قطعوا جميعاً.
ومن نقب البيت فأدخل يده فيه فأخذ شيئاً لم يقطع، وإذا أدخل يده في صندوق الصيرفي، أو في كم غيره، فأخذ المال، قطع.
وتقطع يمين السارق من الزند وتحسم، فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثاً لم يقطع وخلد في السجن حتى يتوب؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قطعوا جميعاً) لأن الإخراج من الكل معنى للمعاونة، وهذا لأن المعتاد فيما بينهم أن يحمل البعض المتاع ويتشمر الباقون للدفع، فلم امتنع القطع أدى إلى سد باب الحد.
(ومن نقب البيت وأدخل يده فيه) من غير أن يدخل (فأخذ شيئاً) يبلغ النصاب (لم يقطع) ، لأن هتك الحرز بالخول فيه، ولم يوجد، قال بهاء الدين في شرحه: وعن أبي يوسف أنه يقطع، والصحيح قولنا، واعتمده البرهاني وغيره، تصحيح (وإن أدخل يده في صندوق الصيرفي أو في كم غيره فأخذ المال قطع) ، لتحقق هتك الحرز، لأنه لا يمكن هتك مثل هذا الحرز إلا على الصفة (ويقطع يمين السارق من الزند) وهو المفصل بين الذراع والكف (وتحسم) وجوبا؛ لأنه لو لم تحسم يفضي إلى التلف، والحد زاجر لا متلف، وصورة الحسم: أن تجعل يده بعد القطع في دهن قد أغلي بالنار لينقطع الدم، قال في الذخيرة: والأجرة وثمن الدهن على السارق، لأن منه سبب ذلك وهو السرقة، جوهرة.
(فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى) من الكعب، وهو المفصل بين الساق والقدم، وتحسم أيضاً (فإن سرق ثالثاً لم يقطع) ولكن عزر (وخلد في السجن حتى يتوب) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يداً يأكل بها ويستنجي بها، ورجلا يمشي عليها، وبهذا حاج بقية الصحابة فحجهم، فانعقد إجماعاً، هداية(3/208)
وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى، أو أقطع، أو مقطوع الرجل اليمنى، لم يقطع.
ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة، فإن وهبها من السارق، أو باعها إياه، أو نقصت قيمتها من النصاب، لم يقطع.
ومن سرق عيناً فقطع فيها وردها ثم عاد فسرقها وهي بحالها، لم يقطع، فإن تغيرت عن حالها، مثل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا كان السارق أشل اليد اليسرى أو أقطع) : أي مقطوعها (أو مقطوع الرجل اليمنى) أو أشلها (لم يقطع) ، لأن في ذلك تفويت جنس المنفعة: بطشاً فيما إذا كان أشل اليد اليسرى أو أقطع، ومشياً فيما إذا كان مقطوع الرجل اليمنى أو أشل، وتفويت ذلك إهلاك معنى، فلا يقام الحد، لئلا يفضي إلى الإهلاك.
(ولا يقطع السارق إلا أن يحضر المسروق منه فيطالب بالسرقة) ؛ لأن الخصومة شرط لظهورها، ولا فرق بين الشهادة والإقرار؛ لأن الجناية على مال الغير لا تظهر إلا بالخصومة، وكذا إذا غاب عند القطع؛ لأن الاستيفاء من القضاء في باب الحدود، هداية (فإن وهبها) : أي السرقة (من السارق، أو باعها إياه، أو نقصت قيمتها من النصاب) ولو بعد القضاء بها (لم يقطع) ؛ لأن الإمضاء في هذا الباب من القضاء، فيشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء، فصار كما إذا حصلت قبل القضاء، وتمامه في الهداية.
(ومن سرق عيناً فقطع فيها وردها) لمالكها (ثم عاد فسرقها) ثانياً (وهي) بعد (بحالها) لم تتغير (لم يقطع) بها ثانياً؛ لأنه وجب لهتك حرمة العين؛ فتكراره فيها لا يوجب تكرار الحد (فإن تغيرت عن حالها) الأول (مثل(3/209)
أن كان غزلا فسرقه فقطع فيه فرده ثم نسج فعاد فسرقه - قطع، وإذا قطع السارق والعين قائمةٌ في يده ردها، وإن كانت هالكةً لم يضمن، وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينةً.
وإذا خرج جماعةٌ ممتنعين، أو واحدٌ يقدر على الامتناع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن) لو (كان) المسروق (غزلا فسرقه فقطع فيه فرده) لمالكه (ثم نسج) ذلك الغزل وصار كرباساً (فعاد) السارق (فسرقه) ثانياً (قطع، وإذا قطع السارق والعين) المسروقة (قائمة في يده ردها) على مالكها، لبقائها على ملكه (وإن كانت) العين (هالكة) أو مستهلكة على المشهور (لم يضمن) ، لأنه لا يجتمع القطع والضمان عندنا، سواء كان الاستهلاك قبل القطع أو بعده، مجتبى. وفيه: لو استهلكه المشتري منه أو الموهوب له فللمالك تضمينه.
(وإذا ادعى السارق أن العين المسروقة ملكه سقط القطع عنه وإن لم يقم بينة) لوجود الشبهة باحتمال الصدق.
(ولما أنهى الكلام عن السرقة الصغرى أخذ في الكلام على السرقة الكبرى فقال: (وإذا خرج جماعة ممتنعين) : أي قادرين على أن يمنعوا على أنفسهم تعرض الغير، (أو واحد يقدر على الامتناع) بنفسه، قال في غاية البيان: وإطلاق اسم الجماعة يتناول المسلم والذمي والكافر، والحر والعبد، والمراد من الامتناع: أن يكون قاطع الطريق بحيث يمكن له أن يدفع عن نفسه بقوته وشجاعته تعرض الغير، قال الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي: اعلم أن قاطع الطريق إنما يكون بعد أن تستجمع فيه شرائط، وهي: أن يكون لهم قوة وشوكة ينقطع الطريق بهم، وأن لا يكون بين قريتين ولا بين مصرين ولا مدينتين، وأن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر؛(3/210)
فقصدوا قطع الطريق فأخذوا قبل أن يأخذوا مالاً ولا قتلوا نفساً حبسهم الإمام حتى يحدثوا توبةً، وإن أخذوا مال مسلمٍ أو ذميٍ والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحدٍ منهم عشرة دراهم فصاعداً أو ما قيمته ذلك قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وإن قتلوا ولم يأخذوا مالاً قتلهم الإمام حداً، فإن عفا الأولياء عنهم لم يلتفت إلى عفوهم، وإن قتلوا وأخذوا المال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا وجدت هذه الأشياء يكون قاطعاً للطريق، وإلا فلا، هكذا ذكر في ظاهر الرواية، وروى عن أبي يوسف أنه قال: إن كان أقل من مسيرة سفر أو كان في المصر ليلا فإنه يجري عليهم حكم قطاع الطريق، وهو: أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى والفتوى هنا على قول أبي يوسف، اهـ. ونقل مثله في التصحيح عن الينابيع وشرح الطحاوي (فقصدوا قطع الطريق، فأخذوا قبل أن يأخذوا مالا ولا قتلوا نفساً حبسهم الإمام) وهو المراد بالنفي في الآية؛ إذ المراد توزيع الأجزية على الأحوال كما هو مقرر في الأصول (حتى يحدثوا توبة) لا بمجرد القول، بل بظهور سيماء الصالحين أو الموت (وإن أخذوا مال مسلم أو ذمي والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم) بالسوية (أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم) فضة فصاعداً (أو ما قيمته ذلك) من غيرها (قطع الإمام أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى، وهذا إذا كان صحيح الأطراف كما مر، وهذه حالة ثانية (وإن قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الإمام حدا) لا قصاصاً، ولذا لا يشترط فيه أن يكون موجباً للقصاص بأن يكون بمحدد، ولا يجوز العفو عنه كما صرح بقوله: (فإن عفا الأولياء عنهم لم يلتفت إلى عفوهم) ، لأن الحدود وجبت حقاً لله تعالى لا حق للعباد فيها، وهذه حالة ثالثة (وإن قتلوا وأخذوا المال) وهي(3/211)
فالإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ وقتلهم وصلبهم، وإن شاء قتلهم، وإن شاء صلبهم: يصلب حياً، ويبعج بطنه بالرمح إلى أن يموت، ولا يصلب أكثر من ثلاثة أيامٍ، فإن كان فيهم صبيٌ أو مجنونٌ، أو ذو رحمٍ من المقطوع عليه سقط الحد عن الباقين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحالة الرابعة.
(فالإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) جزاء على أخذ المال (و) بعد ذلك (قتلهم وصلبهم) جزاء على القتل (وإن شاء قتلهم) فقط (وإن شاء صلبهم) فقط؛ لما في كل منهما من الإهلاك، وفي كفاية في الزجر قال الإمام الإسبيجاني: وهذا الذي ذكره قول أبي حنيفو وزفر، وقال أبو يوسف: لا أعفيه من الصلب، وقال محمد: لا يقطع، ولكن يقتل ويصلب، والصحيح قول أبي حنيفة، وفي الهداية والتجنيس: أنه ظاهر الرواية، واختاره المحبوبي والموصلي وغيرهما، تصحيح، (ويصلب) من يراد صلبه (حيا) وكيفيته: أن تغرز خشبة ويوقف عليها وفوقها خشبة أخرى ويربط عليها يديه (ويبعج بطنه بالرمح) من تحت ثديه الأيسر، ويخضخض بطنه (إلى أن يموت) وروى الطحاوي أنه يقتل أولا ثم يصلب بعد القتل؛ لأن الصلب حيا مثلة؛ ولأنه يؤدي إلى التعذيب، والأول أصح لأن صلبه حيا أبلغ في الزجر والردع كما في الجوهرة (ولا يصلب) : أي لا يبقى مصلوبا (أكثر من ثلاثة أيام) وهو ظاهر الرواية، كذا قال الصدر الشهيد في شرح الجامع الضغير، وعن أبي يوسف أنه يترك على خشبته حتى ينقطع فيسقط ليحصل الاعتبار لغيره، وجه الظاهر أن الاعتبار يحصل بالثلاثة فيعدها يتغير فيتأذى الناس فيخلى بينه وبين أهله ليدفن، غاية (فإن كان فيهم) : أي القطاع (صبي أو مجنون أو ذي رحم محرم من المقطوع عليهم) الطريق (سقط الحد عن الباقين) ؛ لأن(3/212)
وصار القتل إلى الأولياء: إن شاؤا قتلوا، وإن شاؤا عفوا، وإن باشر الفعل واحدٌ منهم أجري الحد على جماعتهم.
كتاب الأشربة
- الأشربة المحرمة أربعةٌ: الخمر، وهي: عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، والعصير إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجناية واحدة قامت بالجميع، فإذا لم يكن قعل بعضهم موجباً صار في فعل الباقين بعض العلة فلا يترتب عليه الحكم، قال في الغاية: وهذا الذي ذكره القدوري ظاهر الرواية عن أصحابنا، وهو قول زفر، اهـ (و) إذا سقط الحد (صار القتل إلى الأولياء) ؛ لظهور حق العبد، وحينئذ (إن شاؤا قتلوا) قصاصا؛ فيعتبر فيه وجبه من القصاص أو الدية (وإن شاءوا عفوا) ؛ لأنه صار خالص حقهم (وإن باشر الفعل الواحد منهم) دون الباقين (أجري الحد على جماعتهم) ؛ لأنه إنما يأخذه بقوة الباقين.
ومن قطع الطريق فلم يقدر عليه حتى جاء تائبا سقط عنه الحد بالتوبة قبل القدرة، ودفع إلى أولياء المقتول: إن كان قتل اقتص منه، وإن كان أخذ المال رده إن كان قائماً وضمنه إن كان هالكاً، لأن التوبة لا تسقط حق الآدمي، كما في الجوهرة.
كتاب الأشربة
والأشربة: جمع شراب، وهو لغة: كل ما يشرب، وخص شرعا بالمسكر.
(الأشربة المحرمة أربعة) : أحدها (الخمر، وهي عصير العنب) النئ (إذا) ترك حتى (غلى) : أي صار يفور (واشتد) : أي قوي وصار مسكراً (وقذف) : أي رمي (بالزبد) : أي الرغوة، بحيث لا يبقى شيء منها فيصفو ويرق، وهذا قول أبي حنيفة، وعندهما إذا اشتد بحيث صار مسكراً وإن لم يقذف (و) الثاني (العصير) المذكور (إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه) ويسمى الباذق والطلاء أيضاً،(3/213)
ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحدٍ منهما أدنى طبخٍ حلالٌ، وإن اشتد، إذا شرب منه ما يغلب في ظنه أنه لا يسكره من غير لهوٍ ولا طربٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه كما في المحيط، وقيل: إذا ذهب ثلثه فهو الطلاء وإن ذهب نصفه فهو المنصف، وإن طبخ أدنى طبخ فالباذق، والكل حرام إذا غلى واشتد وقذف بالزبد على الاختلاف كما في الاختيار، وقال قاضيخان: ماء العنب إذا طبخ - وهو الباذق - يحل شربه ما دام حلواً عند الكل، وإذا غلى واشتد وقذف بالزبد يحرم قليله وكثيره، ولا يفسق شاربه، ولا يكفر مستحله، ولا يحد شاربه مالم يسكر منه، اهـ (و) الثالث (نقيع التمر و) الرابع نقيع (الزبيب) النيء (إذا اشتد) وقذف بالزبد على الاختلاف، والنقيع: اسم مفعول، قال في المغرب: يقال أنقع الزبيب في الخابية ونقعه إذا ألقاه فيها ليبتل وتخرج منه الحلاوة، وزبيب منقع بالفتح مخففاً، واسم الشراب نقيع، اهـ قال في الهداية: وهو حرام إذا اشتد وغلى؛ لأنه رقيق ملذ مطرب، إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر، حتى لا يكفر مستحلها، ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ونجاستها خفيفة في رواية غليظة في أخرى، بخلاف الخمر، اهـ مختصرا.
(ونبيذ التمر) هو اسم جنس فيتناول اليابس والرطب والبسر، ويتحد حكم الكل كما في الزاهدي، والنبيذ: شراب يتخذ من التمر أو الزبيب أو العسل أو البر أو غيره، بأن يلقى في الماء ويترك حتى يستخرج منه، مشتق من النبذ وهو الإلقاء كما أشار إليه في الطلبة وغيره، قهستاني (و) نبيذ (الزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخ) . قال في الهداية: إذا ذهب أقل من ثلثيه فهو المطبوخ أدنى طبخ، اهـ (حلال وإن) غلى و (اشتد) وقذف بالزبد، قهستاني، قال العيني: ولم يذكر القذف اكتفاء بما سبق (إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره) وكان شربه للتقوي ونحوه (من غير لهو ولا طرب) قال القهستاني: فالفرق بينه وبين النقيع بالطبخ(3/214)
ولا بأس بالخليطين ونبيذ العسل والتين والحنطة والشعير والذرة حلالٌ وإن لم يطبخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعدمه كما في النظم، قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد حرام، ومثله في الينابيع، ثم قال: والصحيح قولهما، واعتمده الأئمة المحبوبي والنسفي والموصلي وصدر الشريعة، تصحيح؛ لكن يأتي قريبا أن الفتوى على قول محمد فتنبه.
قيد بعدم اللهو والطرب، لأنه مع ذلك لا يحل بالاتفاق.
(ولا بأس بالخليطين) : أي ماء الزبيب والتمر أو الرطب أو البسر المجتمعين المطبوخين أدنى طبخ كما في المعراج والعناية وغيرهما، والمفهوم من عبارة الملتقى عدم اشتراط الطبخ، ثم هذا إذا لم يكن أحد الخليطين ماء العنب، وإلا فلابد من ذهاب الثلثين كما في الكافئ.
(ونبيذ العسل) ويسمى البتع. قال في المغرب: البتع - بكسر الباء وسكون التاء - شراب مسكر يتخذ من العسل باليمن (و) نبيذ (التينو) نبيذ (الحنطة) ويسمى بالمزر - بكسر الميم، كما في المغرب - (و) نبيذ (الشعير) ويسمى بالحقة - بكسر الحاء - كما في القهستاني (و) نبيذ (الذرة) بالذال العجمة - ويسمى بالسكركة - بضم السين والكاف وسكون الراء، كما في المغرب (حلال) شربه للتقوي واستمراء الطعام (وإن لم يطبخ) وإن اشتد وقذف بالزبد، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد حرام، قال في التصحيح: واعتمد قولهما البرهاني والنسفي وصدر الشريعة، اهـ وفي القهستاني: وحاصله أن شرب نبيذ الحبوب والحلاوات بشرطه حلال عند الشيخين؛ فلا يحد السكران منه، ولا يقع طلاقه وحرام عند محمد فيحد ويقع كما في الكافي، وعليه الفتوى كما في الكفاية وغيره، اهـ. ومثله في التنوير والملتقى والمواهب والنهاية والمعراج وشرح المجمع وشرح درر البحار والعيني حيث قالوا الفتوى في زماننا بقول محمد، لغلبة الفساد، وفي النوازل لأبي الليث ولو اتخذ شيئا من(3/215)
وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب منه ثلثاه وبقي ثلثه حلالٌ وإن اشتد، ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير، وإذا تخللت الخمر حلت، سواءٌ صارت خلاً بنفسها أو بشيء طرح فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشعير أو الذرة أو التفاح أو العسل فاشتد وهو مطبوخ أو غير مطبوخ فإنه يجوز شربه ما دون السكر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: لا يجوز شربه، وبه نأخذ اهـ. (وعصير العنب إذا طبخ) بالنار أو الشمس (حتى ذهب منه ثلثاه وبقي ثلثه حلال) شربه حيث وجد شرطه (وإن) غلى و (اشتد) وقذف بالزبد كما سبق، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف أيضا، خلافا لمحمد، والخلاف فيه كالخلاف في سابقه، وقد علمت أن فتوى المتأخرين على قول محمد لفساد الزمان، وفي التصحيح: ولو طبخ حتى ذهب ثلثه ثم زيد عليه وأعيد إلى النار: إن أعيد قبل أن يغلي لا بأس به لأنه تم الطبخ قبل ثبوت الحرمة، وأن أعيد بعدما غلى الصحيح لا يحل شربه، اهـ.
(ولا بأس بالانتباذ) : أي اتخاذ النبيذ (في الدباء) بضم الفاء وتشديد العين والمد - القرع، الواحدة دباءة، مصباح (والحنتم) الخزف الأخضر، أو كل خزف وعن أبي عبيدة: هي جرار خمر تحمل فيها الخمر إلى المدينة، الواحدة حنتمة، مغرب (والمزفت) الوعاء المطلي بالزفت، وهو القار، وهذا مما يحدث التغير في الشراب سريعا مغرب (والنقير) خشبة تنقر وينبذ فيها مصباح، وما ورد من النهي عن ذلك منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأشياء: (فاشربوا في كل ظرف؛ فإن الظرف لا يحل شيئاً ولا يحرمه، ولا تشربوا المسكر) . وقاله بعد ما أخبر عن النهي عنه، فكان ناسخا له، هداية.
(وإذا تخللت الخمر حلت) ، لزوال الوصف المفسد (سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء طرح فيها) كالملح والخل والماء الحار، لأن التخليل يزبل الوصف المفسد،(3/216)
ولا يكره تخليلها.
كتاب الصيد والذبائح
- يجوز الاصطياد بالكلب المعلم، والفهد، والبازي، وسائر الجوارح المعلمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا زال الوصف المفسد الموجب للحرمة حلت، كما إذا تخللت بنفسها، وإذا تخللت طهر الإناء أيضا؛ لأن جميع ما فيه من أجزاء الخمر يتخلل، إلا ما كان منه خاليا عن الخل، فقيل: يطهر تبعاً، وقيل: يغسل بالخل ليطهر؛ لأنه يتخلل من ساعته، وكذا لو صب منه الخمر فملئ خلا طهر من ساعته كما في الاختيار (ولا يكره تخليلها) ، لأنه إصلاح والإصلاح مباح.
ولا يجوز أكل البنج والحشيش والأفيون، وذلك كله حرام، لأنه يفسد العقل ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، لكن تحريم ذلك دون تحريم الخمر، فإن أكل شيئا من ذلك لا حد عليه، وإن سكر منه، بل يعزر بما دون الحد كما في الجوهرة.
كتاب الصيد والذبائح
مناسبة الصيد للأشربة أن كلاً منهما يورث الغفلة واللهو، ومناسبة الصيد للذبائح جلية، أولأن الصيد والذبائح للأطعمة، ومناسبتها للأشربة غير خفية.
والصيد لغة: مصدر (صاده) إذا أخذه، فهو صائد، وذاك مصيدٌ، ويسمى المصيد صيداً، فيجمع صيوداً، وهو: كل ممتنع متوحش طبعاًلا يمكن أخذه إلا بحيلة، مغرب. وزيد عليه أحكام شرعاً كما يأتي بيانها.
(يجوز الأصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة) وهي: كل ذي ناب من السباع أو ذي مخلب من الطير، وعن أبي حنيفة أنه استثنى من ذلك(3/217)
وتعليم الكلب: أن يترك الأكل ثلاث مرات.
وتعليم البازي: أن يرجع إذا دعوته.
فإذا أرسل كلبه المعلم، أو بازيه، أو صقره، وذكر اسم الله تعالى عليه عند إرسال، فأخذ الصيد وجرحه فمات حل أكله، وإن أكل منه الكلب لم يؤكل، وإن أكل منه البازي أكل، وإذا أدرك المرسل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما: الأسد لعلو همته، والدب لخساسته، وألحق بعضهم الحدأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين، ولا يجوز الأنتفاع به، هداية.
(وتعليم الكلب) ونحوه من السباع (أن يترك الأكل) مما يصيده (ثلاث مرات) قيد بالأكل؛ لأنه لو شرب الدم لا يضر؛ لأنه من غاية علمه (وتعليم البازي) ونحوه من الطير (ان يرجع إذ دعوته) ، لأن آية التعليم ترك ما هو مألوف عادة، والبازي متوحش متنفر، فكانت الإجابة آية تعليمه؛ اما الكلب فهو الوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه وهو الأكل.
(فإذا أرسل) مريد الصيد (كلبه المعلم أو بازيه أو صقره) المعلم (وذكر اسم الله عليه عند إرساله) ولو حكما بأن نسيها، فالشرط عدم تركها عنداً (فأخذ) المرسل (الصيد وجرحه) في أي موضع كان (فمات) الصيد من جرحه (حل أكله) قيد بالجرح لأنه إذا لم يجرحه ومات لم يؤكل في ظاهر الرواية كما يأتي قريباً (وإن أكل منه الكلب) ونحوه من السباع بعد ثبوت تعلمه (لم يؤكل) هذا الصيد، لأنه علامة الجهل، وكذا كا يصيده بعده حتى يصير معلماً، وأما ما صاده قبله فما أكل منها لا تظهر فيه الحرمة لعدم المحلية، ومالم يأكل يحرم عنده، خلافا لهما، وتمامه في الهداية (وإن أكل منه البازي أكل) لأن الترك ليس شرطاً في علمه (وإن أدرك المرسل) أو(3/218)
الصيد حياً وجب عليه أن يذكيه، فإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل وإن خنقه الكلب ولم يجرحه لم يؤكل، وإن شاركه كلبٌ غير معلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرامي كما يأتي (الصيد حياً وجب عليه أن يذكيه) لأنه قدر على الذكاة الاختيارية فلا تجزئ الاضطرارية لعدم الضرورة (فإن ترك التذكية حتى مات) وكان فيه حياة فوق حياة المذبوح بأن يعيش مدة كاليوم أو نصفه كما في البدائع (لم يؤكل) لأنه مقدور على ذبحه ولم يذبح، فصار كالميتة. أطلق الإدراك فشمل ما إذا لم يتمكن من ذبحه لفقد آلة أو ضيق الوقت كما هو ظاهر الرواية، قال في الهداية: إذا وقع الصيد في يده ولم يتمكن من ذبحه، وفيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح، لم يؤكل في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يحل، اهـ. ومثله في الينابيع، وزاد: وروي عن أصحابنا الثلاثة أنه يؤكل استحسانا، وقيل: هذا أصح، اهـ.
وقيدنا بما فوق حياة المذبوح، لأنه إذا أدرك به حياة مثل حياة المذبوح لا تلزم تذكيته، لأنه ميت حكماً، ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة لا يحرم، كما إذا وقع وهو ميت، وقيل: هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة لا يؤكل أيضاً؛ لأنه وقع حياً فلا يحل إلا بذكاة الاختيار كما في الهداية والاختيار (وإن خنقه الكلب) أو صدمه بصدره أو جبهته فقتله (ولم يجرحه لم يؤكل) في ظاهر الرواية، لأن الجرح شرط.
قال الإسبيجاني: وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يؤكل، وهو رواية عن أبي يوسف، والصحيح ظاهر المذهب، اهـ. وفي العناية والمعراج وغيرهما: والفتوى على ظاهر الرواية اهـ.
قال في الهداية: وهذا يدلك على أنه لا يحل بالكسر، وعن أبي حنيفة إذا كسر عضواً فقتله لا بأس بأكله لأنه جراحة باطنة، فهي كالجراحة الظاهرة، وجه الأول أن المعتبر جرح ينتهض سبباً لإنهار الدم، ولا يحصل ذلك بالكسر؛ فأشبه التخنيق، اهـ. (وإن شاركه) : أي شارك الكلب المعلم المرسل ممن تؤكل ذبيحته المصحوب بالتسمية (كلب غير معلم(3/219)
أو كلب مجوسيٍ أو كلبٌ لم يذكر اسم الله تعالى عليه لم يؤكل.
وإذا رمى الرجل سهماً إلى صيدٍ فسمى عند الرمي أكل ما أصاب إذا جرحه السهم فمات، وإن أدركه حياً ذكاه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل، وإن وقع السهم فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتاً أكل، وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتاً لم يؤكل، وإذا رمى صيداً فوقع في الماء فمات لم يؤكل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو كلب مجوسي لم يذكر اسم الله عليه) عمداً (لم يؤكل) ، لأنه اجتمع المبيح والمحرم، فتغلب جهة المحرم احتياطا كما في الاختيار] .
(وإذا رمى الرجل سهماً إلى صيد فسمى عند الرمى أكل ما أصاب) السهم (إذا جرحه السهم فمات) ؛ لأنه ذبح بالرمي، لكون السهم آلة له، فتشترط التسمية عنده، وجميع البدن محل لهذا النوع من الذكاة، ولابد من الجراحة، ليتحقق معنى الذكاة على ما بينا، هداية (وإن أدركه حياً ذكاه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل) كما تقدم آنفا (وإذا وقع السهم) بالصيد (فتحامل) : أي ذهب بالجرح، قال في الغرب: التحامل بالشيء أن يتكلفه على مشقة وإعياء، يقال: تحاملت في المشي، ومنه ضربه ضربا يقدر على التحامل معه، أي على المشي مع التكلف، ومنه ربما يتحامل الصيد ويطير، أي يتكلف الطيران، اهـ (حتى غاب) الصيد (عنه و) لكن (لم يزل) الرامي (في طلبه حتى أصابه ميتاً) وليس به إلا أثر سهمه (أكل) ؛ لأنه غير مفرط، وقد ذكاه الذكاة الضرورية؛ فيحال الموت إليها (وإن كان قعد عن طلبه ثم أصابه ميتاً لم يؤكل) ؛ لاحتمال موته بسبب آخره، والموهوم في هذا الباب كالمحقق، إلا أنه سقط اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أنه لا يعرى الاصطياد عنه، ولا ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه. قيدنا بأن ليس به إلا أثر سهمه، لأنه لو وجد به جراحا أخرى حرم، لاحتمال موته منها، والجواب في إرسال الكلب في هذا كالجواب في الرمي في جميع ما ذكرنا كما في الهداية (وإذا رمى صيداً فوقع في الماء فمات لم يؤكل)(3/220)
وكذلك إن وقع على سطحٍ أو جبلٍ ثم تردى منه إلى الأرض لم يؤكل، وإن وقع على الأرض ابتداءً أكل.
وما أصاب المعراض بعرضه لم يؤكل، وإن جرحه أكل، ولا يؤكل ما أصابته البندقة إذا مات منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لاحتمال موته بالغرق (وكذلك إن وقع على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض) ؛ لاحتمال موته من التردي (وإن وقع) الصيد (على الأرض ابتداء أكل) لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وفي اعتباره محرما سد باب الاصطياد، بخلاف ما تقدم، لأنه يمكن الاحتراز عنه، فصار الأصل: أن سبب الحرمة والحل إذا اجتمعا وأمكن التحرز عما هو سبب الحرمة ترجح جهة الحرمة احتياطاً، وإن كان مما لا يمكن التحرز عنه جرى وجوده مجرى عدمه، لأن التكليف بحسب الوسع. هداية.
(وما أصاب المعراض بعرضه لم يؤكل) لأنه لا يجرح، والجرح لابد منه ليتحقق معنى الذكاة على ما قدمناه (وإن) أصاب بحده و (جرحه أكل) لتحقق معنى الذكاة. قيدنا بالجرح بالحد لأنه لو جرحه بعرضه فمات لم يؤكل، لقتله بثقله.
والمعراض هو: سهم لا ريش له كما في المغرب، وفي الجوهرة: المعراض عصا. محددة الرأس، وقيل: هو السهم المنحوت من الطرفين (ولا يؤكل ما أصابته البندقة) بضم الباء. والدال طينة مدورة يرمي بها، مغرب (إذا مات منها) ، لأنها تدق وتكسر ولا تجرح، فصارت كالمعراض إذا لم يجرح، وكذلك إذا رماه بحجر،
قال في الهداية: وكذلك إن جرحه إذا كان ثقيلا ولو به حدة لاحتمال أنه قتله بثقله، وإن كان خفيفا وبه حدة يحل، لتيقن الموت بالجرح، ثم قال: والأصل في هذه المسائل أن الموت إن كان مضافا إلى الجرح بيقين كان الصيد حلالا، وإذا كان مضافاً إلى الثقل بيقين كان حراماً، وإن وقع الشك كان حراماً(3/221)
وإذا رمى إلى صيدٍ فقطع عضواً منه أكل، ولا يؤكل العضو، وإن قطعه أثرثاً والأكثر مما يلي العجز أكل، وإن كان الأكثر مما يلي الرأس أكل الأكثر، ولا يؤكل الأقل، ولا يؤكل صيد المجوسي والمرتد والوثني.
ومن رمى صيداً فأصابه ولم يثخنه ولم يخرجه من حيز الامتناع فرماه آخر فقتله فهو للثاني، ويؤكل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
احتياطاً، والحديد وغيره سواء، اهـ مع بعض تغيير] .
(وإذا رمى إلى صيد فقطع عضواً منه أكل) ذلك الصيد؛ لوجود الجرح (ولا يؤكل العضو) المقطوع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (ما أبين من الحي فهو ميت) والعضو بهذه الصفة؛ لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة، وكذا حكما لأنه يتوهم سلامته بعد هذه الجراحة، جوهرة (وإن قطعه أثرثا و) كان (الأكثر مما يلي العجز) أوقده نصفين، أو قطع نصف رأسه أو أكثره (أكل) الكل؛ لأن في هذه الصور لا يمكن فيه حياة فوق حياة المذبوح، فلم يتناوله الحديث المذكور، بخلاف ما إذا كان الأكثر مما يلي الرأس لإمكان الحياة فوق حياة المذبوح؛ فيحل ما مع الرأس ويحرم العجز؛ لأنه مبان من الحي كما ذكر.
(ولا يؤكل صيد المجوسي والمرتد ة والوثني) ، لأنهم ليسوا من أهل الذكاة كما يأتي، وذكاة الاضطرار كذكاة الاختيار.
(ومن رمى صيداً فأصابه ولم يثخنه) : أي لم يوهنه (ولم يخرجه من حيز الامتناع) عن الأخذ (فرماه آخر فقتله) أو أثخنه وأخرجه عن حيز الامتناع (فهو للثاني) ؛ لأنه الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الصيد لمن أخذه) ، هداية (ويؤكل) : أي ذلك الصيد، لأنه مالم يخرج عن حيز الامتناع فدكاته ضرورية،(3/222)
وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله لم يؤكل، والثاني ضامنٌ لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته.
ويجوز اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان وما لا يؤكل.
وذبيحة المسلم والكتابي حلالٌ، ولا تؤكل ذبيحة المجوسي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقد حصلت، قال في الهداية: وهذا إذا كانت الرمية الأولى بحال ينجو منه الصيد، لأنه حينئذ يكون الموت مضافا إلى الرامي الثاني، اهـ. (وإن كان) الرامي (الأول أثخنه) بحيث أخرجه عن حيز الامتناع (فرماه الثاني فقتله لم يؤكل) لاحتمال الموت بالثاني وهذا ليس بذكاة، للقدرة على ذكاة الاختيار، بخلاف الوجه الأول، هداية (و) الرامي (الثاني ضامن لقيمته للأول) ؛ لأنه بالرمي أتلف صيداً مملوكاً للغير، لأن الأول ملكه بالرمي المثخن (غير ما نقصته جراحته) ، لأنه أتلفه وهو جريح، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف.
(ويجوز اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان) ، لأنه سبب للإنتفاع بلحمه، وبقية أجزائه (و) كذا (مالا يؤكل) ، لأنه سبب للإنتفاع بجلده أو شعره أو قرنه أو لاستدفاع شره.
(وذبيحة المسلم والكتابي) إذا كان يعقل التسمية والذبح ويضبطه، وإن كان صبياً أو مجنونا أو امرأة كما في الهداية (حلال) ، لوجود شرطه، وهو: كون الذابح صاحب ملة التوحيد: إما اعتقاداً كالمسلم، أو دعوى كالكتابي، هداية.
(ولا تؤكل ذبيحة المجوسي) لقوله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم) ، ولأنه لا يدعي التوحيد، فانعدمت الملة اعتقاداً ودعوى، هداية(3/223)
والمرتد والوثني والمحرم، وإن ترك الذابح التسمية عمداً فالذبيحة ميتةٌ لا تؤكل، وإن تركها ناسياً أكلت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(والمرتد) لأنه لا ملة له (والوثني) لأنه لا يعتقد الملة (والمحرم) بأحد النسكين، قال في الهداية: يعني من الصيد، وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد، والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم، والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع، وهذا الصنيع محرم، فلم تكن ذكاة. اهـ.
(وإن ترك الذابح التسمية عمداً) مسلماً كان أو كتابيا (فذبيحته ميتة لا تؤكل) لقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} الآية (وإن تركها ناسياً أكلت) ، لأن في تحريمه حرجاً عظيماً، لأن الإنسان قلما يخلو عن النسيان، فكان في اعتباره حرج، والحرج مدفوع، ولأن الناسي غير مخاطب بما نسيه بالحديث (هو قوله صلى الله عليه وسلم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان") ، فلم يترك فرضا عليع عند الذبح، بخلاف العامد كما في الاختيار.
قال في الهداية: ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح، وهي على المذبوح، وفي الصيد عند الإرسال والرمي، وهي على الآلة، لأن المقدور له في الأول الذبح، وفي الثاني الرمي والإرسال دون الإصابة، فتشترط عند فعل ما يقدر عليه، حتى إذا أضجع شاة وسمى فذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز، ولو رمى الصيد وسمى وأصاب غيره حل، وكذا في الإرسال، ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بأخرى أكل، ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيداً لا يؤكل، اهـ. وفيها أيضاً: والشرط في التسمية هو الذكر الخالص المجرد، فلو قال عند الذبح (اللهم اغفر لي) لا يحل؛ لأنه دعاء وسؤال، ولو قال (الحمد لله) أو (سبحان الله) يريد التسمية حل؛ ولو عطس عند الذبح فقال (الحمد لله) لا يحل في أصح الروايتين؛ لأنه يريد الحمد لله على نعمة العطاس دون التسمية، وما تداولته الألسن عند الذبح - وهو (بسم الله والله أكبر) - منقول عن ابن عباس، اه(3/224)
ولا تجزئ مقطوعة الأذن، والذنب، ولا التي ذب أكثر أذنها فإن بقي الأكثر من الأذن والذنب جاز
ويجوز أن يضحى بالجماء والخصي والجرباء والثولاء
والأضحية من الإبل والبقر والغنم يجزئ من ذلك كله الثنى فصاعداً، إلا الضأن فإن الجذع منه يجزئ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا مخ في عظامها (ولا تجزئ مقطوعة الأذن، و) لا مقطوعة (الذنب، ولا التي ذب أكثر أذنها) أو ذنبها (فإن بقي الأكثر من الأذن والذنب جاز) ؛ لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا، ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفواً.
(ويجوز أن يضحى بالجماء) وهي التي لا قرن لها، لأن القرن لا يتعلق به مقصود، وكذا مكسورة القرن لما قلنا، هداية (والخصي) لأن لحمه أطيب (والجرباء) السمينة، لأن الجرب يكون في جلدها، ولا نقصان في لحمها، بخلاف المهزولة، لأن الهزال يكون في لحمها (والثولاء) وهي المجنونة؛ وقيل: هذا إذا كانت تعتلف، لأنه لا يخل بالمقصود، أما إذا كانت لا تعتلف لا تجزئه، هداية. ثم قال: وهذا الذي ذكرناه إذا كانت هذه العيوب قائمة وقت الشراء، ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع: إن كان غنياً غيرها وإن كان فقيراً تجزئه، وتمامه فيها.
(والأضحية) إنما تكون (من الإبل والبقر والغنم) فقط، لأنها عرفت شرعاٍ ولم تنقل التضحية بغيرها من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الصحابة رضي الله عنهم، هداية (يجزئ من ذلك كله الثنى) وهو ابن خمس من الإبل، وحولين من البقر والجاموس، وحول من الضأن والمعز (فصاعداً، إلا الضأن فإن الجذع) وهو ابن ستة أشهر (منه يجزئ) قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة بحيث لو خلط بالثنايا يشتبه على الناظر من بعيد، هداية(3/225)
والعروق التي تقطع في الذكاة أربعةٌ: الحلقوم، والمرئ، والودجان، فإذا قطعها حل الأكل، وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: لابد من قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إن كان الذبح فوق العقدة قطع ثلاثة من العروق، فالحق ما قاله شراح الهداية تبعاً للرستغنى وإلا فالحق خلافه، إذ لم يوجد شرط الحل باتفاق أهل المذهب، ويظهر ذلك بالمشاهدة أو سؤال أهل الخبرة، فاغتنم هذا المقال، ودع عنك الجدال، اهـ (والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم) بفتح الحاء - أصله (الحلق) زيد الواو والميم كما في المقاييس مجرى النفس لا غير، قهستاني (والمرئ) وزان كريم - رأس المعدة والكرش اللازق بالحلقوم، يجري فيه الطعام والشراب، ومنه يدخل في المعدة، وهو مهموز، وجمعه مرؤ - بضمتين - مثل بريد وبردٍ، وحكى الأزهري الهمز والإبدال والإدغام مصباح. (والودجان) تثنية ودج - بفتحتين - عرقان عظيمان في جانبي قدام العنق بينهما الحلقوم والمرئ، قهستاني (فإن قطعها) : أي العروق الأربعة (حل الأكل) اتفاقاً، (وإن قطع أكثرها) يعني ثلاثة منها أي ثلاثة كانت (فكذلك) : أي حل الأكل (عند أبي حنيفة، وقالا: لابد من قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين) قال في الجوهرة: والمشهور في كتب أصحابنا أن هذا قول أبي يوسف وحده، اهـ وكذا قال الزاهدي وصاحب الهداية، ثم قال: وعن محمد أنه يعتبر أكثر كل فرد، وهو رواية عن الإمام لأن كل فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره، ولورود الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل واحد منها، اهـ، قال في زاد الفقهاء: والصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده الإمام المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح(3/226)
ويجوز الذبح بالليطة والمروة، وبكل شيء أنهر الدم إلا السن القائم والظفر القائم.
ويستحب أن يحد الذابح شفرته، ومن بلغ بالسكين النخاع، أو قطع الرأس كره له ذلك، وتؤكل ذبيحته، وإن ذبح الشاة من قفاها، فإن بقيت حيةً حتى قطع العروق جاز ويكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويجوز الذبح بالليطة) بكسر اللام وسكون الياء - وهي قشر القصب اللازق كما في حاشية الحموي (والمروة) بفتح الميم - كما في المنح عن أخي زاده، قال في الجوهرة: والمروة واحدة المرو، وهي حجارة بيض براقة تقدح منها النار، اهـ (وبكل شيء) له حدة تذبح به بحيث إذا ذبح به فرى الأوداج (أنهر) أي أسال (الدم) ؛ لأن ذلك حقيقة الذبح (إلا السن القائم) : أي غير المنزوع (والظفر القائم) فإنه لا يحل - وإن فرى الأوداج وأنهر الدم - بالإجماع؛ للنص، ولأنه يقتل بالثقل، لأنه يعتمد عليه. قيد بالقائم لأن المنزوع إذا عمل عمل السكين حل عندنا وإن كره قهستاني.
(ويستحب أن يحد الذابح شفرته) بالفتح - السكين العظيم، وأن يكون قبل الإضجاع، وكره بعده (ومن بلغ بالسكين النخاع) بتثليث النون - هو خيط أبيض في جوف الفقار، يقال: ذبحه فنخعه، أي جاوز منتهى الذبح إلى النخاع كما في الصحاح (أو قطع الرأس) قبل أن تسكن (كره له ذلك) لما فيه من زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة، وهو منهيٌ عنه (وتؤكل ذبيحته) ؛ لأن كراهة الفعل لا توجب التحريم (وإن ذبح الشاة من قفاها فإن بقيت حية حتى قطع العروق) اللازم قطعها (جاز) وحلت، لتحقق الموت بما هو ذكاة (و) لكن (يكره)(3/227)
وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل.
وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح.
والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز ويكره.
والمستحب في البقر والغنم الذبح، فإن نحرهما جاز ويكره.
ومن نحر ناقةً أو ذبح بقرةً أو شاةً، فوجد في بطنها جنيناً ميتاً لم يؤكل أشعر أو لم يشعر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك، لما فيه من زيادة التعذيب من غير حاجة كما مر.
(وإن ماتت) الشاة (قبل قطع العروق لم تؤكل) لوجود الموت بما ليس بذكاة.
(وما استأنس من الصيد) وصار مقدورا عليه (فذكاته الذبح) لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليها عند العجز عن ذكاة الاختيار، ولا عجز إذا استأنس وصار مقدوراً عليه (وما توحش من النعم) وصار ممتنعاً لا يقدر عليه (فذكاته) ذكاة الضرورة (العقر والجرح) لتحقق العجز.
(والمستحب في الإبل النحر) في اللبة، وهو موضع القلادة من الصدر، لموافقة السنة المتوارثة، ولاجتماع العروق فيها في النحر (فإن ذبحها) من الأعلى جاز، و) لكن (يكره) لمخالفته السنة (والمستحب في البقر والغنم الذبح) من أعلى العنق، لأنه المتوارث، ولاجتماع العروق فيهما في الذبح (فإن نحرهما) من أسفل العنق (جاز، و) لكن (يكره) لمخالفة السنة.
(ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة أو شاة فوجد في بطنها جنيناً ميتاً لم يؤكل) سواء كان (أشعر أو لم يشعر) يعني تم خلقه أو لم يتم، لأنه لا يشعر إلا بعد تمام(3/228)
ولا يجوز أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير، ولا بأس بغراب الزرع، ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخلق، قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة، وهو قول زفر والحسن بن زياد، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تم خلقه أكل. اهـ. قال في التصحيح: واختار قول أبي حنيفة الإمام البرهاني والنسفي وغيرهما، اهـ.
(ولا يجوز أكل كل ذي ناب) يصيد به (من السباع) بيان لذي ناب، والسباع: جمع سبع، وهو: كل حيوان مختطف منتهب جارح قاتل عادٍ عادة، هداية، (ولا كل ذي مخلب) بكسر الميم - يصيد به، والمخلب: ظفر كل سبع من الماشي والطائر كما في القاموس (من الطير) بيان لذي مخلب (ولا بأس بغراب الزرع) وهو المعروف بالزاغ؛ لأنه يأكل الحب، وليس من سباع الطير، وكذا الذي يخلط بين أكل الحب والجيف كالعقعق وهو المعروف بالقاق، على الأصح، كما في العناية وغيرها، وفي الهداية: لا بأس بأكل العقعق، لأنه يخلط فأشبه الدجاجة، وعن أبي يوسف أنه يكره؛ لأن غالب أكله الجيف (ولا يؤكل) الغراب (الأبقع الذي يأكل الجيف) جمع جيفة، جثة الميت إذا أراح (تقول "أراح اللحم" إذا انتن، ويقال أيضا "أراح الماء" وربما قيل "أروح الماء واللحم" بوزن أكرم من غير قلب على الأصل) كما في الصحاح، قال القهستاني: أي لا يأكل إلا الجيفة وجثة الميت، وفيه إشعار بأنه لو أكل من الثلاثة الجيفة والجثة والحب جميعا حل ولم يكره، وقالا: يكره والأول أصح، اهـ.
وفي العناية الغراب ثلاثة أنواع: نوع يلتقط الحب ولا يأكل الجيف، وليس بمكروه، ونوع لا يأكل إلا الجيف، وهو الذي سماه المصنف الأبقع، وإنه مكروه، ونوع يخلط يأكل الحب مرة والجيف أخرى، ولم يذكره في الكتاب، وهو غير مكروه عنده مكروه عند أبي يوسف، اه(3/229)
ويكره أكل الضبع والضب والحشرات كلها.
ولا يجوز أكل لحم الحمر الأهلية والبغال، ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة، ولا بأس بأكل الأرنب.
وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر لحمه وجلده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويكره) أي لا يحل (أكل الضبع) لأن له ناباً (والضب) دابة تشبه الجرذون لورود النهي عنه، ولأنه من الحشرات (والحشرات) وهي صغار دواب الأرض (كلها) : أي المائي والبري كالضفدع والسلحفاة والسرطان والفأر والوزغ والحيات لأنها من الخبائث، ولهذا لا يجب على المحرم بقتلها شيء.
(ولا يجوز أكل لحم الحمر) بضمتين (الأهلية) ، لورود النهي عنها (والبغال) ، لأنها متولدة من الحمر فكانت مثلها. قيد بالأهلية، لأن الوحشية حلال وإن صارت أهلية، وإن نزا أحدهما على الآخر فالحكم للأم كما في النظم، قهستاني (ويكره أكل لحم الفرس عند أبي حنيفة) قال الإمام الإسبيجاني: الصحيح أنها كراهة تنزيه، وفي الهداية وشرح الزاهدي: ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه، والأول أصح، وقالا: لا بأس بأكله، ورجحوا دليل الإمام، واختاره المحبوبي والنسفي والموصلي وصدر الشريعة، تصحيح (ولا بأس بأكل الأرنب) ، لأنه ليس من السباع، ولا من آكلة الجيف، فأشبه الظبي.
(وإذا ذبح مالا يؤكل لحمه طهر) بفتح الهاء وضمها (لحمه وجلده) ، لأن الذكاة تؤثر في إزالة الرطوبات والدماء السيالة، وهي النجسة دون الجلد واللحم، فإذا زالت طهرت كما في الدباغ، هداية. قال في التصحيح: وهذا مختار صاحب الهداية أيضاً، وقال كثير من المشايخ: يطهر جلده لا لحمه، وهو الأصح كما في الكافي والغاية(3/230)
إلا الآدمي والخنزير، فإن الذكاة لا تعمل فيهما.
ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك، ويكره أكل الطافي منه ولا بأس بأكل الجريث والمار ما هي.
ويجوز أكل الجراد، ولا ذكاة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنهاية وغيرها، اهـ. (إلا الآدمي والخنزير، فإن الذكاة لا تعمل فيهما) : الآدمي لكرامته وحرمته، والخنزير لنجاسة عينه وإهانته كما في الدباغ.
(ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك) لقوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} وما سوى السمك خبيث (ويكره أهل الطافي منه) على وجه الماء الذي مات حتف أنفه، وهو ما بطنه من فوق، فلو ظهره من فوق فليس بطاف فيؤكل كما يؤكل ما في بطن الطافي، وما مات بحر الماء وبرده وبربطه فيه أو إلقاء شيء فموته بآفة، در عن الوهبانية.
(ولا بأس بأكل) السمك (الجريث) بكسر الجيم وتشديد الراء - ويقال له الجرى: ضرب من السمك مدور (والمار ما هي) ضرب من السمك في صورة الحية، قال في الدرر: وخصها بالذكر إشارة إلى ضعف ما نقل في المغرب عن محمد أن جميع السمك حلال غير الجريث والمار ماهي. اهـ.
(ويجوز أكل الجراد، ولا ذكاة له) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد) .
وسئل الإمام علي رضي اللهتعالى عنه عن الجراد يأخذه الرجل وفيه الميت فقال: كله كله، وهذا عد من فصاحته، هداية(3/231)
كتاب الأضحية.
- الأضحية واجبةٌ على كل حرٍ مسلمٍ مقيمٍ موسرٍ، في يوم الأضحى عن نفسه وولده الصغار، يذبح عن كل واحدٍ منهم شاةً أو يذبح بدنةً أو بقرةً عن سبعةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأضحية
(من ذكر الخاص بعد العام، وفيها لغات؛ ضم الهمزة في الأكثر، وهي في تقدير أفعولة، وكسرها إتباعاً لكسرة الحاء؛ والجمع أضاحي، والثالثة ضحية، والجمع ضحايا، مثل عطية وعطايا، والرابعة أضحاة بفتح الهمزة - والجمع أضحى، مثل أرطأة وأرطى، ومنه عيد الأضحى، كذا في المصباح.
(الأضحية) لغة: اسم لما يذبح وقت الضحى، ثم كثر حتى صار أسماً لما يذبح في أي وقت كان من أيام الأضحى، من تسمية الشيء باسم وقته. وشرعاً: ذبح حيوان مخصوص في وقت مخصوص بنية القربة، وهي (واجبة) قال في التصحيح: وهذا قول أبي حنيفة ومحمد والحسن وزفر، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعنه أنها سنة، وذكر الطحاوي أنه على قول أبي حنيفة واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد سنة مؤكدة، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف، وعلى قول أبي حنيفة اعتمد المصححون كالمحبوبي والنسفي وغيرهما، اهـ (على كل حر مسلم مقيم) بمصر أو قرية أو بادية كما في الجوهرة (موسر) يسار الفطرة (في يوم الأضحى) أي يوم من أيامها الثلاثة الآتية، لأنها مختصة بها (عن نفسه، و) عن كل واحد من (ولده) بضم الواو - جمع ولد (الصغار) اعتباراً بالفطرة (يذبح عن كل واحد منهم شاة أو يذبح بدنة) من الإبل (أو بقرة عن سبعة) وكذا ما دونهم بالأولى، فلو عن أكثر لم(3/232)
وليس على الفقير والمسافر أضحيةٌ، ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر؛ إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام صلاة العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تجز عن أحد منهم، قال في التصحيح: وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة، قال في شرح الزاهدي: ويروى عنه أنه لا يجب عن ولده، وهو ظاهر الرواية، ومثله في الهداية. وقال الإسبيجاني: وهو الأظهر، وإن كان للصغير مال اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة، والأصح أنه لا يجب، وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي، وجعله صدر الشهيد ظاهر الرواية. وقال القدوري - وتبعه صاحب الهداية -: والأصح أنه يضحي من ماله، ويأكل منه ما أمكنه، ويبتاع بما بقي ما ينتفع بعينه، اهـ. (وليس على الفقير والمسافر أضحية) واجبة، دفعاً للحرج؛ أما الفقير فظاهر، وأما المسافر فلان أداءها يختص بأسباب تشق على المسافر وتفوت بمضي الوقت.
(ووقت الأضحية) لأهل الأمصار والقرى (يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح) في اليوم الأول (حتى يصلي الإمام صلاة العيد) أو يخرج وقتها بالزوال، لأنه يشترط في حقهم تقديم صلاة العيد على الأضحية أو خروج وقتها، فإذا لم يوجد أحدهما لا تجوز الأضحية، لفقد الشرط (فأما أهل السواد) أي القرى (فيذبحون بعد الفجر) لوجود الوقت وعدم اشتراط الصلاة لأنه لا صلاة عليهم، وما عبر به بعضهم - من أن أول وقتها بعد صلاة العيد إن ذبح في مصر، وبعد طلوع الفجر إن ذبح في غيره - قال القهستاني: فيه تسامح، إذ التضحية عبادة لا يختص وقتها بالمصر وغيره، بل شرطها، فأول وقتها في حق المصري والقروي طلوع الفجر، إلا أنه شرط لأهل المصر تقديم الصلاة عليها، فعدم الجواز لفقد الشرط، لا لعدم الوقت كما في المبسوط، وإليه أشير في الهداية وغيرها، اهـ. ثم المعتبر(3/233)
وهي جائزةٌ في ثلاثة أيامٍ: يوم النحر، ويومان بعده.
ولا يضحى بالعمياء والعوراء والعرجاء، التي لا تمشي إلى المنسك، ولا العجفاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في ذلك مكان الأضحية، حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر تجوز كما انشق الفجر، وفي العكس لا يجوز إلا بعد الصلاة، هداية. قيدنا باليوم الأول لأنه في غير اليوم الأول لا يشترط تقديم الصلاة، وإن صليت فيه، قال في البدائع: وإن أخر الإمام صلاة العيد فلا ذبح حتى ينتصف النهار، فإن اشتغل الإمام فلم يصل أو ترك عمداً حتى زالت الشمس فقد حل الذبح بغير صلاة في الأيام كلها، لأنه لما زالت الشمس فقد فات وقت الصلاة، وإنما يخرج الإمام في اليوم الثاني والثالث على وجه القضاء، والترتيب شرط في الأداء لا في القضاء، كذا ذكره القدوري، اهـ. وذكر نحوه الزيلعي عن المحيط.
(وهي جائزة في ثلاثة أيام) وهي (يوم النحر، ويومان بعده) ، لما روى عن عمر وعلي وابن عباس رضي اللهعنهم، قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها، وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وأفضلها أولها كما قالوا، ولأن فيه مسارعة إلى أداء القربة وهو الأصل إلا لمعارض، ويجوز الذبح في لياليها، إلا أنه يكره، لاحتمال الغلط في ظلمة الليل، وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة، أولها نحر لا غير، وآخرها تشريق لا غير، والمتوسطان نحر وتشريق، هداية.
(ولا يضحى بالعمياء) الذاهبة العينين (والعوراء) الذاهبة إحداهما (والعرجاء العاطلة إحدى القوائم، إذا كانت بينة العرج، وهي (التي لا تمشي إلى المنسك) بفتح العين وكسرها - الموضع الذي تذبح فيه النسائك (ولا العجفاء) أي المهزولة التي(3/234)
ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب، ولا التي ذهب أكثر أذنها، فإن بقي الأكثر من الأذن والذنب جاز.
ويجوز أن يضحى بالجماء والخصى والجرباء والثولاء.
والأضحية من الإبل والبقر والغنم، يجزئ من ذلك كله الثنى فصاعداً إلا الضأن فإن الجذع منه يجزئ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(والذبح) الاختياري (في الحلق) وهو في الأصل الحلقوم كما في القاموس (واللبة) بالفتح والتشديد، بوزن حبة - المنحر: أي من العقدة إلى مبدأ الصدر، وكلام التحفة والكافي وغيرهما يدل على أن الحلق يستعمل في العنق بعلاقة الجزئية، فالمعنى مبدأ الحلق: أي أصل العنق كما في القهستاني، فكلام المصنف محتمل للروايتين الآتيتين عن الجامع والمبسوط، قال في الهداية: وفي الجامع الصغير: لا بأس بالذبح في الحلق كله وسطه وأعلاه وأسفله، اهـ. وعبارة المبسوط: الذبح ما بين اللبة واللحيين كالحديث اهـ، قال في النهاية: وبينهما اختلاف من حيث الظاهر؛ لأن رواية المبسوط تقتضي الحل فيما إذا وقع الذبح قبل العقدة، لأنه بين اللبة واللحيين، ورواية الجامع تقتضي عدمه، لأنه إذا وقع قبلها لم يكن الحلق محل الذبح؛ فكانت رواية الجامع مقيدة لإطلاق رواية المبسوط، وقد صرح في الذخيرة بأن الذبح إذا وقع أعلى من الحلقوم لا يحل؛ لأن المذبح هو الحلقوم، ولكن رواية الإمام الرستغنى تخالف هذه حيث قال: هذا قول العوام وليس بمعتبر، فتحل سواء بقيت العقدة مما يلي الرأس أو الصدر، لأن المعتبر عندنا قطع أكثر الأوداج وقد وجد، وكان شيخي يفتي بهذه الرواية، ويقول: الرستغنى إمام معتمد في القول والعمل اهـ. وأيد الإتقاني هذه الرواية في غاية البيان وشنع على من خالفها غاية التشنيع. وقال: ألا ترى قول محمد في الجامع (أو أعلاه) فإذا ذبح في الأعلى لابد أن تبقى العقدة تحت، ولم يلتفت إلى العقدة في كلام الله تعالى ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذكاة بين اللبة واللحيين بالحديث، وقد حصلت لاسيما على قول الإمام من الاكتفاء بثلاثة من الأربع أيا كانت، ويجوز ترك الحلقوم أصلا. فبالأولى إذا قطع من أعلاه وبقيت العقدة أسفل، اهـ. ومثله في المنح عن البزازية، وبه جزم صاحب الدرر والملتقى والعيني وغيرهم، ولكن جزم في النقاية والمواهب والإصلاح بأنه لابد أن تكون العقدة مما يلي الرأس، وإليه مال الزيلعي، قال شيخنا: والتحرير للمقام أن يقال:(3/235)
ويأكل من لحم الأضحية، ويطعم الأغنياء والفقراء، ويدخر.
ويستحب أن لا ينقص الصدقة من الثلث، ويتصدق بجلدها أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت.
والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، ويكره أن يذبحها الكتابي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويأكل) المضحي (من لحم الأضحية، ويطعم الأغنياء والفقراء، ويدخر) لقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي، فكلوا وادخروا) ولا يعطى أجر الجزار منها، للنهي عنه كما في الهداية.
(ويستحب) له (أن لا ينقص الصدقة من الثلث) لأن الجهات ثلاثة: الأكل، والادخار، لما روينا، والإطعام؛ لقوله تعالى: {وأطعموا القانع والمعتر} فانقسم عليها أثلاثاً، هداية.
(ويتصدق بجلدها) لأنه جزء منها (أو يعمل منه آلة) كنطع وجراب وغربال ونحوها (تستعمل في البيت) قال في الهداية: ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع في البيت مع بقائه، استحساناً، لأن للبدل حكم المبدل، اهـ.
(والأفضل أن يذبح أضحيته بيده، إن كان يحسن الذبح) ، لأنه عبادة، وفعلها بنفسه أفضل، وإن كان لا يحسن الذبح استعان بغيره وشهدها بنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي اللهعنها (قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب) كما في الهداية.
(ويكره أن يذبحها الكتابي) لأنها عمل هو قربة، وهو ليس من أهلها، ولو أمره فذبح جاز، لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته، بخلاف ما إذا أمر المجوسي، لأنه ليس من أهل الذكاة فكان إفساداً، هداية(3/236)
وإذا غلط رجلان فذبح كل واحدٍ منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما ولا ضمان عليهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما) استحساناً، لأنها تعينت للذبح، فصار المالك مستعيناً بكل من كان أهلا للذبح إذناً له دلالة، فيأخذ كل واحد منهما مسلوخه من صاحبه (ولا ضمان عليهما) ، لأن كل واحد منهما وكيل عن صاحبه فيما فعل دلالة، فإن كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه، ويجزئهما؛ لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز، وإن كان غنياً، فكذا له أن يحللهفي الانتهاء، وإن تشاحا فلكل واحد منهما أن يضمن صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة؛ لأنها بدل من اللحم، فصار كما لو باع أضحيته، وهذا لأن التضحية لما وقعت من صاحبه كان اللحم له، ومن أتلف أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه، هداية(3/237)
الجزء الرابع.
كتاب الأيمان.
- الأيمان على ثلاثة أضربٍ: يمينٌ غموسٌ، ويمينٌ منعقدةٌ، ويمينٌ لغوٌ.
فاليمين الغموس هي: الحلف على أمرٍ ماضٍ، يتعمد الكذب فيه؛ فهذه اليمين يأثم بها صاحبها، ولا كفارة فيها إلا الاستغفار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الأيمان
(الأيمان) : جمع يمين، وهو لغة: القوة، وشرعا: عبارة عن عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك.
وهي (على ثلاثة أضرب) : الأول (يمين غموس) بالتنكير - صفة ليمين، من الغمس وهو الإدخال في الماء، سميت به لأنها تدخل صاحبها في الإثم ثم في النار، وفي بعض النسخ "الغموس" بالتعريف على الإضافة إليه، فيكون من إضافة الجنس إلى نوعه؛ لكن قال في المغرب: إن الإضافة خطأ لغة وسماعا (و) الثاني (يمين منعقدة) سميت به لعقد الحالف على البر بالقصد والنية (و) الثالث (يمين لغو) سميت به لأنها ساقطة لا مؤاخذة فيها إلا في ثلاث: طلاق، وعتاق، ونذر، كما في الأشباه.
(فاليمين الغموس) وتسمى الفاجرة (هي الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه) مثل أن يحلف على شيء قد فعله ما فعله أو بالعكس، مع علمه بذلك، وقد يقع على الحال، مثل أن يحلف ما لهذا على دين، وهو كاذب، فالتقييد بالماضي اتفاقي أو أكثري (فهذه اليمين يأثم بها صاحبها) لقوله صلى الله عليه وسلم (من حلف كاذباً أدخله الله النار) (ولا كفارة فيها إلا الاستغفار) مع التوبة، لأنها ليست يميناً حقيقية، لأن اليمين عقد مشروع، وهذه كبيرة، فلا تكون مشروعة، وتسميتها يميناً مجاز، لوجود صورة اليمين، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحر، سماه بيعاً مجازاً كما في الاختيار وغيره، وفي المحيط: الغموس يأثم صاحبها به، ولا يرفعه إلا التوبة النصوح والاستغفار؛ لأنه أعظم من أن ترفعه الكفارة، اه(4/3)
واليمين المنعقدة: هي الحلف على الأمر المستقبل أن يفعله، أو لا يفعله، فإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة.
واليمين اللغو: أن يحلف على أمرٍ ماضٍ، وهو يظن أنه كما قال، والأمر بخلافه، فهذه نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها.
والقاصد في اليمين والمكره والناسي سواءٌ.
ومن فعل المحلوف عليه مكرهاً أو ناسياً سواءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(واليمين المنعقدة هي الحلف على الأمر المستقبل أن يفعله أو لا يفعله، فإذا حنث في ذلك لزمته الكفارة) لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} : (واليمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض) مثل أن يحلف على شيء أنه فعله أو لم يفعله (وهو يظن أنه كما قال، و) كان (الأمر بخلافه) وقد يقع على الحال مثل أن يحلف أنه زيد وإنما هو عمرو، فالفارق بينه وبين الغموس تعمد الكذب، قال في الاختيار: وحكى محمد عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم: (لا والله، وبلى والله، اهـ. (فهذه) اليمين (نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها) وتعليق عدم المؤاخذة بالرجاء - وقد قال الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم} - للاختلاف في تفسيره أو تواضعاً.
(والقاصد في اليمين والمكره) عليه (والناسي) أي المخطئ، كما إذا أراد أن يقول "اسقني" فقال: والله لا أشرب (سواء) في الحكم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، واليمين) هداية.
(ومن فعل المحلوف عليه قاصداً أو مكرهاً) على فعله (أو ناسياً) لحلفه (سواء) في الحكم أيضاً؛ لأن الفعل حقيقي لا يعدمه الإكراه والنسيان، وكذا الإغماء والجنون، فتجب الكفارة بالحنث كيف ما كان؛ لوجود الشرط حقيقة، وإن لم يتحقق الذنب؛ لأن الحكم يدار على دليله - وهو الحنث - لا على حقيقة الذنب كما في الهداية(4/4)
واليمين بالله تعالى، أو باسم من أسمائه، كالرحمن والرحيم، أو بصفةٍ من صفاته، كعزة الله وجلاله وكبريائه، إلا قوله "وعلم الله" فإنه لا يكون يميناً، وإن حلف بصفةٍ من صفات الفعل، كغضب الله وسخطه لم يكن حالفاً.
ومن حلف بغير الله لم يكن حالفاً، كالنبي، والقرآن، والكعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(واليمين) إنما يكون (بالله تعالى) أي بهذا الاسم المعروف باسم الذات (أو باسم) آخر (من أسمائه) تعالى؛ سواء تعورف الحلف به أو لا على المذهب، وذلك (كالرحمن والرحيم) والعليم والحليم (أو بصفة من صفات ذاته) تعالى، وهي التي لا يوصف بضدها إذا تعورف الحلف بها، وذلك (كعزة الله وجلاله وكبريائه) وملكوته وجبروته وعظمته وقدرته، لأن الحلف بها متعارف، ومعنى اليمين - وهو القوة - حاصل، لأنه يعتقد تعظيم الله تعالى وصفاته، فصلح ذكره حاملا ومانعاً، هداية. (إلا قوله وعلم الله فإنه لا يكون يميناً) وإن كان من صفات ذاته تعالى؛ لأنه غير متعارف، ولأنه يذكر ويراد به المعلوم، يقال "اغفر لنا علمك فينا" أي معلومك، هداية. أي: ومعلوم الله تعالى غيره، فلا يكون يمينا، قالوا، إلا أن يريد به الصفة فإنه يكون يمينا، لزوال الاحتمال. جوهرة (وإن حلف بصفة من صفات الفعل) وهي التي يوصف بها وبضدها إذا لم يتعارف الحلف بها (كغضب الله وسخطه) ورضائه ورحمته (لم يكن حالفاً) لأن الحلف بها غير متعارف، ولأن هذه الصفات قد يراد بها أثرها. والحاصل أن الحلف بالصفة سواء كانت صفة ذات أو صفة فعل إن تعورف الحلف بها فيمين، وإلا فلا؛ لأن الأيمان مبنية على العرف (ومن حلف بغير الله) تعالى (لم يكن حالفاً) لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر) وذلك (كالنبي والقرآن والكعبة) قال في الهداية: لأنه غير متعارف، ثم قال: معناه أن يقول: والنبي، والقرآن، أما لو قال "أنا برئ منه" يكون يمينا؛ لأن التبرئ منها(4/5)
والحلف بحروف القسم، وحروف القسم: الواو كقوله: والله، والباء كقوله: بالله، والتاء كقوله: تالله، وقد تضمر الحروف فيكون حالفاً، كقوله "الله لا أفعل كذا" وقال أبو حنيفة: إذ قال "وحق الله" فليس بحالفٍ.
وإذا قال "أقسم" أو "أقسم بالله" أو "أحلف" أو "أحلف بالله"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كفر، اهـ: قال الكمال: ولا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف فيكون يميناً، وأما الحلف بكلام الله تعالى فيدور مع العرف. اهـ.
(والحلف) إنما يكون (بحروف القسم، وحروف القسم) ثلاثة، وهي: (الواو كقوله والله، والباء كقوله بالله، والتاء كقوله تالله) ؛ لأن كل ذلك معهود في الأيمان مذكور في القرآن (وقد تضمر) هذه (الحروف فيكون حالفاً) وذلك (كقوله: الله لا أفعل كذا) لأن حذف حرف الجر من عادة العرب إيجازاً، ثم قيل: ينصب لانتزاع حرف الخفض، وقيل: يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف، درر.
(وقال أبو حنيفة: إذا قال) مريد الحلف (وحق الله فليس بحالف) وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، وعنه رواية أخرى أنه يكون يميناً؛ لأن الحق من صفات الله، وهو حقيقة، فصار كأنه قال والله الحق، والحلف به متعارف، ولهما أنه يراد به طاعة الله؛ إذ الطاعات حقوقه، فيكون حلفاً بغير الله، هداية. قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى الأئمة كما هو الرسم، تصحيح.
(وإذا قال أقسم أو أقسم بالله أو أحلف أو أحلف بالله) أو أعزم، أو أعزم(4/6)
أو "أشهد" أو "أشهد بالله" فهو حالفٌ، وكذلك قوله "وعهد الله، وميثاقه، وعلي نذرٌ، أو نذرٌ لله، وإن فعلت كذا فأنا يهوديٌ أو نصرانيٌ أو كافرٌ" فهو يمينٌ.
وإن قال "علي غضب الله، أو سخطه، أو أنا زانٍ، أو شارب خمرٍ، أو آكل رباً" فليس بحالف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالله (أو أشهد أو أشهد بالله فهو حالف) ؛ لأن هذه الألفاظ مستعملة في الحلف، وهذه الصيغة للحال حقيقة، وتستعمل للاستقبال بقرينة؛ فجعل حالفاً في الحال، هداية. (وكذلك قوله وعهد الله، وميثاقه) ؛ لأن العهد يمين، قال تعالى {وأوفوا بعهد الله} والميثاق عبارة عن العهد (و) قوله (على نذر أو) على (نذر لله) لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين) ، هداية.
(أو إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو كافر فهو يمين) ، لأنه لما جعل الشرط علماً على الكفر فقد اعتقده واجب الامتناع، وقد أمكن القول بوجوبه لغيره بجعله يميناً كما نقول في تحريم الحلال، ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس، ولا يكفر اعتباراً بالمستقبل، وقيل: يكفر، لأنه تنجيز معنى، فصار كما إذا قال: هو يهودي، والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، وإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما، لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل، هداية. وفي شرح السرخسي: والفتوى على أنه إن اعتقد الكفر به يكفر، وإلا فلا، وصححه قاضيخان.
(وإن قال) : إن فعلت كذا (فعلي غضب الله أو سخطه أو أنا زان أو شارب خمر أو آكل ربا فليس بحالف) ، لأنه غير متعارف، فلو تعورف هل يكون يميناً؟ ظاهر كلامهم: نعم، وظاهر كلام الكمال: لا، وتمامه في النهر(4/7)
وكفارة اليمين: عتق رقبةٍ، يجزئ فيها ما يجزئ في الظهار، وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحدٍ ثوباً فما زاد، وأدناه ما تجزئ فيه الصلاة، وإن شاء أطعم عشرة مساكين، كالإطعام في كفارة الظهار، فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة صام ثلاثة أيامٍ متتابعاتٍ؛ فإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وكفارة اليمين: عتق رقبة، يجزئ فيها ما يجزئ في) كفارة (الظهار) أي رقبة مطلقة، سواء كانت كافرة أو مسلمة صغيرة أو كبيرة، كما مر (وإن شاء كسا عشرة مساكين كل واحد ثوباً) يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر (فما زاد) عليه (وأدناه) أي: أدنى ما يكفي في الكفارة (ما تجزئ فيه الصلاة) قال في الهداية وشرح الزاهدي: المذكور في الكتاب مروي عن محمد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أن أدناه ما يستر عامة بدنه، حتى لا يجوز السراويل، وهو الصحيح؛ لأن لابسه يسمى عرياناً في العرف، لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، اهـ. (وإن شاء أطعم عشرة مساكين) كل مسكين نصف صاع من برأ ودقيقه أو صاعاً من شعير أو تمر أو أكلتين مشبعتين (كالإطعام) المار (في كفارة الظهار) والأصل فيه قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية، وكلمة "أو" للتخيير؛ فكان الواجب أحد الأشياءؤ الثلاثة، هداية (فإن لم يقدر على أحد الأشياء الثلاثة) المذكورة (صام ثلاثة أيام متتابعات) ، لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه "متتابعات" وهي كالخبر المشهور كما في الهداية، ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم، فلو صام المعسر يومين ثم أيسر لا يجوز، ويستأنف بالمال، كما في الخانية.
(وإن قدم الكفارة على الحنث لم يجزه) ذلك؛ لعدم وجوبها بعد، لأنها(4/8)
ومن حلف على معصية، مثل أن لا يصلي، أو لا يكلم أباه، أو ليقتلن فلاناً، فينبغي أن يحنث ويكفر عن يمينه.
وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال الكفر، أو بعد إسلامه، فلا حنث عليه.
ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه لم يصر محرماً لعينه، وعليه إن استباحه كفارة يمينٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنما تجب بالحنث، ثم لا يسترد من المسكين، لوقوعه صدقة.
(ومن حلف على معصية) وذلك (مثل) حلفه على (أن لا يصلي، أو لا يكلم أباه، أو ليقتلن فلانا) اليوم، مثلا (فينبغي) بل يجب عليه (أن يحنث) نفسه (ويكفر عن يمينه) ، لقوله صلى الله عليه وسلم:
(ومن حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه) ، ولأن في ذلك تفويت البر إلى جابر، وهو الكفارة، ولا جابر للمعصية في ضده، وإنما قيدنا باليوم لأن وجوب الحنث لا يتأتى إلا في اليمين المؤقتة، أما المطلقة فحنثه في آخر حياته، فيوصي بالكفارة بموت الحالف، ويكفر عن يمينه بهلاك المحلوف عليه، غاية.
(وإذا حلف الكافر ثم حنث في حال الكفر أو بعد إسلامه فلا حنث عليه) ؛ لأنه ليس بأهل لليمين؛ لأنها تعقد لتعظيم الله تعالى، ومع الكفر لا يكون معظما، ولا هو أهل للكفارة؛ لأنها عبادة، هداية.
(ومن حرم على نفسه شيئاً مما يملكه) وذلك أن يقول: هذا الطعام علي حرام، أو حرام علي أكله (لم يصر محرماً لعينه، وعليه إن استباحه كفارة يمين) ؛ لأن اللفظ ينبئ عن إثبات الحرمة، وقد أمكن إعماله بثبوت الحرمة لغيره بإثبات موجب اليمين؛ فيصار إليه، هداية. وكذا لو كان حراماً أو ملك غيره كقوله(4/9)
فإن قال "كل حلالٍ علي حرام" فهو على الطعام والشراب، إلا أن ينوي غير ذلك.
ومن نذر نذراً مطلقاً فعليه الوفاء به، وإن علق نذره بشرط فوجد الشرط فعليه الوفاء بنفس الذنر. وروى أن أبا حنيفة رجع عن ذلك وقال: إذا قال "إن فعلت كذا فعلي حجةٌ، أو صوم سنةٍ، أو صدقة ما أملكه"، أجزأه من ذلك كفارة يمينٍ، وهو قول محمدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخمر أو مال فلان علي حرام، ما لم يرد الإخبار، خانية (فإن قال كل حلال) أو حلال الله، أو حلال المسلمين (علي حرام؛ فهو على الطعام والشراب، إلا أن ينوي غير ذلك) قال في الهداية وشرح الزاهدي: وهذا كله جواب ظاهر الرواية، ومشايخنا قالوا: يقع به الطلاق من غير نية؛ لغلبة الاستعمال، وعليه الفتوى، اهـ. وفي الينابيع: ولو له أربع نسوة يقع على كل واحدة منهن طلقة، فإن لم يكن له امرأة كانت يميناً وعليه كفارة يمين، اهـ.
(ومن نذر نذراً مطلقاً) أي غير معلق بشرط، وهو عبادة مقصودة، وكا من جنسه واجبٌ (فعليه الوفاء به) أي: بما نذره، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى) ، هداية (وإن علق نذره بشرط) فوجد الشرط المعلق عليه (فعليه الوفاء بنفس النذر) الذي سماه لإطلاق الحديث، ولأن المعلق بالشرط كالمنجز عنده (وروى أن أبا حنيفة رجع عن ذلك، وقال) : (إذا قال) الناذر: (إن فعلت كذا فعلي حجة أو صوم سنة أو صدقة ما أملكه) أو نحو ذلك (أجزأه من ذلك كفارة يمين، وهو قول محمد) ويخرج عن العهدة(4/10)
ومن حلف لا يدخل بيتاً فدخل الكعبة، أو المسجد، أو البيعة، أو الكنيسة لم يحنث.
ومن حلف لا يتكلم فقرأ في الصلاة لم يحنث.
ومن حلف لا يلبس ثوباً وهو لابسه فنزعه في الحال لم يحنث، وكذا إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل في الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالوفاء بما سمى أيضاً، قال في الهداية: وهذا إذا كان شرطاً لا يريد كونه؛ لأن فيه معنى اليمين، وهو بظاهره نذر، فيتخير ويميل إلى أي الجهتين شاء، بخلاف ما إذا كان شرطا يريد كونه، كقوله: إن شفى الله مريضي؛ لانعدام معنى اليمين به، وهذا التفصيل هو الصحيح، اهـ. وفي شرح الزاهدي: وهذا التفصيل أصح.
(ومن حلف لا يدخل بيتا فدخل الكعبة أو المسجد أو البيعة أو الكنيسة لم يحنث) ؛ لأن البيت ما أعد للبيتوتة، وهذه البقاع ما بنيت لها، وكذا الدهليز والظلة التي على الباب إذا لم يصلحا للبيتوتة، بحر.
(ومن حلف لا يتكلم فقرأ في الصلاة لم يحنث) اتفاقا، وإن قرأ في غير الصلاة حنث، وعلى هذا التسبيح والتهليل والتكبير؛ لأنه في الصلاة ليس بكلام عرفا ولا شرعا، وقيل: في عرفنا لا يحنث مطلقاً؛ لأنه لا يسمى متكلما، بل قارئاً ومسبحاً كما في الهداية، ورجح هذا القول في الفتح للعرف، وعليه الدرر والملتقي، وقواه في الشرنبلالية قائل: ولا عليك من أكثرية التصحيح له مع محالفة العرف.
(ومن حلف لا يبلس ثوباً معيناً وهو لابسه فنزعه في الحال) من غير تراخ (لم يحنث) ؛ لوجود البر بحسب الوسع؛ لأن ما ليس في وسعه مستثنى عرفا؛ إذ اليمين تعقد للبر لا للحنث (وكذلك إذا حلف لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فنزل في الحال) لم يحنث، أو لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في(4/11)
وإن لبث ساعةً حنث، وإن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود، حتى يخرج ثم يدخل.
ومن حلف لا يدخل داراً فدخل دارا خراباً لم يحنث.
ومن حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراءً حنث، ولو حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النقلة من ساعته (وإن لبث) على حاله (ساعة حنث) ، لأن هذه الأفعال لها دوام بحدوث أمثالها، ولذا يضرب لها المدة، فيقال: ركبت الدابة يوما، ولبست الثوب يوما، وسكنت الدار شهرا، ولو نوى الابتداء الخالص يصدق به؛ لأنه محتمل كلامه كما في الهداية، ولو خرج من الدار وبقي متاعه وأهله فيها حنث، لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ومتاعه، واعتبر محمد نقل ما تقوم به السكنى، وهو أرفق، وعليه الفتوى كما في الدر عن العيني.
(ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود) بل (حتى يخرج ثم يدخل) ، لأن الدخول لا دوام له، لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل. (ومن حلف لا يدخل داراً) بالتنكير (فدخل دارا خراباً لم يحنث) في يمينه، لأنه لما لم يعينها كان المعتبر في يمينه داراً معتاداً دخولها؛ لأن الأيمان مبنية على العادة والعرف، ولذا لو حلف لا يلبس قميصاً فارتدى به لم يحنث، لأن المقصود اللبس المعتاد (ومن حلف لا يدخل هذه الدار) بالتعريف (فدخل بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث) لأنها لما عينها تعلق ذلك ببقاء اسمها، والاسم فيها باق، ولذا يقال: دار غامرة (ولو حلف لا يدخل هذا البيت فدخله بعد ما انهدم) وصار صحراء (لم يحنث) ، لزوال اسم البيت عنه، فإنه لا يبات فيه، قيدنا بصيرورته(4/12)
ومن حلف لا يكلم زوجة فلانٍ فطلقها فلانٌ ثم كلمها حنث، ولو حلف لا يكلم عبد فلانٍ، أو لا يدخل دار فلانٍ، فباع عبده وداره ثم كلم العبد ودخل الدار لم يحنث؛ وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث، وكذلك إن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخاً حنث، أو لا يأكل لحم هذا الحمل فصار كبشاً فأكله حنث، وإن حلف لا يأكل من هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحراء؛ لأنه لو سقط السقف وبقي الحيطان يحنث لأنه يبات فيه كما في الهداية.
(ومن حلف لا يكلم زوجة فلان) المعينة (فطلقها فلان) بائناً (ثم كلمها) الحالف (حنث) ، لأن الحر يصد بالهجران، فكانت الإضافة للتعريف المحض، بخلاف غير المعينة حيث لا يحنث، لعقد اليمين على فعل واقع في محل مضاف إلى فلان ولم يوجد. قيدنا بالبائن لأن الرجعي لا يرفع الزوجية (وإن حلف لا يكلم عبد فلان أو لا يدخل دار فلان فباع) فلان (عبده وداره ثم كلم) الحالف (العهد ودخل الدار لم يحنث) لأن العبد والدار لا يقصدان بالهجران لذواتهما، بل للنسبة إلى ملاكهما، واليمين ينعقد على مقصود الحالف إذا احتمله اللفظ، فصار كأنه قال: ما دام لفلان (وإن حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه حنث) ؛ لأن هذه الإضافة لا تحتمل إلا التعريف؛ لأن الإنسان لا يعادى لمعنى في الطيلسان؛ فصار كما إذا أشار إليه (وكذلك إن حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخاً، أو حلف لا يأكل لحم هذا الحمل) بمهملات - ولد الضأن في السنة الأولى (فصار) الحمل (كبشا فأكله حنث) ، لأن المنع كان لعينهما لا لاتصافهما بهذا الوصف، لأنه ليس بداع لليمين (وإن حلف لا يأكل من هذه(4/13)
النخلة فهو على ثمرها، وإن حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطباً فأكله لم يحنث، وإن حلف لا يأكل بسراً فأكل رطباً لم يحنث.
ومن حلف لا يأكل رطباً فأكل بسراً مذنباً حنث عند أبي حنيفة.
ومن حلف لا يأكل لحماً فأكل السمك لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النخلة فهو على ثمرها) ، لأنه أضاف اليمين إلى ما لا يؤكل فينصرف إلى ما يخرج منه لأنه سبب له فيصلح مجازاً عنه، لكن الشرط أن لا يتغير بصنعة جديدة، حتى لا يحنث بالنبيذ والخل والدبس المطبوخ، هداية (وإن حلف لا يأكل من هذا البسر) بضم الموحدة وسكون المهملة - ثمر النخل قبل أن يصير رطباً (فصار رطباً) أو من هذا الرطب فصار تمراً (فأكله لم يحنث) ، لأن هذه الأوصاف داعية إلى اليمين فيتقيد اليمين بها (و) كذا (إن حلف لا يأكل بسراً) بالتنكير (فأكل رطباً لم يحنث) ، لأنه ليس ببسر (ومن حلف لا يأكل رطباً) أو بسراً، أو لا يأكل رطباً ولا بسراً (فأكل بسراً مذنباً) أو رطباً مذنباً (حنث عند أبي حنيفة) ، لأن البسر المذنب ما يكون في ذنبه قليل الرطب، والرطب المذنب على عكسه، فيكون آكله آكل البسر والرطب، وكل واحد مقصود في الأكل. قال جمال الإسلام: وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: لا يحنث، والصحيح قولهما، واعتمده الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن حلف لا يأكل لحماً فأكل السمك لم يحنث) لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناوله في العرف والعادة، ولا يرد تسميته لحماً في القرآن، لأن الأيمان مبنية على العرف والعادة، لا على ألفاظ القرآن، ولذا لو حلف لا يخرب بيتا فخرب بيت العنكبوت(4/14)
ومن حلف لا يشرب من دجلة فشرب منها بإناءٍ لم يحنث حتى يكرع منها كرعاً في قول أبي حنيفة، ومن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناءٍ حنث.
ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لم يحنث، ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يحنث، وإن سمى في القرآن بيتاً، كما في الجوهرة، قال الإسبيجاني: والقياس أن يحنث وهو رواية عن أبي يوسف: والصحيح ظاهر الرواية، وهو المعتمد عند الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن حلف لا يشرب من) شيء يمكن فيه الكرع نحو (دجلة فشرب منها بإناء لم يحنث) ، لعدم وجود حقيقة المحلوف عليه، فلا يحنث (حتى يكرع منها كرعا) وذلك (في قول أبي حنيفة) ، لأن الحيقة مستعملة، ولهذا يحنث بالكرع إجماعاً، فمنعت المصير إلى المجاز، وإن كان متعارفا، قال العلامة بهاء الدين في شرحه: وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث، والصحيح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة، تصحيح. قيدنا بما يمكن فيه الكرع لأن ما لا يمكن فيه ذلك كالبئر يحنث مطلقا، بل لو تكلف الكرع لا يحنث في الأصح لهجر الحقيقة وتعين المجاز (ومن حلف لا يشرب من ماء دجلة فشرب منها بإناء حنث) لأن يمينه انعقد على الماء المنسوب إليه، وبعد الاغتراف بقي منسوبا إليه.
(ومن حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لم يحنث) عند أبي حنيفة، لأن له حقيقة مستعملة فإنها تغلى وتقلى وتؤكل قضما، والحقيقة راجحة على المجاز المتعارف على ما هو الأصل عنده، قال العلامة بهاء الدين في شرحه: وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث، والصحيح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة المحبوبي والنسفي وغيرهما، ولو قضمها حنث عندهما في الصحيح، قاله قاضيخان، تصحيح (ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه) ونحوه مما يتخذ منه كعصيدة وحلوى(4/15)
حنث، ولو استفه كما هو لم يحنث، ولو حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائمٌ حنث، وإن حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له ولم يعلم بالإذن حتى كلمه حنث.
وإذا استحلف الوالي رجلاً ليعلمه بكل داعرٍ دخل البلد، فهذا على حال ولايته خاصةً.
ومن حلف لا يركب دابة فلانٍ فركب دابة عبده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(حنث) ؛ لأن عينه غير مأكول؛ لعدم جريان العادة باستعماله كذلك؛ فينصرف إلى ما يتخذ منه (ولو استفه كما هو لم يحنث) قال قاضيخان وصاحب الهداية والزاهدي: هو الصحيح؛ لتعين المجاز مراداً، تصحيح.
(وإن حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو بحيث يسمع) كلامه (إلا أنه نائم حنث) ؛ لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه، لكنه لم يفهم لنومه، فصار كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله، وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه، وعليه مشايخنا، لأنه إذا لم ينتبه كان كما إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته، هداية، ومثله في المجتبى (وإن حلف لا يكلمه إلا بإذنه فأذن له) المحلوف عليه بكلامه (و) لكن (لم يعلم) الحالف (بالإذن حتى كلمه حنث) ، لأن الإذن مشتق من الأذان الذي هو الإعلام أو من الوقوع في الأذن، وكل ذلك لا يتحقق إلا بالسماع، وقال أبو يوسف: لا يحنث، لأن الأذن هو الإطلاق، وإنه يتم بالإذن كالرضا، قلنا: الرضا من أعمال القلب، ولا كذلك على ما مر، هداية.
(وإذا استحلف الوالي رجلا ليعلمه بكل داعر) أي مفسد (دخل البلد فهذا) الحلف مقصور (على حال ولايته خاصة) ، لأن مقصود الوالي دفع شر داعر بزجره، وهذا إنما يكون حال ولايته، فإذا مات أو عزل زالت اليمين، ولم تعد بعوده، كما في الجوهرة.
(ومن حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة عبده) لمأذون له سواء(4/16)
لم يحنث.
ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها، أو دخل دهليزها حنث، وإن وقف في طاق الباب بحيث إذا أغلق الباب كان خارجاً لم يحنث.
ومن حلف لا يأكل الشواء، فهو على اللحم دون الباذنجان والجزر.
ومن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان مديونا أو لا (لم يحنث) عند أبي حنيفة، إلا أنه إذا كان عليه دين مستغرق لا يحنث وإن نوى؛ لأنه لا ملك للمولى فيه عنده، وإن كان الدين غير مستغرق أو لم يكن عليه دين لا يحنث ما لم ينوه؛ لأن الملك فيه للمولى، لكنه يضاف إلى العبد عرفا وشرعا، وقال أبو يوسف في الوجوه كلها: يحنث إذا نواه، لاختلال الإضافة، وقال محمد: يحنث وإن لم ينو، لاعتبار حقيقة الملك، إذ الدين لا يمنع وقوعه للسيد عندهما كما في الهداية، قال في التصحيح: وعلى قول أبي حنيفة مشى الأئمة المصححون. اهـ.
(ومن حلف لا يدخل هذه الدار فوقف على سطحها أو دخل دهليزها حنث) ، لأن السطح من الدار، ألا ترى أن المعتكف لا يفسد اعتكافه بالخروج إلى سطح المسجد، وقيل: في عرفنا لا يحنث، هداية، ووفق الكمال بحمل الحنث على سطح له ساتر وعدمه على مقابله، وفي البحر: والظاهر عدم الحنث في الكل، لأنه لا يسمى داخلا عرفا، (وإن وقف في طاق الباب) وكان (بحيث إذا أغلق الباب كان خارجا) عنه (لم يحنث) ، لأن الباب لإحراز الدار وما فيها، فلم يكن الخارج من الدار.
(ومن حلف لا يأكل الشواء فهو) أي حلفه (على اللحم) المشوي (دون) غيره مما يشوى، مثل (الباذنجان والجزر) ونحوه، لأنه المراد عند الإطلاق، إلا أن ينوي مطلق ما يشوى، لمكان الحقيقة (ومن حلف لا يأكل الطبيخ فهو على ما يطبخ من اللحم) استحسانا اعتبارا للعرف، وهذا لأن التعميم متعذر فيصرف إلى(4/17)
ومن حلف لا يأكل الرءوس، فيمينه على ما يكبس في التنابير، ويباع في المصر.
ومن حلف لا يأكل الخبز فيمينه على ما يعتاد أهل البلد أكله خبزاً، فإن أكل خبز القطائف أو خبز الأرز بالعراق لم يحنث.
ومن حلف لا يبيع أو لا يشتري أو لا يؤاجر فوكل بذلك لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خاص هو متعارف وهو اللحم المطبوخ بالماء، إلا إذا نوى غير ذلك؛ لأن فيه تشديداً على نفسه كما في الهداية (ومن حلف لا يأكل الرءوس فيمينه) مقصورة (على ما يكبس) أي يدخل (في التنانير ويباع في) ذلك (المصر) أي مصر الحالف؛ لأنه لا يمكن حمله على العموم؛ إذ الإنسان لا يقصد بيمينه رءوس الجراد والعصافير ونحو ذلك؛ فكان المراد منه المتعارف، قال في الهداية: وفي الجامع الصغير: لو حلف لا يأكل رأسا فهو على رأس البقر والغنم عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: على الغنم خاصة، وهذا اختلاف عصر وزمان، كان العرف في زمنه فيهما، وفي زمنهما في الغنم خاصة، وفي زماننا بقي على حساب العادة كما هو المذكور في المختصر، اهـ (ومن حلف لا يأكل الخبز فيمينه) مقصورة (على ما يعتاد أهل) ذلك (البلد) أي بلد الحالف (أكله خبزاً) ، لما مر من أن العرف هو المعتبر (فإن أكل خبز القطائف أو خبز الأرز بالعراق لم يحنث) ، لأن القطائف لا يسمى خبزاً مطلقا؛ إلا إذا نواه؛ لأنه يحتمله، وخبز الأرز غير معتاد عند أهل العراق، حتى لو كان في بلدة طعامهم ذلك يحنث.
(ومن حلف لا يبيع ولا يشتري أو لا يؤاجر فوكل) الحالف غيره (بذلك) الفعل (لم يحنث) ؛ لأن حقوق هذه العقود ترجع إلى العاقد، فلم يوجد(4/18)
ومن حلف لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل بذلك حنث.
ومن حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساطٍ أو حصيرٍ، لم يحنث.
ومن حلف لا يجلس على سريرٍ، فجلس على سريرٍ فوقه بساطٌ حنث، وإن جعل فوقه سريراً آخر فجلس عليه لم يحنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما هو الشرط، وهو العقد من الآمر الثابت له حكم العقد، إلا أن ينوي ذلك؛ لأن فيه تشديداً على نفسه، أو يكون الحالف ذا سلطان لا يتولى العقد بنفسه؛ لأنه يمنع نفسه عما يعتاده، حتى لو كان الوكيل هو الحالف يحنث كما في الهداية.
(ومن حلف لا يتزوج أو لا يطلق أو لا يعتق فوكل) غيره (بذلك) الفعل (حنث) ؛ لأن الوكيل في هذه العقود سفير ومعبر، ولهذا لا يضيفه إلى نفسه، بل إلى الآمر، وحقوق العقد ترجع إلى الآمر لا إليه، هداية.
(ومن حلف لا يجلس على الأرض فجلس على بساط أو حصير لم يحنث) لأنه لا يسمى جالساً على الأرض، بخلاف ما إذا حال بينه وبينها لباسه لأنه تبع له، فلم يعتبر حائلا (ومن حلف لا يجلس على سرير) معين (فجلس على سرير) أي على السرير المحلوف عليه وكان (فوقه بساط) أو حصير (حنث) لأنه يعد عرفاً جالساً عليه (وإن جعل فوقه سريراً آخر فجلس عليه لم يحنث) ؛ لأنه لم يجلس على السرير المحلوف عليه، وإنما جلس على غيره، إذ لجلوس حينئذ ينسب إلى الثاني، ولذا قيدنا بالمعين، إذ لو كان يمينه على غير معين يحنث، لوجود الجلوس على سرير(4/19)
وإن حلف لا ينام على فراشٍ فنام عليه وفوقه قرامٌ حنث وإن جعل فوقه فراشاً آخر لم يحنث.
ومن حلف بيمينٍ، وقال "إن شاء الله" متصلاً بيمينه، فلا حنث عليه، وإن حلف ليأتينه إن استطاع فهذا على استطاعة الصحة دون القدرة.
وإن حلف لا يكلم فلاناً حيناً أو زماناً، أو الحين أو الزمان فهو على ستة أشهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن حلف لا ينام على فراش) معين كما تقدم (فنام عليه وفوقه قرام) أي ستر (حنث) لأنه تبع للفراش؛ فيعد نائماً عليه (وإن جعل فوقه فراشاً آخر لم يحنث) ، لأن مثل الشيء لا يكون تبعاً له فقطعت النسبة عن الأول.
(ومن حلف بيمين وقال: إن شاء الله) أو إلا أن يشاء الله (متصلا بيمينه) سواء كان مقدماً أو مؤخراً (فلا حنث عليه) ولابد من الاتصال؛ لأنه بعد الفراغ رجوع، في اليمين (وإن حلف ليأتينه) غداً مثلا (إن استطاع فهذا) الحلف (على استطاعة الصحة) وهي سلامة الآلات والأسباب مع عدم المانع؛ لأنه المتعارف، والأيمان مبنية على العرف (دون القدرة) الحقيقية المقارنة للفعل، لأنه غير متعارف، قال في الهداية: وهذا لأن حقيقة الاستطاعة فيما يقارن الفعل، ويطلق الاسم على سلامة الآلات وصحة الأسباب في المتعارف، فعند الإطلاق ينصرف إليه، ويصح نية الأول ديانة؛ لأنه حقيقة كلامه، ثم قيل: يصح قضاءه، لما بينا، وقيل: لا يصح، لأنه خلاف الظاهر، اهـ، قال في الفتح: وهو الأوجه.
(وإن حلف لا يكلم فلاناً حينا أو زماناً) منكراً (أو لحين أو الزمان) معرفاً (فهو على ستة أشهر) من حين حلفه؛ لأنه الوسط فينصرف عند الإطلاق(4/20)
وكذلك الدهر عند أبي يوسف ومحمدٍ.
ولو حلف لا يكلمه أياماً فهو على ثلاثة أيامٍ، ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيامٍ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: على أيام الإسبوع، ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهرٍ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على اثني عشر شهراً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إليه، وإن نوى غيره من أحد معانيه فهو على ما نواه؛ لأنه حقيقة كلامه (وكذلك الدهر عند أبي يوسف ومحمد) قال الإسبيجاني في شرحه: وقال أبو حنيفة: لا أدري ما الدهر، فإن كانت له نية فهو على ما نوى، ومن أصحابنا من قال: الدهر بالألف واللام هو الأبد عندهم، وإنما الخلاف في المنكر، ومثله في الهداية وشرح الزاهدي بزيادة: وهو الصحيح، ثم قال الإسبيجاني: الصحيح قول أبي حنيفة؛ لأنه لم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير معلوم، فلم يجز إثباته، بل يرجع إلى نية الحالف، اهـ. واختاره الأئمة المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة، تصحيح.
(ولو حلف لا يكلمه أياماً فهو على ثلاثة أيام) ؛ لأنه جمع ذكر منكراً فتناول أقل الجمع، وهو الثلاث (ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة) لأنه جمع ذكر معرفاً فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع، وذلك عشرة. هداية (وقال أبو يوسف ومحمد: على أيام الإسبوع) ؛ لأن اللام للمعهود، وهو الأسبوع لأنه يدور عليها (ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عند أبي حنيفة، وقالا: على اثني عشر شهرا) ؛ لما ذكرنا أن الجمع المعرف عنده ينصرف إلى أقصى ما ذكر بلفظ الجمع وهو العشرة، وعندهما ينصرف إلى المعهود وهو أشهر العام الاثنا عشر، لأنه يدور عليها، قال جمال الإسلام: الصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده الأئمة المذكورون قبله، تصحيح(4/21)
وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبداً، وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرةً واحدةً بر في يمينه.
ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه، فأذن لها مرةً فخرجت ثم خرجت مرةً أخرى بغير إذنه حنث، ولابد من إذن في كل خروجٍ، وإن قال "إلا أن آذن لك" فأذن لها مرةً ثم خرجت بعدها بغير إذنه لم يحنث.
وإذا حلف لا يتغدى فالغداء الأكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا حلف لا يفعل كذا تركه أبدا) ؛ لأن يمينه وقعت على النفي، والنفي لا يختص بزمان دون زمان، فحمل على التأبيد (وإن حلف ليفعلن كذا ففعله مرة واحدة بر في يمينه) ؛ لأن المقصود إيجاد الفعل، وقد أوجده، ولا يحنث إلا بوقوع اليأس منه، وذلك بموته أو بفوت محل الفعل.
(ومن حلف لا تخرج امرأته إلا بإذنه) أو بأمره أو بعلمه (فأذن لها) أو أمرها (مرة فخرجت) ورجعت (ثم خرجت مرة أخرى بغير إذنه) أو أمره أو علمه (حنث) في حلفه (ولابد) لعدم الحنث (من إذن) أو أمر أو علم (في كل خروج) لأن المستثنى خروج مخصوص بالإذن، وما وراءه داخل في الحظر العام، ولو نوى الإذن مرة يصدق ديانة لا قضاء؛ لأنه محتمل كلامه، لكنه خلاف الظاهر، هداية. ولو قال "كلما خرجت فقد أذنت لك" سقط إذنه كما في الجوهرة. (وإن قال إلا أن) أو حتى (آذن لك) أو آمرك (فأذن لها) أو أمرها (مرة واحدة ثم خرجت بعدها بغير إذنه) أو أمره (لم يحنث) في حلفه؛ لأن ذلك للتوقيت، فإذا أذن مرة فقد انتهى الوقت وانتهى الحلف بانتهائه (وإذا حلف لا يتغدى فالغداء) هو (الأكل) الذي يقصد به الشبع(4/22)
من طلوع الفجر إلى الظهر، والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل، والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر.
وإن حلف ليقضين دينه إلى قريبٍ فهو ما دون الشهر، وإن قال "إلى بعيد" فهو أكثر من الشهر.
ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج منها بنفسه وترك فيها أهله ومتاعه حنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عادة؛ ويعتبر عادة كل بلد في حقهم، حتى لو شبع بشرب اللبن يحنث البدوي لا الحضري، زيلعي (من طلوع الفجر إلى الظهر) وفي البحر عن الخلاصة "طلوع الشمس" قال: وينبغي اعتماده للعرف، زاد في النهر: وأهل مصر يسمونه فطوراً إلى ارتفاع الضحى الأكبر، فيدخل وقت الغداء، فيعمل بعرفهم، قلت: وكذا أهل دمشق الشام. در (والعشاء من صلاة الظهر إلى نصف الليل) وفي البحر عن الإسبيجاني: وفي عرفنا وقت العشاء بعد صلاة العصر، قلت: وهو عرف مصر والشام، در (والسحور من نصف الليل إلى طلوع الفجر) لأنه مأخوذ من السحر، ويطلق على ما يقرب منه، وهو نصف الليل.
(وإن حلف ليقضين دينه إلى قريب فهو ما دون الشهر) ؛ لأن ما دونه يعد قريباً عرفاً (وإن قال إلى بعيد فهو أكثر من الشهر) وكذا الشهر؛ لأن الشهر وما زاد عليه يعد بعيدا، ولهذا يقال عند بعد العهد: ما لقيتك منذ شهر، كما في الهداية.
(ومن حلف لا يسكن هذه الدار) أو البيت، أو المحلة (فخرج منها بنفسه وترك فيها أهله ومتاعه حنث) ؛ لأنه يعد ساكنا ببقاء أهله ومتاعه فيها(4/23)
ومن حلف ليصعدن السماء أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً انعقدت يمينه وحنث عقيبها.
ومن حلف ليقضين فلاناً دينه اليوم فقضاه ثم وجد فلانٌ بعضه زيوفاً أو نبهرجةً، أو مستحقة - لم يحنث، وإن وجدها رصاصاً أو ستوقة حنث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عرفا، فإن السوقي عامة النهار في السوق، ويقول: أسكن سكة كذا، ثم قال أبو حنيفة: لابد من نقل كل المتاع، حتى لو بقي وتد حنث، لأن السكنى ثبتت بالكل فتبقى ما بقي شيء منه، وقال أبو يوسف: يعتبر نقل الأكثر، لأن نقل الكل قد يتعذر، وقال محمد: يعتبر نقل ما تقوم به السكنى؛ لأن ما وراء ذلك ليس من السكنى، قالوا: هذا أحسن وأرفق بالناس، كذا في الهداية. وفي الدر عن العيني: وعليه الفتوى.
(ومن حلف ليصعدن السماء، أو ليقلبن هذا الحجر ذهباً، انعقد يمينه) ؛ لإمكان البر حقيقة بإقدار الله تعالى، فينعقد يمينه (وحنث عقيبها) للعجز عادة، بخلاف ما إذا حلف: ليشربن ماء هذا الكوز ولا ماء فيه حيث لا يحنث لأن شرب مائه ولا ماء فيه لا يتصور، والأصل في ذلك: أن إمكان البر في المستقبل شرط انعقاد اليمين؛ إذ لابد من تصور الأصل لتنعقد في حق الحلف، وهو الكفارة.
(ومن حلف ليقيضن فلاناً دينه اليوم) مثلا (فقضاه) إياه (ثم وجد فلان بعضه) أو كله (زيوفاً) وهي ما يقبله التجار ويرده بيت المال (أو نبهرجة) وهي ما يرده كل منهما (أو مستحقاً) للغير (لم يحنث) الحالف،(4/24)
ومن حلف لا يقبض دينه درهماً دون درهمٍ فقبض بعضه، لم يحنث حتى يقبض جميعه متفرقاً، وإن قبض دينه في وزنتين لم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث، وليس ذلك بتفريقٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لوجود الشرط، لأن الزيوف والنبهرجة من الدراهم، غير أنها معيبة، والعيب لا يعدم الجنس، ولذا لو تجوز بها صار مستوفيا، وقبض المستحقة صحيح فلا يرتفع برده البر المتحقق كما في الهداية.
(وإن وجدها رصاصاً أو ستوقةً) بالفتح - أراد من النبهرجة. وعن الكرخي: الستوقة عندهم ما كان الصفر أو النحاس هو الغالب الأكثر فيه، مغرب. وقيل: ما كان داخله نحاس وخارجه فضة (حنث) في يمينه؛ لأنهما ليسا من جنس الدراهم، حتى لا يجوز التجوز بهما في الصرف والسلم، هداية.
(ومن حلف لا يقبض دينه درهما دون درهم) أي متفرقاً (فقبض بعضه لم يحنث) بمجرد قبض البعض، بل (حتى يقبض جميعه متفرقاً) ، لأن الشرط قبض الكل، لكنه بوصف التفرق، لأنه أضاف القبض إلى دين معروف مضاف إليه فينصرف إلى كله، فلا يحنث إلا به، هداية.
(وإن قبض دينه في وزنتين) أو أكثر، و (لم يتشاغل بينهما إلا بعمل الوزن لم يحنث، وليس ذلك بتفريق) ؛ لأنه قد يتعذر قبض الكل دفعة واحدة عادة، فيصير هذا القدر مستثنى عنه، هداية(4/25)
ومن حلف ليأتين البصرة فلم يأتها حتى مات، حنث في آخر جزء من أجزاء حياته.
كتاب الدعوى.
- المدعي: من لا يجبر على الخصومة إذا تركها.
والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن حلف ليأتين البصرة) مثلا (فلم يأتها حتى مات حنث في آخر جزء من أجزاء حياته) ؛ لأن يمينه انعقدت مطلقة غير مؤقتة، فتبقى ما دام البر موجودا، فإذا مات وقع اليأس، فيضاف الحنث إلى آخر جزء من أجزاء حياته، قال في الينابيع: حتى إذا حلف بطلاق امرأته فلا ميراث لها إذا لم يكن دخل بها، ولا عدة عليها، وإن كان دخل بها فلها الميراث وعليها العدة أبعد الأجلين بمنزلة الفار، ولو ماتت هي لم تطلق؛ لأن شرط البر يتعذر بموتها، جوهرة.
كتاب الدعوى
كفتوى، وألفها للتأنيث فلا تنون، وجمعها دعاوى كفتاوى، كما في الدرر، وجزم في المصباح بكسرها على الأصل، وبفتحها فيهما محافظة على ألف التأنيث.
وهي لغة: قول يقصد به الإنسان إيجاب حق على غيره. وشرعا: إخبار بحق له على غيره عند الحاكم.
ولما كانت مسائل الدعوى متوقفة على معرفة المدعى والمدعى عليه، ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما تبتنى عليه - بدأ المصنف بتعريفهما، فقال: (المدعى: من لا يجبر على الخصومة إذا تركها) ؛ لأنه طالب (والمدعى عليه: من يجبر على الخصومة) ؛ لأنه مطلوب(4/26)
ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئاً معلوماً في جنسه وقدره، فإن كان عيناً في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليها بالدعوى، وإن لم تكن حاضرةً ذكر قيمتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في الهداية: وقد اختلفت عبارات المشايخ في الفرق بين المدعى والمدعى عليه فمنها ما قال في الكتاب، وهو حد تام صحيح، وقيل: المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد، وقيل: المدعي من يلتمس غير الظاهر، والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر، وقال محمد في الأصل: المدعى عليه هو المنكر، وهذا صحيح، لكن الشأن في معرفته، والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور؛ فإن المودع إذا قال "رددت الوديعة" فالقول له مع اليمين وإن كان مدعيا للرد صورة، لأنه ينكر الضمان، اهـ.
(ولا تقبل الدعوى) من المدعي ويلزم بها حضور المدعى عليه والمدعى به والجواب (حتى يذكر) المدعي (شيئاً معلوماً في جنسه) كبر أو شعير أو ذهب أو فضة (وقدره) ككذا قفيز أو مثقالا أو درهما؛ لأن فائدة الدعوى الإلزام بواسطة إقامة الحجة، والإلزام في المجهول لا يتحقق.
(فإن كان) المدعى به (عيناً في يد المدعى عليه كلف) المدعى عليه (إحضارها ليشير إليها) المدعي (بالدعوى) والشهود بالشهادة، والمدعى عليه بالاستحلاف؛ لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط، وذلك بالإشارة في المنقولات، لأن النقل ممكن، والإشارة أبلغ في التعريف (وإن لم تكن) العين (حاضرة) بأن كانت هالكة، أو في نقلها مؤنة (ذكر قيمتها) ليصير المدعى به معلوما؛ لأن القيمة تعرفها معنى، هداية(4/27)
وإن ادعى عقاراً حدده، وذكر أنه في يد المدعى عليه، وأنه يطالبه به وإن كان حقاً في الذمة ذكر أنه يطالبه به،
فإذا صحت الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عنها، فإن اعترف قضى عليه بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن ادعى عقاراً حدده) ؛ لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل، فصار إلى التحديد؛ فإن العقار يعرف به، ويذكر الحدود الأربعة، وأسماء أصحابها وأنسابهم، ولابد من ذكر الجد في التصحيح، إلا أن يكون صاحب الحد مشهورا، فيكتفي بذكره، لحصول المقصود. وإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفي بها عندنا، خلافا لزفر، بخلاف ما إذا غلط في الرابع؛ لأنه يختلف به المدعي، ولا كذلك بتركها، وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة، هداية. (وذكر أنه في يد المدعى عليه) ، لأنه إنما ينتصب خصما إذا كان في يده، ولا يكفي تصديق المدعى عليه
أنه في يده، بل لا تثبت اليد فيه إلا بالبينة أو علم القاضي، هو الصحيح نفياً لتهمة المواضعة، إذ العقار عساه في يد غيرهما، بخلاف المنقول، لأن اليد فيه مشاهدة، هداية (وأنه يطالبه به) لأن المطالبة حقه، فلابد من طلبه، ولأنه يحتمل أن يكون مرهونا في يده أو محبوساً بالثمن في يده، هداية. وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال، وعن هذا قالوا في المنقول: يجب أن يقول "في يد بغير حق"، هداية.
(وإن كان) المدعى به (حقا) أي ديناً (في الذمة ذكر أنه يطالبه به) لأن صاحب الذمة قد حضر، فلم يبق إلا المطالبة.
(فإذا صحت الدعوى) من المدعي (سأل القاضي المدعى عليه عنها) لينكشف له وجه الحكم (فإن اعترف) بدعواه (قضى عليه بها) ؛ لأنه غير متهم(4/28)
وإن أنكر سأل المدعي البينة، فإن أحضرها قضى بها، وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلف عليها.
فإن قال "لي بينةٌ حاضرةٌ" وطلب اليمين لم يستحلف عند أبي حنيفة.
ولا ترد اليمين على المدعي، ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في حق نفسه (وإن أنكر سأل المدعي البينة) ؛ لإثبات ما ادعاه (فإن أحضرها قضى بها) لظهور صدقها (وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلف) القاضي (عليها) ولابد من طلبه؛ لأن اليمين حقه، وأجمعوا على التحليف بلا طلب في دعوى الدين على الميت، كما في الدر وغيره.
(فإن قال المدعي: لي بينة حاضرة) يعني في المصر (وطلب اليمين لم يستحلف عند أبي حنيفة) وقال أبو يوسف: يستحلف، لأن اليمين حقه، فإذا طالبه به يجيبه. ولأبي حنيفة أن ثبوت الحق في اليمين مرتبٌ على العجز عن إقامة البينة، فلا يكون حقه دونه، كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس، ومحمد مع أبي يوسف فيما ذكر الخصاف، ومع أبي حنيفة فيما ذكر الطحاوي كما في الهداية، وفي التصحيح: قال جمال الإسلام: الصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما، اهـ. قيد بحضورها لأنها لو كانت عائبة حلف اتفاقا، وقدر الغيبة في المجتبى بمسيرة السفر.
(ولا ترد اليمين على المدعي) لحديث: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وحديث الشاهد واليمين ضعيف، بل رده ابن معين، بل أنكره الراوي كما في الدر عن العيني.
(ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق) ؛ لأنها لا تفيد أكثر(4/29)
وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضي عليه بالنكول، ولزمه ما ادعى عليه.
وينبغي للقاضي أن يقول له: "إني أعرض اليمين عليك ثلاثاً، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه" فإذا كرر العرض ثلاث مرات قضى عليه بالنكول،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مما تفيده اليد، فلو أقام الخارج البينة كانت بينته أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ لأنها تظهر الملك له، بخلاف ذي اليد فإن ظاهر الملك ثابت له باليد؛ فلم تثبت له شيئا زائداً. قيد بالملك المطلق احترازا عن المقيد بدعوى النتاج، وعن المقيد بما إذا ادعيا تلقى الملك من واحد وأحدهما قابض، أو ادعيا الشراء من اثنين، وأرخا وتأريخ ذي اليد أسبق؛ فإنه - في هذه الصور - تقبل بينة ذي اليد بالإجماع، وتمامه في العناية.
(وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضى عليه بالنكول ولزمه ما ادعى عليه) ؛ لأن النكول دل على كونه باذلا عنده أو مقرا عندهما؛ إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعاً للضرر عن نفسه، فيرجح هذا الجانب (و) لكن (ينبغي للقاضي أن) ينذر المدعى عليه؛ بأن (يقول له: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن حلفت) فيها (وإلا قضيت عليك بما ادعاه) خصمك، وهذا الإنذار لإعلامه بالحكم، إذ هو موضع الخفاء (فإذا كرر) القاضي (العرض) عليه (ثلاث مرات) وهو على نكوله (قضى عليه بالنكول) قال في الهداية: وهذا التكرار ذكره الخصاف لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبلاء العذر؛ فأما المذهب فإنه لو قضى بالنكول بعد العرض مرة جاز لما قدمنا؛ هو الصحيح، والأول أولى؛ ثم النكول قد يكون(4/30)
وإن كانت الدعوى نكاحاً لم يستحلف المنكر عند أبي حنيفة.
ولا يستحلف في النكاح، والرجعة، والفيء في الإيلاء، والرق، والاستيلاد، والنسب، والولاء، والحدود.
وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يستحلف في ذلك كله، إلا في الحدود والقصاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقيقياً، كقوله "لا أحلف" وقد يكون حكمياً بأن يسكت، وحكمه حكم الأول إذا علم أنه لا آفة به من طرش أو خرس، وهو الصحيح، اهـ.
(وإن كانت الدعوى نكاحاً) منه أو منها، وأنكره الآخر (لم يستحلف المنكر) منهما (عند أبي حنيفة) ، لأن النكول عنده بذلٌ والبذل لا يجري في هذه الأشياء المذكورة بقوله: (ولا يستحلف في) إنكار (النكاح، والرجعة) بعد العدة (والفيء في الإيلاء) بعد المدة (والرق، والاستيلاد) إذا أنكره السيد، ولا يتأتى عكسه؛ لثبوته بإقراره (والولاء والنسب) عتاقة أو موالاة (والحدود، وقالا: يستحلف) المنكر (في ذلك كله، إلا في الحدود) ؛ لأن النكول عندهما إقرار، والإقرار يجري في هذه الأشياء، لكنه إقرار فيه شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات، والفتوى على قولهما كما نقله في التصحيح عن قاضيخان والفتاوى الكبرى والتتمة والخلاصة ومختارات النوازل والزوزني في شرح المفظومة وفخر الإسلام عن البزدوي والنسفي في الكنز والزيلعي في شرحه، ثم قال: واختار المتأخرون من مشايخنا أن القاضي ينظر في حال المدعى عليه: فإن رآه متعنتاً يحلفه آخذاً بقولهما، وإن رآه مظلوما لا يحلفه آخذاً بقول الإمام، وهو نظير ما اختاره شمس الأئمة في التوكيل بالخصومة من غير رضاء الخصم، اه(4/31)
وإذا ادعى اثنان عيناً في يد آخر كل واحدٍ منهما يزعم أنها له وأقاما البينة، قضى بها بينهما، وإن ادعى كل واحدٍ منهما نكاح امرأةٍ وأقاما البينة لم يقض بواحدةٍ من البينتين، ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا ادعى اثنان عيناً في يد آخر) و (كل واحد منهما يزعم أنها له، وأقاما البينة قضى بها) : أي بالعين المدعى بها (بينهما) نصفين؛ لاستوائهما في سبب الاستحقاق وقبول المحل الاشتراك.
(وإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة) حية (وأقاما البينة) على ذلك (لم يقض بواحدة من البينتين) ؛ لعدم أولوية إحداهما، وتعذر الحكم بهما لعدم قبول المحل اشتراكهما (ورجع إلى تصديق المرأة لأحدهما) ، لأن النكاح مما يحكم به بتصادقهما، قال في الهداية: وهذا إذا لم توقت البينتان، فأما إذا وقتتا فصاحب الوقت الأول أولى، وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته لتصادقهما، فإن أقام الآخر البينة قضى بها؛ لأن البينة أقوى من الإقرار؛ ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها؛ لأن القضاء بالأول صح فلا ينقض بما هو مثله بل دونه، إلا أن يوقت شهود الثاني سابقاً، لأنه ظهر الخطأ في الأول بيقين، وكذا إذا كانت المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق، اهـ. قيدنا بحياة المرأة لأنها إذا كانت ميتة قضى به بينهما، لأن المقصود الميراث وهو يقبل الاشتراك، وعلى كل واحد نصف المهر، ويرثان ميراث زوج واحد، وتمامه في الخلاصة(4/32)
وإن ادعى اثنان كل واحدٍ منهما أنه اشترى منه هذا العبد وأقاما البينة فكل واحدٍ منهما بالخيار: إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن، وإن شاء ترك، فإن قضى القاضي بينهما به فقال أحدهما "لا أختار" لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه، وإن ذكر كل واحدٍ منهما تاريخاً فهو للأول منهما، وإن لم يذكرا ومع أحدهما قبضٌ فهو أولى به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن ادعى اثنان) على ثالث ذي يد (كل واحد منهما أنه اشترى منه (أي من ذي اليد (هذا العبد) مثلا (وأقاما البينة) على ذلك قبلتا، وثبت لهما الخيار؛ لأنه لم يسلم لكل منهما سوى النصف (فكل واحد منهما بالخيار: إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن، وإن شاء ترك) لتفريق الصفقة عليه (فإن قضى به القاضي بينهما وقال أحدهما) بعد القضاء له (لا أختار) ذلك وتركه (لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه) لأنه بالقضاء انفسخ عقد كل واحد في نصفه، فلا يعود إلا بعقد جديد، قيدنا بما بعد القضاء لأنه لو كان قبل القضاء كان للآخر أن يأخذ جميعه، لأنه يدعي الكل، والحجة قامت به، ولم ينفسخ سببه، وزال المانع وهو مزاحمة الآخر كما في الهداية (وإن ذكر كل واحد منهما تاريخاً) وكان تاريخ أحدهما أسبق (فهو للأول منهما) ، لأنه أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد، فاندفع الآخر به، ولو وقتت إحداهما ولم توقت الأخرى فهو لصاحب الوقت، لثبوت ملكه في ذلك الوقت، فاحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده، فلا يقضي له بالشك، هداية (وإن لم يذكرا تاريخاً) أو ذكرا تاريخاً واحداً، أو أرخ أحدهما دون الآخر (و) كان (مع أحدهما قبض فهو أولى به) ، لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأنه قد استويا في الإثبات فلا تزول اليد الثابتة بالشك(4/33)
وإن ادعى أحدهما شراءً والآخر هبةً وقبضاً وأقاما البينة ولا تاريخ معهما فالشراء أولى.
وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأةٌ أنه تزوجها عليه فهما سواءٌ.
وإن ادعى أحدهما رهناً وقبضاً والآخر هبةً وقبضاً فالرهن أولى، وإن أقام الخارجان البينة على الملك والتاريخ فصاحب التاريخ الأبعد أولى، وإن ادعيا الشراء من واحدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن ادعى) اثنان على ثالث ذي يد (أحدهما شراء) منه (والآخر هبة وقبضاً وأقاما البينة) على ذلك (ولا تاريخ معهما فالشراء أولى) لأنه أقوى؛ لكونه معاوضة من الجانبين، ولأنه يثبت بنفسه، بخلاف الهبة؛ فإنه يتوقف على القبض.
(وإن ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأة أنه تزوجها عليه فهما سواء) لاستوائهما في القوة؛ لأن كلا منهما معاوضة من الجانبين، ويثبت الملك بنفسه. (وإن ادعى أحدهما رهناً وقبضاً والآخر هبة وقبضاً فالرهن أولى) .
قال في الهداية: وهذا استحسان، وفي القياس الهبة أولى؛ لأنها تثبت الملك، والرهن لا يثبته، وجه الاستحسان أو المقبوض بحكم الرهن المضمون؛ وبحكم الهبة غير مضمون، وعقد الضمان أولى، اهـ.
(وإن أقام) المدعيان (الخارجان البينة على الملك والتاريخ) المختلف (فصاحب التاريخ الأبعد) أي الأسبق تاريخاً (أولى) ؛ لأنه أثبت أنه أول المالكين؛ فلا يتلقى الملك إلا من جهته ولم يتلق الآخر منه.
(وإن ادعيا الشراء من واحد) أي غير ذي يد لئلا يتكرر مع ما سبق(4/34)
وأقاما البينة على التاريخين فالأول أولى، وإن أقام كل واحدٍ منهما بينةً على الشراء من آخر وذكرا تاريخاً فهما سواء، وإن أقام الخارج البينة على ملكٍ مؤرخٍ وأقام صاحب اليد البينة على ملكٍ أقدم تاريخاً كان أولى، وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحدٍ منهما بينةً بالنتاج فصاحب اليد أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وأقاما البينة على التاريخين) المختلفين (فالأول أولى) لما بينا أنه أثبته في وقتٍ لا منازع له فيه.
(وإن أقام كل واحد منهما بينة على الشراء من آخر) بأن قال أحدهما: اشتريت من زيد، والآخر من عمرو (وذكرا تاريخاً) متفقاً أو مختلفاً (فهما سواء) لأنهما يثبتان الملك لبائعهما، فيصيران كأنهما أقاما البينة على الملك من غير تاريخ، فيخير كل منهما بين أخذ النصف بنصف الثمن وبين الترك.
(وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ، و) أقام (صاحب اليد البينة على ملك أقدم تاريخاً كان) ذو اليد (أولى) ؛ لأن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع، قال في الهداية وشرح الزاهدي: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو رواية عن محمد، وعنه: لا تقبل بينة ذي اليد، وعلى قولهما اعتمد المحبوبي والنسفي وغيرهما كما هو الرسم، تصحيح.
(وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة بالنتاج) من غير تاريخ أو أرخا تاريخاً واحداً، بدليل ما يأتي (فصاحب اليد أولى) ، لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه اليد فاستويا، وترجحت بينة ذي اليد؛ فيقضي له، ولو تلقى كل واحد منهما الملك من رجل وأقام البينة على النتاج عنده فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه؛(4/35)
وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرةً واحدةً، وكل سببٍ في الملك لا يتكرر فهو كذلك، وإن أقام الخارج البينة على الملك وصاحب اليد بينةً على الشراء منه كان أولى، وإن أقام كل واحدٍ منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت البينتان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لما ذكرنا، ولو أقام أحدهما البينة على الملك المطلق والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان؛ لأن البينة قامت على أولية الملك؛ فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته، وكذا إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج عنده أولى، لما ذكرناه، ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضى له، إلا أن يعيدها دو اليد، لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية، وكذا المقضي عليه بالملك إذا أقام البينة على النتاج تقبل بينته وينقض القضاء؛ لأنه بمنزلة النص، هداية.
(وكذلك) أي مثل النتاج (النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة واحدة) كالكرباس (و) كذا (كل سبب في الملك لا يتكرر) كغزل القطن، وحلب لبن، وجز صوف، ونحو ذلك، لأنه في معنى النتاج، فإن كان يتكرر كالبناء والغرس قضى به للخارج بمنزلة الملك المطلق، وإن أشكل يرجع به إلى أهل الخبرة، فإن أشكل عليهم قضى به للخارج، وتمامه في الهداية (وإن أقام الخارج البينة على الملك) المطلق (وصاحب اليد بينة على الشراء منه كان) صاحب اليد (أولى) ؛ لأنه أثبت تلقي الملك منه؛ فصار كما إذا أقر بالملك له ثم ادعى الشراء منه (وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت البينتان) ويترك المدعى به في يد ذي اليد.
قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يقضي بالبينتين، ويكون للخارج، اهـ. قال في التصحيح: وعلى قولهما اعتمد المصححون، وقد رجحوا دليلهما قولا واحداً، اه(4/36)
وإن قام أحد المدعيين شاهدين والآخر أربعةً فهما سواء.
ومن ادعى قصاصاً على غيره فجحد استحلف، فإن نكل عن اليمين فيما دون النفس لزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يقرأ أو يحلف، وقال أبو يوسف ومحمد: يلزمه الأرش فيهما.
وإذا قال المدعي "لي بينةٌ حاضرةٌ" قيل لخصمه "أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيامٍ".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن أقام أحد المدعيين شاهدين، و) أقام (الآخر أربعة) أو أكثر (فهما سواء) لأن كل شهادة علةٌ تامة، وكذا لو كانت إحداهما أعدل من الأخرى، لأن العبرة لأصل العدالة، إذ لا حد للأعدلية كما في الدر.
(ومن ادعى قصاصاً على غيره فجحده) المدعى عليه (استحلف) إجماعاً، لأنه منكر (فإن نكل عن اليمين فيما دون النفس لزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يقرأ أو يحلف) وهذا عند أبي حنيفة؛ لأن النكول عنده بذلٌ معنى، والأطراف ملحقة بالأموال، فيجري فيها البذل، ولهذا تستباح بالإباحة كقلع السن عند وجعه وقطع الطرف عند وقوع الآكلة، بخلاف النفس، فإن أمرها أعظم، ولا تستباح بحال، ولهذا لو قال له "اقتلني" فقتله تجب الدية (وقالا: يلزمه الأرش فيهما) ؛ لأن النكول عندهما إقرار فيه شبهة، فلا يثبت به القصاص، ويثبت به الأرش، قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى المصححون.
(وإذا قال المدعي: لي بينة حاضرة) في المصر (قيل لخصمه: أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام) ؛ لئلا يغيب نفسه فيضيع حقه، والكفالة بالنفس جائزة عندنا وأخذ الكفيل لمجرد الدعوى استحسان عندنا لأن فيه نظرا للمدعي، وليس فيه كثير(4/37)
فإن فعل وإلا أمر بملازمته، إلا أن يكون غريباً على الطريق فيلازمه مقدار مجلس القاضي.
وإن قال المدعى عليه "هذا الشيء أودعنيه فلانٌ الغائب، أو رهنه عندي، أو غصبته منه" وأقام بينةً على ذلك فلا خصومة بينه وبين المدعي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضرر بالمدعى عليه، والتقدير بثلاثة أيام مرويٌ عن أبي حنيفة، وهو الصحيح، ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه والحقير من المال والخطير كما في الهداية (فإن فعل) أي أعطى كفيلا بنفسه فيها (وإلا أمر بملازمته) لئلا يذهب حقه (إلا أن يكون) المدعى عليه (غريباً) مسافراً (على الطريق فيلازمه مقدار مجلس القاضي) فقط، وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس؛ فالاستثناء منصرف إليهما؛ لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك إضراراً به يمنعه عن السفر، ولا ضرر في هذا المقدار ظاهراً، هداية.
(وإذا قال المدعى عليه) في جواب مدعي الملك (هذا الشيء) المدعى به، منقولا كان أو عقاراً (أودعنيه فلان الغائب) أو أعارنيه، أو أجرنيه (أو رهنه عندي، أو غصبته منه) أي من الغائب (وأقام بينة على ذلك) وقال الشهود: نعرفه باسمه ونسبه أو بوجهه، وشرط محمد معرفته بوجهه أيضاً، قال في البزازية: وتعويل الأئمة على قول محمد، اهـ (فلا خصومة بينه وبين المدعي) ؛ لأنه أثبت ببينته أن يده ليست بيد خصومة، وقال أبو يوسف: إن كان الرجل صالحاً فالجواب كما قلنا، وإن كان معروفاً بالحيل لا تندفع عنه الخصومة، قال في الدر: وبه يؤخذ، واختاره في المختار، وهذه مخمسة كتاب الدعوى، لأن فيها أقوال خمسة علماء كما بسط في الدر، أو لأن(4/38)
وإن قال "ابتعته من الغائب" فهو خصمٌ.
وإن قال المدعي "سرق مني" وأقام البينة، وقال صاحب اليد "أودعنيه فلانٌ" وأقام البينة لم تندفع الخصومة، وإن قال المدعي "ابتعته من فلانٍ" وقال صاحب اليد "أودعنيه فلانٌ ذلك" سقطت الخصومة بغير بينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صورها خمس، اهـ. قيدنا بدعوى الملك لأنه لو كان دعواه عليه الغصب أو السرقة لا تندفع الخصومة؛ لأنه يصير خصما بدعوى الفعل عليه، لا بيده، بخلاف دعوى الملك، وتمامه في الهداية.
(وإن قال ابتعته من الغائب فهو خصم) ، لأنه لما زعم أن يده يد ملك اعترف بكونه خصما.
(وإن قال المدعى سرق) بالبناء للمجهول (منى) هذا الشيء (وأقام البينة) على دعواه (وقال صاحب اليد أودعنيه فلان وأقام البينة) على دعواه (لم تندفع الخصومة) قال في الهداية: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو استحسان، وقال محمد: تندفع؛ لأنه لم يدع الفعل عليه فصار كما إذا قال: غصب مني - على ما لم يسم فاعله - ولهما أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل لا محالة، والظاهر أنه هو الذي في يده، إلا أنه لم يعينه درءاً للحد عنه شفقة عليه وإقامة لحسبة الستر، فصار كما إذا قال "سرقت" بخلاف الغصب؛ لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه، اهـ. قال الإسبيجاني: والصحيح الاستحسان، وعليه اعتمد الأئمة المصححون، تصحيح.
(وإذا قال المدعي ابتعته من فلان) الغائب (وقال صاحب اليد أودعنيه فلان سقطت الخصومة) عن المدعى عليه (بغير بينة) لتصادقهما على أن الملك لغير(4/39)
واليمين بالله تعالى دون غيره، ويؤكد بذكر أوصافه، ولا يستحلف بالطلاق، ولا بالعتاق، ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، والمجوسي بالله الذي خلق النار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذي اليد؛ فلم تكن يده يد خصومة، إلا أن يقيم المدعي البينة أن فلاناً وكله بقبضه، لإثباته كونه أحق بإمساكه.
(واليمين) إنما هي (بالله تعالى دون غيره) لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر)
(ويؤكد) أي يغلظ اليمين (بذكر أوصافه) تعالى المرهبة، كقوله قل: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، وله أن يزيد على هذا أو ينقص، إلا أنه يجتنب العطف كيلا يتكرر اليمين، لأن المستحق عليه يمين واحدة، والاختيار فيه إلى القاضي، وقيل: لا يغلظ على المعروف بالصلاح، ويغلظ على غيره، وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير، كما في الهداية.
(ولا يستحلف بالطلاق، ولا بالعتاق) في ظاهر الرواية، قال قاضيخان: وبعضهم جوز ذلك في زماننا، والصحيح ظاهر الرواية، تصحيح. فلو حلف به فنكل لا يقضي عليه بالنكول؛ لنكوله عما هو منهي عنه شرعا.
(ولا يستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، والمجوسي بالله الذي خلق النار) فيغلظ على كل بمعتقده، فلو اكتفى بالله كفى كالمسلم، اختيار. قال في الهداية: هكذا ذكر محمد في الأصل، ويروى عن أبي حنيفة أنه لا يستحلف غير اليهودي والنصراني إلا بالله، وهو اختيار(4/40)
ولا يحلفون في بيوت عباداتهم.
ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمانٍ ولا بمكانٍ.
ومن ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألفٍ فجحد يستحلف بالله ما بينكما بيعٌ قائم فيه، ولا يستحلف بالله ما بعت، ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعض مشايخنا؛ لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيمها، وما ينبغي أن تعظم. بخلاف الكتابين؛ لأن كتب الله تعالى معظمة، والوثني لا يحلف إلا بالله تعالى؛ لأن الكفرة بأسرهم يعتقدون الله، قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} . اهـ.
(ولا يحلفون في بيوت عباداتهم) ، لكراهة دخولها، ولما فيه من إيهام تعظيمها.
(ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان) كيوم الجمعة بعد العصر (ولا بمكان) كبين الركن والمقام بمكة، وعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ لأن المقصود تعظيم المقسم به، وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجاب ذلك تكليف القاضي حضورها، وهو مدفوع، هداية.
(ومن ادعى أنه ابتاع) أي اشترى (من هذا) الحاضر (عبده بألف فجحده) المدعى عليه (استحلف بالله) تعالى (ما بينكما بيع قائم فيه) : أي في هذا العبد (ولا يستحلف بالله ما بعت) هذا العبد، لاحتمال أنه باع ثم فسخ أو أقال (ويستحلف) كذلك (من الغصب) بأن يقول له (بالله ما يستحق عليك(4/41)
رده، ولا يحلف بالله ما غصبت، وفي النكاح بالله ما بينكما نكاحٌ قائمٌ في الحال، وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائنٌ منك الساعة بما ذكرت، ولا يستحلف بالله ما طلقتها.
وإذا كانت دارٌ في يد رجلٍ ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة فلصاحب الجميع ثلاثة أرباعها ولصاحب النصف ربعها عند أبي حنيفة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رده، ولا يحلف بالله ما غصبت) ؛ لاحتمال هبته أو أداء ضمانه (و) كذلك في النكاح، بأن يقول له: (بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال) ؛ لاحتمال الطلاق البائن (وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت) أي بالوجه الذي ذكرته المدعية (ولا يستحلف بالله ما طلقتها) ، لاحتمال تجدد النكاح بعد الإبانة، فيحلف على الحاصل، وهو صورة إنكار المنكر؛ لأنه لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يحلف في الجميع على السبب إلا إذا عرض بما ذكر فيحلف على الحاصل، قال في الهداية: والحاصل هو الأصل عندهما، إذا كان سبباً يرتفع، وإن كان لا يرتفع فالتحليف على السبب بالإجماع، كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه، وتمامه فيها.
(وإذا كانت دار في يد رجل ادعاها) عليه (اثنان) فادعى (أحدهما جميعها) وادعى (الآخر نصفها وأقاما البينة) على ذلك (فلصاحب) دعوى (الجميع ثلاثة أرباعها، ولصاحب) دعوى (النصف ربعها عند أبي حنيفة)(4/42)
وقال أبو يوسف ومحمد: هي بينهما أثلاثاً، ولو كانت في أيديهما سلمت لصاحب الجميع: نصفها على وجه القضاء، ونصفها لا على وجه القضاء.
وإذا تنازعا في دابةٍ وأقام كل واحدٍ منهما بينةً أنها نتجت عنده وذكرا تاريخاً وسن الدابة يوافق التاريخين فهو أولى، وإن أشكل ذلك كانت بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعتباراً لطريق المنازعة، فإن صاحب النصف لا ينازع الآخر في النصف، فسلم له، واستوت منازعتهما في النصف الآخر؛ فيتنصف بينهما (وقالا: هي بينهما أثلاثا) اعتباراً لطريق العول؛ لأن في المسألة كلا ونصفاً، فالمسألة من اثنين، وتعول إلى ثلاثة؛ فتقسم بينهما أثلاثاً، قال في التصحيح: واختار قوله البرهاني والنسفي وغيرهما (ولو كانت) الدار (في أيديهما) أي المدعيين والمسألة بحالها (سلمت) الدار كلها (لصاحب) دعوى (الجميع) ولكن يسلم له (نصفها على وجه القضاء، ونصفها) الآخر (لا على وجه القضاء) ، لأنه خارج في النصف، فيقضي ببينته، والنصف الذي في يده لا يدعيه صاحبه، لأن مدعاه النصف، وهو في يده سالم له، ولو لم تنصرف إليه دعواه كان ظالما في إمساكه، ولا قضاء بدون الدعوى، فيترك في يده، هداية.
(وإذا تنازعا في دابة) في يدهما، أو في يد أحدهما، أو غيرهما (وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت) بالبناء للمجهول (عنده وذكرا تاريخاً) مختلفاً (وسن الدابة يوافق أحد التاريخين فهو) أي صاحب التاريخ الموافق لسنها (أولى) ، لأن الظاهر يشهد بصدق بينته فترجح (وإن أشكل ذلك) أي سنها (كانت بينهما) إن كانت في أيديهما، أو في يد غيرهما، وإن في يد أحدهما قضى(4/43)
وإذا تنازعا دابةً أحدهما راكبها والآخر متعلقٌ بلجامها فالراكب أولى، وكذلك إذا تنازعا بعيراً وعليه حملٌ لأحدهما فصاحب الحمل أولى، وكذلك إذا تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر متعلقٌ بكمه فاللابس أولى.
وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمناً وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له بها، لأنه سقط التوقيت وصارا كأنهما لم يذكرا تاريخا، وإن خالف سن الدابة الوقتين بطلت البينتان، كذا ذكره الحاكم الشهيد، لأنه ظهر كذب الفريقين، فيترك في يد من كانت في يده، هداية. قيد بذكر التاريخ لأنه لو لم يؤرخا قضى بها لذي اليد، ولهما إن في أيديهما أو في يد ثالث.
(وإذا تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها، فالراكب أولى) ؛ لأن تصرفه أظهر، فإنه يختص بالملك، وكذا إذا كان أحدهما راكبا في السرج، والآخر رديفه؛ فالراكب في السرج أولى، لما ذكرنا، بخلاف ما إذا كانا راكبين حيث يكون بينهما، لاستوائهما في التصرف، هداية.
(وكذلك) الحكم (إذا تنازعا بعيراً وعليه حمل لأحدهما) والآخر قائد له (فصاحب الحمل أولى) من القائد؛ لأنه هو المتصرف.
(وإذا تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر متعلق بكمه فاللابس أولى) ، لأنه أظهرهما تصرفا.
(وإذا اختلف المتبايعان في البيع) أي في ثمن المبيع (فادعى أحدهما) أي المشتري (ثمنا وادعى البائع أكثر منه، أو) في قدره، بأن (اعترف البائع بقدر(4/44)
من المبيع وادعى المشتري أكثر منه وأقام أحدهما البينة قضى له بها وإن أقام كل واحدٍ منهما البينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى، وإن لم تكن لكل واحدٍ منهما بينةٌ قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع: إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع، فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحدٍ منهما على دعوى الآخر: يبتدئ بيمين المشتري،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من المبيع وادعى المشتري أكثر منه) أي: بأكثر من القدر الذي اعترف به البائع (وأقام أحدهما) أي: البائع والمشتري (البينة) على دعواه (قضى له بها) ، لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى، والبينة أقوى منها (وإن أقام كل واحد منهما البينة) على دعواه (كانت البينة المثبتة للزيادة أولى) ، لأنها أكثر بياناً وإثباتاً، فبينة البائع أولى لو الاختلاف في الثمن، وبينة المشتري لو في قدر المبيع، ولو اختلفا في الثمن والمبيع جميعاً فبينة البائع أولى في الثمن، وبينة المشتري في المبيع، نظراً إلى زيادة الإثبات (فإن لم يكن لكل واحد منهما بينة) تثبت مدعاه (قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع) بينكما (وقيل للبائع: إما أن تسلم ما) أي القدر الذي ادعاه المشتري من البيع وإلا فسخنا البيع) ؛ لأن المقصود قطع المنازعة، وهذا جهة فيه؛ لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ، فإذا علما به يتراضيان (فإن لم يتراضيا) والمبيع قائم (استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر) ؛ لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه (يبتدئ) الحاكم (بيمين المشتري) قال في الهداية: وهذا قول محمد وأبي يوسف آخراً، وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو(4/45)
فإذا حلفا فسخ القاضي البيع بينهما، وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر.
وإن اختلفا في الأجل أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن فلا تحالف بينهما، والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح، اهـ. وقال الإسبيجاني: يبدأ بيمين المشتري، وفي رواية بيمين البائع، وهكذا ذكر أبو الحسن في جامعه، والصحيح الرواية الأولى، وعليه مشى الأئمة المصححون، تصحيح (فإذا حلفا فسخ القاضي البيع بينهما) ؛ لأنه إذا تحالفا بقي العقد بلا بدل معين فيفسد، قال في الهداية: وهذا يدل على أنه لا ينفسخ بنفس التحالف؛ لأنه لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما، فيبقى بيع مجهول فيفسخه القاضي قطعاً للمنازعة، أو يقال: إذا لم يثبت البدل يبقى بيعاً بلا بدل وهو فاسد، ولابد من الفسخ في فاسد البيع، اهـ (وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر) ، لأنه جعل باذلا فلم تبق دعواه معارضة لدعوى الاخر؛ فلزمه القول بثبوته، هداية.
(وإن اختلفا في الأجل، أو في شرط الخيار، أو في استيفاء بعض الثمن - فلا تحالف بينهما) ؛ لأن هذا اختلاف في غير المعقود عليه والمعقود به، فأشبه الاختلاف في الحط والإبراء، وهذا لأن بانعدامه لا يختل ما به قوام العقد، بخلاف الاختلاف في وصف الثمن وجنسه حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر في جريان التحالف، لأن ذلك يرجع إلى نفس الثمن، فإن الثمن دين، وهو يعرف بالوصف، ولا كذلك الأجل؛ لأنه ليس بوصف، ألا ترى أن الثمن موجود بعد مضيه، هداية (والقول قول من ينكر الخيار والأجل) والاستيفاء (مع يمينه) ؛ لأن القول قول المنكر(4/46)
وإن هلك المبيع ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وجعل القول قول المشتري. وقال محمدٌ: يتحالفان، ويفسخ البيع على قيمة الهالك.
وإن هلك أحد العبدين ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا عند أبي حنيفة إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك، وقال أبو يوسف: يتحالفان ويفسخ البيع في الحي وقيمة الهالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن هلك المبيع) أي بعد القبض قبل نقد الثمن، وكذا إذا خرج من ملكه أو صار بحال لا يقدر على رده بالعيب (ثم اختلفا) في ثمنه (لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف) ؛ لأن التحالف فيما إذا كانت السلعة قائمة عرف بالنص، والتحالف فيه يفضي إلى الفسخ، ولا كذلك بعد هلاكها، لارتفاع العقد؛ فلم يكن بمعناه (وجعل القول قول المشتري) بيمينه؛ لأنه منكرٌ لزيادة الثمن (وقال محمد: يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك) ؛ لأنه اختلاف في ثمن عقد قائم بينهما، فأشبه حال بقاء السلعة، قال جمال الإسلام: والصحيح قولهما، وعليه مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما كما هو الرسم، تصحيح.
(وإن) هلك بعض المبيع، كأن (هلك أحد العبدين) أو الثوبين، أو نحو ذلك (ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا عند أبي حنيفة) ؛ لما مر من أن التحالف ثبت على خلاف القياس حال قيام السلعة، وهي اسم لجميع أجزائها، فلا يبقى بفوات بعضها (إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك) أصلا، لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابله القائم ويخرج الهالك عن العقد؛ فيتحالفان. (وقال أبو يوسف: يتحالفان ويفسخ البيع في الحي وقيمة الهالك)(4/47)
وهو قول محمدٍ.
وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت "تزوجتني بألفين" فأيهما أقام البينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة، وإن لم تكن لهما بينةٌ تحالفا عند أبي حنيفة ولم يفسخ النكاح، ولكن يحكم مهر المثل، فإن كان مثل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن امتناع التحالف للهلاك، فيتقدر بقدره (وهو قول محمد) .
قال الإسبيجاني: هكذا ذكر هنا، وذكر في الجامع الصغير: أن القول قول المشتري في حصة الهالك، ويتحالفان على الباقي عند أبي يوسف، وعند محمد يتحالفان عليهما؛ ويرد القائم وقيمة الهالك، والصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(وإن اختلف الزوجان في) قدر (المهر) أو في جنسه (فادعى الزوج أنه تزوجها بألف، وقالت) المرأة (تزوجتني بألفين) أو مائة مثقال (فأيهما أقام البينة قبلت بينته) ، لأنه نور دعواه بالحجة (وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة) لأنها تثبت الزيادة. قال في الهداية: معناه إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته، اهـ. أما إذا كان مهر مثلها مثل ما ادعته أو أكثر كانت بينة الزوج أولى؛ لأنها تثبت الحط، وبينتها لا تثبت شيئاً، لأن ما ادعته ثابت لها بشهادة المثل، كما في الكفاية (وإن لم تكن لهما بينة تحالفا عند أبي حنيفة، ولم يفسخ النكاح) ؛ لأن أثر التحالف في انعدام التسمية، وهو لا يخل بصحة النكاح؛ لأن المهر تابع فيه، بخلاف البيع؛ لأن عدم التسمية يفسده على ما مر فيفسخ (ولكن) حيث انعدمت التسمية (يحكم مهر المثل، فإن كان) مهر مثلها (مثل(4/48)
ما اعترف به الزوج أو أقل قضى بما قال الزوج، وإن كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر قضى بما ادعته المرأة، وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لها بمهر المثل.
وإذا اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا، وإن اختلفا بعد الاستيفاء لم يتحالفا وكان القول قول المستأجر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما اعترف به الزوج أو أقل، قضى بما قال الزوج) ؛ لأن الظاهر شاهد له. (وإن كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر قضى بما ادعته المرأة) ؛ لأن الظاهر شاهد لها (وإن كان مهر المثل) بينهما بأن كان (أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضي لها بمهر المثل) ؛ لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ولا الحط عنه.
(وإذا اختلفا في الإجارة) في البدل أو المبدل (قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا) ، لأنه عقد معاوضة قابل للفسخ، فكان بمنزلة البيع، وبدأ بيمين المستأجر لو اختلفا في البدل، والمؤجر لو في المدة، وأن بر هنا فالبينة للمؤجر في البدل وللمستأجر في المدة كما في الدر (وإن اختلفا بعد الاستيفاء) لجميع المعقود عليه (لم يتحالفا، وكان القول قول المستأجر) قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ظاهر، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما، وكذا على أصل محمد، لأن الهلاك إنما يمنع التحالف عنده في البيع، لما أنه له قيمة تقوم مقامه فيتحالفان عليها، ولو جرى التحالف ههنا وفسخ العقد فلا قيمة؛ لأن المنافع لا تتقوم(4/49)
وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر.
وإذا اختلف المولى والمكاتب في مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يتحالفان وتفسخ الكتابة.
وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال فهو للرجل، وما يصلح للنساء فهو للمرأة، وما يصلح لهما فهو للرجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بنفسها، بل بالعقد، وتبين حينئذ أنه لا عقد، وإذا امتنع التحالف فالقول للمستأجر مع يمينه؛ لأنه هو المستحق عليه، اهـ.
(يتبع ... )
(وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي) اتفاقا؛ لأن العقد ينعقد ساعة فساعة؛ فيصير في كل جزء من المنفعة كأنه ابتدأ العقد عليها، بخلاف البيع؛ لأن العقد فيه دفعة واحدة، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل، هداية (وكان القول في الماضي قول المستأجر) ؛ لأنه منكر.
(وإذا اختلف المولى والمكاتب في) قدر (مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة) لأن التحالف ورد في البيع على خلاف القياس، والكتابة ليست في معنى البيع؛ لأنه ليس بلازم في جانب المكاتب (وقالا: يتحالفان وتفسخ الكتابة) ؛ لأنه عقد معاوضة يقبل الفسخ، فأشبه البيع معنى، قال في التصحيح: وقوله هو المعول عليه عند النسفي، وهو أصح الأقاويل والاختيارات عند المحبوبي.
(وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت) - وهو ما يكون فيه، ولو ذهبا أو فضة - (فما يصلح للرجال) فقط كالعمامة والقلنسوة (فهو للرجل، وما يصلح للنساء) فقط كالخمار والملحفة (فهو للمرأة) بشهادة الظاهر، إلا إذا كان كل منهما يفعل أو يبيع ما يصلح للآخر، فإنه بمنزلة الصالح لهما؛ لتعارض الظاهرين، (وما يصلح لهما) كالآنية والنقود (فهو للرجل) ؛ لأن المرأة وما في يدها في يد(4/50)
وإذا مات أحدهما واختلف ورثته مع الآخر، فما يصلح للرجال والنساء فهو للباقي منهما، وقال أبو يوسف: يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها والباقي للزوج.
وإذا باع الرجل الجارية فجاءت بولدٍ فادعاه البائع، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ من يوم البيع فهو ابن البائع وأمه أم ولدٍ له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزوج، والقول في الدعاوى لصاحب اليد، بخلاف ما يختص بها، لأنه يعارضه ظاهر أقوى منه، ولا فرق بينهما إذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أو بعدما وقعت الفرقة، هداية.
(فإن مات أحدهما واختلف ورثته) أي ورثة أحد الزوجين الميت (مع) الزوج (الآخر) الحي (فما يصلح للرجال والنساء فهو للباقي) أي الحي (منهما) سواء كان الرجل أو المرأة، لأن اليد للحي دون الميت، وهذا قول أبي حنيفة، (وقال أبو يوسف: يدفع إلى المرأة) سواء كانت حية أو ميتة (ما) أي مقدار (يجهز به مثلها، والباقي) بعده يكون (للزوج) مع يمينه؛ لأن الظاهر أن المرأة تأتي بالجهاز، وهذا أقوى، فيبطل به ظاهر الزوج، ثم في الباقي لا معارض لظاهره فيعتبر، والطلاق والموت سواء؛ لقيام الورثة مقام مورثهم، وقال محمد: ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما يكون لهما فهو للرجل أو لورثته، والطلاق والموت سواء، قال الإسبيجاني: والقول الصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده النسفي والمحبوبي وغيرهما، تصحيح.
(وإذا باع الرجل جارية فجاءت بولد فادعاه البائع، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم البيع فهو ابن البائع، وأمه أم ولد له) استحساناً؛ لأن اتصال العلوق في ملكه شهادة ظاهرة على كونه منه، ومبنى النسب على الخفاء فيعفى فيه التناقض، وإذا صحت الدعوى فاستندت إلى وقت العلوق تبين أنه باع أم(4/51)
فيفسخ البيع فيه ويرد الثمن، وإن ادعاه المشتري مع دعوى البائع أو بعده فدعوى البائع أولى، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهرٍ لم تقبل دعوى البائع فيه، إلا أن يصدقه المشتري.
وإن مات الولد فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ لم يثبت الاستيلاد في الأم، وإن ماتت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولده (فيفسخ البيع فيه) ، لأن بيع أم الولد لا يجوز (ويرد) البائع (الثمن) الذي قبضه، لأنه قبضه بغير حق (وإن ادعى المشتري) الولد أيضاً، سواء كانت دعواه (مع دعوى البائع أو بعده فدعوى البائع أولى) ، لأنها تستند إلى وقت العلوق، فكانت أسبق، قال القهستاني: وفيه إشعار بأنه لو ادعاه المشتري قبل دعوى البائع ثبت نسبه منه وحمل على النكاح، اهـ.
(وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر) ولدون الحولين (لم تقبل دعوى البائع فيه) ؛ لاحتمال حدوثه بعد البيع (إلا أن يصدقه المشتري) فيثبت النسب ويبطل البيع، والولد حرٌ، والأم أو ولد له، كما في المسألة الأولى؛ لتصادقهما واحتمال العلوق في الملك، هداية. وفي القهستاني: وفيه إشارة إلى أنه لو ادعياه اعتبر دعوى المشتري؛ لقيام الملك المحتمل للعلوق كما في الاختيار، اهـ.
وإن جاءت به لأكثر من سنتين لم تصح دعوى البائع إلا إذا صدقه المشتري، فيثبت النسب، ويحمل على الاستيلاد بالنكاح، ولا يبطل البيع، وتمامه في الهداية.
(وإن مات الولد فادعاه البائع وقد) كانت (جاءت به لأقل من ستة أشهر) من وقت البيع (لم يثبت الاستيلاد في الأم) ، لأنها تابعة للولد، ولم يثبت نسبه بعد الموت، لعدم حاجته إلى ذلك، فلا يتبعه استيلاد الأم (وإن ماتت(4/52)
الأم فادعى البائع الابن، وقد جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ يثبت النسب منه في الولد، وأخذه البائع، ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يرد حصة الولد، ولا يرد حصة الأم.
ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه؛ والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأم) وبقي الولد (فادعاه البائع، وقد) كانت (جاءت به لأقل من ستة أشهر) مذ بيعت (يثبت النسب منه في الولد، وأخذه البائع) ؛ لأن الولد هو الأصل في النسب، فلا يضره فوات التبع (ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة) ؛ لأنه تبين أنه باع أم ولده، وماليتها غير متقومة عنده في العقد والغصب؛ فلا يضمنها المشتري (وقال أبو يوسف ومحمد: يرد حصة الولد، ولا يرد حصة الأم) بأن يقسم الثمن على الأم وقيمة الولد، فما أصاب الولد رده البائع، وما أصاب الأم سقط عنه، لأن الثمن كان مقابلا بهما، وماليتها متقومة عندهما، فيضمنها المشتري. قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى الأئمة كالنسفي والمحبوبي والموصلي وصدر الشريعة.
(ومن ادعى نسب أحد التوأمين) وهما ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر (ثبت نسبهما منه) ؛ لأنهما من ماء واحد، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر؛ إذ لا يتصور علوق الثاني حادثا؛ لأنه لأجل أقل من ستة أشهر، هداية(4/53)
كتاب الشهادات.
- الشهادة: فرضٌ يلزم الشهود أداؤها، ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي.
والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار، والستر أفضل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب الشهادات
لا تخفى مناسبة الشهادة للدعوى وتأخيرها عنها.
(الشهادة) لغة: خبر قاطع، وشرعا: أخبار صدق لإثبات حق، كما في الفتح. وشرطها: العقل الكامل، والضبط والولاية وركنها: لفظ "أشهد" وحكمها: وجوب الحكم على القاضي بموجبها إذا استوفت شرائطها. وأداؤها (فرض) على من علمها، بحيث (يلزم الشهود أداؤها، ولا يسعهم كتمانها) ، لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} ، وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} وهذا (إذا طالبهم المدعي) بها لأنها حقه، فتتوقف على طلبه كسائر الحقوق، إلا إذا لم يعلم بها ذو الحق وخاف فوته لزمه أن يشهد بلا طلب كما في الفتح، ويجب الأداء بلا طلب لو الشهادة في حقوق الله تعالى، وهي كثيرة عد منها في الأشباه أربعة عشر، قال: ومتى أخر شاهد الحسبة شهادته بلا عذر فسق فترد شهادته، اهـ. وهذا كله في غير الحدود (و) أما (الشهادة في الحدود) فإنه (يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار) ، لأنه بين حسبتين: إقامة الحد، والتوقي عن الهتك (و) لكن (الستر أفضل) لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده: (لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)(4/54)
إلا أنه يجب أن يشهد بالمال في السرقة فيقول "أخذ" ولا يقول "سرق".
والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا، يعتبر فيها أربعة من الرجال، ولا تقبل فيها شهادة النساء، ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص، تقبل فيها شهادة رجلين، ولا تقبل فيها شهادة النساء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال عليه الصلاة والسلام: (من ستر على مسلم ستر الله تعالى عليه في الدنيا والآخرة) ، وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم دلالة ظاهرة على أفضلية الستر، هداية (إلا أنه يجب) عليه (أن يشهد بالمال في السرقة، فيقول: أخذ) المال، إحياء لحق المسروق منه (ولا يقول: سرق) صوناً ليد السارق عن القطع، فيكون جمعاً بين الستر والإظهار.
(والشهادة على) أربع (مراتب) :
الأولى: (منها الشهادة في الزنا، يعتبر فيها أربعة من الرجال) ، لقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} ، وقوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} (ولا تقبل فيها شهادة النساء) ؛ لحديث الزهري: مضت السنة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص، هداية.
(و) الثانية: (منها الشهادة ببقية الحدود والقصاص، تقبل فيها شهادة رجلين) لقوله تعالى: {فاستشهدوا شهيدين من رجالكم} (ولا تقبل فيها) أيضا (شهادة النساء) ، كما مر](4/55)
وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجلٍ وامرأتين، سواءٌ كان الحق مالا أو غير مالٍ مثل النكاح والطلاق والوكالة والوصية.
وتقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضعٍ لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأةٍ واحدةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(و) الثالثة منها: (ما سوى ذلك) المذكور (من) بقية (الحقوق، تقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء كان الحق) المشهود به (مالا أو غير مال) وذلك (مثل النكاح والطلاق والوكالة والوصية) ؛ لأن الأصل فيها القبول؛ لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة - وهو المشاهدة والضبط والأداء - إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي؛ ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها، فلم يبق بعد ذلك إلا الشهادة؛ فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات، وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كيلا يكثر خروجهن، هداية.
(و) الرابعة: الشهادة على مالا يطلع عليه الرجال، كما عبر بقوله: (وتقبل في الولادة والبكارة والعيوب) التي (بالنساء) إذا كانت (في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة) ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه)
والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس فيتناول الأقل، ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر؛ لأن نظر الجنس أخف، فكذا يسقط اعتبار العدد، إلا أن المثنى والثلاث أحوط؛ لما فيه من معنى الإلزام كما في الهداية، ثم قال: وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة في حق الإرث؛ لأنه مما يطلع عليه الرجال، إلا في حق الصلاة؛ لأنه من أمور الدين، وعنده تقبل في حق الإرث أيضا؛ لأنه صوت عند الولادة، ولا يحضرها الرجال عادة، فصار كشهادتهن على نفس الولادة، اهـ. ورجحه في الفتح(4/56)
ولابد في ذلك كله من العدالة ولفظ الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظ الشهادة وقال أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته.
وقال أبو حنيفة: يقتصر الحاكم على ظاهر عدالة المسلم، إلا في الحدود والقصاص، فإنه يسأل عن الشهود، وإن طعن الخصم فيهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولابد في ذلك كله من العدالة) ، لقوله تعالى: {فأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} ولقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} ولأن العدالة هي المعينة للصدق، لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه، وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان وجيهاً في الناس ذا مروءة تقبل شهادته؛ لأنه لا يستأجر لوجاهته، ويمتنع عن الكذب بمروءته، والأول أصح إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق يصح، والمسألة معروفة، هداية (ولفظ الشهادة) لأن النصوص نطقت باشتراطها؛ إذ الأمر بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة تأكيد فإن قوله "أشهد" من ألفاظ اليمين، فكان الامتناع عن الكذب بهذا اللفظ أشد (فإن لم يذكر الشاهد لفظ الشهادة، وقال) عوضاً عنها (أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته) ؛ لما قلنا، قال في الهداية: وقوله "في ذلك كله" إشارة إلى جميع ما تقدم، حتى تشترط العدالة ولفظ الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها، هو الصحيح؛ لأنه شهادة، لما فيه من معنى الإلزام، حتى اختص بمجلس القضاء، ويشترط فيه الحرية والإسلام، اهـ.
(وقال أبو حنيفة: يقتصر الحاكم على ظاهر عدالة) الشاهد (المسلم) ولا يسأل عنه، إلا إذا طعن فيه الخصم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض، إلا محدوداً في قذف" ولأن الظاهر الانزجار عما هو محرم في دينه، وبالظاهر كفاية، إذ لا وصول إلى القطع، هداية (إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل) فيها (عن الشهود) وإن لم يطعن الخصم؛ لأنه يحتال لإسقاطها فيشترط الاستقصاء فيها، لأن الشبهة فيها دارثة (وإن طعن الخصم فيهم) أي الشهود(4/57)
سأل عنهم، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: لابد أن يسأل عنهم في السر والعلانية وما يتحمله الشاهد على ضربين:
أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه، مثل البيع والإقرار والغصب والقتل، وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(سأل) القاضي (عنهم) ، لأنه تقابل الظاهران، فيسأل طلباً للترجيح، وهذا حيبث لم يعلم القاضي حالهم، أما إذا علمهم بجرح أو عدالة فلا يسأل عنهم، وتمامه في الملتقى (وقال أبو يوسف ومحمد: لابد) للقاضي من (أن يسأل عنهم في السر والعلانية) في سائر الحقوق، طعن الخصم فيهم أو لا، لأن الحكم إنما يجب بشهادة العدل، فوجب البحث عن العدالة، قال في الهداية: وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، والفتوى على قولهما في هذا الزمان، ومثله في الجواهر وشرح الإسبيجاني وشرح الزاهدي والينابيع، وقال الصدر الشهيد في الكبرى: والفتوى اليوم على قولهما، ومثله في شرح المنظومة للسديدي والحقائق وقاضيخان ومختار النوازل والاختيار والبرهاني وصدر الشريعة، وتمامه في التصحيح، وفي الهداية: ثم قيل: لابد أن يقول المعدل "هو عدل جائز الشهادة" لأن العبد قد يعدل، وقيل: يكتفي بقوله "هو عدل"، لأن الحرية ثابتة بأصل الدار، وهذا أصح.
(وما يتحمله الشاهد على ضربين) :
(أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه) وذلك (مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم) ونحو ذلك مما يسمع أو يرى (فإذا سمع ذلك الشاهد) وهو مما يعرف بالسماع، مثل البيع والإقرار (أو رآه) فعله، وهو مما يعرف بالرؤية، كالغصب والقتل(4/58)
وسعه أن يشهد به، وإن لم يشهد عليه، ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني.
ومنه ما لا يثبت حكمه بنفسه، مثل الشهادة على الشهادة، فإن سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجز أن يشهد على شهادته إلا أن يشهده، وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع السامع أن يشهد.
ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يذكر الشهادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وسعه أن يشهد به، وإن لم يشهد عليه) أي يتحمل تلك الشهادة، لأنه علم ما هو الموجب بنفسه وهو الركن في الأداء (ويقول: أشهد أنه باع، ولا يقول: أشهدني) ؛ لأنه كذب، قال في الهداية: ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر القاضي لا يقبله؛ لأن النغمة تشبه النغمة، إلا إذا كان دخل البيت وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس للبيت مسلك غيره فسمع إقرار الداخل ولا يراه، لأنه حصل العلم في هذه الصورة، اهـ.
(و) الثاني (منه ما لا يثبت حكمه بنفسه) وذلك (مثل الشهادة على الشهادة) لأنها غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء، والنقل لابد له من تحمل؛ ليصير الفرع كالوكيل (فإذا سمع شاهداً يشهد بشيء لم يجز أن يشهد على شهادته) لعدم الإنابة (إلا أن يشهده) على شهادته ويأمره بأدائها ليكون نائباً عنه (وكذلك لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته) ويأمره بأدائها (لم يسع السامع) له (أن يشهد) ، لأنه لم يحمله، وإنما حمل غيره.
(ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يذكر الشهادة) ، لأن الخط يشبه الخط، فلم يحصل العلم، وهذا قول الإمام، وعليه مشى الأئمة الملتزمون للتصحيح، اهـ، وفي الدر: وجوز له لو في حوزه، وبه نأخذ. بحر عن الملتقى اه(4/59)
ولا تقبل شهادة الأعمى، ولا المملوك، ولا المحدود في قذف وإن تاب، ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده.
ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا تقبل شهادة الأعمى) ؛ لأن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، والنغمة تشبه النغمة، ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن قيام الأهلية شرط وقت القضاء، لصيرورتها حجة عنده، وصار كما إذا خرس أو جن أو فسق، بخلاف ما إذا مات أو غاب؛ لأن الأهلية بالموت انتهت وبالغيبة ما بطلت كما في الهداية (ولا المملوك) لمالكه وغيره؛ لأن الشهادة من باب الولاية، وهو لا يلي نفسه، فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره (ولا المحدود في قذف وإن تاب) ؛ لأن رد شهادته من تمام حده بالنص، والاستثناء منصرف لما يليه، وهو: {وأولئك هم الفاسقون} . قال في الهداية: ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته، لأن للكافر شهادة، فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق، لأنه لا شهادة للعبد أصلا، فتمام حده برد شهادته بعد العتق، اهـ.
(ولا شهادة الوالد) وإن علا (لولده وولد ولده) وإن سفل (ولا شهادة الولد) وإن سفل (لأبويه وأجداده) وأن علوا؛ لأن المنافع بين الآباء والأولاد متصلة ولذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم، فتكون شهادة لنفسه من وجه، ولتمكن التهمة.
(ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر) ؛ لأن الانتفاع متصل عادة،(4/60)
ولا شهادة المولى لعبده ولا لمكاتبه، ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما.
وتقبل شهادة الرجل لأخيه وعمه.
ولا تقبل شهادة مخنث، ولا نائحة، ولا مغنيةٍ، ولا مدمن الشرب على اللهو، ولا من يلعب بالطيور
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو المقصود، فيصير شاهداً لنفسه من وجه، ولوجود التهمة (ولا شهادة المولى لعبده) لأنه شهادة لنفسه من كل وجه إذا لم يكن على العبد دين، أو من وجه إذا كان عليه دين، لأن الحال موقوف مراعي، هداية (ولا لمكاتبه) لما قلنا (ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما) ، لأنها شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة.
(وتقبل شهادة الرجل لأخيه وعمه) ، لانعدام التهمة، فإن الأملاك ومنافعها متباينة، ولا بسوطة لبعضهم في مال بعض.
(ولا تقبل شهادة مخنث) بالفتح - من يفعل الردئ ويؤتى كالنساء، لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة كما في الهداية،
(ولا) شهادة (نائحة) في مصيبة غيرها بأجر، درر وفتح (ولا مغنية) ولو لنفسها لحرمة رفع صوتها، خصوصاً مع الغناء (ولا مدمن الشرب) لغير الخمر من الأشربة (على اللهو) لحرمة ذلك. قيد بالإدمان ليكون ذلك ظاهراً منه، لأنه لا يخرج عن العدالة إلا إذا كان يظهر منه ذلك، وقيد باللهو لأنه لو شرب للتداوي لا تسقط عدالته لشبهة الاختلاف كما في صدر الشريعة، وقيدنا بغير الخمر لأن شرب الخمر يسقط العدالة ولو قطرة ولو بغير لهو (ولا) شهادة (من يلعب بالطيور) ، لأنه يورث غفلة،(4/61)
ولا من يغني للناس، ولا من يأتي باباً من الكبائر التي يتعلق بها الحد، ولا من يدخل الحمام بغير إزار؛ أو يأكل الربا، ولا المقامر بالنرد والشطرنج، ولا من يفعل الأفعال المستخفة كالبول على الطريق، والأكل على الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعود سطحه ليطير طيره، وفي بعض النسخ "ولا من يلعب بالطنبور" وهو المغني، هداية. (ولا من يغني للناس) ؛ لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة، هداية. وأما من يغني لنفسه لدفع وحشة فلا بأس به عند العامة، عناية، وصححه العيني وغيره (ولا من يأتي باباً من الكبائر التي يتعلق بها الحد) كالزنا والسرقة ونحوهما؛ لأنه يفسق (ولا من يدخل الحمام بغير إزار) ؛ لأن كشف العورة حرام إذا رآه غيره (و) لا (من يأكل الربا) قال في الهداية: وشرط في الأصل أن يكون مشهوراً به؛ لأن الإنسان قلما ينجو من مباشرة العقود الفاسدة، وكل ذلك رباً. (و) لا (المقامر بالنرد) ويقال: النردشير، ويعرف الآن بالزهر (والشطرنج) ؛ لأن كل ذلك من الكبائر. قال في صدر الشريعة: قيد المقامرة بالنرد وقع اتفاقاً، وفي الذخيرة: من يلعب بالنرد فهو مردود الشهادة على كل حال، اهـ. وفي القهستاني: لاعب النرد بلا قمار لم تقبل شهادته بلا خلاف، بخلاف لاعب الشطرنج؛ فإنه يقبل إلا إذا وجد واحد من ثلاثة: أي المقامرة، وفوت الصلاة، وبإكثار الحلف عليه بالكذب، اهـ؛ وزاد في الإشباه: أن يلعب به على الطريق؛ أو يذكر عليه فسقا.
(ولا) تقبل أيضاً شهادة (من يفعل الأفعال المستخفة) مما يخل بالمروءة (كالبول على الطريق، والأكل على الطريق) ؛ لأنه تارك للمروءة، وإذا كان(4/62)
ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف، وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية، وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعضٍ وإن اختلفت مللهم، ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم، هداية. قال في الفتح: ومنه كشف عورته ليستنجي من جانب البركة والناس حضور؛ وقد كثر في زماننا، اهـ.
(ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف) ؛ لظهور فسقه، بخلاف من يخفيه، لأنه فاسق مستور، عيني. قال في المنح: وإنما قيدنا بالسلف تبعاً لكلامهم. وإلا فالأولى أن يقال سب مسلم لسقوط العدالة بسب المسلم وإن لم يكن من السلف، كما في السراج والنهاية، اهـ.
(وتقبل شهادة أهل الأهواء) : أي أصحاب بدع لا تكفر كجبر وقدر ورفض وخروج وتشبيه وتعطيل، وكل فرقة من هذه الفرق الستة اثنتا عشرة فرقة (إلا الخطابية) فرقة من الروافض يرون الشهادة لشيعتهم ولكل من حلف أنه محق. فردهم لا لبدعتهم بل لتهمة الكذب، ولم يبق لمذهبهم ذكر، بحر (وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض) إذا كانوا عدولا في دينهم، جوهرة؛ لأنهم من أهل الولاية على أنفسهم وأولادهم الصغار، فيكونون من أهل الشهادة على جنسهم (وإن اختلفت مللهم) كاليهود والنصارى، قال في الهداية: لأن ملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر، فلا يحملهم الغيظ على التقول، اهـ. (ولا تقبل شهادة الحربي) المستأمن (على الذمي) ؛ لأنه لا ولاية له عليه، لأن الذمي من أهل ديارنا، وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي؛ وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا أهل دار واحدة، وتمامه في الهداية(4/63)
وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل ممن يحتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصيةٍ.
وتقبل شهادة الأقلف، والخصي، وولد الزنا، وشهادة الخنثى جائزةٌ.
وإذا وافقت الشهادة الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات) يعني الصغائر، جوهرة (والرجل ممن يجتنب الكبائر) ويتباعد عنها (قبلت شهادته) قال في الجوهرة: هذا هو العدالة المعتبرة؛ إذ لابد من توقي الكبائر كلها، وبعد توقيها يعتبر الغالب: فمن كثرت معاصيه أثر ذلك في شهادته. ومن ندرت منه المعصية قبلت شهادته؛ لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد باب الشهادة، وهو مفتوح إحياء للحقوق. اهـ. وفي الهداية والمجتبى ومختارات النوازل: هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة (وإن ألم بمعصية) ؛ لأن كل واحد من سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يخلو من ارتكاب خطيئة، فلو وقفت الشهادة على من لا ذنب له أصلا لتعذر وجوده أصلا، فاعتبر الأغلب، وحاصله: أن من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة سقطت عدالته، كما في الجوهرة.
(وتقبل شهادة الأقلف) ؛ لأنه لا يخل بالعدالة؛ إلا إذا تركه استخفافاً بالدين؛ لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا، هداية (والخصي) ؛ لأنه قطع عضو منه ظلماً، فصار كما إذا قطعت يده (وولد الزنا) إذا كان عدلا؛ لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد، (وشهادة الخنثى جائزة) ؛ لأنه رجل أو امرأة، وشهادة الجنسين مقبولة، إلا أنه كأنثى.
(وإذا وافقت الشهادة الدعوى) لفظاً ومعنى، أو معنى فقط (قبلت) لذلك الشهادة (وإن خالفتها) : أي خالفت الشهادة الدعوى لفظاً ومعنى (لم تقبل) تلك الشهادة؛ لأن تقدم الدعوى في حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها(4/64)
ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة، فإن شهد أحدهما بألفٍ والآخر بألفين لم تقبل الشهادة، وإن شهد أحدهما بألفٍ والآخر بألف وخمسمائةٍ والمدعي يدعي ألفاً وخمسمائةٍ قبلت شهادتهما بألفٍ. وإذا شهد أحدهما بألفٍ وقال: قضاه منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وانعدمت فيما يخالفها، هداية (ويعتبر) : أي يشترط (اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى) جميعاً، بطريق الوضع لا التضمن (عند أبي حنيفة) وعندهما يكتفي بالموافقة المعنوية (فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين) والمدعي يدعي الألفين (لم تقبل الشهادة) عنده، لاختلافهما لفظاً، وذلك يدل على اختلاف المعنى، لأنه يستفاد باللفظ وذلك لأن الألف لا يعبر به عن الألفين، بل هما جملتان متباينتان، فصار كما إذا اختلف جنس المال، وعندهما تقبل على الألف لأنهما اتفقا على الأصل، وتفرد أحدهما بالزيادة، فيثبت ما اجتمعا عليه فصار كالألف والألف والخمسمائة، وعلى هذا المائة والمائتان والطلقة والطلقتان، قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى الأئمة المصححون، تصحيح. قيدنا بدعوى الألفين، لأنه إذا ادعى المدعي الألف لا تقبل الشهادة بالإجماع (وإن شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي ألفاً وخمسمائة قبلت شهادتهما بألف) اتفاقاً، لاتفاق الشاهدين عليها لفظاً ومعنى، لأن الألف والخمسمائة جملتان عطفت إحداهما على الأخرى، والعطف يقرر الأول، ونظيره الطلقة والطلقة والنصف، والمائة والمائة والخمسون، بخلاف الخمسة والخمسة عشر، لأنه ليس بينهما حرف العطف فهو نظير الألف والألفين، هداية.
(وإذا شهد أحدهما بألف وقال) في شهادته: لكنه قد (قضاه منها(4/65)
خمسمائة" قبلت شهادته بألفٍ، ولم يسمع قوله إنه قضاه إلا أن يشهد معه آخر، وينبغي للشاهد إذا علم ذلك أن لا يشهد بألفٍ حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائةٍ.
وإذا شهد شاهدان أن زيداً قتل يوم النحر بمكة وشهد آخران أنه قتل يوم النحر بالكوفة واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين، فإن سبقت إحداهما فقضي بها ثم حضرت الأخرى لم تقبل، ولا يسمع القاضي الشهادة على جرحٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خمسمائة قبلت شهادته بألف) لاتفاقهما عليه (ولم يسمع قوله إنه قضاه) ؛ لأنها شهادة فرد (إلا أن يشهد معه آخر) ليتم نصاب الشهادة (وينبغي للشاهد إذا علم ذلك) أي علم قضاء المديون وخشي إنكار المدعي لما قبضه (أن لا يشهد) له (بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة) كيلا يصير معيناً على الظلم.
(وإذا شهد شاهدان أن زيدا قتل يوم النحر) من هذا العام مثلا (بمكة، وشهد) شاهدان (آخران أنه قتل يوم النحر) من هذا العام (بالكوفة واجتمعوا) : أي الشهود كلهم (عند الحاكم لم يقبل) الحاكم (الشهادتين) للتيقن بكذب إحداهما، وليست إحداهما بأولى من الأخرى.
(فإن سبقت إحداهما وقضى بها ثم حضرت الأخرى لم تقبل) الثانية؛ لأن الأولى قد ترجحت باتصال القضاء بها؛ فلا تنتقض بالثانية.
(ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح) الشهود، بأن ادعى المدعى عليه أن(4/66)
ولا يحكم بذلك.
ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيءٍ لم يعاينه، إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي، فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شهود المدعي فسقة أو مستأجرون وأقام بينة على ذلك، فإن القاضي لا يلتفت إليها (ولا يحكم بذلك) ولكن يسأل عنهم سراً وعلانية، فإن ثبتت عدالتهم قبلت شهادتهم، وإلا لا.
(ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه) ؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك بالعلم، ولم يحصل (إلا النسب، والموت، والنكاح، والدخول، وولاية القاضي؛ فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به) استحساناً؛ لأن هذه الأمور يختص بمعاينة أسبابها الخواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون والأعوام، فلو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع لأدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام، قال في الهداية: وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار، وذلك بالتواتر أو إخبار من يثق به، كما قال في الكتاب. ويشترط أن يخبره رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان، ليحصل له نوع من العلم، وقيل في الموت: يكتفي بإخبار واحد أو واحدة، لأنه قل ما يشاهد حاله غير الواحد.
ثم قال: وينبغي أن يطلق أداء الشهادة، أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته، كما أن معاينة اليد في الأملاك تطلق فيه الشهادة ثم إذا فسر لا تقبل كذا هذا، ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف، وعن أبي يوسف آخرا أنه يجوز في الولاء، لأنه بمنزلة النسب،(4/67)
والشهادة على الشهادة جائزةٌ في كل حقٍ لا يسقط بالشبهة، ولا تقبل في الحدود والقصاص.
وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين، ولا تقبل شهادة واحدٍ على شهادة واحدٍ.
وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعن محمد يجوز في الوقف؛ لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول: الولاء يبتنى على زوال الملك، ولابد فيه من المعاينة، فكذا فيما يبتنى عليه، وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه؛ لأن أصله هو الذي يشتهر، اهـ.
(والشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة) قال في الهداية: وهذا استحسان؛ لشدة الحاجة إليها؛ إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على شهادته أدى إلى تواء الحقوق، ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية، أو من حيث إن فيها زيادة احتمال، وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود (و) لذا (لا تقبل في الحدود والقصاص) لأنها تسقط بالشبهة.
(وتجوز شهادة شاهدين) أو رجل وامرأتين (على شهادة شاهدين) ؛ لأن نقل الشهادة من جملة الحقوق، وقد شهدا بحق، ثم بحق آخر، فتقبل؛ لأن شهادة الشهادتين على حقفين جائزة (ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد) ؛ لأن شهادة الفرد لا تثبت الحق.
(وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل) مخاطبا (لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي) لأن الفرع كالنائب عنه، فلابد من التحميل والتوكيل كما مر (أني أشهد أن(4/68)
فلان ابن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه، وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز، ويقول شاهد الفرع عند الأداء: أشهد أن فلان ابن فلانٍ أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلاناً أقر عنده بكذا وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك.
ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيامٍ فصاعداً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلان ابن فلان) الفلاني (أقر عندي بكذا وأشهدني) به (على نفسه) ؛ لأنه لابد أن يشهد شاهد الأصل عند الفرع كما يشهد عند القاضي لينقله إلى مجلس القضاء (وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز) ، لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له اشهد (ويقول شاهد الفرع) عند الأداء لما تحمله: (أشهد أن فلاناً أشهدني على شهادته أنه يشهد أن فلاناً أقر عنده بكذا، وقال لي: اشهد على شهادتي بذلك) ، لأنه لابد من شهادته، وذكر شهادة الأصل، وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا وأقصر منه، وخير الأمور أوسطها، هداية.
قال في الدر: والأقصر أن يقول الأصل: اشهد على شهادتي بكذا، ويقول الفرع: أشهد على شهادته بكذا، وعليه فتوى السرخسي وغيره، ابن كمال، وهو الأصح كما في القهستاني عن الزاهدي، اهـ.
(ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن) يتعذر حضور شهود الأصل، وذلك بأن (يموت شهود الأصل) عند الأداء (أو يغيبوا مسيرة) سفر (ثلاثة أيام فصاعدا) قال في الدر: واكتفى الثاني بغيبته بحيث يتعذر أن يبيت بأهله، واستحسنه غير واحد، وفي القهستاني والسراجية: وعليه الفتوى، وأقره المصنف، اه(4/69)
أو يمرضوا مرضاً لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم، وإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز، وإن سكتوا عن تعديلهم جاز، وينظر القاضي في حالهم، وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة شهود الفرع.
وقال أبو حنيفة في شاهد الزور: أشهره في السوق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أو يمرضوا مرضاً) قوياً، بحيث (لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم) ؛ لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل، وبهذه الأشياء يتحقق العجز.
(فإن عدل شهود الأصل) بالنصب على المفعولية (شهود الفرع) بالرفع فاعل "عدل" (جاز) ؛ لأنهم من أهل التزكية، وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح، لما قلناه، هداية.
(وإن سكتوا عن تعديلهم جاز) أيضا (وينظر القاضي في حالهم) أي حال الأصول، كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا، قال في التصحيح: وهذا عند أبي يوسف، وعليه مشى الأئمة المصححون، وقال محمد: لا تقبل، اهـ.
(وإن أنكر شهود الأصل الشهادة) بأن قالوا: مالنا شهادة على هذه الحادثة، وماتوا أو غابوا، ثم جاء الفروع يشهدون على شهادتهم كما في الكافي، وكذا لو أنكروا التحميل، بأن قالوا: لم نشهدهم على شهادتنا، وماتوا أو غابوا كما في الزيلعي (لم تقبل شهادة شهود الفرع) ، لأن التحميل شرط، وقد فات للتعارض بين الخبرين.
(وقال أبو حنيفة في شاهد الزور: أشهره في السوق) بأن يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، أو إلى قومه إن كان غيره سوقي، بعد العصر أجمع ما كانوا، ويقول المرسل(4/70)
ولا أعزره، وقال أبو يوسف ومحمد: نوجعه ضرباً ونحبسه.
كتاب الرجوع عن الشهادة.
- إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت، وإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معه: إن وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس، كما نقل عن القاضي شريح (ولا أعزره) بالضرب؛ لأن المقصود الانزجار، وهو يحصل بالتشهير، بل ربما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيكتفي به (وقال أبو يوسف ومحمد: نوجعه ضرباً ونحبسه) حتى يحدث توبة. قال في التصحيح: وعلى قول أبي حنيفة مشى النسفي والبرهاني وصدر الشريعة، اهـ. ثم شهد شاهد الزور هو المقر على نفسه بذلك؛ إذ لا طريق إلى إثباته بالبينة، لأنه نفي للشهادة، والبينات للإثبات، وقيل: هو أن يشهد بقتل رجل ثم يجئ المشهود بقتله حيا حتى يثبت كذبه بيقين، أما إذا قال: "أخطأت في الشهادة " أو "غلطت" لا يعزر، جوهرة.
كتاب الرجوع عن الشهادة
هو بمنزلة الباب من كتاب الشهادات؛ لأنه مندرج تحت أحكام الشهادات.
(إذا رجع الشهود عن شهادتهم) بأن قالوا: رجعنا عما شهدنا به، ونحوه، بخلاف الإنكار؛ فإنه لا يكون رجوعاً، وكان ذلك (قبل الحكم بها) أي بالشهادة (سقطت) شهادتهم؛ لأن الحق إنما يثبت بالقضاء، والقاضي لا يقضي بكلام متناقض، ولا ضمان عليهما؛ لأنهما ما أتلفا شيئاً: لا على المدعي، ولا على المشهود عليه، هداية. (وإن) كان (حكم بشهادتهم ثم رجعوا، لم يفسخ(4/71)
الحكم، ووجب عليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم، ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم.
وإذا شهد شاهدان بمالٍ فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال المشهود عليه، وإن رجع أحدهما ضمن النصف، وإن شهد بالمال ثلاثةٌ فرجع أحدهم فلا ضمان عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم) ؛ لأن آخر كلامهم يناقض أوله، فلا ينقض الحكم بالمتناقض، ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به (ووجب عليهم) أي الشهود (ضمان ما أتلفوه بشهادتهم) ؛ لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، لأن رجوعهم يتضمن دعوى بطلان القضاء، ودعوى إتلاف المال على المشهود عليه بشهادتهم؛ فلا يصدقون في حق القضاء، ويصدقون بسبب الضمان.
(ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم) ولو غير الأول؛ لأنه فسخ للشهادة، فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس، وهو مجلس القاضي كما في الهداية.
(وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا) عن الشهادة عند الحاكم (ضمنا المال) المشهود به (للمشهود عليه) ؛ لأن السبب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر، وقد تسببا للاتلاف تعديا مع تعذر تضمين المباشر - وهو القاضي - لأنه كالملجأ إلى القضاء (وإن رجع أحدهما ضمن النصف) والأصل: أن المعتبر في هذا بقاء من بقي، لا رجوع من رجع، وقد بقي من يتقي بشهادته نصف الحق.
(وإن شهد بالمال ثلاثة) من الرجال (فرجع أحدهم فلا ضمان عليه)(4/72)
فإن رجع آخر ضمن الراجعان نصف المال. وإن شهد رجلٌ وامرأتان فرجعت امرأةٌ ضمنت ربع الحق وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق، وإن شهد رجلٌ وعشر نسوةٍ ثم رجع ثمان منهن فلا ضمانٌ عليهن، وإن رجعت أخرى كان على النسوة ربع الحق، فإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق، وعلى النسوة خمسة أسداس الحق عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على الرجل النصف وعلى النسوة النصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق (فإن رجع آخر ضمن الراجعان نصف المال) لأنه ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق.
(وإن شهد رجل وامرأتان، فرجعت امرأة ضمنت ربع الحق) لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي (وإن رجعتا) أي المرأتان (ضمنتا نصف الحق) ؛ لأن بشهادة الرجل الباقي يبقى نصف الحق.
(وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجع ثمان منهن، فلا ضمان عليهن) ، لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق (فإن رجعت) امرأة (أخرى كان على النسوة) الراجعين (1) من حق العربية أن يقول "الراجعات" (ربع الحق) لأنه بقي النصف بشهادة الرجل، والربع بشهادة الباقية (فإن رجع الرجل والنساء) جميعاً (فعلى الرجل سدس الحق، وعلى النسوة خمسة أسداس الحق عند أبي حنيفة) ، لأن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد، فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا جميعاً، وقال أبو يوسف ومحمد: على الرجل النصف، وعلى النسوة النصف)(4/73)
وإن شهد شاهدان على امرأةٍ بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما، وكذلك إن شهدا على رجلٍ بتزوج امرأةٍ بمقدار مهر مثلها وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمناً الزيادة. وإن شهدا ببيعٍ بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا، وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان وإن شهدا على رجلٍ أنه طلق امرأته قبل الدخول ثم رجعا ضمنا نصف المهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهن - وإن كثرن - يقمن مقام رجل واحد؛ ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل، قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما] .
(وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح) على مهر (بمقدار مهر مثلها) أو أقل أو أكثر (ثم رجعا فلا ضمان عليهما) ؛ لأن منافع البضع غير متقومة عند الإتلاف؛ لأن التضمين يستدعي المماثلة، ولا مماثلة بين البضع والمال، وإنما تتقوم على الزوج عند التملك ضرورة الملك إظهارا لخطر المحل (وكذلك إن شهدا على رجل بتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها) ، لأنه إتلاف بعوض، لأن البضع متقوم حالة الدخول في الملك كما سبق، والإتلاف بعوض كالإتلاف (فإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمنا الزيادة) لإتلافها الزيادة من غير عوض.
(وإن شهدا) على بائع (ببيع) شيء (بمثل القيمة أو أكثر، ثم رجعا لم يضمنا) ؛ لأنه ليس بإتلاف معنى نظرا إلى العوض (وإن كان) ما شهدا به (بأقل من القيمة ضمنا النقصان) لإتلافهما هذا الجزء بلا عوض.
(وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته) وكان ذلك (قبل الدخول) بها (ثم رجعا ضمنا نصف المهر) ؛ لأنهما قررا عليه مالا كان على شرف السقوط(4/74)
فإن كان بعد الدخول لم يضمنا.
وإن شهدا أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته.
وإن شهدا بقصاصٍ ثم رجعا بعد القتل ضمنا الدية، ولا يقتص منهما وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا. وإن رجع شهود الأصل وقالوا "لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا" فلا ضمان عليهم، وإن قالوا "أشهدناهم وغلطنا" ضمنوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمجئ الفرقة من قبلها (وإن كان) ذلك (بعد الدخول) بها (لم يضمنا) شيئا؛ لأن المهر تأكد بالدخول، والبضع عند الخروج عن الملك لا قيمة له كما مر، فلا يلزم بمقابلته شيء.
(وإن شهدا) على رجل (أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته) ، لإتلافهما مالية العبد من غير عوض، والولاء للمعتق، لأن العتق لا يتحول إليهما بهذا الضمان، فلا يتحول الولاء، هداية.
(وإن شهدا بقصاص ثم رجعا بعد القتل ضمنا الدية) في مالهما في ثلاث سنين؛ لأنهما معترفان، والعاقلة لا تعقل الاعتراف (ولا يقتص منهما) ، لأنهما لم يباشرا القتل ولم يحصل منهما إكراه عليه.
(وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا) ما أتلفوه بشهادتهم، لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم، فكان التلف مضافا إليهم (وإن رجع شهود الأصل) بعد القضاء (وقالوا: لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا، فلا ضمان عليهم) لأنهم أنكروا السبب، ولا يبطل القضاء، لتعارض الخبرين. أما إذا كان قبل القضاء فإنها تبطل شهادة الفرع، لإنكار شهود الأصل التحميل، ولابد منه (وإن قالوا: أشهدناهم و) لكن (غلطنا ضمنوا) قال في الهداية: وهذا عند محمد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا ضمان عليهم، لأن القضاء وقع بشهادة(4/75)
وإن قال شهود الفرع "كذب شهود الأصل" أو "غلطوا في شهادتهم" لم يلتفت إلى ذلك.
وإذا شهد أربعةٌ بالزنا وشاهدان بالإحصان فرجع شهود الإحصان لم يضمنوا، وإذا رجع المزكون عن التزكية ضمنوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفروع؛ لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة، وهي شهادتهم، وله أن الفروع نقلوا شهادة الأصول، فصار كأنهم حضروا، اهـ. قال في الفتح: وقد أخر المصنف دليل محمد، وعادته أن يكون المرجح عنده ما أخره، اهـ. وفي الهداية: ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير؛ لأن القضاء وقع بشهادتهم، وعند محمد المشهود عليه بالخيار: إن شاء ضمن الأصول، وإن شاء ضمن الفروع، وتمامه فيها (وإن قال شهود الفرع) بعد القضاء بشهادتهم: (كذب شهود الأصل، أو غلطوا في شهادتهم، لم يلتفت إلى ذلك) ، لأن ما أمضى من القضاء لا ينقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم، لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم، وإنما شهدوا بالرجوع على غيرهم.
(وإذا شهد أربعة بالزنا وشاهدان بالإحصان، فرجع شهود الإحصان) عن شهادتهم (لم يضمنوا) ؛ لأن الحكم يضاف إلى السبب - وهو منا الزنا - بخلاف الإحصان، فإنه شرط كالبلوغ، والعقل والإسلام، وهذه المعاني لا يستحق عليهما العقاب، وإنما يستحق العقاب بالزنا، وتمامه في الجوهرة.
(وإذا رجع المزكون عن التزكية ضمنوا) قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمنون؛ لأنهم أثنوا على الشهود، فصاروا كشهود الإحصان؛ وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية فصار في معنى علة العلة، بخلاف شهود الإحصان، لأنه شرط محض. قال جمال الإسلام في شرحه: والصحيح قول الإمام، واعتمده البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، تصحيح(4/76)
وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا فالضمان على شهود اليمين خاصة.
كتاب أدب القاضي.
- لا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولي شرائط الشهادة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان) آخران (بوجود الشرط، ثم رجعوا) جميعاً (فالضمان على شهود اليمين خاصة) ؛ لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض، ألا يرى أن القاضي يقضي بشهادة اليمين دون شروط الشرط، ولو رجع شهود الشرط وحدهم اختلف المشايخ فيه، اهـ هداية. وفي العيني لا ضمان عليهم على الصحيح.
كتاب أدب القاضي
مناسبته للشهادات، وتعقيبه لهاظاهرة من حيث إن القضاء يتوقف على الشهادة غالبا، قال في الجوهرة: الأدب اسم يقع على كل رياضة محمودة، يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
واعلم أن القضاء أمر من أمور الدين، ومصلحة من مصالح المسلمين، تجب العناية به، لأن بالناس إليه حاجة عظيمة، اهـ.
(ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى) بفتح اللام - اسم مفعول، وعدل عن الضمير إلى الظاهر ليكون فيه دلالة على تولية غيره له بدون طلبه، وهو الأولى للقاضي كما في الكفاية (شرائط الشهادة) لأن حكم القضاء يستقي من حكم الشهادة، لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء، وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء، والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة، فإنه لا ينبغي للقاضي أن يقبل شهادته، ولو قبل جاز عندنا، ولو كان عدلا ففسق(4/77)
ويكون من أهل الاجتهاد، ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق أنه يؤدي فرضه، ويكره الدخول فيه لمن يخاتف العجز عنه، ولا يأمن على نفسه الحيف فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأخذ الرشوة أو غيرها لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب، وعليه مشايخنا، وقال بعض المشايخ: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها، هداية.
(ويكون) بالنصب - عطفاً على "يجتمع" (من أهل الاجتهاد) قال في الهداية: والصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية، فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا، لأنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه، ولكن ينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قلد إنساناً عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين) وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه.
وحاصله: أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه، ليعرف معاني الآثار، أو صاحب فقه له معرفة بالحديث، لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه، وقيل: أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس، لأن من الأحكام ما يبتنى عليها، اهـ.
(ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه) أي يعلم من نفسه (أنه يؤدي فرضه) وهو الحكم على قاعدة الشرع، قال في الجوهرة: وقد دخل فيه قوم صالحون، واجتنبه قوم صالحون، وترك الدخول فيه أحوط وأسلم للدين والدنيا؛ لما فيه من الخطر العظيم والأمر المخوف.
(ويكره الدخول فيه لمن خاف العجز عنه) أي عن القيام به على الوجه المشروع (ولا يأمن على نفسه الحيف فيه) أي الظلم، قال في الهداية: وكره(4/78)
ولا ينبغي أن يطلب الولاية ولا يسألها.
ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي قبله، وينظر في حال المحبوسين، فمن اعترف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعضهم الدخول فيه مختارا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين) ، والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعاً في إقامة العدل، والترك عزيمة، فلعله يخطئ ظنه فلا يوفق له، أو لا يعينه غيره، ولابد من الإعانة، إلا إذا كان هو الأهل للقضاء دون غيره، فحينئذ يفترض عليه التقلد، صيانة لحقوق العباد، وإخلاء للعالم عن الفساد، اهـ.
(ولا ينبغي) للإنسان (أن يطلب الولاية) بقلبه (ولا يسألها) بلسانه،
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من طلب القضاء وكل إلى نفسه، ومن أجبر عليه نزل عليه ملكٌ يسدده) .
ثم يجوز التقليد من السلطان العادل والجائر ولو كان كافراً كما في الدر عن مسكين وغيره، إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بالحق؛ لأن المقصود لا يحصل بالتقليد] .
(ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي) كان (قبله) وهي الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة، فتجعل في يد من له ولاية القضاء، فيبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه، ويسألانه شيئاً فشيئاً، ويجعلان كل نوع منها في خريطة كيلا تشتبه على المولى، وهذا السؤال لكشف الحال، لا للالزام، هداية.
(وينظر في حال المحبوسين) لأنه جعل ناظراً للمسلمين (فمن اعترف(4/79)
بحقٍ إلزمه إياه، ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينةٍ، وإن لم تقم بينةٌ لم يعجل بتخليته حتى ينادي عليه ويستظهر في أمره.
وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف، فيعمل على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده. ولا يقبل قول المعزول إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها.
ويجلس الحاكم جلوساً ظاهراً في المسجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحق ألزمه إياه) عملا بإقرار (ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة) لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة، ولاسيما إذا كان على فعل نفسه، هداية. (فإن لم تقم) عليه (بينة لم يعجل بتخليته) بل يتمهل (حتى ينادى عليه) بالمجامع والأسواق بقدر ما يرى (ويستظهر في أمره) ؛ لأن فعل المعزول حق ظاهر، فلا يعجل بتخليته، كيلا يؤدي إلى إبطال حق الغير.
(وينظر في الودائع) التي وضعها المعزول في أيدي الأمناء (وارتفاع الوقوف) أي غلاتها (فيعمل على) حسب (ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده) لأن كل واحد منهما حجة (ولا يقبل) عليه (قول المعزول) لما مر (إلا أن يعترف الذي هو في يده أن) القاضي (المعزول سلمها) أي الودائع أو الغلات (إليه فيقبل قوله) أي المعزول (فيها) لأنه ثبت بإقرار ذي اليد أن اليد كانت للمعزول فيصح إقراره كأنه في يده في الحال.
(ويجلس) القاضي (للحكم جلوساً ظاهراً في المسجد) ويختار مسجدا(4/80)
ولا يقبل هديةً إلا من ذي رحمٍ محرمٍ، أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته.
ولا يحضر دعوةً إلا أن تكون عامةً، ويشهد الجنازة، ويعود المريض.
ولا يضيف أحد الخصمين دون خصمه، وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في وسط البلد تيسيراً على الناس، والمسجد الجامع أولى، لأنه أشهر.
(ولا يقبل هدية) من أحد (إلا من ذي رحم محرم، أو ممن جرت عادته قبل) تقلد (القضاء بمهاداته) قال في الهداية: لأن الأول صلة الرحم، والثاني ليس للقضاء، بل جريٌ على العادة، وفيما وراء ذلك يكون آكلا بقضائه حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة؛ لأنه لأجل القضاء فيتحاماه، اهـ.
(ولا يحضر دعوة إلا أن تكون) الدعوة (عامة) لأن الخاصة مظنة التهمة، بخلاف العامة (ويشهد الجنازة، ويعود المريض) لأن ذلك من حقوق المسلمين.
(ولا يضيف أحد الخصمين دون خصمه) لما فيه من التهمة، وفي التقييد بأحد الخصمين إشارة إلى أنه لا بأس بإضافتهما معاً (وإذا حضرا) أي الخصمان (سوى) القاضي (بينهما في الجلوس) بين يديه (والإقبال) عليهما، والإشارة إليهما، يفعل ذلك مع الشريف والدنئ، والأب والابن، والخليفة والرعية(4/81)
ولا يسار أحدهما، ولا يشير إليه، ولا يلقنه حجةً.
فإذا ثبت الحق عنده، وطلب صاحب الحق حبس غريمه، لم يعجل بحبسه، وأمره بدفع ما عليه، فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مالٍ حصل في يده، كثمن المبيع وبدل القرض، أو التزمه بعقدٍ، كالمهر والكفالة، ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال: إني فقير، إلا أن يثبت غريمه أن له مالاً، ويحبسه شهرين أو ثلاثةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا يسار أحدهما، ولا يشير إليه، ولا يلقنه حجة) ولا يضحك في وجهه؛ احترازاً عن التهمة، ولا يمازحهم ولا واحداً منهم؛ لأنه يذهب بمهابة القضاء.
(فإذا) تمت الدعوى، و (ثبت الحق عنده) على أحدهما (وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل) القاضي (بحبسه، و) لكن (أمره بدفع ما) ثبت (عليه) ؛ لأن الحبس جزاء المماطلة، فلابد من ظهورها، وهذا إذا ثبت الحق بإقراره، لأنه لم يعرف كونه مماطلا، بخلاف ما إذا ثبت بالبينة، فإنه يحبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره كما في الهداية، قال في البحر: وهو المذهب عندنا، اهـ (فإن امتنع) عن دفعه (حبسه) - وإن تعلل بفقره - إلى ظهور عسره، وذلك (في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن مبيع) وبدل مستأجر، لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به (أو التزمه بعقد، كالمهر والكفالة) ، لأن إقدامه على التزامه باختياره دليل يساره، لأنه لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه (ولا يحبسه فيما سوى ذلك) كبدل خلع، ومغصوب، ومتلف، ونحو ذلك (إذا قال إني فقير) ، إذ الأصل العسرة (إلا أن يثبت غريمه أن له مالا، فيحبسه) حينئذ، لظهور المطل (شهرين أو ثلاثة)(4/82)
ثم يسأل عنه، فإن لم يظهر له مالٌ خلى سبيله، ولا يحول بينه وبين غرمائه.
ويحبس الرجل في نفقة زوجته، ولا يحبس والدٌ في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو أكثر أو أقل، بحسب ما يرى، بحيث يغلب على ظنه أنه لو كان له مال لأظهره.
قال في الهداية: والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي، لاختلاف أحول الأشخاص فيه، ومثله في شرح الزاهدي والإسبيجاني وفتاوى قاضيخان كما في التصحيح.
(ثم يسأل عنه) جيرانه وأقاربه ومن له خبرة به (فإن لم يظهر له مال خلى سبيله) لأنه استحق النظرة إلى الميسرة، فيكون حبسه بعد ذلك ظلما، وفي قوله "ثم يسأل عنه" إشارة إلى أنه لا تقبل بينة الإفلاس قبل الحبس. قال جمال الإسلام: وهذا قول الإمام، وهو المختار، وقال قاضيخان: إذا أقام البينة على الإفلاس قبل الحبس فيه روايتان، قال ابن الفضل: والصحيح أنه يقبل، وينبغي أن يكون ذلك مفوضاً إلى رأى القاضي، إن علم أنه وقح لا يقبل بينته قبل الحبس، وإن علم أنه لين قبل بينته، كذا في التصحيح، وفي النهر عن الخانية: ولو فقره ظاهراً سأل عنه عاجلا، وقبل بينته على إفلاسه وخلى سبيله، اهـ.
(ولا يحول بينه وبين غرمائه) بعد خروجه من الحبس، فإذا دخل داره لا يتبعونه، بل ينتظرونه حتى يخرج، فإن كان الدين لرجل على امرأة لا يلازمها، ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها.
(ويحبس الرجل في نفقة زوجته) لظلمه بامتناعه (ولا يحبس والد في(4/83)
دين ولده إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه.
ويجوز قضاء المرأة في كل شيء، إلا في الحدود والقصاص.
ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به عنده، فإن شهدوا على خصم حكم بالشهادة، وكتب بحكمه، وإن شهدوا بغير حضرة خصمٍ لم يحكم، وكتب بالشهادة ليحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دين ولده) لأنه نوع عقوبة، فلا يستحقه الولد على والده (إلا إذا امتنع) والده (من الإنفاق عليه) دفعاً لهلاكه، واحترازاً عن سقوطها، فإنها تسقط بمضي الزمان.
(ويجوز قضاء المرأة في كل شيء، إلا في الحدود والقصاص) اعتباراً بشهادتها.
(وقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق) التي لا تسقط بالشبهة (إذا شهد) بالبناء بالمجهول (به) أي الكتاب (عنده) أي القاضي المكتوب إليه أنه كتاب فلان القاضي وختمه (فإن) كان الشهداء (شهدوا) عند القاضي الكاتب (على خصم) حاضر (حكم بالشهادة) على قواعد مذهبه (وكتب بحكمه) إلى القاضي الآخر لينفذه، ويكون هذا في صورة الاستحقاق، فإن المدعى عليه إذا حكم عليه وأراد الرجوع على بائعه وهو في بلدة أخرى وطلب من القاضي أن يكتب بحكمه إلى قاضي تلك البلدة يكتبه له، ويسمى هذا الكتاب سجلا لتضمنه الحكم (وإن) كانوا (شهدوا بغير حضرة خصم لم يحكم) بتلك الشهادة، لما مر من أن القضاء على الغائب لا يصح (و) لكن (كتب بالشهادة ليحكم(4/84)
بها المكتوب إليه.
ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين، أو رجلٍ وامرأتين، ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ليعرفوا ما فيه، ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بها المكتوب إليه) على قواعد مذهبه، ويسمى هذا الكتاب الحكمي، لأن المقصود به حكم المكتوب إليه، وهو في الحقيقة نقل الشهادة.
(ولا يقبل) القاضي المكتوب إليه (الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين) ؛ لاحتمال التزوير، وهذا عد إنكار الخصم أنه كتاب القاضي؛ وأما إذا أقر فلا حاجة إلى إقامة بينة.
(ويجب) على القاضي الكاتب (أن يقرأ الكتاب عليهم) : أي على الشهود (ليعرفوا ما فيه) أو يعلمهم به، لأنه لا شهادة بدون العلم (ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم) نفيا للشك والتردد من كل وجه. قال في الهداية وشرح الزاهدي أما الختم بحضرتهم، وكذا حفظ في ما في الكتاب؛ فشرطٌ عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف آخراً: ليس شيء من ذلك بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه، وعنه أن الختم ليس بشرط أيضاً، فسهل في ذلك لما ابتلى بالقضاء، وليس الخبر كالمعاينة، وهذا مختار شمس الأئمة السرخسي.
قال شيخنا في شرح الهداية: ولاشك عندي في صحته فإن الغرض إذا كان عدلة الشهود - وهم حملة الكتاب - فلا يضره كونه غير مختوم مع شهادتهم أنه كتابه، نعم إذا كان الكتاب مع المدعي ينبغي أن يشترط الختم، لاحتمال التغيير، إلا أن يشهدوا بما فيه حفظا، فالوجه إن كان الكتاب مع الشهود أن لا يشترط معرفتهم بما(4/85)
فإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم، فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه، فإن شهدوا أنه كتاب فلانٍ القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه، فضه القاضي، قرأه على الخصم، وألزمه ما فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه، ولا الختم، بل تكفي شهادتهم أنه كتابه مع عدالتهم، وإن كان مع المدعي اشترط حفظهم لما فيه فقط، كذا في التصحيح.
(فإذا وصل) الكتاب (إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم) ؛ لأنه بمنزلة أداء الشهادة، فلابد من حضوره (فإذا سلمه الشهود إليه) أي إلى القاضي بحضرة الخصم (نظر) القاضي (إلى ختمه) أولا ليتعرفه (فإن شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه، وقرأه علينا، وختمه بختمه؛ فضه القاضي، وقرأه على الخصم، وألزمه ما فيه) قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة، كذا ذكره الخصاف، لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود، وإنما يمكنهم من أداء الشهادة بعد قفيام الختم، وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء، حتى لو عزل، أو مات، أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب - لا يقبله، لأنه التحق بواحد من الرعايا، وكذا لو مات المكتوب إليه، إلا إذا كتب " لى فلان بن فلان قاضي بلد كذا، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين"، لأن غيره صار تبعاً له، وهو معرف، بخلاف ما إذا كتب ابتداء "إلى كل من يصل إليه" على ما عليه مشايخنا، لأنه غير معرف، ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه، اه(4/86)
ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص، وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض ذلك إليه،
وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكمٍ أمضاه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص) ؛ لأن فيه شبهة البدلية عن الشهادة، فصار كالشهادة، ولأن مبناها على الإسقاط، وفي قبوله سعي في إثباتها.
(وليس للقاضي أن يستخلف) نائباً عنه (على القضاء) ، لأنه قلد القضاء دون التقليد، فصار كتوكيل الوكيل، ولو قضى الثاني بمحضر من الأول أو قضى الثاني فأجاز الأول، جاز كما في الوكالة، لأنه حضره رأي الأول، وهو الشرط (إلا أن يفوض ذلك إليه) صريحاً، كول من شئت، أو دلالة، كجعلتك قاضي القضاة، والدلالة هنا أقوى من الصريح، لأنه في الصريح المذكور يملك الاستخلاف، لا العزل، وفي الدلالة يملكهما، فإن قاضي القضاة هو الذي يتصرف فيهم مطلقاً، تقليداً وعزلا.
(وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم) مولى ولو بعد عزله أو موته إذا كان بعد دعوى صحيحة (أمضاه) أي: ألزم الحكم والعمل بمقتضاه، سواء وافق رأيه أو خالفه إذا كان مجتهداً فيه؛ لأن القضاء متى لاقى محلا مجتهداً فيه ينفذ ولا يرده غيره؛ لأن الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأول لتساويهما في الظن، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به، فلا ينقض بما هو دونه. ولو قضى في المجتهد فيه مخالفاً لرأيه، ناسيا لمذهبه، نفذ عند أبي حنيفة، وإن كان عامداً فعنه روايتان، وعندهما لا ينفذ في الوجهين؛ لأنه قضى بما هو خطأ عنده، وعليه الفتوى كما في الهداية، والوقاية، والمجمع، والملتقي، قيدنا بالمولى لأن حكم المحكم لا يرفع الخلاف كما يأتي، وبكونه بعد دعوى(4/87)
إلا أن يخالف الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو يكون قولاً لا دليل عليه.
ولا يقضي القاضي على غائبٍ إلا أن يحضر من يقوم مقامه.
وإذا حكم رجلان رجلاً ليحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز إذا كان بصفة الحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحيحة - بأن تكون من خصم على خصم حاضر - لأنه إذا لم يكن كذلك يكون إفتاء فيحكم بمذهبه لا غير، كما في البحر، قال في الدر: وبه عرف أن تنافيذ زمامنا لا تعتبر لترك ما ذكر (إلا أن يخالف) حكم الأول (الكتاب) فيما لم يختلف في تأويله السلف كمتروك التسمية عمداً (أو السنة) المشهورة كالتحليل بلا وطء؛ لمخالفته حديث العسيلة المشهور (هو قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك") (أو الإجماع) كحل المتعة؛ لإجماع الصحابة على فساده (أو يكون قولا لا دليل عليه) كسقوط الدين بمضي السنين من غير مطالبة.
(ولا يقضي القاضي على غائب) ولا له (إلا أن يحضر من يقوم مقامه) كوكيله ووصيه ومتولي الوقف، أو نائبه: شرعا كوصي القاضي، أو حكما بأن يكون ما يدعي على الغائب سبباً لما يدعى به على الحاضر، كأن يدعي دارا في يد رجل ويبرهن عليه أنه اشترى الدار من فلان الغائب فحكم الحاكم به على ذي اليد الحاضر كان حكما على الغائب أيضا، حتى لو حضر وأنكر لم يعتبر، لأن الشراء من المالك سبب الملكية، وله صور كثيرة، ذكر منها جملة في شرح الزاهدي.
(وإذا حكم رجلان) متداعيان (رجلا ليحكم بينهما ورضيا بحكمه) فحكم بينهما (جاز) لأن لهما ولاية على أنفسهما، فصح تحكيمهما، وينفذ حكمه عليهما (إذا كان) المحكم (بصفة الحاكم) ؛ لأنه بمنزلة القاضي بينهما؛ فيشترط فيه(4/88)
ولا يجوز تحكيم الكافر، والعبد، والذمي، والمحدود في القذف، والفاسق، والصبي.
ولكل واحدٍ من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما، فإذا حكم لزمهما، وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه، وإن خالفه أبطله.
ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يشترط في القاضي، وقد فرع على مفهوم ذلك بقوله:
(ولا يجوز تحكيم الكافر) الحربي (والعبد) مطلقاً (والذمي) إلا أن يحكمه ذميان؛ لأنه من أهل الشهادة عليهم فهو من أهل الحكم عليهم (والمحدود في القذف) وإن تاب (والفاسق، والصبي) ؛ لانعدام أهلية القضاء منهم اعتباراً بأهلية الشهادة، قال في الهداية: والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى.
(ولكل واحدٍ من المحكمين) له (أن يرجع) عن تحكيمه، لأنه مقلد من جهتهما، فلا يحكم إلا برضاهما جميعاً، وذلك (ما لم يحكم عليهما، فإذا حكم) عليهما وهما على تحكيمهما (لزمهما) الحكم، لصدوره عن ولاية عليهما.
(وإذا رفع حكمه) أي حكم المحكم (إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه) ؛ لأنه لا فائدة في نقضه، ثم إبرامه على هذا الوجه (وإن خالفه) أي خالف رأيه (أبطله) ، لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه؛ هداية، أي: لأن حكم المحكم لا يتعدى المحكمين.
(ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص) ؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما، ولهذا لا يملكان الإباحة، قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم(4/89)
وإن حكما في دمٍ خطأٍ فقضى الحاكم على العاقلة بالدية لم ينفذ حكمه، ويجوز أن يسمع البينة، ويقضي بالنكول.
وحكم الحاكم لأبويه وولده وزوجته باطلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في سائر المجتهدات، وهو صحيح، إلا أنه لا يفتى به، ويقال: يحتاج إلى حكم المولى دفعاً لتجاسر العوام، هداية.
(وإن حكما) رجلا (في دم خطأ فقضى) المحكم (بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه) ، لأنه لا ولاية له عليهم، لأنه لا تحكيم من جهتهم، وقد سبق أن ولايته قاصرة على المحكم عليهم.
(ويجوز) للمحكم (أن يسمع البينة، ويقضي بالنكول) والإقرار، لأنه حكم موافق للشرع.
(وحكم الحاكم) مطلقا (لأبويه) وإن عليا (من حق العربية عليه أن يقول (وإن علوا) كما تقول عند الإسناد لألف الاثنين (دنوا) وسموا، ودعوا، وغزوا) . (وولده) وإن سفل (وزوجته باطل) ، لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة، فلا يصح القضاء لهم، بخلاف ما إذا حكم عليهم، لأنه تقبل شهادته عليهم، لانتفاء التهمة، فكذا القضاء، هداية(4/90)
كتاب القسمة.
- ينبغي للإمام أن ينصب قاسماً يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجرةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب القسمة
لا تخفى مناسبتها للقضاء، لأنها بالقضاء أكثر من الرضا.
وهي لغةً: اسم للاقتسام. وشرعاً: جمع نصيب شائع في مكان مخصوص.
وسببها: طلب الشركاء أو بعضهم للانتفاع بملكه على وجه الخصوص. وشرطها: عدم فوت المنفعة بالقسمة.
ثم هي لا تعرى عن معنى المبادلة، لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له، وبعضه كان لصاحبه، فهو يأخذ عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه. والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه، والمبادلة هي الظاهر في غيره للتفاوت، حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة صاحبه، إلا أنه إذا كانت من جنس واحد، أجبره القاضي على القسمة عند طلب أحدهم، لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد، والمبادلة مما يجري فيه الجبر كما في قضاء الدين، وإن كانت أجناساً مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها، لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد، ولو تراضوا عليها جاز، لأن الحق لهم، وتمامه في الهداية.
(ينبغي للإمام أن ينصب قاسماً يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجرة) ، لأن القسمة من جنس عمل القضاء، من حيث إنه يتم به قطع(4/91)
فإن لم يفعل نصب قاسماً يقسم بالأجرة، ويجب أن يكون عدلاً، مأموناً، عالماً بالقسمة، ولا يجبر القاضي الناس على قاسمٍ واحدٍ، ولا يترك القسام يشتركون.
وأجر القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: على قدر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنازعة، فأشبه رزق القاضي (فإن لم يفعل نصب قاسما يقسم بالأجرة) من مال المتقاسمين؛ لأن النفع لهم، وهي ليست بقضاء حقيقة، فجاز له أخذ الأجرة عليها، وإن لم يجز على القضاء كما في الدر عن أخي زاده، قال في الهداية: والأفضل أن يرزقه من بيت المال، لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة، اهـ.
(ويجب أن يكون) المنصوب للقسمة (عدلا) ، لأنها من جنس عمل القضاء (مأموناً) ليعتمد على قوله (عالماً بالقسمة) ليقدر عليها، لأن من لا يعلمها لا يقدر عليها.
(ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد) قال في الهداية: معناه لا يجبرهم على أن يستأجروه، لأنه لا جبر على العقود، ولأنه لو تعين لتحكيم بالزيادة على أجر مثله، ولو اصطلحوا فاقتسموا جاز، إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي، لأنه لا ولاية لهم عليه، اهـ. (ولا يترك) القاضي (القسام يشتركون) كيلا يتواضعوا على مغالاة الأجر، فيحصل الإضرار بالناس.
(وأجرة القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة) لأن الأجر مقابل بالتمييز، وإنه لا يتفاوت، وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل، وقد ينعكس الحال، فتعذر اعتباره، فيتعلق الحكم بأصل التمييز (وقالا: على قدر(4/92)
الأنصباء.
وإذا حضر الشركاء وفي أيديهم دارٌ أو ضيعةٌ ادعوا أنهم ورثوها عن فلانٍ لم يقسمها عند أبي حنيفة حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يقسمها باعترافهم، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأنصباء) ، لأنه مؤونة الملك فيتقدر بقدره، قال في التصحيح: وعلى قول الإمام مشى في المغنى والمحبوبي وغيرهما.
(وإذا حضر الشركاء عند القاضي وفي أيديهم دار أو ضيعة) أي أرض (ادعوا أنهم ورثوها عن) مورثهم (فلان لم يقسمها عند أبي حنيفة) ، لأن القسمة قضاء على الميت، إذ التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة، بدليل ثبوت حقه في الزوائد، كأولاد ملكه وأرباحه، حتى تقضى ديونه منها وتنفذ وصاياه، وبالقسمة ينقطع حق الميت عن التركة، حتى لا يثبت حقه فيما يحدث بعده من الزوائد، فكانت قضاء على الميت، فلا يجابون إليها بمجرد الدعوى، بل (حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته) ويصير البعض مدعياً والبعض الآخر خصما عن المورث، ولا يمتنع ذلك إقراره، كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين فإنه تقبل البينة عليه مع إقراره (وقالا: يقسمها باعترافهم) لأن اليد دليل الملك، ولا منازع لهم، فيقسمها كما في المنقول والعقار المشترى (و) لكن (يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم) ليقتصر عليهم، ولا يكون قضاء على شريك آخر لهم.
قال الإمام جمال الإسلام في شرحه: الصحيح قول الإمام، واعتمده المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، كذا في التصحيح.
(وإذا كان المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراث) أو مشترى أو ملك مطلق، وطلبوا قسمته (قسمة في قولهم جميعا) ؛ لأن في قسمة المنقول نظراً للحاجة إلى الحفظ (وإن ادعوا في العقار أنهم اشتروه) وطلبوا قسمته (قسمه بينهم) أيضاً؛ لأن المبيع يخرج من ملك البائع وإن لم يقسم، فلم تكن القسمة قضاء على الغير (وإن) ادعوا الملك المطلق، و (لم يذكروا كيف انتقل) إليهم (قسمه بينهم) أيضاً؛ لأنه ليس في القسمة قضاء على الغير؛ فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم، قال في التصحيح: هذه رواية كتاب القسمة، وفي رواية الجامع: لا يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما، قال في الهداية: ثم قيل هو قول أبي حنيفة خاصة، وقيل: هو قول الكل، وهو الأصح، وكذا نقل الزاهدي.
(وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه) بعد القسمة (قسم بطلب أحدهم) ؛ لأن في القسمة تكميل المنفعة؛ فكانت حقاً لازماً فيما يقبلها بعد طلب أحدهم (وإن كان أحدهم ينتفع) بالقسمة، لكثرة نصيبه (والآخر يستضر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم) له؛ لأنه ينتفع بنصيبه،(4/93)
وإذا كان المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراثٌ قسمه في قولهم جميعاً، وإن ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمه بينهم، وإن ادعوا الملك ولم يذكروا كيف انتقل قسمه بينهم.
وإذا كان كل واحدٍ من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم، وإن كان أحدهم ينتفع والآخر يستضر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فاعتبر طلبه؛ لأن الحق لا يبطل بتضرر الغير. (وإن طلب صاحب القليل لم يقسم) له؛ لأنه يستضر فكان متعنتاً في طلبه، فلم يعتبر طلبه، قال في التصحيح: وذكر الخصاف على قلب هذا، وذكر الحاكم في مختصره أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي، قال في الهداية وشرح الزاهدي: إن الأصح ما ذكر في الكتاب، وعليه مشى الإمام البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، وغيرهم، اهـ (وإن كان كل واحد منهما يستضر) لقلته (لم يقسمها) القاضي (إلا بتراضيهما) ، لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، ويجوز بتراضيهما، لأن الحق لهما، وهما أعرف بشأنهما.
(ويقسم العروض) جمع عرض - كفلس - خلاف العقار (إذا كانت من صنف واحد) لاتحاد المقاصد فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة، (ولا يقسم الجنسان بعضهما في بعض) ، لأنه لا اختلاط بين الجنسين، فلا تقع القسمة تمييزا، بل تقع معاوضة، وسبيلها التراضي دون جبر القاضي. (وقال أبو حنيفة: لا يقسم الرقيق ولا الجوهر لتفاوته) ، لأن التفاوت في الآدمي فاحش، لتفاوت المعاني الباطنة، فكان كالجنس المختلف، بخلاف الحيوانات، لأن التفاوت(4/94)
وإن طلب صاحب القليل لم يقسم، وإن كان كل واحدٍ يستضر لم يقسمها إلا بتراضيهما.
ويقسم العروض إذا كانت من صنفٍ واحدٍ، ولا يقسم الجنسان بعضهما في بعض، وقال أبو حنيفة: لا يقسم الرقيق ولا الجوهر لتفاوته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها يقل عند اتحاد الجنس، وتفاوت الجواهر أفحش من تفاوت الرقيق (وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم الرقيق) لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم، قال في الهداية: وأما الجواهر فقد قيل: إذا اختلف الجنس لا يقسم كما في اللآلئ واليواقيت، وقيل: لا يقسم الكبار منها لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت، وقيل: يجري الجوب على إطلاقه، لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق، ألا ترى أنه لو تزوج على لؤلؤة، أو ياقوته، أو خالع عليهما لا تصح التسمية ويصح ذلك على عبد، فأولى أن لا يجبر على القسمة، اهـ. قال الإمام بهاء الدين في شرحه: الصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده المحبوبي(4/95)
وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يقسم الرقيق.
ولا يقسم حمامٌ ولا بئر ولا رحىً إلا أن يترضى الشركاء.
وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارثٌ غائبٌ قسمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، كذا في التصحيح.
(ولا يقسم حمام، ولا بئر، ولا رحى) ولا كل ما في قسمه ضرر لهم، كالحائط بين الدارين والكتب، لأنه يشتمل على الضرر في الطرفين، لأنه لا يبقى كل نصيب منتفعاً به انتفاعا مقصوداً، فلا يقسمه القاضي، بخلاف التراضي كما مر، ولذا قال: (إلا أن يتراضى الشركاء) ، لالتزامهم الضرر، وهذا إذا كانوا ممن يصح التزامهم، وإلا فلا.
(وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة، والدار) أو العروض بالأولى (في أيديهما، ومعهما وارث غائب) أو صغير (قسمها(4/96)
القاضي بطلب الحاضرين، وينصب للغائب وكيلاً يقبض نصيبه، وإن كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم، وإن كان العقار في يد الوارث الغائب لم يقسم، وإن حضر وارثٌ واحدٌ لم يقسم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القاضي بطلب الحاضرين، وينصب للغائب وكيلا) وللصغير وصيا (يقبض نصيبه) ، لأن في ذلك نظراً للغائب والصغير، ولابد من إقامة البينة على أصل الميراث في هذه الصورة عند أبي حنيفة أيضاً، لأن في هذه القسمة قضاء على الغائب والصغير بقولهم، خلافا لهما.
(وإن كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم) والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة، حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتروه المورث ويصير مغرورا بشراء المورث، فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه، فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين، أما الملك الثابت بالشراء فملك مبتدأ، ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه، فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب، فوضح الفرق، هداية.
(وإن كان العقار) أو شيء منه (في يد الوارث الغائب) أو مودعه (لم يقسم) قال في الهداية: وكذا إذا كان في يد الصغير، لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه، والقضاء من غير خصم لا يجوز، ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها، هو الصحيح كما أطلق في الكتاب، اهـ.
(وإن حضر وارث واحد لم يقسم) وإن أقام البينة؛ لأنه لابد من حضور الخصمين، لأن الواحد لا يصلح مخاصماً ومخاصماً، وكذا مقاسما ومقاسما، بخلاف(4/97)
وإذا كانت دورٌ مشتركةٌ في مصرٍ واحدٍ قسمت كل دارٍ على حدتها في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا، ولو كان الحاضر كبيراً وصغيراً نصب القاضي عن الصغير وصيا، وقسم إذا أقيمت البينة، وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية؛ لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه، وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه، هداية.
فقوله فيما تقدم: "وكذا إذا كان في يد صغير" أي غائب، كما يدل له ما في البزازية: ونصه: وإن حضر الوارث ومعه صغير نصب وصيا وقسم بينهما كما مر، فإن كان الصغير غائبا وطلب من الحاكم نصب الوصي لا ينصب، إلى أن قال: والفرق بين الصغير الغائب والحاضر أن الدعوى لا تصح إلا على خصم حاضر، وجعل الغير خصما عن الغائب خلاف الحقيقة، فلا يصار إليه إلا عند العجز، والصغير عاجز عن الجواب، لا عن الحضور، فلم نجعل عنه غيره خصما في حق الحضور، وجعل خصما في الجواب، فإذا كان الصبي حاضرا وجد الدعوى على حاضر فينصب وصيا عنه في الجواب، وإن كان غائبا لم يوجد الدعوى على حاضر، فى ينصب وصيا عنه في الجواب؛ لعدم صحة الدعوى، اهـ.
(وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد قسمت كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة) ؛ لأن الدور أجناس مختلفة؛ لاختلاف المقاصد باختلاف المحال والجيران والقرب من المسجد والماء والسوق، فلا يمكن التعديل (وقالا) :(4/98)
إن الأصلح لهم قسمة بعضها في بعضٍ قسمها.
وإن كانت دارٌ وضيعةٌ، أو دارٌ وحانوت، قسم كل واحدٍ على حدته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرأي فيه إلى القاضي (إن كان الأصلح لهم سمة بعضها في بعض قسمها) كذلك، وإلا قسمها كل دار على حدتها، لأن القاضي مأمور بفعل الأصلح مع المحافظة على الحقوق. قال الإسبيجاني: الصحيح قول الإمام، وعليه مشى البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح.
قال في الهداية: وتقييد الكتاب بكونهما في مصر واحد، إشارة إلى أن الدارين إذا كانتا في مصرين لا يجمعان في القسمة عندهما، وهو رواية هلال عنهما، وعن محمد: أنه يقسم إحداهما في الأخرى، اهـ.
(وإن كانت دار وضيعة) أي: أرض (أو دار وحانوت - قسم كل واحد على حدته مطلقاً) لاختلاف الجنس.
قال في الدرر: ههنا أمور ثلاثة: الدور، والبيوت، والمنازل، فالدور - متلازقة كانت أو متفرقة - لا تقسم قسمة واحدة إلا بالتراضي، والبيوت تقسم مطلقا لتقاربها في معنى السكنى، والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة متلاصقة بعضها ببعض قسمت قسمة واحدة، وإلا فلا، لأن المنزل فوق البيت ودون الدار، فألحقت المنازل بالبيوت إذا كانت متلاصقة، وبالدور إذا كانت متباينة، وقالا في الفصول كلها: ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه، ويمضي على ذلك، وأما الدور والضيعة والدور والحانوت، فيقسم كل منها وحدها، لاختلاف الجنس، اه(4/99)
وينبغي للقاسم: أن يصور ما يقسمه، ويعدله، ويذرعه، ويقوم البناء، ويفرز كل نصبٍ عن الباقي بطريقه وشربه حتى لا يكون لنصيبٍ بعضهم بنصيب الآخر تعلقٌ، ثم يلقب نصيباً بالأول، والذي يليه بالثاني والثالث، وعلى هذا، ثم يخرج القرعة فمن خرج اسمه أولاً فله السهم الأول، ومن خرج ثانياً فله السهم الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولما فرغ من بيان القسمة، وبيان ما يقسم ومالا يقسم، شرع في بيان كيفية القسمة، فقال:.
(وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه) لى قرطاس؛ ليمكنه حفظه ورفعه للقاضي (ويعدله) يعني يسويه على سهام القسمة، ويروي "ويعزله" أي يقطعه بالقسمة عن غيره، هداية (ويذرعه) ليعرف قدره (ويقوم البناء) لأنه ربما يحتاجه آخراً (ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه، حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق) ليتحقق معنى التمييز والإفراز تمام التحقق (ثم يلقب) الأنصباء (نصيبا بالأول، والذي يليه بالثاني، والثالث) بالثالث، (و) الرابع وما بعده (على هذا) المنوال، ويكتب أسماء المتقاسمين على قطع قرطاس. أو نحوه، وتوضع في كيس أو نحوه، ويجعلها قرعة (ثم يخرج القرعة) أي قطعة من تلك القطع المكتوبة فيها أسماء المتقاسمين (فمن خرج اسمه أولا فله السهم الأول) أي الملقب بالأول (ومن خرج) اسمه (ثانياً فله السهم الثاني) وهلم جرا، وهذا حيث اتحدت السهام(4/100)
ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلو اختلفت السهام - بأن كانت بين ثلاثة مثلا، لأحدهم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم - جعلها ستة عشر سهماً، وكتب أسماء الثلاثة، فإن خرج أولا اسم صاحب العشرة، أعطاه الأول وتسعة متصلة به، ليكون سهامه على الاتصال، وهكذا حتى يتم.
قال في الهداية: وقوله في الكتاب "ويفرز كل نصيب بطريقة وشربه"بيان الأفضل، وإن لم يفعل أو لم يمكن جاز، على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى، والقرعة: لتطييب القلوب وإزالة تهمة الميل، حتى لو عين لكل منهم من غير اقتراع جاز، لأنه في معنى القضاء فملك الإلزام، اهـ.
(ولا يدخل) القسام (في القسمة الدراهم والدنانير) لأن القسمة تجري في المشترك، والمشترك بينهما العقار لا الدراهم والدنانير، فلو كان بينهما دار وأرادوا قسمتها وفي أحد الجانبين فضل بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناه دراهم وأراد الآخر أن يكون عوضه من الأرض فإنه يجعل عوضه من الأرض، ولا يكلف الذي وقع البناء في نصيبه أن يرد بإزائه دراهم (إلا بتراضيهم) ، لما في القسمة من معنى المبادلة، فيجوز دخول الدراهم فيها بالتراضي دون جبر القاضي، إلا إذا تعذر فحينئذ للقاضي ذلك.
قال في الينابيع: قول القدوري "ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير" يريد به إذا أمكنت القسمة بدونها، أما إذا لم تمكن عدل أضعف الأنصباء بالدراهم والدنانير، اهـ.
قال في التصحيح: وفي بعض النسخ "ينبغي للقاضي أن لا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير، فإن فعل جاز، وتركه أولى" اه(4/101)
وإن قسم بينهم ولأحدهم مسيلٌ في ملك لآخر، أو ريقٌ لم يشترط في القسمة: فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه فليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب الآخر، وإن لم يمكن فسخت القسمة.
وإن كان سفلٌ لا علو له، وعلوٌ لا سفل له، وسفلٌ له علوٌ، قوم كل واحدٍ على حدته، وقسم بالقيمة، ولا معتبر بغير ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل) ماء (في ملك الآخر، أو طريق) أو نحوه، والحال أنه (لم يشترط) ذلك (في القسمة، فإن أمكن صرف) ذلك (الطريق والمسيل عنه، فليس له أن يستطرق ويسيل في نصيب) الشريك (الآخر) ؛ لأنه أمكن تحقيق القسمة من غير ضرر (وإن لم يمكن) ذلك (فسخت القسمة) لأنها مختلة؛ لبقاء الاختلاط، فتستأنف.
(وإذا كان) الذي يراد قسمته بعضه (سفل لا علو له) أي: ليس فوقه علو، أو فوقه علو للغير (و) بعضه (علو لا سفل له) بأن كان السفل للغير، (و) بعضه (سفل لا علو؛ قوم كل واحد على حدته، وقسم بالقيمة، ولا معتبر بغير ذلك) وهذا عند محمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقسم بالذرع، ثم اختلفا في كيفية القسمة بالذرع، قال أبو حنيفة: ذراع من السفل بذراعين من العلو، وقال أبو يوسف: ذراع بذراع، ثم قيل: كل منهما على عادة أهل عصره، أو بلده، وقيل: اختلاف معنى، قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة(4/102)
وإذا اختلف المتقاسمون فشهد القاسمان، قبلت شهادتهما.
فإن ادعي أحدهما الغلط، وزعم أن مما أصابه شيئاً في يد صاحبه، وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء، لم يصدق على ذلك إلا ببينةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: هذا الصحيح بالنسبة إلى قول أبي يوسف، والمشايخ اختاروا قول محمد، بل قال في التحفة والبدائع: والعمل في هذه المسألة على قول محمد، وقال في الينابيع والهداية وشرح الزاهدي والمحيط: وعليه الفتوى اليوم، كذا في التصحيح.
(وإذا اختلف المتقاسمون) في القسمة (فشهد القاسمان، قبلت شهادتهما) قال في الهداية: الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا تقبل، وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي، وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما، وقاسم القاضي وغيره سواء، وقال جمال الإسلام: الصحيح قول أبي حنيفة، وعليه مشى البرهاني والنسفي، وغيرهما، تصحيح.
(فإن ادعى أحدهما) أي المتقاسمين (الغلط) في القسمة (وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه، وقد) كان (أشهد على نفسه بالاستيفاء، لم يصدق على ذلك) الذي يدعيه (إلا ببينة) ، لأنه يدعى فسخ القسمة بعد وقوعها، فلا يصدق إلا بحجة، فإن لم تقم له بينة استحلف الشركاء، فمن نكل منهم جمع بين نصيب الناكل والمدعي، فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما، لأن النكول حجة في حقه خاصة، فيعاملان على زعمهما؛ وينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا؛ لتناقضه، وإليه أشار من بعد، هداية، ومثله في كافي النسفي، وظاهر كلامهما أنه لم يوجد فيه رواية، لكن قال صدر الشريعة بعد نقله البحث المذكور: وفي المبسوط وفتاوى(4/103)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاضيخان ما يؤيد هذا. ثم قال: وجه رواية المتن أنه اعتمد على فعل القاسم في إقراره باستيفاء حقه، ثم لما تأمل حق التأمل ظهر الخطأ في فعله، فلا يؤاخذ بذلك الإقرار عند ظهور الحق، اهـ.
وقول الهداية "وإليه أشار من بعد" أي: أشار القدوري إلى ما بحثه من أنه ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا في الفرع الآتي بعد هذا حيث قال: "وإن قال أصابني إلى موضع كذا فلم تسلمه لي، ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه تحالفا وفسخت القسمة" فإن مفهومه أنه لو شهد على نفسه بالاستيفاء قبل الدعوى لا يتحالفان، وما ذاك إلا لعدم صحة الدعوى؛ لأن التحالف مبنىٌ على صحة الدعوى، ولذا قال في الحواشي السعدية - بعد نقل ما ذكره صدر الشريعة المار - ما نصه: وفيه بحث، فإن مثل هذا الإقرار إن كان مانعاً من صحة الدعوى لا تسمع البينة، لابتناء سماعها على صحة الدعوى، وإن لم يكن مانعاً ينبغي أن يتحالفا، اهـ.
قال شيخنا رحمه الله تعالى: وقد يجاب بأن قولهم هنا "قد أقر بالاستيفاء" صريح، وقولهم بعد: "قبل إقراره" مفهوم، والمصرح به أن الصريح مقدم على المفهوم، فيتأمل. اهـ. وأمره بالتأمل مشعر بنظره فيه، وهو كذلك كما لا يخفى على نبيه.
وإذا أمعنت النظر في كلامهم، وتحققت في دقيق مرامهم - علمت أن ليس في هذا الفرع منافاة لما بعده، والتقييد فيه بكونه قبل الإقرار قيد لوجوب التحالف وحده، لا لصحة الدعوى، فإنها تصح سواء كانت قبل الإقرار أو بعده.
والمعنى: إنه إن سبق منه إقرار بالاستيفاء لا يتحالفان وإن صحت الدعوى،(4/104)
وإن قال "استوفيت حقي" ثم قال "أخذت بعضه" فالقول قول خصمه مع يمينه.
وإن قال "أصابني إلى موضع كذا فلم تسلمه إلي "ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء، وكذبه شريكه تحالفا، وفسخت القسمة؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك لأن صحة الدعوى شرط لوجوب التحالف، وليس التحالف بشرط لصحة الدعوى كما هو مصرح به في باب التحالف.
ومن أراد استيفاء المرام في هذا المقام، فعليه برسالتنا فقد أشبعنا فيها الكلام.
(وإذا قال: استوفيت حقي، ثم قال: أخذت بعضه، فالقول قول خصمه مع يمينه) ؛ لأنه يدعي عليه الغصب، وهو منكر.
(وإن قال: أصابني) في القسمة (إلى موضع كذا، فلم تسلمه إلي، ولم يشهد) قبل ذلك (على نفسه بالاستيفاء وكذبه شريكه) في دعواه (تحالفا وفسخت القسمة) ، لاختلافهما في نفس القسمة، فإنهما قد اختلفا في قدر ما حصل بالقسمة، فأشبه الاختلاف في قدر المبيع، فوجب التحالف، كذا في شرح الإسبيجاني، قيد بكونه لم يشهد على نفسه بالاستيفاء لأنه لو سبق منه ذلك لا يتحالفان، وإن صحت الدعوى، بل ببينته أو يمين خصمه.
فإن قلت: إذا كانت الدعوى صحيحة، سواء كانت قبل الإشهاد أو بعده، فما وجه وجوب التحالف إذا كانت الدعوى قبل الإشهاد، وعدمه إذا كانت بعده؟.
قلت: لأن وجوب التحالف في القسمة إنما يكون إذا ادعى الغلط على وجه لا يكون مدعيا الغصب، كما في الذخيرة وغيرها، وإذا كانت الدعوى بعد الإشهاد بالاستيفاء يكون مدعيا الغصب ضمناً، كأنه يقول: الذي أصابني إلى موضع كذا(4/105)
وإن استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة ورجع بحصة ذلك من نصيب شريكه، وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأنت غاصب لبعضه، ولذا ساغت منه الدعوى بعد الإشهاد؛ لأن دعوى الغصب لا تناقض الإقرار بالاستيفاء.
(وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه، لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة، ورجع بحصة ذلك) المستحق (من نصيب شريكه) لأنه أمكن جبر حقه بالمثل، فلا يصار إلى الفسخ (وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة) ؛ لأنه تبين أن لهما شريكا ثالثاً، ولو كان كذلك لم تصح القسمة. قال في الهداية وشرح الزاهدي: ذكر المصنف الاختلاف في استحقاق بعضٍ بعينه، وهكذا ذكر في الأسرار، والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما. فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه، ولم يذكر قول محمد، وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف، وأبو حفص مع أبي حنيفة، وهو الأصح، وهكذا ذكره الإسبيجاني، قال: والصحيح قولهما، وعليه مشى الإمام المحبوبي، والنسفي، وغيرهما، كذا في التصحيح.
تتمة - المهايأة جائزة استحساناً، ولا تبطل بموتهما، ولا بموت أحدهما، ولو طلب أحدهما القسمة بطلت، ويجوز في دار واحدة: بأن يسكن كل منهما طائفة أو أحدهما العلو والآخر السفل، وله إجارته وأخذ غلته، ويجوز في عبد واحد: يخدم هذا يوما، وهذا يوما، وكذا في البيت الصغير، وفي العبدين يخدم كل واحد واحداً، فإن شرطا طعام العبد على من يخدمه جاز، وفي الكسوة لا يجوز، ولا(4/106)
كتاب الإكراه.
- الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به، سلطاناً كان أو لصاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجوز في غلة عبد ولا عبدين، ولا في ثمرة الشجرة، ولا في لبن الغنم وأولادها، ولا في ركوب دابة ولا دابتين ولا استغلالهما، ويجوز في عبد ودار على السكنى والخدمة، وكذلك كل مختلفي المنفعة، كذا في المختار.
كتاب الإكراه
مناسبته للقسمة أن للقاضي إجبار الممتنع فيهما.
وهو لغة: حمل الإنسان على أمرٍ يكرهه، وشرعا: حمل الغير على فعل بما يعدم رضاه دون اختياره، لكنه قد يفسده، وقد لا يفسده.
قال في التنقيح: وهو إما ملجئ: بأن يكون بفوت النفس أو العضو، وهذا معدم للرضا مفسد للاختيار، وإما غير ملجئ: بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب، وهذا معدم للرضا غير مفسد للاختيار.
والحاصل كما في الدرر: أن عدم الرضا معتبر في جميع صور الإكراه، وأصل الاختيار ثابت في جميع صوره، ولكن في بعض الصور يفسد الاختيار، وفي بعضها لا يفسده.
وشرطه: قدرة المكره على إيقاع ما هدد به، وخوف المكره، وامتناعه عنه قبله كما أشار إليه بقوله (الإكراه يثبت حكمه) أي الآتي (إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطاناً كان أو لصا) أو نحوه، إذا تحقق منه القدرة، لأنه إذا كان بهذه الصفة لم يقدر المكره على الامتناع، وهذا عندهما، وعند أبي حنيفة لا يتحقق(4/107)
وإذا أكره الرجل على بيع ماله، أو على شراء سلعةٍ، أو على أن يقر لرجلٍ بألفٍ، أو يؤاجر داره - وأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد، أو بالحبس المديد - فباع أو اشترى، فهو بالخيار: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه.
وإن كان قبض الثمن طوعاً فقد أجاز البيع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا من السلطان؛ لأن القدرة [بهذه الصفة] لا تكون بلا منعة، والمنعة للسلطان؛ قالوا: هذا اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان؛ لأن في زمانه لم يكن لغير السلطان من القوة ما يتحقق به الإكراه، فأجاب بناء على ما شاهد، وفي زمانهما ظهر الفساد وصار الأمر إلى كل متغلب، فيتحقق الإكراه من الكل، والفتوى على قولهما، درر عن الخلاصة.
(وإذا أكره الرجل على بيع ماله، أو) أكره (على شراء سلعة، أو على أن يقر لرجل بألف) من الدراهم مثلا (أو يؤاجر داره، وأكره على ذلك بالقتل، أو بالضرب الشديد، أو بالحبس المديد، فباع أو اشترى) خشية من ذلك (فهو بالخيار: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء فسخه) ورجع بالمبيع؛ لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي، والإكراه يعدم الرضا فيفسدها، بخلاف ما إذا أكره بضرب سوطٍ، أو حبس يوم، أو قيد يوم؛ لأنه لا يبالي به بالنظر إلى العادة، فلا يتحقق به الإكراه، إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا، هداية.
(وإن كان قبض الثمن طوعاً فقد أجاز البيع) ، لأنه دلالة الإجازة كما في(4/108)
وإن كان قبضه مكرهاً فليس بإجازة، وعليه رده إن كان قائماً في يده، وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته.
وللمكره أن يضمن المكره إن شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيع الموقوف، وكما إذا سلم طائعاً بأن كان الإكراه على البيع، لا على الدفع؛ لأنه دليل الإجازة (الضمير في "لأنه" يعود إلى التسليم مع الطواعية) ، هداية.
(وإن كان قبضه مكرها فليس بإجازة) لعدم الرضا (وعليه رده إن كان قائماً في يده) لفساد العقد (وإن) كان قد (هلك المبيع في يد المشتري، وهو) أي المشتري (غير مكره) والبائع مكره (ضمن) المشتري (قيمته) للبائع؛ لتلف مال الغير في يده من غير عقد صحيح، فتلزمه القيمة.
قيد بكونه المشتري غير مكره لأنه إذا كان مكرهاً أيضاً يكون الضمان على المكره دونه.
(وللمكره) بالبناء المجهول (أن يضمن المكره) بالبناء للمعلوم (وإن شاء) لأنه آلة للاكراه فيما يرجع للاتلاف، فكأنه دفعه بنفسه إلى المشتري، فيكون مخيرا في تضمين أيهما شاء، كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة، وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود؛ لأنه تملكه بالضمان، فظهر أنه باع ملكه، ولا ينفذ ما كان قبله؛ لأن الاسناد إلى وقت قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده؛ لأنه أسقط حقه وهو المانع، فعاد الكل إلى الجواز، هداية(4/109)
ومن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر - وأكره على ذلك بحبس، أو ضرب، أو قيدٍ - لم يحل له، إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه، أو على عضوٍ من أعضائه، فإذا خاف ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه، ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثمٌ.
وإن أكره على الكفر بالله عز وجل، أو سب النبي عليه الصلاة والسلام: بقيدٍ، أو حبسٍ، أو ضربٍ، لم يكن ذلك إكراهاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن أكره على أن يأكل الميتة) أو الدم، أو لحم الخنزير (أو يشرب الخمر، وأكره على ذلك) بغير ملجئ: بأن كان (بحبس أو قيد أو ضرب) لا يخاف منه على تلف على النفس أو عضو من الأعضاء (لم يحل له) الإقدام؛ إذ لا ضرورة في إكراه غير ملجئ، إلا أنه لا يحد بالشرب للشبهة، ولا يحل له الإقدام (إلا أن يكره) بملجئ: أي (بما يخاف منه على) تلف (نفسه أو على) تلف (عضو من أعضائه، فإذا خاف ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه) بل يجب عليه؛ ولذا قال (ولا يسعه) أي لا يجوز له (أن يصبر على ما توعد به) حتى يواقعوا به الفعل (فإن صبر حتى أوقعوا به) فعلا (ولم يأكل فهو آثم) ؛ لأنه لما أبيح له ذلك كان بالامتناع معاوناً لغيره على إهلاك نفسه، فيأثم كما في حالة المخمصة.
(وإن أكره على الكفر بالله) عز وجل (أو سب النبي صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراهاً) لأن الإكراه بهذه(4/110)
حتى يكره بأمرٍ يخاف منه على نفسه، أو على عضوٍ من أعضائه، فإذا خاف ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به، ويورى، فإذا أظهر ذلك وقلبه مطمئنٌ بالإيمان فلا إثم عليه، وإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجوراً.
وإن أكره على إتلاف مال مسلمٍ بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضوٍ من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك، ولصاحب المال أن يضمن المكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر كما مر، ففي الكفر أولى، بل (حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف ذلك وسعه أن يظهر) على لسانه (ما أمروه به، ويورى) وهي أن يظهر خلاف ما يضمر (فإذا أظهر ذلك) على لسانه (وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه) ؛ لأنه بإظهار ذلك لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة، فيسعه الميل إلى إظهار ما طلبوه (وإن صبر) على ذلك (حتى قتلوه ولم يظهر الكفر كان مأجوراً) لأن الامتناع لإعزاز الدين عزيمة.
(وإن أكره على إتلاف مال) امرئ (مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك) ، لأن مال الغير يستباح للضرورة، كما في حالة المخمصة، وقد تحققت الضرورة (ولصاحب المال أن يضمن المكره) بالكسر، لأن المكره بالفتح كالآلة(4/111)
وإن أكره بقتلٍ على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثماً، والقصاص على الذي أكرهه إن كان القتل عمداً.
وإن أكرهه على طلاق امرأته، أو عتق عبده ففعل، وقع ما أكره عليه، ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن أكره بقتل على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما) ؛ لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما فكذا بهذه الضرورة، هداية (و) لكن (القصاص على الذي أكرهه إن كان القتل عمدا) قال في الهداية: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال زفر: يجب على المكره، وقال أبو يوسف: لا يجب عليهما.
قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة كما هو الرسم، تصحيح.
(وإن أكرهه على طلاق امرأته) أو نكاح امرأة (أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه) لأنها تصح مع الإكراه كما تصح مع الهزل، كما مر في الطلاق (ويرجع) المكره (على الذي أكرهه بقيمة العبد) في الإعتاق؛ لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف، فيضاف إليه (في نسخة "فلا يضاف إليه" ومن الممكن تصحيح كلتا النسختين، فتأمل) . فله أن يضمنه موسراً كان أو معسراً لكونه ضمان إتلاف كما مر، ولا يرجع الحامل على العبد بالضمان، لأنه مؤاخذ بإتلافه، درر(4/112)
وبنصف مهر المرأة إن كان الطلاق قبل الدخول.
وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة، إلا أن يكرهه السلطان، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: لا يلزمه الحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وبنصف مهر المرأة) في الطلاق (إن كان) الطلاق (قبل الدخول) وكان مهر مسمى في العقد؛ لأن ما عليه كان على شرف السقوط بوقوع الفرقة من جهتها، وقد تأكد ذلك بالطلاق، فكان تقريراً للمال من هذا الوجه، فيضاف تقريره إلى الحامل والتقرير كالإيجاب، درر. قيد بما إذا كان قبل الدخول لأنه لو كان دخل بها تقرر المهر بالدخول لا بالطلاق. وقيدنا بكون المهر مسمى في العقد لأنه لو لم يكن مسمى فيه إنما يرجع بما لزمه من المتعة، ولا يرجع في النكاح بشيء لأن المهر إن كان مهر المثل أو أقل كان العوض مثل ما أخرجه عن ملكه أو أكثر، وإن كان أكثر من مهر المثل فالزيادة باطلة، ويجب مقدار مهر المثل، ويصير كأنهما سميا ذلك المقدار، حتى إنه يتنصف بالطلاق قبل الدخول، جوهرة. وفيها عن الخجندي: الإكراه لا يعمل في الطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، والتدبير، والعفو عن دم العمد، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفئ فيه، والإسلام، اهـ.
(وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة، إلا أن يكرهه السلطان) لأن الإكراه عنده لا يتحقق من غيره (وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلزمه الحد) ؛ لأن الإكراه يتحقق من غيره، وعليه الفتوى، قال قاضيخان: الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان في قول الإمام، وفي قول صاحبيه يتحقق من كل متغلب يقدر على تحقيق ما هدد به، وعليه الفتوى، وفي الحقائق: والفتوى على قولهما، وعليه مشى الإمام البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح(4/113)
وإذا أكرهه على الردة لم تبن امرأته منه.
كتاب السير.
- الجهاد فرضٌ على الكفاية، إذا قام به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا أكره) الرجل (على الردة لم تبن امرأته منه) ؛ لأن الردة تتعلق بالاعتقاد، ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئناً بالإيمان لا يكفر، وفي اعتقاده الكفر شك، فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة "قد بنت منك" وقال هو "قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان" فالقول قوله استحساناً؛ لأن اللفظ غير موضوع للفرقة، وهي بتبدل الاعتقاد، ومع الإكراه لا يدل على التهدل؛ فكان القول قوله، هداية.
كتاب السير
مناسبته للاكراه لا تخفى؛ فإن كلا منهما للزجر والرد إلى الوفاء، إلا أن الأول في المسلمين والكفار عام، بخلاف الثاني، فكان أولى بالاهتمام، والأول زاجر عن العصيان، والثاني عن الكفر والطغيان، فترقى من الأدنى إلى الأعلى كما في غاية البيان.
والسير - بكسر السين وفتح الياء - جمع سيرة، وهي: الطريقة في الأمور، وفي الشرع يختص بسير النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه، هداية. وترجم له الكثير بالجهاد، وهو لغة: مصدر جاهد في سبيل الله، وشرعا: الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله، كما في الشمنى.
(الجهاد فرض على الكفاية) ، لأنه لم يفرض لعينه، إذ هو إفساد في نفسه، (وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الفساد عن العباد، وكل ما هو كذلك فهو فرض كفاية إذا حصل المقصود بالبعض، وإلا ففرض عين، كما صرح بذلك حيث قال: (إذا قام به(4/114)
فريقٌ من الناس سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحدٌ أثم جميع الناس بتركه.
وقتال الكفار واجبٌ وإن لم يبدءونا، ولا يجب الجهاد على صبي، ولا على عبدٍ، ولا امرأة، ولا أعمى، ولا مقعدٍ، ولا أقطع.
وإن هجم العدو على بلدٍ وجب على جميع المسلمين الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى.
وإذا دخل المسلمون دار حربٍ فحاصروا مدينةً أو حصناً دعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوهم كفوا عن قتالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فريق من الناس سقط) الإثم (عن الباقين) ؛ لحصول المقصود بذلك كصلاة الجنازة ودفنها ورد السلام، فإن كل واحد منها إذا حصل من بعض الجماعة يسقط الفرض عن الباقين، وهذا إذا كان بذلك الفريق كفاية، أما إذا لم يكن بهم كفاية فرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تحصل الكفاية (وإن لم يقم به أحدا أثم جميع الناس بتركه) لتركهم فرضا عليهم.
(وقتال الكفار واجب وإن لم يبدءونا) للنصوص العامة (ولا يجب الجهاد على صبي) لعدم التكليف (ولا عبد، ولا امرأة) لتقدم حق المولى والزوج (ولا أعمى، ولا مقعد، ولا أقطع) ؛ لأنهم عاجزون، والتكليف بالقدرة.
(فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع المسلمين الدفع) حتى (تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى) لأنه صار فرض عين كالصلاة والصوم، وفرض العين مقدم على حق الزوج والمولى.
(وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصناً دعوهم) أولا (إلى الإسلام، فإن أجابوهم) إلى ذلك (كفوا عن قتالهم) لحصول المقصود، وقد(4/115)
وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية، فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ولا يجوز أن بقاتل من لم تبلغه دعوة الإسلام، إلا بعد أن يدعوهم، ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة، ولا يجب ذلك، وإن أبوا استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث.
(وإن امتنعوا) عن الإسلام (دعوهم إلى أداء الجزية) إذا كانوا ممن تقبل منهم الجزية، بخلاف من لا تقبل منهم كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} ، هداية (فإن بذلوها) أي قبلوا بذلها كانوا ذمة للمسلمين (فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم) لأنهم إنما بذلوها لذلك.
(ولا يجوز) للإمام (أن يقاتل) أحداً من (من لم تبلغه دعوة الإسلام إلا بعد أن يدعوهم) إليه، لأنهم بالعدوة إليه يعلمون أنا نقاتلهم على الدين، لا على سلب الأموال وسبي الذراري، فلعلهم يجيبون، فنكفى مؤنة القتال، ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي، ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل الصبيان والنسوان، هداية (ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة) أيضاً، مبالغة في الإنذار (و) لكن (لا يجب ذلك) عليه، لأن الدعوة قد بلغتهم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون - أي غافلون - ونعمهم يستقي على الماء، جوهرة (وإن أبوا) أي امتنعوا عن الإسلام وبذل الجزية (استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم)(4/116)
ونصبوا عليهم المجانيق، وحرقوهم، وأرسلوا عليهم الماء، وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم، ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلمٌ أسيرٌ أو تاجرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر لأعدائه (ونصبوا عليهم المجانيق) جمع منجنيق، قال في الصحاح: وهي التي يرمي بها الحجارة، معربة، وأصلها بالفارسية سنجي نيك: أي ما أجودني! وهي مؤنثة، وجمعها منجنيقات ومجانيق، وتصغيره مجينيق (قال الجواليقي في المعرب: "اختلف أهل العربية في المنجنيق، فقال قوم: الميم زائدة وقال آخرون: بل هي أصلية. وأخبرنا ابن بندار عن ابن رزمة عن أبي سعيد عن ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة، قال: سألت أعرابياً عن حروب كانت بينهم، فقال كانت بيننا حروب عون، تفقأ فيها العيون، مرة نجنق، وأخرى ترشق. فقوله "تجنق" دال على أن الميم زائدة، ولو كانت أصلية لقال "تمجنق" وكان المازني يقول: الميم من نفس الكلمة والنون زائدة، لقولهم "مجانيق" فسقوط النون في الجمع كسقوط الياء في "عيضموز" إذا قلت "عضاميز". ويقال: "منجنيق" و "مجنيق" بفتح الميم وكسرها وقيل: الميم والنون في أوله أصليتان، وقيل: الميم أصلية والنون زائدة، وهو أعجمي معرب وحكى الفراء "منجنوق" بالواو، وحكى غيره "منجليق" وقد جنق المنجنيق، ويقال "جنق" [بالتضعيف] ، وقال جرير:
يلقى الزلازل أقوام دلفت لهم * بالمنجنيق وصبا بالملاطيس اهـ) ، اهـ. وقد نصبها النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف (وحرقوهم) لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة، وهي موضع بقرب المدينة (وأرسلوا عليهم الماء، وقطعوا شجرهم، وأفسدوا زورعهم) لأن في ذلك كسر شوكتهم وتفريق جمعهم.
(ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر) ؛ لأنه قل(4/117)
وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم ويقصدون بالرمي الكفار.
ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيماً يؤمن عليه، ويكره إخراج ذلك في سريةٍ لا يؤمن عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يخلو حصن من مسلم؛ فلو امتنع باعتباره لانسد بابه.
(وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم) ؛ لأنه يؤدي إلى أن يتخذوا ذلك ذريعة إلى إبطال قتالهم أصلا (و) لكن (يقصدون بالرمي الكفار) لأن المسلم لا يجوز اعتماد قتله؛ فإذا تعذر التمييز فعلا وأمكن قصداً التزم؛ لأن الطاعة بحسب الطاقة، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة؛ لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقترن بالفروض كما في الهداية.
(ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف) وكتب الفقه والحديث، وكل ما يجب تعظيمه، ويحرم الاستخفاف به (مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيما يؤمن عليه) ؛ لأن الغالب هو السلامة، والغالب كالمتحقق (ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها) ؛ لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف؛ لأنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين، وهو التأويل الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو) ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوماً يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعرض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن، كالطبخ، والسقي، والمداواة. وأما الشواب فمقامهن في البيوت أدفع للفتنة، ولا يباشرن القتال، لأنه يستدل به على ضعف المسلمين،(4/118)
ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن سيده، إلا أن يهجم العدو.
وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا، ولا يغلوا، ولا يمثلوا، ولا يقتلوا امرأةً أو شيخاً فانياً ولا صبياً ولا أعمى ولا مقعداً، إلا أن يكون هؤلاء ممن له رأىٌ في الحرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا عند الضرورة، ولا يستحب إخراجهن للمباضعة والخدمة، فإن كانوا لابد مخرجين فبالإماء دون الحرائر، هداية.
(ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن سيده) ، لما تقدم أن حق الزوج والمولى مقدم (إلا أن يهجم العدو) ، لصيرورته فرض عين كما سبق.
(وينبغي للمسلمين أن لا يقدروا) أي يخونوا بنقض العهد (ولا يغلوا) أي: يسرقوا من الغنيمة (ولا يمثلوا) بالأعداء: بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رءوسهم، ونحو ذلك، والمثلة المروية في قصة العرنيبن منسوخة بالنهي المتأخر، هو المنقول، هداية. قال في الجوهرة: وإنما تكره المثلة بعد الظفر بهم، أما قبله فلا بأس بها، اهـ (ولا يقتلوا امرأة، ولا شيخاً فانياً) وهو الذي فنيت قواه (ولا صبيا، ولا أعمى، ولا مقعداً) ؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، والمبيح للقتل عندنا المحاربة، فلو قاتل أحد منهم يقتل دفعاً لشره (إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب) فيقتل، لأن من له رأي يستعان برأيه أكثر مما يستعان(4/119)
أو تكون المرأة ملكةً، ولا يقتلوا مجنوناً.
وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم وكان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين فلا بأس به، وإن صالحهم مدةٌ ثم رأى أن نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم، وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمقاتلته (أو تكون المرأة ملكة) ، لأن في قتلها تفريقاً لجمعهم، وكذلك إذا كان ملكهم صبيا صغيراً وأحضروه معهم في الوقعة، وكان في قتله تفريق جمعهم - فلا بأس بقتله، جوهرة.
(ولا يقتلوا مجنوناً) ، لأنه غير مخاطب، إلا يقاتل فيقتل دفعاً لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان، وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة، لتوجه الخطاب نحوه، هداية.
(وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب) على ترك القتال معهم (أو فريقاً منهم) مجاناً، أو على مال منا أو منهم (وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به) لأن الموادعة جهاد معنى إذا كانت خيراً للمسلمين؛ لأن المقصود - وهو دفع الشر - حاصل به، بخلاف ما إذا لم يكن خيراً؛ لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى، وتمامه في الهداية (فإن صالحهم مدة) معلومة (ثم رأى أن نقض الصلح أنفع للمسلمين نبذ إليهم) عهدهم (وقاتلهم) ؛ لأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً، وإيفاء العهد ترك للجهاد صورة ومعنى، ولابد من النبذ تحرزاً عن الغدر، ولابد من اعتبار مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم كما في الهداية.
(وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم) ؛(4/120)
وإذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرارٌ.
ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب، ويأكلوا ما وجدوه من الطعام.
ويستعملون الحطب، ويدهنون بالهدن، ويقاتلون بما يجدونه من السلاح بغير قسمة ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهم صاروا ناقضين للعهد، فلا حاجة إلى نقضه، بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم، حيث لا يكون هذا نقضاً للعهد في حقهم، ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم؛ لأنه بغير إذن ملكهم؛ ففعلهم لا يلزم غيرهم، حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد، لأنه باتفاقهم معنى، هداية.
(وإذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار) لأنهم أحرزوا أنفسهم بالخروج إلينا مراغمين لمواليهم، وكذا إذا أسلموا هناك ولم يخرجوا إلينا وظهرنا على دارهم فهم أحرار، ولا يثبت الولاء عليهم لأحد؛ لأن هذا عتق حكمي، جوهرة.
(ولا بأس أن يعلف العسكر في دار الحرب) دوابهم (ويأكلوا ما وجدوه من الطعام) كالخبز، واللحم، والسمن، والزيت: قال الزاهدي: وهذا عند الحاجة، وفي الإباحة من غير حاجة روايتان، اهـ.
(ويستعملون الحطب) وفي بعض النسخ: "الطيب" هداية (ويدهنون بالدهن) لمساس الحاجة إلى ذلك (ويقاتلون بما يجدونه من السلاح) ، كل ذلك (بغير قسمة) يعني إذا احتاج إليه، بأن انقطع سيفه، أو انكسر رمحه، أو(4/121)
ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئاً ولا يتمولوه.
ومن أسلم منهم أحرز بإسلامه نفسه وأولاده الصغار وكل مالٍ هو في يده أو وديعةٍ في يد مسلمٍ أو ذميٍ، فإن ظهرنا على الدار فعقاره فئ وزوجته فئٌ وحملها فئٌ، وأولاده الكبار فئٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن له سلاح، وكذا إذا دعته حاجة إلى ركوب فرس من المغنم ليقاتل عليهم فلا بأس بذلك، فإذا زالت الحاجة ردت في الغنيمة، ولا ينبغي أن يستعمل من الدواب والثياب والسلاح شيئا لتبقى به دابته وثيابه وسلاحه، لأنه من الغلول؛ لاستعماله من غير حاجة، وتمامه في الجوهرة (ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك) الطعام ونحوه (شيئاً، ولا يتمولوه) لأنه لم يملك بالأخذ، وإنما أبيح التناول للضرورة، فإذا باع أحدهم رد الثمن إلى المغنم.
(ومن أسلم منهم) في دار الحرب قبل أخذه (أحرز بإسلامه نفسه) ، لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق (أولاده الصغار) لأنهم مسلمون تبعا لإسلامه، (وكل مال هو في يده) لسبقها إليه (أو وديعة في يد) معصوم الدم (مسلم أو ذمي) لأنه في صحيحة محترمة، ويده كيده (فإن ظهرنا على الدار فعقاره فئ) لأنه في يد أهل الدار، إذ هو من جملة دار الحرب، فلم يكن في يده حقيقة، (و) كذا (زوجته فئ) ، لأنها كافرة حربية، لا تتبعه في الإسلام (و) كذا (حملها فئ) ، لأنه جزء منها، فيتبعها في الرق والحرية، وإن كان تبعاً للأب في الإسلام، لأن المسلم محل للتملك تبعاً لغيره، بخلاف المنفصل، فإنه حر؛ لعدم الجزئية عند ذلك (و) كذا (أولاده الكبار فئ) لأنهم كفار حربيون، ولا تبعية لهم، لأنهم على حكم أنفسهم(4/122)
ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب، ولا يجهز إليهم، ولا يفادون بالأسارى عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يفادى بهم أسارى المسلمين، ولا يجوز المن عليهم.
وإذا فتح الإمام بلداً عنوةً فهو بالخيار: إن شاء قسمه بين الغانمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا ينبغي) بل يحرم، كما في الزيلعي (أن يباع السلاح) والكراع (من أهل الحرب) ؛ لما فيه من تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا كل ما فيه تقوية لهم، كالحديد، والعبيد، ونحو ذلك (ولا يجهز) أي يتاجر بذلك (إليهم) قال في الغاية: أي لا يحمل إليهم التجار الجهاز، وهو المتاع، يعني هنا السلاح، اهـ.
(ولا يفادون بالأسارى عند أبي حنيفة) لأن فيه معونة للكفرة، لأنه يعود حرباً علينا، ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم؛ لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا، والأعانة بدفع أسيرهم مضاف إلينا، (وقالا: يفادى بهم أسارى المسلمين) لأن فيه تخليص المسلم، وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به. قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده المحبوبي، والنسفي، وغيرهما. قال الزاهدي: والمفاداة بالمال لا تجوز في ظاهر المذهب، كذا في التصحيح. وفي السير الكبير: أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة؛ استدلالا بأسارى بدر، ولو كان الأسير أسلم في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد، إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامه، هداية.
(ولا يجوز المن عليهم) ، لما فيه من إبطال حق الغانمين.
(وإذا فتح الإمام بلدة عنوة) أي قهراً (فهو) في العقار (بالخيار) بين أمرين: (إن شاء قسمه بين الغانمين) كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/123)
وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الخراج، وهو في الأسارى بالخيار: إن شاء قتلهم، وإن شاء استرقهم، وإن شاء تركهم أحراراً ذمةً للمسلمين.
ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب.
وإذا أراد العود ومعهم مواش فلم يقدروا على نقلها إلى دار الإسلام ذبحوها وحرقوها ولا يعقرونها ولا يتركونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بخيبر (وإن شاء أقر أهله عليه، ووضع عليهم الخراج) كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، وفي كل من ذلك قدوة، فيتخير، وقيل: الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدم الحاجة، قيدنا بالعقار لأن المنقول لا يجوز المن فيه بالرد عليهم (وهو) أي الإمام (في الأسرى بالخيار) بين ثلاثة أمور: (إن شاء قتلهم) حسما لمادة الفساد (وإن شاء استرقهم) توفيراً لمنفعة الإسلام (وإن شاء تركهم أحراراً ذمة للمسلمين) إذا كانوا أهلا للذمة، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق. قيدنا بكونهم أهل للذمة احترازا عن المرتدين ومشركي العرب كما سبق.
(ولا يجوز) للإمام (أن يردهم إلى دار الحرب) لما فيه من تقويتهم على المسلمين كما مر.
(وإذا أراد) الإمام (العود) إلى دار الإسلام (ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها، و) بعده (حرقها) لأن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح، ولا غرض أصح من كسر شوكة أعداء الله (ولا يعقرها) بأن يقطع قوائمها ويدعها حية؛ لما فيه من المثلة والتعذيب (ولا يتركها) لهم حية(4/124)
ولا يقسم غنيمةً في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام، والردء والمقاتل في العسكر سواء.
وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها، ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا معقورة، ولا من غير حرق، قطعاً لمنفعتهم بها.
(ولا يقسم) الإمام (غنيمة في دار الحرب) ، بل (حتى يخرجها إلى دار الإسلام) ، لأن الملك لا يثبت للغانمين إلا بالإحراز في دار الإسلام.
(والردء) أي المعين (والمقاتل في العسكر سواء) لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة على ما عرف، وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو غيره، لما ذكرناه، هداية.
(وإذا لحقهم المدد) - وهو ما يرسل إلى الجيش ليزدادوا - وفي الأصل: ما يزاد به الشيء ويكثر، قهستاني (في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام) وقبل القسمة وبيع الغنيمة، ولو بعد انقضاء القتال (شاركوهم فيها) لوجود الجهاد منهم معنى قبل استقرار الملك العسكر، ولذا ينقطع حق المشاركة بالإحراز، أو بقسمة الإمام في دار الحرب، أو ببيعه المغانم فيها؛ لأن بكل منها يتم الملك، فينقطع حق شركه المدد.
(ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة، إلا أن يقاتلوا) ؛ لأنهم لم يجاوزوا على قصد القتال؛ فانعدم السبب الظاهر، فيعتبر السبب الحقيقي - وهو قصد القتال - فيفيد الاستحقاق على حسب حاله، فارساً أو راجلا عند القتال، هداية(4/125)
وإذا أمن رجلٌ حرٌ أو امرأةٌ حرةٌ كافراً أو جماعةً أو أهل حصنٍ أو مدينةٍ صح أمانهم، ولم يجز لأحدٍ من المسلمين قتلهم إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم الإمام.
ولا يجوز أمان ذمي، ولا أسيرٍ، ولا تاجرٍ يدخل عليهم.
ولا يجوز أمان العبد عند أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا أمن رجل حر، أو امرأة حرة كافراً) واحداً (أو جماعة) من الكفار (أو أهل حصن، أو مدينة، صح أمانهم) ، لأنه من أهل القتال؛ إذ هو من أهل المنعة، فيحقق منه الأمان، ثم يتعدى إلى غيره، ولأن سببه - وهو الإيمان - لا يتجزأ؛ فكذا الأمان، فيتكامل كولاية النكاح (و) حيث صح أمانهم (لم يجز لأحد من المسلمين قتلهم) ولا التعرض لما معهم، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون "يد على من سواهم" تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) أي: أقلهم، وهو الواحد، هداية (إلا أن يكون في ذلم مفسدة) تلحق المسلمين (فينبذ الإمام إليهم) أمانهم، كما إذا كان الأمان منهم ثم رأى المصلحة في النبذ كما مر.
(ولا يجوز أمان ذمي) ؛ لأنه متهم بهم، ولا ولاية له على المسلمين، (ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم) ؛ لأنهما مقهوران تحت أيديهم، فلا يخافونهما، والأمان يختص بمحل الخوف، ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجراً فيتخلصون بأمانه، فلا ينفتح باب الفتح، هداية.
(ولا يجوز أمان العبد عند أبي حنيفة) ، لأن الأمان عنده من جملة العقود(4/126)
إلا أن يأذن له مولاه في القتال، وقال أبو يوسف ومحمد: يصح أمانه.
وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها، فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك، وإذا غلبوا على أموالنا فأحرزوها بدارهم ملكوها، فإن ظهر عليها المسلمون فوجدوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعبد محجور عليه، فلا يصح عقده (إلا أن يأذن له مولاه في القتال) ؛ لأنه يصير مأذوناً؛ فيصح عقد الأمان منه (وقال أبو يوسف ومحمد: يصح أمانه) لأنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف، والأمان مختص بمحل الخوف.
قال جمال الإسلام في شرحه: وذكر الكرخي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة وصح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(وإذا غلب الترك) جمع تركي (على الروم) جمع رومي، والمراد كفار الترك وكفار الروم (فسبوهم وأخذوا أموالهم) وسبوا ذراريهم (ملكوها) لأن أموال أهل الحرب ورقابهم مباحة فتملك بالأخذ (فإن غلبنا على الترك) بعد ذلك (حل لنا ما نجده من ذلك) الذي أخذه من الروم، اعتباراً بسائر أموالهم (وإذا غلبوا) أي الكفار (على أموالنا) ولو عبيداً أو إماء مسلمين (فأحرزوها بدارهم ملكوها) لأن العصمة من جملة الأحكام الشرعية، والكفار غير مخاطبين بها؛ فبقي في حقهم مالا غير معصوم، فيملكونه كما حققه صاحب المجمع في شرحه. قيد بالإحراز لأنهم قبل الإحراز بها لا يملكون شيئاً حتى لو اشترى منهم تاجر شيئاً قبل الإحراز ووجده مالكه أخذه بلا شيء (فإن ظهر عليهم) أي على دارهم (المسلمون) بعد ذلك (فوجدوها)(4/127)
قبل القسمة فهي لهم بغير شيء، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا، وإن دخل دار الحرب تاجرٌ فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه بالخيار: إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه به التاجر، وإن شاء ترك.
ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا ومكاتبينا وأمهات أولادنا وأحرارنا، ونملك عليهم جميع ذلك، وإذا أبق عبدٌ لمسلم فدخل إليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي وجد المسلمون أموالهم (قبل القسمة) بين الغانمين (فهي لهم بغير شيء) ؛ لأ المالك القديم زال ملكه بغير رضاه؛ فكان له حق الأخذ نظرا له (وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا) لأن من وقع المال في نصيبه يتضرر بالأخذ منه مجانا؛ لأنه استحقه عوضاً عن سهمه في الغنيمة، فقلنا بحق الأخذ بالقيمة لما فيه من النظر للجانبين كما في الهداية (وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك) المال (وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار: إن شاء أخذه بالثمن الذي) كان (اشتراه به التاجر) من العدو، (وإن شاء ترك) لأنه يتضرر با"لأخذ مجاناً ألا يرى أنه دفع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلنا، ولو اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض، ولو وهبوه يأخذه بقيمته؛ لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة، هداية.
(ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة) علينا (مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا) لأنهم أحرار من وجه، والحر معصوم بنفسه، فلا يملك (ونملك عليهم) إذا غلبنا عليهم (جميع ذلك) لعدم عصمتهم.
(وإذا أبق عبد) من دارنا، سواء كان (لمسلم) أو ذمي (فدخل إليهم) أي إلى(4/128)
فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة. وإن ند بعيرٌ إليهم فأخذوه ملكوه وإذا لم يكن للإمام حمولة يحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداعٍ ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها فيقسمها.
ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دارهم (فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة) ؛ لظهور يده على نفسه بزوال يد مولاه فصار معصوما بنفسه، فلم يبق محلا للملك، وقالا: يملكونه، والصحيح قوله، واعتمده المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح. وإذا لم يثبت الملك لهم يأخذه المالك القديم بغير شيء، موهوباً كان أو مشترى أو مغنوماً، قبل القسمة وبعدها، إلا أن بعد القسمة يؤدي عوضه من بيت المال، لأنه لا يمكن إعادة القسمة.
(وإن ند) منا (بعير) أو فرس (إليهم فأخذوه ملكوه) لتحقق الاستيلاء إذ لا يد للعجماء.
(وإذا لم يكن للإمام حمولة) بفتح أوله - الإبل التي تحمل، وكذا كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو غيره، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. صحاح.
(يحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام ثم) إذا رجعوا إلى دار الإسلام (يرتجعها منهم فيقسمها) قسمة تمليك بينهم، فإن أبوا أن يحملوها أجبرهم على ذلك بأجر المثل في رواية السير الكبير؛ لأنه دفع ضرر عام بتحمل ضرر خاص، ولا يجبرهم على رواية السير الصغير، وتمامه في الهداية والدرر.
(ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة) في دار الحرب؛ لأنها لا تملك قبلها(4/129)
ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة، ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته.
ولا بأس أن ينفل الإمام في حال القتال، ويحرض بالنفل على القتال فيقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو يقول لسريةٍ: قد جعلت لكم الربع بعد الخمس، ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن مات من الغانمين في دار الحرب) قبل القسمة وبيع الغنيمة (فلا حق له في الغنيمة) لأن الإرث يجري في الملك، ولا ملك قبل ما ذكر كما مر (ومن مات منهم) أي الغانمين (بعد إخراجها) أي الغنيمة (إلى دار الإسلام) أو بعد قسمتها أو بيعها وتوفي في دار الحرب (فنصيبه لورثته) لأن حقهم قد استقر بما ذكر، فينتقل إلى الورثة.
(ولا بأس) بل يندب (بأن ينفل الإمام في حال القتال) وقبله بالأولى (ويحرض) أي يحث ويغرى (بالنفل على القتال) والنفل: إعطاء شيء زائد على سهم الغنيمة، وقد فسره بقوله (فيقول: من قتل قتيلا فله سلبه) وسيأتي معناه (أو يقول لسرية) وهي القطعة من الجيش (قد جعلت لكم الربع) أو النصف (بعد) رفع (الخمس) ؛ لما في ذلك من تقوية القلوب وإغراء المقاتلة على المخاطرة وإظهار الجلادة رغبةً في ذلك، وقد قال تعالى: {حرض المؤمنين على القتال} وهو نوع تحريض (ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة) في دار الإسلام؛ لتأكد حق الغانمين بها، ولذا يورث عنهم (إلا من الخمس) ؛ لأن الرأي فيه إلى الإمام، ولا حق فيه للغانمين.
(وإذا لم يجعل) الإمام (السلب للقاتل) نفلاً (فهو من جملة الغنيمة(4/130)
والقاتل وغيره فيه سواء. والسلب: ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه.
وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها.
ومن فضل معه علفٌ أو طعامٌ رده إلى الغنيمة.
ويقسم الإمام الغنيمة: فيخرج خمسها، ويقسم أربعة أخماسها بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهمٌ عند أبي حنيفة، وقالا: للفارس ثلاثة أسهمٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والقاتل وغيره فيه) أي في سلبه (سواء) ؛ لأنه مأخوذ بقوة الجيش؛ فيكون غنيمة لهم (والسلب) هو (ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه) وكذا ما على مركبه من السرج والآلة، وكذا ما معه على الدابة من مال في حقيبة أو على وسطه، وما عدا ذلك فليس بسلب، وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه، هداية.
(وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز) لهم (أن يعلفوا) دوابهم (من الغنيمة ولا يأكلوا منها) ؛ لأن حق الغانمين قد تأكد فيها كما مر (ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة) إذا لم تقسم، وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا أغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج؛ لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد، وتمامه في الهداية.
(ويقسم الإمام الغنيمة) بعد الإحراز بدار الإسلام كما تقدم (فيخرج) أولا (خمسها) للأصناف الثلاثة الآتية (ويقسم أربعة أخماسها) الباقية (بين الغانمين للفارس) أي لصاحب الفرس (سهمان، وللراجل) ضد الفارس (سهم عند أبي حنيفة وقالا: للفارس ثلاثة أسهم) وللراجل سهم، قال الإمام بهاء الدين في شرحه:(4/131)
ولا يسهم إلا لفرسٍ واحدٍ، والبراذين والعتاق سواءٌ، ولا يسهم لراحلةٍ ولا بغلٍ.
ومن دخل دار الحرب فارساً فنفق فرسه استحق سهم فارسٍ، ومن دخل راجلاً فاشترى فرساً استحق سهم لراجلٍ.
ولا يسهم لمملوكٍ ولا امرأة ولا ذميٍ ولا صبيٍ، ولكن يرضخ لهم على حسب ما يراه الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح قول أبي حنيفة، واختاره الإمام البرهاني والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم تصحيح (ولا يسهم إلا لفرس واحد) لأن القتال لا يتحقق إلا على فرس واحد قال الإسبيجاني: هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يسهم للفرسين، والصحيح قولهما، وعليه مشى الأئمة المذكورون قبله، تصحيح (والبراذين) جمع برذون - التركي من الخيل (والعتاق) جمع عتيق - العربي منها (سواء) ؛ لأن اسم الخيل ينطلق على الكل، والإرهاب مضاف إليها، ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفاً؛ فمن كل منهما منفعة معتبرة، فاستويا (ولا يسهم لراحلة) وهي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى (ولا بغل) ولا حمار، فصاحب ما ذكر والراجل سواء، لأن المعنى الذي في الخيل معدوم فيهم (ومن دخل دار الحرب فارساً فنفق) أي هلك (فرسه) فشهد الوقعة راجلا (استحق سهم فارس، ومن دخل راجلا فاشترى) هناك (فرساً) فشهد الوقعة فارساً (استحق سهم راجل) لأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر، وكذا شهود الوقعة؛ فتقام المجاوزة مقامه، لأنه السبب المفضي إليه ظاهراً إذا كان على قصد القتال، فيعتبر حال الشخص حالة المجاوزة فارساً أو راجلا (ولا يسهم لمملوك) ولا مكاتب (ولا امرأة ولا ذمي ولا صبي) ولا مجنون ولا معتوه (لكن يرضخ لهم) أي يعطيهم من الغنيمة (على حسب ما يراه الإمام)(4/132)
وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهمٍ: سهمٍ لليتامى، وسهمٍ للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم، ويقدمون، ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء.
وأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنما هو لافتتاح الكلام تبركاً باسمه وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي، وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في الهداية: ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل؛ لأنه لخدمة المولى فصار كالتاجر، والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداري الجرحى وتقوم على المرضى؛ لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال؛ والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق؛ لأن فيه منفعة للمسلمين، إلا أنه يزاد له على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة. انتهى باختصار.
(وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى) الفقراء (وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل) وهم المنقطعون عن مالهم، ويجوز صرفه لصنف واحد كما في الفتح عن التحفة (ويدخل فقراء ذوي القربى) من بني هاشم (فيهم) أي في الأصناف الثلاثة (و) لكن (يقدمون) على غيرهم، لعدم جواز الصدقة عليهم (ولا يدفع إلى أغنيائهم) منه (شيء) ؛ لأنه إنما يستحق بالفقر والحاجة (فأما ذكر الله تعالى في الخمس) في قوله جل ذكره: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} (فإنما هو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي) وهو شيء كان يصطفيه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه: أي يختاره من الغنيمة، مثل درع، وسيف، وجارية (وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم(4/133)
بالنصرة، وبعده بالفقر.
وإذا دخل الواحد أو الاثنان إلى دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئاً لم يخمس.
وإن دخل جماعةٌ لها منعةٌ وأخذوا شيئاً خمس، وإن لم يأذن لهم الإمام وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجراً فلا يحل له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصرة) له، ألا يرى أنه علل فقال: (إنهم لن يزالوا معي هكذا في الجاهلية والإسلام) وشبك بين أصابعه (وبعده) أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (بالفقر) لانقطاع النصرة.
(وإذا دخل الواحد) من المسلمين (أو الاثنان إلى دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام، فأخذوا شيئاً، لم يخمس) ، لأنه مال مباح أخذ على غير وجه الغنيمة لأنها مأخوذة قهراً وغلبة، لا اختلاساً وسرقة، والخمس وظيفة الغنيمة، قيد بكونه بغير إذا الإمام لأنه إذا كان بالإذن ففيه روايتان؛ والمشهور أنه يخمس؛ لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم، كما في الهداية.
(وإن دخل جماعة لهم منعة) أي قوة (فأخذوا شيئاً خمس) ما أخذوه (وإن لم يأذن لهم الإمام) ؛ لأنه غنيمة لأخذه على وجه القهر والغلبة، ولأنه يجب على الإمام نصرتهم؛ إذ لو خذلهم كان فيه وهنٌ على المسلمين، بخلاف الواحد والاثنين؛ لأنه لا تجب عليه نصرتهم، هداية. قيد بالمنعة لأنه لو دخل جماعة لا منعة لهم بغير إذن فأخذوا شيئا لا يخمس لأنه اختلاس لا غنيمة، كما في الجوهرة.
(وإذا دخل المسلم دار الحرب) بأمان (تاجرا) أو نحوه (فلا يحل له(4/134)
أن يتعرض لشيٍ من أموالهم ولا من دمائهم، وإن غدر بهم وأخذ شيئاً وخرج به ملكه ملكاً محظوراً، ويؤمر أن يتصدق به.
وإذا دخل الحربي إلينا مستأمناً لم يمكن أن يقيم في دارنا سنةً، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يتعرض لشيء من أموالهم، ولا) لشيء (من دمائهم) أو فروجهم، لأن ذلك غدر بهم، والغدر حرام، إلا إذا صدر غدر من ملكهم، أو منهم بعلمه، ولم يأخذوا على يدهم؛ لأن النقض يكون من جهتهم. قيد بالتاجر لأن الأسير غير مستأمن؛ فيباح له التعرض لمالهم ودمائهم، كما في الهداية.
(وإن) تعدى التاجر ونحوه، و (غدر بهم وأخذ شيئاً) من مالهم (وخرج به) عن دارهم (ملكه ملكا محظورا) لإباحة أموالهم، إلا أنه حصل بالغدر فكان خبيئاً؛ لأن المؤمنين عند شروطهم (ويؤمر أن يتصدق به) تفريغا لذمته وتداركا لجنايته.
(وإذا دخل الحربي إلينا مستأمناً) أي: طالبا للأمان (لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة) فما فوقها؛ لئلا يصير عيناً لهم، وعوناً علينا (ويقول له الإمام) إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا: (إن أقمت) في دارنا (تمام السنة وضعت عليك الجزية) ، والأصل: أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية؛ لأنه يصير عينا لهم، ودعونا علينا، فتلتحق المضرة بالمسلمين، ويمكن من الإقامة اليسيرة، لأن في منعها قطع الميرة والجلب، وسد باب التجارة، ففصلنا بينهما بسنة، لأنها مدة تجب فيها الجزية، فتكون الإقامة لمصلحة الجزية، هداية.
(يتبع ... )(4/135)
فإن أقام أخذ منه الجزية، وصار ذمياً. ولم يترك أن يرجع إلى دار الحرب، وإن عاد إلى دار الحرب وترك وديعةً عند مسلمٍ أو ذميٍ أو ديناً في ذمتهم فقد صار دمه مباحاً بالعود وما في دار الإسلام من ماله على خطرٍ، فإن أسو أو قتل سقطت ديونه وصارت الوديعة فيئاً.
وما أوجف عليه المسلمون من أموال أهل الحرب بغير قتالٍ يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف الخراج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن) رجع بعد ذلك قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه، وإن (أقام) تمام السنة (أخذت منه الجزية، وصار ذميا) لالتزامه ذلك (ولم يترك) بعدها (أن يرجع إلى دار الحرب) ؛ لأن عقد الذمة لا ينقض. وللإمام أن يوقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين كما في الهداية.
(وإن عاد) المستأمن (إلى دار الحرب) ولو إلى غير داره (وترك وديعة عند) معصوم (مسلم، أو ذمي، أو) ترك (دينا في ذمتهم؛ فقد صار دمه مباحاً بالعود) لبطلان أمانه (وما) كان (في دار الإسلام من ماله) فهو (على خطر) أي موقوف، لأن يد المعصوم عليه باقية (فإن أسر أو قيل سقطت ديونه) ، لأن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد العامة، فيختص به؛ فيسقط (وصارت الوديعة) وما عند شريكه ومضاربه وما في بيته في دارنا (فيئاً) ، لأنها في يده حكما، لأن يد المودع والشريك والمضارب كيده، فيصير فيئاً تبعاً لنفسه.
(وما أوجف عليه المسلمون) أي أسرعوا إلى أخذه (من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف) جميعه (في مصالح المسلمين، كما يصرف الخراج)(4/136)
وأرض العرب كلها عشرٍ، وهي: ما بين العذيب إلى أقصى حجرٍ باليمن بمهرة إلى حد الشام، والسواد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجزية؛ لأنه حصل بقوة المسلمين من غير قتال؛ فكان كالخراج والجزية.
ولما أنهى الكلام على بيان ما يصير الحربي به ذميا، أخذ في بيان ما يؤخذ منه، وبيان العشر، تتميما للوظائف المالية، وقدم بيان العشر لما فيه من معنى العبادة، فقال:.
(وأرض العرب كلها عشر) ، لأن الخراج لا يجب ابتداء إلا بعقد الذمة، وعقد الذمة من مشرك العرب لا يصح (وهي) أي أرض العرب، أي حدها، (ما بين العذيب) بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة - قرية من قرى الكوفة (إلى أقصى) أي آخر (حجر) بفتحتين - واحد الأحجار بمعنى الصخرة كما وقع التحديد به في غير موضع (باليمن بمهرة) بفتح الميم وسكون الهاء - اسم موضع باليمن يسمى [باسم] مهرة بن حيدان أبي قبيلة تنسب إليه الإبل المهرية، فيكون قوله: "بمهرة" بدلا من قوله: "باليمن" كما في النهاية (إلى حد الشام) وفي المغرب عن أبي يوسف في الأمالي: حدود أرض العرب ما وراء حدود أرض الكوفة إلى أقصى صخرة باليمن - وهو مهرة - وقال الكرخي: هي أرض الحجاز وتهامة، ومكة، والطائف، والبرية - يعني: البادية - وقال محمد: أرض العرب من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة، اهـ باختصار. وهذه العبارات متقاربة يفسر بعضها بعضا؛ وعدن: بفتحتين - بلدة باليمن تضاف إلى بانيها؛ فيقال: عدن أبين كما في المصباح.
(والسواد) : أي سواد العراق، سمى سوادا لخضرة أشجاره وزروعه، وهو الذي فتح على عهد سيدنا عمر، فأقر أهله عليه، ووضع على رقابهم الجزية، وعلى أراضيهم(4/137)
أرض خراجٍ، وهو: ما بين العذيب إلى عقبة حلوان، ومن العلث إلى عبادان.
وأرض السواد مملوكةٌ لأهلها: يجوز بيعهم لها، وتصرفهم فيها.
وكل أرضٍ أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوةً وقسمت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخراج (أرض الخراج) لأنه وظيفة أرض الكفار (وهي) أي أرض السواد، حدها عرضا (ما بين العذيب) المتقدمة (إلى عقبة حلوان) بضم الحاء المهملة، وسكون اللام - اسم بلدة مشهورة، بينها وبين بغداد نحو خمس مراحل، وهي طرف العراق من الشرق، سميت باسم بانيها، وهو حلوان بن عمران بن الحارث كما في المصباح (و) حدها طولا (من العلث) بفتح العين المهملة، وسكون اللام، وآخره ثاء مثلثة - قرية موقفة على العلوية، على شرق دجلة (إلى عبادان) بتشديد الباء الموحدة - حصن صغير على شط البحر، وقال في المغرب: حده طولا من حديثة الموصل إلى عبادان، وعرضا من العذيب إلى حلوان، اهـ. وقال في باب الحاء: حديثة الموصل: قرية، وهي أول حد السواد طولا، وحديثة الفرات: موضع آخر، وقال في باب الثاء: الثعلبية: من منازل البادية، ووصعها موضع العلث في حد السواد خطأ، اهـ. والظاهر من كلامه: أن كلا من العلث وحديثة الموصل حد للسواد، لكونهما متحاذيين: وأما التحديد بالثعلبية كما في بعض الكتب فخطأ، والله أعلم.
(وأرض السواد مملوكة لأهلها: يجوز بيعها لهم، وتصرفهم فيها) ؛ لأن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة وقهراً كان بالخيار بين أن يقسمها بين الغانمين وبين أن يمتن بها على أهلها ويضع عليهم الجزية، والخراج جباية للمسلمين كما مر.
(وكل أرض أسلم أهلها) قبل أن يقدر عليها (أو فتحت عنوة وقسمت(4/138)
بين الغانمين فهي أرض عشرٍ.
وكل أرضٍ فتحت عنوةً وأقر أهلها عليها فهي أرض خراجٍ.
ومن أحيا أرضاً مواتاً فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها: فإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجيةٌ، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشريةً، والبصرة عنده عشريةٌ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وقال محمدٌ: إن أحيا ببئرٍ حفرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين الغانمين فهي أرض عشر) ، لأنها وظيفة أرض المسلمين؛ لما فيه من معنى العبادة.
(وكل أرض فتحت عنوة وأقر أهلها عليها) وكذا إذا صالحهم الإمام (فهي أرض خراج) ؛ لما مر أنه وظيفة أرض الكفار، لما فيه من معنى العقوبة، قال في الهداية: ومكة مخصوصة من هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها، ولم يوظف الخراج، اهـ.
(ومن أحيا) من المسلمين (أرضاً مواتاً) أي غير منتفع بها (فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها) أي بما يقرب منها (فإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية) لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه (كفناء الدار له حكم الدار حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به (والبصرة عنده) أي عنده أبي يوسف (عشرية بإجماع الصحابة) وكانت القياس أن تكون عنده خراجية، لأنها بحيز أرض الخراج، إلا أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وظفوا عليهم العشر؛ فترك القياس لإجماعهم، هداية (وقال محمد) تعتبر بشربها؛ إذ هو السبب للنماء (إن أحياها) بماء السماء أو (ببئر حفرها(4/139)
أو عينٍ استخرجها أو ماء دجلة أو الفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحدٌ فهي عشريةٌ، وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر بزدجرد فهي خراجيةٌ، والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل جريبٍ يبلغه الماء قفيزٌ هاشميٌ وهو الصاع ودرهم، ومن جريب الرطبة خمسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو عين استخرجها، أو ماء دجلة أو الفرات، أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد) كسيحون وجيحون (فهي عشرية) لأنها مياه العشر (وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها) أي شقها (الأعاجم) وذلك (مثل نهر الملك) كسرى أنوشروان، وهو نهر على طريق الكوفة من بغداد، وهو يستقي من الفرات، ومغرب (ونهر يزدجرد) بوزن بستعيب اسم ملك من ملوك العجم (فهي خراجية) قال في التصحيح: واختار قول أبي يوسف الإمام المحبوبي والنسفي، وصدر الشريعة، اهـ.
(والخراج الذي وضعه) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه (على السواد) هو (من كل جريب) بفتح الجيم التحتية وكسر الراء - قطعة أرض طولها ستون ذراعا وعرضها كذلك، قالوا: والأصل فيه المكيال، ثم سمي به المبذر، مغرب (يبلغه الماء) ويصلح للزراعة (قفيز هاشمي) مما يزرع فيها كما في شرح الطحاوي، وقال الإمام ظهير الدين: من حنطة أو شعير (وهو) أي القفيز الهاشمي (الصاع) النبوي (ودرهم) عطف على "قفيز" من أجود النقود، زيلعي (ومن جريب الرطبة) بفتح الراء - قال العيني: هي البرسيم ومثلها البقول (خمسة(4/140)
دراهم، ومن جريب الكرم المتصل والنخل المتصل عشرة دراهم، وما سوى ذلك من الأصناف يوضع عليها بحسب الطاقة، فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دراهم، ومن جريب الكرم) شجر العنب، ومثله غيره (المتصل) بعضه ببعض بحيث تكون الأرض مشغولة به (والنخل المتصل) كذلك (عشرة دراهم) هذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه، فإنه بعث عثمان بن حنيف رضي الله عنه حتى مسح سواد العراق، وجعل حذيفة عليه مشرفاً، فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب، ووضع ذلك على ما قلنا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من غير نكير؛ فكان ذلك إجماعا منهم، ولأن المؤن متفاوتة، والكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة؛ ولرطاب بينهما؛ والوظيفة تتفاوت بتفاوتها؛ فجعل الواجب في الكرم أعلاها، وفي الزرع أدناها، وفي الرطبة أوساطها؛ هداية. قيد بالاتصال لأنها إذا كانت متفرقة بجوانب الأرض ووسطها مزروع لا شيء فيها، وكذا لو غرس أشجاراً غير مثمرة كما في البحر (وما سوى ذلك من) بقية (الأصناف) مما ليس فيه توظيف الإمام عمر رضي الله عنه كالبستان - وهو كل أرض يحوطها حائط، وفيها أشجار متفرقة يمكن الزرع تحتها - فلو ملتفة، أي: متصلة لا يمكن زراعة أرضها، فهو كرم كما في الدر (يوضع عليها بحسب الطاقة) ؛ لأن الإمام رضي الله تعالى عنه إنما اعتبر فيما وظف الطاقة، فنعتبرها فيما لا توظيف فيه، وغاية الطاقة نصف الخارج، لأن التنصيف عين الإنصاف؛ فلا يزاد عليه وإن أطاقت، وتمامه في الكافي (فإن لم تطق ما وضع عليها) بأن لم يبلغ الخارج ضعف الخراج (نقصهم الإمام) إلى قدر الطاقة وجوباً، وينبغي أن لا يزاد على النصف، ولا ينقص عن الخمس، كما في الدر عن الحدادي(4/141)
وإن غلب الماء على أرض الخراج أو انقطع عنها أو اصطلم الزرع آفةٌ فلا خراج عليهم، وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج.
ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله.
ويجوز أن شتري المسلم أرض الخراج من الذمي، ويؤخذ منه الخراج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن غلب الماء على أرض الخراج) حتى منع زراعتها (أو انقطع) الماء (عنها، أو اصطلم) أي استأصل (الزرع آفة) سماوية لا يمكن الاحتراز عنها كغرق وحرق وشدة برد (فلا خراج عليهم) لقوات التمكن من الزراعة، وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج، حتى لو بقي من السنة ما يمكن الزرع فيه ثانياً وجب لوجود التمكن. قيدنا الآفة بالسماوية التي لا يمكن الاحتراز عنها لأنها إذا كانت غير سماوية ويمكن الاحتراز عنها كأكل القردة والسباع والأنعام لا يسقط، وقيد الاصطلام للزرع لأنه لو كان بعد الحصاد لا يسقط، وتمامه في البحر (وإن عطلها صاحبها) مع إمكان زراعتها (فعليه الخراج) لوجود التمكن، وهذا إذا كان الخراج موظفاً؛ أما إذا كان خراج مقاسمة فإنه لا يجب عليه شيء كما في الجوهرة عن الفوائد.
(ومن أسلم من أهل الخراج، أخذ منه الخراج على حاله) ؛ لأن الأرض قد اتصفت بالخراج؛ فلا تتغير بتغير المسالك.
(ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي) اعتبارا بسائر أملاكه (ويؤخذ منه) أي المسلم (الخراج) الذي عليها؛ لالتزامه ذلك دلالة، قال في الهداية: وقد صح أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم اشتروا أراضي الخراج، وكانوا(4/142)
ولا عشر في الخارج من أرض الخراج.
والجزية على ضربين: جزيةٌ توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، وجزيةٌ يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم، فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنةٍ ثمانيةً وأربعين درهماً يأخذ منه في كل شهرٍ أربعة دراهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يؤدون خراجها؛ فدل ذلك على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم، من غير كراهة، اهـ.
(ولا عشر في الخارج من أرض الخراج) ؛ لأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهراً، والعشر في أرض أسلم أهلها طوعاً، والوصفان لا يجتمعان في أرض واحدة، وسبب الحقين واحد - وهو الأرض النامية - إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقاً وفي الخراج تقديراً، ولهذا يضافان إلى الأرض، وتمامه في الهداية.
(والجزية) بالكسر - وهي: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة؛ لأنها تجزئ من القتل: أي تعصم، والجمع جزىً كلحية ولحىً (على ضربين) الضرب الأول (جزية توضع بالتراضي والصلح) قبل قهرهم والاستيلاء عليهم (فتقدر بحسب) أي بقدر (ما يقع عليه الاتفاق) ، لأن الموجب هو التراضي، فلا يجوز التعدي إلى غيره، تحرزاً عن الغدر بهم (و) الضرب الثاني (جزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب) الإمام (على الكفار) واستولى عليهم (وأقرهم على أملاكهم) لما مر أنه مخير في عقارهم (فيضع على الغني الظاهر الغنى) وهو من يملك عشرة آلاف درهم فصاعدا (في كل سنة ثمانية وأربعين درهما) منجمة على الأشهر (يأخذ في كل شهر أربعة دراهم) وهذا لأجل التسهيل عليه، لا بيان للوجوب، لأنه بأول الحول كما(4/143)
وعلى المتوسط الحال أربعةً وعشرين درهماً في كل شهرٍ درهمين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهماً في كل شهرٍ درهماً.
وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم، ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا على المرتدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في البحر عن الهداية (و) يضع (على المتوسط الحال) وهو من يملك مائتي درهم فصاعدا (أربعة وعشرين درهما) منجمة أيضا (في كل درهمين، و) يضع (على الفقير) وهو من يملك ما دون المائتين، أو لا يملك شيئاً (المعتمل اثني عشر درهما) منجمة أيضاً (في كل شهر درهما) قال في البحر: وظاهر كلامهم أن حد الغنى والتوسط والفقر لم يذكر في ظاهر الرواية، ولذا اختلف المشايخ فيه، وأحسن الأقوال ما اختاره في شرح الطحاوي، ثم ذكر عبارته بمثل ما ذكرناه.
(وتوضع الجزية على أهل الكتاب) شامل اليهودي والنصراني، ويدخل في اليهود السامرية؛ لأنهم يدينون بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم يخالفونهم في فروع، ويدخل في النصارى الفرنج والأرمن، وفي الخانية: وتؤخذ الجزية من الصابئة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، بحر (والمجوس) ولو من العرب لوضعه صلى الله عليه وسلم على مجوس هجر، والمجوس: جمع مجوسي، وهو من يعبد النار (وعبدة الأوثان) جمع وثن وهو الصنم، إذا كانوا (من العجم) لجواز استرقاقهم، فجاز ضرب الجزية عليهم.
(ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم؛ ونزل القرآن بلغتهم، فكانت المعجزة أظهر في حقهم فلم يعذروا في كفرهم (ولا) على (المرتدين) ، لكفرهم بعد الهداية للإسلام فلا يقبل منهما إلا الإسلام(4/144)
ولا جزية على امرأةٍ، ولا صبيٍ، ولا زمنٍ، ولا أعمى، ولا فقيرٍ غير معتملٍ، ولا الرهبان الذين لا يخالطون الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو الحسام، وإذا ظهرنا عليهم فنساؤهم وذراريهم فئ؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين، هداية.
(ولا جزية على امرأة ولا صبي) ولا مجنون ولا معتوه (ولا زمن، ولا أعمى) ولا مفلوج ولا شيخ كبير؛ لأنها وجبت بدلا عن القتال، وهم لا يقتلون ولا يقاتلون لعدم الأهلية (ولا فقير غير معتمل) أي مكتسب ولو بالسؤال، لعدم الطاقة، فلو قدر على ذلك وضع عليه، قهستاني (ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس) ؛ لأنهم إذا لم يخالطوا الناس لا قتل عليهم، والأصل في ذلك: أن الجزية لإسقاط القتل، فمن لا يجب عليه القتل لا توضع عليه الجزية، وتمامه في الاختيار (قال في الاختيار: "ولا جزية على الرهبان المنعزلين، ولا على فقير غير معتمل، والمراد الرهبان الذين لا يقدرون على العمل والسياحين ونحوهم. أما إذا كانوا يقدرون على العمل فيجب عليهم وإن اعتزلوا وتركوا العمل؛ لأنهم يقدرون على العمل فصاروا كالمعتملين إذا تركوا العمل، فتؤخذ منهم الجزية، ونظيره تعطيل أرض الخراج" اهـ.) ، ولا توضع على المملوك، ولا المكاتب، ولا المدبر، ولا أم الولد، لعدم الملك، ولا يؤدى عنهم مواليهم، لتحملهم الزيادة بسببهم. والعبرة في الأهلية وعدمها وقت وضع الإمام، فمن أفاق أو أعتق أو بلغ أو برأ بعد وضع الإمام لم توضع عليه حتى تمضي تلك السنة، كما في الاختيار(4/145)
ومن أسلم وعليه جزيةٌ سقطت عنه، وإن اجتمع حولان تداخلت الجزية.
ولا يجوز إحداث بيعةٍ ولا كنيسةٍ في دار الإسلام، وإذا انهدمت الكنائس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قال: "ولو أدرك الصبي أو أفاق المجنون أو عتق العبد أو برأ المريض قبل وضع الإمام الجزية وضع عليهم، ولو بعد وضع الجزية لا توضع عليهم، لأن المعتبر أهليتهم عند الوضع لأن الإمام يحرج (يناله الحرج) في تعرف حالهم في كل وقت، ولم يكونوا أهلا وقت الوضع، بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث يوضع عليه، لأن الفقير أهل الجزية، وإنما سقطت عنه للعجز وقد زال" اهـ.) .
(ومن أسلم وعليه جزية) ولو بعد تمام الحول (سقطت عنه) ؛ لأنها تجب على وجه العقوبة فتسقط بالإسلام كالقتل، وكذا إذا مات؛ لأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع الشر، وقد اندفع بالموت، وتمامه في الهداية (وإن اجتمع عليه) أي الذمي (حولان) فأكثر (تداخلت الجزية) ؛ لأنها عقوبة، والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود (تداخل الجزية - بحيث إذا اجتمع على من وجبت عليه جزية سنتين لم تؤخذ إلا لسنة واحدة - وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: تجب لجميع ما مضى، لأن مضي المدة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالديون، ولأبي حنيفة ما أشار إليه الشارح، وحاصله أن الجزية عقوبة على الكفر، والأصل في العقوبات التداخل كالحدود، وأيضا فإنما شرعت الجزية لزجر الكفار، ولا يتصور الزجر عن الزمن الماضي.
وقيل: خراج الأرض على هذا الخلاف، هداية.) ، (ولا يجوز إحداث بيعة) بكسر الباء (ولا كنيسة) ولا صومعة، ولا بيت نار ولا مقبرة (في دار الإسلام) قال في النهاية: يقال كنيسة اليهود والنصارى لمتعبدهم وكذلك البيعة كان مطلقاً في الأصل، ثم غلب استعمال الكنيسة لمتعبد اليهود، والبيعة لمتعبد النصارى، اهـ قال في الفتح: وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة، بل الكنيسة لمتعبد الفريقين، ولفظ الدير للنصارى خاصة، اهـ. ومثله في الديار الشامية، ثم إطلاق دار الإسلام يشمل الأمصار والقرى، وهو المختار كما في الفتح (وإذا انهدمت الكنائس(4/146)
والبيع القديمة أعادوها.
ويؤخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم، ولا يركبون الخيل، ولا يحملون السلاح.
ومن امتنع من أداء الجزية، أو قتل مسلماً، أو سب النبي عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والبيع القديمة أعادوها) حكم ما كانت، من غير زيادة على البناء الأول، ولا يعدل عن النقض الأول إن كفى، وتمامه في شرح الوهبانية؛ لأن الأبنية لا تبقى دائماً، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة، إلا أنهم لا يمكنون من نقلها، لأنها إحداث في الحقيقة، هداية.
(ويؤخذ أهل الذمة) : أي يكلفون ويلزمون (بالتميز عن المسلمين في زيهم) بكسر أوله - لباسهم وهيآتهم (ومراكبها وسروجهم وقلانسهم) ولا يهانون ولا يبدءون بالسلام، ويضيق عليهم الطريق؛ فلو لم يكن له علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين، وذلك لا يجوز (ولا يركبون الخيل، ولا يحملون) وفي بعض النسخ يتجملون (السلاح) أي لا يمكنون من ذلك، لأن في ذلك توسعة عليهم وتقوية لشوكتهم، وهو خلاف اللازم عليهم، ويمنعون من لبس العمائم وزنار الإبريسم والثياب الفاخرة والمختصة بأهل العلم والشرف، ويظهرون الكستيجات - بضم الكاف - جمع كستيج، فارسي معرب: الزنار من صوف أو شعر، بحيث يكون في غلظ أصبع فوق الثياب، ويجب أن تميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات، ويجعل على دورهم علامات، وتمامه في الأشباه في أحكام الذمي.
(ومن امتنع) من أهل الذمة (من أداء الجزية، أو قتل مسلماً) أو فتنة عن دينه أو قطع الطريق (أو سب النبي صلى الله عليه وسلم) أو القرآن، أو دين الإسلام(4/147)
أو زنى بمسلمةٍ لم ينقض عهده، ولا ينتقض العهد إلا بأن يلحق بدار الحرب، أو يغلبوا على موضعٍ فيحاربونا.
وإذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهةٌ كشفت له، ويحبس ثلاثة أيامٍ، فإن أسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أو زنى بمسلمة لم ينقض عهده) ؛ لأن كفره المقارن لم يمنع العهد، فالطارئ لا يرفعه؛ فتؤخذ منه الجزية جبراً إذا امتنع من أداء الجزية، ويستوفي منه القصاص إذا قتل، ويقام عليه الحد إذا زنى، ويؤدب ويعاقب على السبل، حاوي وغيره. واختار بعض المتأخرين قتله، وتبعه ابن الهمام، وأفتى به الخير الرملي، قال في الدر: ورأيت في معروضات المفتي أبي السعود أنه ورد أمر سلطاني بالعمل بقول أئمتنا القائلين بقتله إن ظهر أنه معتاده، وبه أفتى، وتمامه فيه (ولا ينتقض العهد) أي: عهد أهل الذمة (إلا بأن يلحق) أحدهم (بدار الحرب، أو يغلبوا على موضع فيحاربونا) لأنهم صاروا حرباً علينا فيعرى عقد الذمة عن الإفادة، وهو دفع شر الحراب؛ فينقض عهدهم، ويصيرون كالمرتدين، إلا أنه أسر واحد منهم يسترق، والمرتد يقتل، ولا يجبر على قبول الذمة، والمرتد يجبر على الإسلام.
ولما أنهى الكلام على الذمي أخذ في بيان أحكام المرتد، وهو الراجع عن الإسلام، فقال:
(وإذا ارتد المسلم عن الإسلام) والعياذ بالله تعالى (عرض عليه الإسلام) استحبابا على المذهب؛ لبلوغه الدعوة، در (فإن كانت له شبهة كشفت له) بيان لثمرة العرض؛ إذ الظاهر أنه لا يرتد إلا من له شبهة، (ويحبس ثلاثة أيام) ندبا، وقيل: إن استمهل وجوبا، وإلا ندبا، ويعرض عليه الإسلام في كل يوم (فإن أسلم) فيها، وكذا لو ارتد ثانيا، لكنه يضرب،(4/148)
وإلا قتل، فإن قتله قاتلٌ قبل عرض الإسلام عليه كره له ذلك، ولا شيء على القاتل، فأما المرأة إذا ارتدت فلا تقتل، ولكن تحبس حتى تسلم.
ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالاً مراعىً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن عاد يضرب ويحبس حتى تظهر عليه التوبة، فإن عاد فكذلك، تتارخانية، قال في الهداية: وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه؛ لحصول المقصود، اهـ (وإلا) أي: وإن لم يسلم (قتل) لحديث: (من ترك دينه فاقتلوه) (فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره له ذلك) تنزيهاً أو تحريما على ما مر من حكم العرض (ولا شيء على القاتل) ؛ لقتله مباح الدم.
(وأما المرأة إذا ارتدت فلا تقتل) ؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، من غير تفرقة بين الكافرة الأصلية والمرتدة (ولكن تحبس حتى تسلم) لإمتناعها عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار، فتجبر على الإيفاء بالحبس كما في حقوق العباد، هداية.
(ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته) ؛ لزوال عصمة دمه، فكذا عصمة ماله. قال جمال الإسلام: وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول، والصحيح قول الإمام، وعليه مشى الإمام البرهاني، والنسفي، وغيرهما، تصحيح. وإنما يزول ملكه عند أبي حنيفة (زوالا مراعى) أي موقوفا إلى أن يتبين حاله؛ لأن حاله متردد بين أن يسلم فيعود إلى العصمة. وبين أن يثبت على ردته(4/149)
فإن أسلم عادت على حالها، وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما كان اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين، وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً، فإن لحق بدار الحرب مرتداً وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيقتل (فإن أسلم عادت) حرمة أمواله (على حالها) السابق، وصار كأنه لم يرتد (وإن مات، أو قتل على ردته) أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه (انتقل ما كان اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين) ؛ لوجوده قبل الردة، فيستند الإرث إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه؛ لأن ردته بمنزلة موته، فيكون توريث المسلم من المسلم (وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا) للمسلمين، فيوضع في بيت المال؛ لأن كسبه حال ردته كسب مباح الدم ليس فيه حق لأحد، فكان فيئا كمال الحربي. قال الزاهدي: وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: كلاهما لورثته، والصحيح قول الإمام، واختار قوله البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، تصحيح.
(وإن لحق بدار الإسلام مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه) من ثلث ماله (وأمهات أولاده) من كل ماله، وأما مكاتبه فيؤدي مال الكتابة إلى ورثته ويكون ولاؤه للمرتد، كما يكون للميت، جوهرة (وحلت الديون التي عليه ونقل ما) كان (اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين) ، لأنه باللحاق صار من أهل الحرب، وهم أموات في حق أحكام المسلمين؛ لانقطاع ولاية الإلزام، كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت، إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا، فلابد من القضاء، وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به، وهي(4/150)
وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته مما اكتسبه في حال ردته، وما باعه أو اشتراه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته موقوف: فإن أسلم صحت عقوده، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما ذكرناها في الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد، لأن اللحاق هو السبب، والقضاء لتقرره يقطع الاحتمال، وقال أبو يوسف: وقت القضاء؛ لأنه يصير موتا بالقضاء، والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا، هداية.
(وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته) يقضى (مما اكتسبه في حال ردته) قال في الجوهرة: وهذه رواية عن أبي حنيفة، وهي قول زفر، وعن أبي حنيفة: أن ديونه كلها فيما اكتسبه في حال الردة خاصة، فإن لم يف به كان الباقي فيما اكتسبه في حال الإسلام، لأن كسب الإسلام حق الورثة، وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر، بأن يف به، فحينئذ تقضي من كسب الإسلام، تقديماً لحقه، هداية.
(وما باعه) المرتد (أو اشتراه) أو أعتقه أو رهنه (أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته) فهو (موقوف) إلى أن يتبين حاله (فإن أسلم صحت عقوده) ، لما مر أنه يصير كأنه لم يرتد (وإن مات أو قتل) على ردته (أو لحق بدار الحرب) وحكم بلحقاقه (بطلت) عقوده كلها، لأن بطلان عصمته أوجب خللاً في الأهلية، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يجوز ما صنع في الوجهين، لوجود الأهلية، لكونه مخاطباً، والملك لقيامه قبل موته، والصحيح قول الإمام كما سبق،(4/151)
وإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه إلى دار الإسلام مسلماً، فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه.
والمرتدة إذا تصرفت في مالها في حال ردتها جاز تصرفها.
ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في الهداية: واعلم أن تصرفات المرتد على أقسام؛ نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية؛ وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة؛ لأنه يعتمد الملة ولا ملة له، وموقوف بالاتفاق كالمفاوضة؛ لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم؛ ومختلف في توقفه، وهو ما عددناه. اهـ.
(وإن عاد المرتد بعد أن حكم بلحاقه إلى دار الإسلام مسلماً فما وجده في يد ورثته) أو في بيت المال (من ماله بعينه أخذه) لأن الوارث أو بيت المال إنما يخلفه لاستغنائه؛ فإذا عاد مسلماً احتاج إليه، فيقدم عليه لأنه ملك عليه بغير عوض، فصار كالهبة قيد بما بعد الحكم لأنه إذا عاد قبله فكأنه لم يرتد كما مر، وبالمال لأن أمهات أولاده ومدبريه لا يعودون إلى الرق، وبوجوده بعينه لأن الوارث إذا أزاله عن ملكه لا يرجع عليه؛ لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض كما في الهداية.
(والمرتدة إذا تصرفت في مالها في حال ردتها جاز تصرفها) ؛ لأن ردتها لا تزيل عصمتها في حق الدم، ففي حق المال بالأولى.
(ونصارى بني تغلب) بن وائل، من العرب من ربيعة، تنصروا في الجاهلية وصاروا ذمة للمسلمين (يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة)(4/152)
ويؤخذ من نسائهم، ولا يؤخذ من صبيانهم.
وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية تصرف في مصالح المسلمين: فتسد منها الثغور، وتبنى القناطر والجسور، ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم، ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن الصلح وقع كذلك (ويؤخذ من نسائهم، ولا يؤخذ من صبيانهم) ؛ لأن الصلح على الصدقة المضاعفة، والصدقة تجب عليهن دون الصبيان؛ فكذا المضاعف.
(وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب) لأنه جزية (وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام، والجزية) وما أخذ منهم من غير حرب، ومنه تركة ذمي (تصرف في مصالح المسلمين) العامة (فتسد منها الثغور) جمع ثغر - كفلس - وهو موضع المخافة من فروج البلدان، صحاح (وتبنى) منها (القناطر) جمع قنطرة: ما يعبر عليها النهر ولا ترفع (والجسور) جمع جسر - بكسر الجيم وفتحها - ما يعبر عليه ويرفع كما في البحر عن العناية (ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم) كمفت، ومحتسب ومرابط (وعلماؤهم منه ما يكفيهم) وذراريهم (ويدفع منه) أيضا (أرزاق المقاتلة وذراريهم) ؛ لأن هذه الأموال حصلت بقوة المسلمين من غير قتال؛ فكانت لهم معدة لمصالحهم العامة، وهؤلاء عملتهم، ونفقة الذراري على الآباء، فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب؛ فلا يتفرغون لتلك الأعمال.
ولما أنهى الكلام عن أحكام المرتدين أخذ في الكلام على أحكام البغاة.
والبغاة: جمع باغ، من بغى على الناس، ظلم واعتدى، وفي عرف الفقهاء: الخارج عن طاعة الإمام الحق بغير حق، كما في التنوير(4/153)
باب البغاة.
- وإذا تغلب قومٌ من المسلمين على بلدٍ وخرجوا عن طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة، وكشف عن شبهتهم، ولا يبدؤهم بالقتال حتى يبدءوه، فإن بدءوا قاتلهم حتى يفرق جمعهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب البغاة
(وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد) قيد بالمسلمين لأن أهل الذمة إذا غلبوا على موضع للحراب صاروا أهل حرب كما مر (وخرجوا عن طاعة الإمام) أو طاعة نائبه، قال في الخانية من السير: قال علماؤنا: السلطان يصير سلطاناً بأمرين: بالمبايعة معه ويعتبر في المبايعة مبايعة أشرافهم وأعيانهم، والثاني: أن ينفذ حكمه في رعيته خوفا من قهره وجبروته، فإن بايع الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير سلطاناً فإن صار سلطاناً بالمبايعة فجار: إن كان له قهر وغلبة لا ينعزل: لأنه لو انعزل يصير سلطانا بالقهر والغلبة فلا يفيد، وإن لم يكن له قهر وغلبة ينعزل. اهـ (دعاهم) أي الإمام أو نائبه استحباباً (إلى العود إلى الجماعة) والطاعة (وكشف عن شبهتهم) وإن أبدوا شبهة، لعل الشر يندفع به (ولا يبدؤهم بقتال حتى يبدءوه) إبلاء للعذر، وإقامة للحجة عليهم، ولذا بعث علي رضي الله عنه إلى أهل حروراء من يناظرهم قبل القتال (فإن بدءوا) بالقتال (قاتلهم حتى يفرق جمعهم) قال في الهداية: هكذا ذكر القدوري في مختصره، وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا لأن الحكم يدار مع الدليل وهو الاجتماع والامتناع، وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع؛ فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم، وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتهيئون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك(4/154)
فإن كانت لهم فئةٌ أجهز على جريحهم واتبع موليهم، وإن لم يكن لهم فئةٌ لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم، ولا تسبى لهم ذريةٌ، ولا يغنم لهم مالٌ.
ولا بأس أن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، ويحبس الإمام أموالهم، ولا يردها عليهم، ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويحدثوا توبة؛ دفعاً للشر بقدر الإمكان، والمروى عن أبي حنيفة من لزوم محمول على حال عدم الإمام، أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة، اهـ (فإن كانت) البغاة (لهم فئة) أي طائفة يلتحقون بها أو حصن يلتجئون إليه (أجهز على جريحهم) أي: تمم قتله، قال في الصحاح: أجهزت على الجريح، إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه (واتبع موليهم) أي: هاربهم، دفعا لشرهم كيلا يلحقا بهم أي بفئتهم أو يلتجئا إلى حصنهم (وإن لم يكن لهم فئة) ولا حصن (لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم) ، لأن المقصود تفريق جمعهم وتبديد شملهم وقد حصل، فلا داعي لقتلهم. وفيه إشعار بأنه لو أسر أحد منهم لم يقتله إن لم يكن له فئة، وإلا قتله كما في المحيط، قهستاني (ولا تسبى لهم ذرية) ولا نساء (ولا يقسم لهم مال) لأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال (ولا بأس أن يقاتلوا) بالبناء المجهول - أي البغاة (بسلاحهم) ويرتفق بكراعهم (إن احتاج المسلمون) أي المطيعون (إليه) لأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي "أولى (ويحبس الإمام أموالهم) دفعاً لشرهم باستعانتهم به على القتال، إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر، هداية (ولا يردها عليهم، ولا يقسمها) بين الغانمين، لما مر(4/155)
وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانياً، فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ من أخذ منه، وإن لم يكونوا صرفوه في حقه أفتى أهله فيما بيهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك.
كتاب الحظر والإباحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن أموالهم لا تغنم، ولكنها تحبس (حتى يتوبوا فيردها عليهم) لزوال بغيهم.
(وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانياً) ، لأن ولاية الأخذ له باعتبار الحماية، ولم يحمهم (فإن كانوا) أي البغاة (صرفوه في حقه أجزأ من أخذ منه) لوصول الحق إلى مستحقه (وإن لم يكونوا صرفوه في حقه أفتى أهله) وفي بعض النسخ "فعلى أهله" (فيما بينهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك) ، لأنه لم يصل إلى مستحقه، قال في الهداية: قالوا: لا إعادة عليهم في الخراج؛ لأنهم مقاتلة فكانوا مصارف، وإن كانوا أغنياء، وفي العشر إن كانوا فقراء كذلك؛ لأنه حق الفقراء، وقد بيناه في الزكاة، وفي المستقبل يأخذه الإمام لأنه يحميهم فيه؛ لظهور ولايته، اهـ.
كتاب الحظر والإباحة
أخره عن العبادات والمعاملات لأن له مناسبة بالجميع؛ فيكون بمنزلة الاستدراك لما فاتها: وعنون له في الهداية وغيرها بالكراهة والاستحسان.
والحظر لغة: المنع والحبس، وشرعا: ما منع من استعماله شرعا، والإباحة: ضد الحظر، والمباح: ما أجيز للمكلفين فعله وتركه، بلا استحقاق ثواب ولا عقاب. نعم يحاسب عليه حسابا يسيرا، اختيار(4/156)
- لا يحل للرجال لبس الحرير، ويحل للنساء، ولا بأس بتوسده عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يكره توسده.
ولا بأس بلبس الديباج في الحرب عندهما، ويكره عند أبي حنيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(لا يحل للرجال لبس الحرير) ولو بحائل بينه وبين بدنه، على المذهب، وعن الإمام إنما يحرم إذا مس الجلد، قال في القنية: وهي رخصة عظيمة في موضع عمت به البلوى، اهـ. إلا إذا كان قدر أربع أصابع كما في القنية وغيرها، وفيها: عمامة طرزها قدر أربع أصابع من إبريسم من أصابع عمر رضي الله تعالى عنه، وذلك قيس بشبرنا يرخص فيه، اهـ. وكذا الثوب المنسوج بذهب يحل إذا كان هذا المقدار، وإلا لا كما في الزيلعي وغيره (ويحل) أي الحرير (للنساء) لحديث "إن هذين" مشيراً لما في يديه، وكان في إحداهما ذهب والأخرى حرير "حرام على ذكور أمتي حل لإناثها" (ولا بأس بتوسده) أي: جعله وسادة، وهي المخدة، وكذا افتراشه والنوم عليه (عند أبي حنيفة) ؛ لأن ذلك استخفاف به فصار كالتصاوير على البساط فإنه يجوز الجلوس عليه ولا يجوز لبس التصاوير، اختيار (وقالا: يكره توسده) وافتراشه ونحو ذلك، لعموم النهي، ولأنه زي من لا خلاق له من الأعاجم، قال في الهداية: وفي الجامع الصغير: ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ، وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب، اهـ.
واختار قول الإمام البرهاني والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، تصحيح (ولا بأس بلبس الديباج) وهو ما سداه ولحمته إبرسيم، مصباح (في الحرب عندهما) لأن الحاجة ماسة إليه، فإنه يرد الحديد بقوته، ويكون رعباً في قلوب الأعداء؛ لكونه أهيب في أعينهم ببريقه ولمعانه، كافي (ويكره) لبسه (عند أبي حنيفة) لعموم النهي(4/157)
ولا بأس بلبس الملحم إذا كان سداه إبرسيما ولحمته قطناً أو خزاً.
ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب والفضة، إلا الخاتم والمنطقة، وحلية السيف من الفضة، ويجوز للنساء التحلي بالذهب والفضة. ويكره أن يلبس الصبي الذهب والحرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والضرورة تندفع بالمخلوط، واعتمد قوله المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح (ولا بأس بلبس الملحم) بغير إبريسم، في الحرب وغيره (إذا كان سداه إبريسما و) كانت (لحمته قطناً أو خزا) أو كتاناً أو نحوه؛ لأن الثوب إنما يصير ثوباً بالنسج، والنسج باللحمة، فكانت هي المعتبرة دون السدى، وأما إذا كانت لحمته حريراً وسداه غيره لا يحل لبسه في غير الحرب، ولا بأس به في الحرب إجماعا، كما ذكره الخجندس.
(ولا يجوز للرجال التحلي) أي: التزين (بالذهب والفضة) مطلقاً (إلا الخاتم) بقدر مثقال فما دونه، وقيل: لا يبلغ المثقال كما في الجوهرة (والمنطقة) قال في القاموس: منطقة كمكنسة: ما ينتطق به الرجل، وشد وسطه بمنطقة، اهـ.
(وحلية السيف) بشرط أن لا يضع يده على موضع الفضة إذا كان كل واحد منهما (من الفضة) ؛ لما جاء من الآثار في إباحة ذلك، كما في الهداية (ويجوز للنساء التحلي بالذهب والفضة) مطلقا، وإنما قيد بالتحلي لأنهن في استعمال آنية الذهب والفضة وأكل فيها والإدهان منها كالرجال كما يأتي.
(ويكره) للولي (أن يلبس الصبي الذهب) والفضة (والحرير) ، لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربه حرم سفيه، ولأنه يجب عليه أن يعود الصبي طريق الشريعة ليألفها كالصوم والصلاة(4/158)
ولا يجوز الأكل، والشرب، والادهان، والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء.
ولا بأس باستعمال آنية الزجاج والبلور والعقيق.
ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة، والركوب على السرج المفضض، والجلوس على السرير المفضض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا يجوز الأكل والشرب والأدهان والتطيب) وجميع أنواع الاستعمال (في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء) ؛ لعموم النص، وكذا الأكل بملعقة ذهب وفضة، والاكتحال بميلهما، وما أشبه ذلك من الاستعمال، كمكحلة ومرآة وقلم ودواة ونحوها، يعني إذا استعملت ابتداء فيما صنعت له بحسب متعارف الناس، وإلا فلا كراهة، حتى لو نقل الطعام من إناء الذهب إلى موضع آخر أو صب الماء أو الدهن في كفه لا على رأسه ابتداء ثم استعمله لا بأس به، مجتبى وغيره. وهو ما حرره في الدرر فليحفظ، كذا في الدر.
(ولا بأس باستعمال آنية الزجاج والبلور والعقيق) والياقوت والزبرجد ونحو ذلك؛ لأنها ليست في معنى الذهب والفضة.
(ويجوز الشرب) والوضوء (في الإناء المفضض) المزين بالفضة (عند أبي حنيفة) (و) كذلك يجوز عنده (الركوب على السرج المفضض، والجلوس على السرير المفضض) قال في الهداية: إذا كان يتقي موضع الفضة، ومعناه يتقي موضع الفم، وقيل: هذا وموضع اليد في الأخذ، وفي السرير والسرج موضع الجلوس، وقال أبو يوسف: يكره ذلك، وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف،(4/159)
ويكره التعشير في المصحف، والنقط.
ولا بأس بتحلية المصحف، ونقش المسجد، وزخرفته بماء الذهب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا الاختلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة، والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرآة أو جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً، وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضاً وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا، وهذا الاختلاف فيما يخلص، فأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع، واختار قول الإمام الأئمة المصححون كالمحبوبي والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، تصحيح.
(ويكره التعشير) : أي وضع علامات بين كل عشر آيات (في المصحف، و) كذا (النقط) أي إعجامه لإظهار إعرابه؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: "جردوا القرآن" ويروى "جردوا المصحف" وفي التعشير والنقط ترك التجريد، ولأن التعشير يخل بحفظ الآي، والنقط بحفظ الإعراب اتكالا عليه، فيكره.
قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالته؛ فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران للقرآن، فيكون حسنا، هداية. قال في الدر: وعلى هذا لا بأس بكتابة أسامي السور وعد الآي، وعلامات الوقف ونحوها؛ فهي بدعة حسنة، درر وقنية، اهـ.
(ولا بأس يتحلية المصحف) لما فيه من تعظيمه (ونقش المسجد) وتزيينه (وزخرفته بماء الذهب) إذا كان المقصود بذلك تعظيمه، ويكره إذا كان بقصد الرياء، ويضمن إذا كان من مال المسجد(4/160)
ويكره استخدام الخصيان.
ولا بأس بخصاء البهائم، وإنزاء الحمير على الخيل.
ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول الصبي والعبد، ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا يقبل في أخبار الديانات إلا العدل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويكره استخدام الخصيان) ؛ لأن الرغبة في استخدامهم تحمل على هذا الصنيع، وهو مثلة محرمة (ولا بأس بخصاء البهائم) ؛ لأنه يفعل للنفع؛ لأن الدابة تسمن ويطيب لحمها بذلك (وإنزاء الحمير على الخيل) ؛ لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب البغلة؛ فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبه؛ لما فيه من فتح بابه، هداية.
(ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن) في التجارة (قول الصبي والعبد) لأن العادة جارية ببعث الهدايا على يد هؤلاء، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن معهم إذا سافروا أو جلسوا في السوق، فلو لم يقبل قولهم لأدى إلى الحرج وهذا إذا غلب على ظنه صدقهم، وإلا لم يسعه ذلك. وفي الجامع الصغير: إذا قالت جارية لرجل: بعثني مولاي إليك بهدية وسعه أن يأخذها، لأنه لا فرق ما بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها لما قلنا، هداية.
(ويقبل في المعاملات قول الفاسق) والكافر؛ لكثرة وجودها بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائداً لأدى إلى الحرج، فيقبل قول الواحد فيها؛ عدلا كان أو فاسقا، كافراً أو مسلما، عبداً أو حراً، ذكراً أو أنثى، دفعا للحرج، هداية.
(ولا يقبل في أخبار الديانات إلا العدل) ؛ لعدم كثرة وقوعها حسب وقوع المعاملات، فجاز أن يشترط فيها زيادة؛ فلا يقبل إلا قول المسلم العدل؛ لأن(4/161)
ولا يجوز أن ينظر الرجل من الأجنبية إلا إلى وجهها وكفيها، وإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجةٍ.
ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها، ولشاهد إذا أراد الشهادة عليها، النظر إلى وجهها، وإن خاف أن يشتهي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الفاسق متهم، والكافر لا يلتزم الحكم، فليس له أن يلزم المسلم، هداية] .
(ولا يجوز) للرجل (أن ينظر من الأجنبية) الحرة (إلا إلى وجهها وكفيها) ضرورة احتياجها إلى المعاملة مع الرجال أخذاً وإعطاء وغير ذلك، وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها، وعن أبي حنيفة أنه يباح، لأن فيه بعض الضرورة، وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضاً؛ لأنه قد يبدو منها عادة، هداية، وهذا إذا كان يأمن الشهوة (فإن كان لا يأمن) على نفسه (الشهوة لم ينظر إلى وجهها إلا لحاجة) ضرورية، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك (الآنك: الرصاص المذاب، وهو حينئذ شديد الحرارة) يوم القيامة"، هداية.
قال في الدر: فحل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام، وهذا في زمانهم، وأما في زماننا فمنع من الشابة، قهستاني وغيره، اهـ.
(ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها) أي المرأة (وللشاهد إذا أراد الشهادة عليها النظر إلى وجهها، وإن خاف أن يشتهي) للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها، لا قضاء الشهوة، تحرزاً عما يمكنه التحرز عنه، وهو قصد القبيح، وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى قيل: يباح، والأصح أنه لا يباح، لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة، بخلاف حالة الأداء، هداية(4/162)
ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها.
وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه، إلا ما بين سرته إلى ركبته.
ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه، وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويجوز) أيضاً (للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها) ، وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل، فإن لم يقدر يستر كل موضع منها سوى موضع المرض، ثن ينظر ويغمض بصره ما استطاع، لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، وصار كنظر الخافضة والختان؛ هداية.
(وينظر الرجل من الرجل) ولو أمرد صبيح الوجه إذا أمن الشهوة (إلى جميع بدنه، إلا ما بين سرته إلى) منتهى (ركبته) فالسرة ليست بعورة، والركبة عورة، وإنما قيدنا النظر إلى الأمرد بما إذا أمن الشهوة لما في الهندية: والغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحا فحكمه حكم النساء، وهو عورة من قرنه إلى قدمه لا يحل النظر إليه عن شهوة، فأما الخلوة والنظر إليه لا عن شهوة فلا بأس به ولذا يؤمر بالنقاب كذا في الملتقط، اهـ.
(ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه) أي من الرجل، إذا أمنت الشهوة، لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة كالثياب والدواب. هداية.
(وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل)(4/163)
وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها.
وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه، والرأس، والصدر، والساقين، والعضدين، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها.
ولا بأس أن يمس ما جاز أن ينظر إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لوجود المجانسة وانعدام الشهوة غالبا؛ كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن، هداية.
(وينظر الرجل من أمته التي تحل له) للوطء (و) من (زوجته إلى فرجها) وهذا إطلاق في النظر إلى سائر بدنها، عن شهوة وعن غير شهوة، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك) ، ولأن ما فوق ذلك من المسيس والغشيان مباح، والنظر أولى، إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، وتمامه في الهداية.
(وينظر الرجل من ذوات محارمه) وهن من لا يحل له نكاحهن أبدا بنسب أو بسبب (إلى الوجه، والرأس، والصدر، والساقين) وحد الساق من الركبة إلى القدم (والعضدين) أي الساعدين، وحد الساعد من المرفق إلى الكتف كما في الصحاح (ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها) ؛ لأن الله تعالى حرم المرأة إذا شبهها بظهر الأم، فلولا أن النظر إليه حرام لما حرمت المرأة بالتشبيه به، وإذا حرم النظر إلى الظهر فالبطن أولى؛ لأنه أدعى للشهوة.
(ولا بأس) للرجل (أن يمس) من الأعضاء (ما جاز) له (أن ينظر إليه منها) أي من الأعضاء، من ذكر أو أنثى، إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها، وإن لم يأمن ذلك أو شك لم يحل له المس ولا النظر كما في المجتبى وغيره، وهذا في(4/164)
وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز أن ينظر إليه من ذوات محارمه، ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي.
والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غير الأجنبية الشابة، أما هي فلا يحل مس وجهها وكفيها وإن أمن الشهوة؛ لعدم الضرورة، بخلاف النظر. وقيدنا بالشابة لأن العجوز التي لا تشتهى لا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة، وتمامه في الهداية.
(وينظر الرجل من مملوكة غيره) ولو مدبرة، أو مكاتبة، أو أم ولد (إلى ما يجوز) له (أن ينظر إليه من ذوات محارمه) ، لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه وهي في ثياب مهنتها، فكانت الضرورة داعية إليه، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى جارية منقبة علاها بالدرة، وقال: ألق عنك الخمار يا دفار، أتتشبهين بالحرائر؟ وأما الخلوة بها والمسافرة، فقد قيل: تباح كما في المحارم، وقيل: لا تباح؛ لعدم الضرورة، وإليه مال الحاكم الشهيد.
(ولا بأس) عليه (بأن يمس ذلك) الموضع الذي يجوز النظر إليه من الأمة (إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي) قال في الهداية: كذا ذكر في المختصر، وأطلق أيضا في الجامع الصغير ولم يفصل، وقال مشايخنا: يباح النظر في هذه الحالة وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى، أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنه نوع استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة، اهـ.
(والخصي) والمجبوب، والمخنث (في النظر إلى الأجنبية كالفحل) ؛ لأنه(4/165)
ولا يجوز للمملوك أن ينظرمن سيدته إلا إلى ما يجوز للأجنبي أن ينظر إليه منها.
ويعزل عن أمته بغير إذنها، ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها.
ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم، إذا كان ذلك في بلدٍ يضر الاحتكار بأهله، ومن احتكر غلة ضيعته، أو ما جلبه من بلد آخر، فليس بمحتكرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر ذو شهوة داخل تحت عموم النص، والطفل الصغير مستثنى بالنص.
(ولا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا إلى ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها) لأنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة، والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت، والمراد بالنص الإماء. قال سعيد والحسن وغيرهما: لا تغرنكم سورة النور؛ لأنها في الإناث دون الذكور، هداية.
(ويعزل) السيد (عن أمته بغير إذنها) لأنها لا حق لها في الوطء (ولا يعزل) الزوج (عن زوجته) الحرة (إلا بإذنها) ؛ لأن لها حقاً في الوطء، ولذا تخير في الجب والعنة. قيدنا بالحرة لأن الزوجة إذا كانت أمة فالإذن لمولاها عند أبي حنيفة ومحمد، خلافا لأبي يوسف.
(ويكره الاحتكار) والتلقي (في أقوات الآدميين) كبر وشعير وتمر وتين وزبيب (والبهائم) كتبن وقش (إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار) والتلقي (بأهله) لحديث "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" وإن لم يضر لم يكره (ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر) أما الأول(4/166)
ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس.
ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة، ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمراً.
كتاب الوصايا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة، ألا يرى أن له أن لا يزرع، فكذلك له ألا يبيع، وأما الثاني فالمذكور قول أبي حنيفة؛ لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها، وقال أبو يوسف: يكره؛ لإطلاق ما روينا، وقال محمد: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب فهو بمنزلة فناء المصر محرم الاحتكار فيه، وعلى قول أبي حنيفة مشى الأئمة المصححون كما ذكره المصنف، تصحيح.
(ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس) لأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره؛ فلا ينبغي للحاكم أن يتعرض لحقه، إلا إذا تعلق به ضرر العامة، بأن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعدياً فاحشا، فحينئذ لا بأس به بمشورة أهل الرأي والبصر، وتمامه في الهداية.
(ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة) ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبب إلى المعصية.
(ولا بأس ببيع العصير) ولو (ممن يعلم أنه يتخذه خمرا) لأن المعصية لا تقام بعينه، بل بعد تغيره، بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة، لأن المعصية تقوم بعينه، هداية.
كتاب الوصايا
وجه مناسبة الوصايا للحظر والإباحة ظاهرة من حيث إنها تعتريها تلك الأحكام وأراد بالوصايا ما يعم الوصية والإيصاء، يقال: "أوصي إلى فلان" أي جعله وصيا،(4/167)
- الوصية غير واجبةٍ، وهي مستحبةٌ، ولا تجوز الوصية لوارثٍ إلا أن يجيزها الورثة. ولا تجوز الوصية بما زاد على الثلث، ولا للقاتل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والاسم منه الوصاية، و "أوصى لفلان" بمعنى ملكه بطريق الوصية، والمصنف لم يتعرض للفرق بينهما وبيان كل واحد منهما بالاستقلال، بل ذكرهما في أثناء تقرير المسائل.
ثم الوصية اسم بمعنى المصدر، ثم سمى به الموصى به، وهي: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، وشرطها: كون الموصى أهلا للتمليك، وعدم استغراقه بالدين، والموصى له حيا وقتها، غير وارث ولا قاتل، والموصى به قابلا للتمليك بعد موت الموصى.
ولما كان الأصل فيها الاستحباب قال: (الوصية غير واجبة) ؛ لأنها تبرع بمنزلة الهبة، والتبرعات ليست واجبة، وهذا إذا لم يكن مشغول الذمة بنحو زكاة وفدية صوم وصلاة فرط فيها، وإلا فواجبة (وهي مستحبة) ؛ لأنها تبرع على وجه الصدقة ولذا قال في المجتبى: إنها على الغني مباحة، وعلى أهل الفسق مكروهة (ولا تجوز الوصية لوارث) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث".
ويعتبر كونه وارثاً عند الموت لا عند الوصية: فمن كان وارثاً عند الوصية غير وارث عند الموت صحت له الوصية، وإن كان بالعكس لم تصح (إلا أن يجيزها الورثة) بعد موته وهم كبار؛ لأن الامتناع كان لحقهم، فتجوز بإجازتهم، وإن أجاز بعضهم دون بعض جاز على المجيز بقدر حصته (ولا تجوز) الوصية (بما زاد على الثلث) إلا أن يجيزها الورثة كما مر (ولا لقاتل) عمداً كان أو خطأ، بعد أن كان مباشراً ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبي يوسف: لا تجوز، وعلى قولهما(4/168)
ويجوز أن يوصي المسلم للكافر، والكافر للمسلم.
وقبول الوصية بعد الموت، فإن قبلها الموصى له في حال الحياة أو ردها فذلك باطلٌ.
ويستحب أن يوصي الإنسان بدون الثلث.
وإذا أوصي إلى رجلٍ فقبل الوصي في وجه الموصي فردها في غير وجهه فليس بردٍ وإن ردها في وجهه فهو بردٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مشى الأئمة كما هو الرسم، تصحيح.
(ويجوز أن يوصي المسلم للكافر) أي الذمي (والكافر للمسلم) ، لأنهم بعقد الذمة ساووا المسلمين في المعاملات، ولهذا جاز التبرع من الجانبين في حالة الحياة، فكذا في حالة الممات، هداية.
(وقبول الوصية) إنما يعتبر (بعد الموت) ، لأنه أوان ثبوتها، لإضافتها إلى ما بعده، فلا تعتبر قبله (فإن قبلها الموصى له في حال الحياة أو ردها فذلك باطل) لا عبرة به.
(ويستحب أن يوصي الإنسان بدون الثلث) سواء كانت الورثة أغنياء أم فقراء؛ لأن في النتقيص صلة القريب بترك ماله عليهم، بخلاف استكمال الثلث؛ لأنه استيفاء تمام حقه، فلا صلة ولا منة، وتركها عند فقر الورثة وعدم استغنائهم بحصصهم أحب.
(وإن أوصى إلى رجل) أي جعله وصيا على تنفيذ وصيته أو قضاء دينه أو على أولاده الصغار (فقبل الوصي في وجه الموصي) ثم بدا له (فردها في غير وجهه) في حياته أو بعد موته (فليس) ذلك (برد) أي لم يصح رده، لأن الميت مضى إلى سبيله معتمداً عليه، فلو صح رده في غير وجهه صار مغروراً من جهته فرد رده، هداية(4/169)
والموصى به يملك بالقبول إلا في مسألةٍ، وهي: أن يموت الموصي، ثم يموت الموصى له قبل القبول، فيدخل الموصى به في ملك ورثته.
ومن أوصى إلى عبدٍ أو كافرٍ أو فاسقٍ أخرجهم القاضي من الوصية ونصب غيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن ردها في وجهه فهو رد) ، لأنه ليس له إلزامه على قبولها، وإن لم يقبل ولم يرد حتى مات الموصي فهو بالخيار، فإن باع شيئاً من تركته فقد لزمته، لأنه دلالة القبول وهو معتبر بعد الموت، وسواء علم بالوصاية أو لم يعلم، وتمامه في الجوهرة.
(والموصى به يملك بالقبول) ، لأن الوصية مثبته للملك، والقبول شرط للدخول فيه؛ بخلاف الإرث، فإنه خلافة فيثبت الملك من غير قبول (إلا في مسألة واحدة) فإن الموصى به فيها يملك من غير قبول (وهي أن يموت الموصي ثم يموت الموصى له قبل القبول) والرد (فيدخل الموصى به في ملك ورثته) ، لأن الوصية قد تمت من جانب الموصى بموته تماما لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقف لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه كما في البيع المشروط فيه الخيار للمشتري إذا مات قبل الإجازة.
(ومن أوصى إلى عبد) لغيره (أو كافر أو فاسق أخرجهم القاضي من الوصية ونصب غيرهم) إتماماً للنظر، لأن العبد مملوك المنافع، والكافر معاداته الدينية باعثة على ترك النظر، والفاسق متهم بالخيانة، وتعبيره بإخراجهم يشير إلى صحة(4/170)
ومن أوصى إلى عبد نفسه وفي الورثة كبارٌ لم تصح الوصية.
ومن أوصى إلى من يعجز عن القيام بالوصية ضم إليه القاضي غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوصية، لأن الإخراج بعدها، فلو تصرفوا قبل الإخراج جاز، سراجية. وفي شرح الإسبيجاني: هذا اللفظ يقتضي جواز الوصية، وذكر الشيخ أبو الحسن أنها باطلة، فيحتمل أن معنى ذلك أن للقاضي أن يبطلها، ويحتمل أنها باطلة، والأول أصح. اهـ] .
(ومن أوصى إلى عبد نفسه وفي الورثة كبار لم تصح الوصية) ، لأنه يصير مولى عليه من جهتهم، فلا يكون واليا عليهم، ولا على غيرهم، لأن الوصية لا تتجزأ فلو كان الكل صغاراً جاز عند أبي حنيفة، وقالا: لا يجوز أيضا، وقيل: قول محمد مضطرب، وعلى قول الإمام اعتمد الأئمة الأعلام. تصحيح (ومن أوصى إلى من يعجز عن القيام بالوصية) حقيقة (ضم إليه القاضي غيره) رعاية لحق الموصي والورثة، وإنما قيدنا العجز بالحقيقة لأنه لو شكا إليه ذلك لا يجيبه حتى يعرف ذلك حقيقة، لأنه قد يكون كاذبا تخفيفا على نفسه، وإن ظهر للقاضي عجزه أصلا استبدل به غيره، ولو كان قادراً على التصرف أمينا فيه ليس للقاضي أن يخرجه، لأنه لو اختار غيره كان دونه، لما أنه مختار الميت ومرضيه، فإبقاؤه أولى، ولهذا قدم على أب الميت مع وفور شفقته، فأولى أن يقدم على غيره، وكذا إذا شكا الورثة أو بعضهم الوصي للقاضي، فإنه لا ينبغي أن يعزله حتى يبدو منه خيانة، لأنه استفاد لولاية من الميت، وتمامه في الهداية، وفي الجامع الفصولين من الفصل السابع والعشرين: الوصي من الميت لو عدلا كافيا ينبغي للقاضي أن يعزله، فلو عزله قيل: ينعزل، أقول: الصحيح عندي أنه لا ينعزل، لأن الموصي أشفق بنفسه من القاضي، فكيف يعزله؟ وينبغي أن يفتي به(4/171)
ومن أوصى إلى اثنين لم يجز لأحدهما أن يتصرف عند أبي حنيفة ومحمدٍ دون صاحبه، إلا في شراء كفن الميت وتجهيزه، وطعام الصغار وكسوتهم، ورد وديعةٍ بعينها، وقضاء دين، وتنفيذ وصيةٍ بعينها، وعتق عبدٍ بعينه، والخصومة في حقوق الميت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لفساد قضاة الزمان، اهـ. وفي البحر: فقد ترجح عدم صحة العزل للوصي، فكيف بالوظائف في الأوقاف، اهـ.
(ومن أوصى إلى اثنين) معاً، أو على التعاقب (لم يجز لأحدهما أن يتصرف عند أبي حنيفة ومحمد دون صاحبه) ؛ لأن الولاية تثبت بالتفويض فيراعى وصفه - وهو وصف الاجتماع - إذ هو شرط مفيد (إلا في) أشياء ضرورية ليست من باب الولاية، وهي ما استثناها المصنف وأخواتها، وذلك مثل (شراء كفن الميت وتجهيزه) ، لأن في التأخير فساد الميت، ولهذا لا يملكه الجيران عند ذلك (وطعام الصغار وكسوتهم) خشية ضياعهم (ورد وديعة بعينها) ورد مغصوب ومشترى شراء فاسداً، وحفظ أموال (وقضاء دين عليه) ؛ لأنها ليست من باب الولاية، فإنه يملكه المالك وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه، فكان من باب الإعانة، هداية (وتنفيذ وصية بعينها، وعتق عبد بعينه) ، لأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي (والخصومة في حقوق الميت) ؛ لأن الاجتماع فيها متعذر ولهذا ينفرد بها أحد الوكيلين، وزاد في الهداية قبول الهبة؛ لأن في التأخير خيفة الفوات ولأنه تملكه الأم والذي في حجره؛ فلم يكن من باب الولاية، وبيع ما يخشى عليه التوى والتلف؛ لأن فيه ضرورة لا تخفى، وجمع الأموال الضائعة؛ لن في التأخير(4/172)
ومن أوصى لرجلٍ بثلث ماله ولآخر بثلث ماله فلم تجز الورثة فالثلث بينهما نصفان، وإن أوصى لأحدهما بالثلث وللآخر بالسدس فالثلث بينهما أثلاثاً، وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بثلث ماله فلم تجز الورثة فالثلث بينهما على أربعة أسهمٍ عند أبي يوسف ومحمدٍ، وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خشية الفوات؛ ولأنه يملكه كل من وقع في يده، فلم يكن من باب الولاية، اهـ.
قال الإسبيجاني: وقال أبو يوسف: يجوز لكل واحد منهما ما صنع، والصحيح قولهما، واعتمده الأئمة المصححون كما هو الرسم، تصحيح.
(ومن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر) أيضا (بثلث ماله، ولم تجز الورثة) ذلك (فالثلث بينهما نصفان) اتفاقا، لتساويهما في سبب الاستحقاق فيستويان في الاستحقاق، والثلث يضيق عن حقهما، فيكون بينهما (وإن أوصى لأحدهما بالثلث وللآخر بالسدس) ولم تجز الورثة (فالثلث بينهما أثلاثاً) اتفاقا أيضا؛ لأن الثلث يضيق عن حقيهما، فيقتسمانه على قدر حقيهما كما في أصحاب الديون (وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بثلث ماله ولم تجز الورثة) ذلك (فالثلث بينهما على أربعة أسهم عند أبي يوسف ومحمد) على طريق العول: لصاحب الجميع ثلاثة أرباع، ولصاحب الثلث ربع، لأن الموصى قصد شيئين: الاستحقاق والتفضيل، وامتنع الاستحقاق لحق الورثة، ولا مانع من التفضيل، فيثبت كما في المحاباة وأختيها (سيذكر المصنف أختيها. وهما السعاية والدراهم المرسلة، وسيبينهما الشارح) ، كما في الهداية.
(وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان) لأن الوصية وقعت بغير المشروع عند عدم الإجازة فتبطل أصلا، والتفضيل ثبت في ضمن الاستحقاق، فبطل ببطلانه، فتبقى الوصية لكل واحد منهما بالثلث(4/173)
ولا يضرب أبو حنيفة للموصى له بما زاد على الثلث إلا في المحاباة، والسعاية والدراهم المرسلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإن أجازت الورثة: فعلى قولهما يكون بينهما أرباعا على طريق العول، وعلى قول الإمام أثلاثا على طريق المنازعة. قال الإمام جمال الإسلام في شرحه: والصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده الإمام البرهاني، والنسفي، وغيرهما، تصحيح.
(ولا يضرب أبو حنيفة للموصى له بما زاد على الثلث إلا في) ثلاث مسائل (المحاباة، والسعاية، والدراهم المرسلة) : أي المطلقة عن التقييد أو ثلث أو نحوهما.
وصورة المحاباة: أن يكون لرجل عبدان، قيمة أحدهما ثلاثون، والآخر ستون، ولا مال له سواهما، فأوصى بأن يباع الأول من زيد بعشرة والثاني من عمرو بعشرين، فالوصية في حق زيد بعشرين وفي حق عمرو بأربعين، فيقسم الثلث بينهما أثلاثا، فيباع الأول من زيد بعشرين والعشرة وصية له، ويباع الثاني من عمرو بالأربعين والعشرون وصية له، فيأخذ عمرو من الثلث بقدر وصيته، وإن كانت زائدة على الثلث.
وصورة السعاية: أن يوصي بعتق عبدين له قيمتهما ما ذكر، ولا مال له سواهما فيعتق من الأول ثلثه بعشرة ويسعى بعشرين، ويعتق من الثاني ثلثه بعشرين، ويسعى بأربعين.
وصورة الدراهم المرسلة: أن يوصي لزيد بعشرين، ولعمرو بأربعين، وهما ثلثا ماله، فالثلث بينهما أثلاثاً: لزيد عشرة، ولعمرو عشرون، اتفاقا(4/174)
ومن أوصى وعليه دينٌ يحيط بماله لم تجز الوصية، إلا أن تبرئ الغرماء من الدين.
ومن أوصى بنصيب ابنه فالوصية باطلةٌ، وإن أوصى بمثل نصيب ابنه جاز، فإن كان له ابنان فللموصي له الثلث.
ومن أعتق عبداً في مرضه، أو باع وحابى، أو وهب، فذلك كله جائز يعتبر من الثلث ويضرب به مع أصحاب الوصايا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن أوصى وعليه دين يحيط بماله لم تجز الوصية) ، لأن الدين مقدم عليها؛ لأنه فرض، وهي تبرع (إلا أن يبرئ الغرماء) الموصي (من الدين) الذي عليه، فتنفذ الوصية؛ لأنه لم يبق عليه دين.
(ومن أوصى بنصيب ابنه) أو غيره من الورثة (فالوصية باطلة) ؛ لأنه وصية بمال الغير (وإن أوصى بمثل نصيب ابنه جازت) الوصية؛ لأن مثل الشيء غيره، غير أنه مقدر به (فإن كان له) أي الموصي (ابنان، فللموصي له الثلث) لأنه يصير بمنزلة ابن ثالث؛ فيكون المال بينهم أثلاثاً، فإن كان له ابن واحد كان للموصى له النصف إن أجازه الابن، وإلا كان له الثلث كما لو أوصى له بنصف ماله، والأصل: أنه متى أوصى بمثل نصيب بعض الورثة يزاد مثله على سهام الورثة، مجتبى.
(ومن أعتق عبداً في مرضه) أي مرض موته (أو باع وحابى) في بيعه بأن باع شيئاً بأقل من قيمته (أو وهب فذلك) كله جائز، (وهو معتبر من الثلث، ويضرب به مع أصحاب الوصايا) . قال في الهداية: وفي بعض النسخ:(4/175)
فإن حابى ثم أعتق فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة. وإن أعتق ثم حابى فهما سواءٌ، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: العتق أولى في المسألتين.
ومن أوصى بسهمٍ من ماله فله أخس سهام الورثة، إلا أن ينقص من السدس فيتمم له السدس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"فهو وصية " مكان قوله "جائز"، والمراد الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب الوصايا، لا حقيقة الوصية؛ لأنها إيجاب بعد الموت، وهذا منجز غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة، اهـ (فإن حابى) المريض (ثم أعتق) وضاق الثلث عنهما (فالمحاباة أولى) من العتق (عند أبي حنيفة) ؛ لأنه عقد ضمان فأشبه الدين فكان أقوى، وبالسبق زاد قوة (وإن أعتق) أولا (ثم حابى، فهما سواء) عنده أيضا، لأن عقد المحاباة ترجح بالقوة، والعتق بالسبق، فاستويا (وقالا: العتق أولى في المسألتين) لأنه عقد لا يلحقه الفسخ بوجه، فكان أقوى من هذا الوجه، واختار قول الإمام البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، وغيرهم، تصحيح.
(ومن أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة) للموصى (إلا أن ينقص) أخس سهامهم (من السدس؛ فيتم له) أي للموصى له (السدس) ولا يزاد عليه على رواية الجامع الصغير. قال في الاختيار: وحاصله أن له السدس، وعلى رواية كتاب الوصايا له أخس سهام الورثة ما لم يزد على السدس فله السدس، وكلاهما مروى عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: له أخس السهام إلا أن يزيد على الثلث فله الثلث، قال الإسبيجاني: والصحيح قول الإمام، وعليه مشى الأئمة(4/176)
وإن أوصى بجزء من ماله قيل للورثة: أعطوه ما شئتم.
ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض منها قدمها الموصى أو أخرها، مثل الحج، والزكاة، والكفارات، وما ليس بواجبٍ قدم منه ما قدمه الموصي.
ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلاً من بلده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصححون، تصحيح. قال في الهداية: قالوا: هذا في عرفهم، وفي عرفنا: السهم كالجزء، اهـ. ومشى عليه في الكنز والدرر والتنوير. وفي الوقاية: السهم السدس في عرفهم، وهو كالجزء في عرفنا، اهـ.
(وإن أوصى بجزء من ماله قيل للورثة: أعطوه ما شئتم) ، لأنه مجهول يتناول القليل والكثير، غير أن الجهالة لا تمنع صحة الوصية، والورثة قائمون مقام الموصي، فإليهم البيان، هداية.
(ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى) وضاق عنها الثلث (قدمت الفرائض منها) على غير الفرائض، سواء (قدمها الموصي) في الوصية (أو أخرها) لأن قضاءها أهم، وذلك (مثل الحج والزكاة والكفارة) وإن تساوت قوة بأن كانت فرائض أو واجبات بدئ بما قدمه؛ لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهم (وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي) ؛ لأن تقديمه يدل على الاهتمام به، فكان كما إذا صرح بذلك.
(ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من بلده) ؛ لأن الواجب الحج من بلده، ولهذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده، والوصية لأداء ما كان واجباً عليه(4/177)
يحج عنه راكباً، فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث تبلغ.
ومن خرج من بلده حاجاً فمات في الطريق وأوصى أن يحج عنه حج عنه من بلده عند أبي حنيفة.
ولا تصح وصية الصبي، والمكاتب وإن ترك وفاءً.
ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
و (يحج عنه راكباً) ؛ لأنه لا يلزمه أن يحج ماشيا، فانصرف إليه على الوجه الذي وجب عليه، وهذا إن كفت النفقة ذلك (فإن لم تبلغ الوصية) تلك (النفقة أحجوا عنه) راكبا (من حيث تبلغ) تلك النفقة، تنفيذاً لها بقدر الإمكان.
(ومن خرج من بلده حاجا فمات في الطريق) قبل أداء النسك (وأوصى أن يحج عنه من بلده) راكباً (عند أبي حنيفة) لأن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده كما مر، وقالا: يحج عنه من حيث مات، لأن السفر بنية الحج وقع قربة، وسقط فرض قطع المسافة بقدره، فيبتدأ من ذلك المكان كأنه من أهله، قال جمال الإسلام: وعلى هذا إن مات الحاج عن غيره في الطريق حج عن الميت من بلده، والصحيح قوله، واختاره المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ولا تصح وصية الصبي) مطلقاً: أي سواء كان مميزاً أو لا، مات قبل الإدراك أو بعده، أضافه إلى الإدراك أولا، في وجوه الخير أولا، لأنها تبرع، وهو ليس من أهل التبرع، فلا يملكها تنجيزاً ولا تعليقاً (و) لا (المكاتب وإن ترك وفاء) لأن ماله لا يقبل التبرع.
(ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية) ، لأنها تبرع لم يتم، فجاز الرجوع فيه كالهبة(4/178)
فإذا صرح بالرجوع، أو فعل ما يدل على الرجوع كان رجوعاً، ومن جحد الوصية لم يكن رجوعاً.
ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون عند أبي حنيفة.
ومن أوصى لأصهاره فالوصية لكل ذي رحمٍ محرمٍ من امرأته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإذا صرح بالرجوع) بأن قال رجعت عما أوصيت به أو أبطلته (أو فعل ما يدل على الرجوع) بأن أزاله عن ملكه، أو زاد به زيادة تمنع تسليمه إلا بها كلت السويق والبناء في الدار، أو فعل به فعلا لو فعله في المغصوب لانقطع عنه حق المالك (كان رجوعا) أما الصريح فظاهر، وكذا الدلالة، لأنها تعمل عمل الصريح فقام مقام قوله "قد أبطلت" وصار كالبيع بشرط الخيار، فإنه يبطل الخيار فيه بالدلالة، هداية.
(ومن جحد الوصية لم يكن رجوعا) قال في الهداية: كذا ذكره محمد، وقال أبو يوسف: يكون رجوعا، ورجح قول محمد، واعتمده الإمام المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون) له (عند أبي حنيفة) ، لأن الجوار عبارة عن القرب، وحقيقة ذلك في الملاصق، وما بعده بعيد بالنسبة إليه، وقال أبو يوسف ومحمد: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محله الموصي ويجمعهم مسجد المحلة، وهذا استحسان، هداية. قال في التصحيح: والصحيح قول الإمام، واختاره المحبوبي والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم، اهـ.
(ومن أوصى لأصهاره فالوصية لكل ذي رحم محرم من امرأته) كآبائها وأعمامها وأخوالها وأخواتها. قال الحلواني: هذا في عرفهم، وأما في عرفنا فيختص(4/179)
ومن أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذات رحمٍ محرمٍ منه.
ومن أوصى لأقربائه فالوصية للأقرب فالأقرب من كل ذي رحمٍ محرمٍ منه، ولا يدخل فيهم الوالدان والولد، وتكون للاثنين فصاعداً، وإذا أوصى بذلك وله عمان وخالان، فالوصية لعميه عند أبي حنيفة، وإن كان له عمٌ وخالان، فللعم النصف، وللخالين النصف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأبويها، عناية وغيرها، وأقره القهستاني. قلت: لكن جزم في البرهان وغيره بالأول، وأقره في الشرنبلالية، كذا في الدرر.
(ومن أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذات رحم محرم منه) كأزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، قال القهستاني: وينبغي في ديارنا أن يختص الصهر بأبي الزوجة والختن بزوج البنت، لأنه المشهور، اهـ.
(ومن أوصى لأقربائه) ، أو لذوي قرابته، أو لأرحامه، أو لأنسبائه (فالوصية للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم) منه (ولا يدخل فيهم الوالدان والولد) ، لأنهم لا يسمون أقارب، ومن سمى والده قريباً كان منه عقوقاً؛ لأن القريب من تقرب بوسيلة غيره، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره، وتمامه في الهداية (وتكون) الوصية (للاثنين فصاعداً) ؛ لأنه ذكر بلفظ الجمع، وأقل الجمع في الوصية اثنان كما في الميراث (وإذا أوصى بذلك) أي لأقربائه ونحوه (وله) أي الوصي (عمان زخالان فالوصية) كلها (لعميه عند أبي حنيفة) اعتباراً للأقرب كما في الإرث (وإن كان له عم وخالان فللعم النصف وللخالين النصف) ؛ لأنه لابد من اعتبار معنى الجمع وهو الاثنان في الوصية كما في الميراث، ولو ترك عماً وخالا وخالة فالوصية(4/180)
وقال أبو يوسف ومحمدٌ: الوصية لكل من ينسب إلى أقصى أبٍ له في الإسلام.
ومن أوصى لرجلٍ بثلث دراهمه أو ثلث غنمه، فهلك ثلثا ذلك وبقي ثلثه وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله فله جميع ما بقي، وإن أوصى بثلث ثيابه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله لم يستحق إلا ثلث ما بقي من الثياب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للعم والعمة بينهما بالسوية؛ لاستواء قرابتهما، وتمامه في الهداية (وقالا) تكون (الوصية لكل من ينسب) إليه من قبل آبائه (إلى أقصى أب له في الإسلام) وهو أول أب أسلم، القريب والبعيد والذكر والأنثى فيه سواء، قال في زاد الفقهاء والزاهدي في شرحه: الصحيح قول أبي حنيفة، وعليه اعتمد المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(ومن أوصى لرجل بثلث دراهمه) المعينة (أو ثلث غنمه) المعينة (فهلك ثلثا ذلك، وبقي ثلثه، وهو) أي ثلث ذلك (يخرج من ثلث ما بقي من ماله، فله) أي الموصى له (جميع ما بقي) ؛ "لأن الوصية تعلقت بعينها؛ بدليل أنه لو قاسمه الورثة استحق ذلك، وما تعلقت الوصية بعينه يستحقه الموصى له إذا خرج من الثلث، كما لو أوصى بثلث شيء بعينه فاستحق ثلثاه.
(وإن أوصى له بثلث ثيابه فهلك ثلثاها، وبقي ثلثها، وهو) أي الثلث الباقي (يخرج من ثلث ما بقي من ماله، لم يستحق) الموصى له (إلا ثلث ما بقي من الثياب) قال في الهداية: قالوا: هذا إذا كانت الثياب من أجناس مختلفة، ولو كانت من جنس واحد فهو بمنزلة الدراهم، اهـ. أي: لأن الوصية حيث كانت الثياب مختلفة(4/181)
ومن أوصى لرجلٍ بألف درهمٍ وله مالٌ عينٌ ودينٌ، فإن خرجت الألف من ثلث العين دفعت إلى الموصى له، وإن لم تخرج دفع إليه ثلث العين، وكلما خرج شيءٌ من الدين أخذ ثلثه حتى يستوفي الألف.
وتجوز الوصية للحمل، وبالحمل، إذا وضع لأقل من ستة أشهرٍ من يوم الوصية.
ومن أوصى لرجلٍ بجاريةٍ إلا حملها صحت الوصية والاستثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم تتعلق بعينها، ولذا لا يقسم بعضها في بعض، بخلاف ما إذا كانت متحدة فإنها يقسم بعضها في بعض بمنزلة الدراهم.
(ومن أوصى لرجل بألف درهم) مثلا (وله) أي الموصي (مال عين ودين فإن خرجت الألف) الموصى بها (من ثلث العين دفعت) الألف الموصى بها (إلى الموصى له) ؛ لأنه أمكن إبقاء كل ذي حق حقه من غير بخس؛ فيصار إليه (وإن لم تخرج) الألف من الثلث العين (دفع إليه) أي الموصى له (ثلث العين، وكلما خرج شيء من الدين أخذ ثلثه، حتى يستوفي الألف) ؛ لأن الموصى له شريك الوارث، وفي تخصيصه بالعين بخس في حق الورثة؛ لأن للعين فضلا على الدين.
(وتجوز الوصية للحمل، وبالحمل، إذا) تحقق وجوده وقت الوصية بأن (وضع لأقل من ستة أشهر من يوم الوصية) لو زوج الحامل حياً، ولو ميتاً وهي معتدة حين الوصية فلأقل من سنتين؛ بدليل ثبوت نسبه، اختيار وجوهرة.
(ومن أوصى لرجل بجارية إلا حملها صحت الوصية والاستثناء) ؛ لأن ما جاز إيراد العقد عليه جاز استثناؤه منه(4/182)
ومن أوصى لرجلٍ بجاريةٍ فولدت بعد موت الموصي قبل أن يقبل الموصى له ولدا ثم قبل وهما يخرجان من الثلث فهما للموصى له، وإن لم يخرجا من الثلث ضرب بالثلث وأخذ ما يخصه منهما جميعاً في قول أبي يوسف ومحمدٍ، وقال أبو حنيفة: يأخذ ذلك من الأم، فإن فضل شيءٌ أخذه من الولد.
وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره، سنين معلومةً، وتجوز بذلك أبداً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن أوصى لرجل بجارية فولدت بعد موت الموصي) ولو (قبل أن يقبل الموصى له ولداً ثم قبل) الموصى له (وهما) : أي الجارية والولد (يخرجان من الثلث فهما للموصى له) ؛ لأن الولد نماء الأم؛ فكان تبعاً لها (وإن لم يخرج من الثلث ضرب) الموصى له (بالثلث، فأخذ ما يخصه منهما جميعاً في قول أبي يوسف ومحمد) ؛ لأن الولد لما دخل في الوصية صارا كأن الإيجاب ورد عليهما معاً فلا يقدم أحدهما على الآخر (وقال أبو حنيفة: يأخذ ذلك) أي الثلث (من الأم، فإن فضل) من الثلث (شيء أخذه من الولد) لأن الأم أصل في العقد، فكان في التنفيذ، واختار قول الإمام البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنين معلومة، وتجوز) أيضاً (بذلك أبداً) لأن المنافع يجوز تمليكها بعوض وبغير عوض، كالإجارة، والعارية، فكذلك بالوصية، ويكون محبوساً على ملك الميت في حق المنفعة، كما في(4/183)
فإن خرجت رقبة العبد من الثلث سلم إليه للخدمة، وإن كان لا مال له غيره خدم الورثة يومين والموصى له يوماً، فإن مات الموصى له عاد إلى الورثة، وإن مات الموصى له في حياة الموصى بطلت الوصية.
وإذا أوصى لولد فلانٍ فالوصية بينهم: الذكر والأنثى فيه سواءٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الوقف، وتمامه في الدر.
(فإن خرجت رقبة العبد من الثلث سلم) العبد (إليه ليخدمه) إبقاء لحقه (وإن كان) الموصي (لا مال له غيره) أي غير العبد الموصى بخدمته (خدم الورثة يومين، و) خدم (الموصى له يوماً) ؛ لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين، كما في الوصية بالعين؛ ولا يمكن قسمه، فعدل إلى المهايأة إيفاء للحقين، وأما الدار إذا لم يكن له غيرها فإنها تقسم أثلاثا للانتفاع، ولو اقتسموا مهايأة من حيث الزمان يجوز أيضاً؛ لأن الحق لهم، إلا أن الأول أولى، وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار؛ وعن أبي يوسف لهم ذلك، وتمامه في الهداية (فإن مات الموصى له عاد) العبد الموصى به (إلى الورثة) لأن الموصي أوجب الحق للموصى له؛ ليستوفي المنافع على حكم ملكه؛ فلو انتقل إلى وارث الموصى له استحقها ابتداء من ملك الموصي بلا رضاه، وذلك لا يجوز، هداية (فإن مات الموصى له في حياة الموصي بطلت الوصية) ؛ لما تقدم أن الوصية إيجاب بعد الموت، وقد مات الموصى له قبل وجوب الحق له؛ فبطل.
(وإذا أوصى لولد فلان فالوصية بينهم) أي بين جميع أولاده (الذكر والأنثى فيه سواء) ؛ لأن اسم الولد ينطلق عليهما على حد سواء(4/184)
ومن أوصى لورثة فلانٍ فالوصية بينهم: للذكر مثل حظ الأنثيين.
ومن أوصى لزيدٍ وعمرو بثلث ماله، فإذا عمروٌ ميتٌ، فالثلث كله لزيدٍ وإن قال: "ثلث مالي بين زيد وعمروٍ" وزيدٌ ميتٌ كان لعمروٍ نصف الثلث.
ومن أوصى بثلث ماله ولا ماله له ثم اكتسب مالا استحق الموصى له ثلث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن أوصى لورثة فلان فالوصية بينهم) أي بين جميع ورثته (للذكر مثل حظ الأنثيين) ، لأن الإيجاب باسم الميراث يقتضي التفضيل، كما في الميراث.
(ومن أوصى لزيد وعمرو بثلث ماله) مثلا (فإذا عمرو ميت) قبل الوصية (فالثلث كله لزيد) ، لأن الميت ليس بأهل للوصية، فلا يزاحم الحي، فصار كما إذا أوصى لزيد وجدار، وعن أبي يوسف: أنه إذا لم يعلم بموته فله نصف الثلث، وعلى ما في الكتاب مشى المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(وإن قال) الموصي (ثلث مالي بين زيد وعمرو، وزيد ميت) قبل الوصية (كان لعمرو نصف الثلث) ، لأن ابتداء الإيجاب لا يوجب له إلا النصف، لأن كلمة "بين" تقتضي الاشتراك.
(ومن أوصى بثلث ماله ولا مال له) إذ ذاك، أو كان له مال وهلك، (ثم) بعد ذلك (اكتسب مالا) ومات (استحق الموصى له ثلث(4/185)
ما يملكه عند الموت، والله أعلم.
كتاب الفرائض.
- المجمع على توريثهم من الذكور.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يملكه) الموصي (عند الموت) لأن الوصية عقد استخلاف مضاف إلى ما بعد الموت، ويثبت حكمه بعده، فيشترط وجود المال عند الموت، لا قبله، هداية.
كتاب الفرائض
الفرائض، جمع فريضة، فعيلة من الفرض، وهو في اللغة: التقدير والقطع، وفي الشرع: ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه. وسمي هذا النوع من الفقه "فرائض" لأنه سهام مقدرة ثبتت بدليل قطعي لا شبهة فيه؛ فقد اشتمل على المعنى اللغوي والشرعي، وإنما خص بهذا الاسم لأن الله تعالى سماه به، فقال بعد القسمة: "فريضة من الله" وكذا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "تعلموا الفرائض".
والفرائض من العلوم الشريفة التي تجب العناية بها؛ لافتقار الناس إليها، ففي الحديث: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان من يقضي بينهما"، رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد لكن في رواية الحاكم "من يقضي بها".
قال رحمه الله تعالى: (المجمع على توريثهم من الذكور) فرضاً أو تعصيباً أو بهما(4/186)
عشرةٌ: الابن، وابن الابن وإن سفل، والأب، والجد أب الأب وإن علا، والأخ، وابن الأخ؛ والعم، وابن العم، والزوج، ومولى النعمة.
ومن الإناث سبعٌ: البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والأخت، والزوجة، ومولاة النعمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بطريق الاختصار (عشرة: الابن، وابن الابن وإن سفل) بمحض الذكور (والأب، والجد أب الأب وإن علا) بمحض الذكور (والأخ) مطلقاً (وابن الأخ) الشقيق أو الأب وإن سفل بمحض الذكور (والعم) الشقيق أو لأب (وابن العم) كذلك وإن سفل بمحض الذكور (والزوج، ومولى النعمة) أي المعتق، أما بطريق البسط فخمسة عشر: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، والجد وإن علا، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق، وابن الأخ للأب، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق، وابن العم للأب، والزوج، والمعتق. ومن عدا هؤلاء من الذكور فمن ذوي الأرحام.
(و) المجمع على توريثهم (من الإناث) بطريق الاختصار أيضا (سبع: البنت، وبنت الابن) وإن سفلت بمحض الذكور (والأم، والجدة) لأم أو لأب وإن علت ما لم تدل بجد فاسد (والأخت) مطلقاً (والزوجة، ومولاة النعمة) أي المعتقة، وأما بطريق البسط فعشرة: البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة من قبلها، والجدة من الأب، والأخت الشقيقة، والأخت للأب، والأخا للأم، والزوجة، والمعتقة، ومن عدا هؤلاء من الإناث فمن ذوي الأرحام](4/187)
ولا يرث أربعةٌ: المملوك، والقاتل من المقتول، والمرتد، وأهل الملتين.
والفروض المحددة في كتاب الله تعالى ستةٌ: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
فالنصف فرض خمسةٍ: فرض البنت، وبنت الابن إذا لم تكن بنت الصلب، والأخت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا يرث أربعة: المملوك) مطلقاً؛ لأن الميراث نوع تمليك، والعبد لا يملك ولأن ملكه لسيده، ولا قرابة بين السيد والميت (والقاتل من المقتول) لاستعجاله ما أخره الله تعالى فعوقب بحرمانه، وهذا إذا كان قتلا يوجب القود أو الكفارة، وأما ما لا يتعلق به ذلك فلا يمنع، وقد مر في الجنايات (والمرتد) فلا يرث من مسلم ولا ذمي ولا مرتد؛ لأنه لا ملة له؛ بدليل أنه لا يقر على ما هو عليه (وأهل الملتين) فلا توارث بين مسلم وكافر، وكذا أهل الدارين: حقيقة كالذمي والحربي، أو حكما كالذمي والمستأمن، وحربيين من دارين مختلفين كتركي وهندي؛ لانقطاع العصبة فيما بينهم، بخلاف المسلمين كما في الدر.
(والفروض المحدودة) أي المقدرة (في كتاب الله تعالى: النصف، و) نصفه وهو (الربع، و) نصف نصفه وهو (الثمن، والثلثان، و) نصفهما وهو (الثلث، و) نصف نصفهما وهو (السدس) ويقال غير ذلك من العبارت التي أخصرها قول ابن الهائم: ثلثٌ وربعٌ ونصف كلٍ وضعفه.
(فالنصف فرض خمسة) أصناف (للبنت) عند انفرادها (وبنت الابن إذا كانت منفردة (ولم تكن بنت الصلب) ولا ابن فأكثر (والأخت) الشقيقة وهي(4/188)
من الأب والأم، والأخت من الأب إذا لم تكن أختٌ لأبٍ وأمٍ، والزوج إذا لم يكن للميت ولدٌ ولا ولد ابنٍ.
والربع فرض الزوج مع الولد أو ولد الابن، والزوجات إذا لم يكن للميت ولدٌ ولا ولد ابن.
والثمن فرض الزوجات مع الولد وولد الابن.
والثلثان لكا اثنين فصاعداً ممن فرضه النصف إلا الزوج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأخت (من الأب والأم) عند انفرادها، وعدم الأولاد وأولاد الأبناء (والأخت من الأب إذا) كانت منفردة، و (لم تكن أخت) ولا أخ (لأب وأم) فأكثر، ولا من شرط فقده مع الشقيقة (وللزوج إذا لم يكن للميت ولد) مطلقا (ولا ولد ابن) .
(والربع) فرض اثنين: (للزوج مع الولد) مطلقاً (أو ولد الابن، وللزوجات) تستقل به الواحدة إذا انفردت، ويشترك به الأكثر (إذا لم يكن، للميت ولد) مطلقاً (ولا ولد ابن) .
(والثمن) فرض صنف واحد: أي (للزوجات مع الولد) مطلقاً (أو ولد الابن) تستقل به الواحدة إذا انفردت، ويشترك به الأكثر كما مر.
(والثلثان) فرض أربعة أصناف عبر عنها بقوله: (لكل اثنين فصاعدا ممن فرضه النصف، إلا الزوج) وتقدم أنهم خمسة، فإذا خرج الزوج المستثنى بقي أربعة، وهن: البنات، وبنات الابن، والأخوات الأشقاء، والأخوات من الأب، ويشترط في حال تعددهن ما يشترط حال انفرادهن](4/189)
والثلث للأم إذا لم يكن للميت ولدٌ، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً، ويفرض لها في مسألتين - وهما: زوجٌ وأبوان، وامرأةٌ وأبوان - ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج أو الزوجة، وهو لكل اثنين فصاعداً من ولد الأم: ذكورهم وإناثهم فيه سواءٌ.
والسدس فرض سبعةٍ: لكل واحدٍ من الأبوين مع الولد أو ولد الابن، وللأم مع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(والثلث) فرض صنفين: (للأم إذا لم يكن للميت ولد) مطلقاً (ولا ولد ابن، ولا اثنان) فأكثر (من الإخوة والأخوات) أشقاء أو لأب أو لأم، متحدين أو مختلفين (ويفرض لها) أي الأم (في مسألتين) فقط (وهما: زوج وأبوان، وامرأة) أي زوجة (وأبوان - ثلث ما يبقى بعد) رفع (فرض الزوج) في الأول (و) فرض (الزوجة) في الثانية، وكان الأصل - على ما سبق - أن يكون لها ثلث جميع المال، ولكن يلزم من ذلك تفضيل الأم على الأب، فأعطيت ثلث الباقي، ولو كان مكان الأب جد كان لها ثلث الجميع (وهو) أي الثلث لكل اثنين فصاعدا من ولد الأم، ذكورهم وإناثهم فيه) أي الثلث المفروض لهم (سواء) أي: من غير تفضيل ذكرهم على أنثاهم؛ لقوله تعالى: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث} والتشريك إذا أطلق يقتضي المساواة.
(والسدس فرض سبعة) أصناف: (لكل واحد من الأبوين مع وجود الولد) مطلقا (أو ولد الابن) مطلقا (وللأم) أيضا (مع) اثنين فأكثر(4/190)
الإخوة والأخوات من أي جهةٍ كانوا، وللجدات، وللجد، مع الولد أو ولد الابن، ولبنات الابن مع البنت، وللأخوات لأبٍ مع الأخت لأبٍ وأمٍ، وللواحد من ولد الأم.
وتسقط الجدات بالأم، والجد والإخوة والأخوات بالأب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من (الإخوة والأخوات) مطلقا، مع الاتحاد أو الاختلاف، وارثين أو لا (وللجدات الصحيحات، وهن اللاتي لم يدلين بجد فاسد، تستقل به الواحدة إذا انفردت ويشترك به الأكثر إذا كثرن وتحاذين (وللجد) الصحيح، وهو الذي لم يدخل في نسبته إلى الميت أنثى (مع الولد) أو ولد الابن، وعدم الأب، لأنه يقوم مقامه (ولبنات الابن) إذا كن (مع البنت) إذا لم يكن معهن من يعصبهن، تستقل به الواحدة إذا انفردت، ويشترك به الأكثر (والأخوات لأب مع الأخت) الواحدة التي (لأب وأم) إذا لم يكن معهن من يعصبهن، تستقل به الواحدة إذا انفردت، ويشترك به الأكثر كما مر (وللواحد من ولد الأم) سواء كان ذكرا أو أنثى.
ولما أنهى الكلام على أصحاب الفروض، شرع في ذكر الحجب، فقال: (وتسقط الجدات) مطلقاً (بالأم، و) يسقط (الجد والإخوة والأخوات) مطلقا (بالأب)(4/191)
ويسقط ولد الأم بأربعةٍ: بالولد، وولد الابن، والأب، والجد.
وإذا استكمل البنات الثلثين سقطت بنات الابن؛ إلا أن يكون بإزائهن أو أسفل منهن ابن ابن فيعصبهن.
وإذا استكمل الأخوات لأبٍ وأم الثلثين سقطت الأخوات لأب. إلا أن يكون معهن أخٌ لهن فيعصبهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ويسقط ولد الأم) أي الأخ من الأم (بأربعة) أصناف (بالولد) مطلقاً (وولد الابن) مطلقا، وإن سفل بمحض الذكور (والأب، والجد) الصحيح وإن علا.
(وإذا استكملت البنات الثلثين سقطت بنات الابن) ، لأنه لا حق للبنات وبنات الابن فيما وراء الثلثين فريضة (إلا أن يكون بإزائهن) أي بإزاء بنات الابن سواء كان أخا أو ابن عم (أو أسفل منهن) بدرجة أو أكثر (ابن ابن فيعصبهن) إلا أنه يعصب من فوقه إذا لم تكن ذات سهم، أما إذا كانت ذات سهم كما إذا كان بنت وبنت ابن وابن ابن ابنٍ، فإن البنت تأخذ النصف، وبنت الابن السدس، والباقي لابن ابن الابن، ولا تصير عصبة به.
(وإذا استكملت الأخوات لأب وأم الثلثين سقطت الأخوات لأب) ؛ لأنه لا حق للأخوات فيما وراء الثلثين فريضة (إلا أن يكون معهن أخ لهن فيعصبهن) كما مر في بنات الابن مع البنات. وسيذكر تمام أحكام الحجب بعد إنهاء الكلام على العصبات(4/192)
باب أقرب العصبات.
- وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم، ثم الأب، ثم الجد، ثم بنو الأب، وهم الأخوة، ثم بنو الجد، وهم الأعمام، ثم بنو أب الجد.
وإذا استوى بنو أبٍ في الدرجة فأولاهم من كان لأبٍ وأمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب أقرب العصبات
(وأقرب العصبات) جمع عصبة - وهو ذكر لم تدخل في نسبته إلى الميت أنثى - جزء الميت (جعل الشارع هذا خبر المبتدأ الذي هو قوله "أقرب العصبات") ، وهم (البنون، ثم بنوهم) وإن سفلوا بمحض الذكور (ثم) أصله، وهو (الأب، ثم الجد) وإن علا بمحض الذكور (ثم بنو الأب، وهم الإخوة) لأبويين، أو لأب عند عدم الإخوة لأبوين، ثم بنوهم كذلك وإن سفلوا بمحض الذكور (ثم بنو الجد، وهم الأعمام) لأبوين، أو لأب عند عدم الأعمام لأبوين، ثم بنوهم كذلك، وإن سفلوا بمحض الذكور (ثم بنو أب الجد) وهم أعمام أب الميت: لأبوين، أو لأب، ثم بنوهم كذلك وإن سفلوا، وهكذا؛ لأنهم في القرب والدرجة على هذا الترتيب؛ فيكونون في الميراث كذلك.
(وإذا استوى بنو أب في درجة) وكانوا كلهم لأب وأم ولأب فقط اشتركوا في الميراث، وإن كان بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب فقط (فأولاهم) بالميراث (من كان لأب وأم) ، لأن الانتساب إلى الأبوين أقوى؛ فيقع به الترجيح.
ولما ذكر العصبة بنفسه أواد أن يتمم أنواع العصبة بذكر العصبة بغيره؛ فقال:(4/193)
والابن وابن الابن والإخوة يقاسمون أخواتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، ومن عداهم من العصبات ينفرد بالميراث ذكورهم دون إناثهم.
وإذا لم يكن عصبةٌ من النسب فالعصبة هو المولى المعتق، ثم أقرب عصبة المولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(والابن وابن الابن والإخوة) لأبوين أو لأب كما مر (يقاسمون أخواتهم للذكر مثل حظ الانثيين) لأن أخواتهم يصرن عصبة بهم، أما البنات وبنات الابن فلقوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وأما الأخوات فلقوله تعالى: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء للذكر مثل حظ الأنثيين} (ومن عداهم) أي: من عدا الابن وابن والابن والإخوة (من) بقية (العصبات) كالعم وابنه وابن الأخ (ينفرد بالميراث ذكورهم دون إناثهم) ؛ لأن أخواتهم لا يصرن عصبة بهم؛ لأنهن لم يكن لهن فرضٌ، بخلاف الأولين فإن أخواتهم لهن فرضٌ، وجعلوا عصبة بهم لئلا يكون نصيبهن مساوياً لنصيبهم أو أكثر، وههنا ليس كذلك.
وبقي من العصبات النسبية العصبة مع الغير، وهم الأخوات لأبوين أو لأب مع البنات أو بنات الابن.
ولما أنهى الكلام على العصبة النسبية أخذ في ذكر العصبة السببية، فقال (وإنا لم تكن) للميت (عصبة من النسب فالعصبة) له (المولى المعتق) سواء كان ذكراً أو أنثى (ثم) بعده (أقرب عصبة المولى) بنفسه، على الترتيب السابق.
ولما لم يستوعب أحكام الحجب فيما سبق أخذ في تمام ذلك فقال:(4/194)
باب الحجب.
- وتحجب الأم من الثلث إلى السدس بالولد، أو بأخوين.
والفاضل عن فرض البنات لبني الابن وأخواتهم، للذكر مثل حظ الأنثيين.
والفاضل عن فرض الأختين من الأب والأم للإخوة والأخوات من الأب للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإذا ترك بنتاً وبنات ابنٍ وبني ابنٍ، فللبنت النصف، والباقي لبني الابن وأخواتهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك الفاضل عن فرض الأخت من
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب الحجب
(وتحجب الأم من الثلث إلى السدس بالولد) أو ولد الابن (أو أخوين) مطلقاً كما مر آنفاً (والفاضل عن فرض البنات لبني الابن وأخواتهم للذكر مثل حظ الأنثيين) لما مر أنهن يصرن عصبة بهم (و) كذلك (الفاضل عن فرض الأختين من الأب والأم للأخوة والأخوات من الأب للذكر مثل حظ الأنثيين) كما مر (وإذا ترك) الميت (بنتاً وبنات ابن) واحدة أو أكثر (وبني ابن) واحداً أو أكثر إخوةً لبنات الابن أو أولاد عم أو مختلفين (فللبنت النصف والباقي لبني الابن وأخواتهم) أو أولاد عمهم (للذكر مثل حظ الأنثيين) اعتباراً بما إذا لم يكن معهم ذو فرض (وكذلك الفاضل عن) النصف (فرض الأخت من(4/195)
الأب والأم لبني الأب وبنات الأب للذكر مثل حظ الأنثيين.
ومن ترك ابني عمٍ أحدهما أخٌ لأمٍ فللأخ للأم السدس، والباقي بينهما.
والمشركة: أن تترك المرأة زوجاً وأماً - أو جدةً - وأختين من أمٍ وأخا لأبٍ وأمٍ، فللزوج النصف، وللأم السدس، ولولد الأم الثلث، ولا شيء للإخوة من الأب والأم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأب والأم) يكون (لبني الأب وبنات الأب، للذكر مثل حظ الأنثيين) وقد مر آنفا.
(ومن ترك ابني عم أحدهما أخ لأم فللأخ) من الأم (السدس) بالفرضية، (والباقي) بعد السدس (بينهما) نصفين بالعصوبة؛ لاستوائهما بها.
(و) المسألة (المشركة) بفتح الراء كما ضبطها ابن الصلاح والنووي، أي المشرك فيها وبكسرها على نسبة التشريك إليها مجازا كما ضبطها ابن يونس: أي المشتهرة بذلك عند الفرضيين، وصورتها (أن تترك المرأة زوجا و) ذات سدس (أما أو جدة) صحيحة (وأختين من أم) فأكثر (وأخا لأب وأم) فأكثر (فللزوج النصف، وللأم السدس، ولولدي الأم الثلث) بالنصوص الواردة فيهم (ولا شيء للأخ من الأب والأم) لاستغراق التركة بالفروض.
ولما أنهى الكلام على أحكام الحجب أخذ في أحكام الرد، فقال:(4/196)
باب الرد.
- والفاضل عن فرض ذوي السهام إذا لم يكن عصبةٌ مردودٌ عليهم بمقدار سهامهم، إلا على الزوجين.
ولا يرث القاتل من المقتول، والكفر كله ملةٌ واحدةٌ يتوارث به أهله.
ولا يرث المسلم من الكافر، ولا الكافر من المسلم، ومال المرتد لورثته من المسلمين، وما اكتسبه في حال ردته فيٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب الرد
(والفاضل عن فرض ذوي السهام - إذا لم يكن عصبة - مردود عليهم) أي على ذوي السهام (بمقدار سهامهم، إلا) أنه لا يرد (على الزوجين) ؛ لأن الرد إنما يستحق بالرحم، لقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} ولا رحم بين الزوجين.
(ولا يرث القاتل) إذا كان بالغاً عاقلاً (من المقتول) وقد مر (والكفر كله ملة واحدة يتوارث به أهله) إذا اتحدت الدار كما مر (ولا يرث المسلم من الكافر، ولا الكافر من المسلم) لاختلاف الملة.
(ومال المرتد) الذي اكتسبه حالة إسلامه إذا مات أو قتل (لورثته من المسلمين) لاستناد زوال الملك لزمن الردة (وما اكتسبه في حال ردته فئ) ؛ لأنه مباح الدم؛ فيكون ما يكتسبه في تلك الحالة فيئا كما في الحربي(4/197)
وإذا غرق جماعةٌ أو سقط عليهم حائطٌ فلم يعلم من مات منهم أولاً فمال كل واحدٍ منهم للأحياء من ورثته.
وإذا اجتمع في المجوسي قرابتان لو تفرقت في شخصين ورث أحدهما مع الآخر ورث بهما، ولا يرث المجوسي بالأنكحة الفاسدة التي يستحلونها في دينهم.
وعصبة ولد الزنا وولد الملاعنة مولى أمهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا غرق جماعة) أو احترقوا (أو سقط عليهم حائط فلم يعلم من مات منهم أولا فمال كل واحد منهم) يكون (للأحياء من ورثته) ولا يرث بعضهم من بعض، لأنه لما لم يعلم حالهم جعلوا كأنهم ماتوا معاً، وإذا كاتوا معاً لا يرث بعضهم من بعض؛ لاشتراط تحقق حياة الوارث بعد موت المورث.
(وإذا اجتمع في الموسي قرابتان) وكان بحيث (لو تفرقت) قرابتاه (في شخصين) لكان (ورث أحدهما) : أي أحد المفروضين (مع الآخر ورث بهما) اعتباراً بالمسلم إذا كان له قرابتان كابن العم إذا كان أخا لأم كما مر (ولا يرث المجوسي بالأنكحة الفاسدة التي يستحلونها في دينهم) ؛ لاستحقاقها النقض والفسخ، ولهذا لو رفع إلينا لا نقرهم عليه، والعقد الفاسد لا يوجب الاستحقاق.
(وعصبة ولد الزنا وولد الملاعنة مولى أمهما) ؛ لأنه لا نسب لهما من قبل الأب؛ فيكون ولاؤهما لمولى الأم، والمراد بالمولى ما يعم المعتق والعصبة؛ ليتناول ما لو كانت حرة الأصل، قال في التصحيح نقلا عن الجواهر: يعني إذا كانت الأم حرة الأصل يكون الميراث لمواليها، وهم عصبتها، وإن كانت معتقة يكون الميراث لمعتقها أو عصبته فقوله "مولى أمهما" يتناول المعتق وغيره وهو عصبة أمهما. اه(4/198)
ومن مات وترك حملاً وقف ماله حتى تضع امرأته حملها في قول أبي حنيفة.
والجد أولى بالميراث من الإخوة عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يقاسمهم، إلا أن تنقصه المقاسمة من الثلث.
وإذا اجتمعت الجدات فالسدس لأقربهن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن مات وترك) ورثة و (حملا) يشارك بقية الورثة أو يحجبهم حجب نقصان (وقف ماله) أي مال الميت (حتى تضع امرأته عند أبي حنيفة) ؛ لئلا يحتاج إلى فسخ القسمة، فإن طلب الورثة حقوقهم دفع إليهم المتيقن، ويوقف ميراث أربع بنين في رواية ابن المبارك عن الإمام، وقال محمد: ميراث ابنين؛ وقال أبو يوسف: ميراث واحد، قال الزاهدي والإسبيجاني وصاحب الحقائق والمحيط وقاضيخان: وعليه الفتوى، وقال قاضيخان: وهو مختار الصدر الشهيد، وبه أفتى فخر الدين، وهو المختار، تصحيح. وإنما قيدت بما إذا كان يشارك بقية الورثة أو يحجبهم حجب نقصان؛ لأنه إذا كان يحجب حجب حرمان فإنه يوقف جميع التركة اتفاقاً.
(والجد) الصحيح (أولى بالميراث من الإخوة) والأخوات (عند أبي حنيفة لأنه بمنزلة الأب عند فقده (وقالا: يقاسمهم إلا أن تنقصه المقاسمة من الثلث) فيكون له الثلث والباقي بين الإخوة والإخوات؛ قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، وقال في الحقائق: وبه يفتي، تصحيح.
(وإذا اجتمعت الجدات) الصحيحات، وتفاوتن في الدرجة (فالسدس لأقربهن)(4/199)
ويحجب الجد أمه.
ولا ترث أم أبي الأم بسهمٍ، وكل جدةٍ تحجب أمها.
باب ذوي الأرحام.
- وإذا لم يكن للميت عصبةٌ ولا ذو سهمٍ ورثه ذوو أرحامه، وهم عشرةٌ: ولد البنت، وولد الأخت، وابنة الأخ، وابنة العم، والخال، والخالة، وأب الأم، والعم من الأم، والعمة، وولد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من أي جهة كانت (ويحجب الجد أمه) لأنها تدلي به (ولا ترث أم لأبي الأم بسهم) أي بفرض؛ لإدلائها بغير الوارث؛ فهي من ذوي الأرحام (وكل جدة تحجب أمها) لأنهما يرثان بجهة واحدة؛ فكانت القربى أولى كالأم والجدة.
ولما أنهى الكلام على الوارثين بالفرضية والعصوبة أخذ في الكلام على ذوي الأرحام فقال:.
باب ذوي الأرحام
(وإذا لم يكن للميت عصبة ولا ذو سهم ورثه ذوو أرحامه) ، لقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} والأرحام: جمع رحم، وهو: قريب ليس بعصبة ولا ذي سهمٍ (وهم عشرة) أصناف: الأول (ولد البنت) مطلقاً (و) الثاني (ولد الأخت) مطلقاً (و) الثالث (ابنة الأخ) مطلقاً (و) الرابع (ابنة العم) مطلقا (و) الخامس (الخال) مطلقاً (و) السادس (الخالة) مطلقا (و) السابع (أب الأم، و) الثامن (العم) أخ الأب (من الأم، و) التاسع (العمة) مطلقا (و) العاشر (ولد(4/200)
الأخ من الأم، ومن أدلى بهم،
وأولاهم ولد الميت، ثم ولد الأبوين، أو أحدهما، وهم بنات الإخوة وولد الأخوات، ثم ولد أبوي أبويه أو أحدهما، وهم الأخوال والخالات والعمات.
وإذا استوى ولد أبٍ في درجةٍ فأولاهم من أدلى بوارثٍ، وأقربهم أولى من أبعدهم، وأب الأم أولى من ولد الأخ والأخت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأخ من الأم، و) كذلك (من أدلى بهم) ؛ لوجود القرابة والرحم.
ولما كان توريث ذوي الأرحام كتوريث العصبة بحيث من انفرد منهم أحرز جميع المال، وإذا اجتمعوا يعتبر أو لأقرب القرابة. ثم قرب الدرجة، ثم قرب القوة بكون الأصل وارثاً - شرع في بيان ذلك، فقال: (وأولاهم) أي أقرب جهات ذوي الأرحام (من كان من ولد الميت) ؛ لأنه أقرب إليه من غيره وإن سفل، ثم الجد الفاسد؛ لأنه مقدم على ولد الأبوين بإجماع أصحابنا كما في التصحيح عن زاد الفقهاء، ونص عليه المصنف كما يأتي قريبا (ثم ولد الأبوين أو أحدهما وهم بنات الإخوة) مطلقا (وولد الأخوات) مطلقاً (ثم ولد أبوي أبويه أو أحدهما وهم الأخوال والخالات والعمات) مطلقاً (وإذا استوى ولد أب في درجة) وكان بعضهم يدلي بوارث وبعضهم بغير وارث (فأولاهم من أدلى) إليه (بوارث) ؛ لأن الإدلاء بالوارث أقوى، وذلك كبنت بنت البنت وبنت بنت الابن، فالمال كله لبنت بنت الابن، لما ذكر (و) إن تفاوتوا بالقرب كان (أقربهم) وإن أدلى بغير وارث (أولى من أبعدهم) وإن أدلى بوارث، وذلك كبنت العمة وبنت ابن العم لأبوين أو لأب فالمال كله لبنت العمة؛ لما مر من أن المعتبر هو القرب (وأب الأم) وإن علا (أولى من ولد الأخ والأخت) اعتبارا بالعصبات، قال الزاهدي والإسبيجاني:(4/201)
والمعتق أحق بالفاضل عن سهم ذوي السهام إذا لم تكن عصبةٌ سواه، ومولى الموالاة يرث.
وإذا ترك المعتق أبا مولاه وابن مولاه فماله للابن، وقال أبو يوسف: للأب السدس والباقي للابن، فإن ترك جد مولاه وأخ مولاه فالمال للجد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: هو بينهما.
ولا يباع الولاء، ولا يوهب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا عند أبي حنيفة، وقالا: ولد الأخ والأخت أولى؛ ورجحا دليل أبي حنيفة، واختاره النسفي وغيره، تصحيح.
(والمعتق أحق) من ذوي الأرحام (بالفاضل عن سهم ذوي السهام إذا لم تكن عصبة سواه) وكذلك عصبته بعده كما مر.
(ومولى الموالاة يرث) ممن والاه إذا لم يكن له وارث سواه.
(وإذا ترك المعتق أب مولاه وابن مولاه فماله للابن) وحده عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن ولاء العتاقة تعصيب، والابن مقدم على الأب في التعصيب (وقال أبو يوسف: للأب السدس، والباقي للابن) اعتبارا بالإرث، قال الإسبيجاني: الصحيح قولهما، تصحيح (فإن ترك جد مولاه وأخ مولاه فالمال للجد في قول أبي حنيفة، وقالا: هو بينهما) قال الإسبيجاني والزاهدي: هذا بناء على اختلافهم في الميراث؛ وقد مر، قلت: وقد مر أن الفتوى على قول الإمام، تصحيح.
(ولا يباع الولاء ولا يوهب) لحديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث"(4/202)
حساب الفرائض.
- إذا كان في المسألة نصفٌ ونصفٌ، أو نصفٌ وما بقي، فأصلها من اثنين، وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولما أتم الكلام على أحكام الفرائض أخذ في الكلام على كيفية تقسيمها بين مستحقيها، فقال:
حساب الفرائض
وهذه ترجمة للأصول التي يحتاج إليها الفرضيون في تصحيح المسائل وقسمة الفروض على مستحقيها، وفي مخارج الفروض المذكورة في القرآن العظيم.
واعلم أن مخرج كل فرض مفرد أقل عدد يكون ذلك الفرض منه واحداً صحيحاً، ومخرج الفرض المكرر هو مخرج الفرض المفرد؛ فالنصف من اثنين، والثلث من ثلاثة، وكذا الثلثان، وهكذا.
ثم اعلم أن الفروض المقدرة نوعان: النصف، والثلثان، ونصفهما ونصف نصفهما كما سبق؛ فإن لم يختلط أحد النوعين في الآخر كان أصل المسألة من مخرج أدق فرض فيها، وإن اختلط أحد النوعين في الآخر؛ فإن اختلط النصف بالنوع الثاني كله أو بعضه، فالمسألة من ستة، وإن اختلط الربع كذلك فمن اثني عشر، وإن اختلط الثمن كذلك فمن أربعة وعشرين. وقد أخذ المصنف في بيان ذلك فقال:
(إذا كان في المسألة نصف ونصف) كزوج وأخت شقيقة أو لأب (أو نصف وما بقي) كبنت وأخت شقيقة أو لأب (فأصلها من اثنين، وإن كان) في المسألة(4/203)
ثلثٌ وما بقي، أو ثلثان وما بقي فأصلها من ثلاثة، وإن كان ربعٌ وما بقي أو ربعٌ ونصفٌ فأصلها من أربعة، وإن كان ثمنٌ وما بقي، أو ثمنٌ ونصفٌ وما بقي فأصلها من ثمانية، وإذا كان سدسٌ وما بقي أو نصفٌ وثلثٌ أو سدس فأصلها من ستة، وتعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة.
وإن كان مع الربع ثلثٌ أو سدسٌ فأصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ثلث وما بقي) كأم وأخ شقيق أو لأب، أو ثلث وثلثان كأخوين لأم وأختين لأبوين أو لأب (أو ثلثان وما بقي) كبنتين وعم (فأصلها من ثلاثة، وإن كان) في المسألة (ربع وما بقي) كزوج وعم (أو ربع ونصف) كزوج وبنت (فأصلها من أربعة، وإن كان) في المسألة (ثمن وما بقي) كزوجة وابن (أو ثمن ونصف وما بقي) كزوجة وبنت وعم (فأصلها من ثمانية، وإذا كان) في المسألة (سدس وما بقي) كجدة وعم أو سدس وثلث وما بقي كأم وولدي أم وعم، أو سدس ونصف وما بقي كجدة وزوج وعم (أو نصف وثلث) وما بقي كأم وأخت شقيقة أو لأب وعم (أو) نصف (وسدس) وما بقي كأم وبنت وعم (فأصلها من ستة، و) قد (تعول) الستة (إلى سبعة) كزوج وأختين لأب (و) إلى (ثمانية) كزوج وثلاث أخوات متفرقة (و) إلى (تسعة) كزوج وأختين لأب وأختين لأم (و) إلى (عشرة) كزوج وأم وأختين لأب وأختين لأم (وإن كان مع الربع ثلث) كزوجة وأم (أو) كان مع الربع (سدس) كزوجة وأخ لأم (فأصلها من اثني عشر، و) قد (تعول) الاثنا عشر (إلى ثلاثة عشر) كزوجة وثلاثة أخوات متفرقة (وخمسة عشر) كالمسألة السابقة يزيادة أخت(4/204)
وخمسة عشر وسبعة عشر.
وإذا كان مع الثمن ثلثان أو سدسٌ فأصلها من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين.
فإذا انقسمت المسألة على الورثة فقد صحت، وإن لم تنقسم سهام فريقٍ عليهم فاضرب عددهم في أصل المسألة وعولها إن كانت عائلة، فما خرج فمنه تصح المسألة، كامرأة وأخوين: للمرأة الربع سهمٌ، وللأخوين ما بقي، وهي ثلاثة أسهمٍ لا تنقسم عليهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرى من أم (وسبعة عشر) كما لو كان معهن أم أيضاً.
(وإذا كان مع الثمن ثلثان) كزوجة وبنتين (أو) كان مع الثمن (سدس) كزوجة وأم وابن (فأصلها من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين) كزوجة وبنتين وأبوين.
(فإن انقسمت المسألة) الحادثة (على الورثة) من غير كسر (فقد صحت المسألة) من أصلها؛ لحصول المقصود بحصول الانقسام من غير كسر في السهام (وإن لم ينقسم سهام فريق) من الورثة (عليهم) لتعدد ذلك الفريق (فاضرب عددهم) أي عد ذلك الفريق المنكسر عليه إذا لم يكن بينهما موافقة كما يأتي (في أصل المسألة) إن كانت عادلة (و) في (عولها إن كانت عائلة) ويسمى المضروب فيه عندهم جزء السهم (فما خرج فمنه تصح المسألة) ويسمى الحاصل بالضرب التصحيح، وذلك (كامرأة وأخوين) لأب وأم أو لأب، أصل المسألة من أربعة (للمرأة الربع سهم وللأخوين ما بقي وهو ثلاثة أسهم) وهي (لا تنقسم عليهما) قسمة صحيحة ولا موافقة بينهما (فاضرب اثنين) عدد رءوسهم (في أصل المسألة) وهو أربعة (يكون) الحاصل (ثمانية ومنها تصح) المسألة: للمرأة واحد في اثنين باثنين، وللأخوين ثلاثة في اثنين بستة لكل واحد ثلاثة، وكزوج وثلاث أخوات كذلك: أصلها من ستة، وعالت إلى سبعة، وقد انكسر سهام الأخوات عليهن، ولا موافقة بينهما،(4/205)
فاضرب اثنين في أصل المسألة فتكون ثمانية، ومنها تصح.
وإن وافق سهامهم عددهم، فاضرب وفق عددهم في أصل المسألة، كامرأةٍ وستة أخوةٍ، للمرأة الربع سهمٌ، وللأخوة ثلاثةٌ، فاضرب وفق عددهم في أصل المسألة يكون ثمانيةً، ومنها تصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فاضرب عدد رءوسهن - وهي ثلاثة - في أصل المسألة مع عولها - وهو سبعة - تبلغ إحدى وعشرين؛ فمنها تصح للزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللأخوات أربعة في ثلاثة باثني عشر لكل واحدة أربعة (وإن وافق سهامهم) أي سهام الفريق المنكسر عليهم (عددهم فاضرب وفق عددهم في أصل المسألة) إن كانت عادلة وعولها إن كانت عائلة كما مر، وذلك (كامرأة وستة أخوة) لأب وأم أو لأب: أصل المسألة من أربعة (للمرأة الربع سهم، وللإخوة ثلاثة) وهي لا تنقسم عليهم (لكن بينهما موافقة بالثلث (فاضرب ثلث عددهم) وهو اثنان (في أصل المسألة) وهو أربعة يكن الحاصل ثمانية (ومنها تصح المسألة) للمرأة واحد في اثنين باثنين، وللإخوة ثلاثة في اثنين بستة لكل واحد منهم واحد، وكزوج وأبوين وست بنات، أصلها من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، وينكسر سهام البنات عليهن، وبينهما موافقة بالنصف، فاضرب وفق الرءوس - وهو ثلاثة - في أصل المسألة مع عولها يكن الحاصل خمسة وأربعين، ومنها تصح للزوج ثلاثة بتسعة، وللأبوين أربعة في ثلاث باثني عشر لكل واحد ستة، وللبنات ثمانية في ثلاثة بأربعة وعشرين لكل واحدة أربعة(4/206)
وإن لم تنقسم سهام فريقين أو أكثر، فاضرب أحد الفريقين في الآخر ثم ما اجتمع في الفريق الثالث، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، فإن تساوت الأعداد أجزأ أحدهما عن الآخر، كامرأتين وأخوين، فاضرب اثنين في أصل المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولما فرغ من النظر بين السهام والرءوس أخذ في النظر بين الرءوس والرءوس على أربعة أصول؛ لأنه إما أن يتباينا أو يتماثلا أو يتداخلا أو يتوافقا، ونبه على الأول بقوله:
(وإن لم تنقسم سهام الفريقين) : من الورثة (أو أكثر) وكان بين العددين مباينة (فاضرب أحد الفريقين) أي عدد رءوس أحد الفريقين (في) عدد رءوس (الآخر، ثم) اضرب (ما اجتمع) بالضرب (في الفريق الثالث) إن كان، ثم ما اجتمع في الرابع إن كان، وهذا غايته بالاستقراء (ثم) اضرب (ما اجتمع) بضرب رءوس الفرق، ويسمى السهم كما مر (في أصل المسألة) والحاصل هو التصحيح، ومثال من ذلك: ثلاث زوجات وأخوان، أصل المسألة من أربعة: للزوجات سهم لا ينقسم عليهن، وللأخوين ثلاثة لا تنقسم عليهما، وبين الثلاثة والاثنين تباين، فاضرب الاثنين في الثلاثة بستة، وهي في أصل المسألة؛ يكن الحاصل أربعة وعشرين؛ ومنها تصح؛ كان للزوجات واحد في ستة بستة لكل واحدة اثنان، وللأخوين ثلاثة في ستة بثمانية عشر لكل واحد تسعة.
ونبه على الثاني بقوله: (فإن تساوت الأعداد) أي تماثلت (أجزأ أحدهما) أي ضرب أحد المتماثلين (عن) ضرب (الآخر) ، لأنه بضرب أحدهما ينبجبر الكسر فيهما، وذلك (كامرأتين وأخوين) لأب وأم أو لأب، أصل المسألة من أربعة للمرأتين سهم واحد لا ينقسم عليهما، وللأخوين ثلاثة لا تنقسم عليهما أيضا، وبين رءوس الفريقين مماثلة (فاضرب الاثنين) أحد رءوس الفريقين (في أصل المسألة)(4/207)
فإن كان أحد العددين جزءاً من الآخر أغنى الأكثر عن الأقل كأربع نسوةٍ وأخوين، إذا ضربت الأربعة أجزأك عن الأخوين.
وإن وافق أحد العددين الآخر ضربت وفق أحدهما في جميع الآخر، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، كأربع نسوةٍ وأختٍ وستة أعمامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو أربعة؛ يكن الحاصل ثمانية، ومنها تصح المسألة؛ كان للمرأتين واحد في اثنين باثنين لكل واحدة واحد، وكان للأخوين ثلاثة في اثنين بستة لكل واحد ثلاثة.
ونبه على الثالث بقوله: (فإن كان أحد العددين) داخلا في الآخر، بأن كان -جزءا من الآخر أغنى الأكثر) أي ضرب الأكثر منهما (عن) ضرب (الأقل) ؛ لدخول الأقل في الأكثر، وذلك (كأربع نسوة وأخوين) لأب وأم أو لأب، أصل المسألة من أربعة: للنسوة سهم واحد لا ينقسم عليهن، وللأخوين ثلاثة أسهم لا تنقسم عليهما أيضاً، وعدد أحد الفريقين جزء من الآخر، فيغني ضرب الأكثر عن الأقل، ففي المثال المذكور (إذا ضربت الأربعة) عدد رءوس النسوة في أصل المسألة (أجزأك) ذلك (عن) ضربه في رءوس (الأخوين) ثم في المسألة، لحصول الانجبار مع الاختصار.
ونبه على الرابع بقوله: (وإن وافق أحد العددين) العدد (الآخر) بجزء من الأجزاء (ضربت وفق أحدهما في جميع الآخر، ثم) ضربت (ما اجتمع في أصل المسألة) يحصل التصحيح، وذلك (كأربعة نسوة وأخت) لأب وأم أو لأب وستة أعمام أصل المسألة من أربعة: للنسوة سهم لا ينقسم عليهن، وللأخت سهمان وللأعمام سهم لا ينقسم عليهم أيضاً، فيكون الرءوس المنكسرة عليها أربعة وستة(4/208)
فالستة توافق الأربعة بالنصف، فاضرب نصف أحدهما في جميع الآخر، ثم ما اجتمع في أصل المسألة، تكون ثمانيةً وأربعين، ومنها تصح.
فإذا صحت المسألة فاضرب سهام كل وارثٍ في التركة ثم أقسم ما اجتمع على ما صحت منه الفريضة يخرج حق ذلك الوارث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فالستة توافق الأربعة بالنصف، فاضرب نصف أحدهما) أي الأربعة والستة (في جميع الآخر) يكن الحاصل اثني عشر (ثم) اضرب الحاصل (في أصل المسألة يكن) الحاصل (ثمانية وأربعين، ومنها تصح) المسألة؛ كان للنسوة واحد في اثني عشر باثني عشر لكل واحدة ثلاثة، وكان للأخت سهمان في اثني عشر بأربعة وعشرين، وكا للأعمام سهم في اثني عشر باثني عشر لكل واحد اثنان.
(فإذا صحت المسألة) بالطرق المارة، وأردت معرفة ما يخص كل واحد من التركة حيث كانت درهم أو دنانير أو نحوهما (فاضرب سهام كل وارث) من التصحيح (في) جميع (التركة، ثم اقسم ما اجتمع) بالضرب (على ما صحت منه الفريضة) أي التصحيح (يخرج) بالقسمة (حق ذلك الوارث) ففي المسألة السابقة لو فرضنا التركة ستة وتسعين، وقد كان للزوجات من التصحيح لكل واحدة ثلاثة فاضرب الثلاثة في الستة والتسعين يكن الحاصل مائتين وثمانية وثمانين، اقسمها على ثمانية وأربعين يخرج ستة، فهي لها، وكذلك بقية الزوجات، وكان للأخت أربعة وعشرون اضربها في الستة والتسعين يكن الحاصل ألفين وثلاثمائة وأربعة، اقسمها على ثمانية وأربعين يخرج ثمانية وأربعون، فهي لها، وكان لكل واحد من الأعمام سهمان اضربهما(4/209)
وإذا لم تقسم التركة حتى مات أحد الورثة، فإن كان ما يصيبه من الميت الأول ينقسم على ورثته فقد صحت المسألتان مما صحت الأولى، وإن لم ينقسم صححت فريضة الميت الثاني بالطريقة التي ذكرناها، ثم ضربت إحدى المسألتين في الأخرى إن لم يكن بين سهام الميت الثاني وما صحت منه فريضته موافقةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الستة والتسعين يكن الحاصل مائة واثنين وتسعين، اقسمها على ثمانية وأربعين يخرج أربعة، فهي له، ومثله بقية الأعمام، وجملة ذلك ستة وتسعون.
ولما أنهى الكلام على حساب الفرائض أخذ في الكلام على كيفية عمل المناسخة فقال:
(وإذا لم تقسم التركة حتى مات أحد الورثة) عمن في المسألة فقط، أو عن غيرهم فقط، أو عنهما، وأردت تصحيح مسألتهما معاً؛ فطريقه أن تصحح مسألة الميت الأول بالطرق المارة، وتنظر ما خص الميت الثاني من التصحيح (فإن كان ما يصيبه من الميت الأول ينقسم على عدد ورثته) أي ورثة الميت الثاني (فقد صحت المسألتان مما) أي من التصحيح الذي (صحت) منه المسألة (الأولى) فلا يحتاج إلى عمل آخر، وذلك كما إذا ترك ابناً وبنتاً، ثم مات الابن عن ابنين، المسألة الأولى من ثلاثة: للابن منها اثنان، وللبنت واحد، والذي أصابه الميت الثاني ينقسم على ورثته، فأصل المسألتين من ثلاثة (وإن لم ينقسم) ما يصيب الميت الثاني على عدد ورثته (صححت) أيضاً (فريضة) أي مسألة (الميت الثاني بالطريقة التي ذكرناها) آنفاً (ثم ضربت إحدى المسألتين في) المسألة (الأخرى، إن لم يكن بين سهام الميت الثاني) من فريضة الميت الأول (وما صحت منه فريضته) أي فريضة الميت الثاني (موافقة(4/210)
فإن كان بينهما موافقةٌ فاضرب المسألة الثانية في الأولى، فما اجتمع صحت منه المسألتان.
وكل من له شيءٌ من المسألة الأولى مضروبٌ في وفق المسألة الثانية، ومن كان له شيءٌ من المسألة الثانية مضروبٌ في وفق تركة الميت الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن كان بينهما موافقة فاضرب المسألة الثانية) أي وفقها (في) جميع المسألة (الأولى) أو بالعكس (فما اجتمع) بالضرب (صحت منه المسألتان) ويسمى ذلك في اصطلاحهم الجامعة، فإن مات ثالث، فاجعل له مسألة أيضاً، واجعل الجامعة مكان التصحيح الأول: واجعل التصحيح الثالث مكان الثاني، وتمم العمل كما ذكر، وهكذا إن مات رابع، وهلم جرا، ومثال ذلك: زوج وابن أبوان، ثم مات الابن عن ابن وأبيه وجدته؛ فالأولى من اثني عشر: للزوج ثلاثة، وللأبوين أربعة، وللابن خمسة؛ ومسألة الثاني من ستة، وسهامه من الأول خمسة، وهي لا تنقسم على مسألته، وبينهما مباينة، فتضرب مصحح الثاني - وهو ستة - في مصحح الأولى - وهو اثنا عشر - يكن الحاصل اثنين وسبعين، ومنه تصح المسألتان.
ثم ذكر كيفية أخذ كل من الورثة ما يخصه من الجامعة فقال: (وكل من له شيء من المسألة الأولى) فهو (مضروب) يعني يأخذه مضروباً (في وفق المسألة الثانية) عند الموافقة، أو في كلها عند المباينة (ومن كان له شيء من المسألة الثانية) فهو (مضروب في وفق تركة الميت الثاني) عند الموافقة، أو في كلها عند المباينة، ومن كان له شيء منهما أخذه مضروباً في وفقهما عند الموافقة، أو في كل منهما عند المباينة؛ ففي المسألة السابقة للزوج في الأولى ثلاثة في ستة(4/211)
وإذا صحت مسألة المناسخة، وأردت معرفة ما يصيب كل واحدٍ من حبات الدرهم قسمت ما صحت منه المسألة على ثمانية وأربعين، فما خرج أخذت له من سهام كل وارثٍ حبةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بثمانية عشر، ومن الثانية واحد في خمسة بخمسة، ومجموعه ثلاثة وعشرون، وللأب من الأولى فقط اثنان في ستة باثني عشر، وللأم من الأولى اثنان في ستة باثني عشر، ومن الثانية واحد في خمسة بخمسة، ومجموعها سبعة عشر، وللابن من الثانية فقط أربعة في خمسة بعشرين، ومجموع ذلك اثنان وسبعون، وعلى هذا فقس.
(وقد جرت عادة الفرضيين إذا انتهوا من عمل المناسخة أو غيرها من المسائل أن يحولوا ذلك إلى القيراط أو الأدق منه، وهو الحبة؛ فذكر المصنف كيفية ذلك بقوله: (وإذا صحت المناسخة) بالطرق المارة، ومثلها وغيرها من المسائل (وأردت معرفة ما يصيب كل واحد) من الورثة (من حبات الدرهم) جمع حبة، وهي الشعيرة المتوسطة التي لم تقشر وقطع من طرفها ما دق وطال، ونسبتها إلى القيراط ثلث. واعلم أن القيراط في عرف أهل الحجاز واليمن ومصر والشام والمغرب عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزأ من الواحد، فحبات الواحد عندهم اثنان وسبعون حبة، وفي عرف أهل العراق ونواحيها عبارة عن جزء من عشرين جزأ من الواحد، وعلى هذا فرع كثير من المتقدمين كالموصلي وصاحب المختار في شرحه الاختيار وغيره، فحبات الواحد عندهم ستون حبة، وفي عرف آخرين عبارة عن جزء من ستة عشر جزأ من الواحد، فحبات الواحد عندهم ثمانية وأربعون حبة، وعليه فرع المصنف بقوله: (قسمت ما صحت منه المسألة على ثمانية وأربعين) التي هي مخرج الحبة (فما خرج) بالقسمة فهو الحبة؛ فإذا أردت معرفة مقدار حبات كل واحد من الورثة (أخذت له) أي لذلك الخارج بالقسمة وهو الحبة (من سهام كل وارث) بكل قدر ما يقابله (حبة) وذلك بأن تقسم ما لكل وارث(4/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من التصحيح على الخارج بالقسمة، أعني الحبة؛ فيكون كل واحد من الخارج بالقسمة عليه حبة؛ فجمعه الخارج بالقسمة هو حبات ذلك الوارث، ففي المسألة المتقدمة صحت من اثنين وسبعين، فإذا قسمنا ذلك على ثمانية وأربعين كان الخارج بالقسمو واحداً ونصفاً، وهو حبة، فاقسم ما لكل وارث عليه يكن الخارج جملة ما له من الحبات، فالزوج له ثلاثة وعشرون اقسمها على واحد ونصف يكن الخارج خمسة عشر وثلثاً، وللأب اثنا عشر اقسمها عليه يكن الخارج ثمانية، وللأم سبعة عشر اقسمها عليه يكن الخارج أحد عشر وثلثاً، وللابن عشرون اقسمها عليه يكن الخارج ثلاثة عشر وثلثاً، والله سبحانه وتعالى أعلم](4/213)