هذا التفصيل، وقال صاحب الحاوي: إن كان الشاهدان مجتهدين، ففيه التفصيل، وإن كانا غير مجتهدين، لم يجز مطلقا، ولزمهما شرح الحال. ولو مات وعليه دين مستغرق، فرهن الوارث التركة عند صاحب الدين على شئ آخر أيضا، ففي صحته الوجهان بناء على القولين. والله أعلم.
الركن الثالث : الصيغة، فيعتبر الايجاب والقبول، اعتبارهما في البيع، والخلاف في المعاطاة والاستيجاب والايجاب عائد كله هنا. فرع الرهن قسمان. أحدهما: مشروط في عقد، كمن باع، أو أجر، أو أسلم، أو زوج بشرط الرهن بالثمن، أو الاجرة، أو المسلم فيه، أو الصداق. والقسم الثاني: ما لم يشرط، ويسمى: رهن التبرع، والرهن المبتدأ. فالاول، كبعتك داري بكذا على أن ترهنني به عبدك، فقال: اشتريت ورهنت، وقد ذكرنا خلافا في أنه يتم الرهن بهذا، أم لا بد من قوله بعده: ارتهنت. فعلى الاول يقوم الشرط مقام القبول، كما يقوم الاستيجاب مقامه، وحكي وجه:(3/300)
أنهما إذا شرطا الرهن في نفس البيع، صار مرهونا من غير استئناف رهن، ويقام التشارط مقام الايجاب والقبول. فرع الشرط في الرهن ضربان. أحدهما: شرط يقتضيه، فلا يضر ذكره في رهن التبرع، ولا في الرهن المشروط في عقد، كقوله: رهنتك على أن تباع في دينك، أو لا تباع إلا باذنك، أو يتقدم به على الغرماء. والثاني: ما لا يقتضيه، وهو إما متعلق بمصلحة العقد، كالاشهاد، وإما لا غرض فيه، كقوله: بشرط أن لا يأكل إلا الهريسة، وحكمهما كما سبق في كتاب البيع. وأما غيرهما، وهو نوعان. أحدهما ينفع المرتهن ويضر الراهن، كشرط المنافع أو الزوائد للمرتهن، فالشرط باطل، فان كان رهن تبرع، بطل الرهن أيضا على الاظهر، وإن كان مشروطا في بيع، نظر، إن لم يجر جهالة الثمن، بأن الشرط في البيع رهنا على أنه يبقى بعد قضاء الدين محبوسا شهرا، فسد الرهن على الاظهر. وفي فساد البيع القولان فيما إذا شرط عقدا فاسدا في بيع، فإن صححنا البيع، فللبائع الخيار، صح الرهن أم فسد، لانه وإن صح، لم يسلم له الشرط، وإن جر جهالة، بأن شرط في البيع رهنا تكون منافعه للمرتهن، فالبيع باطل على المذهب. وقيل: هو الذي لا يجر جهالة، ثم البطلان فيما إذا أطلق المنفعة. فلو قيدها فقال: ويكون منفعتها لي سنة مثلا، فهذا جمع بين بيع وإجارة في صفقة، وفيه خلاف سبق. النوع الثاني: ينفع الراهن ويضر المرتهن، كرهنتك بشرط أن لا يباع في الدين، أو لا يباع إلا بعد المحل بشهر أو بأكثر من ثمن المثل، أو برضاي،(3/301)
فالرهن باطل، كذا قطع به الاصحاب. وعن ابن خيران: أنه قال: يجئ في فساده القولان، وهو غريب. والصواب الاول، فلو كان مشروطا في بيع، عاد القولان في فساده بفساد الرهن، فان لم يفسد، فللبائع الخيار. فرع زوائد المرهون غير مرهونة، فلو رهن شجرة أو شاة بشرط أن تحدث الثمرة أو الولد مرهونا، لم يصح الشرط على الاظهر. وقيل: قطعا، لانه مجهول معدوم، فان صححنا، ففي اكساب العبد إذا شرط كونها مرهونة وجهان. أصحهما: المنع، لانها ليست من أجزاء الاصل. وإن أفسدنا، ففي صحة الرهن قولان. فان كان شرطا في بيع، وصححنا الشرط، أو أبطلناه وصححنا الوجهن، صح البيع، وللبائع الخيار، وإلا ففي صحة البيع قولان. وإذا اختصرت. قلت: فيه أربعة أقوال. أحدها: بطلان الجميع. والثاني: صحة الجميع. والثالث: صحة البيع فقط. والرابع: صحته مع الرهن دون الشرط. قلت: هذا الرابع، هو المنصوص، كذا قاله في الشامل. والله أعلم. فرع إقرضه بشرط أن يرهن به شيئا يكون منافعه للمقرض، فالقرض باطل. فلو شرط كون المنافع مرهونة، فالشرط باطل، والقرض صحيح، لانه لا يجر نفعا وفي صحة الرهن القولان. فرع لو قال: أقرضتك هذا الالف بشرط أن ترهن به، وبالالف الذي لي عليك كذا أو بذلك الالف وحده، فالقرض فاسد. ولو قال المستقرض: أقرضني ألفا على أن أرهبه، وبالالف القديم، أو بالقديم فقط كذا، فالاصح فساد القرض. لو باع بشرط أن يرهن بالثمن والدين، أو بالدين رهنا، بطل البيع كما سبق. فلو رهن المستقرض، أو المشتري كما شرط، فإن علم فساد الشرط، نظر،(3/302)
إن رهن بالالف القديم، صح، وإن رهن بهما، لم يصح بالالف الذي فسد قرضه، لانه لم يملكه، وإنما هو مضمون في يده، والاعيان لا يرهن بها. وفي صحته في الالف القديم قولا تفريق الصفقة. فان صح، لم يوزع، بل كله مرهون بالالف القديم، لان وضع الرهن على وثيق كل بعض من (أبعاض) الدين بجميع المرهون. فلو تلف الالف الذي فسد قبضه في يده، صار دينا في ذمته، وصح الرهن بالالفين حينئذ. وإن ظن صحته، فإن رهن بالقديم، فوجهان. قال القاضي: لا يصح، وقال الشيخ أبو محمد وغيره: يصح. قلت: قول الشيخ أبي محمد، هو الاصح، واختاره الامام، والغزالي في البسيط وزيف الامام قول القاضي. والله أعلم. ولو رهن بالالفين وقلنا: الصفقة تفرق، فصحته بالالف القديم على هذا الخلاف. وكذا لو باع بشرط بيع آخر، فأنشأه ظانا صحة العقد، وقد سبقت هذه الصورة في بابها. فصل سبق ذكر الخلاف في دخول الابنية والاشجار في الرهن تحت إسم الارض، وفي دخول المغرس تحت رهن الشجرة، والاس تحت الجدار، خلاف مرتب على البيع، و (الرهن) أولى بالمنع لضعفه. ولا تدخل الثمرة المؤبرة تحت رهن الشجرة قطعا، ولا غير المؤبرة على الاظهر. وقيل: قطعا. ولا يدخل البناء بين الاشجار تحت رهن الاشجار، وإن كان بحيث يمكن إفراده بالانتفاع. وإن لم ينتفع به إلا بتبعية الاشجار فلذلك على المذهب. وقيل: فيه الوجهان كالمغرس. ويدخل في الاشجار، الاغصان، والاوراق، لكن الذي يفصل غالبا، كأغصان الخلاف، وورق الآس، والفرصاد، فيه القولان في الثمرة غير المؤبرة، وفي اندراج الجنين تحت رهن الحيوان خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. واللبن في الضرع لا يدخل على المذهب، ولا يدخل الصوف على الظهر.(3/303)
وقيل: يدخل قطعا. وقيل: إن كان قد بلغ أوان الجز لم يدخل، وإلا دخل. فصل قال: رهنتك هذه الخريطة بما فيها، أو هذا الحق بما فيه، فان كان ما فيهما معلوما مرئيا، صح الرهن في الظرف والمظروف، وإلا، لم يصح في المظروف. وفي الخريطة والحق قولا الصفقة. وأما نصه في المختصر على الصحة في الحق، وعدمها في الخريطة، فسببه أنه فرض المسألة في حق له قيمة تقصد بالرهن، وفي خريطة ليست لها قيمة تقصد بالرهن، وحينئذ يكون المقصود ما فيها. ولو كان اللفظ مضافا إلى ما فيهما جميعا، وكان ما فيهما بحيث لا يصح الرهن فيه، بطل فيهما جميعا، وفي وجه: يصح فيها وإن كانت قليلة القيمة اعتبارا باللفظ ولو عكست التصوير في الحق والخريطة، كان الحكم يعكس، كما نص عليه بلا فرق. ولو قال: رهنتك الظرف دون ما فيه، صح الرهن فيه مهما كان له قيمة. فان قلت: لانه إذا أفرده فقد وجه الرهن نحوه، وجعله المقصود. وإن رهن الظرف ولم يتعرض لما فيه نفيا ولا إثباتا. فإن كان بحيث يقصد بالرهن وحده، فهو المرهون لا غير، وإن كان لا يقصد منفردا لكنه متمول، فهل المرهون الظرف فقط ؟ أو مع المظروف ؟ وجهان. أصحهما: أولهما. ويجئ على قياسه وجهان إذا لم يكن متمولا، لان الرهن ينزل على المظروف أم يلغى. قلت: قال إمام الحرمين، والغزالي في البسيط كما ذكرناه في الرهن، يجري مثله في البيع حرفا حرفا، فيما إذا قال: بعتك الخريطة بما فيها، أو وحدها، أو الخريطة، لان مأخذه اللفظ. والله أعلم.
الركن الرابع : العاقدان، فيعتبر فيهما التكليف، لكن الرهن تبرع. فإن صدر من أهل التبرع فيما له، فذاك، وإلا فالشرط وقوعه على وفق المصلحة والاحتباط، فرهن الولي مال الصبي، والمجنون، والمحجور عليه لسفه،(3/304)
وارتهانه لهم، مشروطان بالمصلحة والاحتياط، فمن صور الرهن للمصلحة، أن يشتري للطفل ما يساوي مائتين بمائة نسيئة، ويرهن به ما يساوي مائة من ماله، فيجوز لانه إن لم يعرض تلف، ففيه غبطة ظاهرة. وإن تلف المرهون، كان في المشترى ما يجبره. ولو امتنع البائع إلا برهن ما يزيد على مائة، ترك هذا الشراء، لانه ربما تلف المرهون. فإن كان مما لا يتلف في العادة كالعقار، فالمذهب أنه لا يجوز. وعن الشيخ أبي محمد ميل إلى جوازه. ومنها إذا وقع نهب أو حريق، وخاف الولي على ماله، فله أن يشتري عقارا، ويرهن بالثمن شيئا من ماله إذا لم يمكن أداؤه في الحال، ولم يبع صاحب العقار عقاره إلا بشرط الرهن. ولو اقترض له والحالة هذه، ورهن به، لم يجز، قاله الصيدلاني، لانه يخاف التلف على ما يقرضه خوفه على ما يرهنه. ولك أن تقول: إن لم يجد من يستودعه، ووجد من يرتهنه، والمرهون أكثر قيمة من القرض، وجب أن يجوز رهنه. ومنها أن يقترض له لحاجته إلى النفقة، أو الكسوة، أو لتوفية ما لزمه، أو لاصلاح ضياعه أو مرمتها ارتقابا لغلتها، أو لانتظار حلول دين له مؤجل، أو نفاق متاعه الكاسد فإن لم يرتقب شيئا من ذلك، فبيع ما يريد رهنه أولى من الاستقراض. وحكي وجه شاذ: أنه لا يجوز رهن مال الصبي بحال، وليس بشئ. وأما الارتهان، فمن صور المصلحة فيه، أن يتعذر على الولي استيفاء دين الصبي، فيرتهن به إلى تيسيره. ومنها أن يكون دينه مؤجلا بأن ورثه كذلك. ومنها أن يبيع الولي ماله مؤجلا بغبطة، فلا يكتفى بيسار المشتري، بل لا بد من الارتهان بالثمن. وفي النهاية إشارة إلى خلاف ذلك، أخذا من جواز إبضاع ماله. وإذا ارتهن جاز أن يرتهن بجميع الثمن على الصحيح. وفي وجه: يشترط أن يستوفي ما يساوي المبيع نقدا، وإنما يرتهن ويؤجل بالنسيئة للفاضل. قلت: هذا الوجه حكاه بعض العراقيين عن الاصطخري. وقول الغزالي: إنه(3/305)
مذهب العراقيين، ليس بجيد، ولا ذكر لهذا الوجه في معظم كتب العراقيين. وإنما اشتهر الخلاف عندهم، فيما إذا باع ما يساوي مائة نقدا، ومائة وعشرين نسيئة بمائة وعشرين نسيئة، وأخذ بالجميع رهنا، ففيه عندهم وجهان. الصحيح وظاهر النص، وقول أكثرهم: إنه صحيح. قال صاحب الحاوي، وشيخه الصيمري، وصاحب البيان وآخرون من العراقيين: فإذا جوزنا البيع نسيئة، فشرطه كون المشتري ثقة موسرا، ويكون الاجل قصيرا: قال واختلفوا في حد الاجل التي لا تجوز الزيادة عليه، فقيل: سنة. وقال الجمهور: لا يتقدر بالسنة، بل يعتبر عرف الناس. ويشترط كون الرهن وافيا بالثمن، فان فقد شرط من هذه، بطل البيع، ويلزمه أن يشهد عليه، فان ترك الاشهاد، ففي بطلان البيع وجهان. والله أعلم. ومنها أن يقرض ماله أو يبيعه لضرورة نهب، ويرتهن به، قال الصيدلاني: والاولى أن لا يرتهن إذا خيف تلف المرهون، لانه قد يتلف ويرفعه إلى حاكم يرى سقوط الدين بتلف الرهن، وحيث جاز الرهن، فشرطه أن يرهن عند أمين يجوز إيداعه. وسواء في ذلك كان الولي أبا، أو جدا، أو وصيا، أو حاكما، أو أمينه. لكن حيث جاز الرهن أو الارتهان، جاز للاب والجد أن يعاملا به أنفسهما، ويتوليا الطرفين، وليس لغيرهما ذلك، وإذا تولى الاب الطرفين، فقبضه وإقباضه سنذكرهما قريبا في رهن الوديعة عند المودع إن شاء الله تعالى.
فصل رهن المكاتب وارتهانه، جائزان بشرط المصلحة والاحتياط، كما ذكرنا في الصبي. وتفصيل صور الارتهان، كما سبق في الصبي. وقيل: لا يجوز أن يستقل بالرهن، وبإذن السيد قولان، تنزيلا لرهنه منزلة تبرعه. وقيل: لا يجوز استقلاله بالبيع نسيئة بحال، وبإذن السيد القولان.(3/306)
فصل المأذون إذا دفع إليه سيده مالا ليتجر فيه، فهو كالمكاتب إلا في شيئين. أحدهما: أن رهنه أولى بالمنع، لكون الرهن ليس من عقد التجارة. والثاني: له البيع نسيئة بإذن سيده بلا خلاف. فإن قال له: اتجر بجاهك، ولم يدفع إليه مالا، فله البيع والشراء في الذمة حالا ومؤجلا، وكذا الرهن والارتهان، إذ لا ضرر على سيده. فإن فضل في يده مال، كان كما لو دفع إليه مالا. قلت: قوله: إن رهنه أولى بالمنع، يعني ما منعناه في المكاتب فهنا أولى، وما لا، فوجهان. وهذا ترتيب الامام، وقطع الشيخ أبو حامد وصاحبا الشامل والتهذيب بأنه كالمكاتب. والله أعلم. الباب الثاني في حكم القبض والطوارئ قبله
القبض ركن في لزوم الرهن. ولو رهن ولم يقبض، فله ذلك. فإن كان شرط في بيع، فللبائع الخيار. ثم من صح ارتهانه، صح قبضه. وتجري النيابة في القبض جريانها في العقد، لكن لا يصح أن يستنيب الراهن، ولا عبده ومدبره، وأم ولده قطعا، ولا عبده المأذون على أصح الاوجه.(3/307)
وفي الثالث: إن ركبته ديون، صحت استنابته، لانقطاع سلطة السيد عما في يده كالمكاتب، وإلا، فلا، ويصح استنابة المكاتب، لاستقلاله باليد والتصرف.
فصل صفة القبض هنا في العقار والمنقول، كما سبق في البيع، ويطرد الخلاف في كون التخلية في المنقول قبضا، وعن القاضي: القطع بأنها لا تكفي هنا، لان القبض مستحق هناك. فرع أودع عند رجل مالا، ثم رهنه عنده، فظاهر نصه: أنه لا بد من إذن جديد في القبض، ولو وهبه له، فظاهر نصه: حصول القبض بلا إذن في القبض، وللاصحاب طرق. أصحها: فيهما قولان، أظهرهما: اشتراط الاذن فيهما. والطريق الثاني: تقرير النصين، لان الرهن توثيق، وهو حاصل بغير القبض، والهبة تمليك، ومقصوده الانتفاع، ولا يتم ذلك إلا بالقبض، فكانت الهبة لمن في يده رضا بالقبض. والثالث باعتبار الاذن فيهما، قاله ابن خيران. وسواء شرط الاذن الجديد، أم لا، فلا يلزم العقد ما لم يمض زمان يتأتى فيه صورة القبض. لكن إذا شرط الاذن، فهذا الزمان يعتبر من وقت الاذن. وإن لم يشترطه، فمن وقت العقد. وقال حرملة: لا حاجة إلى مضي هذا الزمان، ويلزم العقد بنفسه، والصحيح الاول. قلت: قوله: قال حرملة معناه: قال حرملة مذهبا لنفسه، لا نقلا عن الشافعي رضي الله عنه، كذا صرح به الشيخ أبو حامد آخرون. وإنما نبهت على هذا، لئلا يغتر بعبارة صاحب المهذب فإنها صريحة، أو كالصريحة، في أن حرملة نقله عن الشافعي رضي الله عنه، فحصل أن المسألة ذات وجهين، لا قولين. والله أعلم. فعلى الصحيح، إن كان المرهون منقولا غائبا، اعتبر زمان يمكن المصير فيه إليه ونقله. وهل يشترط مع ذلك نفس المصير ومشاهدته ؟ فيه أوجه. أصحهما: لا. والثاني: نعم. والثالث: إن كان مما يشك في بقائه، كالحيوان، فإنه معرض(3/308)
للآفات، اشترط. وإن تيقن بقاؤه، فلا، فإن شرطنا الحضور والمشاهدة، فالمذهب أنه لا يشترط مع ذلك نقله، فإن شرطنا النقل، أو المشاهدة، فهل يصح التوكيل فيه ؟ فيه وجهان. أصحهما: الصحة، كابتداء القبض. والثاني: لا، لان ابتداء القبض له، فليتمه. فرع لو ذهب ليقبضه، فوجده قد ذهب من يده، نظر، إن أذن له في القبض بعد العقد، فله أخذه حيث وجده، وإلا، لم يأخذه حتي يقبضه الراهن، سواء شرطنا الاذن الجديد، أم لا، كذا قاله ابن عبدان، وكأنه صوره فيما إذا علم خروجه من يده قبل العقد. أما إذا خرج بعده ولم يشترط الاذن الجديد، فقد جعلنا الرهن ممن هو في يده إذنا في القبض، فليكن كما لو استأنف إذنا. فرع إذا رهن الاب مال الطفل عند نفسه، أو ماله عند الطفل، ففي اشتراط مضي زمان يمكن فيه القبض، وجهان. فإن شرطناه، فهو كرهن الوديعة عند المودع، فيعود الخلاف المذكور. وقصد الاب قبضا وإقباضا، كالاذن الجديد هناك. فرع إذا باع المالك الوديعة، أو العارية ممن في يده، فهل يعتبر زمان إمكان القبض لجواز التصرف وانتقال الضمان ؟ وجهان. أصحهما: نعم. ثم اشتراط المشاهدة والنقل، كما سبق في الرهن والهبة، فعلى هذا، هل يحتاج إلى إذن في القبض ؟ نظر، إن كان الثمن حالا ولم يوفه، لم يحصل على القبض إلا بإذ البائع، فإن وفاه أو كان مؤجلا، فالمذهب: أنه لا يحتاج إليه، وبهذا قطع الجمهور. وقيل: هو كالرهن، والفرق على المذهب: أن القبض مستحق في البيع، فكفى دوامه. فرع إذا رهن المالك ماله عند الغاصب، أو المستعير، أو المستام، أو الوكيل، صح.(3/309)
والقول في افتقار لزومه إلى مضي زمان يتأتي فيه القبض، وإلى إذن جديد في القبض، على ما ذكرناه في رهن الوديعة عند المودع. وقيل: لا بد في الغصب من إذن قطعا، لعدم الاذن في أول اليد. وإذا رهن عند الغاصب، لا يبرأ من الضمان، فإن أراد البراءة، رده إلى الراهن، ثم له الاسترداد بحكم الارتهان. فإن امتنع الراهن من قبضه، فله إجباره. ولو أراد الراهن إجبار المرتهن على رده إليه، ثم يرده هو عليه، لم يكن له ذلك على الاصح، وبه قال القاضي، إذ لا غرض له في براءة ذمة المرتهن. وإن أودعه عند الغاصب، برئ على الاصح، لان مقصود الايداع، الائتمان، والضمان والامانة لا يجتمعان، فإنه لو تعدى في الوديعة، لم يبق أمينا، بخلاف الرهن، فإنه يجتمع هو والضمان، فإنه لو تعدى في الرهن، صار ضامنا وبقي الرهن. والاجارة، والتوكيل، والقراض على المال المغصوب، وتزويجه للجارية التي غصبها لا يفيد البراءة على المذهب. ولو صرح بإبراء الغاصب من ضمان الغصب، والمال باق في يده، ففي براءته ومصير يده يد أمانة، وجهان أصحهما لا يبرأ. قلت: قطع صاحب الحاوي بأنه يبرأ، وصححه البغوي، قال صاحبا الشامل والمهذب: هو ظاهر النص. والله أعلم. فرع لو رهن العارية عند المستعير، أو المقبوض بالسوم، أو بشراء فاسد عند قابضه، لم يبرأ على الاصح. قلت: قال صاحب الشامل: إذا رهن العارية عند المستعير، لم يزل ضمانها، وكان له الانتفاع بها. فإن منعه الانتفاع، ففي زوال الضمان وجهان. وقال في الحاوي: في بطلان العارية وجهان. أحدهما: لا تبطل، وله(3/310)
الانتفاع. فعلى هذا، يبقى الضمان. والثاني: تبطل العارية، وليس له الانتفاع، ويسقط الضمان. والله أعلم.
فصل في الطوارئ المؤثرة في العقد قبل القبض وهي ثلاثة أنواع. الاول: ما ينشؤه الراهن من التصرفات، فكل مزيل للملك، كالبيع، والاعتاق، والاصداق، وجعله أجرة، والرهن، والهبة مع القبض والكتابة، والوطئ مع الاحبال، يكون رجوعا عن الرهن إذا وجد قبل القبض. والتزويج، والوطئ بلا إحبال، ليس برجوع، بل رهن المزوجة ابتداء جائز. وأما الاجارة، فإن جوزنا رهن المستأجر وبيعه، فليس برجوع، وإلا، فرجوع على الاصح. والتدبير، رجوع على الصحيح المنصوص. قلت: قال أصحابنا العراقيون وصاحب التتمة: إن كانت الاجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين، لم يكن رجوعا قطعا، وإلا فعلى الخلاف والبناء المذكور. والاصح على الجملة: أنها ليست رجوعا مطلقا، ونص عليه في الام وقطع به الشيخ أبو حامد والبغوي. والله أعلم. النوع الثاني: ما يعرض للمتعاقدين، فإن مات أحدهما قبل القبض، فنص: أنه يبطل بموت الراهن دون المرتهن، وفيهما طرق. أصحها. فيهما قولان. أظهرهما: لا يبطل فيهما، لان مصيره إلى اللزوم، فلا يبطل بموتهما كالبيع. والثاني: يبطل، لانه جائز، فبطل كالوكالة. والطريق الثاني: تقرير النصين، لان المرهون بعد موت الراهن، ملك لوارثه. وفي إبقاء الرهن ضرر عليهم، وفي موت ا لمرتهن يبقى الدين والوارث محتاج إلى الوثيقة حاجة ميته. والثالث: القطع بعدم البطلان فيهما. فإذا قلنا بالقولين، فقيل: هما مختصان برهن التبرع. فأما المشروط في بيع، فلا يبطل قطعا لتأكده. والمذهب: طردهما في النوعين، وبه قال الجمهور.(3/311)
فإذا أبقينا الرهن، قام وارث الراهن مقامه في الاقباض، ووارث المرتهن في القبض، وسواء أبطلناه أم لا، ولم يتحقق الوفاء بالرهن المشروط، ثبت الخيار في فسخ البيع. ولو جن أحدهما، أو أغمي عليه قبل القبض، فإن قلنا: لا يبطل بالموت، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. فإن لم نبطله، فجن المرتهن، قبض من ينظر في ماله. فإن لم يسلمه الراهن وكان مشروطا في بيع، فعل ما فيه المصلحة من الفسخ والاجازة. وإن جن الراهن، فإن كان مشروطا في بيع، وخاف الناظر فسخ المرتهن إن لم يسلمه، والحظ في الامضاء، سلمه. وإن لم يخف، أو كان الحظ في الفسخ، أو كان رهن تبرع، لم يسلمه، كذا أطلقوه، ومرادهم: إذا لم يكن ضرورة ولا غبطة، لانهما تجوزان رهن مال المجنون ابتداء، فالاستدامة أولى. ولو طرأ على أحدهما حجر سفه، أو فلس، لم يبطل على المذهب. النوع الثالث: ما يعرض في المرهون. فلو رهن عصيرا وأقبضه، فانقلب في يد المرتهن خمرا، بطل الرهن على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لخروجه عن المالية. وقيل: إن عاد خلا، بان أن الرهن لم يبطل، وإلا، بأن بطلانه، فإن أبطلنا، فلا خيار للمرتهن إن كان مشروطا في بيع لانه حدث في يده، فإن عاد خلا، عاد الرهن على المشهور، كما يعود الملك. ومرادهم ببطلانه أولا: إرتفاع حكمه ما دام خمرا، ولم يريدوا اضمحلال أثره بالكلية. ولو رهن شاة فماتت في يد المرتهن، فدبغ جلدها، لم يعد رهنا على الاصح، واختاره الاكثرون، لان ماليته حدثت بالمعالجة، بخلاف الخمر، ولان العائد غير ذلك الملك. ولو انقلب خمرا قبل القبض، ففي بطلانه البطلان الكلي، وجهان.(3/312)
أحدهما: نعم، لاختلاله في حال ضعف الرهن، وعدم لزومه. والثاني: لا، كما بعد القبض. ومقتضى كلامهم، ترجيح هذا. قلت: قد قطع صاحبا الشامل والبيان بالاول، ولكن في الثاني أصح، وصححه في المحرر. والله أعلم. قال في التهذيب وعلى الوجهين لو كان مشروطا في بيع، ثبت الخيار للمرتهن، لان الخل دون العصير. ولا يصح الاقباض في حال الخمرية، فلو فعل وعاد خلا، فعلى الوجه الثاني: لا بد من استئناف قبض، وعلى الاول: لا بد من استئناف عقد، ثم القبض فيه على ما ذكرنا فيما إذا رهنه ما هو في يده. فرع لو انقلب المبيع خمرا قبل القبض، فالكلام في انقطاع البيع وعوده إذا عاد خلا على ما ذكرناه في انقلاب العصير المرهون خمرا بعد القبض. قلت: هذا هو المذهب، وبه قال الاكثرون، وقطع جماعة من العراقيين، منهم صاحب الشامل بأنه يبطل البيع، وفرقوا بينه وبين الرهن بعد القبض، بأن الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وهنا يعود ملك البائع لعدم البيع، ولا يصح أن يبيع ملك المشتري. والله أعلم. ولو جنى المرهون قبل القبض، وتعلق برقبته أرش، وقلنا: رهن الجاني إبتداء فاسد، ففي بطلان الرهن وجهان، كتخمر العصير، وهنا أولى بعدم البطلان، لدوام الملك في الجاني. قال الامام: وإباق المرهون قبل القبض يخرج على وجهين، لانه انتهى إلى حاله تمنع ابتداء الرهن. قلت: أصحهما: لا يبطل، وصححه في المحرر. والله أعلم.
فصل في تخلل الخمر وتخليلها
الخمر نوعان. أحدهما: محترمة، وهي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا، وإنما كانت(3/313)
محترمة، لان إتخاذ الخل جائز بالاجماع، ولا ينقلب العصير إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة، فلو لم يحترم وأريق في تلك الحال، لتعذر إتخاذ الخل. النوع الثاني: غير محترمة، وهي التي اتخذ عصيرها للخمرية. ثم في النوعين مسائل. إحداها: تخليل الخمر بطرح العصير، أو الملح، أو الخل، أو الخبز الحار، أو غيرها (فيها) حرام. والخل الحاصل منها نجس لعلتين إحداهما: تحريم التخليل. والثانية: نجاسة المطروح بالملاقاة، فتستمر نجاسته، إذ لا مزيل لها، ولا ضرورة إلى الحكم بانقلابه طاهرا، بخلاف أجزاء الدن. ثم سواء في هذا الخمر المحترمة وغيرها، والمطروح قصدا، أو إتفاقا، كإلقاء الريح. وفي وجه: يجوز تخليل المحترمة. وفي وجه: تطهر إذا طرح تعبير على حساب قصد. والصحيح: الاول. ولو طرح في العصير بصلا، أو ملحا، واستعجل به الحموضة بعد الاشتداد، فوجهان. أحدهما: يطهر، لانه لاقاه في حال طهارته كأجزاء الدن. وأصحهما: لا، لان المطروح تنجس بالتخمر، فيستمر، بخلاف أجزاء الدن للضرورة. ولو طرح العصير على الخل، وكان العصير غالبا يغمر الخل عند الاشتداد، ففي طهارته إذا انقلب خلا هذان الوجهان. ولو كان الخل غالبا يمنع العصير من الاشتداد، فلا بأس. المسألة الثانية: إمساك المحترمة لتصير خلا، جائز، وغير المحترمة يجب إراقتها. فلو لم يرقها فتخللت، طهرت، لان النجاسة والتحريم للشدة، وقد زالت، وحكي وجه: أنه لو أمسك غير المحترمة فتخللت، لم تطهر. وحكى الامام عن بعض الخلافيين: أنه لا يجوز إمساك المحترمة، بل طريقه(3/314)
أن يعرض عن العصير إلى أن يصير خلا، فإن اتفق رؤيته إياه خمرا، أراقه، وهذان شاذان منكران. فرع متى عادت الطهارة بالتخلل، طهرت أجزاء الظرف للضرورة، وعن الداركي: إن لم يتشرب شيئا من الخمر كالقوارير، طهر، وإلا، فلا، والصواب المعروف: الطهارة مطلقا. وكما يطهر ما يلاقي الخل بعد التخلل، يطهر ما فوقه مما أصابه الخمر في حال الغليان، قاله القاضي حسين، وأبو الربيع الايلاقي. قلت: هو بكسر الهمزة، وبالياء المثناة تحت، وبالقاف منسوب إلى إيلاق، وهي ناحية من بلاد الشاش، واسم أبي الربيع هذا: طاهر بن عبد الله، إمام جليل، من أصحاب القفال المروزي، وأبي إسحاق الاسفراييني. والله أعلم. الثالثة لو كان ينقلها من الظل إلى الشمس وعكسه، أو يفتح رأسها ليصيبها الهواء إستعجالا للحموضة، طهرت على الاصح، وقال أبو سهل الصعلوكي: لا تطهر، والمحترمة أولى بالطهارة. فرع عن الشيخ أبي علي، خلاف في صحة بيع الخمر المحترمة، بناء على الخلاف في طهارتها، وقد سبق في الهارة. وإذا استحالت أجواف حبات العناقيد خمرا، ففي بيعها اعتمادا على طهارة ظاهرها، وتوقع طهارة باطنها، وجهان، وطردوهما في البيضة المستحيل باطنها دما، والصحيح: المنع.
الباب الثالث في حكم المرهون بعد القبض فيه ثلاثة أطراف.
الاول: في جانب الراهن، وهو ممنوع من كل تصرف يزيل الملك وينقل(3/315)
العين، كالبيع والهبة ونحوهما. ومما يزحم المرتهن في مقصود الرهن، وهو الرهن عند غيره، ومن كل تصرف ينقص المرهون، أو يقلل الرغبة فيه، كالتزويج. قلت: فلو خالف فزوج العبد أو الامة المرهونين، فالنكاح باطل، صرح به القاضي أبو الطيب، لانه ممنوع منه، وقياسا على البيع. والله أعلم. وأما الاجارة، فإن كان الدين حالا أو مؤجلا يحل قبل انقضاء مدتها، بطلت الاجارة على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: إن جوزنا بيع المستأجر، صحت، وإلا فلا، وقال في التتمة: تبطل في قدر الاجل. وفي الزائد قولا تفريق الصفة. ولم يفصل الجمهور، بل أطلقوا القول بالبطلان. وإن كان الاجل يحل بعد انقضائها مدة الاجارة أو معها، صحت قطعا. فإن حل قبل انقضاء بموت الراهن، فوجهان. أحدهما: تنفسخ الاجارة رعاية لحق المرتهن، لانه أسبق، ويضارب المستأجر بالاجرة المدفوعة مع الغرماء. والثاني وهو اختيار ابن القطان: أن المرتهن يصبر إلى انقضاء مدة الاجارة، كما يصبر الغرماء إلى انقضاء العدة لتستوفي المعتدة حق السكنى جمعا بين الحقين. وعلى هذا، يضارب المرتهن بدينه في الحال. فإذا انقضت المدة وبيع المرهون، قضي باقي دينه. فإن فضل شئ، فللغرماء. هذا كله إذا أجر لغير المرتهن. فلو أجره، جاز ولا يبطل الرهن، وكذا لو كان مستأجره فرهنه عنده، جاز. فلو كانت الاجارة قبل تسليم الرهن، ثم سلمه عنهما جميعا، جاز. ولو سلم عن الرهن، وقع عنهما جميعا، لان القبض في الاجارة مستحق. ولو سلم عن الاجارة، لو يحصل قبض الرهن. وما قدمناه من منع الراهن [ من ] البيع وسائر التصرفات. والحكم بإبطالها، هو الجديد المشهور. وعلى القديم المجوز وقف العقود: تكون هذه التصرفات موقوفة على الفكاك وعدمه، ومال الامام إلى تخريجها(3/316)
على الخلاف في بيع المفلس ماله، وسيأتي إن شاء الله تعالى. فرع إذا أعتق الراهن المرهون، ففي تنفيذه ثلاثه أقوال. أظهرها: الثالث، وهو إن كان موسرا، نفذ، وإلا، فلا، فإن قلنا: لا ينفذ، فالرهن بحاله، فلو انفك بإبداء أو غيره، فقولان، أو وجهان، أصحهما: لا ينفذ، لانه أعتق وهو لا يملك إعتاقه، فأشبه ما لو أعتق المحجور عليه بسفه، ثم زال حجره. وقطع جماعة بالنفوذ. وإن بيع في الدين ثم ملكه، لم يعتق على المذهب. وقيل: على الخلاف. وإن قلنا: ينفذ مطلقا، لزم الراهن قيمته يوم الاعتاق، فإن كان موسرا، أخذت في الحال، وجعلت رهنا مكانه، وإلا، أمهل إلى اليسار، فإذا أيسر، أخذت وجعلت رهنا إن لم يحل الدين، وإن حل، طولب به، ولا معنى للرهن، كذا قاله العراقيون. ولك أن تقول: كما أن ابتداء الرهن قد يكون بالحال، وقد يكون بالمؤجل، فكذا قد تقتضي المصلحة أخذ القيمة رهنا وإن حل إلى تيسر الاستيفاء. قال الامام: ومهما بذل القيمة على قصد الغرم، صارت رهنا ولا حاجة إلى عقد مستأنف، والاعتبار بقصد المؤدي. ومتى كان موسرا، وقلنا: ينفذ مطلقا، أو من الموسر، ففي وقت نفوذه طريقان. أحدهما: على الاقوال في وقت(3/317)
نفوذ عتق نصيب شريكه. ففي قول: يتعجل. وفي قول: يتأخر إلى دفع القيمة. وفي قول: يتوقف. فإذا غرم، أسندنا العتق تبينا. والطريق الثاني، وهو المذهب: القطع بنفوذه في الحال. والفرق: أن العتق هناك إلى ملك غيره، فلا يزول إلا بقبضه قيمته، وهنا يصادف ملكه. قلت: قوله: إذا كان موسرا، ففيه طريقان، إشارة إلى أن المعسر إذا نفذنا عتقه، يعتق في الحال بلا خلاف، وبهذا صرح الشيخ أبو حامد، وصاحب الشامل وغيرهما. والله أعلم. فرع لو علق عتقه بفكاك الرهن، نفذ عند الفكاك، إذ لا ضرر على المرتهن. وإن علق بصفة أخرى، فإن وجدت قبل فكاك الرهن، ففيه أقوال التنجيز. وإن وجدت بعده، نفذ على الاصح. فرع لو رهن نصف العبد ثم أعتق نصفه، فإن أضاف العتق إلى النصف المرهون، ففيه الاقوال. وإن أضافه إلى النصف الآخر، أو أطلق، عتق ما ليس بمرهون، ويسري إلى المرهون إن نفذنا إعتاقه، وكذا إن لم ننفذه على الاصح لانه يسري إلى ملك غيره، فملكه أولى. وعلى هذا، يفرق بين الموسر والمعسر على الاصح، حكاه الامام عن المحققين، وجزم في التتمة بأن لا فرق لانه ملكه. قلت: إذا أعتق المرهون عن كفارته، أجزأه إن قلنا: ينفذ إعتاقه. وإن أعتقه عن كفارة غيره، فلا يعتق، لانه بيع، قاله القاضي حسين في الفتاوى. والله أعلم. فرع وقف المرهون، باطل على المذهب. وقيل: على الاقوال. وقال في التتمة إن قلنا: لا يحتاج إلى القبول، فكالعتق، وإلا فباطل. فصل ليس للراهن وطئ المرهونة بكرا كانت أو ثيبا، عزل، أم لا.(3/318)
وفي وجه ضعيف: يجوز وطئ ثيب لا تحبل لصغر، أو إياس، ووطئ الحامل من الزنا، ولكن وطئ الحامل من الزنا، مكروه مطلقا. قلت: وفي وجه: يحرم. والله أعلم. فلو خالف فوطئ، فلا حد ولا مهر، وعليه أرش البكارة إن افتضها. فإن شاء جعله رهنا، وإن شاء قضاه من الدين، فإن أولدها، فالولد نسيب حر، ولا قيمة عليه، وفي مصيرها أم ولد أقوال العتق، وهنا أولى بالنفوذ عند الاكثر، لقوة الاحبال. وقيل: عكسه، لان العتق أقوى من جهة، فإنه تنجز به الحرية، بخلاف الاستيلاد. وقيل: هما سواء. وإن شئت قالت: فيه ثلاثة طرق، القطع بالنفوذ، وعدمه، وأصحها وهو الثالث: طرد الاقوال، فإن نفذ بالاستيلاد، لزمه القيمة، والحكم على ما سبق في العتق، وإلا، فالرهن بحاله. فلو حل الحق وهي حامل، لم يجز بيعها على الاصح، لانها حامل بحر. وإذا ولدت لا تباع حتى تسقي الولد اللبأ، ونجد مرضعا خوفا من أن يسافر بها المشتري، فيهلك الولد، فإذا وجدت المرضع، بيعت الام، ولا يبالى بالتفريق بينها وبين الولد للضرورة. ثم إن استغرقها الدين، بيعت كلها، وإلا فيباع قدر الدين وإن أفضى التشقيص إلى نقصان رعاية لحق الاستيلاد، فإن لم يوجد من يشتري البعض، بيع الجميع للضرورة، وإذا بيع بقدر الدين، انفك الرهن عن الباقي واستقر الاستيلاد فيه، وتكون النفقة على المشتري والمستولد بحسب النصيبين، ويكون الكسب بينهما. ومتى عادت إلى ملكه بعد بيعها في الدين، نفذ الاستيلاد على الاظهر. وقيل: قطعا. ولو انفك رهنها من غير بيع، نفذ الاستيلاد على المذهب. وقيل: هو كما لو بيعت ثم ملكها. وليس للراهن أن يهب هذه الجارية للمرتهن، وإنما تباع في الحق للضرورة، وهذا معنى قول الائمة: الاستيلاد ثابت في حق الراهن. وإنما الخلاف في ثبوته في حق المرتهن. فرع لو ماتت هذه الجارية بالولادة. وقلنا: الاستيلاد لا ينفذ، لزمه قيمتها(3/319)
على الصحيح، فتكون رهنا مكانها. ولو أولد أمة غيره بشبهة وماتت بالولادة، وجبت قيمتها على الصحيح. ولو كانت حرة، لم تجب الدية على الاصح، لان الوطئ سبب ضعيف، وإنما أوجبنا الضمان في الامة، لان الوط إستيلاء عليها، والعلوق من آثاره، فأدمنا الاستيلاء كالمحرم إذا نفر صيدا وبقي نفاره إلى الهلاك بالتعثر وغيره. والحرة لا تدخل تحت الاستيلاء. ولو أولد إمرأة بالزنا مكرهة، فماتت بالولادة حرة (كانت) أو أمة، يجب الضمان على الاظهر، لان الولادة غير مضافة إليه، لقطع النسب. ولو ماتت زوجته من الولادة، لم يجب الضمان بلا خلاف، لتولده من مستحق. وحيث أوجبنا ضمان الحرة، فهو الدية على عاقلته. وحيث أوجبنا القيمة، وجب قيمتها يوم الاحبال على الاصح، لانه سبب التلف، كما لو جرح عبدا قيمته مائة، فبقي زمنا حتى مات وقيمته عشرة، لزمه مائة. والوجه الثاني: تجب قيمتها يوم الموت، لانه وقت التلف. والثالث: يجب أكثرهما، كالغصب. ولو لم تمت، ونقصت بالولادة، لزمه الارش. فإن شاء جعله رهنا معها، وإن شاء صرفه في قضاء الدين. فصل للراهن إستيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن، كسكنى الدار، وركوب الدابة، استكساب العبد، ولبس الثوب، وإلا إذا نقص باللبس، وإنزاء الفحل، إلا إذا نقص قيمته. والانزاء على الانثى، إن كان الدين يحل قبل ظهور الحمل، أو تلد قبل حلوله. فإن كان يحل بعد ظهوره وقبل الولادة، فإن قلنا: الحمل لا يعرف، جاز أيضا، لانها تباع مع الحمل. وإن قلنا: يعرف هو الاظهر،(3/320)
لم يجز، لانه لا يمكن بيعها دون الحمل، وهو غير مرهون. وليس له البناء في الارض المرهونة، ولا الغراس، وفي وجه: يجوز إن كان الدين مؤجلا، والصحيح: المنع. والزرع إن نقص قيمة الارض لاستيفاء قوتها، ممنوع. وإن لم ينقص وكان بحيث يحصد قبل حلول الاجل، فلا [ منع ]. فلو تأخر الادراك لعارض، ترك إلى الادراك. وإن كان بحيث يحصد بعد الحلول، أو كان الدين حالا، منع على المشهور، لانه تقل الرغبة في المزروعة. وفي قول: لا منع، ويجبر على القطع عند المحل إن لم يف قيمتها مزروعة دون الزرع بالدين. ولو غرس أو بنى حيث منعناه، لم يقلع قبل حلول الاجل على الصحيح، فلعله يقضي الدين من غيره. وأما بعد حلول الاجل والحاجة إلى البيع، فيقلع إن لم تف قيمة الارض بدينه، وزادت بالقلع. فلو صار الراهن محجورا عليه بالافلاس، ففي القلع وجهان، بخلاف ما لو نبت النخل من نوى حمله السيل، حيث جزمنا بأنه لا يقلع في مثل هذه الحالة، لانا منعناه هنا. فصل اليد على المرهون، مستحقة للمرتهن لانها مقصود التوثق. فما لا منفعة فيه مع بقاء عينه، كالنقود والحبوب، لا تزال يد المرتهن عنه. وأما غيره، فإن أمكن تحصيل الغرض مع بقائه في يد المرتهن، تعين فعله جمعا بين الحقين، وإنما تزال يده عند إشتداد الحاجة إليه. فإن كان العبد مكتسبا وتيسر إستكسابه هناك، لم يخرج من يده إن أراد الراهن الاستكساب. فإن أراد الاستخدام أو الركوب أو غيرهما من الانتفاع المحوج إلى إخراجه من يده، ففي قول قديم: لا يخرج، والمشهور: أنه يخرج. ثم إن استوفى تلك المنافع بإعارة لعدل، أو إجارة بشرطها السابق، فله ذلك. وإن أراد استيفاءها(3/321)
بنفسه، قال في الام: له ذلك، ومنعه في القديم، فحمل حاملون الاول على الثقة المأمون جحوده. والثاني: على غيره. وقال آخرون: هما قولان مطلقا، وهذا أصح. قلت: المذهب: جوازه مطلقا. والله أعلم. وفرع الامام والغزالي على الجواز: أنه إن وثق المرتهن بالتسليم، فذاك، وإلا أشهد عليه شاهدين أنه يأخذه للانتفاع، فإن كان موثوقا به عند الناس، مشهور العدالة، لم يكلف الاشهاد في كل أخذة على الاصح. فإن كان المرهون جارية، فأراد أخذها للاستخدام، لم يمكن منه، إلا إذا أمن غشيانه، بأن كان محرما، أو ثقة وله أهل. ثم إن كان له إخراج المرهون من يد المرتهن لمنفعة يدوم إستيفاؤها، فذاك. وإن كانت تستوفى (في) بعض الاوقات، كالركوب، والاستخدام، إستوفي نهارا، ورد إلى المرتهن ليلا. فرع ليس للراهن المسافرة به بحال وإن قصر سفره، لما فيه من الخطر. ولهذا منع زوج الامة من السفر بها. وإنما جاز لسيدها السفر بها لحقه المتعلق بالرقبة، ولئلا يمتنع من تزويجها، ويجوز للحر السفر بزوجته الحرة. فرع كلام الغزالي يدل على أنه لا ينتزع العبد من يد المرتهن إذا أمكن استكسابه وإن طلب الراهن خدمته، ولم يتعرض إلا الاكثر لذلك. ومقتضى كلامهم: أن له الاستخدام مع إمكان الاستكساب. قلت: كلام الغزالي، محمول على موافقة الاصحاب، وقد ذكرت تأويله في شرح الوسيط. والله أعلم. فرع لا تزال يد البائع عن العبد المحبوس بالثمن بسبب الانتفاع، لان ملك المشتري غير مستقر قبل القبض، وملك الراهن مستقر. وهل يستكسب في يده للمشتري، أم تعطل منافعه ؟ فيه خلاف للاصحاب.(3/322)
قلت: الارجح: إستكسابه. والله أعلم. فرع التصرفات التي منع بها الراهن لحق المرتهن، إذا أذن فيها، نفذت. فإن أذن في الوطئ، حل، فإن لم تحبل، فالمرهون والرهن بحاله. وإن أحبل، أو أعتق، أو باع بالاذن، نفذت وبطل الرهن، وله الرجوع عن الاذن قبل تصرف الراهن. وإذا رجع، فالتصرف بعده تصرف بلا إذن. ولو أذن في الهبة والاقباض، ورجع قبل الاقباض، صح وامتنع الاقباض. ولو أذن في البيع فباع الراهن بشرط الخيار، فرجع المرتهن، لم يصح رجوعه على الاصح، لان البيع مبني على اللزوم. ولو رجع عن الاذن ولم يعلم الراهن، فتصرف لم ينفذ على الاصح. ومتى أحبل، أو أعتق، أو باع وادعى الاذن، فالقول قول المرتهن مع يمينه. فإن حلف، فتصرفه بغير إذن. وإن نكل، فحلف الراهن، فهو كالتصرف بالاذن. فإن نكل الراهن، ففي رد اليمين على الجارية والعبد، طريقان. أحدهما: على القولين في الرد على الغرماء إذا نكل الوارث وأصحهما: القطع بالرد، لان الغرماء يثبتون الحق إبتداء للميت، وهذان يثبتان لانفسهما. ولو إختلف الراهن وورثة المرتهن، حلفوا على نفي العلم. ولو اختلف المرتهن وورثه الراهن، حلفوا يمين الرد على البت. وفي ثبوت إذن المرتهن برجل و إمرأتين، وجهان حكاهما إبن كج، القياس: المنع، كالوكالة. فرع لو حصل عند المرهونة ولد، فقال الراهن: وطئتها بإذنك فأتت بهذا الولد مني وهي أم ولد، فقال المرتهن: بل هو من زوج أو زنى، فالقول قول الراهن بلا(3/323)
يمين، لانه إذا أقر بكون الولد منه، لم يقبل رجوعه، فلا يحلف، وإنما يقبل قوله بشرط أن يسلم له المرتهن أربعة أشياء، وهي: الاذن في الوطئ، وأنه وطئ، وأنها ولدت، وأنها مضت مدة إمكان الولد منه. فإن أنكر واحدا من الاربعة، فالقول قوله، لان الاصل عدمه. وفي وجه: القول قول الراهن في الوطئ، ولو لم يتعرض المرتهن لهذه الاشياء منعا وتسليما، واقتصر على إنكار الاستيلاد، فالقول قوله، وعلى الراهن إثبات هذه الاشياء. فرع لو أعتق أو وهب بإذن المرتهن، بطل حقه من الرهن، سواء كان دينه حالا أو مؤجلا، وليس عليه أن يجعل قيمته رهنا مكانه. ولو باع بإذنه والدين مؤجل، فكذلك. وإن كان حالا، قضى حقه من ثمنه، وحمل إذنه المطلق على البيع لغرضه. ولو أذن بشرط أن يجعل الثمن رهنا مكانه، فقولان، سواء كان الدين حالا، أو مؤجلا. أظهرهما: يبطل الاذن والبيع. والثاني: يصحان، ويلزم الراهن ا لوفاء بالشرط. ولو أذن في الاعتاق بشرط جعل القيمة رهنا، أو في الوطئ بهذا الشرط، إن أحبل، ففيه القولان. ولو أذن في البيع بشرط أن يجعل حقه من ثمنه وهو مؤجل، فالصحيح المنصوص: فساد البيع والاذن، لفساد الشرط. وفي قول مخرج: يصحان، ويجعل الثمن رهنا مكانه. ولو اختلفا فقال المرتهن: أذنت بشرط أن ترهن الثمن، فقال الراهن: بل أذنت مطلقا، فالقول قول المرتهن. ثم إن كان الاختلاف قبل البيع، فليس له البيع. وإن كان بعده، وحلف المرتهن، فإن صححنا الاذن، فعلى الراهن رهن الثمن، وإلا، فإن صدق المشتري المرتهن، فالبيع باطويبقى مرهونا. وإن كذبه، نظر، إن أنكر أصل الرهن، حلف، وعلى الراهن أن يرهن قيمته، وإن أقر بكونه مرهونا، وادعى مثل ما ادعاه الراهن، فعليه رد المبيع ويمين المرتهن حجة عليه. قال الشيخ أبو حامد: ولو أقام المرتهن بينة أنه كان مرهونا، فهو كإقرار المشتري به. فرع منقول عن الام لو أذن المرتهن للراهن في ضرب العبد(3/324)
المرهون، فهلك في الضرب، فلا ضمان، لانه تولد من مأذون فيه، كما لو أذن في الوطئ وأحبل. ولو قال: أدبه، فضربه فهلك، لزمه الضمان. فصل الديون التي على الميت، تتعلق بتركته قطعا. وقد سبق في آخر باب زكاة الفطر، أن هذا التعلق لا يمنع الارث على الصحيح. فعلى هذا، في كيفيته قولان، ويقال: وجهان. أحدهما: كتعلق الارش برقبة الجاني. وأظهرهما: كتعلق الدين بالمرهون، لان الشارع إنما أثبت هذا التعلق نظرا للميت، لتبرأ ذمته، فاللائق به، أن لا يسلط الوارث عليه. فلو أعتق الوارث أو باع وهو معسر، لم يصح قطعا، سواء جعلناه كالجاني أو كالمرهون. ويجئ في الاعتاق خلاف، فإن كان موسرا، نفذ في وجه، بناء على تعلق الارش، ولا ينفذ في وجه، بناء على تعلق المرهون. وفي وجه: هما موقوفان. فإن قضي الدين، تبينا نفوذهما، وإلا، فلا. ولا فرق بين كون الدين مستغرقا للتركة، أو أقل منها على الاصح على قياس المرهون. والثاني: إن كان الدين أقل، نفذ تصرف الوارث إلى أن لا يبقى إلا قدر الدين، لان الحجر في مال كثير لشئ حقير، بعيد. وإذا حكمنا ببطلان تصرف الوارث، فلم يكن على التركة دين ظاهر، فتصرف، ثم ظهر دين، بأن كان باع شيئا وأكل ثمنه، فرد بالعيب، ولزم رد الثمن، أو سقط ساقط في بئر كان احتفرها عدوانا، فوجهان. أحدهما: تبين فساد التصرف لتقدم سبب الدين، فألحق بالمقارن. وأصحهما: لا يفسد. فعلى هذا، إن أدى الوارث الدين، وإلا، فوجهان. أصحهما: يفسخ ذلك التصرف ليصل الى المستحق حقه. والثاني: لا، بل يطالب الوارث بالدين، ويجعل كالضامن، وللوارث على كل حال أن يمسك عين التركة ويؤدي الدين من خالص ماله. ولو كان الدين أكثر من التركة، فقال الوارث: آخذها بقيمتها، وأراد الغرماء(3/325)
بيعها لتوقع زيادة راغب، أيهما يجاب ؟ وجهان. أصحهما: الوارث. وفي تعلق حق الغرماء بزوائد التركة، كالكسب والنتاج، خلاف مبني على أن الدين يمنع الارث، أم لا ؟ إن منع، تعلق، وإلا، فلا. قلت: سواء تصرف الوارث في جميع التركة أو في بعضها، ففيه الخلاف السابق، وسواء علم الوارث بالدين المقارن، أم لا، قاله الشيخ نصر المقدسي، لان ما يتعلق بحقوق الآدميين، لا يختلف به. والله أعلم.
الطرف الثاني : في جانب المرتهن، وهو مستحق لليد بعد لزوم الرهن، ولا تزال يده إلا للانتفاع كما سبق، ثم يرد إليه ليلا، وإن كان العبد ممن يعمل ليلا كالحارس، رد إليه نهارا. ولو شرطا في الابتداء وضعه في يد ثالث، جاز فإن شرطا عند إثنين، ونصا على أن لكل واحد منهما الانفراد بالحفظ، أو على أن يحفظاه معا في حرر، اتبع الشرط. وإن أطلقناه، فوجهان. أصحهما: ليس لاحدهما أن ينفرد بالحفظ. كما لو أوصى إلى رجلين، أو وكل رجلين في شئ لا يستقل أحدهما، فعلى هذا يجعلانه في حرز لهما. والثاني: يجوز الانفراد لئلا يشق عليهما، فعلى هذا إن إتفقا على كونه عند أحدهما، فذاك، وإن تنازعا والرهن مما ينقسم، قسم وحفظ كل واحد نصفه، وإلا حفظ هذا مدة، وهذا مدة. ولو قسماه بالتراضي والتفريع على الوجه الثاني، فأراد أحدهما أن يرد ما في يده على صاحبه، ففي جوازه وجهان. قلت: قطع صاحب التهذيب بأنه لا يجوز. والله أعلم. فرع إذا أراد الذي وضعاه عنده الرد، رده إليهما، أو إلى وكيلهما، فإن كانا غائبين ولا وكيل، فهو كرد الوديعة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وليس له دفعه إلى أحدهما بغير إذن الآخر، فإن فعل ضمن واسترد منه إن كان باقيا، وإن تلف في يد المدفوع إليه، نظر، إن دفعه إلى الراهن، رجع المرتهن بكمال قيمته وإن زادت على حقه، ليكون رهنا مكانه، ويغرم من شاء من العدل والراهن، والقرار على الراهن، وإن دفع إلى المرتهن، ضمنا، والقرار على المرتهن، فإن كان الدين حالا وهو من جنس القيمة، جاء الكلام في التقاص، وإن غصب المرتهن الرهن من يد العدل، ضمن. فلو رده إليه برئ. وقيل: لا يبرأ إلا بالرد إلى المالك، أو(3/326)
بإذن جديد للعدل في أخذه، والصحيح: الاول. وكذا الحكم لو غصب الوديعة من المودع، أو العين المستأجرة من المستأجر، أو المرهونة من المرتهن، ثم رد إليهم. ولو غصب اللقطة من الملتقط، ثم رد إليه، لم يبرأ. ولو غصب من المستعير أو المستام، ثم رده إليه، فوجهان، لانهما مأذونان من جهة المالك، لكنهما ضامنان. فرع لو اتفق المتراهنان على نقل الرهن إلى يد عدل آخر، جاز، وإن طلبه أحدهما، لا يجاب، إلا أن يتغير حاله بفسق أو ضعف عن الحفظ، أو تحدث بينه وبين أحدهما عداوة، ويطلب نقله، فينقل آخر يتفقان عليه، فإن تشاحا، وضعه الحاكم عند من يراه. ولو كان من وضعاه عنده فاسقا في الابتداء، فازداد فسقا، فهو كما لو حدث فسقه. وكذا لو مات وأراد أحدهما إخراجه من يد وارثه. ولو كان في يد المرتهن فتغير حاله، أو مات، كان للراهن نقله على الصحيح، وفي وجه: لا تزال يد ورثته، لكن إذا لم يرض بيدهم، ضم القاضي إليهم مشرفا. فرع إذا ادعى العدل هلاك الرهن في يده، أو رده، فالقول قوله مع يمينه، كالمودع. ولو أتلف الرهن عمدا، أخذت منه القيمة ووضعت عند آخر. ولو أتلفه مخطئا، أو أتلفه غيره، أخذت القيمة ووضعت عنده، كذا قاله الاكثرون، وذهب الامام إلى أنه لا بد من استحفاظ جديد. وقياسه، أن يقال: لو كان في يد المرتهن، فأتلف وأخذ بدله، كان للراهن أن لا يرضى بيده في البدل.
فصل المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة، ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء، وإنما يبيعه أو وكيله بإذن المرتهن، فلو لم يأذن المرتهن(3/327)
وأراد الراهن بيعه، قال له القاضي: ائذن في بيعه وخذ حقك من ثمنه، أو أبرئه. وإن طلب المرتهن بيعه، وأبى الراهن، ولم يقض الدين، أجبره القاضي على قضائه، أو البيع، إما بنفسه، أو وكيله، فإن أصر، باعه الحاكم. ولو كان الراهن غائبا، أثبت الحال عند الحاكم ليبيعه. فإن لم يكن له بينة، أو لم يكن في البلد حاكم، فله بيعه بنفسه كمن ظفر بغير جنس حقه من مال المديون وهو جاحد ولا بينة. فرع لو أذن الراهن للمرتهن في بيعه بنفسه، فباع في غيبة الراهن، فوجهان. أحدهما: يصح البيع كما لو أذن له في بيع غيره. وأصحهما: لا، لانه يبيعه لغرض نفسه، فيتهم في الاستعجال وترك النظر. وإن باعه بحضوره، صح على الصحيح، وهو ظاهر النص لعدم التهمة. وقيل: لا يصح، لانه توكيل فيما يتعلق بحقه، فعلى هذا، لا يصح توكيله ببيعه أصلا، ويتفرع عليه، أنه لو شرط ذلك في إبتداء الرهن، فإن كان الرهن مشروطا في بيع، فالبيع باطل. وإن كان رهن تبرع، فعلى القولين في الشرط الفاسد النافع للمرتهن أنه هل يبطل الرهن ؟ ولو قال للمرتهن: بع المرهون، واستوف الثمن لي، ثم استوفه لنفسك، صح البيع، والاستيفاء للراهن، ولا يحصل الاستيفاء لنفسه بمجرد إدامة اليد والامساك، فلا بد من وزن جديد، أو كيل جديد، كما هو شأن القبض في المقدرات. ثم إذا استوفاه لنفسه بعد ذلك بكيل أو وزن، ففي صحته وجهان ذكرناهما في نظائرهما في البيع، لاتحاد القابض والمقبض. فإن صححنا، برئت ذمة الراهن من الدين، والمستوفى من ضمانه. وإن أبطلنا وهو الاصح، لم يبرأ الراهن، ويدخل المستوفى في ضمانه، لان القبض الفاسد كالصحيح في اقتضاء الضمان. قلت: دخوله في ضمانه، يكون بعد قبضه لنفسه، فأما قبله، فهو في يده أمانة بلا خلاف. وكذا لو نوى إمساكه لنفسه من غير إحداث فعل، فالامانه مستمرة، صرح به الامام والغزالي في البسيط وغيرهما. ولو قبضه لنفسه بفعل(3/328)
من غير وكيل ولا وزن، دخل في ضمانه، لانه قبض فاسد، فله في الضمان حكم الصحيح. والله أعلم. ولو كانت الصيغة: ثم أمسكه لنفسك، فلا بد من إحداث فعل على الاصح. وعلى الثاني: يكفي مجرد الامساك. ولو قال: بعه لي واستوف الثمن لنفسك، صح البيع، ولم يصح استيفاء الثمن، لانه ما لم يصح القبض للراهن، لا يتصور القبض لنفسه، وهنا بمجرد قبضه يصير مضمونا عليه. ولو قال: بعه لنفسك، فقولان. أظهرهما: أن الاذن باطل، ولا يتمكن من البيع، لانه لا يتصور أن يبيع الانسان مال غيره لنفسه. والثاني: يصح اكتفاء بقوله: بعه، وإلغاء للباقي، ولان السابق أن الفهم منه، الامر بالبيع لغرضه بالتوصل إلى دينه. ولو أطلق وقال بعه، ولم يقل: لي، ولا لنفسك، فوجهان. أصحهما: صحة البيع، كما لو قال لاجنبي: بعه. والثاني: المنع لعلتين. إحداهما: أن البيع مستحق للمرتهن، فكأنه قال: بعه لنفسك. والثانية: التهمة كما سبق. وعلى العلتين، لو كان الثمن مؤجلا وقال: بعه، صح، لانتفائهما. وإن قال: بعه واستوف حقك من ثمنه، جاءت التهمة. وإن قدر له الثمن، لم يصح البيع على العلة الاولى، ويصح على الثانية، وكذا لو كان الراهن حاضرا عند البيع. فرع إذن الوارث لغرماء الميت في بيع التركة، كإذن الراهن للمرتهن، وكذا إذن السيد للمجني عليه في بيع الجاني. فرع إذا وضعا الرهن عند عدل، وشرطا أن يبيعه عند المحل، جاز، وهل يشترط تجديد إذن الراهن ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الاصل بقاؤه. وأما المرتهن، فقال العراقيون: يشترط مراجعته قطعا، لان البيع لايصاله حقه إذا طالب، فليستأذن، فربما أمهل، وربما أبرأ. وعكسه الامام فقال: لا خلاف أنه لا يراجع، لان غرضه توفية الحق، بخلاف الراهن، فإنه قد يبقي العين لنفسه. فرع لو عزل الراهن العدل قبل البيع، إنعزل. ولو عزله المرتهن، فوجهان. أصحهما: لا ينعزل، لانه وكيل الراهن، فإنه المالك. والثاني:(3/329)
ينعزل، وهو ظاهر النص، كما لو عزله الراهن، لانه يتصرف لهما، ولا خلاف أنه لو منعه من البيع، لم يبع، وكذا لو مات أحدهما. وإذا قلنا: لا ينعزل بعزل المرتهن، فجدد له إذنا، جاز البيع، ولم يشترط تجديد توكيل الراهن. قال في الوسيط ومساق هذا، أنه لو عزله الراهن، ثم عاد فوكله، إشترط إذن جديد من المرتهن، ويلزم عليه أن يقال: لا يعتد بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن، ولا بإذن المرأة للوكيل قبل توكيل الولي إياه، والكل محتمل. فرع إذا باع العدل وأخذ الثمن، فهو أمين، والثمن من ضمان الراهن إلى أن يتسلمه المرتهن. فلو تلف في يد العدل، ثم خرج الرهن مستحقا، فالمشتري بالخيار بين أن يرجع بالثمن على العدل أو الراهن، والقرار على الراهن. ولو مات الراهن، فأمر الحاكم العدل أو غيره ببيعه فباعه، وتلف الثمن ثم خرج مستحقا، رجع المشتري في مال الرهن، ولا يكون العدل طريقا في الضمان على الاصح، لانه نائب الحاكم، والحاكم لا يضمن. والثاني: يكون كالوكيل والوصي. وإذا ادعى العدل تلف الثمن في يده، قبل قوله مع يمينه. وإن ادعى تسليمه إلى المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه. فإذا حلف، أخذ حقه من الراهن، ورجع الراهن على العدل وإن كان قد أذن له في التسليم. ولو صدقه الراهن في التسليم، فإن كان أمره بالاشهاد، ضمن العدل بلا خلاف، لتقصيره. وكذا إن لم يأمره على الاصح، لتفريطه. فلو قال: أشهدت ومات شهودي، وصدقه الراهن، فلا ضمان. وإن كذبه، فوجهان سنذكرهما مع نظائرهما في باب الضمان إن شاء الله تعالى. فرع لو باع العدل بدون ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به، أو بثمن مؤجل، أو بغير(3/330)
نقد البلد، لم يصح. وقيل: بالمؤجل، وهو غلط. ولو سلم المال إلى المشتري، صار ضامنا. فإن كان المبيع باقيا، استرد، وجاز للعدل بيعه بالاذن السابق وإن صار مضمونا عليه. وإذا باعه وأخذ ثمنه، لم يكن الثمن مضمونا عليه، لانه لم يتعد فيه. وإن كان تالفا، فإن باع بغير نقد البلد، أو بمؤجل، فالراهن بالخيار في التغريم من شاء من العدل والمشتري كمال قيمته. وكذا إن باع بدون ثمن المثل على الاظهر. وعلى الثاني: إن غرم العدل، حط النقص الذي كان يحتمل في الابتداء للغبن المعتاد. مثاله، ثمن مثله عشرة، ويتغابن فيه بدرهم، فباعه بثمانية، نغرمه تسعة، ونأخذ الدرهم الباقي من المشتري، كذا نقلوه. وغالب الظن طرد هذا الخلاف في البيع بغير نقد البلد، وفي المؤجل، وإنما اتفق النص على القولين في الغبن، لانه يخالف الامرين الآخرين. ويدل عليه أن صاحب التهذيب وآخرين، جعلوا كيفية تغريم الوكيل إذا باع على صفة من هذه الصفات، وسلم المبيع على هذا الخلاف، وسووا بين الصور الثلاث. ومعلوم أنه لا فرق بين العدل في الرهن وسائر الوكلاء. وعلى كل حال، فالقرار المشتري، لحصول الهلاك عنده. فرع لو قال أحد المتراهنين: بعه بالدراهم، وقال الآخر: بالدنانير، لم يبع بواحد منهما، فيرفعان الامر إلى القاضي ليبيع بنقد البلد، ثم إن كان الحق من نقد البلد، وإلا صرف نقد البلد إليه. فلو رأى الحاكم بيعه بجنس حق المرتهن، جاز. فرع لو باع بثمن المثل، فزاد راغب قبل التفرق، فليفسخ البيع، وليبعه له. فإن لم يفعل، فوجهان. أحدهما: لا ينفسخ البيع، لان الزيادة غير موثوق(3/331)
بها، وأصحهما الانفساخ، لان المجلس كحال العقد. فعلى هذا، لو بدا للراغب قبل التمكن من بيعه، فالبيع الاول بحاله، وإن كان بعده، بطل، فلا بد من بيع جديد. وفي وجه: إذا بدا له، بان أن البيع بحاله، وهو ضعيف. ولو لم يفسخ العدل، بل باع الراغب، ففي كونه فسخا لذلك البيع، ثم في صحته في نفسه، خلاف سبق في البيع، وأشار الامام إلى أن الوكيل لو باع ثم فسخ البيع، هل يتمكن من البيع مرة أخرى، فيه خلاف. والامر بالبيع من الراغب هنا، تفريع على أنه يتمكن. أو مفروض فيمن صرح له في الاذن بذلك. وأكثر هذه المسائل، تطرد في جميع الوكالات. قلت: قوله فزاد راغب قبل التفرق، فيه نقص، وكان ينبغي أن يقول: قبل انقضاء الخيار، ليعم خياري المجلس والشرط، فإن حكمها في هذا سواء. صرح به صاحب الشامل وغيره. قال أصحابنا: ولو زاد الراغب بعد انقضاء الخيار، لزم البيع، ولا أثر للزيادة، لكن يستحب للعدل أن يستقيل المشتري ليبيعه بالزيادة للراغب، أو لهذا المشتري إن شاء. والله أعلم.
فصل مؤنة الرهن التي يبقى بها، كنفقة العبد وكسوته، وعلف الدابة على الراهن. وفي معناها، سقي الاشجار والكروم، ومؤنة الجداد، وتجفيف الثمار، وأجرة الاصطبل، والبيت الذي يحفظ فيه المتاع المرهون إذا لم يتبرع به من هو في يده، وأجرة من يرد الآبق، وما أشبه ذلك. وحك الامام والمتولي وجهين، في أن هذه المؤن، هل يجبر عليها الراهن حتى يقوم بها من خالص ماله، أصحهما: الاجبار، حفظا للوثيقة. والثاني: عن الشيخ أبي محمد وغيره: لا يجبر، بل يبيع القاضي جزءا منه فيها بحسب الحاجة. وفرع الامام على هذا، أن النفقة لو كانت تأكل الرهن قبل الاجل، ألحق في ذلك بما يفسد قبل الاجل، فيباع ويجعل ثمنه رهنا، وهذا ضعيف، وكذا أصله المفرع عليه. وإذا قلنا بالاصح فلم يكن للراهن شئ، أو لم يكن حاضرا، باع الحاكم جزءا من المرهون واكترى به بيتا يحفظ فيه الرهن، كذا قاله الاصحاب. وأما المؤنات الدائرة، فيشبه أن يقال: حكمها حكم(3/332)
ما لو هرب الجمل وترك الجمال المستأجرة، أو عجز عن الانفاق عليها. قلت: قال القاضي أبو الطيب: إن قال المرتهن: أنا أنفق عليه لارجع في مال الراهن، أذن له الحاكم. فإن اتفق وأراد أن يكون رهنا بالنفقة والدين، فهو كفدائه المرهون الجاني على أن يكون رهنا بالدين والفداء، وقد نص على جوازه، وفيه طريقان تقدما. والمذهب: الصحة. فإن أنفق بغير إذن الحاكم، فإن أمكنه الحاكم، أو لم يمكنه، ولم يشهد، فلا رجوع، وإن أشهد، فوجهان بناء على هرب الجمال. والله أعلم. فرع لا يمنع الراهن مصلحة في المرهون، كفصده وحجامته، وتوديج الدابة وبزغها والمعالجة بالادوية والمراهم، لكن لا يجبر عليها، بخلاف النفقة. وطرد صاحب التتمة الوجهين في المداواة. ثم إن كانت المداواة مما يرجى نفعه ويؤمن ضرره، فذاك، وإن خيف وغلبت السلامة، فهل للمرتهن منعه ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا. والله أعلم. ويجريان في قطع اليد المتأكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر. فإن كان الخطر في الترك دون القطع، فله القطع، وليس له قطع سلعة وأصبع لا خطر في تركها، إذا خيف ضرر، فإن كان الغالب السلامة، فعلى الخلاف. وله ختان العبد والامة في وقت اعتدال الهواء، إن كان يندمل قبل حلول الاجل، لانه ضروري، والغالب منه السلامة. وإن لم يندمل، وكان فيه نقص، لم يجز. وكذا لو كان به عارض يخاف معه من الختان.(3/333)
قلت: كذا أطلق أكثر الاصحاب، أو كثيرون منهم، جواز الختان من غير فرق بين الصغير والكبير، وصرح المتولي والشيخ نصر، بأنه لا فرق. وقال صاحب المهذب ومن تابعه: يمنع من ختان الكبير دون الصغير، لخوف التلف. وهذا ظاهر نصه في الام والمختصر ويؤيده، أنهم عدوا عدم الختان عيبا في الكبير، دون الصغير، كما سبق. والله أعلم. فرع له تأبير النخل المرهونة. ولو ازدحمت وقال أهل الخبرة: تحويلها أنفع، جاز تحويلها، وكذا لو رأوا قطع البعض لصلاح الاكثر. ثم ما يقطع منها أو يجف، يبقى مرهونا، بخلاف ما يحدث من السعف ويجف، فإنه غير مرهون، كالثمرة، وما كان ظاهرا منها عند الرهن، قال في التتمة: هو مرهون. وقال في الشامل: لا فرق. قلت: قال القاضي أبو الطيب: وما يحصل من الليف، والعراجين والكرب، كالسعف. والكرب بفتح الكاف والراء: أصول السعف. والله أعلم. فرع لايمنع من رعي الماشية وقت الامن، وتأوي ليلا إلى يد المرتهن أو العدل. ولو أراد الراهن أن يبعد في طلب النجعة، وبالقرب ما يبلغ منها مبلغا، فللمرتهن المنع، وإلا، فلا منع، وتأوي إلى يد عدل يتفقان عليه، وإلا، فينصبه الحاكم. وإن أراد المرتهن ذلك، وليس بالقرب ما يكفي، لم يمنع. وكذا لو أراد نقل المتاع من بيت عير محرز إلى محرز. ولو أراد الانتقال من مكانهما، فإن انتقلا إلى أرض واحدة، فذاك، وإلا، جعلت الماشية مع الراهن، ويحتاط ليلا كما سبق.
فصل الرهن أمانة في يد المرتهن، لا يسقط بتلفه شئ من الدين،(3/334)
ولا يلزمه، ضمانه إلا إذا تعدى فيه. وإذا برئ الراهن من الدين بأداء أو إبراء أو حوالة، بقي الرهن أمانة في يد المرتهن، ولا يصير مضمونا إلا إذا امتنع من الرد بعد المطالبة. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون المرتهن بعد الابراء، كمن طيرت الريح ثوبا إلى داره، فيعلم المرتهن به، أو يرده، لانه لم يرض بيده إلا على سبيل الوثيقة. فرع كل عقد اقتضى صحيحه الضمان، فكذلك فاسده. وما لا يقتضي صحيحه الضمان، فكذا فاسده. أما الاول: فلان الصحيح إذا أوجب(3/335)
الضمان، فالفاسد أولى. وأما الثاني: فلان إثبات اليد عليه بإذن المالك، ولم يلتزم بالعقد ضمانا. فرع لو أعار الراهن المرهون للمرتهن لينتفع به، ضمنه المرتهن، ولو رهنه أرضا، وأذن له في غراسها بعد شهر، فهي بعد الشهر عارية، غرس، أم لا ؟ وقبله أمانة، حتى لو غرس قبله قلع. فرع رهنه مالا على أنه إذا حل الاجل، فهو مبيع له، أو على أنه مبيع له بعد شهر، فالبيع والرهن باطلان، ويكون المال أمانة في يده قبل دخول وقت البيع، وبعده مضمون، لان البيع عقد ضمان. وفي وجه: إنما يصير مضمونا، إذا أمسكه على سبيل الشراء. أما إذا أمسكه على موجب الدين، فلا، والصحيح: الاول. فلو كان أرضا، فغرس فيها المرتهن، أو بنى قبل وقت البيع، قلع مجانا، وكذا لو غرس بعده عالما بفساد البيع. وإن كان جاهلا، لم يقلع مجانا، لوقوعه بإذن المالك وجهله التحريم، فيكون حكمه كما لو غرس المستعير ورجع المعير.(3/336)
فرع إذا ادعى المرتهن تلف المرهون في يده، قبل قوله مع يمينه. وإن ادعى رده إلى الراهن، قال العراقيون: القول قول الراهن مع يمينه، لانه أخذه لمنفعة نفسه، فأشبه المستعير، بخلاف دعوى التلف، فإنه لا يتعلق بالاختيار، فلا تساعده فيه البينة. قالوا: وكذا حكم المستأجر إذا ادعى الرد، ويقبل قول المودع والوكيل بغير جعل مع يمينهما. لانهما أمينان متحمضان. وفي الوكيل الجعل. والمضارب والاجير المشترك، إذا لم نضمنه، ذكروا وجهين. أصحهما: يقبل قولهم مع اليمين، لانهم أخذوا العين لمنفعة المالك، وانتفاعهم بالعمل في العين، لا بالعين، بخلاف المرتهن والمستأجر. وهذه الطريقة، هي طريقة أكثر الاصحاب، لاسيما قدماؤهم، وتابعهم الروياني. وقال بعض الخراسانيين من المراوزة وغيرهم: كل أمين يصدق في دعوى الرد، كالتلف. فقد اتفقوا في الطرق، على تصديق جميعهم في دعوى التلف وفي عبارة الغزالي ما يقتضي خلافا فيه، وليس هو كذلك قطعا. فرع لو رهن الغاصب المغصوب عند إنسان، فتلف في يد المرتهن، فللمالك تضمين الغاصب. وفي تضمينه المرتهن، طريقان. قال العراقيون: فيه وجهان. أحدهما: لا، لان يده يد أمانة. وأصحهما: يضمن، لثبوت يده على ما لم يأتمنه مالكه عليه. فعلى هذا، وجهان. أحدهما: يستقر الضمان عليه، لحصول التلف عنده ونزول التلف منزلة الاتلاف في الغصب. وأصحهما: يرجع على الغاصب لتغريره. والطريق الثاني: القطع بتضمين هو عدم الاستقرار، قاله المراوزة ويجري الطريقان في المستأجر من الغاصب، والمستودع، والمضارب، ووكيله في بيعه. وكل هذا إذا جهلوا الغصب، فإن علموا، فهم غاصبون أيضا، والمستعير منه، والمستام، يطالبان ويستقر عليهما الضمان، لانها يد ضمان.(3/337)
فرع لو رهن بشرط كونه مضمونا على المرتهن، فسد الشرط والرهن، ولا يكون مضمونا عليه لما سبق. فرع قال: خذ هذا الكيس واستوف حقك منه، فهو أمانة في يده قبل أن يستوفي منه، فإذا استوفى، كان مضمونا عليه. ولو كان فيه دراهم، فقال خذه بدراهمك، وكانت الدراهم التي فيه مجهولة القدر، أو كانت من أكثر دراهمه، لم يملكه، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وإن كانت معلومة وبقدر حقه، ملكه. ولو قال: خذ هذا العبد بحقك، ولم يكن سلما، فقبل، ملكه. وإن لم يقبل وأخذه، دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد.
فصل ليس للمرتهن في المرهون إلا حق الاستيثاق، وهو ممنوع من جميع التصرفات القولية والفعلية، ومن الانتفاع. فلو وطئ المرهونة بغير إذن الراهن، فكوطئ غيرها. فإن ظنها زوجته أو أمته، فلا حد، وعليه المهر، والولد نسيب حر، وعليه قيمته للراهن. وإن لم يظن ذلك، ولم يدع جهلا، فهو زان يلزمه الحد، كما لو وطئ المستأجر المستأجرة، ويجب المهر إن كانت مكرهة. وإن طاوعته، فلا على الاصح. وإن ادعى الجهل بالتحريم، لم يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، أو نشفي بادية بعيدة عن علماء المسلمين، فيقبل، لدفع الحد. وحكى المسعودي في قبوللثبوت النسب وحرية الولد والمهر، خلافا. والاصح: ثبوت الجميع، لان الشبهة كما تدفع الحد، تثبت النسب والحرية. وإذا سقط الحد، وجب المهر. وإن وطئ بإذن الراهن، فإن علم أنه حرام، لزمه الحد على الصحيح. وإن ادعى جهل التحريم، فوجهان. أحدهما: لا يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، أو في معناه. وأصحهما: يقبل مطلقا، لانه قد يخفى التحريم مع الاذن. وإذا سقط الحد،(3/338)
سقط المهر إن كانت مطاوعة، وإلا وجب على الاظهر، لسقوط الحد، وقياسا على المفوضة في النكاح. والثاني لا يجب، لاذن مستحقه، فأشبه زنا الحرة. فإن أولدها بوطئه، فالولد له نسيب حر، وتجب قيمته على المذهب. وقيل: فيه القولان في المهر، ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال. فإن ملكها، فقولان، أظهرهما: لا تصير. فرع زعم المرتهن بعد الوطئ أن الراهن كان باعه إياها، أو وهبها له، وأقبضه، وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن مع يمينه. فإن حلف، فهي والولد رقيقان له. فإن ملكها المرتهن، فهي أم ولد له، والولد حر لاقراره. فإن نكل الراهن، فحلف المرتهن، فهي أم ولد، والولد حر.
فصل فيما يتعلق به حق الوثيقة وهي متعلقة بعين المرهون قطعا. وأما غير العين، فضربان. أحدهما: بدل العين فلو جنى على المرهون، وأخذ الارش، وانتقل الرهن إليه، كما ينتقل الملك لقيامه مقام الاصل، ويجعل في يد من كان الاصل في يده. وما دام الارش في ذمة الجاني، هل يحكم بأنه مرهون ؟ وجهان. أحدهما: لا، لان الدين لا يكون رهنا. فإذا تعين، صار مرهونا، والحالة المتخللة، كتخمر العصير وتخلله بعد. والثاني: نعم، لانه مال بخلاف الخمر، وإنما يمتنع رهن الدين إبتداء. قلت: الثاني: أرجح، وبالاول قطع المراوزة. والله أعلم.(3/339)
والخصم في بدل المرهون، هو الراهن. فلو ترك الخصومة، فهل يخاصم المرتهن ؟ قولان. أظهرهما عند الاصحاب: لا، كذا قاله في التهذيب. قلت: وقطع الامام، والغزالي، بأنه يخاصم. والله أعلم. وإذا خاصم الراهن، فللمرتهن حضور خصومته، لتعلق حقه بالمأخوذ. ثم إن أقر الجاني، أو أقام الراهن بينة، أو حلف بعد نكول المدعى عليه، ثبتت الجناية. وإن نكل الراهن، فهل يحلف المرتهن ؟ قولان، كغرماء المفلس إذا نكل. فرع إذا ثبتت الجناية، فإن كانت عمدا، فللراهن أن يقبض ويبطل حق المرتهن. وإن عفا عن القصاص، ثبت المال إن قلنا: مطلق العفو يقتضي المال، وإلا، لم يجب، وهو الاصح، كذا قاله في التهذيب. وإن عفا على أن لا مال، فإن قلنا: يوجب العمد أحد الامرين، لم يصح عفوه عن المال، وإن قلنا: موجبه القود، فإن قلنا العفو المطلق لا يوجب المال، لم يجب شئ، وإن قلنا: يوجبه، فالاصح: أنه لا يجب أيضا، لان القتل لم يوجبه، وإنما يجب بعفوه، وذلك نوع اكتساب، ولا يجب عليه الاكتساب للمرتهن. وإن لم يقبض ولم يعف، فقيل: يجبر على أحدهما. وقيل: إن قلنا: موجب أحد الامرين، أجبر، وإلا، فلا، لانه يملك إسقاطه، فتأخيره أولى بأن يملكه. قلت: ينبغي أن يقال: إن قلنا: إذا عفا على أن لا مال لا يصح، أجبر، وإلا، فلا. والله أعلم. وإن كانت الجناية خطأ، أو عفا ووجب المال، فعفا عنه، لم يصح عفوه على المشهور لحق المرتهن. وفي قول العفو موقوف، ويؤخذ المال في الحال لحق المرتهن، فإن انفك الرهن، رد إلى الجاني، وبان صحة العفو، وإلا بان بطلانه. ولو أراد الراهن المصالحة عن الارش الواجب على جنس آخر، لم يصح إلا بإذن المرتهن. وإذا أذن، صح وكان المأخوذ مرهونا، كذا نقلوه.(3/340)
ولو أبرأ المرتهن الجاني، لم يصح، لكن لا يسقط حقه من الوثيقة على الاصح، لانه لم يصح الابراء، فلا يصح ما تضمنه. كما لو وهب المرهون لرجل. الضرب الثاني: زوائده، فإن كانت متصلة، كسمن العبد، وكبر الشجرة، تبعت الاصل في الرهن. وإن كانت منفصلة، كالثمرة، والولد، واللبن، والبيض، والصوف، لم يسر إليها الرهن، وكذا الاكساب والمهر، وما أشبه ذلك مما يحدث بعد الرهن. ولو رهن حاملا، واحتيج إلى بيعها حاملا، بيعت كذلك في الدين، لانا إن قلنا: الحمل يعلم، فكأنه رهنهما، وإلا، فقد رهنها والحمل محض صفة. ولو ولدت قبل البيع، فهل الولد رهن قولان. إن قلنا: الحمل لا يعلم، فلا، وإلا فنعم. وقيل: قولان، لضعف الرهن عن الاستتباع. فإن قلنا: لا فقال في ابتداء العقد: رهنتها مع حملها، لا يكون مرهونا على الاصح. ولو جاز ذلك، لجاز إفراده بالرهن. أما إذا حبلت بعد الرهن، وكانت يوم البيع حاملا، فإن قلنا: لا يعلم، بيعت، وهو كالسمن، وإلا، فلا يكون مرهونا، ويتعذر بيعها، لان استثناء الحمل متعذر، ولا سبيل إلى بيعها حاملا وتوزيع الثمن، لان الحمل لا تعرف قيمته. فرع لو رهن نخلة، ثم أطلعت، فطريقان. أحدهما: أن بيعها مع الطلع، على القولين كالحمل. والثاني: القطع بأن الطلع غير مرهون. فعلى هذا يباع النخل، ويستثنى الطلع، بخلاف الحامل. ولو كانت مطلعة وقت الرهن، ففي دخول الطلع، على ما سبق في الباب الاول. فإن أدخلناه، فكان وقت البيع طلعا بعد، بيع مع النخلة، وإن كانت قد أبرت، فطريقان. أحدهما: على القولين، كما لو ولدت الحامل. والثاني: القطع ببيعه مع النخلة، لانه معلوم مشاهد وقت الرهن. فرع الاعتبار في مقارنة الولد الرهن وحدوثه، وسائر الزوائد، بحالة العقد(3/341)
على الصحيح. وقيل: بحالة القبض، لان الرهن به يلزم. فرع أرش البكارة، وأطراف العبد مرهون لانهما ليسا من الزوائد، بل بدل جزء. فرع ضرب الرجل الجارية المرهونة، فألقت جنينا ميتا، لزم الضارب عشر قيمة الام، ولا يكون مرهونا، لانه بدل الولد، فإن دخلها نقص، لم يجب بسببه شئ، ولكن قدر أرش النقص من العشر يكون رهنا، فإن ألقته حيا ومات، ففيما يلزم الجاني ؟ قولان. أظهرهما: قيمة الجنين حيا، وأرش نقصان الام إن نقصت. فعلى هذا القيمة للراهن، والارش مرهون. والثاني: أكثر الامرين من أرش النقض، وقيمة الجنين. فعلى هذا، إن كان الارش أكثر، فالمأخوذ رهن كله. وإن كانت القيمة أكثر، فقدر الارش رهن. وأما البهيمة المرهونة، إذا ضربت فألقت جنينا ميتا، فلا شئ على الضارب سوى أرش النقص إن نقصت، ويكون رهنا. الطرف الثالث: في فك الرهن. ينفك بأسباب. أحدها: فسخ المرتهن. والثاني: تلف المرهون بآفة سماوية. إذا جنى المرهون، لم يبطل الرهن بمجرده، بل الجناية ضربان. أحدهما: يتعلق بأجنبي، فيقدم حق المجني عليه، لانه متعين في الرقبة. وحق المرتهن ثابت في الذمة. فإن اقتص منه، بطل الرهن. فإن وجب مال، فبيع فيه، بطل أيضا. حتى لو عاد إلى ملك الراهن، لم يكن رهنا. ولو كان الواجب دون قيمة العبد، بيع بقدره، والباقي رهن. فإن تعذر بيع بعضه، أو نقص بالتبعيض، بيع كله، وما فضل عن الارش يكون رهنا. ولو عفا عن الارش، أفداه الراهن، بقي رهنا. وكذا لو فداه المرتهن. ثم في رجوعه على الراهن، ما سبق في رهن أرض الخراج. هذا كله إذا جنى بغير إذن سيده. فإن أمره السيد بها فإن لم يكن مميزا، أو كان أعجميا يعتقد وجوب طاعة السيد في كل ما يأمر به، فالجاني هو السيد، وعليه القصاص أو الضمان، ولا يتعلق المال برقبة العبد على الاصح. فإن(3/342)
قلنا: يتعلق، فبيع في الجناية، لزم السيد أن يرهن قيمته مكانه. وإذا جنى مثل هذا العبد، فقال السيد: أنا أمرته بذلك، لم يقبل قوله في حق المجني عليه، بل يباع العبد فيها، وعلى السيد القيمة، لاقراره. وإن كان العبد مميزا يعرف أنه لا يطاع ا لسيد فيه، بالغا كان أو غير بالغ، فهو كما لو لم يأذن السيد إلا أن السيد يأثم. الضرب الثاني: أن يتعلق بالسيد، وفيه مسائل. إحداها: إذا جنى على طرف سيده عمدا، فله القصاص. فإن اقتص، بطل الرهن. وإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ، فالصحيح: أنه لا يثبت المال، لان السيد لا يثبت له على عبده مال، فيبقى الرهن كما كان. وقال إبن سريج: يثبت للسيد المال، ويتوصل به إلى فك الرهن. الثانية: جنى على نفس السيد عمدا، فللوارث القصاص. فإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ، لم يثبت على الاظهر. الثالثة: جنى على طرف من يرثه السيد، كأبيه، فله القصاص، وله العفو على مال. ولو جنى خطأ، ثبت المال. فإن مات قبل الاستيفاء، وورثه السيد، فوجهان. أصحهما عند الصيدلاني والامام: يسقط بمجرد إنتقاله، ولا يجوز أن يثبت له على عبده إستدامة الدين، كما لا يجوز إبتداؤه. والثاني وبه قطع العراقيون: لا يسقط، وله بيعه فيه كما كان للمورث. الرابعة: جنى على نفس المورث عمدا، فللسيد القصاص. فإن عفا على مال، أو كانت خطأ، بني على أن الدية تثبت للوارث إبتداء، أم يتلقاها عن المورث. إن قلنا بالاول، لم يثب ت، وإلا، فعلى الوجهين فيما إذا جنى على طرفه وانتقل إليه بالارث. الخامسة: قتل عبدا آخر للراهن، نظر، إن لم يكن المقتول مرهونا، فهو كما(3/343)
(لو) جنى على السيد. وحكم القن والمدبر وأم الولد سواء. وإن كان مرهونا أيضا، فله حالان. أحدهما: أن يكون مرهونا عند غير المرتهن القاتل، فإن قتل عمدا، فللسيد القصاص، ويبطل الرهنان جميعا، وإن عفا على مال، أو قتل خطأ، وجب المال متعلقا برقبته لحق المرتهن القتيل. وإن عفا بلا مال، فإن قلنا: موجب العمد أحد الامرين، وجب المال، ولم يصح العفو إلا برضى المرتهن. وإن قلنا: موجبه القود، فإن قلنا: العفو المطلق لا يوجب المال، لم يجب شئ، وإن قلنا: يوجبه، فكذلك على الاصح، وإن عفا مطلقا، فإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال، ثبت كما لو عفا على مال. وإن قلنا: لا يوجبه، صح العفو، وبطل رهن مرتهن القتيل، وبقي القاتل رهنا. وعفو المحجور عليه بالفلس، كعفو الراهن، لان أموال المفلس والمرهون سواء في الحجر. ثم متى وجب المال، نظر، إن كان الواجب أكثر من قيمة القاتل أو مثلها، فوجهان. أحدهما: ينقل القاتل إلى يد المرتهن القتيل، ولا يباع، لانه لا فائدة فيه، وأصحهما: يباع ويجعل الثمن رهنا في يده، لان حقه في مالية العبد، لا في عينه، لانه قد يرغب راغب بزيادة. وإن كان أقل من قيمة القاتل، فعلى الوجه الاول: ينتقل من القاتل بقدر الواجب إلى مرتهن القتيل. وعلى الثاني: يباع منه بقدر الواجب، ويبقى الباقي رهنا. فإن تعذر بيع البعض، أو نقص بالتبعيض، بيع الجميع، وجعل الزائد على الواجب عند مرتهن القاتل وإنما يجئ الوجهان، إذا طلب الراهن النقل، ومرتهن القتيل البيع، فأيهم يجاب ؟ فيه الوجهان. أما إذا طلب الراهن البيع، ومرتهن القتيل النقل، فالمجاب الراهن، لانه لا حق للمرتهن المذكور في عينه. ولو اتفق الراهن والمرتهنان على أحد الطريقين، فهو المسلوك قطعا. ولو اتفق الراهن ومرتهن القتيل على النقل، قال الامام: ليس لمرتهن القاتل المنازعة فيه، وطلب البيع. ومقتضى التعليل السابق، يتوقع راغب أنه له ذلك.(3/344)
الحال الثاني: أن يكون مرهونا عند مرتهن القاتل أيضا. فإن كان العبدان مرهونين بدين واحد، فقد نقصت الوثيقة ولا جابر، كما لو مات أحدهما. وإن كانا مرهونين بدينين، نظر في الدينين، أهما مختلفان حلولا وتأجيلا، أم لا ؟ فإن اختلفا، فله التوثق لدين القتيل بالقاتل، لانه إن كان الحال دين المقتول، ففائدته الاستيفاء من ثمنه في الحال. وإن كان دين القاتل، فتحصل الوثيقة بالمؤجل، ويطالب بالحال. وكذا الحكم، لو كانا مؤجلين، وأحد الاجلين أطول. وإن اتفقا في الحلول والتأجيل، نظر، هل بينهما اختلاف قدر، أم لا ؟ فإن لم يكن كعشرة وعشرة، فإن كان العبدان مختلفي القيمة، وقيمة القتيل أكثر، لم تنقل الوثيقة. وإن كانت قيمة القاتل أكثر، نقل منه قدر قيمة القتيل إلى دين القتيل، وبقي الباقي رهنا بما كان. وإن كانا سواء في القيمة، بقي القاتل رهنا بما كان، ولا فائدة في النقل. وإن اختلف قدر الدينين، نظر، إن تساوت قيمة العبدين، أو كان القتيل أكثر قيمة، فإن كان المرهون بأكثر الدينين هو القتيل، فله توثيقه بالقاتل. وإن كان المرهون بأقلهما هو القتيل، فلا فائدة في النقل. وإن كان القتيل أقلهما قيمة، فإن كان مرهونا بأقل الدينين، فلا فائدة في النقل. وإن كان بأكثرهما، نقل من القاتل قدر قيمة القتيل إلى الدين الآخر. وحيث قلنا: تنقل الوثيقة، فهل يباع ويقام ثمنه مقام القتيل، أم يقام عينه مقامه ؟ فيه الوجهان السابقان. فرع هذا الذي ذكرناه من أقسام إختلاف الدينين، هو المعتبر فقط، كذا قاله الاكثرون. فلو اختلف الدينان في الاستقرار وعدمه، بأن كان أحدهما عوض ما يتوقع رده بالعيب، أو صداقا قبل الدخول، فلا أثر له عند الجمهور. وحكى في الشامل عن أبي إسحق المروزي أنه إن كان القاتل مرهونا بالمستقر، فلا فائدة في النفل. وإن كان مرهونا بالآخر، فوجهان وكذا قول الغزالي في الوسيط: إختلاف جنس الدينين، كاختلاف القدر، فهو وإن كان متجها في المعنى، فمخالف لنص الشافعي رضي الله عنه والاصحاب كلهم: لا تأثير لاختلاف الجنس. قلت: المراد باختلاف الجنس، أن يكون أحدهما دنانير، والآخر دراهم،(3/345)
واستويا في المالية بحيث لو قوم أحدهما بالآخر، لم يزد ولم ينقص. والله أعلم. فرع لو تساوى الدينان في الاوصاف، وقلنا: الوثيقة لا تنقل، فقال المرتهن: قد جنى فلا آمنه، فبيعوه وضعوا ثمنه رهنا مكانه، هل يجاب ؟ وجهان. فرع لو جني على مكاتب السيد، فانتقل الحق إليه بموته أو عجزه، فهو كالمنتقل من المورث. السبب الثالث لانفكاك الرهن: برائة الذمة عن جميع الدين بالقضاء، أو الابراء، أو الحوالة، أو الاقالة المسقطة للثمن المرهون به، أو المسلم فيه المرهون به. ولو اعتاض عن الدين عينا، انفك الرهن، لتحول الحق من الذمة إلى العين. ثم لو تلفت العين قبل التسليم، بطل الاعتياض، ويعود الرهن كما عاد الدين، ولا ينفك بالبراءة عن بعض الدين بعض الرهن، كما أن حق الحبس يبقى ما بقي شئ من الثمن، ولا يعتق شئ من المكاتب ما بقي شئ من المال. ولو رهن عبدين وسلم أحدهما، كان المسلم مرهونا بجميع الدين. فرع إنما يتصور إنفكاك بعض المرهون عن بعض أمور. أحدها: تعدد العقد، بأن رهنه نصف العبد بعشرة، ونصفه الآخر في صفة أخرى. الثاني: أن يتعدد مستحق الدين، بأن رهنه عند رجلين صفقة واحدة، ثم برئ من دين أحدهما بأداء أو إبراء، انفك الرهن بقسط دينه. وفي وجه: إن اتحدت جهة دينيهما، بأن أتلف عليهما مالا، أو ابتاع منهما، لم ينفك شئ بالبراءة عن أحدهما، وإنما ينفك إذا اختلفت الجهة. والصحيح: الانفكاك مطلقا. الثالث: أن يتعدد من عليه الدين، بأن رهن رجلان عند رجل، فإذا برئ أحدهما، انفك نصيبه. الرابع: إذا وكل رجلان رجلا يرهن عبدهما عند زيد بدينه عليهما، ثم قضى أحد الموكلين دينه، فقيل: قولان. والمذهب: القطع بإنفكاك نصيبه، ولا نظر إلى إتحاد الوكيل وتعدده. قال الامام: لان مدار الباب على إتحاد الدين وتعدده،(3/346)
ومتى تعدد المستحق أو المستحق عليه، تعدد الدين. ويخالف هذا، البيع والشراء، حيث ذكرنا خلافا في أن الاعتبار في تعدد الصفقة وإتحادها بالمتبايعين، أم بالوكيل ؟ لان الرهن ليس عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى المباشر. الخامس: إذا استعار عبدا من مالكيه ليرهنه، فرهنه، ثم أدى نصف الدين، وقصد به الشيوع من غير تخصيص بحصة أحدهما، لم ينفك من الرهن شئ. وإن قصد أداء عن نصيب أحدهما بعينه لينفك نصيبه، ففي انفكاكه أقوال. ثالثها: أنه إن علم المرتهن أن العبد لمالكين، إنفك، وإلا، فلا، حكاه المحاملي وغيره. قال الامام: ولا نعلم لهذا وجها، لان عدم الانفكاك لاتحاد الدين والعاقدين، ولا يختلف ذلك بالجهل والعلم، وإنما أثر الجهل إثبات الخيار. ثم في عيون المسائل، ما يدل على أن الاظهر الانفكاك. قلت: صرح صاحب الحاوي وغيره، بأن الانفكاك أظهر. والله أعلم. ولو كان لرجلين عبدان متماثلا القيمة، فاستعارهما للرهن، فرهنهما، ثم قضى نصف الدين لينفك أحدهما، فالاصح طرد القولين. وقيل: ينفك قطعا. وإذا قلنا بالانفكاك، وكان الرهن مشروطا في بيع، فللمرتهن الخيار إذا جهل بأنه لمالكين على الاصح. وقيل: الاظهر. ولو استعار من رجلين ورهن عند رجلين، كان نصيب كل واحد من المالكين مرهونا عند الرجلين. فلو أراد فك نصيب أحدهما بقضاء نصف دين كل واحد من المرتهنين، فعلى القولين. وإن أراد فك نصف العبد بقضاء دين أحدهما، فله ذلك بلا خلاف. ولو استعار اثنان من واحد، ورهنا عند واحد، ثم قضى أحدهما ما عليه، انفك النصف لتعدد العاقد، هكذا نقلوه. فرع قال في التهذيب: لو استعار ليرهن عند واحد، فرهن عند اثنين، أو بالعكس، لم يجز. أما في الصورة الاولى، فلعدم الاذن، وأما العكس، فلانه إذا رهن عند إثنين، ينفك بعض الرهن بأداء دين أحدهما، وإذا رهن عند واحد، لا ينفك شئ إلا بأداء الجميع، ونقل صاحب(3/347)
التتمة وغيره الجواز في الطرفين، والاول أصح. السادس: لو رهن عبدا بمائة، ثم مات عن اثنين، فقضى أحدهما حصته من الدين، ففي انفكاك نصيبه قولان. أظهرهما: لا ينفك، وقطع به جماعة، لان الرهن صدر أولا من واحد. ولو مات من عليه دين، وتعلق الدين بتركته، فقضى بعض الورثة نصيبه، قال الامام: لا يبعد أن يخرج انفكاك نصيبه من التركة على قولين، بناء على أن أحد الورثة لو أقر بالدين، وأنكر الباقون، هل على المقر أداء جميع الدين من نصيبه من التركة ؟ وعلى هذا البناء، فالاصح الانفكاك، لان الجديد: أنه لا يلزم أداء جميع الدين مما في يده من التركة ثم الحكم بانفكاك نصيبه، إنما يظهر إذا كان إبتداء التعلق مع إبتداء تعدد الملاك. فلو كان الموت مسبوقا بالمرض، كان التعلق سابقا على ملك الورثة، فإن للدين أثرا بينا في الحجر على المريض. فيشبه أن يكون القول في انفكاك نصيبه، كما سبق في الصورة السابقة، ولا فرق بين أن يكون تعلق الدين بالتركة في هذه الصورة، ثابتا بإقرار الوارث، أو ببينة وقد قيدها الغزالي، بما إذا ثبت بإقرار الوارث، وصورة المسألة غنية عن هذا القيد، ولم يذكره إمام الحرمين. قلت: قول الامام الرافعي: الحكم بالانفكاك، إنما يظهر إذا كان إبتداء التعلق... إلى آخره. هذا خلاف مقتضى إطلاق الامام، والغزالي، والظاهر أن المسألة على إطلاقها، وليست هذه الصورة من الاولى في شئ، لان الاولى: في انفكاك نصيب الابن من العين التي رهنها الميت. والثانية: ففك نصيبه من تعلق التركة، وليس للرهن في الثانية وجود، ففي قول: ينفك تعلق الدين بنصيبه، فينفذ تصرفه فيه. وفي قول: لا ينفك التعلق، فلا ينفذ تصرفه فنصيبه إذا منعنا تصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين. والله أعلم. فرع إذا كان المرهون لمالكين، وانفك نصيب أحدهما بأداء أو إبراء فأراد القسمة، فإن كان مما ينقسم بالاجزاء كالمكيل والموزون، فله أن يقاس المرتهن بإذن شريكه، نص عليه وإن كان مما لا ينقسم بالاجزاء كالثياب، والعبيد، قال العراقيون: لا يجاب إليه. وإن كان أرضا مختلفة الاجزاء كالدار، قالوا: لزم الشريك أن يوافقه، وفي المرتهن، وجهان. أصحهما: له الامتناع لما في القسمة(3/348)
من التبعيض وقلة الرغبة، هذا ما ذكره العراقيون في طرقهم. وزاد آخرون، منهم أصحاب القفال، فقالوا: تجويز القسمة حيث جوزناه مبني على أن القسمة إفراز حق، فإن جعلناها بيعا، فهو بيع المرهون بغيره، وهو ممتنع. والجمهور أطبقوا على تجويز القسمة هنا، وجعلوا تأثير كونها بيعا إفتقارها إلى إذن المرتهن. ثم إذا جوزنا القسمة، فطريق الطالب أن يراجع الشريك، فإن ساعد، فذاك، وإلا، فيرفع الامر إلى القاضي ليقسم. وفي وجه: لا حاجة إلى إذن الشريك في المتماثلات، لان قسمتها إجبار، والصحيح الاول. ولو قاسم المرتهن وهو مأذون له من جهة المالك، أو الحاكم عند إمتناع المالك، جاز، وإلا، فلا. وإذا منعناها فرضي المرتهن، فالمفهوم من كلام الجمهور صحتها. قال الامام: لا يصح وإن رضي، لان رضاه إنما يؤثر في فك الرهن. فأما في بيعه بما ليس برهن ليصير رهنا، فلا. وهذا إشكال قوي. قلت: ليس بقوي لمن تأمله، ولا يسلم الحكم الذي إدعاه، فالمعتمد ما قاله الاصحاب. والله أعلم. ولو أراد الراهنان القسمة قبل إنفكاك شئ من الرهن، فعلى التفصيل الذي بيناه. ولو رهن واحد عند إثنين، وقضى نصيب أحدهما، ثم أراد القسمة ليمتاز ما بقي رهنا، ففي إشتراط رضى الذي بقي رهنه ما ذكرنا.
الباب الرابع في الاختلاف
التنازع في الرهن يفرض في أمور.
الاول: أصل العقد. فإذا قال: رهنتني، فأنكر المالك، أو رهنتني ثوبك، فقال: بل عبدي. أو بألفين، فقال: بل بألف. أو رهنتني الارض بأشجارها، فقال: بل وحدها، فالقول قول المالك مع يمينه. ولو قال: رهنتني الاشجار مع الارض يوم رهن الارض، فقال: لم تكن هذه الاشجار أو بعضها يوم رهن الارض، بل أحدثتها بعد، نظر، فإن كانت الاشجار بحيث لا يتصور وجودها يوم الرهن، فالمرتهن كاذب،(3/349)
والقول قول الراهن بلا يمين. وإن كانت بحيث لا يتصور حدوثها بعده، فالراهن كاذب، فإن إعترف في مفاوضتها أنه رهن الارض بما فيها، كانت الاشجار مرهونة، ولا حاجة إلى يمين المرتهن، وإن زعم رهن الارض وحدها، أو ما سوى الاشجار المختلف فيها، واقتصر على نفي الوجود، فلا يلزم من كذبه في إنكار الوجود كونها مرهونة، فيطالب بجواب دعوى الرهن، فإن أصر على إنكار الوجود، فقد جعل ناكلا، وردت اليمين على المرتهن. فإن رجع إلى الاعتراف بالوجود، وأنكر رهنها، قبلنا إنكاره، وحلف لجواز صدقه في نفي الرهن. وإن كان الشجر بحيث يحتمل الوجود يوم رهن الارض، والحدوث بعده فالقول قول الراهن. فإذا حلف، فهي كالشجرة الحادثة بعد الرهن في القلع وسائر الاحكام، وقد سبق بيانها. هذا كله تفريع على الاكتفاء منه بإنكار الوجود، وهو الصحيح. وفي وجه: لا بد من إنكار الرهن صريحا. والحكم بتصديق الراهن في هذه الصورة، مفروض فيما إذا كان إختلافهما في رهن تبرع. فإن اختلفا في رهن مشروط في بيع، تحالفا كسائر صفات البيع إذا إختلف فيها فصل لو إدعى رجل على رجلين أنهما رهناه عبدهما بمائة، وأقبضاه، فأنكرا الرهن، أو الرهن والدين جميعا، فالقول قولهما مع اليمين. وإن صدقه أحدهما، فنصيبه رهن بخمسين، والقول قول المكذب في نصيبه مع يمينه. فلو شهد المصدق للمدعي على شريك المكذب، قبلت شهادته، فإن شهد معه آخر، وحلف المدعي، ثبت رهن الجميع. ولو زعم كل منهما أنه ما رهن نصيبه، وأن شريكه رهن، وشهد عليه، فوجهان. ويقال: قولان: أحدهما: لا تقبل شهادته، لان كل واحد يزعم أن صاحبه كاذب ظالم بالجحود. وطعن المشهود له في الشاهد، يمنع قبول شهادته له. وأصحهما: تقبل، وبه قال الاكثرون، لانه ربما نسيا. فإن تعمدا، فالكذبة الواحدة لا توجب الفسق. ولهذا، لو تخاصم رجلان في شئ، ثم شهدا في حادثة، قبلت شهادتهما وإن كان أحدهما كاذبا في(3/350)
ذلك التخاصم. فعلى هذا، إذا حلف مع كل واحد، أو أقام شاهدا آخر، ثبت رهن الجميع. وقال ابن القطان: الذي شهد أولا يقبل، دون الآخر، لانه انتهض خصما منتقما. فرع إدعى رجلان على رجل أنه رهنهما وأقبضهما، فإن صدقهما أو كذبهما، لم يخف الحكم. وإن صدق أحدهما، فنصف العبد رهن عنده، ويحلف للآخر. وهل تقبل شهادة المصدق للمكذب ؟ قال ابن كج: نعم. وقال الآخرون: لا. وحكى الامام والغزالي وجهين بناء على أن الشريكي إذا ادعيا حقا أو ملكا بابتياع أو غيره، فصدق أحدهما، هل يستبد بالنصف، أم يشاركه الآخر فيه ؟ فيه وجهان. إن قلنا: يستبد، قبلت، وإلا، فلا، لانه متهم. وقال البغوي: إن لم ينكر إلا الرهن، قبل. وإن أنكر الرهن والدين، فحينئذ يفرق بين دعواهما الارث وغيره. والذي ينبغي أن يفتى به، القبول إن كانت الحال لا تقتضي الشركة، والمنع إن اقتضت، لانه متهم. فرع منصوص عليه إدعى زيد وعمروعلى ابني بكر، أنهما رهنا عندهما عبدهما المشترك بينهما بمائة، فصدقا أحد المدعيين، ثبت ما ادعاه، وكان له على كل واحد منهما ربع المائة، ونصف نصيب كل واحد منهما مرهون به. وإن صدق أحد الابنين زيدا، والآخر عمرا، ثبت الرهن في نصف العبد، لكل واحد من المدعيين في ربعه بربع المائة. فلو شهد أحد الاثنين على أخيه، قبلت. ولو شهد أحد المدعيين للآخر، فعلى ما ذكرناه في الصورة الثانية. فرع منصوص في المختصر إدعى رجلان على رجل، فقال كل واحد: رهنتني عبدك هذا وأقبضتنيه، فإن كذبهما، فالقول قوله، ويحلف لكل(3/351)
واحد يمينا. وإن كذب أحدهما، وصدق الآخر، قضي بالرهن للمصدق. وفي تحليفه للمكذب قولان. أظهرهما: لا. فإن قلنا: يحلف، فنكل، فحلف المكذب يمين الرد، ففيما يستفيد بها وجهان. أحدهما: يقضى له بالرهن وينزع من الاول. وأصحهما: يأخذ القيمة من المالك، ليكون رهنا عنده. وإن صدقهما جميعا، نظر، فإن لم يدعيا السبق، أو ادعاه كل منهما، وقال المدعى عليه: لا أعرف السابق، وصدقاه، فوجهان. أحدهما: يقسم بينهما، كما لو تنازعا شيئا في يد ثالث فاعترف لهما، وأصحهما: يحكم ببطلان العقد، كما لو زوج وليان ولم يعرف السابق. وإن إدعى كل واحد السبق، وأن الراهن عالم بصدقه، فالقول قوله مع يمينه. فإن نكل، ردت اليمين عليهما. فإن حلف أحدهما، قضي له. وإن حلفا، أو نكلا، تعذر معرفة السابق، وعاد الوجهان. وإن صدق أحدهما في السبق، وكذب الآخر، قضي للمصدق. وهل يحلفه المكذب ؟ فيه القولان السابقان. وحيث قلنا: مقتضى الصدق، فذلك إذا لم يكن العبد في يد المكذب. فإن كان، فقولان. أحدهما: يقضى لصاحب اليد. وأظهرهما: المصدق يقدم، لان اليد لا دلالة لها على الرهن. ولو كان العبد من أيديهما، فالمصدق مقدم في النصف الذي في يده، وفي النصف الآخر، القولان. والاعتبار في جميع ما ذكرناه بسبق القبض، لا العقد. حتى لو صدق هذا في سبق العقد، وهذا في سبق القبض، قدم الثاني. قلت: ولو قال المدعى عليه: رهنته عند أحدكما، ونسيت، حلف على نفي العلم. فإن نكل، ردت عليهما، فإن حلفا، أو نكلا، إنفسخ العقد على المذهب الذي قطع به الجماهير في الطرق، ونقله الامام وغيره عن الاصحاب. وخرج وجه: أنه لا ينفسخ، بل يفسخه الحاكم، وبهذا الوجه قطع صاحب الوسيط، وهو شاذ ضعيف. وإن حلف الراهن على نفي العلم، تحالفا على الصحيح، كما لو نكل. وفي وجه: انتهت الخصومة. والله أعلم. فرع دفع متاعا إلى رجل، وأرسله إلى غيره ليستقرض منه للدافع ويرهن(3/352)
المتاع، ففعل، ثم اختلفا، فقال المرسل إليه: استقرض مائة ورهنه بها، وقال المرسل: لم آذن إلا في خمسين، نظر، إن صدق الرسول المرسل، فالمرسل إليه مدع على المرسل بالاذن، وعلى الرسول بالاخذ، فالقول قولهما في نفي دعواه. وإن صدق المرسل إليه، فالقول فنفي الزيادة قول المرسل، ولا يرجع المرسل إليه على الرسول بالزيادة إن صدقه في الدفع إلى المرسل، لانه مظلوم بزعمه. وإن لم يصدقه، رجع عليه. هكذا ذكره، وفيه إشكال، وينبغي أن يرجع على الرسول وإن صدقه في الدفع إلى المرسل. الامر الثاني: القبض. فإذا تنازعا في قبض المرهون، فإن كان في وقت النزاع في يد الراهن، فالقول قوله مع يمينه. وإن كان في يد المرتهن وقال: قبضته عن الرهن، وأنكر الراهن، فقال: غصبتنيه، فالقول قول الراهن على الصحيح. وقيل: قول المرتهن، وهو شاذ ضعيف. وإن قال الراهن: بل قبضته عن جهة أخرى مأذون فيها، بأن قال: أودعتكه، أو أعرت، أو أكريت، أو أكريته لفلان فأكراكه، فهل القول قول المرتهن، لاتفاقهما على قبض مأذون فيه، أو قول الراهن، لان الاصل عدم ما ادعاه ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وهو المنصوص. ويجري مثل هذا التفصيل، فيما إذا اختلف البائع والمشتري، حيث كان للبائع حق الحبس، وصادفنا المبيع في يد المشتري، فادعى البائع أنه أعاره، أو أودعه، لكن الاصح هنا حصول القبض، لقو يده بالملك. وهذا تفريع على أنه لا يبطل حق الحبس بالاعارة والايداع، وفيه خلاف سبق. ولو صدقه الراهن في إذنه في القبض على جهة الرهن، ولكن قال: رجعت قبل قبضك، فالقول قول المرتهن في عدم الرجوع، لان الاصل عدمه. ولو قال الراهن لم يقبضه بعد، وقال المرتهن قبضته، فمن كان المرهون في يده منهما، فالقول قوله باتفاق الاصحاب، وعليه حملوا النصين المختلفين في الام. فرع إقرار الراهن بإقباض المرهون، مقبول ملزم، لكن بشرط الامكان. حتى لو قال: رهنته اليوم داري بالشام، وأقبضته إياها وهما بمكة، فهو لاغ. ولو(3/353)
قامت البينة على إقراره بالاقباض في موضع الامكان، فقال: لم يكن إقراري عن حقيقة، فحلفوه أنه قبض، نظر، إن ذكر لاقراره تأويلا، بأن قال: كنت أقبضته بالقول، وظننت أنه يكفي قبضا، أو وقع إلي كتاب على لسان وكيلي بأنه أقبض وكان مزورا، أو قال: أشهدت على رسم القبالة قبل حقيقة القبض، فله تحليفه. وإن لم يذكر تأويلا، فوجهان. أصحهما عند العراقيين: يحلفه، وبه قال: ابن خيران وغيره، وهو ظاهر النص. وأصحهما عند المراوزة: لا، وبه قال أبو إسحق. قلت: طريقة العراقيين أفقه وأصح. والله أعلم. وقد حكى في الوسيط وجها: أنه لا يحلفه مطلقا وإن ذكر تأويلا. وهذا الوجه غريب ضعيف مخالف لما قطع به الاصحاب. ولو لم يقم بينة على إقراره، بل أقر في مجلس القضاء بعد توجه الدعوى عليه، فوجهان. قال القفال: لا يحلفه وإن ذكر تأويلا، لانه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق. وقال غيره: لا فرق، لشمول الامكان. ولو شهد الشهود على نفس القبض، فليس له التحليف بحال، وكذا لو شهدوا على إقراره، فقال: ما أقررت، لانه تكذيب للشهود. فرع لو كان الرهن مشروطا في بيع، فقال المشتري: أقبضت، ثم تلف الرهن، فلا خيار لك في البيع، وأقام على إقراره بالقبض حجة، فأراد المرتهن تحليفه، فهو كما ذكرنا في إقرار الرهن وطلب الراهن يمين المرتهن. ويقاس على هذا، ما إذا قامت بينة بإقراره لزيد بألف، فقال: إنما أقررت وأشهدت ليقرضني، ثم لم يقرضني، وكذا سائر نظائرها. الامر الثالث: الجناية، وهي ضربان. الاول: جني على العبد المرهون، فأقر رجل أنه الجاني، فإن صدقه المتراهنان أو كذباه، لم يخف حكمه. وإن صدقه الراهن فقط، أخذ الارش وفاز(3/354)
به، فليس للمرتهن التوثق به. وإن صدقه المرتهن فقط، أخذ الارش وكان مرهونا. فإن قضى الدين من غيره، أو أبرأه المرتهن، فالاصح: أنه يرد الارش إلى المقر. والثاني: يجعل في بيت المال، لانه مال ضائع لا يدعيه أحد. الضرب الثاني: جناية المرهون، والنزاع في جنايته، يقع تارة بعد لزوم الرهن، وتارة قبله. الحال الاول: بعده، فإذا أقر المرتهن بأنه جنى، ووافقه العبد أم لا، فالقول قول الراهن مع يمينه. وإذا بيع في دين المرتهن، لم يلزمه تسليم الثمن إليه بإقراره السابق. ولو أقر الراهن بجنايته، وأنكر المرتهن، فالقول قوله. وإذا بيع في الدين، فلا شئ للمقر له على الراهن. وحكى ابن كج وجها: أنه يقبل إقرار الراهن، ويباع العبد في الجناية، ويغرم الراهن للمرتهن. الحال الثاني: تنازعا في جنايته قبل لزوم الرهن، فأقر الراهن بأنه كان أتلف مالا، أو جنى جناية توجب المال، فإن لم يعين المجني عليه، أو عينه فلم يصدقه، أو لم يدع ذلك، فالرهن مستمر بحاله. وإن عينه وادعاه المجني عليه، نظر، إن صدقه المرتهن، بيع في الجناية، والمرتهن بالخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع. وإن كذبه، فقولان. أظهرهما: لا يقبل قول الراهن، صيانة لحق المرتهن. والثاني: يقبل، لانه مالك. ويجري القولان فيما لو قال: كنت غصبته، أو اشتريته شراء فاسدا، أو بعته، أو وهبته وأقبضته وأعتقته. ولا حاجة في صورة العتق إلى تصديق العبد ودعواه، بخلاف المقر له في باقي الصور. وفي الاقرار بالعتق قول ثالث: أنه إن كان موسرا، نفذ، وإلا، فلا، كالاعتاق. ونقل الامام هذا القول في جميع هذه الصور. فإن قلنا: لا يقبل إقرار الراهن، فالقول في بقاء الرهن قول المرتهن مع يمينه، ويحلف على نفي العلم بالجناية. وإذا حلف واستمر الرهن، فهل يغرم الراهن للمجني عليه ؟ قولان. قال الائمة. أظهرهما: يغرم كما لو قبله، لانه حال بينه وبين حقه، وهما كالقولين فيمن أقر بالدار لزيد، ثم لعمرو، هل يغرم لعمرو ؟ ويعبر عنهما بقولي الغرم للحيلولة، لانه بإقراره الاول حال بين من أقر له ثانيا وبين حقه. فإن قلنا: يغرم، طولب في الحال إن كان موسرا. وإن كان معسرا فإذا(3/355)
أيسر. وفيما يغرم للمجني عليه ؟ طريقان. أحدهما: على قولين. أظهرهما: الاقل من قيمته وأرش الجناية. وثانيهما: الارش بالغا ما بلغ. والطريق الثاني وهو المذهب وبه قال الاكثرون: يغرم الاقل قطعا، كأم الولد، لامتناع البيع بخلاف القن. وإذا قلنا: لا يغرم الراهن، فإن بيع في الدين، فلا شئ عليه. لكن لو ملكه، لزمه تسليمه في الجناية، وكذا لو انفك رهنه. هذا كله إذا حلف المرتهن، فإن نكل، فعلى من ترد اليمين ؟ قولان. ويقال: وجهان. أحدهما: على الراهن، لانه مالك العبد، والخصومة تجري بينه وبين المرتهن. وأظهرهما: على المجني عليه، لان الحق له، والراهن لا يدعي لنفسه شيئا. فإذا حلف المردود عليه منهما، بيع العبد في الجناية، ولا خيار للمرتهن في فسخ البيع المشروط فيه، لان فواته حصل بنكوله. ثم إن كان يستغرق الواجب قيمته، بيع كله، وإلا فبقدر الارش. وهل يكون الباقي رهنا ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان اليمين المردودة كالبينة، كالاقرار بأنه كان جانيا في الابتداء، فلا يصح رهن شئ منه. وإذا رددنا على الراهن، فنكل، فهل يرد على المجني عليه ؟ قولان. ويقال: وجهان. أحدهما: نعم لان الحق له. وأصحهما: لا، لان اليمين لاترد مرة بعد أخرى. فعلى هذا، نكول الراهن كحلف المرتهن في تقرير الرهن. وهل يغرم الراهن للمجني عليه ؟ فيه القولان. وإن رددناه على المجني عليه فنكل، قال الشيخ أبو محمد: تسقط دعواه، وانتهت الخصومة. وطرد العراقيون في الرد منه على الراهن الخلاف المذكور في عكسه. وإذالم ترد، لا يغرم له الراهن، قولا واحدا، وتحال الحيلولة على نكوله، هذا تماالتفريع على أحد القولين في أصل المسألة، وهو أن ا لراهن لا يقبل إقراره. فإن قبلناه، فهل يحلف، أم يقبل بلا يمين ؟ قولان، أو وجهان. أحدهما: لا يحلف، لان اليمين للزجر ليرجع الكاذب. وهنا لا يقبل رجوعه. وأصحهما عند الشيخ أبي حامد ومن وافقه: يحلف لحق المرتهن، ويحلف على البت. وسواء حلفناه، أم لا، فيباع العبد في الجناية كله أو بعضه على ما سبق، وللمرتهن الخيار في فسخ البيع. وإن نكل، حلف المرتهن، لانا إنما حلفنا الراهن لحقه. وفي فائدة حلفه قولان حكاهما الصيدلاني وغيره. أظهرهما: أن فائدته: تقدير الرهن في العبد على ما هو قياس الخصومات. والثاني: فائدته: أن يغرم الراهن قيمته، ليكون رهنا مكانه، ويباع العبد في الجناية(3/356)
بإقرار الراهن. فإن قلنا بالاول، فهل يغرم الراهن للمقر له لكونه حال بنكوله بينه وبين حقه ؟ فيه القولان السابقان. وإن قلنا بالثاني، فهل للمرتهن الخيار في فسخ البيع ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لفوات العين المشروطة. والثاني: لا، لحصول الوثيقة بالقيمة. وإن نكل المرتهن، بيع العبد في الجناية، ولا خيار له في فسخ البيع، لا غرم على الراهن. وجميع ما ذكرناه مبني على أن رهن الجاني لا يصح، فإن صححناه، فقيل: يقبل إقراره قطعا، فيغرم المجني عليه، ويستمر الرهن. وقال آخرون: بطرد القولين. ووجه المنع: أنه يحل بلزوم الرهن، لان المجني عليه يبيع المرهون لو عجز عن تغريم الراهن. فرع لو أقر السيد عليه بجناية توجب القصاص، لم يقبل إقراره على العبد، فلو قال، ثم عفا على مال، فهو كما لو أقر بما يوجب المال. فرع لو أقر بالعتق وقلنا: لا يقبل، فالمذهب والمنصوص: أنه يجعل كإنشاء الاعتاق. وفيه الاقوال، لان من ملك إنشاء أمر، قبل إقراره به. ونقل الامام في نفوذه وجهين، مع قولنا: ينفذ الانشاء. فرع رهن الجارية الموطوءة جائز، ولا يمنع من التصرف، لاحتمال الحمل. فإذا رهن جارية، فأتت بولد، فإن كان الانفصال لدون ستة أشهر من الوطئ، أو لاكثر من أربع سنين، فالرهن بحاله، والولد مملوك له، لانه لا يلحق به. وإن كان لستة أشهر فأكثر إلى أربع سنين، فقال الراهن: هذا الولد مني، وكنت وطئتها قبل لزوم الرهن، فإن صدقه المرتهن، أو قامت بينة، فهي أم ولد له، والرهن باطل، وللمرتهن فسخ البيع المشروط فيه رهنها. وإن كذبه ولا بينة، ففي قبول إقراره لثبوت الاستيلاد، قولان، كإقراره بالعتق ونظائره، والتفريع كما سبق. وعلى كل حال، فالولد حر ثابت النسب عند الامكان. ولو لم يصادف ولدا في الحال، وزعم الراهن أنها ولدت منه قبل الرهن، ففيه التفصيل السابق والخلاف، وحيث قلنا: يحلف المجني عليه، تحلف المستولدة، فإنها في مرتبته، وفي العتق يحلف العبد.(3/357)
قلت: ولو أقر بأنه استولدها بعد لزوم الرهن، فإن لم ينفذ إستيلاده، لم يقبل إقراره، وإلا، ففيه الوجهان السابقان في إقراره بالعتق، أصحهما: يقبل. والله أعلم. فرع لو باع عبدا، ثم أقر بأنه كان غصبه، أو باعه، أو اشتراه شراء فاسدا، لم يقبل قوله، لانه أقر في ملك الغير، وهو مردود ظاهرا، ويخالف إقرار الراهن فإنه في ملكه. وقيل بطرد الخلاف، والمذهب: الاول. وعلى هذا، فالقول قول المشتري. فإن نكل فهل الرد على المدعي، أم على المقر البائع ؟ قولان ولو أجر عبدا، ثم قال: كنت بعته، أو أجرته، أو أعتقته، ففيه الخلاف المذكور في الرهن، كبقاء الملك. ولو كاتبه، ثم أقر بما لا يصح معه كتابة، قال ابن كج: فيه الخلاف. وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا يقبل، لان المكاتب كمن زال ملكه عنه الامر الرابع: ما يفك به الرهن. فإذا أدن المرتهن في بيع الرهن، فباع الراهن، ورجع المرتهن عن الاذن، ثم اختلفا، فقال: رجعت قبل البيع، فلم يصح، وبقي رهنا كما كان، وقال الراهن: بل رجعت بعده، فالقول قول المرتهن على الاصح عند الاكثرين، وقيل: قول الراهن. وقال في التهذيب: إن قال الراهن أولا: تصرفت بإذنك، ثم قال المرتهن: كنت رجعت قبله، فالقول قول الراهن. وإن قال: رجعت، ثم قال الراهن: كنت بعت قبل رجوعك، فالقول قول المرتهن. ولو أنكر الراهن أصل الرجوع، فالقول قوله مع يمينه.(3/358)
فصل عليه دينان، أحدهما حال، وبه رهن، أو كفيل، أو هو ثمن مبيع محبوس به، فسلم إليه ألفا، وقال: أعطيتك عنه، وقال القابض: بل عن الدين الآخر، فالقول قول الدافع، سواء اختلفا في نيته أو لفظه. قال الائمة: فالاعتبار في أداء الدين، بقصد المؤدي. حتى لو ظن المستحق أنه يودعه عنده، ونوى من عليه الدين أداء الدين برئت ذمته، وصار المدفوع ملكا للقابض. فرع كان عليه دينان، فأدى عن أحدهما بعينه، وقع عنه. وإن ادعى عنهما، قسط عليهما. وإن لم يقصد في الحال شيئا، فوجهان. أصحهما: يراجع، فيصرفه إليهما أو إلى ما شاء منهما. والثاني: يقع عنهما. وعلى هذا تردد الصيدلاني في حكايته، أنه يوزع عليهما بالتسوية، أم بالتقسيط ؟ وعلى هذا القياس نظائر المسألة، كما إذا تبايع مشركان درهما بدرهمين، وسلم الزيادة من التزمها، ثم أسلما، فإن قصد تسليمه عن الزيادة، لزمه الاصل، وإن قصد تسليمه عن الاصل فلا شئ عليه. وإن قصد تسليمه عنهما، وزع عليهما، وسقط ما بقي من الزيادة. وإن لم يقصد شيئا، ففيه الوجهان. ولو كان لزيد عليه مائة، ولعمرو مثلها، فوكلا وكيلا بالاستيفاء، فدفع المديون إلى الوكيل لزيد أو لعمرو، فذاك، وإن أطلق، فعلى الوجهين. ولو قال: خذه وادفعه إلى فلان، أو إليهما، فهذا توكيل منه بالاداء، وله التغيير ما لم يصل إلى المستحق. قلت: هذا الذي ذكره، اقتصار على الاصح. فقد قال إمام الحرمين: إذا(3/359)
قال من عليه الدين لهذا الوكيل: خذ الالف وادفعه إلى فلان، فوجهان. أفقههما أنه بالقبض ينعزل عن وكالة المستحق، وصار وكيلا للمديون. والثاني: يبقى وكيلا للاول. فعلى هذا، لو تلف في يد الوكيل بغير تقصير، فمن ضمان صاحب الدين وقد برئ الدافع. وعلى الاول: هو من ضمان الدافع، والدين باق عليه. وإن قصر الوكيل، فعليه الضمان. وأيهما يطالبه ؟ فيه الوجهان. قال الامام: ولا يشترط في جريان الوجهين قبول الوكيل صريحا بالقول، بل مجرد قوله: إدفع إلى فلان، فيه الوجهان. والله أعلم. ولو أبرأ مستحق الدينين المديون عن مائة، وكل واحد منهما مائة، فإن قصدهما أو أحدهما، فهو لما قصد. وإن أطلق، فعلى الوجهين. وإن اختلفا فقال المبرئ: أبرأت عن الدين الخالي عن الرهن والكفيل، فقال المديون: بل عن الآخر، فالقول قول المبرئ مع يمينه. فصل إختلفا في قدم عيب المرهون وحدوثه، فقد سبق بيانه في كتاب البيع. ولو رهنه عصيرا، ثم بعد قبضه اختلفا، فقال المرتهن: قبضته وقد تخمر، فلي الخيار في فسخ البيع المشروط، وقال الراهن: بل صار عندك خمرا، فالاظهر: أن القول قول الراهن، لان الاصل بقاء لزوم البيع. والثاني: قول المرتهن، لان الاصل عدم قبض صحيح. ولو زعم المرتهن أنه كان خمرا يوم العقد، وكان شرطه في البيع شرط رهن فاسد، فقيل بطرد القولين. وقيل: القول قول المرتهن قطعا. ولو سلم العبد المشروط رهنه ملتفا بثوب، ثم وجد ميتا، فقال الراهن: مات عندك، فقال: بل أعطيتنيه ميتا، فأيهما يقبل ؟ فيه القولان. ولو اشترى مائعا، وجاء بظرف فصبه البائع فيه، فوجدت فيه فأرة ميتة، فقال البائع: كانت في ظرفك، وقال المشتري: قبضته وفيه الفأرة، ففيمن يصدق ؟ القولان. ولو زعم المشتري كونها فيه حال البيع، فهذا إختلاف في جريان العقد صحيحا، أم فاسدا ؟ وقد سبق بيانه. فصل ليس للراهن أن يقول: أحضر المرهون وأنا أقضي دينك من مالي، (بل) لا يلزمه الاحضار بعد قضائه، وإنما عليه التمكين كالمودع. والاحضار، وما(3/360)
يحتاج إليه من مؤنة على رب المال. ولو احتيج إلى بيعه في الدين، فمؤنة الاحضار على الراهن. قلت: قال صاحب المعاياة: إذا رهن شيئا ولم يشرط جعله في يد عدل، أو المرتهن، فإن كان جارية، صح قطعا، وكذا غيرها على الصحيح. والفرق أنها لا تكون في يد المرتهن، وغيرها قد يكون، فيتنازعان. قال أصحابنا: لو كان بالمرهون عيب، ولم يعلم به المرتهن حتى مات، أو حدث به عيب في يده، لم يكن له فسخ البيع المشروط فيه، كما لو جرى ذلك في يد المشتري، وليس له أن يطالب بالارش ليكون مرهونا، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. قال القاضي: ولو رهن عبدين، وسل أحدهما فمات في يد المرتهن، وامتنع الراهن من تسليم الآخر، لم يكن له خيار في فسخ البيع لانه لم يمكنه رده على حاله. والله أعلم.(3/361)
كتاب التفليس
التفليس في اللغة: النداء على المفلس، وشهره بصفة الافلاس. وأما في الشرع، فقال الائمة المفلس: من عليه ديون لا يفي بها ماله. ومثل هذا الشخص يحجر عليه القاضي بالشرائط التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. وإذا حجر عليه، ثبت حكمان. أحدهما: تعلق الدين بماله حتى لا ينفذ(3/362)
تصرفه فيه بما يضر بالغرماء، ولا تزاحمها الديون الحادثة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والثاني: أن من وجد عند المفلس عين ماله، كان أحق به من غيره. فلو مات مفلسا قبل الحجر عليه، تعلقت الديون بتركته كما سبق في الرهن. ولا فرق في ذلك بين المفلس وغيره، ولكن يثبت الحكم الثاني، ويكون موته مفلسا كالحجر عليه. ولو كان مال الميت وافيا بديونه، فالصحيح: أنه لا يرجع في عين المبيع، كما في حال الحياة، لتيسر الثمن. وقال الاصطخري: يرجع. واعلم أن التعلق المانع من التصرف، يفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعا. وكذا الرجوع إلى عين المبيع. هذا هو الذي يدل عليه كلام الاصحاب تعريضا وتصريحا. وقد يشعر بعض كلامهم بالاستغناء فيه عن حجر القاضي، ولكن المعتمد الاول.
فصل يحجر القاضي على المفلس بالتماس الغرماء الحجر عليه بالديون الحالة الزائدة على قدر ماله، فهذه قيود. الاول: الالتماس، فلا بد منه. فليس للقاضي الحجر بغير التماس، لان الحق لهم. فلو كانت الديون لمجانين أو صبيان، أو محجور عليه بسفه، حجر لمصلحتهم بلا التماس، ولا يحجر لدين الغائبين، لانه لا يستوفي مالهم في الذمم، إنما يحفظ أعيان أموالهم. قلت: وإذا وجد الالتماس مع باقي الشروط المجوزة للحجر، وجب على الحاكم الحجر، صرح به أصحابنا كالقاضي أبي الطيب، وأصحاب الحاوي و الشامل والبسيط وآخرين. وإنما نبهت عليه، لان عبارة كثيرين من أصحابنا: فللقاضي الحجر، وليس مرادهم أنه مخير فيه. والله أعلم. القيد الثاني: كون الالتماس من الغرماء، فلو التمس بعضهم ودينه قدر يجوز(3/363)
الحجر به، حجر، وإلا، فلا، على الاصح. وإذا حجر، لا يختص أثره بالملتمس، بل يعمهم كلهم. قلت: أطلق أبو الطيب وأصحاب الحاوي والتتمة و التهذيب: أنه إذا عجز ماله عن ديونه، فطلب الحجر بعض الغرماء، حجر، ولم يعتبروا قدر دين ا لطالب، وهذا قوي. والله أعلم. ولو لم يلتمس أحد عنهم، والتمسه المفلس، حجر على الاصح، لان له غرضا. القيد الثالث: كون الدين حالا، فلا حجر بالمؤجل وإن لم يف المال به، لانه لا مطالبة في الحال. فإن كان بعضه حالا، فإن كان قدرا يجوز الحجر له [ حجر ] وإلا، فلا. فرع إذا حجر عليه بالفلس، لا يحل ما عليه من الدين المؤجل على المشهور، لان الاجل حق مقصود له فلا يفوت. وفي قول: يحل كالموت. فعلى هذا القول، لو لم يكن عليه إلا مؤجل هل يحجر عليه ؟ وجهان. الصحيح: لا. ولو جن وعليه مؤجل، حل على المشهور.(3/364)
فإن قلنا بالحلول، قسم المال بين أصحاب هذه الديون. وأصحاب الحالة من الابتداء، كما لو مات. وإن كان في المؤجل ثمن متاع موجود عند المفلس، فلبائعه الرجوع إلى عينه، كما لو كان حالا في الابتداء. وفي وجه: أن فائدة الحلول، أن لا يتعلق بذلك المتاع حق غير بائعه، فيحفظه إلى مضي المدة. فإن وجد وفاء، فذاك، وإلا فحينئذ ينفسخ. وقيل: لا فسخ حينئذ أيضا. بل لو باع بمؤجل وحل الاجل، ثم أفلس المشتري وحجر عليه، فليس للبائع الفسخ والرجوع. والاول: أصح. وإن قلنا بعدم الحلول، بيع ماله، وقسم على أصحاب الحال، ولا يدخر لاصحاب المؤجل شئ، ولا يدام الحجر عليه بعد القسمة لاصحاب المؤجل، كما لا يحجر به إبتداء. وهل تدخل في البيع الامتعة المشتراة بمؤجل ؟ وجهان. أصحهما: نعم، كسائر أمواله، وليس لبائعها تعلق بها، لانه لا مطالبة في الحال على هذا. فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل الاجل، ففي جواز الفسخ الآن وجهان. قلت: أصحهما: الجواز، قاله في الوجيز. والله أعلم. والوجه الثاني: لاتباع، فإنها كالمرهونة بحقوق بائعها، بل توقف إلى إنقضاء الاجل، فإن انقضى والحجر باق، ثبت حق الفسخ. وإن فك، فكذلك، ولا حاجة إلى إعادة الحجر على الصحيح، بل عزلها وإنتظار الاجل كبقاء الحجر بالاضافة إلى المبيع. القيد الرابع: كون الديون زائدة على أمواله. فلو كانت مساوية والرجل كسوب ينفق من كسبه، فلا حجر. وإن ظهرت أمارات الافلاس، بأن لم يكن كسوبا، وكان ينفق من ماله، أو لم يف كسبه بنفقته، فوجهان. أصحهما عند العراقيين: لا حجر، واختار الامام الحجر. ويجري الوجهان، فيما إذا كانت الديون أقل، وكانت بحيث يغلب على الظن مصيرها إلى النقص أو المساواة، لكثرة(3/365)
النفقة. وهذه الصورة أولى بالمنع. وإذا حجر عليه في صورة المساواة، فهل لمن وجد عين ماله الرجوع ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لاطلاق الحديث. والثاني: لا، لتمكنه من إستيفاء الثمن بكماله. وهل تدخل هذه الاعيان في حساب أمواله، وأثمانها في حساب ديونه ؟ وجهان. أصحهما: الادخال.
فصل وإذا حجر عليه، استحب للحاكم أن يشهد عليه، ليحذر الناس معاملته. وإذا حجر، امتنع منه كل تصرف مبتدء يصادف المال الموجود عند الحجر، فهذه قيود. الاول: كون التصر ف مصادفا للمال. والتصرف ضربان. إنشاء، وإقرار. الاول: الانشاء، وهو قسمان. أحدهما: يصادف المال، وينقسم إلى تحصيل، كالاحتطاب والاتهاب، وقبول الوصية، ولا منع منه قطعا، لانه كامل الحال. وغرض الحجر: منعه مما يضر الغرماء وإلى تفويت، فينظر، إن تعلق بما بعد الموت وهو التدبير والوصية، صح، فإن فضل المال، نفذ، وإلا، فلا. وإن كان غير ذلك، فأما أن يكون مورده عين مال، وإما في الذمة، فهما نوعان. الاول: كالبيع، والهبة، والرهن، والاعتاق، والكتابة، وفيها قولان. أحدهما: أنها موقوفة، إن فضل ما يصرف فيه عن الدين لارتفاع القيمة، أو إبراء،(3/366)
نفذناه، وإلا، فتبين أنه كان لغوا. وأظهرهما: لا يصح شئ منها، لتعلق حق الغرماء بالاعيان، كالرهن. ثم اختلف في محل القولين، فقيل: هما فيما إذا اقتصر الحاكم على الحجر، ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه. فإن جعل ذلك، لم ينفذ تصرفه قطعا، واحتج هؤلاء بقول الشافعي رضي الله عنه: إذا جعل ماله لغرمائه، فلا زكاة عليه وطردهما آخرون في الحالين، وهو الاشهر، قال هؤلاء: وتجب الزكاة على الاظهر ما دام ملكه باقيا، والنص محمول على ما إذا باعه لهم. فإن نفذناه بعد الحجر، وجب تأخير ما تصرف فيه، وقضاء الدين من غيره، فلعله يفضل، فإن لم يفضل، نقصنا من تصرفاته الاضعف فالاضعف، والاضعف الرهن والهبة، لخلوهما عن العوض، ثم البيع، ثم الكتابة، ثم العتق، قال الامام: فلو لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق، فقال الغرماء: بيعوه ونجزوا حقنا، ففيه إحتمال. وغالب الظن أنهم يجابون. قلت: هذا الذي ذكره من فسخ الاضعف فالاضعف، هو الذي قطع به الاصحاب في جميع الطرق، وحكاه صاحب المهذب عن الاصحاب. ثم قال: ويحتمل أن يفسخ الآخر فالآخر، كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث، والمختار ما قاله الاصحاب. فعلى هذا، لو كان وقف وعتق، ففي الشامل أن العتق يفسخ، ثم الوقف. وقال صاحب البيان: ينبغي أن يفسخ الوقف أولا، لان العتق له قوة وسراية، وهذا أصح. ولو تعارض الرهن والهبة، فسخ الرهن، لانه لا يملك به العين. والله أعلم وهذا الذي ذكرناه في بيعه لغير الغرماء، فإن باعهم، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(3/367)
النوالثاني: ما يرد على الذمة بأن اشترى في الذمة، أو باع طعاما سلما، فيصح ويثبت في ذمته. وفي قول شاذ: لا يصح. القسم الثاني: ما لا يصادف المال، فلا منع منه، كالنكاح، والطلاق، والخلع، واستيفاء القصاص، والعفو عنه، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان. الضرب الثاني: الاقرار. فإن أقر بدين لزمه قبل الحجر عن معاملة، أو إتلاف، أو غيرهما، لزمه ما أقر به. وهل يقبل في حق الغرماء ؟ قولان. أحدهما: لا. لئلا يضرهم بالمزاحمة. وأظهرهما: يقبل، كما لو ثبت بالبينة. وكإقرار المريض بدين يزحم غرماء الصحة، ولعدم التهمة الظاهرة. وإن أقر بدين لزمه بعد الحجر، فإن قال: عن معاملة، لم تقبل في حق الغرماء. وإن قال: عن إتلاف أو جناية، فالمذهب: أنه كما قبل الحجر، وقيل: كدين المعاملة بعده. وإن أقر بدين ولم ينسبه، فقياس المذهب: التنزيل على الاول، وجعله كإسناده إلى ما قبل الحجر. قلت: هذا ظاهر إن تعذرت مراجعة المقر. فإن أمكنت، فينبغي أن يراجع، لانه يقبل إقراره. والله أعلم.(3/368)
وأما إذا أقر بعين مال لغيره، فقال: غصبته، أو استعرته، أو أخذته سوما، فقولان كما لو أسند الدين إلى ما قبل الحجر، أظهرهما: القبول. لكن إذا قبلنا، ففائدته هناك مزاحمة المقر له الغرماء، وهنا تسلم إليه العين وإن لم يقبل، فإن فضل، سلم إليه، وإلا، فالغرم في ذمته. والفرق بين الانشاء، حيث أبطلناه في الحال قطعا وكذا عند زوال الحجر على الاظهر، وبين الاقرار حيث قبلناه في المفلس قطعا، وفي الغرماء على الاظهر، أن مقصود الحجر، منعه التصرف، فأبطلناه. والاقرار إخباعن ماض، والحجر لا يسلبه العبارة. فرع أقر بسرقة توجب القطع، قطع. وفي ر المسروق، القولان. والقبول هنا أولى، لبعده عن التهمة. ولو أقر بما يوجب القصاص، فعفا على مال، ففي التهذيب أنه كالاقرار بدين الجناية. وقطع بعضهم بالقبول، لانتقاء التهمة. فرع إدعي عليه مال لزمه قبل الحجر، فأنكر ونكل، فحلف المدعي، إن قلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، زاحم، وإن قلنا: كالاقرار، فعلى القولين. القيد الثاني: كونه مصادفا للمال الموجود عند الحجر. فلو تجدد بعده بإصطياد، أو إتهاب، أو قبول وصية، ففي تعدي الحجر إليه ومنعه التصرف فيه، وجهان. أصحهما: التعدي. ولو إشترى في الذمة، ففي تصرفه، هذان الوجهان. وهل للبائع الخيار والتعلق بعين متاعه ؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث، وهو إثباته للجاهل دون العالم. فإن لم نثبته، فهل يزاحم الغرماء بالثمن ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانه حادث برضى مستحقه، والمزاحمة بالدين الحادث ثلاثة أقسام. أحدها: ما لزم برضى مستحقه. فإن كان في مقابلته شئ، كثمن المبيع، ففيه هذه الوجهان، وإلا، فلا مزاحمة بلا خلاف، بل يصير إلى إنفكاك الحجر. الثاني: ما لزم بغير رضى المستحق، كالجناية والاتلاف، فيزاحم به على المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان، لتعلق حقوق الاولين، كما لو جنى وليس له إلا عبد مرهون، لا يزاحم المجني عليه المرتهن. الثالث: ما يتجدد بسبب مؤنة المال، كأجرة الكيال، والوزان، والحمال(3/369)
والمنادي، والدلال، وكراء البيت الذي فيه المتاع، فهذه المؤن تقدم على حقوق الغرماء، لانها لمصلحة الحجر. هذا إن لم نجد متبرعا. فإن وجد، أو كان في بيت المال سعة، لم يصرف مال المفلس إليها. قلت: لو تجدد دين بعد الحجر، وأقر بسابق وقلنا: لا مزاحمة بهما، فهما سواء، وما فضل، قسم بينهما، قاله في التتمة. والله أعلم. القيد الثالث: كون التصرف مبتدءا، فلو إشترى شيئا قبل الحجر، فوجده بعد الحجر معيبا، فله ردإن كان في الرد غبطة، لان الحجر لا ينعطف على ماض، فإن منع من الرد عيب حادث، لزمه الارش، ولم يملك المفلس إسقاطه. وإن كانت الغبطة في بقائه، لم يملك رده، لانه تفويت بغير عوض. ولهذا نص الشافعي رضي الله عنه، على أنه لو إشترى في صحته شيئا، ثم مرض، ووجده معيبا، فأمسكه والغبطة في رده، كان القدر الذي نقصه العيب محسوبا من الثلث، وكذلك الولي إذا وجد ما إشتراه للطفل معيبا، لا يرده إذا كانت الغبطة في بقائه، ولا يثبت الارش في هذه الصورة، لان الرد غير ممتنع في نفسه، وإنما المصلحة تقتضي الامتناع. فرع لو تبايعا بشرط الخيار، ففلسا أو أحدهما، فلكل منهما إجازة البيع ورده بغير رضى الغرماء، هكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وفيه ثلاثة طرق. أصحها: الاخذ بظاهره، فيجوز الفسخ والاجازة على وفق الغبطة، وعلى خلافها، لانه إنما يمنع من إبتداء تصرف. والثاني: تجويزهما بشرط الغبطة كالرد بالعيب. والثالث: إن وقعا على وفق الغبطة، صح، وإلا، فيبنى على أقوال الملك في زمن الخيار، وينظر من أفلس. فإن كان المشتري،(3/370)
وقلنا: الملك للبائع، فللمشتري الاجازة والفسخ. وإن قلنا: للمشتري، فله الاجازة، لانها إستدامة ملك، ولا فسخ، لانه إزالة. وإن أفلس البائع، وقلنا: الملك له، فله الفسخ، لانه إستدامة، وليس له الاجازة. وإن قلنا: للمشتري، فللبائع الفسخ والاجازة.
فصل من مات وعليه دين، فادعى وارثه دينا له على رجل، وأقام شاهدا وحلف معه، ثبت الحق وجعل في تركته. فإن لم يحلف، لم ترد اليمين على الغرماء على الجديد. ولو إدعى المحجور عليه بالفلس دينا والتصوير كما ذكرنا، لم يحلف الغرماء على المذهب. وقيل: فيه القولان. وحكى الامام عن شيخه طرد الخلاف في إبتداء الدعوى من الغرماء. وعن الاكثرين، القطع بمنع الدعوى إبتداء، وتخصيص الخلاف باليمين بعد دعوى الوارث في المسألة الاولى، والمفلس في الثانية. قلت: وطرد صاحب التهذيب القولين في الدعوى من غريم الميت إذا تركها وارثه. والله أعلم. وسواء كان المدعى عينا أو دينا، قاله ابن كج: وفرع على قولنا: يحلف الغرماء، أنه لو حلف بعضهم فقط، إستحق الحالفون بالقسط، كما لو حلف بعض الورثة. قال: ولو حلفوا ثم أبرئوا من ديونهم، فهل يكون المحلوف عليه لهم ويبطل الابراء ؟ أم يكون للمفلس ؟ أم يسقط عن المدعى عليه فلا يستوفى أصلا ؟ فيه ثلاثة أوجه. قلت: ينبغي أن يكون أصحها: كونه للمفلس. ويجئ مثله في غرماء الميت، وهذا المذكور عن ابن كج في حلف بعضهم، قاله آخرون، منهم صاحب الحاوي. ولو إدعى المفلس على رجل مالا، ولم يكن له شاهد، ونكل المدعى عليه، ثم المفلس، ففي حلف الغرماء الخلاف المذكور مع الشاهد، قاله القاضي أبو الطيب، وصاحب التهذيب. ولا يحلف الغريم إلا على قدر دينه. والله أعلم. فصل إذا أراد السفر من عليه دين، فإن كان حالا، فلصاحبه منعه حتى(3/371)
يقضي حقه. قال أصحابنا: وليس هذا منعا من السفر، كما يمنع عبده وزوجته السفر، بل يشغله عن السفر برفعه إلى مجلس القاضي ومطالبته حتى يوفي. وإن كان مؤجلا، فإن لم يكن السفر مخوفا، فلا منع، إذ لا مطالبة، وليس له طلب رهن ولا كفيل قطعا، ولا يكلفه الاشهاد على الصحيح. وسواء كان الاجل قريبا أم بعيدا، فإن أراد السفر معه ليطالبه عند حلوله، فله ذلك بشرط أن لا يلازمه. فإن كان السفر مخوفا، كالجهاد، وركوب البحر، فلا منع على الاصح مطلقا. وفي وجه: يمنع إلى أن يؤدي الحق، أو يعطي كفيلا، قاله الاصطخري وفي وجه: إن لم يخلف وفاء، منعه. وفي وجه: إن كان المديون من المرتزقة، لم يمنع الجهاد، وإلا، منع، واختار الروياني مذهب مالك رضي الله عنه فقال: له المطالبة بالكفيل في السفر المخوف، وفي السفر البعيد عند قرب الحلول.
فصل إذا ثبت إعسار المديون، لم يجز حبسه، ولا ملازمته، بل يمهل إلى أن يوسر. وأما الذي له مال وعليه دين، فيجب أداؤه إذا طلب. فإذا امتنع، أمره الحاكم به. فإن امتنع، باع الحاكم ماله وقسمه بين غرمائه. قلت: قال القاضي أبو الطيب والاصحاب: إذا امتنع، فالحاكم بالخيار، إن شاء باع ماله عليه بغير إذنه، وإن شاء أكرهه على بيعه، وعزره بالحبس وغيره حتى يبيعه. والله أعلم. فإن إلتمس الغرماء الحجر عليه، حجر على الاصح كيلا يتلف ماله. فإن أخفى ماله، حبسه القاضي حتى يظهره. فإن لم ينزجر بالحبس. زاد في تعزيره بما يراه من الضرب وغيره. وإن كان ماله ظاهرا، فهل يحبسه لامتناعه ؟ قال في التتمة: فيه وجهان. الذي عليه عمل القضاة، الحبس. فإن إدعى أنه تلف وصار مفلسا، فعليه البينة. ثم إن شهدوا على التلف، قبلت شهادتهم، ولم تعتبر فيهم الخبرة مطلقا. وإن شهدوا بإعساره، قبلت بشرط الخبرة الباطنة. قال(3/372)
الصيدلاني: ويحمل قولهم: معسر، على أنهم وقفوا على تلف المال. فرع إذا ادعى المديون أنه معسر، أو قسم مال المحجور عليه على الغرماء، وبقي بعض الدين، فزعم أنه لا يملك شيئا آخر، وأنكر الغرماء، نظر، إن لزمه الدين في مقابلة مال، بأن إشترى، أو إقترض، أو باع سلما، فهو كما لو إدعى هلاك المال، فعليه البينة. وإن لزمه لا في مقابلة مال، فثلاثة أوجه. أصحها: يقبل قوله بيمينه. والثاني: يحتاج إلى البينة. والثالث: إن لزمه باختياره كالصداق والضمان، لم يقبل، واحتاج إلى البينة، إن لزمه لا بإختياره كإرش الجناية وغرامة المتلف، قبل قوله بيمينه، لان الظاهر أنه لا يشغل ذمته بما لا يقدر عليه. فرع البينة على الاعسار مسموعة، وإن تعلقت بالنفي للحاجه، كشهادة أن لا وارث غيره، وتسمع وإن أقامها في الحال. ويشترط في الشهود مع شروط الشهود، الخبرة الباطنة كطول الجوار أو المخالطة. فإن عرف القاضي أنهم بهذه الصفة، فذاك، وإلا، فله إعتماد قولهم: إنا بهذه الصفة، قاله في النهاية. ويكفي شاهدان كسائر الحقوق. وقال الفوراني: يشترط ثلاثة، وهذا شاذ. وفيه حديث في صحيح مسلم وحمله الجمهور على الاستظهار والاحتياط. وأما صيغة شهادتهم، فأن يقولوا: هو معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب بدنه.(3/373)
ولو أضافوا إليه: وهو ممن تحل له الصدقة، جاز ولا يشترط. قال في التتمة: ولا يقتصرون على أنه لا ملك له، حتى لا تتمحض شهادتهم نفيا، لفظا ومعنى، ويحلفف المشهود له مع البينة، لجواز أن يكون له مال في الباطن. وهل هذا التحليف واجب، أم مستحب ؟ قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما: الوجوب، وعلى التقديرين، هل يتوقف على إستدعاء الخصم ؟ وجهان. أحدهما: لا، كما لو ادعي على ميت أو غائب. فعلى هذا هو من آداب القضاء. وأصحهما: نعم. كيمين المدعى عليه. قال الامام: الخلاف فيما إذا سكت، فأما إذا قال: لست أطلب يمينه، ورضيت بإطلاقه، فلا يحلف بلا خلاف. فرع حيث قبلنا قوله مع يمينه، فيقبل في الحال كالبينة. قال الامام: ويحتمل أن يتأنى القاضي ويسأل عن باطن حاله، بخلاف البينة. وحيث قلنا: لا يقبل قوله إلا ببينة، فادعى أن الغرماء يعرفون إعساره، فله تحليفهم على نفي العلم، فإن نكلوا، حلف وثبت إعساره. وإن حلفوا، حبس. ومهما إدعى ثانيا وثالثا أنه بان لهم إعساره، فإن له تحليفهم، قال في التتمة: إلا أن يظهر للقاضي أنه يقصد الايذاء واللجاج. فرع إذا حبسه، لا يغفل عنه بالكلية. فلو كان غريبا لا يتأتى له إقامة البينة، فينبغي أن يوكل به القاضي من يبحث عن وطنه ومنقلبه، ويتفحص عن أحواله بحسب الطاقة، فإذا غلب على ظنه إعساره، شهد به عند القاضي لئلا يتخلد في الحبس، ومتى ثبت الاعسار، وخلاه الحاكم، فعاد الغرماء وادعوا بعد أيام أنه استفاد مالا، وأنكر، فالقول قوله، وعليهم البينة. فإن أتوا بشاهدين فقالا: رأينا في يده مالا يتصرف فيه، أخذه الغرماء. فإن قال: أخذته من فلان وديعة أو قراضا، وصدقه المقر له، فهو له ولا حق فيه للغرماء. وهل لهم تحليفه: أنه لم(3/374)
يواطئ المقر له، وأقر عن تحقيق ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانه لو رجع عن إقراره، لم يقبل. وإن كذبه المقر له، صرف إلى الغرماء، ولا يلتفت إلى إقراره لآخر. وإن كان المقر له غائبا، توقف حتى يحضر، فإن صدقه، أخذه، وإلا، فيأخذه الغرماء. فرع في حبس الوالدين بدين الولد، وجهان. أصحهما عند الغزالي: يحبس. وأصحهما في التهذيب وغيره، لا يحبس، ولا فرق بين دين النفقة وغيره، ولا بين الولد الصغير والكبير. قلت: وإذا حبس المفلس، لم يأثم بترك الجمعة إذا كان معسرا. قال الصيمري: وقيل: يلزمه إستئذان الغريم حتى يمنعه، فيسقط الحضور. والنفقة في الحبس في ماله على المذهب. وحكى الصيمري، والشاشي، وصاحب البيان فيها وجهين ثانيهما أنها على الغريم. فإن كان المفلس ذا صنعة، مكن من عملها في الحبس على الاصح. والثاني: يمنع إن علم منه مماطلة بسبب ذلك، حكاهما الصيمري والشاشي وصاحب البيان. ورأيت في فتاوى الغزالي رحمه الله، أنه سئل، هل يمنع المحبوس من الجمعة والاستمتاع بزوجته ومحادثة أصدقائه ؟ فقال: الرأي إلى القاضي في تأكيد الحبس بمنع الاستمتاع ومحادثة الصديق، ولا يمنع من الجمعة إلا إذا ظهرت المصلحة في منعه. وفي فتاوى صاحب الشامل أنه إذا أراد شم الرياحين في الحبس، إن كان محتاج إليه لمرض ونحوه، لم يمنع، وإن كان غير محتاج بل يريد الترفه، منع. وأنه يمنع من الاستمتاع بالزوجة، ولا يمنع من دخولها لحاجة كحمل الطعام ونحوه. وأن الزوجة إذا حبست في دين إستدانته بغير(3/375)
إذن الزوج، فإن ثبت بالبينة، لم يسقط نفقتها مدة الحبس، لانه بغير رضاها فأشبه المرض. وإن ثبت بالاقرار، سقطت، هكذا قال، والمختار سقوطها في الحالين، كما لو وطئت بشبهة فاعتدت، فإنها تسقط، وإن كانت معذورة. قال أصحابنا: ولو حبس في حق رجل، فجاء آخر وادعى عليه، أخرجه الحاكم فسمع الدعوى، ثم يرده. قال في البيان لو مرض في الحبس ولم يجد من يخدمه فيه، أخرج. فإن وجد من يخدمه، ففي وجوب إخراجه، وجهان. فإن جن، أخرج قطعا. وإذا حبس لحق جماعة، لم يكن لواحد إخراجه، حتى يجتمعوا على إخراجه ولو حبس لحق غريم، ثم إستحق آخر حبسه، جعله القاضي محبوسا للاثنين، فلا يخرج إلا باجماعهما. قال: وإذا ثبت إعساره، أخرجه بغير إذن الغريم.. والله أعلم.
فصل إذا حجر الحاكم على المفلس، إستحب أن يبادر ببيع ماله وقسمته، لئلا يطول زمن الحجر، ولا يفرط في الاستعجال، لئلا يباع بثمن بخس، ويستحب أن يبيع بحضرة المفلس، أو وكيله، وكذا يفعل إذا باع المرهون. ويستحب أيضا إحضار الغرماء، ويقدم بيع المرهون والجاني، ليتعجل حق مستحقيهما. فإن فضل عنهما شئ ضم إلى سائر الاموال. وإن بقي من دين المرتهن شئ، ضارب به. قلت: ويقدم أيضا المال الذي تعلق به حق عامل القراض، ويقدم بالربح(3/376)
المشروط، صرح به الجرجاني وهو ظاهر. والله أعلم. ويبيع أولا ما يخاف فساده، ثم الحيوان، ثم سائر المنقولات، ثم العقار، ويباع كل شئ في سوقه. قلت: بيع شئ في سوقه، مستحب. فلو باع في غيره بثمن مثله، صح، قاله أصحابنا. وهذا المذكور من تقديم بيع المرهون والجاني، وهو إذا لم يخف تلف ما يسرع فساده. فإن خيف، قدم بيعه عليهما. والله أعلم. ويجب أن يبيع بثمن المثل حالا من نقد البلد. فإن كانت الديون من غير ذلك النقد، ولم يرض المستحقون إلا بجنس حقهم، صرفه إليه. وإلا فيجوز صرفه إليهم إلا أن يكون سلما. فرع لا يسلم المبيع قبل قبض الثمن، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وقد سبق أقواله، فيما إذا تنازع المتبايعان في البداءة بالتسليم، فقال أبو إسحق: نصه هنا تفريع على قولنا يبدأ بالمشتري، ويجئ عند النزاع قول آخر: أنهما يجبران معا، ولا يجئ قولنا لا يجبر واحد منهما، لان الحال لا يحتمل التأخير، ولا قولنا: البداءة بالبائع، لان من تصرف لغيره، لزمه الاحتياط. وقال ابن القطان: تجب البداءة هنا بتسليم الثمن، بلا خلاف. ثم لو خالف الواجب وسلم قبل قبض الثمن، ضمن، وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية الضمان. فرع ما يقبضه الحاكم من أثمان أمواله على التدريج إن كان يسهل قسمته عليهم، فالاولى أن لا يؤخر. وإن كان يعسر لقلته وكثرة الديون. فله التأخير(3/377)
لتجتمع، فإن أبوا التأخير، ففي النهاية إطلاق القول بأنه يجيبهم. والظاهر، خلافه وإذا تأخرت القسمة، فإن وجد من يقرضه إياه، فعل، ويشترط فيه الامانة واليسار. وليودع عند من يرضاه الغرماء، فإن اختلفوا أو عينوا غير عدل، فالرأي للحاكم، ولا يقنع بغير عدل. ولو تلف شئ في يد العدل، فهو من ضمان المفلس، سواء كان في حياة المفلس أو بعد موته. فرع لا يكلف الغرماء عند القسمة إقامة البينة على أنه لا غريم سواهم، ويكفي بأن الحجر قد إستفاض. فلو كان غريم، لظهر وطلب حقه، هكذا نقله الامام عن صاحب التقريب، ثم قال: ولا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء وبين القسمة على الورثة. فإذا قلنا: في الورثة لا بد من بينة بأن لا وارث غيرهم، فكذا الغرماء. ولفارق أن يفرق بأن الورثة على كل حال أضبط من الغرماء. قلت: الاصح: قول صاحب التقريب وهو ظاهر كلام الجمهور. ويفرق أيضا، بأن الغريم الموجود، تيقنا إستحقاقه لما يخصه، وشككنا في مزاحم. ثم لو قدر مزاحم، لم يخرج هذا عن كونه يستحق هذا القدر في الذمة، وليست مزاحمة الغريم متحتمة، فإنه لو أبرأ أو أعرض، سلمنا الجميع إلى الآخر، والوارث يخالفه في جميع ذلك. والله أعلم. وإذا جرت القسمة، ثم ظهر غريم، فالصحيح أن القسمة لا تنقض، ولكن يشاركهم بالحصة، لان المقصود يحصل بذلك. وفي وجه، ينقض فيستأنف. فعلى الصحيح، لو قسم ماله وهو خمسة عشر على غريمين، لاحدهما عشرون، وللآخر عشرة، فأخذ الاول عشرة، والآخر خمسة، فظهر غريم له ثلاثين، إسترد(3/378)
من كل واحد نصف ما أخذه. ولو كان دينهما عشرة وعشرة، فقسم المال نصفين، ثم ظهر غريم بعشرة، رجع على كل واحد بثلث ما أخذه. فإن أتلف أحدهما، ما أخذ وكان معسرا لا يحصل منه شئ، فوجهان. أصحهما: يأخذ الغريم الثالث من الآخر نصف ما أخذه، وكأنه كل مال ثم إذا أيسر المتلف أخذ منه ثلث ما أخذه وقسماه بينهما. والثاني: لا يأخذ منه إلا ثلث ما أخذه، وله ثلث ما أخذ المتلف دين عليه. ولو ظهر الغريم الثالث، وظهر للمفلس مال عتيق، أو حادث بعد الحجر، صرف منه إلى من ظهر بقسط ما أخذه الاولان. فإن فضل شئ قسم على الثلاثة، وهذا كله في ظهور غريم بدين قديم. فإن كان بحادث بعد الحجر، فلا مشاركة في المال القديم. وإن ظهر مال قديم، وحدث مال باحتطاب وغيره، فالقديم للقدماء خاصة، والحادث للجميع. فرع لو خرج شئ مما باعه المفلس قبل الحجر مستحقا، والثمن غير باق، فهو كدين ظهر، وحكمه ما سبق. وإن باع الحاكم ماله، فظهر مستحقا بعد قبض الثمن وتلفه، رجع المشتري في مال المفلس، ولا يطالب الحاكم به. ولو نصب أمينا فباعه، ففي كونه طريقا، وجهان. كما ذكرنا في العدل الذي نصبه القاضي ليبيع المرهون. قلت: أصحهما: لا يكون، قاله صاحب التهذيب. والله أعلم. وإذا رجع المشتري أو الامين إذا جعلناه طريقا، وغرم في مال المفلس، قدما على الغرماء على المذهب، لانه من مصالح البيع كأجرة الكيال لئلا يرغب عن الشراء من ماله. وفي قول، يضاربان. وقيل: إن رجعا قبل القسمة، قدما. وإن كان بعد القسمة واستئناف حجر بسبب مال تجدد، ضاربان.
فصل فيما يباع من مال المفلس فيه مسائل: إحداها: ينفق الحاكم على المفلس إلى فراغه من بيع ماله وقسمته، وكذا ينفق على من عليه مؤنته من(3/379)
الزوجات والاقارب، لانه موسر ما لم يزل ملكه. وكذلك يكسوهم بالمعروف. هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات. وأما قدر نفقة الزوجات، فقال الامام: لا شك أن نفقته نفقة المعسرين. وقال الروياني: نفقة الموسرين. وهذا قياس الباب، إذ لو كان نفقة المعسر، لما أنفق على القريب. قلت: يرجح قول إمام الحرمين بنص الشافعي رضي الله عنه، إذ قال في المختصر: أنفق عليه وعلى أهله كل يوم أقل ما يكفيهم من نفقة وكسوة. والله أعلم. الثانية: يباع مسكنه وخادمه. وإن كان محتاجا إلى من يخدمه لزمانة، أو كان منصبه يقتضي ذلك، هذا هو المذهب والمنصوص. وفي وجه، يبقيان إذا كانا لائقين به بدون النفيسين. وفي وجه، يبقى المسكن فقط. الثالثة: يترك له دست ثياب تليق به، من قميص، وسراويل، ومنعل، ومكعب. وإن كان في الشتاء زاد جبة. ويترك له عمامة، وطيلسان، وخف(3/380)
دراعة يلبسها فوق القميص، إن كان يليق به لبسها. وتوقف الامام في الخف والطيلسان وقال: تركهما لا يخرم المروءة. وذكر أن الاعتبار بحاله في إفلاسه، لا في بسطته وثروته. لكن المفهوم من كلام الاصحاب، أنهم لا يوافقونه ويمنعون قوله: تركهما لا يحرم المروءة. ولو كان يلبس قبل إفلاسه فوق ما يليق بمثله رددناه إلى ما يليق، ولو كان يلبس دون اللائق تقتيرا، لم يرد إليه. ويترك لعياله من الثوب، كما يترك له. ولا يترك الفرش والبسط، لكن يسامح باللبد والحصير القليل القيمة. الرابعة: يترك قوت يوم القسمة له ولمن عليه نفقته، لانه موسر في أوله. ولا يزاد على نفقة ذلك اليوم، وذكر الغزالي، أنه يترك له سكنى ذلك اليوم أيضا، فاستمر على قياس النفقة، لكنه لم يتعرض له غيره. الخامسة: كل ما قلنا يترك له، إن لم نجده في ماله، إشتري له. قلت: قال صاحب التهذيب يباع عليه مركوبه، وإن كان ذا مروءة. قال أصحابنا: وإذا مات المفلس، قدم كفنه، وحنوطه، ومؤنة غسله ودفنه على الديون، وكذلك من مات من عبيده، وأم ولده، وزوجته إن أوجبنا عليه كفنها، وكذلك أقاربه الذين تلزمه نفقتهم، نص عليه في المختصر واتفقوا عليه. قال في البيان وتسلم إليه النفقة يوما بيوم. والله أعلم.
فصل من قواعد الباب، أن المفلس لا يؤمر بتحصيل ما ليس بحاصل، ولا يمكن من تفويت ما هو حاصل. فلو جني عليه أو على عبده، فله القصاص. ولا يلزمه العفو على مال. فلو كانت الجناية موجبة للمال، فليس له ولا لوارثه العفو بغير إذن الغرماء. ولو كان(3/381)
أسلم في شئ، فليس له أن يقبضه مسامحا ببعض الصفات المقصودة المشروطة إلا بإذنهم. ولو كان وهب هبة تقتضي الثواب، وقلنا: يتقدر الثواب بما يرضى به الواهب، فله أن يرضى بما شاء. ولا يكلفه طلب زيادة، لانه تحصيل. وإن قلنا: يتقدر المثل، لم يجز الرضى بما دونه. ولو زاد على المثل، لم يجب القبول. وليس على المفلس أن يكتسب ويؤاجر نفسه ليصرف الكسب والاجرة في الديون أو بقيتها. ولو كان له أم ولد أو صيغة موقوفة عليه، فهل يؤاجران عليه ؟ وجهان. ميل الامام إلى المنع. وفي تعاليق العراقيين، ما يدل على أن الايجار أصح. فعلى هذا، يؤجر مرة بعد أخرى إلى أن يفنى الدين. ومقتضى هذا، إدامة الحجر إلى فناء الدين، وهذا كالمستبعد. قلت: الايجار أصح، وصححه في المحرر. وذكر الغزالي في الفتاوي أنه يجبر على إجارة الوقف ما لم يظهر تفاوت بسبب تعجيل الاجرة إلى حد لا يتغابن به الناس في عرض قضاء الدين، والتخلص من المطالبة. والله أعلم
فصل إذا قسم الحاكم مال المفلس بين الغرماء، فهل ينفك الحجر بنفسه، أم يحتاج إلى فك الحاكم ؟ وجهان. أصحهما: يحتاج كحجر السفه. هذا(3/382)
إن اعترف الغرماء أن لا مال له سواه. فإن ادعوا مالا آخر، فأنكر، فقد سبق بيانه. ولو اتفق الغرماء على دفع الحجر، فهل يرتفع كالمرهون، أم لا يرتفع إلا بالحاكم لاحتمال غريم آخر ؟ فيه وجهان. ولو باع المفلس ماله لغريمه بدينه ولا غريم سواه، أو حجر عليه لجماعة، فباعهم أمواله بديونهم، فهل يصح بغير إذن القاضي ؟ وجهان. أصحهما: لا بد من إذنه. ولو باعه لغريمه بعين أو ببعض دينه، فهو كما لو باعه لاجنبي، لان ذلك لا يتضمن ارتفاع الحجر عنه، بخلاف ما إذا باع بكل الدين، فإنه يسقط الدين، وإذا سقط، إرتفع الحجر. ولو باع لاجنبي بإذن الغرماء، لم يصح. وقال الامام: يحتمل أن يصح كبيع المرهون بإذن المرتهن. الحكم الثاني: الرجوع في عين المال، ونقدم عليه مسائل. إحداها: من حجر عليه بافلاس، ووجد من باعه ولم يقبض الثمن متاعه عنده، فله أن يفسخ البيع ويأخذ عين ماله، والاصح: أن هذا الخيار على الفور، كخيار العيب والخلف. فإن علم فلم يفسخ، بطل حقه من الرجوع في العين. وفي وجه: يدوم كخيار الهبة للولد. وفي وجه: يدوم ثلاثة أيام. الثانية في افتقار هذا الفسخ إلى إذن الحاكم، وجهان. أصحهما: لا يفتقر، لثبوت الحديث فيه، كخيار العتق. ولوضوح الحديث، قال الاصطخري: لو حكم الحاكم بمنع الفسخ، نقضنا حكمه. قلت: الاصح: أن لا ينقض، للاختلاف فيه. والله أعلم. الثالثة: لا يحصل هذا الفسخ ببيع البائع، وإعتاقه، ووطئه المبيعة على الاصح، وتلغو هذه التصرفات. الرابعة: صيغة الفسخ، كقوله: فسخت البيع، أو نقضته، أو رفعته، فلو اقتصر على رددت الثمن، أو فسخت البيع فيه، حصل الفسخ على الاصح. ووجه المنع: أن مقتضى الفسخ، إضافته إلى العقد المطلق.(3/383)
فصل حق الرجوع، إنما يثبت بشروط، ولا يختص بالمبيع، بل يجري في غيره من المعاوضات، ويحصل بيانه بالنظر في العوض المتعذر تحصيله، والمعوض المسترجع، والمعاوضة التي انتقل الملك بها إلى المفلس. أما العوض وهو الثمن وغيره من الاعواض، فيعتبر فيه وصفان. أحدهما: تعذر استئنافه بالافلاس، وفيه صور. إحداها: إذا كان ماله وافيا بالديون وجوزنا الحجر، فحجر، ففي ثبوت الرجوع، وجهان. وقطع الغزالي بالمنع، لانه يصل إلى الثمن. الثانية: لو قال الغرماء: لا نفسخ لتقدمك بالثمن، لم يلزمه ذلك على الصحيح، لان فيه منة وقد يظهر مزاحم. ولو قالوا: نؤدي الثمن من خالص أموالنا، أو تبرع به أجنبي، فليس عليه القبول. ولو أجاب، ثم ظهر غريم آخر، لم يزاحمه في المأخوذ. ولو مات المشتري، فقال الوارث: لا ترجع فأنا أقدمك، لم يلزمه القبول. فلو قال: أؤدي من مالي، فوجهان. وقطع في التتمة بلزوم القبول، لان الوارث خليفة الميت. الثالثة: لو امتنع المشتري من تسليم الثمن مع اليسار، أو هرب، أو مات مليئا، وامتنع الوارث من التسليم، فلا فسخ على الاصح، لعدم عيب الافلاس، وإمكان الاستيفاء بالسلطان. فإن فرض عجز، فنادر لا عبرة به.(3/384)
ولو ضمن بغير إذنه، فوجهان. أحدهما: يرجع كما لو تبرع رجل بالثمن. والثاني: لا، لان الحق قد صار في ذمته، وتوجهت عليه المطالبة، بخلاف المتبرع. ولو أعير للمشتري شئ، فرهنه على الثمن، فعلى الوجهين. ولو انقطع الجنس الثمن، فإن جوزنا الاعتياض عنه، فلا تعذر في استيفاء عوض عنه، فلا فسخ، وإلا فكانقطاع المسلم فيه، فيثبت حق الفسخ على الاظهر. وعلى الثاني: ينفسخ. الوصف الثاني: كون الثمن حالا. فلو كان مؤجلا، فلا فسخ على المذهب. وفيه وجه سبق في أول الباب. ولو حل الاجل قبل انفكاك حجره، فقد سبق بيانه هناك وأما المعاوضة، فيعتبر فيما ملك به المفلس، شرطان. أحدهما: كونه معاوضة مختصة، فيدخل فيه أشياء، ويخرج منه أشياء. فما يخرج أنه لا فسخ بتعذر استيفاء عوض الصلح عن الدم، ولا يتعذر عوض الخلع قطعا. وأنه لا فسخ للزوج بامتناعها من تسليم نفسها. وفي فسخها بتعذر الصداق، خلاف معروف. وأما الذي يدخل فيه، فمنه السلم، والاجارة. أما السلم، فإذا أفلس المسلم إليه قبل أداء المسلم فيه، فلرأس المال ثلاثة أحوال. الاول: أن يكون باقيا، فللمسلم فسخ العقد والرجوع إلى رأس المال كالبيع. فإن أراد أن يضارب بالمسلم فيه، فسنذكر كيفية المضاربة. الثاني: أن يكون تالفا، فوجهان. أحدهما: له الفسخ والمضاربة برأس(3/385)
المال، لانه تعذر الوصول إلى تمام حقه، فأشبه انقطاع جنس المسلم فيه. فعلى هذا قيل: يجئ قول بانفساخ السلم، كما جاء في الانقطاع. وقيل: لا، لانه ربما حصل باستقراض وغيره، بخلاف صورة الانقطاع. وأصحهما: ليس له الفسخ، كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع تالف. ويخالف الانقطاع، لان هناك إذا فسخ، رجع إلى رأس المال بتمامه، وهنا ليس إلا المضاربة، ولو لم يفسخ لضارب بالمسلم فيه وهو أنفع غالبا، فعلى هذا يقوم المسلم فيه ويضارب المسلم بقيمته، فإذا عرف حصته، نظر، إن كان في المال من جنس المسلم فيه، صرفه إليه، وإلا فيشتري بحصته منه ويعطاه، لان الاعتياض عنه لا يجوز. هذا إذا لم يكن جنس المسلم فيه منقطعا. فإن كان، فقيل: لا فسخ، إذ لا بد من المضاربة على التقديرين. والصحيح: ثبوت الفسخ، لانه يثبت في هذه الحالة في حق غير المفلس، ففي حقه أولى، وكالرد بالعيب. وفيه فائدة، فإن ما يخصه بالفسخ، يأخذه في الحال عن رأس المال. وما يخصه بلا فسخ، لا يعطاه، بل يوقف إلى عود المسلم فيه فيشتري به. فرع لو قومنا المسلم فيه، فكانت قيمته عشرين، فأفرزنا للمسلم فيه من المال عشرة، لكون الدين مثل المال، فرخص السعر قبل الشراء، فوجد بالعشرة جميع المسلم فيه، فوجهان. أحدهما وبه قطع في الشامل: يرد الموقوف إلى ما يخصه باعتبار قيمته آخرا، فيصرف إليه خمسة، والخمسة الباقية توزع عليه وعلى سائر الغرماء، لان الموقوف باق على ملك المفلس، وحق المسلم في الحنطة، فإذا صارت القيمة عشرة، فهي دينه. وال