قال: وإذا وكل الرجل الرجل أن يزوجه امرأة فزوجها إياه وضمن لها عنه المهر جاز ذلك ولم يرجع به الوكيل على الزوج لأنه ضمن عنه بغير أمره فإن أمره إياه بالنكاح لا يكون أمرا بالتزام الصداق لأن الوكيل بالنكاح سفير ومعبر لا ملتزم ومن ضمن عن غيره دينه بغير أمره لم يرجع به عليه لأن تبرعه بالضمان كتبرعه بالأداء فإن كان أمره بذلك رجع عليه كما لو أمره بالأداء.
قال: وإذا كان العقد من الوكيل بشهود جاز وإن لم يكن على التوكيل شهود لأن التوكيل بالنكاح ليس بنكاح والشهود من خصائص شرائط النكاح وإنما شرط الشهود في النكاح لأنه يتملك به البضع فلا ظهار خطره اختص بشهود وذلك لا يوجد في التوكيل فإن البضع لا يتملك بالتوكيل فهو بمنزلة التوكيل بسائر العقود.
قال: وإذا أدخل على الرجل غير امرأته فدخل بها فعلى الزوج مهر التي دخل بها لأنه دخل بها بشبهة النكاح بخبر المخبر أنها امرأته وخبر الواحد في المعاملات حجة فيصير شبهة في اسقاط الحد فإذا سقط الحد وجب المهر وعليها العدة ويثبت نسب ولدها منه.(5/37)
ص -21- ... ولا تتقى في عدتها ما تتقى المعتدة وبنحوه قضى علي رضي الله عنه في الوطء بالشبهة والحداد إظهار التحزن على فوات نعمة النكاح وذلك لا يوجد في الوطء بالشبهة وليس لها عليه نفقة العدة لأن وجوب النفقة باعتبار ملك اليد الثابت بالنكاح وذلك غير موجود في الوطء بالشبهة ولأنه يبقى بالعدة ما كان ثابتا من النفقة باصل النكاح ولم يكن لها نفقة مستحقة هنا ليبقى ذلك ببقاء العدة ولا يرجع بالمهر على الذي أدخلها عليه لأنه وجب عليه عوضا عما استوفى وهو الذي نال اللذة بالاستيفاء فلا يرجع بالعوض على غيره ولأن المخبر أخبر بكذب من غير أن ضمن له شيئا وهذا العقد من الغرور لا يثبت له الرجوع عليه كمن أخبره بأمن الطريق فسلك فيه حتى أخذ اللصوص متاعه.
قال: فإن كانت هذه أم امرأته حرمت عليه امرأته بالمصاهرة ولها عليه نصف الصداق لوقوع الفرقة قبل الدخول بسبب من جهة الزوج ولا يرجع به علي أحد أيضا لما قلنا وإن كانت بنت امرأته حرمت عليه امرأته بالمصاهرة وله أن يتزوج التي دخل بها لأن مجرد العقد على الام لا يوجب حرمة الربيبة وليس له أن يتزوج أم التي دخل بها لأن بالدخول بالبنت تحرم الأم على التأبيد بخلاف الفصل الأول فإن هناك لا يتزوج واحدة منهما لوجود العقد الصحيح على البنت والدخول بالام ولو كانت هذه أخت امرأته أو ذات رحم محرم منها لم يقرب امرأته حتى تنقضى عدتها لأن أختها معتدة منه فلو قربها كان جامعا ماءه في رحم أختين وذلك لا يجوز والله أعلم بالصواب.
باب الإكفاء(5/38)
قال: إعلم أن الكفاءة في النكاح معتبرة من حيث النسب الأعلى قول سفيان الثوري رحمه الله تعالى فإنه كان يقول لا معتبر في الكفاءة من حيث النسب وقيل إنه كان من العرب فتواضع ورأى الموالى إكفاء له وأبو حنيفة رحمه الله تعالى كان من الموالى فتواضع ولم ير نفسه كفؤا للعرب وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمى إنما الفضل بالتقوى". وهذا الحديث يؤيده قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم طف للصاع لم يملأ". وقال: "الناس كابل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة واحدة" فهذه الآثار تدل على المساواة وإن التفاضل بالعمل ومن أبطا به عمله لم يسرع به نسبه.
وخطب أبو طيبة امرأة من بني بياضة فابوا أن يزوجوه فقال صلى الله عليه وسلم: "زوجوا أباطيبة إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" فقالوا نعم وكرامة وخطب بلال رضي الله عنه إلى قوم من العرب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني". وأن سلمان خطب بنت عمر رضي الله عنه فهم أن يزوجها منه ثم لم يتفق ذلك وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قريش بعضهم اكفاء لبعض بطن ببطن والعرب بعضهم(5/39)
ص -22- ... أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة والموالي بعضهم اكفاء لبعض رجل برجل". وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الإكفاء" وما زالت الكفاءة مطلوبة فيما بين العرب حتى في القتال.
بيانه في قصة الثلاثة الذين خرجوا يوم بدر للبراز عتبة وشيبة والوليد فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار فقالوا لهم انتسبوا فانتسبوا فقالوا أبناء قوم كرام ولكنا نريد أكفاءنا من قريش فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقوا"، وأمر حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث رضوان الله عليهم أجمعين بأن يخرجوا إليهم.
فلما لم ينكر عليهم طلب الكفاءة في القتال ففي النكاح أولى وهذا لأن النكاح يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد من الصحبة والألفة والعشرة وتأسيس القرابات وذلك لا يتم الا بين الأكفاء وفي أصل الملك على المرأة نوع ذلة وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته" وإذلال النفس حرام، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" وإنما جوز ما جوز منه لأجل الضرورة وفي استفراش من لا يكافئها زيادة الذل ولا ضرورة في هذه الزيادة فلهذا اعتبرت الكفاءة.
والمراد من الآثار التي رواها في أحكام الآخرة وبه نقول أن التفاضل في الآخرة بالتقوى وتأويل الحديث الآخر الندب إلى التواضع وترك طلب الكفاءة لا الالزام وبه نقول أن عند الرضا يجوز العقد ويحكي عن
الكرخي رحمه الله تعالى أنه كان يقول الأصح عندي أن لا تعتبر الكفاءة في النكاح أصلا لأن الكفاءة غير معتبرة فيما هو أهم من النكاح وهو الدماء فلأن لا تعتبر في النكاح أولى ولكن هذا ليس بصحيح فإن الكفاءة غير معتبرة في الدين في باب الدم حتى يقتل المسلم بالكافر ولا يدل ذلك على أنه غير معتبر في النكاح.
إذا عرفنا هذا فنقول الكفاءة في خمسة أشياء.(5/40)
أحدها: النسب وهو على ما قال قريش أكفاء بعضها لبعض فإنهم فيما بينهم يتفاضلون وأفضلهم بنو هاشم ومع التفاضل هم أكفاء ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تيمية وتزوج حفصة رضي الله تعالى عنها وكانت عدوية وزوج ابنته من عثمان رضي الله تعالى عنه وكان عبشميا فعرفنا أن بعضهم أكفاء لبعض وروى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إلا أن يكون نسبا مشهورا نحو أهل بيت الخلافة فإن غيرهم لا يكافئهم وكإنه قال ذلك لتسكين الفتنة وتعظيم الخلافة لا لانعدام أصل الكفاءة.
والعرب بعضهم أكفاء لبعض فإن فضيلة العرب بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ونزول القرآن بلغتهم. وقال صلى الله عليه وسلم: "حب العرب من الإيمان". وقال صلى الله عليه وسلم لسلمان رضي الله تعالى عنه "لا تبغضني" قال وكيف أبغضك وقد هداني الله بك قال: "تبغض العرب فتبغضني ولا تكون العرب كفؤا لقريش والموالي لا يكونون كفؤا للعرب". كما قال صلى الله عليه وسلم: "والموالي بعضهم(5/41)
ص -23- ... أكفاء لبعض" وهذا لأن الموالي ضيعوا أنسابهم فلا يكون التفاخر بينهم بالنسب بل بالدين كما أشار إليه سلمان رضي الله تعالى عنه حين تفاخر جماعة من الصحابة بذكر الانساب فلما انتهى إلى سلمان رضي الله تعالى عنه قالوا سلمان بن من فقال سلمان بن الإسلام فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فبكى وقال وعمر بن الإسلام فمن كان من الموالي له أبوان في الإسلام فهو كفؤ لمن له عشرة آباء لأن النسبة تتم بالانتساب إلى الأب والجد فمن كان له أبوان مسلمان فله في الإسلام نسب صحيح ومن أسلم بنفسه لا يكون كفؤا لمن له أب في الإسلام ومن أسلم أبوه لا يكون كفؤا لمن له أبوان في الإسلام لأن هذا يحتاج في النسبة إلى الأب الكافر وذلك منهى عنه لما روى أن رجلا انتسب إلى تسعة آباء في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم "هو عاشرهم في النار" ولكن هذا إذا كان على سبيل التفاخر دون التعريف.
والثاني: الكفاءة في الحرية فإن العبد لا يكون كفؤا لامرأة حرة الأصل وكذلك المعتق لا يكون كفؤا لحرة الأصل والمعتق أبوه لا يكون كفؤا لامرأة لها أبوان في الحرية وهذا لأن الرق أثر من آثار الكفر وفيه معنى الذل فكان هو بمنزلة أصل الدين من الوجه الذي قلنا وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الذي أسلم بنفسه أو أعتق لو أحرز من الفضائل ما يقابل نسب الآخر كان كفؤا له.(5/42)
والثالث: الكفاءة من حيث المال فإن من لا يقدر على مهر امرأة ونفقتها لا يكون كفؤا لها لأن المهر عوض بضعها والنفقة تندفع بها حاجتها وهي إلى ذلك أحوج منها إلى نسب الزوج فإذا كانت تنعدم الكفاءة بضعة نسب الزوج فبعجزه عن المهر والنفقة أولى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال إذا كان يقدر على ما يعجله ويكتسب فينفق عليها يوما بيوم كان كفؤا لها وأما إذا كان قادرا على المهر والنفقة كان كفؤا لها وإن كانت المرأة صاحبة مال عظيم وبعض المتأخرين اعتبروا الكفاءة في كثرة المال لحديث عائشة رضي الله عنها رأيت ذا المال مهيبا ورأيت ذا الفقر مهينا وقالت أن أحساب ذوي الدنيا المال والأصح أن ذلك لا يعتبر لأن كثرة المال في الأصل مذموم قال صلى الله عليه وسلم: "هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا"، يعني تصدق به.
والرابع: الكفاءة في الحرف والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن ذلك غير معتبر أصلا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه معتبر حتى أن الدباغ والحجام والحائك والكناس لا يكون كفؤا لبنت البزاز والعطار وكأنه اعتبر العادة في ذلك وورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس أكفاء إلا الحائك والحجام" ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الحديث شاذ لا يؤخذ به فيما تعم به البلوي والحرفة ليست بشيء لازم فالمرء تارة يحترف بحرفة نفيسة وتارة بحرفة خسيسة بخلاف صفة النسب لأنه لازم له وذل الفقر كذلك فإنه لا يفارقه.(5/43)
ص -24- ... والخامس: الكفاءة في الحسب وهو مروى عن محمد رحمه الله تعالى قال هو معتبر حتى أن الذي يسكر فيخرج فيستهزئ به الصبيان لا يكون كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات وكذلك أعوان الظلمة من يستخف به منهم لا يكون كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات إلا أن يكون مهيبا يعظم في الناس وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال الذي يشرب المسكر فإن كان يسر ذلك فلا يخرج سكران كان كفؤا وإن كان يعلن ذلك لم يكن كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات ولم ينقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى شيء من ذلك والصحيح عنده أنه غير معتبر لأن هذا ليس بلازم حتى لا يمكن تركه.
قال: وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء فللأولياء أن يفرقوا بينهما لأنها ألحقت العار بالأولياء فإنهم يتعيرون بأن ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم فكان لهم أن يخاصموا لدفع ذلك عن أنفسهم ولا يكون التفريق بذلك إلا عند القاضي لأنه فسخ للعقد بسبب نقص فكان قياس الرد بالعيب بعد القبض وذلك لا يثبت إلا بقضاء القاضي ولأنه مختلف فيه بين العلماء فكان لكل واحد من الخصمين نوع حجة فيما يقول فلا يكون التفريق إلا بالقضاء وما لم يفرق القاضي بينهما فحكم الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث قائم بينهما لأن أصل النكاح انعقد صحيحا.(5/44)
في ظاهر الرواية فإنه لا ضرر على الأولياء في صحة العقد وإنما الضرر عليهم في اللزوم فتتوفر عليه أحكام العقد الصحيح فإذا فرق القاضي بينهما كانت فرقة بغير طلاق لأن هذا التفريق كان على سبيل الفسخ لأصل النكاح والطلاق تصرف في النكاح فما النكاح فما يكون فسخا لاصل النكاح عندنا لا يكون تصرفا فيه ولأن الطلاق إلى الزوج فتفريق القاضي متى كان على وجه النيابة عن الزوج كان طلاقا وهذا التفريق ليس على وجه النيابة عنه فإذا لم يكن طلاقا قلنا لا مهرلها عليه أن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها أو خلا بها فلها ما سمى من المهر وعليها العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا فيتقرر المسمى بالتسليم أما بالدخول أو بالخلوة والمكاتب والمدبر نظير العبد في أنه لا يكون كفؤا للحرة لأن الرق فيهما قائم قال صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء فرضي به أحد الأولياء جاز ذلك ولا يكون لمن هو مثله في الولاية أو أبعد منه أن ينقضه إلا أن يكون أقرب منه فحينئذ له المطالبة بالتفريق وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى في نوادر هشام إذا رضى أحد الوليين بغير كفء فللولى الذي هو مثله أن لا يرضى به وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى وكذلك ان كان هذا الولي الراضي هو الذي زوجها والخلاف مع الشافعي إنما يتحقق هنا.
وجه قولهم أن طلب الكفاءة حق جميع الأولياء فإذا رضى منهم واحد فقد أسقط حق نفسه وحق غيره فيصح اسقاطه في حق نفسه دون غيره كالدين المشترك إذا أبرأ أحدهم أو(5/45)
ص -25- ... ارتهن رجلان عينا ثم رده أحدهما أو سلم أحد الشفيعين الشفعة أو عفى أحد الولبين عن القصاص يصح في حقه دون غيره وكذلك لو قذف أم جماعة وصدقه أحدهم كان للباقين المطالبة بالحد والدليل عليه أنها لو زوجت نفسها من غير كفء كان للأولياء أن يفرقوا ولم يكن رضاها بعدم الكفاءة مبطلا حق الأولياء فكذلك هنا وحجتنا أن الحق واحد وهو غير محتمل للتجزي لأنه ثبت بسبب لا يحتمل التجزي فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد به كما في الأمان فإن فيه إبطال حق الاستغنام والاسترقاق.
ثم صح من واحد من المسلمين في حق جماعتهم للمعنى الذي قلنا وهذا لأن الأسقاط صحيح في حق المسقط بالاتفاق فإذا كان الحق واحدا وقد سقط في حق المسقط فمن ضرورته سقوطه في حق غيره لأنه لو لم يسقط في حق غيره لكان إذا استوفاه يصير حق الغير مستوفي أيضا وذلك لا يجوز ولأنه لما لم يبق بعد السقوط لا يتمكن الآخر من المطالبة به بخلاف الدين فإنه متجزى ء في نفسه وبخلاف الرهن فأنا لو نفينا حق الآخر لا يصير حق المسقط مستوفى وبه تبين أن الحق يتعدد هناك.(5/46)
وكذلك في الشفعة وفي القصاص مالا يحتمل التجزي لا يبقى بعد عفو أحدهم وإنما يبقى ما يحتمل التجزي وهو الدية وبخلاف حد القذف فإن ذلك لا يحتمل السقوط ولكن المصدق ينكر سبب الوجوب وهو احصان المقذوف وانكار سبب وجوب الشيء لا يكون اسقاطا له فوزانه مما نحن فيه أن لوادعي أحد الأولياء أن الزوج كفؤ وأثبت الآخر أنه ليس بكفء فيكون له أن يطلب التفريق وأما إذا رضيت هي فلان الحق الثابت لها غير الحق الثابت للأولياء لأن الثابت لها صيانة نفسها عن ذل الاستفراش وللأولياء صيانة نسبهم عن أن ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم وأحدهما غير الآخر فلم يكن اسقاط أحدهما موجبا سقوط الآخر إلا ترى إنه قد يثبت الخيار لها في موضع لا يثبت للأولياء على ما نبينه في آخر الباب أن شاء الله تعالى ومتى فرق القاضي بينهما بعد الدخول لعدم الكفاءة حتى وجبت عليها العدة فلها نفقة العدة على الزوج لأنها كانت تستحق النفقة في أصل النكاح فيبقى ذلك ببقاء العدة وسكوت الولى عن المطالبة بالتفريق ليس برضى منه بالنكاح وأن طال ذلك حتى تلد وله الخصومة إن شاء لأن هذا حق ثابت له والسكوت ليس بمبطل للحق الثابت بصفة التأكد ولأنه يحتاج إلى الخصومة في المطالبة وقد لا يرغب الإنسان بالخصومة في كل وقت فتأخيره إلى أن يتمكن منه لا يكون مبطلا حقه.
قال: وإذا زوجها الولي غير كفء ثم فارقها ثم تزوجت به بغير ولي كان للولي أن يفرق بينهما لأن العقد الثاني غير الأول ورضاه بالعقد الأول بينهما لا يكون رضا بالعقد الآخر كما أن رضاه برجل لا يكافئها لا يكون رضا برجل آخر إذا زوجت نفسها منه بعد ذلك.
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء ثم جاء الولي فقبض مهرها وجهزها فهذا منه رضا(5/47)
ص -26- ... بالنكاح لأن قبض المهر تقرير لحكم العقد فيتضمن ذلك الرضا بالعقد ضرورة ومباشرة الفعل الذي هو دليل الرضا بمنزلة التصريح بالرضا ألا ترى أن مثل هذا الفعل يكون إجازة للعقد فلأن يكون رضا بالعقد النافذ كان أولى وأن لم يفعل هذا ولكن خاصم زوجها في نفقتها أو في بقية مهرها عليه بوكالة منها ففي القياس هذا لا يكون رضا لأنه إنما خاصم في ذلك ليظهر عجز الزوج عنه وهو أحد أسباب عدم الكفاءة واشتغاله بإظهار سبب عدم الكفاءة يكون تقريرا لحقه لا اسقاطا وفي الاستحسان يكون هذا رضا بالنكاح لأنه إنما يخاصم في المهر والنفقة ليستوفي والاستيفاء ينبنى على تمام العقد فتكون خصومته في ذلك رضا منه بتمام النكاح بينهما.
قال: وإذا تزوجت المرأة غير كفء ودخل بها وفرق القاضي بينهما بخصومة الولي وألزمه المهر وألزمها العدة ثم تزوجها في عدتها بغير ولي وفرق القاضي بينهما قبل الدخول بها كان لها عليه المهر الثاني كاملا وعليها عدة ستقبلة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله تعالى لا مهر لها عليه وعليها بقية العدة الأولى وعند زفر رحمه الله تعالى لاعدة عليها وعلى هذا الخلاف لو طلقها تطليقة ثانية في النكاح الأول ثم تزوجها في العدة فطلقها قبل الدخول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يجب المهر الثاني كاملا وعليها العدة وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يجب نصف المهر الثاني ولا عدة عليها إلا أن عند محمد يلزمها بقية العدة الأولى لظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية. وقال: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49].(5/48)
وفي النكاح الثاني الطلاق حصل قبل المسيس لأن العقد الثاني غير مبني على الأول والدخول في النكاح الأول لم يجعل دخولا في النكاح الثاني ألا ترى أن صريح الطلاق يبينها فصار في حق العقد الثاني كأن الأول لم يوجد أصلا إلا أن محمدا رحمه الله تعالى يوجب بقية العدة الأولى احتياطا لأن تلك العدة كانت واجبة وبالطلاق قبل الدخول صار النكاح الثاني كالمعدوم وزفر رحمه الله تعالى يقول العدة الأولى سقطت بالنكاح الثاني والساقط من العدة لا يعود وتجدد وجوب العدة يستدعى تجدد السبب وهما قالا العقد الثاني يتأكد بنفسه والفرقة متى حصلت بعد تأكد العقد يجب كمال العدة والمهر.
وبيان التأكد أن اليد والفراش يبقي ببقاء العدة فإنما تزوجها والمعقود عليه في يده حكما فيصير قابضا بنفس العقد كالغاصب إذا اشترى من المغصوب منه المغصوب وبه يتأكد حكم النكاح سواء وجد الدخول أو لم يوجد كما يتأكد بالخلوة وبه يبطل اعتمادهم على حصول البينونة بصريح الطلاق فإن بعد الخلوة صريح الطلاق يبينها ويكون النكاح متأكدا في حكم المهر والعدة.(5/49)
ص -27- ... ولأن وجوب العدة لتوهم اشتغال الرحم بالماء عند الفرقة وهذا قائم في العقد الثاني لأنه لا تأثير في تجديد العقد في براءة الرحم وقد كان نوهم الشغل ثابتا حتى أوجبنا العدة عند الفرقة لأولى وهذا على قول محمد رحمه الله تعالى الزم لأنه يلزمها بقية العدة الأولى باعتبار توهم الشغل والعدة لا تتجزى في الوجوب وعلى هذا الأصل لو كانت الفرقة بسبب اللعان أو بخيار البلوغ أو بخيار العتق كله على الأصل الذي بيناه.
وكذلك أن كان النكاح الأول فاسدا أو كان دخل بها بشبهة ثم تزوجها نكاحا صحيحا في العدة وان كان النكاح الأول صحيحا والثاني فاسدا ففرق بينهما قبل الدخول لا يجب المهر بالاتفاق لأن صيرورته قابضا باعتبار تمكنه من القبض شرعا وذلك بالعقد الفاسد لا يكون ألا ترى أن الخلوة في النكاح الفاسد لا توجب المهر والعدة فهنا كذلك العدة الأولى لم تسقط بمجرد العقد الفاسد فبقيت معتدة كما كانت ولا مهر لها عليه إذا فرق بينهما قبل الدخول.
ولو كان العقد الثاني صحيحا فارتدت ووقعت الفرقة بينهما فهو على هذا الخلاف الذي قلنا لها كمال المهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى لا مهر لها لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول فلو كان تزوجها في جميع هذه الوجوه بعد انقضاء العدة كان الجواب عندهم كما هو قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى في الفصول المتقدمة لأنه لم يبق له عليها تلك اليد بعد انقضاء العدة فالتزوج بها وبأجنبية أخرى سواء .(5/50)
قال: وإذا تزوجت المرأة رجلا خيرا منها فليس للولي أن يفرق بينهما لأن الكفاءة غير مطلوبة من جانب النساء فإن الولي لا يتغير بأن يكون تحت الرجل من لا تكافئه ولأن نسب الولد يكون إلى أبيه لا إلى أمه ألا ترى أن إسماعيل عليه السلام كان من قوم إبراهيم صلوات الله عليه لا من قوم هاجر وكذلك إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وما كان قبطيا وأولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة.
قال: وإذا تسمى الرجل لامرأة بغير اسمه وانتسب لها إلى غير نسبه فتزوجته فالمسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون النسب المكتوم أفضل مما أظهره بأن أخبرها أنه من العرب ثم تبين أنه من قريش وفي هذا لا خيار لها ولا للأولياء لأنها وجدته خيرا مما شرط لها فهو كمن اشترى شيئا على أنه معيب فإذا هو سليم.
والثاني: إذا كان نسبه المكتوم دون ما أظهره ولكنه في النسب المكتوم غير كفء لها بأن تزوج قرشية على أنه من قريش ثم تبين أنه من العرب أو من الموالي وفي هذا لها الخيار وإن رضيت هي فللأولياء أن يفرقوا بينهما لعدم الكفاءة.
والثالث: إن كان النسب المكتوم دون ما أظهر ولكنه في النسب المكتوم كفؤ لها بأن تزوج عربية على أنه من قريش ثم تبين أنه من العرب وفي هذا ليس للأولياء حق المطالبة(5/51)
ص -28- ... بالفرقة بالاتفاق لأن حق الخصومة للأولياء لدفع العار عن أنفسهم حتى لا ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم وهذا غير موجود هنا ولكن لها الخيار إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا خيار لها كما لا يثبت للأولياء لأن الحق في المطالبة بالكفاءة وهي موجودة ولكنا نقول شرط لها زيادة منفعة وهو أن يكون ولدها منه صالحا للخلافة فإذا لم تنل هذا الشرط كان لها الخيار كمن اشترى عبدا على أنه كاتب أو خباز فوجده لا يحسنه وهذا لأن في الاستفراش ذلا في جانبها والمرأة قد ترضى استفراش من هو أفضل منها ولا ترضى استفراش من هو مثلها فإذا ظهر أنه غرها فقد تبين انعدام تمام الرضا منها فلهذا كان لها الخيار بخلاف الأولياء فإن ثبوت الخيار لهم لعدم الكفاءة فقط.
وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقوال قول مثل قولنا وقول مثل قول زفر رحمه الله تعالى وقول آخر أن النكاح باطل لأنها زوجت نفسها من رجل هو قرشي ولم يوجد ذلك الرجل ولكنا نقول الإشارة مع التسمية إذا اجتمعا فالعبرة للإشارة لأن التعريف بالإشارة أبلغ وبهذا ونحوه نستدل على قلة فقهه فإن مثل هذا الجواب لا يعجز عنه غير الفقيه ومن سئل عن طريق فقال إما من هذا الجانب وإما من هذا الجانب فيشير إلى الجوانب الأربعة علم أنه لا علم له بالطريق أصلا.
قال: وإن كانت المرأة هي التي غرت الزوج وانتسبت إلى غير نسبها فلا خيار له فيه إذا علم وهي امرأته إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها لما بينا أنه لا يفوت عليه شيء من مقاصد النكاح بما ظهر من غرورها لا في حق نفسه ولا في ولده ولأنه يتمكن من التخلص منها بالطلاق فلا حاجة إلى إثبات الخيار والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب النكاح بغير شهود(5/52)
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بشهود" وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى وكان مالك وبن أبي ليلى وعثمان البتى رحمهم الله تعالى يقولون الشهود ليس بشرط في النكاح إنما الشرط الإعلان حتى لو أعلنوا بحضرة الصبيان والمجانين صح النكاح ولو أمر الشاهدين بأن لا يظهرا العقد لا يصح وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح ولو بالدف". وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أملاك رجل من الأنصار فقال "أين شاهدكم" فأتى بالدف فأمر بأن يضرب على رأس الرجل وكان لعائشة رضي الله عنها دف تعيره للانكحة وهذا لأن حرام هذا الفعل لا يكون إلا سرا فالحلال لا يكون إلا ضده وذلك بالاعلان لتنتفي التهم وحجتنا في ذلك الحديث الذي رويناه ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح خاطب وولى وشاهدان" وقال عمر رضي الله عنه لا أوتي برجل تزوج امرأة بشهادة رجل واحد إلا رجمته ولأن(5/53)
ص -29- ... الشرط لما كان هو الإظهار يعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا وذلك شهادة الشاهدين فإنه مع شهادتهما لا يبقى سرا قال القائل:
وسرك ما كان عند امرئ ... وسر الثلاثة غير الخفي
ولأن اشتراط زيادة شيء في هذا العقد لاظهار خطر البضع فهو نظير اشتراط زيادة شيء في إثبات إتلاف ما يملك بالنكاح وإنما اختص ذلك من بين سائر نظائره بزيادة شاهدين فكذلك هذا التمليك مختص من بين سائر نظائره بزيادة شاهدين ثم الأصل عندنا أن كل من يصلح أن يكون قابلا للعقد بنفسه ينعقد النكاح بشهادته وكل من يصلح أن يكون وليا في نكاح يصلح أن يكون شاهدا في ذلك النكاح وعلى هذا الأصل قلنا ينعقد النكاح بشهادة الفاسقين ولا ينعقد عند الشافعي رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولكنا نقول ذكر العدالة في هذا الحديث والشهادة مطلقة فيما روينا فنحن نعمل بالمطلق والمقيد جميعا مع أنه نكر ذكر العدالة في موضع الإثبات فيقتضي عدالة ما وذلك من حيث الاعتقاد.
وفي الحقيقة المسألة تنبني على أن الفاسق من أهل الشهادة عندنا وإنما لا تقبل شهادته لتمكن تهمة الكذب وفي الحضور والسماع لا تتمكن هذه التهمة فكان بمنزلة العدل وعند الشافعي رحمه الله تعالى الفاسق ليس من أهل الشهادة أصلا لنقصان حاله بسبب الفسق وهو ينبني أيضا على أصل أن الفسق لا ينقص من إيمانه عندنا فإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفسه وعنده الشرائع من نفس الإيمان ويزداد الإيمان بالطاعة وينتقص بالمعصية فجعل نقصان الدين بسبب الفسق كنقصان الحال بسبب الرق والصغر واعتبر بطرف الأداء فإن المقصود إظهار النكاح عند الحاجة إليه والصيانة عن خلل يقع بسبب التجاحد ولا يحصل ذلك بشهادة الفاسق.(5/54)
ولكنا نقول الفسق لا يخرجه من أن يكون أهلا للإمامة والسلطنة فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم قل ما يخلو واحد منهم عن فسق فالقول بخروجه من أن يكون إماما بالفسق يؤدي إلى فساد عظيم ومن ضرورة كونه أهلا للإمامة كونه أهلا للقضاء لأن تقلد القضاء يكون من الإمام ومن ضرورة كونه أهلا لولاية القضاء أن يكون أهلا للشهادة وبه ظهر الفرق بينه وبين نقصان الحال بسبب الرق والأداء ثمرة من ثمرات الشهادة وفوت الثمرة لا يدل على انعدام الشيء من أصله إلا ترى أن بشهادة المستور الذي ظاهر حاله العدالة ينعقد النكاح ولا يظهر بمقالته وكذلك بشهادة ابنته منها وكذلك ينعقد بشهادة الأعميين بالإتفاق أما عندنا فلان الأعمى إنما لا تقبل شهادته لأنه لا يميز بين المشهود له والمشهود عليه إلا بدليل مشتبه وهو النغمة والصوت وذلك لا يكون في حالة الحضور والسماع وعند الشافعي رحمه الله تعالى لأن الأعمى من أهل أداء الشهادة ولهذا قال لو تحمل وهو بصير ثم عمى تقبل شهادته.(5/55)
ص -30- ... فإما بشهادة المحدودين في القذف فإن لم تظهر توبتهما فهما فاسقان وأن ظهرت توبتهما ينعقد النكاح بشهادتهما بالاتفاق عند الشافعي رحمه الله تعالى لجواز الإداء منهما بعد التوبة وعندنا إنما لا تقبل شهادة المحدود في القذف لكونه محكوما بكذبه فإنما يؤثر ذلك فيما يتصور فيه تهمة الكذب أو فيما يستدعي قولا من جهتهما وذلك لا يكون في الحضور والسماع.
فأما بشهادة العبدين والصبيين لا ينعقد النكاح لأنهما لا يقبلان هذا العقد بأنفسهما ولأنهما لا يصلحان للولاية في هذا العقد وهذا لأن النكاح يعقد في محافل الرجال والصبيان والعبيد لا يدعون إلى محافل الرجال عادة فلهذا جعل حضورهما كلا حضورهما.
وعلى هذا الأصل ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأتين عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا ينعقد بناء على أصله أن شهادة النساء مع الرجال إنما تكون حجة في الأموال وفيما يكون تبعا للأموال باعتبار أن المعاملة تكثر بين الناس ويلحقهم الحرج بإشهاد رجلين في كل حادثة فكانت حجة ضرورية في هذا المعنى ولا ضرورة في النكاح والطلاق وما ليس بمال لأن المعاملة فيها لا تكثر فكانت كالحدود والقصاص.
وكذلك هذا ينبني على أصله أن المرأة لا تصلح أن تكون موجبة للنكاح ولا قابلة فكذلك لا تصلح شاهدة في النكاح وعندنا هي تصلح لذلك وللنساء مع الرجال شهادة أصلية ولكن فيها ضرب شبهة من حيث أنه يغلب الضلال والنسيان عليهن كما أشار الله تعالى في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] الآخرى فتذكر أحداهما الأخرى وبانضمام إحدى المرأتين إلى الآخرى تقل تهمة النسيان ولا تنعدم لبقاء سببها وهي الانوثة فلا تجعل حجة فيها يندرى ء بالشبهات كالحدود والقصاص.(5/56)
فأما النكاح والطلاق يثبت مع الشبهات فهذه الشهادة فيها نظير شهادة الرجال ولا اشكال ان تهمة الضلال والنسيان في شهادة الحضور لا تتحقق فكان ينبغي أن ينعقد النكاح بشهادة رجل وامرأة ولكنا نقول قد ثبت بالنص أن المرأتين شاهد واحد فكانت المرأة الواحدة نصف الشاهد وبنصف الشاهد لا يثبت شيء ولهذا لو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا لم تضمن المرأة شيئا وسنقرر هذه الأصول في موضعها من كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى واعتمادنا على حديث عمر رضي الله تعالى عنه حيث أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح والفرقة.
قال: ولو تزوجها بشهادة ابنته أو ابنتها أو بنته منها ينعقد النكاح بالاتفاق لحضور من هو أهل للشهادة فإن امتناع قبول شهادة الولد لوالده لا لنقصان حاله بل لتهمة ميل كل واحد منهما إلى صاحبه ولا تتمكن هذه التهمة في إنعقاد العقد بشهادتهما.
قال: ولو تزوج مسلم نصرانية بشهادة نصرانيين جاز النكاح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولم يجز في قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى لأن هذا نكاح لا يصح إلا(5/57)
ص -31- ... بشهود فلا يصح بشهادة الكافرين كالعقد بين المسلمين بخلاف أنكحة الكفار فإنها تنعقد بغير شهود وحقيقة المعنى أن هذا السماع شهادة ولا شهادة للكافر على المسلم فلم يصح سماعهما كلام المسلم بطريق الشهادة وشرط الانعقاد سماع البينة كلا شطري العقد ولم يوجد فكان هذا بمنزلة ما لو سمع الشاهدان كلام المرأة دون كلام الزوج ولهما طريقان:
أحدهما: ما بينا أن الكافر يصلح أن يكون وليا في العقد ويصلح أن يكون قابلا لهذا العقد بنفسه فيصلح أن يكون شاهدا فيه أيضا كالمسلم وهذا استدلال بطريق الأولى فإن الإيجاب والقبول ركن العقد والشهادة شرطه فإذا كان يصلح الكافر للقيام بركن هذا العقد بنفسه فلأن يقوم بشرطه كان أولى بخلاف ما يجري بين المسلمين ولأن المخاطب بالإشهاد هو الرجل لأنه يتملك البضع ولا يتملك إلا بشهادة الشهود فإما المرأة تملك المال والشهود ليس بشرط لتملك المال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بالنكاح بغير شهود ثم كانت المرأة لا تحتاج إلى الإشهاد عليه إذا ثبت هذا فنقول الرجل قد اشهد عليها من يصلح أن يكون شاهدا عليها بخلاف ما إذا كانت مسلمة وبخلاف ما إذا سمعوا كلامها لأنه مخاطب بالإشهاد عليها بالعقد والعقد لا يكون إلا بكلام المتعاقدين وسماعهما كلام المسلم صحيح ألا ترى أنه لو تزوجها بشهادة كافرين ومسلمين ثم وقعت الحاجة إلى أداء هذه الشهادة تقبل شهادة الكافرين بالعقد عليها إذا جحدت وعلى الزوج لو كانا اسلما بعد ذلك فظهر أن سماعهما كلام المسلم صحيح فيحصل به الإشهاد عليها بالعقد وهذا بخلاف ما إذا تزوجها بغير شهود فإنه لا يجوز ذلك وإن كان في دينهم حلالا لأن صاحب العقد هو الزوج وهو مسلم مخاطب بالإشهاد فلا يعتبر اعتقادها في حقه.(5/58)
قال: وإذا زوج ابنته بشهادة ابنيه ثم جحد الزوج النكاح وادعاه الأب والمرأة فشهد الابنان بذلك فشهادتهما لا تقبل في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى تقبل ولو كان الزوج هو المدعي وجحد الأب والمرأة لذلك فشهادة الابنين فيه تكون مقبولة على أبيهما والحاصل أن شهادتهما لاختهما وعلى أختهما تكون مقبولة وشهادتهما على أبيهما فيما يجحده الأب مقبولة فأما إذا شهدا لأبيهما فيما يدعيه إن كان للأب فيه منفعة نحو أن يشهدا بعقد تتعلق الحقوق به لا تقبل شهادتهما وإن لم يكن للأب فيه منفعة لا تقبل الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى أيضا وعند محمد تقبل.
وأصل المسألة فيما إذا قال لعبده إن كلمك فلان فأنت حر فشهدا بنا فلان أن أباهما كلم العبد فإن كان الأب يجحد ذلك فشهادتهما مقبولة وإن كان الأب يدعى ذلك لا تقبل الشهادة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى تقبل قال لأن امتناع قبول شهادة الولد لوالده لتمكن تهمة الميل إليه وإيثاره بالمنفعة على غيره وهذا لا يتحقق فيما لا منفعة للأب فيه فقبلت الشهادة جحدها أو ادعاها.(5/59)
ص -32- ... وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول شهادة الولد لوالده لا تكون مقبولة بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل شهادة الولد لوالده" وإنما تكون شهادة له إذا كان مدعيا بشهادته ولا معتبر بالمنفعة فإن جحوده الشهادة يقبل وإن كان له فيه منفعة بأن شهدوا عليه ببيع ما يساوي مائة درهم بألف درهم مع أن المنفعة هنا تتحقق فإن ظهور صدقه عند القاضي والناس من جملة المنفعة والعاقل يؤثر هذا على كثير من المنافع الدنيوية ثم ذكر في الكتاب وقال محمد رحمه الله تعالى كل شيء للأب فيه منفعة جحد أو ادعى فشهادة ابنيه فيه باطل وكذلك كل شيء تولاه مما يكون فيه خصما كالبيع وما أشبهه.
والمراد بهذا أن عند دعوى الأب لا تقبل شهادة الابن للتهمة وعند جحود الأب أن كان الآخر جاحدا أيضا لا تقبل الشهادة لعدم الدعوى فأما إذا كان الآخر مدعيا كانت الشهادة مقبولة وإن كان للأب فيها منفعة كما إذا شهدوا عليه ببيع ما يساوي مائة درهم بألف درهم والمشتري يدعيه وهذا لأن هذه منفعة غير مطلوبة من جهة الأب والمنفعة التي هي غير مطلوبة لا تؤثر في المنع من قبول الشهادة.
قال: وأما شهادة الشاهد على فعل تولاه لنفسه أو لغيره مما يكون فيه خصما ومما لا يكون خصما فساقطة بالاتفاق وبهذا يستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال الابن جزء من أبيه فشهادته كشهادة الأب لنفسه فكما أن شهادة الأب فيما باشره لا تكون مقبولة وإن لم يكن له فيه منفعة فكذلك شهادة الابن للأب ولكنا نقول فيما باشره يكون مدعيا لا شاهدا فأما الابن فيما باشر أبوه يكون شاهدا فبعد تحقق الشهادة المانع من القبول هو التهمة ففي كل موضع لا تتحقق التهمة تكون الشهادة مقبولة.
قال: وإذا زوج الرجل ابنته فأنكرت الرضا فشهد عليها أخوها وأبوها بالرضا لم تقبل لأن الأب يريد تتميم ما باشره ولو شهد عليها أخواها بالرضا كانت مقبولة لأنه لا تهمة في شهادتهما عليها.(5/60)
قال: ولو تزوج امرأة بغير شهود أو بشاهد واحد ثم أشهد بعد ذلك لم يجز النكاح لأن الشرط هو الإشهاد على العقد ولم يوجد وإنما وجد الإشهاد على الإقرار بالعقد الفاسد والإقرار بالعقد الفاسد ليس بعقد وبالإشهاد عليه لا ينقلب الفاسد صحيحا.
قال: ولا يجوز النكاح بين مسلمين بشهادة عبدين أو كافرين أو صبيين أو معتوهين أو نساء ليس معهن رجل لما قلنا فإن كان معهم شاهدان حران مسلمان جاز النكاح لوجود شرطه فإن أدرك الصبيان وعتق العبدان وأسلم الكافران ثم شهدوا بذلك عند الحاكم جازت شهادتهم لأن شرائط أداء الشهادة إنما يعتبر عند الأداء وهو موجود والعتق والإسلام والبلوغ ليس من شرائط التحمل فتحملهما كان صحيحا حين تحملا لأن التحمل ليس بشهادة والحرية والإسلام والبلوغ تعتبر في الشهادة فلهذا جازت شهادتهما.(5/61)
ص -33- ... قال: وإذا شهد شاهد أنه تزوجها أمس وشهد شاهد أنه تزوجها اليوم فشهادتهما باطلة لأن النكاح وإن كان قولا إلا أن من شرائطه ما هو فعل وهو حضور الشهود فكان بمنزلة الأفعال واختلاف الشهود في المكان والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة توضيحه إن كل واحد منهما شهد بعقد عقد بحضوره وحده وذلك عقد فاسد.
قال: وإذا جحد الزوج النكاح فأقامت المرأة البينة جاز ولم يكن جحوده طلاقا ولا فرقة لأن الطلاق تصرف في النكاح وهو منكر لأصل النكاح فلا يكون إنكاره تصرفا فيه بالرفع والقطع ألا ترى أن بالطلاق ينتقص العدد وبانتفاء أصل النكاح لا ينتقص فإن أقامت البينة على إقراره بالنكاح جاز أيضا لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
قال: ولو زوج عبده أمته بغير شهود لم يجز لأنه نكاح بين مسلمين واشتراط الشهود في نكاح المسلمين لاظهار خطر البضع وذلك المعنى لا يختلف في الإحرار والعبيد وهذا بخلاف المهر لأنه على طريق بعض مشايخنا يجب المهر بهذا العقد لإظهار خطر البضع حقا للشرع ثم يسقط بعد ذلك لأنه لو بقى كان للمولى ولا دين للمولى على عبده وأن قلنا لا يجب فإنما امتنع وجوبه لوجود المنافي له ولكونه غير مفيد لأن فائدة الوجوب الاستيفاء وهذا لا يوجد في الشهود فإن ملكه رقبتهما لا ينافي الإشهاد على النكاح ويحصل به ما هو مقصود الإشهاد.(5/62)
قال: وإن طلقها الزوج في النكاح بغير شهود لم يقع طلاقه عليها ولكنه متاركة للنكاح لأن وقوع الطلاق يستدعي ملكا له على المحل أما ملك العين أو ملك اليد وذلك لا يحصل بالنكاح الفاسد فإن العدة وإن وجبت بالدخول لا يثبت ملك اليد باعتباره ولهذا لا تستوجب النفقة ولكنه يكون متاركة فإن الطلاق في النكاح الصحيح يكون رافعا للعقد موجبا نقصان العدد لكن امتنع ثبوت أحد الحكمين هنا فبقي عاملا فى الآخر وهو رفع الشبهة لأن رفع الشبهة دون رفع العقد ثم بين حكم الدخول في النكاح الفاسد وما لو تزوجها في العدة ثانية بشهود ثم طلقها قبل الدخول وقد بينا الخلاف فيه فيما سبق.
قال: وإذا قال تزوجتك بغير شهود وقالت هي تزوجتني بشهود فالقول قولها لأنهما اتفقا على أصل العقد فيكون ذلك كالإتفاق منهما على شرائطه لأن شرط الشيء يتبعه فالإتفاق على الأصل يكون اتفاقا على الشرط ثم المنكر منهما للشرط في معنى الراجع فإن كانت هي التي أنكرت الشهود فالنكاح بينهما صحيح وأن كان الزوج هو المنكر يفرق بينهما لاقراره بالحرمة عليه لأنه متمكن من تحريمها على نفسه فجعل إقراره مقبولا في إثبات الحرمة ويكون هذا بمنزلة الفرقة من جهته فلها نصف المهران كان قبل الدخول وجميع المسمى ونفقة العدة أن كان بعد الدخول وهذا بخلاف ما إذا أنكر الزوج أصل النكاح لأن القاضي كذبه في إنكاره بالحجة والمكذب في زعمه بقضاء القاضي لا يبقى لزعمه عبرة وهنا القاضي(5/63)
ص -34- ... ما كذبه في زعمه بالحجة ولكنه رجح قولها للمعنى الذي قلنا فبقي زعمه معتبرا في حقه فلهذا فرق بينهما.
قال: وكذلك لو قال تزوجتها ولها زوج أو هي معتدة من غيري أو هي مجوسية أو أختها عندي أو هي أمة تزوجتها بغير إذن مولاها لأن هذه الموانع كلها معني في محل العقد والمحال في حكم الشروط فكان هذا واختلافهما في الشهود سواء على ما بينا وهذا بخلاف ما إذا ادعى أحدهما أن النكاح كان في صغره بمباشرته لأنه ينكر أصل العقد هنا فإن الصغير ليس بأهل لمباشرة النكاح بنفسه فاضافة العقد إلى حالة معهودة تنافي الأهلية يكون إنكارا لاصل العقد كما لو قال تزوجتك قبل أن تخلقي أو قبل أن أخلق وإذا كان القول قول المنكر منهما فلا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها قبل الإدراك وإن كان دخل بها قبل الإدراك فلها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لوجود الدخول بحكم النكاح الموقوف فإن عقد الصغير يتوقف على إجازة وليه إذا كان الولي يملك مباشرته وإن كان الدخول بعد الإدراك فهذا رضي بذلك النكاح وبعد الإدراك لو أجاز العقد الذي عقده في حالة الصغر جاز كما لو أجاز وليه قبل إدراكه فكذلك بدخوله بها يصير مجيزا.
قال: وإذا زوج الرجل امرأة بأمره ثم اختلفا فقال الوكيل أشهدت فيه على النكاح وقال الزوج لم تشهد فيه فإنه يفرق بينهما لاقراره وعليه نصف الصداق لما قلنا أن إقراره باصل عقد الوكيل إقرار بشرطه وإن اختلفت المرأة ووكيلها في مثل ذلك فالقول قول الزوج لأنها أقرت بالوكالة والنكاح فيكون ذلك إقرارا منها بشرط النكاح.
قال: وكذلك لو قالت لم تزوجني لا يلزمها إقرار الوكيل وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى خلافا لهما لأن إقرار الوكيل بالنكاح في حال بقاء الوكالة صحيح وقد بيناه وكذلك وكيل الزوج إذا أقر بالنكاح وجحد الزوج فهو على الخلاف الذي بينا هكذا ذكر المسألة هنا.(5/64)
وأعاد المسألة في كتاب الطلاق وذكر أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال سواء النكاح والخلع والبيع والشراء في إن إقرار الوكيل بفعله جائز إذا كان الآمر مقرى أنه أمره بفعله ففي رواية كتاب الطلاق الخلاف في إقرار الولي على الصغير في النكاح لا في إقرار الوكيل على الموكل لأن الوكيل مسلط من جهة الموكل باختياره فاقرار الوكيل به كإقرار الموكل بنفسه فأما الولي مسلط شرعا والشرع اعتبر الشهود في النكاح فلا يصح إقرار الولي بغير شهود وإلا صح أن الخلاف في الكل كما ذكر هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب نكاح أهل الذمة
قال: رضي الله تعالى عنه اعلم أن كل نكاح يجوز فيما بين المسلمين فهو جائز فيما بين أهل الذمة لأنهم يعتقدون جوازه ونحن نعتقد ذلك في حقهم أيضا فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود" وخطاب الواحد خطاب الجماعة فما توافقنا في اعتقاده يكون(5/65)
ص -35- ... ثابتا في حقهم فإما ما لا يجوز بين المسلمين فهو أنواع منها النكاح بغير شهود فإنه جائز بين أهل الذمة يقرون عليه إذا أسلموا عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يتعرض لهم في ذلك إلا أن يسلموا أو يترافعوا إلينا فحينئذ يفرق القاضي بينهم لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ولأنهم بعقد الذمة صاروا منا دارا والتزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فيثبت في حقهم ما هو ثابت في حقنا ألا ترى أن حرمة الربا ثابتة في حقهم بهذا الطريق فكذلك حرمه النكاح بغير شهود ولكنا نقول نعرض عنهم لمكان عقد الذمة لا لأنا نقرهم على ذلك كما نتركهم وعبادة النار والأوثان على سبيل الإعراض لا على سبيل التقرير والحكم بصحة ما يفعلون ولا نعرض عنهم في عقد الربا لأن ذلك مستثنى عن عقد الذمة.(5/66)
قال صلى الله عليه وسلم: "إلا من أربي فليس بيننا وبينه عقد" ويروي عهد وكتب إلى بني نجران: "إما أن تدعوا الربا أو فأذنوا بحرب من الله ورسوله" وحجتنا في ذلك أن الإشهاد على النكاح من حق الشرع وهم لا يخاطبون بحقوق الشرع بما هو أهم من هذا ولأن النكاح بغير شهود يجوزه بعض المسلمين ونحن نعلم أنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام بجميع الاختلاف ثم من المنزل أن يترك أهل الكتاب وما يعتقدون إلا ما استثني عليهم وإن حكم خطاب الشرع في حقهم كأنه غير نازل لاعتقادهم خلاف ذلك ألا ترى أن الخمر والخنزير يكون ما لا متقوما في حقهم ينفذ تصرفهم فيهما بهذا الطريق فكذا ما نحن فيه بخلاف الشرك فإن ذلك لم يحل قط ولن يحل قط وإذا انعقد انعقد فيما بينهم صحيحا بهذا الطريق فما بعد المرافعة والإسلام حال بقاء النكاح والشهود شرط ابتداء النكاح لا شرط البقاء فإما إذا تزوج ذمية في عدة ذمي جاز النكاح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لا يفرق بينهما وأن أسلما أو ترافعا وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يفرق لأن النكاح في العدة مجمع على بطلانه فيما بين المسلمين فكان باطلا في حقهم أيضا ولكن لا نتعرض لهم لمكان عقد الذمة فإذا ترافعوا أو أسلموا وجب الحكم فيهم بما هو حكم الإسلام كما في نكاح المحارم فإما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى من أصحابنا من يقول العدة لا تجب من الذمى لأن وجوبها لحق الشرع أو لحق الزوج ولا يمكن إيجابها لحق الشرع هنا لأنهم لا يخاطبون بذلك ولا لحق الزوج لأنه لا يعتقد ذلك فإذا لم تجب العدة كان النكاح صحيحا ومنهم من يقول العدة واجبة ولكنها ضعيفة لا تمنع النكاح بناء على اعتقادهم كالاستبراء فيما بين المسلمين فكان النكاح صحيحا وبعد المرافعة أو الإسلام الحال حال بقاء النكاح والعدة لا تمنع بقاء النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة وهذا بخلاف ما إذا كانت معتدة من مسلم لأن تلك العدة قوية واجبة حقا للزوج.(5/67)
فإما إذا تزوج ذات رحم محرم منه من أم أو بنت أو أخت فإنه لا يتعرض له في ذلك وإن علمه القاضي ما لم يترافعوا إليه إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر.(5/68)
ص -36- ... وذكر في كتاب الطلاق أنه يفرق بينهما إذا علم بذلك لما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن فرقوا بين المجوس وبين محارمهم وامنعوهم من الرمرمة إذا أكلوا ولكنا نقول هذا غير مشهور وإنما المشهور ما كتب به عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصرى رضي الله تعالى عنهما ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وماهم عليه من نكاح المحارم واقتناء الخمور والخنازير فكتب إليه إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدون وإنما أنت متبع وليس بمبتدع والسلام ولأن الولاة والقضاة من ذلك الوقت إلى يومنا هذا لم يشتغل أحد منهم بذلك مع علمهم أنهم يباشرون ذلك.
ثم قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لهذه الإنكحة فيما بينهم حكم الصحة ولهذا قال يقضي لها بنفقة النكاح إذا طلبت ولا يسقط احصانه إذا دخل بها حتى إذا أسلم يحد قاذفه وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو باطل في حقهم ولكنا لا نتعرض لهم في ذلك لمكان عقد الذمة وهذا لأن الخطاب بحرمة هذه الإنكحة شائع في دار الإسلام وهم من أهل دار الإسلام فيكون الخطاب ثابتا في حقهم لأنه ليس في وسع المبلغ التبليغ إلى كل واحد وإنما في وسعه جعل الخطاب شائعا فيجعل شيوع الخطاب بمنزلة البلوغ إليهم ولكن لا نتعرض لهم لمكان عقد الذمة ألا ترى أنهم لا يتوارثون بهذه الإنكحة ولو كانت صحيحة في حقهم لتوارثوا بها.
وأما الخمر والخنزير فقد قيل الحرمة بخطاب خاص في حق المسلمين وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وقيل: ليس من ضرورة الحرمة سقوط المالية والتقوم فالمال قد يكون حراما وقد يكون حلالا وإنما تنبني المالية على التمول وهم يتمولون ذلك فأما من ضرورة حرمة المحل بطلان النكاح وقد ثبتت الحرمة في حقهم كما بينا.(5/69)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لو تزوج مجوسية صح بالإتفاق والمجوسية محرمة النكاح بخطاب الشرع كذوات المحارم وإنما حكمنا بجوازه بينهم لأن الخطاب في حقهم كأنه غير نازل فإنهم يكذبون المبلغ ويزعمون أنه لم يكن رسولا وقد انقطعت ولاية الالزام بالسيف أو بالمحاجة لمكان عقد الذمة فصار حكم الخطاب قاصرا عنهم وشيوع الخطاب إنما يعتبر في حق من يعتقد كون المبلغ رسولا فإذا اعتقدوا ذلك بأن أسلموا ثبت حكم الخطاب في حقهم فأما قبل ذلك لما قصر الخطاب عنهم بقي حكم المنسوخ في حقهم ما لم يثبت الناسخ كما بقي حكم جواز الصلاة إلى بيت المقدس في حق أهل قباء لما لم يبلغهم الخطاب بالتوجه إلى الكعبة فإذا ثبت حكم صحة الإنكحة بهذا الطريق ثبت به ما هو من ضرورة صحة النكاح كالنفقة وبقاء الإحصان.
وأما الميراث فليس إستحقاق الميراث من ضرورة صحة النكاح فقد يمتنع التوارث(5/70)
ص -37- ... بأسباب كالرق واختلاف الدين مع أن التوارث إنما يستحق الميراث على المورث بعد موته وحكم اعتقاده بخلاف الشرع سقط اعتباره بالموت لعلمنا أنه قد تيقن بذلك ولما أشار الله تعالى إليه في قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] فلا يكون اعتقاد الوارث معتبرا في الاستحقاق عليه فلهذا لا يرثه بخلاف النفقة في حال الحياة وبقاء الإحصان إذا ثبتت هذه القاعدة فنقول عند أبي حنيفة أن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي وطلب حكم الإسلام لم يفرق بينهما إذا كان الآخر يأبى ذلك وعندهما يفرق بينهما لأن أصل النكاح كان باطلا ولكن ترك التعرض كان للوفاء بعقد الذمة فإذا رفع أحدهما الأمر وانقاد لحكم الإسلام كان هذا بمنزلة ما لو أسلم أحدهما ولو أسلم أحدهما فرق القاضي بينهما فكان إسلام أحدهما كإسلامهما فكذلك رفع أحدهما إليه كمرافعتهما.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أصل النكاح كان صحيحا فرفع أحدهما إلى القاضي ومطالبته بحكم الإسلام لا يكون حجة على الآخر في إبطال الاستحقاق الثابت له باعتقاده بل اعتقاده يكون معارضا لاعتقاد الآخر فبقى حكم الصحة على ما كان بخلاف ما إذا أسلم أحدهما فإن الإسلام يعلو ولا يعلى فلا يكون اعتقاد الآخر معارضا لا سلام المسلم منهما وبخلاف ما إذا رفعا لأنهما انقادا لحكم الإسلام فيثبت حكم الخطاب في حقها بانقيادهما له وإليه أشار الله تعالى في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] فتكون مرافعتهما كإسلامهما وبعد إسلامهما يفرق بينهما لأن المحرمية كما تنافى ابتداء النكاح تنافي البقاء بعد ما انعقد صحيحا كما لو اعترضت المحرمية في نكاح المسلمين برضاع أو مصاهرة.(5/71)
قال: وإذا تزوج الذمى ذمية على خمر أو خنزير بعينه أو بغير عينه فهو جائز ولا مهر لها غير ما سمى لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا منقوما والخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الخل والشاء في حقنا وأن تزوجها على ميتة أو دم أو غير شيء فالنكاح جائز ولها مهر مثلها لأنهم لا يتمولون الميتة والدم كما لا يتمولهما المسلمون ولو كان المسلم هو الذي تزوج امرأة بهذه الصفة كان لها مهر مثلها فكذلك الذمي وقيل هذا قولهما إما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا شيء لها إذا كانوا يدينون بالنكاح بغير مهر إلى هذا يشير في الجامع الصغير والخلاف مشهور فيما إذا تزوجها على أن لا مهر لها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب المهر وإن أسلما وعندهما لها مهر مثلها وهو بناء على ما ذكرنا من الأصل فإن تقييد الإبتغاء بالمال ثبت بخطاب الشرع فعندهما يكون ثابتا في حق أهل الذمة لشيوع الخطاب في دار الإسلام وكونهم من أهلها واشتراطهم بخلاف ذلك باطل إلا إنه لا يتعرض لهم ما لم يسلموا أو يرفع أحدهم الأمر إلى القاضي بخلاف أهل الحرب فإن الخطاب غير شائع في دار الحرب ولأن الحربية محل للتملك بالقهر فيتمكن من اثبات ملك النكاح عليها بغير عوض بخلاف الذمية.(5/72)
ص -38- ... وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حكم هذا الخطاب قاصر عنهم من الوجه الذي قلنا فصح الشرط ووجب الوفاء به ما لم يسلموا وبعد الإسلام أو المرافعة الحال حال بقاء النكاح والمهر ليس بشرط بقاء النكاح فكان هذا والنكاح بغير شهود سواء فإما إذا سكتا عن ذكر المهر فكذا في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن تملك البضع في حقهم كتملك المال في حق المسلمين فلا يجب العوض إلا بالشرط وفي الرواية الأخرى يجب لأن النكاح معاوضة البضع بالمال فالتنصيص عليه بمنزلة اشتراط العوض كالتنصيص على البيع فيما بين المسلمين فما لم يوجد التنصيص على نفي العوض كان العوض مستحقا لها وكذا عند تسمية الميتة والدم لأن ذلك لغو باعتبار أنه ليس بمال فكان هذا والسكوت عن ذكر المهر سواء.
قال: وإذا طلق الذمي امرأته ثلاثا ثم أقام عليها فرافعته إلى السلطان فرق بينهما لأنهم يعتقدون أن الطلاق مزيل للملك وإن كانوا لا يعتقدونه محصور العدد فامساكه إياها بعد التطليقات الثلاث ظلم منه وما أعطيناهم الذمة لنقرهم على الظلم أرأيت لو اختلعت بمال أكنا ندعه ليقوم عليها وقد استوفى منها فإما إذا تزوجها بعد التطليقات الثلاث برضاها فالآن هذا ونكاح المحارم سواء لأن الثلاث يوجب حرمة المحل بخطاب الشرع كالمحرمية وهم لا يعتقدون ذلك وحرمة المحل بهذا السبب تمنع بقاء النكاح كما تمنع الإبتداء فكان كالمحرمية فيما ذكرنا من التفريعات.(5/73)
قال: وإذا تزوج الذمى ذمية على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما أو أسلم أحدهما فليس لها غير ذلك المعين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن كانت الخمر بغير عينها فلها قيمتها وفي الخنزير بغير عينه في القياس كذلك ولكنه استحسن فقال لها مهر مثلها وفي قول محمد لها القيمة على كل حال وفي قول أبي يوسف الآخر لها مهر مثلها على كل حال ولم يذكر قوله الأول وقيل هو كقول محمد رحمه الله أما حجتهما في العين أن الإسلام ورد والحرام مملوك بالعقد غير مقبوض فيمنع الإسلام قبضه كما في الخمر المشتراة إذ أسلم أحدهما قبل القبض وهذا لأن القبض يؤكد الملك الثابت بالعقد ألا ترى أن الصداق تتنصف بنفس الطلاق قبل الدخول إذا لم يكن مقبوضا وبعد القبض لا يعود شيء إلى ملك الزوج إلا بقضاء أو رضاء وكذلك الزوائد تنتصف قبل القبض ولا تتنصف بعده.
وكذلك لو مر يوم الفطر والصداق عبد عند الزوج ثم طلقها قبل الدخول لا تجب صدقة الفطر عليها بخلاف ما بعد القبض إذا ثبت هذا فنقول الإسلام كما يمنع تملك الخمر بالعقد ابتداء يمنع تأكد الملك فيها بالقبض وبه فارق الخمر المغصوبة فإنه ليس في الاسترداد تأكد الملك إنما فيه مجرد النقل من يد إلى يد وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الإسلام ورد وعين المسمى مملوك لها مضمون بنفسه في يد الزوج فلا يمنع الإسلام قبضه،(5/74)
ص -39- ... كالخمر المغصوبة لا يمنع الإسلام استردادها وهذا لأن ملكها في الصداق يتم بنفس العقد حتى تملك التصرف فيه كيف شاءت ومع من شاءت ببدل وغير بدل فليس القبض هنا بموجب ملك التصرف ولا تملك العين بخلاف المبيع فإن بالقبض هناك يستفاد ملك التصرف والإسلام المانع منه ولأن ضمان المبيع في يد البائع ضمان ملك حتى لو هلك يهلك على ملكه فكان قبض المشتري ناقلا لضمان الملك فإما ضمان المسمى في يد الزوج فليس بضمان ملك حتى لو هلك يهلك على ملكها ولهذا وجب لها القيمة فلا يكون الإسلام مانعا من القبض الناقل للضمان إذا لم يكن ضمان ملك كاسترداد المغصوب وهذا بخلاف ما إذا كان المسمى بغير عينه لأن القبض هناك موجب ملك العين والإسلام يمنع من ذلك.(5/75)
وإذا عرفنا هذا فمحمد رحمه الله تعالى يقول في الفصول كلها تعذر بالإسلام تسليم المسمى بعد صحة التسمية وذلك موجب للقيمة على كل حال كما لو تزوجها على عبد فاستحق أو هلك قبل التسليم وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الإسلام الطارئ بعد العقد قبل القبض يجعل في الحكم كالمقارن للعقد كما في البيع ولو اقترن الإسلام بالعقد وجب لها مهر المثل على كل حال فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القياس ما قاله محمد رحمه الله تعالى لأن التسمية صحيحة وبطريان الإسلام لا يتبين فساد التسمية بخلاف ما إذا اقترن الإسلام بالعقد فإن التسمية هناك مفسدة وبخلاف البيع لأن أصل السبب هناك يفسد بالإسلام الطارئ وهنا أصل السبب باق وقد كانت التسمية صحيحة فإذا تعذر تسليم المسمى كان لها القيمة غير أني أستقبح إيجاب قيمة الخنزير فأوجب لها مهر مثلها قيل إنما استقبح ذلك لعبد الخنزير عن المالية في حق المسلمين ولأن المسلمين لا يعرفون قيمته والرجوع إلى أهل الذمة في معرفة قيمة الخنزير ليقضي به مستقبح ولكن هذا ضعيف فإن المسلم إذا أتلف خنزير الذمي يضمن قيمته كما إذا أتلف خمره والصحيح أن يقال قيمة الخنزير كعينه ألا ترى أن قبل الإسلام لو أتاها بالقيمة أجبرت على القبول كما إذا أتاها بالعين فكما تعذر قبض عين الخنزير بالإسلام فكذلك القيمة بخلاف الخمر يقرره أن قيمة الخنزير من موجبات صحة التسمية وبالإسلام قد تغير حكم التسمية فإنما يجوز أن يستوفي بعد الإسلام ما ليس من موجبات صحة التسمية وذلك مهر المثل فإما قيمة الخمر ليس من موجبات صحة التسمية لأن الخمر من ذوات الأمثال فلهذا يصار إلى قيمة الخمر.(5/76)
ثم إن طلقها قبل الدخول ففي العين لها نصف العين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي غير العين في الخمر لها نصف القيمة وفي الخنزير لها المتعة لأن مهر المثل لا ينتصف بالطلاق قبل الدخول بل في كل موضع كان الواجب مهر المثل قبل الطلاق فالواجب المتعة بعد الطلاق على ما نذكره في باب المهور إن شاء الله تعالى وعند محمد رحمه الله تعالى لها بعد الطلاق نصف القيمة على كل حال وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لها المتعة على كل حال.(5/77)
ص -40- ... قال: مسلم تزوج مسلمة على خمر أو خنزير أو شيء مما لا يحل كان النكاح جائزا لأن صحة التسمية ليس من شرائط أصل النكاح فالنكاح صحيح بغير تسمية المهر فكذلك مع فساد التسمية لأن ما كان فاسدا شرعا فذكره كالسكوت عنه في حكم الاستحقاق وتقدم اشتراطه غير مبطل للنكاح فإن النكاح يهدم الشرط ولا ينهدم به هكذا قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى النكاح يهدم الشرط والشرط يهدم البيع وإذا صح النكاح فلها مهر مثلها لأن البضع لا يتملك إلا بعوض وقد تعذر إيجاب المسمى فيصار إلى العوض الأصلي وهو قيمة البضع على ما نبينه في باب المهور إن شاء الله تعالى.
قال: وتجوز المناكحة بين اليهود والنصارى والمجوس وقد دللنا على جواز أصل المناكحة فيما بينهم ثم هم أهل ملة واحدة وإن اختلفت نحلهم لأنه يجمعهم اعتقاد الشرك والانكار لنبوة محمد فتجوز المناكحة فيما بينهم كأهل المذاهب فيما بين المسلمين ولهذا جوزنا شهادة بعضهم على بعض وورثنا بعضهم من بعض.(5/78)
ثم المولود بينهما على دين الكتابي من الأبوين عندنا تحل ذبيحته ومناكحته للمسلمين ولا يحل ذلك عند الشافعي رحمه الله تعالى لأن المعارضة تتحقق بينهما واحدهما يوجب الحرمة والآخر الحل فيغلب الموجب للحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" بخلاف ما إذا كان أحدهما مسلما لأن الكفر لا يعارض الإسلام على ما بينا ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه" الحديث فقد جعل اتفاق الأبوين علة ناقلة عن أصل الفطرة فيثبت ذلك فيما إذا اتفق عليه الأبوان وفيما اختلفا فيه يبقى على اصل الفطرة ولأن حل الذبيحة والمناكحة من حكم الاسلام فإذا كان ذلك اعتقاد احد الأبوين يجعل الولد تبعا له في ذلك كما في نفس الإسلام وهذا لأن اليهودية إذا قوبلت بالمجوسية فالمجوسية شر فلا تقع المعارضة بينهما ولكن يترجح جانب التبعية للكتابي لأنه يعتقد التوحيد أو يظهره فكان في جعل الولد تبعا له نوع نظر للولد وذلك واجب.
قال: وإذا زوج صبية من صبي وهما من أهل الذمة جاز ذلك كما يجوز بين المسلمين لأن الولاية ثبتت للأولياء فيما بينهم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ثم إن كان المزوج هو الأب والجد فلا خيار لهما إذا أدركا لشفقة الأبوة فإن ذلك لا يختلف باختلاف الدين على ما قيل كل شيء يحب ولده حتى الحباري وإن كان المزوج غير الأب والجد فلهما الخيار في قول أبي حنيفة ومحمد على ما بينا فيما بين المسلمين.
قال: وإذا تزوجت الذمية ذميا فقال وليها هذا ليس بكفء لم يلتفت إلى قوله لأن ذل الشرك وصغار الجزية يجمعهم فلا يظهر مع ذلك نقصان النسب بل هم إكفاء بعضهم لبعض ألا ترى أنهم لو استرقوا كانوا اكفاء ولو اعتقوا كذلك ولو أسلموا كانوا اكفاء فعرفنا أنه لا يظهر التفاوت بينهم فلا يكون للولي أن يخاصم.(5/79)
ص -41- ... قال: إلا أن يكون شيئا مشهورا يعني كابنة ملك منهم خدعها حائك أو سايس ونحوه فهنا يفرق بينهما لا لانعدام الكفاءة بل لتسكين الفتنة لأن هذا يهيج الفتنة والقاضي مأمور بتسكين الفتنة بينهم كما هو مأمور بذلك بين المسلمين.
قال: وإذا تزوج الذمي مسلمة حرة فرق بينهما لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، فاستقر الحكم في الشرع على أن المسلمة لا تحل للكافر وإن كان ذلك حلالا في الابتداء فيفرق بينهما ويوجع عقوبة أن كان قد دخل بها ولا يبلغ به أربعين سوطا وتعذر المرأة والذي سعى فيما بينهما وفي حق الذمي لم يذكر لفظ التعذير لأنه ينبئ عن معنى التطهير والتوقير قال الله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9] فلهذا قال يوجع عقوبة وهذا لأنه أساء الأدب فيما صنع واستخف بالمسلمين وارتكب ما كان ممنوعا منه فيؤدب على ذلك.
وكان مالك بن أنس رحمه الله تعالى يقول يقتل لأنه يصير بهذا ناقضا للعهد حين باشر ما ضمن في العهد أن لا يفعله فهو نظير الذمي إذا جعل نفسه طليعة للمشركين على قوله ولكنا نقول كما أن المسلم بارتكاب مثله لا يصير ناقضا لأمانه فالذمى لا يصير ناقضا لأمانه فلا يقتل ولكن يوجع عقوبه وكذلك يعذر الذي سعى بينهما لأنه أعان على مالا يحل والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش" وهو الذي يسعى بينهما وأن أسلم بعد النكاح لم يترك على نكاحه لأن أضل النكاح كان باطلا فبالإسلام لا ينقلب صحيحا.(5/80)
قال: ولو أسلم الزوج و امرأته من أهل الكتاب بقي النكاح بينهما ولا يتعرض لهما لأن ابتداء النكاح صحيح بعد إسلام الرجل فلأن يبقى أولى وإن كانت من غير أهل الكتاب فهي امرأته حتى يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت والأفرق بينهما وكذلك أن كانت المرأة هي التي أسلمت والزوج من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب فهي امرأته حتى يعرض عليها الإسلام فإن أسلم وإلا فرق بينهما ويستوي أن كان دخل بها أو لم يدخل بها عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: أن كان قبل الدخول تقع الفرقة بإسلام أحدهما وإن كان بعد الدخول يتوقف وقوع الفرقة بينهما على انقضاء ثلاث حيض ولا يعرض الإسلام على الآخر واستدل في ذلك فقال قد ضمنا بعقد الذمة أن لا نتعرض لهم في الإجبار على الإسلام وذلك يقطع ولاية الإجبار والتفريق عندنا بالإسلام ولكن النكاح قبل الدخول غير متأكد فينقطع بنفس اختلاف الدين إذا كان على وجه يمنع ابتداء النكاح وبعد الدخول النكاح متأكد فلا يرتفع بنفس اختلاف الدين حتى ينضم إليه ما يؤثر في الفرقة وهو انقضاء العدة وقاس بالطلاق فإن بنفس الطلاق قبل الدخول يرتفع النكاح وبعد الدخول لا يرتفع إلا بانقضاء العدة وحجتنا في ذلك ما روى أن دهقانة بهز الملك أسلمت فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن يعرض الإسلام على زوجها فإن أسلم وإلا فرق بينهما وإن دهقانا أسلم في(5/81)
ص -42- ... عهد علي رضي الله عنه فعرض الإسلام على امرأته فأبت ففرق بينهما وكان المعنى فيه أن النكاح كان صحيحا بينهما فلا يرتفع إلا بعد وجود السبب الموجب له وإسلام المسلم منهما لا يصلح سببا لذلك لأنه سبب لاثبات العصمة وتأكيد الملك له وكذلك كفر من أصر منها على الكفر لأنه كان موجودا قبل هذا وما كان مانعا لابتداء النكاح ولا بقائه وكذلك اختلاف الدين فإن عينه ليس بسبب كما لو كان الزوج مسلما والمرأة كتابية فلا بد من أن يتقرر السبب الموجب للفرقة لما تعذر استدامة النكاح بينهما وذلك السبب عرض الإسلام على الكافر منهما لا بطريق الإجبار عليه ولكن لأن بالنكاح وجب عليه الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فالإمساك بالمعروف في أن يساعدها على الإسلام فإذا أبى ذلك تعين التسريح بالإحسان فإذا امتنع من ذلك ناب القاضي منابه في التفريق بينهما.
ثم إن كانت المرأة هي التي أبت الإسلام حتى فرق القاضي بينهما فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعد الدخول فليس لها نفقة العدة لأن الفرقة جاءت من قبلها وتكون الفرقة بغير طلاق بالاتفاق لأنه ليس إليها من الطلاق شيء وإنما فرق القاضي بينهما بإصرارها على الخبث والخبيثة لا تصلح للطيب.
فإما إذا كان الزوج هو الذي أبى الإسلام فإن كان قبل الدخول فلها نصف المهر وان كان بعد الدخول فلها نفقة العدة وتكون الفرقة بطلاق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تكون فرقة بغير طلاق وإما الفرقة بردة المرأة تكون بغير طلاق وردة الزوج كذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وفي قول محمد رحمه الله تعالى تكون بطلاق.(5/82)
وحجة أبي يوسف رحمه الله تعالى في الفصلين أن سبب هذه الفرقة يشترك فيه الزوجان على معنى أنه يتحقق من كل واحد منهما وهو الإباء والردة ومثل هذه الفرقة تكون بغير طلاق كالفرقة الواقعة بالمحرمية وملك أحد الزوجين صاحبه وهذا لأنه ليس إليها من الطلاق شيء فكل سبب للفرقة يتحقق من جهتها يعلم أنه ليس بسبب للطلاق.
وحجة محمد رحمه الله تعالى في الفصلين أن سبب الفرقة قول من جهة الزوج إما إباء أو ردة فيكون بمنزلة إيقاع الطلاق وهذا لأنه يفوت الإمساك بالمعروف بهذا السبب فيتعين التسريح بالإحسان والتسريح طلاق ألا ترى أن الفرقة بين العنين و امرأته تجعل طلاقا بهذا الطريق وأبو حنيفة يفرق بينهما والفرق من وجهين:
أحدهما: ان الفرقة بالردة كانت لفوات صفة الحل وذلك مناف للنكاح ألا ترى أن الفرقة لا تتوقف على قضاء القاضي فإنه ينافي النكاح ابتداء وبقاء فيكون نظير المحرمية والملك.
فأما إباء الإسلام فإنه غير مناف للنكاح ألا ترى أن الفرقة به لا تقع إلا بقضاء القاضي والفرقة بسبب غير مناف للنكاح إذا كان مضافا إلى الزوج يكون طلاقا.(5/83)
ص -43- ... توضيح الفرق إن في فصل الإباء لما كانت الفرقة لا تقع إلا بقضاء القاضي أشبه الفرقة بسبب العنة من حيث أن القاضي ينوب فيه عن الزوج وفي مسألة الردة لما لم تتوقف الفرقة على القضاء أشبه الفرقة بسبب المحرمية والملك ألا ترى أنه يتم بالمرأة وليس إليها من الطلاق شيء ثم في الفصلين يقع طلاقه عليها ما دامت في العدة إما في الإباء فظاهر لأن الفرقة كانت بالطلاق وإما في الردة فلان حرمة المحل بهذا السبب غير متأبدة ألا ترى أنه يرتفع بالإسلام فيتوفر على الطلاق ما هو موجبه وهو حرمة المحل إلى غاية إصابة الزوج الثاني فلهذا يقع طلاقه عليها في العدة بخلاف ما بعد المحرمية فإن حرمة المحل هناك مؤبدة فلا يظهر معها ما هو موجب الطلاق.(5/84)
قال: وإذا عقد النكاح على صبيين من أهل الذمة ثم أسلم أحدهما وهو يعقل الإسلام صح إسلامه عندنا استحسانا ويعرض على الآخر الإسلام إن كان يعقل فإن أسلم فهما على نكاحهما وإن أبي أن يسلم فإن كان الزوج هو الذي أسلم والمرأة كتابية لم يفرق بينهما كما لو كانا بالغين وإن كان بخلاف ذلك ففي القياس لا يفرق بينهما أيضا لأن الإباء إنما يتحقق موجبا للفرقة ممن يكون مخاطبا بالإداء والذي لم يبلغ وإن كان عاقلا فهو غير مخاطب بذلك ولكنه استحسن فقال كل من صح منه الإسلام إذا أتى به صح منه الإباء إذا عرض عليه وعند تقرر السبب الموجب للفرقة الصبي يستوي بالبالغ كما لو وجدته امرأته مجنونا وقيل هذا علي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فأما أبو يوسف رحمه الله فإنه يأخذ بالقياس وهو نظير اختلافهم في ردة الصبي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تجب الفرقة خلافا لأبي يوسف رحمه الله تعالى والأصح أنه قولهم جميعا والفرق لأبي يوسف رحمه الله تعالى أن الإباء تمسك بما هو عليه فيكون صحيحا منه فأما الردة إنشاء لما لم يكن موجودا وهو يضره فلا يصح منه ألا ترى أن رده الهبة بعد ما قبض لا يصح وامتناعه من القبول في الإبتداء صحيح ثم إذا فرق باباء الزوج وكان صغيرا فبعض مشايخنا يقولون هذا لا يكون طلاقا لأن الصبي ليس من أهل الطلاق بخلاف البالغ والصحيح إنه طلاق لأن السبب قد تقرر فهو نظير الفرقة بسبب الجب وهذا لأن الصبي ليس بأهل لا يقاع الطلاق والعتاق ثم العتق ينفذ من جهته إذا تقرر سببه بأن ورث قريبه فكذلك الطلاق.
قال: نصراني تزوج نصرانية ثم أنها تمجست فهما على نكاحهما لأنها لو كانت مجوسية في الإبتداء صح النكاح بينهما فكذلك إذا تمجست وهو بناء على أصلنا أنه إذا تحول من دين إلى دين يترك على ما اعتقد لأن الكفر كله ملة واحدة وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
قول مثل قولنا.(5/85)
وقول آخر أنه يقتل إن لم يسلم لأن الأمان له كان على ما اعتقده فإذا بد له بغيره لم(5/86)
ص -44- ... يبق له أمان فيقتل أن لم يسلم وهذا فاسد فإن الأمان بسبب الذمة كان له مع كفره وما ترك الكفر وإذا كان ما اعتقد لا ينافي ابتداء عقد الذمة لا يكون منافيا للبقاء أيضا.
وفي قول آخر يقول يجبر على العود إلي ما كان عليه كالمسلم إذا ارتد والعياذ بالله وهو بعيد أيضا فإن ما كان عليه كان كفرا فكيف يجبر على العود إليه والنصراني إذا تهود فقد اعتقد التوحيد ظاهرا فكيف يجبر على العود إلى التثليث بعد ما اعتقد التوحيد فإن أسلم الزوج بعد ما تمجست عرض عليها الإسلام كما لو كانت مجوسية في الأصل فإن أسلمت وإلا فرق بينهما وإن تهودت أو تنصرت كانا على النكاح كما لو كانت يهودية أو نصرانية في الابتداء وإن تمجست بعد ما أسلم الزوج وقعت الفرقة بينهما لأن تمجسها بعد الإسلام كردة المسلمة فكما يتعجل الفرقة بنفس ردة المرأة فكذا بتمجسها بعد إسلام الزوج.
قال: نصراني تزوج نصرانية بشهادة عبدين كان جائزا إذا كان ذلك في دينهم نكاحا لأنه لو تزوجها بغير شهود جاز فبشهادة العبدين أولى والله أعلم بالصواب
باب نكاح المرتد
قال: ولا يجوز للمرتد أن يتزوج مرتدة ولا مسلمة ولا كافرة أصلية لأن النكاح يعتمد الملة ولا ملة للمرتد فإنه ترك ما كان عليه وهو غير مقر علي ما اعتقده وحقيقة المعني فيه من وجهين:
أحدهما: إن النكاح مشروع لمعنى البقاء فإن بقاء النسل به يكون وكذلك بقاء النفوس بالقيام بمصالح المعيشة والمرتد مستحق للقتل فما كان سبب البقاء لا يكون مشروعا في حقه.(5/87)
والثاني: أن قتله بنفس الردة صار مستحقا وإنما يمهل ثلاثة أيام ليتأمل فيما عرض له من الشبهة ففيما وراء ذلك جعل كأنه لا حياة له حكما فلا يصح منه عقد النكاح لأن اشتغاله بعقد النكاح يشغله عما لأجله حياته وهو التأمل وكذلك لا يجوز نكاح المرتدة مع أحد لأنها مأمورة بالتأمل لتعود إلى الإسلام وممنوعة من الاشتغال بشيء إخر ولأنها بالردة صارت محرمة والنكاح مختص بمحل الحل ابتداء فلهذا لا يجوز نكاحها مع أحد.
قال: وإذا ارتد المسلم بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية دخل بها أو لم يدخل بها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كان لم يدخل بها فكذلك وأن كان بعد الدخول لا يتوقف انقطاع النكاح على انقضاء ثلاث حيض بناء على أصله في الفرق بين تأكد النكاح بالدخول وعدم تأكده على ما بينا في الإسلام فإنه بالردة يقصد منابذة الملة لا الحليلة فلا يكون ذلك موجبا للفرقة بعد تأكده ما لم ينضم إليه سبب آخر كما لو أسلم أحدهما وبن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول لا تقع الفرقة بردة أحدهما قبل الدخول ولا بعده حتى يستتاب المرتد فإن تاب فهي امرأته وإن مات أوقتل ورثته وجعل هذا قياس إسلام أحد الزوجين على ما بينا.(5/88)
ص -45- ... ولكنا نقول الردة تنافي النكاح واعتراض سبب المنافي للنكاح موجب للفرقة بنفسه كالمحرمية فأما اختلاف الدين عينه لا ينافي النكاح حتى يجوز ابتداء النكاح بين المسلم والكتابية وكذلك الإسلام لا ينافي النكاح فإن النكاح نعمة وبالإسلام تصير النعم محرزة له فلهذا لا تقع الفرقة هناك إلا بقضاء القاضي بعد إباء الآخر.
ثم إن كان الزوج هو المرتد فلها نصف المهران كان لم يدخل بها ونفقة العدة أن كان دخل بها وإن كانت هي التي ارتدت فلا مهر لها أن كان قبل الدخول وليس لها نفقة العدة بعد الدخول والكلام في أن هذه الفرقة بطلاق أو بغير طلاق كما بيناه.
قال: وإذا ارتد الزوجان معا فهما على نكاحهما استحسانا عندنا وفي القياس تقع الفرقة بينهما وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأن في ردتهما ردة أحدهما وزيادة فإذا كانت ردتهما تنافي ابتداء النكاح تنافي البقاء أيضا ولكنا تركنا القياس لاتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإن بني حنيفة ارتدوا بمنع الزكاة فاستتابهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه ولم يأمرهم بتجديد الإنكحة بعد التوبة ولا أحد من الصحابة رحمهم الله تعالى سواه ولا يقال لعل الإرتداد من بعضهم كان قبل بعض ولم يشتغل بذلك أيضا لأن كل أمرين لا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا.(5/89)
وفقه هذا الكلام أنوقوع الفرقة عند ردة أحدهما لظهور خبثه عند المقابلة بطيب المسلم فإذا ارتدا معا لا يظهر هذا الخبث بالمقابلة لأنه تقابل الخبث بالخبث والمعنى فيه أنه لم يختلف لهما دين ولا دار فيبقى ما كان بينهما على ما كان كما إذا أسلم الكافران معا واعتبار البقاء بالابتداء فاسد فإن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء ولا فرق لأن كل واحد منهما يوجب حرمة المحل ولكنها غير متأبدة فإن أسلم أحدهما وقعت الفرقة بينهما بإصرار الآخر على الردة لظهور خبثه الآن عند المقابلة بطيب الآخر حتى لو كانت المرأة هي التي أسلمت قبل الدخول فلها نصف الصداق وإن كان الزوج هو الذي أسلم فلا شيء لها لأن الفرقة من جانب من أصر على الردة فإن اصراره بعد إسلام الآخر كإنشاء الردة.
قال: وإن أسلم النصراني و امرأته نصرانية ثم تحولت إلى اليهودية فهي امرأته كما لو كانت يهودية في الإبتداء وإن أسلم وهي مجوسية ثم ارتد عن الإسلام بانت منه لأن النكاح بعد إسلامه باق ما لم يفرق القاضي بينهما ألا ترى أنها لو أسلمت كانا على نكاحهما فتفرده بالردة في حال بقاء النكاح موجب للفرقة وكذلك إذا أسلمت المرأة المجوسية ثم ارتدت بانت منه وكذلك لو ارتد الزوج بانت منه وإن لم يرتد الزوج ولم تسلم هي حتى مات الزوج كان لها المهر كاملا دخل بها أو لم يدخل بها لأن النكاح ينتهي بالموت حين لم يفرق القاضي بينهما فيتقرر به جميع المهر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(5/90)
ص -46- ... باب نكاح أهل الحرب
قال: رضي الله عنه بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب فكره ذلك وبه نأخذ فنقول يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب ولكنه يكره لأنه إذا تزوجها ثمة ربما يختار المقام فيهم وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا ترآاى ناراهما" ولأن فيه تعريض ولده للرق فربما تحبل منه فتسبى فيصير ما في بطنها رقيقا وإن كان مسلما وإذا ولدت تخلق الولد بأخلاق الكفار وفيه بعض الفتنة فيكره لهذا فإن خرج وتركها في دار الحرب وقعت الفرقة بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكما فإنها من أهل دار الحرب والزوج من أهل دار الإسلام وتباين الدارين بهذه الصفة موجب للفرقة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون موجبا للفرقة حتى إذا أسلم أحد الزوجين وخرج إلى دارنا.
فإن كانت المرأة هي التي خرجت مراغمة وقعت الفرقة بالاتفاق عندنا لتباين الدارين وعنده للقصد إلى المراغمة والاستيلاء على حق الزوج فإن خرجت غير مراغمة لزوجها أو خرج الزوج مسلما أو ذميا تقع الفرقة بتباين الدارين عندنا ولا تقع عند الشافعي رحمه الله تعالى واستدل بحديث أبي سفيان رضي الله عنه فإنه أسلم بمر الظهران في معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينه وبين امرأته هند.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة بن أبي جهل وحكيم بن حزام رضي الله عنهما حتى أسلمت امرأة كل واحد منهما وأخذت الأمان لزوجها وذهبت فجاءت بزوجها ولم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينهما وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى المدينة ثم تبعها زوجها أبو العاص بعد سنين فردها عليه بالنكاح الأول.(5/91)
والمعني فيه: أن اختلاف الدار عبارة عن تباين الولايات وذلك لا يوجب ارتفاع النكاح كاختلاف الولايتين في دار الإسلام إلا ترى أن الحربي لو خرج إلينا مستأمنا أو المسلم دخل دار الحرب بإمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته وكذلك الخارج من مصر أهل العدل إلى منعة أهل البغي لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلى قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] الآية وليس في هذه الآية بيان قصد المراغمة فاشتراطه يكون زيادة على النص وقال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والكوافر جمع كافرة معناه لا تعدوا من خلفتموه في دار الحرب من نسائكم.
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يهاجر إلى المدينة نادي بمكة إلا من أراد أن تئيم امرأته منه أو تبين فليلتحق بي أي فليصحبني في الهجرة والمعنى فيه أن من بقي في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ}(5/92)
ص -47- ... [الأنعام: 122] ميتا فاحييناه أي كافرا فرزقناه الهدى إلا ترى أن المرتد اللاحق بدار الحرب يجعل كالميت حتى يقسم ماله بين ورثته فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقة وحكما.
فأما إذا خرج إلينا بأمان فتباين الدارين لم يوجد حكما لأنه من أهل دار الحرب متمكن من الرجوع إليها وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بإمان فهو من أهل دار الإسلام حكما ومنعه أهل البغي من جملة دار الإسلام ومن فيها لا يجعل بمنزلة الميت حكما والدليل عليه أنه ما خرج إلا قاصدا احراز نفسه من المشركين فلا يعتبر مع ذلك القصد إلى المراغمة ولو كان خروجها على سبيل المراغمة لزوجها وقعت الفرقة بالإتفاق فأما حديث زينب رضي الله عنها فالصحيح إنه ردها عليه بالنكاح الجديد وما روى إنه ردها عليه بالنكاح الأول أي بحرمة النكاح الأول إلا ترى إنه ردها عليه بعد سنين والعدة تنقضي في مثل هذه المدة عادة وقد روى أن الكفار تتبعوها وضربوها حتى أسقطت فانقضت عدتها بذلك وعند الشافعي رحمه الله تعالى أن كان لا تقع الفرقة بتباين الدارين تقع بانقضاء العدة.
وأما إسلام أبي سفيان فالصحيح أنه لم يحسن إسلام أبي سفيان يومئذ وإنما أجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس رضي الله عنه وعكرمة وحكيم بن حزام إنما هربا إلى الساحل وكانت من حدود مكة فلم يوجد تباين الدارين وقال الزهري إن دار الإسلام إنما تميزت من دار الحرب بعد فتح مكة فلم يوجد تباين الدارين يومئذ فلهذا لم يجدد النكاح بينهما.(5/93)
فإما إذا سبى أحد الزوجين تقع الفرقة بينهما بالاتفاق فعندنا لتباين الدارين وعند الشافعي رضي الله عنه للسبى حتى إذا سبيا معالم تقع الفرقة بينهما لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] الآية معناه ذوات الأزواج من النساء {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فإنها محللة لكم وإنما نزلت الآية في سبايا أو طاس وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا لا توطأ الحبالي من الفيء حتى يضعن ولا الحيالي حتى يستبرأن بحيضة وإنما سبي أزواجهن معهن والمعنى فيه أن السبي يقتضي صفاء المسبي للسابي ولهذا لا يبقى الدين الذي كان واجبا على المسبي وإنما يصفو إذا لم يبق ملك النكاح وهذا لأن السبي سبب لملك ما يحتمل التملك ومحل النكاح محتمل للتملك فيصير مملوكا للسابي لأنه لو امتنع ثبوت الملك إنما يمتنع لحق الزوج وهو ليس بذي حق محترم ألا ترى أنه تسقط به مالكيته عن نفسه وعن ماله ولهذا قلنا لو كانت المسبية منكوحة لمسلم أو لذمي لا يبطل النكاح لأن ملك النكاح محترم ولا يدخل عليه القصاص أنه لا يسقط بالسبي لأن المستحق بالقصاص الدم وهو ليس بمحتمل للتملك ولأن القصاص لا يجب إلا لمحترم.
وحجتنا في ذلك أن السبى سبب لملك الرقبة مالا فلا يكون مبطلا للنكاح كالشراء وهذا لأن المملوك في النكاح ليس بمال فلا يثبت فيه التملك بالسبي مقصودا لأن تملك(5/94)
ص -48- ... البضع مقصودا بسببه يختص بشرائط من الشهود والولى وذلك لا يوجد في السبى فإنما يثبت الملك هنا تبعا لملك الرقبة وذلك لا يثبت إلا عند فراغ المحل عن حق الغير ونفس السبي ليس بمناف للنكاح ألا ترى أن ملك النكاح لو كان محترما لا يبطل النكاح مع تقرر السبي والمنافي إذا تقرر فالمحترم وغير المحترم فيه سواء كما إذا تقرر بالمحرمية والرضاع ولأن السبى لا ينافي ابتداء النكاح فلأن لا ينافي البقاء أولى.
وأما الدين فإن كان على عبد فسبى لم يسقط الدين مخصوص عليه في المأذون وإن كان على حر فسبى فإنه يسقط لأنه لما صار عبدا والدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية رقبته فكذلك لا يبقي إلا شاغلا للمالية وحين كان واجبا على الحر لم يكن شاغلا لمالية الرقبة إذ لا مالية في رقبته فلا يمكن إبقاؤه إلا بتلك الصفة وقد تعذر إبقاؤه بتلك الصفة بعد السبي ألا ترى أنه لو كان الدين لمحترم لا يبقى كذلك وبه يبطل قولهم أن السبي يقتضي صفاء المسبى للسابي فإن ملك النكاح إذا كان محترما بقى النكاح ولا صفاء وكذلك إذا سبي الزوج وقعت الفرقة وهنا الملك له لا عليه.
فأما الحديث فالمروى أن الرجال هربوا إلى حصونهم وإنما سبى النساء وحدهن فقد وقعت الفرقة بتباين الدارين والآية دليلنا فإن الله تعالى حرم ذوات الأزواج فما لم يثبت انقطاع الزوجية بينهما كانت محرمة على السابي بهذا النص إذا عرفنا هذا فنقول إذا خرج لزوج مسلما وتركها في دار الحرب حتى وقعت الفرقة بينهما لم يقع عليها طلاقه بعد ذلك لأن النكاح قد انقطع لا إلى عدة فإن بقاءها في دار الحرب كما ينافي أصل النكاح بينها وبين الزوج ينافي العدة فلهذا لا يقع طلاقه عليها وإن خرجت المرأة قبل الزوج مسلمة أو ذمية فهما على نكاحهما لأن الزوج مسلم من أهل دار الإسلام أيضا فلم تتباين بهم الدار.(5/95)
قال: حربية كتابية دخلت دار الإسلام بأمان فتزوجت مسلما أو ذميا جاز ذلك وصارت ذمية لأنها تابعة لزوجها في المقام فتزويجها نفسها ممن هو من أهل دار الإسلام يكون رضي منها بالمقام في دارنا على التأبيد فتصير ذمية وإن كانت غير كتابية فأن تزوجها ذمي فكذلك الجواب وإن تزوجها مسلم لم يجز النكاح وصيرورتها ذمية تكون ضمنا لصحة النكاح ولم يصح النكاح هنا وهذا بخلاف المستأمن في دارنا إذا تزوج ذمية فإنه لا يصير ذميا لأن الرجل ليس بتبع للمرأة في المقام ألا ترى أنه لا يصير مقيما بإقامة المرأة والمرأة تصير مقيمة بإقامة الزوج ومسافرة بسفره فلهذا افترقا.
قال: حربي أسلم وتحته خمس نسوة وأسلمن معه فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة يفرق بينه وبينهن وإن كان تزوجهن في عقود متفرقة فنكاح إلاربع الأول جائز ونكاح الخامسة فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله(5/96)
ص -49- ... تعالى سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة يخير فيختار أي أربع منهن شاء ويفارق الخامسة وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى.
وكذلك لو كان تحته أختان فأسلمن معه فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما ولو كان تزوجهما في عقدين جاز نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية عندهما وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى يختار أيتهما شاء ويفارق الآخرى واستدل بحديث غيلان بن سلمة أنه أسلم وتحته ثمان نسوة وأسلمن معه فقال صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعا وفارق سائرهن" وقيس بن حارثة رضي الله عنه أسلم وتحته عشر نسوة وأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن والضحاك بن فيروز الديلمي أسلم وتحته أختان فقال صلى الله عليه وسلم: "اختر أيتهما شئت" والمعنى فيه أن هذه حرمة اعترضت في بعض المنكوحات بعد صحة النكاح فتوجب التخيير دون التفرق كما لو طلق إحدى نسائه لا بعينها ثلاثا.
وبيان ذلك أن الإنكحة وقعت صحيحة في الأصل لأن حرمة الجمع بخطاب الشرع وقد بينا أن حكم هذا الخطاب قاصر عنهم لاعتقادهم بخلاف ذلك ما لم يسلموا ألا ترى أنه لو ماتت واحدة منهن أو بانت ثم أسلم وليس عنده إلا أربع منهن جاز نكاحهن سواء ماتت الأولى أو الأخيرة وإذا ثبت إن الإنكحة صحيحة كان العقد الواحد والعقود المتفرقة فيه سواء بمنزلة الحربي إذا كان تحته أربع نسوة فسبي وسبين معه فإن العقد الواحد والعقود المتفرقة فيه سواء بالإتفاق وإن اختلفنا في التفريق أو التخيير.
وفرق محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير بين أهل الحرب وأهل الذمة فقال لو كانت هذه العقود فيما بين أهل الذمة كان الجواب كما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى لأن خطاب الشرع بحكم الشيوع في دار الإسلام يجعل ثابتا في حق أهل الذمة وإن كنا لا نتعرض لهم ما لم يسلموا وقد بينا هذا من أصلهما والشافعي رحمه الله تعالى يسوي بين أهل الحرب وأهل الذمة.(5/97)
فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى استدلا بقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فالجمع بين الأختين نكاحا حرام بهذا النص وبنكاح الأولى ما حصل الجمع فوقع نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وبنكاح الثانية حصل الجمع فلم يكن نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وإنما وجب الاعتراض بعد الإسلام بسبب الجمع إذ لا سبب هنا سوى الجمع فتعين الفساد في نكاح من حصل الجمع بنكاحها وكان نكاحها فاسدا بحكم الإسلام دون من لم يحصل بنكاحها الجمع وكان نكاحها صحيحا بحكم الإسلام وإن تزوجهما في عقدة واحدة فالجمع حصل بهما ولم يكن ابطال نكاح أحداهما بأولى من الأخرى فبطل نكاحهما بمنزلة الحربية تحت رجلين إذا أسلمت وأسلما معها.
وكذلك في نكاح الخمس الحرمة بسبب الجمع بين ما زاد على الأربع فإنما حصل ذلك(5/98)
ص -50- ... بنكاح الخامسة فصرف الفساد إليها أولى وإن كان تزوجهن في عقد واحد فالجمع حصل بهن جميعا وهذا بخلاف ما لو ماتت إحداهن أو بانت لأن الاعتراض بسبب الجمع بعد الإسلام فلا بد من بقاء الجمع المحرم بعد الإسلام حتى يجب الاعتراض ولم يبق ذلك إذا ماتت إحداهما أو بانت وهو نظير ما لو تزوج رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما بانتا منه ولو أرضعت إحداهما فماتت ثم أرضعت الأخرى لم يبطل نكاح الثانية لأن الجمع إنما يتحقق عند ارضاع الثانية فإذا كانت الأولى في نكاحه تحقق الجمع بين الأختين وإن ماتت أو بانت لم يتحقق الجمع بين الأختين.
وهذا بخلاف المسبيات فإن نكاح الأربع هناك وقع صحيحا بحكم الإسلام على الأطلاق لأنه حين تزوجهن كان حرا وللحر أن يتزوج أربع نسوة ثم وجب الاعتراض بسبب الرق الحادث فيه وعند حدوث الرق هن مجتمعات مستويات فلهذا استوى العقد الواحد والعقود المتفرقة بمنزلة الرضيعتين إذا أرضعتهما امرأة بانتا منه وان تزوجهما في عقدين لأن الاعتراض وجب بعد صحة النكاح بالأختية العارضة فيهما وهما مستويان في ذلك بخلاف ما تقدم على ما بينا.
والأحاديث التي رويت فقد قال مكحول أن تلك كانت قبل نزول الفرائض معناه قبل نزول حرمة الجمع فوقعت الإنكحة صحيحة مطلقا ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الأربع لتجديد العقد عليهن أو لما كانت الإنكحة صحيحة في الأصل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مستثنى من تحريم الجمع ألا ترى أنه قال في بعض الروايات: وطلق سائرهن فهذا دليل على أنه لم يحكم بالفرقة بينه وبين ما زاد على الأربع.(5/99)
وعلى هذا لو أسلم وتحته بنت وأم فاسلمتا معه فإن كان تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما ثم أن كان لم يدخل بهما فله أن يتزوج البنت دون الأم وإن كان دخل بهما لم يكن له أن يتزوج واحدة منهما لأن الدخول بكل واحدة منهما يوجب حرمة الأخرى بالمصاهرة على التأبيد وإن كان دخل بالأم فليس له أن يتزوج واحدة منهما لأن الأم حرمت بعقد البنت والبنت حرمت بالدخول بالأم وإن كان دخل بالبنت دون الأم فله أن يتزوج البنت دون الأم لأن بمجرد العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت وإن كان تزوجهما في عقدين فنكاح الأولى جائز ونكاح الثانية فاسد إن لم يدخل بهما وكذلك إن دخل بالأولى فإن كان دخل بالثانية فإن كانت الأولى بنتا فسد نكاحهما لأن الأم حرمت بالعقد على البنت
والبنت حرمت بالدخول بالأم وإن كانت الأولى أما فنكاح البنت صحيح لأن الدخول بالبنت يحرم الأم والعقد على الأم لا يحرم البنت.
فأما على قول محمد رحمه الله تعالى سواء تزوجهما في عقدة أو في عقدتين فنكاح البنت صحيح لأن العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت والعقد على البنت يوجب حرمة(5/100)
ص -51- ... الأم إلا أن يكون دخل بالأم فحينئذ يفرق بينه وبينهما وهذا إذا كان دخوله بالأم بعد ما تزوج بالبنت فإن كان قبل أن يتزوج البنت فنكاح الأم صحيح لأن الدخول بها يحرم البنت فإذا لم يصح نكاح البنت لا تحرم الأم بذلك إلا أن يكون دخل بالبنت أيضا فحينئذ تقع الفرقة بينه وبينهما بالمصاهرة وليس له أن يتزوج واحدة منهما.
قال: وإن أسلم الحربي و امرأته وقد كان نكاحهما بعد أن طلقها ثلاثا قبل أن تنكح زوجا آخر فرق بينهما لأن التطليقات الثلاث تقع في دار الحرب كما في دار الإسلام فإنهم يعتقدون ذلك وهي سبب حرمة المحل إلى وقت إصابة الزوج الثاني بمنزلة الحرمة بالقرابة والرضاع فكما إن ذلك يوجب التفريق بعد الإسلام فكذلك هنا وكذلك لو جامع أمها أو ابنتها أو قبل واحدة منهما بشهوة لأن الحرمة بسبب المصاهرة نظير الحرمة بسبب الرضاع وذلك يتحقق في دار الحرب كما يتحقق في دار الإسلام فهذا مثله.(5/101)
قال: وإذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب ولم يكونا من أهل الكتاب أو كانا والمرأة هي التي أسلمت فإنه يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض عندنا سواء دخل بها أو لم يدخل بها وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كان قبل الدخول تقع الفرقة بإسلام أحدهما وإن كان بعد الدخول يتوقف على انقضاء العدة وعنده لا يختلف هذا الحكم بدار الحرب ودار الإسلام ولكنه ينبني على تأكد النكاح بالدخول وعدم تأكده كما ذكرنا فأما عندنا نفس إسلام أحدهما غير موجب للفرقة ولا كفر من أصر منهما على الكفر ولا اختلاف الدين نفسه كما بينا في دار الإسلام إلا أن في دار الإسلام يمكن تقرير سبب الفرقة بعرض الإسلام على الآخر منهما حتى إذا أبي يصير مفوتا الإمساك بالمعروف وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك لأن يد إمام المسلمين لا تصل إلى المصر منهما ليعرض عليه الإسلام ويحكم بالفرقة عند إبائه فيقام ثلاث حيضات مقام ثلاث عرضات في تقرر سبب الفرقة لأنه صار غير مريد لها حين لم يساعدها على الإسلام وبعد ما صار غير مريد لها تقع الفرقة بانقضاء ثلاث حيض كما لو طلقها إلا أن هناك إذا كان الطلاق قبل الدخول يمكن إثبات الفرقة بنفسه لمباشرة الزوج سبب الفرقة وهنا لا يمكن إثبات الفرقة قبل الدخول بدون انقضاء ثلاث حيض لأن الزوج ما باشر شيئا بل بل هو مستديم لما كان عليه فلهذا يتوقف انقطاع النكاح على انقضاء ثلاث حيض في الوجهين جميعا وإذا وقعت الفرقة بذلك فإن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعد الدخول والمرأة حربية فكذلك الجواب لأن حكم الشرع لا يثبت في حقها فإن كانت المرأة هي المسلمة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا يوجب العدة على المسلمة من الحربي.
وأصل المسألة في المهاجرة فإنها إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة أو ذمية لم تلزمها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أن تكون حاملا فحينئذ لا تتزوج حتى تضع(5/102)
ص -52- ... حملها وإن كانت حاملا فلها أن تتزوج في الحال وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تلزمها العدة وحجتهما في ذلك حديث نسيبة أنها لما هاجرت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد. والمعنى فيه أن هذه حرة فارقت زوجها بعد الإصابة فتلزمها العدة كالمطلقة في دارنا وهذا لأن وجوب العدة عليها لحق الشرع كيلا ايجتمع ماء رجلين في رحمها وهي مسلمة مخاطبة بحق الشرع.
وهذا بخلاف المسبية فإنها ليست بحرة وتأثيره أنها حلت للسابي ومن ضرورة الحكم بحلها للسابي الحكم بفراغ رحمها من ماء الزوج بخلاف ما نحن فيه ولا يقال لماذا يجب الاستبراء على السابي لأنا نقول كما يجب الاستبراء على السابي إذا كانت ثيبا أو منكوحة فكذلك إذا كانت بكرا أو لم تكن منكوحة فكذا هذا مع إن هذا دليلنا لأن بالإستبراء هناك يحصل المقصود فلا حاجة إلى إيجاب العدة عليها بخلاف المهاجرة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فالله تعالى أباح نكاح المهاجرة مطلقا فتقييد ذلك بما بعد انقضاء العدة يكون زيادة وقال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وفي إيجاب العدة تمسك بعصمة الكافرة.
والمعنى فيه أن هذه الفرقة وقعت بتباين الدارين فلا توجب العدة عليها وكالمسبية هذا لأن تباين الدارين حقيقة وحكما مناف للنكاح فيكون منافيا لأثر النكاح فلا تجب العدة لحق الشرع مع وجود المنافي ولا لحق الزوج لأنه حربي غير محترم وهو نظير من اشترى امرأته لا تجب العدة لحقه لأن الحل الثابت بالملك حقه ولا تجب لحق الشرع لوجود المنافي فأما إذا كانت حاملا فلا نقول تجب العدة عليها ولكنها لا تتزوج ما لم تضع حملها لأن في بطنها ولد ثابت النسب من الغير وذلك مانع من النكاح كأم الولد إذا حبلت من مولاها ليس له أن يزوجها حتى تضع.(5/103)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى إنها إذا تزوجت صح النكاح ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع لأنه لا حرمة لماء الحربي كماء الزاني فهو بمنزلة ماء الزاني والحبل من الزنى لا يمنع النكاح عندنا ولكن الأول أصح لأن الحبل من الزنى لا نسب له وهنا النسب ثابت من الحربي وباعتبار ثبوت النسب المحل مشغول فلهذا لا يصح النكاح ما لم يفرغ المحل عن حق الغير ويستوي في وقوع الفرقة بتباين الدارين إن خرج أحدهما مسلما أو ذميا أو خرج مستأمنا ثم أسلم أو صار ذميا لأنه صار من أهل دارنا حقيقة وحكما في الفصلين وإن كان الخارج هو الزوج فله أن يتزوج أربعا سواها أو أختها إن كانت في دار الإسلام لأنه لا عدة على التي بقيت في دار الحرب عندهم جميعا فكان هذا بمنزلة الفرقة قبل الدخول.
وإذا أسلمت المرأة ثم خرج الزوج مستأمنا فهما على النكاح ما لم تحض ثلاث حيض(5/104)
ص -53- ... لأن المستأمن وإن كان في دارنا صورة من أهل دار الحرب حكما فكأنه باق في دار الحرب حتى إذا أسلم الزوج قبل أن تحيض فهما على النكاح وإن صار الزوج من أهل الذمة قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح أيضا حتى إذا خرجت المرأة فهي امرأته حتى يعرض السلطان عليه الإسلام بمنزلة ما لو كان الزوج في الأصل ذميا وكذلك لو كان الزوج هو الذي أسلم في دار الحرب ثم خرجت إلينا ذمية قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح حتى يعرض السلطان عليها الإسلام فأما إذا خرجا مستأمنين ثم أسلمت المرأة ففي رواية هذا الكتاب يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض لأن الزوج من أهل دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب.
وفي رواية كتاب الطلاق يقول إن عرض السلطان الإسلام على الزوج فأبى أن يسلم فرق بينهما وإن لم يعرض حتى مضى ثلاث حيض تقع الفرقة أيضا ففي حق الذمي يتعين عرض الإسلام وفي حق الحربي في دار الحرب يتعين انقضاء ثلاث حيض وفي حق المستأمن أي الأمرين يوجد تقع به الفرقة لأن المستأمن من وجه يشبه الذمي لأنه تحت يد الإمام يتمكن من عرض الإسلام عليه ومن وجه يشبه الحربي لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب فيوفر حظه على الشبهين فلشبهه بالذمى إذا وجد عرض الإسلام عليه تقع به الفرقة ولشبهه بالحربي إذا وجد انقضاء ثلاث حيض أو لا تقع به الفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الهبة في النكاح(5/105)
قال: رضي الله عنه النكاح بلفظة الهبة والصدقة والتمليك صحح في قول علمائنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح إلا بلفظة النكاح والتزويج واستدل بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]الآية فقد جعل النكاح بلفظة الهبة خالصا للرسول صلوات الله عليه دون غيره من المؤمنين وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وكلمة الله التي أمرنا بالاستحلال بها إلا نكاح والتزويج وفي قوله: "اتخذتموهن بأمانة الله"، أشارة إلا أن هذا العقد غير معقود لمقصود إثبات الملك ولهذا انعقد بلفظة إلا نكاح والتزويج وهما لا يدلان على الملك.
ألا ترى أنه لا ينعقد بهما شيء من عقود التمليكات ولكن المقصود بالنكاح ما لا يحصى من مصالح الدين والدنيا وألفاظ التمليك لا تدل على شيء من ذلك فلا ينعقد بها هذا العقد وهو معنى قولهم هذا عقد خاص فلا ينعقد بغيره ألا ترى أن الشهادة لما شرعت بلفظ خاص لمعنى وهو إنها موجبة بنفسها؟
كما أشار الله تعالى إليه في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] لم يقم لفظ آخر مقام هذا اللفظ حتى لو قال الشاهد احلف لا يصح أداء الشهادة به والدليل عليه(5/106)
ص -54- ... أن التزويج هو التعليق والنكاح هو الضم وليس فيهما ما يدل على الملك وليس في التمليك معني التلفيق والضم فلا ينعقد هذا اللفظ بالفاظ التمليك وكيف ينعقد النكاح بهذا اللفظ والفرقة تقع به إذا قال لامرأته وهبت نفسك منك كان بمنزلة لفظ الطلاق مع إن النكاح لا يصح إلا بشهود وعند ذكر لفظ الهبة الشهود لا يعرفون إنهما أرادا النكاح وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] صلى الله عليه وسلم الآية معناه أن أراد النبي أن يستنكحها فوهبت نفسها منه فقد جعل الله تعالى الهبة جوابا للاستنكاح والاستنكاح طلب النكاح.
وأما قوله: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] فقد قيل المراد به المرأة يعني أنها خالصة لك فلا تحل لأحد بعدك حتى يكون شريكك في الفراش من حيث الزمان كما قال الله تعالى في آية أخرى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53] والأصح أن المراد هبة خالصة لأن قوله: {إِنْ وَهَبَتْ} يقتضي هبة والكناية تنصرف إلى الثابت بمقتضى الكلام فيكون المعنى هبة خالصة لا يلزمك مهر لها وهذا لك دون المؤمنين ألا ترى أنه قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يعني من الابتغاء بالمال والدليل عليه أنه قابل الموهوبة نفسها بالمؤتى مهرها بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الآية وكذلك قال في آخر الآية: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] وهو نص على أن الخصوصية لدفع الحرج عنه وذلك ليس في اللفظ اذ لا حرج عليه في ذكر لفظ النكاح إنما الحرج في ابقاء المهر مع ان المذكور لفظة الهبة في جانب المرأة لا في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا ان المراد الخصوصية بجوار نكاحه بغير مهر.(5/107)
وإمامنا في المسألة علي رضوان الله عليه فإن رجلا وهب ابنته لعبيد الله بن الحر بشهادة شاهدين فأجاز ذلك علي رضي الله تعالى عنه والمعنى فيه ان هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة والتمليك كملك اليمين وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة لان صلاحية اللفظ كناية عن غيره وليس بحكم شرعي ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك النظر في كلام أهل اللغة وهذه اشارة إلى مذهبهم في الاستعارة لانهم يستعيرون اللفظ لغيره لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال الله تعالى أني أراني أعصر خمرا أي عنبا بالعصر يصير خمرا ويسمى المطر سماء لأنه ينزل من السماء وما يكون من علو فالعرب تسميه سماء وكذلك النبات يسمى سماء لأنه ينبت بسبب المطر فإنهم يقولون ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم.
وإذا ثبت هذا فنقول هذه الالفاظ سبب لملك الرقبة وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة والمقصود من النكاح ملك المتعة دون ما سواه من المقاصد ألا ترى أنه يختص به الزوج حتى يجب(5/108)
ص -55- ... البدل عليه وسائر المقاصد يحصل لهما وان ملك الطلاق الرافع لهذا الملك يختص به الزوج فعرفنا أن المقصود هو الملك دون ما توهمه الخصم وإنما انعقد بلفظ النكاح والتزويج لأنهما لفظان جعلا علما لهذا العقد بالنص واعتبار المعنى في غير المنصوص عليه فأما في المنصوص لا يعتبر المعنى مع أنهما لفظان لا يجاب ملك ما ليس بمال فلهذا لا تأثير لهما في اثبات ملك المال ومتى صار اللفظ كناية عن غيره سقط اعتبار حقيقته وقام مقام اللفظ الذي جعل كناية عنه والشرط سماع الشاهدين اللفظ الذي ينعقد به النكاح.(5/109)
فأما وقوفهما على مقصود المتعاقدين ليس بشرط مع أنه اذا قال وهبت ابنتي منك بصداق كذا فالشهود يعلمون أنه أراد النكاح وكما أن الفرقة تحصل بلفظ الهبة تحصل بلفظ الزوجية اذا قال ل امرأته تزوجي ونوى به الطلاق يقع ولم يدل ذلك على أنه لا ينعقد به النكاح فأما لفظ البيع فالصحيح أنه ينعقد به النكاح وإليه أشار في كتاب الحدود قال إذا زنى بامرأة ثم قال تزوجتها أو اشتريتها وهذا للفقه الذي بينا أن البيع يوجب ملكا هو سبب لملك المتعة في محله وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله تعالى يقول لا ينعقد النكاح بلفظ البيع لأنه خاص لتمليك مال بمال والمملوك بالنكاح ليس بمال فأما لفظة الإجارة لا ينعقد بها النكاح لأنها غير موجبة ملكا يستفاد به ملك المتعة فإنها توجب ملك المنفعة وبملك المنفعة لا يستفاد ملك المتعة ويحكى عن الكرخي رحمه الله تعالى أنه كان يقول ينعقد به لأن المستوفى بالنكاح منفعة في الحقيقة وإن جعل في حكم العين وقد سمى الله تعالى العوض في النكاح أجرا بقوله عز وجل: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وذلك دليل على أنه بمنزلة الإجارة ولكن هذا فاسد فإن الإجارة شرعا لا تنعقد إلا مؤقتا والنكاح لا ينعقد إلا مؤبدا فبينهما مغايرة على سبيل المنافاة فأما لفظ الوصية لا ينعقد به النكاح لأنه لا يوجب الملك بنفسه بل موجبه الخلافة مضافة إلى ما بعد الموت ولو صرح بلفظ النكاح مضافا إلى ما بعد الموت لا يصح أيضا.
فإن قيل الهبة أيضا لا توجب الملك ما لم ينضم إليه القبض.(5/110)
قلنا الهبة لا توجب إضافة الملك ولكن لضعف في السبب لتعريه عن العوض يتأخر الملك إلى أن يتقوى بالقبض وينعدم ذلك الضعف إذا استعمل في النكاح لأن العوض يجب به بنفسه ولهذا جاز استعماله في حق الصغيرة والكبيرة فلهذا كان موجبا ملك النكاح بنفسه مع أن المملوك بالنكاح بنفس العقد يصير كالمقبوض ولهذا لو ماتت عقيب العقد تعذر البدل فكان هذا بمنزلة هبة عين في يد الموهوب له فيوجب الملك بنفسه.
فأما لفظ الأحلال والتمتع لا يوجب ملكا أصلا فأن من أحل لغيره طعاما أو أذن له أن يتمتع به لا يملكه وإنما يتلفه على ملك المبيح فكذلك إذا استعمل هذا اللفظ في موضع النكاح لا يثبت به الملك وإما الإعارة فكذلك فإنه لا يوجب ملكا يستفاد به ملك المتعة.(5/111)
ص -56- ... والإقراض في معنى الإعارة مع إن الإقراض في محل ملك المتعة لا يصح لأن محل ملك المتعة الآدمى والاستقراض في الحيوان لا يجوز فلهذا لا ينعقد النكاح بهذه الألفاظ بخلاف لفظة الهبة والصدقة ولكن باعتبار هذه الألفاظ تنعقد الشبهة فيسقط به الحد ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل عند الدخول.
قال: ولو قال أتزوجك بكذا فقالت قد فعلت فهو بمنزلة قولها قد تزوجتك لأنها أخرجت الكلام مخرج الجواب لخطابه فيصير ما تقدم من الخطاب كالمعاد فيه ولا يحتاج إلى أن يقول الزوج قبلت بخلاف البيع على ما بيناه فيما سبق وذكر في النوادر أنه إذا قال جئتك خاطبا فقالت قد فعلت أو زوجتك نفسي كان نكاحا تاما وفي الكتاب يقول إذا قال خطبتك إلى نفسك بكذا فقالت زوجتك نفسي فهو نكاح جائز إذا كان بمحضر من الشهود لأن هذا كلام الناس وليس بقياس معناه إنه بلفظ الخطبة لا ينعقد النكاح في القياس لأن الخطبة غير العقد ولكنه استحسن فقال المراد به في عادة الناس العقد فلأجل الفرق الظاهر جعلنا ذلك بمنزلة النكاح استحسانا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المهور(5/112)
قال: وعقد النكاح بغير تسمية المهر جائز ولها مهر مثلها من نسائها لا وكس ولا شطط إن دخل بها أو مات عنها وهذا مذهبنا أن مهر المثل يجب للمفوضة بنفس العقد وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وفي القول الآخر لا يجب المهر بنفس العقد وإنما يجب بالتراضي أو بقضاء القاضي حتى إذا مات أحدهما قبل الدخول فلا مهر لها عنده ومشايخهم رحمهم الله تعالى مختلفون فيما إذا دخل بها وأكثرهم على أنه يجب المهر بالدخول ومنهم من يقول لا يجب بالدخول أيضا واحتج بحديث عمر وعلي وابن عمر وزيد رضي الله عنهم أنهم قالوا حسبها الميراث ولا مهر لها والمعنى فيه أنها جادت بحقها وهي من أهل الجود فيصح منها كما لو وهبت شيئا من مالها وهذا لأن المستوفي بالنكاح إما أن يكون في حكم المنفعة كما هو مذهبي أو في حكم العين كما هو مذهبكم فإن كان في حكم العين فبدله بمنزلة أرش الطرف يخلص حقا لها ويسقط باسقاطها وإن كان بمنزلة المنفعة فبدل المنفعة لها والدليل عليه أنها يملك الإبراء عن المهر والشراء به شيئا وبهذا الطريق قال بعضهم إنه وإن دخل بها لا يجب المهر لأنها كما رضيت بثبوت الملك عليها بغير عوض فقد رضيت بالاستيفاء من غير عوض وأكثرهم على أن فيما يجب بالاستيفاء معنى حق الشرع ألا ترى أن ما يجب بالاستيفاء من العقوبة وهو حد الزنى يكون خالص حق الشرع فكذلك المال الذي يجب عند الاستيفاء لا يسقط برضاها بالاستيفاء بغير عوض وإلى هذا أشار الله تعالى في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] ولأن المعاوضة في النكاح بين(5/113)
ص -57- ... الزوجين حتى لا ينعقد النكاح إلا بذكرهما فأما المهر ليس بعوض أصلى ولكنه زائد وجب لها بازاء احتباسها عنده بمنزلة النفقة ومثل هذا يحتمل التعجيل والتأجيل.
ولكن النكاح كما لا ينعقد إلا موجبا لهذا الملك عليها لا ينعقد إلا بشرط التعويض فتارة يتعجل العوض بالتسمية وتارة يتأخر إلى التأكد بالدخول أو الفرض بالتراضي أو بالقضاء ألا ترى أن ملك اليمين تارة يثبت بعوض واجب بنفس العقد وتارة بشرط التعويض وإن لم يكن واجبا بنفس السبب والدليل عليه أن مهر المثل لا يتنصف بالطلاق قبل الدخول وما كان واجبا بنفس العقد يتنصف كالمسمى وحجتنا في ذلك ما روى أن سائلا سأل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن هذا فجعل يردده شهرا ثم قال أقول فيه بنفسي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله وإن يك خطأ فمن بن أم عبد.
وفي رواية فمنى ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان أرى لها مهر مثل نسائها لأوكس ولا شطط فقام رجل يقال له معقل بن سنان أو معقل بن يسار وأبو الجراح صاحب الأشجعين رضوان الله عليهم فقال نشهدان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق الأشجعية بمثل قضيتك هذه فسر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بذلك سرورا لم يسر قط مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/114)
والذي روى أن عليا رضي الله تعالى عنه رد هذا الحديث وقال ماذا نصنع بقول إعرابي بوال على عقبيه إنما رده لمذهب تفرد به وهو أنه كان يحلف الراوي ولم ير هذا الرجل حتى يحلفه ولسنا نأخذ بذلك والمعنى فيه أن النكاح عقد معاوضة بالمهر فإذا انعقد صحيحا كان موجبا للعوض كالبيع وكما لو زوج الأب ابنته بغير مهر وبيان الوصف قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] يعني تبتغوا ملك النكاح على النساء بالمال وحرف الباء يصحب الإعواض فدل أن العوض الأصلي هو المهر والدليل عليه أنه يثبت لها حق المطالبة بالفرض والفرض عبارة عن التقدير والمطالبة بالتقدير تنبني على وجوب الأصل ففي كل موضع لم يجب الأصل بالعقد لا تثبت المطالبة بالتقدير كما في ملك اليمين بطريق الهبة فعرفنا أن أصل الوجوب بالعقد شرعا وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50].
أضاف إلى نفسه وبين خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح بغير مهر فذلك دليل على أنه في غيره لا ينعقد إلا موجبا للمهر وإليه أشار أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه بقوله لا نكاح إلا بمهر وشهود إلا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه إنها تحبس نفسها لاستيفاء المهر ولا تحبس المبدل إلا ببدل واجب وإن بعد الدخول بها يجب ولا وجه لانكاره لأنه منصوص عليه في القرآن.
والدخول تصرف في الملك فإذا ثبت الملك بغير عوض لا يجب العوض بالتصرف فيه بعد ذلك ولا معنى لما يقول إن الملك يثبت بشرط التعويض لأن هذا العقد لا ينعقد إلا(5/115)
ص -58- ... بمعاوضة المال إظهارا لخطر هذا الملك وهنا إظهار الخطر إنما يظهر إذا وجب البدل بنفس الملك فكما أن الملك لا يحتمل التأخر عن حالة العقد فكذلك وجوب البدل إلا في حق من قصر عنه حكم هذا الخطاب وهم أهل الذمة كما بينا.
والطلاق قبل الدخول مسقط لأنه رفع للعقد من الأصل فيكون مسقطا للعوض وسقوط العوض عند وجود المسقط لا يكون دليلا على أنه لم يكن واجبا بالعقد وتنصف المسمى بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس وكان المعنى فيه أن المسمى تأكد بالتسمية والعقد جميعا فلتأكده لا يسقط كله لا بالطلاق ولا بالموت والنفقة ضعيفة من كل وجه لأنها لا تجب بالتسمية ولا بنفس العقد وتسقط بالطلاق والموت جميعا ومهر المثل ضعيف من كل وجه لأنه غير مسمى في العقد وقوي من وجه لأنه واجب بنفس العقد فلقوته من وجه لا يسقط بالموت ولضعفه من وجه يسقط كله بالطلاق قبل الدخول.
إذا عرفنا هذا فنقول نساؤها اللآتي يعتبر مهرها بمهورهن عشيرتها من قبل أبيها كأخواتها وعماتها وبنات عماتها عندنا وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى أمها وقوم أمها كالخالات ونحو ذلك لأن المهر قيمة بضع النساء فيعتبر فيه قرابتها من النساء ولكنا نقول قيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى قيمة جنسه والإنسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه ألا ترى أن الأم قد تكون أمة والبنت تكون قرشية تبعا لأبيها فلهذا اعتبر عشيرتها من قبل أبيها ولا يعتبر مهرها بمهر أمها إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت بنت عمه فحينئذ يعتبر مهرها لا لأنها أمها بل لأنها بنت عم أبيها وإنما يعتبر من عشيرتها امرأة هي مثلها في الحسن والجمال والسن والمال والبكارة لأن المهور تختلف باختلاف هذه الأوصاف. قال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لمالها وجمالها" الحديث. وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها ولا يعتبر مهرها بمهر عشيرتها في بلدة أخرى لأن المهور تختلف باختلاف البلدان عادة.(5/116)
وفي الحاصل مهر المثل قيمة البضع وقيمة الشيء إنما تعرف بالرجوع إلى نظيره بصفته قال فإن فرض لها الزوج بعد العقد مهرا فرضيت به أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهرا فهو سواء ولها ذلك أن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل أن يدخل بها فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول لها نصف المهر المفروض بعد العقد وهذا والمسمى في العقد سواء ثم رجع فقال لها المتعة وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأن الفرض بعد العقد يقدر بمهر المثل وقد بينا إن مهر المثل لا يتنصف بالطلاق قبل الدخول ولأن تنصف المسمى في العقد بالطلاق حكم ثبت بالنص بخلاف القياس والمفروض بعد العقد ليس في معناه لأنه وإن استند حكمه إلى وقت العقد لا يصير كالمسمى في العقد.(5/117)
ص -59- ... وعلى هذا لو تزوجها على مهر مسمى ثم زادها في المهر بعد العقد ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول تتنصف الزيادة والأصل بالطلاق لأن الزيادة بعد العقد مثل المسمى في العقد قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24]أي من فريضة بعد الفريضة وفي قوله الآخر لا يتنصف بالطلاق إلا المسمى في العقد خاصة لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي سميتم في العقد فأما الزيادة بعد العقد تسقط كلها بالطلاق وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى.
قال: وإذا اختلف الزوجان في المهر فقال الزوج ألف وقالت المرأة ألفان ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يحكم مهر مثلها وفي قول أبي يوسف وبن أبي ليلى رحمهما الله تعالى القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا.
وجه قولهما أنهما اختلفا في بدل عقد لا يحتمل الفسخ بالإقالة فيكون القول قول المنكر للزيادة كما لو اختلفا في بدل الخلع والعتق بمال ولا معني للمصير إلى تحكيم مهر المثل لأن وجود مهر المثل عند عدم التسمية وهنا مع اختلافهما اتفقا على أصل المسمى وذلك مانع وجوب مهر المثل ولا معنى للتحالف بينهما لأن التحالف لفسخ العقد بعد تمامه والنكاح لا يحتمل هذا النوع من الفسخ والدليل عليه أنه لو طلقها قبل الدخول كانلها نصف ما يقوله الزوج ولا يصار إلى تحكيم المتعة فكذا في حال قيام العقد لأن المتعة بعد الطلاق موجب نكاح لا تسمية فيه كمهر المثل قبله.(5/118)
وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لصحة النكاح في الشرع موجب وهو مهر المثل لا تقع البراءة عنه إلا بتسمية صحيحة فعند الاختلاف في المسمى يجب المصير إلى الموجب الأصلي كالصباغ ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر فإنه يصار إلى تحكيم قيمة الصبغ لهذا المعنى وهذا بخلاف القصار ورب الثوب إذا اختلفا في الأجر لأنه ليس لعمل القصار موجب بدون التسمية.
ثم النكاح عقد محتمل للفسخ فإنه يفسخ بخيار العتق وبخيار البلوغ وعدم الكفاءة ويستحق فيه التسليم والتسلم فيشبه البيع من هذا الوجه فإذا وقع الاختلاف في البدل يجب التحالف بخلاف الطلاق بمال والعتق بمال وأما إذا طلقها قبل الدخول يصار إلى تحكيم المتعة على ما نص عليه في الجامع ووضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف بينهما في المائة والمائتين.
فأما في كتاب النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا كان الاختلاف في الألف والألفين والمتعة لا تزيد على خمسمائة فلهذا قال لها نصف ما يقوله الزوج على أنه يجوز أن يصار إلى مهر المثل قبل الطلاق ولا يصار إلى المتعة بعد الطلاق كما إذا تزوجها على ألف وكرامة يكون لها نصف الألف بعد الطلاق ويكون لها كمال مهر المثل قبل الطلاق إذا لم(5/119)
ص -60- ... يف بما شرط لها من الكرامة وفي معنى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا قولان لمشايخنا:
أحدهما: أن يدعى ما دون العشرة فإنه مستنكر شرعا لأنه لا مهر أقل من عشرة دراهم والأصح أن مراده أن يدعى شيئا قليلا يعلم أنه لا يتزوج مثل تلك المرأة على ذلك المهر عادة فإنه ذكر هذا اللفظ في البيع أيضا فيما إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدا وليس في الثمن تقدير شرعا.
وأما بيان قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فقد كان الكرخي يقول يتحالفان في الإبتداء ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول يحكم مهر المثل أولا فإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر يشهد لها وإن كان ألف درهم أو أقل فالقول قول الزوج مع يمينه لأن الظاهر يشهد للزوج وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة فحينئذ يتحالفان ثم يقضي لها بمقدار مهر مثلها لأن المصير إلى التحالف إذا لم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له وذلك في هذا الموضع والأصح ما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى لأن ظهور مهر المثل عند عدم التسمية وذلك إنما يكون بعد التحالف فإن ما يدعى كل واحد منهما من المسمى ينتفي بيمين صاحبه فيبقى نكاحا بلا تسمية فيكون موجبه مهر المثل فعرفنا أنه لا بد من المصير إلى التحالف في الإبتداء.(5/120)
وأصل النكاح وإن كان لا يحتمل الفسخ بالتحالف فالتسمية تحتمل الإنتفاء فإذا تحالفا نظر إلى مهر مثلها فإن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان وإن كان ألفا أو أقل فلها الألف لاقرار الزوج به وإن كان ألفا وخمسمائة فلها مهر المثل وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه وأيهما أقام البينة وجب قبول بينته لأنه نور دعواه بالحجة فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة لأنها تثبت الزيادة والبينة مشروعة للإثبات وكذلك لو مات أحدهما قبل أن يتفقا ثم وقع الاختلاف بين الحي وورثة الميت فهو وورثة الميت على ما ذكرنا لأن الوارث يقوم مقام المورث فأما إذا ماتا معا فهنا فصلان:
أحدهما: أن يتفق الورثة إنه لم يكن في العقد تسمية.
والثاني: أن يختلف الورثة في المسمى.
أما في الأول فإنه يقضي لورثتها في تركة الزوج بمهر المثل في القياس وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأن مهر المثل وجب بنفس العقد كالمسمى فكما لا يسقط المسمى بعد موتهما فكذلك مهر المثل ألا ترى أن بعد موت أحدهما لا يسقط مهر المثل وورثة الميت يقومون مقامه في ذلك فكذلك بعد موتهما واستحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال لا يقضي بشيء واستدل في الكتاب فقال أرأيت لو ادعى ورثة(5/121)
ص -61- ... علي رضي الله عنه على ورثة عثمان رضي الله عنه مهر أم كلثوم اكنت تقضي فيه بشيء وهذا إشارة إلى أنه إنما يفوت هذا بعد تقادم العهد لأن مهر المثل يختلف باختلاف الأوقات فإذا تقادم العهد وانقرض أهل ذلك العصر يتعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل وعلى هذا الطريق إذا لم يكن العهد متقادما يقضي بمهر مثلها.
والطريق الآخران المستحق بالنكاح ثلاثة أشياء المسمى وهو إلا قوى والنفقة وهي الأضعف ومهر المثل وهو متوسط على ما قررنا.
فالمسمى لقوته لا يسقط بموتهما وموت أحدهما والنفقة لضعفها تسقط بموتهما وبموت أحدهما ومهر المثل يتردد بين ذلك فيسقط بموتهما ولا يسقط بموت أحدهما لأن ما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما ألا ترى أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا أن مهر المثل هل يسقط بموت أحدهما فيكون ذلك إتفاقا منهم على أنه يسقط بموتهما.
فإما إذا وقع الاختلاف في مقدار المسمى بعد موتهما فعلى قول محمد رحمه الله تعالى يصار إلى تحكيم مهر المثل لأن من أصله أن مهر المثل لا يسقط بموتهما فيكون هذا كالاختلاف الواقع بين الزوجين وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج إلا أن يأتوا بشيء مستنكر جدا كما لو وقع الاختلاف في حياتهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى القول قول ورثة الزوج أيضا لأن مهر المثل عنده لا يبقى بعد موتهما فلا يمكن المصير إلى التحالف وتحكيم مهر المثل فيبقى ظاهر الدعوى والإنكار فيكون القول قول ورثة الزوج إلا أن يقوم لورثة المرأة بينه على ما ادعوا من المسمي فحينئذ يقضي بذلك ويستوي في هذا كله إن دخل بها أو لم يدخل بها لأن ما قبل الدخول إنما يفارق ما بعد الدخول عند الطلاق أما عند الموت لا فرق لأن النكاح ينتهي بالموت.(5/122)
قال: وإذا تزوجها على بيت وخادم فلها من ذلك خادم وسط وبيت وسط والكلام هنا في فصول: أحدها: أن تسمية الخادم في النكاح صحيح عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح وكذلك لو تزوجها على عبد مطلق أو على أمه فلها عبد وسط أو أمة وسط فإن أتاها بالعين أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت على القبول وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تصح التسمية لأن النكاح عقد معاوضة فيكون قياس البيع والعبد المطلق لا يستحق بعقد البيع عوضا فكذلك بالنكاح وهذا أصل للشافعي رحمه الله تعالى أن كل ما لا يصح مسمى عوضا في البيع لا يستحق في النكاح لأن المقصود بالمسمى مهرا المالية وبمجرد ذكر الجنس بدون بيان الوصف لا تصير المالية معلومة فلا يصح التزامه بعقد المعاوضة لبقاء الجهالة والغرر فيه ألا ترى أنه لو سمى ثوبا أو دابة أو دارا لم تصح التسمية؟ فكذلك إذا سمى عبدا.(5/123)
ص -62- ... وحجتنا في ذلك أن المهر إنما يستحق عوضا عما ليس بمال والحيوان يثبت دينا في الذمة مطلقا في مبادلة ما ليس بمال. ألا ترى أن الشرع أوجب في الدية مائة من الإبل وأوجب في الجنين غرة عبدا أو أمة فإذا جاز أن يثبت الحيوان مطلقا دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال شرعا فكذلك يثبت شرطا وهذا لأن في معنى المالية هذا مال ملتزم ابتداء والجهالة المستدركة في التزام المال ابتداء لا تمنع صحته كما في الإقرار فإن من أقر لإنسان بعبد صح إقراره إلا أن هناك لا ينصرف إلى الوسط عند محمد رحمه الله تعالى لأن المقربة عينه ليس بعوض وهنا عين المهر عوض وإن كان باعتبار صفة المالية هذا إلتزام مبتدأ فلكونه عوضا صرفناه عند اطلاق التسمية إلى الوسط ليعتدل النظر من الجانبين.
كما أوجب الشرع في الزكوات الوسط نظرا إلى الفقراء وأرباب الأموال وبكونه ما لا يلتزم ابتداء لا تمنع جهالة الصفة صحة الالتزام ولهذا لو أتاها بالقيمة أجبرت على القبول لأن صحة الالتزام باعتبار صفة المالية والقيمة فيه كالعين وللاعتبار بما أوجبه الشرع من الدية فإن ذلك يتردد بين الإبل والدراهم والدنانير.
ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول لو لم تصح التسمية احتجنا إلى إيجاب مهر المثل لأن بفساد التسمية لا يبطل النكاح كما لا يبطل بترك التسمية وكل جهالة في المسمى إذا كانت دون جهالة مهر المثل فذلك لا يمنع صحة التسمية لأن بعض الجهالة يرتفع بهذه التسمية وكل جهالة هي مثل جهالة مهر المثل أو فوق جهالة مهر المثل تمنع صحة التسمية لأنه لا يحصل به شيء من الإعلام فجهالة العبد المسمى جهالة الصفة دون الجنس فأما جهالة مهر المثل جهالة جنس فصححنا فيه التسمية ليحصل بها التحرز عن بعض الجهالة.(5/124)
فأما جهالة الثوب فوق جهالة مهر المثل لأن اسم الثوب يتناول أجناسا مختلفة من القطن والكتان وإلا بريسم وغير ذلك وكذلك جهالة الدابة لأنها تتناول أجناسا مختلفة وكذلك جهالة الدار لأنها تختلف باختلاف البلدان والمحال والضيق والسعة وكثرة المرافق وقلتها فكانت تلك الجهالة فوق جهالة مهر المثل فلهذا لم تصح التسمية ووجب المصير إلى مهر المثل وبه فارق البيع فأنا لو لم نصحح التسمية مع جهالة الوصف هناك لا نحتاج إلى إيجاب جهالة أخرى لأنه يفسد البيع ويعود إليه عوضه وهو معلوم.
فأما إذا سمى في المهر بيتا فالمراد منه متاع البيت عادة دون البيت المسمى وهذا معروف بالعراق يتزوج على بيت أو بيتين فيريدون متاع البيت مما تجهز به تلك المرأة وينصرف إلى الوسط من ذلك لاعتبار معنى المعاوضة على ما قلنا ثم قال أبو حنيفة رضي الله عنه قيمة البيت أربعون درهما وقيمة الخادم أربعون دينارا وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هو على قدر الغلاء والرخص وليس هذا باختلاف في الحقيقة،(5/125)
ص -63- ... ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قصر فتواه على ما شاهده في زمانة وهما زادا على ذلك وبينا الفتوى في الأوقات والأمكنة كلها والأمر على ما قالا فإن القيم تختلف باختلاف الغلاء والرخص.
قال: والوسط من الخادم السندي وهذا لأن أرفع الخدم الأتراك وأدني الخدم الهنود فالسندي هو الوسط فيما بين ذلك ولكنه في بلادنا قلما يوجد السندي فالوسط أدنى إلا تراك وأعلى الهنود.
قال: وإن كان تزوجها على وصيف أبيض فلها خمسون دينارا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا أيضا بناء على ما شاهد في زمانه من التفاوت بين قيمة الوسط والجيد وذلك يختلف باختلاف الغلاء والرخص ولكن في زمانه كان هذا التفاوت بقدر عشرة دنانير فلهذا قدره به وإن أعطاها وصيفا أبيض لا يساوي ذلك فهو جائز لأنه وفي لها بما شرط واعتبار القيمة عند اختياره أداء القيمة فأما إذا اختار أداء العين فلا معتبر بالقيمة.
قال: وإن كانا من أهل البادية وقد تزوجها على بيت فلها بيت من شعر من بيوت أهل البادية وإن تزوجها على خادم فلها خادم وسط مما يعرف هناك لأن المعتبر في التسمية العرف ألا ترى أنه لو اشترى بدراهم مطلقا ينصرف إلى نقد البلد للعرف فهنا في كل موضع يعتبر العرف أيضا والمتعارف من تسمية البيت مطلقا فيما بين أهل البادية البيت من الشعر وفيما بين أهل الأمصار متاع البيت فصرفنا التسمية إلي ذلك في كل موضع.
قال: وإن تزوجها على شيء بعينه ولم تره فليس لها في ذلك خيار الرؤية لأن عدم الرؤية لما لم يمنع ثبوت صفة اللزوم فيما هو المقصود بهذا العقد وهي المنكوحة فكذلك في عوضه وكان المعنى فيه أن الفائدة في إثبات خيار الرؤية أن يتمكن به من إعادة العوض الذي خرج منه إليه وهذا في البيع يحصل لأنه ينفسخ بالرد وفي النكاح لا يحصل لأنه لا ينفسخ برد المسمى بخيار الرؤية ولكن تجب القيمة والقيمة غير مرئية كالعين فعرفنا أنه لا يستدرك بالرد فائدة.(5/126)
وكذلك لا ترد الصداق بالعيب إلا أن يكون فاحشا عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى كل عيب يرد به في البيع يرد به في الصداق وهو بناء على أصل بيننا وبينه أن عنده بالرد بالعيب تبطل التسمية فيجب مهر المثل وعندنا لا تبطل التسمية ولكن تجب قيمة المسمى فإن كان العيب يسيرا لا تستدرك بالرد فائدة إذ لا فرق بين عين الشيء وبه عيب يسير وبين قيمته وإذا كان العيب فاحشا فتستدرك بالرد فائدة لأنها ترجع بقيمته صحيحا وهذا هو حد الفرق بين اليسير والفاحش إن كل عيب ينقص من المالية مقدار ما لا يدخل تحت تقويم المقومين في الأسواق فهو عيب فاحش وإذا كان ينقص بقدر ما يدخل بين تقويم المقومين فهو عيب يسير.(5/127)
ص -64- ... وحجته لاثبات أصله أن الصداق مال مملوك بعقد معاوضة وهو مما ينفصل عن أصل العقد فتبطل التسمية بالرد كالبيع ولكن بطلان التسمية في النكاح لا يبطل النكاح كانعدام التسمية في الإبتداء ولكنا نقول السبب الموجب للمسمى هو العقد فلا يجوز الحكم ببطلان التسمية مع بقاء السبب الموجب له ولكن بالرد بالعيب يتعذر تسليم العين كما التزم فتجب قيمته كالمغصوب إذا أبق.
وعلى هذا الأصل إذا هلك الصداق قبل التسليم عندنا لا تبطل التسمية ولكن يجب على الزوج مثله إن كان من ذوات الأمثال وقيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال وعند الشافعي رحمه الله تعالى تبطل التسمية كما يبطل البيع بهلاك المبيع قبل القبض فيكون لها مهر مثلها وبعض أصحابه يقول لا تبطل التسمية بالهلاك عندنا ولكن تجب قيمة المسمى لتعذر تسليم العين فأما الرد بالعيب لا يكون إلا لرفع تلك التسمية فتبطل به التسمية وعلى هذا لو استحق المسمى بعينه لا تبطل التسمية لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا وبالاستحقاق لا تنعدم المالية ولكن يتعذر التسليم فيكون بمنزلة الهلاك في إنه يجب قيمته على الزوج.
قال: وإن كان الزوج أجر الصداق فالأجر له لأن الصداق في يده مضمون بنفسه كالمغصوب والغاصب إذا أجر المغصوب فالأجر له ولكن يتصدق به لأنه حصل له بكسب خبيث فكذلك الزوج وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى الأجر لها بناء على أصله أن المنافع عنده مال والأجر بدل ما هو مال لها فيكون بمنزلة العقر وأرش الطرف وعندنا المنافع ليست بمال متقوم وإنما تتقوم بالعقد والعاقد هو الزوج فكان الأجر له لأنه بعقده صير ما ليس بمتقوم من ملك الغير متقوما فهو كمن صنع كوزا من تراب غيره وباعه يكون الثمن له.
قال: فإن ولدت أو اكتسبت ما لا قبل التسليم فذلك كله للمرأة معها والحاصل أن الزيادة في الصداق قبل القبض نوعان: متصلة ومنفصلة.
فالمتصلة كالسمن في الجارية وانجلاء البياض عن العين.(5/128)
والزيادة المنفصلة أما متولدة من العين كالولد والثمار والعقر وإما غير متولدة من العين كالكسب والغلة وذلك كله يسلم للمرأة إذا دخل بها الزوج أو مات عنها لأنه يملك بملك الأصل وملك الأصل كان سالما لها وقد تقرر ذلك بالموت والدخول فكذلك الزيادة.
وأما إذا طلقها قبل الدخول بها فالزيادة المتولدة منفصلة كانت أو متصلة تتنصف بالطلاق مع الأصل لأنها في حكم جزء من العين والحادث من الزيادة بعد العقد قبل القبض كالموجود وقت العقد بدليل المبيعة فإن الزيادة المتولدة هناك كالموجود وقت العقد حتى يصير بمقابلتها شيء من الثمن عند القبض.(5/129)
ص -65- ... فأما الكسب والغلة لا تتنصف بالطلاق قبل الدخول بل يسلم الكل لها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأما في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تتنصف مع الأصل وكذلك لو جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول حتى يبطل ملكها عن جميع الصداق يسلم لها الكسب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يدور الكسب مع الأصل.
وكذلك المبيع قبل القبض إذا اكتسب كسبا ثم انفسخ البيع بهلاك المبيع قبل القبض عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يسلم الكسب للمشترى وعندهما هو للبائع وحجتهما في ذلك أن الكسب زيادة منفصلة عن الأصل فيكون قياس الولد فكما لا يسلم ذلك لها بعد ما بطل ملكها عن الأصل فكذلك هذا وهذا لأن بطلان ملكها عن الأصل بحكم انفساخ السبب فيه والزيادة إنما تملك بملك الأصل متولدة كانت أو غير متولدة فبعد ما انفسخ سبب الملك لها في الأصل لا يبقى سببا لملك الزيادة لها.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول السبب الذي به ملكت الكسب لم ينفسخ فيبقى ملك الكسب لها كما قبل الطلاق وبيان ذلك أن سبب ملك الكسب إما قبول العبد الهبة أو إجارته نفسه واكتسابه من حيث الاحتطاب والاحتشاش وشيء من هذه الأسباب لا ينفسخ بالطلاق وتأثيره أن الاكتساب يوجب الملك للمكتسب ولكن إذا لم يكن المكتسب من أهل الملك فمن يخلفه وهو مولاه يقوم مقامه في الملك بذلك السبب لوصلة الملك بينهما وقت الاكتساب تم ببطلان ملكه في الأصل بعد ذلك لا يتبين أنه لم يخلفه في الملك بذلك السبب.
وليس الكسب بمنزلة الزيادة المتولدة لأن المتولد جزء من الأصل يسري إليه ملك الأصل إلا أن يكون مملوكا بسبب حادث ألا ترى إن ولد المكاتبة يكون مكاتبا وكسبها لا يكون مكاتبا وولد المبيعة قبل القبض يكون مبيعا يقابله حصة من الثمن عند القبض وكسب المبيع لا يكون مبيعا فلا يقابله شيء من الثمن وإن قبض مع الأصل فظهر الفرق بينهما.(5/130)
وكذلك لو قبضت المرأة الأصل مع لزيادة المتولدة ثم طلقها قبل أن يدخل بها يتنصف الأصل والزيادة لأن حكم التنصف عند الطلاق ثبت في الكل حين كانت الزيادة حادثة قبل القبض فلا يسقط ذلك بقبضها.
ولو كانت قبضت الأصل قبل حدوث الزيادة ثم حدثت الزيادة في يدها ثم طلقها قبل الدخول فإن كانت الزيادة غير متولدة كالكسب والغلة فهو سالم لها وردت نصف الأصل على الزوج لأن حدوث الكسب كان بعد تمام ملكها ويدها فيكون سالما لها وإن لزمها رد الأصل أو بعضه كالمبيع إذا اكتسب في يد المشترى ثم رد الأصل بالعيب يبقى الكسب سالما له وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" وقد كان الصداق في ضمانها فمنفعته تسلم لها والكسب بدل المنفعة.
فأما إذا كانت الزيادة متولدة من العين فإن كانت منفصلة كالولد والثمار يمنع تنصف(5/131)
ص -66- ... الأصل بالطلاق وعود الكل إليه إذا جاءت الفرقة من قبلها ولكن للزوج عليها نصف قيمة الأصل أو جميع قيمته يوم دفع إليها وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يتنصف الأصل مع الزيادة بالطلاق ويعود الكل إلى الزوج إذا جاءت الفرقة من قبلها لأن بقبضها لا يتأكد ملكها ما لم يدخل بها بل توهم عود النصف إلى الزوج بالطلاق أو الكل إذا جاءت الفرقة من قبلها ثابت فيسرى ذلك الحق إلى الزيادة بمنزلة المشتراة شراء فاسدا إذا قبضها المشترى وازدادت زيادة منفصلة فإن البائع يستردها بزيادتها.
وروى بن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى قال في الطلاق يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الأصل وعند ردتها يسترد منها الأصل مع الزيادة لأن الردة تفسخ السبب مع الأصل فيكون الرد بحكم انفساخ السبب بمنزلة الرد بسبب فساد البيع وهناك حكم الرد يثبت في الأصل والزيادة فأما الطلاق حل العقد وليس بفسخ له من الأصل فلا يثبت حق الزوج في الزيادة التي لم تكن في ملكه ولا في يده ويتعذر تنصف الزيادة بتعذر تنصف الأصل.
ووجه ظاهر الرواية أنها ملكت الصداق بالعقد وتم ملكها بالقبض فالزيادة حدثت على ملك تام لها وحكم التنصف عند الطلاق إنما يثبت في المفروض في العقد والزيادة ما كانت مسماة في العقد لا حقيقة ولا حكما إذا لم يرد عليها القبض المستحق بالعقد فتعذر تنصفها وهي جزء من العين فيتعذر تنصفها بتعذر تنصف العين كالزيادة المنفصلة في المبيع تمنع رد الأصل بالعيب إذا كان حادثا بعد القبض وهذا بخلاف الزيادة المنفصلة في الموهوب فإنه لا يمنع الواهب من الرجوع في الأصل لأن الهبة عقد تبرع فإذا رجع في الأصل بقيت الزيادة للموهوب له بغير عوض وقد كان الأصل سالما له بغير عوض فيجوز أن تسلم الزيادة له أيضا بغير عوض.(5/132)
فأما البيع والنكاح معاوضة فبعد تعذر رد الزيادة لو أثبتنا حكم الرد في الأصل بقيت الزيادة سالمة بغير عوض وهو جزء من الأصل فلا يجوز أن يسلم الملك بغير عوض بعد رفع عقد المعاوضة بينهما فإذا تعذر تنصيف الأصل وجب عليها نصف القيمة للزوج لتعذر رد العين بعد تقرر السبب الموجب له وإنما دخل الصداق في ضمانها بالقبض فلهذا كان المعتبر القيمة وقت القبض.
فأما إذا كانت الزيادة متصلة كالسمن والجمال وانجلاء البياض فطلقها قبل أن يدخل بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى هذا والزيادة المنفصلة سواء وللزوج عليها نصف قيمة الصداق يوم قبضت وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يتنصف الأصل بزيادته وحجتهما في ذلك أن النكاح عقد معاوضة والزيادة المتصلة لا عبرة بها في عقود المعاوضات كما في البيع لو اشترى جارية بعبد وقبض الجارية فازدادت زيادة متصلة ثم هلك العبد قبل التسليم أو رده المشتري بعيب يسترد الجارية بزيادتها بخلاف ما لو كانت(5/133)
ص -67- ... الزيادة منفصلة وهذا لأن الزيادة المتصلة بمنزلة زيادة الشعر ألا ترى أنها لو حدثت قبل القبض لا ينقسم الثمن باعتبارها كزيادة الشعر فكذلك في الصداق وهذا بخلاف الموهوبة فإن الزيادة المتصلة فيها تمنع الرجوع لأن الهبة ليست بعقد ضمان فالقبض بحكمه لما لم يوجب ضمان العين على الموهوب له لم يبق للواهب حق في العين حتى تسرى إلى الزيادة وإذا تعذر الرجوع في الزيادة تعذر في الأصل لأن الأصل لا ينفصل عن الزيادة.
فأما قبضها الصداق قبض ضمان وثبوت الضمان لحق الزوج فبه يتبين بقاء حق الزوج في الأصل فيسري إلى الزيادة كما في البيع.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا هذه الزيادة حدثت من ملك صحيح تام لها فيكون سالما لها بكل حال كالزيادة المنفصلة وإذا تعذر تنصف الزيادة تعذر تنصف الأصل لما قال محمد رحمه الله تعالى والدليل عليه أن الصداق في حكم الصلة من وجه لأنها تملكه لا عوضا عن مال يستحق عليها والزيادة المتصلة في الصلات تمنع رد الأصل كالموهوب وتأثير الزيادة المتصلة في الصلات أكثر من تأثير الزيادة المنفصلة حتى أن الزيادة المنفصلة في الهبة لا تمنع الرجوع والمتصلة تمنع ثم الزيادة المنفصلة هنا تمنع تنصف الأصل فالمتصلة أولى.
فأما البيع فالصحيح أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الزيادة المتصلة هناك تمنع فسخ العقد من الأصل كالمنفصلة وما ذكر في المأذون فهو قول محمد رحمه الله تعالى خاصة وقد نص في كتاب البيوع على أن الزيادة المتصلة تمنع الفسخ بالتحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى كالزيادة المنفصلة ولو كان حدوث الزيادة في يدها بعد ما طلقها الزوج قبل الدخول يتنصف الأصل مع الزيادة لأن بالطلاق صاررد نصف الأصل مستحقا عليها فيسرى ذلك إلى الزيادة كالمشترى شراء فاسدا يرد بزيادته المتصلة والمنفصلة بخلاف ما قبل الطلاق.(5/134)
فأما حكم النقصان فإن تعيب الصداق في يد الزوج بعيب يسير فلا خيار للمرأة لأن العيب اليسير لو كان موجودا وقت العقد لم يثبت لها الخيار بسببه فكذا إذا حدث بعد العقد قبل القبض وعن زفر رحمه الله تعالى أنه يثبت لها الخيار أيضا لأنه تغير عليها شرط العقد فإنها استحقت الصداق بصفة السلامة وبالتعيب قد تغير ولكن هذا ينبغي على قوله في العيب الموجود وقت العقد أن يثبت لها الخيار أيضا إذ لا فرق بينهما فأما إذا حدث بالصداق عيب فاحش في يد الزوج فهو على خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون العيب بآفة سماوية فيثبت لها الخيار إن شاءت رجعت بقيمة الصداق يوم تزوجها على الزوج وإن شاءت أخذت المعيب ولا شيء لها من ضمان النقصان لأن الزوج عجز عن تسليم الصداق سليما كما أوجبه العقد فيثبت لها الخيار وإذا أرادت رجعت بالقيمة،(5/135)
ص -68- ... لأنه تعذر تسليم العين مع بقاء السبب الموجب له فإن اختارت الأخذ فلا شيء لها من ضمان النقصان على الزوج لأن الصداق مضمون عليه بالعقد والأوصاف لا تكون مضمونة بالعقد وعن زفر رحمه الله تعالى إن لها أن تضمن الزوج النقصان لأن الصداق مضمون في يد الزوج بنفسه كالمغصوب إذا تعيب في يد الغاصب كان للمغصوب منه أن يضمنه النقصان مع استرداد العين ولكنا نقول المغصوب مضمون بالقبض والأوصاف تضمن بالقبض.
والثاني: أن يكون التعيب بفعل الزوج فيكون لها الخيار للتغير وإن اختارت الأخذ ضمنت الزوج النقصان وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه ليس لها حق تضمين النقصان لأنه مضمون على الزوج بالعقد فكان بمنزلة المبيع والبائع إذا عيب المبيع قبل القبض لا يلزمه ضمان النقصان للمشتري فهذا مثله ووجه ظاهر الرواية أن الزوج أتلف جزء من الصداق ولو أتلف الكل ضمن قيمة الكل فكذلك إذا أتلف جزءا منه وبه فارق البيع فإن البائع هناك لو أتلف الكل لم يضمنه فكذا إذا أتلف الجزء ثم المعنى فيه أن المبيع مضمون بالثمن وفيما هو مضمون به فصلنا بين العيب بفعل البائع وبآفة سماوية حتى أنه إذا تعيب بفعل البائع سقطت حصته من الثمن عن المشتري بخلاف ما إذا تعيب بآفة سماوية فهنا أيضا يفصل بينهما فيما إذا كان الصداق مضمونا به وهو القيمة وهذا لأن الاتلاف من الزوج يتحقق في الأوصاف كما يتحقق في الأصل بخلاف ما إذا تعيب بغير فعله فإن الضمان هناك بالعقد والعقد لا يتناول الأوصاف مقصودا.
الثالث: ان يكون التعيب بفعل الصداق بنفسه ففي ظاهر الرواية هذا كالعيب بآفة سماوية لأن فعله بنفسه هدر وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا بمنزلة تغييب الزوج لأنه مضمون عليه وفعل المضمون كفعل الضامن في استحقاق موجبه عليه كما في المغصوب.(5/136)
الرابع: إن حصل التعيب بفعل الأجنبي يجب عليه ضمان النقصان ويكون ضمان النقصان بمنزلة الزيادة المتولدة قبل القبض فيثبت لها الخيار للتغير فإذا اختارت الأخذ رجعت على الجاني بضمان النقصان وإن اختارت تضمين الزوج القيمة رجع الزوج على الجاني بضمان النقصان ولو أرادت أن تأخذ العين وتضمن الزوج النقصان لم يكن لها ذلك لانعدام الصنع من الزوج في التعيب.
الخامس: أن يكون التعيب بفعل المرأة فتصير به قابضة للصداق لأنها أتلفت جزء منه فتكون قابضة لذلك الجزء بالإتلاف ولما وراء ذلك بالتخلي ولا خيار لها في ذلك.
والذي بينا في هذه الفصول فيما إذا دخل بها الزوج أو مات عنها فأما إذا لم يدخل بها فهي في حق النصف إذا طلقها قبل الدخول كما في الكل إذا طلقها بعد الدخول فأما إذا تعيب في يد المرأة بعد ما قبضت الصداق فهو على خمسة أوجه أيضا أما إذا تعيب بآفة سماوية ثم طلقها الزوج قبل أن يدخل بها فهو بالخيار إن شاء ضمنها نصف قيمته يوم قبضت(5/137)
ص -69- ... لتعذر رد النصف كما قبضت وإن شاء أخذ النصف ناقصا وليس عليها من ضمان النقصان شيء لأن الصداق كان مملوكا لها ملكا تاما فتعيبه في يدها لا يلزمها شيئا من ضمان النقصان وكذلك لو كان التعيب بفعل الصداق بنفسه فهو كالتعيب بآفة سماوية لأن فعله بنفسه هدر وكذلك لو كان التعيب بفعل المرأة لأن فعلها صادف ملكا صحيحا لها فلا يكون موجبا ضمان النقصان عليها بخلاف فعل الزوج قبل القبض فإنه صادف ملكها فيصلح أن يكون موجبا للضمان عليه.
فأما إذا كان التعيب في يدها بفعل أجنبي فإن الأجنبي ضامن للنقصان وذلك بمنزلة الزيادة المنفصلة المتولدة لأنه بدل جزء من عينها فيمنع تنصف الأصل بالطلاق وإنما يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الصداق يوم قبضت وكذلك أن كان التعيب بفعل الزوج لأن الزوج بمنزلة الأجنبي في جنايته على الصداق بعد التسليم إليها فكان فعله كفعل أجنبي آخر في إيجاب الإرش وذلك يمنع تنصف الصداق بالطلاق.
وإن كان التعيب في يدها بعد الطلاق كان للزوج أن يأخذ نصف الأصل مع نصف النقصان لأن السبب فسد في النصف بالطلاق وصار مستحق الرد على الزوج فكان في يدها في هذه الحالة بمنزلة المقبوض بحكم شراء فاسد فيلزمها ضمان النقصان إذا تعيب بافة سماوية أو بفعله بنفسه أو بفعلها لأنه مضمون عليها بالقبض والأوصاف تضمن بالقبض كالمغصوب وإن كان التعيب بفعل الأجنبي فالأرش بمنزلة الزيادة المنفصلة وقد بينا حكمه ووقع في المختصر أن التعيب في يدها قبل الطلاق وبعده في الحكم سواء وهو غلط بل الصحيح من الجواب في كل فصل ما ذكرنا.(5/138)
قال: وإن كان المهر جارية فلم تقبضها المرأة حتى وطئها الزوج فولدت فادعى ولدها لم يصدق على ذلك لأنها مملوكة للمرأة والاستيلاد في ملكها غير صحيح إلا أن الحد سقط عن الزوج لأن الصداق مضمون عليه بالعقد بمنزلة المبيع في يد البائع فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد وإذا سقط الحد لزمه العقر فكان العقر مع الولد زيادة منفصلة متولدة من الأصل لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين والعقر بدل عن ذلك.
فإذا طلقها قبل الدخول تنصف الكل فتكون الجارية بينهما ولا تصيرام ولد للزوج لأن حق أمومية الولد يثبت لها باعتبار ثبوت نسب الولد ونسب الولد غير ثابت هنا فكذلك لا يثبت لها حق أمومية الولد ولكن نصف الولد يعتق على الزوج لأنه ملك ولده من الزنى فيعتق عليه باعتبار الجزئية ويسعى للمرأة في نصف القيمة لأن نصيبها احتبس عند الولد ولا يصير الزوج ضامنا لأنه ما صنع في الولد شيئا إنما صنعه في الطلاق وذلك ليس بمباشرة لا عتاق الولد بل من حكم الطلاق عود النصف إلى الزوج ثم يعتق عليه حكما لملكه ولكنها ترجع عليه بنصف العقر لأن العقر تنصف بينهما.(5/139)
ص -70- ... فإن قتلت الخادم أو ماتت عند المرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فللزوج عليها نصف القيمة يوم قبضت لأنه تعذر عليها رد نصف الصداق بعد تقرر السبب الموجب له ولا سبيل للزوج على القاتل لأن فعله ما لاقى ملك الزوج فإنه حين قتلها كان الخادم ملكا للمرأة فلهذا لم يكن للزوج أن يضمن القاتل شيئا.
قال: وإن كانت ازدادت في يدها زيادة متصلة فهلكت ثم طلقها قبل الدخول فإنه يرجع عليها بنصف قيمة الصداق يوم قبضت وكذلك أن استهلكت لأنها أتلفت ملك نفسها فلا يلزمها بالاتلاف شيء ولكنها بالقبض تصير ضامنة للزوج نصف قيمتها حين قبضت.
قال: ولو كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل فهلكت في يدها ثم طلقها قبل أن يدخل بها تنصف الأصل لأن المانع من تنصيف الأصل هو الزيادة فحين مات ولم يخلف بدلا صار كان لم يكن فيتنصف الأصل إلا أنه أن كانت الزيادة ولدا وقد نقصتها الولادة ثبت للزوج الخيار للنقصان الحادث في يدها في الصداق وإن لم يتمكن نقصان بسبب الولادة فلا خيار له إلا أن تكون المرأة هي التي استهلكت الولد فحينئذ يكون له الخيار بمنزلة الجارية المبيعة إذا ولدت فأتلف المشتري ولدها ثم أراد رد الأصل بالعيب.
ولو كانت الولادة في يد الزوج فهلك الولد لم يضمن الزوج شيئا لأن الولد حدث بغير صنعه وهلك بغير صنعه بمنزلة ولد المغصوبة ولكن أن تمكن نقصان بسبب الولادة يثبت لها الخيار لأجل النقصان وأن كان الزوج هو الذي أتلف الأصل والزيادة ضمن قيمتها للمرأة لأن الزيادة أمانة في يده فيضمنها بالاتلاف كالمغصوبة وإن طلقها قبل الدخول ضمن لها نصف الأصل والزيادة.(5/140)
قال: وإن كانت الجارية قائمة عند الزوج فاعتقها الزوج لم يجز عتقه لأنه أعتق ما لا يملك وكذلك لو طلقها قبل الدخول لم ينفذ ذلك العتق لأنه سبق ملكه ولو كانت المرأة هي التي أعتقتها نفذ عتقها في الكل لمصادفته ملكها ثم إذا طلقها الزوج ضمنها نصف قيمتها يوم أعتقتها لأنها بالاعتاق تصير قابضة متلفة.
قال: وإن كانت المرأة قبضت الصداق وهو جارية ثم طلقها قبل أن يدخل بها ثم أعتقها الزوج لم ينفذ عتقه في شيء منها وعند زفر رحمه الله تعالى ينفذ عتقه في نصفها لأن من أصله أن حكم التنصيف يثبت بنفس الطلاق ويعود نصفها إلى ملك الزوج كما لو كان قبل القبض فينفذ عتقه في نصيبه ولكنا نقول سبب ملكها في النصف يفسد بالطلاق حتى يستحق عليها رد النصف ولكن لا يبطل ملكها في شيء إلا بالرد بقضاء أو رضاء لأن فساد السبب في الإبتداء لا يمنع ثبوت الملك بالقبض فلأن لا يمنع بقاء الملك أولى فإذا لم يعد شيء من العين إلى الزوج لا ينفذ عتقه.
قال: ولو قضى القاضي له بنصفها بعد ذلك لا ينفذ ذلك العتق السابق لأنه سبق ملكه،(5/141)
ص -71- ... بمنزله المشتراة شراء فاسدا وقد قبضها المشتري وأعتقها البائع ثم ردت عليه لم ينفذ العتق وإن كان أعتقها بعد ما قضى له القاضي بنصفها أو ردت المرأة عليه النصف بالتراضي نفذ عتقه فيكون حكمه كحكم جارية بين رجلين أعتقها أحدهماولو كانت هي التي أعتقت الجارية بعد الطلاق نفذ عتقها في الكل وكذلك إن باعت أو وهبت لأن الملك في الكل باق لها قبل قضاء القاضي وإذا نفذ تصرفها فقد تعذر عليها رد النصف بعد تقرر السبب الموجب له فتضمن نصف قيمتها للزوج يوم قبضت ولو وطئت الجارية بالشبهة حتى غرم الواطى ء عقرها فحكم العقر كحكم الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل وكحكم الأرش لأنه بدل جزء من عينها فإنالمستوفي بالوطء في حكم العين دون المنفعة.
قال: ولا شفعة في الدار التي تتزوج عليها المرأة وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أيضا لأن الشفعة في الدار لو وجبت إنما تجب للجار وهو لا يوجب الشفعة للجار أصلا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى تجب الشفعة.(5/142)
قال: ولو تزوجها على شقص من دار لم تجب فيه الشفعة عندنا وعند بن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله تعالى تجب لأن النصف ملك بعقد معاوضة فكان كالمملوك بالشراء فتجب فيه الشفعة بقيمة العوض والعوض هو البضع وقيمته مهر المثل وهو كمن اشترى دارا بعبد يأخذها الشفيع بقيمة العبد وعندنا وجوب الشفعة يختص بمعاوضة مال بمال بمطلق والبضع ليس بمال مطلق فكان المملوك صداقا بمنزلة الموهوب فلا تجب فيها الشفعة وهذا لأن الشفيع إنما يتملك بمثل السبب الذي به تملك المشتري فإن الشرع قدم الشفيع على المشترى في إثبات حق الأخذ له بذلك السبب لا في إنشاء سبب آخر ولهذا لا تجب الشفعة في الموهوب لأنه لو أخذه أخذه بعوض فكان سببا آخر غير السبب الذي تملك به المتملك فكذلك هنا المرأة إنما ملكت الدار بالنكاح صداقا فلو أخذها الشفيع كان شراء فكان سببا آخر بخلاف ما إذا اشتراها بعبد فإن الشفيع يأخذها بمثل ذلك السبب لأن الشراء بقيمة العبد بمنزلة الشراء بعين العبد في أنه شراء مطلق.
قال: وإذا تزوجها على دار على أن ترد المرأة عليه ألف درهم لم يجب للشفيع الشفعة في شيء من الدار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما تقسم الدار على الألف وعلى مهر مثلها فما يخص الألف تجب الشفعة فيه للشفيع لأن العقد فيما يخص الألف شراء وفيما يخص البضع نكاح ألا ترى أنه يثبت فيه حكم الشراء من الرد بالعيب اليسير والفاحش وغيره من أحكام البيع وكذلك حكم الصرف يثبت فيه لو تزوجها على مائة دينار على أن ترد عليه ألف درهم يجب التقابض في حصة الصرف ويجوز أن تستحق الشفعة في بعض ما تتناوله الصفقة دون البعض كما لو اشترى دارا وعبدا صفقة واحدة فإنه تجب الشفعة في الدار دون العبد.(5/143)
ص -72- ... ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن البيع هنا تبع للنكاح لأن البيع لم يكن مقصودا بهذه الصفقة وإنما كان المقصود النكاح ألا ترى أنه تتوقف حصة البيع على قبول المرأة إذا حصل العقد من فضولي والشراء مقصودا لا يتوقف وكذلك ينعقد بلفظه الرد ولا يحتاج فيه إلى القبول حتى إذا قال زوجيني نفسك على هذه الدار على أن تردي علي ألفا فقالت فعلت يتم بدون قبول الزوج وأنها لو قبلت حصة النكاح دون البيع صح ولو قبلت حصة البيع دون النكاح لم يصح.
وإذا ثبت أن الشراء تبع للنكاح فنقول إذا لم تجب الشفعة باعتبار الأصل لا تجب باعتبار التبع كالعرصة الموقوفة إذا كان عليها بناء لم تجب الشفعة في ذلك البناء وهذا لأن المقصود بالأخذ بالشفعة دفع ضرر الجار الحادث ولا يحصل هذا المقصود إذا لم تجب الشفعة فيما هو الأصل بخلاف الرد بالعيب فإنه يثبت باعتبار البيع لأن العيب في الأصل فوات وصف هو تبع وكذلك حكم الصرف يثبت فيما هو تبع كالصفائح من الذهب في الدار المشتراة بالفضة يثبت فيها حكم الصرف.
قال: ولو تزوج امرأة على كذا من الأبل أو البقر أو الغنم فلها العدد المسمى من الوسط من ذلك الجنس وإن أتى بقيمة ذلك أجبرت على القبول بمنزلة ما لو تزوجها على عبد وقد بيناه.
قال: والأثواب الهروية وغيرها من أجناس الثياب كذلك وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتزوجها على ثوب هروي بعينه فلها ذلك الثوب إن كان هرويا وإن لم يكن هرويا وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لها قيمة ثوب هروي وسط وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لها الخيار أن شاءت أخذت الثوب بعينه وإن شاءت طالبت الزوج بقيمة ثوب هروي وسط لأن العقد أضيف إلى عين ذلك الثوب ولكنها وجدته على خلاف شرطها فلها الخيار كما لو وجدته معيبا ولكنا نقول المشار إليه ليس من جنس المسمى فيتعلق العقد بالمسمى دون المشار إليه وهو أصل معروف نقرره في موضعه إن شاء الله تعالى.(5/144)
ولو تزوجها على ثوب هروي بغير عينه ولم يبين الصفة فإن أتاها بالثوب أجبرت على القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت أيضا بمنزلة العبد المطلق لأن الثوب الذي هو غير موصوف لا تثبت عينه في الذمة ثبوتا صحيحا وإنما صحت هذه التسمية باعتبار المالية والثوب في ذلك وقيمته سواء وإن بين صفة هذا الثوب فعلى قول زفر رحمه الله تعالى تجبر على قبول القيمة إذا أتاها بها وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن ذكر الأجل مع ذلك لم تجبر على قبول القيمة وإن لم يذكر الأجل أجبرت عليه لأن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا صحيحا إلا مؤجلا إلا ترى أنه لا يجوز استقراضها ويجوز السلم فيها لأن القرض لا يكون إلا حالا والسلم لا يكون إلا مؤجلا فعند ذكر الأجل يثبت الثوب دينا ثبوتا صحيحا فلا(5/145)
ص -73- ... تجبر على قبول القيمة وعند عدم ذكر الأجل لا يثبت ثبوتا صحيحا وزفر رحمه الله تعالى يقول الثوب يثبت في الذمة موصوفا ثبوتا صحيحا لأن بالمبالغة في ذكر وصفه يلتحق بذوات الأمثال ولهذا يجوز السلم فيه واشتراط الأجل هناك من حكم السلم لا من حكم ثبوت الثياب دينا في الذمة فيستوي في هذا أن ذكر الأجل أو لم يذكر ولكنا نقول لو باع عبدا بثياب موصوفة في الذمة لا يجوز إلا مؤجلا وإن لم يكن العقد سلما فعرفنا أن الثياب لا تثبت دينا ثبوتا صحيحا إلا مؤجلا.
قال: فإن تزوجها على مكيل أو موزون فإن سمى جنسه وصفته ومقداره لم تجبر على قبول القيمة إذا أتاها بها لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة موصوفا ثبوتا صحيحا حالا كان أو مؤجلا بدليل جواز استقراضها والسلم فيها فإن لم يذكر الصفة ففي ظاهر الرواية إذا أتاها بالقيمة أجبرت على القبول لأنها بتسمية الجنس بدون الصفة لا تثبت في الذمة ثبوتا صحيحا وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنها لا تجبر على قبول القيمة لأن التسمية متى صحت بذكر الجنس تعين الوسط من ذلك الجنس كما في العبد والثوب الهروي فما تعين من الوصف شرعا يكون كالمذكور نصا فلا تجبر على قبول القيمة.
قال: فإن تزوجها على دراهم أو شيء من العروض لا تبلغ قيمته عشرة دراهم فإنه يكمل لها عشرة دراهم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها ما سمى والأصل عنده أن كل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح صداقا في النكاح وعندنا أدنى المهر عشرة دراهم من الفضة أو مما تكون الفضة فيه غالبة على الغش واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "المهر جائز قليله وكثيره" وفي رواية: "المهر ما تراضى عليه الأهلون". وفي رواية: "من استحل بدرهم فقد استحل".(5/146)
وروى أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير فيها رغبة فقال: "مالي حاجة إلى النساء" فقالت: زوجني ممن شئت فقام رجل فقال زوجها مني فقال: "ماذا تصدقها؟" فقال أزاري هذه فقال: "آذا قعدت ولا إزار لك التمس ولو بفلس التمس ولو خاتما من حديد" فقال لا أجد فقال: "هل تحسن شيئا من القرآن؟" فقال نعم سورة كذا فقال: "زوجتكها بما عندك من القرآن".
فهذه الآثار تدل على أن المهر لا يتقدر بشيء وكذلك في الكتاب الشرط هو المال المطلق قال الله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فتقييد ذلك المال بالعشرة يكون زيادة على النص وحجتنا في ذلك حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من الأكفاء ولا مهر أقل من عشرة دراهم" وفي حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في أقل من عشرة دراهم ولا مهر أقل من عشرة دراهم".
وفي الكتاب قال بلغنا ذلك عن علي وابن عمر وعائشة وعامر وإبراهيم رضوان الله(5/147)
ص -74- ... عليهم أجمعين والمعنى فيه أنه بدل في عقد لم يجعل إيجاب أصله إلى المتعاقدين فيكون مقدرا شرعا كالدية وبيان ذلك أن النكاح لا ينعقد صحيحا إلا موجبا للعوض أما في الحال أو في الثاني على ما بينا وإنما كان اشتراط العوض فيه شرعا لا ظهار خطر البضع ولا يحصل هذا المقصود بأصل المالية فاسم المال يتناول الخطير والحقير وإنما يحصل إظهار الخطر بمال مقدر وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] والبضع من وجه في حكم النفوس حتى لا يسقط حكم الفعل فيه بالبدل ولأن الوطء سبب لا علاق النفس وإذا كان بغير ملك يضيع لانعدام من ينفق عليه فكان الخطر هنا في معنى الخطر في النفوس والمال الذي هو بدل عن النفوس مقدر شرعا وهوالدية وهذا لأن كل مال أوجبه الشرع تولى بيان مقداره كالزكاة وغيرها فكذا الصداق مما أوجبه الشرع فيكون مقدرا شرعا وإليه أشار الله تعالى في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] الآية معناه ما قدرنا فإن الفرض عبارة عن التقدير.
وعلى هذا نصاب السرقة يدخله التقدير بالإتفاق لأنه يستباح به ما لا يستباح بالبدل فكذلك الصداق وتأويل الآثار المروية فيما يعجله لها باليد ألا ترى أنه أمر ذلك الرجل بالإلتماس والصداق يمكن إثباته في الذمة فعرفنا أن المراد ما يعجله لها باليد وذلك غير مقدر شرعا عندنا وإذا ثبت هذا فنقول إذا تزوجها على خمسة دراهم فلها عشرة دراهم استحسانا في قول علمائنا الثلاثة أن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بها فلها خمسة وفي القياس لها مهر مثلها أن دخل بها والمتعة أن طلقها قبل الدخول بها وهو قول زفر رحمه الله تعالى وجه القياس أنه سمى ما لا يصلح أن يكون صداقا لها شرعا فيكون بمنزلة ما لو سمى لها خمرا أو خنزيرا وللاستحسان وجهان:(5/148)
أحدهما: أن العشرة في كونها صداقا لا تتجزى وذكر بعض ما لا يتجزى كذكر كله كما لو تزوج نصفها صح النكاح في الكل جميعا.
والثاني: أن الأمهار إلى تمام العشرة حق الشرع وما زاد على ذلك حقها فإذا رضيت بالخمسة فقد أسقطت ما هو حقها وبعض ما هو حق الشرع فيعمل اسقاطها فيما هو حقها وهو الزيادة على العشرة ولا يعمل في حق الشرع وعلى هذا لو تزوجها على ثوب يساوي خمسة فلها الثوب وخمسة دراهم وإن طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف وإنما تعتبر قيمة الثوب يوم تزوجها عليه وكذلك أن سمى لها مكيلا أو موزونا لأن تقدير المهر واعتباره عند العقد.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في الثوب تعتبر قيمته يوم القبض وفي المكيل والموزون يوم العقد لأن المكيل والموزون يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا بنفس العقد والثوب لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يتردد بينه وبين القيمة فلهذا يعتبر قيمته وقت القبض.(5/149)
ص -75- ... قال: وإذا تزوجها على غير مهر مسمى ثم طلقها قبل الدخول فلها المتعة لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] وأدني المتعة درع وخمار وملحفة هكذا روى عن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أن المتعة ثلاثة أثواب لأن المرأة تصلي في ثلاثة أثواب وتخرج في ثلاثة أثواب عادة فيكون ذلك متعة لها تذكرة من الزوج إذا فارقها قبل أن يدخل بها وعند الشافعي رحمه الله تعالى المتعة شيء نفيس من ثوب أو خادم أو فرس أو نحو ذلك إلا أن يكون مهر مثلها أقل من قيمة المتعة فحينئذ يكون لها نصف مهر مثلها لا ينقص من خمسة دراهم عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها المتعة ولا معتبر بمهر المثل لأنه سقط بالطلاق قبل الدخول فلا معنى لاعتباره بعد ذلك ولكنا نقول النكاح الذي فيه تسمية في حكم الصداق أقوى مما لا تسمية فيه فإذا كان في العقد الذي فيه التسمية لا يجب لها بالطلاق أكثر من نصف ما كان واجبا قبله فكذلك في النكاح الذي لا تسمية فيه وقد كان الواجب قبل الطلاق مهر المثل فلا تزاد المتعة على نصف مهر المثل وإن كانا سواء فالواجب هو المتعة لأنها فريضة في كتاب الله تعالى فعند المساواة تترجح المتعة.(5/150)
قال: ولو تزوجها على ما في بطن جاريته أو على ما في بطن أغنامه لم تصح التسمية لأن شرط صحة التسمية كون المسمى مالا وما في البطن ليس بمال متقوم وهذا بخلاف الخلع فإنه لو خالعها على ما في بطن جاريتها صحت التسمية لأن ما في البطن بعرض أن يصير مالا بالإنفصال واحد العوضين في الخلع يحتمل الإضافة وهو الطلاق فالعوض الآخر كذلك يحتمل الإضافة فإذا سمي ما في البطن فكإنه أضاف التسمية إلى ما بعد الإنفصال وفي النكاح أحد العوضين لا يحتمل الإضافة فالعوض الآخر كذلك والمسمى في الحال ليس بمال فكان لها مهر مثلها وكذلك لو تزوجها على ما تحمل نخله أو تخرج أرضه العام أو على ما يكتسب غلامه لأن المسمى معدوم وتأثير العدم أبلغ من تأثير الجهالة فإذا كان لا يصح تسمية مجهول الجنس كالثوب والدابة فتسمية المعدوم أولى أن لا تصح.
قال: ولو تزوجها على عبد بعينه فوجدته حرا فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر قيمة ذلك الشخص أن لو كان عبدا وكذلك لو تزوجها على هذه الشاة المذبوحة فإذا هي ميتة أو تزوجها على هذا الدن من الخل فإذا هو خمر فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها مهر مثلها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها مثل ذلك الدن من خل وسط.
أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول سمي لها في العقد مالا وهو العبد والذكية والخل فصحت التسمية ثم تعذر تسليم المسمى بما ظهر فتجب القيمة فيما ليس من ذوات(5/151)
ص -76- ... الأمثال والمثل فيما هو من ذوات الأمثال كما لو تعذر تسليم المسمى بالهلاك في يد الزوج وهذا لأنه حين ظهر حرا فقد استحق نفسه فيجعل كاستحقاق الغير إياه.
ولو تزوجها على عبد فاستحق كان لها قيمته فكذلك إذا استحق نفسه بالحرية وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الأصل أن الإشارة والتسمية إذا اجتمعتا فإن كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد بالمشار إليه وإن كان من غير جنس المسمى يتعلق العقد بالمسمى الا ترى إنه لو اشترى فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج كان البيع باطلا لأن المشار إليه من غير جنس المسمى فيتعلق العقد بالمسمى والمسمى معدوم وبيع المعدوم باطل ولو اشترى فصا على أنه ياقوت أحمر فإذا هو ياقوت أصفر جاز البيع لأن المشار إليه من جنس المسمى فيتعلق العقد بالمشار إليه لأن الإشارة أبلغ في التعريف لأنها تقطع الشركة من كل وجه.
إذا عرفنا هذا فنقول الحر والعبد جنس واحد فإن الآدمي باعتبار الأصل حر ثم يعترض الرق فيه والأعتاق إتلاف لذلك الرق العارض فلا يوجب تبديل الجنس واختلاف الجنس إما باختلاف الأصل أو الهيثة أو المقصود وذلك لا يوجد بين الأحرار والعبيد فإذا اتحد الجنس تعلق العقد بالمشار إليه وهو الحر دون المسمى والمشار إليه ليس بمال فلا يصح تسميته بخلاف عبد الغير فإنه مال متقوم وإن كان لا يقدر على تسليمه وعلى هذه الذكية والميتة فإن الجنس واحد فيتعلق العقد بالمشار إليه.
فأما محمد رحمه الله تعالى في الخمر والخل قال هما جنسان مختلفان لأن المقصود منهما يختلف وكذلك الخل قط لا يصير في مثل حال الخمر والخمر اسم لعين حرام والخل اسم لمطعوم حلال فكانا جنسين فيتعلق العقد بالمسمى والمسمى هو الخل فلهذا كان لها مثل ذلك الدن من الخل.(5/152)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الخل والخمر جنس واحد فإن الأصل واحد والهيئة واحدة وهذه أوصاف تعترض على العين فلا توجب تبديل الجنس كالصغر والكبر في الأدمى فإن الحلاوة في العصير بمنزلة الحلاوة التي تكون في الصغر ثم الشدة في الخمر بمنزلة الحدة والقوة التي تكون في الشباب ثم الحموضة في الخل بمنزلة حال الشيخوخة فكما إن بتبدل الأحوال لا يختلف جنس الآدمى فكذلك بتبدل الأحوال في العصير فإذا كان الجنس واحدا تعلق العقد بالمشار إليه والمشار إليه ليس بمال فلهذا كان لها مثلها.
قال: فإن تزوجها على أمة فولدت عنده ثم مات ولدها فليس على الزوج في الولد ضمان لأنه لم يصنع في الولد شيئا ولا يكون حاله أعلى من حال ولد المغصوبة ولكن لها الأمة أن دخل بها ولا خيار لها أن كان نقصان الولادة يسيرا كما لو تعببت في يد الزوج بعيب يسير سوى نقصان الولادة وإن كان النقصان فاحشا فلها الخيار إن شاءت أخذت الجارية ولا يضمن الزوج شيئا من النقصان وإن شاءت أخذت قيمتها يوم تزوجها عليها لأن(5/153)
ص -77- ... نقصان الولادة كالعيب السماوي وقد كان الولد جابرا لذلك النقصان فأما إذا مات الولد ظهر النقصان لانعدام ما يجبره وقد بينا ثبوت الخيار لها في العيب السماوي بهذه الصفة وإن كان الزوج قتل الولد ضمن لها قيمته لأنه كان أمانة في يده فيضمنه بالإتلاف فإن كان في قيمته وفاء نقصان الولادة لم يضمن نقصان الولادة لأن قيمة الولد قائمة مقام الولد فيكون جابرا للنقصان وإن لم يكن فيها وفاء فعليه تمام ذلك به أجاب في الكتاب وهو غلط فقد بين في الإبتداء أن الزوج لا يضمن نقصان الولادة عند موت الولد فكذلك لا يضمن ما زاد على قيمة الولد من قدر النقصان ولكنه إذا كان يسيرا فلا خيار لها وإن كان فاحشا فلها الخيار كما بينا.
قال: وإذا أخذت المرأة رهنا بصداقها وقيمته مثل الصداق فهلك عندها فهو كما فيه لأن دين الصداق يستوفي كسائر الديون والرهن يثبت يد الاستيفاء ويتم الاستيفاء به عند هلاك الرهن قال صلى الله عليه وسلم "الرهن بما فيه" فصارت عند هلاك الرهن مستوفيه لصداقها بمنزلة ما لو استوفت حقيقة فإن طلقها قبل أن يدخل بها ضمنها نصف الصداق كما لو كانت استوفت حقيقة وإن كان هلاك الرهن بعد الطلاق فلا ضمان عليها في ذلك لأن بالطلاق قبل الدخول سقط نصف الصداق من غير عوض غرمه الزوج ولو سقط الكل بابرائها خرج الرهن من أن يكون مضمونا في الكل فكذلك إذا سقط النصف فإنما يبقى ضمان الرهن بما بقى وعند هلاكه إنما صارت مستوفيه لما بقي فلهذا لا تغرم له شيئا بخلاف الأول فإن عند هلاكه إنما صارت مستوفيه لما بقى فلهذا لا تغرم له شيئا بخلاف الأول فإن عند هلاك الرهن كان جميع الصداق واجبا هناك فصارت مستوفيه للكل فلهذا لزمها رد النصف بعد الطلاق.(5/154)
قال: ولو لم يكن في النكاح تسمية ورهن عندها بمهر المثل رهنا صح الرهن لأن مهر المثل كالمسمى في كونه دينا واجب الاستيفاء فإن هلك الرهن وفي قيمته وفاء بمهر المثل صارت مستوفيه وإن طلقها قبل أن يدخل بها فعليها أن ترد ما زاد على قدر المتعة لأن قدر المتعة هنا كنصف المسمى هناك فعليها أن ترد ما زاد على ذلك وإن طلقها قبل الدخول بها والرهن قائم فليس لها أن تحبس الرهن بالمتعة في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر وهو القياس وفي قوله الأول وهو الاستحسان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لها أن تحبس الرهن بالمتعة لوجهين.
أحدهما: أن المتعة بمنزلة جزء من أجزاء مهر المثل ألا ترى أن في النكاح الذي فيه التسمية ما يجب بعد الطلاق جزء مما كان فيه فكذا في النكاح الذي لا تسمية فيه وهذا لأن الطلاق مسقط فلا يصلح أن يكون موجبا فعرفنا أن ما بقي بعض ما كان واجبا قبل الطلاق والرهن بالدين يكون محبوسا بكل جزء منه.
والثاني: أن المتعة خلف عن مهر المثل لأنه يجب عند سقوط مهر المثل بالسبب الذي كان يجب به مهر المثل وهو النكاح وهذا هو حد الأصل والخلف ثم الرهن بالشيء يكون محبوسا بما هو خلف عنه كالرهن بالعين المغصوبة يكون محبوسا بقيمتها.(5/155)
ص -78- ... ووجه قوله الآخران المتعة دين حادث سوى مهر المثل والمحبوس بدين لا يكون محبوسا بدين آخر سواه والدليل على أنه من خلاف جنس مهر المثل فإن المتعة ثياب ومهر المثل من النقود ولأن مهر المثل قيمة بضعها والمتعة تذكرة لها ولا يلتقيان بحال فإن مهر المثل يجب في حال قيام النكاح والمتعة تجب بعد ارتفاع النكاح والدليل عليه أن الكفيل بمهر المثل لا يكون كفيلا بالمتعة فإذا ثبت إنهما دينان مختلفان لم يكن الرهن بأحدهما محبوسا بالآخر فإذا هلك الرهن في يدها قبل أن تمنعه لم يكن عليها ضمان ولكنها في قوله الأول تصير مستوفيه للمتعة وفي قوله الآخر لا تصير مستوفيه فلها أن تطالب الزوج بالمتعة وإن منعت الرهن على الزوج بعد مطالبته حتى هلك ففي قوله الأول لاضمان عليها لأنها حبسته لحق وفي قوله الآخر هي ضامنة للزوج قيمة المرهون لأنها حبسته بغير حق فصارت غاصبة ضامنة.
قال: فإن تزوجها على غير مهر مسمى ثم فرض لها بعد العقد دارا فلا شفعة للشفيع فيها لأن الفرض بعد العقد تقدير مهر المثل ومهر المثل بدل البضع فلا شفعة فيه ولهذا لو طلقها قبل الدخول بها كان عليها ان ترد الدار وترجع على الزوج بالمتعة وان كان سمى في العقد مهرا ثم باعها داره به كان للشفيع فيها الشفعة لأنها ملكت الدار شراء بالمهر ولو طلقها قبل أن يدخل بها كانت الدار سالمة لها لأن الشراء لا يبطل بالطلاق ولكنها ترد نصف المسمى على الزوج لأنها صارت مستوفيه للصداق بالشراء.(5/156)
قال: ولو تزوجها على أن يشتري لها هذه الدار ويعطيها إياها مهرا أو قال أتزوجك على هذه الدار على أن أشتريها فاسلمها إليك كان لها أن تأخذه بذلك لأنه شرط لها ذلك والوفاء بالشرط واجب فإن عجز عن ذلك فعليه قيمة الدار لها وأن طلقها قبل الدخول فلها نصف القيمة لأن التسمية صحيحة فإن المسمى مال وإن كان الزوج عاجزا عن تسليمه وقت العقد لأن القدرة على تسليم الصداق لا تشترط لصحة التسمية فإن القدرة على التسليم فيما يقابل الصداق ليس بشرط لصحة العقد ولكن شرط صحة العقد فيه صفة الحل فكذا في الصداق شرط صحة التسمية صفة المالية وقد وجد فإذا تحقق عجزه عن تسليم المسمى تلزمه قيمته وهذا بخلاف الكتابة فإنه لو كاتب عبده على عبد الغير فإنه لا يجوز على الرواية التي تجوز الكتابة على العين لأن عقد الكتابة كالبيع من حيث أنه يحتمل الفسخ ولا يصح إلا بتسمية البدل فكما أن العجز عن التسليم في البيع يمنع صحة العقد فكذا في الكتابة.
قال: وإن تزوجها على دار فاستحق نصفها خيرت في النصف الباقي لأن التشقيص في الأملاك المجتمعة عيب فاحش فإن نصف الدار لا يشتري بنصف ما يشتري به جميع الدار عادة وقد بينا أن ما لا يدخل تحت تقويم المقومين فهو عيب فاحش فإن شاءت ردت النصف الباقي بالعيب ورجعت بجميع قيمة الدار وإن شاءت أمسكت ورجعت بنصف قيمة(5/157)
ص -79- ... الدار وإن طلقها قبل الدخول كان لها النصف الذي في يدها لأن حقها بعد الطلاق في نصف الدار ونصف الدار سالم لها فلا ترجع بشيء آخر عليه.
قال: ولو تزوجها على مهر مسمى ثم زاد فيه جازت الزيادة أن دخل بها أو مات عنها إلا على قول زفر رحمه الله تعالى أصله الزيادة في الثمن بعد العقد وهي مسألة البيوع ودليلنا لجواز الزيادة هنا قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] من بعد الفريضة معناه من فريضة بعد الفريضة ولو طلقها قبل الدخول بها بطلت الزيادة إلا في قول أبي يوسف الأول وقد بيناه.
قال: وإذا تزوجها على مهر في السر وسمع في العلانية بأكثر منه يؤخذ بالعلانية وهذا على وجهين:
إن كانا تواضعا في السر على مهر ثم تعاقدا في العلانية بأكثر منه فالمهر مهر العلانية لأن تلك المواضعة ما كانت لازمة وجعل ما عقدا عليه في العلانية بمنزلة الزيادة في مهرها إلا أن يكون أشهد عليها أو على وليها الذي زوجها منه أن المهر هو الذي في السر والعلانية سمعة فحينئذ المهر ما سمي لها في السر لأنهما في الإشهاد أظهرا أن مرادهما الهزل بالزيادة على مهر السر والهزل ببعض المسمى مانع من الوجوب إلا على قول بن أبي ليلي رحمه الله تعالى فإنه يقول كما لا يعمل الهزل في جانب المنكوحة فكذلك في جانب الصداق فيكون مهرها مهر العلانية.(5/158)
فإما إذا تعاقدا في السر بألف وأشهدا أنهما يجدد أن العقد بالفين سمعة فالمهر هو الأول لأن العقد الثاني بعد الأول لغو وبالإشهاد علمنا أنهما قصدا الهزل بما سمعا فيه وإن لم يشهدا في ذلك فالذي أشار إليه في الكتاب أن المهر هو مهر العلانية ويكون هذا منه زيادة لها في المهر قالوا وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى المهر هو الأول لأن العقد الثاني لغو فما ذكر فيه من الزيادة أيضا يلغو وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أصل العقد الثاني وإن صار لغوا فما ذكر فيه من الزيادة يكون معتبرا بمنزلة من قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني فإنه لما لغي صريح كلامه عندهما لم يعتق العبد وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأن لغي صريح كلامه في حكم النسب بقي معتبرا في حق العتق قال: وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ردت عليه عبدا فهو جائز لأنها بذلت شيئين بإزاء الألف البضع والعبد فيقسم الألف على قيمة العبد ومهر مثلها فما أصاب العبد يكون شراء حتى إذا مات العبد قبل التسليم أو وجد الزوج به عيبا فرده بطل ذلك القدر وما أصاب مهر المثل فهو صداق لها حتى إذا طلقها قبل الدخول كان لها نصف ذلك.
قال: وإن تزوجها على أبيها وقيمته ألف درهم على أن ردت عليه أمة قيمتها ألفان جاز ذلك وعتق الأب قبضته أو لم تقبضه لأن الأب مقسوم على مهر مثلها وعلى قيمة الأمة فما(5/159)
ص -80- ... يخص قيمة الأمة تكون مشترية له بالأمة وما يخص مهر المثل يكون صداقا لها وكلا السببين يوجب الملك بنفسه فإذا ملكت الأب عتق عليها ثم إذا طلقها قبل الدخول فعليها رد نصف ما يخص مهر المثل من قيمة أبيها لأنها صارت قابضة للأب بالعتق وحصة الصداق منه تتنصف بالطلاق وقد عجزت عن رده فعليها رد نصف قيمة ذلك.
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ترد عليه ألف درهم فلها مهر مثلها بمنزلة ما لو لم يسم لها مهرا لأن الألف المذكورة بمقابلة الألف المشروطة عليها فإن الأموال الربوية متى قوبلت بجنسها يكون الجنس بمقابلة المثل لأن المقابلة باعتبار المالية والمالية مع القدرة لا تتفاوت فإذا صارت الألف بمقابلة الألف بقى النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها.
قال: وإن تزوجها على ألف على أن ترد عليه مائة دينار جاز وتقسم الألف على مائة دينار وعلى مهر مثلها فما أصاب الدنانير يكون صرفا فيشترط فيه التقابض في المجلس وما يخص مهر المثل يكون صداقا فإذا طلقها قبل الدخول ردت نصف ذلك على الزوج إن كانت قبضت الألف وهذا لأن المقابلة هنا بخلاف الجنس وعند اختلاف الجنس المقابلة باعتبار القيمة لأن الجودة لها قيمة في هذه الحالة والدنانير في حكم المقابلة كالعروض ولو تفرقا قبل التقابض بطلت حصة الدنانير من الدراهم لوجود الإفتراق قبل القبض في عقد الصرف وفي هذه الوجوه إن كانت حصة مهر المثل من الألف أقل من عشرة يكمل لها عشرة كما لو تزوجها على ذلك القدر.(5/160)
ولو تزوجها على ألف درهم وعلى أن يطلق امرأته فلانة وعلى أن ردت عليه عبدا فنقول المرأة بذلت شيئين البضع والعبد والزوج بذل الألف وشرط الطلاق في ضرتها فيقسم الألف على مهر مثلها وعلى قيمة العبد فإن كانا سواء صار نصف الألف ثمنا للعبد ونصف الألف صداق لها فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلها نصف ذلك وإن دخل نظر فإن كان مهر مثلها خمسمائة أو أقل فليس لها إلا ذلك وإن كان مهر مثلها أكثر من ذلك فإن وفي بالشرط بأن طلق امرأته فلانة فليس لها إلا الخمسمائة وإن أبي أن يطلق لم يجبر على ذلك لأنه شرط الطلاق وإيقاع الطلاق لا يصح التزامه في الذمة فلا يلزمه بالشرط شيء ولكن لها كمال مهر مثلها لأن لها في طلاق ضرتها منفعة فإنما رضيت بدون مهر مثلها بشرط أن تسلم لها هذه المنفعة فإذا لم تسلم كان لها كمال مهر مثلها.
قال: ولو كان تزوجها على ألف درهم وعلى طلاق فلانة على أن ردت عليه عبدا فهنا يقع الطلاق بنفس العقد بخلاف الأول لأن هناك شرط أن يطلق فما لم يطلق لم يقع وهنا أوجب الطلاق بالعقد عوضا والعوض يثبت بنفس العقد فلهذا يقع الطلاق هنا والزوج بذل شيئين الالف والطلاق والمرأة بذلت شيئين البضع والعبد والشيئان متى قوبلا بشيئين(5/161)
ص -81- ... ينقسم كل واحد منهما على الاخرين فإذا كان مهر المثل وقيمة العبد سواء كان نصف الالف ونصف الطلاق بمقابلة العبد ثمنا ونصف الالف ونصف الطلاق صداق لها.
فإذا طلقها قبل الدخول بها كان لها مائتان وخمسون والطلاق الواقع على الضرة بائن لأن بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع فكان الطلاق بجعل فيكون بائنا وإن لم يكن الجعل مشروطا على المطلقة وإنما جعلنا نصف العبد ونصف البضع بمقابلة الطلاق لأن المجهول إذا ضم إلى المعلوم فالانقسام باعتبار الذات دون القيمة وإن استحق العبد أو هلك قبل التسليم رجع بحصة خمسمائة حصة العبد لما قلنا وتتنصف قيمة العبد أيضا لأن نصف العبد بمقابلة نصف الطلاق واستحقاق الجعل أو هلاكه قبل التسليم يوجب قيمته على من كان ملتزما تسليمه فلذا رجع بقيمة ذلك النصف.
قال: ولو تزوجها على ألف درهم وعلى أن يطلق فلانة فأبى أن يطلقها فلها كمال مهر مثلها عندنا لأنها إنما رضيت بالألف باعتبار منفعة طلاق الضرة فإذا لم يسلم لها ذلك فلها كمال مهر مثلها كما لو تزوجها على ألف وكرامتها أو يهدي إليها هدية وعلى قول زفر رحمه الله تعالى أن شرط لها مع الألف ما هو مال كالهدية والكرامة فكذلك الجواب وإن شرط ما ليس بمال كطلاق الضرة فليس لها إلا الألف لأن المال يتقوم بالإتلاف فكذلك يمنع التسليم إذا شرط لها في العقد فأما الطلاق ونحوه لا يتقوم بالإتلاف فكذا لا يتقوم بمنع التسليم ولكنا نقول لا نوجب الزيادة باعتبار تقوم ما شرط لها ولكن لانعدام رضاها بالألف بدون المنفعة المشروطة.(5/162)
قال: ولو تزوجها على خمر أو خنزير وهما مسلمان كان لها مهر مثلها عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى النكاح فاسد لأن تسمية الخمر والخنزير يمنع وجوب عوض آخر ولا يمكن إيجاب الخمر بالعقد على المسلم فكان باطلا كما لو باع عبدا بخمر ولكنا نقول هما شرطا قبول الخمر وهو شرط فاسد إلا أن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة وشرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا فإذا لم يكن بطلت التسمية فكأنه لم يسم لها عوضا فلهذا كان لها مهر مثلها وهكذا نقول في البيع أنه يصير كأنه لم يسم ثمنا والبيع يفسد عند عدم تسمية الثمن.
قال: ولو تزوجها على ألف وعلى أرطال معلومة من خمر فليس لها سوى الألف لأن تسمية الخمر والسكوت عنها سواء كما قلنا وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا تزوجها على هذا الدن من الخمر وقيمة الدن عشرة دراهم فلها الدن دون الخمر لأن الدن متقوم فيصير كأنه سمى لها الخمر مع العشرة وفي رواية أخرى أن لها مهر مثلها لأن المقصود بهذه التسمية المظروف دون الظرف والمظروف ليس بمال.
قال: ولو تزوجها على هذا الخمر فإذا هو خل أو على هذا الحر فإذا هو عبد فعلى(5/163)
ص -82- ... رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لها المشار إليه وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن لها مهر مثلها لأنه صرح بتسمية ما ليس بمال والأصح رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى لما بينا فيما سبق أن عنده إذا كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق الحكم بالمشار إليه والمشار إليه مال متقوم.
قال: ولو تزوجها على ألف درهم أن لم يكن له امرأة وعلى ألفى درهم أن كانت له امرأة أو على ألف درهم أن لم يخرجها من الكوفة وعلى ألفين أن أخرجها أو قدم شرط الألفين في الفصلين فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المذكور أولا صحيح في الوجهين والثاني فاسد حتى إذا طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المذكور أولا وإن دخل بها فإن وفي بالشرط فلها الألف وإن لم يوف لها بالشرط فلها مهر مثلها لا يجاوز بها ألفي درهم لأنها رضيت بالألف باعتبار منفعة مشروطة فإذا لم تنل ذلك كان لها مهر مثلها ولكنها رضيت بالألفين بيقين فلهذا لا يجاوز به ألفين وإنما جوز الشرط الأول دون الثاني لأن موجب العقد مع بقائه قد تم بذكر الشرط الأول واستقر بذلك فبذكر الشرط الثاني قصد تغير موجب العقد مع بقائه فلا يكون ذلك صحيحا.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الشرطان جائزان على ما اشترطا وعند زفر رحمه الله تعالى الشرطان فاسدان فيكون لها مهر مثلها لا ينقص عن الألف ولا يزاد عن الألفين وأصل المسألة في كتاب الإجارات إذا دفع إلى خياط ثوبا وقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم وسنبينهاثمة مع نظائرها إن شاء الله تعالى.
قال: وإن تزوجها على ألف وكرامتها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف لأن مهر المثل سقط بالطلاق قبل الدخول واشتراط الزيادة المجهولة إنما كان معتبرا في حال قيام العقد لا يجاب مهر المثل بقوله وقد سقط مهر المثل بالطلاق فكان لها نصف الألف كما لو لم يشترط تلك الزيادة أصلا.(5/164)
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم أو ألفين فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحكم مهر المثل فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فلها الألف وأن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان وأن كان أكثر من ألف وأقل من ألفين فلها مهر مثلها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها الألف في الوجوه كلها وحجتهما ذلك أن تسمية المال في النكاح منفصل عن العقد بدليل أنه لا يتوقف العقد على ذكره فكان ذلك بمنزلة التزام المال من غير عقد فإنما يجب القدر المتيقن به كمن أقر لإنسان بألف أو ألفين ولأن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه والتخيير بين الألف والألفين فيه لا يمنع صحة العقد فكان قياس الطلاق بمال والعتق بمال وهناك إذا سمى الألف أو الألفين يجب القدر المتيقن به ولا وجه إلى الرجوع إلى مهر المثل لأنه موجب نكاح لا تسمية فيه وبالتخيير لا تنعدم التسمية.(5/165)
ص -83- ... وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول النكاح عقد يستحق فيه التسليم والسلم فالتخيبر في المسمى فيه بين الأقل والأكثر يمنع صحة التسمية كالبيع بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يحتاج فيه إلى التسليم والتسلم إلا أن في البيع انعدام التسمية يمنع صحة البيع فكذا جهالة المسمى بخلاف النكاح وهذا لأن هذه الجهالة كجهالة مهر المثل أو أقوى منها فإنه متردد بين أجناس مختلفة تارة وبين المقادير المختلفة تارة ومثل هذه الجهالة يمنع صحة التسمية فإذا لم تصح التسمية يصار إلى الموجب الأصلي وهو مهر المثل وبه فارق الطلاق والعتاق لأنه لا موجب لذلك العقد في الأصل حتى لا يجب شيء عند عدم ذكر البدل فلهذا أوجبنا الأقل وبخلاف الإقرار لأن المال المقر به ليس بعوض فلو عينا الأقل لا يكون فيه بخس لحق المقر له وهنا الصداق عوض عما يستحق عليها وفي تعيين الأقل بخس لحقها والنظر واجب من الجانبين فحكمنا مهر المثل لهذا.(5/166)
قال: وكذا إذا تزوجها على هذا العبد الحبشي أو على هذا العبد الأبيض فهو على ما بينا من تحكيم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ووجوب الأوكس لها عندهما إلا أن يعطي الزوج الأفضل فحينئذ يجوز ذلك لأنه تبرع عليها وهذا عندهما بمنزلة ما لو قال على أن أعطيك أيهما شئت ولو صرح بهذا كان له أن يعطيها أيهما شاء أن شرط المشيئة لنفسه وكان لها أن تأخذ أيهما شاءت أن شرط المشيئة لها ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول باشتراط الخيار لأحدهما تنعدم المنازعة بينها ويستبد من له الخيار بالتعيين فلهذا صحت التسمية وعند عدم شرط الخيار تتحقق المنازعة وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الآخر فكانت التسمية فاسدة كما في البيع إذا باع أحد العبدين لا يجوز ولو سمى لكل واحد منهما ثمنا وشرط الخيار فيه لأحدهما جاز ولو طلقها قبل الدخول فلها نصف الأوكس وفي الفصل الأول لها نصف الألف لأن الزيادة على ذلك كانت باعتبار مهر المثل وقد سقط مهر المثل بالطلاق فلهذا كان لها نصف الأقل.
قال: وإن تزوجها على حكمه أو على حكمها أو على حكم رجل أجنبي فهذه التسمية فاسدة للجهالة وهذه الجهالة فوق جهالة مهر المثل إلا أنه أضاف الحكم إلى نفسه فإن حكم لها بمهر المثل أو أكثر جاز حكمه لأنه يحكم بالزيادة على نفسه وله هذه الولاية وإن حكم بأقل من مهر مثلها لم يجز بدون رضاها لأنه حكم عليها بإسقاط بعض حقها وليس له هذه الولاية عليها وإن أضاف الحكم إليها فإن حكمت بمهر المثل أو أقل فلها ذلك لأنها تحكم على نفسها وإن حكمت بأكثر من مهر مثلها لم يجز حكمها بدون رضا الزوج. لأنها تحكم على الزوج بالزيادة وليس لها عليه هذه الولاية وإن أضاف الحكم إلى الأجنبي فإن حكم بمهر المثل جاز ذلك وإن حكم بأقل من مهر المثل لم يجز بدون رضاها وإن حكم بأكثر من مهر المثل لم يجز بدون رضا الزوج.(5/167)
ص -84- ... قال: ولا يجب المهر على من قبل النكاح لغيره بوكالة أو ولاية على صغيره أو على عبده أو على مكاتبه ما لم يضمنه ولها المهر على الزوج لحديث علي رضي الله عنه الصداق على من أخذ الساق ولأن تسليم المعقود عليه إلى الزوج فوجب البدل عليه أيضا والعاقد معبر عنه حتى لا يستغني عن إضافة العقد إليه فلا يكون ملتزما للبدل إلا أن يضمنه فيؤاخذ بالضمان حينئذ.
قال: وإذا تزوج الحربي الحربية من غير مهر أو على ميتة ثم أسلما فلا مهر لها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر كما في الذميين على ما بينا وعندهما في الذميين إنما يجب المهر لأن الخطاب بالابتغاء بالمال شائع في دار الإسلام وأهل الذمة ملتزمون لا حكامنا في المعاملات فإما في دار الحرب الخطاب به غير شائع وهم غير ملتزمين لاحكامنا فلهذا لا شيء لها وإذا أسلما بعد ذلك فالحال حال بقاء النكاح والصداق ليس بشرط في حال بقاء النكاح.
قال: ولو تزوجها على مهر مسمى ثم أسلما أو صارا ذمة فلها ذلك المسمي لأنه صار دينا لها عليه بالتسمية في عقد صحيح فلا يزيده الإسلام إلا وكادة وأن طلقها قبل أن يدخل بها ثم أسلما فلها أن تأخذه بنصف المسمى لأن الطلاق قبل الدخول لا يسقط عنه إلا النصف فيبقى مطالبا بما زاد على ذلك ولو لم يكن سمى لها شيئا فلا متعة لها عليه لأن في حال قيام النكاح ما كان لها عليه شيء وإن أسلما فبعد الطلاق أولى.(5/168)
قال: رجل تزوج امرأتين على ألف درهم فالألف بينهما على قدر مهر كل واحد منهما لأن المال الواحد إذا قوبل بشيئين مختلفين بعقد المعاوضة ينقسم على مقدار قيمتهما كما لو اشترى عبدين بألف درهم وقيمة البضع مهر المثل فإن طلق إحداهما قبل الدخول كان لها نصف حصتها من الألف فإن طلقهما كان لهما نصف الألف بينهما على قدر مهريهما فإن كانت إحداهما ممن لا يحل له بأن كانت ذات زوج أو معتدة من زوج أو محرمة عليه برضاع أو صهرية فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الألف كلها مهر التي تحل له وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقسم الألف على قدر مهريهما فمهر التي تحل له حصتها من ذلك وحجتهما أن الألف مسمي بمقابلة البضعين وإنما التزمها الزوج عند سلامة البضعين له فإذا لم يسلم له إلا أحدهما لا يلزمه إلا حصتها من الألف كما لو خاطب امرأتين بالنكاح بألف فأجابت أحداهما دون الأخرى وكما لو اشترى عبدين فإذا أحدهما مدبر.
والدليل عليه: أن الانقسام جعل معتبرا في حق التي لا تحل له حتى لو دخل بها يلزمه مهر مثلها لا يجاوز به حصتها من الألف عليه نص في الزيادات وادعى المناقضة على أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذا وكذلك يدخل في العقد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى لا يلزمه الحد بوطئها مع العلم ومن ضرورة دخولها في العقد انقسام البدل المسمى.(5/169)
ص -85- ... وعندهما إنما يجب الحد لانتفاء شبهة الحل فإن العقد لا ينعقد في غير محل الحل وسقوط الحد من حكم انعقاد العقد فأما الانقسام من حكم التسمية لا من حكم انعقاد العقد كما لو أجابته إحدى المرأتين دون الآخرى.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك وقال ضم التي لا تحل له إلى التي تحل له في عقد النكاح لغو فهو بمنزلة ضم جدار أو أسطوانة إلى المرأة في النكاح وهناك البدل المسمى كله بمقابلتها دون ما ضمه إليها فكذا هنا وبيان ذلك أن النكاح يختص بمحل الحل لأن موجبه ملك الحل وبين الحل والحرمة في المحل منافاة ففي حق المحرمة العقد مضاف إلى غير محله وانقسام البدل من حكم المعاوضة والمساواة في الدخول في العقد فإذا انعدم ذلك لا يثبت الانقسام ألا ترى أنه لو طلق امرأته ثلاثا بألف درهم كان بإزاء كل تطليقة ثلث الألف ولو كانت عنده بتطليقة واحدة فطلقها ثلاثا بألف درهم كانت الألف كلها بمقابلة الواحدة وهذا بخلاف ما إذا خاطبهما بالنكاح لأنهما استويا في الايجاب حتى لو أجابتاه صح نكاحهما جميعا فيثبت حكم انقسام البدل بالمساواة في الإيجاب.
وكذلك المدبر مع العبد فإنه مال مملوك فيدخل تحت العقد ثم يستحق نفسه بحق الحرية ولهذا لو قضى القاضي بجواز بيعه جاز فأما إذا دخل بالتي لا تحل له ففي هذا الكتاب يقول لها مهر مثلها مطلقا وهو الأصح على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وما ذكر في الزيادات فهو قولهما وبعد التسليم يقول المنع من المجاوزة بمجرد التسمية ورضاها بالقدر المسمى لا نعقاد العقد وذلك موجود في حق التي لا تحل له فإما الانقسام للاستحقاق باعتبار الدخول في العقد فالتي تحل له هي المختصة بذلك فكان جميع البدل لها وكذلك سقوط الحد على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى من حكم صورة العقد لا من حكم انعقاده وقد وجد ذلك في حق التي لا تحل له فأما انقسام البدل من حكم انعقاد العقد.(5/170)
قال: رجل تزوج امرأة على عبد ودفعه إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد جنى العبد عندها جناية فالزوج بالخيار لأن تعلق الجناية برقبته من أفحش العيوب فإنه شبيه باستحقاق نفسه وذلك مثبت الخيار للزوج فإن أخذ نصفه دفعاه أو فدياه لأنه لا يتملكه ابتداء بالطلاق ولكن يعود إليه هذا النصف إلى قديم ملكه ولم يوجد من المرأة صنع يكون اختيارا أو استهلاكا فلهذا تبقي الجناية متعلقة برقبته فيخاطب كل واحد منهما بدفع النصف أو الفداء بنصف الدية ثم لا يرجع عليها من قبل الجناية بشيء لأنه رضي بأخذ النصف مشغولا بالجناية وقد وصل إليه ذلك وإن شاء تركه وأخذ منها نصف قيمته يوم دفعه إليها لأنه تعذر عليها الرد كما قبضت وكذلك أن كانت الجناية في يد الزوج قبل القبض ثم طلقها قبل أن يدخل بها كان لها الخيار بين أن تأخذ نصف قيمته يوم تزوجها عليه وبين أخذ نصفه ثم يخاطبان بالدفع أو الفداء كما بينا وأن دخل بها الزوج والعبد في يده فإن شاءت أخذت(5/171)
ص -86- ... قيمته صحيحا يوم تزوجها عليه وإن شاءت أخذت العبد ثم تخاطب بالدفع أو الفداء ولا ترجع على الزوج بشيء لما قلنا والله أعلم بالصواب.
باب الخيار في النكاح
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة واشترط فيه لأحدهما أو لهما خيار فالنكاح جائز والخيار باطل عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى النكاح باطل فمنهم من جعل هذا بناء على مسألة نكاح المكره فإن اشتراط الخيار يعدم الرضا كالإكراه ومن أصلنا أن انعدام الرضا بسبب الإكراه لا يمنع صحة النكاح ولزومه وعنده يمنع فكذلك اشتراط الخيار ولكن هذا البناء على أصله غير صحيح فإن الإكراه عنده يفسد العقد والعبارة وخيار الشرط لا يفسد ولهذا لم يصحح الطلاق والعتاق من المكره وصححهما مع اشتراط الخيار.
وحجته في المسألة أن اشتراط الخيار في معنى التوقيت إلا ترى أن ما يثبت فيه الخيار وهو البيع يتأخر حكم العقد وهو الملك إلى ما بعد مضي المدة ويصير العقد في حق ملكه كالمضاف فكذلك هنا باشتراط الخيار يصير النكاح مضافا وإضافة النكاح إلى وقت في المستقبل لا يجوز والتوقيت في النكاح يمنع صحة النكاح كما لو تزوجها شهرا وحجتنا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق" والهزل واشتراط الخيار سواء لأن الهازل قاصد إلى مباشرة السبب غير راض بحكمه بل أولى فإن الهازل غير راض بالحكم أبدا وشارط الخيار غير راض بالحكم في وقت مخصوص فإذا لم يمنع الهزل تمامه فاشتراط الخيار أولى والمعنى فيه أنه قد لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ولا يقبل خيار الشرط فاشتراط الخيار فيه لا يمنع تمامه كالطلاق والعتاق بمال وهذا لأن اشتراط الخيار لا يمنع انعقاد أصل السبب مطلقا وإنما يعدم الرضا بلزومه كما في البيع.(5/172)
ومن ضرورة انعقاد النكاح صحيحا اللزوم فاشتراط الخيار فيه يكون شرطا فاسدا والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ولا تتوقف صحته ولزومه على تمام الرضا إلا ترى أن تمام الرضا إنما يكون بعد الرؤية كما في البيع ثم عدم الرؤية لا يمنع صحة النكاح ولزومه حتى لا يثبت فيه خيار الرؤية بخلاف الإضافة إلى وقت فإنه يمنع انعقاد السبب في الحال إلا ترى أن مثله لا يصح في البيع بخلاف التوقيت فإنه يمنع انعقاد السبب فيما وراء الوقت المنصوص عليه والنكاح لا يحتمل الانعقاد في وقت دون وقت فلهذا بطل بالتوقيت.
قال: ولا يرد الرجل امرأته عن عيب بها وأن فحش عندنا ولكنه بالخيار أن شاء طلقها وأن شاء أمسكها وعند الشافعي رحمه الله تعالى يثبت له حق الرد بالعيوب الخمسة وهي الرتق والقرن والجنون والجذام والبرص فإذا ردها انفسخ العقد ولا مهر لها أن لم يكن دخل بها وأن كان دخل بها قبل العلم بالعيب فلها مهر مثلها ويرجع به على من زوجها منه وحجته في ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فلما خلا بها وجد في(5/173)
ص -87- ... كشحها بياضا فردها وقال "دلستموني" أو قال "دلستم علي" والرد متى ذكر عقيب العيب يكون بطريق الفسخ.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وعن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار للزوج بهذه العيوب والمعنى فيه أن النكاح عقد معاوضة يحتمل الفسخ بأسباب فيثبت فيه حق الرد بعيب يخل بالمقصود كالبيع والمقصود بالنكاح طبعا قضاء الشهوة وشرعا النسل وهذه العيوب تخل بهذا المقصود أما الرتق والقرن يفوته أصلا وأما الجنون والجذام والبرص يخل به من حيث أن الطبع ينفر من صحبة مثلها وربما تعدي إلى الولد بخلاف سائر العيوب من العمى والشلل فإنه لا يخل بالمقصود واحد العوضين في هذا العقد وهو المهر عندكم يرد بالعيب الفاحش دون اليسير فكذلك العوض الآخر.
وكذلك المرأة إذا وجدت زوجها عنينا أو مجبوبا يثبت لها الخيار ولا يثبت في سائر العيوب فكذا في حق الزوج لأنهما في حكم هذا العقد سواء وإذا كان العيب الذي يخل بالمقصود في جانب الزوج يثبت له الخيار دون الذي لا يخل بالمقصود فكذلك في جانبها والزوج وإن كان متمكنا من الطلاق فهو محتاج إلى إثبات الخيار له ليسقط به المهر عن نفسه كما قلتم في الصغير إذا بلغ وقد زوجه عمه يثبت له الخيار وإن كان متمكنا من الطلاق.
وحجتنا في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه لا ترد الحرة عن عيب وعن علي رضي الله عنه قال إذا وجد بامرأته شيئا من هذه العيوب فالنكاح لازم له أن شاء طلق وإن شاء أمسك وما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار فالمراد خيار الطلاق وكذلك ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه ردها أي ردها بالطلاق ألا ترى أنه قال: "الحقي بأهلك" وهذا من كنايات الطلاق.(5/174)
والذي قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، قلنا نحن نمكنه من الفرار ولكن بالطلاق والمعنى فيه إن الرد بالعيب فسخ العقد بعد تمامه بلا خلل في ولاية المحل والنكاح لا يحتمل هذا النوع من الفسخ ألا ترى أنه لا يحتمل الفسخ بالإقالة وهذا لأن ملك النكاح ملك ضروري لا يظهر في حق النقل إلى الغير ولا في حق الانتقال إلى الورثة وإنما أظهره الشرع في حق الطلاق للتقصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وهذا لا يقتضي ظهوره في حق الفسخ بعد تمامه لأنه لا ضرورة فيه فكان في هذا الفسخ بمنزلة الاسقاطات كالطلاق والعتاق بخلاف الفسخ بعدم الكفاءة أو بخيار البلوغ فإنه فسخ قبل تمامه لخلل في ولاية المحل فيكون في معنى الامتناع من تمامه.
وكذلك الفسخ بخيار العتق فإنه امتناع من التزام زيادة الملك على ما نبينه في موضعه أن شاء الله تعالى ولأن هذه العيوب لا تخل بموجب العقد وهو الحل فلا يثبت خيار الفسخ كالعمى والشلل والزمانة.
فأما الاستيفاء ثمرة وفوات الثمرة لا يؤثر في عقد النكاح ألا ترى أن الاستيفاء يفوت(5/175)
ص -88- ... بموت أحد الزوجين ولا يوجب ذلك انفساخ النكاح حتى لا يسقط شيء من المهر وعيب الجنون والجذام فيما هو المقصود دون الموت لأن الاستيفاء هنا يتأتى ومقصود النسل يحصل وبه فارق البيع فإن هناك فوات التسليم قبل القبض يوجب انفساخ البيع فكذلك وجود العيب وكذلك أيضا هلاك المهر قبل التسليم يثبت الرجوع بقيمته فوجود العيب الفاحش به كذلك بخلاف المنكوحة ولأن وجود العيب تأثيره في انعدام تمام الرضا به والنكاح لزومه لا يعتمد تمام الرضا كما بينا في الهزل وعدم الرؤية بخلاف البيع وهذا بخلاف ما إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبا أو عنينا لأن هناك لا يثبت لها خيار الفسخ عندنا وإنما يثبت لها حق المطالبة بالإمساك بالمعروف وذلك في إن يوفيها حقها في الجماع فإذا عجز عن ذلك تعين التسريح بالإحسان والتسريح طلاق وعندنا هنا له أن يطلقها.
ثم المعنى فيه أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل المقصود لأنها لا تتوصل إلى ذلك من جهة غيره ما دامت تحته وهو غير محتاج إليها فلو لم يثبت لها الخيار بقيت معلقة لا ذات بعل ولا مطلقة فأثبتنا لها الخيار لا زالة ظلم التعليق وهذا لا يوجد في جانبه لأنه متمكن من تحصيل مقصوده من جهة غيرها أما بملك اليمين أو بملك النكاح ومتمكن من التخلص منها بالطلاق ولا معتبر بحاجته إلى التخلص من المهر كما لو ماتت قبل الدخول لا ينفسخ العقد مع قيام حاجته إلي التخلص من المهر يوضح الفرق أن الزوج لو منع حقها في الجماع قصدا إلى الاضرار بها بالإيلاء كان موجبا للفرقة فكذلك إذا تعذر عليه أيفاء حقها بالجب والعنة والمرأة لو منعت حقه على قصد الإضرار لم يكن له به الخيار بذلك السبب فكذلك إذا تعذر عليه الاستيفاء بالرتق أو القرن.(5/176)
فأما المرأة إذا وجدت بالزوج عيب الجنون أو الجذام أو البرص فليس لها أن ترده به في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعلى قول محمد لها الخيار إذا كان على حال لا تطيق المقام معه لأنه تعذر عليها الوصول إلى حقها لمعنى فيه فكان بمنزلة ما لو وجدته مجبوبا أو عنينا ولكنا نقول بهذه العيوب لا ينسد عليها باب استيفاء المقصود إنما تقل رغبتها فيه أو تتأذى بالصحبة والعشرة معه وذلك غير مثبت لها الخيار كما لو وجدته سيء الخلق أو مقطوع اليدين أو الرجلين بخلاف الجب والعنة على ما قررنا.
يوضح الفرق أن الزوج هناك ظالم في إمساكها من غير حاجة إليها وللقاضي ولاية إزالة الظلم بالطلاق وهنا الزوج غير ظالم في إمساكها مع صدق حاجته إليها وذلك لا يثبت لها الخيار وكذلك أن اشترط أحدهما على صاحبه السلامة من العمى والشلل والزمانة فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار وكذلك لو شرط الجمال والبكارة فوجدها بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار لأن فوت زيادة مشروطة بمنزلة العيب في إثبات الخيار كما في البيع وبهذا تبين أنه لا معتبر لتمام الرضا في باب النكاح فإنه لو تزوجها بشرط أنها بكر شابة جميلة(5/177)
ص -89- ... فوجدها ثيبا عجوزا شوهاء لها شق مائل وعقل زائل ولعاب سائل فإنه لا يثبت له الخيار وقد انعدم الرضا منه بهذه الصفة.
قال: وإذا قال الرجل للمرأة بحضرة الشهود زوجيني نفسك فقالت قد فعلت جاز النكاح ولو قال بعنى هذا الثوب بكذا فقال فعلت لايتم البيع ما لم يقل المشتري اشتريت أو قبلت وقد بينا هذا فيما سبق وإنما أعاده هنا لا يضاح الفرق بين البيع والنكاح وقد استكثر من الشواهد لذلك ثم قال وهما في القياس سواء وهكذا ذكره أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال إنما تركنا القياس في النكاح للسنة وهو ما حدثني أبو إسحاق الشيباني عن الحكم أن بلالا رضي الله عنه خطب إلى قوم فأبوا أن يزوجوه فقال لو لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخطب إليكم ما فعلت فقالوا قد ملكت فدل أن بهذه اللفظة بعد الخطبة ينعقد النكاح.
ثم ذكر بعد حكم توقف النكاح على الإجازة ليبين أن ذلك لا يشبه حكم الرد بالعيب لأن من توقف العقد على حقه غير راض بأصل السبب فكان أصل السبب في حقه كالمعدوم ما لم يجز.
وأما عند اشتراط الخيار أو وجود العيب فقد ظهر السبب في حقه وهو راض بأصل السبب حين باشره فلهذا تم العقد ثم بين في العقد الموقوف أن الزوج إذا كان هو الولي ففي حق الزوج يتوقف على قبوله أو رده بكلام أو فعل يدل عليه وفي حق المرأة إذا كانت ثيبا كذلك وإذا كانت بكرا فسكوتها رضاها لعلة الحياء وقد بيناه.(5/178)
وذكر بن سماعة في نوادره عن محمد رحمهما الله تعالى أن البكر إذا زوجها وليان كل واحد منهما من رجل فبلغها العقدان فإن أجازت أحدهما جاز ذلك وإن أجازتهما معا بطلا للمنافاة بينهما ولو سكتت لم يكن سكوتها رضا منها بواحد منهما وروى علي بن صالح عن محمد رحمهما الله تعالى أن سكوتها بمنزلة رضاها بالعقدين فيبطل العقدان جميعا والأصح رواية بن سماعة لأنه لا يمكن أن يجعل سكوتها رضا بأحد العقدين إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر ولا رضي بهما لأن السكوت إنما يقام مقام الرضا لتصحيح العقد وفي الرضا هنا بهما أبطالهما فلهذا لا يعتبر سكوتها هنا رضى.
قال: وإذا اعتقت الأمة ولها زوج قد كان زوجها المولى منه أو تزوجته بإذن المولى فلها الخيار أن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته لما روى أن عائشة رضي الله عنها لما أعتقت بريرة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختارى"، وكان زوجها مغيث يمشي خلفها ويبكي وهي تأباه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: "ألا تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له"؟ ثم قال لها: "اتقي الله فإنه زوجك وأب ولدك"، فقالت أتأمرني فقال:" لا إنما أنا شافع" فقالت إذا لا حاجة بي إليه فاختارت نفسها وكان المعني فيه أن ملك الزوج يزداد عليها بالعتق فإن قبل العتق كان يملك عليها تطليقتين ويملك مراجعتها في قرأين(5/179)
ص -90- ... وعدتها حيضتان وذلك كله يزداد بالعتق وهي لا تتوصل إلى رفع هذه الزيادة إلا برفع أصل العقد فأثبت الشرع لها الخيار لهذا ولهذا لو اختارت نفسها كان فسخا لاطلاقا بمنزلة الخيار الثابت لرفع أصل العقد وفي حق من توقف على إجازته لا يكون طلاقا ولأن سبب هذا الخيار معنى في جانبها وهو ملكها أمر نفسها والفرقة متى كانت بسبب من جهة المرأة لا تكون طلاقا ويستوي أن كان الزوج حرا أو عبدا عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى أن كان زوجها عبدا فلها الخيار وأن كان زوجها حرا عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى أن كان زوجها عبدا فلها الخيار وإن كان زوجها حرا فلا خيار لها والرواة اختلفوا في زوج بريرة رضي الله تعالى عنها فروي أنه كان عبدا وروى أنه كان حرا فأصحابنا رحمهم الله تعالى أولوا ما روى أنه كان عبدا أي عند أصل العقد ولكنه كان حرا عند عتقها ولما تعارضت الروايات في صفة زوجها يجعل كأنه لم ينقل في ذلك شيء فيبقى الاعتماد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختاري". وفي هذا التعليل لا فرق بين أن يكون الزوج حرا أو عبدا والشافعي رحمه الله تعالى استدل بما روى أنه كان لعائشة رضي الله عنها زوجان مملوكان فأرادت عتقهما وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمرها بالبداءة بالغلام قال وإنما أمرها بذلك كيلا يثبت لها الخيار ولكنا نقول أمرها بذلك لاظهار فضيلة الرجال على النساء فإنها لو اعتقتهما معا عنده لا يثبت لها الخيار أيضا.(5/180)
ومن طريق المعنى يقول بما اعترض تحقق المساواة بينهما فلا معنى لاثبات الخيار كالكتابية تحت مسلم إذا أسلمت أو المعسرة إذا أيسرت والزوج موسر والمنفية إذا أثبتت نسبها وللزوج نسب ثابت فلا خيار لها بخلاف ما إذا كان الزوج عبدا فإن بما اعترض هناك من حريتها يظهر التفاوت وتنعدم الكفاءة ولكنا نقول ثبوت الخيار لها ليس لانعدام الكفاءة فإن الكفاءة شرط لابتداء النكاح لا في البقاء ألا ترى أنه لو أعسر الزوج أو انتفي نسبه لا يثبت الخيار ولكن ثبوت الخيار لزيادة ملك الزوج عليها وفي هذا لا فرق عندنا بين أن يكون الزوج حرا أو عبدا وهذا لان الملك إنما يثبت بحسب الحل والحل في جانبها يتنصف بالرق كما يتنصف الحل في جانبه بالرق فتزوج العبد امرأتين والحر أربعا وإذا انتصف الحل برقها فإذا أعتقت ازداد الحل وبحسبته يزداد الملك على ما نبينه في بابه أن شاء الله تعالى.
وعلى هذا لو كانت مكاتبة زوجت نفسها بإذن مولاها ثم أدت فعتقت يثبت لها الخيار لزيادة الملك عليها عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لا يثبت الخيار هنا لأن ثبوت الخيار في الأمة لنفوذ العقد عليها بغير رضاها وسلامة المهر لمولاها وهذا غير موجود هنا فإن المهر لها والنكاح ما انعقد إلا برضاها وكان بن أبي ليلى يقول أن أعانها على أداء بدل الكتابة لا خيار لها وإن لم يعنها فلها الخيار ولكن الصحيح الموافق لتعليل صاحب الشرع ما بيناه.
قال: ولو كانت حرة في أصل العقد ثم صارت أمة ثم عتقت بأن ارتدت امرأة مع زوجها ولحقا بدار الحرب معا والعياذ بالله ثم سبيا معا فأعتقت الأمة فلها الخيار عند أبي يوسف رحمه(5/181)
ص -91- ... الله تعالى ولا خيار لها عند محمد رضي الله تعالى عنه لأن بأصل العقد يثبت عليها ملك كامل برضاها ثم انتقض الملك فإذا أعتقت عاد الملك إلى أصله كما كان فلا يثبت الخيار لها وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول بالعتق ملكت أمر نفسها وازداد ملك الزوج عليها وذلك مثبت الخيار لها شرعا ولما صارت أمة حقيقة التحقت بالتي كانت أمة في الأصل في حكم النكاح فثبت لها الخيار بالعتق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب العنين
قال: رضي الله عنه بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال يؤجل العنين سنة فإن وصل إلى امرأته فهي امرأته وإن لم يصل إليها فرق بينهما وجعلها تطليقة بائنة وجعل لها المهر كاملا وعليها العدة وبهذا أخذ علماؤنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا خيار لامرأة العنين أصلا لحديث امرأة رفاعة فإنها تزوجت بعبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه فلم يصل إليها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت أن رفاعة طلقني فابت طلاقي وتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير فلم أجد منه إلا مثل هدبة ثوبي تحكى ضعف حاله في باب النساء فلم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاءت امرأة إلى علي رضي الله عنه فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فقال ولا وقت السحر فقالت: ولا وقت السحر فقال هلكت وأهلكت ما أنا بمفرق بينكما ولأنه عاجز معذور فيكون منظرا بانظار الله تعالى ولكنا نستدل بحديث عمر رضي الله عنه وقد روى مثله عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وعن علي رضي الله عنه أنه فرق بين العنين وبين امرأته وأوجب عليه المهر كاملا.(5/182)
والصحيح من الحديث الذي رووا عن علي رضي الله عنه أن تلك المرأة قالت لم يكن ذلك منه الأمرة وفي هذا لا يفرق بينهما عندنا وامرأة رفاعة بما ذكرت حكت صغر متاعه لا العنة وفي مثل هذا عندنا لا تخير ثم هو معذور ولكنه في إمساكها ظالم لأنه ينسد عليها باب قضاء الشهوة بنكاحه ولا حاجة به إليها فوجب رفع الظلم عنها ولأن مقصودها بالعقد قد فات لأن مقصودها أن تستعف به وتحصل به صفة الإحصان لنفسها وفوات المقصود بالعقد أصلا يثبت للعاقد حق رفع العقد وهي تحتاج إلى تقرير مهرها أيضا وتمام ذلك بالاتفاق يحصل بالدخول فإذا انسد عليها الباب يثبت لها الخيار إلا أن العجز قد يكون لآفة في أصل الخلقه وقد يكون لعارض وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمدة فلهذا يؤجل والأجل في هذا سنة كما اتفق الصحابة رضي الله عنهم الأسى.
وقد روي عن عبد الله بن نوفل رضي الله عنه قال الأجل عشرة أشهر وإنما قدرنا بالسنة لأن التأجيل لا بلاء العذر والحول حسن في ذلك قال قائلهم:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر(5/183)
ص -92- ... ولأن العجز عن الوصول قد يكون بعلة الرطوبة وإنما يعالج ذلك في فصل الحر واليبوسة من السنة وقد يكون لغلبة الحرارة وإنما يعالج ذلك في فصل البرد وقد يكون لغلبة اليبوسة وإنما يعالج في فصل الرطوبة فقدرنا الأجل بحول حتى يعالج نفسه فيوافقه العلاج في فصل من فصول السنة فيبرأ فإذا مضت السنة ولم يصل إليها علم أن الآفة في أصل الخلقة ولهذا قالوا يقدر بسنة شمسية أخذا بالاحتياط فربما تكون موافقة العلاج في الأيام التي يقع التفاوت فيها بين القمرية والشمسية.
وابتداء التأجيل من وقت الخصومة حتى إذا صبرت مدة ثم خاصمت فإن ادعى الزوج أنه قد وصل إليها سألها القاضي أبكر هي أم ثيب فإن قالت ثيب فالقول قول الزوج لأن الظاهر من حال الفحل أنه إذا خلا بأنثى نزى عليها وفي الدعاوي القول قول من يشهد له الظاهر وإن كانت بكرا أراها القاضي النساء فإن البكارة لا يطلع عليها الرجال والمرأة الواحدة تكفي لذلك والمثنى أحوط لأن طمأنينة القلب إلى قول المثنى أكثر فإن قلن أنها بكر فالقول قولها وكذلك أن أقر الزوج أنه لم يصل إليها ويؤجله القاضي سنة فيأمره أن يعالج نفسه في هذه المدة هكذا قال علي رضي الله عنه أفيضوا عليه الدحج والعسل ليراجع نفسه.(5/184)
فإن مضت السنة وادعى الزوج أنه وصل إليها فهو على ما بينا من البكارة والثيابة فإن أراها النساء فقلن هي بكر خيرها القاضي لأن البكارة لا تبقى مع الوصول إليها فإذا خيرها القاضي فاختارت الزوج أو قامت من مجلسها أو أقامها أعوان القاضي أو قام القاضي قبل أن تختار شيئا بطل خيارها لأن هذا بمنزلة تخيير الزوج امرأته وذلك يتوقت بالمجلس فهذا مثله والتفريق كان لحقها فإذا رضيت بالإسقاط صريحا أو دلالة بتأخير الاختيار إلى أن قامت أو أقيمت يسقط حقها فلا تطالب بعد ذلك بشيء وأن اختارت الفرقة أمر القاضي الزوج بأن يطلقها فإن أبى فرق القاضي بينهما وكانت تطليقة بائنة عندنا وعند الشافعي يكون فسخا بمنزلة الرد بالعيب كما هو مذهبه فأما عندنا لمستحق على الزوج أحد الشيئين أما الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فإذا عجز عن أحدهما تعين الآخر فإذا امتنع منه ناب القاضي منابة في التسريح والتسريح طلاق وقد روينا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جعلها تطليقة بائنة وهذا لأن المقصود بالرجعي لا يحصل فالمقصود أزالة ظلم التعليق وفي الرجعى يستبد الزوج بالمراجعة مع أن حكم الرجعة مختص بعدة واجبة بعد حقيقة الدخول وذلك غير موجود هنا.
وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في غير الأصول أنها كما اختارت نفسها تقع الفرقة بينهما اعتبارا بالمخيرة بتخيير الزوج أو بتخيير الشرع كالمعتقة ثم لها المهر كاملا عليه لوجود التسليم المستحق بالعقد منها وعليها العدة لما استوفت كمال المهر به قضي(5/185)
ص -93- ... عمر وعلي رضي الله عنهم وقالا ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم وكما لا يسقط حقها بترك المرافعة زمانا فكذلك لا يسقط حقها بتأخير الخصومة بعد مضي الأجل فإن ذلك للاختيار منها لا للرضا به.
والإنسان لا يتمكن من الخصومة في كل وقت خصوصا في هذه الحالة إلا أنه لا يحتسب على الزوج بما مضى من المدة قبل المرافعة لأن الأمر لم يكن مضيقا عليه قبل التأجيل وربما كان امتناعه من صحبتها لغرض له في ذلك سوى العجز ولكن بعد التأجيل يترك ذلك الغرض بما يلحقه من العار وضرر زوال ملكه فلهذا لا يحتسب بالمدة قبل التأجيل ويحتسب عليه بزمان حيضها وشهر رمضان لأن الصحابة رضي الله عنهم قدروا الأجل بسنة مع علمهم أنه لا يخلو عن ذلك عادة فإن مرض الزوج في المدة أو مرضت مرضا لا يستطاع جماعها فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى روايتان:
في إحدى الروايتين: إذا كان المرض أكثر من نصف الشهر لا يحتسب بمدة المرض على الزوج وأن كان دون ذلك يحتسب عليه بالقياس على أيام شهر رمضان فإنه في النهار يمتنع عليه غشيانها ثم ذلك محسوب عليه فعرفنا أن نصف الشهر وما دونه عفو.(5/186)
وفي الرواية الأخرى قال إذا كانا صحيحين في شيء من السنة ولو في يوم واحد يحتسب عليه بزمان المرض وعلى قول محمد رحمه الله تعالى أن مرض أحدهما فيما دون الشهر يحتسب عليه بذلك وأن كان المرض شهرا لا يحتسب ويزاد في مدته بقدر مدة المرض وأن أحرمت بحجة الإسلام لا يحتسب على الزوج بتلك المدة لأنه لا يقدر أن يحللها إلا تري أنها لو كانت محرمة حين خاصمت لم يؤجله القاضي حتى تفرغ من الحج ولو خاصمت والزوج مظاهر منها فإن كان يقدر على العتق أجله وإن كان عاجزا عن ذلك أمهله شهرين لأنه ممنوع عن غشيانها ما لم يكفر والعاجز عن العتق كفارته بالصوم شهران فإن ظاهر منها بعد التأجيل لم يلتفت القاضي إلى ذلك واحتسب عليه تلك المدة لأنه كان متمكنا من أن لا يظاهر منها وكذلك أن كان يصل إلى غيرها من النساء أو جواريه ولا يصل إليها خيرها القاضي لأن التخيير لرفع الضرر عنها ولا يحصل ذلك بوصوله إلى غيرها بل تزداد به غيظا ولو كان غشيها مرة واحدة ثم انقطع بعد ذلك فلا خيار لها لأن ما هو مقصودها من تأكد البدل أو ثبوت صفة الإحصان قد حصل لها بالمرة.
قال: ولو وجدته مجبوبا خيرها القاضي في الحال لأن التأجيل في العنين لرجاء الوصول إليها وذلك في المجبوب لا يوجد فالمقطوع من الآلة لا ينبت فلهذا فرق بينهما في الحال وإن كان قد خلا بها فلها المهر كاملا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولها نصف المهر في قولهما لأن التيقن بعدم الوصول إليها موجود هنا وعذر الجب في الزوج أبين من عذر المرض فإذا كان مرضه يمنع صحة الخلوة فكونه مجبوبا أولى بخلاف(5/187)
ص -94- ... العنين فإن ذلك باطن لا يوقف على حقيقته وهذا ظاهر يشاهد فيجب إعتباره في الحكم.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هي أتت بالتسليم المستحق عليها بالعقد وحقها في البدل يتقرر بذلك وهذا لأن العقد ما انعقد لاستحقاق المجامعة به فإنه لا كون له وإنما انعقد لما وراء ذلك وقد أتت به فيتقرر حقها ثم يجب عليها العدة إما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يشكل لأنه قد تقرر جميع المهر وإما عندهما تجب العدة استحسانا وأشار في كتاب الطلاق إلا أنه لا تجب العدة عندهما وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فحيث قال لا تجب العدة أراد في مجبوب قد جف ماؤه فيكون هذا بمنزلة الصبي لا تعتبر خلوته في إيجاب العدة وحيث قال تجب العدة أراد في مجبوب له ماء يسحق فينزل فتجب العدة احتياطا وأن لم يكن دخل بها أو خلا بها فلها نصف المهر ولا عدة عليها.
ثم بعد ما فرق القاضي بينهما في الموضع الذي وجبت عليها العدة إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت النسب منه ولا تبطل تلك الفرقة لأن ثبوت النسب باعتبار الإنزال بالسحق وذلك غير مبطل حقها بخلاف العنين إذا فرق القاضي بينهما وهو يدعي الوصول إليها ثم جاءت بولد لا قل من سنتين يثبت النسب ويبطل التفريق لأنا حين حكمنا بثبوت النسب فقد حكمنا بوصوله إليها وكذلك لو شهد شاهدان بعد التفريق على إقرارها بالوصول إليها قبل التفريق بطل تفريق القاضي بينهما كما لو عرف القاضي إقرارها في ذلك الوقت بخلاف ما إذا أقرت بعد التفريق أنه كان وصل إليها فإن قولها في إبطال التفريق ورفع الطلاق الواقع غير مقبول لكونها متهمة في ذلك والخصي بمنزلة العنين لأن رجاء الوصول في حقه موجود لبقاء الآلة.(5/188)
ولو تزوجت واحدا من هؤلاء وهي تعلم بحاله فلا خيار لها فيه لأنها صارت راضية به حين أقدمت على العقد مع علمها بحاله ولو رضيت به بعد العقد بأن قالت رضيت سقط خيارها فكذلك إذا كانت عالمة به ولا فرق في قولها رضيت بالمقام معه بين أن يكون عند السلطان أو غيره لأنه أسقاط لحقها.
قال: وليس يكون أجل العنين إلا عند قاضي مصر أو مدينة يجوز قضاؤه ولا يجوز عند من هو دون هؤلاء ومراده بهذا الإشارة إلى الفرق بين خيار المعتقة والعنين فإن ذلك لا يختص بمجلس الحكم وهو من جهتها فلم يكن طلاقا وهذا يختص بمجلس الحكم وهو لمعنى من الزوج فلهذا كان طلاقا وقد تبين بهذا اللفظ أن المصر شرط لجواز القضاء فإنه لا يجوز القضاء في غير المصر بمنزلة إقامة الجمعة أنه يختص بالمصر.
قال: ولو تزوج امرأة فوصل إليها ثم فارقها ثم تزوجها بنكاح جديد ولم يصل إليها يؤجل كما يؤجل العنين لأن النكاح الثاني غير النكاح الأول فلا يعتبر الوصول في النكاح الأول فيما يستحق في النكاح الثاني.
قال: والخنثى إذا كان يبول من مبال الرجال فهو رجل يجوز له أن يتزوج امرأة فإن لم(5/189)
ص -95- ... يصل إليها أجل كما يؤجل العنين لأن رجاء الوصول قائم فإن كان يبول من مبال النساء فهو امرأة فإذا تزوجت رجلا لم يعلم بحالها ثم علم بذلك بعده فلا خيار للزوج لأن الطلاق في يده وهو نظير الرتقاء وقد بيناه.
قال: ولو كانت المرأة رتقاء والزوج عنينا لم يكن لها أن تخاصمه لأنه لاحق لها في المطالبة بالجماع مع قيام المانع فيها وذكر في اختلاف زفر ويعقوب إذا زوج أمته فوجدته عنينا أن الخصومة في ذلك إلى المولى في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن المهر واجب له فهو محتاج إلى أن يؤكد حقه ولأن النسل يكون ملكا له وبكونه عنينا يفوت ذلك وعلى قول زفر رحمه الله تعالى الخيار لها لأن المقصود بالوطء قضاء الشهوة وذلك يحصل لها دون المولى فكان حق المرافعة إليها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
باب نكاح الشغار
قال: رضي الله عنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح الشغار وأصل الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام". والشغار أن يقول الرجل للرجل أزوجك أختي على أن تزوجني أختك على أن يكون مهر كل واحدة منهما نكاح الأخرى أو قالا ذلك في ابنتيهما أو أمتيهما ثم النكاح بهذه الصفة يجوز عندنا ولكل واحدة منهما مهر مثلها وعند الشافعي رضي الله عنه النكاح باطل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأنه شرط الإشراك في بضع كل واحدة منهما حين جعل النصف منه صداقا والنصف منكوحة وملك النكاح لا يحتمل الإشتراك فالإشتراك به يكون مبطلا كما إذا زوجت المرأة نفسها من رجلين.(5/190)
وحجتنا في ذلك أنه سمى بمقابلة بضع كل واحدة منهما ما لا يصلح أن يكون صداقا فكأنه تزوجها على خمر أو خنزير وهذا لأنه لما لم يكن في البضع صلاحية كونه صداقا لم يتحقق الإشراك فبقى هذا شرطا فاسدا والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة كما لو شرط أن يهبها لغيره أو نحوه بخلاف ما إذا زوجت المرأة نفسها من رجلين لأنها تصلح منكوحة لكل واحد منهما فيتحقق معنى الإشراك واستدلاله بالنهي باطل لأن النهي للخلو عن المهر هكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج المرأة بالمرأة من غير مهر لكل واحدة منهما وهذا لأن الشغار هو الخلو في اللغة يقال شغر الكلب إذا رفع آحدى رجليه ليبول وبلدة شاغرة إذا كانت خالية من السلطان وإنما أراد به أن لا تخلو المرأة بالنكاح عن المهر وبه نقول وإن سمى لكل واحدة من المرأتين مهرا فلكل واحدة منهما ما سمي من المهر واشتراط أحد العقدين في الآخر غير مؤثر هنا لأنه شرط فاسد والنكاح لا يبطل بمثله.
قال: وإذا جعل مهر امرأته طلاق أخرى كان النكاح جائزا بمهر مثلها ولم يكن(5/191)
ص -96- ... الطلاق مهرا وكذلك أن جعل القصاص مهرا فقد وقع العفو ولها مهر مثلها عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى كلما يجوز أخذ العوض عنه بالشرط يصلح أن يكون مهرا لأن المقصود تحقق المعاوضة وأصل المسألة في تعليم القرآن فإن عنده تعليم القرآن يصلح أن يكون صداقا للحديث الذي روينا في قوله زوجتكها بما معك من القرآن ولكنا نقول اشتراط صفة المالية في الصداق ثابت بالنص وهو قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] وطلاق الضرة والعفو عن القصاص ليس بمال وكذلك تعليم القرآن وتأويل الحديث بحرمة ما معك من القرآن وعلى هذا الأصل قلنا إذا اعتق أمته على أن يتزوجها ويكون العتق صداقا لها فزوجت نفسها منه فلها مهر مثلها لأن الاعتاق إبطال للرق فلا يصلح أن يكون صداقا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى.
وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه جوز ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حي رضي الله عنها وتزوجها وجعل عتقها صداقا لها ولكنا نقول قد روى إنه تزوجها بمهر جديد ولو ثبت ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصا بالنكاح بغير مهر وعلى هذا لو تزوجها على أن يخدمها سنة فإن كان الزوج عبدا صحت التسمية لتضمنها تسليم المال إليها فإن رقبة العبد مال وإن كان الزوج حرا لم تصح التسمية هكذا ذكر في الجامع الصغير ونحوه.
روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى إنه إذا تزوجها على أن يرعى غنمها سنة يجوز استدلالا بقصة موسى مع شعيب عليهما السلام فمن أصحابنا من فرق بينهما فقال هي مأمورة بإن تعظمه وتراعى حقه وذلك ينعدم باستخدامها إياه فلهذا لم يجز أن تكون خدمتها صداقا وذلك لا يوجد في عمل الرعي ألا ترى أن الابن لا يستأجر أباه للخدمة ويستأجره لعمل آخر والأصح أن في الفصلين روايتين.
في إحدى الروايتين: لا تصح التسمية لأن المنفعة ليست بمال واشتراطها من الحر لا يتضمن تسليم المال إليها.(5/192)
وفي الرواية الأخرى: تصح التسمية لأن المنفعة تأخذ حكم المالية عند العقد ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلتها.
فإذا لم تصح تسمية الخدمة فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لها مهر مثلها لأنه سمي مالا يصلح ان يكون صداقا لها فهو كتسمية الخمر وعند محمد رحمه الله تعالى لها قيمة خدمته لأن الخدمة متقومة عند العقد وأن لم تكن ما لا فإذا تعذر سلامتها لها تجب قيمتها كما لو تزوجها على عبد فاستحق.
ثم قد بينا الفرق بينهما إذا تزوج المرأة على طلاق ضرتها وبين ما إذا تزوجها على أن يطلق ضرتها في حكم وقوع الطلاق على الضرة فكذا إذا تزوجها على القصاص حصل العفو(5/193)
ص -97- ... بنفس العقد وإذا تزوجها على أن يعفو عن القصاص لم يسقط القصاص إلا بمباشرة العفو ولا يجبر على ذلك.
وكذلك إذا تزوجها على عتق أبيها عتق الأب بنفس العقد بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق أباها ولها مهر مثلها لأن ما سمى صداقا من عتق الأب ليس بمال بخلاف ما إذا تزوجها على عتق أبيها عنها لأنه يتضمن تمليك رقبة الأب منها فإن العتق عنها لا يكون إلا بهذا الشرط ورقبة الأب مال يصلح أن يكون صداقا لها.
وإذا زوج ابنته من رجل على مهر مسمى على أن يزوجه الآخر ابنته على مهر مسمى فإن زوجه فلكل واحدة منهما ما سمى لها من المهر وإن لم يزوجه الآخر كان للمزوجة تمام مهر مثلها لأن رضاها بدون مهر المثل باعتبار منفعة مشروطة لأبيها ومنفعة أبيها كمنفعتها ولو شرط لها مع المسمى منفعة كان لها مهر مثلها كذا هنا والله أعلم بالصواب.
باب نكاح الإكفاء
قال: رضي الله عنه قد قدمنا بيان ما هو مقصود هذا الباب وهو اعتبار الكفاءة في النكاح وصحة عقد النكاح من كفء بمهر مثلها بمباشرتها أو بمباشرة غيرها برضاها بغير ولي واستدل على ذلك بآثار رويت.
فمنه حديث جعفر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وكان الذي ولي عقد النكاح النجاشي ومهرها عنه أربعمائة دينار.
ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير رضي الله عنه وعبد الرحمن غائب فقال أمثلي يفتات عليه في بناته فقالت عائشة رضي الله عنها أو ترغب عن المنذر لتملكن أمرها عبد الرحمن فملكها فقال ما بي رغبة عنه.
ومنه حديث عبد الرحمن بن مروان رضي الله عنه قال زوجت امرأة معنا في الدار ابنتيها فجاء أولياؤها فخاصموها إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح.
ومنه حديث بحرية بنت هانئ قالت زوجت نفسي من القعقاع بن شور فخاصم أبي إلى علي رضي الله عنه فأجاز النكاح.(5/194)
ولكن الحجة بهذه الأثار على الشافعي رضي الله عنه حيث يقول لا ينعقد النكاح بعبارة النساء فأما على قول محمد رحمه الله تعالى لا تقوى الحجة ببعض هذه الآثار فإنه يقول في حديث النجاشي أنه كان هو الولى لأنها كانت مسلمة في ولايته فإن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من جملة من هاجر إلى الحبشة ولأن عقد عائشة رضي الله تعالى عنها كان موقوفا على إجازة عبد الرحمن وكذلك ما أجازه على رضي الله تعالى عنه إنما أجازه بولاية السلطنة.(5/195)
ص -98- ... ثم استكثر من الشواهد في جواز تزويج المرأة نفسها من كفء فمن ذلك أن الولي لو عضلها فخاصمته إلى السلطان فإنه يحق على السلطان أن يأمر الولي بذلك وأن أبى أن يزوجها السلطان فإذا صنعت هي بنفسها كيف تحكم ببطلان ما صنعت وكذلك لو أن رجلا أعتق أم ولده ولها ولد ثم تزوجها من غير أن يعلم ولدها منه أما كان يجوز هذا النكاح باعتبار أن الولي هذا الولد أرأيت لو أن امرأة أعتقت أباها وهو معتوه فزوجته أما كان يجوز هذا فإذا كانت تملك أن تزوج أباها فكيف لا تملك أن تزوج نفسها واستكثر من هذا الجنس من الشواهد.
وقد ذكر في اختلاف أبي حنيفة وبن أبي ليلى ان بن أبي ليلى قال لا يجوز ذلك وأن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا لا يجوز ذلك حتى يجيزه القاضي أو الولي وقد تقدم بيان ما فيه من اختلاف الروايات عنهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب نكاح الإماء والعبيد
قال: رضي الله عنه وللرجل الحر إذا لم يكن تحته حرة أن يتزوج أربعا من الإماء عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ليس للحر أن يتزوج إلا أمة واحدة والخلاف بيننا وبينه في فصول.
أحدها: أن الحر إذا لم يكن تحته حرة ولكنه قادر على طول الحرة عندنا له أن يتزوج الأمة والأولى أن لا يفعله وعنده ليس له أن يتزوج أمة لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] الآية، إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فالله تعالى شرط لجواز نكاح الأمة عدم طول الحرة والتعليق بالشرط يقتضي الفصل بين الوجود والعدم ثم بين أن نكاح الأمة للحر لضرورة خوف الزنى على نفسه وذلك إنما يكون عند عدم طول الحرة والمعنى فيه أن في تزوج الحر الأمة تعريض ولده للرق لأن الولد جزء منه وهو تابع للأم في الرق وكما لا يجوز له أن يعرض نفسه للرق لا يجوز له أن يعرض ولده للرق من غير ضرورة.(5/196)
ولهذا المعنى لا يجوز نكاح الأمة إذا كان تحته حرة فكذلك إذا كان قادرا على طول الحرة ولا يبعد أن يمتنع النكاح عليه لحق الولد ألا ترى أنه لا يتزوج المعتدة من الغير لما فيه من اشتباه نسب الولد ولأن نكاح الأمة بدل في حق الحرلان عقد النكاح عقد ازدواج وهو ينبني على المساواة في الأصل ولا مساواة بين الحر والأمة فكان نكاح الأمة في معنى البدل فكما أن وجود الأصل يمنع العدول إلى البدل فكذلك القدرة على تحصيله كالتيمم فإن وجود الماء كما يمنع التيمم فالقدرة على تحصيله بالشراء تمنع وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فإذا استطاب نكاح الأمة جاز له ذلك بظاهر الآية والمعنى فيه أن النكاح يختص بمحل الحل والأمة من جملة المحلات في حق الحر كالحر فيكون جواز نكاحها أصلا لا بدلا ولا ضرورة.(5/197)
ص -99- ... والدليل على أنها محللة له أنها بملك اليمين محللة له ولا يحل بملك اليمين إلا ما يحل بملك النكاح وأنها محللة للعبد أصلا بالإتفاق فكذلك الحر بل أولى لأن الحل في حق الحر أوسع منه في حق العبد حتى لا يثبت الحل للعبد بملك اليمين ويثبت للحر وهذا لأن الأنثى من بنات آدم في أصل الخلقة تحل للذكور لأن المقصود حصول النسل وذلك يتحقق بين الذكور والأناث ثم الحرمة بعد ذلك بمعاني نص عليها الشرع من الأمية والأختية ونحوهما فإذا انعدمت هذه المعاني كان الحل ثابتا باعتبار الأصل ولا معنى لاعتبار تعريض الولد للرق أيضا فإن نكاح العقيم والعجوز يجوز وفيه تضييع النسل أصلا فلان يجوز نكاح الأمة وإن كان فيه تضييع صفة الحرية للنسل أولى.
وكذلك إن تزوج أمة ثم قدر على طول الحرة أو تزوج حرة كان له أن يطأ الأمة بالنكاح بعد ذلك وفي هذا تعريض ولده للرق فبهذا تبين أن اعتماده على هذا المعنى لا يصح وكذلك دعواه أن الأمة في حكم البدل فاسد فإنها لو كانت بدلا لم يبق النكاح بينه وبينها بعد وجود الأصل كما لا يبقى حكم التيمم بعد وجود الماء.
فأما إذا كانت تحته حرة فمن أصحابنا من يقول حرمة نكاح الأمة في هذه الحالة بالنص بخلاف القياس على ما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأمة على الحرة". ألا ترى أن الحرة لو كانت صغيرة أو غائبة لم يجز له أن يتزوج الأمة وأن كان هو لا يستغني بنكاحها عن الأمة ويخاف الوقوع في الزنى فعرفنا أن المانع هناك عين نكاح الحرة لا الاستغناء بنكاحها.(5/198)
وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول بنكاح الحرة يثبت لنسله حق الحرية فهو بتزوج الأمة يبطل الحق الثابت وحق الحرية لا يجوز إبطاله بعد ثبوته فأما بطول الحرة لا يثبت حق الحرية لولده ومنهم من يقول أن الأمة ليست من جملة المحلات بالنكاح مضمومة إلى الحرة وهي من جملة المحلات منفردة عن الحرة لأن الحل الذي ينبني عليه عقد النكاح نعمة في جانب الرجال والنساء فكما يتنصف ذلك الحل برق الرجل حتى يتزوج العبد اثنتين والحر أربعا فكذلك يتنصف برق المرأة ولا يمكن إظهار هذا التنصيف في جانبها بنقصان العدد لأن المرأة الواحدة لا تحل إلا لواحد فظهر التنصيف باعتبار الحالة.
فأما أن يقول الأحوال ثلاثة حال ما قبل نكاح الحرة وحال ما بعده وحال المقارنة ولكن الحالة الواحدة لا تحتمل التجزي فتغلب الحرمة على الحل فتجعل محللة سابقة على الحرة ومحرمة مقترنة بالحرة أو متأخرة عنها أو في الحقيقة حالتان حالة الانضمام إلى الحرة وحالة الانفراد عنها فتجعل محللة منفردة عن الحرة ومحرمة مضمومة إلى الحرة.
فإذا كانت تحته حرة فهو بنكاح الأمة يضمها إلى الحرة فلهذا لا يصح فأما مع طول الحرة فهو بنكاح الأمة لا يضمها إلى الحرة فلهذا جاز نكاحها فأما الآية، فقد نقل عن ابن(5/199)
ص -100- ... عباس رضي الله عنه أن المراد حال وجود نكاح الحرة وبه نقول على أن من أصلنا أن التعليق بالشرط يقتضي وجود الحكم عند وجود الشرط ولكن لا يوجب انعدام الحكم عند انعدام الشرط لجواز أن يكون الحكم ثابتا قبل وجود الشرط لعلة أخرى.
وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله تعالى يجوز للحران يتزوج أربعا من الإماء كما يجوز له أن يتزوج أربعا من الحرائر وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى ليس للحر أن يتزوج إلا أمة واحدة لأن جواز نكاح الأمة للحر عنده لا جل الضرورة وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة فلا يجوز له أن يتزوج أكثر منها كتناول الميتة لما كان حلها لاجل الضرورة لم يجز إلا بقدر ما يسد به رمقه.
وعندنا نكاح الأمة للحر مباح مطلقا كنكاح الحرة فيجوز له أن يتزوج أربعا من الحرائر.
وعلى هذا يستوي عندنا أن كن مسلمات أو كتابيات وعند الشافعي رضي الله عنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية للمسلمين لأن الضرورة ترتفع عنه بنكاح الأمة المسلمة فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية أصلا فإن الكتابية تكون في ملك الكافر عادة وتعريض ولده لرق المسلم أهون من تعريضه لرق الكافر واستدل بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] معناه من الحرائر فلما جوز نكاح الكتابية بشرط أن تكون حرة فإذا كانت أمة لم تدخل تحت النص وإنما دخلت تحت قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ولأن كفرها يغلظ ببعض آثاره وهو الرق فلا يجوز نكاحها أصلا كالمجوسية.
وحجتنا في ذلك ما بينا أن الأمة الكتابية محللة للمسلم بملك اليمين فكذلك بملك النكاح كالمسلمة وهذا لأن ما لا يحل بملك النكاح لا يحل بملك اليمين كالمجوسية والدليل عليه أن الشرع سوى بين حكم النكاح والذبيحة ثم في حق حل الذبيحة الكتابية كالمسلمة أمة كانت أو حرة فكذلك في حكم النكاح.(5/200)
وأما الآية فقد قيل أن المراد من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ}: العفائف من أهل الكتاب فتتناول الأمة كالحرة ولئن كان المراد الحرائر فأباحة نكاح الحرائر من أهل الكتاب لا يكون دليلا علي حرمة نكاح الإماء ولكن هذا لبيان الأولى واسم المشركة لا يتناول الكتابية لاختصاصها باسم آخر ألا ترى أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] الآية.
قال: ولو تزوج أمة بغير إذن مولاها ثم تزوج حرة ثم أجاز مولى الأمة لم يجز لأن ثبوت ملك الحل عند الإجازة وعند الإجازة الحرة تحته فبهذه الإجازة يحصل ضم الأمة إلى الحرة وهي ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة ولأنه اعترض بعد العقد قبل الإجازة ما يمنع ابتداء العقد فيمنع الإجازة كما لو تزوج امرأة نكاحا موقوفا ثم تزوج أختها ثم إن(5/201)
ص -101- ... الأولى أجازت لم يجز أرأيت لو تزوج أم هذه الأمة أو ابنتها وهي حرة قبل أجازة مولاها ثم أجاز المولى أكان يجوز قال لا يجوز قال لا يجوز شيء من ذلك لما ذكرنا.
قال: وإذا تزوج أمة بغير إذن مولاها ثم أعتقها المولى ولم يعلم بالنكاح فإن هذا العتق إمضاء للنكاح وإجازة له لأن الأمة مخاطبة وإنما امتنع نفوذ عقدها لحق المولى فإذا سقط حق المولى نفذ العقد وكان نفوذ هذا العقد من جهتها لا من جهة المولى وما قال إنه إمضاء وإجازة توسع في الكلام فأما نفوذ العقد من جهتها ولهذا لا يثبت لها خيار العتق كما لو زوجت نفسها بعد العتق لأن خيار العتق إنما يثبت إذا ازداد الملك عليها بالعتق ولا يتحقق ذلك إذا كان نفوذ العقد ابتداء بعد العتق ولهذا كان المهر لها إن لم يكن دخل بها قبل العتق لأن الملك إنما يثبت عليها فما يقابله من البدل يكون لها.
وعن زفر رحمه الله تعالى أنه قال يبطل النكاح لأن توقفه كان على إجازة المولى فلا ينفذ من جهة غيره ولا يمكن إبقاؤه موقوفا على إجازته لسقوط حقه بالعتق فتعين فيه جهة البطلان كما لو باع مال الغير ثم إن الملك باعه من إنسان آخر بطل به البيع الأول.
ولكنا نقول ما توقف هذا العقد على إجازة المولى وإنما امتنع نفوذه لقيام حق المولى وقد سقط حق المولى بالعتق بعد العقد لزوال المانع من النفوذ وهذا بخلاف ما إذا أذن لها المولى في النكاح فإنه لا ينفذ ذلك العقد ما لم يجز لأن بالأذن لم يسقط حق المولى فلا بد من إجازة المولى أو إجازة من قام مقامه فأما بالعتق هنا سقط حق المولى وهذا بخلاف ما إذا اشترت شيئا ثم أعتقها المولى فإنه يبطل الشراء لأن ذلك الشراء انعقد موجبا الملك للمولى فلو نفذ بعد عنقها كان موجبا الملك لها وذلك لا يجوز فأما هنا النكاح انعقد موجب الحل لها وبعد العتق إنما ينفذ بهذه الصفة ولو لم يعتقها ولكنه مات فورثها ابنه.(5/202)
فإن كانت تحل للابن بأن لم يمسها الأب بطل النكاح وليس للابن أن يجيزه لأنه طرأ حل نافذ على الحل الموقوف فيكون مبطلا لذلك الموقوف كما إذا طرأ ملك نافذ على ملك موقوف بأن باع ملك الغير ثم اشتراه من المالك بطل ذلك العقد ولا يملك الإجازة بعد وهذا لأن بين الملكين والحلين في المحل منافاة فنفوذ أحدهما في المحل يكون مبطلا للآخر.
وإن كانت ممن لا يحل للابن فأجاز الابن ذلك النكاح جاز عندنا لأنه قائم مقام الأب في هذه الإجازة ولم يوجد المنافي وهو طريان الحل النافذ على الحل الموقوف ولا يجوز عند زفر لأنه إنما توقف على إجازة الأب فلا ينفذ بإجازة غيره وكذلك لوباعها المولى أو وهبها أو سلمها فإن كانت تحل للمشتري والموهوب له لم ينفذ ذلك العقد بإجازتهما وإن كانت لا تحل لهما نفذ العقد بإجازتهما عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى ولو كانت تحل لمن ملكها فدخل بها الزوج بعد ما ملكها وقد أجاز ما ملكها النكاح أو لم يجز كان عليه الأقل من مهر(5/203)
ص -102- ... مثلها ومما سمى لها في النكاح قبل انتقال الملك لأن الدخول حصل بشبهة النكاح فسقط الحد ويجب الأقل من المسمى ومن مهر المثل ويكون ذلك لمالكها يوم وطئها لأنه إنما وجب بدلا عن المستوفى بالوطء والمستوفي بالوطء مملوك للثاني فكان البدل له.
ولو كان قد جامعها في ملك الأول ثم أجاز النكاح الآخر فإنه يجعل عليه مهر واحد للأول لأن الدخول بها في الملك الأول حصل بشبهة النكاح فيجب المهر بمقابلة المستوفى منها وذلك المستوفى مملوك للأول فكان المهر له ثم ذكر أن النكاح لا ينفذ بإجازة الثاني هنا لأنه قد فسد حين ملكها ومن أصحابنا من يقول هذا غلط لأنه لما دخل بها الزوج في ملك الأول وجب عليها العدة والمعتدة لا تحل لغير المعتد منه فهي لم تصر محللة للمالك الثاني فلا يفسد النكاح الموقوف فإذا أجازه كان صحيحا.
ولكنا نقول ما ذكره في الكتاب صحيح لأن وجوب العدة إنما يكون بعد التفريق بينهما فأما قبل التفريق فهي ليست بمعتدة فاعتراض الملك الثاني يبطل الملك الموقوف وإن كان هو ممنوعا من غشيانها وجعل هذا قياس المنع بسبب الاستبراء وذلك لا يمنع بطلان النكاح الموقوف فهذا مثله.
قال: ولو كان دخل بها في ملك الأول ثم أعتقها جاز النكاح وفي القياس عليه مهران مهر للمولى بالدخول بشبهة النكاح قبل العتق ومهر لها لنفوذ العقد عليها بعد العتق لأن ملك الحل إنما يثبت بعد العتق فلا يجوز إثباته بغير مهر ولكنه استحسن فقال لا يجب الأمهر واحد للمولى لأن وجوب المهر بالدخول إنما يكون باعتبار العقد ألا ترى أنه لو لم يسبق العقد لا يجب المهر والعقد الواحد لا يوجب إلا مهرا واحدا وإذا وجب به المهر للمولى لا يجب لها به مهر آخر.(5/204)
توضيحه أن الإجازة وإن كانت بعد العتق فحكمها يستند إلى أصل العقد ألا ترى أن الشهود يشترط عند العقد لا عند الإذن فكذلك إذا أجازه في الانتهاء إنما يشترط حضرة الشهود عند العقد لا عند الإجازة وشرط الشهود اختص بملك الحل كشرط المهر فكما أن وجود الشهود عند العقد يغني عن اعتباره عند الإجازة فكذا وجوب المهر للمولى عند العقد يغني عن اعتبار مهر آخر لها عند الإجازة ولو لم يعتقها ولكنه أجاز النكاح جعل إجازته في الانتهاء كالأذن في الابتداء ولو كان أذن لها في النكاح جاز عقدها ويشترط حضرة الشهود عند العقد لا عند الإجازة.
قال: وللمولى أن يكره أمته أو عبده على النكاح أما الأمة فلان بضعها مملوك للمولى فهو إنما يعقد على ملك نفسه بتزويجها وله ولاية العقد على ملك نفسه بغير رضاها كما لو باعها والدليل عليه أن البدل يجب للمولى والنفقة تسقط عن المولى فهو فيما صنع عمل لنفسه وأما العبد فللمولى أن يزوجه من غير رضاه عندنا وليس له ذلك عند الشافعي رحمه(5/205)
ص -103- ... الله تعالى لأن ما تناوله النكاح من العبد غير مملوك للمولى عليه فهو في تزويجه متصرف فيما لا يملكه فلا يستبد به وهذا لأن المولى فيما لا يملكه من عبده كاجنبي آخر ألا ترى أنه لا يملك الإقرار عليه بالقصاص لأن دمه غير مملوك له ولا يملك أن يطلق امرأة العبد لأنها غير مملوكة للمولى فكذلك لا يملك تزويجه لأن محل هذا العقد غير مملوك له.
توضيحه أن تزويجه بغير رضاه لا يفيد مقصود النكاح لأن الطلاق بيد العبد فيطلقها من ساعته ولكنا نستدل بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فإنما عقد المولى على شيء لا يقدر العبد عليه ولأنه مملوكه على الإطلاق فيملك نكاحه بغير رضاه كالأمة وهذا لأن في الأمة إنما يملك المولى العقد عليها لملكه رقبتها لا لملكه ما يملك بالنكاح فإن ولاية التزويج لا تستدعي ملك ما يملك بالنكاح ولا يثبت باعتباره ألا ترى أن الولي يزوج الصغيرة وهو لا يملك عليها ما يملك بالنكاح فثبت إن في حق الأمة إنما يملك تزويجها بملكه رقبتها لا بملكه عليها ما يملك بالنكاح وهذا موجود في جانب العبد بل أولى لأن في تزويج الأمة ينظر لنفسه وفي تزويج العبد إنما ينظر للعبد ولأن الأمهار أحد شطري العقد فيملكه المولى بملك الرقبة كتمليك البضع في جانب الأمة وما قال إنه غير مملوك للمولى فاسد من الكلام فإن العبد لا يستبد بالنكاح بالاتفاق وما لا يملكه المولى من عبده فالعبد فيه مبقي على أصل الحرية يستبد به كالإقرار بالقصاص وإيقاع الطلاق على زوجته وهنا العبد لما كان لا يستبد به عرفنا أنه مملوك للمولى عليه وموجب النكاح الحل وذلك يحصل بالنكاح إلى أن يرتفع بالطلاق والظاهر أن حشمة المولى تمنعه من إيقاع الطلاق.(5/206)
قال: ولو أقر المولى بالنكاح على عبده لم يصح إقراره عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بخلاف ما لو أقر على أمته بالنكاح وقد بينا هذا فيما سبق وذكر شعيب بن أبي القاسم عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى على عكس هذا أن إقرار المولى بالنكاح على عبده صحيح وعلى أمته لا يصح لأنها فرج فلا تحل للزوج بمجرد قول المولى بغير شهود.
قال: وإذا عتقت الأمة المنكوحة فلها الخيار كما بينا فإن اختارت نفسها وقد دخل الزوج بها فالمهر المسمى واجب لسيدها لان الدخول حصل بحكم نكاح صحيح فتقرر به المسمى وإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها ولا لسيدها لأن اختيارها نفسها فسخ للنكاح من أصله فيسقط به جميع المهر كما إذا فرق بينهما لانعدام الكفاءة فإن اختارت زوجها فالمهر لسيدها دخل بها أو لم يدخل بها لأن المسمى وجب بنفس العقد بمقابلة ما ملكه الزوج وإنما ملك ذلك على المولى فكان البدل للمولى ولو لم يعتقها كان للسيد إن يستوفي الصداق من زوجها وليس للزوج أن يمتنع من ذلك حتى يسلمها إليه لأن المولى في استحقاق صداق الأمة كالحرة في استحقاق صداق نفسها وهناك لها أن تحبس نفسها لاستيفاء صداقها فهنا أيضا للمولى أن يحبسها إذا كان الصداق حالا وإن كان الصداق مؤجلا لم يكن(5/207)
ص -104- ... له أن يحبسها ولا للحرة أن تحبس نفسها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على قياس المبيع لا يحبس بالثمن المؤجل.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر وإن كان الصداق مؤجلا فللمرأة أن تحبس نفسها لاستيفائه بخلاف البيع لأن تسليم النفس عليها في جميع العمر والمطالبة بالصداق ثابت لها في العمر وفي البيع استحقاق التسليم عقيب العقد وليس له حق المطالبة بالثمن في ذلك الوقت إذا كان مؤجلا فإن كان استوفى المولى صداقها أمر المولى أن يدخلها على زوجها ولكن لا يلزمه أن يبوأها معه بيتا لأن خدمتها حق المولى فلا تقع الحيلولة بينه وبين استيفاء حقه ولكنها تخدم المولى في بيته كما كانت تفعله من قبل ومتى ما وجد الزوج منها خلوة أو فراغا قضى حاجته فإن لم يدخل بها حتى قتلها مولاها فعليه رد جميع الصداق على الزوج في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن كان لم يقبض الصداق سقط جميع حقه عن الزوج وعندهما لا يسقط شيء منه وكذلك لو باعها المولي في مكان لا يقدر الزوج عليها.
وجه قولهما أن القتل موت بأجل فيتقرر به جميع الصداق كما لو قتلها غير المولى وهذا لأن بالموت تنتهي مدة النكاح فإن النكاح يعقد للعمر فبمضي مدته ينتهي العقد وانتهاء العقد موجب تقرير البدل والدليل عليه أن كل واحد منهما يرث من صاحبه حتى لو جرحها المولى ثم أعتقها فاكتسبت مالا ثم ماتت من تلك الجراحة فإن الزوج يرثها ولو مات الزوج قبلها ورثته أيضا والتوريث إنما يكون عند انتهاء النكاح بالموت وبهذا يتبين أنه لم ينفسخ النكاح بينهما وسقوط المهر من حكم انفساخ النكاح.(5/208)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول من له الحق في البدل اكتسب سبب فوات المعقود عليه قبل التسليم فيسقط حقه في المطالبة بالبدل كما لو أعتقها فاختارت نفسها قبل الدخول وهذا لأن القتل موت كما قال ولكن يتضمن فوات المعقود عليه فإن كان المولى هو الذي اكتسب سببه يجعل التفويت محالا به إليه ألا ترى أن البائع لو أتلف جزء من المبيع قبل القبض يسقط حقه في حصته من الثمن ولو قتل العبد المبيع يسقط جميع الثمن وهذا لأن القتل في الحقيقة موت بأجل ولكن في حق القاتل جعل في أحكام الدنيا كأنه غير الموت حتى يجب على القاتل القصاص والكفارة والدية إن كان خطأ.
ومن ذبح شاة إنسان بغير أمره يكون ضامنا له وباعتبار موته هو محسن إلى صاحب الشاة فيما صنعه غير متلف عليه شيئا.
توضيحه إن المولي لو غيب أمته لم لم يكن له أن يطالب الزوج بصداقها فإذا أتلفها أولى أن لا يكون له أن يطالب بصداقها وهذا الكلام يتضح فيما إذا باعها في مكان لا يقدر عليه الزوج فإنه لا فرق بين هذا وبينما إذا غيبها من غير بيع.
أما الميراث فنقول هذا في الحقيقة موت ولكن جعلناه أتلافا في حق القاتل.(5/209)
ص -105- ... والميراث ليس للقاتل بل ذلك شيء بينها وبين الزوج وفيما بينهما هذا موت منه للنكاح.
ولو قتلت الحرة المنكوحة نفسها قبل أن يدخل بها الزوج لم يسقط مهرها عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يسقط لأن الحق في المهر لها وقد فوتت المعقود عليه قبل الدخول والتسليم فصار كما لو ارتدت قبل الدخول أو قتل المولى أمته ولكنا نقول قتلها نفسها في الأحكام كموتها ولو كانت ماتت لم يسقط مهرها وإنما قلنا ذلك لأن قتلها نفسها هدر في أحكام الدنيا إنما تؤاخذ به في الآخرة فأما في الدنيا لا يتعلق به شيء من الأحكام فهو كموتها بخلاف قتل المولى أمته فإنه معتبر في الأحكام حتى يتعلق به الكفارة إن كان خطأ والضمان إن كان عليها دين.
توضيحه: إن بعد قتلها نفسها المهر لورثتها لا لها ولم يوجد من الورثة ما كان تفويتا للمعقود عليه وقد بينا أن القتل موت في حق غير القاتل فأما المهر للمولى بعد قتل الأمة والتفويت وجد من جهته.
فإن قيل ما تقول فيما إذا كان الوارث هو الذي قتلها؟
قلنا الوارث إذا قتلها صار محروما عن الميراث ولا حق له في الميراث هنا فلهذا لا يعتبر فعله في إسقاط مهرها وهذا بخلاف ردتها لأنه معتبر في أحكام الدنيا ولأن المهر لها بعد الردة وتفويت المعقود عليه كان منها فأما الأمة إذا قتلت نفسها فعنه روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى:
في إحدى الروايتين لا يسقط مهرها كالحرة إذا قتلت نفسها بل أولى لأن المهر هنا لمولاها لا لها.
وفي الأخرى يسقط مهرها كما لو ارتدت وهذا لأن فعل المملوك مضاف إلى المالك في موجبه ألا ترى أنها لو قتلت غيرها كان المولى هو المخاطب بدفعها أو فدائها فإذا قتلت نفسها جعل في الحكم كان المولى قتلها فلهذا يسقط مهرها.(5/210)
قال: وإذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة فأخبره رجل أنها حرة ولم يزوجها إياه ولكن الرجل تزوجها على أنها حرة فإذا هي أمة وقد ولدت له ضمن الزوج قيمة الولد لأنه مغرور وولد المغرور حر بالقيمة به قضى عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وهذا لأنه لم يرض برق مائه ولكن كما يعتبر حقه يعتبر حق المستحق فيكون الولد حرا بالقيمة نظرا من الجانبين ولا يرجع الزوج على المخبر بشيء لأنه ما التزم له شيئا وإنما أخبره بخبر كان كاذبا فيه وذلك لا يثبت حق الرجوع عليه كما لو أخبره أن الطريق آمن فسلك فيه فأخذ اللصوص متاعه ولكنه يرجع بقيمة الولد على الأمة إذا أعتقت لأنها غرته حين زوجته نفسها على أنها حرة وضمان الغرر كضمان الكفالة فإنها ضمنت له سلامة الولد بما ذكرت من الحرية في العقد وضمان الكفالة يجب على الأمة بعد العتق ويضمن الزوج العقر للمولى ولا يرجع به على أحد لأنه(5/211)
ص -106- ... عوض ما استوفى منها والمستوفي كان مملوكا للمولى وهو الذي نال اللذة باستيفائه.
قال: وإذا تزوجت المستسعاة في بعض قيمتها ثم أدت السعاية فعتقت خيرت في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن المستسعاة كالمكاتبة عنده وقد بينا أن المكاتبة إذا أعتقت وقد كانت زوجت نفسها خيرت.
قال: ولا يجوز نكاح الأمة في عدة حرة من فرقة أو طلاق بائن أو ثلاث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد وبن أبي ليلى رحمهم الله تعالى ولو كانت معتدة من طلاق رجعي لم يجز نكاح الأمة في عدتها بالاتفاق فهم يقولون المحرم نكاح الأمة على الحرة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأمة على الحرة" والتزوج عليها إنما يتحقق إذا كان ملكه باقيا عليها وذلك بعد الطلاق الرجعي أو قبل الطلاق فأما بعد الفرقة لم يبق بينه وبينها نكاح فلا يكون متزوجا عليها كما لو كانت الحرة تعتد منه من نكاح فاسد أو وطء بشبهة فتزوج أمة يجوز.
والدليل على صحة هذا لو قال لامرأته إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق فتزوج امرأة بعد ما أبانها لم تطلق بخلاف ما لو تزوجها بعد الطلاق الرجعي أو قبله فثبت أنه غير متزوج عليها بعد ما أبانها وهذا بخلاف المنع من نكاح الأخت في عدة الأخت لأن المحرم هناك الجمع فإذا تزوجها في عدتها صار جامعا بينهما في حقوق النكاح وهذا المنع ليس لأجل الجمع فإنه لو تزوج الأمة ثم الحرة صح نكاحها ولكن المنع من تزوج الأمة على الحرة لما فيه من إدخال ناقصة الحال في مزاحمة كاملة الحال وهذا لا يوجد بعد البينونة.(5/212)
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المنع من نكاح الأمة ثبت بنكاح الحرة وكل منع ثبت بسبب النكاح يبقى ببقاء العدة كالمنع من نكاح الأخت والأربع وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح وحق الشيء كنفس ذلك الشيء في إبقاء الحرمة ونكاح الأمة إنما لا يجوز بعد الحرة لأنها محرمة في هذه الحالة فتبقى تلك الحرمة ببقاء عدتها فإنها محرمة مضمومة إلى الحرة وفي هذا نوع ضم في فراش النكاح.
فأما إذا كانت الحرة تعتد من نكاح فاسد فقد قيل إن ذلك قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز وبعد التسليم يقول هناك المنع لم يكن ثابتا بالنكاح الفاسد حتى يقال يبقى ذلك ببقاء العدة وأما مسألة اليمين قلنا في الإيمان المعتبر العرف وفي العرف لا يسمى متزوجا عليها بعد البينونة فلهذا لا تطلق فأما في ألفاظ الشرع المعتبر المعني ومعني الحرمة باق ببقاء العدة وكذلك لو تزوج مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد في عدة حرة لأن الرق في هؤلاء باق وحكمهن في النكاح حكم الأمة القنة.
قال: رجل تزوج خمس حرائر وأربع إماء في عقدة واحدة جاز نكاح الإماء دون الحرائر لأن نكاح الحرائر لو انفرد عن نكاح الإماء لم يصح هنا فإنهن خمس لا يمكن(5/213)
ص -107- ... تصحيح نكاحهن وليس بعضهن بأولى من البعض فيلغو ضمهن إلى الإماء ويبقى المعتبر نكاح الإماء وهن أربع يجوز نكاحهن للحر عندنا فلهذا جاز نكاح الإماء.
وكذلك إن تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة وللحرة زوج لأن نكاح المنكوحة باطل وهذا هو الأصل أنه متى كان لا يصح نكاح الحرة وحدها فضمها إلى الأمة وجودا وعدما سواء فإما إذا كان يصح نكاح الحرة وحدها يتحقق ضم الحرة إلى الأمة فيبطل نكاح الأمة ويجوز نكاح الحرة عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا يجوز لأن العقد واحد فإذا بطل بعضه بطل كله كما لو جمع بين أختين ولكنا نقول نكاح الحرة أقوى من نكاح الأمة ألا ترى أنه يصح تقدم أو تأخر والضعيف لا يدفع القوي ولكنه يندفع به بخلاف الأختين فإنهما مستويتان فيندفع نكاح كل واحدة منهما بالأخرى.
توضيحه إن الأمة من المحرمات مضمومة إلى الحرة والحرة من المحللات فصار هو جامعا بين محرمة ومحللة فيجوز العقد في المحللة دون المحرمة.
قال: وإذا زوج مدبرته أو أمته أو أم ولده وبوأها مع الزوج بيتا ثم بدا له أن يردها إلى خدمته كان له ذلك لأن خدمتها حق المولى وهو بالتبوئة يصير كالمعير لها من زوجها فكان له أن يستردها متى شاء وكذلك لو كان شرط ذلك للزوج كان الشرط باطلا لا يمنعه من أن يستخدم أمته لأن المستحق للزوج بالنكاح ملك الحل لا غير فاشتراطه شيئا آخر غير ملزم إياه لأنه لا يمكن إلزامه بطريق الاستجبار فإن المدة غير معلومة ولا بطريق الإعارة فإن الإعارة لا يتعلق بها اللزوم.(5/214)
قال: ولو تزوجها على أنها حرة ثم علم بعد ذلك أنها أمة قد أذن المولى لها في النكاح فهي امرأته إن شاء أمسك وإن شاء طلق لأن ظهور رقها نوع عيب وقد بينا أن العيب لا يثبت الخيار للزوج غير أن ما ولد له من ولد فيما مضى وما كان في بطنها فهو حر لأجل الغرور وعلى الأب قيمة الولد يوم يختصمون لأن الولد في يده بصفة الأمانة ما لم يخاصم فإنه لا يكون أعلى حالا من ولد المغصوبة وولد المغصوبة أمانة ما لم يطالب بالرد فكذلك ولد المغرور حتى إذا مات قبل الخصومة فلا ضمان على الأب فيه ولكنه إنما يصير مانعا للولد بعد الطلب وذلك عند الخصومة فلهذا تعتبر قيمته وقت الخصومة وهذا إذا تبين أنها أمة أو مدبرة وكذلك إذا تبين أنها أم ولد.
في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا تجب قيمة الولد هنا لأن ولد أم الولد كأمه لا قيمة لرقه حتى لا يضمن بالغصب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فكذلك بالمنع بعد الطلب.
وجه ظاهر الرواية أن الولد إنما يصير كأمه إذا ثبت فيه حق أمية الولد وذلك بعد ثبوت الرق فيه وهنا علق الولد حر الأصل فلم يثبت فيه حق أمية الولد.(5/215)
ص -108- ... ولو تبين أنها مكاتبة ففي ظاهر الرواية الجواب كذلك.
وروي الحسن عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله تعالى أنه لا يضمن قيمة الولد هنا لأنه لو ضمن إنما يضمن لها وهي إنما تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها ففي حرية ولدها يحصل بعض مقصودها فلا يجب الضمان ولأنه لو رجع لرجع عليها بما ضمن لأن الغرور كان منها فلا يكون مفيدا شيئا.
وجه ظاهر الرواية أن السبب الموجب لضمان قيمة ولد الغرور وقد تقرر هنا ورجوعه عليها يكون بعد العتق وهي تستوجب الضمان عليه للحال فكان مفيدا وإنما يرجع على الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة بقيمة الولد يعد العتق لما بينا إن ضمان الغرور كضمان الكفالة وضمان الكفالة في حق هؤلاء مؤخر إلى ما بعد العتق.
قال: ولو مات الولد وترك مالا فماله لأبيه بحكم الإرث ولا ضمان على الأب فيه لما بينا أن المنع بعد الطلب لم يتحقق منه.
ولو قتل الولد يأخذ الأب ديته وكان عليه قيمته لأنه سلم له بدل نفسه وحكم البدل كحكم المبدل فيتحقق به المنع بعد الطلب فلهذا كان عليه قيمته وكذلك لو ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا كان على الضارب خمسمائة درهم بدل الجنين الحر لأنه علق حر الأصل وعلى الأب نصف عشر قيمته للمولى إن كان ذكر عشر قيمتها إن كانت أنثى لأن حق المستحق في جنين الأمة فلا يغرم له الأب إلا بدل جنين الأمة وإن سلم له بدل جنين الحرة كما لو قتل بعد الانفصال.(5/216)
قال: ولو مات الأب وبقي الولد أخذ المولى قيمته من تركة الأب ولا يرجع بها بقية الورثة في حصة الولد لأن المنع قد تحقق وذلك موجب ضمان القيمة على الأب فيستوفي من تركته بعد موته وقضاء دين الأب لا يكون على بعض الورثة دون البعض فلهذا لا يرجعون في حصته وإن لم يترك الأب شيئا لم يؤخذ الولد بشيء كما لا يؤخذ بسائر ديون الأب وكذلك الجواب إن كان مولى الجارية عما للولد لأن عتق الغلام هنا ليس باعتبار القرابة بل بالغرور فإنه علق حر الأصل والعتق بالقرابة إنما يكون بعد ثبوت الملك للعم فيه فلهذا كان العم فيه وغيره في هذا سواء.
قال: وإن كانت تزوجت بغير إذن المولى أخذها المولى وعقرها والجواب في قيمة الولد على ما بينا وإن كان الذي غره غير الأمة بأن زوجها منه حر على أنها حرة فهذا وما تقدم سواء إلا إن الأب يرجع بقيمة الولد على المزوج في الحال لأن ضمان الغرور كضمان الكفالة والحر يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال وإن كان الذي غره فيها عبدا أو مدبرا أو مكاتبا فلا رجوع له عليهم حتى يعتقوا سواء كان العبد مأذونا أو لم يكن لأن المأذون إنما يؤاخذ بضمان التجارة في الحال لا بضمان الكفالة فيتأخر إلى عتقهم إلا أن يكون المولى(5/217)
ص -109- ... أمر العبد أو المدبر بذلك فحينئذ يؤاخذ به في الحال لأن كفالة العبد بإذن المولى موجب للضمان عليه في الحال فأما المكاتب لا يؤاخذ به حتى يعتق سواء فعله بإذن المولى أو بغير إذنه لأن المولى ليس له حق التصرف في كسبه فلا يعتبر إذنه فيه وإن كان المتزوج المغرور عبدا أو مدبرا أو مكاتبا بأن تزوج أحد من هؤلاء بإذن المولى امرأة على أنها حرة فولدت له ثم ظهر أنها أمة فالولد رقيق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله تعالى نص على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في كتاب الدعوى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى الولد حر بقيمته على الأب إذا عتق ويرجع بذلك على الذي غره وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن السبب الموجب للحرية الغرور واشتراط الحرية فيها عند النكاح وهذا يتحقق من الرقيق كما يتحقق من الحر وكما يحتاج الحر إلى حرية الولد فالمملوك محتاج إلى ذلك بل حاجته أظهر لأنه ربما يتطرق به إلى حرية نفسه توضيحه أنه لا معتبر برق الزوج وحريته في رق الولد بل المعتبر فيه جانب الأم ألا ترى أن الحر إذا تزوج أمة وهو يعلم بحالها كان ولده رقيقا فإذا كان المعتبر رق الأم وقد سقط اعتبار رقها في حق الولد عند اشتراط الحرية إذا كان الزوج حرا فكذلك إذا كان الزوج عبدا لأن ما شرط من الحرية يجعل كالمتحقق في حرية الولد فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهم الله تعالى قالا هذا الولد مخلوق من ماء رقيقين فيكون رقيقا وهذا لأن الولد متفرع من الأصل فإنما يتفرع بصفة الأصل وإذا كان الأصلان رقيقين لا تثبت الحرية للولد من غير عتق وأما إذا كان الزوج حرا فقد ثبت حرية الولد هناك باتفاق الصحابة رضي الله عنهم بخلاف القياس وهذا ليس في معنى ذاك لأن ماء الرجل هناك بصفته حر فإنه جزء منه وإنما يصير رقيقا باتصاله برحم الأمة فتأثير الغرور في المنع من ثبوت الرق في مائة بالاتصال برحم الأمة وهنا ماء العبد رقيق كنفسه فالحاجة إلى(5/218)
إثبات الحرية لمائة وما يصلح لا بقاء ما كان على ما كان لا يصلح لإيجاب ما لم يكن يوضحه إن الحاجة هناك إلى الترجيح عند التعارض لأن اعتبار جانب مائه يوجب حرية الولد واعتبار جانب مائها يوجب رق الولد فجعلنا الغرور دليلا مرجحا وهنا الحاجة إلى إثبات الحرية دون الترجيح وما يصلح مرجحا لا يصلح موجبا توضيحه أن هناك ثبت حرية الولد بضمان قيمته على الأب في الحال فيندفع الضرر به عنه وهنا لو ثبتت حرية الولد إنما تثبت بضمان قيمته بعد العتق فيتضرر به المستحق في الحال فإذا ثبت أن هذا ليس في معنى المنصوص وجب الرجوع فيه إلى الأصل فكان الولد رقيقا بمنزلة أمه ثم على قول محمد رحمه الله تعالى إن كان التزوج من هؤلاء بإذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر في الحال وإن كان بغير إذن السيد فعليهم قيمة الولد والمهر بعد العتق لأن كل دين وجب على المملوك بسبب مأذون من جهة المولى يؤاخذ به في الحال وكل دين وجب عليه بسبب غير مأذون فيه فإنما يؤاخذ به بعد العتق.(5/219)
ص -110- ... قال: وإذا تزوجها وهو يعلم أنها أمة أو تزوجها وهو يحسب أنها حرة ولم يغره فيها أحد فأولاده أرقاء لأن هذا ظن منه والظن لا يغنى من الحق شيئا ولأن الموجب لحرية الولد الغرور ولم يتحقق الغرور هنا ولو كانت أمة بين رجلين زوجها أحدهما من رجل ودخل الزوج بها فللآخر أن يبطل النكاح لأن المزوج لا يملك إلا نصفها وملك نصف الأمة ليس بسبب لولاية التزويج فلم ينفذ عقده عليها وقد تناول عقده نصيب الشريك فكان له أن يفسخ عقده دفعا للضرر عن نفسه وقد سقط الحد عن الزوج لشبهة النكاح فيجب المهر عليه إلا أن في نصيب المزوج يجب الأقل من نصف المسمى ومن نصف مهر مثلها لأنه راض بالمسمى ورضاه صحيح في نصيب نفسه فأما في نصيب الشريك يجب نصف مهر المثل بالغا ما بلغ لأنه لم يرض بسقوط شيء من حقه وإن كان إبطال النكاح قبل الدخول فلا مهر لواحد منهما سواء خلا بها الزوج أو لم يخل لأن الخلوة إنما تعتبر في النكاح الصحيح وهذا العقد لم يكن صحيحا فلا تعتبر الخلوة فيه.
قال: وإذا زوج أمة ابنه الصغير فذلك جائز وكذلك الوصي إذا زوج أمة اليتيم وكذلك المكاتب إذا زوج أمته وكذلك المفاوض إذا زوج أمة من الشركة لأن تزويج الأمة من عقود الاكتساب فإنه يكتسب به المهر ويسقط به نفقتها عنه وهؤلاء الأربعة يملكون الاكتساب أما المكاتب فهو منفك الحجر عنه في اكتساب المال وأما الأب والوصي فإنهما أمرا بالنظر للصغير وعقد اكتساب المال من النظر وأما المفاوض فإن المتفاوضين إنما عقدا المفاوضة لاكتساب المال ولا يملك هؤلاء تزويج العبد لأنه ليس فيه اكتساب المال بل فيه تعييب العبد وشغل ذمته بالمهر والنفقة من غير منفعة لهم في ذلك.(5/220)
قال: ولو زوج الأب أو الوصي أمة الصبي من عبده لا يجوز ذلك أيضا نص عليه في المأذون وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يجوز لأنه لا ضرر فيه على الصبي فإن المهر لا يجب بهذا العقد ونفقتهما عليه بعد النكاح كما كانا قبله وفيه منفعة للصبي من حيث النسل فيجوز ذلك من الأب والوصي كانزاء الفحل من مال الصبي على أبانه ووجه ظاهر الرواية أن في هذا تعييبا لهما لأن النكاح عيب في العبيد وإلا ماء جميعا ومنفعة النسل موهومة والمنفعة الموهومة لا تكون جائزة للضرر المتحقق فلهذا لا يصح هذا العقد منهما وأما العبد المأذون أو المضارب أو الشريك شركة عنان إذا زوج واحد منهما الأمة لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يجوز لأنه عقد اكتساب المال وهؤلاء يملكون ذلك ولأن المستوفي بالوطء في الحقيقة منفعة ولهذا سمي الله تعالى المهر أجرا وهؤلاء يملكون الإجارة فكذلك يملكون التزويج وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا المأذون إنما كان منفك الحجر عنه في التجارة والتزويج ليس من جملة التجارة فإن التجار لا يعتادون اكتساب المال بتزويج الإماء.(5/221)
ص -111- ... والدليل عليه أن المرأة لو زوجت نفسها من رجل بعبد ونوت التجارة عند العقد لا يصير العبد به للتجارة ولو كان النكاح من التجارة لصار العبد به للتجارة فإن نية التجارة متى اقترنت بعمل التجارة يصير للتجارة وإذا لم يكن النكاح من التجارة فلا يملكه هؤلاء كالكتابة وبه فارق الأربعة التي تقدمت فإن أولئك يملكون الكتابة فعرفنا أن تصرفهم غير مقصور على التجارة وهؤلاء الثلاثة لا يملكون الكتابة فعرفنا ان تصرفهم مقصور على التجارة ولا شك أن هؤلاء الثلاثة لا يزوجون العبد لأن تزويج العبد ليس من الاكتساب ولا من التجارة.(5/222)
قال: وإذا تزوج الحر أمة ابنه جاز النكاح عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمة الله تعالى وقيل هذا بناء على الأصل الذي تقدم أن عنده لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا عند عدم طول الحرة وعلى الابن أن يعف أباه فيستغنى به عن نكاح الأمة ولكن هذا ليس بصحيح فإنه لو تزوج أمة غيره صح النكاح إذا لم يكن في ملكه ما يتزوج به الحرة والأصح أن هذه مسألة مبتدأة فوجه قوله إن للأب حق الملك في مال ولده حتى لو وطيء جارية ابنه مع علمه بحرمتها لا يلزمه الحد فلا يجوز له أن يتزوجها كالمولى إذا تزوج أمة من كسب مكاتبه بل أولى لأن حق الملك في مال ولده أظهر ألا ترى أن استيلاده في جارية الابن صحيح واستيلاد المولى أمة مكاتبه لا يصح توضيحه أن الولد كسبه قال صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" فجارية الابن كسب كسبه فلا يملك التزوج كأمة عبده ولكنا نقول ليس له في جارية ولده ملك ولا حق ملك فيجوز له أن يتزوجها كأمة أبيه وأخيه وإنما قلنا ذلك لأنه يحل للابن أن يطأ جاريته بالاتفاق ولو كان لأبيه فيها حق الملك لم يحل له وطؤها كالمكاتب فإنه لا يحل له أن يطأ أمته لما كان للمولى فيها حق الملك فأما سقوط الحد فليس لقيام حق الملك له في الجارية ولكن لظاهر الإضافة في قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وهذا الظاهر وإن كان لم يكن معمولا به في إيجاب ملك أو حق ملك له فيها يصير شبهة في إسقاط الحد كالبيع بشرط الخيار لا يوجب الملك ولا حق الملك للمشتري ثم يسقط الحد به وكذلك العقد الفاسد من نكاح أو بيع قبل القبض والولد وإن كان كسبا له فهو كسب حر فلا يثبت له حق الملك في كسبه بمنزلة مال المعتق لا حق للمعتق فيه وإن كان المعتق كسبا له لأنه كسب حر فأما صحة الاستيلاد ليس باعتبار حق الملك له فيها بل بولاية التملك عند الحاجة وتقرر حاجته إلى صيانة مائة كيلا يضيع نسله فإن تزوجها فولدت له ولدا كان الولد حرا لأن(5/223)
الولد يتبع الأم في الملك فمولى الجارية هنا ملك أخاه فيعتق عليه بالقرابة ولا تصير الجارية أم ولد له عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى تصير أم ولد له وكذا إذا استولدها بنكاح فاسد أو وطء بشبهة عندنا لا تصير أم ولد له خلافا لزفر رحمه الله تعالى وحجته إنه لو استولدها بفجور صارت أم ولد له فإذا استولدها بنكاح أو بشبهة نكاح أولى أن تصير أم ولد له ولكنا نقول إذا استولدها بغير شبهة فهناك يصير(5/224)
ص -112- ... متملكا لحاجته إلى ذلك كيلا يضيع ماؤه فإن إثبات النسب غير ممكن بدون التملك لأنه ليس له فيها ملك ولا حق ملك فإذا تملكها سابقا على الاستيلاد كان الاستيلاد في ملك نفسه فلهذا صارت أم ولد له وهنا غير محتاج إلى تملكها لإثبات النسب بل النكاح أو شبهة النكاح يكفي لذلك فلم يصر متملكا لها فلهذا لا تصير أم ولد له.
قال: ولو كان الابن هو الذي تزوج أمة أبيه بتزويج الأب إياها منه جاز النكاح فإذا ولدت فالولد حر لأن الأب ملك الابن أمته ولا تصير الجارية أم ولد له لأنه لا ملك له فيها وإن كان الابن وطئها بغير نكاح أو شبهة نكاح لم يثبت نسبه منه وإن ادعاه لأنه ليس له حق التملك في جارية أبيه ولكن لأحد عليه إن قال ظننت أنها تحل لي وإن قال علمت إنها علي حرام فعليه الحد لأن عند الظن اشتبه عليه ما يشتبه فيسقط الحد به وعند العلم بالحرمة لا شبهة له في المحل حقيقة ولا صورة ولم يشتبه عليه أمر ها فلزمه الحد وإن صدقه الأب في أنه وطئها وأن الولد منه عتق الولد بإقراره لأنه إذا ملك ابنه من الزنى عتق عليه فكذلك إذا ملك بن ابنه من الزنى ولكن لا يثبت النسب لما بينا بخلاف الأب إذا كان هو الذي استولد جارية ابنه فإنه لا حاجة إلى تصديق الولد لأن الأب له ولاية تملك جارية الابن فإنما يكون مستولدا لها في ملك نفسه ولهذا ضمن قيمتها لابنه وليس للابن هذه الولاية في جارية أبيه فلهذا لا يعتق الولد إلا إذا صدقه الأب فيه.(5/225)
قال: ولا يتزوج العبد أكثر من اثنتين وقال مالك رحمه الله تعالى له أن يتزوج أربعا لأن الرق لا يؤثر في مالكية النكاح حتى لا يخرج من أن يكون أهلا لملك النكاح ومالا يؤثر فيه الرق فالعبد والحر فيه سواء كملك الطلاق وملك الدم في الإقرار بالعقود ومذهبنا مروي عن عمر رضي الله عنه قال لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين ولأن الرق مؤثر في تنصيف ما كان متعددا في نفسه كالجلدات في الحدود وعدد الطلاق وإقراء العدة وهذا لأن ملك النكاح مبنى على الحل الذي يصير به أهلا للنكاح وذلك الحل يتسع بزيادة الفضيلة ويتضيق بنقصان الحال ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا باباحة تسع نسوة لفضيلة النبوة التي اختص بها فكان الحل في حقه متسعا لتسع نسوة ولا يجوز لأحد غيره أكثر من أربع نسوة فكذلك يتسع الحل لفضيلة الحرية فيتزوج الحر أربعا ولا يتزوج العبد إلا اثنتين يوضحه أن الرق ينصف الحل ألا ترى أن في جانب الأمة يتنصف حلها بالرق حتى إن ما ينبني على الحل وهو القسم يكون حالها فيه على النصف من حال الحرة وكذلك ما يجب على المستوفي لهذا الحل بغير طريقه وهو الحل يتنصف بالرق حتى يجب على العبد بالزنى خمسون جلدة وعلى الحر مائة جلدة وإذا ثبت أن الحل يتنصف بالرق وعليه ينبني عدد المنكوحات فقلنا حال العبد فيه على النصف من حال الحر فيتزوج اثنتان الحرتان والأمتان في ذلك سواء والشافعي رحمه الله تعالى هنا لا يخالفنا لأن في حق العبد نكاح الأمة أصل وليس ببدل إذ(5/226)
ص -113- ... ليس فيه تعريض شيء للرق فإنه رقيق بجميع أجزائه فلهذا جوز له نكاح الأمتين وعلى هذا الأصل يقول الشافعي رضي الله تعالى عنه للعبد أن يتزوج أمة على حرة ولكنا نقول لا يجوز لأن الأمة ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة في حق الحر فكذلك في حق العبد والمدبر والمكاتب وبن أم الولد في هذا كالعبد لأن الرق المنصف للحل فيهم قائم.
قال: ولا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن مولاه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يجوز لأن الرق لم يؤثر في مالكية النكاح فيستبد العبد به كالطلاق وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بظاهر قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] والنكاح شيء فلا يملكه العبد بنفسه ومذهبنا مروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر والمعنى فيه أن في النكاح تعييبه وفيه شغل ماليته بالمهر والنفقة وما ليته ملك مولاه فلا يملك شغل ذلك بتصرفه بغير إذن المولى يوضحه أنه لو باع رقبته أو رهنه بمال لم يجز وإن كان منفعة ذلك ترجع إلى المولى فإذا تزوج ولا منفعة في عقده للمولى أولى أن لا يجوز وكذلك المدبر وبن أم الولد والمكاتب لا يتزوج أحد من هؤلاء بغير إذن المولى لأن الرق الموجب للحجر فيهم فإن إذن المولى لهم في ذلك جاز العقد فإن المولى لو باشر تزويجهم جاز فكذلك إذا أذن لهم فيه إلا أن في المكاتب يحتاج إلى رضاه إذا باشره المولى فإن أذن له المولى فباشره المكاتب يجوز أيضا وهذا بخلاف تزويج الأمة فإن المكاتب يزوج أمته بغير رضا المولى لأن أمته غير مملوكة للمولى وتزويجها من عقود الاكتساب فيملكه المكاتب فأما تزويجه لنفسه ليس من عقود الاكتساب ورقبته مملوكة للمولى وعلى هذا لو أن المكاتبة زوجت أمتها جاز ذلك ولو تزوجت بنفسها لم يجز إلا بإذن المولى لقيام ملك المولى في رقبتها.(5/227)
قال: ولو تزوج العبد بغير إذن مولاه فأجازه جاز لأن الإجازة في الانتهاء كإذنه في الابتداء فإن طلقها العبد ثلاثا بعد إجازة المولى طلقت ثلاثا ولم يجز للعبد أن يتزوج حتى تنكح زوجا غيره لأن النكاح لما صح كان العبد في إيقاع الطلاق عليها كالحر ولو طلقها ثلاثا قبل إجازة المولى النكاح لم يقع النكاح ولكن يكون هذا متاركة للنكاح لأن وقوع الطلاق يختص بنكاح صحيح ونكاحه بغير إذن المولى لم يكن صحيحا فلا يقع الطلاق ولكن إيقاع الطلاق يؤثر في إزالة الحل عن المحل وإيقاع الفرقة إذا كان صحيحا فإذا لم يكن النكاح نكاحا صحيحا فلا يؤثر في هذين الحكمين ولكن يؤثر في رفع الشبهة حتى لو وطئها قبل الطلاق لا يلزمه الحد ولو وطئها بعد الطلاق يلزمه الحد وإن لم يجز المولى ذلك العقد ولكن أذن له أن يتزوجها ابتداء فلا بأس بأن يتزوجها لأن حرمة المحل بوقوع التطليقات على المحل ولم يقع هنا فلا بأس بأن يتزوجها كالصبي والمجنون إذا طلق امرأته ثلاثا لا يثبت به حرمة المحل ولأن النكاح لما لم يصح كان هذا طلاقا قبل النكاح وقال عليه الصلاة والسلام(5/228)
ص -114- ... "لا طلاق قبل النكاح" ولو أجاز المولى ذلك النكاح فأجازته باطلة لأن الإجازة إنما تعمل في حال توقف العقد وقد ارتفع العقد بما أوقعه العبد لأنه يستبد بالطلاق لو أوقعه في نكاح صحيح ارتفع النكاح فإذا أوقعه في العقد الموقوف أولى أن يرتفع العقد به فإن أذن له أن يتزوجها بعد هذا كرهت له أن يتزوجها ولو فعل لم يفرق بينهما في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكره ذلك وجه قوله ظاهر فإن الطلاق غير واقع على المحل وحرمة المحل باعتبار وقوع الطلاق ولأن إجازة المولى للعقد باطل فوجوده كعدمه ولو لم يجز العقد كان له أن يتزوجها بإذنه فكذلك بعد إجازته وجه قولهما إن الطلاق تصرف ينبني على النكاح وإجازة العقود يتضمن إجازة ما ينبني عليه فاعتبار هذا المعني يوجب نفوذ الطلاق وحرمة المحل فجعلناه معتبرا في الكراهة وإن لم يكن معتبرا في حقيقة حرمة المحل ولكن هذا على أصل محمد رحمه الله تعالى غير صحيح فإن عنده المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المولى لا ينفذ عتقه وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما يصح هذا إن لو كان الطلاق يتوقف على أجازة المولى وقد بينا أن طلاق العبد لا يتوقف على إجازة المولى لكن الوجه فيه أن نقول الإجازة في الانتهاء كالأذن في الابتداء والأذن في الابتداء لو كان موجودا تثبت به حرمة المحل حقيقة فكذلك بوجود صورة الإجازة في الانتهاء تثبت الكراهة توضيحه أن العبد أهل للنكاح في حق نفسه ولهذا لو أعتق قبل إجازة المولى نفذ نكاحه فاعتبار هذا الجانب يوجب نفوذ طلاقه واعتبار جانب حق المولى يمنع نفوذ طلاقه فلتعارض الأدلة قلنا لا تثبت الحرمة حقيقة ولكن تثبت صفة الكراهة احتياطا لأنه إن ترك نكاح امرأة تحل له كان خيرا له من أن يتزوج امرأة لا تحل له.(5/229)
قال: وإذا تزوج العبد حرة بغير إذن مولاها ثم أعتقه المولى جاز النكاح لأنه مخاطب له قول ملزم وإنما امتنع نفوذ نكاحه لحق مولاه فإذا أسقط المولى حقه بالعتق فينفذ النكاح لزوال المانع وكذلك لو باعه فأجاز المشتري لأن المشتري قام مقام البائع في ملكه رقبته فكذلك في إجازة عقده وهذا لأنه ماطرأ بالبيع حل نافذ على الحل الموقوف فإن العبد لا يحل للمشتري فلهذا كانت إجازته كإجازة البائع وعند زفر رحمه الله تعالى لا ينفذ بإجازة المشتري وقد بينا هذا وكذلك لو أجاز وارثه بعد موته.
قال: ولو أذن لعبده في النكاح لم يملك أن يتزوج إلا امرأة واحدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى له أن يتزوج اثنتين وهذا بناء على الأصل الذي تقدم بيانه أن النكاح مملوك للمولى على عبده عندنا حتى يزوجه من غير رضاه فيكون العبد فيه نائبا عن مولاه فهو كالحر يأمر غيره أن يزوجه فلا يزوجه بمطلق الوكالة إلا امرأة واحدة وعندهما النكاح غير مملوك للمولى على عبده ولكن العبد هو المالك له إلا أنه لا ينفذ منه بدون إذن المولى لأن ضرره يتعدى إلى حق المولى فإذا أذن المولى له في ذلك فقد رضي بالتزام هذا الضرر وأسقط حق(5/230)
ص -115- ... نفسه فكان للعبد أن يتزوج اثنتين ولو تزوج امرأتين في عقدة لا يجوز نكاح واحدة منهما إلا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول فإنه يقول يجوز نكاح إحداهما والبيان فيه إلى العبد بمنزلة من وكل وكيلا أن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين عنده يصح نكاح إحداهما والخيار إلى الزوج وقد تقدم بيان هذه المسألة فإن قال المولى عنيت نكاح امرأتين جاز نكاحهما لأنه لو أجاز نكاح امرأتين جاز فكذلك إذا قال نويت ذلك عند الأذن لأن المنوي من محتملات لفظه وهو غير متهم في هذا البيان.(5/231)
قال: وإذا أذن له أن يتزوج واحدة فتزوجها نكاحا فاسدا ودخل بها أخذ بالمهر في حالة الرق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يؤخذ به حتى يعتق وأصل المسألة أن عندهما إذن المولى لعبده في النكاح ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد لأن مقصوده تحصيل العفة به للعبد وذلك إنما يحصل بالعقد الصحيح دون الفاسد واستدلالا بما لو حلف أن لا يتزوج ينصرف يمينه إلى العقد الصحيح دون الفاسد فعرفنا به أن الفاسد ليس بنكاح فلا يتناوله إذن المولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الفساد والصحة صفة العقد والإذن من المولى في أصل العقد فلا يتقيد بصفة دون صفة كالإذن في البيع والشراء للوكيل أو للعبد يتناول الفاسد والصحيح جميعا وهذا لأن بعض المقاصد يثبت بالعقد الفاسد نحو النسب والمهر والعدة عند الدخول وهذا لو حلف أنه ما تزوج في الماضي وقد كان تزوج فاسدا أو صحيحا كان حانثا في يمينه وفي المستقبل إنما حملناه على العقد الصحيح لدلالة العرف فإن الإيمان تنبني على العرف فأما هنا اعتبار إذن المولى لدفع الضرر عنه وذلك يعم العقد الصحيح والفاسد إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا دخل بها بالنكاح الفاسد فقد لزمه المهر بسبب كان مأذونا فيه من جهة المولى فيؤاخذ به في الحال وعندهما أذن المولى لا يتناول العقد الفاسد فإنما لزمه المهر بسبب غير مأذون فيه من جهة المولى فيتأخر إلى ما بعد العتق وعلى هذا لو تزوجها نكاحا صحيحا بعد هذا يجوز عندهما لأن حكم إذن المولى ما انتهى بالعقد الفاسد فيكون مباشرا العقد الثاني بإذنه وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصح العقد الثاني لأن حكم إذن المولى انتهى بالعقد الأول فيحتاج في العقد الثاني إلى إذن جديد.(5/232)
قال: وإذا تزوج العبد بغير إذن مولاه ودخل بها ثم أجاز المولى ذلك النكاح فعليه مهر واحد وهو الذي سماه لها استحسانا لأن الإجازة في الانتهاء كالأذن في الابتداء وفي القياس عليه مهران مهر المثل بالدخول والمسمى بنفوذ العقد بالإجازة وقد بينا نظير هذا في جانب الأمة فهو كذلك في العبد وعلى هذا لو أعتقه المولى حتى نفذ العقد بعد عتقه.
قال: وإذا تزوج المكاتب بغير إذن السيد أو العبد أو المدبر ودخل بها ثم فرق بينهما السيد فلا مهر عليه حتى يعتق لأن النكاح في حق المكاتب ليس من عقود التجارة ولا من اكتساب(5/233)
ص -116- ... المال والمهر عند الدخول إنما يجب بسبب ذلك العقد فإذا لم يكن عقد الكتابة متنا ولا ذلك العقد يتأخر المال الواجب بسببه إلى ما بعد العتق وهذا بخلاف جناية المكاتب فإن موجبه في كسبه يثبت في الحال لأن وجوب ذلك باعتبار الفعل والرق لا يؤثر في الحجر عن الأفعال وأما وجوب المهر هنا باعتبار العقد لأن الدخول بدون العقد غير موجب للمهر ولأنها راضية بهذا الدخول فلهذا يتأخر الواجب إلى ما بعد العتق بمنزلة المال الواجب عليه بسبب الكفالة.
قال: وإذا زوج الرجل عبده أمته بشهود فهو جائز ولا مهر لها عليه لأن المهر لو وجب كان للمولى وإنما يجب في مالية العبد وماليته مملوكة للمولى فلا فائدة في وجوبه أصلا وقد بينا أن على طريق بعض أصحابنا يجب ابتداء لحق الشرع ثم يسقط لقيام ملك المولى في رقبة الزوج فإن كان العبد نصرانيا أذن له مولاه في التزوج فأقامت عليه امرأة نصرانية شاهدين من النصارى أنه تزوجها وهو جاحد أجزت ذلك عليه لأن الخصم هو العبد ألا ترى أنه لو أقر بهذا النكاح ثبت بإقراره فكذلك يثبت بشهادة النصارى عليه لأنه نصراني ألا ترى إنهم لو شهدوا عليه ببيع أو شراء وهو مأذون له في التجارة كانت الشهادة مقبولة فكذلك بالنكاح فإن قيل النكاح مملوك للمولي على العبد فهذه الشهادة إنما تقوم على المولى وهو مسلم قلنا أصل العقد مملوك للمولى عليه ولكن حكمه وهو ملك الحل يثبت للعبد والشهود إنما يشهدون لها بذلك على العبد فلهذا اعتبرنا فيه دين العبد وقلنا لو كان المولى كافرا والعبد مسلما لم تجز شهادتهما لأنها تقوم على العبد وهو مسلم وشهادة الكافر ليس بحجة على المسلم.(5/234)
قال: ولا يحل للعبد أن يتسرى وإن أذن له مولاه عندنا وعلى قول مالك رحمه الله تعالى يحل لأن ملك المتعة يثبت بطريقين إما عقد النكاح أو التسري فإذا كان العبد أهلا لملك المتعة بأحد الطريقين وهو النكاح فكذلك بالطريق الآخر بل أولى لأن ملك المتعة الذي يثبت بالنكاح أقوى مما يثبت بملك اليمين وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5، 6] وهذه ليست بزوجة له ولا مملوكة له وعن بن عمر رضي الله عنه قال لا يحل فرج مملوكه إلا لمن إذا أعتق أو وهب جاز والعبد لا يجوز عتقه ولا هبته فلا يحل الفرج له بملك اليمين وهذا لأن العبد مملوك مالا فلا يجوز أن يكون مالكا للمال لما بين المالكية والمملوكية من المنافاة وملك المتعة لا يثبت إلا بثبوت سببه فإذا كان سببه وهو ملك الرقبة لا يثبت في حق العبد فكذلك حكمه بخلاف النكاح ولأن العبد ليس بأهل لملك المال قبل إذن المولى ولا تأثير للإذن في جعل من ليس بأهل أهلا وإنما تأثير إذن المولى في إسقاط حقه عند قيام أهلية العبد فكان ينبغي أن لا يجعل العبد أهلا لملك المتعة أصلا لأن بين المالكية والمملوكية منافاة ولكن الشرع جعله أهلا لملك المتعة بسبب النكاح لضرورة حاجته إلى قضاء الشهوة وإبقاء النسل وهذه الضرورة ترتفع بثبوت الحل له بالنكاح فلا حاجة هنا إلى أن نجعله أهلا لملك المتعة بسبب ملك الرقبة(5/235)
ص -117- ... وكذلك المدبر والمكاتب والمستسعي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كالمكاتب.
قال: ولو أن عبدا بين رجلين زوجه أحدهما بغير إذن الآخر لم يجز لما بينا أن ولاية النكاح إنما تستفاد بملك رقبة العبد وكل واحد منهما غير مالك لما يسمى عبدا.
قال: ولا يحل للعبد أن يتزوج مولاته ولا امرأة لها في رقبته شقص عندنا وعلى قول نفاة القياس رضي الله عنهم يجوز وكذلك الحر إذا تزوج أمته أو أمة له فيها شقص فهو على هذا الخلاف واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وبقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية فإنما خاطب الله تعالى الموالي بإنكاح الإماء لا بنكاحهن ولأن العبد إذا تزوج بمولاته فهي تستوجب عليه النفقة بالنكاح وهو يستوجب عليها النفقة بملك اليمين فيتقاصان ويموتان جوعا وفي هذا من الفساد ما لا يخفي والحر إذا تزوج أمته فهذا العقد غير مفيد لأن موجب النكاح ملك الحل ومحل الحل ثابت له تبعا لملك الرقبة ولأن النكاح إنما شرع في الأصل لضرورة الحاجة إليه وعند ملكه رقبتها لا حاجة فلم يكن مشروعا أصلا ثم قيام الملك في شقص منها ينزل منزلة قيام الملك في جميعها في حرمة النكاح احتياطا وإن كان لا ينزل منزلة ذلك في حل الوطء وعلى هذا لو تزوج مكاتبته فالنكاح باطل لقيام الملك له في رقبتها وإن كان هو ممنوعا من وطئها بسبب الكتابة فإن وطئها كان لها المهر بمنزلة مالو وطئها قبل النكاح وهذا لأن الحد يسقط للشبهة فيجب المهر وهي بعقد الكتابة صارت أحق بنفسها ومكاسبها والمستوفي بالوطء في حكم جزء من عينها ولو قطع المولى يدها كان الإرش لها فكذلك إذا وطئها ألا ترى أن الواطئ لو كان غير المولى كان المهر لها فإن عتقت بعد هذا النكاح لم يجز ذلك النكاح(5/236)
لأنه تعين فيه جهة البطلان لملكه رقبتها فلا ينقلب صحيحا وإن زال ذلك الملك وكذلك أن تزوج المكاتب مولاته ودخل بها فعليه المهر لسقوط الحد بشبهة النكاح ولا يجوز النكاح وإن عتق لما قلنا وإن تزوج المكاتب أو العبد بنت مولاه بإذنه جاز النكاح لأنه لا ملك لها في رقبته ولا حق ملك ما دام الأب حيا فإن مات المولى فسد نكاح العبد لأنها ملكت رقبة زوجها إرثا وملكها رقبة الزوج لو اقترن بالنكاح منع صحة النكاح فإذا طرأ على النكاح يرفع النكاح أيضا لأن المنافي يؤثر سواء كان طارئا أو مقارنا فأما نكاح المكاتب لا يفسد بموت المولى عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يفسد وهو بناء على أن رقبة المكاتب لا تورث عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى تورث.
وأصل المسألة أن المشغول بحاجة المورث لا يملكه الوارث عندنا كالتركة المستغرقة بالدين والمكاتب أيضا مشغول بحاجته وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل ما كان مملوكا للمورث فإذا لم يخرج بموته من أن يكون مملوكا للمورث يصير مملوكا لوارثه وحجته على سبيل الابتداء في هذه المسألة إنها لو تزوجت به ابتداء بعد موت المولى لا يصح النكاح فكذا(5/237)
ص -118- ... لا يبقى النكاح كما في العبد وتقريره أن الوارث خلافة ورقبة المكاتب كانت مملوكة للمولى فيخلفه وارثه فيه بعد الموت ألا ترى أنه لو عجز كان مملوكا للوارث وعجزه ليس بموجب ملك الرقبة للوارث ابتداء فعرفنا أنه كان مالكا قبل ذلك وحجتنا في ذلك أن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذلك لا يملك بالإرث كالمدبر والدليل عليه أنه لو أدى بدل الكتابة كان ولاؤه للمولى وإنما يثبت الولاء لمن يعتق على ملكه فتبين بهذا أنه باق على ملك المولى لحاجته إلى ذلك واستحقاقه ولاءه بعقد الكتابة ولهذا يملك بعد العجز لأن المانع حق المولى وقد زال فيكون ذلك السبب عاملا في إيجاب الملك بعد زوال المانع وأما إذا تزوجت به ابتداء بعد موت المولي إنما لا يجوز لأنه ثبت لها حق أن تتملك رقبته عند زوال المانع وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع بقاءه ولهذا لو اشترى المكاتب امرأة مولاه لا يفسد النكاح ولو تزوج أمة مكاتبه لا يجوز وكذلك لو اشترى المكاتب امرأة نفسه لا يفسد النكاح ولو تزوجها ابتداء لم يصح وكذلك لو كفل رجل عن المكاتب بمال لابن مولاه فهو جائز فإن مات أبوه كانت الكفالة على حالها ولو كفل له بمال مستقبل عنه بعد موت أبيه لم يجز ومن غير هذا الباب العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والإباق يمنع ابتداء البيع ولا يمنع البقاء فالقياس في هذا كثير وإذا ثبت بقاء النكاح قلنا إن أعتق المكاتب فهي امرأته لأنه بالعتق ازداد بعدا عنها وإن عجز ورد في الرق بطل النكاح ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها لأن بطلان النكاح يقرر المنافي وذلك إذا وجد قبل الدخول أبطل النكاح من الأصل فلا يوجب شيئا من المهر كالمحرمية وإن كان قد دخل بها فلها المهر في رقبته يبطل منه بقدر حصتها لأنها ملكت بعض رقبته والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا.(5/238)
قال: رجل تزوج أمة رجل ثم اشترى بعضها قبل أن يدخل بها أو ملكها بوجه من الوجوه فسد النكاح لتقرر المنافي وهو ملكه جزء من رقبتها ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها وإن كان قد دخل بها فعليه المهر لمولاها وقد انتقض النكاح لملكه جزءا من رقبتها وإن أتي العبد المرأة الحرة فأخبرها إنه حر فتزوجها على ذلك ثم علمت أنه عبد قد أذن له مولاه في التزوج فهي بالخيار إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته لأنه غرها ولأنها ما رضيت أن يستفرشها مملوك ولأنه ليس بكفء لها وقد بينا إنه إذا كتم نسبه ثم ظهر إن نسبه المكتوم دون ما أظهره يكون لها الخيار فإذا أظهر الحرية وتبين الرق لأن يثبت لها الخيار كان أولى فإن اختارت الفرقة لا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي بمنزلة الرد بالعيب والفسخ بعدم الكفاءة لا يثبت إلا بقضاء القاضي ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها لأنه فسخ لأصل النكاح بينهما.
قال: عبد تزوج امرأة بإذن مولاه ولم يخبرها إنه حر أو عبد ثم علمت أنه عبد فإن كان أولياء المرأة زوجوها منه برضاها فلا خيار لهم ولا لها لأن مباشرة الأولياء العقد يكون مسقطا حقهم في طلب الكفاءة والزوج ما شرط لها من نفسه شيئا فات عليها ذلك إنما ظنت أنه حر(5/239)
ص -119- ... وظنها لا يلزم الزوج شيئا فلهذا لا خيار لها وإن كانت فعلته بدون الأولياء فلهم إن يفرقوا بينهما لأنه غير كفء والمرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء فللأولياء حق الاعتراض دفعا للعار عن أنفسهم والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الرضاع
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وذكر عروة عن عائشة رضي الله عنهما هذا الحديث قال يحرم بالرضاع ما يحرم بالولادة وفيه دليل على أن الرضاع من أسباب التحريم وإنه بمنزلة النسب في ثبوت الحرمة لأن ثبوت الحرمة بالنسب لحقيقة البعضية أو شبهة البعضية وفي الرضاع شبهة البعضية بما يحصل باللبن الذي هو جزء الآدمية في إنبات اللحم وإنشاز العظم وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم" وفيه دليل على أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب في التحريم والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع بخلاف ما يقوله بعض العلماء رحمهم الله تعالى أن لبن الفحل لا يحرم وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى احتجوا بأن الله تعالى ذكر حرمة الرضاع في جانب النساء فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأخواتكم من الرضاعة فلو كانت الحرمة تثبت من جانب الرجال لبينها الله تعالى كما بين الحرمة بالنسب ولأن الحرمة في حق الرجل لا تثبت بحقيقة فعل الإرضاع فإنه لو نزل اللبن في ثندوة الرجل فأرضع به صبيا لا تثبت الحرمة فلان لا تثبت في جانبه بإرضاع زوجته أولى وحجتنا ذلك حديث عمرة عن عائشة رضي الله عنهما قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة رضي الله عنها فقلت هذا رجل يستأذن في بيتك يا رسول الله فقال(5/240)
صلوات الله عليه: "ما أراه إلا فلانا عما لحفصة من الرضاع" فقلت لو كان فلان عمى من الرضاع حيا أكان يدخل علي؟ فقال: "نعم الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال صلى الله عليه وسلم: "ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" فقلت إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال صلوات الله عليه: "ليلج عليك فإنه عمك والعم من الرضاعة" لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل والمعنى فيه أن سبب هذا اللبن فعل الواطى ء فالحرمة التي تنبني عليه تثبت من الجانبين كالولادة فأما ما قالوا إن الله تعالى بين حرمة الرضاع في جانب النساء قلنا من الأحكام ما يثبت بالقرآن ومنها ما يثبت بالسنة فحرمة الرضاع في جانب الرجل مما يثبت بالسنة والمعنى الذي لأجله تثبت الحرمة بسبب الرضاع لا يوجد في إرضاع الرجل فإن ما نزل في ثندؤته لا يغذي الصبي فلا يحصل به إنبات اللحم فهذا نظير وطء الميتة في أنه لا يوجب الحرمة.
قال: ولا ينبغي للرجل أن يتزوج امرأة أبنه من الرضاعة ولا امرأة أبيه من الرضاعة(5/241)
ص -120- ... وكذلك أجداده ونوافله وهو نظير الحرمة الثابتة بالنسب وعلى هذا الأخوات من الرضاعة أما إذا أرضعت امرأة واحدة اثنتان فهما أختان فإن كان زوجها واحدا فهما أختان لأب وأم من الرضاعة وإن كان زوجها مختلفا عند الإرضاعين فهما أختان لأم وإن كان تحت الرجل امرأتان لكل واحدة لبن منه فأرضعت كل واحدة منهما صبية فهما أختان لأب من الرضاعة لأن لبنهما من رجل واحد وعموم قوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِْ} [النساء: 23] يتناول ذلك كله وكذلك بنات الأخ من الرضاع كبنات لأخ من النسب ألا ترى أنه لما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة رضي الله تعالى عنها قال: "لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثويبة" فقال علي رضي الله تعالى عنه يا رسول الله: إنك ترغب في قريش وترغب عنا فقال: "هل فيكم شيء" قال نعم ابنة حمزة رضي الله تعالى عنه فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أخي من الرضاعة".(5/242)
قال: وإذا كان للمرأة لبن وطلقها زوجها وتزوجت آخر فحبلت من الآخر ونزل لها اللبن فاللبن من الأول حتى تلد في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإذا ولدت فاللبن بعد ذلك يكون من الثاني وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى إذا عرف أن هذا اللبن من الحبل الثاني فهو من الآخر وقد انقطع اللبن الأول وعنه في رواية إذا حبلت من الثاني انقطع حكم لبن الأول وقال محمد رحمه الله تعالى أستحسن أن يكون منهما جميعا حتى تضع من الآخر وجه قوله إن ما كان بها من اللبن فهو من الأول وما ازداد بسبب الحبل فهو من الثاني وباب الحرمة مبنى على الاحتياط فثبت الحرمة منهما جميعا كما إذا حلب لبن امرأتين في قارورة وأوجر صبيا فإذا وضعت من الثاني فقد انتسخ سبب لبن الأول باعتراض مثله عليه فلهذا كان اللبن من الثاني بعده وأبو يوسف يقول اللبن ينزل تارة بعد الولادة وتارة بعد الحبل قبل الولادة فإذا عرف نزول اللبن من الثاني انتسخ به حكم اللبن من الأول كما ينتسخ بالولادة من الثاني وعلى الرواية الأخرى يقول لما كان الحبل سببا لنزول اللبن وحقيقة نزول اللبن من الثاني باطل فيقام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن تيسيرا فينتسخ به حكم لبن الأول وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كون اللبن من الأول ثابت بيقين واللبن يزداد تارة وينقص أخرى باعتبار الغذاء فهذه الزيادة تحتمل أن تكون من قوة الغذاء لا من الحبل الثاني فلا ينتسخ به حكم اللبن من الأول حتى يعترض مثل ذلك السبب من الثاني وذلك يكون بالولادة.
قال: ولا يجتمع حكم الرضاع لرجلين على امرأة واحدة في حالة واحدة لأن سببهما لا يجتمع حلالا شرعا فكذلك ما ينبني على ذلك السبب ولكن ما بقي الأول لا يثبت الثاني وإذا ثبت الثاني انتفى الأول.
قال: ولا يجوز له أن يتزوج امرأة أرضعته رضاعا قليلا أو كثيرا عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت الحرمة إلا بخمس رضعات يكتفي الصبي بكل واحدة منها ومن(5/243)
ص -121- ... أصحاب الظواهر من اعتبر ثلاث رضعات لا يجاب الحرمة واستدل من شرط العدد بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة ولا الإملاجتان" وفي حديث عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنهما قالت كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحر من فنسخ بخمس رضعات معلومات يحرمن وكان ذلك مما يتلى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نسخ بعد ذلك وحجتنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] أثبت الحرمة بفعل الإرضاع فاشتراط العدد فيه يكون زيادة على النص ومثله لا يثبت بخبر الواحد وفي حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاع قليله وكثيره سواء" يعني في إيجاب الحرمة ولأن هذا سبب من أسباب التحريم فلا يشترط فيه العدد كالوطء أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فضعيف جدا لأنه إذا كان متلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخ التلاوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز فلماذا لا يتلى الآن وذكر في الحديث فدخل داجن البيت فأكله وهذا يقوي قول الروافض الذين يقولون كثير من القرآن ذهب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يثبته الصحابة رضي الله تعالى عنهم في المصحف وهو قول باطل بالاجماع ولو ثبت أن هذا كان في وقت من الأوقات فإنما كان في الوقت الذي كان إرضاع الكبير مشروعا وعليه يحمل الحديث الثاني فإن إنبات اللحم وإنشاز العظم في حق الكبير لا يحصل بالرضعة الواحدة فكان العدد مشروعا فيه ثم انتسخ بانتساخ حكم إرضاع الكبير على ما نبينه إن شاء الله تعالى.(5/244)
قال: والسعوط والوجور يثبت الحرمة لأنه مما يتغذى به الصبي فإن السعوط يصل إلى الدماغ فيتقوي به والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فأما الأقطار في الأذن لا يوجب الحرمة لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب وكذلك الأقطار في الإحليل فإن أكثر ما فيه أنه يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية إلا في رواية عن محمد رحمه الله تعالى قال إذا احتقن صبي بلبن امرأة تثبت به الحرمة لأن ذلك يصل إلى الجوف ألا ترى أنه يفسد به الصوم ولكنا نقول ليس الموجب للحرمة عين الوصول إلى الجوف بل حصول معني الغذاء ليثبت به شبهة البعضية وذلك إنما يحصل من الأعالي لامن الأسافل ثم بين من يحرم بسبب الرضاعة والحاصل فيه ما بينا أنه بمنزلة النسب فكما أن الحرمة الثابتة بالنسب في حق الأمهات والبنات تتعدى إلى الجدات والنوافل والعمات والخالات فكذلك بسبب الرضاع.
قال: ولا رضاع بعد الفصال بلغنا ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهكذا رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد الفصال ولا يتم بعد الحلم ولا صمت يوم إلى الليل ولا وصال في صيام ولا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك ولا وفاء في نذر في معصية ولا يمين في قطيعة رحم ولا تغرب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح" والكلام هنا في فصول أحدها أن الحرمة لا تثبت بإرضاع الكبير عندنا وعلى قول بعض الناس(5/245)
ص -122- ... تثبت الحرمة لحديث سهلة امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما فإنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما انتسخ حكم التبني بقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فقالت يا رسول الله إن أبا حذيفة تبني سالما فكنا نعده ولدا له وإن لنا بيتا واحدا فماذا ترى في شأنه وفي رواية وإنه يدخل علي وأنا أرى الكراهة في وجه أبي حذيفة رضي الله عنه فقال ارضعي سالما خمسا تحرمين بها عليه وبهذا الحديث أخذت عائشة رضي الله عنها حتى كان إذا أراد إن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت اختها أم كلثوم رضي الله عنها أو بعض بنات أختها إن ترضعه خمسا ثم كان يدخل عليها إلا أن غيرها من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يأبين ذلك ويقلن لا نرى هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رخصة لسهلة خاصة ثم هذا الحكم انتسخ بقوله: "الرضاع ما أنبت اللحم وانشز العظم" وذلك في الكبير لا يحصل وقال: "الرضاعة من المجاعة" يعني ما يرد الجوع وذلك بإرضاع الكبير لا يحصل وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال "الرضاع ما فتق الإمعاء وكان قبل الطعام" والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا فقد ذكر في الكتاب عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم قالا لا رضاع بعد الفصال وروى أن أعرابيا ولدت امرأته ومات الولد فانتفخ ثديها من اللبن فجعل يمصه ويمج فدخل بعض اللبن في حلقه فجاء إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وسأله عن ذلك فقال حرمت عليك فجاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه وسأله عن ذلك فقال هي حلال لك فاخبره بفتوى أبي موسى فقام معه إلى أبي موسى ثم أخذ بأذنه وهو يقول أرضيع فيكم هذا للحياني فقال أبو موسى رضي الله عنه لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال إن لي جارية فأرضعتها امرأتي فدخلت البيت فقالت خذها دونك فقد والله أرضعتها فقال عمر رضي الله عنه عزمت عليك أن تأتي امرأتك فتضربها ثم تأتي(5/246)
جاريتك فتطأها وروى نحو هذا عن بن عمر رضي الله عنهما فثبت بهذه الآثار انتساخ حكم إرضاع الكبير.
ثم اختلف العلماء في المدة التي تثبت فيها حرمة الرضاع فقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى بثلاثين شهرا وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قدر ذلك بحولين وزفر قدر ذلك بثلاث سنين فإذا وجد الإرضاع في هذه المدة تثبت الحرمة وإلا فلا واستدلا بظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ولا زيادة بعد التمام والكمال وقال الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ولا رضاع بعد الفصال ولأن الظاهر أن الصبي في مدة الحولين يكتفي باللبن وبعد الحولين لا يكتفي به فكان هو بعد الحولين بمنزلة الكبير في حكم الرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى استدل بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراًْ} [الاحقاف: 15] وظاهر هذه الإضافة يقتضي أن يكون جميع المذكور مدة لكل واحد منهما إلا أن الدليل قد قام على أن مدة(5/247)
ص -123- ... الحبل لا تكون أكثر من سنتين فبقي مدة الفصال على ظاهره وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] الآية فاعتبر التراضي والتشاور في الفصلين بعد الحولين فذلك دليل على جواز الإرضاع بعد الحولين وقال الله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم قيل بعد الحولين إذا أبت الأمهات ولأن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعده والفطام لا يحصل في ساعة واحدة لكن يفطم درجة فدرجة حتى ينسي اللبن ويتعود الطعام فلا بد من زيادة على الحولين بمدة وإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحبل وذلك ستة أشهر اعتبارا للانتهاء بالابتداء وبهذا يحتج زفر رحمه الله تعالى أيضا إلا أنه يقول لما وجب اعتبار بعض الحول وجب اعتبار كله وتقدر مدة الفطام بحول لأنه حسن للاختبار والتحول به من حال إلى حال.
قال: فإن فطم الصبي قبل الحولين ثم أرضع في مدة ثلاثين شهرا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أو في مدة الحولين عندهما فالظاهر من مذهبهما وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تثبت به الحرمة لوجود الإرضاع في المدة فصار الفطام كان لم يكن وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي به بعد هذا الفطام فأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة برضاعه بعد ذلك لأنه بعد ما صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن بعده لا يغذيه فلا يحصل به معنى البعضية بيانه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال وكان قبل الطعام أي قبل أن يكتفي بالطعام.(5/248)
قال: ولا بأس بأن يتزوج الرجل أم ابنه التي أرضعته لأنه لا بأس بذلك من النسب فكذلك من الرضاعة وكذلك لا بأس بإن يتزوج ابنتها وهذا من النسب لا يحل أن يتزوج أخت ابنه لا لأجل النسب ولكن لإنها ربيبته لأنه وطى ء أمها وهذا لا يوجد في الرضاع فلهذا جاز له أن يتزوجها وكذلك يتزوج أخت أخته من الرضاع ومثله من النسب يحل لأنه إذا تزوج أخت أخته من النسب يحل ذلك بأن كان له أخ لأب وأخت لأم فلأخيه لأبيه أن يتزوج أخته لإمه لأنه لا نسب بينهما موجب للحرمة فكذلك في الرضاع وكذلك لا بأس بأن يتزوج ابنة عمه من الرضاعة أو ابنة عمته أو ابنة خاله أو ابنة خالته كما لا بأس به من النسب وكذلك لا بأس بأن يتزوج التي أرضعت أخاه أو ما بداله من ولدها لأنه لا رضاع بينه وبينهم.
قال: ولا يجمع الرجل بين أختين من الرضاعة ولا بين المرأة وابنة أختها أو ابنة أخيها وكذلك كل امرأة ذات رحم محرم منها من الرضاعة للأصل الذي بينا في النسب أن كل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى فإنه يحرم الجمع بينهما بالقياس على حرمة الجمع بين الأختين فكذلك من الرضاعة وتبين بهذا أن حرمة هذا الجمع ليس لقطيعة الرحم فإنه ليس بين الرضعتين رحم وحرمة الجمع بينهما ثابتة.
قال: وإذا ولدت المرأة من الرجل ثم طلقها وتزوجت بزوج آخر وأرضعت بلبن الأول(5/249)
ص -124- ... ولدا وهي تحت الزوج الثاني فالرضاع من الزوج الأول دون الثاني لأن المعتبر من كان نزول اللبن منه لا من هي تحته ونزول هذا اللبن كان من الأول.
قال: ولا يجوز شهادة امرأة واحدة على الرضاع أجنبية كانت أو أم أحد الزوجين ولا يفرق بينهما بقولها ويسعه المقام معها حتى يشهد على ذلك رجلان أو رجل وامرأتان عدول وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يثبت الرضاع بشهادة أربع نسوة بناء على مذهبه إن فيما لا يطلع عليه الرجال يعتبر فيه أربع نسوة لتقوم كل امرأتين مقام رجل وزعم أن الرضاع مما لا يطلع عليه الرجال لأنه يكون بالثدي ولا تحل مطالعته للأجانب ولكنا نقول الرضاع مما يطلع عليه الرجال لأن ذا الرحم المحرم ينظر إلى الثدي وهو مقبول الشهادة في ذلك ولأن الحرمة كما تحصل بالإرضاع من الثدي تحصل بالإيجار من القارورة وذلك يطلع عليه الرجال فلا تقبل فيه شهادة النساء وحدهن وكان مالك رحمه الله تعالى يقول تثبت حرمة الرضاع بشهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلا وهكذا روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه واستدل بحديث عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه تزوج ابنة أبي هانئ فجاءت امرأة سوداء وأخبرت أنها أرضعتهما فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثم ذكر ثانيا فأعرض عنه ثم ثالثا فقال: "فارقها إذن" فقال إنها سوداء يا رسول الله قال كيف وقد قيل وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال لا يقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولأن سبب نزول هذه الحرمة مما يطلع عليه الرجال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين كالحرمة بالطلاق وحديث عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى دليلنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه في المرة الأولى والثانية فلو كانت الحرمة ثابتة لما فعل ذلك ثم لما رأى منه طمأنينة القلب إلى قولها حيث كرر السؤال أمره أن يفارقها احتياطا والدليل عليه أن تلك الشهادة كانت عن ضغن(5/250)
فإنه قال جاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت تشهد على الرضاع وبالإجماع بمثل هذه الشهادة لا تثبت الحرمة فعرفنا أن ذلك كان احتياطا على وجه التنزه وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله كيف وقد قيل وعندنا إذا وقع في قلبه أنها صادقة فالأحوط أن يتنزه عنها ويأخذ بالثقة سواء أخبرت بذلك قبل عقد النكاح أو بعد عقد النكاح وسواء شهد به رجل أو امرأة فأما القاضي لا يفرق بينهما ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان لأن خبر الواحد إذا كان ثقة حجة في أمور الدين وليس بحجة في الحكم والقاضي لا يفرق بينهما إلا بالحجة الحكمية فأما إذا قامت عنده حجة دينية يفتي له بأن يأخذ بالاحتياط لأنه إن ترك نكاح امرأة تحل له خير من أن يتزوج امرأة لا تحل له.
قال: وإذا نزل للمرأة لبن وهي بكر لم تتزوج فأرضعت شخصا صغيرا فهو رضاع لأن المعنى الذي يثبت به حرمة الرضاع حصول شبهة الجزئية بينهما والذي نزل لها من اللبن جزء منها سواء كانت ذات زوج أو لم تكن ولبنها يغذي الرضيع فتثبت به شبهة الجزئية.(5/251)
ص -125- ... قال: وإذا حلب اللبن من ثدي المرأة ثم ماتت فشربه صبيي تثبت به الحرمة لحصول المعنى الموجب للحرمة بهذا اللبن ولا معتبر بفعلها في الإرضاع ألا ترى أنها لو كانت نائمة فارتضع من ثديها الصبي تثبت الحرمة وكذلك الإيجار لو حصل في حياتها تثبت الحرمة فكذلك بعد موتها.
قال: وكذلك لو حلب اللبن من ثديها بعد موتها فأوجر الصبي تثبت به الحرمة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت وهو بناء على أصلين أحدهما أن اللبن لا يموت عندنا لأنه لا حياة فيه ألا ترى أنه يحلب في حالة الحياة من الحيوان فيكون طاهرا وما فيه الحياة إذا بان من الحي يكون ميتا فإذا لم يكن في اللبن حياة لا يتنجس بالموت بل عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبقى طاهرا وعندهما يتنجس بنجاسة الوعاء كما في أنفحة الميتة فكأنه حلب لبن امرأة في قارورة نجسة فأوجر الصبي به فيثبت به الحرمة وعند الشافعي رحمه الله تعالى اللبن يموت فيكون نجس العين وثبوت حرمة الرضاع باعتبار معنى الكرامة فلا تثبت بما هو نجس العين والأصل الثاني أن عنده الفعل الذي هو حرام بعينه وهو الزنى لا يوجب حرمة المصاهرة لأن ثبوتها بطريق الكرامة فكذلك إيجار لبن الميتة حرام فلا تثبت به الحرمة ثم قاس لبن الميتة بوطء الميتة ولكن عندنا وإن كان الفعل حراما تثبت به الحرمة إذا تحقق فيه المعنى الموجب للحرمة ولهذا أثبتنا الحرمة بالزنى لأن معنى البعضية لا ينعدم به حقيقة فكذا هنا ثبوت الحرمة باعتبار أن اللبن يغذي الصبي فيتقوى به ولو سلمنا له حرمة اللبن بالموت فبالحرمة لا يخرج من أن يكون مغذيا ألا ترى أن لحم الميتة مغذ فكذلك لبنها وبه فارق وطء الميتة لأن معنى البعضية ينعدم منه أصلا وهو معنى ما قال في الكتاب الجماع بعد الموت ليس بجماع وإيجار لبن الميتة رضاع وشبه اللبن بالبيضة فإن بالموت لا تخرج البيضة أن تكون مغذية فكذا اللبن.(5/252)
قال: ولو أرضع الصبيان من بهيمة لم يكن ذلك رضاعا وكان بمنزلة طعام أكلاه من إناء واحد ومحمد بن إسماعيل صاحب الإخبار رحمه الله تعالى يقول يثبت به حرمة الرضاع فإنه دخل بخارى في زمن الشيخ الإمام أبي حفص رحمه الله تعالى وجعل يفتي فقال له الشيخ رحمه الله تعالى لا تفعل فلست هنالك فأبى أن يقبل نصحه حتى استفتى عن هذه المسألة إذا أرضع صبيان بلبن شاة فأفتى بثبوت الحرمة فاجتمعوا وأخرجوه من بخارى بسبب هذه الفتوى وهذا لأن ثبوت الحرمة بسبب الكرامة وذلك يختص بلبن الآدمية دون لبن الأنعام وشبهة الجزئية لا يثبت بين الآدمي والأنعام بشرب لبنها فكذلك لا تثبت بين الآدميين بشرب لبن بهيمة وهذا قياس حرمة المصاهرة التي تثبت بالوطء ولا تثبت بوطء البهائم فكذلك هنا.
قال: ولو صنع لبن امرأة في طعام فأكله الصبي فإن كانت النار قد مست اللبن وأنضجت الطعام حتى تغير فليس ذلك برضاع ولا يحرم لأن النار غيرته فانعدم بها معنى التغذي باللبن(5/253)
ص -126- ... وإنبات اللحم وإنشاز العظم وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة أيضا لأن المغلوب في حكم المستهلك ولأن هذا أكل والموجب للحرمة شرب اللبن دون الأكل وإن كان اللبن هو الغالب فكذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تثبت به الحرمة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تثبت به الحرمة لأن الحكم للغالب والغالب هو اللبن ولم يغيره شيء عن حاله وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إلقاء الطعام في اللبن يغيره ألا ترى أنه يرق به وربما يتغير به لونه فكان بمنزلة ما لو غيرته النار وقيل هذا إذا كان لا يتقاطر اللبن من الطعام عند حمل اللقمة وإما إذا كان يتقاطر منه اللبن تثبت به الحرمة عنده لأن القطرة من اللبن إذا دخلت حلق الصبي كانت كافية لإثبات الحرمة والأصح أنه لا تثبت على كل حال عنده لأن التغذي كان بالطعام دون اللبن.
قال: وإذا جعل لبن امرأة في دواء فأوجر منه صبيا أو أسعط منه واللبن غالب فهذا رضاع لأنه إنما يجعل في الدواء ليصل بقوة الدواء إلى ما لا يصل إليه وحده فكان هذا أبلغ في حصول معنى التغذي به فلهذا تثبت به الحرمة.(5/254)
قال: وإن جعل اللبن في ماء فشربه الصبي فإن كان اللبن هو الغالب تثبت به الحرمة وإن كان الماء غالبا لا تثبت به الحرمة وكذلك إن خلط لبن الآدمية بلبن الإنعام وعند الشافعي رحمه الله تعالى قدر ما يحصل به خمس رضعات من اللبن إذا جعل في جب من الماء فشربه الصبي تثبت به الحرمة فأما إذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ثم أوجر منه صبيا فعلى قول محمد رحمه الله تعالى تثبت الحرمة منهما جميعا لأن الشيء يكثر بجنسه ولا يصير مستهلكا به وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تثبت به الحرمة بينه وبين من يكون لبنها غالبا لأن المغلوب لا يظهر حكمه في مقابلة الغالب وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان في إحداهما اعتبر الأغلب كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي الأخرى قال تثبت الحرمة منهما وهو قول زفر رحمه الله تعالى وأصل المسألة فيما إذا حلف لا يشرب من لبن هذه البقرة فخلط لبنها بلبن بقرة أخرى فشربه فهو على هذا الخلاف.
قال: الرضاع بمنزلة النسب والوطء في إثبات حرمة المصاهرة لا فرق بين أن يوجد في دار الحرب أو في دار الإسلام.
قال: وإذا جامع الرجل المرأة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لم تحل لابنه ولا لأبيه من الرضاعة ولا تحل له أمها ولا ابنتها من الرضاعة كما لا تحل لابنه وأبيه نسبا فإن هذه الحرمة تعلقت بأسام نثبت تلك الأسامي بالرضاعة وهي الأبوة والأمومة وكذلك لا يتزوج على المعتدة منه أختها من الرضاعة ولا ذات رحم محرم منها لأن حرمة الجمع متعلقة باسم الأختية وذلك يتحقق بالرضاع كما يتحقق بالنسب والعدة تعمل عمل صلب النكاح في المنع من النكاح.(5/255)
ص -127- ... قال: وإذا تزوج الرجل الصبية فأرضعتها أمه من الرضاعة أو أمه التي ولدته أو أخته من نسب أو رضاع أو امرأة ابنه بلبن ابنه من نسب أو رضاع حرمت عليه لأن المحرمية تمنع النكاح بعلة المنافاة فإن بين الحل والحرمة في المحل منافاة والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالنسب ينافي البقاء إذا طرأ عليه فإذا حرمت عليه لزمه بذلك نصف المهر لها لأن الفرقة قبل الدخول حصلت لا بمعنى من جهتها أو حصلت بمعنى من جهة الزوج وهي المحرمية فيجب نصف الصداق لها ويرجع بذلك على التي أرضعتها إن كانت أرادت الفساد أو عمدت ذلك وإن كانت أخطأت أو أرادت الخير بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع لم يرجع به عليها والقول فيه قولها إن لم يظهر منها تعمد الفساد لأنه شيء في باطنها لا يقف عليه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه وإنما يختلف الجواب في نيتها إذا أرادت الفساد أو لم ترد لأنها مسببة لهذه الفرقة لا مباشرة فإنها مباشرة للإرضاع وهو ليس بسبب موضوع للفرقة والمسبب إذا كان متعديا في تسببه يكون ضامنا وإن لم يكن متعديا لا يضمن كحافر البئر في ملك نفسه لا يضمن ما يسقط فيه بخلاف الحافر في ملك الغير فإذا أرادت الفساد كانت متعدية في السبب وإذا لم ترد الفساد لم يكن متعدية في السبب وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يرجع عليها بنصف الصداق على كل حال فإن من أصله إن المتسبب كالمباشر ولهذا جعل فتح باب القفص والإصطبل وحل قيد الآبق موجبا للضمان وفي المباشرة المتعدي وغيرالمتعدي سواء فكذلك في التسبب على قوله وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يرجع عليها بمهر مثل المنكوحة لأنها أتلفت ملك نكاحه فيها وملك النكاح عنده مضمون بالإتلاف حتى قال في شاهدي الطلاق بعد الدخول إذا رجعا ضمنا مهر المثل وهذا لأن ملك البضع يتقوم عند دخوله في ملك الزوج بمهر المثل فكذلك عند خروجه عن ملكه ولكنا نقول أن ملك النكاح ليس بمتقوم في نفسه لأنه ليس بملك عين ولا(5/256)
منفعة إنما هو ملك ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء ألا ترى أنه لا يظهر في حق النقل إلى الغير والانتقال إلى الورثة فكذلك في حق التقوم بالمال ولأنه ليس بمال في نفسه فلا يكون مضمونا بالمال لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل بالنص وتقوم البضع عند دخوله في ملك الزوج للضرورة لأنه تملك للبضع وهو محترم فلا يثبت إلا بعوض وهذه الضرورة لا توجد عند الخروج من ملكه لأنه إبطال للملك لا تمليك منها وإبطال الملك لا يستدعي التقوم والدليل على الفرق أن الأب يزوج ابنه الصغير بمال الصغير وليس له أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها فإذا ثبت أنه غير متقوم عند خروجه من ملكه لم يجب الضمان عليها بإتلاف البضع ولكنها قررت عليه ما كان على شرف السقوط فإن الصداق وإن وجب بالعقد فهو بعرض السقوط مالم يدخل بها إذا جاءت الفرقة من قبلها فهي قررت النصف عليه بما فعلته وهي متسببة في ذلك متعدية إذا تعمدت الفساد فلهذا رجع عليها بذلك.(5/257)
ص -128- ... قال: وإذا تزوج الرجل الصبية ثم تزوج عمتها فنكاح العمة باطل للنهي فإن أرضعت أم العمة الصبية لم يفرق بينه وبينها لأن الصبية وإن صارت أختا للعمة بالرضاعة ولكن لم يصح نكاح العمة فلم يتحقق الجمع الحرام فلهذا بقي نكاح الصبية.
قال: وإذا تزوج صبيتين رضيعتين فأرضعتهما امرأة معا أو إحداهما بعد الأخرى بانتا جميعا لأنهما صارتا أختين حين أرضعت الثانية منهما فتقرر الجمع المنافي وليست إحداهما ببطلان نكاحها بأولى من الأخرى فإذا بانتا فلكل واحدة منهما نصف الصداق يرجع بذلك على المرضعة أن تعمدت الفساد لما قلنا ولو كن ثلاثا فارضعتهن معا بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثدييها إحداهن والأخرى للأخرى وأوجرت الثلاثة معابن جميعا منه لأنهن صرن أخوات معا وإن أرضعتهن واحدة بعد الأخرى بانت الأوليان والثالثة امرأته لأنها حين أرضعت الثانية فقد تحققت الأختية بينها وبين الأولى فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثالثة وليس في نكاحه غيرها ففي نكاحها وإن كن أربعا فأرضعتهن معا أو واحدة ثم الثلاث معابن جميعا وكذلك أن أرضعتهن جميعا واحدة بعد الأخرى لأنه حين أرضعت الثانية بانت الأوليان اللاختية وحين أرضعت الثالثة والرابعة بانت الأخريان أيضا للأختية وإن أرضعت الثلاث أولا معا ثم الرابعة بانت الثلاثة الأول دون الرابعة لأنها حين أرضعتها فليس في نكاحه غيرها.(5/258)
قال: وإن تزوج امرأة وصبيتين فأرضعتهما المرأة إحداهما قبل الأخرى ولم يدخل بالمرأة حرمت المرأة والصبية الأولى لأنها حين أرضعت إحداهما فقد صارتا أما وابنتا فتقع الفرقة بينه وبينهما ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فبقي نكاحها لأن السابق مجرد العقد على الأم وذلك لا يوجب حرمة البنت ثم لا مهر للكبيرة لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وللصغيرة نصف المهر لأن الفرقة ليست من قبلها إنما كانت من جهة الكبيرة حين أرضعتها فإن اللبن يصل إلى جوفها من غير فعل منها في الارتضاع ويرجع بذلك على الكبيرة إن كانت تعمدت الفساد لما قلنا ولا تحل له هذه الكبيرة أبدا لأن مجرد العقد على البنت يوجب حرمة الأم وأما الصبية فإنها تحل له إذا فارقته التي عنده لأن العقد على الأم لا يوجب حرمة البنت وإن كان بعد ما دخل بالكبيرة حر من عليه لأنهما صارتا ابنتها من الرضاعة والدخول بالأم يحرم البنت ثم للكبيرة مهرها ولكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر ولا يحل له واحدة منهن أبدا لوجود الدخول بالأم وصحة العقد على البنت.
قال: وإذا تزوج كبيرتين وصغيرتين فأرضعت كل واحدة من الكبيرتين صغيرة وقعت الفرقة بينه وبينهن لأن كل صغيرة صارت بنتا لمن أرضعتها والجمع بين الأم والبنت في النكاح حرام فإن كانت أرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين وذلك قبل الدخول بالكبيرتين فأما الكبيرة الأولى مع الصغيرة الأولى فقد بانا لما قلنا والصغيرة الثانية لم تبن منه بإرضاع الكبيرة الأولى فأما بإرضاع الكبيرة الثانية فإن بدأت(5/259)
ص -129- ... بإرضاعها بانت منه وإن بدأت بإرضاع الأولى فالصغيرة الثانية امرأته لأنها حين أرضعت الأولى صارت أما لها وفسد نكاحها لصحة العقد على الصغيرة الأولى فيما سبق ثم أرضعت الثانية وليس في نكاحه غيرها فلهذا لا تقع الفرقة بينه وبينها.
قال: وإذا أقر الرجل أن هذه المرأة أخته أو أمه أو ابنته من الرضاعة ثم أراد بعد ذلك أن يتزوجها وقال أوهمت أو أخطأت أو نسيت وصدقته المرأة فهما مصدقان على ذلك وله أن يتزوجها وإن ثبت على قوله الأول وقال هو حق كما قلت ثم تزوجها فرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها وهذا استحسان وفي القياس الجواب في الفصلين سواء لأنه أقر بأنها محرمة عليه على التأييد والمقربة به يجعل في حق المقر كالثابت بالبينة أو بالمعاينة والرجوع عن الإقرار باطل لأنه ملزم بنفسه فسواء رجع أو ثبت كان النكاح باطلا بزعمه فيفرق بينهما ولا مهر لها عليه ولكنه استحسن فقال هذا شيء يقع فيه الاشتباه فقد يقع عند الرجل أو بينه وبين امرأته رضاع فيخبر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبين له أنه قد غلط في ذلك وفيما يقع الاشتباه إذا أخبر أنه غلط فيه يجب قبول قوله شرعا لوجهين:
أحدهما: أن الحل والحرمة من حق الشرع فإذا تصادقا على أنهما قد غلطا فليس هنا من يكذبهما في خبرهما.(5/260)
والثاني: أن إقراره في الابتداء لم يكن على نفسه إنما كان عليها بحرمتها عليه والحل والحرمة صفة المحل وإقرار الإنسان على الغير لا يكون لازما فإذا ذكر أنه غلط فيه فهو لا يريد بهذا إبطال شيء لزمه فلهذا قبل قوله في ذلك وإن أقرت المرأة بذلك وأنكر الزوج ثم أكذبت المرأة نفسها وقالت أخطأت فالنكاح جائز وكذلك لو تزوجها قبل أن تكذب نفسها فالنكاح جائز ولا تصدق المرأة على قولها لأن حقيقة المحرمية لا تثبت بالإقرار فإنه خبر محتمل متمثل بين الصدق والكذب ولكن الثابت على الإقرار كالمجدد له بعد العقد وإقرارها بالمحرمية بعد العقد باطل فكذلك إقرارها به قبل العقد وإما إقراره بالحرمة بعد العقد صحيح موجب للفرقة وكذلك إذا أقربه قبل العقد وثبت على ذلك حتى تزوجها فإن قيل كان ينبغي أن يجب لها نصف المهر كما لو ابتدأ بعد النكاح قلنا إنما لا يجب لوجود التصديق منها على بطلان أصل النكاح أو لأنه غير متهم بالقصد إلى إسقاط المهر إذ سبق الإقرار منه بوجوب المهر بالنكاح يوضح الفرق بينهما إن الإقرار إنما يصح إذا كان مؤثرا في الملك أما بالمنافاة أو بالإزالة وإقرار الرجل مؤثر في ذلك فكان معتبرا في المنع من صحة النكاح إذا ثبت عليه وإقرار المرأة غير مؤثر في ذلك فلا يمنع صحة النكاح.
قال: وإذا أقر الزوج بهذه المقالة وثبت عليها وأشهد الشهود ثم تزوجته المرأة ولم يعلم بذلك ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرق بينهما ولا ينفعه جحوده لأنه لما ثبت على مقالته في الابتداء وزعم أنه حق لا غلط فيه فقد لزمه حكم إقراره وصار كالمجدد لذلك.(5/261)
ص -130- ... الإقرار بعد النكاح فيفرق بينهما ولا ينفعه الجحود ولو أقرا بذلك جميعا ثم كذبا أنفسهما وقالا أخطأنا ثم تزوجها فالنكاح جائز وكذلك هذا الباب في النسب ليس يلزم من هذا إلا ما بينا عليه لأن الغلط والاشتباه فيه أظهر فإن سبب النسب أخفى من سبب الرضاع فكما أن هناك الإقرار بدون الثبات عليه لا يوجب الحرمة فكذلك هنا.
قال: ولو تزوج امرأة ثم قال لها بعد النكاح هي أختي أو ابنتي أو أمي من الرضاعة ثم قال أخطأت أو أهمت فالنكاح باق استحسابا ولو ثبت على هذا النطق وقال هو حق فشهدت عيه الشهود بذلك فرق بينهما ولو جحد ذلك لم ينفعه جحوده لأن إقراره إنما كان موجبا للفرقة بشرط الثبات عليه فإن قال أوهمت فقد انعدم ما هو شرطه فلا يوجب الفرقة وإذا ثبت على ذلك وجد ما هو شرط الإقرار فثبت حكمه وهو الفرقة ثم لا ينفعه جحوده بعد ذلك وكذلك لو قال هذه أختي أو هذه ابنتي وليس لها نسب معروف ثم قال أوهمت يصدق في ذلك بخلاف ما إذا قال لعبده أو أمته هذا ابني أو هذه ابنتي ثم قال أوهمت قإنه يعتق عليه ولا يصدق في ذلك والفرق من وجهين أحدهما إن إقراره بالنسب في عبده وأمته ملزم بنفسه لأن لما أقر به موجبا في ملكه وهو زوال اللك فإن من اشترى ابنه يصح الشراء ويعتق عليه فإذا كان لما أقر به موجب في ملكه كان هو مقرى به في ملك نفسه وإقرار الإنسان في ملك نفسه ملزم فلهذا يتم بنفسه ثبت عليه أو لم يثبت فأما إقراره بنسب زوجته لا موجب له في ملكه لأن من تزوج ابنته لا يصح النكاح أصلا لا إن يثبت النكاح ثم يزول وإنما لا يصح النكاح بحرمة المحل فموجب إقراره هنا لا يظهر في ملكه وإنما يظهر في المحل ولا حق له في المحل لأن الحل والحرمة صفة المحل فلم يكن إقراره متناولا لملكه ابتداء فلا يكون ملزما إلا إذا ثبت عليه فحينئذ بحكم الثبات عليه يتعدى ضرره إلى ملكه فيلزمه من هذا الوجه والثاني إن الاشتباه لا يقع بين العبد والإبن بل عبده في الغالب(5/262)
مباين لابه في المطعم والملبس والمجلس فإذا كان الاشتباه يندر فيه لا يعتبر فما الاشتباه قد يقع بين زوجته وابنته لتقاربهما في المطعم والملبس والمجلس فلهذا يعذر إذا قال أو همت.
قال: ولو قال ل امرأته هذه ابنتي وثبت على ذلك ولها نسب معروف لم يفرق بينهما وكذلك لو قال هي أمي وله أم معروفة لأنه مكذب شرعا فيما أقر به وتكذيب الشرع إياه أقوى من تكذيبه نفسه ولو كذب نفسه وقال أوهمت لم يفرق بينهما فكذا إذا أكذبه الشارع وبه فارق العبد لأن هناك لو أكذب نفسه كان حرا فكذلك إذا أكذبه الشرع بأن كان ثابت النسب من غيره والمعنى ما قلنا أو أقراره بنسب العبد مصادف ملكه وهو مصدق فيما يقربه في ملك نفسه فيثبت به العتق وإن امتنع بثبوت النسب لكونه معروف النسب من الغير فأما إقراره بنسب امرأته لا يصادف ملكه ابتداء وإنما يصادف المحل فيثبت به حرمة المحل ثم ينبني عليه انتفاء الملك وهنا حرمة المحل لم تثبت حين كانت معروفة النسب من الغير فلهذا لا يبطل النكاح(5/263)
ص -131- ... وإن لم تكن معروفة النسب من الغير ومثلها يولد لمثله وثبت على ذلك فرق بينهما ولكنه لا يثبت النسب حقيقة إلا بتصديق المرأة إياه بذلك لأن المقر يعامل في حقه وكان ما أقر به حق ولكن لا يصدق في حق الغير فيجعل النسب في حقه كالثابت حتى ينتفي ملكه عنها ولكنه لا يثبت في حقها إلا بتصديقها فلا يلزمها الانتساب إليه إلا أن تصدقه في ذلك وإذا كان لا يولد لمثله لم يثبت النسب ولا يفرق بينهما لأن تكذيب الحقيقة إياه أقوى من تكذيه نفسه والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين العتق ما قلنا لإقراره بالنسب في ملكه موجبا فيجعل ذلك الإقرار كناية عن موجبه مجازا وليس لإقراره بالنسب في ملك النكاح موجب من حيث الأزلة فلا يمكن إعماله بطريق المجاز وأكثر ما في الباب أن يقال موجبه نفي أصل النكاح فيجعل كأنه صرح بذلك وجحوده لأصل النكاح لا يكون موجبا للفرقة فكذلك إقراره بذلك وكذلك لو قال أرضعتني ومثلها لا يرضع ولا لبن لها فإنه مكذب في ذلك حقيقة فينزل في ذلك منزلة تكذيبه نفسه فلهذا لا يفرق بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الإحصان(5/264)
قال: لا يحصن الرجل المسلم إلا المرأة الحرة المسلمة إذا دخل بها هكذا نقل عن الشعبي والنخعي رحمهما الله تعالى ومعنى هذا أنه إذا تزوج أمة ودخل بها لا يصير محصنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحصن المسلم اليهودية ولا النصرانية ولا الحر الأمة ولا الحرة العبد" وكان المعني فيه إن ثبوت الإحصان يختص بالوطء بالنكاح حتى لايثبت بملك اليمين وفي معنى قضاء الشهوة لا فرق بينهما فعرفنا أن الموجب للفرق إن الإحصان إنما يثبت بوجود الوطء بين مستوى الحال في صفة الكمال فإن النكاح في العادة يكون بين مستوى الحال ولا مساواة بين المالك والمملوك فلا يتحقق هذا المعنى إذا وجد الدخول بالأمة بالنكاح لأنه لا مساواة بين الأمة والحر فأما إذا دخل بالكتابية بالنكاح لم يصر محصنا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعلى قول أبي يوسف رحمها الله تعالى يصير محصنا قيل هذا بناء على الرواية التي تروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إن الكتابية محصنة وإنها ترجم إذا زنت وقيل بل هي مسألة مبتدأة فوجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى إن ملك النكاح علي الكتابية وعلى المسلمة بصفة الكمال بدليل جواز نكاح كل واحدة منهما على الأخرى والمساواة بينهما في القسم وولاية المباشرة لكل واحدة منهما بنفسها فكما يصير محصنا بالدخول بالمسلمة فكذلك بالكتابية بخلاف الأمة فإنه لا مساواة بينها وبين الحرة في حكم النكاح بل حالها على النصف من حال الحرة وبخلاف الصغيرة والمجنونة فإنه لا مساواة بينها وبين البالغة العاقلة في ولاية المباشرة وفي معنى قضاء الشهوة لما في طبعه من النفرة عن المجنونة وحجتهما ما روينا وكذلك لما أراد حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن يتزوج(5/265)
ص -132- ... يهودية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "دعها فإنها لا تحصنك". ولما أراد كعب بن مالك رحمه الله تعالى أن يتزوج يهودية قال له عمر رضي الله عنه دعها فإنها لا تحصنك ولأن الرق أثر من آثار الكفر فإذا كان الإحصان لا يثبت بوطء الأمة بالنكاح لما فيه من الرق فلان لا يثبت بوطء الكافرة أولى وهذا لأن معنى الازدواج لا يتم مع الاختلاف في الدين فقل ما يركن كل واحد منهماإلى صاحبه فكانت بمنزلة الصغيرة والمجنونة توضيحه إن الزوجين إذا كانا كافرين لا يصيرا محصنين بالدخول ومعنى المساواة فيما بينهما أظهر فإذا لم يثبت الإحصان بالوطء هناك فلان لايثبت هنا كان أولى وكذلك المسلمة لا يحصنها الزوج إذا كان كافرا بأن أسلمت المرأة ثم دخل بها الزوج الكافر قبل أن يفرق بينهما لم تصر هي بهذا الدخول محصنة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى على ما قلنا وكذلك لا يحصنها العبد والمجنون وغير البالغ اعتبارا لجانبها بجانبه فإن الإحصان عبارة عن كمال الحال فلا يثبت إلا بوطء موصوف بكونه نعمة كاملة من الجانبين.(5/266)
قال: وجماع هؤلاء يحلها للزوج الذي قد طلقها ثلاثا قبل ذلك حتى أن المطلقة ثلاثا إذا كانت ذمية فتزوجت ذميا ثم أسلمت فدخل بها زوجها قبل أن يفرق بينهما حلت للزوج الأول بهذا الدخول لأن النكاح صحيح بينهما قبل تفريق القاضي حتى لو أسلم فهما على نكاحهما والدخول بالنكاح الصحيح يحلها للزوج الأول وكذلك إن كان الزوج عبدا تزوجها بإذن المولى ودخل بها حلت للزوج الأول لأن إصابة الزوج الثاني إنما كان مشروعا لرفع الطلقات مغايظة للزوج الأول وذلك يحصل بدخول العبد والكافر بها كما يحصل بدخول الحر المسلم بل معني المغايظة في هذا أكثر بخلاف الإحصان فإنه إنما يثبت بالوطء بالنكاح لاعتبار معنى كمال النعمة والعبد والكافر في هذا ليس نظير الحر المسلم وعلى هذا دخول الصبي الذي يجامع مثله بالمرأة يحلها للزوج الأول عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يحلها للزوج الأول لأن ثبوت الحل للأول يستدعى كمال الفعل ألا ترى أنه لا يحصل بالجماع فيما دون الفرج وفعل الصبي دون فعل البالغ فلانعدام صفة الكمال لا يثبت به الحل للزوج الأول ولكنا نستدل بقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] واسم الزوج يتناول الصبي كما يتناول البالغ ثم هذا حكم مختص بالوطء بالنكاح فيتعلق بوطء الصبي كتقرير المسمى والعدة وما هو المعني فيه وهو مغايظة الزوج الأول حاصل أيضا فإن استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوقي من عسيلته" قلنا ليس المراد بذوق العسيلة ألا نزال بل هي اللذة وهي تنال ذلك بوطء الصبي الذي يجامع ولهذا يلزمها الاغتسال بنفس الإيلاج وبه يتبين كمال فعل الصبي في الوطء.
قال: وكذلك فعل هؤلاء يوجب من التحريم ما يوجبه جماع البالغ المحصن حتى أن الصبي الذي يجامع مثله يتعلق بوطئه حرمة المصاهرة وكذا الصبية التي يجامع مثلها ثبت(5/267)
ص -133- ... حرمة المصاهرة وطئها وإنما يختلفون فيما إذا وطى ء صغيرة لا يجامع مثلها فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يثبت به حرمة المصاهرة وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يثبت لوجود فعل الوطء حقيقة وهو كامل في نفسه حتى يتعلق به الاغتسال بالإيلاج من غير إنزال ويثبت به سائر أحكام الوطء أيضا واعتبر الوطء بالعقد فكما أن العقد على الصغيرة كالعقد على البالغة في إيجاب الحرمة فكذلك الوطء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا ثبوت حرمة المصاهرة ليس لعين الوطء ألا ترى أنه لا يثبت بالوطء في غير المأتي ولكن ثبوته باعتبار معنى البعضية ولا تصور لذلك إذا كانت لا يجامع مثلها بخلاف ما إذا كانت يجامع مثلها لأن حقيقة البعضية وإن كانت باعتبار الماء فهو باطن لا يمكن الوقوف عليه فيقام السبب الظاهر مقامه وهو بلوغها حد الشهوة فإذا كانت ممن يشتهي أنزلت منزلة البالغة في ثبوت الحرمة بوطئها بخلاف ما إذا كانت لا تشتهي ألا ترى أن إباحة هذا الفعل شرعا لمقصود النسل ثم جعل بلوغها حد الشهوة في حكم إباحة هذا الفعل قائما مقام حقيقة البلوغ فكذلك هنا بخلاف وجوب الاغتسال فإنه متعلق باستطلاق وكاء المنى وذلك بمعنى الحرارة واللين في المحل فلهذا يستوي فيه التي يجامع مثلها والتي لا يجامع كما يستوي فيه الفعل في المأتي وغير المأتي.(5/268)
قال: والخلوة بين الزوجين البالغين المسلمين وراء ستر أو باب مغلق يوجب المهر والعدة عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يوجب لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية والمراد بالمسيس الجماع هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى يكنى القبيح بالحسن كما كنى بالمس عن الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة وهذا لأن تقرر البدل في عقود المعاوضات بقبض المعقود عليه والمعقود عليه معنى في باطنها لا يصير مستوفي إلا بالآلة التي تصل إلى ذلك الموضع فلا تكون الخلوة فيها قبضا كالقصاص فإن حق من له القصاص في الباطن لا يصير مستوفي إلا بالآلة الجارحة فلم تكن الخلوة فيه قبضا والدليل عليه حكم الرجعة وبقاء المطالبة بالوطء فإن الخلوة في هذين الحكمين لا تجعل كاستيفاء المعقود عليه فكذلك في حكم المهر والعدة وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] نهي عن استرداد شيء من الصداق بعد الخلوة فإن الإفضاء عبارة عن الخلوة ومنه يسمى المكان الخالي فضاء ومنه قول القائل أفضيت إليه بشغري أي خلوت به وذكرت له سرى وتبين بهذا أن المراد بما تلى المسيس أو ما يقوم مقامه وهي الخلوة وعن عبد الرحمن بن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف قناع امرأته وقبلها فلها المهر كاملا دخل بها ولم يدخل" ولما فرق عمر وعلي رضي الله عنهما بين العنين و امرأته ألزماه كمال المهر وقالا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وعن زرارة بن أبي أو في أنه(5/269)
ص -134- ... قال مضت السنة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إن من أغلق على امرأته بابا أو أرخى حجابا كان عليه المهر كاملا دخل بها أو لم يدخل بها ولأنهاأتت بتسليم المستحق عليها بالعقد فيتقرر حقها في البدل كما إذا وطئها الزوج وهذا لأن البدل في عقود المعاوضات يتقرر بتسليم من له البدل لا باستيفاء من عليه كما في البيع والإجارة إذا خلى البائع بين المبيع والمشتري أو خلى الآجر بين الدار والمستأجر في المدة يتقرر البدل وإن لم يستوف وهذا لأنا لو علقنا تقرر البدل بالاستيفاء امتنع من ذلك قصدا منه إلى الإضرار بمن له البدل وإذا ثبت أن المعتبر التسليم فالمستحق بالعقد عليها ما في وسعها وفي وسعها تسليم النفس في حال زوال المانع لا حقيقة استيفاء الوطء فإذا أتت بما هو المستحق تقرر حقها في البدل على أن تقام نفسها مقام حقيقة المعقود عليه كما أنها في جواز العقد أقيمت نفسها مقام المعقود عليه فكذلك في حكم التسليم لأن تقرر البدل بتسليم ما باعتباره يجوز العقد وهذا. بخلاف حق الرجعة فإن ذلك من حق الزوج وهو متمكن من حقيقة الاستيفاء فإذا لم يفعل فهو الذي أبطل حق نفسه وليس من ضرورة وجوب العدة ثبوت الرجعة ألا ترى أن بالموت يتقرر المهر والعدة وليس فيه تصور الرجعة ومطالبتها بالوطء ليستعف به ويحصل لنفسها صفة الإحصان بسببه وذلك لا يحصل بالخلوة إذا ثبت هذا.(5/270)
فنقول: حد الخلوة الصحيحة أن لا يكون هناك مانع يمنعه من وطئها طبعا ولا شرعا حتى إذا كان أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صائما في رمضان أو محرما أو كانت هي حائضا لا تصح الخلوة لقيام المانع طبعا أو شرعا وفي صوم القضاء روايتان في أصح الروايتين تصح الخلوة لأن الذي يجب بالفطر قضاء يوم وهو يسير كما في صوم النفل وفي الرواية الأخرى لا تصح الخلوة اعتبارا للقضاء بالإداء وفي صوم النفل رواية شاذة أيضا أنه يمنع صحة الخلوة بمنزلة حج النفل وكذلك إن كانت رتقاء أو قرناء لا يحصل التسليم لقيام المانع حسا بخلاف ما إذا كان الزوج محبوبا أو عنينا وقد بيناه ولو كان بينهما ثالث لا تصح الخلوة لقيام المانع إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك كصغير لا يعقل أو مغمى عليه أو نحو ذلك وإن خلا بزوجته وهناك أمته وكان محمد رحمه الله تعالى يقول أولا تصح الخلوة بخلاف ما إذا كان هناك أمتها لأنه يحل له وطء أمته دون أمتها ثم رجع وقال لا تصح الخلوة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأنه يمتنع من غشيانها بين يدي أمته طبعا وعلى هذا لو خلا بزوجتيه لم تصح الخلوة لما قلنا والمكان الذي لا تصح الخلوة فيه أن يأمنا فيه إطلاع غيرهما عليهما بغير إذن كالدار والبيت وما أشبه ذلك ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد والطريق الأعظم والسطح الذي ليس على جوانبه سترة وبعد صحة الخلوة إذا تصادقا على أنه لم يدخل بها لا يكونا محصنين لأن الخلوة إنما تجعل كالاستيفاء فيما هو من حكم العقد والإحصان ليس من ذلك في شيء فإن أقرا بالجماع لزمهما حكم الإحصان وإن أقر به.(5/271)
ص -135- ... أحدهما صدق على نفسه دون صاحبه ولا يحصن الخصي إذا كان لا يجامع وكذلك المجبوب والعنين فإن جاءت بولد حتى ثبت به النسب من الزوج ففي الخصى والعنين يكونا محصنين لأن الحكم بثبوت النسب حكم بالدخول وفي المجبوب ذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن على قول زفر رحمه الله تعالى هي تصير محصنة لما حكمنا بثبوت النسب من الزوج وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تصير هي محصنة لأنه لا تصور للجماع بدون الآلة والحكم بثبوت النسب بطريق الإنزال بالسحق وليس ذلك من الجماع في شيء وثبوت حكم الإحصان يتعلق بعين الجماع والرتقاء لا تحصن الرجل لانعدام الجماع مع الرتق ولا احصان بالجماع في النكاح الفاسد لأن الإحصان عبارة عن كمال الحال فإنما يحصل بوطء هو نعمة بل نهاية في النعمة حتى لا يحصل بالوطء بملك اليمين والوطء بالنكاح الفاسد حرام فلا يوجب الإحصان.
قال: وإذا دخل الخنثى ب امرأته أو دخل بالخنثى زوجها فهما محصنان لأنه لما حكم بكونه رجلا أو امرأة فالجماع بالنكاح الصحيح تحقق بينهما فيثبت به حكم الإحصان.
قال: ولو دخل مسلم ب امرأته المسلمة ثم ارتدا والعياذ بالله تعالى بطل إحصانهما لأن الردة تحبط العمل ويلحق المرتد بمن لم يزل كافرا فكما أن الكافر الأصلي لا يكون محصنا فالمرتد كذلك فإن أسلما جميعا لم يكونا محصنين إلا بجماع جديد بمنزلة زوجين حربيين أو ذميين أسلما وكذلك العبد مع امرأته الأمة إذا أعتقا لم يكونا محصنين حتى يجامعها بعد العتق فإن جامعها فهما محصنان علما بالعتق أو لم يعلما علمت المرأة أن لها الخيار أو لم تعلم فإذا جامعها قبل أن تختار نفسها فقد جامعها بنكاح صحيح بعد ما كمل حالهما بالعتق فكانا محصنين.(5/272)
قال: وإذا ولدت المرأة من الرجل وهما ينكران الدخول فهما محصنان لأن الولد شاهد على الدخول بينهما وهو أقوى من شهادة شاهدين فإذا كان الإحصان يثبت بشهادة شاهدين فبثبوت النسب أولى وهذا لأنهما مكذبان في إنكارهما الدخول شرعا والمكذب شرعا لا يعتبر إنكاره.
قال: وإذا أقرت المرأة أن زوجها قد جامعها وأنكر الزوج ثم فارقها وانقضت عدتها حل لزوجها الأول الذي كان طلقها ثلاثا أن يصدقها ويتزوجها لأنها أخبرت عن أمر بينها وبين ربها وهو حلها للزوج الأول ولا حق للزوج الثاني في ذلك فإنكاره في ذلك الحكم وجودا وعدما بمنزلة وكذلك إن أخبره بذلك ثقة ولو أنكرت الدخول بعد إقرارها وقد تزوجها الزوج الأول لم تصدق في ذلك لأنها منا قضة ولو كان زوجها الذي فارقها هو الذي أقر بالجماع ولم تقر هي لم يحل للزوج الأول أن يتزوجها ولا يصدق الزوج الثاني عليها لأنه لا حق له في حلها وحرمتها للزوج الأول ولا قول له في ذلك أصلا ويستوي إن كان خلا بها أو لم يخل بها ألا ترى أنها لا تصير محصنة بإقرار الزوج الثاني أنه قد جامعها إذا أنكرت هي فكذلك لا تصير محللة للزوج الأول.(5/273)
ص -136- ... قال: وإذا قالت طلقني زوجي أو مات عني وانقضت عدتي حل لخاطبها أن يتزوجها ويصدقها لأن الحل والحرمة من حق الشرع وكل مسلم أمين مقبول القول فيما هو من حق الشرع إنما لا يقبل قوله في حق الغير إذا أكذبه من له الحق ولا حق لأحد هنا فيما أخبرت به فلهذا جاز قبول خبرها في ذلك والله أعلم بالصواب.
باب نكاح المتعة
قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أحل المتعة ثلاثة أيام من الدهر في غزاة غزاها اشتد على الناس فيها العزوبة ثم نهى عنها وتفسير المتعة أن يقول لامرأته أتمتع بك كذا من المدة بكذا من البدل وهذا باطل عندنا جائز عند مالك بن أنس وهو الظاهر من قول ابن عباس رضي الله عنه واستدل بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] ولأنا اتفقنا على أنه كان مباحا والحكم الثابت يبقي حتى يظهر نسخه ولكن قد ثبت نسخ هذه الإباحة بالآثار المشهورة فمن ذلك ما روى محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يوم خيبر إلا أن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن المتعة ومنه حديث الربيع بن سبرة رضي الله عنه قال أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة عام الفتح ثلاثة أيام فجئت مع عم لي إلى باب امرأة ومع كل واحد منا بردة وكان بردة عمي أحسن من بردتي فخرجت امرأة كأنها دمية عيطاء فجعلت تنظر إلى شبابي وإلى بردته وقالت هلا بردة كبردة هذا أو شباب كشباب هذا ثم آثرت شبابي على بردته فبت عندها فلما أصبحت إذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي ألا أن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن المتعة فانتهى الناس عنها ثم الإباحة المطلقة لم تثبت في المتعة قط إنما ثبتت الإباحة مؤقتة بثلاثة أيام فلا يبقى ذلك بعد مضي الأيام الثلاثة حتى يحتاج إلى دليل النسخ وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول نسختها آية الطلاق والعدة والميراث وكان(5/274)
عمر رضي الله عنه يقول لو كنت تقدمت في المتعة لرجمت وقال جابر بن يزيد رضي الله عنه ما خرج ابن عباس رضي الله عنهما من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة فثبت النسخ باتفاق الصحابة رضي الله عنهم ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت بيني وبينكم كتاب الله تعالى وتلت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] حافظون الآية وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين له وبيان أنها ليست بزوجة ما قال في الكتاب أنه لا يرث أحدهما من صاحبه بالزوجية ولا يقع عليها الطلاق والظهار والإيلاء وإستكثر من الشواهد لذلك في الكتاب والمراد بقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] الزوجات فإنه بناء على قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] والمحصن الناكح.
قال: وإن قال تزوجتك شهرا فقالت زوجت نفسي منك فهذا متعة وليس بنكاح عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى هو نكاح صحيح لأن التوقيت شرط فاسد فإن النكاح لا(5/275)
ص -137- ... يحتمل التوقيت والشرط الفاسد لا يبطل النكاح بل يصح النكاح ويبطل الشرط كاشتراط الخمر وغيرها توضيحه أنه لو شرط أن يطلقها بعد شهر صح النكاح وبطل الشرط فكذا إذا تزوجها شهرا وحجتنا في ذلك ما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لا أوتي برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمته ولو أدركته ميتا لرجمت قبره والمعنى فيه أن النكاح لا يحتمل التوقيت إنما التوقيت في المتعة فإذا وقتا فقد وجد منهما التنصيص على المتعة فلا ينعقد به النكاح وإن ذكر لفظ النكاح وهذا لأنه لا يخلو إما أن ينعقد العقد مؤبدا أو في مدة الأول باطل فإنهما لم يعقدا العقد فيما وراء المدة المذكورة ولا يجوز الحكم بانعقاد العقد فيما وراء المدة المذكورة ولا يجوز الحكم بانعقاد الحكم في زمان لم يعقدا فيه العقد ألا ترى أنهما لو أضافا النكاح إلى ما بعد شهر لم ينعقد في الحال لأنهما لم يعقداه في الحال فكذلك هنا ولا يجوز أن ينعقد في المدة لأن النكاح لا يحتمل ذلك وهذا يبين أن التوقيت ليس بمنزلة الشرط ولكن ينعدم بالتوقيت أصل العقد في الزمان الذي لم يعقداه فيه وهذا بخلاف ما إذا شرط أن يطلقها بعد شهر لأن الطلاق قاطع للنكاح فاشتراط القاطع بعد شهر لينقطع به دليل على أنهما عقدا العقد مؤبدا ألا ترى أنه لو صح الشرط هناك لا يبطل النكاح بعد مضى شهر وهنا لو صح التوقيت لم يكن بينهما عقد بعد مضي الوقت كما في الإجارة وقال الحسن بن زياد رحمه الله تعالى إن ذكرا من الوقت ما يعلم أنهما لا يعيشان أكثر من ذلك كمائة سنة أو أكثر يكون النكاح صحيحا لأن في هذا تأكيد معنى التأبيد فإن النكاح يعقد للعمر بخلاف ما إذا ذكرا مدة قد يعيشان أكثر من تلك المدة وعندنا الكل سواء لأن التأبيد من شرط النكاح فالتوقيت يبطله طالت المدة أو قصرت والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
باب الدعوى في النكاح(5/276)
قال: رضي الله عنه وإذا ادعي الرجل نكاح امرأة وأقام عليها البينة وأقامت أختها عليه البينة إنها امرأته وإنه أتاها بزوج فالقول قول الرجل والبينة بينته صدقته أو لم تصدقه لأن ملك النكاح على المرأة للزوج ولهذا كان البدل عليه لها فالزوج يثبت ببينته ما هو حقه والأخت الأخرى تثبت ببينتها حق لزوج وهو ملك النكاح له عليها وبينة المرء على حق نفسه أولى بالقبول ولأن عند تعارض البينتين لا وجه للعمل ببينة الأخت في إثبات نكاحها فلو قبلناها إنما نقبلها في نفي النكاح على امرأة أثبت الزوج نكاحها والبينات للاثبات لا للنفي ومعنى هذا أن دعوى الزوج نكاح إحدى الأختين إقرار منه بحرمة الأخرى عليه في الحال وإقراره موجب للفرقة فعرفنا إنه لا وجه للقضاء بنكاح الاخرى فبقيت تلك البينة قائمة على النفي ولا مهر للأخرى إن لم يكن دخل بها لأن أصل نكاحها لم يثبت ولو كان الزوج أقام البينة أنه تزوج أحداهما ولا تعرف بعينها غير أن الزوج قال هي هذه فإن صدقته فهي امرأته لتصادقهما فإن تصادقهما في حقهما أقوى من البينة فإن جحدت ذلك فلا نكاح بينه وبين(5/277)
ص -138- ... واحدة منهما لأن الشهود لم يشهدوا على شيء بعينه والشهادة بالمجهول لا تكون حجة ولأنه إما أن تزوج إحداهما بغير عينها فيكون ذلك باطلا أو تزوج إحداهما بعينها ثم نسيها الشهود فقد ضيعوا شهادتهم فإذا بطلت الشهادة بقي دعوى الزوج ولا يثبت النكاح بدعوته ولا يمين له على التي يدعي النكاح عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا يرى الاستخلاف في النكاح ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها وكذلك لو قامت البينة لامرأة بعينها إن أحد هذين الرجلين تزوجها ولا يعرفون أيهما هو والرجلان ينكران ذلك فهو باطل ولا مهر على واحد منهما فإن ادعت المرأة ذلك على أحدهما فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن دعواها دعوى النكاح وإن ادعت أنه طلقها قبل الدخول وإن لها عليه نصف المهر استحلفته على نصف المهر لأن دعواها الان دعوى المال والاستحلاف مشروع في دعوى المال فإن نكل عن اليمين لزمه ذلك ولا يثبت النكاح لأن الاستحلاف كان في المال لا في النكاح وإنما يقضي عند النكول بما استحلف فيه خاصة كما في دعوى السرقة إذا استحلف فنكل يقضي بالمال دون القطع.(5/278)
قال: وإن ادعت أختان أنه تزوجهما جميعا وكل واحدة منهما تقيم البينة أنه تزوجها أولا كان ذلك إلى الزوج فإيهما قال هي الأولى فهي الأولى وهي امرأته لأن المعارضة بين البينتين قد تحققت والعمل بهما غير ممكن لحرمة الجمع بين الاختين نكاحا وقد علمنا أن الثابت أحدهما وهو السابق منهما فإما أن يكون بيان السابق منهما إلى الزوج لأنه أعرف الناس بها ولأنه صاحب الملك وإما أن يقال تصديقه إحداهما يرجح بينتها فإذا ظهر الرجحان في بينة إحداهما قضى بنكاحها واندفعت بينة الأخرى ولا مهر لها عليه إن لم يدخل بها فإن جحد الزوج ذلك كله وقال لم أتزوج واحدة منهما أو قال تزوجتهما جميعا ولا أدري أيتهما الأولى فهو سواء ويفرق بينه وبينهما لأن العمل بالبينتين غير ممكن فلا ترجيح لإحداهما فتعين التفريق بينه وبينهما وعليه نصف المهر بينهما إن كان لم يدخل بهما من قبل إنه كان يقدر على أن يبين فإذا تجاهل في ذلك لم يبرأ من المهر ومعنى هذا الكلام أن نكاح إحداهما صحيح بدليل أنه لو بين الزوج أن هذه هي الأولى حكمنا بصحة نكاحها فإذا أبى أن يبين كان ذلك منه بمنزلة اكتساب سبب الفرقة بينه وبين التي صح نكاحها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر وليست إحداهما بأولى من الأخرى فلهذا كان نصف المهر بينهما ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من قال جمع في السؤال بين فصلين وأجاب عن أحدهما فإن هذا الجواب عما إذا قال تزوجتهما جميعا ولا أدري أيتهما الأولى أما إذا قال لم أتزوج واحدة منهما ينبغي أن لا يجب عليه شيء من المهر لأن العمل بالبينتين تعذر للتعارض وهو منكر ولا يجب المهر إلا بحجة والأصح أن هذا جواب الفصلين لأن المعارضة بين البينتين في حكم الحل دون المهر ألا ترى أن البينتين لو قامتا بعد موت الزوج عمل بهما في حق المهر والميراث فإذا لم يكن تعذر(5/279)
ص -139- ... العمل والمعارضة في حكم المهر وجب نصف المهر في حق الزوج وليست إحداهما بأولى من الأخرى فكان بينهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي قال لا شيء عليه لأن المقضى له بالمهر منهما مجهول وجهالة المقضى له تمنع صحة القضاء وعند محمد رحمه الله تعالى أنه قال بقضي بجميع المهر لأن النكاح لم يرتفع بجحوده فيقضي بمهر كامل للتي صح نكاحها.
قال: وإن كان دخل بأحداهما كان لها المهر وهي امرأته لترجح جانبها بالدخول فإن البينتين إذا تعارضتا على العقد تترجح إحداهما بالقبض كما لو ادعى رجلان تلقي الملك في عين من ثالث بالشراء وأحدهما قابض وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى ولأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن والإمكان ثابت هنا بأن يجعل نكاح التي دخل بها سابقا فإن قال الزوج هي الأخيرة وتلك الأولى فرق بينه وبينها لإقراره بحرمتها عليه وكان ذلك بمنزلة اكتساب سبب الفرقة بعد الدخول بالنكاح الصحيح حتى يلزمه المهر المسمى لها ولا يصدق على أن ينقصها عن ذلك وكانت الأخرى امرأته أيضا لتصادقهما على النكاح بإقرار الزوج إنها هي الأولى.(5/280)
قال: ولو تنازع رجلان في امرأة كل واحد منهما يدعي أنها امرأته ويقيم البينة فإن كانت في بيت أحدهما وكان قد دخل بها فهي امرأته لما أن الترجيح يحصل باليد عند تعارض البينتين على العقد ولأن تمكنه من الدخول بها أو من نقلها إلى بيته دليل سبق عقده ودليل التاريخ كالتصريح بالتاريخ إلا أن يقيم الآخر البينة أنه تزوجها قبله فحينئذ يسقط اعتبار الدليل في مقابلة التصريح بالسبق فإن لم تكن في يد أحدهما فأيهما أقام البينة أنه أول فهو أحق بها لأن شهوده شهدوا بسبق التاريخ في عقده والثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو بإقرار الخصم وإن لم يكن لهما على ذلك بينة فأيهما أقرت المرأة أنها تزوجته قبل الآخر فهي امرأته إما لأن بينته تترجح بإقرارها له كما بينا في جانب الزوج أو لأن البينتين لما تعارضتا وتعذر العمل بهما بقي تصادق أحد الرجلين مع المرأة على النكاح فيثبت النكاح بينهما بتصادقهما وإن لم تقر بشيء من ذلك فرق بينهما وبينها لأن المعارضة والمساواة قد تحققت والعمل بالبينتين غير ممكن لأن ملك الحل لا يحتمل الشركة وليس أحدهما بأولى من الآخر فيبطل نكاحهما بخلاف ملك اليمين فإن الملك يحتمل الشركة فيجب العمل بالبينتين هناك بحسب الإمكان وهذا لأن مقصود الملك هو التصرف وذلك يثبت مع الشركة وهنا المقصود استباحة الوطء والنسل وهذا يفوت بالشركة فإذا تعذر العمل بهما وليس أحدهمابأولى من الآخر يتعين البطلان فيهما فإن كانا لم يدخلا بها فلا مهر لها لأن نكاح واحد منهما لم يثبت ولأن الفرقة بمعنى من جهتها فلا مهر لها قبل الدخول وإن كانا قد دخلا بها جميعا ولا يدري أيهما أول فعلى كل واحد منهما الأقل مما سمى ومن مهر المثل لأن كل واحد منهما إن تقدم نكاحه تأكد المسمى بالدخول وإن تأخر فلها مهر المثل بالدخول لسقوط الحد بشبهة العقد غير أن المال بالشك لا(5/281)
ص -140- ... يجب وإنما يجب القدر المتيقن والمتيقن هو الأقل فلهذا كان على كل واحد منهما الأقل من المسمى ومن مهر المثل.
قال: فإن جاءت بولد لزمهما جميعا وكان ولدهما يعقلان عنه بناء على قولنا أن النسب يثبت من رجلين خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وهي مسألة كتاب الدعوى ويرثانه ميراث أب واحد بينهما نصفان لأن الأب في الحقيقة أحدهما وهو من حق الولد من مائة فيجب ميراث أب واحد وليس أحدهما بأولى من الآخر فيكون بينهما نصفين ويرث من كل واحد منهما ميراث بن كامل عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرث من كل واحد منهما نصف ميراث بن لأنه بن أحدهما فكما أن في جانبهما يرثانه ميراث أب واحد فكذلك في جانبه يرث منهما ميراث بن واحد ولكنا نقول هو بن لكل واحد منهما كما قال عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما هو أبنهما ويرثهما وهذا لأن البنوة لا تحتمل التجزي إلا أن في جانبهما تحققت المزاحمة فتثبت المناصفة وفي جانبه لا مزاحمة فيرث من كل واحد منهما ميراث بن كامل حتى لو انعدمت المزاحمة في جانبهما بأن مات أحدهما قبل الغلام أحرز الثاني من مال الغلام ميراث أب كامل وهو معني قول عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما وهو للباقي منهما ولو كانت المرأة أقرت أن أحد الرجلين هو الزوج لزمه الولد خاصة لأن نكاح المقر له قد ثبت بإقرارهما وثبوت نسب الولد منه باعتبار الفراش ولا معارضة بين الفراش الصحيح والفاسد فلهذا ثبت نسب الولد منه فإن لم تقر بذلك حتى ماتت كان على كل واحد منهما نصف ما سمى لها من المهر وكان ميراث الزوج من تركتها بينهما نصفين لأن نكاح أحدهما صحيح منته بالموت فيكون له الميراث وعليه المسمى لها وليس أحدهما بأولى من الآخر فلذلك تنصف بينهما الميراث والمهر المسمى وهذا لأن تعذر العمل بالبينتين ووجوب التوقف لمعنى الحل وذلك يزول بموتها إلا ترى أنه لو كان إقامة البينة من الرجلين بعد الموت وجب العمل بهذه الصفة فكذلك إذا ماتت بعد إقامة(5/282)
البينتين وهذا لأن المقصود من النكاح بعد الموت الميراث وهو مال يحتمل الشركة وفي حال الحياة المقصود هو الحل وهو غير محتمل للشركة.
قال: ولو لم تمت هي ولكن مات أحد الرجلين فإن قالت المرأة هذا الميت هو الأول فلها في ماله المهر والميراث فإن تصديقها بعد موت الزوج كتصديقها في حياته فيثبت النكاح بينهما فينتهي بالموت ألا ترى إن رجلا لو أقر بنكاح امرأة فصدقته بعد الموت كان تصديقها صحيحا لأن النكاح بموت الزوج يرتفع إلى خلف وهو العدة.
قال: وإذا تزوجت المرأة زوجين في عقدة واحدة كان النكاح باطلا لأن النكاح لا يحتمل الاشتراك وليس أحدهما بأولى من الآخر ولا خيار لها في ذلك لأن ثبوت الخيار ينبني على صحة السبب ولم يصح السبب في حق كل واحد منهما لاقتران المنافى به وكذلك لو كانت ذمية أو حربية ثم أسلموا لأن هذا لا يتجه عند أحد ممن يعتقد ملة فحكم أهل الملل في ذلك سواء.(5/283)
ص -141- ... قال: ولو كان أحد الزوجين له أربع نسوة كان نكاح الذي ليس له نسوة منهما جائز لأنه لو انفرد نكاح الذي له أربع نسوة لم يصح ولو انفرد نكاح الآخر كان صحيحا فإذا اجتمعا صح نكاح من يصح نكاحه عند الانفراد وهذا لأن المعارضة لا تتحقق بين ماله صحة وبين ما لا صحة له وإذا صح نكاح أحدهما فعليه جميع ما سمى لها إن كانا سميا ألف درهم وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى ظاهر بمنزلة ما لو تزوج امرأتين وأحداهما لا تحل له بمهر واحد وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يفرقان بين هذه وبين تلك فيقولان الألف هنا بمقابلة بضعها وقد سلم ذلك للذي صح نكاحه بكماله فإما هناك الألف مسمى بمقابلة بضعين فإذا لم يسلم له إلا أحدهما لا يلزمه إلا مقدار حصته من المهر وإن كان سمي كل واحد منهما لنفسه خمسمائة لم يلزم هذا الزوج إلا خمسمائة لأنه ما التزم إلا هذا المقدار ولا يلزم من المهر لا قدر ما التزمه بخلاف الأول فإن هناك كل واحد منهما قد سمى جميع الألف بمقابلة بضعها فإذا سلم ذلك لإحدهما لزمه جميع المهر.(5/284)
قال: والنكاح الفاسد إذا لم يكن فيه مسيس أو نظر لا يثبت حرمة المصاهرة لأن النكاح إنما يقام مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة لأنه يتوصل به إلى الوطء شرعا وذلك لا يحصل بالعقد الفاسد فلهذا لا يثبت به الحرمة ولأن النكاح الفاسد أصله غير منعقد فالسبب الفاسد لا يثبت إلا الملك الحرام وموجب النكاح ملك الحل وبين الحل والحرمة منافاة فإذا انعدم إثبات الملك الحلال بالسبب الفاسد والملك الحرام بالنكاح لا يكون خلا السبب عن الحكم والأسباب الشرعية إنما تعتبر لأحكامها فكل سبب خلا عن الحكم كان لغوا وإذا أقامت المرأة البينة على النكاح والزوج جاحد يثبت نكاحها ولم يفسد بجحوده لأن النكاح الثابت لا يرتفع إلا بالطلاق وجحوده ليس بطلاق فإن الطلاق قطع للنكاح والجحود نفي للنكاح أصلا فلا يصير به قاطعا فلهذا قضى بالنكاح بينهما والله تعالى أعلم بالصدق والصواب.
باب الغرور في المملوكة
قال: رجل تزوج امرأة على أنها حرة فولدت له أولادا فإذا هي مكاتبة قد أذن لها مولاها في التزوج أخذت عقرها وقيمة ولدها إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لا تجب قيمة الولد أصلا لأنها تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها وفي هذا تحصيل بعض مقصودها وفي ظاهر الرواية يقول هذا إن لو دخل الولد في كتابتها ولم يدخل لأنه علق حرا فوجب العقر وقيمة الولد لها كما هو الحكم في المغرور وهي بالكتابة صارت أحق بأجزائها ومنافعها فما هو بدل جزء منها فهو لها ثم يرجع الأب بقيمة الولد على الذي غره إن كان رجل حر غره بأن زوجها منه على أنها حرة فإن كانت المكاتبة هي التي غرته بأن زوجت نفسها منه على أنها حرة فلا شيء لها عليه من قيمة الولد في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول لأنها لو رجعت عليه بقيمة الولد رجع هو عليها بذلك بسبب الغرور(5/285)
ص -142- ... فلا يكون مفيدا ثم رجع فقال لها أن تأخذ قيمة الولد وهو قول محمد رحمه الله تعالى لأن رجوعه عليها بعد العتق فإن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة فيتأخر إلى ما بعد عتقها والقيمة لها عليه في الحال فكان الرجوع مفيدا وإن مات مولاها وهي مكاتبة على حالها فورثه أب الولد خيرت بين أن تبطل الكتابة وبين أن تمضي عليها لأنها إن أبطلت الكتابة صارت مملوكة لأب الولد بالميراث ولها منه ولد ثابت النسب فتصير أم ولد له فقد تلقاها جهتا حرية إحداهما مؤجلة بغير بدل وهو الاستيلاد والأخرى معجلة ببدل وهو الكتابة فإن مضت على الكتابة فعتقت بالأداء فإنما عتقت على ملك المولى الأول وكان ولاؤها له وإن مات أب الولد قبل أن تؤدي عتقت وبطلت عنها المكاتبة لأنها بمنزلة أم الولد فتعتق بموت السيد فإن قيل هو لم يملك رقبتها إذا اختارت المضي على الكتابة.(5/286)
قلنا: نعم ولكنه صار أحق الناس بها حتى لو أعتقها نفذ عتقه فكذلك إذا مات لأن عتق أم الولد متعلق بموت المولى شرعا على أن يصير المولى كالمعتق لها ولأنها إنما اختارت الكتابة لما في في العتق بجهة الاستيلاد من التأخير فإذا تعجل ذلك بموت المولى فالظاهر أنها تختار هذه الجهة فإذا عتقت سقط عنها بدل الكتابة إما لانفساخ العقد برضاها أو لوقوع الاستغناء لها عن أداء البدل وهو بمنزلة ما لو وهب لها المكاتبة ومعنى هذا أن حق المستولد فيها إلى موته فبالموت يصير مسقطا حقه فكأنه أبرأها عن بدل الكتابة والوارث إذا كان واحدا فإبراء المكاتب عن المكاتبة يصح إبراؤه ويعتق ولهذا لو كان معه شريك في الميراث سعت في مكاتبتها على حالها لأن إبراء أحد الوارثين عن نصيبه من بدل الكتابة لا يوجب عتق شيء منها وإنما جعلناه كالمبرئ لتعتق فإذا كانت لا تعتق هنا لم يكن مبرئا ولأنه لم يسلم لها العتق مجانا في الحال فبقيت على اختيارها الأول وهو المضي على الكتابة فلهذا سعت في مكاتبتها وكان الولاء للأول إذا أدت ألا ترى أن المكاتب إذا ورثه رجلان فأعتقه أحدهما كان عتقه باطلا ولو كانت المكاتبة حين ورثها رجلان اختارت أن تكون أم ولد بطلت الكتابة ويضمن أب الولد نصف قيمتها لشريكه لأن حكم الاستيلاد كما ثبت في نصيبه ثبت في نصيب الشريك أيضا لأنه لا يحتمل التجزي فصار هو متملكا نصيب شريكه بضمان القيمة وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار.(5/287)
قال: أمة غرت رجلين من نفسها فتزوجاها على أنها حرة فولدت لهما أولادا ثم ملكاها بوجه من الوجوه كانت أم ولد لهما لأنهما ملكاها ولكل واحد منهما ولد ثابت النسب منها وإن ملكها أحدهما فهي أم ولد له لهذا المعنى وهذا لأن نسب الولد لما ثبت بشبهة النكاح كان هذا بمنزلة الاستيلاد بعد الملك في ثبوت حق الولد في حقيقة الحرية فكذلك في ثبوت حقها في أمية الولد لأن حقها تبع لحق الولد فإن كانت قد ولدت عند المولى أولادا بعد ذلك فملكها أحدهما مع أولادها كان أولادها من غير أرقاء لأن ثبوت حق أمية الولد فيه بعد ما تملكها(5/288)
ص -143- ... المستولد فإن حق الحرية كحقيقة الحرية في استدعائه ملك الحل وقد انفصل الأولاد قبل ثبوت الحق فيها فلا يسري ذلك الحق إليهم قال: وإذا غرت الأمة رجلا من نفسها وأخبرته إنها أمة لهذا الرجل فاشتراها منه فولدت له أولادا ثم استحقها رجل أخذها وعقرها وقيمة ولدها كان لأب الولد أن يرجع بالثمن وبقيمة الولد على الذي باعه لأن سبب الغرور مباشرة البيع وإنما كان ذلك من البائع ومتى ملكها المغرور بعد ذلك فهي أم ولد لثبوت نسب الولد منه والله أعلم بالصواب.
باب النكاح في العقود المتفرقة(5/289)
قال: رضي الله عنه ولا يحل للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح إلا على قول الروافض فإنهم يجوزون الجمع بين تسع نسوة لظاهر قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والواو للجمع فإذا جمعت بين هذه الأعداد كان تسعا ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين تسع نسوة وهو قدوة الأمة صلى الله عليه وسلم فما يجوز له يجوز لأمته وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والمراد أحد هذه الأعداء قال الفراء رحمه الله تعالى لا وجه لحمل هذا على الجمع لأن العبارة عن التسع بهذا اللفظ من العي في الكلام والدليل عليه قوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] والمراد أحد هذه الأعداد وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بسبب إباحة تسع نسوة له وهو اتساع حله بفضيلة النبوة فإن بزيادة الفضيلة يزداد الحل كما بين الأحرار والمماليك ولم ينقل عن أحد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده إلى يومنا هذا أنه جمع بين أكثر من أربع نسوة نكاحا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "يتزوج العبد ثنتين ويطلق تطليقتين" ما يدل على أن الحر لا يتزوج أكثر من أربع لأن حال المملوك على النصف من حال الحر وله أن يتسرى على الأربع ما بداله من السراري ما خلا امرأة ذات رحم محرم منها من نسب أو رضاع لحديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وقد حرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به العدد إذ التسري غير محصور بعدد لأن النكاح إنما كان محصورا بعدد لوجوب العدل والتسوية بينهن في القسم وعند كثرة العدد يعجز عن ذلك وفي الإماء لا يلزمه التسوية بينهن في القسم فلهذا لا يكون محصورا بالعدد وإليه أشار الله تعالى في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فأما سائر(5/290)
أسباب الحرمة كالرضاع والمصاهرة والمحرمية لا تختلف بالمنكوحة والمملوكة.
قال: رجل تزوج أربع نسوة بالكوفة ثم طلق إحداهن بغير عينها بمكة ثم تزوج مكية ثم طلق إحدى نسائه ثم تزوج بالطائف أخرى ثم مات ولم يدخل بواحدة منهن فنقول العقود كلها قد صحت منه لأنه إنما تزوج المكية بعد ما طلق إحدى الكوفيات قبل الدخول فحين تزوجها لم يكن في نكاحه إلا ثلاث نسوة فإن قيل أليس إن الطلاق المبهم يجعل كالمتعلق بخطر البيان فينبغي أن لا يصح نكاح المكية.(5/291)
ص -144- ... قلنا: هذا في حق المحل لوجود النكير في المحل فإما في جانب المطلق لا إبهام لأنه متعين في نفسه وحكم العدد ينبني على العدد في جانبه وهو يعلم أنه تزوج المكية وليس في نكاحه إلا ثلاث نسوة ثم تزوج الطائفية وليس في نكاحه إلا ثلاث نسوة ثم المسألة تشتمل على حكم المهر والميراث والعدة أما بيان حكم المهر أن للطائفية مهرا كاملا لأن نكاحها قد صح ولم يحدث بعد نكاحها طلاق فيتقرر مهرها بالموت وللمكية سبعة أثمان المهر لأنه بعد ما تزوجها طلق إحدى نسائه الأربع قبل الدخول وذلك مسقط نصف مهر المثل متردد بينها وبين ثلاث من الكوفيات فيتوزع النقصان عليهن أرباعا فيصيبها نقصان نصف ربع صداق وذلك ثمن صداق فبقي لها سبعة أثمان صداق وأما الكوفيات فلهن ثلاثة أصدقة وثمن صداق بينهن سواء لأنه حين طلق إحداهن أولا فقد سقط بهذا الطلاق نصف مهر ومن الطلاق الثاني أصابهن أيضا نقصان ثلاثة أرباع نصف مهر وذلك ثلاثة أثمان مهر وفي الأصل لهن أربعة أصدقة فإذا نقصت من ذلك مرة نصف صداق ومرة ثلاثة أثمان صداق بقي ثلاثة أصدقة وثمن صداق وحالهن في ذلك سواء فيقسم بينهن بالسوية أرباعا وأما الميراث فللطائفية ربع ميراث النساء ثمنا كان أو ربعا لأنها إحدى نسائه بيقين وللمكية ربع ما بقي لأن الباقي وهو ثلاثة أرباع ميراث النساء لا يزاحمها فيه إلا ثلاث من الكوفيات وحالهن فيه سواء فلها ربع ذلك والباقي بين الكوفيات بالسوية لاستواء حالهن في ذلك وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفي عنها زوجها أما في حق الطائفية فللتيقن بانتهاء نكاحها بالموت وفي حق البواقي لاحتمال ذلك والعدة يحتاط لإيجابها.(5/292)
قال: ولو كان بعد ما تزوج الطائفية طلق إحدى نسائه ثم مات فنقول أما بيان حكم المهر إن للطائفية هنا سبعة أثمان مهرها لأنه طلق إحدى نسائه بعد ما تزوجها فانتقص به نصف صداق وإنما يصيبها من ذلك النقصان الربع فبقي لها سبعة أثمان صداق وللمكية ستة أثمان مهر وربع ثمن مهر لأن من النقصان الحاصل بالتطليقة الأخيرة إنما يصيبها ربع ثلاثة أرباع نصف صداق فإن هذا النقصان يدور بينها وبين ثلاث من الكوفيات وربع ثلاثة أرباع النصف يكون ثلاثة أرباع ثمن الصداق فقد أصابها بالتطليقة الثانية نقصان ثمن صداق كما قلنا وبالتطليقة الثالثة ثلاثة أرباع ثمن فبقي لها ستة أثمان وربع ثمن فإذا جمعت ذلك كان مهرا وثمن مهر وربع ثمن مهر صداق وللكوفيات مهران وستة أثمان وثلاثة أرباع ثمن صداق لأنه انتقص من مهورهن بالطلاق الأول نصف صداق وبالطلاق الثاني ثلاثة أثمان صداق وبالطلاق الثالث ثمنان وربع ثمن فإذا جمعت ذلك كان مهرا وثمن مهر وربع ثمن مهر فإذا نقصت ذلك من أربعة مهور بقي مهران وستة أثمان وثلاثة أرباع ثمن وفي حكم الميراث والعدة هذا.
قال: وإذا تزوج امرأة في عقدة وامرأتين في عقدة وثلاثا في عقدة ولا يعلم أيتهن الأولى فأما الواحدة فنكاحها صحيح بيقين لأن الصحيح من العقدين الأخيرين أحدهما ونكاح الواحدة.(5/293)
ص -145- ... صحيح تقدم أو تأخر والقول قول الزوج في الثلاث والثنتين أيتهن قال هي الأولى لأن نكاح أحد الفريقين صحيح وهو السابق والزوج هو الذي يعرف ذلك لأنه باشر العقود فيعرف السابق من المتأخر ولأنه صاحب ملك فإليه بيان محل ملكه ولأن حقوق النكاح تجب عليه فإليه بيان من يستوجب الحق عليه وأي الفريقين مات والزوج حي فقال هي الأولى ورثهن وأعطى مهورهن وفرق بينه وبين الأواخر لأن حق البيان الثابت له لا يبطل بموتهن فإن الموت منه للنكاح مقرر لا حكامه وإن كان دخل بهن كلهن ثم قال في صحته أو عند موته لأحد الفريقين هؤلاء الأول فهو الأول ويفرق بينه وبين الأواخر ولكل واحدة الأقل من مهر مثلها ومما سمى لها لدخوله بها بحكم نكاح فاسد ومراده بهذا الفصل إن دخوله بهن لا يؤثر في البيان إذا لم يعلم من دخل بها أولا لأن حال الفريقين في ذلك سواء وإن قال الزوج لا أدري أيتهن الأولى حجب عنهن إلا عن الواحدة لأنه إنما يخلي بينه وبين من صح نكاحها منهن ونكاح الواحدة صحيح فيخلي بينه وبينهاولم يتيقن من صح نكاحه من الفريقين الآخرين فيكون محجوبا عنهن مخيرا على أن يبين الأول من الآخر فإن مات قبل أن يبين ففي المسألة بيان حكم الميراث والمهر والعدة أما بيان حكم المهران للواحدة ما سمى لها من المهر بكماله لأن نكاحها صحيح بيقين وللثلاث مهر ونصف بينهن وللثنتين مهر واحد بينهما على اختلاف الأصلين فإن أصل أبي يوسف رحمه الله تعالى في جنس هذه المسائل اعتبار الجملة والتخريج على ذلك فنقول أكثر ما لهن ثلاثة مهور بأن يكون السابق نكاح الثلاث وأقل ما لهن مهران بأن يكون السابق نكاح المثنى فالتردد في مهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهن مهران ونصف ثم لا خصومة للثنتين في الزيادة على مهرين فيسلم ذلك للثلاث وهو نصف مهر يبقى مهران استوت فيه منازعة الفريقين فكان بينهما نصفين فيحصل للثلاث مهر ونصف وللثنتين مهر واحد وأصل محمد رحمه الله(5/294)
تعالى في ذلك اعتبار الأحوال في حق كل فريق على حدة فيقول أما الثلاث فإن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر ونصف وأما المثنى فإن صح نكاحهما فلهما مهران وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما نصف ذلك ونكاحهما يصح في حال دون حال فلهما مهر واحد وأما حكم الميراث فنقول للواحدة سبعة أسهم من أربعة وعشرين من ميراث النساء ربعا كان أو ثمنا لأن نكاحها صحيح على كل حال فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ربع ميراث النساء وإن صح مع الثنتين فلها ثلث والربع بيقين وما زاد عليه إلى تمام الثلث يثبت في حال دون حال فيتنصف فنحتاج إلى حساب له ثلث وربع وذلك اثنا عشر ثم يتنصف السهم الزائد على الربع إلى تمام الثلث فيتكسر بالإنصاف فيضعف الحساب فيكون أربعة وعشرين فإن صح نكاحها مع الثلاث فلها ستة من أربعة وعشرين وإن صح نكاحها مع المثنى فلها ثمانية فالتردد في سهمين فيثبت أحدهما ويسقط الآخر فكان لها(5/295)
ص -146- ... سبعة من أربعة وعشرين وما بقي وهو سبعة عشر سهما بين الفريقين الآخرين نصفين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى للمثنى من ذلك ثمانية أسهم وللثلاث تسعة أسهم وجه قولهما أن السهم الزائد على ستة عشر لا منازعة فيه للمثنى لأنه إن صح نكاحهما فلهما ثلثا الميراث ستة عشر من أربعة وعشرين فيسلم ذلك السهم لثلاث وقد استوت منازعة الفريقين في ستة عشر فكان بينهما نصفين أو يعتبر حال كل فريق فنقول إن صح نكاح الثلاث فلهن ثلاثة أرباع الميراث ثمانية عشر وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو تسعة وإن صح نكاح المثني فلهما ثلثا الميراث ستة عشر وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما نصف ذلك ثمانية وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما بقي من ميراث النساء بعد ماأخذت الواحدة نصيبها بمنزلة جميع ميراث النساء أن لو لم تكن الواحدة أصلا ولو لم تكن الواحدة أصلا كان جميع ميراث النساء بين الفريقين نصفين فكذلك ما بقي وهذا لأن علة الاستحقاق في حق الفريقين سواء فإن كل واحد منهما مستحق إذا كان سابقا محروم إذا كان مسبوقا وقولهما أن المثنى لا يدعيان السهم الواحد فإنما لا يدعيان ذلك باعتبار استحقاق الواحدة لذلك السهم فأما بدون استحقاقهما فهما يدعيان جميع الميراث وقد خرج ذلك السهم من أن يكون مستحقا للواحدة فكان دعواهما دعوى الثلاث في استحقاق ما فرغ من استحقاق الواحدة سواء فلهذا قسم بين الفريقين نصفين.(5/296)
قال: وعليهن عدة المتوفي عنهن أزواجهن احتياطا لما قلنا وإن كان قد دخل بهن كلهن ولا يعرف الأول والآخر فعلى الثلاث والثنتين عدة الوفاة والحيض جميعا على معنى إن كل واحدة تعتد أربعة أشهر وعشرا تستكمل في ذلك ثلاث حيض لأن من وجه عليهن عدة الوفاة وهو ما إذا صح نكاحهن ومن وجه الحيض وهو ما إذا فسد نكاحهن فتجب العدة بالحيض لأجل الدخول فيجمع بينهما احتياطا فأما على الواحدة عدة المتوفى عنها زوجها لا حيض في ذلك لأن نكاحها صحيح بيقين ثم إن كان مهر مثل كل واحدة من الثلاث والثنتين أقل من المسمى فلها مهر مثلها ونصف الفضل إلى تمام المسمى لأن في وجوب الأقل وهو مهر المثل إما بالعقد أو بالدخول يقين وما زاد عليه إلى تمام المسمى تستحقه كل واحدة إن صح نكاحها ونكاحها يصح في حال دون حال فلهذا كان لكل واحدة نصف ذلك فإن كان الزوج حيا فجامع امرأة منهن أو طلقها أو ظاهر منها كان هذا إقرارا منه بأنها ومن معها الأولى لأن البيان تارة يحصل بالتصريح وتارة بالدليل فإقدامه على الظهار والطلاق في إحداهن بيان منه إن نكاحها صحيح لأن ما باشره من التصرف مختص بالنكاح الصحيح وكذلك إن جامع لأن فعل المسلم محمول على الصحة والحل ما أمكن وإنما يكون وطؤه إياها حلالا إذا كان صح نكاحها فلهذا كان هذا بمنزلة البيان منه أن السابق عقدها.
قال: وإن كانت إحدى الثلاث أم إحدى الثنتين ولم يدخل بشيء منهن فالجواب على ما(5/297)
ص -147- ... تقدم أيضا لأن الصحيح نكاح أحد الفريقين وهو السابق منهما وفي هذا لا يفترق الحال بين أن يكون بينهما محرمية أو لم يكن.
قال: ولو كان مع الثلاث أمة كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال لأنه أن تقدم هذا العقد فنكاح الحرائر بهذا العقد صحيح ومتى صح نكاح الحرائر بطل نكاح الأمة المضمومة إليهن وإن تأخر نكاحهن فهو فاسد ولهذا كان نكاح الأمة فاسدا على كل حال.
قال: وكذلك لو كانت إحدى الثنتين أمة فنكاحها فاسد بيقين لما قلنا فإن مات الزوج قبل أن يدخل بهن وقبل أن يبين الأولى منهن واحدى الثلاث أمة وإحدى الثنتين أمة فنكاح الأمتين فاسد ونكاح الحرائر كلهن جائز أما فساد نكاح الأمتين لما قلنا وعند فساد نكاحهما الحرائر أربع فيجوز نكاحهن المتقدم والمتأخر في ذلك سواء وإن كانت إحدى الثلاث أمة والثنتان حرتان وقد تزوج الواحدة الحرة قبلهن يعلم ذلك فنكاح الأمة فاسد لعلمنا أنه تزوجها على حرة ونكاح الأمة على الحرة فاسد وللحرة المنفردة المهر وثلث ميراث النساء لأن نكاحها صحيح بيقين وإنما يزاحمها في الميراث امرأتان إما المنفردتان أو اللتان كانتا مع الأمة فلها ثلث ميراث النساء ولكل حرتين نصف ما بقي من الميراث لاستواء حال الفريقين في ذلك فإن كل فريق أن تقدم نكاحها استحق ذلك وإن تأخر لا ويكون للفريقين مهران بينهما سواء لاستواء حال الفريقين في استحقاق المهرين على ما قلنا.(5/298)
قال: وإن كانت إحدى الثنتين أمة والثلاث حرائر ولا يعلم أي النساء تزوج أولا فنكاح الأمة فاسد للتيقن بضمها إلى الحرة والميراث بين الحرائر الخمس على أربعة أسهم للثلاث من ذلك سهم ونصف وللمنفردتين ن سهمان ونصف وهذا في الحكم كرجل تزوج ثلاثا في عقدة وواحدة في عقدة وواحدة في عقدة ولا يدري أيتهن أول بل هي تلك المسألة بعينها ووجه التخريج إن الثلاث إن صح نكاحهن بأن تقدم أو كان بعد الواحدة من المنفردتين فلهن ثلاثة أرباع ميراث النساء لأن الصحيح معهن نكاح الواحدة من المنفردتين سابقا أو متأخرا وإن لم يصح فلا شيء لهن بان كان نكاحهن بعد نكاح المنفردتين فلهن نصف ثلاثة أرباع الميراث وذلك سهم ونصف من أربعة وما بقي بين المنفردتين لاستواء حالهما ولأنهما يستحقان جميع الميراث في حال وهو إن يكون نكاحهما سابقا والربع في حال وهو إن يكون نكاح الثلاث سابقا فالربع لهما بيقين وهو سهم من أربعة وثلاثة تثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لهما سهمان ونصف من أربعة وحالهما في استحقاق ذلك سواء فيكون بينهما نصفين وللثلاث مهر ونصف لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر ونصف وللمنفردتين مهر ونصف لأن نكاح إحداهما صحيح بيقين تقدم أو تأخر فيتيقن لها بمهر والأخرى إن صح نكاحها فلها مهر وإن لم يصح فلا شيء لها فيتنصف مهرها وليست إحداهما بأولى من الأخرى بشيء فما اجتمع لهما وهو مهر ونصف بينهما نصفان.(5/299)
ص -148- ... قال: وإذا تزوج واحدة في عقدة وثنتين في عقدة وثلاثا في عقدة وأربعا في عقدة ثم مات ولا يعرف أيتهن أول فنقول ميراث النساء ربعا كان أو ثمنا بين الثنتين والثلاث والأربع أثلاثا لأن الميراث إنما يتوزع على الأحوال والأحوال ثلاثة بيقين إما أن يصح نكاح الأربع أو نكاح الثلاث مع الواحدة أو نكاح الثنتين مع الواحدة وليس هنا حالة رابعة وباعتبار الأحوال كل فريق في استحقاق الميراث مساو للفريقين الآخرين على معنى أنه إن تقدم نكاحه استحق الميراث وإلا فلا فلهذا كان الميراث بينهن أثلاثا لا مزاحمة للواحدة مع الأربع في الثلث الذي صار لهن لأن نكاحها لا يجوز معهن وإنما أخذن ما أخذن باعتبار جواز نكاحهن ولكنها تدخل مع الثلاث فتأخذ ثمن ما أصابهن لأنهن إنماأخذن ما أخذن باعتبار جواز نكاحهن ونكاح الواحدة يجوز معهن إلا أن في نكاح الواحدة ترددا فإنه إما أن يجوز مع الثلاث أو مع الثنتين فإن جاز مع الثلاث كان لها ربع ما في يدي الثلاث وإن جاز مع الثنتين لم يكن لها شيء مما في يدي الثلاث فتأخذ مما في يدي الثلاث نصف الربع وهو الثمن والباقي بين الثلاث أثلاثا ثم تدخل مع الثنتين فتأخذ سدس ما في يديهما لأنهما أخذتا باعتبار جواز نكاحهما ونكاح الواحدة يجوز مع نكاحهما فإن كان جواز نكاحهما معهما كان لها ثلث ما في أيديهما وإن كان مع الثلاث لم يكن لهاشيء مما في أيديهما فلهذا تأخذ منهما نصف الثلث وهو سدس ما في أيديهما والباقي بينهما نصفان وأما حكم المهر فنقول على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لهن ثلاثة مهور ونصف مهر لأنه إن جاز نكاح الأربع فلهن أربعة مهور وإن جاز نكاح الثلاث مع الواحدة فكذلك وإن كان جاز نكاح الثنتين مع الواحدة فلهن ثلاثة مهور فثلاثة مهور لهن بيقين والمهر الرابع يثبت في حالين ولا يثبت في حال ولكن أحوال الإصابة حالة واحدة فكإنه ثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لهن ثلاثة مهور ونصف مهر فإما نصف(5/300)
مهر من ذلك فللأربع ثلاثة أرباعه وللثلاث ربعه لأنه لا منازعة للثنتين في هذا النصف والأربع يدعين ذلك لأنفسهن والثلاث يدعين ذلك بانضمام الواحدة إليهن وانضمام الواحدة إليهن في حال دون حال فباعتبار الحالين يكون للثلاث نصف نصف هذا وهو الربع وللأربع ثلاثة أرباع فأما مهر واحد فللأربع منه سدسان ونصف سدس وللثلاث سدسان ونصف سدس وللثنتين سدس لأن الثلاث والأربع يدعين هذا المهر لأنفسهن والثنتان لا يدعيان ذلك إلا بانضمام الواحدة إليهما وانضمام الواحدة إليهما في حال دون حال ففي حالة الانضمام لهما ثلث ذلك وفي غير حالة الانضمام لا شيء لهما فلهما نصف الثلث وهو السدس والباقي وهو خمسة أسداس استوت فيه منازعة الثلاث والأربع فكان بينهما نصفين لكل فريق سدسان ونصف سدس وأما المهران فقد استوت في ذلك منازعة الفرق الثلاث فكان بينهن أثلاثا لكل فريق ثلثا مهر فأما الأربع فقد أصابهن مرة ثلثا مهر ومرة سدسان ونصف سدس ومرة ثلاثة أرباع النصف فيجمع ذلك كله ويقسم بينهن بالسوية إذ لا مزاحمة(5/301)
ص -149- ... للواحدة معهن وإما الثلاث فقد أصابهن مرة ثمن مهر ومرة سدسان ونصف سدس ومرة ثلثا مهر فيجمع ذلك كله ثم الواحدة تأخذ ثمن جميع ذلك لأنه إن صح نكاحها معهن فلها ربع ذلك وإن لم يصح فلا شيء لها فتأخذ ثمن ذلك والباقي بين الثلاث بالسوية وإما الثنتان فإنهما أصابهما مرة ثلثا مهر ومرة سدس مهر فتدخل الواحدة معهما وتأخذ سدس ما في أيديهما لأنه إن جاز نكاحها معها فلها ثلث ذلك وإلا فلا شيء لها فتأخذ نصف الثلث وهو السدس ثم الباقي بينهما نصفان وإذا أردت تصحيح الحساب فالطريق فيه ضرب هذه المخارج بعضها في بعض وهو واضح لا يشتغل به للتحرز عن التطويل وعلى قول محمد رحمه الله تعالى للأربع مهر وثلث مهر وللثلاث مهر وللإثنتين ثلثا مهر وللواحدة نصف مهر فجملة ذلك أيضا ثلاثة مهور ونصف كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ووجه التخريج إن الأحوال ثلاثة فيجب اعتبار كل حالة فيقول نكاح الأربع يصح في حال ولا يصح في حالين فإن صح نكاحهن فلهن أربعة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن وأحوال الحرمان أحوال فلهن ثلث ذلك وهو مهر وثلث مهر بينهن بالسوية والثلاث إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن ونكاحهن يصح في حال ولا يصح في حالين فلهن ثلث ذلك وهو مهر واحد والثنتان إن صح نكاحهما فلهما مهران ونكاحهما صحيح في حال دون حالين فلهما ثلث ذلك وذلك ثلثا مهر والواحدة يصح نكاحها في حالين إما مع الثلاث أو مع الثنتين ولا يصح نكاحها في حال وهو ما إذا تقدم نكاح الأربع لكن أحوال الإصابة حالة واحدة فكان نكاحها يصح في حال دون حال فكان لها نصف المهر وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفي عنها زوجها احتياطا.(5/302)
قال: فإن كانت إحدى الأربع أمة والمسألة بحالها فنكاح الأمة فاسد بيقين لانضمامها إلى الحرائر ولا حظ لها من المهر ولا من الميراث ونكاح المنفردة هنا صحيح على كل حال لأن الباقي في الحاصل ثلاث وثلاث واثنتان وواحدة فيتيقن بصحة نكاح الواحدة إما مع الثنتين أو مع أحد الفريقين من الثلاث ثم بيان حكم المهران على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لهن ثلاثة مهور ونصف لما بينا أن أكثر ما لهن أربعة مهور وأقل ما لهن ثلاثة مهور فيتوزع المهر الرابع نصفين ثم للمنفردة من هذه الجملة مهر كامل لأنا تيقنا بصحة نكاحها بقي مهران ونصف فأما نصف مهر من ذلك لا منازعة فيه للثنتين وكل فريق من الثلاث يدعين ذلك فيكون بين الفريقين نصفين بقي مهران استوت فيهما منازعة الفرق الثلاثة فكان بينهن أثلاثا لكل فريق ثلثا مهر فأما على قول محمد فللواحدة مهر كامل لما قلنا ولكل فريق من الثلاث مهر واحد لأن نكاح كل فريق يصح في حال ولا يصح في حالين وفي حالة الصحة لهن ثلاثة مهور وأحوال الحرمان أحوال فكان لكل فريق ثلث ذلك وهو مهر واحد ونكاح الثنتين يصح في حال ولا يصح في حالين وفي حالة الصحة لهما مهران فلهما ثلث ذلك وهو ثلثا مهر(5/303)
ص -150- ... وميراث النساء بينهن للواحدة من ذلك سبعة من أربعة وعشرين لأن نكاحها صحيح بيقين فإن صح مع الثنتين فلها ثلث الميراث ثمانية من أربعة وعشرين وإن صح مع الثلاث فلها ربع الميراث ستة من أربعة وعشرين فقدر ستة يقين وما زاد على ذلك يثبت في حال دون حال فلهذا كان لها سبعة ولا يقال ستة لها في حالين بأن يصح نكاحها مع هؤلاء الثلاث أو مع الفريق الآخر فكان ينبغي أن تعتبر الحالتان في حقها لأنهما حالتا حرمان الزيادة وهذا لأنه لا فرق في حقها بين أن يكون صحة نكاحها مع هذا الفريق أو مع الفريق الآخر واعتبار الأحوال لا يتفاوت وإذا لم يكن في حقها تفاوت في هاتين الحالتين فهما حالة واحدة.
قال: ولهم واحد من الباقي وهو سبعة عشر بين الثلاث نصفان لأن الثنتين لا يدعيان أكثر من ثلثي الميراث وما بقي وهو ستة عشر بينهن أثلاثا لاستواء حالهن في استحقاق ذلك ولكن هذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الباقي بعد نصيب الواحدة كله مقسوم بين الفرق أثلاثا لاستواء حالهن في استحقاق ما يفرغ من حق الواحدة وقد تقدم بيان نظائره.(5/304)
قال ولو كان طلق اثنتين من نسائه ثم مات قبل أن يبين والمسئلة بحالها كان لهن مهران ونصف لأنه قد سقط بطلاق الثنتين قبل الدخول مهر واحد وقد كان الثابت لهن قبل الطلاق ثلاثة مهور ونصفا فإذا سقط مهر كان الباقي مهرين ونصفا فأما الواحدة فأكثر ما يكون لها ربع ثلاثة مهور بأن كان صح نكاحها مع الثلاث ووجب أربعة مهور ثم سقط مهر بالطلاق بقي ثلاثة مهور لها ربع ذلك وأقل ما يكون لها ثلث مهرين بأن يكون نكاحها صح مع الثنتين فكان الواجب ثلاثة مهور سقط مهر بالطلاق وبقي مهران فلها ثلث ذلك وذلك ثلثا مهر فقدر ثلثي مهر لها بيقين وما زاد على ذلك إلى تمام ثلاثة أرباع مهر وذلك نصف سدس مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لها ثلثا مهر وربع سدس مهر وما بقي يكون بين الفرق الثلاثة أثلاثا لاستواء حالهن في دعوى ذلك والميراث على ما وصفنا في المسألة الأولى قال الحاكم رحمه الله تعالى هذا الجواب ليس بسديد في حكم المهر على مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يبين الجواب الصواب على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولكن بيان ذلك على مذهبه أن نقول لما كان الواجب لهن مهرين ونصفا فأما نصف مهر من ذلك تأخذه الواحدة لأن الثنتين لا يدعيان ذلك أصلا والثلاث إنما يدعين ذلك بالواحدة فأما بدون الواحدة فلا يدعين شيئا من ذلك فكانت الواحدة بذلك أولى ممن يدعي الاستحقاق بها فلهذا تأخذ الواحدة نصف مهر بقي مهران فأما نصف مهر من ذلك فالثلاث يدعين ذلك بأنفسهن والمثنى يدعيان ذلك بالواحدة والواحدة مضمومة إليهن في حال دون حال فكان سدس هذا النصف للمثنى ولكل فريق من الثلاث سدسان ونصف سدس بقي مهر ونصف استوت منازعة الفرق الثلاث فيه فكان بينهن أثلاثا فقد أصاب الثنتين مرة نصف مهر ومرة سدس النصف(5/305)
ص -151- ... فذلك سبعة من اثني عشر وأصاب كل فريق من الثلاث مرة نصف مهر ومرة سهمان ونصف سدس من ستة من النصف الآخر فذلك ثمانية ونصف ثم الواحدة إن كان يصح نكاحها مع الثنتين فلها ثلثا مهر وقد وصل إليها نصف مهر بقي إلى تمام حقها سدس مهر ونكاحها مع الثنتين صحيح في حال دون حالين فتأخذ منهما ثلث سدس مهر ثم تجيء إلى كل فريق من الثلاث فإن صح نكاحها مع كل فريق من الثلاث فلها ثلاثة أرباع مهر وقد وصل إليها نصف مهر بقي إلى تمام حقها سدس ونصف سدس فتأخذ من كل فريق ثلث ذلك فيجتمع لها ثلثا مهر وثلث سدس مهر وما بقي في يد كل فريق مقسوم بينهم بالسوية.(5/306)
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة وابنتيها في عقد متفرقة ثم مات ولا يعلم أيتهن أول فلهن مهر واحد لأن الصحيح نكاح الواحدة وهي السابقة منهن أيتهن كانت ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى نصف هذا المهر للأم ونصفه للبنتين بينهما نصفان وكذلك الميراث نصفه للأم ونصفه للبنتين بينهما نصفان وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى المهر والميراث بينهن أثلاثا فطريقهما واضح فإن حجة كل واحدة مثل حجة صاحبتيها على معنى أنه إن تقدم نكاحها استحقت ذلك وإن تأخر فلا شيء لها والمساواة في سبب الاستحقاق يوجب المساواة في الاستحقاق ألا ترى أنهن لو كن امرأة وأمها وابنتها أو امرأة وأمها وأخت أمها كان الميراث والمهر بينهن أثلاثا فأما أبو حنيفة رحمه الله له في المسألة طريقان أشار في الكتاب إلى أحدهما فقال من قبل أنه لا يثبت نكاح إحدى البنتين بيقين ومعنى هذا أنا تيقنا ببطلان نكاح إحدى البنتين وأن الأم لا يزاحمها إلا إحدى البنتين فلهذا كان لها نصف المهر ونصف الميراث وقد استوى في النصف الآخر حال البنتين لأنه ليست إحداهما بتعيين جهة البطلان في نكاحها بأولى من الأخرى فلهذا كان بينهما نصفين وطريق آخر أن سبب بطلان النكاح في حق الأم واحد وهو المصاهرة لأنه سواء تزوج الكبرى من البنتين أولا أو الصغرى فقد حرمت الأم بالمصاهرة فأما السبب في حق كل واحد من البنتين مختلف لأن فساد نكاحها مرة في الجمع بين الأختين ومرة بالجمع بين الأم والبنت واحدهما غير الآخر فوجب اعتبار الثنتين في حق كل واحدة منهما والتوزع على أسباب الحرمة فإذا كان سبب الحرمة في حق الأم واحدا وفي حق البنتين متعددا لم يكن بينها وبين كل واحدة منهما مساواة في الحرمان بل حالها أحسن فكان لها ضعف ما لكل واحدة منهما فأما ما استشهدا به فقد قيل الكل على الاختلاف وقد يستشهد محمد رحمه الله تعالى بالمختلف على المختلف والصحيح الفرق من قبل أنه لا يقين في بطلان نكاح واحدة بل(5/307)
حال الأم والجدة والنافلة في ذلك سواء وكذلك السبب المتعدد في حرمة كل واحدة منهن باعتبار اختلاف الاسم كالأم والجدة والأم والخالة أو الأم والبنت فلما استوى حالهن كان الواجب بينهن أثلاثا بالسوية وإن متن جميعا والزوج حي فالقول في الأولى منهن قوله كما في حال حياتهن القول في بيان الأولى قوله لأن(5/308)
ص -152- ... الملك حقه فكذلك بعد موتهن القول في بيان الأولى قوله وإن مات الزوج بعدهن قبل أن يبين فله ثلث ميراث زوج من كل واحدة منهن وعليه ثلث ما سمي لكل واحدة منهن من المهر باعتبار الأحوال لأن نكاح كل واحدة صحيح في حال دون حالين فلها ثلث ما سمي لها وباعتبار صحة نكاحها له ميراث زوج منها والصحة في حال دون حالين فله ثلث ميراث زوج من كل واحدة منهن.
قال فإن كان تزوج البنتين في عقدة واحدة فنكاحهما باطل لأنا نتيقن ببطلان نكاحهما بسبب الجمع بين الأختين سواء تقدم أو تأخر وعند التيقن ببطلان نكاحهما نتيقن بصحة نكاح الأم فهي امرأته تقدم نكاحها أو تأخر.(5/309)
قال: وإن كان قد دخل بهن جميعا ثم مات ولا يدري أيتهن دخل بها أولا فنقول أما لكل واحدة من البنتين الأقل مما سمى لها ومن مهر المثل لأنه دخل بهما بحكم نكاح فاسد ولا ميراث لهما لفساد نكاحهما وكذلك لا ميراث للأم لأن نكاحها قد بطل في حال حياته بالدخول بالبنتين سابقا أو متأخرا فإن الدخول بالبنت يحرم الأم على التأبيد وأما المهر ففي القياس للأم مهر وربع مهر وفي الاستحسان لها مهر واحد وجه القياس إن نكاح الأم صحيح بيقين فإن كان دخل بإحدى البنتين قبل الأم فقد حرمت الأم بذلك ووجب لها نصف المهر لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول ثم دخل بالأم بعد ذلك فيجب لها بالدخول مهر فكان لها من هذا الوجه مهر ونصف وإن كان دخل بالأم أولا فلها مهر واحد وهو المسمى ثم حرمت عليه بالدخول بالبنت بعد ذلك فإن كان لها في وجه مهر ونصف وفي وجه مهر فلها مهر بيقين والنصف يثبت في حال دون حال فيتنصف ولكنه استحسن فقال لها مهر واحد لأنه يجعل كأنه دخل بالأم أولا فإن فعله محمول على الحل ما أمكن وأول فعله يمكن أن يحمل على الوطء الحلال ثم لا إمكان بعد ذلك فلهذا جعلنا كأنه وطى ء الأم أولا حتى يعلم غير ذلك والثاني إن المهر والنصف وجوبهما باعتبار سببين أحدهما العقد الصحيح والآخر الوطء بالشبهة ولم يظهر السببان إنما الظاهر سبب واحد وهو العقد الصحيح فأما الوطء تصرف في الملك بعده وباعتبار العقد الصحيح لا يجب الأمهر واحد فلهذا كان لها مهر واحد وعلى كل واحدة منهن ثلاث حيض لدخوله بهن ولو لم يكن دخل بالأم ودخل بالبنتين أو إحداهما فللأم نصف المسمى لوقوع الفرقة بسبب من جهة الزوج بعد صحة نكاحها ولا عدة عليها وللمدخول بها من البنتين الأقل من المسمى ومن مهر المثل وعليها العدة بثلاث حيض.(5/310)
قال: وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة ولم يدخل بشيء منهن حتى قال إحداكن طالق فهذا الكلام لغو منه لأن السابق منهن امرأته والأخريان أجنبيتان ومن جمع بين امرأته وأجنبيتين وقال إحداكن طالق لم يقع شيء.
قال: وإن قال إحدى نسائه طالق وقع على امرأته منهن لأنه أضاف الطلاق إلى امرأته فإن(5/311)
ص -153- ... في نكاحه امرأة واحدة ومن كان في نكاحه امرأة واحدة إذا قال إحدى نسائي طالق وقع الطلاق بذلك اللفظ على امرأته بخلاف الأول فإن هناك أوقع الطلاق على إحدى المعينات بغير عينها وفيهن من ليست بمنكوحة له فلا تتعين امرأته لذلك الطلاق وإذا وقع الطلاق على امرأته فلها نصف المهر ثم الخلاف في نصف المهر هنا كالخلاف في جميع المهر في المسألة الأولى ولا ميراث لواحدة منهن لوقوع الفرقة بالطلاق قبل الدخول.
قال: وإن كان تزوج البنتين في عقدة ثم قال إحدى نسائي طالق طلقت الأم بذلك لأن الصحيح نكاح الأم وهو بهذا اللفظ موقع الطلاق على من صح النكاح بينه وبينها فلهذا طلقت الأم ولها نصف المهر ولا عدة عليها ولا ميراث لها وإن قال إحداكن طالق لم يقع الطلاق على الأم إلا أن ينوبها لأنه جمع بين امرأته وأجنبيتين وأوقع الطلاق على إحداهن فلا يتعين لذلك امرأته ألا أن ينويها بقلبه ولو كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن فاسد بعلة الجمع فإن كان فيهن أمة جاز نكاح الأمة لأن نكاح الحرتين منهن باطل بيقين فإن الحرتين إن كانتا ابنتين بطل نكاحهما للجمع بين الأختين وإن كانتا أما وبنتا بطل نكاحهما للجمع أيضا ومتى كان نكاح الحرتين باطلا بيقين لا يبطل به نكاح الأمة لأن بطلان نكاح الأمة بضمها إلى الحرة وذلك عند صحة نكاح الحرة لا عند بطلان نكاحها.
قال وإن كان فيهن أمتان جاز نكاح الحرة لأن نكاح الأمتين باطل بيقين فإنهما إما أختان أو أم وبنت وإذا بطل نكاحهما كان ضمهما إلى الحرة لغوا فجاز نكاح الحرة بمنزلة ما لو كانت اثنتان منهما ذواتي زوج أو في عدة من زوج ولما بطل نكاحهما صح نكاح الفارغة منهن.(5/312)
قال: وإن تزوج خمس حرائر وأربع إماء في عقدة واحدة جاز نكاح الإماء وبطل نكاح الحرائر لأن نكاح الحرائر لو انفرد كان باطلا ولو انفرد نكاح الإماء كان صحيحا فعند الجمع يصح نكاح من يصح نكاحه عند الانفراد وبمثله لو تزوج أربع إماء وأربع حرائر في عقدة جاز نكاح الحرائر لأن نكاح الحرائر ولو انفرد هنا كان صحيحا فيندفع بنكاحهن نكاح الإماء كما لو تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة والأصل الذي تدور عليه المسائل أنه متى جمع في العقد بين الحرائر والإماء نظر فإن كان نكاح الحرة يجوز عند الانفراد يبطل نكاح الأمة لأنه تحقق ضمها إلى الحرة في النكاح وإن كان نكاح الحرة لا يجوز عند الانفراد يصح نكاح الأمة لأنه لم يتحقق انضمامها إلى الحرة في النكاح ألا ترى أن الحرة لو كانت ذات رحم محرم منه فجمع بينها وبين أمة في النكاح جاز نكاح الأمة لأنه لم يتحقق ضمها إلى نكاح الحرة حين لا وجه لتصحيح نكاح الحرة.
قال: وإن تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة وإحداهما بنت الأخرى جاز نكاح الحرة لأن كل واحدة لو انفرد نكاحها هنا يصح فيتحقق ضم الأمة إلى الحرة فلهذا جاز نكاح الحرة دون الأمة.(5/313)
ص -154- ... قال: وإذا كان للرجل أربع نسوة فتزوج خامسة ودخل بها فرق بينه وبينها لبطلان نكاحها وعليه لها الأقل من المسمى ومن مهر المثل وعليها العدة ولم يقرب الأربع حتى تنقضي عدة الخامسة لأنه لو قربهن كان جامعا ماءه في رحم خمس نسوة بالنكاح ولأن عدة تلك الواحدة يمنع ابتداء نكاح الأربع إذا اقترن بنكاحهن فيمنع الوطء إذا طرى على نكاحهن كعدة الأخت لما منعت نكاح الأخت إذا اقترنت به منعت الوطء إذا طرأ على نكاحهن كعدة الأخت لما منعت نكاح الأخت إذا اقترنت به منعت الوطء إذا طرأت عليه حتى إذا وطى ء أخت امرأته بشبهة فليس له أن يطأ امرأته حتى تنقضي عدة أختها.
قال: ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أم ولده لأن فراش أم الولد ضعيف ألا ترى أنه مجوز للنسب غير ملزم حتى لو نفى المولى ولده انتفي بمجرد نفيه والنكاح قوي ملزم بنفسه والضعيف لا يكون دافعا للقوي والدليل عليه أن المولى لو زوج أم ولده كان النكاح صحيحا فكما أن فراشها لضعفه لا يمنع تزويجها فكذلك لا يمنع المولى نكاح أختها اعتبارا للمنع في أحد الجانبين بالمنع في الجانب الآخر وكذلك لو تزوج أخت مدبرته أو أخت أمة له قد كان يطأها وهذا أظهر فإنه لا فراش لهما غير أنه لا ينبغي أن يطأ التي تزوج حتى يملك فرج الأمة غيره لأنه لو وطأها صار جامعا ماءه في رحم أختين ولأن الجمع بين الأختين في الاستفراش الحقيقي حرام وقد تحقق منه استفراش الأولى فلا يحل له أن يستفرش الثانية ما لم ينقطع حكم ذلك الاستفراش وانقطاعه بالتزويج أو البيع في محل البيع فإن لم يكن وطى ء أمته ولا مدبرته فلا بأس بأن يطأ امرأته وليس له أن يطأ الأمة والمدبرة بعد النكاح لأن المنكوحة بالعقد صارت فراشا فليس له أن يستفرش الأمة بعد ذلك وله أن يطأ المنكوحة لأنه لا فراش له على المملوكة حقيقة وحكما.(5/314)
قال: ولو زوج أم ولده ثم وطى ء امرأته ثم مات زوج أم الولد أو فارقها فله أن يطأ امرأته ما دامت أم ولده تعتد من زوجها لأن فرجها حرام عليه في حال عدتها كما هو حرام عليه في حال نكاحها فإذا انقضت عدتها فلا ينبغي له أن يطأ امرأته حتى يملك فرج أم الولد من غيره لأن النكاح قد ارتفع بآثاره فعاد الحكم الذي كان قبله وكذلك الأمة والمدبرة إذا كان وطئها قبل أن يتزوج الأخت فحكمهما وحكم أم الولد سواء.
قال: فإن أعتق أم ولده فعليها إن تعتد بثلاث حيض عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى عليها حيضة واحدة ومذهبنا مروي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم ومذهبه مروي عن بن عمر رضي الله عنهما ويستوي أن أعتقها أو مات عنها الأعلى قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فإنه كان يقول لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا مات عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا وهذا دليلنا فإنه الزمها عدة الحرائر إلا أنا نوجب الحيض لأن هذه العدة لا تجب إلا باعتبار الدخول وتوهم اشتغال الرحم فيقدر بالحيض في الحياة والوفاة كالعدة من نكاح فاسد ووطء شبهة احتج الشافعي فقال عدتها أثر(5/315)
ص -155- ... ملك اليمين فتقدر بحيضة واحدة كالاستبراء ودليل صحة اعتباره بالاستبراء أنه لا يختلف بالحياة والوفاة وتأثيره أن المقصود تبين فراغ الرحم لا غير وذلك يحصل بالقرء الواحد ولكنا نقول هذه عدة وجبت على حرة فلا يكتفي فيها بحيضة واحدة كعدة النكاح بل أولى فإن عدة النكاح قد تجب على الأمة وهذه العدة لا يجب إلا على الحرة وتأثيرة أن الحرة كاملة الحال فالوظيفة التي لا تجب إلا على الحرة تجب بصفة الكمال لأن المعتبر حال وجوب العدة لا ما كان قبله وبه يتبين الفرق بينه وبين الاستبراء فإن الاستبراء لا يجب عليها ولكن على المولى أن يستبرئها قال صلى الله عليه وسلم: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" وهذا خطاب للمولى دون الأمة فإن قول القائل لا تضرب فلانا خطاب للضارب دون المضروب توضيحه أن سبب وجوب الاستبراء حدوث ملك الحل بسبب ملك اليمين ألا ترى أنه لو اشتراها من صبي أو امرأة يجب وهنا سبب وجوب المدة زوال الفراش والعدة التي تجب بزوال الفراش لا يكتفي فيها بحيضة واحدة فإن تزوج المولى أختها في عدتها لم يجز عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى غير أنه لا يقربها حتى تنقضي عدة أختها ولو تزوج أربعا سواها في عدتها جاز عندنا وله أن يقربهن وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك زفر رحمه الله تعالى يقول إنها معتدة فلا يتزوج أختها ولا أربعا سواها كالمعتدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة بل أولى لأن أصل فراشه في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة ما كان موجبا للحل له وأصل الفراش هنا موجب الحل ثم العدة التي هي أثر الفراش هناك تمنع نكاح الأخت والأربع فهنا أولى وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا عدة أم الولد أثر فراشها وأثر الشيء لا يربو على أثر أصله في المنع فإذا كان أصل فراشها لا يمنع المولى من نكاح أختها وأربع سواها فكذلك أثر فراشها وأصل الفراش(5/316)
بالنكاح الصحيح أو الفاسد بعد الدخول يمنع نكاح الأخت والأربع فكذلك أثره وهذا لأنه يبقى ببقاء العدة من المنع ما كان ثابتا لا أن يثبت ما لم يكن ثابتا وهذا بخلاف تزويجها من الغير فإن أصل فراشها مانع من التزويج من الغير إذا بقي حتى لو كانت حاملا ليس له أن يزوجها من غيره فكذلك أثر فراشها يمنع إلا أنها إذا كانت حاملا فله أن يقطع فراشها بالتزويج وليس له أن يقطع عدتها لحق الشرع والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بينهما من وجهين.
أحدهما: أن بسبب بقاء العدة يبقى الفراش حتى إذا جاءت بالولد يثبت النسب منه ولا يثبت النسب منه إلا باعتبار الفراش فلو تزوج أختها صار جامعا بين الأختين في الفراش وذلك حرام وإذا تزوج أربعا سواها صار جامعا بين خمس نسوة في الفراش ولكن بسببين مختلفين وذلك جائز ألا ترى أن من عنده أربع نسوة له أن يستولد من الجواري ما شاء والثاني أن فراشها بالعتق يتقوى حتى يثبت النسب بعد العتق على وجه لا يملك نفيه بخلاف ما قبل العتق وكذلك بعد العتق لا يملك تزويجها وإن كان قبل العتق يجوز تزويجها فكل منع كان ثابتا في أصل(5/317)
ص -156- ... فراشها يتقوى ذلك بعتقها والمنع من استفراش الأخت كان ثابتا في أصل فراشها حتى لا يحل له أن يطأ أختها بملك اليمين ولا بملك النكاح فيتقوى ذلك المنع بالعتق فيمنع عقد النكاح أصلا ولم يكن هو في أصل فراشها ممنوعا من استفراش الأربع بالنكاح فلو صار ممنوعا بعد العتق كان هذا إثبات منع مبتدأ لا إظهار قوة فيما كان ثابتا توضيحه أن المقصود بالنكاح الوطء ولما لم يكن هو باعتبار عدتها ممنوعا من وطء الأربع بالنكاح بأن يعتقها وتحته أربع نسوة كان له أن يطأهن فكذلك لا يكون ممنوعا من العقد عليها أيضا بمنزلة المعتدة بالنكاح.
قال: وإذا تزوج الرجل أربع نسوة في عقدة وثلاثا في عقدة ثم طلق إحدى نسائه ثم مات قبل أن يبين فلهن ثلاثة مهور أما على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فلأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف مهربان صح نكاح الأربع وقد سقط بطلاق إحداهن نصف مهر وأقل مالهن مهران ونصف مهر بأن صح نكاح الثلاث وقد سقط نصف مهر بطلاق إحداهن فقدر مهرين ونصف يقين ومهر آخر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهن ثلاثة مهور نصف مهر من ذلك للأربع خاصة لأن الثلاث لا يدعين ذلك واستوت منازعة الفريقين في المهرين والنصف فكان بينهما نصفان لكل فريق مهر وربع والميراث بين الفريقين نصفان لاستواء حالهما في استحقاقه وعند محمد رحمه الله تعالى كذلك لأن الأربع إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور ونصف مهر لأنه طلق إحداهن قبل الدخول وإن لم يصح نكاحهن فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وثلاثة أرباع والثلاث إن صح نكاحهن فلهن مهران ونصف وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وربع مهر.(5/318)
قال: ولو تزوج ثلاث نسوة في عقدة فدخل بواحدة منهن ولم يدخل بالثنتين ثم طلق إحدى نسائه واحدة والأخرى ثلاثا ثم مات قبل أن يبين فللمدخول بها مهر تام لتأكد مهرها بالدخول وللتين لم يدخل بهما مهر وربع مهر في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن أكثر ما يكون لهما مهر ونصف بأن يكون أحد الطلاقين واقعا على المدخول بها والآخر على أحدهما وأقل مالهما مهر واحد بأن يكون الطلاقان وقعا عليهما فمهر واحد لهما بيقين ونصف مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لهما مهر وربع مهر بينهما نصفان وعلى قول محمد رحمه الله تعالى للتين لم يدخل بهما مهر وثلث مهر هكذا ذكر في هذا الكتاب وفي الزيادات يقول لهما مهر وربع مهر كما هو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولكن بطريق آخر وهو أن إحداهما مطلقة بيقين فيعزلها بنصف مهر والأخرى إن وقع الطلاق عليها فلها نصف مهر وإن لم يقع فلها مهر كامل فنصف مهر لها بيقين والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لها ثلاثة أرباع مهر فإذا ضممت ذلك إلى نصف مهر يكون مهرا وربع مهر بينهما ووجه رواية هذا الكتاب إنه لو لم يدخل بشيء منهن لكان الواجب عليه مهرين بينهن أثلاثا لكل واحدة منهن ثلثا مهر لأنه قد سقط بالطلاقين مهر واحد وبأن دخل بإحداهن(5/319)
ص -157- ... حتى لم ينتقص من مهرها شيء لم يؤثر ذلك في حق الأخريين بل يجعل في حقهما كأنه لم يدخل بشيء منهن فيكون لهما مهر وثلث مهر بينهما نصفان لكل واحدة منهما ثلثا مهر وأما الميراث فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى للمدخول بها خمسة أسهم من اثني عشر سهما من ميراث النساء وللأخر بين سبعة أسهم لأنه يلغي التطليقات الثلاث فإن حالهن فيها على السواء على معنى أنه على أيتهن وقعت حرمتها بقيت التطليقة الواحدة فإن وقعت على المدخول بها فلها ثلث ميراث النساء أربعة من اثني عشر سهما وإن وقعت على إحدى اللتين لم يدخل بهما فلها نصف الميراث ستة فمقدار أربعة لها بيقين وما زاد على ذلك وهو سهمان يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لها خمسة من اثني عشر والباقي للتين لم يدخل بهما وإن وقع الطلاق على إحدى اللتين لم يدخل بهما فلهما نصف الميراث وإن وقع على المدخول بها فلهما ثلثا الميراث فمقدار ستة لهما بيقين وسهمان يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان لهما سبعة وذكر في بعض نسخ هذا الكتاب إن قول محمد رحمه الله تعالى في الميراث كقول أبي يوسف رحمه الله تعالى وفي بعض النسخ قال عنده للمدخول بها خمسة أثمان ميراث النساء وللتين لم يدخل بهما ثلاثة أثمان ميراث النساء ووجه ذلك إن إحدى اللتين لم يدخل بهما مطلقة محرومة عن الميراث يقينا فعزلها للحرمان وإن كانت معزولة بوقوع الواحدة عليها بقي الثلاث على أيتهما وقعت حرمتها فيكون الميراث في هذه الحالة نصفين نصفه للتي دخل بها ونصفه للتين لم يدخل بهما وإن كانت المعزولة للحرمان معزولة بوقوع الثلاث عليها فإن وقعت الواحدة على غير المدخول بها فالميراث كله للمدخول بها وإن وقعت على المدخول بها فالميراث بينهما نصفان فيثبت للمدخول بها في هذه الحالة ثلاثة أرباع الميراث ستة من ثمانية باعتبار أن لها النصف في حال والكل في حال وقد كان لها في الحالة الأولى أربعة فأربعة لها بيقين وما زاد على ذلك(5/320)
إلى تمام ستة يثبت في حال دون حال فيتنصف فلهذا كان لها خمسة من ثمانية وما بقي للتين لم يدخل بهما أو لأن لهما في الحالة الثانية الربع وفي الحالة الأولى النصف فيتنصف الربع باعتبار الأحوال فلهذا كان لهما ثلاثة أثمان الميراث.
وروى محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن للمدخول بها ثلاثة أرباع الميراث ووجه ذلك أن إحدى اللتين لم يدخل بهما محرومة عن الميراث فيعزلها بإيقاع الثلاث عليها لأنا نتيقن أن إيقاع الثلاث موجب حرمان الميراث ولا يتيقن بذلك في الواحدة فجعلنا المعزولة للحرمان كان الثلاث وقعت عليها بقيت الواحدة فإن وقعت على المدخول بها فلها نصف الميراث وإن وقعت على غير المدخول بها فللمدخول بها جميع الميراث فكان لها باعتبار الأحوال ثلاثة أرباع الميراث والباقي وهو ربع الميراث للتين لم يدخل بهما ولو كان دخل باثنتين منهن والمسألة بحالها فلكل واحدة من اللتين دخل بهما مهر كامل لتأكد مهرهما بالدخول بالنكاح الصحيح وللتي لم يدخل بها ثلاثة أرباع المهر في قول أبي يوسف رحمه(5/321)
ص -158- ... الله تعالى فإنها إن كانت مطلقة فلها نصف مهر وإن لم يقع عليها شيء فلها مهر كامل فنصف مهر لها بيقين والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فيتنصف قال وكذلك الجواب عند محمد رحمه الله تعالى وينبغي على قول محمد رحمه الله تعالى أن يكون لها ثلثا مهر بالطريق الذي قلنا أنه لو لم يدخل بشيء منهن كان لكل واحدة منهن ثلثا مهر فيجعل في حق التي لم يدخل بها كأنه لم يدخل بشيء منهن لأن الدخول بغيرها لا يزيد في حقها سببا فأما الميراث فعلى قول أبي يوسف للتي لم يدخل بها سدس الميراث لأنه إن لم يقع عليها شيء فلها ثلث الميراث وإن وقع عليها الطلاق فلا شيء لها فلها سدس الميراث به علل محمد رحمه الله تعالى في الكتاب وهو غلط فإنه إن لم يقع عليها شيء كان لها نصف الميراث لأنه لا يزاحمها في الميراث إلا واحدة فإن من وقع عليها الطلاق الثلاث من المدخولين محرومة عن الميراث ولكن الطريق في التخريج أن التي لم يدخل بها لها ثلاثة أحوال إن وقع عليها واحدة فلا شيء لها وإن وقع عليها الثلاث فلا شيء لها وإن لم يقع عليها شيء فلها نصف الميراث فلها حالتا حرمان وحالة إصابة فلهذا جعل لها ثلث النصف وهو السدس قال وكذلك الجواب في الميراث عند محمد رحمه الله تعالى قال الحاكم رحمه الله وليس ذلك بسديد بل الصواب عند محمد رحمه الله تعالى أن يكون لها ثمن الميراث.(5/322)
وهكذا ذكر في بعض الروايات لأن إحدى المدخولتين وارثة فيعزلها للاستحقاق فإن كانت معزولة بإن لم يقع عليها شيء فلا شيء للتي لم يدخل بها في هذه الحالة لأن احد الطلاقين وقع عليها لا محالة وإن كانت المعزولة للاستحقاق معزولة بوقوع الواحدة عليها فإن وقع الثلاث على الأخرى فللتي لم يدخل بها نصف الميراث وإن وقع الثلاث على التي لم يدخل بها فلا شيء لها من الميراث فإذا كان لها النصف في حالة وفي حالة لا شيء لها كان لها الربع ثم هذا الربع لها في هذه الحالة ولا شيء لها في الحالة الأولى فلها نصف الربع وهو الثمن والباقي للتين دخل بهما.
قال: وإذا تزوج امرأتين في عقدة وثلاثا في عقدة ثم قال قد دخلت بأحد الفريقين ثم مات قبل أن يبين فللثنتين مهر واحد وللثلاث مهر ونصف لأن الثلاث إن صح نكاحهن بالسبق وقد دخل بهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن مهر ونصف مهر والثنتان إن صح نكاحهما فإن دخل بهما فلهما مهران وإن لم يصح فلا شيء لهما فلهما مهر واحد والميراث بين الفريقين نصفان لاستواء حالهما فيه وفقه هذه المسألة أنه جعل إقراره بالدخول بأحد الفريقين إقرارا بالدخول بمن صح نكاحه حملا لفعله وقوله على الصحة فإن دينه وعقله يدعو أنه إلى الإقدام على الوطء الحلال ويمنعانه من الإقدام على الوطء الحرام وكذلك لو طلق إحدى نسائه ثلاثا لأن الإيقاع بهذا اللفظ يتناول من صح نكاحها فإن من لم يصح نكاحها ليست من نسائه وإيقاع الثلاث بعد الدخول لا يسقط شيئا من الصداق فكان هذا(5/323)
ص -159- ... مثله من جهة أخرى فكذلك النفقة وبه فارق الجب والعنة فإن هناك تحقق فوات ما هو المقصود مع إن عندنا هناك لا يفسخ العقد ولكن يفرق بينهما بطريق التسريح بالإحسان حتى يكون ذلك طلاقا لإزالة ظلم التعليق عنها وهذا ليس في معنى ذلك من وجوه:
أحدها: أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل ذلك المقصود بدون التفريق بينهما وهنا لم ينسد عليها وصول النفقة بدون التفريق بأن تستدين فتنفق.
والثاني: إن هناك الزوج يمسكها من غير حاجة به إليها فيما هو المقصود فكان ظالما وهنا يمسكها مع حاجته إليها فيما هو المقصود فلا يكون ظالما ولأن هناك في ترك التفريق إبطال حقها لأن وظيفة الجماع لا تصير دينا على الزوج بمضي المدة ولو فرقنا كان فيه إبطال ملك الزوج فاستوى الجانبان في ضرر الإبطال وفي جانبها رجحان لصدق حاجتها وهنا في ترك التفريق تأخير حقها لأن النفقة تصير دينا على الزوج وفي التفريق إبطال الملك على الزوج وضرر التأخير دون ضرر الإبطال وبه يفرق بينه وبين العبد فالضرر هناك ضرر الإبطال لأن النفقة هناك لا تصير دينا للمملوك على المالك ثم فيه إبطال حقه بغير بدل وفي البيع إبطال ملك المولى ببدل فكان هذا الضرر أهون حتى إن في الموضع الذي يكون إبطالا بغير بدل لا يفعل ذلك وهو أنه إذا عجز عن نفقة أم ولده لم يعتقها القاضي عليه.(5/324)
قال: والتبوئة في الأمة أن يخلى بين الأمة وزوجها ولا يستخدمها لما بينا أن المعتبر في استحقاق النفقة تفريغها نفسها لقيام مصالح الزوج وإنما يحصل ذلك بهذا النوع من التبوئة فإن استخدمها بعد ذلك ولم يخل بينه وبينها فلا نفقة لها لأنه إزال ما به كانت تجب نفقتها عليه فهي كالحرة الناشزة فإن قيل المولى إنما أزال ذلك بحق له فلماذا لا يجعل هذا كالحرة إذا احتبست نفسها لصداقهاقلنا كما في الابتداء فإن الحرة إذا احتبست نفسها بالصداق كان لها أن تطلب النفقة والمولى إذا لم يبوئها بيتا في الابتداء لم يكن لها النفقة والمعني فيه أن الحرة إذا احتبست نفسها بصداقها فالتفويت إنما جاء من قبل الزوج حين امتنع من أيفاء ما لزمه لتنتقل إلى بيته فأما هنا التفويت ليس من جهة الزوج بل من جهة من له الحق وهو المولى لشغله إياها بخدمة نفسه فلهذا لم يكن لها نفقة عليه فإن كانت هي تجيء فتخدمه من غير أن يستخدمها فلها النفقة لأن الحق للمولى ولم يوجد من جهته تفويت بل الموجود من جهته التسليم فإن جاءت في وقت والزوج ليس في البيت فاستخدموها ومنعوها من الرجوع إلى بيتها فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها كاستخدام المولى وقد بينا أن فيه تفويت التبوئة والتبوئة شرط لاستحقاق النفقة وبعد التفويت ممن له الحق لا يكون لها نفقة.
قال: ونفقة المرأة واجبة على الزوج وإن مرضت من قبل أنها مسلمة نفسها إلى الزوج في بيته ولا فعل منها في المرض لتصير به مفوتة مع أنه لا يفوت ما هو المقصود من الاستئناس وغيره ولا معتبر بمقصود الجماع في حق النفقة فإن الرتقاء تستحق النفقة على زوجها مع فوات مقصود الجماع وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الرتقاء لا تستوجب النفقة(5/325)
ص -160- ... صحيح والبيان إلى الزوج ولو كان أمره أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه وأخرى في عقدة جاز نكاح التي أمره بها لأنه في العقد عليها ممتثل لأمر الزوج وفي العقد على الأخرى مبتدئ غير ممتثل لأمر سبق من الزوج فينفذ عقده على التي امتثل بهاأمر الزوج في العقد عليها ويتوقف في الأخرى على إجازة الزوج والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب النفقة
قال: رضي الله عنه أعلم بإن نفقة الغير تجب بأسباب منها الزوجية ومنها الملك ومنها النسب وهذا الباب لبيان نفقة الزوجات والأصل فيه قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال الله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] وقال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] معناه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان اتخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا وأن لا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه فإذا فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف" وقال صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيك وولدك بالمعروف" ولأنها محبوسة لحق الزوج ومفرغة نفسها له فتستوجب الكفاية عليه في ماله كالعامل على الصدقات لما فرغ نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم والقاضي لما فرغ نفسه لعمله للمسلمين استوجب الكفاية في مالهم إذا عرفنا هذا فنقول طريق إيصال النفقة إليها شيئان التمكين أو التمليك حتى إذا كان الرجل صاحب مائدة وطعام كثير تتمكن هي من تناول مقدار كفايتها فليس لها أن تطالب الزوج بفرض النفقة فإن لم يكن بهذه الصفة فخاصمته في النفقة فرض لها عليه من النفقة كل شهر ما يكفيها(5/326)
بالمعروف لأن النفقة مشروعة للكفاية فإنما يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية ويعتبر المعروف في ذلك وهو فوق التقتير ودون الإسراف لأنه مأمور بالنظر من الجانبين وذلك في المعروف وكذلك بفرض لها من الكسوة ما يصلح لها للشتاء والصيف فإن بقاء النفس بهما وكما لا تبقى النفس بدون المأكول عادة لا تبقى بدون الملبوس عادة والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فيعتبر المعروف في ذلك فإن كان لها خدم فرض القاضي لخادم واحد لأن الزوج محتاج إلى القيام بحوائجها وأقرب ذلك إصلاح الطعام لها وخادمها ينوب عنه في ذلك فيلزمه نفقة خادمها بالمعروف ولا تبلغ نفقة خادمها نفقتها حتى قالوا يفرض لخادمها أدنى ما يفرض لها على الزوج المعسر ولا يفرض إلا لخادم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يفرض لخادمين لأنها قد تحتاج إليهما ليقوم أحدهما بأمور داخل البيت والآخر يأتيها من خارج البيت بما تحتاج إليه وهما قالا حاجتها ترتفع بالخادم الواحد عادة وما زاد على الواحد فللتجمل والزينة ووجوب النفقة(5/327)
ص -161- ... على الزوج للكفاية فكما لا يزيدها على قدر الكفاية في نفقتها فكذلك في نفقة خادمها ولو فرض لخادمين لفرض لأكثر من ذلك فيؤدي إلا ما لا يتناهى: ثم في ظاهر الرواية المعتبر في ذلك حال الزوج في اليسار والإعسار في ذلك قال الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الآية تبين أن التكليف بحسب الوسع وإن النفقة على الرجال بحسب حالهم وذكر الخصاف رحمه الله تعالى في كتابه إن المعتبر حالهما جميعا حتى إذا كانا موسرين فلها نفقة الموسرين وإن كانت هي معسرة تحت زوج موسر تستوجب عليه دون ما تستوجب إذا كانت موسرة لأن الظاهر إن دون ذلك يكفيها وإن كانت موسرة والزوج معسرا تستوجب عليه فوق ما تستوجب إذا كانت معسرة لتحصل كفايتها بذلك وفي ظاهر الرواية يقول لما زوجت نفسها من معسر فقد رضيت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على الزوج إلا بحسب حاله ثم ليس في النفقة تقدير عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يقدر كل يوم بمدين على الموسر وبمد ونصف على وسط الحال وبمد على المعسر وهذا ليس بقوي فإن المقصود الكفاية وذلك مما تختلف فيه طباع الناس وأحوالهم من الشباب والهرم ويختلف باختلاف الأوقات أيضا ففي التقدير بمقدار إضرار بأحدهما والذي قال في الكتاب إن كان معسرا فرض لها من النفقة كل شهر أربعة دراهم أو خمسة ولخادمها عليه ثلاثة دراهم أو أقل من ذلك أو أكثر فليس هذا بتقدير لازم لأن هذا يختلف باختلاف الأسعار في الغلاء والرخص واختلاف المواضع واختلاف الأوقات فلا معتبر بالتقدير بالدراهم في ذلك وإنما ذكر هذا بناء على ما شاهد في ذلك الوقت والذي يحق على القاضي اعتبار الكفاية بالمعروف فيما يفرض لها في كل وقت ومكان وكما يفرض لها من قدر الكفاية من الطعام فكذلك من الإدام لأن الخبز لا يتناول إلامأدوما عادة وجاء في تأويل قوله(5/328)
تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إن أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز والزيت وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن وأما الدهن فلأنه لا يستغني عنه خصوصا في ديار الحر فهو من أصل الحوائج كالخبز.
قال: فإن لم يكن لها خادم لم تفرض نفقة الخادم عليه وعن زفر رحمه الله تعالى أنه يفرض لخادم واحد لأن على الزوج أن يقوم بمصالح طعامها وحوائجها فإذا لم يفعل ذلك أعطاها نفقة خادم ثم تقوم هي بذلك بنفسها أو تتخذ خادما فإما في ظاهر الرواية استحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم فإذا لم يكن لها خادم لا تستوجب نفقة الخادم كالغازي إذا كان راجلا لا يستحق سهم الفارس وإن أظهر غنا الفارس في القتال.
قال: والكسوة على المعسر في الشتاء درع وملحفة زطية وخمار سابوري وكساء كأرخص ما يكون كفايتها مما يدفئها ولخادمها قميص كرابيس وإزار وكساء كأرخص ما يكون وللخادم في الصيف قميص مثل ذلك وإزار وللمرأة درع وملحفة وخمار وإن كان(5/329)
ص -162- ... موسرا فالنفقة عليه للمرأة ثمانية دراهم أو تسعة ولخادمها ثلاثة دراهم أو أربعة والكسوة للمرأة في الشتاء درع يهودي أو هروي وملحفة دينورية وخمار ابريسم وكساء أذربيجاني ولخادمها قميص زطي وإزار كرابيس وكساء رخيص وفي الصيف للمرأة درع سابوري وملحفة كتان وخمار ابريسم ولخادمها قميص مثل ذلك وإزار والحاصل أن ما ذكر من التقدير بالدراهم لا معتبر به لما قلنا وما ذكر من الثياب فهو بناء على عادتهم أيضا وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت فيعتبر المعروف من ذلك فيما يفرض ولم يذكر في كسوة المرأة الإزار والخف في شيء من المواضع وذكر الإزار في كسوة الخادم ولم يذكر الخف فإن كانت تخرج للحوائج فلها الخف أو المكعب بحسب ما يكفيها فأما المرأة فمأمورة بالقرار في البيت ممنوعة من الخروج فلا تستوجب الخف والمكعب على الزوج وكذلك لا تستوجب الإزار لأنها مأمورة بأن تكون مهيأة نفسها لبساط الزوج فليس على الزوج أن يتخذ لها ما يحول بينه وبين حقه فلهذا لم يذكر الإزار في كسوتها ثم النفقة للكفاية في كل يوم فأما الكسوة فإنما تفرض في السنة مرتين في كل ستة أشهر مرة فإن فعل ذلك لم يجدد لها الكسوة حتى يبلغ ذلك الوقت إلا أن تكون لبست لبسا معتادا فتخرق قبل مجيء ذلك الوقت فحينئذ تبين إن ذلك لم يكن يكفيها فتجدد لها الكسوة ولكن إن أخذت الكسوة ورمت بها حتى جاء الوقت وقد بقيت تلك الكسوة عندها يفرض لها كسوة أخرى لأنها لو لبست لتخرق ذلك فبأن لم تلبس لا يسقط حقها ويجعل تجدد الوقت كتجدد الحاجة وهذا بخلاف كسوة الأقارب فالمعتبر هناك حقيقة الحاجة وإذا بقيت تلك الكسوة فلا حاجة وهنا لا معتبر بحقيقة الحاجة فإنها وإن كانت صاحبة ثياب تستوجب كسوتها على الزوج فلهذا فرقنا بينهما.(5/330)
قال: وإن كان الرجل من أهل الغني المشهورين بذلك فل امرأته خمسة عشر درهما كل شهر ولخادمها خمسة ولها من الكسوة في الشتاء درع يهودي وملحفة هروي وجبة فرو أو درع خز وخمار ابريسم ولخادمها قميص يهودي وإزار وجبة وكساء وخفين ثم قال محمد رحمه الله تعالى لا ينبغي أن تؤقت النفقة على الدراهم لأن السعر يغلو ويرخص لكن تجعل النفقة على الكفاية في كل زمان فينظر إلى قيمة ذلك فيفرض لها عليه دراهم شهرا شهرا وقد بينا هذا الفصل والذي قال تفرض شهرا شهرا إنما بناه على عادتهم أيضا وبعض المتأخرين من مشايخنا يعتبر في ذلك حال الرجل أيضا فإن كان محترفا تفترض عليه النفقة يوما يوما لأنه يتعذر عليه أداء النفقة شهرا دفعة واحدة وإن كان من التجار يفرض الأداء شهرا شهرا وإن كان من الدهاقين تفرض عليه النفقة سنة سنة لأن تيسر الإداء عليه عند إدراك الغلات في كل سنة وتيسر الأداء على التاجر عند اتخاذ أجر غلات الحوانيت وغيرها في كل شهر وتيسر الأداء على المحترف بالاكتساب في كل يوم ولا يؤخذ من الزوج كفيل بشيء من النفقة أما نفقة المستقبل فلم تجب بعد والإنسان لا يجبر على إعطاء الكفيل ما لم يجب عليه وأما الماضي فلإنه بمنزلة(5/331)
ص -163- ... سائر الديون يؤمر بقضائها ولا يجبر على إعطاء الكفيل ولو خاصمته امرأته في نفقة ما مضى من الزمان قبل أن يفرض القاضي عليه لها النفقة لم يكن لها شيء من ذلك عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى يقضي لها بما لم تستوف من النفقة الماضية وأصل المسألة أن النفقة لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي أو التراضي عندنا وعند الشافعي تصير دينا لأن وجوبها بالعقد فلا تحتاج إلى القضاء أو إلى الرضاء في صيرورتها دينا بعد العقد كالمهر ولأن وجوب النفقة باعتبار قيام الزوج عليها بعد العقد وقد تقرر ذلك فيصير دينا بدون القضاء كالأجرة يصير دينا باستيفاء المنفعة بعد العقد وحجتنا في ذلك أن النفقة صلة والصلات لا تتأكد بنفس العقد ما لم ينضم إليها ما يؤكدها كالهبة والصدقة من حيث إنها لا تتم إلا بالقبض وبيان الوصف أن النفقة ليست بعوض عن البضع فإن المهر عوض عن البضع ولا تستوجب عوضين عن شيء واحد بعقد واحد ولأن ما يكون عوضا عن البضع يجب جملة لأن ملك البضع يحصل للزوج جملة ولا يجوز أن يكون عوضا عن الاستمتاع والقيام عليها لأن ذلك تصرف منه في ملكه فلا يوجب عليه عوضا فعرفنا أن طريقه طريق الصلة وتأكدها إما بالقضاء أو التراضي ولأن هذه نفقة مشروعة للكفاية فلا تصير دينا بدون القضاء كنفقة الوالدين والمولودين لا تصير دينا بمجرد مضي الزمان فكذا هنا وكذلك لو استدانت عليه قبل قضاء القاضي أو التراضي لأنه ليس لها عليه ولاية الاستدانة وإنما ولايتها على نفسها فما استدانت يكون في ذمتها وإنفاقها مما استدانت كإنفاقها من سائر أملاكها فلا ترجع بشيء من ذلك على الزوج إلا أن يكون القاضي فرض لها عليه نفقة كل شهر أو صالحته على نفقة كل شهر ثم غاب أو حبس للنفقة عليها فاستدانت عليه أو لم تستدن أخذته بنفقة ما مضى لأن حقها تأكد بقضاء القاضي أو بالصلح عن تراض فإن ولايته على نفسه في الالتزام فوق ولاية القاضي في الإلزام وذكر عن شريح قال(5/332)
أيما امرأة استدانت على زوجها وهو غائب فإنما استدانت على نفسها وإنما أراد به إذا لم يفرض القاضي لها النفقة أو فرض لها ولم يأمرها بالاستدانة على زوجها فأما إذا أمرها بالاستدانة عليه فذلك على الزوج لأن القاضي عليه ولاية فأمرها بالاستدانة عليه كأمر الزوج بنفسه.
قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا أجيز الفرض عليه إذا كان غائبا لأن الفرض عليه إذا كان غائبا إلزام وليس للقاضي ولاية الإلزام على الغائب وإن كان لها منه ولد فطلبت أن يفرض للولد معها نفقة فرض عليه للصغار والنساء والرجال الزمني فأما الذين لا زمانة بهم من الرجال فلا نفقة لهم عليه بل يؤمرون بالاكتساب والإنفاق على أنفسهم فأما من كان زمنا منهم فهو عاجز عن الاكتساب وبالنساء عجز ظاهرعن الاكتساب وفي أمرها بالاكتساب فتنة فإن المرأة إذا أمرت بالاكتساب اكتسبت بفرجها فإذا لم يكن لها زوج فهي بمنزلة الصغيرة ونفقتها في صغرها على الوالد لحاجتها فكذلك بعد بلوغها ما لم تتزوج لأن ببلوغها تزداد الحاجة والأصل في ذلك ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك(5/333)
ص -164- ... بالمعروف" ولأن مؤنة الرضاع على الوالد بالنص قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إلى قوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فسترضع له أخرى وذلك حاجة الولد ما دام رضيعا فيكون هذا دليلا على أن كفاية الولد على الوالد ما بقيت حاجته ثم يدفع نفقة الكبار من الولد إليهم لأن النفقة حقهم ولهم أهلية استيفاء حقوقهم ولا ولاية لأحد عليهم ويدفع نفقة الصغار إلى المرأة لأن الصغير في حجرها وهي التي تصلح له طعامه فيدفع نفقته إليها ثم بين نفقة الصغير على المعسر بالدراهم وكسوته بالثياب وهذا نظير ماذكرنا في نفقة الزوجة إن المعتبر ما تقع به الكفاية وهذا أظهر هنا فإن الحاجة تختلف باختلاف سن الصغير فلا عبرة بالتقدير اللازم فيه ولكنه إن كان موسرا أمر بأن يوسع عليه في النفقة والكسوة على حسب ما يرى الحاكم فيه ويعتبر فيه المعروف في ذلك كما يعتبر في نفقة الزوجة.
قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على نفقة لا تكفيها فلها أن ترجع عن ذلك وتطالب بالكفاية لأن النفقة إنما تجب شيئا فشيئا فرضاها بدون الكفاية إسقاط منها لحقها قبل الوجوب وذلك لا يجوز ألا ترى أنها لو أبرأته عن النفقة لم تسقط بذلك نفقتها وهذا بخلاف الأجرة فإن الأبراء عن بعض الأجرة بعد العقد قبل استيفاء المنفعة يجوز بلا خلاف لأن سبب الوجوب هنا وهو العقد موجود فيقام ذلك مقام حقيقة الوجوب في صحة الإسقاط وهناك السبب ليس هو العقد ولكن تفريغها نفسها لخدمة الزوج وذلك يتجدد حالا فحالا فإسقاطها قبل وجود السبب باطل توضيحه إن النفقة مشروعة للكفاية وفي التراضي على ما لا تقع به الكفاية تفويت المقصود لا تحصيله فكان باطلا وكذلك إن كان القاضي قضى بذلك لأنه تبين أنه أخطأ في قضائه حين قضى بما لا يكفيها فعليه أن يتدارك الخطأ بالقضاء لها بما يكفيها.(5/334)
قال: وإذا فرض على المعسر نفقة المعسرين ثم أيسر فخاصمته فعليه نفقة الموسرين لما بينا أن النفقة تجب شيئا فشيئا فيعتبر حاله في كل وقت فكما لا يستأنف القضاء بنفقة المعسر بعد اليسار فكذلك لا يستديم ذلك القضاء وقد كان القضاء عليه بنفقة المعسر لعذر العسرة فإذا زال العذر بطل ذلك كمن شرع في صوم الكفارة للعسرة ثم أيسر كان عليه التكفير بالمال.
قال: وإذا تغيبت المرأة عن زوجها أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو إلى حيث يريد من البلدان وقد أوفاها مهرها فلا نفقة لها لأنها ناشزة ولا نفقة للناشزة فإن الله تعالى أمر في حق الناشزة بمنع حظها في الصحبة بقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] فذلك دليل على أنه تمنع كفايتها في النفقة بطريق الأولى لأن الحظ في الصحبة لهما وفي النفقة لها خاصة ولأنها إنما تستوجب النفقة بتسليمها نفسها إلى الزوج وتفريغها نفسها لمصالحة فإذا امتنعت من ذلك صارت ظالمة وقد فوتت ما كان يجب النفقة لها باعتباره فلا نفقة لها وقيل لشريح رحمه الله تعالى هل للناشزة نفقة فقال نعم فقيل كم قال جراب من تراب معناه لا نفقة لها وإن كان لم يوفها مهرها فأبت عليه ذلك حتى يوفيها فلها النفقة لأنها حبست(5/335)
ص -165- ... نفسها بحق فلا تكون مفوتة ما به تستوجب النفقة حكما بل الزوج هو المفوت بمنعها حقها ولأن النفقة حقها والمهر حقها فمطالبتها بأحد الحقين لا يسقط حقها الآخر وكذلك لو لم يدخل بها في ظاهر الرواية إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها قبل الدخول إذا حبست نفسها لاستيفاء مهرها فلا نفقة لها وكأنه على هذه الرواية اعتبر لوجوب النفقة انتقالها إلى بيت الزوج فإذا لم يوجد لا تستوجب النفقة ابتداء فأما بعد ما انتقلت إلى بيته ووجبت لها النفقة فلا يسقط ذلك إلا بمنعها نفسها بغير حق وفي ظاهر الرواية بعد صحة العقد النفقة واجبة لها وإن لم تنتقل إلى بيت زوجها إلا ترى أن الزوج لو لم يطلب انتقالها إلى بيته كان لها أن تطالبه بالنفقة فكذلك إذا حبست نفسها لاستيفاء المهر وإن رجعت الناشزة إلى بيت الزوج فنفقتها عليه لأن المسقط لنفقتها نشوزها وقد زال ذلك والأصل فيه قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34].(5/336)
قال: ولا نفقة للصغيرة التي لا يجامع مثلها عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لها النفقة لأنها مال يجب بالعقد فالصغيرة والكبيرة فيه سواء كالمهر وهذا لأن الوجوب لحاجتها والصغيرة محتاجة إلى ذلك كالكبيرة ألا ترى أن بسبب ملك اليمين تجب النفقة للصغير كما تجب للكبير فكذلك بسبب النكاح وحجتنا في ذلك أنها غير مسلمة نفسها إلى زوجها في منزلة فلا تستوجب النفقة عليه كالناشزة وهذا لأن الصغيرة جدا لا تنتقل إلى بيت الزوج بل تنقل إليه ولا تنقل إليه للقرار في بيته أيضا فتكون كالمكرهة إذا حملت إلى بيت الزوج ولأن نفقتها عليه باعتبار تفريغها نفسها لمصالحة فإذا كانت لا تصلح لذلك لمعنى فيها كان ذلك بمنزلة منع جاء من قبلها فلا نفقة لها على الزوج بخلاف المملوكة فإن نفقتها لأجل الملك فقط وذلك لا يختلف بالصغر والكبر وإن كانت قد بلغت مبلغا يجامع مثلها فلها النفقة على زوجها صغيرا كان زوجها أو كبيرا لأنها مسلمة نفسها في منزله مفرغة نفسهالحاجته وإنما الزوج هو الممتنع من الاستيفاء لمعني فيه فلا يسقط به حقها في النفقة وإن كان الزوج صغيرا لا مال له لم يؤخذ الأب بنفقة زوجته إلا أن يكون ضمنها لأن استحقاق النفقة على الزوج كاستحقاق المهر فكما لا يؤخذ أبوه بشيء من المهر إذا لم يضمن ذلك فكذلك لا يؤخذ بالنفقة.
قال: وكل امرأة قضى لها بالنفقة على زوجها وهو صغير أو كبير معسر لا يقدر على شيء فإنها تؤمر بأن تستدين ثم ترجع عليه ولا يحبسه القاضي إذا علم عجزه وعسرته لأن الحبس إنما يكون في حق من ظهر ظلمه ليكون زاجرا له عن الظلم وقد ظهر هنا عذره لا ظلمه فلا يحبسه ولكن ينظر لها بأن يأمرها بالاستدانة فإذا استدانت بأمر القاضي كان كاستدانتها بأمر الزوج فترجع عليه بذلك إذا أيسر وإن كان القاضي لا يعلم من الزوج عسره فسألت المرأة حبسه بالنفقة لم يحبسه القاضي في أول مرة لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم ولم(5/337)
ص -166- ... يظهر حيفه وظلمه في أول مرة فلا يحبسه ولكن يأمره بأن ينفق عليها ويخبره أنه يحبسه إن لم يفعل فإن عادت إليه مرتين أو ثلاثا حبسه لظهور ظلمه بالامتناع من أيفاء ما هو مستحق عليه فإن علم أنه محتاج خلى سبيله لأنه مستحق للنظرة إلى ميسرة بالنص وليس بظالم في الامتناع من الإيفاء مع العجز.
قال: وينبغي للقاضي إذا حبس الرجل شهرين أو ثلاثة في نفقة أو دين أن يسأل عنه وفي بعض المواضع ذكر أربعة أشهر وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قدر ذلك بستة أشهر وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن أدنى المدة فيه شهر والحاصل أنه ليس فيه تقدير لازم لأن الحبس للاضجار وذلك مما تختلف فيه أحوال الناس عادة فالرأي فيه إلى القاضي حتى إذا وقع في أكبر رأيه أنه يضجر بهذه المدة ويظهر مالا إن كان له أن يسأل عن حاله بعد ذلك وذكر هشام في نوادره عن محمد رحمه الله تعالى إن له أن يسأل عن حاله بعد ما حبسه ولم يعتبر في ذلك مدة فإذا سأل عنه فأخبر أنه معسر خلى سبيله لأن ما صار معلوما بخبر العدول فهو بمنزلة الثابت بإقرار الخصم ولا يحول بين الطالب وبين ملازمته عندنا وكان إسماعيل بن حماد رحمه الله تعالى يقول ليس للطالب أن يلازمه وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى لأنه منظر بإنظار الله تعالى فهو بمنزلة ما لو أجله الخصم أو أبرأه منه فكما لا يلازمه هناك فكذلك لا يلازمه هنا ولكنا نستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي بعيرا بثمن مؤجل فلما حل الأجل طالبه الإعرابي فقال ليس عندنا شيء فقال الأعرابي واغدراه فهم به الصحابة رضوان الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوه فإن لصاحب الحق اليد واللسان" والمراد باللسان التقاضي وباليد الملازمة ولأن قضاء الدين مستحق على المديون من كسبه وماله فكما أنه إذا كان له مال كان للطالب أن يطالبه بقضاء الدين منه فكذلك إذا كان له كسب كان له أن يطالبه بقضاء(5/338)
الدين من كسبه وذلك إنما يتحقق بالملازمة حتى إذا فضل من كسبه شيء عن نفقته أخذه بدينه ولسنا نعني بهذه الملازمة أن يقعده في موضع فإن ذلك حبس ولكن لا يمنعه من التصرف بل يدور معه حيثما دار وإن كان غنيا لم يخرجه من السجن أبدا حتى يؤدي النفقة والدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" ولأنه حال بين صاحب الحق وبين حقه مع قدرته على إيفائه فيجازي بمثله وذلك بالحيلولة بينه وبين نفسه وتصرفه حتى يوفي ما عليه وإن كان له مال حاضر أخذ القاضي الدراهم والدنانير من ماله وأدى منها النفقة والدين لأن صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فللقاضي أن يعينه على ذلك أيضا وكذلك إذا ظفر بطعامه في النفقة لأنه عين ما عليه من الحق والمرأة تتمكن من أخذه إذا قدرت عليه فيعينها القاضي على ذلك ولا يبيع القاضي عروضه في النفقة والدين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يبيع ذلك كله وهو بناء على مسألة الحجر فإن عند أبي(5/339)
ص -167- ... حنيفة رحمه الله تعالى القاضي لا يحجر على المديون بسبب الدين وبيع المال عليه نوع حجر فلا يفعله القاضي وعندهما القاضي يحجر عليه بسبب الدين فيبيع عليه ماله واستدلا في ذلك بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضي الله عنه وباع عليه ماله وقسم ثمنه على غرمائه بالحصص.
وقال عمر رضي الله عنه في خطبته أيها الناس إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب وإن أسيفع جهينة قد رضى من دينه وأمانته أن يقال له قد سبق الحاج فأدان مقرضا أصبح وقد ربدته إلا أني بائع عليه ماله وقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليعد والمعنى فيه أن قضاء الدين مستحق عليه بدليل أنه يحبس لأجله فإذا امتنع من ذلك وهو مما تجري النيابة فيه ناب القاضي منابه كالتفريق بين العنين و امرأته وبالاتفاق يبادل أحد النقدين بالآخر بهذا الطريق فكذلك يبيع العروض ولأبي حنيفة ما روى أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين آخر فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له وأدى ضمان نصيب شريكه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان علم بيساره حين ألزمه ضمان العتق ثم اشتغل بحبسه ولم يبع عليه ماله فلو كان ذلك جائزا لاشتغل به لأن فيه نظرا من الجانبين والمعنى فيه أن المستحق عليه قضاء الدين ولقضاء الدين طرق سوى بيع المال فليس للقاضي عليه ولاية تعيين هذا الطريق لقضاء الدين ألا ترى أنه لا تزوج المديونة لتقضي الدين من صداقها ولا يؤاجر المديون ليقضي الدين من أجرته لأنه تعين قضاء الدين عليه فكذلك لا يبيع ماله لأنه تعين طريق قضاء الدين عليه ومبادلة أحد النقدين بالآخر لا يفعله في القياس أيضا ولكن في الاستحسان الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد فإن المقصود منهما واحد فكان ذلك بمنزلة قضاء الدين من جنس الحق وذلك متعين عليه لصاحب الحق لأن له أن يأخذ جنس حقه فكذلك للقاضي أن يعينه عليه وأما حديث معاذ رضي الله تعالى(5/340)
عنه فإنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله برضاه وسؤاله لأنه لم يكن في ماله وفاء بديونه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشر بيع ماله لينال بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله فيصير فيه وفاء بدينه والمشهور من حديث عمر رضي الله تعالى عنه أني قاسم ماله بين غرمائه فإنما يحمل ذلك على أن ماله كان من النقود والدليل عليه أن عندهما ليس للقاضي أن يبيع المال إلا بطلب من الخصم ولم يكن منهم طلب فعرفنا أنه كان ذلك من جنس الحق أو كان فيه نوع مصلحة رآها لا سيفع جهينة.
قال: وإذا كان لرجل نسوة فرضت النفقة لهن عليه بحسب الكفاية على ما قلنا فإن كانت إحداهن كتابية أو أمة قد بوأها مولاها معه بيتا فرض عليه لكل واحدة منهن ما يكفيها ولا تزاد الحرة المسلمة على الأمة والذمية شيئا لأن النفقة مشروعة للكفاية وهذا لا يختلف باختلاف الدين ولا باختلاف الحال في الرق والحرية فإن فرض ذلك وهو معسر وعلم القاضي ذلك منه أمرهن بالاستدانة عليه ففي هذا يعتدل النظر من الجانبين وإن كان الزوج غائبا فقد كان أبو(5/341)
ص -168- ... حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا يأمرهن بالاستدانة عليه إذا كان يعلم النكاح بينه وبينهن وهو قول زفر رحمه الله تعالى كما يفعل ذلك عند حضرته ثم رجع فقال لا يأمر بذلك وهو قولهما لأن فيه قضاء على الغائب وليس له ذلك وإن أمرهن بالاستدانة فلم يجدن ذلك لم يفرق بينه وبينهن ولم يجبره على طلاقهن عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يفرق بينه وبينهن إذا طلبن ذلك لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] والمعروف في الإمساك أن يوفيها حقها من المهر والنفقة فإذا عجز عن ذلك تعين التسريح بالإحسان وهو المعنى في ذلك فإن المستحق عليه أحد الشيئين فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر ألا ترى أنه إذا عجز عن الوصول إليها بسبب الجب والعنة فرق بينهما لفوات الإمساك بالمعروف بل أولى لأن حاجتها إلى النفقة أظهر من حاجتها إلى قضاء الشهوة ولكن لما تعين التفريق لا يصالها إلى حقها من جهة عسره فرق القاضي بينهما فكذلك هنا تعين التفريق لإيصالها إلى حقها من جهة غيره وبه فارق المهر والنفقة المجتمعة عليه فإن التفريق ليس بطريق لا يصالها إلى ذلك الحق من جهة غيره فأما نفقة الوقت تصل إليها بعد التفريق من جهة زوج آخر وقاس بنفقة العبد والأمة فإنه يستحق عليه بسبب الملك فإذا تعذر عليه أجبره القاضي على إزالة الملك بالبيع فهنا كذلك واستدل بحديث عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كتبا إلى أمراء الأجناد أن مروا من قبلكم أن تبعثوا بنفقة أهليكم أو بطلاقهن وقيل لسعيد بن المسيب رضي الله عنه أتفرق بين العاجز عن النفقة وبين امرأته فقال نعم فقيل له أنه سنة فقال نعم والسنة إذا أطلقت يفهم منها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فهذا تنصيص على أن المعسر منظر ولو أجلته في ذلك لم يكن لها أن تطالب بالفرقة فكذلك(5/342)
إذا استحق النظرة شرعا إلا أن المستحق بالنص التأخر فلا يلحق به ما يكون إبطالا لأن ذلك فوق المنصوص وفي حق المملوك يكون إبطالا لأنه لا يثبت للمملوك على مولاه دين فأما في حق الزوجية يكون تأخيرا لا إبطالا وبهذا يتبين أنه غير عاجز عن معروف يليق بحاله وهو الالتزام في الذمة فإن المعروف في النفقة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وهو الالتزام في الذمة مع أن التسريح طلاق وعند الشافعي المستحق هنا هو الفسخ بسبب العيب حتى إذا فرق بينهما لم يكن طلاقا وبه نجيب عن حديث عمر وعلي رضي الله عنهما مع أنهم ما كانوا عاجزين عن المهر والنفقة فإن نفقة عيال من هو من الجند من مال بيت المال والإمام هو الذي يوصل ذلك إليهم ولكنهما خافا عليهن الفتنة لطول غيبة أزواجهن فأمراهم أن يبعثوا إليهن ما تطيب به قلوبهن والمعنى فيه أن النفقة مال فالعجز عنه لا يكون موجبا للفرقة كالمهر والنفقات المجتمعة بل أولى لأن ذلك دين مستقر ونفقة الوقت لم تستقر دينا بعد وهذا لأن المقصود بالنكاح غير المال فكان المال زائدا والعجز عن التبع لا يكون سببا لرفع الأصل وكما ان بالفرقة لا تتوصل إلى مهرها الذي على الزوج الأول وإنما تتوصل إلى(5/343)
ص -169- ... مثله من جهة أخرى فكذلك النفقة وبه فارق الجب والعنة فإن هناك تحقق فوات ما هو المقصود مع إن عندنا هناك لا يفسخ العقد ولكن يفرق بينهما بطريق التسريح بالإحسان حتى يكون ذلك طلاقا لإزالة ظلم التعليق عنها وهذا ليس في معنى ذلك من وجوه:
أحدها: أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل ذلك المقصود بدون التفريق بينهما وهنا لم ينسد عليها وصول النفقة بدون التفريق بأن تستدين فتنفق.
والثاني: إن هناك الزوج يمسكها من غير حاجة به إليها فيما هو المقصود فكان ظالما وهنا يمسكها مع حاجته إليها فيما هو المقصود فلا يكون ظالما ولأن هناك في ترك التفريق إبطال حقها لأن وظيفة الجماع لا تصير دينا على الزوج بمضي المدة ولو فرقنا كان فيه إبطال ملك الزوج فاستوى الجانبان في ضرر الإبطال وفي جانبها رجحان لصدق حاجتها وهنا في ترك التفريق تأخير حقها لأن النفقة تصير دينا على الزوج وفي التفريق إبطال الملك على الزوج وضرر التأخير دون ضرر الإبطال وبه يفرق بينه وبين العبد فالضرر هناك ضرر الإبطال لأن النفقة هناك لا تصير دينا للمملوك على المالك ثم فيه إبطال حقه بغير بدل وفي البيع إبطال ملك المولى ببدل فكان هذا الضرر أهون حتى إن في الموضع الذي يكون إبطالا بغير بدل لا يفعل ذلك وهو أنه إذا عجز عن نفقة أم ولده لم يعتقها القاضي عليه.(5/344)
قال: والتبوئة في الأمة أن يخلى بين الأمة وزوجها ولا يستخدمها لما بينا أن المعتبر في استحقاق النفقة تفريغها نفسها لقيام مصالح الزوج وإنما يحصل ذلك بهذا النوع من التبوئة فإن استخدمها بعد ذلك ولم يخل بينه وبينها فلا نفقة لها لأنه إزال ما به كانت تجب نفقتها عليه فهي كالحرة الناشزة فإن قيل المولى إنما أزال ذلك بحق له فلماذا لا يجعل هذا كالحرة إذا احتبست نفسها لصداقهاقلنا كما في الابتداء فإن الحرة إذا احتبست نفسها بالصداق كان لها أن تطلب النفقة والمولى إذا لم يبوئها بيتا في الابتداء لم يكن لها النفقة والمعني فيه أن الحرة إذا احتبست نفسها بصداقها فالتفويت إنما جاء من قبل الزوج حين امتنع من أيفاء ما لزمه لتنتقل إلى بيته فأما هنا التفويت ليس من جهة الزوج بل من جهة من له الحق وهو المولى لشغله إياها بخدمة نفسه فلهذا لم يكن لها نفقة عليه فإن كانت هي تجيء فتخدمه من غير أن يستخدمها فلها النفقة لأن الحق للمولى ولم يوجد من جهته تفويت بل الموجود من جهته التسليم فإن جاءت في وقت والزوج ليس في البيت فاستخدموها ومنعوها من الرجوع إلى بيتها فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها كاستخدام المولى وقد بينا أن فيه تفويت التبوئة والتبوئة شرط لاستحقاق النفقة وبعد التفويت ممن له الحق لا يكون لها نفقة.
قال: ونفقة المرأة واجبة على الزوج وإن مرضت من قبل أنها مسلمة نفسها إلى الزوج في بيته ولا فعل منها في المرض لتصير به مفوتة مع أنه لا يفوت ما هو المقصود من الاستئناس وغيره ولا معتبر بمقصود الجماع في حق النفقة فإن الرتقاء تستحق النفقة على زوجها مع فوات مقصود الجماع وقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الرتقاء لا تستوجب النفقة(5/345)
ص -170- ... على الزوج إذا لم يرض الزوج بها ويكون له أن يردها إلى أهلها ولا ينفق عليها وفي المريضة إن تحولت إلى بيته وهي مريضة فله أن يردها إلى أن تبرأ وإن مرضت في بيته بعد ما تحولت إليه فليس له أن يردها بل ينفق عليها إلا أن يتطاول مرضها.
قال: وهذا استحسان لأن النكاح يعقد للصحبة والألفة وليس من الألفة أن يمتنع عن الإنفاق أو يردها لقليل مرض فإذا تطاول ذلك فهو بمنزلة الرتق الذي لا يزول عادة وإنما يلزمه نفقتها لقيامه عليها وقد فات ذلك بمعنى من جهتها فتسقط نفقتها كما إذا كانت صغيرة لا يجامع مثلها ولكن قد بينا الفرق بينهما من حيث أن الصغر يزول فلا ينعدم به استحقاق الجماع بسبب العقد بخلاف الرتق والقرن وكذلك لو جنت أو أصابها بلاء يمنعه من الجماع أو هرمت حتى لا يستطيع جماعها وذكر في الكتاب أنه لو أصابتها هذه العوارض من بعد ما دخل بها وليس مراده حقيقة الوطء بل المراد انتقالها إلى منزله وسواء انتقلت أو لم تنتقل إذا لم تكن مانعة نفسها ظالمة فهي مستوجبة للنفقة على ما قلنا.
قال: ولا نفقة في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة ولا في العدة منه لأن ما به تستوجب النفقة معدوم هنا وهو تسليمها نفسها إلى الزوج للقيام بمصالحه فإن فساد النكاح يمنعها من ذلك شرعا ولهذا لم تجعل الخلوة في النكاح الفاسد تسليما في حق وجوب المهر فكذا لا تستوجب النفقة في التسليم بالنكاح الفاسد.(5/346)
قال: وإذا اختلف الزوج والمرأة فقال الزوج أنا فقير وقالت المرأة هو غني فالقول قول الزوج مع يمينه وعلى المرأة البينة لأن الفقر في الناس أصل وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله يولد كل مولود أحمر ليس عليه غبرة أي سترة ثم يرزقه الله تعالى من فضله فالزوج يتمسك بما هو الأصل والمرأة تدعي غني عارضا فعليها البينة وعليه اليمين لانكاره وبه أجاب في كتاب العتاق إذا ادعي المعتق أنه معسر فالقول قوله فأما ما أشار في سائر الديون إن كان وجوب الدين عليه ببيع أو قرض لم يقبل قوله أنه معسر لأنه صار غنيا بما دخل في ملكه من المال فلا قول له في دعوى الفقر بعد تيقننا بزوال ذلك الأصل وكذلك قالوا في كل دين التزمه بالعقد اختيارا كالمهر ودين الكفالة فإقدامه على الالتزام بمنزلة إقرار منه أنه قادر على الأداء فإن العاقل لا يلتزم مالا يقدر على أدائه اختيارا فأما فيما سوى ذلك فالقول قوله في دعوى العسرة وبعض المتأخرين من مشايخنا يقولون يحكم في ذلك زيه فإن كان عليه زي الأغنياء لم يقبل قوله إنه معسر لأن الزي دليل على غناه قال الله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وقال جل وعلا {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] ففي هذا دليل على أن الظاهر من العلامة يجعل حكما إلا في الفقهاء والعلوية فإنهم يتكلفون الزي مع العسرة ليعظمهم الناس فلا يجعل الزي حكما في حقهم لظهور العادة بخلافه.(5/347)
ص -171- ... قال: فإن لم يكن لها بينة على يساره وسألت القاضي أن يسأل عن يساره في السر فليس ذلك على القاضي لأنه وجد دليلا يعتمده لفصل الحكم وهو التمسك بالأصل فليس عليه أن يطلب دليلا آخر وإن فعله فأتاه من أخبر عنه أنه موسر لا يعتمد ذلك أيضا إلا أن يخبره بذلك رجلان عدلان ويكونا بمنزلة الشاهدين يخبران أنهما قد علما ذلك فحينئذ لو شهدا عنده في مجلس الحكم يثبت يساره بشهادتهما وكذلك إن أخبراه بذلك لأن المعتبر علم القاضي ويحصل له علم بخبرهما كما يحصل بشهادتهما وإن أخبرا أنهما علما ذلك من رواية راو لم يؤخذ بقولهما لأنهما ما أخبراه عن علم وإنما أخبراه عن ظن أو عن خبر من لا يعتمد خبره والخبر إذا تداولته الألسنة تتمكن فيه الزيادة والنقصان عادة فلهذا لا يعتمد مثل هذا الخبر.
قال: وإن أقامت المرأة البينة أنه موسر وأقام الزوج البينة أنه محتاج أخذ ببينة المرأة لأنها قامت على الإثبات ولأن شهود الزوج اعتمدوا في شهادتهم ما هو الأصل وشهود المرأة عرفوا الغني العارض فلهذا يفرض لها عليه نفقة الموسرين.
قال: وإذا كان للزوج عليها دين فقال احسبوا لها نفقتها منه كان له ذلك لأن أكثر ما في الباب أن تكون النفقة لها دينا عليه فإذا التقى الدينان تساويا قصاصا ألا ترى أن له أن يقاص بمهرها فالنفقة أولى.
قال: وإذا فرضت النفقة لها على زوجها ولها عليه شيء من مهرها فأعطاها شيئا من ذلك فقال الزوج هو من المهر وقالت المرأة بل هو من النفقة فالقول قول الزوج أنه من المهر وكذلك هذا في جميع قضاء الديون إذا كان من وجوه مختلفة لأنه هو المملك فالقول قوله في بيان جهة التمليك وهو المحتاج إلى تفريغ ذمته فالقول قوله في أنه تفرغ ذمته بهذا الأداء من كذا دون كذا.(5/348)
قال: وإذا اختلفا فيما وقع الصلح عليه أو الحكم به من النفقة في الجنس أو القدر فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة لأنها مدعية الزيادة فتحتاج إلى الإثبات بالبينة والزوج منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه فإن كان الذي أقر به الزوج وحلف عليه لا يكفيها بلغ بها الكفاية في المؤتنف لأن النفقة للكفاية وقد بينا أن ما قضى به القاضي أو وقع الصلح عليه إن كان لا يكفيها فلها أن تطالب بما يكفيها في المستقبل فكذلك ما أقربه الزوج.
قال: ولو أخذت المرأة من زوجها كفيلا بالنفقة كل شهر لم يكن على الكفيل إلا شهر واحد لأنه أضاف كلمة كل إلا مالا يعرف منتهاه فيتناول الأدنى كمن يقول لفلان على كل درهم وأصله في الإجارة إذا استأجر دارا لكل شهر كان لزوم العقد في شهر واحد وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كفيل بنفقتها ما عاشت وبقي النكاح بينهما استحسانا لما فيه من العرف الظاهر ولأن قصد المرأة التوثق بهذا الجنس من حقها فكان الكفيل صرح لها بما هو مقصودها فقال في كفالته أبدا أو ما عاشت وهناك يثبت حكم الكفالة بهذا الجنس من حقها(5/349)
ص -172- ... عليه عاما فكذا هنا ولو ضمن لها نفقة سنة كان جائزا وإن لم يكن واجبا ولكن إضافة الكفالة إلى سبب الوجوب صحيح وقد حصل ذلك بتسمية المدة ولم يبين أن الزوج هل يجبر على إعطاء الكفيل بالنفقة أم لا فظاهر المذهب أنه لا يجبر على ذلك كما لا يجبر على إعطاء الكفيل بدين آخر وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال إذا قالت المرأة إنه يريد أن يغيب ولا يترك لي نفقة أمره القاضي أن يعجل لها نفقة شهر أو يعطيها كفيلا بنفقة شهر استحسانا لأنها طلبت من القاضي أن ينظر لها فيجيبها على ذلك لأن الحال حال النظر.
قال: وإذا فرض القاضي لها على الزوج نفقة معلومة كل شهر فمضت أشهر لم يعطها حتى مات أو ماتت لم يؤخذ بشيء منها لأن النفقة تستحق استحقاق الصلات لا استحقاق المعاوضات على ما قررناه والصلات لا تتم إلا بالقبض وتسقط بالموت قبل القبض وشبهه في الكتاب بمن وجبت عليه الجزية إذا مات لم تستوف من تركته لهذا ولأن السبب قيام الزوج عليها وتفريغها نفسها لمصالحه وقد زال ذلك قبل الاستيفاء فيسقط حقها كما إذا زال العيب قبل رد المشتري لم يكن له أن يرد بعد ذلك.(5/350)
قال: ولو كانت المرأة استعجلت النفقة لمدة ثم ماتت قبل مضي تلك المدة لم يكن للزوج أن يسترد من تركتها شيئا من ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا أنها صلة وحق الاسترداد في الصلات ينقطع بالموت كالرجوع في الهبة وعند محمد رحمه الله تعالى يترك من ذلك حصة المدة الماضية قبل موتها ويسترد ما وراء ذلك لأنها أخذت ذلك من ماله لمقصود لم يحصل ذلك المقصود له فكان له أن يسترد منها كما لو عجل لها نفقة ليتزوجها فماتت قبل أن يتزوجها وروي بن رستم عن محمد رحمه الله تعالى قال إن كان الباقي من المدة شهرا أو دونه لم يرجع بشيء في تركتها وإن كان فوق ذلك ترك لها مقدار نفقة شهر استحسانا ويسترد من تركتها ما زاد على ذلك لأنه إنما يعطيها النفقة شهرا فشهرا عادة ففي مقدار نفقة شهر هي مستوفية حقها وفيما زاد على ذلك مستعجلة.
قال: ولو كانا حيين فاختلفا فيما مضى من المدة من وقت قضاء القاضي فالقول قول الزوج لإنكاره الزيادة وإنكاره سبق التاريخ في القضاء والبينة بينة المرأة لإثباتها ذلك.
قال: وإذا بعث إليها بثوب فقالت هو هدية وقال الزوج هو من الكسوة فالقول قول الزوج مع يمينه لأنه هو المملك للثوب منها فالقول قوله في بيان جهته إلا أن تقيم المرأة البينة أنه بعث به هدية وإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج لأنه يثبت ببينته فراغ ذمته عن حقها من الكسوة أو المهر وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة على إقرار الآخر بما ادعاه لأن الزوج هو المدعي للقضاء فيما عليه من الحق فمعنى الإثبات في بينته أظهر وكذلك إن بعث بدراهم فقال هي نفقة وقالت المرأة هي هدية فالقول قوله لما بينا.
قال: وإذا أعطاها كسوة فعجلت تمزيقها أو هلكت منها لم يكن عليه أن يكسوها حتى(5/351)
ص -173- ... يأتي الوقت لما بينا أن أحوال الناس تختلف في صيانة الثياب وتمزيقها فيتعذر تعليق الحكم بحقيقة تجدد الحاجة فيقام الوقت مقامه تيسيرا فما لم يأت الوقت لا تتجدد الحاجة فلا يتجدد سبب الوجوب لها فلم يكن لها أن تطالبه بشيء.
قال: وكذلك إن صانتها ولبست غيرها فإذا جاء الوقت المعلوم لها أن تطالب بالكسوة والقاضي في الابتداء يوقت من المدة ما يتمزق فيه الثوب باللبس المعتاد فما لم يتبين خطأه في ذلك التوقيت يجب بناء الحكم عليه ولا ينظر إلى تعجيلها التمزيق ولا إلى صيانتها فوق المعتاد.
قال: وكذلك إن أخذت نفقة شهر فلم تنفق حتى جاء الشهر الثاني وهي معها فلها أن تطالبه بنفقة الشهر الثاني بخلاف نفقة ذي الرحم المحرم فإن هناك المعتبر تحقق الحاجة ألاترى أنه لو كان له مال لم يستوجب النفقة على غيره والحاجة مرتفعة ببقاء المأخوذ معه بخلاف نفقة الزوجة.
قال: وإذا فرض القاضي لها النفقة على زوجها فأنفقت من مالها ولم تأخذ منه شيئا فلها أن تأخذه بما مضى من ذلك لأن نفقة الزوجة تصير دينا بقضاء القاضي أو الصلح عن التراضي وقد بيناه.
قال: وإن كان هذا في ذي الرحم المحرم فأنفق على نفسه من مال آخر بعد فرض القاضي لم يكن له أن يرجع على الذي فرض له عليه بشيء لما مضى لما بينا أن المعتبر هنا حقيقة الحاجة وقد انعدم ذلك بمضي ذلك الوقت فلا تصير النفقة دينا وأورد في باب الزكاة من الجامع أن نفقة ذي الرحم المحرم تصير دينا بقضاء القاضي وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فوضع المسألة هناك فيما إذا استدان المنفق عليه وأنفق من ذلك فتكون الحاجة قائمة لقيام الدين عليه وهنا وضع المسألة فيما أذا أنفق من مال له أو من صدقة تصدق بها عليه والحاجة لا تبقى بعد مضي المدة وقد قررنا هذا فيماأمليناه من شرح الجامع.(5/352)
قال: وإن كان الرجل غائبا وله مال حاضر فطلبت المرأة النفقة فإن كان القاضي يعلم بالنكاح بينهما فرض لها النفقة في ذلك المال لعلمه بوجود السبب الموجب له ألا ترى أن من أقر بدين ثم غاب قضى القاضي عليه بذلك لعلمه به فكذلك النفقة ولكن يشترط أن ينظر للغائب وذلك في أن يحلفها أنه لم يعطها النفقة لجواز أن يكون أعطاها النفقة قبل أن يغيب وهي تلبس على القاضي لتأخذ ثانيا وإذا حلفت فأعطاها النفقة أخذ منها كفيلا لجواز أن يحضر الزوج فيقيم البينة أنه قد كان أوفي نفقتها وهذا لأن القاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه.
قال: وإذا حضر الزوج وأثبت بالبينة أنه كان قد أوفاها أو أرسل إليها بشيء في حال غيبته أمرها برد ما أخذت لأنه ظهر عند القاضي أنها أخذت بغير حق وللزوج الخيار إن شاء أخذها بذلك وإن شاء أخذ الكفيل وإن لم يكن النكاح بينهما معلوما للقاضي فأرادت إقامة البينة على الزوجية لم يقبل القاضي ذلك منها عندنا لما فيه من القضاء على الغائب بالبينة وعن زفر رحمه(5/353)
ص -174- ... الله تعالى أنه يسمع منها البينة ويعطيها النفقة من مال الزوج وإن لم يكن للزوج مال يأمرها بالاستدانة فإن حضر الزوج وأقربالنكاح أمره بقضاء الدين وإن أنكر ذلك كلفها إعادة البينة فإن لم تعد أمرها برد ما أخذت ولم يقض لها بشيء مما استدانت على الزوج لأن في قبول البينة بهذه الصفة نظرا لها ولا ضرر فيه على الغائب فيجيبها القاضي إلى ذلك ولكنا نقول فيه قضاء على الغائب لأن دفع ماله إليها لتنفق على نفسها لا يكون إلا بعد القضاء عليه بالزوجية.
قال: وإن أحضرت غريما للزوج أو مودعا في يده مال للزوج وهو مقر بالمال والزوجية أمره القاضي بأداء نفقتها من ذلك بخلاف دين آخر على الغائب فإن صاحب الدين إذا أحضر غريما أو مودعا للغائب لم يأمره بقضاء دينه منه وإن كان مقرى بالمال وبدينه لأن القاضي إنما يأمر في حق الغائب بما يكون نظرا له وحفظا لملكه عليه وفي الإنفاق على زوجته من ماله حفظ ملكه عليه وليس في قضاء الدين من ماله حفظ ملكه عليه بل فيه قضاء عليه بقول الغير فلهذا المعنى تقع الفرقة بينهما.(5/354)
قال: وإن جحد المديون أو المودع الزوجية بينهما أو كون المال في يده لم تقبل بينتها على شيء من ذلك أما على الدين الوديعة فلإنها تثبت الملك للغائب حتى إذا ثبت ملكه ترتب عليه حقها فيه وهي ليست بخصم في إثبات الملك للزوج في أمواله وأما إذا جحدا الزوجية فقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا تقبل بينتها على الزوجية لأنها تدعى حقا فيما في يده من المال بسبب فكان خصما في إثبات ذلك السبب كمن ادعى عينا في يد إنسان إنه له اشتراه من فلان الغائب ثم رجع وقال لا تقبل بينتها على ذلك وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لأنها تثبت النكاح على الغائب والمودع والمديون ليس بخصم عن الغائب في إثبات النكاح عليه بالبينة والاشتغال من القاضي بالنظر يكون بعد العلم بالزوجية فإذا لم يكن ذلك معلوما له لا يشتغل بسماع البينة من غير خصم وإن لم يكن له مال حاضر لم يفرض لها النفقة بطريق الاستدانة عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى لأن في هذا قضاء على الغائب وقد بيناه وإن كان له مال حاضر فحضور ماله بمنزلة حضوره استحسانا.
قال: ولا يبيع العروض في نفقتها أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فظاهر لأن الزوج لو كان حاضرا لم يبع القاضي عروضه في ذلك فإذا كان غائبا أولى وأما على قولهما إنما يبيع على الحاضر عروضه بعد ما يحجر عليه وليس له ولاية الحجر وإلزام القضاء على الغائب.
قال: وينفق عليها من غلة الدار والعبد لأن ذلك من جنس حقها ويعطيها الكسوة من الثياب إن كانت له والنفقة من طعامه إن كان له لأنه من جنس حقها ولها أن تأخذ من غير قضاء كما قال صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف" فلأن يقضى لها القاضي بذلك كان أولى ويأخذ منها كفيلا بجميع ذلك نظرا منه للغائب فإذا رجع الزوج وأقام البينة على وصول النفقة إليها لهذا الوقت فالكفيل ضامن لما أخذت لأنه التزم بالكفالة(5/355)
ص -175- ... وإن لم يكن له بينة وحلفت المرأة على ذلك فلا شيء على الكفيل وإن نكلت عن اليمين ونكل الكفيل لزمها وللزوج الخيار بين أن يأخذها بذلك أو يأخذ الكفيل لأنه كفيل بما لزمها رده من النفقة وقد ثبت ذلك بنكولها ولهذا لزم كفيلها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب نفقة العبد
قال: رضي الله عنه وإذا كان للعبد أو المدبر أو المكاتب امرأة حرة أو أمة قد بوئت معه بيتا فإنه يفرض عليه نفقتها بقدر ما يكفيها لأن سبب وجوب النفقة الزوجية وهي تحقق في حق المملوك كما تتحقق في حق الحر وهو تسليمها إلى الزوج في منزله والحكم ينبني على السبب ألا ترى أن المهر بالنكاح يجب على العبد كما يجب على الحر ثم ما يجب على العبد من الديون إذا ظهر في حق المولى تعلق بمالية رقبته حتى يباع فيه إلا أن يقضيه المولى ودين النفقة ظهر في حق المولى لأن سببه وهو النكاح كان برضاه فإذا اجتمع عليه من النفقة ما يعجز عن أدائه يباع فيه ثم إذا اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع فيه أيضا وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرة بعد مرة إلا النفقة لأن النفقة يتجدد وجوبها بمضي الزمان وذلك في حكم دين حادث وأما المدبر لا يمكن بيعه في النفقة ولكن يؤمر فيه بالسعاية وكذلك المكاتب لا يمكن بيعه مع قيام عقد الكتابة وإنما يقضي بالنفقة في كسبه كما يقضي بسائر ديونه في كسبه فإن كان للعبد أو المدبر ولد من امرأته لم يكن عليها نفقة الولد لأنها إن كانت أمة فالولد ملك لمولاها ونفقة المملوك على المالك دون الأب وإن كانت حرة فولدها يكون حرا ولا تجب نفقة الحر على المملوك بحال لأن كسب العبد والمدبر لمولاه ونفقة الولد الحر ليست على المولى وكذلك لا يكون في كسبها وكذلك المكاتب لا يجب في كسبه نفقة ولد حر ولا نفقة ولد هو مملوك للغير وإن كانت امرأته مكاتبة معه لمولى واحد كاتبهما كتابة واحدة فنفقة الولد على الأم دون الأب لأن الولد تابع(5/356)
للام في كتابتها ألا ترى أن كسب الولد يكون لها ولو جنى عليه كان أرش الجناية لها وإن مات الولد وترك مالا فذلك كله لها فكذلك نفقة الولد تكون عليها وهذا بخلاف ما إذا وطى ء المكاتب أمته فولدت فإن نفقة ذلك الولد على المكاتب لأنه داخل في كتابته حتى كان كسبه له وأرش الجناية عليه له أيضا ليس للأم من ذلك شيء لأنها أمة ولو كان للأم فالأم أمة له أيضا فلهذا كانت نفقته عليه ولأنه جزء منه فإذا تبعه في العقد كانت نفقته بمنزلة نفقة نفسه.
قال: ولو تزوج العبد أو المدبر أو المكاتب بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر لأن وجوب النفقة والمهر يكون بعد صحة العقد ونكاحهم بغير إذن المولى غير صحيح وإن عتق واحد منهم جاز نكاحه حين يعتق لسقوط حق المولى ويجب عليه المهر والنفقة في المستقبل والمستسعى في بعض القيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كالمكاتب.(5/357)
ص -176- ... قال: وإن كانت المدبرة أو الأمة أو أم الولد تحت حر أو عبد فلا نفقة عليهما ما لم يبوئها معه بيتا لانعدام التسليم قبل التبوئة ويستوى إن كان دخل بها أو لم يدخل بها لأن بالدخول إنما يوجد تسليم المعقود عليه ولا معتبر به في النفقة فإن تسليم المعقود عليه مقرر للبدل والنفقة ليست ببدل ألا ترى أن الرتقاء تستحق النفقة وقد انعدم منها تسليم المعقود عليه فعرفنا أن المعتبر في النفقة تفريغها نفسها لحق الزوج وذلك يكون بالتبوئة فإن بوأها معه بيتا فعليه النفقة وإن انتزعها منه واحتاج إلى خدمتها فلا نفقة على الزوج ما دامت عند مولاها وإن أعادها إليه وبوأها معه بيتا فعليه النفقة كالحرة إذا هربت من زوجها ثم عادت إلى بيته توضيحه أن الأمة محبوسة عند مولاها لحق المولى في خدمتها فكانت كالمحبوسة في الدين ولا نفقة للمحبوسة بالدين إذا كان الزوج ممنوعا منها فإذا قضت الدين وعادت إلى بيت الزوج كان لها النفقة وإن كان لها منه ولد فلا نفقة عليه للولد لأن ولد الأمة مملوك لمولاها فنفقته تكون على مالكه وإن كانت المرأة مكاتبة وقد بوأها معه بيتا أو لم يبوئها منه فهو سواء ولها النفقة ولأن المكاتبة في يد نفسها كالحرة وليس لمولاها أن يستخدمها فكانت هي كالحرة في استحقاق النفقة على الزوج إذا لم تحبس نفسها عنه ظالمة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب نفقة أهل الذمة(5/358)
قال: رضي الله عنه ويفرض علي الذمى نفقة امرأته بالمعروف كما يفرض على المسلم لأنها كفاية مشروعة للحاجة وسببها وهو الزوجية يتحقق فيما بين أهل الذمة كما يتحقق فيما بين المسلمين فإن كانت ذات رحم محرم منه وذلك في دينهم نكاح فطلبت نفقتها منه من قبل النكاح فرض لها من ذلك عليه كما يفرض في النكاح الصحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما بينا من أصله أن لهذه الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة وإن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي لا يفرق القاضي بينهما فيقضي لها بالنفقة وعندهما ليس لهذه الأنكحة فيما بينهم حكم الصحة وبرفع أحدهما لأمر القاضي يفرق القاضي بينهما فلا يقضي لها بالنفقة ولا خلاف في النكاح بغير شهودان القاضي يقضي لها بالنفقة لأن النكاح بغير شهود صحيح فيما بينهم فإن الإشهاد من حق الشرع وهم لا يخاطبون بذلك ألا ترى أنهم يقرون عليه بعد الإسلام.
قال: وإذا أسلم الذمى و امرأته من غير أهل الكتاب فأبت الإسلام وفرق بينهما فلا نفقة لها في العدة لأن الفرقة جاءت من قبلها بسبب هي عاصية في ذلك وهو إباء الإسلام بعد ما عرض عليها ولهذا لا مهر لها إذا كان قبل الدخول فليس لها نفقة العدة وإن كان بعد الدخول أيضا إلا أن في المهر إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول سقط المهر عنه سواء كان بحق أو بغير حق لأن سقوط المهر بتفويتها المعقود عليه على الزوج وذلك موجود في الحالين فأما سقوط النفقة باعتبار حبسها نفسها فيكون بمنزلة النفقة حال قيام النكاح وهناك إن حبست نفسها ظلما كالناشزة لم يكن لها النفقة وإن حبست نفسها بحق لم تسقط نفقتها كما لو حبست(5/359)
ص -177- ... نفسها لاستيفاء صداقها فكذلك في نفقة العدة إن كانت الفرقة من جهتها بسبب هي عاصية في ذلك فليس لها نفقة العدة وإن لم تكن عاصية في ذلك فلها نفقة العدة.
قال: وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فأبى الزوج أن يسلم ففرق بينهما كان عليه النفقة والسكنى ما دامت في العدة لأن الفرقة جاءت بسبب من جهة الزوج وهو أباؤه عن الإسلام وذلك منه تفويت الإمساك بالمعروف فتعين التسريح بالإحسان والإحسان في التسريح أن يوفيها مهرها ونفقة عدتها.
قال: وإذا خرج أحد الحربيين مسلما ثم خرج الآخر بعده فلا نفقة عليه لها قال لأن العصمة انقطعت فيما بينهما بخروج أولهما ومعنى هذا إن وجوب نفقة العدة باعتبار ملك اليد الثابت للزوج عليها في حالة العدة ولهذا لا تجب النفقة في العدة من نكاح فاسد أو وطيء بشبهة ولا في عدة أم الولد من المولى وتباين الدارين كما يقطع عصمة النكاح يقطع ملك اليد الثابت بالنكاح ثم إن كان الزوج هو الخارج فلا عدة عليها لأنها حربية وإن كانت المرأة هي التي خرجت فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما عليها العدة لحق الشرع لا لحق الزوج فلا تكون نفقة العدة عليه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب النفقة في الطلاق والفرقة والزوجية(5/360)
قال: ولكل مطلقة بثلاث أو واحدة السكنى والنفقة ما دامت في العدة أما المطلقة الرجعية فلإنها في بيته منكوحة له كما كانت من قبل وإنما أشرف النكاح على الزوال عند انقضاء العدة وذلك غير مسقط للنفقة كما لو آلى منها أو علق طلاقها بمضي شهر فأما المبتوتة فلها النفقة والسكنى ما دامت في العدة عندنا وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لها السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا نفقة للمبتوتة في العدة واستدلوا بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها قالت طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى، إلا أن في صحة هذا الحديث كلاما فإنه روى أن زوج فاطمة أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه كان إذا سمع منها هذا الحديث رماها بكل شيء في يده وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت تلك المرأة فتنت العالم أي بروايتها هذا الحديث وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أم نسيت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للمطلقة الثلاث النفقة والسكني ما دامت في العدة" وتأويله إن ثبت من وجهين:
أحدهما: أن زوجها كان غائبا فإنه خرج إلى اليمن ووكل أخاه بأن ينفق عليها خبز الشعير فأبت هي ذلك ولم يكن الزوج حاضرا ليقضي عليه بشيء آخر.
والثاني: أنها كانت بذيئة اللسان على ما روى أنها كانت تؤذي أحماء زوجها حتى أخرجوها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه فظنت(5/361)
ص -178- ... أنه لم يجعل لها نفقة ولا سكني ثم لا خلاف في استحقاقها السكني فإنه منصوص عليه بقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآية وقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] فعلماؤنا قالوا النفقة والسكني كل واحد منهما حق مالي مستحق لها بالنكاح وهذه العدة حق من حقوق النكاح فكما يبقى باعتبار هذا الحق ما كان لها من استحقاق السكني فكذلك النفقة وباستحقاق السكني يتبين بقاء ملك اليد للزوج عليها ما دامت في العدة وكما يثبت استحقاق النفقة بسبب ملك اليمين يثبت بسبب ملك اليد ألا ترى أن نفقة رقيق المكاتب عليه في كسبه لماله فيه من ملك اليد ولا يدخل عليه نفقة المرهون فإنه لا يكون على المرتهن مع ملك اليد له لأن ملك اليد للمرتهن في المالية دون العين فإن يده يد الاستيفاء وذلك في المالية دون العين فأما إذا كانت حاملا فلها النفقة بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].(5/362)
ومن أصل الشافعي رحمه الله تعالى أن تعليق الحكم بالشرط كما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط يدل على نفيه عند عدم الشرط وعندنا تعليق الحكم بالشرط لا يدل على عدم الحكم عند عدم الشرط لأن مفهوم النص ليس بحجة ولأنه يجوز أن يكون الحكم ثابتا قبل وجود الشرط بعلة أخرى ألا تري أن من قال لعبده أنت حر إذا جاء رأس الشهر ثم قال أنت حر غدا يبقى ذلك التعليق صحيحا حتى لو أزاله من ملكه اليوم فمضي الغد ثم اشتراه ثم جاء رأس الشهر يعتق ولو بقي في ملكه حتى الغد يعتق أيضا كيف وقد قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم وقراءته لا بد أن تكون مسموعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك دليل على أن النفقة مستحقة لها بسبب العدة وإن قوله وإن كن أولات حمل لإزالة إشكال كان عسى أن يقع فإن مدة الحمل تطول عادة فكان يشكل أنها هل تستوجب النفقة بسبب العدة في مدة الحمل وإن طالت فأزال الله تعالى هذا الإشكال بقوله: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ثم النفقة إذا كانت حاملا تجب لها لا للولد بدليل أنه لا تجب في مال الولد وإن كان له مال أوصى له به وإنها لا تتعدد بتعدد الولد وأنها إذا كانت أمة فنفقتها على زوجها ونفقة الولد تكون على مولاه كما بعد الانفصال وأن المنكوحة إذا حبلت لا تتضاعف نفقتها ولو كان الحمل يستحق النفقة لتضاعف نفقة المنكوحة إذا حبلت فإذا ثبت أن النفقة لها فقلنا لا بد من سبب لاستحقاق النفقة بينهما وبين الزوج ولا سبب لذلك سوى العدة والحامل والحائل في هذا السبب سواء ولا تخرج من بيتها ليلا ولا نهارا لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [الطلاق: 1] قال إبراهيم رضي الله عنه خروجها من بيتها فاحشة ولأنها مكفية المؤنة لا حاجة لها إلى الخروج ليلا ولا نهارا(5/363)
بخلاف المتوفي عنها زوجها فإنه لا نفقة لها في تركة الزوج فهي تحتاج إلى أن تخرج بالنهار في حوائجها والبائنة بالخلع والإيلاء واللعان وردة الزوج ومجامعة أمها سواء في ذلك(5/364)
ص -179- ... لأن هذه الفرقة كلها بسبب من جهة الزوج بعد أن كانت مستحقة للنفقة في أصل النكاح فيبقي ذلك الحق ببقاء العدة فإن اشترط الزوج في الخلع أن لا سكني في العدة ولا نفقة فعليه السكني ولا نفقة عليه لأن خروجها من بيتها معصية واشتراط المعصية في الخلع باطل ولأن النفقة حقها وإسقاطها حق نفسها صحيح فأما السكنى من حق الشرع وإسقاط ما هو حق الشرع باطل ألا ترى أن إسقاطها لما زاد على العشرة من المهر عند العقد صحيح بخلاف العشرة حتى لو أبرأت زوجها من مؤنة السكني ورضيت أن تكون في بيت نفسها أو تلتزم مؤنة السكني من مالها كان صحيحا لأن ذلك حقها.(5/365)
قال: وإذا طلق امرأته طلاقا بائنا وهي أمة وقد بوأها معه بيتا فعلى الزوج النفقة لأنها كانت مستحقة للنفقة حال قيام النكاح فيبقي ذلك ببقاء العدة فإن أخرجها المولى إليه لخدمته بطلت النفقة عن الزوج كما في حال قيام النكاح إذا شغلها بخدمته فإن أعادها إلى بيت الزوج وترك استخدامها فلها النفقة كما في حال قيام النكاح فأماإذا كانت عند الطلاق في بيت المولى يستخدمها ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق فلا نفقة لها عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى لها النفقة كما لو كان استخدامه إياها بعد الطلاق وهذا لأن سقوط النفقة بعارض فإذا زال ذلك العارض صار كان لم يكن إلا ترى أن الحرة إذا كانت ناشزة هاربة من الزوج حين طلقها ثم عادت إلى بيته كان لها نفقة العدة لهذا المعنى وحجتنا في ذلك أن باعتبار العدة يبقي ما كان ثابتا ولا يثبت ما لم يكن ثابتا لأن الثبوت ابتداء يستدعي قيام الملك مطلقا فإما ثبوت نفقة العدة عند الفرقة فإن كانت في بيت الزوج عند ذلك كانت مستحقة للنفقة فيبقى ذلك ببقاء العدة فإن اعترض بعد ذلك مسقط ثم زال صار كان لم يكن وإذا لم تكن مستحقة للنفقة عند الفرقة فلو جعلنا لها النفقة في العدة كان هذا إثبات النفقة لها ابتداء في العدة وذلك لا يكون وهذا المعنى وهو أن المقصود من التبوئة أن تتفرغ للقيام بمصالح الزوج وذلك في حال قيام النكاح فإذا بوأها بيتا في حال قيام النكاح استحقت النفقة فيبقى ذلك ببقاء العدة فأما إذا كان ابتداء التبوئة في العدة لا يحصل به هذا المقصود لأنها لا تقوم بمصالح الزوج والقياس في الناشزة هكذا ولكنا استحسنا فيها لإن الحرة مستحقة في أصل النكاح والعارض المسقط عند الفرقة وبعدها في حقها سواء إذا زال صار كان لم يكن بخلاف الأمة وإن جاءت الفرقة من قبل المرأة بالمعصية كالردة ومطاوعة بن الزوج على الجماع وما أشبه ذلك فلا نفقة لها إن أصرت على ذلك أو رجعت وتابت من الردة أما السكنى فواجبة لها(5/366)
لأن القرار في البيت مستحق عليها فلا يسقط ذلك بمعصيتها أما النفقة فواجبة لها فتسقط بمجيء الفرقة من قبلها بالمعصية.
قال: وإن كانت أمة قد بوأها المولى بينا فعتقت واختارت نفسها فلها النفقة في العدة لأن اختيارها كان بسبب حق مستحق لها وقد بينا أن النفقة لا تسقط في حال قيام النكاح إذا حبست نفسها بحق فكذلك إذا وقعت الفرقة بسبب حق مستحق لها.(5/367)
ص -180- ... قال: وإذا لم تخاصم المعتقة في نفقتها حتى انقضت عدتها فلا نفقة لها وكذلك التي طلقها زوجها لأن نفقة العدة لا تكون أوجب من نفقة النكاح وقد بينا أن نفقة النكاح لا تصير دينا بمضي المدة قبل الفرض ولا يكون لها أن تطالب بها بعد زوال النكاح فنفقة العدة أولى وهذا لأن السبب ملك اليد والمستحق بهذا السبب في حكم الصلة فلا بد من قيام السبب لثبوت حق المطالبة ألا ترى أن الذمي أذا أسلم وعليه خراج رأسه لم يطالب بشيء منه لزوال السبب قبل الاستيفاء فهذا مثله.
قال: وإن كان الزوج غائبا فاستدانت عليه ثم قدم بعد انقضاء العدة فهذا ونفقة النكاح سواء وقد بينا هناك أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول استدانتها على الزوج صحيح وعلى قوله الآخر إنما استدانت على نفسها وليس على الزوج من ذلك شيء فكذلك في حكم نفقة العدة.
قال: وإذا تطاولت العدة بالمرأة فالنفقة لها واجبة حتى تنقضي العدة بالحيض أو بالشهور عند الإياس لأن سبب الاستحقاق قائم فيبقى الاستحقاق ببقاء السبب طالت المدة أو قصرت ألا ترى أن في الطلاق الرجعي يسوى بين أن تطول مدة الحيض أو تقصر والأصل فيه حديث علقمة رضي الله عنه فإنه طلق امرأته فارتفع حيضها سبعة عشر شهرا ثم ماتت فورثه منها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال إن الله تعالى حبس ميراثها عليك.
قال: وإن اختلفا في انقضاء العدة فالقول قولها مع يمينها لأن ما في رحمها لا يعلمه غيرها فتكون أمينة فيه مقبولة القول هكذا قال أبي بن كعب رضي الله عنه من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها ولأنها متمسكة بالأصل والأصل بقاء العدة واستحقاق النفقة كان ثابتا لها فيبقى ما لم يظهر انقضاء العدة وبقول الزوج ذلك لا يظهر في حقها لأن قوله ليس بحجة عليها فإن أقام الزوج البينة على إقرارها بانقضاء العدة بريء من النفقة لأن ثبوت إقرارها بالبينة كثبوته بالمعاينة.(5/368)
قال: وإذا جامعت بن زوجها مطاوعة في عدتها لم تبطل بذلك نفقتها إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول النفقة تجب شيئا فشيئا فكما أنها لو طاوعت بن الزوج في حال قيام النكاح لم يكن لها النفقة فكذلك إذا فعلت ذلك في العدة ولكنا نقول لا تأثير لفعلها هنا في الفرقة فإن الفرقة بينهما قد وقعت قبل فعلها ولا تأثير لهذا الفعل في إسقاط العدة فتبقى النفقة مستحقة لها بخلاف ما إذا فعلت حال قيام النكاح لأن الفرقة هناك وقعت بفعلها وهي عاصية في ذلك فأما إذا ارتدت في العدة سقطت نفقتها لا لعين الردة ولكن لأنها تحبس فلا تكون في بيت زوجها والمحبوسة بحق عليها لا تستوجب النفقة في حال قيام النكاح فكذلك لا تستوجب النفقة في العدة وإن تابت ورجعت إلى بيته كان لها النفقة لزوال العارض وهو الحبس بخلاف ما إذا وقعت الفرقة بردتها فإن هناك لا نفقة لها وإن تابت لأن(5/369)
ص -181- ... أصل الفرقة كان من جهتها بمعصية ولو لحقت بدار الحرب مرتدة فقد انقطعت العصمة بينهما حتى إذا جاءت مسلمة أو تائبة أو سبيت فأعتقت أو لم تعتق فلا نفقة لها لأن استحقاق النفقة باعتبار بقاء العصمة وتباين الدارين قاطع للعصمة.
قال: ولو أن مستأمنا في دارنا تزوج ذمية ودخل بها وطلقها فلها النفقة في قول من يوجب على الذمية العدة وقد بينا فيه شبه الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فمن أوجب عليها يقول النفقة لما كانت مستحقة في حال قيام النكاح لها يبقى ببقاء العدة ولا يشبه هذا لذمي الذي له أبوان حربيان دخلا بأمان فإنه لا نفقة لهما عليه لأنهما وإن كانا في دارنا صورة فهما من أهل الحرب متمكنان من الرجوع إلى دار الحرب ونفقة الأقارب بمنزلة الصلة ولا يثبت استحقاق الصلة للحربي على من هو من أهل دارنا وهذا لأن هذه الصلة لإبقائه وهو من أهل الحرب فهو به مستوجب للقتل غير مستوجب للإبقاء وكما لا تجب نفقتهما على الذمي لا تجب على المسلم بطريق الأولى.(5/370)
قال: وإن كان للمسلم أب ذمي معسر ففي القياس لا نفقة له عليه لاختلاف الدينين ألا ترى أن التوارث بينهما منقطع فكذلك استحقاق النفقة وهو نظير سائر الاقارب حتى لا يستوجبون النفقة مع اختلاف الدين ولكنا نستحسن في حق الأب الذمي والأم لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وهذا في الأبوين الكافرين لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتركهما يموتان جوعا ثم استحقاق النفقة فيما بين الوالد والولد بسبب الولادة وذلك متحقق مع اختلاف الدين بخلاف سائر الأقارب فإن الاستحقاق هنا بسبب الوراثة قال الله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك وباختلاف الدين ينقطع التوارث وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقة ألا ترى أن حكم العتق عند دخوله في ملكه وحرمة الرجوع في الهبة لما تعلق بالمحرمية شرعا لم يختلف باختلاف الدين.
قال: رجل أعتق أم ولده فلا نفقة لها في العدة لأن استحقاق النفقة كان لها بملك اليمين والعتق مناف للملك وما عليها من العدة نظير العدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة ألا ترى أنه لا يختلف بالحياة والوفاة وبمثل هذه العدة لا تستحق النفقة.
قال: وإذا أقر الرجل ان نكاح امرأته عليه حرام وقد دخل بها ففرق بينهما فلها المسمى من المهر ونفقة العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا باعتبار الظاهر وهو غير مصدق في إقراره بالحرمة في حقها وإنما يصدق في حق نفسه بابطال ملكه عنها فيجعل هذا في حقها كالطلاق فلها جميع المسمى ونفقة العدة.
قال: والتي زوجها عمها إذا اختارت نفسها بعد البلوغ وقد دخل بها الزوج فلها النفقة(5/371)
ص -182- ... ما دامت في العدة لأن الفرقة من جهتها بسبب حق مستحق لها وكذلك إذا فرق القاضي بينهما بعد الدخول لعدم الكفاءة فلها النفقة والسكني ما دامت في العدة لأن أصل النكاح كان صحيحا يتوارثان به إذا مات أحدهما والفرقة إذا جاءت بسبب حق مستحق لا تسقط به نفقتها.
قال: وإذا فرض القاضي للمرأة على زوجها النفقة فأعطاها فسرق منها لم يكن على الزوج أن يعطيها مرة أخرى ما لم يمض الوقت لأنها قد استوفت حق نفسها فدخل المستوفي في ضمانها كما إذا استوفت المهر ويكون الهلاك بعد ذلك عليها دون الزوج ولو أرسل بها إليها رسولا فقال الرسول قد أعطيتها إياها وجحدت هي كان القول قولها مع يمينها لأن رسول الزوج نائبه فدعواه أنه أعطاها كدعوى الزوج ذلك عليها ولو قال الزوج أعطيتها نفقتها وأنكرت هي الاستيفاء كان القول قولها مع يمينها فكذلك إذا أدعى الرسول أنه أعطاها ولو أقرت بالاستيفاء ثم ماتت قبل مضي المدة ففي حق الزوج في الاسترداد من التركة خلاف كما بينا فيما سبق ولا فرق بين أن يكون المقبوض بعينه قائما أو يكون مستهلكا على القولين جميعا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب حكم الولد عند افتراق الزوجين(5/372)
اعلم بأن الصغار لما بهم من العجز عن النظر لأنفسهم والقيام بحوائجهم جعل الشرع ولاية ذلك إلى من هو مشفق عليهم فجعل حق التصرف إلى الآباء لقوة رأيهم مع الشفقة والتصرف يستدعي قوة الرأي وجعل حق الحضانة إلى الأمهات لرفقهن في ذلك مع الشفقة وقدرتهن على ذلك بلزوم البيوت والظاهر أن الأم أحفى وأشفق من الأب على الولد فتتحمل في ذلك من المشقة ما لا يتحمله الأب وفي تفويض ذلك إليها زيادة منفعة للولد والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أن ولدي هذا قد كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وأن هذا يريد أن ينتزعه مني فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تتزوجي" ولما خاصم عمر أم عاصم بين يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه لينتزع عاصما منها قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه ريحها خير له من سمن وعسل عندك وفي رواية ريقها خير له يا عمر فدعه عندها حتى يشب وفي رواية دعه فريح لفاعها خير له من سمن وعسل عندك إذا عرفنا هذا فنقول إذا فارق الرجل امرأته ولهما ولد فالأم أحق بالولد أن يكون عندها حتى يستغني عنها فإن كان غلاما فحتى يأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده وفي نوادر داود بن رشيد ويستنجي وحده وإن كانت جارية فهي أحق بها حتى تحيض وكان القياس أن يستوي الغلام والجارية في ذلك وإذا استغنيا يكون الأب أحق بهما لأن للأم حق الحضانه وذلك ينتهي إذا استغنى عن ذلك والحاجة إلى الحفظ بعد ذلك والأب أقدر على الحفظ فإن المرأة تعجز عن حفظ نفسها وتحتاج إلى من يحفظها على ما قيل النساء لحم على وضم إلا ماذب عنهن فكيف تقدر على(5/373)
ص -183- ... حفظ غيرها ولكنا تركنا القياس فقلنا الجارية وإن استغنت عن التربية فقد احتاجت إلى تعلم الغزل والطبخ وغسل الثياب والأم على ذلك أقدر وإذا دفعت إلى الأب اختلطت بالرجال فيقل حياؤها والحياء في النساء زينة وإنما يبقى ذلك إذا كانت تحت ذيل أمها فكانت أحق بها حتى تحيض فإذا بلغت احتاجت إلى التزويج وولاية التزويج إلى الأب وصارت عرضة للفتنة ومطمعة للرجال وبالرجال من الغيرة ما ليس للنساء فيتمكن الأب من حفظها على وجه لا تتمكن الأم من ذلك وفي نوادر هشام عن محمد رحمه الله تعالى إذا بلغت حد الشهوة فالأب أحق بها للمعنى الذي أشرنا إليه وهو قوة غيرة الرجال فإن الأم ربما تخدع فتقع في فتنة ولا تشعر الأم بذلك ويؤمن ذلك على الأب فأما الغلام إذا استغنى فقد احتاج إلى تعلم أعمال الرجال والأب على ذلك أقدر واحتاج إلى من يثقفه ويؤدبه والأب هو الذي يقوى على ذلك ولأن صحبة النساء مفسدة للرجال فإذا ترك عندها ينكسر لسانه ويميل طبعه إلى طبع النساء فربما يجيء مخنثا فلهذا يدفع إلى الأب بعد ذلك وهذا مذهبنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالى يخير بين الأبوين فيدفع إلى من اختار الغلام صحبته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين الأبوين ولكنا نقول في هذا بناء الإلزام والحكم على قول الصبي وذلك لا يجوز ولأن الصبي في العادة يختار ما يضره لأنه يختار من لا يؤدبه ولا يمنعه شهوته والذي روى من الأثر فقد دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الغلام فقال اللهم سدده فببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار ما هو أنفع له ولا يوجد مثله في حق غيره والرضاع والنفقة على الوالد لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] يعني مؤنة الرضاع وهذا بخلاف حال قيام النكاح بينهما فإنها لا تستوجب الأجر على ارضاع الولد وإن استأجرها عندنا لأن في حال بقاء النكاح(5/374)
الرضاع من الأعمال المستحقة عليها دينا وبعد الفرقة ليس ذلك بمستحق عليها دينا ولا دينا وكما أن النفقة بعد الفطام على الأب لا يشاركه أحد في ذلك بإعتبار أن الولد جزء منه والإنفاق عليه كالإنفاق على نفسه فكذلك قبل الفطام مؤنة الرضاع عليه فإن كان يجد من يرضعه بأقل مما ترضعه المرأة ولم تأخذه المرأة بذلك استأجر الظئر لترضعه قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأنها قصدت الأضرار بالزوج في التحكم عليه وطلب الزيادة إلا أن الظئر تأتى فترضعه عند أمه وليس للأب أن يأخذ الولد منها لأن حق الحضانة لها فلا يملك الأب أبطال حقها وأن اخذته الأم بمثل ذلك فهي أحق به لأنها أشفق على الولد من الظئر ولبنها أوفق له والأب في هذا الموضوع قاصد إلى الإضرار والتعنت حين رضي بدفع مقدار إلى الظئر ولا رضي بدفع مثل ذلك إلى الأم فإن لم يكن وقع بينهما فرقة فلا أجر لها على الرضاع وأن أبت أن ترضع لم تكره على ذلك لأن المستحق عليها بالنكاح تسليم النفس إلى الزوج للاستمتاع وما سوى ذلك من الأعمال تؤمر به تدينا ولا تجبر عليه في الحكم نحو كنس البيت وغسل الثياب والطبخ والخبز فكذلك أرضاع الولد.(5/375)
ص -184- ... قال: وإن لم يكن للصبي أب وكان له أم وعم فالرضاع عليهما أثلاثا على قدر ميراثهما أن كانا موسرين لقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] مثل ذلك فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب فدل ذلك على أنه يكون على الورثة بحسب الميراث ولكن بعد أن يكون ذا رحم محرم ثبت ذلك بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك فإن قراءته لا تختلف عن روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان هذا إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/376)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال في النفقة بعد الفطام الجواب هكذا وكذلك فيما يحتاج إليه من النفقة قبل الفطام فأما الرضاع فإنه كله على الأم لأنها موسرة باللبن والعم معسر في ذلك ولكن في ظاهر الرواية قال قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسرا فيه فلهذا كان عليهما إثلاثا والأم أحق أن يكون عندها حتى يبلغ ما وصفنا فإن كان العم فقيرا والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم لأن النفقة على العم مستحقة في ماله لا في كسبه على ما نبينه في نفقة ذوي الأرحام إن شاء الله تعالى والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة بل هو كالمعدوم فكانت النفقة على الأم فإن كان له أم وأخ لأب وأم وعم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثا بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم لأنه ليس بوارث مع الأخ والغرم مقابل بالغنم وإنما يستحق على من يكون الغنم له إذا مات الولد والحاصل أن بعد الأب النفقة على كل ذي رحم محرم إذا كانوا أغنياء على حسب الميراث ومن كان منهم فقيرا لم يجبر على النفقة فإن تطوع بشيء فهو أفضل فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمه وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثا على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث لأن الأم الفقيرة كالمعدومة وبعدها الميراث بين العمة والخالة أثلاثا فكذا النفقة عليهما وعلى هذا لو كان له بن عم هو وارثه فإن بن العم ليس بذى رحم محرم فلا شيء عليه من النفقة بل يجعل هو في حق النفقة كالمعدوم وتكون النفقة على العمة والخالة أثلاثا وإن كان الميراث لابن العم وكذلك كل عصبة ليس بذي رحم محرم فلا نفقة عليه وإن كان الميراث له ألا ترى أن مولى العتاقة عصبة في حق الميراث ولا نفقة عليه فكذلك من ليس بمحرم من الأقارب.(5/377)
قال: ويؤمر الموسر والوسط لولده إذا كانوا أكثر من واحد بخادم فإن لم يكفهم فخادمان يقومان عليهم في خدمتهم لأن هذا من جملة كفايتهم فتكون على الأب كالنفقة والكسوة إلا أن المعسر عاجز عن ذلك والتكليف بحسب الوسع فأما الموسر ووسط الحال يقدر على ذلك فيؤمر من ذلك بما تقع به الكفاية.
قال: فإن تزوجت الأم فللأب أن يأخذ الولد منها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تتزوجي" فإنما جعل الحق لها إلي أن تتزوج وحكم ما بعد الغاية مخالف لما قبل ذلك ولأنها لما تزوجت فقد اشتغلت بخدمة زوجها فلا تتفرغ لتربية الولد والولد في العادة يلحقه الجفاء والمذلة من زوج الأم فكان للأب أن لا يرضى بذلك فيأخذ الولد منها.(5/378)
ص -185- ... قال: وأم الأم في ذلك سواء بمنزلة الأم بعدها لأن حق الحضانة بسبب الأمومة وهي أم تدلي بأم فهي أولى من أم الأب لأنها تدلى بقرابة الأب وقرابة الأم في الحضانة مقدمة على قرابة الأب.
قال: ويستوي أن كانت الأم مسلمة أو كتابية أو مجوسية لأن حق الحضانة لها للشفقة على الولد ولا يختلف ذلك باختلاف الدين على ما قيل كل شيء يحب ولده حتى الحباري ومن مشايخنا من يقول إذا كانت كافرة فعقل الولد فإنه يؤخذ منها جارية كانت أو غلاما لأنه مسلم بإسلام الأب وأنها تعلمها الكفر فلا تؤمن من الفتنة إذا تركت عندها فلهذا تؤخذ منها فإن كان لأم الأم زوج نظرنا فإن كان زوجها جد الولد فهي أحق به لأن جد الولد يكون مشفقا عليه ولا يلحقه الأذى والجفاء من جهته وإن كان أجنبيا فلا حق لها في الولد كالأم إذا تزوجت أجنبيا.(5/379)
قال: وأم الأب بعدها أحق بهم عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى الأخت من الأب والأم أو من الأم أو الخالة أحق من الجدة أم الأب لأنها تدلي بقرابة الأب ومن سمينا بقرابة الأم واستحقاق الحضانة باعتبار قرابة الأم ولكنا نقول هذه أم في نفسها كأم الأم والأم مقدمة على غيرها في الحضانة ثم أصل الشفقة باعتبار الولاد وذلك للجدات دون الأخوات والخالات فلهذا كانت أم الأب أحق وإن كان لها زوج فإن كان زوجها جد الولد فكذلك وإن كان زوجها أجنبيا أو كانت هي ميتة فحق الحضانة إلى الأخوات والأخت لأب وأم أولى من الأخت لأم وعلى قول زفر رحمه الله تعالى هما مستويتان لأن ثبوت هذا الحق بقرابة الأم وهما سواء في ذلك ولكنا نقول قرابة الأخت لأب وأم من جهتين والشفقة بالقرابة فذو القرابتين يكون أشفق فكان بالحضانة أحق ويجوز أن يقع الترجيح بما لا يكون علة الاستحقاق ألا ترى أن الأخ لأب وأم مقدم في العصوبة على الأخ لأب بسبب قرابة الأم وقرابة الأم ليست بسبب لاستحقاق العصوبة بها ثم الآخت لأم تقدم على الأخت لأب لأن استحقاق الحضانة بقرابة الأم وهي تدلي بقرابة الأم والأخرى إنما تدلي بقرابة الأب ثم بعد الأخت لأم قال في كتاب النكاح الأخت لأب أولى من الخالة وفي كتاب الطلاق قال الخالة أولى من الأخت لأب ففي رواية كتاب النكاح اعتبر قرب القرابة والأخت لأب أقرب لأنها ولد الأب والخالة ولد الجد وفي كتاب الطلاق اعتبر المدلي به فقال الخالة تدلي بالأم والأخت لأب تدلي بالأب والأم في حق الحضانة مقدمة على الأب فكذلك من يدلى بقرابة الأم يكون مقدما على من يدلى بقرابة الأب ثم بعد الأخوات بناتهن على الترتيب الذي ذكرنا في الأخوات وبنات الأخوات في الحضانة أحق من بنات الأخوة لأن المدلى به في بنات الأخوة لم يكن له حق في الحضانة بخلاف بنات الأخوات ثم بعدهن الخالة لأب وأم ثم بعدها الخالة لأب والدليل على ثبوت حق الحضانة للخالات ما روى أن علي بن(5/380)
أبي طالب وجعفرا وزيد بن حارثة رضي الله عنهم اختصموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة رضي الله عنه فقال علي(5/381)
ص -186- ... رضي الله عنه بنت عمي فأنا أحق بها وقال جعفر رضي الله عنه ابنة عمى وخالتها عندي وقال زيد بن حارثة رضي الله عنه ابنة أخي آخيت بيني وبينه يا رسول الله فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله عنه فقال: "الخالة أم" والترتيب في الخالات على قياس الترتيب في الأخوات وهن أحق بالحضانة من العمات لأن الخالة تدلى بالأم والعمة تدلى بالأب واستحقاق الحضانة بقرابة الأم فلهذا قدمت الخالة في ذلك على العمة ثم بعد الخالات العمات فالتي من الأب والأم تقدم ثم بعدها التي من الأم ثم التي من الأب على قياس الخالات وبنت الأخ أولى من العمات لأن كل واحدة منهما تدلى بمن لا حق له في الحضانة ولكن بنت الأخ أقرب والخالة أولى من بنت الأخ لأن الخالة تدلى بمن لها حق في الحضانة وهي الأم وابنة الأخ تدلي بمن ليس له حق في الحضانة فلهذا كانت الخالة أحق.
قال: وليس لمن سوى الأم والجدتين حق في الولد إذا أكل وشرب ولبس وحده جارية كانت أو غلاما لأن ترك الجارية عند الأم والجدتين لتعليم أعمال داخل البيت وإنما يتأتي ذلك بالاستخدام وللأم والجدتين حق الاستخدام وليس لغيرهن ممن سمينا حق الاستخدام ولا يحصل مقصود تعليم الأعمال إلا بذلك فلهذا أخذ منهن ثم بعد ما استغنى الغلام أو حاضت الجارية عند الأم والجدتين أو استغنت عند غيرهن فالأب أحق بالولد ثم بعده الجدات لأب ثم الأخ من الأب والأم ثم الأخ من الأب لأن ولاية الضم إلى نفسه بعد هذا باعتبار العصوبة فمن يكون مقدما في العصوبة من ذي الرحم المحرم أولى بذلك وقد بينا ترتيب العصبات في أول الكتاب ولا حق لابن العم في ذلك لأنه رحم غير محرم فلا يؤمن منه أن يطمع فيها فلهذا لا يكون له أن يضمها وأن كانت ولاية التزويج له باعتبار العصوبة.(5/382)
قال: وإذا اجتمع أخوة لأب وأم فأفضلهم صلاحا وورعا أحق به لأن ضمه إلى أقرب العصبات لمنفعة الولد ولهذا قدم الأقرب وضمه إلى أبينهم صلاحا أنفع للولد لأنه يتخلق بأخلاقه فإن كانوا في ذلك سواء فأكبرهم أحق لقوله صلى الله عليه وسلم: "الكبر الكبر" ولأن حق أكبرهم أسرع ثبوتا فعند التعارض يترجح ذلك وكذلك الأعمام بعد الأخوة ثم الغلام إذا بلغ رشيدا فله أن ينفرد بالسكنى وليس للأب أن يضمه إلى نفسه إلا أن يكون مفسدا مخوفا عليه فحينئذ له أن يضمه إلى نفسه اعتبارا لنفسه بماله فإنه بعد ما بلغ رشيدا لا يبقى للأب يد في ماله فكذلك في نفسه وإذا بلغ مبذرا كان للأب ولاية حفظ ماله فكذلك له أن يضمه إلى نفسه أما لدفع الفتنة أو لدفع العار عن نفسه فإنه يعير بفساد ولده فأما الجارية إذا كانت بكرا فللأب أن يضمها إلى نفسه بعد البلوغ لأنها لم تختبر الرجال فتكون سريعة الانخداع فأما إذا كانت ثيبا فلها إن تنفرد بالسكنى لأنها قد اختبرت الرجال وعرفت كيدهم ومكرهم فليس للأب أن يضمها إلى نفسه بعد البلوغ لأن ولايته قد زالت بالبلوغ وإنما بقي حق الضم في البكر لأنها عرضة للفتنة وللانخداع وذلك غير موجود في حق الثيب والأصل فيه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم(5/383)
ص -187- ... أنه قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" وقال صلى الله عليه وسلم "الثيب أحق بنفسها من وليها" يعني في التفرد بالسكنى ولكن هذا إذا كانت مأمونة على نفسها.
وذكر في كتاب الطلاق أن الثيب إذا كانت مخوفة على نفسها لا يوثق بها فللأب أن يضمها إلى نفسه لبقاء الخوف وقد بينا أن ولاية الضم في البكر لكونها مخوفا عليها فإذا وجد ذلك في حق الثيب كان له أن يضمها إلى نفسه وإما البكر فإن لم يكن لها أب ولا جد وكان لها أخ أو عم فله أن يضمها إليه أيضا لأنه مشفق عليها فيقوم بحفظها وإن كانت لا تبلغ شفقته شفقة الأب بمنزلة ولاية التزويج يثبت للعم والأخ بعد الأب والجد فإن كان أخوها أو عمها مفسدا مخوفا لم يخل بينه وبينها لأن ضمها إليه لدفع الفتنة فإذا كان سببا للفتنة لم يكن له حق ضمها إليه بل يجعل هو كالمعدوم فتكون ولاية النظر بعد ذلك إلى القاضي ينظر امرأة من المسلمين ثقة فيضعها عندها وكما يثبت للقاضي ولاية النظر في مالها عند عجزها عن ذلك فكذلك في حق نفسها فإن كانت البكر قد دخلت في السن فاجتمع لها رأيها وعقلها وأخوها أو عمها مخوف عليها فلها أن تنزل حيث شاءت في مكان لا يخاف عليها لأن الضم كان لخوف الفتنة بسبب الانخداع وفرط الشبق وقد زال ذلك حين دخلت في السن واجتمع لها رأيها وعقلها.
قال: وأم الولد إذا أعتقها مولاها في الولد بمنزلة الحرة المطلقة لأن ثبوت هذا الحق للأم باعتبار شفقتها على الولد وذلك موجود في حق أم الولد بل شفقتهن على أولادهن أظهر من شفقة الحرائر لأن الولد كان سبب عتقها إلا أن قبل العتق ليس لها حق الحضانة لاشتغالها بخدمة مولاها ولأنها مملوكة لا على نفسها وحق الحضانة نوع ولاية فكما لا يثبت سائر الولايات للرقيق فكذلك في الحضانة وهذا المعنى يزول بالعتق فكانت في الحضانة بعد العتق كالحرة الأصلية.(5/384)
قال: والأمة إذا فارقها زوجها فإن الولد رقيق لمولى الأمة يأخذهم المولى وهو أولى بهم من الأب لأن الولد تبع الأم في الملك والمملوك مالكه أحق من غيره وكذلك إذا كان الزوج حرا لم يفارق أمه فالمولى أولى بالولد لكونه مملوكا له ولكن لا ينبغي أن يفرق بين الولد الصغير وبين أمه لقوله صلى الله عليه وسلم "من فرق بين والدة وولدها فرق الله تعالى بينه وبين أحبته يوم القيامة" والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب متاع البيت
قال: رضي الله عنه وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما كان للنساء كالدرع والخمار والمغازل وما أشبه ذلك فهو للمرأة وما كان للرجال كالسلاح والقباء والقلنسوة والمنطقة والطيلسان والسراويل والفرس فهو للرجل وما كان للرجال والنساء كالخادم والعبد والشاة والفرش فهو للرجل في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن كانا حيين وأن مات أحدهما ووقع الاختلاف بين الحي منهما وورثة الميت فهو للباقي منهما أيهما كان وقال محمد رحمه الله تعالى ما يصلح للرجال والنساء فهو للرجل أن كان حيا ولورثته إن كان ميتا وقال أبو(5/385)
ص -188- ... يوسف رحمه الله تعالى تعطى المرأة جهاز مثلها والباقي للرجل استحسن ذلك وقال بن أبي ليلى ما يصلح للرجال والنساء فهو للزوج إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا وإنما لها ما يصلح للنساء خاصة وعلى قول بن شبرمة المتاع كله للرجل إلا ما على المرأة من ثياب بدنها وقال زفر رحمه الله تعالى المتاع بينهما نصفان إذا لم تقم لواحد منهما بينة وهو قول مالك رحمه الله تعالى واحد أقاويل الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي قول آخر المشكل بينهما نصفان وعلى قول الحسن البصري أن كان البيت بيت المرأة فالمتاع كله لها إلا ما على الزوج من ثياب بدنه وإن كان البيت بيت الزوج فالمتاع كله له لأن يد صاحب البيت على ما في البيت أقوى وأظهر من يد غيره ولأن المرأة ساكنة البيت ألا ترى أنها تسمى قعيدة فإذا كان البيت لها فالبيت مع ما فيه في يدها وعند دعوى مطلق الملك القول قول ذي اليد ومن يقول المتاع كله للزوج قال لأن المرأة في يد الزوج فما في بيتها يكون في يد الزوج أيضا ألا ترى أنه صاحب البيت وأن المنزل يضاف إليه ولهذا لو تنازع رجلان في امرأة وهي في بيت أحدهما فأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى ويكون هذا بمنزلة الأجير مع المستأجر إذا اختلفا في متاع الحانوت فالقول قول المستأجر وليس للأجير إلا ما عليه من ثياب بدنة فهذا مثله ومن يقول الكل بينهما نصفان يقول استويا في سبب الاستحقاق لأنهما ساكنان في البيت فالبيت مع ما فيه يكون في يدهما ولا معتبر في الدعوى والخصومات بالشبه ألا ترى أن اسكافا وعطارا لو تنازعا في آلات الإسكافة أو الآت العطارين وهو في أيديهما قضى بينهما نصفان ولا ينظر إلى ما يصلح لكل واحد منهما وهذا لأن الإنسان قد يتخذ الشيء لاستعماله وقد يتخذه ليتجر فيه فكذلك هذا ومن يقول أن المشكل بينهما يقول لكل واحد منهما فيما يصلح له نوع ترجيح من حيث أن الظاهر أنه هو الذي اتخذه لاستعماله فيترجح به كما لو تنازع صاحب(5/386)
الدار مع سكانها في لوح موضوع في الدار ونقشه يشبه نقش الألواح التي في السقف وموضعه من السقف ظاهر فإن القول قول صاحب الدار لأجل شهادة الظاهر له وإن لم يكن بهذه الصفة فالقول قول الساكن كسائر الأمتعة فأما في المشكل لا ترجيح لواحد منهما فيعتبر فيه المساواة في سبب الاستحقاق فيكون بينهما نصفان.
وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول القياس أن يكون الكل للزوج لأن المرأة مع ما في يدها في يد الزوج إلا أن الظاهر أنها لا تزف إلى بيت زوجها إلا مع جهاز مثلها ففي مقدار جهاز مثلها يترك القياس للعرف الظاهر ويجعل ذلك لها وفيما زاد على ذلك القول قول الزوج بطريق القياس الذي قلنا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ما يصلح للرجال فهو قريب من استعمال الرجل وما يصلح للنساء فهو قريب من استعمالها والاستعمال يد حتى لو تنازع رجلان في ثوب واحد وأحدهما لابسه والآخر متعلق بذيله أو تنازعا في دابة واحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها يجعل القول قول المستعمل فكانت يد المستعمل هنا أقوى فيما هو صالح(5/387)
ص -189- ... لأحدهما فأما فيما يصلح لهما فيترجح جانب الرجل في الطلاق لأنه صاحب البيت فقد كانت هي مع المتاع في يده فأما بعد موت أحدهما قال محمد رحمه الله تعالى ورثة الزوج يقومون مقام الزوج فكما أن في المشكل القول قوله في حياته فكذلك بعد موته القول قول ورثته وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يد الباقي منهما إلى المتاع أسبق لأن الوارث إنما يثبت يده بعد موت المورث وكما يقع الترجيح هنا بقوة اليد لصلاحية الاستعمال فكذا يقع الترجيح بسبق اليد ولأن يد الباقي منهما يد نفسه ويد الوارث قائمة مقام يد مورثه فلهذا النوع من الترجيح كان المشكل للباقي منهما أيهما كان وما كان من متاع التجارة والرجل معروف بتلك التجارة فهو للرجل والجبة المحشوة وجبة القز والخز والبرود فهو للرجل إذا كانت ذات لبة لأن هذا مما يستعمله الرجال دون النساء والمستقة والبركان المعلم مما يكون للرجال والنساء جميعا.(5/388)
وإن كان أحد الزوجين حرا والآخر مملوكا أو مكاتبا فالمتاع للحر منهما أيهما كان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هذا وما لو كانا حرين سواء على ما بينا في الفصل الأول من قول كل واحد منهما وإنما نص على هذا الخلاف في الجامع الصغير وجه قولهما أن المملوك بمنزلة الحر في الاستحقاق باليد لأن له يدا معتبرة ألا ترى أنه لو تنازع حر ومملوك في متاع في يدهما كان بينهما نصفان ولا تترجح يد الحر بحريته فكذلك هذا ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول يد الحر أقوى فإنها يد ملك ويد العبد ليست بيد ملك فكما يقع الترجيح هنا بقوة اليد يقع بالقرب من الاستعمال بخلاف سائر الدعاوي والخصومات فكذلك يقع الترجيح هنا بقوة اليد بالحرية توضيحه أن يد الحر يد نفسه ويد العبد من وجه كأنها يد مولاه وقد بينا أن الترجيح هنا باعتبار أن يده يد نفسه كما بعد موت أحدهما وأن كان أحدهما كافرا والآخر مسلما فالمسلم والكافر في ذلك سواء لأنهما في قوة اليد يستويان فإن يد كل واحد منهما يد نفسه وهي يد ملك فيستويان في الاستحقاق ويستوي أن وقعت المنازعة بينهما في حال قيام النكاح أو بعد وقوع الفرقة بأي وجه وقعت الفرقة بينهما سواء كانت الفرقة من قبل الزوج أو من قبل المرأة وأن كانت أمة فأعتقت فاختارت نفسها فما عرف أنه كان في البيت قبل أن تعتق فهو للرجل عند أبي حنيفة بمنزلة ما لو وقعت المنازعة في ذلك قبل عتقها وما أحدثا بعد العتق قبل أن تختار نفسها فهو على ما بينا في الطلاق لأن يدها بالعتق تتقوى فتستوي بيد الرجل فيما أحدث بعد العتق.(5/389)
قال: فإن كان له نسوة فوقع الاختلاف بينه وبينهن فإن كن في بيت واحد فمتاع النسوة بينهن سواء للمساواة بينهن في سبب الاستحقاق وهو القرب من الاستعمال وقوة اليد بسببه وإن كانت كل واحدة منهن في بيت واحد فما في بيت كل واحدة منهن بينها وبين زوجها على ما وصفنا ولا يشارك بعضهن بعضا لأنه لا يد لكل واحدة منهن فيما في بيت ضرتها فلا تستحق شيئا من ذلك إلا بحجة.(5/390)
ص -190- ... قال: وإذا أقرت المرأة بمتاع أن الرجل اشتراه فهو للرجل لأن الشراء سبب موجب للملك وقد أقرت له بمباشرة هذا السبب ولأن ما أقرت به كالمعاين ولو عايناه اشترى شيئا كان ذلك مملوكا له فكذلك إذا أقرت هي بشرائه.
قال: وإذا مات الرجل فقالت الورثة للمرأة قد كان طلقك في حياته ثلاثا وأرادوا أن يأخذوا منها المشكل لم يصدقوا على ذلك وهذا التفريع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه يقول إذا وقعت الفرقة بالطلاق ففي المشكل القول قول الزوج وإذا وقعت بالموت ففي المشكل القول قول الباقي منهما ثم هنا الورثة يدعون طلاقا لم يظهر سببه فلا يقبل قولهم في ذلك إلا بحجة ألا ترى أنهم لو أرادوا منع ميراثها بهذه الدعوى لم يقبل قولهم في ذلك ولأن القول قولها بعد ما تحلف بالله أنها ما تعلم أنه طلقها لأنها لو أقرت بالطلاق لزمها فإذا أنكرت حلفت عليه ولكن الاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم فإن علم أنه طلقها في صحته ثلاثا ثم مات أو طلقها في مرضه ثلاثا ثم مات بعد انقضاء العدة ففي المشكل القول قول ورثة الزوج لأنها صارت أجنبية بهذا الطلاق ولو وقعت المنازعة بينهما في المشكل بعد الطلاق كان القول فيه قول الزوج فكذلك بعد موته القول فيه قول ورثته وإن مات قبل أن تنقضي العدة فهو للمرأة لأن الطلاق في المرض لا يجعلها أجنبية ما لم تنقضي عدتها ألا ترى أنها ترثه بالزوجية إذا مات فكان هذا وما لو وقعت الفرقة بينهما بالموت سواء فلهذا كان القول في المشكل قولها وإن كانا مملوكين أو مكاتبين أو كافرين فالقول في المتاع على ما وصفنا في الحرين المسلمين لأن هذا من باب الدعوى والخصومة والكفار والمماليك في ذلك يستوون بالإحرار المسلمين كما في سائر الخصومات والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب القسمة بين النساء(5/391)
اعلم بأن الزوج مأمور بالعدل في القسمة فيما بين النساء وذلك ثابت بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] إلى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] معناه إن لا تجوروا وذكر الشافعي رحمه الله تعالى في أحكام القرآن أن معناه أن لا تكثر عيالكم وهذا مخالف لقول السلف فالمنقول عنهم أن لا تميلوا ومع ذلك فهو خطأ من حيث اللغة فإنه لو كان المراد كثرة العيال لكان يقول أن لا تعيلوا يقال عال إذا مال وأعال إذا صار معيلا ومن حيث المعنى كذلك أيضا غلطا فإنه أمر بالإكتفاء بالواحدة واتخاذ ما بينا من ملك اليمين عند هذا الجور ومعنى كثرة العيال ووجوب النفقة يحصل في ملك اليمين كما يحصل في ملك النكاح وإنما ينعدم في ملك اليمين استحقاق التسوية في القسمة وأما السنة فما روى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه وكان يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعني من زيادة المحبة لبعضهن وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له زوجتان فمال إلى(5/392)
ص -191- ... إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" ولأن النساء رعاياه ألا ترى أنه يحفظهن وينفق عليهن وكل راع مأمور بالعدل في رعيته وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" إذا عرفنا هذا فنقول إذا كان للرجل الحر أو المملوك امرأتان حرتان فإنه يكون عند كل واحدة منهما يوما وليلة وإن شاء أن يجعل لكل واحدة منهما ثلاثة أيام فعل لأن المستحق عليه التسوية فأما في مقدار الدور فالاختيار إليه وهذه التسوية في البيتوتة عندها للصحبة والمؤانسة لا في المجامعة لأن ذلك ينبني على النشاط ولا يقدر على اعتبار المساواة فيه فهو نظير المحبة في القلب وروى عن الأشعث بن الحكم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها حين دخل بها "أن شئت سبعت لك وسبعت لهن" زاد في بعض الروايات "أن شئت ثلثت لك وثلثت لهن" وفي رواية "وأن شئت ثلثت لك ثم درت" وبهذا الحديث أخذ علماؤنا فقالوا الجديدة والقديمة في حكم القسم سواء بكرا كانت الجديدة أو ثيبا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن كانت بكرا يفضلها بسبع ليال وأن كانت ثيبا فثلاث ليال ثم التسوية بعد ذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفضل البكر بسبع والثيب بثلاث" ولأن القديمة قد ألفت صحبته وأنست به والجديدة ما ألفت ذلك بل فيها نوع نفرة ووحشة فينبغي أن يزيل ذلك عنها ببعض الصحبة لتستوي بالقديمة في الألف ثم المساواة بعد ذلك فإذا كانت بكرا ففيها زيادة نفرة عن الرجال فيفضلها بسبع ليال وإذا كانت ثيبا فهي قد صحبت الرجال وإنما لم تصحبه خاصة فيكفيها ثلاث ليال لتأنس بصحبته وحجتنا في ذلك أن سبب وجوب التسوية اجتماعها في نكاحه وقد تحقق ذلك بنفس العقد ولو وجب تفضيل إحداهما كانت القديمة أولى بذلك لأن الوحشة في جانبها أكثر حيث أدخل غيرها عليها فإن ذلك يغيظها عادة ولأن للقديمة زيادة حرمة(5/393)
بسبب الخدمة كما يقال لكل جديد لذة ولكل قديم حرمة وأما الحديث فالمراد التفضيل بالبداية دون الزيادة كما ذكر في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن شئت سبعت لك وسبعت لهن وقوله أن شئت ثلثت لك ثم درت أي أخبرت بمثل ذلك على كل واحدة منهن ونحن نقول به أن للزوج أن يبدأ بالجديدة لما له في ذلك من اللذة ولكن بعد أن يسوي بينهما.
قال: والمسلمة والكافرة والمراهقة والمجنونة والبالغة في استحقاق القسم سواء للمساواة بينهن في سبب هذا الحق وهو الحل الثابت بالنكاح فلا ينبغي أن يقيم عند إحداهن أكثر مما يقيم عند الآخرى إلا أن تأذن له فيه لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه في مرضه أن يكون في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فأذن له في ذلك فكان في بيتها حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ففي هذا دليل على أن الصحيح والمريض في القسم سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم في أول مرضه كان يكون عند كل واحدة منهن ثم لما شق ذلك عليه استأذنهن في أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها فدل ذلك على أن الصحيح والمريض سواء وأن عند الأذن له أن يقيم عند(5/394)
ص -192- ... إحداهن فأما الأمة والمكاتبة والمدبرة وأم الولد تكون زوجة الرجل فيتزوج عليها حرة فللحرة يومان وللأمة يوم واحد لحديث علي رضي الله تعالى عنه على ما روينا قال وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث ولأن حل الأمة على النصف من حل الحرة واستحقاق القسم باعتبار ذلك والرق في المكاتبة والمدبرة وأم الولد قائم.
قال: وإن سافر الرجل مع إحدى امرأتيه لحج أو غيره فلما قدم طالبته الثانية أن يقيم عندها مثل المدة التي كان فيها مع الآخرى في السفر لم يكن لها ذلك ولم يحتسب عليه بأيام سفره مع التي كانت معه ولكنه يستقبل العدل بينهن والكلام هنا في فصلين أحدهما أن له أن يسافر بأيتهما شاء من غير إقراع بينهما عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ليس له ذلك إلا أن يقرع بينهما لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه قالت عائشة رضي الله عنها وأصابتني القرعة في السفرة التي أصابني فيها ما أصابني وحجتنا في ذلك أنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج ألا ترى أن له أن يسافر ولا يستصحب واحدة منهن فليس عليه التسوية بينهن في حالة السفر وإنما كان يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه وبه نقول أن ذلك مستحب للزوج ثم إذا سافر ببعضهن ليس للباقين بعد الرجوع الاحتساب عليه بتلك المدة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أن سافر ببعضهن بغير اقتراع فذلك محسوب عليه في حق الأخرى بناء على أصله أن الإقراع مستحق عليه فإذا لم يفعل ذلك كانت مدة سفره نوبة التي كانت معه فينبغي أن يكون عند الآخرى مثل ذلك ليتحقق العدل ولكنا نقول وجوب التسوية في وقت استحقاق القسم عليه وقد بينا أنه لا حق للمرأة في القسم في حال سفر الزوج فلا يلزمه مراعاة التسوية باعتبار تلك المدة كما إذا سافر بها بالقرعة إلا ترى أنه في حالة الحضر لا فرق بين أن تكون البداية(5/395)
باقراع أو بغير إقراع فكذلك في السفر. قال: ولو أقام عند إحداهما شهرا ثم خاصمته الأخرى في ذلك قضى عليه أن يستقبل العدل بينهما وما مضى فهو هدر غير أنه هو فيه آثم لأن القسمة تكون بعد الطلب من كل واحدة منهما فما مضى قبل الطلب ليس من القسمة في شيء والواجب عليه العدل في القسمة ألا ترى أن ما مضى قبل نكاح أحداهما لا يعتبر في حق التي جدد نكاحها فكذلك ما مضى قبل طلبها.
قال: فإن عاد إلى الجور بعد ما نهاه القاضي أوجعه عقوبة وأمره بالعدل لأنه أساء الأدب فيما صنع وارتكب ما هو حرام عليه وهو الجور فيعذر في ذلك ويؤمر بالعدل.
قال: ولو كان عند الرجل امرأة فدخلت في سنها أي كبرت فأراد أن يستبدل بها شابة فطلبت أن يمسكها ويتزوج بالأخرى ويقيم عند التي تزوج أياما ويقيم عندها يوما فتزوج على هذا الشرط كان جائزا لا بأس به لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} [النساء: 128] نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما الآية قال علي رضي الله عنه إنما نزلت هذه الآية في هذا وبلغنا عن(5/396)
ص -193- ... رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها حين طعنت في السن اعتدى فسألته لوجه الله تعالى أن يراجعها ويجعل يوم نوبتها لعائشة رضي الله عنها لكي تحشر يوم القيامة مع أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ففعل.
قال: ولا بأس بأن يقيم الرجل عند إحدى امرأتيه أكثر مما يقيم عند الأخرى إذا أذنت له لما روينا من الحديث في مقامه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها بأذنهن رضي الله عنهن ولقول ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] الآية قال هذا في الحب فأما في القسم فينبغي أن يعدل ولا يفضل أحداهما إلا بإذن الأخرى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} [النساء: 128] مثل قول علي رضي الله تعالى عنه وكان المعنى فيه أن التي رضيت أسقطت حق نفسها وهي من أهل أن تسقط حقها ألا أن هذا الرضا ليس يلزمها شيئا حتى إذا أرادت أن ترجع وتطالب بالعدل في القسم فلها ذلك.
قال: وإذا أقام عند امرأته الأمة يوما ثم أعتقت لم يقم عند الحرة الأخرى إلا يوما واحدا لأن المعتقة استوت بالحرة في السبب فعليه مراعاة التسوية بينهما في القسم وتجعل حريتها عند انتهاء النوبة إليها بمنزلة حريتها عند ابتداء النوبة ولو أقام عند الحرة يوما ثم أعتقت تحول عنها إلى المعتقة لأنها قد إستوت بها فليس له أن يفضل الحرة بشيء بعد ما استوت المعتقة بها.(5/397)
قال: وإذا كان للرجل امرأة واحدة فكان يقوم الليل ويصوم النهار فاستعدت عليه امرأته فإنه يؤمر بأن يبت معها ويفطر لها وبلغنا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لكعب بن سور اقض بينهما فقال أراها إحدى نسائه الأربع لهن ثلاثة أيام ولياليها ولها يوم وليلة وقصة هذا الحديث أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقالت أن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل فقال نعم الرجل زوجك فأعادت كلامها مرارا في كل ذلك يجيبها عمر رضي الله عنه بهذا فقال كعب بن سور يا أمير المؤمنين أنها تشكو من زوجها في أنه هجر من صحبتها فتعجب عمر رضي الله تعالى عنه من فطنته وقال اقض بينهما فقضى كعب رضي الله تعالى عنه بما ذكر فولاه عمر رضي الله تعالى عنه قضاء البصرة ثم في ظاهر الرواية لا يتعين حقها في يوم وليلة من كل أربع ليال ولكن يؤمر الزوج بأن يراعى قلبها ويبيت معها أحيانا وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى قال إذا كان للرجل امرأة واحدة فاشتغل عنها بالصيام والقيام أو بصحبة الإماء فخاصمته في ذلك قضى القاضي لها بليلة من كل أربع ليال لحديث كعب بن سور ولأن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاث ليال بأن يتزوج ثلاثا سواها وليس له أن يسقط حقها أكثر من ذلك وجه ظاهر الرواية أن القسمة والعدل إنما يكون عند المزاحمة ولا مزاحمة هنا حين لم يكن في نكاحه إلا واحدة أرأيت لو كان تحته أربع نسوة أكان يستحق عليه يوم وليلة من أربعة لكل واحدة منهن فلا يشتغل بالصيام والقيام أبدا حتى لا يصوم(5/398)
ص -194- ... لا رمضان ولا غيره هذا ليس بشيء والصحيح أنه يؤمر بأن يؤنسها بصحبته أحيانا من غير أن يكون في ذلك شيء مؤقت وهذا لأن عند المزاحمة تلحق كل واحدة منهما المغايظة لمقامه عند الأخرى فيستحق عليه التسوية ولا يوجد ذلك عند عدم المزاحمة.
قال: وإذا تزوج امرأتين على أن يقيم عند إحداهما يوما والأخرى يومين ثم طلبت التي لها اليوم أن يعدل بينهما فلها ذلك لما بينا أنها رضيت بترك العدل فيما مضى من المدة فلا يلزمها ذلك في المستقبل شيئا ولأن هذا الشرط مخالف لحكم الشرع وهو باطل لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل".
قال: والمجبوب والخصى والعنين في القسمة سواء بين النساء لما بينا أن وجوب القسم والعدل للصحبة والمؤانسة دون المجامعة وحال هؤلاء في هذا كحال الفحل وكذلك الغلام الذي لم يحتلم إذا دخل بامرأتين فإنه يسوي بينهما في القسم لأن وجوب التسوية لحق النساء وحقوق العباد تتوجه على الصبيان عند تقرر السبب كما يتوجه على البالغين.
قال: وإذا جعلت المرأة لزوجها جعلا على أن يزيدها في القسم يوما ففعل لم يجز وترجع في ماله لأنها رشته على أن بحور والرشوة حرام وهذا بمنزلة الرشوة في الحكم وهو من السحت فلهذا تسترد ما أعطت وعليه التسوية في القسم وكذلك لو حطت له شيئا من المهر على هذا الشرط أو زادها الزوج في مهرها أو جعل لها جعلا على أن تجعل نوبتها لفلانة فهذا كله باطل لأنها بهذا لا يملك الزوج شيئا فلا تستوجب عليه المال بمقابلته ولأنها أخذت الرشوة على أن ترضى بالجور وذلك حرام فكان الجعل مردودا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب نفقة ذوي الأرحام(5/399)
قال: رضي الله عنه ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وأمه إذا كانا محتاجين لقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] نهى عن التأفيف لمعنى الأذى ومعنى الأذى في منع النفقة عند حاجتهما أكثر ولهذا يلزمه نفقتهما وإن كانا قادرين على الكسب لأن معنى الأذى في الكد والتعب أكثر منه في التأفيف وقال صلى الله عليه وسلم: "أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وأن ولده لمن كسبه فكلوا مما كسب أولادكم" وإذا كان الأولاد ذكورا وأناثا موسرين فنفقة الأبوين عليهم بالسوية في أظهر الروايتين وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن النفقة بين الذكور والأناث للذكر مثل حظ الانثيين على قياس الميراث وعلى قياس نفقة ذوي الأرحام ووجه الرواية الأخرى أن استحقاق الأبوين النفقة باعتبار التأويل وحق الملك لهما في مال الولد كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وفي هذا الذكور والأناث سواء ولهذا يثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف الملة وأن انعدم التوارث بسبب اختلاف الملة.
قال: وإن كان الولد معسرا وهما معسران فليس عليه نفقتهما لأنهما لما استويا في الحال لم يكن أحدهما بإيجاب نفقته على صاحبه بأولى من الآخر إلا أنه روى عن أبي يوسف(5/400)
ص -195- ... رحمه الله تعالى قال إذا كان الأب زمنا وكسب الابن لا يفضل عن نفقته فعليه أن يضم الأب إلى نفسه لأنه لو لم يفعل ضاع الأب ولو فعل ذلك لا يخشى الهلاك على الولد والإنسان لا يهلك على نصف بطنه.
قال: وكذلك الجد أب الأب والجدة أم الأم وأم الأب لأنهم من الوالدين وحالهم في استحقاق النفقة كحال الأبوين ألا ترى أن التأويل في مال النافلة يثبت للجد عند عدم الأب كما يثبت للأب.
قال: ويجبر الرجل على نفقة أولاده الصغار لقوله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] والنفقة بعد الفطام بمنزلة مؤنة الرضاع قبل ذلك ولأن الولد جزء من الأب فتكون نفقته عليه كنفقته على نفسه ثم في ظاهر الرواية لا يشارك الأب في النفقة أحد وقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن النفقة على الأب والأم أثلاثا بحسب ميراثهما من الولد فأما في ظاهر الرواية كما لا يشارك الأب في مؤنة الرضاع أحد فكذلك في النفقة وهذا إذا كان الأب موسرا فإن كان معسرا والأم موسرة أمرت بأن تنفق من مالها على الولد ويكون ذلك دينا على الأب إذا أيسر وكذلك الأب إذا كان معسرا وله أخ موسر فإن الأخ وهو عم الولد يعطي نفقة الولد ويكون ذلك دينا على الأب له إذا أيسر لأن استحقاق النفقة على الأب ولكن الإنفاق لا يحتمل التأخير فيقام مال الغير مقام ماله في أداء مقدار الحاجة منه على أن يكون ذلك دينا عليه إذا أيسر والذي قلنا في الصغار من الأولاد كذلك في الكبار إذا كن إناثا لأن النساء عاجزات عن الكسب واستحقاق النفقة لعجز المنفق عليه عن كسبه وإن كانوا ذكورا بالغين لم يجبر الأب على الانفاق عليهم لقدرتهم على الكسب إلا من كان منهم زمنا أو أعمى أو مقعدا أو أشل اليدين لا ينتفع بهما أو مفلوجا أو معتوها فحينئذ تجب النفقة على الوالد لعجز المنفق عليه عن الكسب وهذا إذا لم يكن للولد مال فإذا كان للولد مال فنفقته في ماله لأنه موسر غير محتاج(5/401)
واستحقاق النفقة على الغنى للمعسر باعتبار الحاجة إذ ليس أحد الموسرين بإيجاب نفقته على صاحبه بأولى من الآخر بخلاف نفقة الزوجة فإن استحقاق ذلك باعتبار العقد لتفريغها نفسها له فتستحق موسرة كانت أو معسرة فإما الاستحقاق هنا باعتبار الحاجة فلا يثبت عند عدم الحاجة.
قال: فإن كان مال الولد غائبا أمر الأب بأن ينفق عليه من ماله على أن يرجع في مال الولد إذا حضر ماله لكنه أن أشهد فله أن يرجع في الحكم وأن أنفق بغير إشهاد لكن على نية الرجوع فله أن يرجع فيما بينه وبين الله تعالى وفي الحكم ليس له ذلك لأن الظاهر أنه يقصد التبرع بمثل هذا والقاضي يتبع الظاهر فأما فيما بينه وبين الله تعالى فله أن يرجع لأن الله تعالى عالم بما في ضميره.
قال: وكذلك يجبر على نفقة كل ذي رحم محرم منه الصغار والنساء وأهل الزمانة من(5/402)
ص -196- ... الرجال إذا كانوا ذوي حاجة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تجب النفقة على غير الوالدين والمولودين وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى تجب النفقة على كل وارث محرما كان أو غير محرم واستدل بظاهر قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك ولكنا نقول قد بينا أن في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك والشافعي رحمه الله تعالى يبني على أصله فإن عنده استحقاق الصلة باعتبار الولاد دون القرابة حتى لا يعتق أحد على أحد إلا الوالدين والمولودين عنده وجعل قرابة الأخوة في ذلك كقرابة بني الأعمام فكذلك في حق استحقاق النفقة وفيما بين الأباء والأولاد الاستحقاق بعلة الجزئية دون القرابة وحمل قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: من 233] على نفى المضارة دون النفقة وذلك مروى عن ابن عباس رضي الله عنه ولكنا نستدل بقول عمر وزيد رضي الله عنهما فإنهما قالا وعلى الوارث مثل ذلك من النفقة ثم نفي المضارة لا يختص به الوارث بل يجب ذلك على غير الوارث كما يجب على الوارث على أن الكناية في قوله ذلك تكون عن الأبعد وإذا أريد به الأقرب يقال هذا فلما قال ذلك عرفنا أنه منصرف إلى قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف والمعني فيه أن القرابة القريبة يفترض وصلها ويحرم قطعها قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة خونت ولم أرد ويقول الرحم قطعت ولم أوصل" وقد جعل الله تعالى قطيعة الرحم من الملاعن بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 52] ومنع النفقة مع يسار المنفق وصدق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى قطيعة الرحم ولهذا اختص به ذو الرحم المحرم لأن القرابة إذا بعدت لا يفرض وصلها ولهذا لا تثبت المحرمية بها وكذلك المرأة الموسرة تجبر على ما يجبر عليه الرجل من نفقة الأقارب لأن هذا الاستحقاق(5/403)
بطريق الصلة فيستوي فيه الرجال والنساء كالعتق عند الدخول في الملك.
قال: ولا يجبر المعسر على نفقة أحد إلا على نفقة الزوجة والولد الصغير أما استحقاق نفقة الزوجة باعتبار العقد وأما الأولاد الصغار فلأنهم اجزاؤه فكما لا تسقط عنه نفقة نفسه لعسرته فكذلك نفقة أولاده والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فأما نفقة الأقارب استحقاقها بطريق الصلة فتكون على الموسرين دون المعسرين كالزكاة وعلى هذا قال أبو يوسف رحمه الله تعالى من لم يكن له فضل على حاجته مقدار ما تجب فيه الزكاة لا تلزمه نفقة الأقارب إلا أنه يروي هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال إذا كان كسبه كل يوم درهما ويكفيه لنفقته ونفقة عياله أربعة دوانق يؤمر بصرف الفضل إلى أقاربه لأن الاستحقاق باعتبار الحاجة فيعتبر في جانب المؤدي لتيسير الأداء وتيسير الأداء موجود إذا كان كسبه يفضل عن نفقته.
قال: وإذا امتنع الأب من الإنفاق على أولاده الصغار بحبس في ذلك بخلاف سائر(5/404)
ص -197- ... الديون فإن الوالد غير محبوس فيه لوجهين أحدهما أن النفقة لحاجة الوقت فهو بالمنع يكون قاصدا إلى إتلافه والأب يستوجب العقوبة عند قصده إلى إتلاف ولده كما لو عدى عليه بالسيف كان له أن يقتله دفعا له بخلاف سائر الديون لا تسقط بتأخير الأداء والنفقة لا تصير دينا بل تسقط بمضى الوقت فيستوجب الحبس إذا امتنع من الأداء وهو نظير ما قلنا أن من جار في القسم بوجع عقوبة وإذا امتنع من إيفاء حق آخر لا يحبس لأن ذلك الحق لا يسقط بتأخير الأداء وما جار فيه من الزمان لا يصير دينا فيوجع عقوبة ليمتنع من الجور.
قال: ومن كان له مسكن أو خادم ليس له غيره وهو محتاج تحل له الصدقة فعلى الموسر من ذي الرحم المحرم نفقته وقال الخصاف في كتابه بعد ما روى هذا عن محمد رحمه الله تعالى وقال غيره ليس عليه نفقته ولكن يقال له بع مسكنك وخادمك وأنفق على نفسك لأنه يمكنه أن يكتفي بمنزل يكرى فأما في ظاهر الرواية المنزل والخادم من أصول حوائجه فإنه لا بدله من ذلك فلا ينعدم بملكها حاجته.(5/405)
قال: ولا يقضي بالنفقة في مال أحد ممن ذكرنا إذا كان رب المال غائبا أو مفقودا ما خلا الوالدين والزوجة فإني أقضى لهم من مال الغائب والحاصل أن ما كان مختلفا فيه فلا يتقوى الإبقضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجد القضاء على الغائب فأما ما كان متفقا عليه فهو ثابت بنفسه ولصاحب الحق أن يمديده فيأخذ ذلك من غير قضاء القاضي وللقاضي أن يعينه على ذلك إذا كان صاحب المال حاضرا أو غائبا والسبب معلوما للقاضي إلا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند رضي الله عنها: "خذي من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيك وولدك بالمعروف" وهو كان غائبا وقال في كتاب المفقود وإن استوثق منه بكفيل فحسن لجواز أن يكون أخذ النفقة أو بعث الغائب بنفقته فيقصد الأخذ ثانيا والقاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فإذا كان الغائب عاجزا عن النظر لنفسه نظر القاضي له بأخذ الكفيل إن شاء وإن شاء ضمنهم ذلك ولم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا لأنه ليس هنا خصم يطلب من القاضي أخذ الكفيل وإنما يجب ذلك على القاضي عند طلب الخصم.
قال: فإن كان له عند هؤلاء مال فأنفقه على نفسه أجزته ولم أضمنه لأنه ظفر بجنس حقه فله أن يأخذ بقدر حقه وأن كان عند غيرهم فأعطاهم بغير أمر القاضي حتى أنفقوا كان ضامنا له لأنه مأمور بالحفظ ودفعه إلى غيره لينفق ليس من الحفظ فيصير به مخالفا ضامنا وهو نظير مالو أراد المودع أن يقضي بالوديعة دين المودع ليس له ذلك ويصير ضامنا أن فعله وأن كان صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه.
قال: وإن باع أحد منهم متاع الغائب للنفقة أبطلت بيعه ما خلا الأب المحتاج فإني أجيز بيعه على ولده الغائب فيما سوى العقار استحسانا لما ينفقه على نفسه ولا يجوز في العقار إلا أن يكون الولد صغيرا وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في كتاب المفقود.(5/406)
ص -198- ... قال: وكذلك قياس قوله في المفقود وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يجوز بيع الأب أيضا على ابنه الكبير الغائب في العقار كما لا يجوز بيع غيره والقياس ما قالا لأن ولاية الأب قد زالت ببلوغ الصبي عن عقل فيكون هو في بيع أمواله كغيره يدل عليه أن النفقة لا تكون أوجب من سائر الديون وليس للأب بيع شيء من متاع ولده في دين له عليه ولا يقضي القاضي بذلك أيضا لما فيه من القضاء على الغائب فكذلك في النفقة واستحقاق الأم النفقة كاستحقاق الأب ثم الأم لا تبيع عروض الولد في نفقتها فكذلك الأب واستحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال ولاية الأب وإن زالت بالبلوغ ولكن بقي أثرها ولهذا صح منه الاستيلاد في جارية الابن فلبقاء أثر ولايته كان له أن يبيع العروض لأن بيع العروض من الحفظ فإن العروض يخشى عليه من الهلاك وحفظ الثمن أيسر وولاية الحفظ تثبت لمن يثبت له ولاية التصرف كالوصى في حق الوارث الكبير الغائب له ولاية الحفظ وبيع العروض فكذلك للأب ذلك وبعد البيع الثمن من جنس حقه فله أن يأخذ منه مقدار النفقة فأما بيع العقار ليس من الحفظ لأنه محصن بنفسه فلا يملك ذلك إلا بمطلق الولاية وهو عند صغر الولد أو جنونه وإذا باع عند ذلك أخذ من الثمن نفقته لأنه من جنس حقه وبخلاف الأم وسائر الأقارب لأنه لم تكن لهم ولاية التصرف في حالة الصغر ليبقي أثر تلك الولاية بعد البلوغ وكذلك ليس لهم ولاية حفظ المال فلهذا لا يجوز منهم بيع العروض.(5/407)
قال: ولا يجبر المسلم على نفقة الكفار من قرابته ولا الكفار على نفقة المسلمين من قرابتهم لأن هذا الاستحقاق بعلة ولاية الوراثة شرعا وبسبب اختلاف الدين ينعدم التوارث إلا الوالدين والولد والزوجة أما استحقاق الزوجة للنفقة بسبب العقد وذلك متحقق مع اختلاف الدين أما في حق الوالدين والولد القياس أن لا يثبت استحقاق النفقة مع اختلاف الدين لأن استحقاقها بطريق الصلة كنفقة الأقارب ولكنه استحسن فقال يجب على الولد المسلم نفقة أبويه الذميين لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعم الله ويدعهما يموتان جوعا والنوافل والإجداد والجدات من قبل الأب والأم بمنزلة الأبوين في ذلك لأن استحقاقهم باعتبار الولاد بمنزلة استحقاق الأبوين.
قال: وإذا مات الأب وللولد الصغير أم وجد أب الأب فنفقته عليهما على قدر ميراثهما أثلاثا بخلاف الأب في ظاهر الرواية فإنه لا يشاركه في النفقة أحد لحقيقة الجزئية بينه وبين الولد وذلك لا يوجد في حق الجد فإن اتصال النافلة بواسطة الأب كاتصال الأخ فكما أن في الأخ والأم النفقة عليهما بحسب الميراث إذا كانا موسرين فكذلك في الجد والأم النفقة عليهما بحسب الميراث.
قال: وإن كان للولد خال موسر وبن عم موسر فالنفقة على الخال دون بن العم وإن كان الميراث لابن العم لأن النفقة على ذي الرحم المحرم وبن العم ليس بمحرم فلا نفقة عليه والخال محرم فتكون النفقة عليه إذا كان موسرا.(5/408)
ص -199- ... قال: وإذا كان الرجل زمنا معسرا وله بن معسر صغير أو كبير زمن وللرجل ثلاثة أخوة متفرقين أهل يسار فنفقة الرجل تكون على أخيه لأب وأم وعلى أخيه لأم أسداسا بحسب ميراثهما منه وأما نفقة الأولاد فعلى الأخ لأب وأم خاصة لأن له ميراث الولد عند عدم الأب خاصة فإنه عم لاب وأم فلا يرث معه العم لأب ولا العم لأم والحاصل أن من يكون محتاجا يجعل في حكم المعدوم فتكون النفقة بعده على من يكون وارثا بحسب ميراثه وإذا كان الولد بنتا كانت نفقة الأب والبنت على الأخ لأب وأم خاصة أما نفقة البنت فلما بينا وأما نفقة الأب فلأن الوارث هنا هو الأخ لأب وأم خاصة لأن الأخ لأب وأم يرث مع البنت والأخ لأم لا يرث مع البنت فلا حاجة إلى أن تجعل البنت كالمعدومة ولكن تعتبر صفة الوراثة مع بقائها بخلاف الابن فإنه لا يرث معه أحد من الأخوة فلا بد أن يجعل كالمعدوم وإذا جعل كذلك فميراث الأب بين الأخ لأب وأم والأخ لأم أسداسا فالنفقة عليهما بحسب ذلك.(5/409)
قال: وإن كان مكان الأخوة أخوات متفرقات فإن كان الولد ذكرا فنفقة الأب على أخواته أخماسا لأن أحدا من الأخوات لا يرث مع الابن فلا بد من أن يجعل الابن كالمعدوم وبعد ذلك الميراث بينهن أخماسا ثلاثة أخماسة للأخت لأب وأم وخمسه للأخت لأب وخمسه للأخت لأم بطريق الفرض والرد فالنفقة عليهم بحسب ذلك ونفقة الولد على الأخت من الأب والأم خاصة في قول علمائنا لأن ميراثه إذا مات عند عدم الوالد للعمة لأب وأم خاصة دون العمة لأب أو لأم أما في قول من يورث العمات المتفرقات كما يورث الإخوات وهو قول أهل التنزيل فنفقة الولد عليهن أيضا أخماسا بحسب الميراث ومن قال بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الميراث قال نفقة الأب تكون على الأخت لأب السدس من ذلك والباقي أرباع على الأخت لأب وأم ثلاثة أرباعه وعلى الأخت لأم ربعه بحسب الميراث فإنه لا يرى الرد على الأخت لأب مع الأخت لأب وأم فإن كان الولد بنتا فنفقة الأب على الأخت لأب وأم خاصة لأنها وارثة مع البنات فإن الأخوات مع البنات عصبة فلا تجعل البنت كالمعدوم هنا ولكن لو مات الأب كان نصف ميراثه للبنت والباقي للأخت لأب وأم فكذلك نفقته على الأخت لأب وأم وكذلك نفقة البنت في قولهم جميعا إلا في قول أهل التنزيل فإنهم يجعلون الميراث بين العمات أخماسا فنفقة البنت عليهن أخماسا أيضا وأما عندنا ميراث البنت عند عدم الأب كله للعمة لأب وأم فالنفقة عليها أيضا ثم أشار إلى الأصل الذي قلنا أنه ينظر إلى وارث الأب فإن كان يحرز الميراث كله وهو معسر جعلته كالميت ثم نظرت إلى من يرثه فجعلت النفقة عليهم على قدر ميراثهم فإن كان الذي يرثه لا يحرز الميراث كله جعلت النفقة على من يرث معه.
قال: امرأة معسرة ولها ولد موسر وأم موسرة فنفقتها على الولد دون الأم وكذلك الأب نفقته على ابنه دون أبيه للتأويل الثابت له في مال ولده بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" ولا(5/410)
ص -200- ... يوجد ذلك في حق الوالد ولا في حق الأم وكما لا يشارك الوالد في النفقة على الولد أحد فكذلك لا يشارك الولد في النفقة على الوالدين أحد من أم ولا أب ولا جد.
قال: ويجبر أهل الذمة فيما بينهم على النفقة كما يجبر أهل الإسلام وإن اختلفت مللهم في الكفر لأنهم أهل ملة واحدة يتوارثون مع اختلاف النحل فيثبت حكم استحقاق النفقة فيما بينهم أيضا ولا يجبر الموسر على نفقة المعسر من قرابته إذا كان رجلا صحيحا وإن كان لا يقدر على الكسب لأن الصحيح الذي لازمانة به لا يعجز عن كسب القوت عادة وبناء الحكم على العادة الظاهرة دون النادر إلا في الوالدين خاصة وفي الجد أب الأب إذا مات أب الولد فإنه يجبر الولد على نفقته وإن كان صحيحا لدفع الأذى الذي يلحقه للكد والتعب على ما بينا.
قال: ولا يجبر المملوك والمكاتب على نفقة أحد من قرابته لأن كسب المملوك لمولاه والمكاتب ليس له في كسبه ملك في الحقيقة بل هو دائر بينه وبين مولاه فلا يلزمه نفقة أحد من قرابته إلا ولده المولود في الكتابة من أمته فإنه داخل في كتابته وكسبه له لتكون نفقته عليه.
قال: ولا يجبر المسلم ولا الذمي على النفقة لوالديه وولده من أهل الحرب وأن كانوا مستأمنين في دار الإسلام لأن الاستحقاق بطريق الصلة ولا يثبت للحربي استحقاق الصلة على من هو أهل دار الإسلام ألا ترى أنهما لا يتوارثان وإن كانا على ملة واحدة من الكفر فكذلك استحقاق النفقة لبعضهم على البعض.
قال: ونفقة المعتوه على ابنه دون أبيه لتأويل الملك له في مال ابنه دون مال أبيه ألا ترى أنه لو كان صحيحا معسرا كانت نفقته على الابن دون الأب فكذلك إذا كان معتوها والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(5/411)
قال رحمه الله تعالى هذا آخر شرح كتاب النكاح بالمأثور من المعاني والآثار الصحاح أملاه المنتظر للفرج والفلاح مصليا على المبعوث بالحق بالسيوف والرماح وعلى آله وأصحابه أهل التقى والصلاح الذين مهدوا قواعد الحق وسلكوا طريق النجاح.(5/412)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السادس
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(6/1)
ص -3- ... كتاب الطلاق
قال: الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء الطلاق في اللغة عبارة عن إزالة القيد وهو مأخوذ من الإطلاق يقول الرجل أطلقت إبلي وأطلقت أسيري وطلقت امرأتي فالكل من الإطلاق وإنما اختلف اللفظ لاختلاف المعنى ففي المرأة يتكرر الطلاق وإذا تم رفع القيد بتكرر الطلاق لا يأتي تقييده ثانيا في الحال ففي التفعيل معنى المبالغة فلهذا يقال في المرأة طلقت وهو كقولهم حصان وحصان لكن يقال في الفرس حصان أي بين التحصن وفي المرأة حصان أي بينة الحصن وكذا يقال عدل وعديل وكلاهما مشتق من العدالة والمعادلة ولكن يختص أحد اللفظين بالآدمي لمعنى اختص به وموجب الطلاق في الشريعة رفع الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح إذا تم العدد ثلاثا كما قال الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ويوجب زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند عدم الدخول والاعتياض عند الخلع فالاسم شرعي فيه معنى اللغة وإيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء ومن الناس من يقول لا يباح إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله كل ذواق مطلاق" وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة اختلعت من زوجها من نشوز فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقد روي مثله في الرجل يخلع امرأته ولأن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] وقال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران: 14] الآية وكفران النعمة حرام وهو رفع النكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة وذلك إما كبر السن لما روي أن سودة لما طعنت في(6/2)
السن طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما لريبة لما روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال صلوات الله عليه "طلقها" فقال إني أحبها فقال صلى الله عليه وسلم "أمسكها إذن" وأما قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وذلك كله يقتضي كله إباحة الإيقاع وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها فإنها صوامة قوامة ولم يكن هناك كبر سن ولا ريبة وكذلك الصحابة(6/3)
ص -4- ... رضوان الله عليهم فإن عمر رضي الله عنه طلق أم عاصم رضي الله عنها وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق تماضر رضي الله عنها والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه كان له أربع نسوة فأقامهن بين يديه صفا وقال أنتن حسان الأخلاق ناعمات الأرداف طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق وإن الحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر من النكاح والطلاق بالكوفة حتى قال علي رضي الله عنه على المنبر إن ابني هذا مطلاق فلا تزوجوه فقالوا إنا نزوجه ثم نزوجه ولأن هذا إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا في الأصل كالإعتاق وفيه معنى كفران النعمة من وجه ومعنى إزالة الرق من وجه فالنكاح رق قال صلى الله عليه وسلم "النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته" وروي "بم يرق كريمته" ولهذا صان الشرع القرابة القريبة عن هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات وإلى هذا المعنى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وإن أبغض المباحات عند الله تعالى الطلاق فقد نص على أنه مباح لما فيه من إزالة الرق ومبغض لما فيه من معنى كفران النعمة ثم معنى النعمة إنما يتحقق عند موافقة الأخلاق فأما عند عدم موافقة الأخلاق فاستدامة النكاح سبب لامتداد المنازعات فكان الطلاق مشروعا مباحا للتفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق.(6/4)
ثم هو نوعان: طلاق سنة وطلاق بدعة والسنة في الطلاق نوعان سنة من حيث العدد وسنة من حيث الوقت فالسنة من حيث العدد ما بدأ ببيانه الكتاب وهو نوعان حسن وأحسن فالأحسن أن يطلقها واحدة في وقت السنة ويدعها حتى تنقضي عدتها هكذا نقل عن إبراهيم رحمه الله تعالى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كانوا يستحسنون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ولأنه مبغض شرعا لكنه مباح لمقصود التفصي عن عهدة النكاح وذلك يحصل بالواحدة ولا يرتفع بها الحل الذي هو نعمة فالاقتصار عليها أحسن والحسن أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار عند كل طهر واحدة وقال مالك رحمه الله تعالى لا أعرف المباح من الطلاق إلا واحدة والدليل على صحة ما قلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه: "إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" يريد به الإشارة إلى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ولما قابل الله تعالى الطلاق بالعدة والطلاق ذو عدد والعدة ذات عدد تنقسم آحاد أحدهما على الآخر كقول القائل اعط هؤلاء الرجال الثلاثة ثلاثة دراهم ولأن عدم موافقة الأخلاق أمر باطن لا يوقف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه مقام حقيقة الحاجة لعدم موافقة الأخلاق لأنه زمان الرغبة فيها طبعا وشرعا فلا يختار فراقها إلا للحاجة ومتى قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا
وعدما وهذا السبب الظاهر متكرر فتتكرر إباحة الطلاق بتكرره ويجعل ذلك قائم مقام تجدد الحاجة حكما وإليه أشار ابن مسعود رضي الله عنه فقال إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته للسنة طلقها تطليقة(6/5)
ص -5- ... وهي طاهرة من غير جماع فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد ما تحيض وتطهر ثم يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها أخرى فكانت قد بانت منه بثلاث تطليقات وبقي عليها من عدتها حيضة وعلى هذا الأصل قال علماؤنا رحمهم الله إيقاع الثلاث جملة بدعة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا أعرف في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة بل الكل مباح وربما يقول إيقاع الثلاث جملة سنة حتى إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الكل في الحال عنده قال وبالأتفاق لو نوى وقوع الثلاث جملة يقع جملة ولو لم يكن سنة لما عملت نيته لأن النية بخلاف الملفوظ باطل واستدل في ذلك بحديث العجلاني فإنه لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الثلاث جملة وقالت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلقني زوجي ثلاثا الحديث إلى أن قالت فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر رضي الله عنها ثلاثا في مرض موته والحسن بن علي رضي الله عنهما طلق امرأته شهباء رضي الله عنها ثلاثا حين هنته بالخلافة بعد موت علي رضي الله عنه والمعنى فيه أن إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا مطلقا جمع أو فرق كالعتق والدليل عليه أنه لو طلق أربع نسوة له جملة كان مباحا بمنزلة ما لو فرق فكذلك في حق الواحدة بل أولى لأن هذا يزيل الملك عن امرأة واحدة وهناك الإيقاع يزيل الملك عن أربع نسوة ولأن الطلاق تصرف مملوك بالنكاح فيكون مباحا في الأصل والتحريم فيه لمعنى عارض كالظهار الذي انضم إليه وصف كونه منكرا من القول وزورا والإيلاء الذي انضم إليه معنى قطع الإمساك بالمعروف على وجه الإضرار والتعنت فكذلك الطلاق مباح الإيقاع إلا إذا انضم إليه معنى محرم وهو الإضرار بها بتطويل العدة عليها إذا طلقها في حالة الحيض وتلبيس أمر العدة عليها إذا طلقها(6/6)
في طهر قد جامعها فيه لأنها لا تدري أنها حامل فتعتد بوضع الحمل أو حائل فتعتد بالإقراء وذلك منعدم إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه سواء أوقع الثلاث أو الواحدة وهو معنى قولهم هذا طلاق صادف زمان الاحتساب مع زوال الارتياب وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] معناه دفعتان كقوله أعطيته مرتين وضربته مرتين والألف واللام للجنس فيقتضي أن يكون كل الطلاق المباح في دفعتين ودفعة ثالثة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أو في قوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على حسب ما اختلف فيه أهل التفسير وفي حديث محمود بن لبيد رحمه الله تعالى أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا فقال: "أتلعبون بكتاب الله تعالى وأنا بين أظهركم" واللعب بكتاب الله ترك العمل به فدل أن موقع الثلاث جملة مخالف للعمل بما في الكتاب وأن المراد من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] تفريق الطلقات على عدد أقراء العدة ألا ترى أنه خاطب الزوج بالأمر بإحصاء العدة وفائدته التفريق فإنه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أي يبدو له فيراجعها وذلك عند التفريق لا عند الجمع.(6/7)
ص -6- ... وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن قوما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أبانا طلق امرأته ألفا فقال صلى الله عليه وسلم: "بانت امرأته بثلاث في معصية الله تعالى وبقي تسعمائة وسبعة وتسعين وزرا في عنقه إلى يوم القيامة" وأن ابن عمر رضي الله تعالى عنه لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها فقال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بانت منك وهي معصية" وبهذه الآثار تبين أنه إنما ترك الإنكار على العجلاني في ذلك الوقت شفقة عليه لعلمه أنه لشدة الغضب ربما لا يقبل قوله فيكفر فأخر الإنكار إلى وقت آخر وأنكر عليه في قوله: "أذهب فلا سبيل لك عليها" أو كراهة إيقاع الثلاث لما فيه من سد باب التلافي من غير حاجة وذلك غير موجود في حق العجلاني لأن باب التلافي بين المتلاعنين منسد ما داما مصرين على اللعان والعجلاني كان مصرا على اللعان ولنا اجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهم كراهة إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ مختلفة وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال لو أن الناس طلقوا نساءهم كما أمروا لما فارق الرجل امرأته وله إليها حاجة إن أحدكم يذهب فيطلق امرأته ثلاثا ثم يقعد فيعصر عينيه مهلا مهلا بارك الله عليكم فيكم كتاب الله وسنة رسوله فماذا بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا الضلال ورب الكعبة وقال الكرخي لا أعرف بين أهل العلم خلافا أن إيقاع الثلاث جملة مكروه إلا قول بن سيرين وإن قوله ليس بحجة ويتبين بهذا أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه إنما طلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار وأن الحسن رضي الله تعالى عنه إنما قال لشهباء أنت طالق ثلاثا للسنة وعندنا لا بأس به والمعنى فيه أنه تحريم البضع بمجرد قوله من غير حاجة فيكون مكروها(6/8)
كالظهار بل أولى فإن الظهار تحريم البضع بمجرد قوله من غير إزالة الملك وفي إيقاع الثلاث تحريم البضع مع إزالة الملك والفقه فيه ما بينا أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك يحصل بالواحدة ولا يحصل بها تحريم البضع فلا تتحقق الحاجة إلى ما يكون محرما للبضع فكان ينبغي أن لا يباح أصلا ولكن أبيح عند اختلاف الأطهار لتجدد الحاجة حكما على ما قررنا ولأن في إيقاع الثلاث قطع باب التلافي وتفويت التدارك عند الندم وفيه معنى معارضة الشرع فالأسقاطات في الأصل لا تتعدد كالعتاق وغيره وإنما جعل الشرع الطلاق متعددا لمعنى التدارك عند الندم فلا يحل له تفويت هذا المعنى في نفسه بعد ما نظر الشرع له كما لا يباح له الإيقاع في حالة الحيض لأنه حالة نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا شرعا فالظاهر أنه يندم إذا جاء زمان الطهر فيكره إيقاع الطلاق لمعنى خوف الندم فهذا مثله والدليل عليه أنه لو طلقها واحدة في الطهر ثم أخرى في الحيض يكون مكروها وليس في إيقاع الثانية في الحيض معنى تطويل العدة ولا معنى اشتباه أمر العدة عليها فدل أن معنى كراهة الإيقاع لمعنى خوف الندم إذا جاء زمان الطهر وهذا في إيقاع الثلاث أظهر فكان مكروها ويستوي في هذا المدخول بها وغير المدخول بها(6/9)
ص -7- ... لأن معنى تحريم البضع بإيقاع الثلاث يحصل في الحالتين بصفة واحدة وكذلك يستوي في الكراهة إيقاع الثلاث جملة وإيقاع الثنتين لأن الكراهة لمعنى عدم الحاجة حقيقة وحكما وهو موجود في الثانية كوجوده في الثالثة ولأن إيقاع الثنتين وإن كان لا يحصل به تحريم البضع فإنه يقرب منه وهذا القرب معتبر في الحكم ألا ترى أن المرأة إذا قالت لزوجها طلقني ثلاثا بألف وطلقها واحدة يجب ثلث الألف ولو طلقها اثنتين يجب ثلثا الألف وكما أن سد باب التلافي حرام من غير حاجة فكذلك ما يقرب منه يكون حراما.(6/10)
وأما السنة من حيث الوقت معتبر في حق المدخول بها وذلك أن يطلقها إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها فيه قال في الكتاب بلغنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه فإنه لما طلق امرأته في حالة الحيض قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هكذا أمرك الله يا ابن عمر إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا" الحديث وفي رواية قال لعمر رضي الله تعالى عنه: "إن ابنك أخطأ السنة مره فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء طاهرة من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم في تفسير قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي يطلقها طاهرة من غير جماع والمعنى فيه أن إباحة الإيقاع للتفصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق وذلك لا يظهر بالإيقاع حالة الحيض لأنها حال نفرة الطبع عنها وكونه ممنوعا عنها شرعا فربما يحمله ذلك على الطلاق وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه لأنه قد حصل مقصوده منها فتقل رغبته فيها فلا يكون الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق فأما في الطهر الذي لم يجامعها فيه تعظم رغبته فيها فلا يقدم على الطلاق إلا لعدم موافقة الأخلاق فلهذا اختصت إباحة الإيقاع به ولهذا المعنى قال زفر رحمه الله تعالى إنه يكره إيقاع الطلاق في حالة الحيض من غير المدخول بها لأن معنى نفرة الطبع والمنع شرعا لا يختلف بين كونها مدخولا بها أو غير مدخول بها ومعنى آخر فيه أن في الإيقاع في حالة الحيض اضرارا بها من حيث تطويل العدة عليها لأن هذه الحيضة لا تكون محسوبة من العدة وتطويل العدة من الإضرار بها قال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وفي الإيقاع في طهر قد جامعها فيه إضرار بها من حيث اشتباه العدة عليها ولهذا قلنا لا بأس بإيقاع(6/11)
الطلاق في الحيض على غير المدخول بها لأنه ليس فيه معنى تطويل العدة عليها ولأن رغبته فيها كانت بالنكاح فلا يقل ذلك بحيضها ما لم يحصل مقصوده منها فكان الإيقاع دليل عدم موافقة الأخلاق بخلاف المدخول بها فإن مقصوده بالنكاح قد حصل منها وإنما رغبته فيها في الطهر بعد ذلك لتمكنه فيه من غشيانها وينعدم ذلك بالحيض توضيحه أن إباحة الإيقاع بشرط أن يأمن الندم كما قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] وفي الإيقاع في حالة الحيض على المدخول بها لا يأمن الندم إذا جاء زمان الطهر والرغبة فيها وكذلك في الإيقاع في طهر قد جامعها فيه لا يأمن الندم لأنه ربما يظهر بها حبل(6/12)
ص -8- ... فتحمله شفقته على الولد على تحمل سوء خلقها وإلى نحوه أشار ابن مسعود رضي الله عنه فقال لعل شفقة الولد تندمه فلهذا كره الإيقاع في هذين الوقتين وإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها واحدة إذا طهرت من الحيض واختار بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى تأخير الإيقاع إلى آخر الطهر ليكون أبعد عن تطويل العدة وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يطلقها حين تطهر من الحيض لأنه لو أخر الإيقاع ربما يجامعها ومن قصده أنه يطلقها فيبتلى بالإيقاع عقيب الجماع وذلك مكروه فلهذا طلقها حين تطهر من حيضها فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى واحتسب بهذه الحيضة من عدتها فإذا حاضت الثالثة وطهرت طلقها أخرى وقد بقي عليها من عدتها حيضة وللشافعي رحمه الله تعالى قول أن ابتداء العدة من آخر التطليقات إذا تكرر الإيقاع لأن الطلاق بعد الدخول موجب للعدة كالحدث بعد الطهارة موجب للوضوء فكما أنه إذا أحدث بعد غسل بعض الأعضاء يلزمه استئناف الوضوء فكذلك إذا تكرر وقوع الطلاق عليها يلزمها استئناف العدة ولكنا نقول السبب الموجب للعدة الدخول وإنما تصير شارعة في العدة حين يصير الزوج غير مريد لها وقد حصل ذلك بالتطليقة الأولى ثم الثانية والثالثة تقرر ذلك المعنى ولا تبطله بخلاف ما لو راجعها ثم طلقها لأن بالرجعة ينعدم ذلك المعنى فإنه يصير مريدا لها توضيحه أن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يتغير بتكرر الطلاق وعدم التكرر فلهذا كانت عدتها من التطليقة الأولى وعلى هذا اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.(6/13)
قال: ولا تحل له المرأة بعد ما وقع عليها ثلاث تطليقات حتى تنكح زوجا غيره يدخل بها والطلاق محصور بعدد الثلاث ولا خلاف بين العلماء أن بيان التطليقتين في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وإنما اختلفوا في الثالثة فقيل هي في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وهكذا روي أن أبا رزين العقيلي رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عرفنا التطليقتين في القرآن فأين الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وأكثرهم على أن بيان الثالثة في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً} [البقرة: 230] لأنه عند ذكرها ذكر ما هو حكم الثالثة وهو حرمة المحل إلى غاية ومعناه فإن طلقها الثالثة ولا خلاف بين العلماء أن النكاح الصحيح شرط الحل للزوج الأول بعد وقوع الثلاث عليها والمذهب عند جمهور العلماء أن الدخول بها شرط أيضا وقال سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه ليس بشرط لأن في القرآن شرط العقد فقط ولا زيادة بالرأي ولكن هذا قول غير معتبر ولو قضى به قاض لا ينفذ قضاؤه فإن شرط الدخول ثابت بالآثار المشهورة فمن ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فتزوجت بزوج آخر لم تحل للأول حتى تذوق من عسيلته ويذوق من عسيلتها" ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي رضي الله عنه طلق امرأته فأبت طلاقها فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ما وجدت معه إلا مثل هذه وأشارت إلى هدبة ثوبها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضبط نفسه فقال: "أتريدين(6/14)
ص -9- ... أن ترجعي إلى رفاعة" فقالت نعم فقال "لا حتى يذوق من عسيلتك وتذوقي من عسيلته" وعن عائشة رضي الله عنها أن عمرو بن حزم رضي الله عنه طلق امرأته العميصاء رضي الله عنها ثلاثا فتزوجت بآخر فلما خلا بها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ضعف حاله في باب النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أصابك" فقالت: لا. فقال صلوات الله عليه "لا تحلين لعمرو حتى تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك" وقبل في القرآن ذكر الدخول إشارة فإنه أضاف فعل النكاح إلى الزوج وإليها فيقضي ذلك فعل النكاح بعد الزوجية وذلك الوطء ولأن المقصود منع الأزواج من الاستكثار من الطلاق وذلك لا يحصل بمجرد العقد إنما يحصل بالدخول ففيه مغايظة الزوج الأول ودخول الثاني بها بالنكاح مباح مبغض عند الزوج الأول كما أن الاستكثار من الطلاق مبغض شرعا ليكون الجزاء بحسب العمل.(6/15)
قال: فإن تزوج بها الثاني على قصد أن يحللها للزوج الأول من غير أن يشترط ذلك في العقد صح النكاح ويثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني وفارقها فإن شرط أن يحللها للأول فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى الجواب كذلك ويكره هذا الشرط وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى النكاح جائز ولكن لا تحل به للأول وعند محمد رحمه الله تعالى النكاح فاسد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" وعقد النكاح سنة ونعمة فما يستحق به المرء اللعن لا يكون نكاحا صحيحا ولأن هذا في معنى شرط التوقيت وشرط التوقيت مبطل للنكاح ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول هذا ليس بتوقيت في النكاح ولكنه استعجال لما هو مؤخر شرعا فيعاقب بالحرمان كمن قتل مورثه يحرم من الميراث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا الشرط وراء ما يتم به العقد فأكثر ما فيه أنه شرط فاسد والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة ثم النهي عن هذا الشرط لمعنى في غير النكاح فإن هذا النكاح شرعا موجب حلها للأول فعرفنا أن النهي لمعنى في غير المنهي عنه وذلك لا يؤثر في النكاح فلهذا ثبت الحل للأول إذا دخل بها الثاني بحكم هذا النكاح الصحيح.
قال: وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه لا بأس بأن يطلقها عقيب الجماع لأن كراهة الإيقاع عقيب الجماع لاشتباه أمر العدة عليها وخوف الندم إذا ظهر بها حبل وذلك غير موجود هنا ولأن الحبل يزيد في رغبته فيها فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليل عدم موافقة الأخلاق.(6/16)
قال: فإن كان جامعها ثم أراد أن يطلقها ثلاثا فله ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويفصل بين التطليقتين بشهر وعند محمد وزفر رحمها الله تعالى لا تطلق الحامل للسنة أكثر من واحدة وفي الكتاب قال بلغنا ذلك عن ابن مسعود وجابر رضي الله تعالى عنهما والحسن البصري وقول الصحابي إذا كان فقيها مقدم على القياس والمعنى فيه أن الأصل في طلاق السنة أن يفصل بين التطليقتين بفصل محسوب من فصول العدة كما في حق ذوات الإقراء والآيسة والشهر في حق الحامل ليس بفصل محسوب من فصول العدة، فلا(6/17)
ص -10- ... يفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن الطلاق مقابل بفصول العدة ألا ترى أن عدة الأمة لما تقدرت بحيضتين ملك عليها تطليقتين وأن بسبب عدم الدخول لما انعدمت فصول العدة انعدم ملك التفريق إلا أن النكاح يعقد للدخول فلا يؤثر في ملك أصل الطلاق لهذا فعرفنا أن التفريق باعتبار فصول العدة ومدة الحبل طالت أو قصرت بمنزلة فصل واحد ألا ترى أن الاستبراء يتقدر بها وفي الفصل الواحد لا يملك تفريق الطلقات على الوجه المسنون ولأن هذا شهر في حق ذوات الإقراء فلا يصلح للفصل بين طلاقي السنة كما في الممتدة طهرها بخلاف الآيسة والصغيرة وحجتنا في ذلك أن هذا نوع عدة فيكون محلا لتفريق الطلقات المملوكة على وجه السنة كالإقراء والأشهر وهذا لأن الله تعالى جعل محل إيقاع الطلقات العدة بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وعدة الحامل نوع من أنواع العدة بل هي الأصل فيما هو المقصود لأن المقصود بالعدة تبين فراغ الرحم وذلك يحصل بوضع الحمل على أكمل الوجوه فيستحيل أن يقال لا يملك تفريق الطلاق على ما هو الأصل في العدة وفي حق ذوات الإقراء فصول العدة إنما تقع اتفاقا لا قصدا فأما المعنى المعتبر تجدد زمان الرغبة وذلك لا يحصل إلا بمضي حيضة وفي حق الآيسة والصغيرة لا يوجد هذا المعنى لأن الأوقات في حقها سواء ولا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حقها مقام الحيضة في حق ذوات الإقراء باعتبار أنه فصل من فصول العدة ثم ينعدم هذا المعنى في حق الحامل فلا بد من إباحة التفريق في عدتها فأقمنا الشهر في حق الآيسة باعتبار أنه شهر في عدة لا حيض فيها والدليل على أنه لا معتبر بفصول العدة أنه لو قال لامرأته الصغيرة أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها للحال واحدة فإذا مضى شهر وقعت أخرى وإذا مضى شهر وقعت أخرى ثم إذا حاضت يلزمها استئناف العدة والتطليقات الثلاث وقعت على وجه السنة فعرفنا أنه لا معتبر بفصول العدة ثم(6/18)
الحامل لا تحيض والشهر في حق من لا تحيض فصل من فصول العدة في حق انقضاء العدة وتفريق الطلاق ولكن هنا في حق انقضاء العدة وجدنا ما هو أقوى من الشهر وهو وضع الحمل وفي حق التفريق بالطلاق لم نجد ما هو أقوى من الشهر فبقي الشهر فصلا من فصول العدة في حق تفريق الطلاق وإن لم يبق في حق إنقضاء العدة كما في الصغيرة إذا حاضت
يقرره أن الحبل يؤثر في إباحة إيقاع كان محرما قبله وهو الطلاق عقيب الجماع فيستحيل أن يؤثر في المنع مما كان مباحا قبله ولا يدخل على ما قلنا إذا بقي من مدة حملها يوم لأن التعليل لمدة الحمل ولا يتصور أن يكون ذلك يوما إلا أن التفريط جاء من قبله حين أخر الإيقاع حتى لم يبق من المدة فلا يخرج به من أن يكون أصل المدة قابلا لتفريق الثلاث كالكافر إذا أسلم وقد بقي من الوقت مقدار ما لا يمكنه أن يصلي فيه تلزمه الصلاة لأن التفريط جاء من قبله حين أخر الإسلام ولا معنى لما قال أن مدة الحبل كحيضة واحدة بل هي بمنزلة ثلاث حيض حتى تنقضي بها العدة ولكن الاستبراء إنما لا يقدر ببعض مدة الحبل لأن المقصود تبين فراغ الرحم وذلك لا يحصل قبل الوضع فزيد في مدة الاستبراء إذا كانت حاملا لهذا المعنى لا أن تجعل مدة الحبل كحيضة(6/19)
ص -11- ... واحدة ولا نسلم أن الحامل من ذوات الإقراء على الاطلاق فإنه لزمها صفة منافية للحيض حتى أنها وإن رأت الدم لا يكون حيضا بخلاف الممتدة طهرها.
قال: وإذا أراد أن يطلقها وهي لا تحيض من كبر أو صغر طلقها واحدة متى شاء عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى ليس له أن يطلقها عقيب الجماع حتى يمضي الشهر لأنه يفصل بين الطلاق والجماع بما يفصل به بين الطلاقين في عدة هي ذات فصول كما في حق ذوات الإقراء ثم هنا يفصل بين طلاقيها بشهر فكذلك يفصل بين طلاقها وجماعها بشهر ولكنا نقول أنها بمنزلة الحامل في أنها لا حيض في عدتها فيباح إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع كما يباح الإيقاع على الحامل وكأن المعنى فيه أن في حق ذوات الإقراء إنما كره إيقاع الطلاق عقيب الجماع لتوهم الحبل وهذا لا يوجد هنا فكان إيقاع الطلاق عليها عقيب الجماع مباحا فإذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها بعد شهر آخر ثم بعد شهر آخر وعدتها ثلاثة أشهر من التطليقة الأولى وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] والمراد الصغيرة ولا خلاف أن الإيقاع إذا كان في أول الشهر تعتبر الشهور بالأهلة ناقصة أو كاملة فإن كان الإيقاع في وسط الشهر ففي حق تفريق الطلاق يعتبر كل شهر بالإيام وذلك ثلاثون يوما بالاتفاق وكذلك في حق انقضاء العدة عند أبي حنيفة تعتبر ثلاثة أشهر بالأيام وعندهما يعتبر شهر واحد بالأيام وشهران بالأهلة لأن الأهلة هي الأصل قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] والأيام بدل عنها ففي الشهر الواحد تعذر اعتبار ما هو الأصل فاعتبر البدل وفي الشهرين لم يتعذر اعتبار ما هو الأصل ولكن أبو حنيفة يقول ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني فدخول الشهر الثاني(6/20)
وسط الشهر الثاني أيضا وكذلك في الشهر الثالث فيتعذر اعتبار الكل بالأهلة فوجب اعتبارها بالأيام ولا يحكم بانقضاء عدتها إلا بتمام تسعين يوما من حين طلقها وقد ظن بعض مشايخنا أن الشهر في حق التي لا تحيض بمنزلة الحيض والطهر في حق التي تحيض وليس كذلك بل الشهر في حقها بمنزلة الحيض في حق التي تحيض حتى يتقدر به الاستبراء ويفصل به بين طلاقي السنة وهذا لأن المعتبر في حق ذوات القرء الحيض ولكن لا يتصور الحيض إلا بتخلل الطهر وفي الشهور ينعدم هذا المعنى فكان الشهر قائما مقام ما هو المعتبر وإذا طلقها واحدة أو ثنتين فهو يملك الرجعة ما لم تنقض العدة وهذا حكم ثبت بخلاف القياس بالنص فإن إزالة الملك بالطلاق إسقاط والإسقاط يتم بنفسه كالعتق ولكن الشرع أثبت للزوج حق الرجعة في العدة بعد التطليقة والتطليقتين للتدارك عند الندم قال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] معناه قرب انقضاء عدتهن فأمسكوهن بالمراجعة وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] والمراد بالإمساك المراجعة بعد التطليقتين ما دامت في العدة ثبت ذلك بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وعدة التي تحيض ثلاث حيض كما قال الله(6/21)
ص -12- ... تعالى في كتابه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وهو حكم مقطوع به ثابت بالنص ثم عطف عليه ما هو مجتهد فيه فقال القرء هي الحيض وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى هي الإطهار حتى أن على مذهبه كما طعنت في الحيضة الثالثة يحكم بإنقضاء عدتها وعندنا ما لم تطهر من الحيضة الثالثة لا يحكم بإنقضاء العدة وأصل الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم فقد روى الشعبي رضي الله عنه عن بضعة عشر من الصحابة الحبر فالحبر منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وعبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنهم قال الزوج أحق برجعتها ما لم تحل لها الصلاة وعن ابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم قالوا الإقراء الإطهار وعن ابن عباس رضي الله عنه كما طعنت في الحيضة الثالثة تبين من زوجها ولا يحل لها أن تتزوج حتى تطهر وكذلك أهل اللغة يطلقون اسم القرء على الطهر والحيض جميعا قال القائل:
يا رب ذي ضغن وضب فارض ... له قروء كقروء الحائض
وقال الأعشى:
مورثة مال وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والمراد الأطهار لأن زمان الحيض يضيع وإن كان حاضرا وأصله في اللغة الوقت قال القائل:
إذا هبت لقارئها الرياح(6/22)
فمنهم من يقول وقت الطهر به أشبه لأنه عبارة عن الاجتماع يقال ما قرأت النافة سلا قط أي ما جمعت في رحمها ولدا قط واجتماع الدم في الرحم في حالة الطهر ومنهم من يقول وقت الحيض به أشبه لأن هذا الوصف عارض للنساء فوقت الطهر أصل ووقت الحيض عارض مع أن اجتماع الدم في حالة الطهر لا يعلم حقيقة ولو ثبت ذلك فإنما يسمى ذلك الوقت قرءا باعتبار الدم المجتمع ثم أن عند اختلاف أهل اللغة يجب المصير إلى لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة رضوان الله عليهم لما اختلفوا في التابوت والتابوه رجحوا لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا اكتبوا بالتاء والقرء في لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيض قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إذا أتاك قرؤك فدعي الصلاة" وقال صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام اقرائها" والقرء والإقراء كلاهما جمع كما يقال فلس وفلوس ونزل وإنزال ثم الشافعي رحمه الله تعالى رجح الإطهار باعتبار حرف الهاء المذكور في قوله ثلاثة قروء فقال جمع المذكر يؤنث والطهر هو المذكر ولكنا نقول الإعراب يتبع اللفظ دون المعنى يقال ثلاثة أفراس وثلاث دواب وقال أيضا القرء عبارة عن الانتقال يقال قرأ النجم إذا انتقل وكما طعنت في الحيضة الثالثة فقد وجد ثلاث انتقالات من الطهر ولكن هذا لا معنى له فالانتقال من الحيض إلى الطهر أيضا قرء فكان ينبغي على هذا أن تنقضي العدة إذا طعنت في الحيضة الثالثة واحد لم يقل بهذا ولكن الصحيح ما قاله علماؤنا رحمهم الله تعالى أن الله تعالى لما ذكر جمعا مقرونا بالعدد اقتضى الكوامل منه والطلاق هو المباح في حالة الطهر فلو جعلنا القرء الإطهار لكان انقضاء العدة(6/23)
ص -13- ... بقرأين وبعض الثالث وهذا يستقيم في جمع غير مقرون بالعدد كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فأما في جمع مقرون بالعدد فلا بد من الكوامل وإنما يحصل ذلك إذا حمل القرء على الحيض فيكون انقضاء العدة بثلاث حيض كوامل واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] معناه في عدتهن والطلاق المباح في حالة الطهر فعرفنا أن العدة بالطهر وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لابن عمر رضي الله تعالى عنه: "إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" واستدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه من الحيض والحبل فهو بيان المراد بالقروء قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الآية وإنما نقل إلى الأشهر عند عدم الحيض والنقل إلى البدل يكون عند عدم الأصل فهو تنصيص على أن المراد بالقرء الحيض وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي قبل عدتهن كما يقال زينت الدار لقدوم الحاج وتوضأت للصلاة أي قبلها وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لقبل عدتهن مع أن المراد عدة الإيقاع ونحن نقول إن عدة الإيقاع بالإطهار فأما عدة الاعتداد بالحيض بيانه في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ومن حيث المعنى هو يقول الطلاق السني يستعقب جزءا محسوبا من العدة كما في الأيسة والصغيرة وإنما يكون ذلك إذا كان الاعتداد بالإطهار ونحن نقول المقصود من هذه العدة تبين فراغ الرحم ولهذا لا تجب إلا عند توهم اشتغال الرحم ولهذا يعتبر بوضع الحمل إذا(6/24)
كانت حاملا والحيض هي التي تدل على تبين فراغ الرحم دون الطهر فكان الاعتبار بالحيض أولى ثم الأصل في العبادات التي تشتمل على أركان ينفصل بعضها عن بعض أن الأداء لا يتصل بالشروع فيها كما في الحج وفيما يكون متصل الأركان يتصل الأداء بالشروع كالصلاة والعدة بالأشهر متصلة الأركان فيتصل الأداء بالشروع فيها والعدة بالإقراء منفصلة الأركان بعضها عن بعض فلا يجب أن يتصل الأداء بالشروع فيها والدليل على ما قلنا الاستبراء فإنه معتبر بالحيض بالنص والمقصود تبين فراغ الرحم فكذلك العدة.
قال: وعدة الحامل أن تضع حملها ولو وضعت حملها بعد الطلاق بيوم لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأن وضع الحمل أدل على ما هو المقصود وهو معرفة براءة الرحم من الاقراء وعدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بالنص وتكلموا في معنى قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]قال مالك رضي الله عنه المراد ارتيابها في حال نفسها أنها هل تحيض بعد هذا أولا حتى قال إذا ارتابت تربصت سنة ثم اعتدت بثلاثة أشهر ولكنا نقول لما نزل قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قالت الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم فإن كانت ممن لا تحيض من صغر أو كبر وارتابوا في ذلك فنزل قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] وفي قول الصحابة(6/25)
ص -14- ... رضوان الله عليهم فإن كانت ممن لا تحيض دليل على أنهم فهموا من القرء الحيض.
قال: والكتابية تحت المسلم في الطلاق والعدة بمنزلة المسلمة لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وهو مسلم وفي العدة الواجب عليها حق الزوج وهو مسلم.
قال: والأمة بمنزلة الحرة في وقت السنة لأن المخاطب بمراعاة وقت السنة الزوج وذلك لا يختلف بكونها حرة أو أمة وعدتها حيضتان إذا كانت من ذوات الإقراء للحديث الذي روينا ولقول عمر رضي الله تعالى عنه عدة الأمة حيضتان ولو استطعت لجعلتها حيضة ونصفا بين أن التنصيف بسبب الرق يثبت في العدة ولكن بقدر الممكن والحيضة الواحدة لا تحتمل التنصيف وإن كانت آيسة أو صغيرة فعدتها شهر ونصف لقول عمر رضي الله تعالى عنه ولأن الشهر محتمل للتنصيف وعلى قول مالك عدتها بالشهور ثلاثة أشهر لظاهر الآية ولكنا نقول الرق ينصف ذوات الأعداد بمنزلة الجلدات في الحدود وعدتها إذا كانت حاملا بوضع الحمل بالاتفاق لأن تبين فراغ الرحم لا يحصل قبل ذلك.
قال: وإذا كان الرجل غائبا عن امرأته فأراد أن يطلقها للسنة كتب إليها إذا جاءك كتابي هذا ثم حضت فطهرت فأنت طالق لجواز أن يكون قد امتد طهرها الذي جامعها فيه فلو كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق يقع الطلاق عليها في طهر جامعها فيه وهو خلاف السنة فلهذا قيد بهذه الصفة وفي الرقيات زاد محمد رحمه الله تعالى فقال وعلمت ما فيه لجواز أن لا تقرأ كتاب زوجها فيقع الطلاق عليها وهي لا تشعر بذلك ولكن في ظاهر الرواية لم يذكر هذه الزيادة لأن المغيبة لا تكون أحرص على شيء منها على قراءة كتاب زوجها والظاهر أنها لا تؤخر ذلك.(6/26)
قال: فإن أراد أن يطلقها ثلاثا كتب ثم إذا حضت وطهرت فأنت طالق وإن شاء أوجز فكتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة فيقع بهذه الصفة لأن الكتاب ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا وإن كانت ممن لا تحيض كتب إذا جاءك كتابي هذا ثم أهل شهر فأنت طالق وإن شاء كتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق ثلاثا للسنة لما بينا أن له أن يطلقها للسنة إذا كانت ممن لا تحيض في أي وقت شاء.
قال: وإن كان لم يدخل بامرأته ولم يخل بها فله أن يطلقها متى شاء خلافا لزفر وقد بينا ذلك وليس عليها عدة لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] قال مشايخنا رحمهم الله تعالى وفي كتاب الله تعالى المتلو لا بهذه الصفة بل المتلو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية ولكن هذا غلط وقع من الكاتب وترك كذلك وإن كان قد خلا بها فطلاقها وعدتها مثل التي دخل بها لأن الخلوة الصحيحة في حكم العدة بمنزلة الدخول ومراعاة وقت السنة في الطلاق لأجل العدة فتقام الخلوة فيه أيضا مقام الدخول.
قال: وإذا طلق امرأته وهي حائض فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وعلى قول الروافض لا يقع وفي الكتاب ذكر بابا ردا عليهم فيؤخر الكلام فيه إلى ذلك الموضع والقدر(6/27)
ص -15- ... الذي نذكره هنا حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "مر ابنك فليراجعها" والمراجعة تكون بعد وقوع الطلاق ولكنهم يدعون أن المروي فليرجعها وقد كان أخرجها من بيته فإنما أمره أن يردها إلى بيته وهذا باطل من الكلام فقد قيل لابن عمر رضي الله عنه هل احتسبت بتلك الطلقة فقال وما لي لا أحتسب بها وإن استحمقت أو استجهلت أكان لا يقع طلاقي ولما ذكر لعمر رضي الله عنه في الشورى ابنه فقال سبحان الله أقلد أمور المسلمين ممن لم يحسن طلاق امرأته فطلقها في حالة الحيض فهو إشارة إلى أن ذلك الطلاق كان واقعا وأنه ينبغي للمرء أن يصون نفسه عن ذلك.
قال: ثم ينبغي له أن يراجعها كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لو راجعها لم تبن منه بطلاق محظور ويندفع عنها ضرر تطويل العدة فإذا لم يراجعها بانت منه بطلاق محظور ويتحقق معنى تطويل العدة فلهذا ينبغي له أن يراجعها.
قال: فإذا طهرت من حيضة أخرى طلقها إن شاء وهذا إشارة إلى أنها إذا طهرت من هذه الحيضة لا يباح إيقاع الطلاق عليها وذكر الطحاوي رحمه الله أنه إذا طلقها في الحيض ثم طهرت من تلك الحيضة يباح إيقاع الطلاق عليها وقيل ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن وقت السنة الطهر الذي لا جماع فيه وقد وجد وما ذكر في الكتاب قولهما لأن الفصل بين الطلاقين بحيضة كاملة وذلك لا يكون إذا طهرت من هذه الحيضة وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه روي بروايتين من طريق شعبة مر ابنك فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر ثم ليطلقها إن شاء فهو دليل قولهما ومن طريق آخر مر ابنك فليراجعها فإذا حاضت وطهرت فليطلقها إن شاء وهذا يحتمل بقية هذه الحيضة كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك إن طلقها في حالة الحيض.(6/28)
قال: ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه واحدة ثم راجعها بالقول فأراد أن يطلقها أخرى في ذلك الطهر للسنة فله ذلك عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله تعالى وليس له ذلك عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعن محمد رضي الله تعالى عنه فيه روايتان فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول شرط الفصل بين طلاقي السنة الحيضة الكاملة كما قال صلى الله عليه وسلم: "فليطلقها في كل قرء تطليقة" ولأن إيقاع تطليقة في طهر في المنع من تطليقة أخرى في ذلك الطهر كالجماع فكما لا يجوز له أن يطلقها بعد الجماع في طهر واحد فكذلك بعد الطلاق وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الفصل بالحيضة إنما يعتبر إذا كانت الثانية تقع في العدة وبالمراجعة قد ارتفعت العدة فكانت الثانية بمنزلة ابتداء الإيقاع وقد حصل في طهر لا جماع فيه ثم الرجعة تسقط جميع العدة ولو تخلل بين التطليقتين ما يسقط بعض العدة كانت الثانية واقعة على وجه السنة فإذا تخلل ما يسقط جميع العدة أولى وكذلك لو راجعها بالتقبيل أو المس عن شهوة حتى روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه إذا كان أخذ بيد امرأته عن شهوة فقال لها أنت طالق ثلاثا للسنة يقع عليها ثلاث تطليقات في الحال يتبع بعضها بعضا لأن كلما وقع عليها(6/29)
ص -16- ... تطليقة صار مراجعا لها فتقع أخرى فأما إذا راجعها بالجماع فإن لم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى في هذا الطهر بالإجماع لأنه طهر قد جامعها فيه وإن راجعها بالجماع فحبلت فعند أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يطلقها أخرى أيضا لأنه قد طلقها في هذا الطهر واحدة والطهر الواحد لا يكون محلا لأكثر من تطليقة واحدة على وجه السنة وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهما الله تعالى له أن يطلقها أخرى لأن العدة الأولى قد سقطت والطلاق عقيب الجماع في الطهر إنما لا يحل لاشتباه أمر العدة عليها وذلك لا يوجد إذا حبلت وظهر الحبل بها.(6/30)
قال: وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة فقد أخطأ السنة والطلاق واقع عليها وفي زيادات الزيادات قال التطليقة البائنة تقع بصفة السنة كالرجعية لأن بن ركانة رضي الله تعالى عنه طلق امرأته البتة ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق بهذا اللفظ فلو كان خلاف السنة لأنكر عليه كما أنكر على ابن عمر رضي الله تعالى عنه والواقع بهذا اللفظ يكون بائنا والدليل عليه الطلاق قبل الدخول والخلع فإنه يقع بائنا ولا يكون مكروها فأما وجه ظاهر الرواية أن إباحة الإيقاع للحاجة إلى التفصي عن عهدة النكاح ولا حاجة به إلى زيادة صفة البينونة فكانت زيادة هذه الصفة كزيادة العدد ثم لا مقصود له في ذلك سوى رد نظر الشرع له بقطع خيار الرجعة وسد باب التلافي على نفسه عند الندم وهذا بخلاف الخلع فإنه يحتاج إلى ذلك لاسترداد ما ساق لها من الصداق إذا كان النشوز منها مع أن الخلع لا يكون إلا عند تحقق الحاجة ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يكره في حالة الحيض والطلاق قبل الدخول لا يكون إلا بائنا والتي لم يدخل بها ليست نظير التي دخل بها بدليل الإيقاع في حالة الحيض وتأويل حديث بن ركانة رضي الله عنه أنه طلقها قبل الدخول بها وقبل الدخول بأي لفظ أوقع يكون بائنا ويحتمل أن يكون أخر الإنكار إلى وقت آخر لعلمه أنه لفرط الغيظ لا يقبل في ذلك الوقت والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الرجعة(6/31)
قال: وإذا طلقها واحدة في الطهر أو في الحيض أو بعد الجماع فهو يملك الرجعة ما دامت في العدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق سودة رضي الله تعالى عنها بقوله اعتدي ثم راجعها وطلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بالوطء ويستوي إن طالت مدة العدة أو قصرت لأن النكاح بينهما باق ما بقيت العدة وقد روي أن علقمة رضي الله عنه طلق امرأته فارتفع حيضها سبعة عشر شهرا ثم ماتت فورثه ابن مسعود رضي الله عنه منها وقال إن الله تعالى حبس ميراثها عليك فإذا انقضت العدة قبل الرجعة فقد بطل حق الرجعة وبانت المرأة منه وهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها إن اتفقا على ذلك وإذا أراد أن يراجعها قبل انقضاء العدة فأحسن ذلك أن لا يغشاها حتى يشهد شاهدين على رجعتها والإشهاد على الرجعة مستحب عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى شرط لا تصح الرجعة إلا به وهو قول مالك رحمه الله تعالى وهذا عجيب من مذهبه فإنه لا يجعل الإشهاد على النكاح شرطا ويجعل(6/32)
ص -17- ... الإشهاد على الرجعة شرطا لظاهر قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والأمر على الوجوب ومذهبنا مروي عن ابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهما ولأن الرجعة استدامة للنكاح والإشهاد ليس بشرط في استدامة النكاح وبيانه أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وهو منع للمزيل من أن يعمل عمله بعد انقضاء المدة فلا يكون الإشهاد عليه شرطا كالفيء في الإيلاء والمراد بالآية الاستحباب ألا ترى أنه جمع بين الرجعة والفرقة وأمر بالإشهاد عليهما ثم الإشهاد على الفرقة مستحب لا واجب فكذلك على الرجعة وهو نظير قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ثم البيع صحيح من غير إشهاد وليس في الرجعة عوض لا قليل ولا كثير لأنه استدامة للملك فلا يستدعي عوضا ولهذا لا يعتبر فيه رضاها ولا رضى المولى لأن الله تعالى جعل الزوج أحق بذلك بقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإنما يكون أحق إذا استبد به والبعل هو الزوج وفي تسميته بعلا بعد الطلاق الرجعي دليل بقاء الزوجية بينهما فالمباعلة هي المجامعة ففيه إشارة إلى أن وطأها حلال له وهو قول علمائنا أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء ولكن لا يستحب له أن يطأها قبل الإشهاد على المراجعة لأنه يصير مراجعا لها من غير شهود وعند الشافعي رحمه الله تعالى يحرم عليه وطأها ما لم يراجعها ولهذا شرط الإشهاد على الرجعة لأنه سبب لاستباحة الوطء واستدل بقوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228] والإصلاح يكون بعد تمكن الفساد ولم يتمكن الفساد هنا بزوال أصل الملك عرفنا أنه تمكن الفساد بحرمة الوطء ويجوز أن تثبت حرمة الوطء مع قيام أصل الملك كمن كاتب أمته يحرم عليه وطأها وإن بقي الملك بعد الكتابة ولهذا لا يلزمه مهر جديد بالوطء كما في المكاتبة ولأن هذا طلاق واقع فيحرم الوطء كالواقع بقوله أنت بائن وتقريره أن(6/33)
الإقراء يحتسب بها من العدة بعد الطلاق ومع بقاء ملك النكاح مطلقا لا يحتسب بالإقراء من العدة لأن العدة لصيانة الماء وصون الماء بالنكاح أبلغ منه بالعدة ولأن العدة لتبين فراغ الرحم فيستحيل أن تكون هي مشغولة بما يبين فراغ رحمها ويكون الزوج مسلطا على شغل رحمها والدليل عليه أنها إذا جاءت بالولد إلى سنتين يجعل هذا من علوق قبل الطلاق ولو بقي الحل بينهما لكان يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهي ستة أشهر وحجتنا في ذلك أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكا وذلك استدامة للملك فدل أن الملك باق على الإطلاق وملك النكاح ليس إلا ملك الحل فإنه لا يملك عينها ولا منافعها فبقاء ملك النكاح مطلقا يكون دليل بقاء حل الوطء إلا بعارض يحرم به الوطء في ملك اليمين كالحيض والظهار واختلاف الدين وبكونها مطلقة لا يحرم الوطء بملك اليمين لأنها لو كانت أمة فاشتراها بعد الطلاق كان له أن يطأها فكذلك لا يحرم الوطء في ملك النكاح والدليل على بقاء الملك مطلقا أنه يملك التصرفات كالظهار والإيلاء واللعان وأنهما يتوارثان وأنه يملك الاعتياض بالخلع وملك الاعتياض لا يكون إلا مع بقاء أصل الملك وأنه بعد الرجعة يحل له وطأها والرجعة ليست بسبب لحل الوطء مقصودا حتى لا يعتبر فيها المهر ولا رضاها والدليل عليه أن الطلاق بعد(6/34)
ص -18- ... الطلاق واقع فلو كان حكم الطلاق زوال الملك به لم يقع الطلاق بعد الطلاق لأن المزال لا يزال وكما أن الطلاق الثاني واقع من غير أن يزول الملك به فكذلك الأول لأن الحكم الأصلي للطلاق رفع الحل عن المحل إذا تم ثلاثا فأما زوال الملك به معلق بانقضاء العدة قبل الرجعة والمعلق بالشرط عدم قبله وإنما سمى الله تعالى الرجعة ردا واصلاحا لأنه يعيدها بالرجعة إلى الحالة الأولى حتى لا تبين بانقضاء العدة لا لأنه يعيدها إلى الملك وملك النكاح ليس نظير ملك اليمين فإن صفة الحل هناك تنفصل عن أصل الملك ابتداء وبقاء كالأخت من الرضاعة والأمة المجوسية وهنا صفة الحل تنفصل عن أصل الملك ابتداء وبقاء مع أن المكاتبة صارت أحق بنفسها بما التزمت من العوض وهنا الزوج أحق بها ووزان هذا من المكاتبة أن لو طلقها بعوض وكون الطلاق واقعا لا يكون دليل حرمة الوطء مع قيام الملك كما بعد الرجعة فإن الطلاق يبقى واقعا والوطء حلال وهذا لأن هذه الإزالة بطريق الإسقاط والمسقط يكون متلاشيا لا يتصور إعادته والاحتساب بالإقراء من العدة لأنه صار غير مريد لها بالطلاق كمن وطى ء أمته ثم أراد بيعها يستبرئها مع قيام الملك والحل واستناد العلوق إلى أبعد الأوقات للتحرز عن إثبات الرجعة بالشك فإنا لو أسندنا العلوق إلى أقرب الأوقات جعلناه مراجعا لها بالشك وهو بناء على مذهبنا أن جماعة إياها في العدة رجعة منه وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون رجعة واعتبر الرجعة بأصل النكاح فكما لا يثبت أصل النكاح بالفعل فكذلك لا تثبت الرجعة وفي الحقيقة هذا بناء على ما تقدم فإن عنده الرجعة سبب لاستباحة الوطء ورفع الخلل الواقع في الملك فلا يكون إلا بالقول والجماع قبل الرجعة حرام فلا يكون سببا للحل وعندنا الرجعة استدامة للملك والفعل المختص به يكون أدل على استدامة الملك من القول وهو نظير الفيء في الإيلاء فإنه منع للمزيل من أن يعمل بعد انقضاء العدة وذلك يحصل(6/35)
بالجماع ونقول أكثر ما في الباب أن يثبت له أن الطلاق مزيل للملك ولكن المزيل متى ظهر وأعقب خيار الاستبقاء في مدة معلومة يكون مستبقيا للملك بالوطء كمن باع أمته على أنه بالخيار ثلاثة أيام ثم وطئها صار بالوطء مستبقيا للملك بل أولى لأن هناك يحتاج إلى فسخ السبب المزيل وهنا لا يحتاج إلى رفع الطلاق الواقع وكذلك لو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة لأن هذه الأفعال تختص بالملك الموجب للحل كالوطء فتكون مباشرته دليل استبقاء الملك ألا ترى في ثبوت حرمة المصاهرة جعلت هذه الأفعال بمنزلة الوطء فكذلك في حكم الرجعة والأحسن له أن يشهد شاهدين بعد ذلك هكذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حين سئل عمن طلق امرأته ولم يعلمها حتى غشيها فقال طلقها لغير السنة وراجعها على غير السنة وليشهد على ذلك شاهدين.
قال: ولا يكون النظر إلى شيء من جسدها سوى الفرج رجعة لأن ذلك لا يختص بالملك ولأنه لا تثبت به حرمة المصاهرة ولأن النظر إلى الفرج نوع استمتاع فإن النظر إلى الفرج إما لحسنه أو للاستمتاع وليس في الفرج معنى الحسن فكان النظر إليه استمتاعا بخلاف(6/36)
ص -19- ... سائر الأعضاء والنظر إلى الفرج بغير شهوة لا يكون رجعة لأنه غير مختص بالملك فإن القابلة تنظر والحافضة كذلك فأما إذا قبلته بشهوة أو لمسته بشهوة أو نظرت إلى فرجه بشهوة تثبت به الرجعة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا تثبت عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن هذا الفعل من الزوج دليل استبقاء الملك وليس لها ولاية استبقاء الملك فلا يكون فعلها رجعة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا فعلها به كفعله بها فإن الحل مشترك بينهما وفعلها به في حرمة المصاهرة كفعله بها فكذلك في الرجعة ثم فرق أبو يوسف رحمه الله تعالى في ظاهر الرواية بين هذا وبين الخيار فقال الأمة إذا فعلت ذلك بالبائع في مدة الخيار يكون فسخا للبيع وهنا لا يكون رجعة منها لأن إسقاط الخيار قد يحصل بفعلها وهو ما إذا جنت على نفسها أو قتلت نفسها والرجعة لا تكون بفعلها قط وقد روى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى التسوية بين الفصلين فقال لا يسقط هناك الخيار بفعلها ومحمد رحمه الله تعالى يفرق فيقول هناك يسقط الخيار بفعلها لما فيه من فسخ البيع إن كان الخيار للبائع وإثبات الملك إن كان الخيار للمشتري وليس إليها ذلك وهنا ليس في الرجعة فسخ السبب ولا إثبات الملك ولكن إنما تثبت الرجعة بفعلها إذا أقر الزوج أنها فعلت ذلك بشهوة فأما إذا ادعت هي وأنكر الزوج لا تثبت الرجعة وكذلك إن شهد شاهدان أنها فعلت ذلك بشهوة لأن الشهود لا يعرفون ذلك إلا بقولها وقولها غير مقبول إذا أنكره الزوج.(6/37)
قال: وتعليق الرجعة بالشرط باطل وكذلك الإضافة إلى وقت حتى إذا قال راجعتك غدا أو إذا جاء غد فهو باطل لأنه استدامة الملك فلا يحتمل التعليق بالشرط كأصل النكاح وإنما يحتمل التعليق بالشرط ما يجوز أن يحلف به ولا يحلف بالرجعة بخلاف الطلاق وهو نظير الإذن للعبد والتوكيل يحتمل التعليق بالشرط لأنه إطلاق ورفع للقيد والحجر على العبد وعزل الوكيل لا يحتمل التعليق بالشرط لأنه تقييد.
قال: وإن قال كنت راجعتك أمس صدق إن كانت في العدة بعد لأنه أخبر بما يملك استئنافه فلا يكون متهما في الإخبار ولم يصدق إذا قال ذلك بعد انقضاء العدة لأنه أخبر بما لا يملك استئنافه وهذا لأن الإقرار خبر متردد بين الصدق والكذب فإذا كان يملك مباشرته في الحال تنتفي تهمة الكذب عن خبره وإذا كان لا يملك مباشرته تتمكن تهمة الكذب في خبره وهو كالوكيل بالبيع إذا قال قبل العزل كنت بعته من فلان يصدق بخلاف ما لو قال بعد العزل فإن صدقته المرأة في إخباره بعد انقضاء العدة كان مصدقا لأن الحق لا يعدوهما وتصادقهما على الرجعة كتصادقهما على أصل النكاح.
قال: وإذا طهرت من الحيضة الثالثة غير أنها لم تغتسل فالرجعة باقية له عليها وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة فأما إذا كانت أيامها عشرة فقد تيقنا بخروجها من الحيض بنفس انقطاع الدم وإذا كانت أيامها دون العشرة لم نتيقن بذلك لجواز أن يعاودها الدم فيكون ذلك حيضا إذا لم يجاوز العشرة وقد قالت الصحابة رضوان الله عليهم الزوج أحق برجعتها ما لم(6/38)
ص -20- ... تغتسل أو ما لم تحل لها الصلاة وحل الصلاة يكون بالاغتسال وإذا أخرت الغسل حتى ذهب وقت أدنى الصلاة إليها انقطع حق الرجعة عندنا ولا ينقطع عند زفر رحمه الله تعالى عملا بقول الصحابة رضي الله عنهم ما لم تحل لها الصلاة ولبقاء توهم معاودة الدم وكون ذلك حيضا ولكنا نقول بذهاب الوقت صارت الصلاة دينا في ذمتها وذلك من خواص أحكام الطاهرات فإذا انضم ذلك إلى الانقطاع تقوى به كالاغتسال ولا يعتبر توهم معاودة الدم بعده كما لا يعتبر بعد الاغتسال وقيل في معنى قول الصحابة رضي الله عنهم حتى تحل لها الصلاة أي تحل عليها الصلاة بأن تلزمها بذهاب الوقت وهو نظير قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أي عليهم اللعنة أرأيت لو أخرت الاغتسال شهرا طمعا في أن يراجعها الزوج أكان تبقي الرجعة إلى هذه المدة هذا قبيح فإذا انقضت عدتها ثم أقام الزوج البينة أنه قال في عدتها قد راجعتها أو أنه قال قد جامعتها كان ذلك رجعة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا من أعجب المسائل فإنه يثبت إقرار نفسه بالبينة بما لو أقر به للحال لم يكن مقبولا منه وإن لم تكن له بينة وكذبته المرأة فأراد أن يستحلفها فلا يمين له عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليها اليمين لأن هذا استحلاف في الرجعة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى ذلك على ما بيناه في النكاح فإن قيل أليس أنها لو ادعت انقضاء عدتها تستحلف في ذلك ثم لو نكلت كان للزوج أن يراجعها قلنا ذلك استحلاف في العدة فإذا نكلت بقيت العدة وهي محل الرجعة وهذا استحلاف في نفس الرجعة والخلوة بالمعتدة ليست برجعة لأنها لا تختص بالملك فإنه يحل للرجل أن يخلو بذوات محارمه فلا يكون دليل استدامة الملك(6/39)
قال: ولو كتمها الطلاق ثم راجعها وكتمها الرجعة فهي امرأته لأنه في إيقاع الطلاق هو مستبد به وكذلك في الرجعة فإنه استدامة لملكه ولا يلزمها به شيئا فلا معتبر بعلمها فيه ولكنه أساء فيما صنع حين ترك الإشهاد على الرجعة وهو مستحب قال بلغنا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا أراد أن يراجع امرأته لم يدخل عليها حتى يشهد.
قال: وإذا قال زوج المعتدة لها قد راجعتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي فالقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا تثبت الرجعة وعندهما القول قول الزوج والرجعة صحيحة لأنها صادفت العدة فإن عدتها باقية ما لم تخبر بالانقضاء وقد سبقت الرجعة خبرها بالانقضاء فصحت الرجعة وسقطت العدة فإنها أخبرت بالانقضاء بعد سقوط العدة وليس لها ولاية الإخبار بعد سقوط العدة لو سكتت ساعة ثم أخبرت ولأنها صارت متهمة في الإخبار بالانقضاء بعد رجعة الزوج فلا يقبل خبرها كما لو قال الموكل للوكيل عزلتك فقال الوكيل كنت بعته وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الرجعة صادفت حال انقضاء العدة فلا تصح لأن انقضاء العدة ليس بعدة مطلقا وشرط الرجعة أن تكون في عدة مطلقة وبيانه أنها أمينة في الإخبار ولا يمكنها أن تخبر إلا بعد الانقضاء فإذا أخبرت مجيبة للزوج عرفنا ضرورة أن(6/40)
ص -21- ... الانقضاء سابق وأقرب أحواله حال قول الزوج راجعتك بخلاف ما إذا سكتت ساعة فإن أقرب الأحوال للانقضاء هناك حال سكوتها ولا يقال مصادفة الرجعة حال انقضاء العدة نادر لأن انقضاء العدة لا بد من أن يوافق حالة فتارة يوافق كلها وتارة يومها وتارة قول الزوج راجعتك وإن تمكن ما هو نادر وهو رجعة الزوج في هذه الحالة وإنما تصير متهمة إذا فرطت في الإخبار بالتأخير ولا تفريط منها هنا لأنها لا تقدر على الأخبار إلا بعد الانقضاء بخلاف الوكيل فإنه مفرط في الإخبار لأن بيعه كان قبل العزل لا مع العزل ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال لها قد طلقتك فقالت مجيبة له قد انقضت عدتي قيل هو على هذا الخلاف ولا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قال لها أنت طالق مع انقضاء عدتك والأصح أنه يقع لإقرار الزوج بالوقوع كما لو قال بعد انقضاء العدة كنت طلقتك في العدة كان مصدقا في ذلك بخلاف الرجعة.
قال: والتوارث قائم بين الرجل والمعتدة من طلاق رجعي لأن الزوجية بينهما قائمة وإنما انتهت بالموت وهو سبب التوارث ويستوي فيه التطليقة والتطليقتان ويملك مراجعة المرأة الكتابية والمملوكة في عدتها مثل ما يملكه على الحرة المسلمة لأنها استدامة للملك كما قلنا والمكاتبة والمدبرة وأم الولد بمنزلة الأمة في الطلاق والعدة لبقاء الرق المنصف للحل فيهن والمستسعاة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها كالمكاتبة.(6/41)
قال: وإذا قال زوج الأمة بعد انقضاء عدتها قد كنت راجعتها في العدة وصدقه المولى وكذبته الأمة فالقول قولها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى القول قول الزوج لأن بضعها مملوك للمولى وينزل المولى فيها منزلة الحرة من نفسها حتى يصح تزويجه إياها واقراره بالنكاح عليها فكذلك إقراره بالرجعة بمنزلة إقرار الحرة على نفسها به وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الرجعة تنبني على سبب لا قول للمولى فيه وهو قيام العدة فإن القول في العدة قولها في البقاء والانقضاء دون المولى فكذلك فيما ينبني عليه توضيحه أن صحة الرجعة حال قيام العدة ولا ملك للمولى عند ذلك في البضع ولا تصرف فكان القول فيه قولها بخلاف التزويج والإقرار به عليها ولو كانت هي التي صدقت الزوج وكذبه المولى لم تثبت الرجعة أما عندهما فظاهر وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن بضعها في الحال خالص حق المولى فإن عدتها منقضية فلهذا لا يقبل قولها في ذلك.
قال: والمعتدة من طلاق رجعي تتشوف وتتزين له لأن الزوجية باقية بينهما وهو مندوب على أن يراجعها وتشوفها له يرغبه في ذلك فإن كان من شأنه أن لا يراجعها فأحسن ذلك أن يعلمها بدخوله عليها بالتنحنح وخفق النعل كي تتأهب لدخوله لا لأن الدخول عليها بغير الاستئذان حرام ولكن المرأة في بيتها في ثياب مهنتها فربما يقع بصره على فرجها وتقترن به الشهوة فيصير مراجعا لها بغير شهود وذلك مكروه وإذا صار مراجعا وليس من قصده إمساكها احتاج إلى أن يطلقها وتستأنف العدة فيكون إضرارا بها من حيث تطويل العدة ولهذا قال أكره أن يراها متجردة إذا كان لا(6/42)
ص -22- ... يريد رجعتها وإن رآها لم يكن عليه شيء لأن ما فوق الرؤية وهو الغشيان حلال له.
قال: وإذا كانت معتدة من تطليقة بائنة أو فرقة بخلع أو إيلاء أو لعان أو اختيارها أمر نفسها أو بالأمر باليد أو ما أشبه ذلك فلا رجعة له عليها لأن حكم الرجعة عرف بالنص بخلاف القياس والنص ورد بمطلق الطلاق فبقي الطلاق المقيد بصفة البينونة على أصل القياس وهذا لأن كونها مطلقة حكم مطلق الطلاق وهذا لا ينافي ملك النكاح كما بعد الرجعة وكونها مبانة أو مالكة أمر نفسها ينافي ملك النكاح والمتنافيان لا يجتمعان فإذا ثبتت البينونة انتفى النكاح ولا رجعة له عليها وفي الخلع إنما التزمت العوض لتتخلص من الزوج وذلك لا يحصل مع قيام الملك وحق الرجعة.
قال: وإذا كان الطلاق بعد الخلوة وهو يقول لم أدخل بها فلا رجعة له عليها لأنه مقر بالبينونة وسقوط حقه في الرجعة وإقراره على نفسه صحيح ولأن الخلوة إنما جعلت تسليما في حق المهر لدفع الضرر عنها وذلك المعنى لا يوجد في الرجعة لأنها حق الزوج وهو متمكن من غشيانها.
قال: وإن كانت حين خلا بها حائضا أو صائمة في رمضان أو محرمة أو رتقاء فلا رجعة له عليها لأن الخلوة فاسدة في هذه الأحوال فإذا كان حق الرجعة لا يثبت بالخلوة الصحيحة فبالفاسدة أولى وعليه نصف المهر إلا على قول بن أبي ليلى رحمه الله فإنه يقول جميع المهر لأن عليها العدة بالاتفاق ولكنا نقول في العدة معنى حق الشرع وهما متهمان في ذلك فأما المهر حقها فيفصل فيه بين الخلوة الصحيحة والفاسدة وقد بينا فصول الخلوة في كتاب النكاح.
قال: وإذا كان عنينا أو مجبوبا أو خصيا فخلى بها ولم يدخل بها فلا رجعة له عليها لأنه لو كان فحلا ولم يدخل بها لم يكن له حق المراجعة في العدة فإذا كان المانع من الدخول ظاهرا فيه أولى أن لا يكون له حق المراجعة في العدة.(6/43)
قال: وإذا ادعى الزوج الدخول بها وقد خلا بها وأنكرته المرأة فله الرجعة لأن الظاهر شاهد له لأن الظاهر من حال الفحل أنه متى خلى بالأنثى التي تحل له نزا عليها فإن قيل الظاهر حجة لدفع الاستحقاق والزوج إنما يريد استحقاق الرجعة بقوله قلنا لا كذلك بل الزوج إنما يستبقي ملكه بما يقول ويدفع استحقاقها نفسها والظاهر يكفي لذلك.
قال: وإن لم يخل بها حتى طلقها وادعى الدخول فلا رجعة له عليها لأنه يدعي عارضا لا يعرف سببه ولأنه لا عدة له عليها في هذه الحالة فإن إنكارها سبب العدة كإنكارها أصل العدة والرجعة لا تكون إلا في العدة.
قال: وإذا قالت إن عدتي قد انقضت وذلك في وقت لا تحيض فيه ثلاث حيض لم تصدق على ذلك لأن الأمين إنما يقبل خبره إذا لم يكن مستحيلا أو مستنكرا فإذا أخبرت بما هو مستحيل أو مستنكر لم تصدق في خبرها ثم بين أدنى المدة التي تصدق فيها وهو شهران في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتسعة وثلاثون يوما في قولهما وقد بينا هذه المسألة بفروعها في آخر كتاب الحيض.(6/44)
ص -23- ... قال: فإن قالت قد أسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعض الخلق صدقت على ذلك لأنها مسلطة أمينة في الإخبار بما في رحمها قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار وقال أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه إن من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها فإذا أخبرت بذلك وكان محتملا وجب قبول خبرها من غير بينة وإن أتهمها الزوج حلفها.
قال: وكل سقط لم يستبن شيء من خلقه لا تنقضي به العدة لأنه ليس له حكم الولد بل هو كالدم المتجمد وعند الشافعي رحمه الله تعالى يمتحن بالماء الحار فإذا ذاب فيه فهو دم وإن لم يذب فهو ولد ولكن هذا من باب الطب لا من باب الفقه وقد بيناه في كتاب الحيض.
قال: وإذا قالت بعد مضي شهرين قد انقضت عدتي وقال الزوج قد أخبرتني أمس أنها لم تحض شيئا فإن كذبته المرأة فالقول قولها مع يمينها لأنه يدعي عليها ما لا يعرف سببه وهي تنكر ذلك وقد ظهر انقضاء العدة بخبرها وإن صدقته في ذلك فله أن يراجعها لأن الثابت بالتصادق كالثابت بالمعاينة وبعد ما أخبرت أمس أنها لم تحض شيئا فاخبارها في اليوم بانقضاء العدة مستحيل ولأن الحق لهما لا يعدوهما وقد تصادقا على قيام الزوجية بينهما.
قال: فإن كانت تعتد بالشهور لصغر أو إياس فحاضت انتقض ما مضى من عدتها بالشهور وكان عليها ثلاث حيض أما في الآيسة فظاهر لأنها لما حاضت تبين أنها لم تكن آيسة وإنما كانت ممتدا طهرها وأما في الصغيرة إذا حاضت فلأنها قدرت على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل والقدرة على الأصل تمنع اعتبار البدل ولا يكمل مع الأصل لأنهما لا يلتقيان فلا بد من الاستئناف وعلى هذا قالوا لو طلقها تطليقة فحاضت وطهرت قبل مضي الشهر له أن يطلقها أخرى لأن الفصل بالشهر بين الطلاقين كان قبل ظهور الحيض.(6/45)
قال: وكذلك لو حاضت حيضة ثم أيست من الحيض اعتدت بالشهور ثلاثة أشهر بعد الحيضة لأن إكمال الأصل بالبدل غير ممكن فلا بد من الاستئناف وإياسها أن تبلغ من السن ما لا يحيض فيه مثلها لأنه معنى في باطنها لا يوقف على حقيقته فلا بد من اعتبار السبب الظاهر فيه وإذا بلغت من السن ما لا يحيض فيه مثلها وهي لا ترى الدم فالظاهر أنها آيسة ولم يقدر السن في الكتاب وقد روي عن محمد رحمه الله تعالى التقدير بخمسين سنة وفي رواية ستين سنة وفصل في رواية بين الروميات والخراسانيات ففي الروميات التقدير بخمسين سنة لأن الهرم يسرع إليهن وفي الخراسانيات التقدير بستين سنة وأكثر مشايخنا على التقدير بالزيادة على خمسين سنة فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا جاوزت المرأة خمسين سنة لم تر في بطنها قرة عين.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته واحدة ثم راجعها في الحيضة الثانية ثم طلقها بعد الطهر وتركها حتى حاضت الثالثة ثم راجعها ثم طلقها بعد الطهر فعليها العدة بعد التطليقة الثالثة ثلاث حيض لأن الرجعة قد صحت لمصادفتها العدة فإذا طلقها كان عليها عدة مستقبلة وقد أساء فيما صنع لأنه طول العدة عليها وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}(6/46)
ص -24- ... [البقرة: 231] أنه نزل فيما ذكرنا وأما قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] إنما نزلت فيما إذا خطبها الزوج بعد انقضاء عدتها وأبى أولياؤها أن يتركوها.
قال: وإذا اغتسلت المعتدة من الحيضة الثالثة غير أنه بقي منها عضو لم يصبه الماء فالزوج يملك الرجعة ولو بقي ما دون العضو لم يكن للزوج عليها رجعة قال هذا والأول سواء غير أني أستحسن ولم يذكر في الكتاب نصا موضع القياس والاستحسان وقيل عند أبي يوسف رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في العضو الكامل في القياس ينقطع لأنها مغتسلة وقد غسلت أكثر البدن وللأكثر حكم الكل وفي الاستحسان لا ينقطع لأن العضو الكامل ورد الخطاب بتطهيره شرعا فبقاؤه كبقاء جميع البدن ولأن العضو الكامل لا يقع الانتقال عنه عادة فلا يسرع إليه الجفاف عادة بخلاف ما دونه وعند محمد رحمه الله تعالى القياس والاستحسان فيما دون العضو في القياس يبقى حكم الرجعة لبقاء حكم الحدث كما قال صلى الله عليه وسلم "تحت كل شعرة جنابة" ولأنه لم تحل لها الصلاة فكان هذا وبقاء عضو كامل سواء وفي الاستحسان تنقطع الرجعة لأن ما دون العضو لقلته يسرع إليه الجفاف فلا يتيقن بعدم إصابة الماء فلهذا يؤخذ فيه بالاحتياط فتنقطع الرجعة ولكن لا يحل لها أن تتزوج حتى تغسل ذلك الموضع احتياطا لأن الماء لم يصل إلى ذلك الموضع من حيث الظاهر.
قال: ولو تركت المضمضة والاستنشاق في الاغتسال لا تنقطع الرجعة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى لبقاء عضو كامل وتنقطع عند محمد رحمه الله احتياطا لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فإن من الناس من يقول المضمضة والاستنشاق في الاغتسال سنة فكان الاحتياط في قطع الرجعة.(6/47)
قال: وإذا لم تقدر على الماء بعد ما طهرت وأيامها دون العشرة فتيممت وصلت مكتوبة أو تطوعا فقد انقطعت الرجعة لأنا حكمنا بطهارتها حين جوزنا صلاتها بالتيمم فهو بمنزلة ما لو مضى عليها وقت صلاة وهناك تنقطع الرجعة فهنا كذلك فإن وجدت الماء بعد هذا اغتسلت ولم يعد حق الرجعة لأن صلاتها تلك بقيت مجزئة وهذا بخلاف ما إذا عاودها الدم لأن بمعاودة الدم تبين أن الانقطاع لم يكن طهرا وبوجود الماء لا يتبين ذلك فأما إذا تيممت ولم تصل فللزوج عليها حق الرجعة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله استحسانا وفي قول محمد رحمه الله تعالى قد انقطعت الرجعة وهو القياس لأن التيمم عند عدم الماء ينزل منزلة الاغتسال عند وجود الماء فيما يبنى أمره على الاحتياط بدليل حل أداء الصلاة لها وحل دخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف والحكم بسقوط الرجعة يؤخذ فيه بالاحتياط ألا ترى أنها لو اغتسلت وبقي على بدنها لمعة تنقطع الرجعة عنها احتياطا وإن لم يحل لها أداء الصلاة فهنا أولى وكذلك لو اغتسلت بسؤر الحمار ولم تجد غيره تنقطع الرجعة احتياطا ولم يحل لها أداء الصلاة في هذين الموضعين فهنا أولى أن تنقطع الرجعة وقد حل لها أداء الصلاة وهذا لأن التيمم طهارة عند عدم الماء قال الله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ(6/48)
ص -25- ... لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فإذا أتت به لم تبق مخاطبة بالتطهير فتنقطع الرجعة كالنصرانية تحت مسلم إذا انقطع دمها من الحيضة الثالثة انقطعت الرجعة بنفس الانقطاع لأنها غير مخاطبة بالتطهير وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا التيمم طهارة ضعيفة فلا تنقطع به الرجعة كنفس الانقطاع وبيانه أنه لا يرفع الحدث بيقين حتى أن المتيمم إذا وجد الماء كان محدثا بالحدث السابق ولأنه في الحقيقة تلويث وتغيير وهذا ضد التطهير وإنما جعل طهارة حكما لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة لأنها مؤقتة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة فكان طهارة في حكم الصلاة وفيما هو من توابع الصلاة خاصة كدخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف ولا ضرورة في حكم الرجعة فكان التيمم في حكم الرجعة عند عدم الماء كهو عند وجود الماء توضيحه أن التيمم مشروع لمقصود وهو أداء الصلاة لا رفع الحدث به ولهذا لا يؤمر به قبل دخول الوقت وفي الوقت أيضا ينتظر آخر الوقت وما كان مشروعا لمقصود فقبل انضمام ذلك المقصود إليه كان ضعيفا فلا يزول به الملك كشهادة الشاهدين على الطلاق لما كان المقصود هو قضاء القاضي به فما لم ينضم إليه القضاء لا يكون مزيلا للملك وهذا بخلاف ما إذا بقي على بدنها لمعة لأن قطع الرجعة هناك لتوهم وصول الماء إلى ذلك الموضع وسرعة الجفاف فكانت طهارة قوية في نفسها والاغتسال بسؤر الحمار كذلك فإنها طهارة قوية لكونها اغتسالا بالماء ولكنها تؤمر بضم التيمم إلى ذلك في حكم حل الصلاة احتياطا لاشتباه الأدلة في طهارة الماء وقد كان الأصل فيه الطهارة ولهذا لو اغتسلت به مع وجود ماء آخر تنقطع الرجعة أيضا لكونها طهارة قوية وإذا ثبت أن الطهارة قوية جاء موضع الاحتياط فقلنا بأنه تنقطع الرجعة احتياطا ولا تحل للأزواج حتى تغتسل بماء آخر أو تتيمم وتصلي لاحتمال نجاسة ذلك الماء احتياطا وهذا بخلاف النصرانية فإنه ليس عليها اغتسال أصلا فكان(6/49)
نفس الانقطاع كطهارة قوية في نفسها وهنا الاغتسال واجب عليها بعد التيمم وإنما تعذر للعجز ولم يذكر في الكتاب ما إذا تيممت وشرعت في الصلاة والصحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الرجعة لا تنقطع ما لم تفرغ من الصلاة لأن الحال بعد شروعها في الصلاة كالحال قبله ألا ترى أنها إذا رأت الماء لا يبقى لتيممها أثر بخلاف ما بعد الفراغ فإنها وإن رأت الماء تبقى صلاتها مجزئة وتأويل قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الزوج أحق برجعتها ما لم تحل الصلاة لها وحل الصلاة بالاغتسال فإنه صح من مذهبه أنه كان لا يرى التيمم للجنب والحائض وإن لم يجد الماء شهرا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب العدة وخروج المرأة من بيتها
قد بينا عدة ذات القروء والآيسة والصغيرة إذا كانت حرة أو أمة فأما عدة الوفاة فإنها لا تجب إلا عن نكاح صحيح ويستوي فيه المدخول بها وغير المدخول بها صغيرة كانت أو كبيرة حتى إذا كانت حرة مسلمة أو كتابية تحت مسلم فعدتها ما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وقوله: {وَيَذَرُونَ(6/50)
ص -26- ... أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] بيان أنها لا تجب إلا بنكاح صحيح لأن اسم الزوجية مطلقا لا يكون إلا بعد صحة النكاح ويستوي في هذا الاسم المدخول بها وغير المدخول بها وهذا لأن العدة محض حق النكاح لأن النكاح بالموت ينتهي فإنه يعقد للعمر ومضي مدة العمر ينهيه فتجب العدة حقا من حقوقه وبين السلف رحمهم الله فيه خلاف في أربعة فصول:
أحدها: أن منهم من يقول لها عدتان الأطول وهو الحول والأقصر وهو أربعة أشهر وعشرا كما قال الله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] أي بعد أربعة أشهر وعشرا {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ففي هذا بيان أن العدة الكاملة هو الحول وأن الاكتفاء بأربعة أشهر وعشرا رخصة لها ولكنا نقول هذه الآية منسوخة وهذا حكم كان في الابتداء أن على الزوج أن يوصي لها بالنفقة والسكنى إلى الحول وقد انتسخ ذلك بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] والدليل عليه ما روي أن المتوفى عنها زوجها لما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه في الاكتحال قال صلى الله عليه وسلم: "كانت إحداكن في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها قعدت في شر أحلاسها حولا ثم خرجت فرمت كلبة ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشرا".
والثاني: أن المعتبر عشرة أيام وعشر ليال من الشهر الخامس عندنا وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه كان يقول عشر ليال وتسعة أيام حتى يجوز لها أن تتزوج في اليوم العاشر لظاهر قوله تعالى: {وَعَشْراً} فإن جمع المؤنث يذكر وجمع المذكر يؤنث فيقال عشرة أيام وعشر ليال فلما قال هنا وعشرا عرفنا أن المراد الليالي ولكنا نقول هو كذلك إلا أن ذكر أحد العددين من الأيام والليالي بعبارة الجمع يقتضي دخول ما بازائه من العدد الآخر وقد بينا هذا في باب الاعتكاف.(6/51)
والثالث: أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها عندنا وهو قول ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وكان علي رضي الله عنه يقول تعتد بأبعد الأجلين إما بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشرا لأن قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] يوجب عليها العدة بوضع الحمل وقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} يوجب عليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرا فيجمع بينهما احتياطا ولو وضعت قبل أربعة أشهر وعشرا فليس لها أن تتزوج لأن أمر العدة مبنى على الاحتياط ولكن قد صح عن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أن قوله تعالى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} قاضية على قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه من شاء باهلته أن سورة النساء القصوى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} نزلت بعد {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} التي في سورة البقرة وقال عمر رضي الله تعالى عنه لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريرة لانقضت عدتها والدليل عليه حديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله تعالى عنها فإنها وضعت ما في بطنها بعد موت الزوج بتسعة أيام فسألت أبا السنابل بن بعكك هل لها أن تتزوج فقال لا حتى يبلغ الكتاب أجله فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قال أبو السنابل فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو(6/52)
ص -27- ... السنابل فقد بلغ الكتاب أجله إذا أردت النكاح فاد أبي" وإنما اشتبه على علي رضي الله تعالى عنه لأن بوضع الحمل يتبين براءة الرحم وفي التربص بأربعة أشهر وعشرا لا عبرة بشغل الرحم حتى تستوي فيها الصغيرة والكبيرة بخلاف عدة الطلاق ولكنا نقول أصل العدة مشروع لبراءة الرحم وتمام ذلك بوضع الحمل ففي حق الحامل لا يعتبر شيء آخر بأي سبب وجبت عليها العدة.
والرابع: أن عدة الوفاة معتبرة من وقت موت الزوج عندنا وهو قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وكان علي رضي الله عنه يقول من حين تعلم بموته حتى إذا مات الزوج في السفر فأتاها الخبر بعد مضي مدة العدة عند علي رضي الله تعالى عنه يلزمها عدة مستأنفة لأن عليها الحداد في عدة الوفاة ولا يمكنها إقامة سنة الحداد إلا بعد العلم بموته ولأن هذه العدة تجب بطريق العبادة فلا بد من علمها بالسبب لتكون مؤدية للعبادة ولكنا نقول العدة مجرد مضي المدة وذلك يتحقق بدون علمها فهو وعدة الطلاق سواء وأكثر ما في الباب أنها لم تقم سنة الحداد ولكن ذلك لا يمنع من انقضاء العدة كما لو كانت عالمة بموت الزوج ومعنى العبادة في العدة تبع لا مقصود ألا ترى أنها تجب على الكتابية تحت المسلم وهي لا تخاطب بالعبادات.
قال: والمتوفى عنها زوجها إذا كانت أمة أو مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد فإن كانت حائلا فعدتها شهران وخمسة أيام لأن الرق منصف للعدة كما بينا وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها لأن مدة الحبل لا تحتمل التنصيف فإن شيئا من المقصود وهو براءة الرحم لا يحصل قبل وضع الحمل.(6/53)
قال: ولا ينبغي للمطلقة ثلاثا أو واحدة بائنة أو رجعية أن تخرج من منزلها ليلا ولا نهارا حتى تنقضي عدتها لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قال إبراهيم رضي الله عنه الفاحشة خروجها من بيتها وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقال ابن مسعود رضي الله عنه الفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنه الفاحشة نشوزها وأن تكون بذيئة اللسان تبذو على أحماء زوجها وما قاله ابن مسعود رضي الله عنه هو الأصح فإنه جعل الفاحشة غاية والشيء لا يجعل غاية لنفسه وما ذكره إبراهيم محتمل أيضا والمعنى أن يكون خروجها فاحشة كما يقال لا يسب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون كافرا ولا يزني إلا أن يكون فاسقا وعلى هذا لا تخرج لسفر الحج ولا لغيره لأن الامتناع من الخروج موقت بالعدة يفوت بمضيها والخروج للحج لا يفوتها فتقدم ما يفوت على ما لا يفوت وأما المتوفى عنها زوجها فلها أن تخرج بالنهار لحوائجها ولكنها لا تبيت في غير منزلها لما روي أن فريعة بنت مالك بن أبي سنان أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها تستأذنه أن تعتد في بني خدرة فقال صلى الله عليه وسلم "امكثي في بيتك حتى تنقضي عدتك" ولم ينكر عليها خروجها للاستفتاء وعن علقمة رضي الله تعالى عنه أن اللاتي توفي عنهن أزواجهن شكون إلى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الوحشة فرخص لهن أن يتزاورن بالنهار ولا يبتن في غير منازلهن والمعنى فيه أنه لا نفقة في هذه العدة على زوجها فهي تحتاج إلى الخروج لحوائجها في النهار(6/54)
ص -28- ... وتحصيل ما تنفق على نفسها بخلاف المطلقة فإنها مكفية المؤنة ونفقتها على زوجها على أي وجه وقعت الفرقة بالطلاق فلا حاجة بها إلى الخروج وإن كانت أبرأت زوجها في الخلع فهي التي أضرت بنفسها فلا يعتبر ذلك وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أن للمتوفى عنها زوجها أن تبيت في غير منزلها أقل من نصف الليل وهذا صحيح لأن المحرم عليها البيتوتة في غير منزلها والبيتوتة في جميعها أو أكثرها قال: وإن كانت مدبرة أو أم ولد أو أمة أو مكاتبة فلها أن تخرج في عدة الطلاق والوفاة جميعا لأنها ما كانت ممنوعة عن الخروج في حال النكاح والمنع في العدة على ذلك ينبني وهذا لأن خدمتها حق مولاها والمنع عن الخروج إما لحق الشرع أو لحق الزوج وحق المولى في الخدمة مقدم على ذلك كله والمكاتبة إنما تخرج للاكتساب وفي كسبها حق المولى إما أن يستوفي منه بدل الكتابة أو يخلص له إذا عجزت والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكذلك الكتابية تحت مسلم أما في الطلاق الرجعي للزوج أن يمنعها من الخروج لقيام النكاح بينهما وأما في الطلاق البائن فإن منعها الزوج عن الخروج فله ذلك تحصينا لمائه ولكيلا تلحق به نسبا ليس منه وهو معنى قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] أي ولدا وأما إذا كان لا يمنعها الزوج فلها أن تخرج وكذلك في عدة الوفاة لها أن تبيت في غير منزلها لأن المنع لحق الشرع وهي لا تخاطب بذلك وإليه أشار فقال لأن ما فيها من الشرك أعظم من الخروج في العدة وإن كانت صبية فلها أن تخرج لأنها لا تخاطب بما هو أعظم من هذا من حقوق الشرع كالصلوات والحدود وليس للزوج أن يمنعها في الطلاق البائن لأنه لم يبق له عليها ملك ولا يتوهم الحبل قالوا إلا أن تكون مراهقة يتوهم أن تحبل فحينئذ هي كالكتابية فأما في الطلاق الرجعي هي لا تخرج إلا بإذن الزوج لبقاء ملك النكاح له عليها.(6/55)
قال: وإذا كانت المرأة مع زوجها في منزل مكرا فطلقها فيه فالكراء على زوجها حتى تنقضي عدتها لأن السكنى عليه والكراء مؤنة السكنى فتكون عليه كما في حال قيام النكاح فإن أخرجها أهل المنزل فهي في سعة من التحول لأن الحق لهم في منزلهم وهي لا تقدر على المقام مع الإخراج فيكون ذلك عذرا لها في التحول كما إذا انهدم المنزل فأما في عدة الوفاة أجر المنزل عليها لأنها لا تستوجب على زوجها السكنى كما لا تستوجب النفقة فإن مكنها أهل المنزل من المقام بكراء وهي تقدر على ذلك فعليها أن تسكن وإن كانت لا تجد ذلك فهي في سعة من التحول لأن سكناها في ذلك المنزل حق الشرع فإذا قدرت عليه بعوض لزمها كالمسافر إذا وجد الماء بثمن مثله فإن كان عنده الثمن فليس له أن يتيمم وإن لم يكن عنده الثمن فله أن يتيمم وكذلك إن كان زوج المطلقة غائبا فأخذها أهل المنزل بكراء فعليها أن تعطي الأجر وتسكن إذا كانت تقدر على ذلك وإن كانت في منزل زوجها فمات الزوج إن كان نصيبها من ذلك يكفيها فعليها أن تسكن في نصيبها في العدة ولا يخلو بها من ليس بمحرم لها من ورثة الزوج وإن كان نصيبها لا يكفيها فإن رضي ورثة الزوج أن تسكن فيه سكنت وإن(6/56)
ص -29- ... أبوا كانت في سعة من التحول للعذر وإن كانت في منزل مخوف على نفسها أو مالها وليس معها رجل كانت في سعة من الرحلة لأن المقام مع الخوف لا يمكن وفي المقام ضرر عليها في نفسها ومالها وذلك عذر في إسقاط حق الشرع كما لو كان بينه وبين الماء سبع أو عدو ولو كانت بالسواد فدخل عليها الخوف من سلطان أو غيره كانت في سعة من التحول إلى المصر لأنها تتمكن من إزالة الخوف هنا بالتحول إلى المصر ولو كان زوال الخوف بالتحول من منزل إلى منزل كان لها أن تتحول فكذلك إذا كان بالتحول من السواد إلى المصر.
قال: وإذا طلقها وهي في بيت أهلها أو غيرهم زائرة كان عليها أن تعود إلى منزل زوجها حتى تعتد فيه سواء كان زوجها معها أو لم يكن لأن الواجب عليها المقام في منزل مضاف إليها قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] والإضافة إليها بكونها ساكنة فيه فعرفنا أن المستحق عليها المقام في منزل كانت ساكنة فيه إلى وقت الفرقة وهذا لأن المنزل الذي هي فيه زائرة ليس بمضاف إليها فعليها أن تعود إلى المنزل الذي كانت ساكنة فيه لتتمكن من إقامة حق الشرع.(6/57)
قال: ولو سافر بها ثم طلقها فإن كان الطلاق رجعيا فهي لا تفارق زوجها لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح فأما إذا طلقها طلاقا رجعيا في منزلها فليس له أن يسافر بها قبل الرجعة عندنا وله ذلك عند زفر رحمه الله تعالى قيل هذا بناء على أن السفر بها رجعة عند زفر رحمه الله تعالى لأنه دليل استدامة الملك كالتقبيل والمس بشهوة وعندنا لا يكون السفر بها رجعة لأنه غير مختص بالملك كالخلوة وقيل هي مسألة مبتدأة فهو يقول الحل والنكاح بينهما قائم فله أن يسافر بها ولكنا نقول هي معتدة والمعتدة ممنوعة من إنشاء السفر مع زوجها كما تمنع من إنشاء السفر مع المحرم وربما تنقضي عدتها في الطريق فتبقى بغير محرم ولا زوج وأما في الطلاق البائن فإن كان بينها وبين مقصدها دون مسيرة سفر وبينها وبين منزلها كذلك فعليها أن ترجع إلى منزلها لأنها كما رجعت تصير مقيمة وإذا مضت تكون مسافرة ما لم تصل إلى المقصد فإذا قدرت على الامتناع من استدامة السفر في العدة تعين عليها ذلك وإن كان بينها وبين مقصدها دون مسيرة سفر وبينها وبين منزلها مسيرة سفر مضت إلى مقصدها ولم ترجع لأنها إذا مضت لا تكون منشئة سفرا ولا سائرة في العدة مسيرة سفر وإذا رجعت تكون منشئة سفرا فلهذا مضت إلى مقصودها وإن كان كل واحد من الجانبين مسيرة سفر فإن كان الطلاق أو موت الزوج في موضع لا تقدر على المقام فيه كالمفازة توجهت إلى أي الجانبين شاءت سواء كان معها محرم أو لم يكن وينبغي لها أن تختار أقرب الجانبين وهي في هذه المسألة كالتي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دارنا من غير محرم لأنها خائفة على نفسها ودينها فهذه في المفازة كذلك فأما إذا كانت في مصر أو قرية تقدر على المقام فيه فليس لها أن تخرج عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى تنقضي عدتها وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن لم يكن معها محرم فكذلك وإن كان معها محرم فلها أن تخرج إلى أي الجانبين شاءت لأنها غريبة(6/58)
في هذا الموضع والغريب يؤذي ويقصد بالجفاء(6/59)
ص -30- ... ومن يصبر على الأذى فكانت مضطرة إلى الخروج فلها أن تخرج إلى أي الجانبين شاءت كما لو كانت في المفازة إلا أن هذا من وجه إنشاء سفر فيعتبر فيه المحرم بخلاف تلك المسألة ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:
أحدهما: أنها إلى الآن كانت تابعة للزوج في السفر ألا ترى أن المعتبر نية الزوج في السفر والإقامة لا نيتها وقد زال ذلك فتكون هي منشئة سفرا من موضع أمن وغياث والعدة تمنعها من ذلك كما لو كانت في منزلها بخلاف المفازة فإنها ليست بموضع الإقامة فلا تكون هي في التحول منشئة سفرا وقالوا على هذا الطريق إذا كانت سافرت مع المحرم بغير زوج فأتاها خبر موت الزوج أو الطلاق لا يكون عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى المقام فيه لأنها ماضية على سفرها لا منشئة.
والطريق الآخر أن تأثير العدة في المنع من الخروج أكثر من عدم المحرم ألا ترى أن للمرأة أن تخرج من غير المحرم ما دون مسيرة السفر وليس لها أن تخرج من منزلها في عدتها دون مدة السفر ثم فقد المحرم هنا يمنعها من الخروج بالاتفاق فلأن تمنعها العدة من الخروج وإنها ليست في موضع مخوف أولى بخلاف ما إذا كانت في المفازة فإن فقد المحرم هناك لا يمنعها من الخروج لأنها ليست في موضع القرار فكذلك العدة حتى لو وصلت إلى مصر أو قرية لم يكن لها أن تخرج بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال: وللمعتدة أن تخرج من بيتها إلى الدار وتبيت في أي بيوت الدار شاءت لأن جميع الدار منزل واحد وعليها أن تبيت في منزلها وذلك موجود في أي بيت باتت وبالخروج إلى صحن الدار لا تصير خارجة من منزلها ألا ترى أنها في حال بقاء النكاح ليس للزوج أن يمنعها من ذلك إلا أن يكون في الدار منازل غيرهم فحينئذ لا تخرج إلى تلك المنازل لأن صحن الدار هنا بمنزلة السكة وبالوصول إليه تصير خارجة من منزلها وهي ممنوعة من ذلك في العدة.(6/60)
قال: وإذا طلقها طلاقا بائنا وليس له إلا بيت واحد فينبغي أن يجعل بينه وبينها سترا وحجابا لأنه ممنوع من الخلوة بها بعد ارتفاع النكاح فيتخذ بينه وبينها سترة حتى يكون في حكم بيتين وكذلك في الوفاة إذا كان له أولاد رجال من غيرها فإذا هم وسعوا عليها وخرجوا عنها أو ستروا بينهم وبينها حجابا فلتقم حتى تنقضي عدتها وإن أبوا أن يفعلوا ذلك فلتنتقل معناه إذا أخرجوها وكان نصيبها لا يكفيها أو كانت تخاف على نفسها منهم فإذا لم يكن بهذه الصفة فلا بأس بأن تقيم معهم لأن أولاده محرم لها إلا أن يكون من ورثته من ليس بمحرم لها.
قال: بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نقل أم كلثوم حين قتل عمر رضي الله تعالى عنه لأنها كانت في دار الإمارة وروي أن عائشة رضي الله تعالى عنها نقلت أختها أم كلثوم حين قتل طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه.
قال: وإذا انهدم منزل المطلقة أو المتوفى عنها زوجها فهي في سعة من التحول إلى أي موضع شاءت لأن المقام في المنزل المهدوم غير ممكن فكان ذلك عذرا في التحول والتدبير(6/61)
ص -31- ... في اختيار المنزل إليها بعد زوال الملك عنها إلا في الطلاق الرجعي فإن التدبير إلى الزوج في اختيار المنزل فله أن ينقلها حيث أحب وكذلك في الطلاق البائن إذا كان الزوج حاضرا وأراد أن ينقلها إلى منزل آخر عند العذر فالخيار في ذلك إليه لأن ملك اليد له عليها باق ما دامت في العدة والسكني والنفقة عليه فكان له أن يحصنها حتى لا تلحق به ما يكره وإنما الاختيار إليها إذا كان الزوج ميتا أو غائبا عند تحقق العذر.
قال: ولا ينبغي للمعتدة أن تحج ولا تسافر مع محرم وغير محرم على ما مر وفي الكتاب قال بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه رد المتوفى عنها زوجها من ذي الحليفة وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ردهن من قصر النجف وكن قد خرجن حاجات فدل أن المعتدة تمنع من ذلك.(6/62)
قال: وإذا طلقت الأمة تطليقة رجعية ثم أعتقت صارت عدتها عدة الحرة وإن كان الطلاق بائنا لم تنتقل عدتها من عدة الأماء إلى عدة الحرائر وعند مالك لا تنتقل عدتها إلى عدة الحرائر في الوجهين جميعا وهو أحد قولي الشافعي وفي القول الآخر قال تنتقل عدتها في الوجهين وجه قول مالك أن ما يختلف بالرق والحرية يكون المعتبر فيه حال تقرر الوجوب كالحدود وهكذا يقول الشافعي رحمه الله تعالى في أحد القولين بناء على أصله أن الطلاق الرجعي يرفع الحل فالعتق بعده لا يؤثر في الحل فلا تتغير العدة كما بعد البينونة وحجتنا في ذلك أن ملك النكاح يختلف بالحرية والرق لتنصف الحل بسبب الرق وقد بيناه في كتاب النكاح ثم الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فإذا أعتقت كمل ملك النكاح عليها بكمال حالها بعد العتق والعدة في الملك الكامل تتقدر بثلاث حيض فأما بعد البينونة فقد زال الملك فلا يتكامل بالعتق الملك الزائل عن الحل توضيحه أن العدة بعد الطلاق الرجعي بعرض التغير حتى تتغير بموت الزوج من الإقراء إلى الشهور بعد موته فكذلك بعتقها تتغير إلى ثلاث حيض فأما بعد ما بانت في الصحة فلا تتغير من الإقراء إلى الأشهر بعد موته فكذلك لا تتغير بعتقها توضيحه أن زوال الملك بعد الطلاق الرجعي بانقضاء العدة فلا يزول الملك عن الحرة إلا بثلاث حيض بخلاف ما بعد البينونة وبخلاف الحدود فإنها مبنية على الدرء والإسقاط والعدة مأخوذ فيها بالاحتياط وسائر وجوه الفرقة كالطلاق في هذا وكذلك في عدة الوفاة لأن الملك هناك يزول بالموت ومذهبنا في الفصلين مروي عن النخعي والشعبي رحمهما الله تعالى.(6/63)
قال: وإذا مات زوج أم الولد عنها ومولاها ولا يعلم أيهما مات أولا وبين موتيهما أقل من شهرين وخمسة أيام فعليها أربعة أشهر وعشرا من آخرهما موتا احتياطا ولا معتبر بالحيض فيها لأنا تيقنا أنه له ليس عليها العدة بالحيض فإن المولى لو مات أولا فقد مات وهي منكوحة الغير فلا عدة عليها منه لأن وجوب العدة من المولى بزوال فراشه عنها ولا فراش للمولى عليها هنا فإن مات المولى آخرا فقد مات وهي معتدة من الزوج فلم تكن فراشا للمولى أيضا ولكن من وجه عليها شهران وخمسة أيام وهو ما إذا مات الزوج أولا ومن وجه عليها أربعة أشهر(6/64)
ص -32- ... وعشرا وهو ما إذا مات الزوج آخرا فقلنا تعتد بأربعة أشهر وعشرا احتياطا وإن علم أن بين موتيهما شهرين وخمسة أيام أو أكثر فعدتها أربعة أشهر وعشرا تستكمل فيها ثلاث حيض لأنه إن مات الزوج أولا فقد انقضت عدتها بشهرين وخمسة أيام ثم مات المولى فعليها العدة بثلاث حيض لأنه مات بعد ما صارت فراشا وإن مات المولى أولا فقد عتقت بموته ثم عليها بموت الزوج أربعة أشهر وعشرا والعدة يؤخذ فيها بالاحتياط فلهذا جمعنا بين العدتين فأما إذا لم يعلم ما بين موتيهما ولا أيهما مات أولا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى عليها أربعة أشهر وعشرا لا حيض فيها وعندهما تستكمل فيها ثلاث حيض لأنه يحتمل أن يكون الزوج مات أولا ثم مات المولى بعد ما مات الزوج بعد شهرين وخمسة أيام وفي العدة معنى العبادة فالوجه الواحد يكفي لوجوبها للاحتياط وهو نظير مسائل العقد إذا تزوج أربعا في عقدة وثلاثا في عقدة واثنتين في عقدة ثم مات قبل البيان وجب على كل واحدة منهن عدة الوفاة احتياطا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول سبب وجوب العدة بالحيض لم يوجد وهو زوال فراش المولى عنها والاحتياط إنما يكون بعد ظهور السبب وبيانه أنه إذا مات المولى أولا فقد مات وهي منكوحة الزوج وإن مات آخرا فقد مات وهي معتدة من الزوج وأما قولهما إن مضى الشهرين وخمسة أيام بين الموتين محتمل قلنا نعم ولكن مضي هذه المدة بين الموتين ليس بعدة حتى يؤخذ فيها بالاحتياط ولا سبب لوجوب العدة فلا يقدر به عند التردد مع أن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما حصلا معا فيجعل كأنهما ماتا معا كالغرقي والحرقي والهدمي لا يرث بعضهم بعضا ولأن هنا أحوالا ثلاثة إن مات المولى أولا فهناك نكاح يمنع وجوب العدة بالحيض وإن مات الزوج أولا ثم مات المولى بعده قبل شهرين وخمسة أيام فهناك عدة تمنع وجوب العدة بالحيض وإن كان بعد شهرين وخمسة أيام فحينئذ تجب العدة بالحيض والحالة الواحدة(6/65)
لا تعارض الحالتين وهذا بخلاف العقد لأن هناك في حق كل امرأة حالتان إما حال صحة النكاح أو حال فساده والتعارض يقع بين الحالتين فلهذا يؤخذ بالاحتياط هناك وكذلك إذا علم أن بين الموتين شهرين وخمسة أيام فهنا حالتان إما العدة بالأشهر من الزوج أو بالحيض من المولى فلتعارض الحالتين أخذنا بالاحتياط.
قال: وكذلك لو كان الزوج طلقها تطليقة رجعية في هذه الوجوه لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فهو وما تقدم سواء ولا ميراث لها من الزوج لأنه إن مات الزوج أولا فقد مات وهي أمة والأمة لا ترث من الحر شيئا وإن مات المولى أولا ترث والإرث بالشك لا يثبت وشرط ارثها منه أن تكون حرة عند موته فما لم يتيقن بذلك الشرط لا ترث منه.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته طلاق الرجعة ثم مات عنها بطلت عدة الطلاق عنها ولزمها عدة الوفاة لأن النكاح قائم بينهما بعد الطلاق الرجعي فكان منتهيا بالموت وانتهاء النكاح بالموت يلزمها عدة الوفاة ولأن العدة بعد الطلاق الرجعي بالحيض ليزول الملك بها وقد زال بالموت فعليها العدة التي هي من حقوق النكاح وهي عدة الوفاة وإن كانت بائنة(6/66)
ص -33- ... عنه في الصحة بوجه من الوجوه لم تنتقل عدتها إلى عدة الوفاة لأن النكاح ما انتهى بالوفاة هنا وهو السبب الموجب لعدة الوفاة لأن الله تعالى قال: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] وهذه ليست بزوجة له عند وفاته حتى لا ترث منه بالزوجية شيئا فلا يلزمها عدة الوفاة أيضا.
قال: وإذا أتى المرأة خبر وفاة زوجها بعد ما مضت مدة العدة فقد انقضت العدة لما قلنا أن المعتبر وقت موته لا وقت علمها به وإن شكت في وقت وفاته اعتدت من الوقت الذي تستيقن فيه بموته لأن العدة يؤخذ فيها بالاحتياط والاحتياط في أن يؤخذ باليقين وفي الوقت المشكوك فيه لا يقين فلهذا لا تعتد إلا من الوقت المتيقن.(6/67)
قال: وطلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان تحت حر كانت أو تحت عبد وطلاق الحرة ثلاث تطليقات وعدتها ثلاث حيض تحت حر كانت أو تحت عبد وفي العدة اتفاق أن العبرة بحالها لا بحال الزوج لأنها هي المعتدة ألا ترى أنها تختلف بصغرها وكبرها وكونها حاملا أو حائلا فكذلك برقها وحريتها فأما الطلاق بالنساء أيضا عندنا وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما وعند الشافعي رحمه الله تعالى عدد الطلاق معتبر بحال الرجل في الرق والحرية وهو مذهب عمر وزيد رضي الله عنهما وابن عمر رضي الله عنه يعتبر بمن رق منهما حتى لا يملك عليها ثلاث تطليقات إلا إذا كانا حرين وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" وفي رواية "يطلق العبد تطليقتين وتعتد الأمة بحيضتين" والمعنى فيه أن الزوج هو المالك للطلاق المتصرف فيه وثبوت الملك باعتبار حال المالك كملك اليمين ألا ترى أن ما يمنع إيقاع الطلاق وهو الصغر والجنون يعتبر وجوده في الرجل دون المرأة فكذلك ما يمنع ملك الطلاق ولأن في اعتبار عدد الطلاق اعتبار عدد النكاح لأن من يملك على امرأته ثلاث تطليقات يملك عليها ثلاث عقد ومن يملك عليها تطليقتين يملك عليها عقدتين والمعتبر حال الزوج في ملك العقد ألا ترى أن الحر يتزوج أربع نسوة والعبد لا يتزوج إلا اثنتين وأصحابنا رحمهم الله استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" فقد جمع بين الطلاق والعدة وما روي أن الطلاق بالرجال قيل إنه كلام زيد رضي الله تعالى عنه لا يثبت مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل معناه إيقاع الطلاق بالرجال وما روي يطلق العبد اثنتين فليس فيه أنه لا يطلق الثالثة أو معناه إذا كانت تحته أمة وإنما قاله بناء على ظاهر الحال واعتبار الكفاءة في النكاح ولأنه صلى الله عليه وسلم قابل الطلاق بالعدة والمقابلة تقتضي التسوية وبالاتفاق في العدة المعتبر حالها فكذلك في الطلاق(6/68)
ومن ملك على امرأته عددا من الطلاق يملك إيقاعه في أول أوقات السنة، وبهذا أفحم عيسى بن إبان الشافعي رضي الله عنه فقال أيها الفقيه إذا ملك الحر على امرأته الأمة ثلاث تطليقات كيف يطلقها في أوقات السنة فقال يوقع عليها واحدة فإذا حاضت وطهرت أوقع عليها أخرى فلما أن أراد أن يقول فإذا حاضت وطهرت قال حسبك فإن عدتها قد انقضت فلما تحير رجع فقال ليس في الجمع بدعة ولا في التفريق سنة ولأن الطلاق تصرف مملوك في(6/69)
ص -34- ... النكاح فيستوي فيه العبد والحر كالظهار والإيلاء وهذا لأن العبد يستبد بإيقاع الطلاق من غير أن يحتاج فيه إلى رضا المولى فيكون فيه مبقي على أصل الحرية كالإقرار بالقصاص وما يؤثر فيه الرق يخرج الرقيق من أن يكون أهلا لملكه كالمال ولما بقي أهلا لملك الطلاق عرفنا أن الرق لا يؤثر فيه ولا يدخل عليه النكاح لأن الرق يؤثر فيه ولكن ملك النكاح باعتبار الحل والحل يتنصف برقه فلهذا لا يتزوج إلا اثنتين وهذا لأن الحل نعمة وكرامة فيكون في حق الحر أزيد منه في حق العبد ألا ترى أن حل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتسع لتسع نسوة كرامة له بسبب النبوة فأما اعتبار عدد النكاح فلا معنى فيه لأن الإنسان يملك على امرأته من العقد ما لا يحصى حتى لو وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق مرارا كان له أن يتزوجها مرة بعد أخرى ما لم تحرم عليه ولو كان معتوها فهذا دليلنا لأن جميع ما يملكه الحر على النساء اثنتي عشرة عقدة فإنه يتزوج أربع نسوة ويملك على كل واحدة ثلاث عقد فينبغي أن يملك العبد نصف ذلك وذلك ست عقد بأن يتزوج حرتين فيملك على كل واحدة منهما ثلاث عقد كما هو مذهبنا فأما الصغر والجنون لا يؤثر في ملك الطلاق وإنما يؤثر في المتصرف والمتصرف هو الزوج ثم هو مقابل بصفة البدعة والسنة في الطلاق فإن المعتبر فيه حالها في الحيض والطهر لا حال الرجل.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض لم يعتد بتلك الحيضة من عدتها هكذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه وشريح وإبراهيم رحمهما الله تعالى وهذا لأن الحيضة الواحدة لا تتجزأ وما سبق الطلاق منها لم يكن محسوبا من العدة فيمنع ذلك الاحتساب بما بقي ولو احتسب بما بقي وجب إكمالها بالحيضة الرابعة لأن الاعتداد بثلاث حيض كوامل فإذا وجب جزء من الحيضة الرابعة وجب كلها.(6/70)
قال: ولو اعتدت المرأة بحيضتين ثم أيست فعليها استئناف العدة بالشهور وقد بينا هذا وفيه اشكال فإن بناء البدل على الأصل يجوز كالمصلي إذا سبقه الحدث فلم يجد ماء يتيمم ويبني وإذا عجز عن الركوع والسجود يومئ ويبني ولكنا نقول الصلاة بالتيمم ليست ببدل عن الصلاة بالوضوء إنما البدلية في الطهارة ولا تكمل إحداهما بالأخرى قط وكذلك الصلاة بالإيماء ليست ببدل عن الصلاة بالركوع والسجود فأما العدة بالأشهر فهي بدل عن العدة بالحيض وإكمال البدل بالأصل غير ممكن ثم قال إذا أيست من الحيض فاعتدت شهرا أو شهرين ثم حاضت اعتدت بالحيض وهذا يجوز في العبادة فإنها بعد ما أيست لا تحيض وإنما كان ذلك معجزة لنبي من الأنبياء عليهم السلام ولكنها حين حاضت تبين أنها لم تكن آيسة وإنما كان ممتدة طهرها فلها تعتبر ما مضى من الحيض قبل أيامها إذا حاضت.
قال: وإذا ولدت المعتدة وفي بطنها ولد آخر لم تنقض عدتها حتى تلد الآخر هكذا نقل عن علي وابن عباس والشعبي رضي الله عنهم وهذا لأن الله تعالى قال: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وذلك اسم لجميع ما في بطنها ولأن المقصود هو العلم بفراغ الرحم ولا يحصل ذلك ما لم تضع جميع ما في بطنها.(6/71)
ص -35- ... قال: وإذا تزوجت المرأة المعتدة من الطلاق برجل ودخل بها ففرق بينهما فعليها عدة واحدة من الأول والآخر ثلاث حيض وهو مذهبنا لأن العدتين إذا وجبتا يتداخلان وينقضيان بمضي مدة واحدة إذا كانتا من جنس واحد وهو قول معاذ بن جبل رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يتداخلان ولكنها تعتد بثلاث حيض من الأول ثم بثلاث حيض من الثاني فإن كانت العدتان من واحد بأن وطى ء معتدته بعد البينونة بالشبهة فلا شك عندنا أنهما ينقضيان بمدة واحدة وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى وفي القول الآخر يقول لا تجب العدة بسبب الثاني أصلا وحجته في ذلك أنهما حقان وجبا لمستحقين فلا يتداخلان كالمهرين ولأن العدة فرض كف لزمها في المدة ولا يجتمع الكفان في مدة واحدة كصومين في يوم واحد وهذا هو الحرف الذي يدور عليه الكلام فإن المعتبر عنده معنى العبادة في العدة لأنه كف عن الأزواج والخروج فتكون عبادة كالكف عن اقتضاء الشهوات في الصوم وأداء العبادتين في وقت واحد لا يتصور ولو جاز القول بالتداخل في العدة لكان الأولى إقراء عدة واحدة فينبغي أن يكتفي بقرء واحد لأن المقصود يحصل وهو العلم بفراغ الرحم وحجتنا في ذلك أن العدة مجرد أجل والآجال تنقضي بمدة واحدة في حق الواحد والجماعة كآجال الديون وبيانه أن الله سبحانه وتعالى سمى العدة أجلا فقال عز وجل: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وسماه تربصا والتربص هو الانتظار والانتظار يكون سبب الأجل كالانتظار في المطالبة بالدين إلى انقضاء الأجل ومن حيث المقصود في الأجل يحصل مقصود كل واحد من الغريمين بمدة واحدة وهنا مقصود كل واحد من صاحبي العدة يحصل بثلاث حيض وهو العلم بفراغ رحمها من مائة ثم معنى العبادة في العدة تبع لا مقصود وإنما ركن العدة حرمة الخروج والتزوج ألا ترى أن الله تعالى ذكر ركن العدة بعبارة النهي فقال تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ} وقال عز وجل: {وَلا(6/72)
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] موجب النهي التحريم والحرمات تجتمع فإن الصيد حرام على المحرم في الحرم لحرمة الاحرام والحرم والخمر حرام على الصائم لصومه ولكونه خمرا وليمينه إذا حلف لا يشربها بخلاف ركن الصوم فإنه مذكور بعبارة الأمر قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فعرفنا أن الركن فيه الفعل ثم عدتها تنقضي وإن لم تعلم وتنقضي وإن لم تكف نفسها عن الخروج والبروز ولا يتصور أداء العبادة بدون ركنها ولأن بوطء الثاني قد لزمها العدة.
والشروع في العدة لا يتأخر عن حال تقرر عن سبب الوجوب وهذا لأنه لو امتنع شروعها فيه إنما يمتنع بسبب العدة الأولى والعدة الأولى أثر النكاح وأصل النكاح لا يمنع شروعها في العدة إذا تقرر سبب وجوبها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فأثرها أولى أن لا يمنع ولأن هذه العدة لتبين فراغ الرحم وبمضي العدة الأولى يتيقن بفراغ الرحم فيستحيل أن يكون شروعها في العدة موقوفا على التيقن بفراغ الرحم ولا معنى لما ذكره من إقراء العدة الواحدة فإن الشهور في الأجل الواحد لا تتداخل والجلدات في الحد الواحد لا تتداخل(6/73)
ص -36- ... ويتداخل الحدان وهذا لأن الحيضة الواحدة لتعريف براءة الرحم والثانية لحرمة النكاح والثالثة لفضيلة الحرية فإذا قلنا بالتداخل في أقراء عدة واحدة يفوت هذا المقصود وفي الكتاب قال ألا ترى أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها انقضت عدتها منهما أما إذا كانت حاملا من الأول فقد وجب عليها كل واحدة من العدتين وهي حامل وعدة الحامل تنقضي بوضع الحمل وإن حبلت من الثاني فلا بد من القول بسقوط الإقراء إذا حبلت والعدة بعد ما سقطت لا تعود فإن كانت حاضت من الأول حيضة ثم دخل بها الثاني فعليها ثلاث حيض حيضتان تمام العدة من الأول وابتداء العدة من الثاني والحيضة الثالثة لاكمال عدة الثاني حق لو تزوجها الثاني في هذه الحيضة جاز لأن عدتها منه لا تمنع نكاحها ولا يجوز أن يتزوجها غيره حتى تمضي هذه الحيضة وإن كان الأول طلقها تطليقة رجعية فله أن يراجعها في الحيضتين الأوليين لأن الرجعة استدامة النكاح وعدة الغير لا تمنعه من استدامة النكاح ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من الآخر وليس له أن يراجعها في الحيضة الثالثة لأنها بانت منه بانقضاء عدتها في حقه وليس له أن يتزوجها لأنها معتدة من غيره وكذلك إن طلقها تطليقة بائنة فليس له أن يتزوجها حتى تنقضي عدتها من الآخر كما ليس للآخر أن يتزوجها حتى تنقضي عدتها من الأول وعلى هذا لو كانت العدتان بالشهور.
قال: ولو تزوجت في عدة الوفاة ودخل الثاني بها ثم فرق بينهما فعليها بقية عدتها من الميت تمام أربعة أشهر وعشرا وعليها ثلاث حيض من الآخر ثم تحتسب بما حاضت بعد التفريق في الأربعة الأشهر وعشر من عدة الآخر ولا منافاة بين الشهور والحيض فتكون شارعة في العدتين تحتسب بالمدة من العدة الأولى وبما يوجد فيها من الحيض من العدة الثانية.(6/74)
قال: وإذا مات الرجل وله امرأتان وقد طلق احداهما طلاقا بائنا ولا يعلم أيتهما هي فعلى كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا فيها ثلاث حيض احتياطا لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون مطلقة وعليها العدة بالحيض ويحتمل أن تكون منكوحة وعليها عدة الوفاة وهذا بخلاف ما إذا قال لامرأته إن لم أدخل الدار اليوم فأنت طالق ثلاثا ثم مات بعد مضي اليوم ولا يدري أدخل أم لم يدخل فعليها عدة الوفاة وليس عليها العدة بالحيض لأن سبب وجوب العدة بالحيض الطلاق ووقوع الطلاق بوجود الشرط غير معلوم ولا معنى للاحتياط قبل ظهور السبب وهنا وقوع الطلاق معلوم إنما الجهالة في محله فلهذا ألزمنا كل واحدة منهما العدة بالحيض احتياطا.
قال: وإذا طلق الرجل امرأته في مرضه ثلاثا أو واحدة بائنة ثم مات قبل انقضاء العدة ورثته بالفرار على ما تبين في بابه إن شاء الله تعالى وعليها من العدة أربعة أشهر وعشرا تستكمل فيها ثلاث حيض في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله عنه ليس عليها عدة الوفاة لأنا حكمنا بانقطاع النكاح بينهما بالطلاق وسبب وجوب عدة الوفاة انتهاء النكاح بالموت فإذا لم يوجد لا يلزمها عدة الوفاة كما لو كان الطلاق في صحته وإنما أخذت الميراث بحكم الفرار وذلك لا يلزمها عدة الوفاة ألا ترى أن المرتد(6/75)
ص -37- ... إذا مات أو قتل على ردته ترثه زوجته المسلمة وليس عليها عدة الوفاة لأن زوال النكاح كان بردته لا بموته وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا أخذت ميراث الزوجات بالوفاة فيلزمها عدة الوفاة كما لو طلقها تطليقة رجعية وهذا لأنا إنما أعطيناها الميراث باعتبار أن النكاح بمنزلة القائم بينهما حكما إلى وقت موته أو باعتبار إقامة العدة مقام أصل النكاح حكما إذ لا بد من قيام السبب عند الموت لاستحقاق الميراث والميراث لا يثبت بالشك والعدة تجب بالشك فإذا جعل في حكم الميراث النكاح كالمنتهي بالموت حكما ففي حكم العدة أولى وسبب وجوب العدة عليها بالحيض متقرر حكما فألزمناها الجمع بينهما وأما امرأة المرتد فقد أشار الكرخي في كتابه إلى أنه لا يلزمها عدة الوفاة ولئن سلمنا فنقول هناك ما استحقت الميراث بالوفاة لأن عند الوفاة هي مسلمة والمسلمة لا ترث من الكافر ولكن يستند استحقاق الميراث إلى وقت الردة وبذلك السبب لزمها العدة بالحيض ولا يلزمها عدة الوفاة وهنا استحقاق الميراث عند الموت لا عند الطلاق فعرفنا أن النكاح قائم بينهما إلى وقت الوفاة.(6/76)
قال: وإذا ولدت المرأة في طلاق بائن لأكثر من سنتين من يوم طلقها لم يكن الولد للزوج إذا أنكره وهذه المسألة تنبني على معرفة أقل مدة الحبل وأكثرها فأقل مدة الحبل ستة أشهر لما روي أن رجلا تزوج امرأة فولدت ولدا لستة أشهر فهم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن يرجمها فقال ابن عباس رضي الله عنه أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] وقال عز وجل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] فإذا ذهب للفصال عامان لم يبق للحبل إلا ستة أشهر فدرأ عثمان رضي الله عنه الحد وأثبت النسب من الزوج وهكذا روي عن علي رضي الله عنه ولأنه ثبت بالنص أن الولد تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما ذكره في حديث ابن مسعود رضي الله عنه يجمع خلق أحدكم في بطن أمه الحديث الخ وبعد ما تنفخ فيه الروح يتم خلقه بشهرين فيتحقق الفصال لستة أشهر مستوى الخلق فأما أكثر مدة الحبل سنتان عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى أربع سنين لما روي أن رجلا غاب عن امرأته سنتين ثم قدم وهي حامل فهم عمر رضي الله عنه برجمها فقال معاذ رضي الله عنه إن يك لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فتركها حتى ولدت ولدا قد نبتت ثنيتاه يشبه أباه فلما رآه الرجل قال ابني ورب الكعبة فقال عمر رضي الله عنه أتعجز النساء أن يلدن مثل معاذ لولا معاذ لهلك عمر رضي الله عنه فقد وضعت هذا الولد لأكثر من سنتين ثم أثبت نسبه من الزوج وقيل إن الضحاك ولدته أمه لأربع سنين وولدته بعد ما نبتت ثنيتاه وهو يضحك فسمي ضحاكا وعبد العزيز الماجشوني رضي الله عنه ولدته أمه لأربع سنين وهذه عادة معروفة في نساء ماجشون رضي الله عنهم أنهن يلدن لأربع سنين(6/77)
ولنا حديث عائشة رضي الله عنها قالت لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة مغزل ومثل هذا لا يعرف بالرأي فإنما قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الأحكام تنبني على العادة الظاهرة وبقاء الولد(6/78)
ص -38- ... في بطن أمه أكثر من سنتين في غاية الندرة فلا يجوز بناء الحكم عليه مع أنه لا أصل لما يحكى في هذا الباب فإن الضحاك وعبد العزيز ما كانا يعرفان ذلك من أنفسهما وكذلك غيرهما كان لا يعرف ذلك لأن ما في الرحم لا يعلمه إلا الله تعالى ولا حجة في حديث عمر رضي الله تعالى عنه لأنه إنما أثبت النسب بالفراش القائم بينهما في الحال أو بإقرار الزوج وبه نقول ويحتمل أن معنى قوله أنه غاب عن امرأته سنتين أي قريبا من سنتين إذا عرفنا هذا فنقول متى كان الحل قائما بين الزوجين يستند العلوق إلى أقرب الأوقات وهو ستة أشهر إلا أن يكون فيه إثبات الرجعة بالشك أو إيقاع الطلاق بالشك فحينئذ يستند العلوق إلى أبعد الأوقات فإن الطلاق والرجعة لا يحكم بهما بالشك ومتى لم يكن الحل قائما بينهما يستند العلوق إلى أبعد الأوقات للحاجة إلى إثبات النسب وهو مبني على الاحتياط.
قال: وإذا تزوج الرجل امرأة فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت النكاح يثبت نسبه من الزوج لأنها ولدته على فراشه لمدة حبل تام من وقت النكاح.(6/79)
قال: وإذا طلق الرجل امرأته بعد ما دخل بها ثم جاءت بولد فإن كان الطلاق رجعيا فجاءت بولد لاقل من سنتين من وقت الطلاق يثبت النسب منه ولا يصير مراجعا لها بل يحكم بانقضاء عدتها لأنا نسند العلوق إلى أبعد الأوقات وهو ما قبل الطلاق فإنا لو أسندناه إلى أقرب الأوقات صار مراجعا لها والرجعة لا تثبت بالشك وإن جاءت به لأكثر من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة ثبت النسب منه ويصير مراجعا لها لأن حمل أمرها على الصلاح واجب ما أمكن فلو جعلنا كأن الزوج وطئها في العدة فحبلت كان فيه حمل أمرها على الصلاح ولو جعلنا كان غيره وطئها كان فيه حمل أمرها على الفساد فأما إذا كان الطلاق بائنا فإن جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الطلاق ثبت نسبه منه باعتبار اسناد العلوق إلى ما قبل الطلاق لأن ذلك ممكن وفيه حمل أمرها على الصلاح وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت النسب من الزوج لأنا تيقنا أن العلوق كان بعد الطلاق وسواء جعلناه من الزوج أو من غيره ففيه حمل أمرها على الفساد فيجعل من غيره لأنا إذا جعلناه من الزوج كان فيه حمل أمر الزوج على الفساد وهو أنه أقدم على الوطء الحرام وذلك لا يجوز من غير دليل وثبوت فراشه القائم بسبب العدة لا يثبت نسب الولد كفراش الصبي على امرأته ثم يلزمها أن ترد نفقة ستة أشهر في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو رواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى والظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يلزمها رد شيء من النفقة وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لم يظهر انقضاء عدتها قبل الولادة فلا يلزمها رد شيء من النفقة كما لو ولدت لأقل من سنتين وهذا لأنها ما دامت معتدة فهي مستحقة للنفقة وما لم يظهر سبب الانقضاء فهي معتدة ولم يظهر للانقضاء هنا سبب سوى الولادة ولو جعلناها كأنها وطئت بشبهة في العدة لم تسقط نفقتها وإن جعلناها كأنها تزوجت بعد انقضاء العدة بزوج آخر كان فيه حمل أمرها على الفساد من(6/80)
وجه وهو أنها أخذت مالا بغير(6/81)
ص -39- ... حق من زوجها مع أن فيه حكما بنكاح لم يعرف سببه وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا حمل أمرها على الصلاح واجب ما أمكن فلو جعلنا هذا الولد من علوق في العدة كان فيه حمل أمرها على الزنى ولو جعلنا كأن عدتها قد انقضت وتزوجت بزوج آخر وعلقت منه كان فيه حمل أمرها على الصلاح فتعين هذا الجانب ثم تزويجها نفسها بمنزلة إقرارها بانقضاء عدتها أو أقوى فتبين أنها أخذت النفقة بعد انقضاء عدتها فعليها ردها وهذا اليقين في مقدار ستة أشهر أدنى مدة الحمل ولا يلزمها الرد إلا باليقين ولا معنى لما قال أن في ذلك حمل أمرها على الفساد وهو أخذ المال بغير حق لأن حرمة المال دون الزنى فإن المال بذله يباح بالإذن ولا يسقط إحصانها بالأخذ بغير حق وبالزنا يسقط إحصانها ومن ابتلي ببليتين يختار أهونهما ولئن جعلناها كأنها وطئت بالشبهة في العدة فكذلك تسقط نفقتها أيضا لأنه بمعنى النشوز منها حين جعلت رحمها مشغولا بماء غير الزوج ومقصود الزوج من العدة صيانة رحمها فإذا فوتت ذلك كان أعظم من نشوزها وهروبها من بيت العدة فإذا سقطت نفقتها تبين أنها أخذت بغير حق فلزمها الرد.(6/82)
قال: رجل قال لامرأته كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدين في بطن واحد كانت طالقا بالولد الأول لوجود شرط الطلاق وهو ولادة الولد ثم تصير معتدة فلما وضعت الولد الثاني حكمنا بانقضاء عدتها لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها والولد الذي تنقضي به العدة لا يقع به طلاق لأن أوان وقوع الطلاق ما بعد وجود الشرط وبعد وضع الولد الثاني هي ليست في نكاحه ولا في عدته ولو ولدت ثلاثة أولاد في بطن واحد وقعت عليها تطليقتان لأن كلمة كلما تقتضي تكرر نزول الجزء بتكرر الشرط وبولادة الولد الثاني تكرر الشرط ولا تنقضي به العدة لأن في بطنها ولدا آخر فيقع عليها تطليقة أخرى ثم بوضع الولد الثالث تنقضي عدتها ولا يقع شيء ولو كان كل ولد في بطن على حدة فإن كان بين كل ولدين ستة أشهر حتى يعلم أنهما ليسا بتوأمين تطلق ثلاثا وعليها ثلاث حيض لأن بولادة الولد الأول وقعت عليها تطليقة فلما ولدت الولد الثاني لستة أشهر فصاعدا عرفنا أنه من علوق حادث ويجعل ذلك من الزوج حملا لأمرها على الصلاح فصار مراجعا لها ثم وقع عليها تطليقة ثانية لوجود الشرط وهو ولادة الولد الثاني وكذلك حين وضعت الولد الثالث وقعت عليها تطليقة ثالثة لوجود الشرط بعد ما صار مراجعا لها فصارت مطلقة ثلاثا وعليها العدة بثلاث حيض.
قال: ولو أن رجلا مات عن امرأته فجاءت بولد لأقل من سنتين فإن كانت أقرت بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر فصاعدا لم يثبت نسبه من الزوج لأنه من علوق حادث بعد اقرارها بانقضاء العدة وحمل كلامها على الصحة واجب ما أمكن وإن كانت ادعت حبلا وولدت لأقل من سنتين يثبت النسب من الزوج لأن إسناد العلوق إلى حالة حياته ممكن وفيه حمل أمرها على الصلاح والصحة ولو لم تدع حبلا ولم تقر بانقضاء العدة حتى جاءت بالولد لأقل من سنتين عندنا يثبت النسب منه(6/83)
ص -40- ... وعلى قول زفر إذا جاءت به لتمام عشرة أشهر وعشرة أيام من حين مات الزوج لم يثبت النسب منه لأنه لما لم يكن الحبل ظاهرا فقد حكمنا بانقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا بالنص وذلك أقوى من اقرارها بانقضاء العدة ولو أقرت بذلك ثم جاءت بولد لمدة حبل تام لم يثبت النسب منه فكذلك هنا ولكنا نقول انقضاء عدتها بمضي أربعة أشهر وعشرا معلق بشرط وهو أن لا تكون حاملا فإن آية الحبل قاضية على آية التربص على ما بينا وهذا الشرط لا يوقف عليه إلا من جهتها فما لم تقر بانقضاء العدة لا يحكم بانقضائها وإنما جاءت بالولد لمدة يتوهم أن يكون العلوق قبل موت الزوج فيثبت نسبه منه كما لو ادعت حبلا ثم إنما يثبت النسب منه إذا كانت ولادتها معاينة أو أقر بها الورثة فأما إذا جحدوا ذلك لم يثبت النسب منه إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة وهي القابلة وحجتهما في ذلك أن الولادة مما لا يطلع عليها الرجال وشهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة فكانت شهادة القابلة فيه حجة تامة ألا ترى أنه لو كان هناك حبل ظاهر أو فراش قائم أو إقرار من الزوج بالحبل تثبت الولادة بشهادة امرأة واحدة فكذلك هنا وهذا لأن النسب والميراث لا يثبت بهذه الشهادة وإنما تثبت ولادتها هذا الولد ثم ثبوت النسب والميراث باعتبار أن العلوق به كان في حال قيام النكاح
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى طريقان:(6/84)
أحدهما: ما أشار إليه في الكتاب فقال من قبل أنه يرث ومعنى هذا الكلام أن ثبوت الميراث معلق بالنسب والموت والحكم المعلق بعلة ذات وصفين يحال به على آخر الوصفين وجودا ولهذا لو رجع شهود النسب وقد شهدوا به بعد الموت ضمنوا الميراث وآخر الوصفين هنا النسب فكانت هذه الشهادة قائمة على تمام علة الإرث والميراث لا يثبت بشهادة امرأة واحدة ولأنها أجنبية للحال لأنا نتيقن بانقضاء عدتها ونسب ولد الأجنبية لا يثبت من الأجنبي بشهادة امرأة واحدة كما لو لم يكن النكاح بينهما ظاهرا بخلاف ما إذا كان الفراش قائما فإن ثبوت النسب هناك باعتبار الفراش وإنما تظهر الولادة بالشهادة وكذلك إن أقر الزوج بالحبل فثبوت النسب هناك باقراره وكذلك إن كان هناك حبل ظاهر فثبوت النسب بظهور الحبل في حال قيام الفراش وإنما تظهر الولادة بالشهادة فقط ولذلك إذا أقر الزوج بالحبل فثبوت النسب هناك باقراره وهنا لا سبب للنسب سوى الشهادة ولا يثبت النسب بشهادة امرأة واحدة توضيحه إن شهادة المرأة الواحدة حجة ضعيفة لأن شهادة المرأة الواحدة ليست بشهادة أصلا ولهذا لو شهد رجلان وامرأة واحدة بالمال ثم رجعوا لم تضمن المرأة شيئا وإنما جعلت حجة في الولادة للضرورة فكانت ضعيفة في نفسها والضعيف ما لم يتأيد بمؤيد لا يجوز فصل الحكم به كشهادة النساء في المال والمؤيد الفراش أو الحبل الظاهر أو إقرار الزوج بالحبل فإن تأيدت شهادتها ببعض هذه الأسباب وجب الحكم بها وإلا فلا ولو أقرت بانقضاء العدة ثم ولدت لأقل من ستة أشهر ثبت النسب منه لأنا تيقنا أنها أبطلت فيما قالت(6/85)
ص -41- ... فإنها أقرت بانقضاء العدة بالشهور وقد تبين أنها كانت حاملا يومئذ فكان إقرارها باطلا.
قال: ولو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا أو تطليقة بائنة ثم جاءت بالولد بعد الطلاق لسنتين أو أقل وشهدت امرأة على الولادة والزوج ينكر الولادة والحبل لم يلزمه النسب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان ويلزمه النسب في قولهما بشهادة امرأة واحدة وهذا والأول سواء لأنها للحال أجنبية منه في الوجهين ويستوي إن كانت هذه المعتدة مسلمة أو كافرة أو أمة في هذا الحكم لأن بقاء الولد في البطن لا يختلف بهذه الأوصاف.
قال: ولو كانت المرأة عند زوجها لم يطلقها فجاءت بولد وأنكر الزوج الحبل قبلت شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة على الولادة ويثبت النسب عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقبل إلا شهادة أربع نسوة لأن الأصل في الشهادة أن الحجة لا تتم إلا بشهادة رجلين والمرأتان تقومان مقام رجل واحد في باب الشهادة بالنص حتى أن المال لا يثبت إلا شهادة رجل وامرأتين وقد تعذر اعتبار صفة الذكورة فيما لا يطلع عليه الرجال فسقط للضرورة وبقي ما سواه على الأصل فيشترط شهادة الأربع ليكون ذلك في معنى شهادة رجلين ودليل كونه شهادة اعتبار الحرية ولفظ الشهادة فيها ولا معنى لقول من يقول إباحة النظر لأجل الضرورة فإذا ارتفعت الضرورة بالمرأة الواحدة لا يحل للثانية النظر لأنكم وإن قلتم أنه يكتفي بالواحدة تقولون المثنى أحوط وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى لا بد من شهادة امرأتين لأن المعتبر في الشهادة العدد والذكورة وقد سقط اعتبار صفة الذكورة للتعذر هنا فيبقى العدد على ظاهره(6/86)
وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة على الولادة وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والنساء اسم جنس يتناول الواحدة وما زاد والمعنى فيه أن هذا خبر لا يعتبر فيه صفة الذكورة فلا يعتبر فيه العدد كرواية الأخبار وهذا لأن النظر إلى الفرج حرام فلا يحل إلا عند تحقق الضرورة وعند الضرورة نظر الجنس أهون من نظر الذكور ولما سقطت صفة الذكورة لهذا المعنى سقط أيضا اعتبار العدد لأن نظر الواحد أهون من نظر الجماعة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية لأن نظر الأمة والحرة سواء والذي يقول أن المثنى أحوط فذلك لا يوجب حل نظر الثانية ولكن إن اتفق ذلك كان أحوط فأما من يشترط العدد يوجب نظر الجماعة ونظر الواحدة أهون ثم هذا خبر من وجه شهادة من وجه لاختصاصها بمجلس الحكم وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلاعتباره بالشهادة تعتبر فيه الحرية ولفظة الشهادة ولاعتباره بالخبر لا يعتبر فيه الذكورة والعدد فإذا ثبت ما قلنا فإنما يثبت بشهادتها الولادة وما هو من ضرورة الولادة وهو عين الولد ثم النسب إنما يثبت باعتبار الفراش القائم بمنزلة ما لو أقر الزوج بولادتها وقال ليس الولد مني يثبت النسب بالفراش القائم ولا ينتفي إلا باللعان.
قال: وإذا أقرت المطلقة بانقضاء عدتها بالحيض في مدة يحيض فيه مثلها ثلاث حيض ثم جاءت بالولد فإذا جاءت به لأقل من ستة أشهر ثبت النسب لتيقننا بكذبها فيما قالت وإن(6/87)
ص -42- ... جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اقرارها لم يثبت النسب عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يثبت النسب منه ما لم تتزوج ثم تأتي به لستة أشهر لأن ثبوت النسب لحق الولد وقولها في إبطال حقه غير مقبول فكان وجود إقرارها كعدمه بخلاف ما إذا تزوجت لأن الحق في النسب هناك ثبت للزوج الثاني فينتفي من الأول ضرورة وحجتنا في ذلك أنها أمينة في الإخبار بما في رحمها فإذا أخبرت بانقضاء عدتها وهو ممكن وجب قبول خبرها ثم إذا جاءت بالولد بعد ظهور انقضاء عدتها بمدة حبل تام فلا يثبت النسب منه كما لو تزوجت وهذا لأن حمل كلامها على الصحة واجب ما أمكن.
قال: ولو طلق امرأته ولم يدخل بها ولم يخل بها ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لزمه لأنا تيقنا أن العلوق به كان قبل الطلاق وحمل أمرها على الصحة واجب ما أمكن فيجعل هذا العلوق من الزوج ويتبين لنا أنه طلقها بعد الدخول وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه لأن النكاح بالطلاق ارتفع لا إلى عدة وإنما جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده وإن كان الطلاق بعد الخلوة لزمه الولد إلى سنتين لأن النكاح بالطلاق قد ارتفع إلى عدة ولما جعلنا الخلوة بمنزلة الدخول في إيجاب العدة فكذلك فيما ينبني عليه وهو ثبوت نسب الولد.
قال: وإذا طلقها وعدتها بالشهور لإياسها من الحيض فاعتدت بثلاثة أشهر ثم جاءت بولد لسنتين أو أقل من وقت الطلاق فإن النسب يثبت من الزوج سواء أقرت بانقضاء العدة أو لم تقر لأنها إنما أقرت بانقضاء العدة بالشهور ولما ولدت فقد تبين أنها غلطت فيما قالت لأن الآيسة لا تلد وإنما كانت هي ممتدة طهرها لا آيسة فلا تكون عدتها منقضية بالشهور فلهذا ثبت النسب منه.(6/88)
قال: وإن كانت صغيرة فطلقها زوجها بعد ما دخل بها فإن ادعت حبلا فذلك إقرار منها بأنها بالغة وقولها في ذلك مقبول فكانت هي كالكبيرة في نسب ولدها وإن أقرت بانقضاء العدة بعد ثلاثة أشهر ثم جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يثبت النسب منه لأنا حكمنا بانقضاء عدتها فإنها إن كانت صغيرة تنقضي عدتها بثلاثة أشهر بالنص وإن كانت كبيرة تنقضي عدتها بإقرارها وإن جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده فأما إذا لم تقر بانقضاء العدة ولم تدع حبلا ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إن جاءت به لأقل من تسعة أشهر منذ طلقها يثبت النسب وإلا فلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها ثبت النسب منه في الطلاق البائن وفي الطلاق الرجعي إن جاءت به لأقل من سبعة وعشرين شهرا ثبت النسب منه وإن كانت جاءت به لأكثر من ذلك لا يثبت النسب وحجته في ذلك أن الحبل في المراهقة موهوم والحكم بانقضاء عدتها بالشهور شرطه أن لا تكون حاملا وذلك لا يعلم إلا بقولها كما قررناه في عدة الوفاة في حق الكبيرة وإذا جاءت بالولد لأقل من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة فيحتمل أن يكون هذا من علوق قبل الطلاق وهذا الاحتمال يكفي للنسب وفي الطلاق الرجعي إذا جاءت به لأقل من سبعة وعشرين شهرا فيحتمل أن يكون هذا من علوق كان في العدة وهو مثبت للنسب من الزوج وموجب للحكم(6/89)
ص -43- ... بأنه كان مراجعا لها وهما يقولان عرفناها صغيرة وما عرف ثبوته بيقين لا يحكم بزواله بالاحتمال وصفة الصغر منافية للحبل فإذا بقي فيها صفة الصغر حكم بانقضاء عدتها بثلاثة أشهر بالنص فكان ذلك أقوى من إقرارها بانقضاء العدة فإذا جاءت بالولد لمدة حبل تام بعده لا يثبت النسب بخلاف المرأة الكبيرة فإنه ليس فيها ما ينافي الحبل فلا يحكم بانقضاء عدتها بمضي المدة إلا إذا لم تكن حاملا ولا يقال الأصل عدم الحبل لأن هذا في غير المنكوحة فأما النكاح لا يعقد إلا للأحبال وعلى هذا الصغيرة إذا توفي عنها زوجها فإن أقرت بانقضاء العدة بعد أربعة أشهر وعشر ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لم يثبت النسب منه فإن ادعت حبلا ثم جاءت بالولد لأقل من سنتين يثبت النسب فإن لم تقر بانقضاء العدة ولم تدع حبلا فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى إذا جاءت بالولد لأقل من عشرة أشهر وعشرة أيام يثبت النسب منه وإلا فلا وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن جاءت بولد لأقل من سنتين منذ مات الزوج يثبت النسب منه وهذا والأول سواء.(6/90)
قال: وإذا تزوجت المرأة في عدتها من طلاق بائن ودخل بها الزوج فجاءت بولد لأقل من سنتين من يوم طلقها الأول ولستة أشهر أو أكثر منذ تزوجها الثاني فالولد للأول لأن نكاح الثاني فاسد والفاسد من الفراش لا يعارض الصحيح في حكم النسب فكان الولد لصاحب الفراش الصحيح فإذا جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول ولأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الآخر لم نلزمه الأول ولا الآخر لأنا تيقنا أن العلوق به كان بعد الطلاق من الأول فلا يثبت النسب منه وتيقنا أنه كان قبل عقد الثاني لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول ولستة أشهر منذ تزوجها الآخر ودخل بها فهو للآخر فإنه لا مزاحمة للأول هنا في النسب لأنا تيقنا أن العلوق به كان بعد طلاقه فبقي الحكم للآخر وقد جاءت به لمدة حبل تام بعد ما دخل بها الثاني بالعقد الفاسد فثبت النسب منه.
قال: وإذا مات الصبي عن امرأته فظهر بها حبل بعد موته فإن عدتها أربعة أشهر وعشر ولا ينظر إلى الحبل لأنه من زنا حادث بعد موته فلا يغير حكم العدة الواجبة وقد وجب عليها التربص بأربعة أشهر وعشر عند الموت وزعم بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أن في امرأة الكبير إذا حدث الولد بعد الموت يكون انقضاء العدة بالوضع وليس كذلك بل الجواب في الفصلين واحد ومتى كان الحبل حادثا بعد الموت كان من زنا فلا يتغير به حكم العدة وإنما الفرق في امرأة الكبير إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين تنقضي عدتها به لأنه يستند العلوق إلى ما قبل الموت حتى يحكم بثبوت النسب فيتبين به أن الحبل ليس بحادث بعد الموت وفي امرأة الصغير لا يستند العلوق إلى ما قبل الموت وإنما يستند إلى أقرب الأوقات لأن النسب لا يثبت منه وإذا لم يكن الحبل ظاهرا وقت الموت وإنما ظهر بعد الموت يجعل هذا حبلا حادثا(6/91)
فأما إذا كانت حبلى عند موت الصبي فعدتها أن تضع حملها استحسانا في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى(6/92)
ص -44- ... أن عدتها بالشهور وهو القياس وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى ووجهه أنا نتيقن أن هذا الحبل من زنا فلا يتقدر انقضاء العدة به كما لو ظهر بعد موته وهذا لأن اعتبار وضع الحمل في العدة لحرمة الماء وصيانته ولا حرمة لماء الزاني ولأنا نتيقن بفراغ رحمها من ماء الزوج عند موته فعليها العدة بالشهور حقا لنكاحه كما لو لم يكن بها حبل ولكنا استحسنا لظاهر قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ} [الطلاق: 4] وقد ذكرنا أنها قاضية على آية التربص لأنها نزلت بعدها وعموم هذه الآية يوجب أن لا تجب العدة على الحامل إلا بوضع الحمل وهو المعنى أنه قد لزمتها العدة وهي حامل فيتقدر انقضاء العدة بالوضع كامرأة الكبير وهذا لأن العدة في الأصل مشروعة لتعرف براءة الرحم وحقيقة ذلك بوضع الحمل وذلك موجود في جانبها هنا وإنما انعدم اشتغال رحمها بماء الزوج وليس الشرط فيما تنقضي به العدة أن يكون من الزوج كالشهور والحيض وكما لو نفى حبل امرأته وفرق القاضي بينهما باللعان وحكم أن الولد ليس منه تنقضي عدتها بوضعه والدليل الحكمي كالدليل المتيقن به بخلاف ما إذا لم يكن الحبل ظاهرا عند الموت لأنا حكمنا بفراغ رحمها عند ذلك حملا لأمرها على الصلاح وألزمناها العدة بالشهور حقا للنكاح فلا يتغير ذلك بحدوث الحبل من زنا بعده.
قال: والخصي كالصحيح في الولد والعدة لأن فراشه كفراش الصحيح وهو يصلح أن يكون والدا والوطء منه يتأتى مع أنه لا معتبر بالوطء في حكم النسب حتى لا يشترط التمكن من الوطء لإثبات النسب بخلاف الصبي فإنه لا يصلح أن يكون والدا وبدون الصلاحية لا تعمل العلة.(6/93)
قال: وكذلك المجبوب إذا كان ينزل لأنه يصلح أن يكون والدا والإعلاق بالسحق منهم متوهم وزاد في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى وإن كان لا ينزل لم يلزمه الولد لأنه إذا جف ماؤه فهو بمنزلة الصبي أو دونه لأن في حق الصبي ينعدم الماء في الحال إلى توهم ظهوره في الثاني عادة وفي حق هذا ينعدم الماء لا إلى توهم الظهور في الثاني فإذا كان هناك تنعدم الصلاحية فهنا أولى.
قال: ولا يكون طلاق الصبي طلاقا حتى يبلغ لقول علي وابن مسعود وابن عمر رضوان الله تعالى عليهم كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وقد روي ذلك مرفوعا ثم بلوغه إما أن يكون بالعلامة أو بالسن والعلامة في ذلك الإنزال بالاحتلام والإحبال وفي حق الجارية بالاحتلام والحبل والحيض قالوا وأدنى المدة في حق الغلام اثنا عشر سنة وفي حق الجارية تسع سنين وقد بينا هذا في كتاب الحيض وأما بلوغهما بالسن فقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام بتسع عشرة سنة وفي كتاب الوكالة ذكر في الغلام ثمان عشرة سنة في موضع وفي موضع تسع عشرة سنة من أصحابنا من وفق فقال المراد أن يتم له ثمان عشرة سنة ويطعن في التاسع عشرة ولكن ذكر في نسخ أبي سليمان في كتاب الوكالة حتى يستكمل تسع عشرة سنة ففيه روايتان إذن وعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى في الغلام والجارية يتقدر بخمس عشرة سنة لحديث(6/94)
ص -45- ... ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا بن خمس عشرة سنة فأجازني ولما سمع عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه هذا الحديث قال هذا هو الفصل بين البالغ وغير البالغ وكتب به إلى أمراء الأجناد والمعنى فيه أن العادة الظاهرة أن البلوغ لا يتأخر عن هذه المدة وقد بينا أن الحكم يبني على الظاهر دون النادر وأبو حنيفة يقول صفة الصغر فيهما معلومة بيقين فلا يحكم بزوالها إلا بيقين مثله ولا يقين في موضع الاختلاف ثم أدنى المدة لبلوغ الغلام اثنا عشر سنة وقد وجب زيادة المدة على ذلك فإنما يزاد سبع سنين اعتبارا بأول أمره كما أشار إليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا" وبين أهل التفسير اختلاف في تفسير الأشد ولم يقل أحد بأقل من ثمان عشرة سنة في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22] فوجب تقدير مدة البلوغ به ولكن الأنثى أسرع نشوا اعادة فينقص في حقها سنة فتكون التقدير بسبع عشرة سنة ولا حجة في حديث ابن عمر رضي الله عنه لأنه ما أجازه باعتبار أنه حكم ببلوغه بل لأنه رآه قويا صالحا للقتال وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيز من الصبيان من كان صالحا للقتال على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم عرض عليه صبي فرده فقيل إنه رام فأجازه وعرض عليه صبيان فأجاز أحدهما ورد الآخر فقال المردود يا رسول الله أجزته ورددتني ولو صارعته لصرعته فصارعه فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ولا يجوز طلاق المجنون وإن مات عن امرأته كان في حكم العدة والولد بمنزلة الصحيح لأن المجنون يجامع ويحبل وقد ثبت الفراش له بحكم النكاح وهو يصلح أن يكون والدا.(6/95)
قال: وإذا مات عن أم ولده أو أعتقها فعدتها ثلاث حيض فإن كانت لا تحيض من إياس فعدتها ثلاثة أشهر وقد بينا هذا في كتاب النكاح وكذلك لو كانت حرمت عليه قبل موته بوجه من الوجوه فعليها منه العدة لأنها فراشه بعد ما حرمت عليه حتى لو ادعى نسب ولدها ثبت منه وإنما لا يثبت بدون الدعوة لما فيه من اساءة الظن به والحكم باقدامه على الوطء الحرام فيتحقق زوال الفراش إليها بالعتق وهذا بخلاف ما إذا زوجها من غيره ثم مات المولى أو أعتقها لأن هناك قد اعترض على فراشه فراش الزوج وفراش النكاح أقوى من فراش الملك فينعدم الضعيف بالقوي وإذا انعدم لم يتقرر بالعتق سبب وجوب العدة وهو زوال فراشه إليها وكذلك لو كانت في عدة من زوج ألا ترى أن النسب لا يثبت من المولى وإن ادعاه فعرفنا أنها لم تبق فراشا له أصلا.
قال: ولو مات عن أم ولده أو أعتقها فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه لتوهم أن يكون العلوق به قبل الموت وهذا لأن الفراش زال بالعتق إلى عدة وهو نظير فراش النكاح في أنه يستند العلوق إلى أبعد الأوقات ولكن لو نفاه المولى لا ينتفي بخلاف ما قبل العتق لأن الفراش بالعتق يتقوى حتى لا يملك نقله إلى غيره بالتزويج فيلزمه نسب الولد على وجه لا يملك نفيه وقبل العتق كان يملك نقل فراشها إلى غيره بالتزويج فكذلك يملك نفي نسب(6/96)
ص -46- ... الولد لأن ثبوت الحكم بحسب السبب فإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ أعتقها لم يلزمه إلا أن يدعيه لأنا تيقنا أن العلوق كان بعد العتق فإن ادعاه ثبت النسب منه لأنهما تصادقا على أن الولد منه والحق لهما وما تصادقا عليه محتمل لجواز أن تكون زوجت نفسها منه في عدتها.
قال: رجل توفي عن امرأته وهي مملوكة فأقرت بانقضاء عدتها بعد شهرين وخمسة أيام ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر منذ يوم أقرت لم يلزم الزوج لأن الشهرين وخمسة أيام في حقها كأربعة أشهر وعشر في حق الحرة وإقرارها بانقضاء العدة بعد ذلك معتبر ما لم يتبين كذبها فكذلك هنا وإن لم تقر بانقضاء العدة لزمه الولد إلى سنتين لأنا نسند العلوق إلى أبعد أوقات الإمكان في حقها لإثبات نسب ولدها من الزوج كما في الحرة.
قال: وإن أعتق أم ولده وهي حامل أو مات عنها فعدتها بوضع الحمل لما بينا أن العدة لزمتها وهي حامل فيتقدر انقضاؤها بوضع الحمل كما في عدة النكاح بل أولى لأن معنى تبين فراغ الرحم هو المعتبر هنا لا غير.
قال: ولو مات عن أمة كان يطأها أو عن مدبرة كان يطأها فلا عدة عليها وكذلك إن أعتقها لأن الفراش لا يثبت إلا بالوطء في ملك اليمين وهو معروف في كتاب الدعوى وبدون الفراش لا تجب العدة وفي الكتاب يقول ألا ترى أنه لو باعها بعد ما وطئها لم تلزمها العدة والاستبراء الواجب على المشتري ليس بعدة لأن العدة تجب عليها والاستبراء يجب على المشتري.
قال: ولو زوجها المشتري قبل أن يستبرئها جاز ووجوب الاستبراء عليه هناك كوجوبه إذا اشتراها من صبي أو امرأة أو اشتراها وهي بكر.(6/97)
قال: ولو دخل بامرأة على وجه شبهة أو نكاح فاسد فعليه المهر وعليها العدة ثلاث حيض إن كانت حرة وحيضتان إن كانت أمة وقد بينا هذا في كتاب النكاح أن الفراش يثبت بالدخول عند فساد العقد فتجب العدة بزواله بالتفريق ويستوي إن مات عنها أو فرق بينهما وهو حي لأن هذه العدة لا تجب إلا لتعرف براءة الرحم فلا تختلف بالحياة والممات كعدة أم الولد وهذا لأن التربص بالأشهر في عدة الوفاة لقضاء حق النكاح ولهذا يجب من غير توهم الدخول وهذا لا يوجد في الوطء بالشبهة ولا في النكاح الفاسد وإن كانت لا تحيض من صغر أو كبر فعدة الحرة ثلاثة أشهر وعدة الأمة شهر ونصف اعتبارا للفراش الفاسد بالفراش الصحيح إذا وجبت العدة بالفرقة في حالة الحياة.
قال: وإذا تزوج المكاتب بنت مولاه بإذنه ثم مات المولى ثم مات المكاتب وترك وفاء فعدتها أربعة أشهر وعشر ولها عليه الصداق وترثه لأنها لم تملك شيئا من رقبته بموت المولى لقيام عقد الكتابة وموت المكاتب عن وفاء لا يوجب فسخ الكتابة عندنا بل يؤدي كتابته ويحكم بحريته في حياته فيكون النكاح منتهيا بينهما بموت الزوج فعليها عدة الوفاة ولها جميع الصداق وإن لم يدخل بها وترثه بالزوجية لانتهاء النكاح بالموت بعد الحكم بحرية الزوج فإن لم يترك وفاء وقد دخل بها فلها الصداق دينا في عنقه ومعنى هذا أنه كان دينا في عنقه ويبطل عنه(6/98)
ص -47- ... مقدار نصيبها في رقبته لأن بموته عاجزا انفسخت الكتابة قبل الموت لتحقق العجز حين أشرف على الهلاك فملكت جزءا من رقبة زوجها إرثا من أبيها وذلك مفسد للنكاح بينهما إلا أن الصداق كله قد تأكد بالدخول ولكن بقدر نصيبها يسقط لأنها لا تستوجب دينا على عبدها كصاحب الدين إذا وهب له العبد المديون وبقدر نصيب سائر الورثة يبقى فتستوفي ذلك مما ترك من كسبه وعليها ثلاث حيض لوقوع الفرقة بينهما بعد الدخول قبل الموت حين ملكت جزءا منه فلا يتغير ذلك بموته وإن كان لم يدخل بها فلا صداق لها ولا عدة عليها لأن الفرقة وقعت قبل الدخول بسبب مضاف إليها وهو ملكها جزءا من رقبته وذلك مسقط لجميع الصداق.(6/99)
قال: وإذا اشترى المكاتب امرأته وقد ولدت منه لم يبطل النكاح لأن الثابت له في كسبه حق الملك وقد بينا في كتاب النكاح أن حق الملك لا يمنع بقاء النكاح فإن مات وترك وفاء تؤدي كتابته ويحكم بحريته قبل موته إما إسنادا للعتق إلى ما قبل الموت أو ابقاء له حيا حكما إلى وقت أداء الكتابة ولما حكم بحريته ثم ملك رقبتها صارت أم ولد له فارتفع النكاح وعتقت وأم الولد إذا عتقت بموت مولاها اعتدت بثلاث حيض وإن لم يترك وفاء فعدتها شهران وخمسة أيام لأنه مات عاجزا فكان النكاح منتهيا بالموت وعلى الأمة عند زوجها من العدة شهران وخمسة أيام وإن لم تكن ولدت منه وقد ترك وفاء فإن كان دخل بها فعدتها حيضتان كالحر إذا اشترى امرأته بعد ما دخل بها فعليها من العدة حيضتان حتى لا يملك تزويجها إلا بعد مضي المدة وإن لم تظهر هذه الفرقة في حقه حتى كان له أن يطأها وإن لم يدخل بها فلا عدة عليها لأن هذه الفرقة وقعت في حالة الحياة قبل الدخول وإن كان لم يترك وفاء ولم يدخل بها أو دخل بها غير أنها لم تلد منه فعدتها شهران وخمسة أيام وكذلك إن كانت قد ولدت منه لأنه مات عاجزا فلم يملك شيئا من رقبتها وإنما كان النكاح بينهما منتهيا بالموت فعليها العدة شهران وخمسة أيام وهي أمة لمولى المكاتب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الرد على من قال إذا طلق لغير السنة لا يقع
قال: وهذه المسألة مختلف فيها بيننا وبين الشيعة على فصلين:
أحدهما: أنه إذا طلقها في حالة الحيض أو في طهر قد جامعها فيه يقع الطلاق عند جمهور الفقهاء وعندهم لا يقع.(6/100)
والثاني: أنه إذا طلقها ثلاثا جملة يقع ثلاثا عندنا والزيدية من الشيعة يقولون تقع واحدة والأمامية يقولون لا يقع شيء ويزعمون أنه قول علي كرم الله وجهه وهو افتراء منهم على على رضي الله تعالى عنه فقد ذكر بعد هذا في كتاب الطلاق عن علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما أن الثلاث جملة تقع بإيقاع الزوج والمشهور من قول علي رضي الله تعالى عنه كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وشبهتهم فيه أن الزوج مأمور شرعا بإيقاع الطلاق للسنة والمأمور من جهة الزوج بإيقاع الطلاق للسنة وهو الوكيل إذا أوقع لغير السنة لا(6/101)
ص -48- ... يقع فكذلك المأمور شرعا بل أولى لأن أمر الشرع ألزم ولأن نفوذ تصرفه بالإذن شرعا والمنهي عنه غير مأذون فيه فلا يكون نافذا كطلاق الصبي والمعتوه وحجتنا في ذلك حرفان:
أحدهما: أن النهي دليل ظاهر على تحقق المنهي عنه لأن النهي عما لا يتحقق لا يكون فإن موجب النهي الإنتهاء على وجه يكون المنهي فيه مختارا حتى يستحق الثواب إذا انتهى ويستوجب العقاب إذا أقدم وما لم يكن المنهي عنه متحققا في نفسه لا يتصور كونه مختارا في الانتهاء وقد قررنا هذا في النهي عن صوم يوم العيد.
والثاني: أن النهي إذا كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يعدم المنهي عنه ولا يمنع نفوذه شرعا كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة والنهي عن البيع عند النداء يوم الجمعة وهنا النهي لمعني في غير الطلاق من تطويل العدة واشتباه أمر العدة عليها أو سد باب التلافي عند الندم فلا يمنع النفاذ واستكثر من الشواهد في الكتاب وكل ذلك يرجع إلى هذين الحرفين وهذا بخلاف الوكيل فإن نفوذ تصرفه بأمر الموكل فإذا خالف المأمور به لا ينفذ وهنا تصرف الزوج بحكم ملكه وهو بعقد النكاح صار مالكا للتطليقات الثلاث والملك علة تامة لنفوذ التصرف ممن هو أهل للتصرف وإن لم يكن مأمورا ولا مأذونا فيه وهذا بخلاف الصبي والمعتوه لأن الأهلية لإيقاع الطلاق غير متحققة فيهما ألا ترى أنه لا يصح منهما التعليق بالشرط ولا الإضافة إلى ما بعد البلوغ ولا تمليك الأمر منهما وكل ذلك صحيح من الرجل في حيض المرأة وبهذا ونظائره استشهد في الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب اللبس والتطيب(6/102)
قال: رضي الله عنه الأصل أن المتوفى عنها زوجها يلزمها الحداد في عدتها وفيه لغتان حداد وإحداد يقال أحدت المرأة تحد وحدت تحد وكلاهما لغة صحيحة وهذا لما روى أن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها لما أتاها خبر موت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه دعت بطيب بعد ثلاثة أيام فأمسته عارضيها وقالت ما بي حاجة إلى الطيب ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا"، وقال صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استأذنته في الاكتحال: "قد كانت أحداكن في الجاهلية ... " الحديث على ما روينا فأما المبتوتة وهي المختلعة والمطلقة ثلاثا أو تطليقة بائنة فعليها الحداد في عدتها عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه لا حداد عليها لأن هذه العدة واجبة لتعرف براءة الرحم فلا حداد عليها كالمعتدة عن وطء بشبهة أو نكاح فاسد وهذا لأن الحداد على المتوفى عنها زوجها لإظهار التأسف على موت الزوج الذي وفى لها حتى فرق الموت بينهما وذلك غير موجود في حق المطلقة لأن الزوج جفاها وآثر غيرها عليها فإنما تظهر السرور بالتخلص منه دون التأسف.
ولنا: في ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب(6/103)
ص -49- ... بالحناء فإن الحناء طيب وهذا عام في كل معتدة ولأنها معتدة من نكاح صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها وتأثيره أن الحداد إظهار التأسف على فوت نعمة النكاح والوطء الحلال بسببه وذلك موجود في المبتوتة كوجوده في المتوفى عنها زوجها وعين الزوج ما كان مقصودا لها حتى يكون التحزن بفواته بل كان مقصودها ما ذكرنا من النعمة وذلك يفوتها في الطلاق والوفاة بصفة واحدة بخلاف العدة من نكاح فاسد والوطء بشبهة لأنه ما فاتها نعمة بل تخلصت من الحرام بالتفريق بينهما.(6/104)
وصفة الحداد أن لا تتطيب ولا تدهن ولا تلبس الحلي ولا الثوب المصبوغ بالعصفر أو الزعفران لأن المقصود من هذا كله التزين وهو ضد إظهار التحزن ولأنه من أسباب رغبة الرجال فيها وهي ممنوعة من الرجال ما دامت معتدة ولا ثوب عصب ولا خز لتتزين به قيل هو البرد اليماني والأصح أنه القصب وفي النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لا بأس بأن تلبس القصب والخز الأحمر وتأويل ذلك إذا لبست ذلك لا على قصد التزين به فأما على قصد التزين به فهو مكروه كما قال في الكتاب ولا تدهن رأسها لزينة فإن الدهن أصل الطيب ألا ترى أن الروائح تلقى فيه فيصير غالية وإن استعملت الدهن على وجه التداوي بأن أشتكت رأسها فصبت عليه الدهن جاز لأن العدة لا تمنع التداوي وإنما تمنع من التزين ولا تكتحل للزينة أيضا فإن أشتكت عينها فلا بأس بأن تكتحل بالكحل الأسود لما روي أن المتوفى عنها زوجها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاكتحال في الابتداء فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت الباب دعاها فقال: "قد كانت إحداكن في الجاهلية..." الحديث وتأويله أنه وقع عنده صلى الله عليه وسلم أنها لا تقصد الزينة بالاكتحال في الابتداء فأذن لها ثم علم أن قصدها الزينة فمنعها وإن لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ فلا بأس بأن تلبسه من غير أن تريد الزينة بذلك لأنها لا تجد بدا من ستر عورتها وإذا لم تجد سوى هذا الثوب فمقصودها الستر لا الزينة والأعمال بالنيات وأما المطلقة طلاقا رجعيا فلا بأس بأن تتطيب وتتزين بما أحبت من الثياب لأن نعمة النكاح والحل ما فاتت بعد لأن الزوج مندوب إلى أن يراجعها والتزين مما يبعثه على مراجعتها فتكون مندوبة إليه أيضا فأما الكتابية تحت مسلم إذا فارقها أو توفي عنها فليس عليها أن تتقي في عدتها شيئا من الطيب والزينة لأن الحداد في العدة لحق الشرع وهي لا تخاطب بالشرائع وفي الكتاب قال لأن الذي فيها من الشرك والذي تترك من فرائض الله(6/105)
تعالى أعظم من هذا.
قال: وتتقي المملوكة المسلمة في عدتها ما تتقي منه الحرة إلا الخروج لأنها مخاطبة بحق الشرع كالحرة وإنما لا تمنع من الخروج لحق مولاها في خدمته ولا حق للمولى في تطيبها وتزينها في العدة لأنها محرمة عليه ما لم تنقض عدتها.
قال: وليس على الصبية أن تتقي شيئا من ذلك عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه هي كالبالغة وعلى الولي أن يمنعها من التطيب والتزين كما يمنعها من شرب الخمر وحرمتها لحق الشرع وكما يجب عليها أصل العدة لحق الشرع لأنا نعلم يقينا فراغ رحمها من ماء الزوج، فكذلك(6/106)
ص -50- ... الحداد في العدة يجب عليها إذا توفي عنها زوجها ولكنا نقول هي لا تخاطب بحق الشرع بما هو أعظم من الحداد من الصوم والصلاة والحداد في معنى شكر النعمة لأنه اظهار التحزن على فوت نعمة الزوجية وليس عليها ذلك شرعا بخلاف أصل العدة فقد قال بعض مشايخنا هي لا تخاطب بالاعتداد ولكن الولي يخاطب بأن لا يزوجها حتى تنقضي مدة العدة مع أن العدة مجرد مضي المدة فثبوتها في حقها لا يؤدي إلى توجه خطاب الشرع عليها بخلاف الحداد فيها.
قال: وليس على أم الولد في عدتها اتقاء شيء من ذلك لأن عدتها من السيد إنما تجب عند العتق وفيه تخلصها من الرق ووصولها إلى نعمة الحرية فلا يفوتها بها شيء من النعمة لتأسف على ذلك وما كان من حال الوطء بينها وبين المولى فقد كان بسبب هو عقوبة في حقها وهو الرق فلا يعد نعمة وكرامة ولهذا لا يثبت به الإحصان فعدتها بمنزلة العدة من نكاح فاسد وقد بينا فيما سبق أنهما لا يمنعان من الخروج في عدتهما فكذلك لا يمنعان من التزين ألا ترى أن امرأة رجل لو تزوجت ثم دخل بها الزوج ثم فرق بينهما ثم ردت إلى الزوج الأول كان لها أن تتزين وتتشوف إلى زوجها الأول وعليها عدة الآخر ثلاث حيض.(6/107)
قال: رجل اشترى امرأته وهي أمة قد ولدت منه فسد النكاح وقد كانت حلالا له بالملك فلا بأس بأن تتزين له وتتطيب لأنها غير معتدة في حقه لأن العدة أثر النكاح وكما أن الملك ينافي أصل النكاح ينافي أثره ولأنه يحل له وطؤها بسبب الملك فلا بأس بأن تتطيب له وتتزين ليزداد رغبة فيها ولو أراد أن يزوجها رجلا لم يجز حتى تحيض حيضتين لأنها معتدة في حق غيره فإن الفرقة وقعت بينها وبين زوجها بعد الدخول بسبب الملك وذلك لا ينفك عن عدة فجعلناها في حق غيره كالمعتدة وإن لم يكن في حقه فإن أعتقها فعليها ثلاث حيض لأنها صارت أم ولد له حين اشتراها بعد ما ولدت منه بالنكاح وعلى أم الولد ثلاث حيض بعد العتق ثم تتقي الطيب والزينة في الحيضتين الأوليين اللتين كانتا عليها من قبل النكاح استحسانا وفي القياس ليس عليها ذلك لأن الحداد لا يلزمها عند وقوع الفرقة فكيف يلزمها بعد ذلك وبالعتق إنما يفوتها الحل الذي كان قائما قبله وقد بينا أن ذلك ليس بنعمة وجه الاستحسان أن العدة وجبت عليها بالفرقة ولكن لم يظهر ذلك لحق المولى لكونها حلالا له بالملك وقد زال ذلك بالعتق فظهرت تلك العدة في حق المولى والعدة بعد الفرقة من نكاح صحيح يجب فيها الحداد وإنما كانت تتطيب تقديما لحق المولى على حق الشرع حين كانت حلالا له وقد زال ذلك بالعتق فأما الحيضة الثالثة فلا حداد عليها لأن ذلك لم يلزمها بسبب النكاح بل بسبب العتق لكونها أم ولد ولا حداد على أم الولد في عدتها من سيدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب المتعة والمهر
اعلم بأن العلماء مختلفون في المتعة في فصول:
أحدها: أن المتعة واجبة عندنا وقال مالك رضي الله تعالى عنه هي مستحبة لظاهر(6/108)
ص -51- ... قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وفي موضع آخر {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وفي هذا إشارة إلى أنها مستحبة فإن الواجب يكون حتما على المتقين وغير المتقين ولما أمر شريح رضي الله تعالى عنه المطلق بأن يمتعها قال ليس عندي ما أمتعها به فقال إن كنت من المحسنين أو من المتقين فمتعها ولم يجبره ولأن المتعة غير واجبة قبل الطلاق فلا تجب بالطلاق لأنه مسقط لا موجب ولو وجبت إنما تجب باعتبار ملك النكاح وبالطلاق قبل الدخول أزال الملك لا إلى أثر فكيف تجب المتعة باعتبار الملك.(6/109)
ولنا: في ذلك قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فإن الله سبحانه وتعالى أضاف المتعة إليهن بلام التمليك ثم قال {حَقّاً} [البقرة: 241] وذلك دليل وجوبه وقال: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وكلمة على تفيد الوجوب والمراد بالمتقين والمحسنين المؤمنون والمؤمن هو الذي ينقاد لحكم الشرع وقال الله تعالى {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أمر به والأمر للوجوب وقال الله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] ولأن الفرقة وقعت بالطلاق بعد صحة النكاح فلا تنفك عن الواجب لها كما إذا كان في النكاح مسمى ثم عندنا لا تجب المتعة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة قبل المسيس والفرض وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا تجب المتعة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة بعد المسيس إذا كان مهرها مسمى فإنما يتحقق الاختلاف في المطلقة بعد الدخول عندنا لها المهر المسمى أو مهر المثل إذا لم يكن في النكاح تسمية وليس لها متعة واجبة ولكنها مستحبة وعند الشافعي رحمه الله تعالى لها متعة واجبة لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] إلا أنا خصصنا المطلقة قبل المسيس بعد الفرض من هذا العموم بالنص وهو قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فجعل كل الواجب نصف المسمى ولأن وجوب المتعة لمراعاة حق النكاح فأما المسمى أو مهر المثل فإنما يسلم لها بالدخول فتبقى المتعة لها بحق النكاح بخلاف المطلقة قبل المسيس بعد الفرض لأن نصف المفروض لها بحق النكاح إذا لم يكن بينهما سبب سوى النكاح وهنا بينهما سبب سوي النكاح وهو الدخول فلا حاجة إلى إيجاب المتعة هنا.(6/110)
ولنا أنها إنما استحقت جميع المهر على زوجها فلا تستحق المتعة مع ذلك كالمتوفى عنها زوجها وهذا لأن النكاح حق معاوضة وبعد تقرر الفرض لا حاجة إلى شيء آخر توضيحه أن المتعة لا تجامع نصف المسمى وهو ما إذا طلقها قبل المسيس بعد الفرض فلأن لا تجامع جميع المسمى أولى وتحقيق هذا أن المتعة تجب خلفا عن مهر المثل فإن أوان وجوبها بعد الطلاق ولا يمكن ايجابها أصلا بسبب الملك لأن ما يجب بالملك أصلا لا يتوقف وجوبه على زوال الملك فعرفنا أنها وجبت خلفا لأن بالخلف يبقى ما كان ثابتا من الحكم ولا يجمع بين الخلف والأصل بحال وإذا وجب لها المهر الذي هو الأصل كله أو بعضه لا تجب المتعة فأما المطلقة قبل المسيس والفرض فهي لا تستوجب شيئا من الأصل(6/111)
ص -52- ... فتجب لها المتعة وإنما قلنا إنها مستحبة لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وقد كان دخل بهن فدل أن المتعة مستحبة في هذه الحالة وهو مروي عن ابن عباس وشريح رضي الله تعالى عنهما وكذلك كل فرقة جاءت من قبل الزوج بأي سبب كانت وكل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا شيء لها من المهر ولا من المتعة لأن المتعة بمنزلة نصف المسمى فكما أن في النكاح الذي فيه التسمية لا يجب من المسمى شيء إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول بها فكذلك في النكاح الذي لا تسمية فيه لا تجب المتعة إذا جاءت الفرقة من قبلها قبل الدخول بها.
قال: وأدنى ما تكون المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وللشافعي رحمه الله تعالى قولان:
أحدهما: أنه شيء نفيس يعطيها الزوج تذكرة له وقد بينا هذا في كتاب النكاح.(6/112)
والثاني: أن المتعة ثلاثون درهما وهذا ليس بصحيح قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] واسم المتاع لا يتناول الدراهم وتقدير المتعة بالثياب مروي عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي رحمهم الله تعالى وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول أرفع المتعة الخادم وأوسط المتعة الكسوة وأدناها النفقة ثم المعتبر في المتعة حالة الرجل لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وكان الكرخي رضي الله عنه يقول هذا في المستحبة فأما في المتعة الواجبة يعتبر حالها لأنها خلف عن مهر المثل وفي مهر المثل يعتبر حالها فكذلك في المتعة وهذا الذي قاله ليس بقوي لأن الاعتبار بحاله أو بحالها فيما يكون واجبا ويدخل تحت الحكم وفي المستحب هذا لا يكون ولأن الله تعالى قال على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وكلمة على للوجوب فإذا طلقها قبل الدخول وقد سمى لها مهرا فلها نصف المسمى بالنص والقياس فيه أحد الشيئين إما وجوب جميع المسمى لأن الزوج هو الذي فوت الملك على نفسه باختياره فلا يسقط حقها في البدل كالمشتري إذا أتلف المبيع قبل القبض أو أن لا يجب شيء لأن المعقود عليه عاد إليها كما خرج عن ملكها وذلك مسقط للبدل كما إذا انفسخ البيع بخيار أو بإقالة ولكنا تركنا القياس بالنص وفيه طريقان لمشايخنا رحمهم الله:
أحدهما: أن الطلاق يسقط جميع المسمى كما يسقط جميع مهر المثل وإنما لها نصف المسمى بطريق المتعة.(6/113)
والثاني: أن بالطلاق هنا لا يسقط إلا نصف المسمى لأنه متأكد بالعقد والتسمية جميعا بخلاف مهر المثل وهذا أصح فإنه لو تزوجها على ابل سائمة وحال الحول عليها ثم طلقها قبل الدخول بها فعليها نصف الزكاة ولو سقط جميع المسمى ثم وجب النصف بطريق المتعة لما لزمها شيء من الزكاة ثم المسمى وإن تنصف بالطلاق فكل واحد منهما مندوب إلى العفو قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] والذي بيده عقدة(6/114)
ص -53- ... النكاح عندنا هو الزوج وهو قول ابن عباس وشريح رضي الله تعالى عنهما وقال مالك رحمه الله الذي بيده عقدة النكاح وليها حتى أن على مذهبه إذا أبت المرأة أن تسقط نصيبها يندب الولي إلى إسقاط ذلك ويصح ذلك منه وهذا فاسد لأنه دين واجب لها أو عين مملوكة لها فلا يملك الولي إسقاط حقها عنه
ولكن المراد أنها تندب إلى العفو بأن تقول لم يتمتع بي شيئا فلا آخذ من ماله شيئا، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وهو الزوج بأن يقول اخترت فراقها فلا أمنعها شيئا من صداقها فيعطيها جميع المهر وظاهر الآية يدل على ذلك لأن الذي بيده عقدة النكاح من يتصرف بعقد النكاح وهو الزوج دون الولي وإن طلقها قبل أن يدخل بها وقد تزوجها على مهر فاسد كالخمر والخنزير فلها المتعة عندنا ونصف مهر المثل عند الشافعي عنه رضي الله عنه لأن مهر المثل وجب بنفس العقد هنا بالاتفاق فيتنصف بالطلاق قبل الدخول كالمسمى ولكنا نقول تنصف المسمى ثبت بالنص بخلاف القياس والمخصوص من القياس بالنص لا يقاس عليه غيره وقد بينا أن مهر المثل ليس في معنى المسمى من كل وجه فإنما لها المتعة بالنص وفي النكاح الفاسد إذا فرق بينهما قبل الدخول والخلوة أو بعد الخلوة والزوج منكر للدخول فلا شيء عليه لها لأن وجوب المتعة إما لمراعاة حق النكاح أو ليكون خلفا عن مهر المثل وما هو الأصل لا يجب في النكاح الفاسد قبل الدخول فكذلك ما هو خلفه والعبد بمنزلة الحر في وجوب المهر والمتعة عليه إذا كان النكاح بإذن المولى لأنه مساو للحر في سبب وجوبهما وهو النكاح فكذلك في الواجب بالسبب.(6/115)
قال: وإذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم مات وقد فرض لاحداهما مهرا ولم يفرض للأخرى والتي سمى لها مهرا لا تعرف بعينها ومهر مثلهما سواء فلهما مهر وربع مهر بينهما سواء لأن أكثر ما يكون لهما مهر ونصف مهر وهو أن يكون الطلاق وقع على التي سمى لها المهر فيكون لها نصف المهر بالطلاق قبل الدخول وللأخرى مهر كامل لتقرر نكاحها بالموت وأقل ما يكون لهما مهر واحد وهو أن يكون الطلاق وقع على التي لم يفرض لها مهرا فيسقط جميع مهرها فمهر واحد لهما بيقين ونصف مهر يثبت في حال دون حال فيتنصف فكان الواجب مهرا وربع مهر وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيكون بينهما نصفين ولا شيء لهما من المتعة لأن المتعة لا تجامع شيئا من المهر.
قال: فإن كانت التي سمي لها المهر معروفة فلها ثلاثة أرباع المهر لأن الطلاق إن كان وقع عليها فلها نصف المهر وإن كان وقع على صاحبتها فلها كل المهر فأعطيناها ثلاثة أرباع المهر باعتبار الأحوال وللأخرى نصف مهر مثلها لأن الطلاق إن وقع عليها لم يكن لها شيء وإن لم يقع عليها كان لها جميع مهر مثلها فأعطيناها نصف المهر باعتبار الأحوال وفي القياس لها نصف المتعة لأن الطلاق إن وقع عليها فلها جميع المتعة وإن لم يقع عليها فلا متعة لها فيكون لها نصف المتعة باعتبار الأحوال إلا أن في الاستحسان لا شيء لها من المتعة لما بينا أن المتعة لا تجامع مهر المثل لأنها خلف عنه وقد استحقت نصف مهر مثلها فلا يكون لها(6/116)
ص -54- ... شيء من المتعة ولأن مهر المثل قيمة بضعها فلا يجامعها بدل آخر كقيمة المبيع إذا وجبت في البيع الفاسد لا يجب معه بدل آخر كذا هنا.
قال: وإذا وهبت المرأة لزوجها مهرها ثم طلقها قبل الدخول بها ولم تكن قبضت منه شيئا لم يكن لواحد منهما على صاحبه شيء وفي القياس يرجع عليها زوجها بنصفه وهو قول زفر رحمه الله تعالى ووجه القياس أنها بالهبة استهلكت الصداق فكأنها قبضته ثم استهلكته فللزوج أن يرجع عليها بنصفه وجه الاستحسان أن مقصود الزوج سلامة نصف الصداق له عند الطلاق من غير عوض وقد حصل له هذا المقصود قبل الطلاق فلا يستوجب شيئا آخر عند الطلاق كمن عليه الدين المؤجل إذا عجله لم يجب لصاحب الدين عند حلول الأجل شيء وهذا لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لمقاصدها فإذا كان ما هو المقصود واجبا حاصلا فلا عبرة باختلاف السبب وعلى هذا لو كان الصداق عينا فقبضته ثم وهبته من الزوج القياس أن هذا وهبتها من الأجنبي سواء فعند الطلاق يرجع الزوج عليها بنصفه وفي الاستحسان مقصود الزوج قد حصل بعود الصداق إليه بعينه من غير عوض.
قال: ولو كان الصداق دينا فقبضته ثم وهبته من الزوج رجع الزوج عليها بنصفه عند الطلاق لأن حق الزوج عند الطلاق هنا ليس في عين المقبوض ولكن الخيار إليها تعطيه من أي موضع شاءت فهبتها هذا المقبوض منه كهبتها مالا آخر وفي الأول حق الزوج عند الطلاق في نصف المقبوض بعينه وقد عادت إليه بالهبة وحكي عن زفر رحمه الله تعالى أنه قال إذا تزوجها على ألف درهم بعينها فقبضتها ثم وهبتها منه ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع عليها بشيء بناء على أصله أن النفوذ في العقود يتعين ولكن هذا لا يستقيم إلا أن يكون في المسألة روايتان عن زفر إحداهما مثل جواب الاستحسان فيخرج هذا على تلك الرواية.(6/117)
قال: ولو قبضت منه النصف ووهبت له النصف ثم طلقها لم يرجع واحد منهما على صاحبه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يرجع عليها بنصف المقبوض وجه قولهما أن هبة نصف الصداق قبل القبض حط منه والحط يلتحق بأصل العقد ويخرج به المحطوط من أن يكون عوضا فكأنه تزوجها على ما بقي وقبضت منه ثم طلقها والجزء معتبر بالكل فيما وهبت وفيما قبضت وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لو قبضت النصف ولم تهب منه الباقي حتى طلقها لم يرجع عليها بشيء فلو رجع عليها بعد الهبة إنما يرجع بسبب الهبة والهبة تبرع فلا توجب الضمان على المتبرع فيما تبرع به ولأن ملكها في نصف الصداق قبل الدخول قوي وفي النصف ضعيف يسقط بالطلاق فيجعل المقبوض مما قوي ملكها فيه لأن القبض مقرر للملك وإنما يتقرر ملكها في المقبوض إذا تعين فيه النصف الذي سلم لها بعد الطلاق فتبين أنها وهبت النصف الذي كان للزوج بالطلاق وقد سلم له قبل الطلاق مجانا وعلى هذا لو قبضت ستمائة ووهبت له أربعمائة ثم طلقها قبل الدخول عند أبي حنيفة رحمه الله يرجع عليها بمائة لأن الموهوب من النصف الذي كان يسلم للزوج(6/118)
ص -55- ... بالطلاق وقد سلم له قبل الطلاق مجانا لأن الموهوب من النصف الذي هو حق الزوج بعد الطلاق فإنما بقي إلى تمام حقه مائة درهم وعندهما يرجع عليها بثلثمائة درهم لأن المحطوط صار كأن لم يكن وإنما يرجع عليها بنصف المقبوض.
قال: ولو قبضت الصداق كله ووهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي من الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصفه العين والدين سواء في ذلك لأن مقصود الزوج سلامة نصف الصداق له من جهتها عند الطلاق ولم يسلم له ذلك وإنما سلم له مال من أجنبي آخر بالهبة وتبدل المالك بمنزلة تبدل العين فكانت مستهلكة للصداق وكذلك لو كانت باعت الصداق من زوجها ثم طلقها رجع عليها بنصفه فإن مقصوده لم يحصل فإن العين إنما وصلت إليه ببدل عقد ضمان.
قال: ولو وهبت الصداق لأجنبي قبل القبض فقبض الأجنبي ثم طلقها الزوج قبل الدخول رجع عليها بنصفه لأن قبض الأجنبي بتسليطها كقبضها بنفسها.
قال: ولو تزوجها على عبد ودفعه إليها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فقضي للزوج بنصفه عليها فلم يقبضه حتى أعور أخذ نصفه وضمنها نصف العور لأن بقضاء القاضي عاد الملك في النصف إليه وهو ملك مضمون له في يدها فكان كالمغصوب وإن كان العبد في يد الزوج فطلقها فلم تقبض نصفه حتى حدث به عيب فاحش فهي بالخيار إن شاءت أخذت نصفه ناقصا وإن شاءت ضمنت الزوج نصف قيمته صحيحا لأن ملكها بعد الطلاق في نصف العبد كملكها في جميعه قبل الطلاق ولو لم يطلقها حتى تعيب في يد الزوج كان لها الخيار إن شاءت أخذت الكل ناقصا وإن شاءت ضمنته قيمته صحيحا فكذلك في النصف بعد الطلاق وإن أعتقه الزوج بعد الطلاق جاز عتقه في نصفه لأن بنفس الطلاق عاد الملك في نصفه إلى الزوج إذا لم تكن قبضته فهو كعبد بين اثنين يعتقه أحدهما.(6/119)
قال: وإذا تزوج الرجل ثلاث نسوة في عقدة واثنتين في عقدة وواحدة في عقدة ثم طلق إحدى نسائه قبل أن يدخل منهن بواحدة ثم مات فلهن ثلاثة مهور لأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف بأن يصح نكاح الواحدة مع الثلاث فيجب أربعة مهور ثم يسقط بالطلاق قبل الدخول نصف مهر وأقل مالهن مهران ونصف بأن صح نكاح الواحدة مع الثنتين فيجب ثلاثة مهور ثم يسقط نصف مهر بالطلاق فقدر مهرين ونصف لهن بيقين ومهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فيكون لهن ثلاثة مهور للواحدة من ذلك سبعة أثمان مهر إلا سدس ثمن مهر لأن نكاح الواحدة صحيح بيقين فإن صح مع الثلاث فلها سبعة أثمان مهر لأن الساقط بالطلاق نصف مهر حصتها ربع ذلك وهو ثمن المهر وإن صح نكاحها مع الثنتين فلها خمسة أسداس المهر لأن الساقط بالطلاق نصف مهر حصتها من ذلك ثلث ذلك النصف وهو سدس مهر انكسر المهر بالأسداس والأثمان فالسبيل أن تضرب الستة في ثمانية فتكون ثمانية وأربعين لها في الحالة الأولى سبعة أثمان وهو اثنان وأربعون وفي الحالة الثانية خمسة أسداس وهو أربعون فمقدار أربعين لها بيقين والسهمان تثبت في حال دون حال فتتنصف فيكون لها واحد(6/120)
ص -56- ... وأربعون من ثمانية وأربعين وذلك سبعة أثمان مهر إلا سدس ثمن مهر وللثلاث مهر وثمنا مهر ونصف ثمن مهر لأن نكاحهن إن صح فلهن ثلاثة مهور أصابهن بالطلاق من الحرمان بقدر ثلاثة أرباع النصف وهو ثلاثة أثمان فيبقى لهن مهران وخمسة أثمان وإن لم يصح نكاحهن فلا شيء لهن فلهن نصف ذلك وهو مهر وثمنا مهر ونصف ثمن مهر وللثنتين خمسة أسداس مهر لأنه إن صح نكاحهما فقد كان لهما مهران وأصابهما حرمان ثلثي النصف بالطلاق فيبقى لهما مهر وثلثان وإن لم يصح نكاحهما فلا شيء لهما فكان لهما خمسة أسداس مهر بينهما نصفان وحكم الميراث قد بيناه في كتاب النكاح أن للواحدة سبعة أسهم من أربعة وعشرين سهما من ميراث النساء والباقي بين الفريقين الآخرين نصفان في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما للثلاث من الباقي تسعة أسهم وللثنتين ثمانية أسهم وعلى كل واحدة منهن عدة المتوفى عنها زوجها احتياطا.
قال: وإذا تزوج ثلاثا في عقدة واثنتين في عقدة وأربعا في عقدة ثم طلق إحدى نسائه قبل الدخول ثم مات فلهن مهران ونصف مهر لأن أكثر مالهن ثلاثة مهور ونصف بأن كان السابق نكاح الأربع فوجب أربعة مهور ثم سقط بالطلاق نصف مهر وأقل مالهن مهر ونصف بأن كان السابق نكاح الثنتين فوجب مهران ثم سقط بالطلاق نصف مهر فمهر ونصف لهن بيقين وما زاد على ذلك إلى تمام ثلاثة مهور ونصف وذلك مهران يجب في حال دون حال فيتنصف فلهن مهران ونصف فأما مهر من ذلك لا دعوى فيه للثنتين والفريقان الآخران يدعيانه فيكون بين الفريقين نصفين وقد استوت منازعة الفرق الثلاثة في مهر ونصف فكان بينهن أثلاثا فيسلم للثنتين نصف مهر وللثلاث مهر وللأربع مهر وهذا قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولم يذكر قول محمد رحمه الله تعالى وتخريجه على الأصل الذي بيناه في كتاب(6/121)
النكاح أنه يعتبر حال كل فريق على حدة فإن صح نكاح الأربع فلهن ثلاثة مهور ونصف وإن لم يصح فلا شيء لهن ونكاحهن يصح في حال دون حالين فلهن ثلث ذلك وهو مهر وسدس مهر والثلاث إن صح نكاحهن فلهن مهران ونصف ونكاحهن يصح في حال دون حالين فلهن ثلث ذلك وهو خمسة أسداس مهر والثنتان إن صح نكاحهما فلهما مهر ونصف ونكاحهما صحيح في حال دون حالين فلهما ثلث ذلك وهو نصف مهر والميراث بين الفرق الثلاث أثلاثا لكل فريق ثلثه ربعا كان أو ثمنا لأن حالهن في استحقاق الميراث سواء وعلى كل واحدة منهن عدة الوفاة.
قال: ولو كان دخل بامرأتين لا يعرفان بأعيانهما ثم طلق إحدى نسائه واحدة وطلق الأخرى منهن ثلاثا ثم تزوج واحدة بعد انقضاء العدة معناه بعد انقضاء مدة العدة فإن ابتداء العدة في الطلاق المبهم من وقت البيان ثم مات كان للمرأة الأخيرة التي تزوجها المهر كاملا لأن نكاحها صحيح وإقدامه على النكاح يكون إقرارا منه بفساد نكاح الأربع لأن المسلم إنما يباشر العقد الصحيح وبعد ما صح نكاح الأربع لا يصح نكاح هذه الواحدة فكان هذا بيانا منه أن نكاح الأربع فاسد والبيان يكون تارة بالنص وتارة يكون بالدليل فلا مهر(6/122)
ص -57- ... للأربع ولا ميراث ولا عدة عليهن وللواحدة جميع مهرها لأنه ما أنشأ طلاقها بعد صحة نكاحها وعليها عدة المتوفى عنها زوجها ولها من الميراث خمسة أسهم من اثني عشر سهما لأنه إن صح نكاحها مع الثلاث كان لها أربعة وإن صح نكاحها مع الثنتين كان لها ستة فلهذا أعطيناها خمسة من اثني عشر وللثلاث أربعة من اثني عشر لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلثا المهر ثمانية وإن لم يصح فلا شيء لهن وللثنتين ثلاثة أسهم من اثني عشر لأنه إن صح نكاحهما فلهما ستة من اثني عشر نصف الميراث وإن لم يصح فلا شيء لهما وللثلاث مهر ونصف لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلاثة مهور وإن لم يصح فلا شيء لهن وللثنتين مهر ونصف وعلى الثلاث والثنتين عدة النساء أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض لتوهم الدخول والطلاق بعده في حق كل واحدة منهن وهذا الجواب كله غلط غير صحيح أما في حق الواحدة فجوابه في الميراث غلط لأن نكاحها إن صح مع الثنتين فقد وقع الطلاقان على الثنتين وهما متعينتان وقد انقضت عدتهما فالميراث كله للواحدة وإن كان الصحيح نكاح الثلاث فلها ثلث الميراث فمقدار الثلاث لها بيقين والثلثان ثابتان في حال دون حال فيتنصفان فينبغي أن يكون لها ثلثا الميراث وفي الثلاث جوابه كذلك في الميراث صحيح وفي المهر غلط لأنه إن صح نكاحهن فلهن ثلثا الميراث وإن لم يصح فلا شيء لهن فلهن ثلث الميراث أربعة من اثني عشر وأما في حق المهر فإن صح نكاحهن فقد تقرر مهران بالدخول لاثنتين منهن والثالثة إن وقع الطلاق عليها فلها نصف وإن لم يقع فلها مهر كامل فيكون لها ثلاثة أرباع مهر فجملة ما لهن إن صح نكاحهن مهران وثلاثة أرباع مهر وإن لم يصح فيكون لهن مهر وثلاثة أثمان مهر لا مهر ونصف وفي حق الثنتين جوابه في الميراث والمهر جميعا غلط لأنا نتيقن أنه لا ميراث لهما فإنه إن صح نكاحهما فقد وقع الطلاق عليهما وانقضت عدتهما وإن لم يصح نكاحهما فلا شيء لهما وفي المهر إن صح نكاحهما فلهما(6/123)
مهران وإن لم يصح فلا شيء فينبغي أن يكون لهما مهر واحد لا مهر ونصف فعرفنا أن جواب الكتاب غير سديد.
قال: ولو لم يدخل بشيء منهن ولم يتزوج شيئا وكانت إحدى الثلاث أم إحدى الأربع والحال على ما وصفت لك فإن الأم والبنت لا ينقصان من مهر ولا ميراث من قبل أن الفريق الذي معها نكاحهن ونكاحها جائز أو فاسد إذ لا تصور لجواز نكاح الفريقين فلا يتحقق الجمع بين الأم والبنت فلهذا كان هذا والفصل الأول سواء.
قال: ولو طلق إحدى الثلاث كان ذلك إقرارا منه بأن الثلاث هن الأول لأن تصرفه بإيقاع الطلاق محمول على الصحة ما أمكن وذلك لا يكون إلا بعد صحة النكاح وكذلك لو ظاهر من إحداهن أو دخل باحداهن كان ذلك بيانا منه أن نكاحهن صحيح فهذا والتصريح بالبيان سواء ثم تخريج المسألة في المهر والميراث قد بيناه في كتاب النكاح.
قال: ولو كانت إحدى الأربع أمة لم يكن لها من الميراث ولا من المهر شيء لأنا تيقنا(6/124)
ص -58- ... بفساد نكاحها إما بتأخر العقد أو بالضم إلى الحرائر فإذا فسد نكاحها بقي ثلاث وثلاث واثنتان فإن طلق إحدى نسائه ثم مات فلهن مهران لأن أكثر مالهن مهران ونصف بأن صح نكاح الثلاث ووجب ثلاثة مهور ثم سقط نصف مهر بالطلاق وأقل مالهن مهر ونصف بأن صح نكاح الثنتين فقدر مهر ونصف يقين ومهر واحد يثبت في حال دون حال فيتنصف فلهن مهران فأما نصف مهر من ذلك لا منازعة للثنتين فيه ليكون بين الفريقين الآخرين نصفين وقد استوت منازعة الفرق الثلاث في مهر ونصف فيكون بينهن أثلاثا وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى فأما تخريج محمد رحمه الله تعالى على ما أشرنا إليه في اعتبار حال كل فريق على حدة ويتضح عند التأمل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ما تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق
قال: رضي الله عنه وإذا قال الرجل لامرأته أنت علي حرام فإنه يسأل عن نيته لأنه تكلم بكلام مبهم محتمل لمعان وكلام المتكلم محمول على مراده ومراده إنما يعرف من جهته فيسأل عن نيته فإن نوى الطلاق فهو طلاق لأنه نوى ما يحتمله كلامه فإنه وصفها بالحرمة عليه وحرمتها عليه من موجبات الطلاق ثم إن نوى ثلاثا فهو ثلاث لأن حرمتها عليه عند وقوع الثلاث فقد نوى نوعا من أنواع الحرمة وإن نوى واحدة بائنة فهي واحدة بائنة لأنه نوى الحرمة بزوال الملك ولا يحصل ذلك إلا بالتطليقة البائنة(6/125)
ومن أصلنا أن الزوج يملك الإبانة وإزالة الملك من غير بدل ولا عدد على ما نبينه إن شاء الله تعالى وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى يقع اثنتان لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" ولأن الثنتين بعض الثلاث فإذا كانت نية الثلاث تسع في هذا اللفظ فنية الثنتين أولى ألا ترى أنها لو كانت أمة كان يصح نية الثنتين في حقها بهذا اللفظ فكذلك في حق الحرة ولكنا نقول نية الثنتين فيه عدد وهذا اللفظ لا يحتمل العدد لأنها كلمة واحدة وليس فيها احتمال التعدد والنية إذا لم تكن من محتملات اللفظ لا تعمل فأما صحة نية الثلاث ليس باعتبار العدد بل باعتبار أنه نوى حرمة وهي الحرمة الغليظة فإنها لا تثبت بما دون الثلاث فأما الثنتان فلا يتعلق بهما في حق الحرة حرمة لا تثبت تلك الحرمة بالواحدة فبقي مجرد نية العدد بخلاف الأمة فإن الثنتين في حقها يوجب الحرمة الغليظة كالثلاث في حق الحرة وهذا بخلاف ما إذا طلق الحرة واحدة ثم قال لها أنت علي حرام ونوى اثنتين حيث لا تعمل نيته لأن الحرمة الغليظة لا تحصل بهما بل بهما.
وبما تقدم فكان هذا مجرد نية العدد وإن نوى الطلاق ولم ينو عددا فهذه واحدة بائنة لأن نية الطلاق قد صحت فيقع القدر المتيقن وهو الواحدة وإن لم ينو الطلاق ولكن نوى اليمين كان يمينا فإن تحريم الحلال يمين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] جاء في التفسير أنه كان حرم مارية القبطية على نفسه وفي بعض الروايات حرم العسل على نفسه وروى الضحاك عن(6/126)
ص -59- ... أبي بكر وعمر واابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم في هذا اللفظ أنه لو نوى الطلاق فهو طلاق وإن نوى اليمين فهو يمين وعن ابن عمر رضي الله عنه قريبا منه وعن زيد رضي الله عنه قال يمين يكفرها والشافعي رحمه الله تعالى يقول تحريم الحلال لا يكون يمينا ولكن تجب به الكفارة في الزوجة والأمة خاصة وكذلك إن لم يكن له نية فهو يمين لأن الحرمة الثابتة باليمين دون الحرمة التي تثبت بالطلاق وعند الاحتمال لا يثبت إلا القدر المتيقن فكان يمينا إن قربها كفر عن يمينه للحنث وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء وكذلك لو نوى الإيلاء فهو ونية اليمين سواء وإن نوى الكذب فهو كذب لا حكم له لأن كلامه من حيث الظاهر كذب فإنه وصفها بالحرمة وهي حلال له قالوا هذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فلا يدين لأن كلام العاقل محمول على الصحة والعمل به شرعا فلا يلغي مع إمكان الأعمال وفي حمله على الكذب إلغاؤه ولم يذكر في الكتاب ما لو قال نويت به الظهار وذكر في النوادر أنه يكون ظهارا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لأنها تحرم عليه بالظهار كما تحرم عليه بالطلاق فكان ما نوى من محتملات لفظه وعند محمد رحمه الله تعالى لا يكون ظهارا لأن الظهار تشبيه المحللة بالحرمة فبدون حرف التشبيه وهو الكاف لا يثبت الظهار وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى في هذا ونظائره من الكنايات وهي ثلاث لا يدين في شيء لأنه وصفها بكونها محرمة عليه والحرمة لا تثبت صفة للمحل إلا بزوال صفة الحل لاستحالة اجتماع الضدين في محل واحد وصفة الحل لا تزول إلا بالتطليقات الثلاث فكان وقوع الطلاق موجبا لهذا اللفظ حقيقة فلا يدين في شيء آخر ولكنا نقول وصفها بالحرمة والحرمة أنواع ولها أسباب فإذا نوى نوعا أو سببا كان المنوي من محتملات كلامه فتصح نيته.(6/127)
قال: ولو قال كل حل علي حرام يسأل عن نيته فإذا نوى يمينا فهو يمين ولا تدخل امرأته فيه إلا أن ينويها فإذا لم ينو حمل ذلك على الطعام والشراب خاصة وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى كما يفرغ من يمينه يحنث وتلزمه الكفارة فإن فتح العينين والقعود والقيام حل داخل في هذا التحريم فكان شرط الحنث عقيب التحريم موجودا ولكنا نقول علمنا يقينا أنه لم يرد به العموم لأن البر مقصود الحالف ولا تصور للبر إذا حمل على العموم فإذا لم يكن اعتبار معنى العموم فيه حمل على المتعارف وهو الطعام والشراب الذي به قوام النفس ولا تدخل المرأة فيه إلا أن ينويها لأن ادخالها بدون النية لمراعاة العموم وقد تعذر ذلك والعادة أن المرأة إذا قصدت بالتحريم تخص بالذكر فإن نواها دخلت فيه لأن المنوي من محتملات لفظه ولكن لا يخرج الطعام والشراب حتى إذا أكل أو شرب أو قرب امرأته حنث لأن ظاهر لفظه للطعام والشراب ولا يدين في صرف اللفظ عن ظاهره فإذا حنث سقط عنه الإيلاء لأن الكفارة لزمته وارتفعت اليمين وإن لم يكن له نية فهو يمين يكفرها لأن الحرمة باليمين أدنى الحرمات وإن نوى الطلاق فالقول فيه كالقول في المسألة الأولى وعند نية(6/128)
ص -60- ... الطلاق لا يكون يمينا لأنه لفظ واحد فلا يسع فيه معنيان مختلفان والطلاق غير اليمين فإذا عملت نيته في الطلاق سقط اعتبار معنى اليمين وعلى هذا روى عيسى بن أبان عن أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى أنه لو قال لامرأتين أنتما علي حرام ينوي في إحداهما الطلاق وفي الأخرى اليمين أنه يكون طلاقا فيهما جميعا وكذلك لو نوى في إحداهما الطلاق ثلاثا وفي الأخرى واحدة يكون ثلاثا فيهما جميعا لأنه كلام واحد فلا يحتمل معنيين مختلفين وإن نوى الكذب فهو كذب كما بينا في الفصل الأول.
قال: وإذا قال لامرأته قد حرمتك علي أو قد حرمتك أو أنت علي حرام أو أنا عليك حرام أو حرمت نفسي عليك أو أنا عليك محرم أو أنت علي محرمة فالقول في ذلك كالقول في الحرام لأن الحرمة تثبت من الجانبين فيصح اضافتها إلى نفسه كما يصح اضافتها إليها وذكر الفعل وهو قوله حرمتك بمنزلة ذكر الوصف لأنها لا تصير محرمة عليه إلا بفعله ولو قال أنت علي كمتاع فلان ينوي به الطلاق أو الإيلاء فهذا ليس بشيء لأنه ما وصفها بالحرمة بهذا اللفظ فإن متاع فلان ليس عينه بحرام ألا ترى أنه يحل له تناوله بإذن المالك وعند عدم الإذن لا يحل لحق المالك لا لحرمة المحل حتى إذا لم يكن المالك محترما بأن كان حربيا كان تناوله مباحا.
قال: وإذا قال أنت علي كالدم أو كالميتة أو كلحم الخنزير أو الخمر يسأل عن نيته لأنه شبهها بمحرم العين فإن هذه الأعيان محرمة العين شرعا قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] الآية فكان هذا بمنزلة تحريمها على نفسه بقوله أنت علي حرام وقد بينا أنه يسأل عن نيته والدليل على الفرق فصل الظهار فإنه لو شبه امرأته بأجنبية لا يكون مظاهرا ولو شبهها بأمه يكون مظاهرا لأن الأم تكون محرمة عليه فهذا مثله.(6/129)
قال: ولو قال أنت مني بائن أو بتة أو خلية أو برية فإن لم ينو الطلاق لا يقع الطلاق لأنه تكلم بكلام محتمل فالبينونة تارة تكون من المنزل وتارة تكون في الصحبة والعشرة وتارة من النكاح واللفظ المحتمل لا يتعين فيه بعض الجهات بدون النية أو غلبة الاستعمال ولأن بدون النية معنى الطلاق مشكوك في هذا اللفظ والطلاق بالشك لا ينزل وإن نوى الطلاق فهو كما نوى إن نوى ثلاثا فثلاث لأنه نوى أتم أنواع البينونة فإن البينونة تارة تكون مع احتمال الوصل عقيبه وتارة تكون على وجه لا يحتمل الوصل عقيبه وهو الثلاث ما لم تتزوج بزوج آخر فعملت نيته وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة عندنا خلافا لزفر رحمه الله وقد بينا في الفصل الأول الكلام في هذا فإن قوله بائن كلمة واحدة فلا تحتمل العدد وإن نوى واحدة أو نوى الطلاق فقط فهي واحدة بائنة عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه هي واحدة رجعية وكذلك كل لفظ يشبه الفرقة إذا أريد به الطلاق كقوله حبلك على غاربك وقد خليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك وأخرجي واستتري وتقنعي وقد وهبتك لأهلك إن قبلوها أو لم يقبلوها وقد أبنت نفسك مني أو أبنت نفسي منك فالجواب في هذا كله كما ذكرنا في قوله أنت مني بائن.(6/130)
ص -61- ... وقد نقل عن عمر رضي الله تعالى عنه في قوله حبلك على غاربك أنه طلاق إذا نوى ولأن في هذه الألفاظ احتمال معنى زوال الملك فإن من سيب ناقته يجعل حبلها على غاربها ويخلي سبيلها وفي قوله لا ملك لي عليك تصريح بنفي الملك وفي قوله الحقي بأهلك إلزامها الالتحاق بأهلها وذلك بعد انقطاع النكاح بينهما وفي قوله أخرجي واستتري وتقنعي إلزامها ما صرح به وإنما يلزمها ذلك في حقه بعد زوال الملك وكذلك هبتها لأهلها تكون أمرا بالالتحاق بهم بإزالة ملك نفسه عنها فإذا ثبت هذا كانت هذه الألفاظ كلها كلفظة البينونة وبعض المتأخرين من مشايخنا يسمون هذه الألفاظ كنايات وهو مجاز لا حقيقة لأن عندنا هذه الألفاظ تعمل في حقائق موجباتها ولهذا يقع به التطليقة البائنة والكناية ما يستعار لشيء آخر فإنما يستقيم هذا الأصل على أصل الشافعي رحمه الله تعالى فإنه يجعل هذه الألفاظ كناية عن لفظ الطلاق ولهذا كان الواقع به رجعيا وكان محمد رحمه الله تعالى أشار إلى هذا المعنى في قوله وكذلك كل كلام تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق ثم الكلام بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على أصل وهو أن عنده إزالة الملك بعد الدخول غير مملوك للزوج إلا باشتراط البدل أو باستيفاء العدد وعندنا هو مملوك له كإيقاع أصل الطلاق حتى لو قال لامرأته أنت طالق بائن عندنا تقع تطليقة بائنة وعنده تقع تطليقة رجعية واستدل فقال إن خيار الرجعة بعد أيقاع الطلاق ثابت شرعا في العدة لا بإيجاب من الزوج فلا تصرف له في اسقاطه شرعا وفي وصف التطليقة بالبينونة اسقاط خيار الرجعة ولو صرح به فقال أنت طالق ولا رجعة لي عليك لم يسقط حق الرجعة فهنا أولى ولأن إزالة ملك النكاح معتبر بإزالة ملك اليمين تارة يكون بالمعاوضة فيثبت بنفسه وتارة يكون بجهة التبرع فيتأخر إلى ما بعد القبض ولو أراد تغييره لا يملك ذلك حتى لو قال وهبت منك هبة توجب الملك بنفسه كان باطلا فكذلك إزالة ملك(6/131)
النكاح تارة يكون بعوض وهو الخلع فيثبت بنفسه وتارة يكون بغير عوض فيتأخر إلى ما بعد انقضاء العدة أو استيفاء العدد فلا يملك تغييره بتنصيصه لأن هذا التنصيص تصرف منه في حكم الشرع لا في ملك نفسه ولأن هذه الألفاظ دون لفظ الصريح حتى أنها لا تعمل إلا بالنية فإذا كان الصريح الذي هو أقوى لا يزيل الملك بنفسه فهذا أولى وهذه الألفاظ كناية عن الطلاق غير عاملة بحقائق موجباتها فإن حقيقة حرمتها عليه أن تكون مؤبدة كحرمة الأمهات ولا يثبت ذلك بشيء من هذه الألفاظ فإن ما يثبت بهذه الألفاظ الحرمة التي تثبت بالطلاق فعرفنا أنها كناية عن الطلاق وحجتنا في ذلك أن إيقاع صفة البينونة تصرف من الزوج في ملكه فيكون صحيحا كإيقاع أصل الطلاق وبيانه أن الطلاق بالنكاح مملوك للزوج وما صار مملوكا له إلا لحاجته إلى التقصي عن عهدة النكاح وذلك بإزالة ملك النكاح وكذلك قبل الدخول إزالة الملك مملوك للزوج وبالدخول يتأكد له ملكه فلا يبطل ما كان ثابتا له بالملك من ولاية الإزالة وكذلك يملك الاعتياض عن إزالة الملك وإنما يملك الاعتياض عما هو مملوك له فثبت أن الإبانة مملوكة له فكان وصفه الطلاق الذي أوقع بالبينونة تصرفا منه في(6/132)
ص -62- ... ملك نفسه فيجب إعماله ما أمكن وكان ينبغي على هذا الأصل أن يزول الملك بنفس الطلاق إلا أن حكم الرجعة بعد صريح الطلاق ثبت شرعا بخلاف القياس وما ثبت شرعا بخلاف القياس لا يلحق به ما ليس في معناه وهذا ليس في معنى صريح لفظ الطلاق لأنه يجامع النكاح ألا ترى أنها بعد الرجعة توصف بأنها مطلقة ومنكوحة ولا توصف بأنها مبانة ومنكوحة فإذا لم يكن في معنى المنصوص يؤخذ فيه بأصل القياس ولأن في قوله أنت طالق يحتمل الطلاق المبين وغير المبين فكان قوله بائنا لتعيين أحد المحتملين كما نقول الناس يكون محتملا للعموم والخصوص وإذا قال الناس كلهم يزول به هذا الاحتمال وكذلك إذا قال بعت يحتمل البيع بالخيار والبيع البات فإذا قال بيعا باتا يزول هذا الاحتمال وهذا بخلاف الهبة فإنها لا توجب الملك لضعفها في نفسها حتى تتأيد بما يقويها وهو القبض وبشرطها لا تتقوى وهنا قوله أنت طالق لا يزيل الملك بنفسه لا لضعفه لأنه قوي لازم بل لأنه غير مناف للنكاح فإذا قال تطليقة بائنة فقد زال ذلك المعنى حين صرح بما هو مناف للنكاح.(6/133)
وهذه الألفاظ تعمل في حقائق موجباتها فإن حرمتها عليه تثبت بهذا اللفظ مؤبدة عند نية الثلاث ولكن الزوج الثاني رافع للحرمة كما أن زوال الملك بالطلاق يثبت مؤبدا وإن كان العقد بعده يوجب الملك إلا أنه لا يمكن إثبات حقيقة موجب هذا اللفظ من جهة الزوج إلا بالطلاق فلهذا وجب إعمال نيته في الطلاق وعلى هذا لو قال لها أنت حرة لأن فيه معنى إزالة الملك فإن النكاح رق وحريتها عنه تكون بإزالته فأما إذا قال لها اعتدي فهذا اللفظ كناية لأنه محتمل يحتمل أن يكون مراده اعتدي نعم الله أو نعمي عليك أو اعتدي من النكاح فإذا نوى به الطلاق وقعت تطليقة رجعية لأن وقوع الطلاق ليس بحقيقة اللفظ فإن حقيقته في الحساب فلا تأثير له في إزالة الملك والعدة تجامع النكاح ابتداء وبقاء ولكن من ضرورة عدتها من النكاح تقدم الطلاق فكان وقوع الطلاق بطريق الاضمار في كلامه فكأنه قال طلقتك فاعتدي ولهذا قلنا إنه وإن تكلم بهذا اللفظ قبل الدخول تعمل نيته في الطلاق ولا عدة عليها قبل الدخول فعرفنا أن اللفظ غير عامل في حقيقته ولكن الطلاق فيه مضمر يظهر عند نيته عرفنا ذلك بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسودة حين أراد أن يطلقها "اعتدي" وكذلك قوله "استبرئي رحمك" بمنزلة التفسير لقوله: "اعتدي" لأنه تصريح بما هو المقصود من العدة وكذلك لو قال لها أنت واحدة لأنه كلام محتمل يجوز أن يكون قوله واحدة نعتا لها أي واحدة عند قومك أو منفردة عندي ليس معك غيرك أو واحدة نساء العالم في الجمال ويحتمل أن يكون نعتا لتطليقة أي أنت طالق واحدة فلا يقع الطلاق به إلا بالنية فإذا نوى يقع به تطليقة رجعية لأن الوقوع بطريق الإضمار فكأنه صرح بما هو المضمر وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع بهذا اللفظ شيء وإن نوى لأن قوله واحدة نعت لها وليس فيه احتمال معنى الطلاق أصلا ولكنا نقول كلام العاقل متى أمكن حمله على ما هو مفيد يحمل عليه فأما إذا قال لها أنت طالق يقع به(6/134)
تطليقة رجعية نوى أو لم ينو لأن هذا اللفظ صريح في الطلاق عند النكاح لغلبة الاستعمال فلا حاجة(6/135)
ص -63- ... إلى النية فيه ولأنه يختص بالنساء ولا يذكر لفظ الطلاق إلا مضافا إلى النساء وإنما يذكر في غيرهن الإطلاق والمعنى المختص بالنساء النكاح فتعين الطلاق عن النكاح عند الإضافة إليها وكذلك ما يكون مشتقا من لفظ الطلاق كقوله قد طلقتك أو أنت مطلقة إلا أنه روي عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا قال أنت مطلقة بإسكان الطاء وتخفيف اللام لا يكون طلاقا إلا بالنية لأن هذا اللفظ غير مختص بالنساء
ولو نوى بقوله أنت طالق ثلاثا أو اثنتين لا تعمل نيته عندنا ولا يقع عليها إلا واحدة رجعية وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى يقع ما نوى وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول لأن الصريح أقوى من الكناية فإذا صح نية الثلاث في قوله أنت بائن فلأن يصح في قوله أنت طالق أولى وهذا لأن لفظ الطلاق محتمل للعدد حتى يفسر به فتقول أنت طالق ثلاثا وهو نصب على التفسير وإذ قيل أن فلانا طلق امرأته يصح الاستفسار عن العدد فيقال كم طلقها ولأن قوله أنت طالق أي طالق طلاقا فإنها لا تكون طالقا إلا بالطلاق ولو صرح بهذا ونوى الثلاث يصح ولأنه لو قال لها طلقي نفسك ونوى به الثلاث صحت نيته فكذلك إذا قال طلقتك لأن كل واحد منهما ذكر بلفظ الفعل وحجتنا في ذلك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه طلق امرأته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ولم يستفسره إنك أردت الثلاث أم لا ولم يحلفه على ذلك ولو كانت نية الثلاث تسع في هذا اللفظ لحلفه كما حلف بن ركانة رضي الله تعالى عنه في لفظ البتة والمعنى فيه أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فلا تعمل نيته كما لو قال لها حجي أو زوري أباك أو اسقيني ماء من خارج ونوى به الطلاق وهذا لأن المنوي إذا لم يكن من محتملات اللفظ فقد تجردت النية عن اللفظ وبمجرد النية لا يقع شيء وإنما قلنا ذلك لأن قوله أنت طالق نعت فرد فلا يحتمل العدد ألا ترى أنه يقال للمثنى طالقان وللثلاث طوالق فيكون نعتا للنساء لا للطلاق(6/136)
وقوله طلقتك فعل وهو لا يحتمل العدد كقوله قمت وقعدت وأحد لا يخالف في هذا وإنما تعمل النية عنده بما قال إنها لا تكون طالقا إلا الطلاق ولكن هذا ثابت بمقتضى كلامه ولا عموم للمقتضي عندنا لأن ثبوته لتصحيح الكلام حتى لو صح بدون المقتضى لا يثبت المقتضى ويصح بدون صفة العموم في المقتضي ولأن ذكر النعت يقتضي وصفا ثابتا للموصوف لغة فأما الوصف الثابت للواصف لتصحيح كلامه يكون ثابتا شرعا لا لغة والطلاق بهذه الصفة لأن تقديم الإيقاع لتصحيح كلامه شرعا وكذلك في قوله قد طلقتك فإنه حكاية قوله ولا احتمال فيه لمعنى العدد ولا لمعنى العموم بخلاف قوله طلقي نفسك فإن نية العدد لا تعمل هناك عندنا حتى لو نوي الثنتين لا يصح ونية الثلاث إنما تصح باعتبار معنى العموم لأنه تفويض والتفويض قد يكون عاما وقد يكون خاصا والمفوض إليها بهذا اللفظ طلاق وذلك ثابت في هذا اللفظ لغة والطلاق بمنزلة أسماء الأجناس يحتمل العموم والخصوص فتعمل نيته في العموم
ولسنا نقول في قوله ثلاثا أنه نصب على التفسير بل هو منصوب بنزع حرف الخافض عنه معناه بثلاث كقوله: {مَا هَذَا بَشَراً} [يوسف: 31] أو هو منصوب على طريق البدل(6/137)
ص -64- ... عن مصدر محذوف ومعناه طلاقا ثلاثا وبأن صح الاستفسار عن العدد في الحكاية فذلك لا يدل على أنه من محتملات اللفظ كما يصح الاستفسار عن الشرط والبدل وأما إذا قال أنت طالق طلاقا فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا تعمل نية الثلاث فيه لأن المصدر يذكر لتأكيد الكلام يقال أكلت أكلا وقمت قياما فلا تسع فيه نية الثلاث ثم ولئن صحت نية الثلاث فلا تصح باعتبار العدد بل باعتبار معنى العموم لأن المصدر يحتمل الكثرة قال الله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] ولأن المصدر يضارع الاسم فكان هذا وقوله أنت طالق الطلاق سواء وتصح نية الثلاث في قوله الطلاق لأنه من أسماء الأجناس محتمل للعموم والخصوص ولأن الألف واللام لاستغراق الجنس فيما لا معهود فيه
وكذلك قوله أنت الطلاق فمعناه أنت طالق الطلاق حتى تسع فيه نية الثلاث وقد يذكر المصدر ويراد به الفعل يقال إنما هو اقبال وإدبار على سبيل النعت للمقبل والمدبر وعلى هذا لو قال أنت الطلاق يقع به الطلاق بمنزلة قوله أنت طالق وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى أن الكسائي رحمه الله تعالى بعث إلى محمد رحمه الله تعالى بفتوى فدفعها إلي فقرأتها عليه ما قول القاضي الإمام فيمن يقول لامرأته:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم
كم يقع عليها فكتب في جوابه إن قال ثلاث مرفوعا تقع واحدة وإن قال ثلاث منصوبا يقع ثلاث لأنه إذا ذكره مرفوعا كان ابتداء فيبقى قوله أنت طالق فتقع واحدة وإن قال ثلاثا منصوب على معنى البدل أو على التفسير يقع به ثلاث.(6/138)
قال: ولو قال لامرأته سرحتك أو فارقتك ولم ينو الطلاق لم يقع شيء عندنا وعند الشافعي رضي الله عنه يقع الطلاق وهما صريح عنده لأن كتاب الله تعالى ورد بهما في قوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب:49] ولكنا نقول الصريح ما يكون مختصا بالإضافة إلى النساء فلا يستعمل في غير النكاح وهذا لا يوجد في هذين اللفظين فإن الرجل يقول سرحت إبلي وفارقت غريمي أو صديقي فهما كسائر الألفاظ المبهمة لا يقع بهما الطلاق إلا بالنية.
قال: ولو قال أذهبي ونوى به الطلاق كان طلاقا موجبا للبينونة لأنه لا يلزمها الذهاب إلا بعد زوال الملك فإن قال أذهبي وبيعي ثوبك ونوى به الطلاق لم يكن طلاقا في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وكان طلاقا في قول زفر رحمه الله تعالى ذكره في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى لأن نية الطلاق عاملة في قوله أذهبي وقوله بيعي ثوبك مشورة فلا يتغير به حكم اللفظ الأول وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول معنى كلامه أذهبي لتبيعي ثوبك فكان مصرحا بخلاف المنوي فلهذا لا تعمل نيته.
قال: ولو قال أنا منك طالق فليس هذا بشيء وإن نوى الطلاق عندنا وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه يقع به الطلاق إذا نوى الوقوع عليها لأنه لو قال أنا منك بائن أو أنا عليك(6/139)
ص -65- ... حرام ونوى به وقوع الطلاق يقع ولفظ الصريح أقوى من لفظ الكناية وهذا لأن ملك النكاح مشترك بين الزوجين حتى سميا متناكحين ويبتدأ في النكاح بذكر كل واحد منهما وينتهي النكاح بموت كل واحد منهما حتى يرث كل واحد منهما من صاحبه فيصح إضافة الطلاق إلى كل واحد منهما إلا أن إضافة الطلاق إلى الزوج غير متعارف فيحتاج فيه إلى النية ومحل وقوع الطلاق المرأة فلا بد من نية الوقوع عليها كما في ألفاظ الكنايات وحجتنا في ذلك ما روي أن امرأة قالت لزوجها لو كان إلي ما إليك لرأيت ماذا أصنع فقال جعلت إليك ما إلي فقالت طلقتك فرفع ذلك إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه فقال فض الله فاها هلا قالت طلقت نفسي منك وفي الكتاب علل فقال لأن الزوج لا يكون طالقا من امرأته ومعنى الطلاق هو الإطلاق والإرسال وقيد الملك في جانبها لا في جانبه ألا ترى أنها لا تتزوج بغيره والزوج يتزوج بغيرها فلا يتحقق الإرسال في جانبه ولهذا يكون الوقوع عليها لا عليه فإنما هو مطلق لها كما يكون المولى معتقا لعبده ولو قال للعبد أنا حر منك لم يعتق العبد فكذلك الطلاق وبه فارق لفظ البينونة والحرمة لأن البينونة قطع الوصلة والوصلة مشتركة بينهما ألا ترى أنه يقال بانت عنه وبان عنها وكذلك لفظ الحرمة يقال حرم عليها وحرمت عليه وقد بينا أن هذه الألفاظ لم تعمل بحقائق موجباتها والذي يقول الملك مشترك كلام لا معنى له بل الملك للزوج عليها خاصة حتى يتزوج المسلم الكتابية ولا يتزوج الكتابي المسلمة وفيه كلام طويل لأصحابنا رحمهم الله تعالى والأولى أن نقول ما ثبت لها بالنكاح ملك المهر والنفقة وذلك لا يقبل الطلاق وما ثبت له عليها ملك الحل وهو الملك الأصلي الذي يقابله البدل والطلاق مشروع لرفعه وإنما يرفع الشيء عن المحل الوارد عليه دون غيره ثم الملك الذي يثبت في جانبها تبع للملك الثابت للزوج وما يكون تبعا في النكاح لا يكون محلا لإضافة الطلاق إليه(6/140)
عندنا كيدها ورجلها على ما نقرره في قوله يدك طالق ورجلك طالق.
قال: ولو قال أنت طالق البتة سئل عن نيته فإذا نوى تطليقة واحدة فهي واحدة بائنة لأن قوله ألبتة نعت للطلاق أي قاطع للنكاح كقوله بائن ولو نوى ثلاثا فثلاث وإن لم يكن له نية فهي واحدة بائنة كما في قوله أنت بائن فإن قال عنيت بقولي طالق واحدة وبقولي ألبتة أخرى تطلق اثنتين بائنتين لأن الرجل لو قال لامرأته أنت بتة ونوى به الطلاق تعمل نيته فكذلك إذا نوى بلفظة ألبتة تطليقة أخرى ولو قال عنيت بقولي طالق واحدة وبقولي البتة اثنتين طلقت اثنتين لأن نية العدد لا تسع في لفظ إلبتة وكذلك كل كلام يشبه الطلاق ضمه إلى الطلاق إلا قوله اعتدي فإنه رجعي لا تسع فيه نية الثلاث لأن وقوع الطلاق به بإضمار لفظ الطلاق فيه فلا يكون أقوى مما لو صرح به ولو قال لها اعتدي وقال لم أنو الطلاق فهي امرأته بعد أن يحلف وكذلك في جميع الألفاظ المتقدمة إذا قال لم أنو الطلاق فعليه اليمين لأنه أمين فيما يخبر عن ضميره والقول قول الأمين مع اليمين واليمين لنفي التهمة عنه ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف ابن ركانة رضي الله تعالى عنه في لفظ ألبتة لما كان الثلاث من(6/141)
ص -66- ... محتملات لفظه، ولو قال اعتدي فاعتدي أو قال اعتدي واعتدي أو قال اعتدي اعتدي وقال نويت الطلاق فهي تطليقتان في القضاء ولو قال عنيت واحدة دين فيما بينه وبين الله تعالى وعن زفر رحمه الله تعالى أنه تعمل نيته في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى في قوله فاعتدي كذلك وفي قوله واعتدي أو اعتدي تطليقتان كما هو ظاهر الرواية وزفر رحمه الله تعالى يقول كرر اللفظ الأول والتكرار للتأكيد لا للزيادة وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الفاء للوصل فيكون معناه فاعتدي بذلك الإيقاع لا إيقاعا آخر والواو للعطف وموجب العطف الاشتراك فيكون الثاني إيقاعا كالأول وجه ظاهر الرواية أن هذا اللفظ عند نية الإيقاع كالصريح ولو قال أنت طالق وطالق أو طالق فطالق أو طالق طالق كان تطليقتين فكذلك هنا في القضاء ولو قال اعتدي اعتدي اعتدي وهو ينوي تطليقة واحدة بهن جميعا فهو كذلك فيما بينه وبين الله تعالى فأما في القضاء فهو ثلاث لما بينا أن كل كلام إيقاع مبتدأ في الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر ولكن يحتمل تكرار الأول والله تعالى مطلع على ضميره فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يسع المرأة إذا سمعت ذلك أن تقيم معه لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي ولو قال نويت بالأولى الطلاق وبالآخرتين العدة فهو مصدق في القضاء لأن ظاهر كلامه أمر بالاعتداد والأمر بالاعتداد يستقيم بعد وقوع التطليقة فكان مصدقا في القضاء وفي الحاصل هذه المسألة على اثني عشر وجها وقد بينا ذلك في شرح الجامع الصغير وإن قال لها أنت طالق فاعتدي وأراد بقوله فاعتدي العدة فهو مصدق في القضاء لأن الأمر بالاعتداد مستقيم بعد وقوع التطليقة الواحدة وإن أراد تطليقة أخرى أو لم ينو شيئا فهي أخرى لأنها ذكرت بعد مذاكرة الطلاق وإن أراد به ثنتين فهي واحدة رجعية لأن نية العدد لا تسع في هذا اللفظ وكذلك قوله أنت طالق واعتدي.(6/142)
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها طلقني فقال اعتدي ثم قال لم أنو به الطلاق لم يصدق في القضاء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يصدق لأنه لو ذكر هذا اللفظ قبل سؤالها الطلاق لم يعمل إلا بنية الطلاق فكذلك بعد سؤالها لأن العامل لفظ الزوج ولفظه لا يختلف بسؤالها وعدم سؤالها ويجوز أن يكون مراده اعتدي نعمتي عليك ولا تشتغلي بسؤال الطلاق فإنه كفران النعمة ولكنا نقول هذا الكلام بعد سؤال الطلاق لا يراد به إلا الطلاق عادة والقاضي مأمور باتباع الظاهر وما هو المعتاد ثم الكلام الواحد قد يكون مدحا وقد يكون ذما وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمقدمة ودلالة الحال فإن لم تعتبر دلالة الحال لا يتميز المدح من الذم إذا عرفنا هذا فنقول الأحوال ثلاثة حال مذاكرة الطلاق وحال الغضب وحال الرضا فأما في حال مذاكرة الطلاق لا يدين في القضاء في شيء من الألفاظ التي ذكرناها بل يحمل على الجواب لما تقدم في سؤالها ويكون ما تقدم في السؤال كالمعاد في الجواب وفي حالة الغضب لا يدين في ثلاثة ألفاظ اعتدي واختاري وأمرك بيدك لأن هذه الألفاظ لا تحتمل معنى السب والإيعاد وعند الغضب إما أن يكون مراده السب أو الطلاق فإذا لم يكن في اللفظ احتمال معنى السب تعين الطلاق مرادا به وفي خمسة ألفاظ يدين في القضاء وهي قوله أنت بائن حرام بتة(6/143)
ص -67- ... خلية برية لأن هذه الألفاظ تحتمل معنى السب أي أنت بائن من الدين برية من الإسلام خلية من الخير حرام الصحبة والعشرة بتة عن الأخلاق الحسنة فلا يتعين الطلاق مرادا به فإذا قال أردت السب كان مدينا في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه ألحق بهذه الألفاظ أربعة ألفاظ أخر خليت سبيلك فارقتك لا سبيل لي عليك لا ملك لي عليك لأنها تحتمل معنى السب أي لا ملك لي عليك لأنك أدون من أن تملكي لا سبيل لي عليك لشرك وسوء خلقك وفارقتك اتقاء لشرك وخليت سبيلك لهوانك علي وأما في حالة الرضا فهو مدين في هذه الألفاظ ولا يقع الطلاق بها إلا بالنية وكذلك فيما سواها من الألفاظ.
قال: وإذا قال لها اعتدي ثلاثا وقال نويت تطليقة واحدة تعتد لها ثلاث حيض فالقول قوله في القضاء لأن الثلاث عدد الطلاق وعدد لأقراء العدة أيضا والعدة في لفظه والطلاق في ضميره فإذا صلح قوله ثلاثا بيانا لما في ضميره فلأن يصلح بيانا لما تلفظ به أولى فلهذا قبل قوله في القضاء.(6/144)
قال: وإن قال لامرأته لست لي بامرأة ينوي الطلاق فهو كما وصفت لك في الخلية والبرية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا تطلق وهذا ليس بشيء لحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال إذا سئل الرجل ألك امرأة فقال لا فإنما هي كذبة وهذا المعنى أنه نفى نكاحها ونفي الزوجية لا يكون طلاقا بل يكون كذبا منه لما كانت الزوجية بينهما معلومة كما لو قال لامرأته والله ما أنت لي بامرأة أو على حجة إن كانت لي امرأة أو ما لي امرأة أو قال لم أتزوجك لم يقع الطلاق بهذه الألفاظ وإن نوى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول قوله لست لي بامرأة كلام محتمل أي لست لي بامرأة لأني فارقتك أو لست لي بامرأة لأنك لم تكوني في نكاحي وموجب الكلام المحتمل يتبين بنيته فلا تكون هذه الألفاظ طلاقا بغير النية ونية الطلاق تعمل فيه لأنه من محتملاته كما في قوله خلية برية فأما في قوله والله ما أنت لي بامرأة فيمينه لا يكون إلا على النفي في الماضي وذلك يمنع احتمال معنى الطلاق فيه وكذلك إذا قال لم أتزوجك فهو جحود للنكاح من الأصل والطلاق تصرف في النكاح وجحود أصل الشيء لا يحتمل معنى التصرف فيه وإذا قيل ألك امرأة فقال لا فالسائل إنما سأله عن نكاح ماض وكلامه جواب فيكون نفيا للنكاح في الماضي وهو كذب كما قال عمر رضي الله تعالى عنه فأما قوله لست نفي للنكاح في الحال وفي المستقبل لا في الماضي فيكون محتملا للطلاق وفي قوله ما لي امرأة فحرف ما للنفي فيما مضى فهو كحرف إذ للماضي وإذا للمستقبل حتى لو قال طلقتك إذ دخلت الدار تطلق في الحال ولو قال إذا دخلت الدار لا تطلق حتى تدخل فأما إذا قال لا نكاح بيني وبينك ولا سبيل لي عليك فهو نفي في الحال وفي المستقبل لا في الماضي فتسع فيه نية الطلاق بالاتفاق وهذا دليل لأبي حنيفة رحمه الله تعالى وإذا قال أنت طالق ثم قال عنيت طالقا من الوثاق أو طالقا من الإبل لم يصدق في(6/145)
القضاء لأنه خلاف الظاهر ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه محتمل فإن الطلاق من الإطلاق والإطلاق مستعمل في الإبل(6/146)
ص -68- ... والوثاق فيحتمل أن يكون الطلاق عبارة عنه مجازا فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال أنت طالق من وثاق لم يقع عليها شيء لأنه بين بكلامه موصولا مراده من قوله طالق والبيان المغير صحيحا موصولا وقد بيناه في الإقرار وإن قال عنيت بقولي طالقا من عمل من الأعمال ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هذا والأول سواء وفي ظاهر الرواية هناك لا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن لفظ الطلاق لا يستعمل في العمل حقيقة ولا مجازا إلا أن يذكره موصولا فيقول أنت طالق من عمل كذا فحينئذ هي امرأته فيما بينه وبين الله تعالى ويقع الطلاق في القضاء لأنه ليس ببيان من حيث الظاهر لما لم يكن ذلك اللفظ مستعملا فيه وكل ما لا يدينه القاضي فيه فكذلك المرأة إذا سمعت منه أو شهد به شاهدا عدل لا يسعها أن تدين الزوج فيه لأنها لا تعرف منه إلا الظاهر كالقاضي.(6/147)
قال: وإذا طلق امرأته تطليقة بائنة ثم قال لها في عدتها أنت علي حرام أو ما أشبه ذلك وهو يريد بذلك الطلاق لم يقع عليها شيء لأنه صادق في قوله هي علي حرام وهي منه بائن ومعنى هذا أن صيغة كلامه في قوله طالق أو بائن وصف ولكن يجعل إيقاعا ليتحقق ذلك الوصف بما يقع والوصف هنا متحقق من غير أن يجعل كلامه إيقاعا والأوجه أن يقول إن هذه الألفاظ تعمل بحقائقها من ثبوت الحرمة والبينونة بها والثابت لا يمكن إثباته وإنما تعمل هذه الألفاظ بإرادة الفرقة أو رفع النكاح بها وذلك لا يتحقق بعد وقوع الفرقة فأما إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت بائن ثم طلقها تطليقة بائنة ثم دخلت الدار في عدتها وقع عليها تطليقة أخرى بذلك اللفظ عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى لا يقع عليها شيء لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولو نجز قوله أنت بائن في هذه الحالة لم يقع به شيء فكذلك إذا وجد الشرط كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم أبانها ثم دخلت الدار لم يكن مظاهرا منها كما لو نجز الظهار في الحال وكذلك إذا قال لها إذا جاء غد فاختاري ثم أبانها ثم جاء غد فاختارت نفسها لم يقع شيء عليها كما لو نجز التخيير بعد البينونة وعلماؤنا رحمهم الله تعالى قالوا التعليق بالشرط قد صح ووجد الشرط وهي محل لوقوع الطلاق عليها فينزل ما تعلق كما لو وجد الشرط بعد الطلاق الرجعي وكما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق وهذا لأن هذه الألفاظ إنما تخالف الصريح في الحاجة إلى نية الفرقة أو رفع النكاح بها والحاجة إلى هذه النية عند التلفظ بها فإذا كان التلفظ بعد البينونة لم تصح هذه النية وإذا كان قبل البينونة صحت النية وتعلق الطلاق بالشرط ثم لا حاجة إلى النية عند وجود الشرط فكانت هذه الألفاظ عند وجود الشرط في وقوع الطلاق بها كلفظ الصريح وإنما الحاجة في وجود الشرط إلى وجود المحل وباعتبار العدة هي محل لوقوع الطلاق عليها وبه فارق الظهار فإنها لم(6/148)
تبق محلا للظهار باعتبار العدة لأن الظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وموجبه حرمة مؤقتة إلى التكفير وبعد ثبوت الحرمة بزوال الملك على الإطلاق لا تكون محلا للحرمة المؤقتة وهذا بخلاف التخيير لأن الوقوع هناك باختيارها نفسها لا بتخيير الزوج ولهذا كان(6/149)
ص -69- ... الضمان على شاهدي الاختيار دون التخيير واختيارها نفسها بعد الفرقة باطل لأنها صارت أحق بنفسها فأما هنا الوقوع عند وجود الشرط باليمين السابق ولهذا كان الضمان على شاهدي اليمين دون شاهدي الشرط واليمين قد صحت كما قررنا.
قال: في الكتاب ألا ترى أنه لو آلى من امرأته ثم طلقها واحدة بائنة ثم مضت مدة الإيلاء وهي في العدة وقعت عليها تطليقة الإيلاء وزفر رحمه الله تعالى يخالف في هذا أيضا ولكن من عادته الاستشهاد بالمختلف على المختلف لإيضاح الكلام وإذا قال لامرأته أنا بائن يعني منك ولم يقل منك فليس هذا بشيء وإن عنى به الطلاق وكذلك لو قال أنا حرام ولم يقل عليك بخلاف ما إذا قال أنت بائن أو أنت حرام والفرق أن البينونة قطع الوصلة المشتركة ولا وصلة في حقها إلا التي بينه وبينها إذ لا يتصور على المرأة نكاحان فعند إضافة البينونة إليها تتعين الوصلة التي بينه وبينها وإن لم يضف إلى نفسه وإما في جانبه فالوصلة تتحقق بينه وبين غيرها مع قيام الوصلة بينه وبينها فإذا قال أنا بائن لا يتعين بهذا اللفظ الوصلة التي بينهما ما لم يقل منك وكذلك في لفظ الحرمة فإنها لا تحل إلا له خاصة فإذا قال أنت حرام يتعين الحل الذي بينهما للرفع بهذا اللفظ وإذا قال أنا حرام لا يتعين الحل الذي بينهما لجواز الحل الذي بينه وبين غيرها فما لم يقل عليك لا يتم كلامه إيجابا.(6/150)
قال: ولو قال بعد الخلع أو التطليقة البائنة لها في عدتها أنت طالق عندنا يقع الطلاق عليها وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يلحق البائن الصريح كما لا يلحقه بائن حتى لو قال لها بعد الخلع أنت بائن لا يقع الطلاق وإن نوى فكذلك إذا قال أنت طالق لأن قوله أنت بائن مع نية الطلاق بمنزلة الصريح أو أقوى منه وهذا لأن الطلاق مشروع لإزالة ملك النكاح وقد زال الملك بالخلع فلا يقع الطلاق بعده كما بعد انقضاء العدة ولا يجوز أن تكون محلا للطلاق باعتبار العدة لأن وجوب العدة هنا لحرمة الماء حتى لا تجب قبل الدخول فتكون كالعدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة ولو كانت هذه العدة أثر النكاح فهو أثر يبقى بعد فساد الملك وهو بعد التطليقات الثلاث وبمثل هذا الأثر لا تكون محلا للطلاق كالنسب فإنه أثر النكاح ولكن لما كان يبقى بعد نفاذ ملك الطلاق لا تصير به محلا للطلاق وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يعني الخلع ثم قال بعده {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون هذا تنصيصا على وقوع الطلقة الثالثة بالإيقاع بعد الخلع وفي المشاهير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة" رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني حلفت بثلاث تطليقات أن لا أكلم أخي فقال صلى الله عليه وسلم: "طلقها واحدة واتركها حتى تنقضي عدتها ثم كلم أخاك ثم تزوجها"، ولو كان الطلاق لا يقع بعد الخلع لأرشده إلى الخلع ليرتفع الهجران بينه وبين أخيه في الحال، والمعنى فيه أنها معتدة من طلاق فتلحقها التطليقات المملوكة للزوج بايقاعه كالمعتدة من قوله أنت(6/151)
ص -70- ... طالق أو بائن وهذا لأن موجبه ليس هو زوال الملك ألا ترى أن بعد الطلاق الرجعي الملك يبقى مع لزوم الطلاق فإن المطلقة تطلق ثانيا ولو كان موجبه زوال الملك لم يتصور الإيقاع بعد الإيقاع لأن الأول إن كان مزيلا فلا موجب للثاني وإن لم يكن الأول مزيلا فكذلك الثاني وكذلك بعد الرجعة يبقى الطلاق واقعا ولا يزول به الملك في الحال ولا في الثاني والأسباب الشرعية إذا خلت عن موجباتها كانت لغوا فإذا ثبت أن موجب الطلاق ليس هو زوال الملك لا يشترط قيام الملك لصحته كما لا يشترط قيام ملك اليمين لصحته ولكن موجبه الأصلي رفع الحل الذي صارت المرأة به محلا للنكاح وذلك المحل باق بعد الخلع فكان الإيقاع في هذه الحالة مفيد الموجبة فإن قيل هذا موجود بعد انقضاء العدة قلنا نعم ولكن الإيقاع منه تصرف على المحل بإثبات صفة الحرمة ورفع الحل فلا بد من نوع ملك له على المحل لينفذ تصرفه وذلك إما ملك النكاح أو ملك اليد ببقاء العدة لأنها في سكناه وفي نفقته عندنا وعنده إذا كانت حاملا وملك اليد في التصرف كملك العين ألا ترى أن المكاتب يتصرف بملك اليد له في كسبه والمضارب بعد ما صار المال عروضا يتصرف وإن نهاه رب المال لملك اليد له فإما بعد انقضاء العدة فليس له عليها ملك اليد وبهذا الحرف فارق العدة النسب لأن باعتبار نسب الولد لا يبقى ملك اليد عليها والفرق بين قوله أنت طالق وبين قوله بائن ما ذكر محمد رحمه الله تعالى في الكتاب وقد طوله وحاصل ما قال أن قوله بائن لا يعمل إلا بارادة الفرقة أو رفع النكاح وبعد البينونة لا يتحقق هذا فأما قوله طالق عامل بنفسه من غير إرادة فرقة أو رفع نكاح فيشترط لصحته قيام المحل توضيح الفرق أن قوله بائن عامل في حقيقة موجبه وهو قطع الوصلة ووصلة النكاح بينهما منقطعة ولا أثر لهذا اللفظ في قطع وصلة العدة فخلى عن موجبه فأما موجب الطلاق فهو رفع الحل كما بينا والإيقاع بعد البينونة عامل في موجبه(6/152)
لأنها تحرم به إذا تم العدد ثلاثا وهذا بخلاف العدة من نكاح فاسد لأن بتلك العدة لا يثبت له عليها ملك اليد حتى لا تستحق عليه النفقة والسكنى ولو قال لها بعد الخلع اعتدي ونوى به الطلاق وقع عليها تطليقة أخرى وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يقع عليها شيء بهذا لأن هذا اللفظ لا يعمل بنفسه بل بنية الطلاق فيكون بمنزلة قوله بائن وفي ظاهر الرواية قال هذا اللفظ عامل من غير إرادة الفرقة أو فساد النكاح فإن الواقع به رجعي كالصريح وهذا لأن عمل هذا اللفظ لا بحقيقة موجبه بل بإضمار الطلاق فيه ولهذا صح قبل الدخول فكان المضمر كالمصرح به وقد بينا أنه لو قال لامرأته أنت بائن ينوي الثنتين لا يقع إلا واحدة وفي الكتاب فرق بينه وبين نية الثلاث لما ذكرنا أن نية الثلاث تعمل لأنه نوى بها نوعا من أنواع البينونة وذلك لا يوجد في الثنتين إلا في حق الأمة فأما الحرة إذا كان قد طلقها واحدة ثم قال لها أنت بائن فإن نوى ثنتين لم يقع إلا واحدة بهذا اللفظ لأنه نوى العدد واللفظ لا يحتمله وإن نوى ثلاثا وقع عليها بهذا اللفظ اثنتان لأن نيته قد صحت باعتبار أنه نوى نوعا من البينونة فيقع ما تثبت به تلك البينونة وذلك بالتطليقتين الباقيتين والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(6/153)
ص -71- ... باب طلاق أهل الحرب
قال: وإذا سبي أحد الزوجين الحربيين وأخرج إلى دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما بغير طلاق لأن ارتفاع النكاح كان حكما لتباين الدارين وهو مناف لعصمة النكاح والفرقة الواقعة بسبب المنافي للنكاح لا تكون طلاقا كالفرقة بالمحرمية ولأن هذا السبب يشترك فيه الزوجان وتقع الفرقة بنفسه فلا يكون طلاقا كالفرقة بسبب ملك أحد الزوجين صاحبه وفقهه أنه ليس إليها من الطلاق شيء فكل سبب يتم بها لا يكون طلاقا فإن طلقها بعد هذا لا يقع أيضا لأنها بانت لا إلى عدة فإنه إن سبي الزوج أولا فلا عدة على الحربية وإن سبيت المرأة فلا عدة على المسبية لأنها تحل للسابي بعد الاستبراء بالنص فإن سبي الآخر بعده لم يعد النكاح بينهما لارتفاعه بالسبب المنافي ولا يقع طلاقه أيضا لأنها ليست في عدته ولا يجب على الزوج شيء من المهر إن كان دخل بها أو لم يدخل بها سبيا أو سبي أحدهما لأنها إن سبيت فقد خرجت من أن تكون أهلا لمالكية المال وإن سبي الزوج فالدين على الحر لا يبقى بعد السبي كسائر الديون لأن الدين على المملوك لا يجب إلا شاغلا لمالية رقبته وحين وجب الدين عليه لم يكن مالا فلا تشتغل ماليته بعد ذلك بالدين فلهذا سقط وإن لم يسبيا ولكن أسلم أحدهما وخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لتباين الدارين فإن طلقها بعد هذا لم يقع طلاقه عليها أما إذا كان الزوج هو الذي أسلم فلأنه لا عدة على الحربية وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا عدة على المهاجرة أيضا وعندهما وإن كان يلزمها العدة فهذه العدة لا توجب ملك اليد للحربي عليها فكان بمنزلة العدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة فلا يقع الطلاق عليها باعتبارها وإن أسلم الزوج بعدها وخرج لم يقع طلاقه عليها أيضا وقيل هذا على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى فأما قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الآخر يقع(6/154)
طلاقه عليها وهو نظير ما لو اشترى امرأته بعد ما دخل بها ثم أعتقها وطلقها في العدة لا يقع طلاقه في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف رضي الله عنه الآخر يقع وكذلك إذا اشترت المرأة زوجها ثم أعتقته
وعلى هذا لو ارتد الزوج ولحق بدار الحرب لا يقع طلاقه عليها فإن عاد مسلما ثم طلقها فهو على هذا الخلاف وجه قوله أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول أنها صارت بحال لا يقع طلاقه حين لحق بدار الحرب أو بقي في دار الحرب أو ملكها بالشراء فدل ذلك على زوال ملك اليد الذي كانت به محلا للطلاق وبعد ما زال الملك لا يعود إلا بالتجديد وجه قوله الآخر أن المانع من وقوع الطلاق تباين الدارين حقيقة وحكما أو عدم ظهور العدة في حقه حين اشتراها وقد زال ذلك حين أعتقها وحين خرج إلى دارنا مسلما وهي في عدته بعد فيقع عليها طلاقه كما لو أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام وفرق بينهما بالإباء من الآخر ثم طلقها الزوج وهي في العدة فإنه يقع الطلاق ثم إن كان دخل بها فلها أن تؤاخذه بمهرها إذا خرج إلى دار الإسلام لأن المهر قد تقرر عليه بالدخول فيبقى بعد إسلامها(6/155)
ص -72- ... وإن لم يدخل بها وكانت هي التي خرجت أولا مسلمة فلها على الزوج نصف المهر لأنه إنما يحال بالفرقة على جانب الزوج حين أصر على شركه في دار الحرب بعد إسلامها وإن كان الزوج هو الذي خرج أولا مسلما فلا مهر لها عليه لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول وإذا سبيا معا فهما على النكاح لعدم تباين الدارين وقد بيناه في كتاب النكاح.
قال: وإذا تزوج المسلم كتابية في دار الحرب فتمجست انتقض النكاح بينهما لأن تمجسها إذا كانت تحت مسلم بمنزلة ردتها وطلاقه يقع عليها ما دامت في العدة كما لو ارتدت المرأة في دار الإسلام وهذا لأنه لم تتباين بهما الدار وهو المنافي للعصمة والحرمة بسبب الردة على شرف الزوال بالإسلام فلا تمنع ثبوت الحرمة بالتطليقات الثلاث فإن خرج الزوج إلى دار الإسلام وبقيت في دار الحرب لم يقع طلاقه عليها لتباين الدارين حقيقة وحكما وإن خرج الزوجان إلى دارنا مستأمنين ثم أسلم أحدهما فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض وقد بينا في كتاب النكاح اختلاف الروايات في عرض الإسلام على الآخر منهما فإذا حاضت ثلاث حيض وقعت الفرقة بغير طلاق بينهما وانقطعت العصمة فلا يقع عليها طلاقه لأن المصر منهما على شركه من أهل دار الحرب ألا ترى أنه يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب حقيقة في المنع من وقوع طلاقه عليها وكذلك إذا صار أحدهما ذميا وأبى الآخر فالحكم فيما وصفنا من الفرقة في دار الإسلام وفي دار الحرب سواء لأن الذمي صار من أهل دارنا والآخر من أهل دار الحرب وما سوى هذا من مسائل الباب قد بينا شرحها في كتاب النكاح والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب ما لا يقع فيه الطلاق على المرأة(6/156)
قال: وإذا اشترت الحرة زوجها وهو عبد أو ملكته كله أو بعضه بميراث أو غيره فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لأن ملك اليمين مناف لملك النكاح ويتحقق هذا المنافي من كل واحد منهما فتكون الفرقة بغير طلاق وكذلك الحر يملك امرأته أو بعضها وهذا لأن ملك رقبتها مناف لملك النكاح شرعا لأن ملك النكاح مشروع لإثبات الحل به وهي تحل له بملك اليمين فينتفي بتقرره ملك النكاح ثم لا يقع طلاقه عليها لأن ملكه رقبتها كما ينافي أصل ملك النكاح ينافي ملك اليد بسبب النكاح وبه كانت محلا لوقوع الطلاق فلهذا لا يقع طلاقه عليها بعد هذا وكذلك المرأة يجامعها أبو زوجها أو ابنه أو جامع الزوج أمها أو ابنتها فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق لأن المحرمية بالمصاهرة تنافي النكاح ابتداء وبقاء كالمحرمية بالرضاع والنسب وعليها العدة إن كان قد دخل بها ولا يقع طلاقه عليها في هذه العدة لأن موجب الطلاق حرمة ترتفع باصابة الزوج الثاني وقد ثبتت بينهما حرمة مؤبدة لا ترتفع بوجه من الوجوه فلا يتصور مع هذا ثبوت الحرمة التي ترتفع بالزوج الثاني ومتى خلا السبب عن موجبه كان لغوا.
قال: وأهل الذمة وأهل الإسلام فيما ذكرنا من الحرمة سواء إلا أن يكون ملة من ملل الكفر يستحل ذلك أهلها في دينهم فيخلى عنهم وما استحلوا من ذلك لمكان عقد الذمة وهو(6/157)
ص -73- ... بمنزلة المجوسي يتزوج أمه وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وهو قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر لا يتركون على شيء من الحرام في النكاح والحكم يجري عليهم في ذلك كما يجرى على أهل الإسلام سواء اختصموا أو لم يختصموا وهذا القول لأبي يوسف رحمه الله تعالى ذكره في هذا الكتاب خاصة وقد بينا وجهه في كتاب النكاح مع سائر ما في الباب من المسائل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب من الطلاق(6/158)
قال: رضي الله عنه رجل قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا عندنا وهو قول عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقال الحسن البصري تقع واحدة بقوله طالق فتبين لا إلى عدة وقوله ثلاثا يصادفها وهي أجنبية فلا يقع بها شيء كما لو قال لها أنت طالق وطالق وطالق ولكنا نقول الطلاق متى قرن بالعدد فالوقوع بذكر العدد لأن الموقع هو العدد فإذا صرح بذكر العدد كان هو العامل دون ذكر الوصف ولهذا لو ماتت المرأة بعد قوله طالق قبل قوله ثلاثا لا يقع شيء وهذا لأن الكل كلمة واحدة في الحكم فإن إيقاع الثلاث لا يتأتى بعبارة أوجز من هذا والكلمة الواحدة لا يفصل بعضها من بعض بخلاف قوله أنت طالق وطالق وطالق لأنها كلمات متفرقة فأما إذا قال أنت طالق أنت طالق أنت طالق بانت بالأولى وكانت الثنتان فيما لا يملك وهو قول علي واابن مسعود وزيد وإبراهيم رضي الله عنهم وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إذا كان في مجلس واحد يقع ثلاث تطليقات لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها ككلام واحد ولكنا نقول كل كلمة إيقاع على حدة فلا تعمل إلا في محل قابل له فإذا بانت لا إلى عدة لم تبق محلا للوقوع عليها ثم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تبين بالأولى قبل أن يفرغ من الكلام الثاني وعند محمد رحمه الله تعالى بعد فراغه من الكلام الثاني لجواز أن يلحق بآخر كلامه شرطا أو استثناء ولكن هذا إنما يتحقق عند ذكر حرف العطف وهو الواو فأما بدونه لا يتحقق الخلاف لأنه لا يلتحق به الشرط والاستثناء.(6/159)
قال: ولو قال لها رأسك طالق كانت طالقا لا بإضافة الطلاق إلى الرأس بعينه فإنه لو قال الرأس منك طالق أو وضع يده على رأسها وقال هذا العضو منك طالق لا يقع شيء ولكن باعتبار أن الرأس يعبر به عن جميع البدن يقال هؤلاء رؤوس القوم ومع الإضافة إلى الشخص أيضا يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل أمري حسن ما دام رأسك أي ما دمت باقيا وكذلك الوجه يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل لغيره يا وجه العرب وكذلك الجسد والبدن والرقبة والعنق يعبر بها عن جميع البدن قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقال الله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] وكذلك الفرج قال صلى الله عليه وسلم "لعن الله الفروج على السروج" وكذلك الروح يعبر بها عن جميع البدن وهو مذكور في كتاب الكفالة فصار هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى جميعها فكأنه قال أنت طالق وأما إذا قال يدك طالق أو رجلك طالق أو(6/160)
ص -74- ... أصبعك طالق لا يقع شيء عندنا وقال زفر والشافعي رحمهما الله تعالى تطلق لأنه أضاف الطلاق إلى جزء مستمع به منها بعقد النكاح فيقع الطلاق كالوجه والرأس وهذا لأن مبني الطلاق على الغلبة والسراية فإذا أوقعه على جزء منها يسري إلى جميعها كالجزء الشائع وبه فارق النكاح فإنه غير مبني على السراية ولهذا لا تصح إضافته عندي إلى جزء شائع وهذا لأن الحل والحرمة إذا اجتمعا في المحل يترجح جانب الحرمة في الابتداء والانتهاء والدليل عليه أنه لو قال لها أنت طالق شهرا يقع مؤبدا ولو قال تزوجتك شهرا لم يصح النكاح فيجعل ذكر جزء منها كذكر جزء من الزمان في الفصلين وحجتنا في ذلك أن الإصبع ليس بمحل لإضافة النكاح إليه فكذلك الطلاق لمعنى وهو أنه تبع في حكم النكاح والطلاق ولهذا صح النكاح والطلاق وإن لم يكن لها أصبع ويبقى بعد فوات الأصبع وهذا لأن النكاح والطلاق يرد عليها فتكون الأطراف فيه تبعا كما في ملك الرقبة شراء وملك القصاص وإذا ثبت أنه تبع فبذكر الأصل يصير التبع مذكورا فأما بذكر التبع لا يصير الأصل مذكورا وإذا كان تبعا لا يكون محلا لإضافة التصرف إليه مقصودا والسراية إنما تتحقق بعد صحة الإضافة إلى محله وقد ذكرنا في الوجه والرأس أن الوقوع ليس بطريق السراية بل باعتبار أن ما ذكر عبارة عن جميع البدن حتى لو كان عرفا ظاهر القوم أنهم يذكرون اليد عبارة عن جميع البدن نقول يقع الطلاق في حقهم ولا يمكن تصحيح الكلام هنا بطريق الإضمار وهو أن يقدم الإيقاع على البدن لتصحيح كلامه لأنه لو كان هذا كلاما مستقيما لصح إضافة النكاح إلى اليد بهذا الطريق وهذا لأن المقتضى تبع للمقتضي وجعل الأصل تبعا للأصبع متعذر فلهذا لا يصح بطريق الاقتضاء وهذا بخلاف ما لو أضاف إلى جزء شائع كالنصف والثلث والربع لأن الجزء الشائع ليس بتبع وهو محل لإضافة سائر التصرفات إليه فإذا صحت الإضافة إلى محلها ثبت الحكم في الكل بطريق السراية أو بطريق(6/161)
أنها لا تحتمل التجزي في حكم الطلاق وذكر جزء ما لا يتجزى كذكر الكل ولهذا صحت إضافة النكاح إلى جزء شائع عندنا وهذا بخلاف ما لو قال أنت طالق شهرا لأن الإضافة صحت إلى محلها والطلاق بعد الوقوع لا يحتمل الرفع فلا ينعدم بذكر التوقيت فيما وراء المدة بخلاف النكاح فإنه يحتمل الرفع فبالتوقيت ينعدم فيما وراء الوقت ولا يمكن تصحيحه مؤقتا وقع في بعض النسخ لو قال بضعك طالق يقع وهذا تصحيف إنما هو بعضك طالق أو نصفك طالق فأما البضع لا يعبر به عن جميع البدن ولم يذكر ما لو قال ظهرك طالق أو بطنك طالق وقد قال بعض مشايخنا أنه يقع الطلاق لأن الظهر والبطن في معنى الأصل إذ لا يتصور النكاح بدونهما والأصح أنه لا يقع على ما ذكر بعد هذا في باب الظهار أنه إذا قال ظهرك أو بطنك علي كظهر أمي لا يكون مظاهرا لأن الظهر والبطن لا يعبر بهما عن جميع البدن.
قال: ولو قال لامرأته ولأجنبية إحداكما طالق فإن قال عنيت امرأتي وقع الطلاق عليها وإلا لم يقع لأن اللفظ المذكور يصلح عبارة عن امرأته وعن المرأة الأخرى فكان هذا كناية(6/162)
ص -75- ... من حيث المحل وكما أن ألفاظ الكناية لا تعمل إلا بالنية فكذلك الكناية من حيث المحل لا يتعين فيه امرأته إلا بالنية ويحلف بالله ما عنى امرأته كما بينا في الكنايات.
قال: ولو قال لأربع نسوة بينكن تطليقة تطلق كل واحدة واحدة لأنه أوقع على كل واحدة منهن ربع تطليقة وربع التطليقة كما لها فإن التطليقة الواحدة لا يتجزأ وقوعها ولو قال بينكن تطليقتان فكذلك الجواب لأن كل واحدة منهن يصيبها نصف تطليقة إلا أن يقول عنيت أن كل تطليقة بينهن فحينئذ يقع على كل واحدة منهن تطليقتان لأنه صار موقعا على كل واحدة ربع تطليقة وربع تطليقة أخرى ولكن ما لم ينو لا يحمل على هذا لأن الجنس واحد والقسمة في الجنس الواحد بين الأشخاص تكون جملة واحدة ولكن إذا عنى قسمة كل تطليقة فقد شدد الأمر على نفسه واللفظ محتمل لذلك وكذلك لو قال بينكن ثلاث تطليقات أو أربع تطليقات تطلق كل واحدة منهن واحدة إلا أن يقول عنيت أن كل تطليقة بينهن فحينئذ تطلق كل واحدة ثلاثا ولو قال بينكن خمس تطليقات تطلق كل واحدة منهن ثنتين لأن كل واحدة منهن يصيبها تطليقة وربع وكذلك إن قال ست أو سبع أو ثمان وإن قال بينكن تسع تطليقات تطلق كل واحدة ثلاثا لأن كل واحدة منهن يصيبها بالقسمة تطليقتان وربع تطليقة وكذلك لو قال أشركتكن في ثلاث تطليقات فلفظ الإشراك ولفظ البين سواء بخلاف ما لو طلق امرأتين له ثم قال لثالثة أشركتك فيما أوقعت عليهما يقع عليها تطليقتان لأنه صار مشركا لها في كل تطليقة.(6/163)
قال: رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فهي طالق ثنتين لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] معناه تسعمائة وخمسين عاما وما وراء المستثنى هنا اثنتان ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين فهي واحدة إلا على قول الفراء رحمه الله تعالى فإنه يقول استثناء الأكثر لا يصح لأنه لم تتكلم به العرب ولكنا نقول طريق الاستثناء ما قلنا وهو أن يكون عبارة عما وراء المستثنى فشرط صحته أن يبقي وراء المستثنى شيء حتى يجعل كلامه عبارة عنه وفي هذا لا فرق بين الأقل والأكثر وعلى قول بعض أهل النحو رحمهم الله تعالى الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان الكلام متناولا له فيكون بمنزلة دليل الخصوص في العموم وفي ذلك لا فرق بين الأقل والأكثر وبأن لم تتكلم به العرب لا يمنع صحته إذا كان موافقا لمذهبهم كاستثناء الكسور ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا نصف تطليقة كم يقع وقيل على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تطلق اثنتين لأن التطليقة كما لا تتجزأ في الإيقاع لا تتجزأ في الاستثناء فكأنه قال إلا واحدة وعند محمد رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأن في الإيقاع إنما لا يتجزأ لمعنى في الموقع وذلك لا يوجد في الاستثناء فيتجزأ فيه وإذا كان المستثنى نصف تطليقة صار كلامه عبارة عن تطليقتين ونصف فيكون ثلاثا.
قال: وإذا قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا تطلق ثلاثا لأنه استثنى جميع ما تكلم به وهذا(6/164)
ص -76- ... الاستثناء باطل فإنه إن جعل عبارة عما وراء المستثنى لا يبقى بعد استثناء الكل شيء ليكون كلامه عبارة عنه وإن جعل بمنزلة دليل الخصوص فذلك لا يعم الكل لأنه حينئذ يكون نسخا لا تخصيصا وظن بعض أصحابنا ومشايخنا رحمهم الله تعالى أن استثناء الكل رجوع والرجوع عن الكل باطل وهذا وهم فقد بطل استثناء الكل في الوصية أيضا وهو يحتمل الرجوع فدل أن الطريق ما قلنا.
قال: وإن قال لها وقد دخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق إلا واحدة تطلق ثلاثا من قبل أنه فرق الكلام فيكون هو مستثنيا جميع ما تكلم به في آخر كلماته وهو باطل وكذلك لو ذكره مع حرف العطف ولو قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق ثلاثا لأنه عطف بعض الكلمات على البعض والعطف للاشتراك وعند ذلك صار مستثنيا للكل فكأنه قال إلا ثلاثا وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وقد روي عنه أنه يقع واحدة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه لو قال إلا واحدة وواحدة صار مستثنيا للاثنتين فكان صحيحا فإنما بطل استثناء الثالثة فقط.(6/165)
قال: ولو قال أنت طالق تطليقة إلا نصفها فهي طالق واحدة لأن ما بقي منها تطليقة تامة وهو إشارة إلى مذهب محمد رحمه الله تعالى في أن التطليقة تتجزى في الاستثناء وعلى قول من يقول لا تتجزى هذا استثناء لجميع ما تكلم به وهذا لا يصح وذكر في النوادر إذا قال أنت طالق ثنتين وثنتين الاثنتين أن الاستثناء صحيح عندنا وتطلق ثنتين وعند زفر رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأنه استثنى أحد الكلامين وهو باطل ولكنا نقول لتصحيح هذا الاستثناء وجه وهو أن يجعل مستثنيا من كل كلام تطليقة وكلام العاقل يجب تصحيحه ما أمكن وفي نوادر هشام لو قال ثنتين وثنتين إلا ثلاثا تطلق ثلاثا عند محمد رحمه الله تعالى لأنه استثنى أحد الكلامين وبعض الآخر وذلك باطل ولا وجه لتصحيح بعض الاستثناء فيه دون البعض وفيه إشكال على أصل محمد رحمه الله تعالى لأنه يمكن أن يجعل مستثنيا من كل كلام تطليقة ونصفا فالتطليقة عنده تتجزى في الاستثناء فينبغي أن يقع اثنتان بهذا الطريق.
قال: وإذا طلقها تطليقة رجعية فطلاقه يقع عليها ما دامت في العدة وكذلك الظهار والإيلاء وإن قذفها لاعنها وإن مات أحدهما توارثا لبقاء ملك النكاح بعد الطلاق الرجعي وإن كان الطلاق بائنا لم يقع عليها ظهار ولا إيلاء لأن الظهار منكر من القول وزور لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة وهذا تشبيه المحرمة بالمحللة والمولى مضار متعنت من حيث أنه يمنع حقها في الجماع وبعد البينونة لا حق لها في الجماع وكذلك لو قذفها لم يلاعنها وكان عليه الحد لأن اللعان مشروع لقطع النكاح وقد انقطع النكاح بالبينونة.
قال: رجل قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن دخلت الدار ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر فدخلت الدار لم تطلق عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا لأن التعليق في الملك قد صح والشرط وجد في الملك فينزل الجزاء كما لو قال لعبده: إن(6/166)
ص -77- ... دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه ثم دخل الدار وهذا لأن المعلق بالشرط ليس بطلاق على ما نبينه إن شاء الله تعالى والذي أوقعه طلاق فكان غير المعلق بالشرط والمعلق بالشرط غير واصل إلى المحل فلا يعتبر لبقائه متعلقا قيام المحل وإنما يشترط كون المحل محلا عند وجود الشرط لأنه عند ذلك يصل إليه وهو موجود والدليل عليه أنه لو قال لها إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج آخر يكون مظاهرا منها إذا دخلت الدار ولو طلقها اثنتين في مسألة اليمين بالطلاق ثم عادت إليه بعد إصابة زوج آخر فدخلت الدار تطلق ثلاثا فإذا كان وقوع بعض الطلقات لا يمنع بقاء التعليق في الثلاث فكذلك في وقوع الكل وحجتنا ما علل به في الكتاب فقال من قبل أنه لما طلقها ثلاثا فقد ذهب تطليقات ذلك الملك كله ومعنى هذا أن انعقاد هذه اليمين باعتبار التطليقات المملوكة فإن اليمين بالطلاق لا ينعقد إلا في الملك أو مضافا إلى الملك ولم توجد الإضافة هنا فكان انعقادها باعتبار التطليقات المملوكة وهي محصورة بالثلاث وقد أوقع ذلك كله والكل من كل شيء لا يتصور تعدده فعرفنا أنه لم يبق شيء من الجزاء المعلق بالشرط طلاقا كان أو غيره وكما لا ينعقد اليمين بدون الجزاء لا يبقى بدون الجزاء ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق كل يوم ثلاثا فوقع عليها ثلاث تطليقات ثم تزوجها بعد زوج آخر لم يقع شيء وكذلك لو قال لها أنت طالق تسعا كل سنة ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج لم يقع في السنة الثانية شيء ولكن زفر رحمه الله تعالى يخالف في جميع هذا ويقول ما يملك على امرأته من التطليقات غير محصور بعدد وإنما لا يقع إلا الثلاث لأن المحل لا يسع إلا ذلك حتى أن باعتبار تجدد العقد يقع عليها أكثر من ثلاث ولو قال لها أنت طالق ألفا يقع عليها ثلاث ولو كان المملوك هو الثلاث لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما لو قال لها طلقي نفسك واحدة فطلقت(6/167)
نفسها ثلاثا لم يقع شيء والمعتمد أن نقول بوقوع الثلاث عليها خرجت من أن تكون محلا للطلاق لأن الطلاق مشروع لرفع الحل وقد ارتفع الحل بالتطليقات الثلاث وفوت محل الجزاء يبطل اليمين كفوت محل الشرط بأن قال إن دخلت هذه الدار ثم جعل الدار حماما أو بستانا لا يبقى اليمين فهذا مثله بخلاف ما بعد بيع العبد لأنه بصفة الرق كان محلا للعتق وبالبيع لم تفت تلك الصفة حتى لو فات العتق لم يبق اليمين وبخلاف ما لو طلقها اثنتين لأن المحل باق بعد اثنتين فإن المحلية باعتبار صفة الحل وهي قائمة بعد الثنتين فيبقى اليمين ثم قد استفاد من جنس ما كان انعقدت عليه اليمين فيسري إليه حكم اليمين كما لو هلك مال المضاربة إلا درهما منه يبقى عقد المضاربة على الكل حتى لو تصرف وربح يحصل جميع رأس المال بخلاف ما لو هلك الكل وهذا بخلاف اليمين في الظهار فإن المحلية هناك لا تنعدم بالتطليقات الثلاث لأن الحرمة بالظهار غير الحرمة بالطلاق فإن تلك حرمة إلى وجود التكفير وهذه حرمة إلى وجود ما يرفعها وهو الزوج إلا أنها لو دخلت الدار بعد الطلقات الثلاث إنما لا يصير مظاهرا لأنه لا حل بينهما في الحال والظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك لا يوجد إلا(6/168)
ص -78- ... إذا دخلت الدار بعد التزوج بها وما قال أن المحل لا يعتبر في المعلق بالشرط ضعيف لأنه إيجاب وإن لم يكن واصلا إلى المحل ولا يكون كلامه إيجابا إلا باعتبار المحل فلا بد لبقائه معلقا بالشرط من بقاء المحل ولم يبق بعد التطليقات الثلاث وعلى هذا لو قال أنت طالق كلما حضت فبانت بثلاث ثم عادت إليه بعد زوج آخر لم يقع عليها إن حاضت شيء إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وكذلك إن آلى منها فبانت بالإيلاء ثم تزوجها فبانت أيضا حتى بانت بثلاث ثم تزوجها بعد زوج لم يقع عليها بهذا الإيلاء طلاق إلا على قول زفر رحمه الله تعالى ولكن إن قربها كفر عن يمينه لأن اليمين باقية فإن انعقادها وبقاءها لا يختص بمحل الحل فإذا قربها تحقق حنثه في اليمين فتلزمه الكفارة.(6/169)
قال: وإن طلق امرأته واحدة أو اثنتين ثم تزوجها بعد زوج قد دخل بها فهي عنده على ثلاث تطليقات مستقبلات في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عباس وابن عمر وإبراهيم وأصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وعند محمد وزفر والشافعي رحمهم الله تعالى هي عنده بما بقي من طلاقها وهو قول عمر وعلي وأبي بن كعب وعمران بن الحصين وأبي هريرة رضي الله عنهم فأخذ الشبان من الفقهاء بقول المشايخ من الصحابة رضوان الله عليهم والمشايخ من الفقهاء بقول الشبان من الصحابة رضوان الله عليهم وحجة محمد رحمه الله تعالى في ذلك أن الزوج الثاني غاية للحرمة الحاصلة بالثلاث قال الله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وكلمة حتى للغاية حقيقة وبالتطليقة والتطليقتين لم يثبت شيء من تلك الحرمة لأنها متعلقة بوقوع الثلاث وببعض أركان العلة لا يثبت شيء من الحكم فلا يكون الزوج الثاني غاية لأن غاية الحرمة قبل وجودها لا يتحقق كما لو قال إذا جاء رأس الشهر فوالله لا أكلم فلانا حتى أستشير فلانا ثم استشاره قبل مجيء رأس الشهر لا يعتبر هذا لأن الاستشارة غاية للحرمة الثابتة باليمين فلا تعتبر قبل اليمين وإذا لم تعتبر كان وجودها كعدمها ولو تزوجها قبل التزوج أو قبل إصابة الزوج الثاني كانت عنده بما بقي من التطليقات فكذلك هنا وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا إصابة الزوج الثاني بنكاح صحيح يلحق المطلقة بالأجنبية في الحكم المختص بالطلاق كما بعد التطليقات الثلاث وبيان هذا أن بالتطليقات الثلاث تصير محرمة ومطلقة ثم بإصابة الزوج الثاني يرتفع الوصفان جميعا وتلتحق بالأجنبية التي لم يتزوجها قط فبالتطليقة الواحدة تصير موصوفة بانها مطلقة فيرتفع ذلك بإصابة الزوج الثاني ثم الدليل على أن الزوج الثاني رافع للحرمة لا منه أن المنهي يكون متقررا في نفسه ولا حرمة بعد إصابة الزوج الثاني فدل أنه رافع للحرمة(6/170)
ولأنه موجب للحل فإن صاحب الشرع سماه محللا فقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل والمحلل له" وإنما كان محللا لكونه موجبا للحل ومن ضرورته أنه يكون رافعا للحرمة وبهذا تبين أن جعله غاية مجاز وهو نظير قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] والإغتسال موجب للطهارة رافع للحدث لا أن يكون غاية للجنابة(6/171)
ص -79- ... والدليل عليه أن أحكام الطلاق تثبت متأبدة لا إلى غاية ولكن ترتفع بوجود ما يرفعها كحكم زوال الملك لا يثبت مؤقتا ولكن يرتفع بوجود ما يرفعه وهو النكاح وإذا ثبت أن الزوج الثاني موجب للحل فإنما يوجب حلالا يرتفع إلا بثلاث تطليقات وذلك غير موجود بعد التطليقة والتطليقتين فيثبت به ولما كان رافعا للحرمة إذا اعترض بعد ثبوت الحرمة فلأن يرفعها وهو بعرض الثبوت أولى ولأن يمنع ثبوتها إذا اقترن بأركانها أولى ومحمد رحمه الله تعالى يقول ثبوت الحرمة بسبب إيقاع الطلاق وذلك لا يرتفع بالزوج الثاني حتى لا تعود منكوحة له وبقاء الحكم ببقاء سببه فعرفنا أنه ليس برافع للحرمة ولا هو موجب للحل لأن تأثير النكاح الثاني في حرمتها على غيره فكيف يكون موجبا للحل لغيره وسماه محللا لأنه شرط للحل لا لأنه موجب للحل ألا ترى أنه سماه ملعونا باشتراط ما لا يحل له شرعا فعرفنا أنه غير موجب للحل ولكن الحرمة تحتمل التوقيت كحرمة المعتدة وحرمة الاصطياد على المحرم فجعلنا الزوج الثاني غاية للحرمة عملا بحقيقة كلمة حتى المذكورة في الكتاب والسنة حيث قال صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي من عسيلته" ومسئلة يختلف فيها كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لغور فقهها يصعب الخروج منها.
قال: ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها واحدة أو اثنتين وعادت إليه بعد زوج آخر فدخلت الدار عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى تطلق بالدخول ثلاثا لأنها عادت إليه بثلاث تطليقات(6/172)
وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يقع عليها ما بقي لأن عندهما إنما عادت إليه بما بقي من الطلقات قال: ولو قال لامرأة كلما تزوجتك فأنت طالق ثلاثا فهو كما قال يقع عليها ثلاث كما تزوج بها لأن كلمة كلما تقتضي نزول الجزاء بتكرار الشرط وانعقاد هذه اليمين باعتبار التطليقات التي يملكها عليها بالتزوج وتلك غير محصورة بعدد فلهذا بقيت اليمين بعد وقوع ثلاث تطليقات بخلاف قوله لامرأته كلما دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فإن انعقاد تلك اليمين باعتبار التطليقات المملوكة عليها لأنه لم توجد الإضافة إلى الملك فلا تبقى اليمين بعد وقوع التطليقات المملوكة عليها وهذه المسألة تنبني على أصلنا أن ما يحتمل التعليق بالشرط كالطلاق والعتاق والظهار يجوز إضافته إلى الملك عم أو خص وهو قول عمر رضي الله عنه روي عنه ذلك في الظهار وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يصح ذلك وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنه سئل عمن يقول لامرأة إن تزوجتك فأنت طالق فتلي عليه قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقال شرع الله تعالى الطلاق بعد النكاح فلا طلاق قبله وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى إن خص امرأة أو قبيلة انعقدت اليمين وإن عم فقال كل امرأة لا تنعقد وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه لما فيه من سد باب نعمة النكاح على نفسه فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح" وروي أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما خطب امرأة فأبى(6/173)
ص -80- ... أولياؤها أن يزوجوها منه فقال إن نكحتها فهي طالق ثلاثا فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه: "لا طلاق قبل النكاح" والمعنى فيه أنه غير مالك لتنجيز الطلاق فلا يملك تعليقه بالشرط كما لو قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم تزوجها فدخلت لم تطلق وهذا لأن تأثير الشرط في تأخير الوقوع إلى وجوده ومنع ما لولاه لكان طلاقا وهذا الكلام لولا الشرط لكان لغوا لا طلاقا ولأن الطلاق يستدعي أهلية في الموقع وملكا في المحل ثم قبل الأهلية لا يصح التعليق مضافا إلى حالة الأهلية كالصبي يقول لامرأته إذا بلغت فأنت طالق فكذلك قبل ملك المحل لا يصح مضافا وبهذا تبين أنه تصرف يختص بالملك فإيجابه قبل الملك يكون لغوا كما لو باع الطير في الهواء ثم أخذه قبل قبول المشتري وحجتنا في ذلك أن التعليق بالشرط يمين فلا تتوقف صحته على ملك المحل كاليمين بالله تعالى وهذا لأن اليمين تصرف من الحالف في ذمة نفسه لأنه يوجب على نفسه البر والمحلوف به ليس بطلاق لأنه لا يكون طلاقا إلا بالوصول إلى المرأة وما دامت يمينا لا يكون واصلا إليها وإنما الوصول بعد ارتفاع اليمين بوجود الشرط فعرفنا أن المحلوف به ليس بطلاق وقيام الملك في المحل لأجل الطلاق ولكن المحلوف به ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط بوصوله إليها ونظيره من المسائل الرمي عينه ليس بقتل والترس لا يكون مانعا عما هو قتل ولا مؤخرا له بل يكون مانعا عما سيصير قتلا إذا وصل إلى المحل ولما كان التعليق مانعا من الوصول إلى المحل والتصرف لا يكون إلا بركنه ومحله فكما أنه بدون ركنه لا يكون طلاقا فكذلك بدون محله لا يكون طلاقا وبه فارق ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فإن المحلوف به هناك غير موجود وهو ما يصير طلاقا عند وجود الشرط لأن دخول الدار ليس بسبب لملك الطلاق ولا هو مالك لطلاقها في الحال حتى يستدل به على بقاء الملك عند وجود الشرط أما(6/174)
هنا نتيقن بوجود المحلوف به موجودا بطريق الظاهر بأن قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين وإن كان من الجائز أن يكون دخولها بعد زوال الملك فإذا كان المحلوف به متيقن الوجود عند وجود الشرط أولى أن ينعقد اليمين وبأن كان لا يملك التنجيز لا يدل على أنه لا يملك التعليق كمن يقول لجاريته إذا ولدت ولدا فهو حر صح وإن كان لا يملك تنجيز العتق في الولد المعدوم وإذا قال لامرأته الحائض إذا طهرت فأنت طالق كان هذا طلاقا للسنة وإن كان لا يملك تنجيزه في الحال وهذا بخلاف التصرف لأنه لا بد منه في تصرف اليمين كما لا بد منه في تصرف الطلاق فأما الملك في المحل معتبر بالطلاق دون اليمين وهذا بخلاف البيع فإن الإيجاب أحد شطري البيع وتصرف البيع قبل الملك لغو فأما الإيجاب هنا تصرف آخر سوى الطلاق وهي اليمين وتأويل الحديث ما روي عن مكحول والزهري وسالم والشعبي رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا كانوا يطلقون في الجاهلية قبل التزوج تنجيزا ويعدون ذلك طلاقا فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لا طلاق قبل النكاح وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه غير مشهور وإن ثبت فمعنى قوله إن نكحتها أي وطئتها لأن النكاح حقيقة للوطء(6/175)
ص -81- ... وبهذا لا يحصل إضافة الطلاق إلى الملك عندنا إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال لامرأته إذا تزوجتك أو إذا ما تزوجتك أو إن تزوجتك أو متى ما تزوجتك فهذا كله للمرة الواحدة لأنه ليس في لفظه ما يدل على التكرار فإن كلمة إن للشرط وإذا ومتى للوقت بخلاف ما لو قال كلما تزوجتك لأن كلمة كلما تقتضي التكرار فلا يرتفع اليمين بالتزوج مرة ولكن كلما تزوجها يصير عند التزوج كالمنجز للطلاق وكذلك لو قال كلما دخلت الدار فهذا على كل مرة حتى تطلق ثلاثا بخلاف إن وإذا ومتى فإن ذلك على المرة الواحدة.(6/176)
قال: ولو قال لامرأة لا يملكها أنت طالق يوم أكلمك أو يوم تدخلين الدار أو يوم أطؤك فهذا باطل بخلاف ما لو قال يوم أتزوجك فإنه بهذا اللفظ يصير مضيفا الطلاق إلى التزوج وهو سبب لملك الطلاق فيصير المحلوف به موجودا بخلاف ما سبق فإن دخول الدار ليس بسبب لملك الطلاق فإن تزوج بها ثم فعل ذلك لم يقع عليها شيء عندنا وقال بن أبي ليلى يقع لأن المعتبر لوقوع الطلاق وقت وجود الشرط فإن طلقها حينئذ يصل إلى المحل والملك موجود عند وجود الشرط فيقع الطلاق ولكنا نقول هذا بعد انعقاد اليمين ولا ينعقد اليمين بدون المحلوف به فإذا لم يكن هو مالكا للطلاق في الحال ولا في الوقت المضاف إليه لا ينعقد اليمين فبدون ذلك وإن صار مالكا للطلاق في الوقت المضاف إليه لا يقع شيء لأن اليمين ما كانت منعقدة وكذلك لو قال لها أنت طالق غدا ثم تزوجها اليوم لم يقع عليها شيء إذا جاء غد وإذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق أنت طالق وقال عنيت الأولى صدق فيما بينه وبين الله تعالى وأما في القضاء فهما تطليقتان لأن كل واحد من الكلامين إيقاع من حيث الظاهر فإن صيغة الكلام الثاني كصيغة الكلام الأول والقاضي مأمور باتباع الظاهر وما قاله من قصد تكرار الكلام الأول محتمل لأن الكلام الواحد يكرر للتأكيد والله تعالى مطلع على ضميره وكذلك قوله قد طلقتك قد طلقتك أو أنت طالق قد طلقتك أو أنت طالق أو طالق وأنت طالق فأما إذا قال لها أنت طالق فقال له إنسان ماذا قلت فقال قد طلقتها أو قال قلت هي طالق فهي طالق واحدة لأن كلامه الثاني جواب لسؤال السائل والسائل إنما يسأله عن الكلام الأول لا عن إيقاع آخر فيكون جوابه بيانا لذلك الكلام.(6/177)
قال: وإذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم طلقها واحدة وقد دخل بها فهي طالق اثنتين في القضاء إحداهما بالإيقاع والأخرى بوجود الشرط لأن قوله إذا طلقتك شرط وقوله فأنت طالق جزاء له وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان نوى بقوله إذا طلقتك فأنت طالق تلك التطليقة فهي واحدة لأن ما نواه محتمل على أن يكون قوله فأنت طالق بيانا لحكم الإيقاع لا جزاء لشرطه والله تعالى مطلع على ضميره وكذلك إذا قال متى ما طلقتك أو إن طلقتك فأنت طالق ولو قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم طلقها واحدة تطلق ثلاثا لأن بوقوع الواحدة يوجد الشرط فوقع عليها تطليقه اليمين ثم بوقوع هذه التطليقة وجد الشرط مرة أخرى واليمين معقودة بكلمة كلما فتقع عليها الثالثة وهذا بخلاف ما لو قال كلما طلقتك(6/178)
ص -82- ... فأنت طالق ثم طلقها واحدة تقع عليها أخرى فقط لأن وقوع الثانية عليها ليس بإيقاع مستقبل منه بعد يمينه فلا يصلح شرطا للحنث فلهذا لا يقع عليها إلا واحدة فأما في الأول الشرط الوقوع لا الإيقاع والوقوع يحصل بالثانية بعد اليمين وعلى هذا لو قال كلما قلت أنت طالق فأنت طالق أو كلما تكلمت بطلاق يقع عليك فأنت طالق وطلقها واحدة فهي طالق أخرى باليمين ولا يقع بالثانية طلاق لما بينا أن ما جعله شرطا لا يصير موجودا بعد اليمين بما وقع باليمين والأصل فيما نذكره بعد هذا أن اليمين إنما يعرف بالجزاء حتى لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق كان يمينا بالطلاق ولو قال فعبدي حر كان يمينا بالعتق والشرط واحد وهو دخول الدار ثم اختلفت اليمين باختلاف الجزاء وأصل آخر أن الشرط يعتبر وجوده بعد اليمين وأما ما سبق اليمين لا يكون شرطا لأنه يقصد باليمين منع نفسه عن إيجاد الشرط وإنما يمكنه أن يمنع نفسه عن شيء في المستقبل لا فيما مضى فعرفنا أن الماضي لم يكن مقصودا له واليمين يتقيد بمقصود الحالف إذا عرفنا هذا فنقول رجل له امرأتان عمرة وزينب فقال لزينب أنت طالق إذا طلقت عمرة أو كلما طلقت عمرة ثم قال لعمرة أنت طالق إذا طلقت زينب ثم قال لزينب أنت طالق فإنه يقع على زينب بالإيقاع تطليقة ويقع على عمرة أيضا تطليقة لأن كلامه الأول كان يمينا بطلاق زينب وكلامه الثاني كان يمينا بطلاق عمرة فإن الجزاء فيه طلاق عمرة والشرط طلاق زينب وقد وجد الشرط بإيقاعه على زينب فلهذا يقع على عمرة تطليقة باليمين ويعود إلى زينب لأن عمرة طلقت بيمين بعد يمينه بطلاق زينب فيكون وقوع الطلاق عليها شرطا للحنث في اليمين بطلاق زينب فلهذا يقع عليها تطليقة أخرى هكذا في نسخ أبي سليمان رضي الله تعالى عنه وهو الصحيح وفي نسخ أبي حفص رضي الله تعالى عنه قال ولا يعود على زينب وهو غلط ثم قال ولو لم يطلق زينب ولكنه طلق عمرة وقعت عليها تطليقة بالإيقاع وعلى زينب(6/179)
تطليقة باليمين ثم وقعت أخرى على عمرة باليمين هكذا ذكر في نسخ أبي حفص رضي الله تعالى عنه وهو غلط والصحيح ما ذكره في نسخ أبي سليمان رضي الله تعالى عنه أنه لا يقع على عمرة باليمين لأن زينب إنما طلقت باليمين السابقة على اليمين بطلاق عمرة فلا يكون ذلك شرطا للحنث في اليمين بطلاق عمرة قال ألا ترى أنه لو قال لزينب إذا طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت عمرة الدار تطلق بالدخول وتطلق زينب أيضا لأن عمرة إنما طلقت بكلام بعد اليمين بطلاق زينب ولو كان قال لعمرة أولا إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لزينب إن طلقت عمرة فأنت طالق ثم دخلت عمرة الدار طلقت ولم يقع الطلاق على زينب لأن عمرة إنما طلقت بيمين قبل اليمين بطلاق زينب فلا يصلح أن يكون ذلك شرطا للحنث في اليمين بطلاق زينب وبهذا الاستشهاد يتبين أن الصواب ما ذكره في نسخ أبي سليمان وأن جوابه في نسخ أبي حفص وقع على القلب.
قال: وإذا حلف بطلاق عمرة لا يحلف بطلاق زينب ثم حلف بطلاق زينب لا يحلف(6/180)
ص -83- ... بطلاق عمرة كانت عمرة طالقا لأنه بالكلام الأول حلف بطلاق عمرة وشرط حنثه الحلف بطلاق زينب وبالكلام الثاني صار حالفا بطلاق زينب لأن الجزاء فيه طلاق زينب فوجد فيه شرط الحنث في اليمين الأولى ألا ترى أنه لو قال لزينب بعد الكلام الأول إن دخلت الدار فأنت طالق كانت عمرة طالقا لأنه قد حلف بطلاق زينب فإن الشرط والجزاء يمين عند أهل الفقه وقد وجد فصار به حانثا في اليمين الأولى.
قال: ولو قال لزينب أنت طالق إن شئت لم تطلق عمرة لأن هذا ليس بيمين بل هو تفويض المشيئة إليها بمنزلة قوله اختاري أو أمرك بيدك وذلك لا يكون حلفا بالطلاق ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه مع نهيه عن الحلف بالطلاق والدليل على أنه بمنزلة التخيير أنه يبطل بقيامها عن المجلس قبل المشيئة والشرط المطلق لا يتوقت بالمجلس وحقيقة المعنى فيه أن الشرط منفي فإن الحالف يقصد منع الشرط بيمينه وفي قوله أنت طالق إن شئت لا يقصد منعها عن المشيئة فعرفنا أنه ليس بيمين وكذلك لو قال لزينب أنت طالق إذا حضت حيضة فهذا ليس بيمين عندنا ولا يحنث به في اليمين بطلاق عمرة لأن هذا تفسير لطلاق السنة فإن بهذا اللفظ لا يقع الطلاق عليها ما لم تطهر لأن الحيضة اسم للحيضة الكاملة وطلاق السنة يتأخر إلى حالة الطهر فكأنه قال لها أنت طالق للسنة وعن زفر رحمه الله تعالى أن هذا يمين لوجود الشرط والجزاء وليس بتفسير لطلاق السنة ألا ترى أنه لو جامعها في هذه الحيضة ثم طهرت طلقت ولو قال لها أنت طالق للسنة ثم جامعها في الحيض فطهرت لم تطلق وكذلك لو قال لها إذا حضت حيضتين أو إذا حضت ثلاث حيض لم يكن شيء من ذلك حلفا بطلاقها بخلاف ما لو قال لها إذا حضت فهذا حلف بطلاقها حتى تطلق عمرة لأن بهذا اللفظ يقع الطلاق في الحيض قبل الطهر فلا يكون تفسيرا لطلاق السنة فإن قيل هذا تفسير لطلاق البدعة ولو قال أنت طالق للبدعة لم يكن حالفا بطلاقها.(6/181)
قلنا ليس كذلك فطلاق البدعة لا يختص بالحيض وهذا الطلاق لا يقع إلا في حالة الحيض فعرفنا أنه شرط وجزاء.
قال: وإذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا للسنة ولا نية له فكلما حاضت وطهرت طلقت واحدة حتى تستكمل الثلاث لأن قوله للسنة أي لوقت السنة فإن اللام للوقت قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] وكل طهر محل لوقوع تطليقة واحدة للسنة فلهذا طلقت في كل طهر واحدة ولا يحتسب بالحيضة الأولى من عدتها لأنها سبقت وقوع الطلاق عليها وإن نوى أن تطلق ثلاثا في الحال فهو كما نوى عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى لا تعمل نيته لأن وقوع الثلاث جملة خلاف السنة ووقوع الطلاق في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه خلاف السنة والنية إنما تعمل إذا كانت من محتملات اللفظ لا فيما كان من ضده ولأن معنى قوله أنت طالق للسنة إذا حضت وطهرت فكأنه صرح بذلك ونوى الوقوع في الحال فلا تعمل نيته ولكنا نقول المنوي من محتملات لفظه على معنى أن وقوع الثلاث(6/182)
ص -84- ... جملة من مذهب أهل السنة ووقوع الطلاق في الحيض كذلك إذ كون الطلاق ثلاثا عرف بالسنة فقد كانوا في الجاهلية يطلقون أكثر من ذلك فعرفنا أن المنوي من محتملات لفظه وفيه تغليظ عليه فتعمل نيته ولو قال أنت طالق للسنة ولم يسم ثلاثا ولم يكن له نية فهي طالق واحدة إذا طهرت من الحيضة لما بينا أن اللام للوقت وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث كلما طهرت من حيضة طلقت واحدة لأن أوقات السنة غير محصورة فهو إنما نوى التعميم في أوقات السنة حتى يقع في كل طهر تطليقة واحدة وقد بينا أن نية التعميم صحيحة في كلامه فلهذا طلقت في كل طهر واحدة وإن كانت لا تحيض من صغر أو كبر طلقت ساعة تكلم به واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى لأن الثلاث للسنة هكذا تقع عليها والشهر في حقها كالحيض في حق ذات القروء وإن نوى أن يقعن جميعا في ذلك المجلس فهو كما نوى لما بينا.
قال: رجل قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كلما حضت حيضتين فهو كما قال إذا حاضت حيضتين طلقت لوجود الشرط ثم إذا حاضت أخراوين طلقت أخرى لوجود الشرط لأن اليمين معقودة بكلمة كلما ويحتسب بهاتين الحيضتين من عدتها فإذا حاضت أخرى انقضت عدتها.
قال: وإن قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق وقال لها أيضا كلما حضت فأنت طالق فرأت الدم فهي طالق واحدة باليمين الثانية لأن الشرط فيها وجود الحيض لا الخروج منه فإذا طهرت من الحيض فهي طالق أخرى باليمين الأولى لأن الشرط فيها الحيضة الكاملة وقد وجدت بعدها ولا يحتسب بهذه الحيضة من عدتها لأن وقوع الطلاق كان بعد مضي جزء منها وإذا حاضت الثانية فهي طالق أخرى باليمين الثانية لأنها عقدت بكلمة كلما وكلمة كلما توجب تكرار الشرط وقد وجد الشرط فيها مرة أخرى.(6/183)
قال: ولو قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق وقال أيضا إذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضة وطهرت فهي طالق واحدة باليمين الأولى لأن شرط الحنث فيها حيضة واحدة وقد وجدت فإذا حاضت حيضة أخرى طلقت أخرى لوجود الشرط في اليمين الثانية وهو مضي الحيضتين بعدها فإن الحيضة الأولى كمال الشرط في اليمين الأولى ونصف الشرط في اليمين الثانية والشيء الواحد يصلح شرطا للحنث في أيمان كثيرة ويحتسب بالحيضة الثانية من عدتها لأنها حاضتها بعد وقوع الطلاق عليها
ولو كان قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق فإذا حاضت حيضة واحدة طلقت واحدة ثم لا تطلق أخرى ما لم تحض حيضتين سواها لأنه جعل الشرط في اليمين الثانية حيضتين سوى الحيضة الأولى فإن كلمة ثم للتعقيب مع التراخي وعلى هذا لو قال إذا دخلت الدار دخلة فأنت طالق ثم إذا دخلتها دخلتين فأنت طالق بخلاف ما لو قال إذا دخلت فأنت طالق وإذا دخلت فأنت طالق فدخلت دخلة واحدة وقعت عليها تطليقتان لأن الشرط في اليمين الدخول مطلقا وقد وجد ذلك بدخلة واحدة وفي الأول الشرط دخلتان بعد(6/184)
ص -85- ... الدخلة الأولى في اليمين الثانية ولو قال إذا حضت حيضة فأنت طالق وإذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضتين تطلق اثنتين إحداهما حين حاضت الأولى لوجود الشرط في اليمين الأولى والثانية حين حاضت الأخرى لتمام الشرط بها في اليمين الثانية
قال: ولو قال كلما حضت حيضة فأنت طالق فحاضت أربع حيض طلقت ثلاثا كل حيضة واحدة لتكرر الشرط في اليمين المعقودة بكلمة كلما وانقضت العدة بالحيضة الرابعة لأن الحيضة الأولى لا تكون محسوبة من عدتها فإنها سبقت وقوع الطلاق عليها.
قال: وإذا قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق فإنما يقع عليها بعد ما ينقطع عنها الدم وتغتسل لأن الشرط مضي حيضة كاملة ولا يتيقن به إلا بعد الحكم بطهرها فإن كانت أيامها عشرة فبنفس الانقطاع يتيقن بطهرها وإن كانت أيامها دون العشرة فإنما يحكم بطهرها إذا اغتسلت أو ذهب وقت صلاة بعد انقطاع الدم فلهذا توقف الوقوع عليه، ولو قال إذا حضت حيضة فأنت طالق فقالت قد حضت حيضة لم تصدق في القياس إذا كذبها الزوج لأنها تدعي وجود شرط الطلاق ومجرد قولها في ذلك ليس بحجة في حق الزوج كما لو كان الشرط دخولها الدار وهذا لأن دعواها شرط الطلاق كدعواها نفس الطلاق وفي الاستحسان القول قولها لأن حيضها لا يعلمه غيرها فلا بد من قبول قولها فيه كما لو قال لها إن كنت تحبينني أو تبغضينني وجب قبول قولها في ذلك ما دامت في المجلس وكذلك لو قال لها إن شئت إلا أن هناك تقدر على الاختيار في المجلس فبالتأخير عنه تصير مفرطة وهنا لا تقدر على الإخبار بالحيض ما لم تر الدم فوجب قبول قولها متى أخبرت به.(6/185)
قال: ويدخل في هذا الاستحسان بعض القياس معناه أن الزوج لما علق وقوع الطلاق بالحيض صار ذلك من أحكام الحيض بجعله وقولها حجة تامة في أحكام الحيض كحرمة وطئها إذا أخبرت برؤية الدم وحل الوطء إذا أخبرت بانقطاع الدم وكذلك في حكم انقضاء العدة بالحيض يقبل قولها لأن الشرع سلطها على الإخبار فكذلك الزوج بتعليق الطلاق به يصير مسلطا لها على الإخبار وإذا قال إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت حضت فقياس الاستحسان الأول أن يقع الطلاق على فلانة كما يقع عليها لأن قولها حجة تامة فيما لا يعلمه غيرها فيكون ثبوت هذا الشرط بقولها كثبوت شرط آخر بالبينة أو بتصديق الزوج ولكنا ندع القياس فيه ونقول لا يقع على الأخرى شيء حتى يعلم أنها قد حاضت لأن في ذلك حق الضرة وهي ما سلطتها ولا رضيت بخبرها في حق نفسها ثم قبول قولها فيما ما لا يعلمه غيرها لأجل الضرورة وذلك في حق نفسها خاصة كما في حل الوطء وانقضاء العدة والحكم يثبت بحسب الحاجة ألا ترى أن الملك للمستحق إذا ثبت بإقرار المشتري لم يرجع على البائع بالثمن وإن شهادة امرأتين ورجل بالسرقة حجة في حق المال دون القطع فهذا مثله ولو قال لها إذا ولدت غلاما فأنت طالق واحدة وإذا ولدت جارية فأنت طالق ثنتين فولدت غلاما وجارية فإن علم أنها ولدت الجارية أولا طلقت اثنتين بولادتها الجارية ثم انقضت(6/186)
ص -86- ... عدتها بولادة الغلام وإن علم أنها ولدت الغلام أولا طلقت واحدة بولادتها الغلام وانقضت عدتها بولادة الجارية فإن لم يعلم أيهما أولا لم يقع في القضاء إلا تطليقة واحدة لأن التيقن فيها وفي الثانية شك والطلاق بالشك لا يقع وفيما بينه وبين الله تعالى ينبغي أن يأخذ بتطليقتين حتى إذا كان طلقها قبل هذا واحدة فلا ينبغي أن يتزوجها حتى تنكح زوجا غيره لاحتمال أنها مطلقة ثلاثا ولأن يترك امرأة يحل له وطؤها خير من أن يطأ امرأة محرمة عليه وإن ولدت غلاما وجاريتين في بطن واحد فإن علم أنها ولدت الجاريتين أولا فهي طالق ثنتين بولادة الأولى منهما وقد انقضت عدتها بولادة الغلام وإن ولدت الغلام أولا طلقت واحدة بولادة الغلام وتطليقتين بولادة الجارية الأولى وقد انقضت عدتها بولادة الأخرى وإن ولدت إحدى الجاريتين أولا ثم الغلام ثم الجارية طلقت تطليقتين بولادة الجارية الأولى والثالثة بولادة الغلام وانقضت عدتها بولادة الأخرى وإن لم يعلم كيف كانت الولادة فنقول في وجه هي طالق اثنتين(6/187)
وفي وجهين هي طالق ثلاثا ففي القضاء لا تطلق إلا ثنتين لأن اليقين فيها وفي التنزه ينبغي أن يأخذ بثلاث تطليقات احتياطا وقد انقضت عدتها بيقين بولادة الآخر منهم وإذا قال لها كلما ولدت ولدا فأنت طالق وقال إذا ولدت غلاما فأنت طالق فولدت جارية فهي طالق واحدة لأن الجارية ولد فيقع بها تطليقة بحكم الكلام الأول فإن ولدت بعدها غلاما في ذلك البطن انقضت عدتها بولادة الغلام لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها ولا يقع عليها بولادة الغلام شيء لأن أوان الوقوع بعد وجود الشرط وهي ليست في عدته بعد ولادة الغلام فهو بمنزلة ما لو قال لها إذا انقضت عدتك فأنت طالق وإن ولدت الغلام أولا وقع به تطليقتان أحدهما بالغلام الأول لأن الغلام ولد والثانية بالكلام الثاني لأنه غلام وكذلك لو قال لها إذا ولدت غلاما فأنت طالق ثم قال إذا ولدت ولدا فأنت طالق فولدت غلاما طلقت اثنتين لأنه ولد وغلام وكذلك لو قال إذا كلمت فلانا فأنت طالق ثم قال إذا كلمت إنسانا فأنت طالق فكلمت فلانا تطلق اثنتين لأنه إنسان وفلان وكذلك إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق ثم قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج فلانة تطلق اثنتين لأنها فلانة وامرأة والشيء الواحد يصلح شرطا للحنث في أيمان كثيرة ولو قال لامرأته كلما ولدت غلاما فأنت طالق فولدت غلاما وجارية في بطن واحد فإن علم أنها ولدت الغلام أولا وقع عليها تطليقة بولادة الغلام وانقضت عدتها بولادة الجارية وإن علم أنها ولدت الجارية أولا وقعت عليها تطليقة بولادة الغلام وعليها العدة بثلاث حيض وله أن يراجعها في العدة إذا علم أن الغلام ولد آخرا وإذا لم يعلم أيهما أول فعليهما الأخذ بالاحتياط في كل حكم فيلزمها العدة بثلاث حيض لجواز أن تكون ولدت الجارية أولا وليس للزوج أن يراجعها في هذه العدة لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ولو مات أحدهما لم يتوارثا لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا ثم انقضت عدتها بولادة الجارية(6/188)
والميراث لا يثبت بالشك.
قال: وإن قال إذا ولدت ولدا فأنت طالق فأسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعض الخلق(6/189)
ص -87- ... طلقت لأن مثل هذا السقط ولد ألا ترى أن العدة تنقضي به وتصير الجارية أم ولد له ولو لم يستبن شيء من خلقه لم يقع به طلاق لأنه ليس بولد في حكم العدة وثبوت أمية الولد فكذلك في حكم الطلاق.
قال: ولو قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت قد ولدت وكذبها الزوج لم يقع الطلاق بقولها بخلاف الحيض لأن الولادة مما يقف عليها غيرها فإن قول القابلة يقبل في الولد فلا يحكم بوقوع الطلاق ما لم تشهد القابلة به والحيض لا يقف عليه غيرها فإن شهدت القابلة بالولادة ثبت نسب الولد بشهادتها ولا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع الطلاق عليها بشهادة القابلة لأن شرط وقوع الطلاق عليها ولادتها وقد صار محكوما به بشهادة القابلة بدليل ثبوت نسب الولد وشهادة القابلة في حال قيام الفراش حجة تامة في حق النسب وغيره ألا ترى أنه لو قال لجاريته إن كان بها حبل فهو مني فشهدت القابلة على ولادتها صارت هي أم ولد له وكذلك إن ولدت امرأته ولدا ثم قال الزوج هو ليس مني ولا أدري ولدته أم لا فشهدت القابلة حكم باللعان بينهما ولو كان الزوج عبدا أو حرا محدودا في قذف وجب عليه الحد فإذا جعلت شهادة القابلة حجة في حكم اللعان والحد فلأن تجعل حجة في حكم الطلاق أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول شرط الطلاق إذا كان لا يثبت إلا بالشهادة فلا بد فيه من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كسائر الشروط وهذا لأن شرط الطلاق كنفس الطلاق وتأثيره أن شهادة المرأة الواحدة ليست بحجة أصلية وإنما يكتفي بها فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها والضرورة في نفس الولادة وما هو من الأحكام المختصة بالولادة لأن ثبوت الحكم بثبوت نسبه والولادة لا يطلع عليها الرجال والحكم المختص بالولادة أمية الولد للأم واللعان عند نفي الولد فأما وقوع الطلاق والعتاق(6/190)
ليس من الحكم المختص بالولادة ولا أثر للولادة فيه بل إنما يقع بإيقاعه عند وجود الشرط ونسب الولد من الأحكام المختصة بالولادة مع أن النسب عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يثبت بشهادة القابلة وإنما يثبت بعين الولد فإن ثبوت النسب بالفراش القائم وبأن يجعل شهادة القابلة حجة في ثبوت النسب فذلك لا يدل على أنها تكون حجة في وقوع الطلاق كما بينا في قوله إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك ولو كان الزوج أقر بأنها حبلى ثم قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت قد ولدت عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقع الطلاق بمجرد قولها وعندهما لا يقع إلا أن تشهد القابلة لأن شرط الطلاق ولادتها وذلك ما يقف عليه غيرها فلا يقبل فيه مجرد قولها كما في الفصل الأول ألا ترى أن نسب الولادة لا يثبت إلا بشهادة القابلة وإن أقر الزوج بالحبل فكذلك الطلاق وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول علق الطلاق ببروز موجود في باطنها فيقع الطلاق بمجرد خبرها كما لو قال إذا حضت فأنت طالق وهذا لأن وجود الحبل بها يثبت بإقرار الزوج فلما جاءت الآن وهي فارغة وتقول قد ولدت فالظاهر يشهد لها أو يتيقن بولادتها وهذا بخلاف(6/191)
ص -88- ... النسب لأن بقولها يثبت مجرد الولادة وليس من ضرورته تعين هذا الولد لجواز أن تكون ولدت غير هذا من والد ميت ثم تريد حمل نسب هذا الولد عليه فلهذا لا يقبل قولها في تعيين الولد إلا بشهادة الوالد فأما وقوع الطلاق يتعلق بنفس الولادة أي ولد كان من حي أو ميت وبعد إقرار الزوج بالحبل يتيقن بالولادة إذا جاءت وهي فارغة.
قال: وإذا قال الرجل لامرأته إذا ولدت ولدين فأنت طالق فولدت ثلاثة أولاد في بطن واحد ثم ولدت بعد ذلك لستة أشهر ولدا آخر فقد وقعت عليها تطليقة بولادة الولدين الأولين لتمام الشرط بهما وانقضت عدتها بالولد الثالث لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها فإن الولد الرابع من حبل حادث بيقين لأن التوأم لا يكون بينهما مدة حبل تام ولهذا لا يثبت نسب الولد الرابع من الزوج لأنها علقت به بعد انقضاء عدتها.
قال: ولو قال أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق فولدت غلاما وجارية في بطن واحد لا يعلم أيهما أول لم يقع عليها شيء في الحكم لجواز أن تكون ولدت الجارية أولا ثم الغلام وفي النزهة قد وقعت عليها تطليقة لجواز أن تكون ولدت الغلام أولا فوقع عليها تطليقة ثم انقضت عدتها بولادة الجارية في هذا الوجه غير أنها لا تحل للأزواج حتى يوقع عليها طلاقا مستقبلا وتعتد بعدة مستقبلة لأنها في الحكم امرأته فإن الطلاق بالشك لا يقع في الحكم فلهذا يحتاج في حلها للأزواج إلى إيقاع مستقبل وعدة مستقبلة.(6/192)
قال: وإذا قال لها كلما ولدت ولدين فأنت طالق فولدتهما في بطن واحد أو في بطنين فهو سواء ويقع عليها الطلاق بالولد الآخر لأن تمام الشرط به ولا فرق في الشرط بين أن يوجدا معا أو متفرقا ولو ولدت الثاني وهي ليست في نكاحه ولا في عدته لم يقع عليها شيء عندنا وعلى قول بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقع لأن المعتبر عنده أن الطلاق يقع عند وجود الشرط بالتعليق السابق وقد صح في ملكه ألا ترى أن الصحيح إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن ثم دخل الدار تطلق باعتبار وقت التعليق لا وقت وجود الشرط ولكنا نقول أوان وقوع الطلاق عليها عند وجود الشرط وعند ذلك ليست بمحل لوقوع طلاقه عليها لأنها ليست في نكاحه ولا في عدته وبدون المحل لا يثبت الحكم بخلاف جنون الزوج فإنه لا يعدم المحلية إنما يعدم الأهلية للإيقاع والإيقاع بكلام الزوج وذلك عند التعليق لا عند وجود الشرط فلهذا لا يعتبر قيام الأهلية عند وجود الشرط ولو أبانها فولدت الأول في غير نكاحه وعدته ثم تزوجها فولدت عندنا يقع الطلاق عليها وعند زفر رحمه الله تعالى لا يقع لأن ولادة الولد الأول شرط للطلاق لولادة الولد الثاني فكما لا يعتبر قيام الملك للوقوع عند ولادة الولد الثاني فكذلك عند ولادة الولد الأول وعلمائنا رحمهم الله تعالى يقولون المحل إنما يعتبر عند التعليق لصحة التعليق بوجود المحلوف به وعند تمام الشرط لنزول الجزاء فأما في حال ولادة الولد الأول ليس بحال التعليق ولا حال نزول الجزاء إنما هو حال بقاء اليمين وملك المحل ليس بشرط لبقاء اليمين كما لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه(6/193)
ص -89- ... ثم اشتراه ودخل الدار عتق وهذا لأن بوجود بعض الشرط لا ينزل شيء من الجزاء ألا ترى أنه لو قال لامرأته في رجب ولم يدخل بها إذا جاء يوم الأضحى فأنت طالق ثم أبانها ثم تزوجها يوم عرفة فجاء يوم الأضحى طلقت وما لم يمض الشهر لا يتحقق وجود الشرط بمجيء يوم الأضحى ثم لا يعتبر قيام المحل في تلك الشهور وعلى هذا الخلاف لو قال إذا حضت حيضتين فحاضت الأولى في غير ملك والثانية في ملك وكذلك إن تزوجها قبل أن تطهر من الحيضة الثانية بساعة أو بعد ما انقطع عنها الدم قبل أن تطهر من الحيضة الثانية بساعة أو بعد ما انقطع عنها الدم قبل أن تغتسل وأيامها دون العشرة فإذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة طلقت لأن الشرط قد تم وهي في نكاحه وكذلك لو قال إن أكلت هذا الرغيف فأنت طالق فأكلت عامة الرغيف في غير ملكه ثم تزوجها فأكلت ما بقي منه طلقت لأن الشرط شرط في ملكه والحنث به يحصل وقد قال في الأصل إذا قال كلما حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت الأخيرة منهما في غير ملكه ثم تزوجها فحاضت الثانية في ملكه لم يقع عليها شيء قال الحاكم وهذا الجواب غير سديد في قوله كلما حضت وإنما يصح إذا كان السؤال بقوله إذا حضت لأن كلمة كلما تقتضي التكرار.
قال: الشيخ الإمام والأصح عندي أن في المسألة روايتين في رواية هذا الكتاب لا تطلق وفي رواية الجامع تطلق وأصل الاختلاف في كيفية التكرار بكلمة كلما في هذه الرواية يتكرر انعقاد اليمين فكلما وجد الشرط مرة ارتفعت اليمين الأولى وانعقدت يمين أخرى فإذا لم يكن عند تمام الشرط في نكاحه ولا في عدته لا تنعقد اليمين الأخرى لأن ملك المحل شرط عند انعقاد اليمين فلهذا لا يقع عليها شيء وإن حاضت حيضتين في ملكه وعلى رواية الجامع إنما يتكرر بكلمة كلما نزول الجزاء بتكرر الشرط ولا يتكرر انعقاد اليمين فكلما وجد الشرط في ملكه طلقت والأصح رواية الجامع وقد بينا تمام هذا الكلام فيما أمليناه من شرح الجامع.(6/194)
قال: وإن قال إذا حضت فأنت طالق فولدت لم تطلق لأن شرط الطلاق حيضها والنفاس ليس بحيض ألا ترى أنه لا يحتسب به من اقراء العدة وإن قال إذا حبلت فأنت طالق ثلاثا فوطئها مرة فالأفضل له أن لا يقربها ثانية حتى يستبرئها بحيضة لجواز أن تكون قد حبلت فطلقت ثلاثا وإذا حاضت وطهرت عرفنا أنها لم تحبل فإن تبين فراغ رحمها يحصل بحيضة واحدة بدليل الاستبراء فله أن يطأها مرة أخرى وهذا حاله وحالها ما دامت عنده وهو جواب النزهة فأما في الحكم لا يمنع من وطئها ما لم يظهر بها حبل لأن قيام النكاح فيما بينهما يقين وفي وقوع الطلاق شك وإذا ولدت بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر لم تطلق لأنا تيقنا أن هذا الحبل كان قبل اليمين وشرط الحنث حبل حادث بعد اليمين
وإن جاءت به لأكثر من سنتين وقع الطلاق وانقضت العدة بالولد لأنا تيقنا أن هذا الولد من حبل حادث بعد اليمين وإنما وقع الطلاق عند وجود الشرط وهو ما إذا لو حبلت فتنقضي عدتها بالولد وجاءت به لستة أشهر أو أكثر ولكن لأقل من سنتين لم تطلق أيضا لجواز أن يكون هذا الولد من حبل قبل اليمين فإن الولد(6/195)
ص -90- ... يبقى في البطن إلى سنتين وما لم يتيقن بوجود الشرط بعد اليمين لا ينزل الجزاء والحل وإن كان قائما بينهما يسند العلوق إلى أبعد الأوقات تحرزا عن إيقاع الطلاق بالشك.
قال: وإذا قال لها إذا وضعت ما في بطنك فأنت طالق فولدت ولدين في بطن واحد وقع الطلاق بآخرهما وعليها العدة لأن حرف ما يوجب التعميم فشرط وقوع الطلاق أن تضع جميع ما في بطنها وذلك لا يحصل إلا بالولد الثاني وعلى هذا لو قال إن كان حملك هذا جارية فأنت طالق واحدة وإن كان غلاما فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما وجارية لم يقع عليها شيء لأن الحمل اسم لجميع ما في بطنها قال الله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولا تنقضي عدتها إلا بوضع جميع ما في بطنها فالشرط أن يكون جميع حملها غلاما أو جارية ولم يوجد ذلك حين ولدت غلاما وجارية في بطن واحد ألا ترى أنه لو كان قال إن كان ما في هذا الجوالق حنطة فامرأته طالق وإن كان ما فيه شعيرا فعبده حر فإذا فيه شعير وحنطة لم يلزمه طلاق ولا عتق ونظير هذه المسألة امتحن أبو حنيفة رحمه الله تعالى فطنة الحسن بن زياد رضي الله عنه فقال ما تقول في عنز ولدت ولدين لا ذكرين ولا أنثيين ولا أسودين ولا أبيضين كيف يكون هذا فتأمل ساعة ثم قال أحدهما ذكر والآخر أنثى وأحدهما أسود والآخر أبيض فتعجب من فطنته وإن قال لها كلما حبلت فأنت طالق فولدت بعد هذا القول من حبل حادث فقد وقعت عليها تطليقة كما حبلت لوجود الشرط وانقضت عدتها بالولادة ولو كان جامعها بعد الحبل قبل أن تلد منه كان ذلك منه رجعة لأن الواقع بهذا اللفظ كان رجعيا والوطء في العدة من طلاق رجعي يكون رجعة فإن حبلت مرة أخرى طلقت لأنه عقد يمينه بكلمة كلما وكذلك في الحكم الثالث وإن قال أنت طالق ما لم تلدي فهي طالق حين سكت لأنه جعلها طالقا في وقت لا تلد فيه بعد اليمين وكما سكت فقد وجد ذلك الوقت وكذلك في قوله ما لم تحبلي وفي قوله ما لم(6/196)
تحيضي إلا أن يكون ذلك منها مع سكوته فحينئذ لا يقع وهذا لأن وقوع الطلاق بحيض بزمان وهو ما بعد كلامه وقد جعلها طالقا إلى غاية وهو أن تحيض أو تحبل أو تلد فإذا وجدت الغاية متصلا بسكوته فقد انعدم الزمان الذي أوقع فيه الطلاق لأن الشيء لا يكون غاية لنفسه فلا تطلق فإذا لم يوجد ذلك مع سكوته فقد وجد الزمان الذي أوقع فيه الطلاق فتطلق ولو قال أنت طالق ما لم تحبلي وهي حبلى أو ما لم تحيضي وهي حائض فهي طالق كما سكت لأن صيغة كلامه لحبل وحيض حادث يقال حبلت المرأة وحاضت عند ابتداء ذلك ولم يوجد ذلك متصلا بسكوته فلهذا تطلق فإن كان يعني ما فيه من الحبل والحيض دين فيما بينه وبين الله تعالى لأن استدامة الحيض بخروج الدم منها ساعة فساعة وما يبرز منها حادث من وجه فيجوز أن يطلق عليه اسم ابتداء الحيض مجازا ولكنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وأما في الحبل فلا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يتجدد الحبل في مدته ساعة فساعة فلا يكون لاستدامته اسم الابتداء لا حقيقة ولا مجازا ألا ترى أنه(6/197)
ص -91- ... يقال حاضت عشرة أيام ولا يقال حبلت تسعة أشهر إنما يقال حبلت ووضعت لتسعة أشهر وإن قال لامرأته قد طلقتك قبل أن أتزوجك فهذا باطل لأن ما ثبت باقراره كالثابت بالمعاينة ولأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع عليها في ذلك الوقت فكان نافيا للوقوع عليها لا مثبتا كما لو قال أنت طالق قبل أن تولدي أو تخلقي أو قبل أن أولد أو أن أخلق وكذلك لو قال قد طلقتك أمس وإنما تزوجها اليوم لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لم يكن مالكا للإيقاع في ذلك الوقت وإن كان تزوجها قبل أمس طلقت للحال لأنه أضاف إلى وقت كان مالكا للإيقاع في ذلك الوقت فكان كلامه معتبرا في الإيقاع ثم أنه وصفها بالطلاق في الحال مستندا إلى أمس وهو يملك الإيقاع عليها في الحال ولكن لا يملك الإسناد فلهذا تطلق في الحال.(6/198)
قال: ولو قال قد طلقتك وأنا صغير أو قال وأنا نائم لم يقع بهذا شيء لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع فكان منكرا للإيقاع لا مقرى به ولو قال وأنا مجنون فإن عرف بالجنون قبل هذا لم تطلق لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي صحة الإيقاع وإن لم يعرف بالجنون طلقت لأنه أقر بطلاقها وأضافه إلى حالة لم تعرف تلك الحالة منه فلا يعتبر قوله في الإضافة فلهذا تطلق في الحال وإن قال قلت لك أنت طالق إن كلمت فلانا وقالت هي طلقتني فالقول قول الزوج لأن تعليق الطلاق بالشرط يمين واليمين غير الطلاق ألا ترى أنه لا يقع الطلاق بها ما لم يوجد الحنث فهي تدعي عليه إيقاع الطلاق والزوج منكر لذلك فالقول قوله وإن قال أنت طالق ثلاثا إن لم أطلقك لم تطلق حتى يموت أحدهما قبل أن يطلقها لأن كلمة إن للشرط فقد جعل عدم إيقاع الطلاق عليها شرطا ولا يتيقن بوجود هذا الشرط ما بقيا حيين فهو كقوله إن لم آت البصرة فأنت طالق ثم إن مات الزوج وقع عليها قبل موته بقليل وليس لذلك القليل حد معروف ولكن قبيل موته يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها فيتحقق شرط الحنث فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها وإن كان قد دخل بها فلها الميراث بحكم الفرار حين وقع الثلاث بإيقاعه قبيل موته بلا فصل وإن ماتت المرأة وقع الطلاق أيضا قبل موتها وفي النوادر يقول لا يقع لأنه قادر على أنه يطلقها ما لم تمت وإنما عجز بموتها فلو وقع الطلاق لوقع بعد الموت وهو نظير قوله إن لم آت البصرة(6/199)
وجه ظاهر الرواية أن الإيقاع من حكمة الوقوع بعد الموت وهو قد تحقق العجز عن إيقاعه قبيل موتها لأنه يعقبه الوقوع كما لو قال لها أنت طالق مع موتك فيقع الطلاق قبيل موتها بلا فصل ولا ميراث للزوج لأن الفرقة وقعت بينهما قبل موتها بإيقاع الطلاق عليها وإن قال أنت طالق متى لم أطلقك طلقت كما سكت لأن كلمة متى تستعمل للوقت فقد أضاف الطلاق إلى وقت بعد يمينه لا يطلقها فيه وقد وجد ذلك الوقت كما سكت وكذلك إن قال متى ما لم أطلقك فأما إذا قال إذا لم أطلقك أو إذا ما لم أطلقك فإن قال عنيت بإذاء الشرط فهو بمنزلة أن لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما وإن قال عنيت به متى وقع الطلاق كما سكت لأن إذا تستعمل لكل واحدة منهما وإن لم تكن له نية فعلى قول أبي(6/200)
ص -92- ... حنيفة رحمه الله تعالى: لا تطلق حتى يموت أحدهما وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كما سكت يقع وأصل الخلاف بين أهل اللغة والنحو فالكوفيون منهم يقولون إذا قد تستعمل للوقت وقد تستعمل للشرط على السواء فيجازي به مرة ولا يجازي به أخرى وإذا كان بمعنى الشرط سقط فيه معنى الوقت أصلا كحرف إن وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى والبصريون رحمهم الله تعالى يقولون إذا للوقت ولكن قد تستعمل للشرط مجازا ولا يسقط به معنى الوقت إذا أريد به الشرط بمنزلة متى وهو مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فهما يقولان إذا تستعمل فيما هو كائن لا محالة وليس فيه معنى الخطر قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] ويقال الرطب إذا اشتدت الحر والبرد إذا جاء الشتاء والشرط ما هو على خطر الوجود فعرفنا أنه للوقت حقيقة فعند عدم النية يحمل اللفظ على حقيقته ألا ترى أنه لو قال لامرأته إذا شئت فأنت طالق لم يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس بمنزلة قوله متى شئت بخلاف قوله إن شئت وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إذا قد تكون للشرط حقيقة يقول الرجل إذا زرتني زرتك وإذا أكرمتني أكرمتك والمراد الشرط دل عليه قول القائل شعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك حصاصة فتحمل(6/201)
معناه وإن تصبك فعند عدم النية هنا إن حمل على معنى الشرط لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما وإن جعل بمعنى متى طلقت في الحال وقد عرفنا أن الطلاق غير واقع فلا نوقعه بالشك ولهذا قلنا في مسألة المشيئة لا يخرج الأمر من يدها بقيامها عن المجلس لأنا إن جعلنا إذا بمعنى الشرط خرج الأمر من يدها وإن جعلناها بمعنى متى لم يخرج الأمر من يدها وقد عرفنا كون الأمر في يدها بيقين فلا نخرجه من يدها بالشك وفي الكتاب قال ألا ترى أنه لو قال إذا سكت عن طلاقك فأنت طالق تطلق كما سكت وهذا لا حجة فيه لأنه لو قال إن سكت وإن قال كلما لم أطلقك فأنت طالق وقد دخل بها ثم سكت فهي طالق ثلاثا يتبع بعضها بعضا لأنه أضاف الطلاق إلى وقت لا يطلقها فيه بكلمة كلما وعقيب سكوته يوجد ثلاثة أوقات بهذه الصفة بعضها على أثر البعض فتطلق ثلاثا بطريق الاتباع ولا يقعن معا حتى إذا لم يكن دخل بها لا يقع إلا واحدة وإن قال متى ما لم أطلقك واحدة فأنت طالق ثلاثا ثم قال موصلا بكلامه أنت طالق واحدة فقد بر في يمينه استحسانا ولا يقع عليها إلا واحدة وفي القياس تطلق ثلاثا وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه آلى أن يفرغمن قوله أنت طالق واحدة يوجد وقت موصوف بأنه لم يطلقها فيه وإن لطف وذلك يكفي شرطا للحنث ولكنه استحسن فقال البر مراد الحالف ولا يتأتى له البر إلا بعد أن يجعل هذا القدر مستثنى وما لا يستطاع الامتناع عنه يجعل عفوا وأصل المسألة فيما إذا قال إن ركبت هذه الدابة وهو راكبها فأخذ في النزول في الحال ولو سكت ساعة ثم قال أنت طالق واحدة فقد طلقت ثلاثا قبل قوله واحدة وهذا لأن السكوت فيما بين الكلامين يستطاع(6/202)
ص -93- ... الامتناع عنه، وعلى هذا لو قال ما لم أقم من مقعدي هذا فأنت طالق إن قام كما سكت لم تطلق استحسانا وإن سكت هنيهة طلقت ولو قال أنت طالق حين لم أطلقك ولا نية له فهي طالق كما سكت لأن حرف لم عبارة عن الماضي وقد مضى حين لم يطلقها فيه فكان الوقت المضاف إليه الطلاق موجودا كما سكت وكذلك لو قال زمان لم أطلقك أو يوم لم أطلقك أو حيث لم أطلقك لأن حرف حيث عبارة عن المكان وكم من مكان لم يطلقها فيه ولو قال حين لا أطلقك لا تطلق في الحال لأن حرف لا للاستقبال وإن نوى بحين وقتا يسيرا أو طويلا تعمل نيته وإن لم يكن له نية فهو على ستة أشهر فما لم تمض ستة أشهر بعد يمينه لا تطلق لأن حين تستعمل بمعنى ساعة قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] أي وقت الصباح والمساء وتستعمل بمعنى قيام الساعة قال الله تعالى: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذريات: 43] وتستعمل بمعنى أربعين سنة قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان: 1] وتستعمل بمعنى ستة أشهر قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [ابراهيم: 25] فإذا نوى شيئا كان المنوي من محتملات لفظه وإن لم ينو شيئا كان على ستة أشهر هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما حين سئل عمن حلف لا يكلم فلانا حينا قال هو على ستة أشهر فإن النخلة يدرك ثمرها في ستة أشهر وقال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} ولأنه متى أراد به ساعة لا يستعمل فيه لفظ الحين عادة ومتى أراد به أربعين سنة أو قيام الساعة استعمل فيه لفظ الأبد فتعين ستة أشهر مرادا به وكذلك لو قال زمان لا أطلقك فإن لفظة حين وزمان يستعملان استعمالا واحدا يقول الرجل لغيره لم ألقك منذ حين ولم ألقك منذ زمان ولو قال يوم لا أطلقك فإذا مضى بعد يمينه يوم لم يطلقها فيه طلقت حتى إذا قال هذا قبل طلوع الفجر فكما غربت الشمس تطلق لأن اليوم من طلوع الفجر(6/203)
إلى غروب الشمس حتى يقدر الصوم بالإمساك فيه.
قال: وإذا قال يوم أدخل دار فلان فامرأته طالق ولا نية له فدخلها ليلا أو نهارا طلقت لأن اليوم يستعمل بمعنى الوقت قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} [الأنفال: 16] ومن فر من الزحف ليلا أو نهارا يلحقه هذا الوعيد والرجل يقول انتظر يوم فلان أي وقت اقباله أو إدباره فإذا قرن بما لا يختص بأحد الوقتين ولا يكون ممتدا كان بمعنى الوقت كالطلاق وإذا قرن بما يختص بأحد الوقتين كالصوم كان بمعنى بياض النهار وكذلك إذا قرن بما يكون ممتدا كقوله لامرأته أمرك بيدك يوم يقدم فلان على ما نبينه إن شاء الله تعالى وإذا قال في الطلاق نويت النهار دون الليل فهو مصدق في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه وهي حقيقة مستعملة فيجب تصديقه في ذلك وإن قال ليلة أدخلها فأنت طالق فدخل نهارا لم تطلق لأن الليل اسم خاص لسواد الليل وهو ضد النهار ولا يصح أن ينوي بالشيء ضده وإن قال أنت طالق إلى حين أو زمان أو إلى قريب فإن نوى فيه شيئا فهو على ما نوى من الأجل لأن الدنيا كلها قريب فالمنوي من محتملات لفظه وإن لم يكن له نية ففي الحين والزمان هي إلى ستة أشهر(6/204)
ص -94- ... وفي القريب إلى مضي ما دون الشهر حتى إذا مضى من وقت يمينه شهر إلا يوم طلقت لأن القريب عاجل والشهر فما فوقه آجل وما دون الشهر عاجل حتى إذا حلف ليقضين حقه عاجلا فقضاه فيما دون الشهر بر في يمينه والعاجل ما يكون قريبا ولو قال أنت طالق إلى شهر فإن نوى وقوع الطلاق عليها في الحال طلقت ولغى قوله إلى شهر لأن الواقع من الطلاق لا يحتمل الأجل وإن لم ينو ذلك لم تطلق إلا بعد مضي شهر عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق في الحال وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن قوله إلى شهر لبيان الأجل والأجل في الشيء لا ينفي ثبوت أصله بل لا يكون إلا بعد أصله كالأجل في الدين لا يكون إلا بعد وجوب الدين فكذلك ذكر الأجل هنا فيما أوقعه لا ينفي الوقوع في الحال ولكن يلغو الأجل لأن الواقع من الطلاق لا يحتمل ذلك وأصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الواقع لا يحتمل الأجل ولكن الإيقاع يحتمل ذلك لأن عمله في التأخير والإيقاع يحتمل التأخير ولو جعلنا حرف إلى داخلا على أصل الإيقاع كان عاملا في تأخير الوقوع ولو جعلناه داخلا على الحكم كان لغوا وكلام العاقل محمول على الصحة مهما أمكن تصحيحه لا يجوز الغاؤه فجعلناه داخلا على أصل الإيقاع وقلنا بتأخير الوقوع إلى ما بعد الشهر كأنه قال أنت طالق بعد مضي شهر وإن قال أنت طالق غدا تطلق كما طلع الفجر من الغد لوجود الوقت المضاف إليه الطلاق وإن قال عنيت به آخر النهار لم يدين به في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في لفظ العموم فإنه وصفها بالطلاق في جميع الغد وإنما يكون ذلك إذا وقعت في أول جزء منه فإذا نوى الوقوع في آخر جزء من الغد فنيته التخصيص في العموم صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال لا آكل الطعام ونوى طعاما دون طعام وإن قال أنت طالق في غد طلقت كما طلع الفجر أيضا فإن قال عنيت به آخر النهار صدق في القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى(6/205)
ولم يصدق عندهما ذكر الخلاف في الجامع الصغير فهما سويا بين قوله غد وبين قوله في غد لأنه وصفها بالطلاق في جميع الغد فإذا عنى جزءا خاصا منه كان هذا كنية التخصيص في لفظ العموم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول حرف في للظرف والظرف قد يشغل جميع المظروف وقد يشغل جزءا منه لأنه إذا قيل في الجوالق حنطة لا يفهم منه أن يكون مملوء من الحنطة فإذا ذكر بين الوصف والوقت حرف الظرف كان كلامه محتملا بين أن تكون موصوفة بالطلاق في جميع الغد أو في جزء منه والنية في الكلام المحتمل صحيحة في القضاء والوقت إنما يكون ظرفا للطلاق على أن يكون واقعا فيه لا أن يكون شاغلا له والوقوع يكون في جزء من الوقت فكان هذا أقرب إلى حقيقة معنى الظرف وإذا قال غدا فلم يدخل بين الوصف والوقت حرف الظرف فكان حقيقته الوصف لها بالطلاق في جميع الغد فلهذا لا تعمل نيته في التخصيص في القضاء ولو قال أنت طالق في رمضان ولا نية له فهي طالق حين تغيب الشمس من آخر يوم من شعبان لأنه كما رأى الهلال فقد وجد جزء من رمضان وذلك يكفي للوقوع(6/206)
ص -95- ... وإن قال نويت آخر رمضان فهو على الخلاف الذي بينا وإن قال أنت طالق اليوم غدا فهي طالق اليوم لأنه ذكر وقتين غير معطوف أحدهما على الآخر وفي مثله الوقوع في أول الوقتين ذكرا وهو اليوم ولو قال غدا اليوم طلقت غدا وهذا لأن قوله أنت طالق اليوم تنجيز وقوله غدا إضافة إلى وقت منتظر والمنجز لا يحتمل الإضافة فكان قوله غدا لغوا وإذا قال أولا غدا كان هذا إضافة الطلاق إلى وقت منتظر فلو نجز بذكره اليوم لم يبق مضافا وقوله اليوم ليس بناسخ لحكم أول كلامه فكان لغوا وإن قال اليوم وغدا طلقت للحال واحدة لا تطلق غيرها لأن العطف للاشتراك فقد وصفها بالطلاق في الوقتين وهي بالتطليقة الواحدة تتصف بالطلاق في الوقتين جميعا وإن قال غدا واليوم تطلق واحدة اليوم عندنا والأخرى غدا لأنه عطف الجملة الناقصة على الجملة الكاملة فالخبر المذكور في الجملة الكاملة يصير معادا في الجملة الناقصة فإن العطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر فكأنه قال وأنت طالق اليوم وعن زفر رحمه الله تعالى أنها لا تطلق إلا واحدة لأن صيغة كلامه وصف وهي بالتطليقة الواحدة تتصف بأنها طالق في الوقتين جميعا.(6/207)
وإن قال أنت طالق الساعة غدا طلقت للحال وكان قوله غدا حشوا لما قلنا فإن قال عنيت تلك الساعة من الغد لم يصدق في القضاء لأن ظاهر كلامه تنجيز وهو يريد بنيته صرف الكلام عن ظاهره فلا يدين في القضاء وهو يدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال كلامه المنوي وإن كان خلاف الظاهر والله تعالى مطلع على ضميره وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد فهي طالق حين يطلع الفجر لأن قوله إذا جاء غد تعليق بالشرط وبذكر الشرط موصولا بكلامه يخرج كلامه من أن يكون تنجيزا كما لو قال أنت طالق اليوم إذا كلمت فلانا أو إن كلمت فلانا لم تطلق قبل الكلام ويتبين بذكر الشرط أن قوله اليوم لبيان وقت التعليق لا لبيان وقت الوقوع بخلاف قوله اليوم غدا فإن هذا ليس بذكر الشرط فبقي قوله اليوم بيانا لوقت الوقوع وإن قال أنت طالق رمضان وشوال كانت طالقا أول ليلة من رمضان لأنه أضاف الطلاق إلى وقتين فيقع عند أول الوقتين ذكرا وإن قال أنت طالق في رمضان فهو على أول رمضان يجيء هو الظاهر المعلوم بالعادة من كلامه كما لو ذكر الأجل في اليمين إلى رمضان أو أجر داره إلى رمضان فإن قال عنيت الثاني لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ولأنه في معنى تخصيص العموم لأن موجب كلامه أن تكون موصوفة بالطلاق في كل رمضان يجيء بعد يمينه فإذا عين البعض دون البعض كان هذا تخصيصا للعموم وتخصيص العموم بالنية صحيح فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء وكذلك قوله أنت طالق يوم السبت فهو على أول سبت فإن قال عنيت الثاني لم يصدق في القضاء وإن قال طالق بمكة أو في مكة طلقت في الحال لأنه وصفها بالطلاق في مكان موجود والطلاق لا يختص بمكان دون مكان ولكن إذا وقع عليها في مكان تتصف به في الأمكنة كلها فإن قال عنيت به إذا أتيت مكة لم يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله(6/208)
ص -96- ... تعالى لأنه ذكر المكان وعبر به عن الفعل الموجود فيه وذلك نوع من المجاز مخالف للحقيقة والظاهر فلا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك قوله أنت طالق في ثوب كذا وعليها غيره طلقت
لأن وصفه إياها بالطلاق لا يختص بثوب دون ثوب فإن قال عنيت به إذا لبست ذلك الثوب دين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه جعل ذكر الثوب كناية عن فعل اللبس فيه وهو نوع من المجاز وكذلك قوله في الدار أو في البيت أو في الظل أو في الشمس وإن قال في ذهابك إلى مكة أو في دخول الدار أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل ذلك لأن حرف في للظرف والفعل لا يصلح ظرفا للطلاق على أن يكون شاغلا له فيحمل على معنى الشرط لأن المظروف يسبق الظرف كما أن الشرط يسبق الجزاء ويجعل حرف في بمعنى مع قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي ويقال دخل الأمير البلدة في جنده أي معهم ولو قال أنت طالق مع دخولك الدار لم تطلق حتى تدخل فهذا مثله بخلاف قوله في الدار لأنه لو قال مع الدار طلقت لأنه قرن الطلاق بما هو موجود وإن قال أنت طالق وأنت تصلين طلقت للحال لأن قوله وأنت تصلين ابتداء فإن قال عنيت إذا صليت لم يصدق في القضاء لأن الشرط لا يعطف على الجزاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن هذا اللفظ يذكر بمعنى الحال تقول دخلت الدار على فلان وهو يفعل كذا أي في تلك الحالة فيكون معنى هذا أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال لفظه ما نوى وكذلك لو قال أنت طالق مصلية في القضاء تطلق في الحال وإن قال عنيت إذا صليت دين فيما بينه وبين الله تعالى بمعنى الحال وأهل النحو يقولون إن قال مصلية بالرفع لا يدين فيما بينه وبين الله تعالى وإن قال مصلية بالنصب حينئذ يدين في القضاء أيضا وهو نصب على الحال وهذا ظاهر عند أهل النحو وهو نصب على الحال وعند الفقهاء يدين فيما بينه وبين الله تعالى وإن(6/209)
قال أنت طالق في مرضك أو في وجعك لم تطلق حتى يكون منها ذلك الفعل إما لأن حرف في معنى مع أو لأن المرض والوجع لما لم يصلح ظرفا حمل على معنى الشرط مجازا لتصحيح كلام العاقل وإن قال أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر فقدم فلان قبل تمام الشهر لم تطلق لأنه أضاف الطلاق إلى وقت منتظر وهو أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان فيراعي وجود هذا الوقت بعد اليمين ولم يوجد وكذلك لو قال أنت طالق قبل موت فلان بشهر فمات فلان قبل تمام الشهر لم تطلق بخلاف ما لو قال لها في النصف من شعبان أنت طالق قبل رمضان بشهر تطلق في الحال لأنه أضاف الطلاق إلى وقت قد تيقن مضيه فيكون ذلك تنجيزا منه كقوله أنت طالق أمس فأما إذا قدم فلان
أو مات لتمام الشهر فعلى قول زفر رحمه الله تعالى في الفصلين جميعا يقع الطلاق من أول الشهر حتى تعتبر العدة من ذلك الوقت
ولو كان وطئها في الشهر صار مراجعا في الطلاق الرجعي وفي البائن يلزمه مهر بالوطء.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع الطلاق مقصورا على حالة القدوم(6/210)
ص -97- ... والموت حتى تعتبر العدة في الحال ولا يصير مراجعا بالوطء في الشهر ولا يلزمه به مهر وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في القدوم الجواب كما قالا وفي الموت الجواب كما قال زفر رحمه الله تعالى وجه قول زفر رحمه الله تعالى أن وقوع الطلاق بإيقاعه إنما يقع في الوقت الذي أوقعه وإنما أوقعه في أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان أو موته فيقع في ذلك الوقت وقد وجد ذلك الوقت بعد اليمين ولكن لم يكن معلوما لنا ما لم يوجد القدوم والموت فإذا صار معلوما لنا تبين أنه كان واقعا كما لو قال لها إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لا يحكم بوقوع الطلاق حتى يستمر بها ثلاثة أيام ثم يتبين أنه كان واقعا عند رؤية الدم وكذلك إذا قال إن كان في بطنك غلام فأنت طالق لا يحكم بالوقوع حتى تلد فإذا ولدت غلاما تبين أن الطلاق كان واقعا والدليل عليه أنه لو أوقع عند مضي شهر بعد القدوم أو الموت لا يقع إلا في ذلك الوقت فكذلك إذا أوقع قبله بشهر ولو قال لأجنبية أنت طالق قبل أن أتزوجك بشهر ثم تزوجها بعد شهر لم تطلق ولو انتصب التزوج شرطا وكان أوان الوقوع بعده لطلقت وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا وقوع الطلاق توقف بكلامه على وجود القدوم والموت وإنما يتوقف على وجود الشرط فعرفنا أنه شرط معنى والجزاء يتأخر عن الشرط ثم هذا في القدوم واضح لأنه على خطر الوجود وفي الشرط معنى الخطر والموت وإن كان كائنا لا محالة ولكن مضي الشهر بعد كلامه قبل الموت لم يكن كائنا عند يمينه لا محالة ولهذا قال لو مات قبل تمام الشهر لم تطلق ولأن الموت قد يتقدم وقد يتأخر فكل شهر يمضي بعد يمينه لا يعلم أنه الوقت المضاف إليه الطلاق ما لم يتصل الموت بآخره لجواز أن يتأخر عنه كما في القدوم لا يعلم ذلك لجواز أن لا يقدم أصلا فكان هذا في معنى الشرط أيضا بخلاف قوله أنت طالق قبل أن أتزوجك بشهر فإن الإضافة هنا لغو أصلا لأنه غير مالك للطلاق في الوقت الذي أضاف إليه(6/211)
واعتبار معنى الشرط بعد صحة الإضافة وفي مسألة الحيض الشرط يوجد برؤية قطرة من الدم ولكن لا يحكم بالطلاق لجواز أن ينقطع قبل تمام الثلاث فلم يكن وقوع الطلاق هناك موقوفا على وجود أمر منتظر وكذلك في مسألة الحبل كلامه تنجيز للطلاق لأن التعليق بما هو موجود يكون تنجيزا فلم يكن الوقوع موقوفا على أمر منتظر ولكنا لا نحكم به قبل الولادة لعدم علمنا به فلم يكن في معنى الشرط والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى ما أشار إليه في الكتاب فقال إن موت فلان حق كائن وقدومه لا يدري أيكون أولا يكون وتقريره من وجهين:
أحدهما: أن الشيء إنما يتصف بكونه شرطا بذكر حرف الشرط فيه أو وجود معنى الشرط ولم يذكر حرف الشرط في الفصلين ولكن وجد معنى الشرط في مسألة القدوم لأن وجوده على خطر وهو مما يصح الأمر به والنهي عنه وهذا معنى الشرط فإن الحالف يقصد بيمينه منع الشرط فإذا توقف وقوع الطلاق على وجوده وفيه معنى الشرط انتصب شرطا فأما الموت فلا خطر في وجوده بل هو كائن لا محالة ولا يصح الأمر به والنهي عنه فلم يكن(6/212)
ص -98- ... قصده بهذا الكلام منع الموت وإذا لم يكن فيه معنى الشرط كان معرفا للوقت المضاف إليه فإنما يقع الطلاق من أول ذلك الوقت كما في قوله أنت طالق قبل رمضان بشهر يقع الطلاق في أول شعبان إلا أن هناك الوقت يصير معلوما قبل دخول رمضان وهنا لا يصير معلوما ما لم يمت فإذا صار معلوما لنا تبين أن الطلاق كان واقعا من أوله.
والثاني: أنه أوقع الطلاق في أول شهر يتصل بآخره قدوم فلان أو موته وفي مسألة القدوم هذا الاتصال لا يقع أصلا إلا بعد القدوم لجواز أن يكون لا يقدم أصلا وبدون هذا الاتصال لا يقع الطلاق أصلا أما في مسألة الموت هذا الاتصال ثابت قبل الموت لأن الموت كائن فيعلم يقينا أن في الشهور التي تأتي شهرا موصوفا بهذه الصفة ولكن لا يدري أي شهر ذاك فلا يحكم بالطلاق ما لم يصر معلوما لنا فإذا صار معلوما تبين أنه كان واقعا من أول ذلك الوقت يقرره أن في مسألة الموت الوقت المضاف إليه يصير معلوما قبل حقيقة الموت لأنه لما أشرف على الهلاك صار الوقت المضاف إليه معلوما فلهذا لا يتأخر الطلاق عن الموت وفي مسألة القدوم لا يصير الوقت معلوما ما لم يوجد حقيقة القدوم لجواز أن لا يقدم فلهذا تأخر الطلاق عنه وإن قال أنت طالق ثلاثا قبل موتك بشهر فماتت قبل مضي الشهر لم تطلق لأنه لم يوجد الوقت المضاف إليه بعد اليمين فإن ماتت بعد تمام الشهر فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يقع الطلاق لأنه لو وقع وقع بعد موتها والطلاق لا يقع عليها بعد الموت وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يقع من أول الشهر فلا ميراث له منها وإن كان جامعها في الشهر فعليه مهر آخر لها لأنه تبين أنه جامعها بعد وقوع التطليقات الثلاث عليها وكذلك لو قتلت أو غرقت فهذا موت وإن كان بسبب مخصوص وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ثم مات لتمام الشهر عندهما لا تطلق لأنه لو وقع وقع بعد موته وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتبين وقوع الطلاق من أول(6/213)
الشهر حتى إذا كان صحيحا في ذلك الوقت فلا ميراث لها منه وعليها العدة بثلاث حيض وإن قال أنت طالق قبل الأضحى بتسعة أيام فهي طالق حين ينسلخ ذو القعدة لعلمنا بوجود الوقت المضاف إليه الطلاق وإن قال أنت طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل تمام الشهر لم تطلق لأن الوقت المضاف إليه بعد يمينه لم يوجد فإن مات أحدهما بعد تمام الشهر طلقت عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا مستندا إلى أول الشهر وعندهما طلقت في الحال بخلاف لو قال لها أنت طالق قبل قدوم فلان وفلان بشهر فقدم أحدهما بعد تمام الشهر لم تطلق حتى يقدم الآخر وبهذا يتضح فرق أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن القدوم ينتصب شرطا والموت لا ينتصب ووجه الفرق أنه أوقع الطلاق في وقت موصوف بأنه قبل قدومهما بشهر وذلك لا يصير معلوما بقدوم أحدهما لجواز أن لا يقدم الآخر أصلا فأما في الموت يصير ذلك الوقت معلوما بموت أحدهما لأن موت الآخر كائن لا محالة وقد طعن بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى في هذا وقالوا ينبغي أن لا يقع الطلاق بموت أحدهما فإن الوقت(6/214)
ص -99- ... إنما يصير موصوفا بأنه قبل موتهما بشهر إذا ماتا معا فأما إذا مات أحدهما وبقي الآخر زمانا فأول هذا الشهر موصوف بأنه قبل موت أحدهما بشهر وقبل موت الآخر بسنة ولكنا نقول موتهما معا نادر والظاهر أن المتكلم لا يقصد ذلك وإذا مات أحدهما بعد تمام الشهر فأول هذا الشهر موصوف بأنه قبل موتهما بشهر في عرف اللسان كما يقال رمضان قبل الفطر والأضحى بشهر وإن كان قبل الأضحى بثلاثة أشهر وأكثر.
قال: ولو قال أنت طالق الساعة إن كان في علم الله تعالى أن فلانا يقدم إلى شهر فقدم فلان لتمام الشهر طلقت بعد القدوم وهو دليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن علم الله تعالى محيط بالأشياء كلها كما أن الموت كائن لا محالة ولكنا نقول معنى هذا الكلام أن قدم فلان إلى شهر لأن علم الله تعالى لا طريق للحالف إلى معرفته وإنما تنبني الأحكام على ما يكون لنا طريق إلى معرفته فكأنه قال إن قدم فلان إلى شهر فلهذا تأخر الوقوع إلى القدوم ولو قال لامرأتيه أطولكما حياة طالق الساعة لم يقع الطلاق حتى تموت إحداهما لأن المراد طول الحياة في المستقبل لا في الماضي حتى إذا كانت إحداهما بنت عشر سنين والأخرى بنت ستين سنة لم تطلق العجوز فعرفنا أن طول الحياة في المستقبل مراد وذلك غير معلوم لجواز أن يموتا معا فإن ماتت إحداهما طلقت الأخرى في الحال عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى طلقت من حين تكلم الزوج لأنه تبين أنها كانت أطولهما حياة وإن الزوج علق الطلاق بشرط موجود ولكنا نقول معنى كلام الزوج التي تبقى منكما بعد موت الأخرى طالق وذلك غير معلوم قبل موت إحداهما بل هو على خطر الوجود لجواز أن يموتا معا فلهذا انتصب شرطا.(6/215)
قال: ولو قال يا زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالق ثلاثا طلقت التي أجابته لأنه اتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيبة وإن قال أردت زينب قلنا تطلق زينب بقصده ولكنه لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما لو قال زينب طالق وله امرأة معروفة بهذا الأسم تطلق فإن قال لي امرأة أخرى بهذا الاسم تزوجتها سرا وإياها عنيت قلنا تطلق تلك بنيته والمعروفة بالظاهر ولو قال يا زينب أنت طالق ولم يجبه أحد طلقت زينب لأنه اتبع الإيقاع النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب وإن قال لامرأته يشير إليها يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة إن كانت امرأته وإن لم تكن امرأته لم تطلق زينب لأن التعريف بالإشارة أبلغ من التعريف بالاسم فإن التعريف بالإشارة يقطع الشركة من كل وجه وبالاسم لا فكان هذا أقوى ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي فكان هو مخاطبا بالإيقاع لمن أشار إليها خاصة وإن قال يا زينب أنت طالق ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها زينب وهي غيرها طلقت زينب في القضاء لأنه بنى الإيقاع على التعريف بالاسم هنا فإنما يقع على المسماة ولا معتبر بظنه لأن التعريف لا يحصل به في الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر فأما فيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق هي ولا الأخرى لأنه عناها بقلبه والله تعالى مطلع على ما في ضميره فيمنع ذلك الإيقاع على زينب التي لم(6/216)
ص -100- ... يعنها بقلبه وعلى التي عناها بقلبه لأنه لم يخاطبها بلسانه حين اتبع الخطاب النداء وإن قال أنت طالق هكذا وأشار بأصبع واحدة فهي طالق واحدة وإن أشار بأصبعين فهي طالق اثنتين وإن أشار بثلاثة أصابع فهي طالق ثلاثا لأن الإشارة بالأصابع بمنزلة التصريح بالعدد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وخنس إبهامه في الثالثة فيكون ذلك بيانا أن الشهر تسعة وعشرون يوما ثم الأصل في هذه الإشارة أنها تقع بالأصابع المنشورة لا بالأصابع المعقودة والعرف دليل على هذا وكذلك الشرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خنس إبهامه في الثالثة كان الاعتبار بما نشر من الأصابع دون ما عقد حتى لو قال عنيت الإشارة بالإصبعين اللتين عقدت لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لكون ما قال محتملا وكذلك إذا قال عنيت الإشارة بالكف دون الأصابع دين فيما بينه وبين الله تعالى لكونه محتملا ولا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر فتطلق ثلاثا وبعض المتأخرين يقولون إن جعل ظهر الكف إليها والأصابع المنشورة إلى نفسه دين في القضاء وإن جعل الأصابع المنشورة إليها لم يدين في القضاء وإذا أشار بأصابعه فقال أنت طالق ولم يقل هكذا فهي واحدة لأن كلامه لا يتصل باشارته إلا بقوله هكذا فإذا لم يقل كان وجود الإشارة كعدمها فتطلق واحدة بقوله أنت طالق وإن قال أنت طالق وهو يريد أن يقول ثلاثا فأمسك رجل على فيه فلم يقل شيئا بعد ذكر الطلاق فهي طالق واحدة لأن الوقوع بلفظه لا بقصده وهو ما تلفظ إلا بقوله أنت طالق وكذلك لو مات الرجل بعد قوله أنت طالق قبل قوله ثلاثا فهي طالق واحدة بخلاف ما إذا ماتت المرأة بعد قوله أنت طالق قبل قوله ثلاثا فإنها لا تطلق شيئا لأن الزوج وصل لفظ الطلاق بذكر العدد فيكون العامل هو العدد ألا ترى أنه لو قال لها قبل الدخول أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا لأن ذكر العدد حصل بعد موتها فأما إذا مات الرجل فلفظ(6/217)
الطلاق هنا لم يتصل بذكر العدد فبقى قوله أنت طالق ولو قال أنت طالق أنت طالق فماتت المرأة قبل ذكر الثانية طلقت واحدة لما قلنا أن كلامه هنا إيقاع عامل في الوقوع فإنما يقع ما صادفها وهي حية دون ما صادفها بعد الموت وإن قال لها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق إن دخلت الدار فماتت قبل فراغه من الكلام لم يقع عليها شيء لأن الكلام المعطوف بعضه على بعض إذا اتصل الشرط بآخره يخرج من أن يكون إيقاعا كما إذا اتصل الاستثناء به وقد تحقق اتصال الشرط بالكلام بعد موتها وإن قال إحدى امرأتي طالق ثلاثا ولا نية له فذلك إليه يوقعها على أيتهما شاء فإن إيجاب الطلاق في المجهول صحيح بخلاف ما يقوله نفاة القياس وحجتنا عليهم الحديث كل طلاق جائز ثم الأصل أن الإيجاب في المجهول يصح فيما يحتمل التعليق بالشرط لأنه كالمعلق بخطر البيان في حق العين ولأن ما هو مبنى على الضيق وهو البيع يصح إيجابه في المجهول إذا كان لا يؤدي إلى المنازعة وهو ما إذا باع قفيزا من صبرة ففيما يكون مبنيا على السعة لأن يصح إيجابه في المجهول كان أولى وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة هنا لأن الزوج ينفرد بالبيان كما ينفرد بالإيقاع فإن قال أردت هذه حين تكلمت(6/218)
ص -101- ... فالقول قوله لأنه مالك للإيقاع عليها فيصح بيانه أيضا وما في ضميره لا يوقف عليه إلا من جهته فيقبل قوله فيه وإن قال ما نويت واحدة بعينها يقال له أوقع الآن على أيتهما شئت لأن الإيقاع الأول كان على منكر وأحكام الطلاق تتقرر في المنكر فلا بد من تعيينه فلهذا يقال له أوقع على أيتهما شئت وإن ماتت إحداهما قبل أن يبين طلقت الباقية لأنه إنما كان لا يتبين قبل الموت في إحداهما لمزاحمة الأخرى معها وقد زالت بالموت فإن التي ماتت خرجت من أن تكون محلا للطلاق وتعيين الطلاق المبهم في حق العين كابتداء الإيقاع فإذا خرجت إحداهما من أن تكون محلا للطلاق تعينت الأخرى وإن قال عنيت الميتة حين تكلمت صدق في حق نفسه حتى يبطل ميراثه عنها ولا يصدق على إبطال الطلاق عن الحية لأن الطلاق تعين فيها شرعا فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله.
قال: وإن كان له أربع نسوة فاطلعت إحداهن فقال الزوج التي اطلعت طالق ثلاثا ثم لم يعلم أيتهن هي وقد علم الزوج أنها كانت إحداهن فليس له أن يقرب واحدة منهن حتى يعلم المطلقة منهن لأن الوقوع هنا على المعينة ابتداء فنثبت به الحرمة ولا طريق إلى التحري في هذا الباب لأن التحري إنما يجوز فيما يحل تناوله بالضرورة وذلك لا يوجد في الفرج وليس له البيان بالإيقاع ابتداء لأن الإيقاع على المعينة هنا وقد تم بخلاف الأولى ولأن الإبهام ليس من جهته بل باختلاط المطلقة بغيرها بخلاف الأولى فالإبهام هناك منه فكان البيان إليه ولكن ينبغي له فيما بينه وبين الله تعالى أن يطلق كل واحدة منهن واحدة ويتركهن حتى يبن ولا يتزوج شيئا منهن حتى يعلم أيتهن صاحبة الثلاث لأن الأخذ بالاحتياط في باب الفرج واجب شرعا والاحتياط في هذا.(6/219)
قال: فإن تزوج واحدة منهن قبل أن تعلم فخاصمته في الطلاق يحلف لها لأنها تزعم أنها المطلقة ثلاثا والزوج منكر لذلك ولو كانت الخصومة منها قبل أن يطلقها كان يحلف لها فكذلك بعده فإن حلف أمسكها لأنا عرفناها في الأصل غير مطلقة ثلاثا فحين حلف بقي الأمر في الحكم على ما كان معلوما لنا قبل هذا وكذلك إن تزوج اثنتين أو ثلاثا فإن لم تعلم وتزوجن بأزواج غيره ودخل بهن أزواجهن ثم فارقوهن نكح أيتهن شاء لأنا تيقنا أن المطلقة ثلاثا منهن قد حلت له بإصابة الزوج الثاني فكان له أن ينكح من شاء منهن وإن ادعت كل واحدة منهن أنها المطلقة ولا بينة لها وجحد الزوج يحلف لكل واحدة منهن بالله تعالى ما هي المطلقة ثلاثا لأن كل واحدة تدعي عليه ما لو أقر به لزمه فإن حلف لهن جميعا بقي الأمر على ما كان لأنا تيقنا مجازفته في هذه الإيمان فإن المطلقة فيهن واليمين الكاذبة لا ترفع الحرمة وعن محمد أنه قال إذا حلف لثلاث منهن تعينت للطلاق الرابعة ولا يحلف لها وأن أبى أن يحلف لهن فرق بينه وبينهن بثلاث تطليقات لأن نكوله في حق كل واحدة منهن بمنزلة إقراره أنها المطلقة ثلاثا.
قال: وإذا قال لنسوة له أيتكن أكلت من هذا الطعام فهي طالق فاكلنه طلقن جميعا لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد قال الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ(6/220)
ص -102- ... عَمَلاً} [هود: 7] وقال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وحرف من للتبعيض فصار معلقا طلاق كل واحدة منهن بتناولها شيئا من الطعام وقد وجد في حقهن جميعا وكذلك لو قال أيتكن دخلت هذه الدار فدخلنها طلقن لوجود الشرط من كل واحدة منهن وكذلك لو قال أيتكن شاءت فهي طالق فشئن جميعا ولو قال أيتكن بشرتني بكذا فهي طالق فبشرنه جميعا معا طلقن لوجود الشرط من كل واحدة منهن وإن بشرته واحدة بعد أخرى طلقت الأولى وحدها لأنها هي البشيرة فإن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن المخبر علمه وفي الحقيقة كل خبر غاب عن المخبر به علمه إذا كان صدقا فهو بشارة قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وإنما سمي هذا الخبر بشارة لتغير بشرة الوجه عند سماعه إلا أنه إذا كان محزنا يتغير إلى الصفرة وإن كان سارا إلى الحمرة ولكن في العرف إنما يطلق هذا الاسم على الخبر السار وإنما وجد هذا في الأولى لأنها أخبرته بما غاب عنه علمه فأما الثانية أخبرته بما كان معلوما له فكانت مخبرة لا بشيرة ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ على قراءة بن أم عبد" فاستبق أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أن يخبراه فسبق أبو بكر رضي الله عنه فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول بعد ذلك بشرني به أبو بكر رضي الله عنه وأخبرني به عمر رضي الله عنه.(6/221)
قال: قال رجل لامرأته أنت طالق ملء الدار أو ملء الحب فإن نوى ثلاثا فثلاث وإلا فهي واحدة بائنة لأن الشيء يملأ الوعاء العظيمة في نفسه تارة ولكثرة عدده أخرى فإذا نوى الثلاث علمنا أنه أراد به كثرة العدد فكأنه قال أنت طالق أكثر العدد وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة لأنه إنما أراد به الوصف بعظم التطليقة وذلك بأن يشتد حكمها وكذلك إن لم تكن له نية لأن في وقوع الواحدة يقينا وفيما زاد عليه شكا وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة لأنه نوى مجرد العدد وذلك لا يسع في هذا اللفظ وإن قال واحدة تملأ الدار فهي واحدة بائنة ولا تسع نية الثلاث هنا لأنه صرح بالواحدة فيبقى معنى الوصف بالعظم فتكون بائنة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنها تكون رجعية لأنه وصف الطلاق بما لا يوصف به فكان لاغيا في وصفه كما لو قال تطليقة تصيح أو تطير كان هذا الوصف لغوا ثم المذهب عند أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه متى صرح بلفظ العظم يكون الواقع بائنا سواء شبهها بعظيم أو صغير حتى إذا قال عظم الجبل أو عظم رأس الإبرة أو الخردلة تكون بائنة وإن لم توصف بالعظم ولكن قال مثل الجبل أو مثل رأس الإبرة تكون رجعية وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى تكون بائنا وقال زفر رحمه الله تعالى إذا شبه التطليقة بما يكون عظيما عند الناس كالجبل تقع بائنة وإذا شبهها بما يكون حقيرا كالخردلة تكون رجعية وإذا قال أنت طالق واحدة عظيمة أو كبيرة أو شديدة أو طويلة أو عريضة فوصفها بشيء يشددها به فهي بائنة في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لما بينا أن مراده معنى الشدة عليها في حكمها وذلك في البائن لأنه لا ينفرد بالتدارك بخلاف الرجعي وإن قال أنت طالق إلى الصين فهي واحدة رجعية لأنه لم(6/222)
ص -103- ... يصفها بعظم ولا كبر إنما مدها إلى مكان والطلاق لا يحتمل ذلك نفسه ولا حكمه ولأنه بهذا اللفظ قصر حكم الطلاق لأنها إذا وقعت تكون واقعة من المشرق إلى المغرب فلا يثبت بهذا اللفظ زيادة شدة ولو قال أنت طالق إلى الشتاء فهي طالق واحدة رجعية بعد الأجل كما في قوله إلى شهر وكذلك لو قال إلى الصيف ومعرفة دخول الشتاء بلبس أكثر الناس الفرو والثوب المحشو في ذلك الموضع ودخول الصيف بإلقاء أكثر الناس ذلك حتى يتعجب ممن يرى عليه بعد ذلك والربيع في آخر الشتاء قبل دخول الصيف إذا كان الناس بين لابس للمحشو وغير لابس لا يعيب بعضهم على بعض وكذلك الخريف في آخر الصيف قبل دخول الشتاء بهذه الصفة وقيل الربيع إذا نبت العشب والصيف إذا احترق العشب وجف والخريف إذا أخذ الناس في التأهب للشتاء والشتاء إذا اشتد البرد في كل موضع.
قال: ولو قال أنت طالق واحدة لا بل اثنتين فهي طالق ثلاثا إن كان دخل بها لأن كلمة لا بل لاستدراك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول والرجوع عن الأول وهو لا يملك الرجوع عما أوقعه ولكنه يتمكن من إيقاع أخريين إذا كان قد دخل بها فتطلق ثلاثا لهذا وإن لم يكن دخل بها فهي واحدة لأنها بانت بالأولى لا إلى عدة فلا يقدر على الرجوع عنها ولا على إقامة الثنتين مقامها بإيقاعه لأنها ليست بمحل فلغي آخر كلامه وإن قال في المدخول بها نويت بالاثنتين تلك الواحدة وأخرى معها لم يدين في القضاء لأن الثنتين غير الواحدة من حيث الظاهر ولأن كلامه إيقاع مبتدأ فيما نص عليه ولكن فيما بينه وبين الله تعالى هو مدين لأن ما قاله محتمل.(6/223)
قال: وإذا قال قد كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين فهي طالق اثنتين استحسانا وفي القياس تطلق ثلاثا وهو قول زفر رحمه الله كما في الإيقاع لأن اثنتين غير واحدة فرجوعه عن الإقرار بالواحدة باطل وإقراره بالثنتين صحيح وفي الاستحسان يقول الإقرار إخبار وهو مما يتكرر بخلاف الإيقاع والعادة الظاهرة أن في الإخبار بهذا اللفظ يراد تدارك الغلط بإثبات الزيادة على العدد الأول مع اعادتها فإن الرجل يقول حججت حجة لا بل حجتين يفهم من هذا الإخبار حجتين وإذا قال سني ستون سنة لا بل سبعون يفهم من هذا الأخبار سبعين لا غير ومطلق الكلام محمول على المتعارف فلهذا تطلق اثنتين وإن قال فلانة طالق لا بل فلانة طلقتا لأنه ذكر الثانية ولم يذكر لها خبرا فيكون خبر الأولى خبرا لها فكأنه قال لا بل فلانة طالق وكذلك لو قال فلانة طالق ثلاثا لا بل فلانة أو قال بل فلانة تطلق كل واحدة ثلاثا وإن قال فلانة طالق ثلاثا لا بل فلانة طالق طلقت الأولى ثلاثا والثانية واحدة لأنه ذكر للثانية خبرا فوقع الاستغناء بذلك عن جعل الخبر الأول خبرا لها وإن قال فلانة طالق أو فلانة طلقت إحداهما لأن موجب كلمة أو إذا دخلت بين اثنين إثبات احد المذكورين بيانه في آية الكفارة فكأنه قال إحداهما طالق ومن يقول إن حرف أو للتشكيك فهو مخطى ء في ذلك لأن التشكيك لا يكون مقصودا ليوضع له حرف ولكن حقيقته ما بينا أن موجبه إثبات أحد المذكورين وكذلك لو قال أنت طالق واحدة أو اثنتين فالخيار إليه لأنه أدخل حرف أو بين عددين فيكون المراد أحدهما والبيان إليه ولو قال لها كلما حبلت فأنت طالق(6/224)
ص -104- ... وكلما ولدت فأنت طالق فحبلت بعد هذا القول وولدت لأكثر من سنتين فقد وقع الطلاق عليها حين حبلت بالكلام الأول وانقضت العدة بالولادة فلا يقع به عليها شيء فإن كان وطئها وهي حبلى فذلك منه رجعة ثم تطلق بالولادة تطليقة أخرى بالكلام الثاني وعليها العدة وهو أملك برجعتها فإن حبلت وقعت الثالثة عليها بالكلام الأول لأن كلمة كلما تقتضي التكرار ثم تنقضي عدتها بالولادة لأنها معتدة وضعت جميع ما في بطنها.(6/225)
قال: رجل قال لامرأة لا يملكها يوم أتزوجك فأنت طالق وأنت طالق وأنت طالق أو قال إن تزوجتك أو إذا تزوجتك أو متى تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق ثم تزوجها تطلق واحدة في قول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تطلق ثلاثا حجتهما في ذلك أنه علق ثلاث تطليقات مجتمعات بشرط التزوج فيقعن عند وجود الشرط معا كما لو أخر الشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إذا تزوجتك وإنما قلنا ذلك لأن الواو للجمع دون الترتيب بيانه في آية الوضوء فإنه ثبتت به فرضية الطهارة في الأعضاء الأربعة من غير ترتيب والرجل يقول جاءني زيد وعمرو فيكون مخبرا بمجيئهما من غير ترتيب بينهما في المجيء ولأن قوله وطالق جملة ناقصة معطوفة على الجملة التامة فالمذكور في الجملة التامة يصير معادا في الجملة الناقصة كما في قوله تعالى {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} معناه فعدتهن ثلاثة أشهر فهنا يصير كأنه قال وأنت طالق إذا تزوجتك وأنت طالق إذا تزوجتك ولو صرح بهذا ثم تزوجها طلقت ثلاثا جملة فهذا مثله وبأن كان لو نجز الطلاق بهذا اللفظ يتفرق الوقوع لا يدل على أنه إذا علق يتفرق كما لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل اثنتين فدخلت الدار تطلق ثلاثا ولو نجز بهذا اللفظ الطلاق قبل الدخول لم يقع إلا واحدة وهذا لأن المنجز طلاق فتبين بالأولى قبل ذكر الثانية والمعلق بالشرط ليس بطلاق وإنما يصير طلاقا عند وجود الشرط فما صح تعليقه بالشرط ينزل عند وجود الشرط جملة إذا لم يكن في لفظه ما يدل على الترتيب وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول تعلق بالشرط ثلاث تطليقات متفرقات فيقعن عند وجود الشرط كذلك كما لو قال إن تزوجتك فأنت طالق وبعدها أخرى وبعدها أخرى فإذا وقعن متفرقات بأنت بالأولى فلا تقع الثانية والثالثة كما لو نجز وإنما قلنا ذلك لأن الواو في اللغة لعطف مطلق من غير أن يقتضي جمعا ولا ترتيبا كما في قوله جاءني زيد وعمرو لا يقتضي(6/226)
جمعا حتى يستقيم أن يقول وعمرو بعده كما يستقيم أن يقول وعمرو معه فإذا كان للعطف فالتطليقة الأولى تعلقت بالشرط بلا واسطة والثانية بواسطة الأولى لأنها معطوفة عليها كالقنديل إذا علق بحبل بحلق يتعلق بالحلقة الأولى بلا واسطة وبالحلقة الثانية بواسطة الأولى وكعقد لؤلؤ وإنما ينزل عند وجود الشرط كما تعلق وهب أنه لم يكن طلاقا يومئذ فإنما يصير طلاقا كما تعلق وهذا بخلاف ما لو أعاد الشرط عند ذكر كل تطليقة لأن تعلق كل تطليقة هناك بالشرط بلا واسطة وإنما التفرق في أزمنة التعليق وذلك لا يوجب تفرقا في المعلق بالشرط وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت(6/227)
ص -105- ... طالق واحدة لا بل اثنتين لأن لا بل لاستدراك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول وقد صح ذلك لبقاء المحل بعد ما تعلق الأول بالشرط فتعلق الثنتان بالشرط بلا واسطة كالأولى وهنا حرف الواو للعطف وبخلاف ما لو نجز بقوله لا بل لأنها بانت بالأولى فلم يصح منه التكلم بالثنتين لعدم المحل وأما إذا أخر الشرط فنقول أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير موجب أوله وهنا في آخره ما يغير موجب أوله لأن أوله إيقاع وبآخره تبين أنه تعليق فإذا توقف عليه تعلق الكل بالشرط جملة وأما إذا قدم الشرط فليس في آخر الكلام ما يغير موجب أوله فلا يتوقف أوله على آخره فإذا لم يتوقف كان هذا والتنجيز سواء ونظيره ما لو تزوج أمتين نكاحا موقوفا فقال المولى أعتقت هذه وهذه بطل نكاح الثانية لأنه ليس في آخره ما يغير موجب أوله فلم يجعل كعتقهما معا ولو زوج أختين من رجل بغير أمره في عقدتين فقال الزوج أجزت نكاح هذه وهذه بطل نكاحهما كما لو قال أجزتهما لأن في آخره ما يغير موجب أوله وإن قال إذا تزوجتك فأنت طالق طالق طالق ثم تزوجها طلقت واحدة لأنه ما عطف الثانية والثالثة على الأولى فتتعلق الأولى بالشرط وتلغو الثانية والثالثة ولو قال إذا تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي ووالله لا أقربك ثم تزوجها طلقت وسقط عنه الظهار والإيلاء عند أبي حنيفة لأن تعلقهما بالشرط بواسطة الطلاق فبسبق وقوع الطلاق تبين لا إلى عدة فلا يكون مظاهرا موليا بعد ما خرجت من ملكه وعند أبي يوسف ومحمد رحمه الله هو مطلق مظاهر مول لأن الكل تعلق بالتزويج عندهما جملة ولو قال إذا تزوجتك فوالله لا أقربك وأنت علي كظهر أمي وأنت طالق ثم تزوجها وقع هذا كله عليها أما عندهما لا إشكال وعند أبي حنيفة لأنه سبق الإيلاء وتكون بعده محلا للظهار فيصير مظاهرا ثم تكون بعدهما محلا للطلاق فيقع الطلاق أيضا وعلى هذا لو قال لامرأته ولم يدخل بها إن كلمت فلانا فأنت طالق وطالق(6/228)
وطالق فكلمته فهي طالق واحدة في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تقع ثلاثا نص على قولهما في رواية أبي سليمان ولو قال أنت طالق فطالق إذا كلمت فلانا فكلم فلانا تطلق ثلاثا بالاتفاق والفرق لأبي حنيفة ما ذكرنا ولو قال إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق ذكر الطحاوي رحمه الله أن هذا على الخلاف أيضا وحرف الفاء للعطف كحرف الواو فتطلق ثلاثا عندهما والأصح أنها تطلق واحدة عند وجود الشرط لأن الفاء للتعقيب في أصل الوضع لا لعطف مطلق فإن كل حرف موضوع لمعنى خاص وإذا كان للتعقيب ففي كلامه تنصيص على أن الثانية تعقب الأولى فتبين بالأولى لا إلى عدة بخلاف الواو وإن قال لها أنت طالق طالق طالق إن كلمت فلانا فإن كان دخل بها تطلق اثنتين في الحال والثالثة تعلقت بالكلام وإن لم يكن دخل بها طلقت واحدة في الحال ويلغو ما سواها لأنه ما عطف التطليقات بعضها على بعض ولو قال إن كلمت فلانا فأنت طالق طالق طالق فإن كان دخل بها تعلقت الأولى بالكلام ووقعت الثانية والثالثة في الحال وإن لم يدخل بها تعلقت الأولى بالكلام وتقع الثانية في الحال والثالثة لغو ولو قال أنت طالق ثم طالق ثم(6/229)
ص -106- ... طالق إن كلمت فلانا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إن كانت مدخولا بها يقع في الحال اثنتان والثالثة تتعلق بالكلام وإن لم يكن دخل بها تقع واحدة في الحال ويلغو ما سوى ذلك وإذا قدم الشرط فقال إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم طالق ثم طالق فإن كان قد دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية والثالثة في الحال وإن لم يكن دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية في الحال والثالثة لغو عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى سواء قدم الشرط أو أخر تتعلق الثلاث بالشرط إلا أن عند وجود الشرط إن كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة فأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلمة ثم للتعقيب مع التراخي فإذا أدخله بين الطلاقين كان بمنزلة سكثة بينهما وهما يقولان حرف ثم للعطف ولكن بقيد التراخي فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط ولمعنى التراخي يقع مرتبا عند وجود الشرط ولو قال كلما تزوجت امرأة فهي طالق فتزوجها ثلاث مرات ودخل بها في كل مرة لم يذكر هذا في الأصل قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي تطلق اثنتين وعليه لها مهران ونصف وقال محمد رحمه الله تعالى تطلق ثلاثا وعليه لها أربعة مهور ونصف ذكره في الرقيات وجه تخريج أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لما تزوجها وقعت تطليقة قبل الدخول ولزمه نصف مهر فلما دخل بها لزمه مهر بالدخول ثم لما تزوجها وقعت تطليقة أخرى بكلمة كلما ولكنها تكون رجعية عنده لأنه تزوجها قبل انقضاء عدتها منه وبنفس التزوج وجب مهر آخر وذلك مهران ونصف ثم بالدخول يصير مراجعا والتزوج في المرة الثالثة لغو فهي عنده بتطليقة وعليه لها مهران ونصف وتخريج قول محمد رحمه الله تعالى أن بالتزوج الأول وقعت تطليقة ووجب نصف مهر بالطلاق ومهر بالدخول وكذلك بالتزوج الثاني والثالث لأن عنده وإن حصل التزوج في العدة لا يخرج به الطلاق من أن يكون واقعا قبل الدخول(6/230)
فتطلق ثلاثا وعليه أربعة مهور ونصف ولو قال كلما تزوجتك فأنت طالق بائن والمسئلة بحالها فعند محمد رحمه الله تعالى هذا والأول سواء وعند أبي يوسف تطلق ثلاثا بكل تزوج تطليقة بائنة وعليه خمسة مهور ونصف لأن بالعقد الثاني والثالث في العدة كما وقع طلاق بائن ويجب مهر تام وكذلك يجب بكل دخول مهر تام فإذا جمعت ذلك كان خمسة مهور ونصفا وإذا قال كل امرأة أتزوجها أبدا فهي طالق فتزوج امرأة فطلقت ثم تزوجها ثانية لم تطلق لأن كلمة كل تقتضي جميع الأسماء لا تكرار الأفعال فإنما يتجدد وقوع الطلاق بتجدد الاسم ولا يوجد ذلك بعقدين على امرأة واحدة بخلاف كلمة كلما فإنها تقتضي تكرار الأفعال وإنما قلنا ذلك لأن مقتضى كلمة كل الجمع فيما يتعقبها والذي يتعقب الكل الاسم دون الفعل يقال كل رجل وكل امرأة ولا يستقيم أن يقال كل ضرب وكل دخل والذي يتعقبه كلمة كلما الفعل دون الاسم يقال كلما ضرب وكلما دخل ولا يقال كلما زيد وكلما عمرو.
قال: وإذا قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثا فتزوج امرأتين في عقدة ثم واحدة في(6/231)
ص -107- ... عقدة لم تطلق واحدة منهن لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه فيه غيره ولم توجد صفة الفردية في الأوليين لأن كل واحدة منهما مزاحمة للأخرى في العقد ولم توجد صفة السبق في الثالثة لأنه تقدمها امرأتان فلم تثبت صفة الأولية لواحدة منهن ولو كان قال مع هذا وآخر امرأة أتزوجها فهي طالق لم تطلق الثالثة أيضا لأن الآخر اسم لفرد متأخر لا يعقبه غيره ونحن لا ندري أن الثالثة هل هي آخر أم لا لجواز أن يتزوج بعدها غيرها فإن مات قبل أن يتزوج أخرى طلقت الثالثة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى من حين تزوجها حتى لا يلزمها العدة إن لم يدخل بها ولا ميراث لها وإن كان دخل بها فلها عليه مهر ونصف نصف مهر بالطلاق قبل الدخول ومهر بالدخول وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إنما تطلق الثالثة قبيل الموت حتى يكون لها الميراث إذا كان دخل بها ولا مهر عليه بالدخول سوى مهر النكاح وعليها عدة الوفاة والطلاق جميعا عند محمد وعند أبي يوسف رحمهما الله تعالى ليس عليها عدة الوفاة وجه قولهما أن الثالثة إنما استحقت صفة الآخرية حين أشرف على الموت وعجز عن التزوج بغيرها فتطلق في الحال كما لو تزوج امرأة ثم قال لها إن لم أتزوج عليك أخرى فأنت طالق فإنما تطلق قبيل موته بلا فصل وهما في المعنى سواء لأنها إنما تكون آخرا بشرط أن لا يتزوج بعدها غيرها إلا أن عند محمد لما أخذت الميراث بحكم الفرار لزمها عدة الوفاة مع عدة الطلاق وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا تلزمها عدة الوفاة وإن ورثته بالفرار وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما تزوجها بعد الأوليين فقد اتصفت بصفة الآخرية ولكن هذه الصفة بعرض أن تزول عنها بأن يتزوج غيرها فلا يحكم بالطلاق لهذا فإذا لم يتزوج غيرها حتى مات تقررت صفة الآخرية فيها من حين تزوجها فتطلق من ذلك الوقت كما لو قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم لا يحكم بوقوع الطلاق لجواز أن ينقطع فيما دون الثلاث وإن(6/232)
استمر تبين أن الطلاق كان واقعا مع أول قطرة من الدم وهذا بخلاف ما لو قال إن لم أتزوج عليك لأنه جعل عدم التزوج شرطا مفصحا به للطلاق ولا يتحقق هذا الشرط إلا عند موته وما لم يتحقق الشرط لا ينزل الجزاء ويجوز أن يفترق الفصلان لاختلاف اللفظ مع التقارب في المعنى كما لو قال لامرأته إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق ثم قال لا أشاء لا تطلق ما دام حيا ولو قال إن أبيت طلاقك فأنت طالق ثم قال قد أبيت طلاقك تطلق وهما في المعنى سواء ثم اختلف الجواب لاختلاف لفظ الشرط من الوجه الذي قلنا.
قال: ولو قال آخر امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج واحدة لم يتزوج قبلها ولا بعدها حتى مات لم تطلق لأنها أول امرأة تزوجها فلا تكون آخر امرأة فإن صفة الأولية والآخرية لا يجتمع في مخلوق واحد لما بينهما من التضاد في المعنى في المخلوقين فإن أحدهما لمعنى السبق والآخر لمعنى التأخر في الزمان ولو قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأتين في عقدة وإحداهما معتدة وقع الطلاق على التي صح نكاحها لأن شرط التزوج في المستقبل يتناول العقد الصحيح دون الفاسد ونكاح المعتدة باطل وإنما صح نكاح الأخرى فهي فرد سابق(6/233)
ص -108- ... في نكاحه فكانت أولا وكذلك لو تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم تزوج امرأة بعدها بنكاح صحيح طلقت هذه لأن الأولى لما لم يصح نكاحها لم تكن داخلة في كلامه وإنما دخلت في كلامه الثانية التي صح نكاحها فهي أول امرأة تزوجها وكذلك لو قال لامرأته إن لم أتزوج عليك اليوم فأنت طالق فتزوج امرأة نكاحا فاسدا لم يبر في يمينه بهذا لأن ذكر التزوج في المستقبل ينصرف إلى العقد الصحيح سواء ذكره في موضع النفي أو في موضع الإثبات فإن المقصود بالتزوج الحل والعفة وذلك يحصل بالعقد الصحيح دون الفاسد.(6/234)
قال: وإن قال أول امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة طلقت حين تزوجها إن مات أو لم يمت لأنها بنفس العقد استحقت اسم الأولية بصفة التفردية فإن دخل بها فلها مهر ونصف مهر نصف مهر بالطلاق الواقع قبل الدخول ومهر بالدخول بها لأن الحد قد سقط عنه بشبهة اختلاف العلماء والوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد لشبهة وجب المهر وإن قال إذا تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج امرأتين في عقدة فإحداهما طالق والخيار إليه لأنا تيقنا بوجود الشرط وهو تزوج امرأة فإن في المرأتين امرأة فلهذا طلقت إحداهما بغير عينها لأن كل واحدة منهما تزاحم الأخرى في الاسم الذي أوقع الطلاق به ولا وجه للإيقاع عليهما لأنه علق بالتزوج طلاق امرأة واحدة لا طلاق امرأتين فلهذا تطلق احداهما والخيار إليه وإن كان نوى امرأة وحدها لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه ذكر التزوج بامرأة مطلقا ثم قيدها بنيته وهو أن تكون وحدها وتقييد المطلق كتخصيص العام وقد بينا أن نية التخصيص في العام صحيحة فيما بينه وبين الله تعالى غير صحيحة في القضاء فكذلك التقييد وإن كان قال إن تزوجت امرأة وحدها ثم تزوج امرأتين في عقدة لم تطلق واحدة منهما لأن التقييد هنا بنص كلامه وواحدة منهما لم تتصف بتلك الصفة التي نص عليها في الشرط لانضمام الأخرى إليها في العقد وإن تزوج أخرى بعدهما طلقت لأنها موصوفة بالصفة التي نص عليها في الشرط فإنها امرأة تزوجها وحدها وهو كما لو قال إذا تزوجت امرأة سوداء فهي طالق فتزوج بيضاوين ثم تزوج سوداء تطلق الثالثة بخلاف قوله أول امرأة أتزوجها لأن هناك نص في الشرط على وصفين الفردية والسبق وقد انعدم في الثالثة صفة السبق وهنا الشرط صفة واحدة وهي الفردية وقد وجد ذلك في الثالثة فلهذا تطلق وإن قال يوم أتزوج فلانة فهي طالق فأمر رجلا فزوجها إياه فهي طالق لأنه تزوجها بعبارة الوكيل فكأنه تزوجها بعبارة نفسه وهذا لأن(6/235)
الوكيل في النكاح معبر حتى لا يتعلق به شيء من العهدة ولا يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل وبه فارق البيع والشراء إذا حلف لا يفعله فأمر غيره حتى باشره لم يحنث في يمينه لأن العاقد لغيره في البيع والشراء كالعاقد لنفسه حتى تتعلق به العهدة ويستغني عن إضافة العقد إلى الموكل ولا يصير الموكل عاقدا بمباشرة الوكيل وإن عنى في النكاح ما ولي عقده بنفسه لا يدين في القضاء وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه في معنى نية التخصيص في العام فإن مطلق اللفظ يتناول مباشرته بنفسه ومباشرة الغير له(6/236)
ص -109- ... بأمره وكذلك إن حلف أن لا يطلقها فأمر غيره فطلقها حنث لأن الزوج هو المطلق بعبارة الوكيل فإن الوكيل بالطلاق معبر ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق إن شئت فشاءت أو قال اختاري فاختارت نفسها كان الزوج هو المطلق لها فكذلك هنا وإن قال نويت أن أطلقها بلساني لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص في اللفظ العام وإذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق أو قال أنت طالق وطالق وطالق بانت بالأولى عندنا وعند مالك رحمه الله تطلق ثلاثا لأن الواو للجمع فجمعه بين التطليقات بحرف الجمع كجمعه بلفظ الجمع بأن يقول لها أنت طالق ثلاثا ولكنا نقول الواو للعطف فلا يقتضي جمعا وليس في آخر كلامه ما يغير موجب أوله لأن موجب أول الكلام وقوع الطلاق وهو واقع أوقع الثانية والثالثة أو لم يوقع فتبين بالأولى كما تكلم بها ثم قد تكلم بالثانية وهي ليست في عدته وهذا بخلاف ما لو ذكر شرطا أو استثناء في آخر كلامه لأن في آخر كلامه ما يغير موجب أوله فتوقف أوله على آخره.
قال: وإن قال لها أنت طالق واحدة بعدها أخرى أو قبل أخرى فهي طالق واحدة وهذا الجنس من المسائل ينبني على أصلين:
أحدهما: أنه متى ذكر النعت بين اسمين فإن ألحق به حرف الكناية وهو حرف الهاء كان نعتا للمذكور آخرا وإن لم يلحق كان نعتا للمذكور أولا تقول جاءني زيد قبل عمرو فيكون قبل نعتا لمجيء زيد وإذا قلت قبله عمرو كان نعتا لمجيء عمرو.(6/237)
والثاني أن من أقر بطلاق سابق يكون ذلك إيقاعا منه في الحال لأن من ضرورة الإستناد الوقوع في الحال وهو مالك للإيقاع غير مالك للإسناد إذا عرفنا هذا فنقول إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق واحدة قبل أخرى تطلق واحدة لأن قبل نعت للأولى ومعناه قبل أخرى تقع عليك فتبين بالأولى ولو قال قبلها أخرى تطلق اثنتين لأن قبل نعت للمذكور آخرا فكأنه قال قبلها أخرى وقعت عليك وهذا منه إسناد للثانية إلى وقت ماض فيكون موقعا لها في الحال مع الأولى ولو قال بعد أخرى تطلق اثنتين لأن بعد نعت للأولى فيكون معناه بعد أخرى وقعت عليك ولو قال بعدها أخرى تطلق واحدة لأن بعدها هنا نعت للثانية ومعناه بعدها أخرى تقع عليك فتبين بالأولى.
قال: ولو قال مع أخرى أو معها أخرى تطلق اثنتين لأن كلمة مع للقرآن فقد قرن إحدى التطليقتين بالأخرى وأوقعهما جميعا وكذلك إن قال اثنتين مع واحدة أو معها واحدة أو قبلها واحدة فهي طالق ثلاثا لما قلنا.
قال: ولو قال أنت طالق واحدة ونصفا قبل الدخول كانت طالقا اثنتين عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى واحدة لأن نصف التطليقة كما لها فكأنه قال أنت طالق واحدة وواحدة ولكنا نقول هذا كله ككلام واحد معنى لأنه لا يمكنه أن يعبر عن واحدة ونصف بعبارة أوجز من هذه فإن لواحدة ونصف عبارتين أما هذه وأما اثنتان إلا نصف وذلك لا يصير(6/238)
ص -110- ... معلوما إلا بالاستثناء وهذا معلوم في نفسه فهو أولى العبارتين وإذا كان كلاما واحدا معنى لا يفصل بعضه عن بعض بخلاف قوله واحدة وواحدة فكأنهما عبارتان لأن للاثنتين عبارة أوجز من هذه وهو أن يقول اثنتين وكذلك لو قال أنت طالق إحدى وعشرين عندنا تطلق ثلاثا لأنه ليس لهذا العدد عبارة أوجز من هذه فكان الكلام واحدا معنى وعند زفر رحمه الله تعالى تطلق واحدة لأنهما كلامان أحدهما معطوف على الآخر فتبين بالأولى وإن قال إحدى عشرة تطلق ثلاثا بالاتفاق لأنه ليس بينهما حرف العطف فكان الكل واحدا ولو قال إحدى وعشرة عندنا تطلق ثلاثا وعند زفر رحمه الله تعالى واحدة لأنه لما ذكر حرف العطف كان كلامين وكذلك لو قال واحدة ومائة عندنا تطلق ثلاثا وقال زفر رحمه الله تعالى واحدة وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن هنا تطلق واحدة لأن العبارة المعروفة لهذا العدد مائة وواحدة فإذا غير ذلك تفرق كلامه فتبين بالأولى.(6/239)
قال: ولو قال أنت طالق البتة أو قال البائن ينوي ثلاثا فهي ثلاث لأن ألبتة عبارة عن القطع وقد بينا أن القطع نوعان فهو بنية الثلاث ينوي أحد نوعي القطع فيعمل بنيته وكذلك لو قال أنت طالق حراما ينوي ثلاثا فهو كما نوى لأنه نوى أحد نوعي الحرمة وكذلك لو قال طالق الحرام فهذا وقوله حرام سواء ويستوي إن كان دخل بها أو لم يدخل بها لأن الكلمة واحدة فإن ما ذكر بعد قوله طالق تفسير لهذه الكلمة فهذا وقوله أنت طالق ثلاثا سواء وإن قال أنت طالق الطلاق أو طلاقا فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة رجعية وإن عنى بطالق تطليقة وبالطلاق أخرى فهي اثنتان رجعيتان إن كان قد دخل بها لأن هذه الألفاظ مشتقة من لفظ صريح الطلاق وإن لم يدخل بها فواحدة بائنة فإنه لما نوى بكل كلمة تطليقة كان هذا بمنزلة قوله أنت طالق أنت طالق فتبين بالأولى فإن قال أنت طالق الطلاق كله فهي طالق ثلاثا كانت له نية أو لم تكن لأنه صرح بإيقاع كل الطلاق وهو ثلاث ومع التصريح لا حاجة إلى النية وإن قال أنت طالق أخبث الطلاق أو أشد الطلاق أو أعظم الطلاق أو أكبر الطلاق فهذا كله باب واحد فإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة لما بينا أن معنى العظم والكبر والشدة يظهر في الحكم فهذا وقوله طالق بائن سواء وإن قال أنت طالق أكبر الطلاق فهي ثلاث لا يدين فيها إذا قال نويت واحدة لأن الكثرة والقلة في العدد فقد صرح بإيقاع أكثر ما يملك عليها من الطلاق ومع التصريح لا حاجة إلى النية ولو قال أسوأ الطلاق أو شره أو أفحشه فهو وقوله اخبث الطلاق سواء على ما بينا وإن قال أكمل الطلاق أو أتم الطلاق فهي واحدة رجعية لأنه ليس في لفظه ما ينبئ عن العظم والشدة ولو قال أنت طالق طول كذا أو عرض كذا فهي واحدة بائنة لأن الطول والعرض فيه إشارة إلى معنى الشدة فإن الأمر إذا اشتد على إنسان يقول كان لهذا الأمر طول وعرض فتكون واحدة بائنة ولا تكون ثلاثا(6/240)
وإن نواها لأن الطول والعرض للشيء الواحد فكأنه قال أنت طالق واحدة طولها وعرضها كذا وهذا لا تسع فيه نية الثلاث ولو قال أنت(6/241)
ص -111- ... طالق خير الطلاق أو أعدل الطلاق أو أحسن الطلاق فهذا بمنزلة قوله أنت طالق للسنة لأن الأعدل والأحسن ما يوافق السنة وإنما يوصف بالخيرية ما يوافق السنة حتى يقع بهذا تطليقة رجعية في وقت السنة وإن نوى ثلاثا فثلاث بمنزلة قوله أنت طالق للسنة.
قال: ولو قال لها أنت طالق إن ركبت وهي راكبة فمكثت كذلك ساعة طلقت لأن الركوب مستدام حتى تضرب له المدة يقال ركبت يوما والاستدامة على ما يستدام إنشاء قال الله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68] أي لا تمكث قاعدا وكذلك لو قال أنت طالق إن قعدت وهي قاعدة أو إن قمت وهي قائمة أو إن مشيت وهي ماشية أو إن اتكأت وهي متكئة فمكثت كذلك ساعة يحنث بخلاف ما لو قال أنت طالق إن دخلت الدار وهي في الدار فمكثت كذلك لم تطلق حتى تخرج وتدخل لأن الدخول ليس بمستدام فإنه انفصال من الخارج إلى الداخل ألا ترى أنه لا تضرب له المدة فلا يقال دخل يوما وإنما يقال دخل وسكن يوما والخروج نظير الدخول لأنه انفصال من الداخل إلى الخارج فلا يكون لاستدامته حكم إنشائه ولو قال أنت طالق ما بين تطليقة إلى ثلاث أو من تطليقة إلى ثلاث ففي القياس تطلق واحدة وهو قول زفر رحمه الله تعالى لأنه جعل الأولى والثالثة غاية والغاية حد فلا تدخل في المحدود كقوله بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط فيكون الواقع ما بين الغايتين وهي الواحدة وفي الاستحسان وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق ثلاثا لأن الحد إنما يكون في ذوي المساحات فأما في عرف اللسان إنما يراد بمثل هذا الكلام دخول الكل فإن الرجل يقول خذ من مالي من درهم إلى عشرة فيكون له أخذ العشرة ويقول كل من الملح إلى الحلو فيكون المراد تعميم الإذن ومطلق الكلام محمول على عرف أهل اللسان وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول القياس ما قاله زفر أن الحد غير المحدود ولكن في إدخال الأولى ضرورة(6/242)
لأنه أوقع الثانية ولا ثانية قبل الأولى ولا بد للكلام من ابتداء فإذا لم يوقع الأولى تصير الثانية ابتداء فلا يمكن إيقاعها أيضا فلأجل الضرورة أدخلت الغاية الأولى ولا ضرورة في الغاية الثانية فأخذت فيها بالقياس وقلت تطلق اثنتين وهذا لأن الغاية التي ينتهي الكلام إليها قد لا تدخل كالليل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقد تدخل كالمرافق والكعبين في الوضوء والطلاق بالشك لا يقع فإن قال أردت واحدة لا يدين في القضاء وهو يدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال الكلام ما نوى وإن قال أنت طالق ما بين واحدة إلى أخرى ففي قياس قول زفر لا يقع شيء وفي قول أبي حنيفة تطلق واحدة وعندهما تطلق اثنتين وإن قال من واحدة إلى واحدة قيل هو على الخلاف وقيل تقع واحدة عندهم جميعا لأن الشيء لا يكون غاية نفسه فكان قوله إلى واحدة لغوا وإن قال أنت طالق واحدة أو لا شيء فهي طالق تطليقة رجعية في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى ثم رجع أبو يوسف رحمه الله تعالى وقال لا يقع شيء وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا أو لا شيء فهو على هذا الخلاف وجه قوله الأول أن حرف أو لإثبات(6/243)
ص -112- ... أحد المذكورين فيما يتخللهما وأنما يتخلل هنا قوله واحدة أو لا شيء وقوله ثلاثا أو لا شيء فيسقط اعتبار هذا اللفظ ويبقى قوله أنت طالق فيقع به تطليقة رجعية وجه قوله الآخر أن حرف أو للتخيير لأن موجبه إثبات أحد المذكورين فقد خير نفسه بين أن يقع عليها واحدة أو لا يقع عليها شيء وأحدهما موجود فلا يثبت بهذا الكلام شيء كما لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال هذه طالق أو هذه لم يقع شيء وهذا لأن الكلام إذا اقترن به ذكر العدد كان العامل هو العدد لا قوله أنت طالق وقد خرج ذكر العدد من أن يكون عزيمة بحرف أو فلا يقع عليها شيء وإن قال أنت طالق أو غير طالق أو قال أنت طالق أو لا أو قال أنت طالق أو لا شيء لم يقع عليها شيء لأنه إنما أدخل حرف الواو بين طلاق وغير طلاق فتخرج به كلمة الإيقاع من أن تكون عزيمة فلا يقع شيء كما لو قال لعبده أنت حر أو عبد وإن قال أنت طالق واحدة في اثنتين فهو ثلاث لأن حرف في قد يكون بمعنى الواو لأن حروف الصلات يقوم بعضها مقام بعض وإن نوى واحدة مع اثنتين يقع ثلاث أيضا سواء دخل بها أو لم يدخل بها لأن حرف في يذكر بمعنى مع قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي مع عبادي ويقال دخل الأمير البلدة في جنده أي مع جنده وإن نوى حساب الضرب فهي واحدة عندنا وعند زفر رحمه الله تعالى اثنتان لأن هذا شيء معروف عند أهل الحساب إن واحدا إذا ضرب في اثنين يكون اثنين فيحمل كلامه عليهما إذا نوى ولكنا نقول الضرب إنما يكون في الممسوحات لا في الطلاق وتأثير الضرب في تكثير الأجزاء لا في زيادة المال والتطليقة الواحدة وإن كثرت أجزاؤها لا تصير أكثر من واحدة كما لو قال أنت طالق نصف تطليقة وسدسها وثلثها لم يقع إلا واحدة فهذا مثله وعلى هذا لو قال اثنتين في اثنتين ونوى الضرب عندنا تطلق اثنتين وعند زفر رحمه الله تعالى ثلاثا لأن اثنين في اثنين يكون أربعة ولكن الطلاق لا يكون أكثر من ثلاث(6/244)
وعلى هذا مسائل الإقرار إذا قال لفلان علي عشرة دراهم في عشرة دراهم ونوى حساب الضرب فعليه عشرة عندنا ومائة عند زفر رحمه الله تعالى وإن نوى عشرة وعشرة فعليه عشرون وكذلك لو قال درهم في دينار أو كر حنطة في كر شعير لم يكن عليه إلا المذكور أولا عندنا إلا أن يقول نويت الواو أو حرف مع فيلزمه جميع ذلك حينئذ ويحلفه القاضي بالله ما أردت الإقرار بذلك كله يعني إذا كان الخصم مدعيا بجميع ذلك.
قال: وإن كان له ثلاث نسوة فقال فلانة طالق ثلاثا وفلانة أو فلانة فالأولى طالق والخيار إليه في الاخريين يوقع على أيتهما شاء لأن حرف التخيير إنما ذكر بين الاخريين فكان كلامه عزيمة في الأولى فيقع الطلاق عليها ويخير في الاخريين بمنزلة قوله هذه طالق وإحدى هاتين وكذلك الجواب في العتق وقد بينا الفرق بين هذين الفصلين وبين قوله والله لا أكلم فلانا وفلانا أو فلانا فيما أمليناه من شرح الجامع واستوضح في الكتاب هذه المسألة بما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا وقد استقرضت ألف درهم من فلان أو فلان كان الطلاق واقعا عليها وهو مخير في الألف يقر بها لأحدهما ويحلف للآخر ما استقرض منه شيئا وهذا غير مشكل(6/245)
ص -113- ... لأن حرف التخيير إنما ذكر في الإقرار لا في الإيقاع فيبقى موقعا للطلاق على امرأته عزما ولو قال فلانة طالق ثلاثا أو فلانة وفلانة طلقت الثالثة والخيار إليه في الأوليين لأنه إنما أدخل حرف التخيير بين الأوليين وبن سماعة رحمه الله تعالى يروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه يخير بين الإيقاع على الأولى والأخريين بمنزلة قوله هذا طالق أو هاتان وجعل على تلك الرواية هذه المسألة كمسألة اليمين والفرق بينهما على ظاهر الرواية قد استقصينا شرحه في الجامع وإن قال فلانة طالق ثلاثا وفلانة معها يقع على كل واحدة منهما ثلاث تطليقات لأنه عطف الثانية على الأولى ولم يذكر لها خبرا فيكون الخبر الأول خبرا للثاني كما هو موجب العطف ولأنه ضم الثانية إلى الأولى بقوله معها وإنما يتحقق هذا الضم إذا وقع عليها مثل ما وقع على الأولى فإن قال عنيت أن فلانة معها شاهدة لم يصدق في القضاء وهو مصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه اضمر للثانية خبرا آخر وهو محتمل ولكنه خلاف الظاهر فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء وإن قال فلانة طالق ثلاثا ثم قال اشركت فلانة معها في الطلاق وقع على الأخرى ثلاث لأن لفظ الاشراك يقتضي التسوية قال الله تعالى في ميراث أولاد الأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فيستوي فيه الذكور والإناث ولأنه قد اشركها في كل واحدة مما وقعت على الأولى وهذا بخلاف ما لو قال لامرأتين له بينكما ثلاث تطليقات حيث تطلق كل واحدة اثنتين لأن هناك لم يسبق وقوع شيء على واحدة منهما فتنقسم الثلاث بينهما نصفين قسمة واحدة وهنا قد وقع الثلاث على الأولى فلا يمكنه أن يرفع شيئا مما أوقع عليها باشراك الثانية وإنما يمكنه أن يسوي الثانية بها بإيقاع الثلاث عليها حتى لو قال لامرأتين أشركتكما في ثلاث تطليقات لم يقع على كل واحدة إلا اثنتان ولأنه لما أوقع الثلاث على الأولى فكلامه في حق الثانية اشراك في(6/246)
حق كل واحدة من الثلاث فكأنه قال بينكما ثلاث تطليقات وهو ينوي أن كل تطليقة بينهما فلهذا تطلق كل واحدة منهما ثلاثا وإن قال لامرأتين له أنتما طالقان ثلاثا ينوي أن الثلاث بينهما فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لكون المنوي من محتملات لفظه ولكنه خلاف الظاهر فلا يدين في القضاء وتطلق كل واحدة ثلاثا وكذلك لو قال لأربع نسوة له أنتن طوالق ثلاثا ينوي أن الثلاث بينهن كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى فتطلق كل واحدة واحدة ألا ترى أنه قد يقال أكلن أربعة أرغفة على معنى أن كل واحدة أكلت رغيفا ولكنه خلاف الظاهر في الوصف فلا يدين في القضاء وتطلق كل واحدة منهن ثلاثا وإن قال لامرأته أنت طالق نصف تطليقة فهي تطليقة كاملة عندنا وعند نفاة القياس لا يقع عليها شيء لأن نصف التطليقة غير مشروع وإيقاع ما ليس بمشروع من الزوج باطل ولكنا نقول ما لا يحتمل الوصف بالتجزي فذكر بعضه كذكر كله فكان هو موقعا تطليقة كاملة بهذا اللفظ وإيقاع التطليقة مشروع وكذلك كل جزء سماه من نصف أو ثلث أو ربع فهو كذلك وإن قال أنت طالق نصفي تطليقة فهي طالق واحدة لأنه إنما أوقع أجزاء تطليقة واحدة.(6/247)
ص -114- ... قال: وإن قال أنت طالق نصف تطليقة من التطليقات الثلاث وثلث تطليقة وربع تطليقة وقد دخل بها فهي طالق ثلاثا لأنه أوقع من كل تطليقة من التطليقات الثلاث جزء فإنه نكر التطليقة في كل كلمة والمنكر إذا أعيد منكرا فالثاني غير الأول ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] لن يغلب عسر يسرين وإن قال أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وسدسها لم تطلق إلا واحدة لأنه أضاف الأجزاء المذكورة إلى تطليقة واحدة بحرف الكناية ولم يذكر ما لو قال أنت طالق نصف تطليقة وثلثها وربعها فمن أصحابنا من يقول هنا تطلق اثنتين لأنك إذا جمعت هذه الأجزاء المذكورة تكون أكثر من واحدة والأصح أنها لا تطلق إلا واحدة لأنه أضاف الأجزاء المذكورة إلى تطليقة واحدة بحرف الكناية فلا يقع إلا واحدة.(6/248)
قال: ولو قال أنت طالق إن لم تصنعي كذا وكذا لعمل يعلم أنها لا تصنعه أبدا نحو أن يقول إن لم تمسي السماء بيدك أو إن لم تحولي هذا الحجر ذهبا فهي طالق ساعة تكلم به بخلاف ما لو قال إن لم تدخلي الدار فإن هناك لا تطلق حتى تموت لأن الشرط فوات الدخول ولا يتحقق ذلك إلا عند موتها فإن الدخول منها يتأتى ما دامت حية فأما هنا الشرط عدم مس السماء منها أو تحويل الحجر ذهبا وذلك متحقق في الحال من حيث الظاهر ولأنه لا فائدة في الانتظار هنا لأنه لا يحصل به عجز لم يكن ثابتا قبله بخلاف مسألة الدخول على ما بينا ولو وقت وقتا فقال أنت طالق إن لم تمسي السماء اليوم لم تطلق إلا بعد مضي اليوم عندنا وقال بعض العلماء تطلق في الحال لأن فوت الشرط متحقق في الحال ولأن الوقت في اليمين المؤقت كالعمر في المطلق فكما لا ينتظر هناك موتها فكذلك هنا لا ينتظر مضي المدة ولكنا نقول عند ذكر الوقت الشرط عدم الفعل في آخر جزء من أجزاء النهار وذلك لا يتحقق قبل مجيء ذلك الوقت ولأنه بذكر الوقت قصد الترفيه على نفسه فكان هذا بمنزلة قوله أنت طالق إذا ذهب هذا اليوم فما لم يذهب لا يقع الطلاق.
قال: رجل قال لامرأته يا مطلقة فهي طالق واحدة لأنه وصفها بالطلاق حين ناداها به فكان هذا وقوله أنت طالق سواء ألا ترى أنه لو قال لها يا زانية كان قاذفا لها بمنزلة قوله أنت زانية فإن قال عنيت أنها مطلقة من زوج لها قبلي فإن لم يكن لها زوج لا يلتفت إلى كلامه لأنه نوى المحال وإن كان لها زوج قبله فهو مدين في القضاء ولا يقع عليها شيء لأنه نوى حقيقة كلامه فإن النداء في الحقيقة بوصف موجود وذلك من طلاق زوج كان قبله ولأن حقيقة كلامه الوصف وهو غير الإيقاع.(6/249)
قال: وإن قال لها طلقتك أمس وهو كاذب كانت طالقا في القضاء فأما فيما بينه وبين الله تعالى فهي امرأته لأن الإقرار إخبار محتمل للصدق والكذب إلا أن دينه وعقله يحمله على الصدق ويمنعه عن الكذب فحملنا كلامه في الظاهر على الصدق فأما فيما بينه وبين الله(6/250)
ص -115- ... تعالى فالمخبر عنه إذا كان كذبا لا يصير بالإخبار عنه صدقا فلهذا لا يقع شيء.
قال: ولو قال لها يا بائن أو يا حرام أو ما أشبه ذلك من الكلام الذي يشبه الفرقة وهو يريد بذلك أن يسميها تسمية ولا ينوي الطلاق لم تطلق لأنا قد بينا في قوله أنت بائن أنه لا يقع الطلاق إلا إذا نوى لأن اللفظ مبهم محتمل فكذلك في قوله يا بائن فإذا قال لم أنو الطلاق كان مدينا في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى وإن قال يا مطلقة يريد أن يسميها بذلك ولا يريد الطلاق وسعه فيما بينه وبين الله تعالى ولم يصدق في القضاء لأن اللفظ صريح فوقوع الطلاق به يكون بعينه لا بنيته بخلاف ما سبق إلا أن ما نواه محتمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى بمنزلة قوله عنيت الطلاق عن الوثاق وكذلك لو قال لعبده يا حر يريد أن يسميه بذلك فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن يعتق به في القضاء.(6/251)
قال: ولو قال لامرأته هذه أختي فهو صادق في ذلك ولا يقع عليها شيء لأن هذا الكلام محتمل للأخوة في الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وفي القبيلة قال الله تعالى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] وبالمحتمل لا تثبت الحرمة وعلى هذا لو قال لمملوكه هذا أخي كان صادقا ولم يعتق وإن قال هذه أمي أو ابنتي من نسب أو رضاع أو قال هي عمتي أو خالتي من نسب أو رضاع فإنه يسأل عن ذلك فإن ثبت عليه فرق بينهما وإن قال كذبت أو توهمت فهي امرأته وقد بينا هذا في كتاب النكاح وذكرنا الفرق بينما إذا قال لمملوكه ولزوجته وكذلك إذا قال يا أماه أو يا بنتاه أو يا عمتاه أو يا خالتاه أو يا أختاه أو يا جدتاه كان هذا باطلا ولا تقع به الفرقة لأن في موضع النداء المراد احضارها لا تحقيق ذلك الوصف فيها ألا ترى أنه قد يناديها بما لا يتحقق فيها في موضع الإهانة كالكلب والحمار وفي موضع الإكرام كحور العين ونحوه فعرفنا أنه ليس مراده التحقيق وبدون قصد التحقيق لا عمل لهذا الكلام في قطع الزوجية فلهذا لا يقع شيء.
قال: قال رجل لامرأته قد وهبت لك طلاقك ولا نية له فهي طالق في القضاء لأن معنى كلامه هذا طلقتك بغير عوض فإن هبة الشيء من غيره جعله له مجانا ولو قال بعتك طلاقك بكذا فقالت قبلت طلقت فكذلك إذا قال وهبت لك طلاقك تطلق وإن لم تقبل لأن اشتراط قبولها لأجل البدل وإن كان ينوي بذلك أن يكون الطلاق في يدها لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر فإن الهبة تزيل ملك الواهب عن الموهوب وبجعل الطلاق في يدها لا يزول ملكه عن الطلاق ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يدين في القضاء لأن هبة الشيء من غيره تمليك لذلك الشيء منه في الظاهر فيكون هذا تمليكا للأمر منها فإن طلقت نفسها في ذلك المجلس طلقت وإلا فهي امرأته.(6/252)
قال: وإذا قال لآخر أخبر امرأتي بطلاقها فهي طالق سواء أخبرها به أو لم يخبرها لأن حرف الباء للإلصاق فيكون معناه أخبرها بما أوقعت عليها من الطلاق موصولا بالإيقاع وذلك(6/253)
ص -116- ... يقتضي إيقاعا سابقا لا محالة وكذلك لو قال احمل إليها طلاقها أو بشرها بطلاقها فهي طالق بلغها أو لم يبلغها لأن معناه بشرها بما أوقعت عليها أو أحمل إليها ما أوقعت عليها وكذلك لو قال أخبرها أنها طالق أو قل لها أنها طالق لأن الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب فالأصل فيه الصدق وذلك لا يكون إلا بعد إيقاعه الطلاق عليها وكذلك لو قال لعبده وهبت لك عتقك أو تصدقت عليك بعتقك أو قال لغيره أخبره أنه حر أو بشره بأنه حر أو قل له أنه حر كان حرا لما بينا.
قال: وإذا أراد أن يطلق امرأته فقالت لا تطلقني هب لي طلاقي فقال قد وهبت لك طلاقك يريد بذلك لا أطلقك فهي امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى لأن كلامه جواب لسؤالها وهي إنما سألته الإعراض عن الإيقاع وقد أظهر بكلامه أنه أجابها إلى ما سألته فلا يكون ذلك إيقاعا منه ولو قال لامرأته قد أعرضت عن طلاقك أو صفحت عن طلاقك يريد بذلك الطلاق لم تطلق لأنه نوى ضد كلامه فإن الإعراض عن الشيء بترك الخوض فيه وهو ضد الإيقاع ولو قال قد تركت طلاقك أو قد خليت طلاقك أو قد خليت سبيل طلاقك وهو يريد بذلك الطلاق فهي طالق لأن هذا الكلام محتمل يجوز أن يكون مراده تركها بطريق الإعراض عن التصرف فيها ويجوز أن يكون المراد تركتها بأن أخرجتها من يدي بالإيقاع فينوي فيه فإن لم ينو الطلاق فليس بشيء وإن نوى الطلاق فهو طلاق بمنزلة الكنايات.(6/254)
قال: ولو قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق كل يوم فإن لم يكن له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا وعند زفر تطلق ثلاثا في ثلاثة أيام لأن قوله أنت طالق إيقاع وكلمة كل تجمع الأسماء فقد جعل نفسه موقعا للطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع حتى تطلق ثلاثا ألا ترى أنه لو قال أنت طالق في كل يوم طلقت ثلاثا في كل يوم واحدة ولكنا نقول كلامه صفة وقد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة تتصف به في الأيام كلها وإنما جعلنا كلامه إيقاعا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة ألا ترى أنه لو قال أنت طالق أبدا لم تطلق إلا واحدة بخلاف قوله في كل يوم لأن حرف في للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفا له لا يصلح الغد ظرفا له فيتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف في وفي قوله كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى وتطلق ثلاثا في ثلاثة أيام إما لأنه أضمر حرف في أو لأنه أضمر التطليقة فكأنه قال أنت طالق كل يوم تطليقة.
قال: وكذلك لو قال أنت طالق اليوم وغدا وبعد غد فإن لم يكن له نية فهي واحدة لأن بوقوع الواحدة عليها تتصف بالطلاق في هذه الأيام وإن نوى ثلاثا فهو كما نوى وهي طالق كل يوم واحدة حتى تستكمل ثلاثا في اليوم الثالث إما لإضمار حرف في أو لإضمار التطليقة.
قال: وإن قال أنت طالق ما لا يجوز عليك من الطلاق أو ما لا يقع عليك من الطلاق(6/255)
ص -117- ... فهي طالق واحدة رجعية لأن آخر كلامه لغو فإنه ليس فيما يملكه الزوج عليها طلاق موصوف بما ذكر وكذلك إن قال أنت طالق ثلاثا لا يقعن عليك أو ثلاثا لا يجزن عليك فهي طالق ثلاثا لما بينا وفي النوادر قال أنت طالق أقبح الطلاق قال عند أبي يوسف رحمه الله تعالى تطلق تطليقة رجعية وعند محمد رحمه الله تعالى تطلق تطليقة بائنة لأنه جعل القبح صفة للطلاق وذلك هو الطلاق المزيل للملك وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول قد يكون القبح بالإيقاع في غير وقت السنة فلا تثبت صفة البينونة بالشك.
قال: ولو قال أنت طالق ثلاثا وأنا بالخيار ثلاثة أيام فالخيار باطل والطلاق واقع لأن اشتراط الخيار للفسخ بعد الوقوع لا للمنع عن الوقوع والطلاق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه فيلغو شرط الخيار فيه والعتق كذلك.
قال: ولو قال لامرأته اذهبي فتزوجي فإن كان نوى طلاقا فهو طلاق وإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن لم يكن له نية فليس بشيء لأن كلامه محتمل فلا يتعين معنى الطلاق فيه إلا بالنية وهو محتمل للطلاق لأنه ألزمها الذهاب من بيته وروي عن محمد رحمه الله تعالى أنه لو قال لها افلحي أو استفلحي ينوي به الطلاق فهو بمنزلة قوله اذهبي لأن العرب تقول افلح بخير أي اذهب بخير وكذلك لو قال استفلحي لأن معناه اطلبي فحلا فكان هذا وقوله تزوجي سواء والله أعلم.
باب طلاق الأخرس
قال: وإذا طلق الأخرس امرأته في كتاب وهو يكتب جاز عليه من ذلك ما يجوز على الصحيح في كتابه لأن الأخرس عاجز عن الكلام وهو قادر على الكتاب فهو الصحيح في الكتاب سواء والأصل أن البيان بالكتاب بمنزلة البيان باللسان لأن المكتوب حروف منظومة تدل على معنى مفهوم كالكلام ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة وقد بلغ تارة بالكتاب وتارة باللسان ثم الكتاب على ثلاثة أوجه:(6/256)
أحدها: أن يكتب طلاقا أو عتاقا على ما لا يتبين فيه الخط كالهواء والماء والصخرة الصماء فلا يقع به شيء نوى أو لم ينو لأن مثل هذه الكتابة كصوت لا يتبين منه حروف ولو وقع الطلاق لوقع بمجرد نيته وذلك لا يجوز.
والثاني: أن يكتب طلاق امرأته على ما يتبين فيه الخط ولكن لا على رسم كتب الرسالة فهذا ينوي فيه لأن مثل هذه الكتابة قد تكون للإيقاع وقد تكون لتجربة الخط والقلم والبياض وفيه ينوي كما في الألفاظ التي تشبه الطلاق فإن كان صحيحا تبين نيته بلسانه وإن كان أخرس تبين نيته بكتابه.
والثالث: أن يكتب على رسم كتب الرسالة طلاق امرأته أو عتاق عبده فيقع الطلاق والعتاق بهذا في القضاء وإن قال عنيت به تجربة الخط لا يدين في القضاء لأنه خلاف(6/257)
ص -118- ... الظاهر وهو نظير ما لو قال أنت طالق ثم قال عنيت الطلاق من وثاق ثم ينظر إلى المكتوب فإن كان كتب امرأته طالق فهي طالق سواء بعث الكتاب إليها أو لم يبعث وإن كان المكتوب إذا وصل إليك كتابي هذا فأنت طالق فما لم يصل إليها لا يقع الطلاق كما لو تكلم بما كتب فإن ندم على ذلك فمحى ذكر الطلاق من كتابه وترك ما سوى ذلك وبعث بالكتاب إليها فهي طالق إذا وصل إليها الكتاب لوجود الشرط ومحوه كرجوعه عن التعليق فإن محى الخطوط كلها وبعث بالبياض إليها لم تطلق لأن الشرط لم يوجد فإن ما وصل إليها ليس بكتاب ولو جحد الزوج الكتاب وأقامت عليه البينة أنه كتبه بيده فرق بينهما في القضاء لأن الثابت بالبينة عليه كالثابت بإقراره وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز استحسانا وفي القياس لا يقع شيء من ذلك بإشارته لأنه لا يتبين بإشارته حروف منظومة فبقي مجرد قصده الإيقاع وبهذا لا يقع شيء ألا ترى أن الصحيح لو أشار لا يقع شيء من التصرفات بإشارته ولكنه استحسن فقال الإشارة من الأخرس كالعبارة من الناطق ألا ترى أن في العبادات جعل هكذا حتى إذا حرك شفتيه بالتكبير والقرآن جعل ذلك بمنزلة القراءة من الناطق فكذلك في المعاملات وهذا لأجل الضرورة لأنه محتاج إلى ما يحتاج إليه الناطق فلو لم تجعل إشارته كعبارة الناطق أدى إلى أن يموت جوعا وهذه الضرورة لا تتأتى في حق الناطق ولهذا قلنا المريض وإن اعتقل لسانه لا ينفذ تصرفه بإشارته لأنه لم يقع اليأس عن نطقه وإقامة الإشارة مقام العبارة عند وقوع اليأس عن النطق لأجل الضرورة وإن لم تكن له إشارة معروفة يعرف ذلك منه أو يشك فيه فهو باطل لأنه لا يوقف على مراده بمثل هذه الإشارة فلا يجوز الحكم بها ولم يذكر في الكتاب حكم الطلاق بالفارسية وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الفارسي إذا قال لامرأته هسته أو قال اززني هسته ينوي في ذلك فإن نوى(6/258)
ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة رجعية ويستوي إن كان في حال مذاكرة الطلاق أو لم يكن وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن قال هسته ينوي فيه ولو قال اززني هسته فهي تطليقة رجعية إلا أن ينوي ثلاثا وعند محمد رحمه الله تعالى في قوله بهستمت أو اززني بهستمت أنه طلاق وكأنهم جعلوا هذا اللفظ تفسيرا للتخلية ولهذا قال زفر رحمه الله تعالى يكون الواقع به بائنا ولكن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا يحتمل أن يكون هذا في معنى التخلية فيكون الواقع به بائنا ويحتمل أن يكون هذا معنى لفظ آخر فلا تثبت البينونة بالشك ولكنا نقول نحن أعرف بلغتنا منهم والواقع بهذا اللفظ عندنا تطليقة رجعية سواء نوى الطلاق أو لم ينو أو نوى الثلاث أو لم ينو لأن هذا اللفظ في لساننا صريح بمنزلة الطلاق في لسان العرب وإنما معنى تفسير التخلية بله كردم فينوي في ذلك والحاصل أن كل لفظ لا يستعمل إلا مضافا إلى النساء فهو صريح وكل ما يستعمل في النساء وغير النساء فهو بمنزلة الكناية ينوي فيه فقوله بله كردم يستعمل في غير النساء كما يستعمل في(6/259)
ص -119- ... النساء فأما قوله هسته أو بهستمت لا يستعمل إلا في النساء فيكون صريحا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة في الطلاق
قال: رضي الله عنه وإذا شهد شاهدان أنه طلق إحدى امرأتيه بعينها وقالا قد سماها لنا لكنا نسيناها فشهادتهما باطلة عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تقبل شهادتهما ويحال بينه وبينهما إذا شهدا بالثلاث حتى يبين المطلقة منهما لأن الثابت بشهادتهما كالثابت بإقرار الزوج ولو أقر أنه طلق إحداهما بعينها وقال قد نسيتها أمر أن لا يقرب واحدة منهما حتى يتذكر وهذا لأن الشهادة على الطلاق مقبولة من غير دعوى وإنما تنعدم الدعوى إذا لم يعرفا المطلقة منهما فوجب قبول شهادتهما بقدر ما حفظا من كلام الزوج ولكنا نقول قد أقرا على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا شهادتهما ولأن القاضي إما أن يقضي بطلاق إحداهما بغير عينها فيكون هذا قضاء بغير ما شهدا أو يقضي بطلاق إحداهما بعينها ولا يتمكن من ذلك بهذه الشهادة لأنهما لم يعينا وليست إحداهما بأولى من الأخرى فإذا تعذر القضاء بها بطلت الشهادة لأنها لا تكون موجبة بدون القضاء بخلاف إقرار الزوج فإنه موجب بنفسه قبل أن يتصل به القضاء فكان ملزما إياه البيان وإن شهدا أنه طلق إحداهما بغير عينها ففي القياس لا تقبل هذه الشهادة أيضا لأن المشهود له مجهول وجهالة المشهود له تمنع صحة الشهادة ولكنه استحسن فقال تقبل الشهادة ويجبر على أن يوقع الطلاق على إحداهما لأن الجهالة في المشهود له لا تمنع صحة الشهادة لعينها بل لانعدام الدعوى فإن الدعوى من المجهول لا تتحقق وهذا لا يوجد في الطلاق فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعوى وهما أثبتا بشهادتهما قول الزوج إحداهما طالق فكأن القاضي سمع ذلك من الزوج فيجبره على أن يوقع على إحداهما.(6/260)
قال: وإذا قال الرجل فلانة بنت فلان طالق وسمى امرأته ونسيها ثم قال عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك الاسم والنسب لم يصدق والطلاق واقع على امرأته في القضاء لأن كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وله ولاية الإيقاع على امرأته دون الأجنبية فلا يصدق فيما يدعي من إلغاء كلامه في القضاء ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما قاله محتمل ويجوز أن يكون مراده أن فلانة طالق من زوجها على سبيل الحكاية أو على سبيل الإيقاع فيكون موقوفا على إجازة الزوج ولا يسع امرأته أن تقيم معه لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي فإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها لإقرار الزوج بأنها هي المطلقة ولم يصدق على إبطال الطلاق عن المرأة المعروفة بذلك لأنها تعينت للطلاق في الحكم وهو متهم في صرف الطلاق عنها فلا يصدق إلا أن يشهد الشهود على نكاحها قبل أن يتكلم بطلاقها أو على إقرارهما قبل ذلك فحينئذ يقع الطلاق عليها دون المعروفة لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو كان تحته معروفتان على اسم ونسب واحد(6/261)
ص -120- ... فطلق بذلك الاسم والنسب كان البيان إليه يوقع الطلاق على أيتهما شاء فكذلك هنا وكذلك إن صدقته المرأة المعروفة بذلك وفي هذا نوع إشكال فإن المعروفة متهمة في هذا التصديق كما أن الزوج متهم في الإقرار ولكنه لم يعتبر هذا الجانب لأن الحق لهما وقد تصادقا على قيام النكاح بينهما باعتبار أمر محتمل ولو تصادقا على النكاح ابتداء ثبت في الحكم بتصادقهما فكذلك إذا تصادقا على بقاء النكاح بينهما.
قال: وإن قال فلانة طالق وذلك اسم امرأته طلقت امرأته ولم يصدق على صرف الطلاق عنها لأن كلامه إيقاع وله ولاية الإيقاع على زوجته وقد بينا أن كلام العاقل محمول على الصحة فتعينت زوجته لهذا والعتاق في هذا قياس الطلاق وهذا بخلاف الإقرار إذا قال لفلان علي ألف درهم فجاء رجل على ذلك الاسم وادعى المال لم يلزمه المال إلا أن يشهد الشهود على إقراره أنه عناه لأن الإقرار من المقر تصرف في ذمته من حيث الإلتزام فلا يتعين المقر له إلا بدليل موجب للتعين وذلك إشارته إليه وإقراره أنه عناه فأما الطلاق والعتاق تصرف على المحل بالإيقاع وزوجته ومملوكته متعينة لذلك توضيحه أن جهالة المقر له تمنع صحة الإقرار وبمجرد ذكر الاسم لا ترتفع الجهالة وجهالة المطلقة والمعتقة لا تمنع صحة الإيقاع ولأن المال بالشك لا يستوجب والطلاق والعتاق يؤخذ فيهما بالاحتياط وكذلك في الإقرار ولو قال لفلان بن فلان علي ألف درهم فالمقر له بهذا القدر لا يصير معلوما كما في الدعوى والشهادة بذكر اسمه واسم أبيه لا يصير معلوما إلا بذكر اسم جده أو بنسبه إلى فخذ أو يشير إليه فحينئذ يصير معلوما ويلزمه المال له بالإقرار.(6/262)
قال: وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا وجحد الزوج والمرأة ذلك فرق بينهما لأن المشهود به حرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه من غير دعوى كما لو شهدوا بحرمتها عليه والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة وهذا لأنهم يشهدون أن وطأه إياها بعد هذا زنا والشهادة على الزنى تقبل من غير دعوى فكذلك على ما يتضمن معنى الزنى وعلى هذا الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير دعوى وفي الشهادة على عتق العبد اختلاف عند أبي حنيفة لا تقبل من غير دعوى وعندهما تقبل على ما نبينه في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى.
قال: وإذا كان له امرأتان إحداهما نكاحها صحيح والأخرى نكاحها فاسد واسمهما واحد وقال فلانة طالق ثم قال عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق في القضاء لأنها بالنكاح الفاسد لم تصر محلا لوقوع طلاقه عليها فهي كالأجنبية والتي نكاحها صحيح محل لوقوع طلاقه عليها فمطلق الاسم يتناولها ولا يصدق في صرفه عنها في القضاء وإن كان يصدق فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال نويت أجنبية وكذلك لو قال إحدى امرأتي طالق لأنه أوقع الطلاق بهذا اللفظ على امرأته وهي التي صح نكاحها دون الأخرى لأن بالنكاح الفاسد لا تصير هي امرأته فكأنه ليس في نكاحه إلا امرأة واحدة فقال إحدى امرأتي طالق ولو قال إحداكما طالق لم تطلق امرأته إلا أن(6/263)
ص -121- ... يعينها لأنه أوقع الطلاق على إحدى اللتين خاطبهما وأشار إليهما وإحداهما ليست بمحل لطلاقه فلا تتعين امرأته إلا بالنية كما لو جمع بين امرأته وأجنبية وقال إحداكما طالق ولو كان في يده عبدان فاشترى أحدهما شراء صحيحا واشترى الآخر شراء فاسدا فقال أحدكما حر أو أحد عبدي حر فهو سواء والقول قوله في البيان لأن المشتري شراء فاسدا صار مملوكا له بالقبض وصار محلا لعتقه كالمشتري شراء صحيحا فكان كلامه إيقاعا سواء قال أحد عبدي أو قال أحدكما فكان البيان إليه بخلاف الأولى فإن التي نكاحها فاسد ليست بمحل لطلاقه.(6/264)
قال: وإن قال فلانة بنت فلان طالق فسمى امرأته ونسبها إلى غير أبيها لم تطلق امرأته لأنه ما أوقع الطلاق عليها فإنه ما أضافها إلى نفسه بالنكاح وما أشار إليها ولا عرفها بذكر نسبها إنما ذكر امرأة أخرى وأوقع الطلاق عليها بما ذكر من الاسم والنسب فلا يتناول ذلك امرأته كما لو أشار إلى أجنبية وقال أنت طالق لم تطلق امرأته وكذلك لو قال فلانة الهمدانية طالق وامرأته تميمية لم تطلق وكذلك لو قال فلانة العمياء طالق وامرأته صحيحة العينين فإن نوى امرأته بهذا كله طلقت لأنه قصد الايقاع عليها بذكر اسمها وما زاد على ذلك فضل من الكلام وفي هذا تشديد عليه فتعمل نيته وإن كان اسم امرأته زينب فقال فلانة طالق يعني امرأته وإنما قال فلانة ولم يسمها فالطلاق واقع عليها وإن لم يعنها لم تطلق لأنه أوقع الطلاق بذكر مطلق الاسم ومطلق الاسم كما يتناولها يتناول غيرها فكان هذا بمنزلة الإيقاع بلفظ الكناية فينوي في ذلك لكون اللفظ مبهما محتملا وإذا شهد شاهد على تطليقتين وشاهد على ثلاث والزوج يجحد ذلك أو شهد شاهد بتطليقة والآخر بتطليقتين أو شاهد بتطليقة والآخر بثلاث لم تقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما وبن أبي ليلى تقبل على الأقل لأن المعتبر اتفاق الشاهدين في المعنى دون اللفظ حتى لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالتخلي تقبل وقد اتفق الشاهدان على الأقل لأن الأقل موجود في الأكثر فصار كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي الأكثر تقبل شهادتهما على الأقل وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق والآخر أنه قال لها أنت طالق وطالق أو شهد أحدهما أنه طلقها والآخر أنه طلقها وضرتها تقبل شهادتهما على طلاقها لاتفاق الشاهدين عليه ولأن الموافقة كما تراعى بين الشاهدين تراعى بين الدعوى والشهادة ثم لو ادعى ألفين وشهد شاهدان بألف تقبل الشهادة بالإتفاق فكذلك إذا شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألفين(6/265)
ينبغي أن تقبل على الأقل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول اختلف الشاهدان في المشهود به لفظا ومعنى فلا تقبل الشهادة كما لو قال أحدهما أنه قال لها أنت خلية والآخر أنه قال لها أنت برية وإنما قلنا ذلك لأن أحدهما شهد بالواحدة والآخر بثنتين أو بثلاث والواحدة أصل العدد لا تركب فيها والاثنان والثلاث اسم لعدد مركب فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ومن حيث أن اللفظ الواحد غير التثنية والجمع والدليل عليه أن(6/266)
ص -122- ... مدعي الاثنين أو الثلاثة لا يكون مقرى بالواحد إذ لو كان مقرى بالواحد لكان مرتدا بالشرك بعد ذلك فينبغي أن تقبل ولأن التطليقتين اسم واحد والتطليقة كذلك وبزيادة حرف يتغير الاسم كما يقال زيد وزياد ونصر وناصر وكذلك في الألف والألفين وإذا ثبتت المغايرة كان على كل واحد من الأمرين شاهد واحد فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء بخلاف الألف مع الألف وخمسمائة فإنهما اسمان أحدهما معطوف على الآخر فيحصل الاتفاق بينهما على الألف لفظا ومعنى وكذلك في قوله طالق وطالق وفي قوله فلانة وفلانة وهذا بخلاف الدعوى مع الشهادة فإن الاتفاق هناك في اللفظ ليس بشرط فإما بين الشهادتين الموافقة في اللفظ شرط ألا ترى أنه لو ادعى الغصب أو القتل وشهد شاهدان بالإقرار به تقبل ولو شهد أحد الشاهدين بالغصب والآخر بالإقرار به لا تقبل وهذا لأن الشهادة تعتمد اللفظ ألا ترى أنها لا تقبل ما لم يقل اشهد والذي يبطل مذهبهما ما ذكر في كتاب الرجوع لو شهد شاهدان بتطليقة وشاهدان بثلاث تطليقات وفرق القاضي بينهما قبل الدخول ثم رجعوا كان ضمان نصف الصداق على شاهدي الثلاث دون شاهدي الواحدة ولو اعتبر ما قالا أن الواحدة توجد في الثلاث لكان الضمان عليهم جميعا وإن شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار وأنها قد دخلت وشهد الآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا وأنها قد كلمت فلانا فشهادتهما باطلة لأن كل واحد منهما أوقع الطلاق بغير ما أوقع به صاحبه وإنما شهد كل واحد منهما بتعليق آخر من الزوج وليس على واحد من الآمرين شهادة شاهدين فإن شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا وشهد الآخر أنه قال لها أنت علي حرام ينوي الثلاث فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به لفظا وكذلك إن اختلفا في ألفاظ الكنايات كالخلية والبرية لأن هذه الألفاظ عندنا تعمل بحقائق موجباتها فيكون أحدهما شاهدا بالتخلية والآخر بالبراءة وكذلك الاختلاف في مقادير الشروط التي علق بها الطلاق وفي(6/267)
التعليق والإرسال وفي مقادير الجعل وصفاتها وفي اشتراطها وحذفها كل ذلك اختلاف في المشهود به لفظا ومعنى فيمتنع القضاء بهذه الشهادة لأنه ليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا يتمكن القاضي من القضاء وإذا شهد أحدهما أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها وشهد الآخر أنه قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وحدها وقد دخلت فلانة فهي طالق وحدها لأنهما اتفقا على أن الشرط دخولها واتفقا أن الجزاء طلاقها إنما تفرد أحدهما بزيادة جزاء معطوف على طلاقها فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما.
قال: وتجوز شهادة رجل وامرأتين على طلاق المرأة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بينا هذا في النكاح وفي الكتاب قال روي عن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في النكاح.
قال: والطلاق عندنا بمنزلته ولا يجوز أقل من ذلك حتى إذا شهد بالطلاق رجل وامرأة أو شهد به أربع نسوة ليس معهن رجل لا تقبل لأن الطلاق مما يطلع عليه الرجال.(6/268)
ص -123- ... قال: ولا يجوز شهادة الولد على أبيه ولا على غيره بطلاق أمه إذا ادعت ذلك أمه لأنه شاهد لها والولد متهم في حق أمه فإن قيل لا معتبر بدعواها في الشهادة على الطلاق قلنا نعم ولكن إذا وجدت الدعوى منها ففي شهادته أظهار صدق دعواها وفيه منفعة لها حتى لو كانت هي تجحد ذلك مع الأب كانت شهادته مقبولة عليهما وعلى هذا لو شهد الأب على طلاق ابنته لا تقبل إذا ادعته ويجوز شهادة الأب مع رجل آخر على ابنه بطلاق امرأته وكذلك شهادة الابن على أبيه إذا لم تكن لأمه والحاصل أن الشهادة على الطلاق بمنزلة الشهادة على سائر الحقوق تقبل من الولد على الوالدين ولا تقبل لهما وتقبل من المسلمين على أهل الذمة ولا تقبل من أهل الذمة على المسلمين.
قال: وإذا زوج رجل أخته ثم شهد هو وآخر على الزوج بطلاقها تقبل لأن شهادة الأخ للأخت بسائر الحقوق مقبولة فكذلك الطلاق وهذا لأن الطلاق حادث بعد النكاح لا صنع للأخ فيه فلا يمتنع شهادته عليه بسبب مباشرته للنكاح بخلاف ما لو شهد على أصل النكاح أن المرأة قد أجازته فإن شهادته لا تقبل لأنه هو المزوج وقد قصد بشهادته تتميم فعله فلا تقبل شهادته لهذا.(6/269)
قال: وإذا شهد شاهدان على رجل بالطلاق قبل الدخول فقضى لها بنصف المهر ثم رجعا ضمنا للزوج ذلك إما لأنهما قررا عليه ما كان على شرف السقوط بمجيء الفرقة من جانبها والمقرر كالموجب أو لأن وقوع الفرقة قبل الدخول مسقط لجميع الصداق إلا أن يكون مضافا إلى الزوج فهما بإضافة السبب إلى الزوج وهو الطلاق منعا العلة المسقطة من أن تعمل عملها في النصف فكان ذلك كالإيجاب منهما فيضمنان إذا رجعا وإن رجع أحدهما ضمن الربع وإن كان الشاهد رجلا وامرأتين ثم رجعت امرأة فعليها ثمن المهر وإن رجعوا جميعا فعلى الرجل ربع المهر وعلى كل امرأة ثمن المهر لأن الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة فإن عند الاختلاط كل امرأتين تقومان مقام رجل ثم المعتبر في الرجوع بقاء من بقي على الشهادة لا رجوع من رجع حتى لو شهد ثلاثة نفر بحق ثم رجع أحدهم لم يضمن شيئا لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت جميع الحق بشهادته فإن كان الشاهد بالطلاق رجلين وامرأتين ثم رجع رجل وامرأة كان عليهما ثمن المهر أثلاثا ثلثاه على الرجل وثلثه على المرأة لأنه قد بقي على الشهادة من يقوم ثلاثة أرباع الحق به فإنما انعدمت الحجة في قدر الربع فلهذا ضمنا ذلك القدر أثلاثا فإن رجعت المرأة الأخرى أيضا لزمها مع الراجعين الأولين ربع المهر لأنه قد بقي على الشهادة رجل وهو يقوم بنصف الحق ثم نصف هذا الربع على الرجل الراجع ونصفه على المرأتين وإن رجعوا جميعا كان على المرأتين سدس المهر وعلى الرجلين الثلث لأن الثابت بشهادة كل رجل مثل الثابت بشهادة المرأتين.
قال: وإن شهد رجلان بالدخول ورجلان بالطلاق فألزم القاضي الزوج كمال المهر ثم رجع شاهدا الطلاق فلا شيء عليهما عندنا وعلى قول الشافعي عليهما ضمان مهر المثل لأن(6/270)
ص -124- ... شاهدي الدخول ثابتان على الشهادة فصار كأن الدخول ثابت بإقرار الزوج فبقيت شهادة الآخرين بالطلاق بعد الدخول وذلك غير موجب للضمان عليهما إذا رجعا عندنا لأن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم وإتلاف ما ليس بمتقوم لا يوجب الضمان عليهما وعنده البضع متقوم عند خروجه من ملك الزوج بمهر المثل كما أنه متقوم عند دخوله في ملك الزوج وقد بينا الفرق بينهما في كتاب النكاح ثم نقول لما كان جميع المهر يثبت بشهادة شاهدي الدخول وهما ثابتان على الشهادة لم يضمن الراجعان شيئا وإن رجع شاهدا الدخول ولم يرجع شاهدا الطلاق فعليهما نصف المهر لأنه قد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته نصف المهر ألا ترى أنه لو لم يوجد شاهدا الدخول كان القاضي يقضي بنصف المهر بشهادة شاهدي الطلاق فإنما انعدمت الحجة برجوعهما في نصف المهر فيضمنان ذلك وإن رجع أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق لم يكن على شاهد الطلاق شيء لأن الثابت بشهادته وشهادة صاحبه نصف المهر وقد بقي على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المهر وهو أحد شاهدي الدخول وأحد شاهدي الطلاق فلهذا لا يضمن شاهد الطلاق شيئا ويضمن شاهد الدخول ربع المهر لأن الحجة قد انعدمت في قدر الربع وحقيقة المعنى فيه أن نصف المهر ثابت بشهادة شاهدي الدخول خاصة والنصف الآخر ثابت بشهادة الأربعة فالنصف الذي هو ثابت بشهادتهم قد بقي كمال الحجة فيه ببقاء اثنين على الشهادة والنصف الذي قد ثبت بشهادة شاهدي الدخول بقي نصفه ببقاء أحدهما على الشهادة وانعدمت الحجة في نصفه فلهذا ضمن شاهد الدخول ربع المهر وإن رجع شاهدا الطلاق مع إحدى شاهدي الدخول كان عليهم ضمان نصف المهر لأنه قد بقي من يثبت بشهادته نصف المهر وهو أحد شاهدي الدخول فإنما انعدمت الحجة في النصف نصف هذا النصف على شاهد الدخول والنصف الآخر عليهم أثلاثا لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وقد بقي نصفه ببقاء أحدهما فيجب نصفه على(6/271)
الآخر والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة وقد بقي واحد على الشهادة فيبقي نصف ذلك النصف ببقائه وتنعدم الحجة في نصفه فيكون عليهم أثلاثا وإن رجعوا جميعا كان على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر لأن النصف يثبت بشهادة شاهدي الدخول خاصة فضمان ذلك عليهما إذا رجعا والنصف الآخر يثبت بشهادة الأربعة فيكون عليهم أرباعا نصفه على شاهدي الدخول ونصفه على شاهدي الطلاق.
قال: وإذا شهد شاهد واحد على الطلاق فسألت المرأة القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى تأتي بشاهد آخر لم يفعل ذلك ودفعها إلى زوجها حتى تأتي ببقية شهودها لأن قيام النكاح والحل بينهما معلوم وبشهادة الواحد لم يثبت سبب الحرمة لأنها شطر العلة وبشطر العلة لا يثبت شيء من الحكم فيتمسك القاضي بما كان معلوما له حتى يثبت عنده العارض فإن كان الطلاق ثلاثا أو بائنا وادعت أن بقية شهودها في المصر وشاهدها هذا عدل حال بينها وبين(6/272)
ص -125- ... الزوج وأجلها ثلاثة أيام حتى ينظر ما تصنع في شاهدها الآخر وهذا استحسان وفي القياس لا يحول بينه وبينها لأن الحجة لم تتم ولكنه استحسن فقال للشهادة طرفان العدد والعدالة ولو وجد تمام العدد تثبت به الحيلولة قبل ظهور العدالة بأن شهد رجلان مستوران فكذلك إذا وجدت العدالة وهذا لأن الذي يسبق إلى وهم كل أحد أن العدل صادق في شهادته وباب الفرج مبني على الاحتياط وليس في هذه الحيلولة كثير ضرر على الزوج ولكن مع هذا لا تكون هذه الحيلولة واجبة على القاضي بل إن فعل فحسن وإن لم يفعل ودفعها إلى الزوج فلا بأس لأن حجة القضاء به لم تتم ألا ترى أنه لو قضى بشهادة الواحد لم ينفذ قضاؤه.(6/273)
قال: وإذا شهد شاهد على تطليقة بائنة وشهد آخر على تطليقة رجعية فشهادتهما جائزة على تطليقة رجعية لأنهما اتفقا على أصل الطلاق وإنما تفرد أحدهما بزيادة صفة البينونة فلا يثبت ما تفرد به أحدهما والدليل لهما على أبي حنيفة رحمه الله في الثلاث مع الواحدة يقولان تفرد أحدهما بالبينونة الغليظة كتفرد أحدهما بالبينونة الخفيفة وعند أبي حنيفة الطلاق إذا قرن بالعدد كان العامل هو العدد وكل واحد منهما شاهد بالوقوع بلفظ آخر هناك فأما هنا وإن الحق صفة البينونة بالطلاق فوقوع الطلاق يكون بلفظ الطلاق وقد اتفق الشاهدان عليه لفظا توضيحه أن بصفة البينونة لا يتغير أصل الطلاق ألا ترى أن بمضي العدة ينقلب الرجعي بائنا فأما بانضمام الثاني والثالث يتغير حكم أصل الطلاق ولو شهد أحدهما على تطليقة والآخر على واحدة وواحدة جازت شهادتهما في الواحدة لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى ولو شهد أحدهما على أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها واحدة وعشرين أو واحدة ونصفا فقد اتفقا على الواحدة في لفظهما وتكلما بها إنما تفرد أحدهما بزيادة لفظ آخر معطوف على لفظ الواحد فيثبت ما اتفقا عليه وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بواحدة والآخر بأحد عشر قال هناك أحد عشر اسم واحد لانعدام حرف العطف فالشاهد بها لا يكون شاهدا بالواحدة لفظا فأما واحدة وعشرون اسمان بينهما حرف العطف فالشاهد بها شاهد بالواحدة لفظا.(6/274)
قال: وإن شهد أحدهما أنه طلقها واحدة وشهد الآخر أنه طلقها نصف واحدة أو شهد أحدهما على نصف واحدة والآخر على ثلث واحدة لم تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله وتقبل عندهما لأن المعتبر عندهما الاتفاق في المعنى وقد وجد فإن نصف التطليقة وثلثها كما لها وعند أبي حنيفة يعتبر اتفاق الشاهدين لفظا ومعنى وبين النصف والكل مغايرة على سبيل المضادة وكذلك النصف غير الثلث فلم يوجد اتفاق الشاهدين لفظا فلهذا قال لا تقبل الشهادة وإن شهد أحدهما أنه قال فلانة طالق لا بل فلانة وشهد الآخر أنه قال فلانة طالق يسمي الأولى فقد جازت الشهادة على طلاق الأولى لاتفاق الشاهدين على ذلك لفظا ومعنى وما تفرد أحدهما من الزيادة لم يثبت وإن شهد أحدهما أنه قال أنت(6/275)
ص -126- ... طالق الطلاق كله وشهد الآخر أنه قال أنت طالق بعض الطلاق فعندهما يقضي بتطليقة واحدة لاتفاق الشاهدين عليها معنى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل هذه الشهادة لاختلافهما لفظا والمغايرة بين الكل والبعض على سبيل المضادة.
قال: وإن شهد أحدهما أنه قال لها أنت طالق وشهد الآخر أنه أقر أنه طلقها فالشهادة جائزة لأن الطلاق قول وصيغة الإقرار والإنشاء فيه واحدة فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار لا يكون اختلافا في المشهود به وكذلك إن اختلفا في المكان والزمان لأن القول مما يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الأول فباختلافهما في المكان والزمان لا يختلف المشهود به لفظا بخلاف الأفعال كالغصب والقتل.
قال: وإن شهد أحدهما أنه طلقها بمكة يوم النحر وشهد الآخر أنه طلقها في ذلك اليوم بالكوفة كانت شهادتهما باطلة لا لأن المشهود به مختلف ولكن لأنا تيقنا بكذب أحدهما فإن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة والكوفة وإذا كانت تهمة الكذب تمنع العمل بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى ولا يقال هذا يتحقق في كرامات الأولياء لأن مثل ذلك الولي لا يجحد ما أوقع من الطلاق حتى يحتاج إلى إثباته عليه بالبينة ولأنا نبني الأحكام على الظاهر.
قال: ولو شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام قدر ما يسير الراكب من الكوفة إلى مكة تقبل شهادتهما لأن تهمة الكذب هنا منتفية لظهور عدالتهما وإنما تعدد مكان ما شهدا به وباختلاف المكان لا يختلف المشهود به وهو الطلاق.
قال: ولو شهد شاهدان أنه طلق عمرة يوم النحر بالكوفة وشهد شاهدان أنه طلق زينب يوم النحر بمكة أو أعتق عبده فشهادتهم جميعا باطلة لأن القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف الصادق من الكاذب فتعذر عليه العمل بشهادتهما.(6/276)
قال: فإن جاءت إحدى البينتين قبل صاحبتها فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها لأن الأولى تأكدت بقضاء القاضي فتعين الكذب في الأخرى إذ لا يجوز نقض القضاء بالشك وهو نظير ما لو ادعى رجلان نكاح امرأة وأقام كل واحد منهما البينة واستويا لم يقض القاضي لواحد منهما ولو سبق أحدهما بإقامة البينة وقضى له ثم أقام الآخر البينة لم تقبل بينته لهذا المعنى.
قال: ولو قال لامرأتين له أيتكما أكلت هذا الطعام فهي طالق فجاءت كل واحدة منهما بالبينة أنها أكلته فشهادتهم جميعا باطلة لتيقننا بكذب أحد الفريقين فالشرط أكل جميع الطعام من واحدة ولا يتصور أن تأكل كل واحدة منهما جميع الطعام فإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها لأن بقضائه تعين معنى الصدق في شهادة الفريق الأول فيتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن كانتا أكلتاه لم تطلق واحدة منهما لأن الشرط أكل الواحدة جميع الطعام فإن كلمة أي تتناول كل واحدة من المخاطبتين على الانفراد وقد بينا هذا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب.(6/277)
ص -127- ... باب طلاق المريض
قال: رضي الله عنه وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا أو واحدة بائنة ثم مات وهي في العدة فلا ميراث لها منه في القياس وهو أحد أقاويل الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الاستحسان ترث منه وهو قولنا وقال بن أبي ليلى وإن مات بعد انقضاء عدتها ترث منه ما لم تتزوج بزوج آخر وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال مالك رحمه الله وإن مات بعد ما تزوجت بزوج آخر فلها الميراث منه وجه القياس أن سبب الإرث انتهاء النكاح بالموت ولم يوجد لارتفاعه بالتطليقات والحكم لا يثبت بدون السبب كما لو كان طلقها قبل الدخول ولأن الميراث يستحق بالنسب تارة وبالزوجية أخرى ولو انقطع النسب لا يبقى استحقاق الميراث به سواء كان في صحته أو في مرضه فكذلك إذا انقطعت الزوجية ولكنا استحسنا لاتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد روى إبراهيم رحمه الله تعالى قال جاء عروة البارقي إلى شريح من عند عمر رضي الله تعالى عنه بخمس خصال منهن إذا طلق المريض امرأته ثلاثا ورثته إذا مات وهي في العدة وعن الشعبي أن أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري كانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه ففارقها بعد ما حوصر فجاءت إلى علي رضي الله عنه بعد ما قتل وأخبرته بذلك فقال تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها وورثها منه وأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر آخر التطليقات الثلاث في مرضه فورثها عثمان رضي الله عنه وقال ما اتهمته ولكني أردت السنة وعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة الفار ترث ما دامت في العدة وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ترث ما لم تتزوج وقال بن سيرين كانوا يقولون من فر من كتاب الله تعالى رد إليه يعني هذا الحكم والقياس يترك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن قيل لا إجماع هنا فقد قال بن الزبير رضي الله عنه في حديث تماضر لو كان الأمر إلى لما ورثتها وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما طلقتها ضرارا ولا فرارا قلنا(6/278)
معنى قول بن الزبير رضي الله عنه ما ورثتها أي لجهلي بوجه الاستحسان فتبين أنه كان يخفى عليه ما لم يخف على عثمان رضي الله عنه وفي بعض الروايات أنها سألته الطلاق فمعنى قولها ما ورثها لأنها سألته الطلاق وبه نقول ولكن توريث عثمان رضي الله عنه إياها بعد سؤالها الطلاق دليل على أنه كان يورثها قبله وقد قيل ما سألته الطلاق ولكنه قال لها إذا طهرت فآذنيني فلما طهرت آذنته وبهذا لا يسقط ميراثها وبن عوف رضي الله عنه لم ينكر التوريث إنما نفى عن نفسه تهمة الفرار حتى روي أن عثمان رضي الله عنه عاده فقال لو مت ورثتها منك فقال أنا أعلم ذلك ما طلقتها ضرارا ولا فرارا والمعنى فيه أنه قصد إبطال حقها عن الميراث بقوله فيرد عليه قصده كما لو وهب جميع ماله من إنسان وإنما قلنا ذلك لأن بمرض الموت تعلق حق الورثة بماله ولهذا يمنع عن التبرع بما زاد على الثلث ثم استحقاق الميراث(6/279)
ص -128- ... بالسبب والمحل فإذا كان تصرفه في المحل يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما إبقاء لحق الوارث فتصرفه بالسبب بالرفع يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما بل أولى لأن الحكم يضاف إلى السبب دون المحل وإذا صار كالمضاف كان النكاح بينهما قائما عند الموت حكما ولهذا قال بن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه أن عدتها في حق الميراث لا تنقضي حتى أن لها الميراث ما لم تتزوج فإذا تزوجت فهي التي رضيت بسقوط حقها ولها ذلك كما لو سألته الطلاق في الابتداء ولكنا نقول لما انقضت عدتها حل لها أن تتزوج وذلك دليل حكمي مناف للنكاح الأول فلا يبقى معه النكاح حكما كما لو تزوجت وهو نظير وجوب الصلاة على التي انقطع دمها فيما دون العشرة بمضي الوقت يجعل كأداء الصلاة في الحكم بانقضاء العدة وما قاله مالك من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد لأن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح وما قاله يؤدي إلى هذا ثم بعد انقضاء العدة يكون مسقطا حقها بعوض فإنها تقدر على أن تتزوج بزوج آخر فتستحق ميراثه وذلك صحيح من المريض كما لو باع ماله بمثل قيمته فأما قبل انقضاء العدة يكون هذا إبطالا لحقها بغير عوض لأنها لا تقدر على التزوج وهذا بخلاف النسب فإنه لا ينقطع بمجرد قوله إنما ينقطع بقضاء القاضي باللعان وذلك أمر حكمي ثم النسب بعد ثبوته لا ينقطع ولكن يتبين بنفيه أنه لم يكن ثابتا في ولد أم الولد فيتبين أنه لم يكن له حق في ماله ولكن الكلام من حيث المعنى ليس بقوي فإن بعد ثبوت حرمة المحل إما بالطلقات الثلاث أو بالمصاهرة يتعذر إبقاء النكاح حكما ولكن يجعل بقاء العدة التي هي حق من حقوق النكاح كبقاء النكاح في حكم التوريث باتفاق الصحابة رضوان الله عليهم ولهذا لو كان الطلاق قبل الدخول لا ترث لأنه لا عدة عليها ولكن هذا في إبقاء ما كان ثابتا لا في إثبات ما لم يكن ثابتا حتى لو كان صحيحا حين طلقها لم ترث منه وإنما أقمنا العدة مقام النكاح لدفع(6/280)
الضرر عنها فإذا كان الطلاق بسؤالها فقد رضيت هي بسقوط حقها فلا ميراث لها منه وإن مات وهي في العدة.
قال: وإن كانت المرأة أمة أو كتابية حين أبانها في مرضه ثم أعتقت الأمة وأسلمت الكتابية فلا ميراث لها منه وإن مات وهي في العدة لأنه لم يكن فارا من ميراثها يوم طلق إذ لم يتعلق حقها بماله في المرض فلو ورثت كان فيه إقامة العدة مقام النكاح في ابتداء الاستحقاق بعد العتق والإسلام وذلك غير ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم فلا يمكن إثباته بالرأي.
قال: ولو طلق المريض امرأته تطليقة رجعية ثم مات بعد انقضاء العدة فلا ميراث لها منه لانعدام السبب عند الموت حقيقة وحكما وأيهما مات قبل انقضاء العدة ورثه الآخر لانتهاء النكاح بينهما بالموت وإذا طلقها في مرضه تطليقة بائنة ثم صح من مرضه ثم مات من غير ذلك المرض وهي في العدة فلا ميراث لها منه عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى:(6/281)
ص -129- ... ترث منه لأنه صار متهما بالفرار حين طلقها في مرضه ولأن حقها كان متعلقا بماله عند الطلاق وعند الموت فلا يعتبر ما تخلى بينهما فكأنه لم يصح حتى مات في مرضه ولكنا نقول حقها إنما يتعلق بماله بمرض الموت ومرض الموت ما يتصل به الموت ولم يوجد ذلك وكل مرض يعقبه برء فهو بمنزلة حالة الصحة فكأنه طلقها وهو صحيح ثم مرض ومات وإن كانت المرأة هي التي ماتت في جميع هذه الوجوه لم يرثها الزوج لأنه رفع السبب باختياره ولم يكن له حق في مالها في حال قيام الزوجية ليبقى ذلك ببقاء العدة ثم جمع بين فصول أربعة أحدها أن يعلق طلاقها بفعل نفسه والثاني أن يعلق بفعل أجنبي والثالث بمجيء الوقت والرابع بفعلها وكل فصل من ذلك على وجهين إما أن يكون التعليق والوقوع في المرض أو التعليق في الصحة والوقوع في المرض أما الفصل الأول وهو ما إذا علق بفعل نفسه وقال إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم دخل الدار فلها الميراث إذا مات وهي في العدة أما إذا كان التعليق والوقوع في المرض فلأنه متهم بالفرار والقصد إلى إبطال حقها عن ماله وإن كان التعليق في الصحة والوقوع في المرض فكذلك لأنه لما أقدم على الشرط في المرض مع علمه أن التطليقات عنده تقع فقد صار قاصدا إلى إبطال حقها فيجعل ذلك كتنجيز الطلاق في هذه الحالة ويستوي إن كان الشرط فعلا له منه بد أو لا بد له منه كالأكل والشرب والصلاة لأنه إن لم يكن له من الفعل بد فقد كان له من التعليق ألف بد فأما إذا علق بفعل أجنبي فإن كان التعليق في المرض فلها الميراث لأنه قاصد إبطال حقها عن ماله فهذا والتنجيز في حقه سواء وإن كان التعليق في الصحة ففعل ذلك الفعل الأجنبي في مرضه فلا ميراث لها منه إلا على قول زفر رحمه الله تعالى فإنه يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز من المعلق فيصير عند فعل الأجنبي كأن الزوج طلقها ثلاثا وهو مريض ولكنا نقول لم يوجد من الزوج قصد الفرار لأنه حين علق لم يكن(6/282)
لها حق في ماله ولم يوجد من جهته صنع بعد ذلك في وجود الشرط ولا كان متمكنا من المنع لأنه ما كان يقدر على إبطال التعليق ولا على منع الأجنبي من إيجاد الشرط فأما إذا كان التعليق بمضي الوقت بأن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق فإن كان التعليق في المرض فلها الميراث منه لوجود قصده إلى إبطال حقها بعد ما تعلق بماله وإن كان التعليق في الصحة ثم جاء رأس الشهر وهو مريض لم ترثه عندنا لما بينا وقال زفر رحمه الله تعالى ترثه وهذا والأول سواء وكذلك لو قال أنت طالق ثلاثا غدا ثم مرض قبل مجيء الغد فأما إذا علق بفعلها فإن كان التعليق في المرض والفعل فعل لها منه بد كدخول الدار وكلام أجنبي ففعلت فلا ميراث لها لأنها لما أقدمت على إيجاد الشرط مع استغنائها عنه فقد صارت راضية بسقوط حقها عن ماله فيكون هذا بمنزلة ما لو سألته الطلاق وإن كان الفعل فعلا لا بد لها منه كالأكل والشرب والصلاة المكتوبة وكلام الأبوين أو أحد من ذوي الرحم المحرم منها فلها الميراث إذا مات وهي(6/283)
ص -130- ... في العدة لأنها مضطرة إلى ايجاد هذا الشرط فلا تصير بالإقدام عليه راضية بسقوط حقها من ماله وتقاضي دينها من الفعل الذي لا بد لها منه إذا كانت تخاف فوت حقها بترك التقاضي فأما إذا كان التعليق في الصحة ففعلت في المرض فإن كان لها من الفعل بد فلا اشكال أنها لا ترث وإن لم يكن لها من الفعل بد فلها الميراث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولا ميراث لها في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه حين علق الزوج الطلاق لم يكن لها في ماله حق فلا يتهم بقصده الفرار ولم يوجد بعد ذلك منه صنع وأكثر ما في الباب أن ينعدم رضاها أو فعلها باعتبار أنها لا تجد منه بدا فيكون هذا كالتعليق بفعل أجنبي أو بمجيء رأس الشهر وقد بينا أن هناك لا ترث إذا كان التعليق في الصحة فكذلك هنا وهما يقولان هي مضطرة إلى الاقدام على هذا الفعل فإنها إن لم تقدم تخاف على نفسها أو تخاف العقوبة وإن أقدمت سقط حقها فكانت مضطرة ملجأة وهو الذي ألجأها إلى ذلك والأصل أن الملجأ يصير آلة للملجى ء والفعل في الحكم كالموجود من الملجى ء كالمكره على اتلاف المال فبهذا المعنى تصير كان الفعل وجد من الزوج حكما فلها الميراث.
قال: وإذا بانت بالإيلاء في مرضه فإن كان الإيلاء منه في مرضه فلها الميراث إذا مات وهي في العدة وإن كان أصل الإيلاء في صحته فلا ميراث لها لأن المولى في المعنى يصير كأنه قال إن مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق تطليقة بائنة وقد بينا في التعليق بمجيء الوقت أنه إن كان التعليق في المرض فلها الميراث وإن كان التعليق في الصحة فلا ميراث لها فكذلك في الإيلاء ولو قال المريض لامرأته إن شئت فأنت طالق ثلاثا فشاءت أو خيرها فاختارت نفسها لم ترث منه لأنها رضيت بسقوط حقها فكأنها سألته الطلاق أو اختلعت منه.(6/284)
قال: ولو قال لها وهو مريض إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا فجاء رأس الشهر وهو صحيح فلا ميراث لها وكذلك لو آلى منها وهو مريض وتمت المدة وهو صحيح لأنه حين وقعت الفرقة بينهما لم يكن لها حق في ماله فكأنه نجز طلاقها في هذه الحالة ولو قال لها وهو صحيح إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا ثم مرض ومات ورثته لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولما جعل الشرط مرضه مع علمه أن بمرضه يتعلق حقها بماله فقد قصد الفرار وكان أبو القاسم الصفار يقول لا ترثه لأن الطلاق يقع عليها عند ابتداء مرضه وعند ذلك هو لا يكون صاحب فراش والمريض الذي يتعلق حق الوارث بماله ما يضنيه ويجعله صاحب فراش وإن قال في مرضه قد كنت طلقتك ثلاثا في صحتي وقع الطلاق عليها ساعة أقر ولها الميراث منه لأنه متهم بالفرار بهذا الإقرار كما يكون متهما بإنشاء الطلاق وهذا لأنه في الإسناد إلى حالة الصحة متهم في حقها لأنه لو أنشأ الطلاق في هذه الحالة لم يسقط ميراثها فلهذا لا يقبل قوله في الإسناد في حقها.
قال: وإن أقر في مرضه أنه قد جامع أم امرأته في الصحة أو أن بينهما رضاعا أو أنه(6/285)
ص -131- ... تزوجها بغير شهود أو في عدة من زوج كان لها قبله لم يصدق في إبطال ميراثها لكونه متهما في ذلك ويجعل هذا كإنشاء سبب الفرقة منه.
قال: وإذا قال لامرأته في مرضه إذا صححت فأنت طالق ثم صح من مرضه وقع الطلاق عليها لوجود الشرط ولا ميراث لها أن مرض بعد ذلك ومات لأنه حين وقع الطلاق عليها لم يكن لها حق في ماله فلا يكون هو قاصدا الفرار.
قال: ولو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا قبل أن أقتل أو قبل أن أموت من مرض كذا وكذا بشهر فمات مما قال أو من غيره قبل مضي شهر أو بعده لم تطلق لأن ما عرف الوقت به ليس بكائن لا محالة فصار في معنى الشرط بمنزلة قدوم فلان على ما تقدم ولو وقع الطلاق لوقع بعده ولا نكاح بينهما بعد ما قتل فلهذا لا تطلق ولها الميراث فإن قال أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ونصف أو بأقل من شهرين فمات بعد مضي ذلك الوقت الذي قاله فجأة أو مرض ثم مات وقع الطلاق عليها عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى قبل موته كما قال ولها الميراث وعندهما لا تطلق لما بينا أن عندهما الموت يصير في معنى الشرط وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو معرف للوقت فإنما يقع الطلاق من أوله ولكن عدتها لا تنقضي بما دون الشهرين فكان لها الميراث ويصير الزوج فارا لأن الطلاق لا يقع ما لم يشرف على الموت ويتعلق حقها بماله وإن كان قال قبل موتي بشهرين أو بأكثر من ذلك ثم مات قبل مضي الشهرين لم يقع الطلاق ولها الميراث لأن الوقت الذي أضاف إليه الطلاق يوجد بعد كلامه وإن عاش مثل ما سمى أو أكثر ثم مات وقع عليها الطلاق قبل موته بما سمى ولا ميراث لها منه لأن العدة قد تنقضي في شهرين بثلاث حيض وكذلك لو كان وقت وقوع الطلاق مريضا إذا كان الكلام في الصحة وإن كانت صغيرة أو آيسة فعدتها ثلاثة أشهر ولها الميراث إلا أن يسمى من الوقت ثلاثة أشهر أو أكثر وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما لا يقع الطلاق في شيء من ذلك وإن وقت سنة ولها(6/286)
الميراث لأن عندهما الموت في معنى الشرط فلو وقع الطلاق لوقع بعده.
قال: وإذا قال لها وهو صحيح أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر ثم مات فجأة بغير مرض فلها الميراث لأنه ذكر الموت فيما وقع عليها من الطلاق فيصير به فارا من ميراثها وإن استند الوقوع إلى حالة الصحة إذا مات قبل انقضاء العدة.
قال: وإذا طلق المريض امرأته واحدة بائنة ثم تزوجها في عدتها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فعليها عدة مستقبلة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى باعتبار أن الدخول السابق على العقد الثاني يجعل كالموجود بعده وقد بينا هذا في كتاب النكاح فلها المهر كاملا والميراث وله عليها الرجعة ما دامت في العدة وكذلك لو كان الطلاق الأول في الصحة وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد رحمه الله تعالى لا رجعة له عليها ولها(6/287)
ص -132- ... نصف المهر وتتم بقية عدتها من الطلاق الأول لأن الطلاق في النكاح الثاني حصل قبل الدخول ولم يبين حكم الميراث ولا ميراث لها منه عند محمد رحمه الله تعالى لأنه لم يلزمها العدة بالطلاق الثاني لأنه طلاق قبل الدخول وحكم الفرار لا يثبت بالطلاق قبل الدخول.
قال: وإذا اختلعت نفسها من زوجها في مرضه أو جعل أمرها بيدها فطلقت نفسها فلا ميراث لها منه لأن وقوع الفرقة بفعلها إما بقبولها البدل أو بإيقاعها الطلاق على نفسها وهذا أبين في إسقاط حقها من سؤال الطلاق.
قال: وإذا قال المريض لامرأته وهي أمة أنت طالق غدا ثلاثا وقال المولى لها أنت حرة غدا فجاء الغد وقع الطلاق والعتاق معا ولا ميراث لها منه لأن الزوج حين تكلم بالطلاق لم يقصد الفرار إذ لم يكن لها حق في ماله يومئذ ولأن الطلاق والعتاق يقعان معا لأن كل واحد منهما مضاف إلى الغد ثم العتق يصادفها وهي رقيقة فكذلك الطلاق يصادفها وهي رقيقة فلا ميراث لها وكذلك لو كان المولى تكلم بالعتق قبل كلام الزوج لأن العتق لم يلزمه بقول المولى ألا ترى أنه يمكنه أن يبيعها ولا تعتق غدا فلا يصير الزوج فارا ولأن الوقوع يصادفها وهي رقيقة فلو ثبت حقها في ماله إنما يثبت بعد العتق ولا نكاح بينهما بعد العتق.
قال: وإذا قال إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا كان فارا لأن الطلاق هنا إنما يقع بعد العتق وبعد ما يتعلق حقها بماله فقد قصد إسقاط حقها فيرد عليه قصده.(6/288)
قال: وإن قال لها المولى أنت حرة غدا وقال الزوج أنت طالق ثلاثا بعد الغد فإن كان يعلم بمقالة المولى فهو فار وإن لم يعلم بذلك فليس بفار لأنه لا حق لها في ماله حين علق الزوج لكونها رقيقة ولكنه إذا أضاف إلى وقت يعلم أنها تكون حرة في ذلك الوقت وإن حقها يكون متعلقا بماله فقد قصد ابطال حقها وإن لم يعلم بذلك لم يكن قاصدا إسقاط حقها فلهذا لا ترثه وإن أعتقها المولى ثم طلقها الزوج ثلاثا وهو لا يعلم بالعتق فلها الميراث منه لأنها حين عتقت والزوج مريض فقد تعلق حقها في ماله فلو سقط إنما يسقط بإيقاعه الثلاث وذلك غير مسقط لميراثها ما دامت في العدة وجهل الزوج بالعتق لا يكون معتبرا في إسقاط حقها وهذا بخلاف ما سبق من قول الزوج لها أنت طالق ثلاثا بعد غد لأن هناك لا حق لها في ماله حين تكلم الزوج بالطلاق ألا ترى أنه لو نجز طلاقها في ذلك الوقت لم ترث فلم يكن الزوج مسقطا حقا ثابتا لها ولكن إذا كان عالما بمقالة المولى فقد أضاف الطلاق إلى وقت يعلم حريتها فيه فكان ذلك قصدا منه الإضرار بها فيرد عليه قصده وإن لم يكن عالما بمقالة المولى فلم يوجد منه القصد إلى اضرارها فلا يكون فارا لهذا.
قال: وإذا كانت المرأة حرة كتابية فقال لها أنت طالق ثلاثا غدا ثم أسلمت قبل الغد أو بعده فلا ميراث لها منه لأنه حين تكلم الزوج بالطلاق لم يكن لها حق في ماله حتى لو(6/289)
ص -133- ... نجز الثلاث لم ترث ولم يقصد الإضرار بها بإضافة الطلاق إلى الغد لأنه ما كان يعلم أنها تسلم قبل مجيء الغد فلم يكن فارا.
قال: وإذا قال لها إذا أسلمت فأنت طالق ثلاثا كان فارا لأنه قصد الإضرار بها حين أضاف الطلاق إلى وقت تعلق حقها بماله وهو ما بعد الإسلام وهذا نظير ما سبق إذا قال الصحيح لامرأته إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثم مرض قبل مجيء رأس الشهر لم يكن فارا ولو قال إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا كان فارا وإن أسلمت فطلقها ثلاثا وهو لا يعلم بإسلامها فلها الميراث منه لأن إيقاع الثلاث كان بعد تعلق حقها بماله وجهل الزوج غير معتبر في إسقاط حقها بعد ما تعلق بماله.
قال: وإذا أسلمت امرأة الكافر ثم طلقها ثلاثا وهو مريض ثم أسلم ومات وهي في العدة فلا ميراث لها منه لأنه حين أوقع الثلاث قبل إسلامه فهو غير فار إذ لم يكن لها ميراث منه فإن اختلاف الدين يمنع توريث المسلم من الكافر بخلاف ما لو كان أسلم قبل الطلاق وهو يعلم بإسلامها أو لا يعلم فإن هناك إنما أوقع الطلاق بعد ما تعلق حقها بماله وكذلك العبد إذا طلق امرأته في مرضه ثم عتق وأصاب مالا فلا ميراث لها لأنه لم يكن فارا حين طلق لأنه ما كان يعلم أنه يعتق وإذا قال إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا فهو فار لأنه بالإضافة إلى ما بعد عتقه قاصد الإضرار بها.(6/290)
قال: ولو كانت امرأته أمة فقال لها في مرضه إذا عتقت أنا وأنت فأنت طالق ثلاثا ثم أعتقا جميعا فلها الميراث لإضافته الطلاق إلا ما بعد تعلق حقها بماله ولو قال أنت طالق غدا ثلاثا ثم أعتقا اليوم لم يكن لها ميراث لأنه حين تكلم بالطلاق لم يكن لها حق في ميراثه وما كان يدري أنهما يعتقان قبل مجيء الغد فلا يكون بهذه الإضافة قاصدا الإضرار وكذلك لو قال لها المولى أنتما حران غدا وقال الزوج أنت طالق ثلاثا غدا لم يكن بينهما ميراث لأن وقوع الثلاث بهذا اللفظ قبل أن يثبت حكم التوريث بينهما فإن حكم التوريث بعد العتق والطلاق يقترن بالعتق قبل مجيء الغد.
قال: وإن قال لها أنت طالق ثلاثا بعد الغد في القياس لا ميراث لها منه لأنه حين تكلم بالطلاق لم يكن لها حق في ماله ألا ترى أنه لو نجز لم يكن بينهما توارث ولأنه لا يتيقن بعتقهما بعد الغد لجواز أن يبيعهما قبل مجيء الغد ولكنه استحسن فقال إذا كان يعلم بمقالة المولى فلها الميراث وإن لم يعلم فلا ميراث لها منه لأن الظاهر بعد مقالة المولى أنهما يعتقان بمجيء الغد فإن الأصل بقاؤهما في ملكه والبناء على الظاهر واجب حتى يظهر خلافه فهو بإضافة الثلاث إلى ما بعد الغد بعد العلم بمقالة المولى يكون قاصدا الإضرار بها فيكون فارا وإذا لم يكن عالما بمقالة المولى لم يكن قاصدا الإضرار بها.
قال: وإن قال زوج أم الولد أو المرتدة وهو حر مريض أنت طالق ثلاثا إذا مضى(6/291)
ص -134- ... شهر ثم مات المولى قبل ذلك فعتقت ثم وقع الطلاق عليها لم يكن لها ميراث منه لأنه بهذه الإضافة لم يقصد الإضرار لأنه ما كان يعلم أن المولى يموت قبل مضي الشهر بخلاف ما لو قال إذا مات مولاك فعتقت فأنت طالق ثلاثا لأن هناك يتحقق أن قصده الإضرار بها.
قال: وإذا طلق المكاتب في مرضه امرأته الحرة ثلاثا ثم مات وهي في العدة وترك وفاء فأديت كتابته أو أعتق قبل أن يموت فلا ميراث لها منه لأنه حين أوقع الثلاث لم يكن لها حق في كسبه فإن المكاتب عبد وما كان يدري أنه يعتق قبل موته أو يترك وفاء فلم يكن فارا وإن كان مكاتبين كتابة واحدة إن أديا عتقا وإن عجزا ردا رقيقين فطلقها في مرضه ثلاثا ثم مات وترك وفاء فلا ميراث لها منه لأنه لم يكن لها في ماله حق حين طلقها ثلاثا وعليها العدة حيضتان لأن الطلاق وقع عليها وهي أمة ويرجعون عليها بما أدى من تركة المكاتب عنها كما لو كان أدى بنفسه في حياته.
قال: وإذا خرجت الأمة إلينا مسلمة ثم خرج زوجها بعدها مسلما وهو مريض فطلقها أو لم يطلقها ثم مات فلا ميراث لها منه لأن العصمة قد انقطعت بينهما بتباين الدارين ولا توارث بينهما يومئذ ثم لا يقع طلاقه عليها بعد ذلك وقد بينا هذا.(6/292)
قال: وإذا ارتد المسلم نعوذ بالله ثم قتل أو مات أو لحق بدار الحرب وله امرأة مسلمة لم تنقض عدتها بعد فلها الميراث منه من يوم ارتد لأنه بالردة قد أشرف على الهلاك والتوريث يستند إلى ذلك الوقت فلا يعتبر فعله في إسقاط حقها عن ميراثه ولأن الردة من الرجل كالموت لأنه يستحق قتله بها والنكاح كان قائما بينهما يومئذ فكان لها الميراث وعدتها ثلاث حيض لأنه حي حقيقة بعد الردة ما لم يقتل والفرقة متى وقعت في حالة الحياة فإنها تعتد بالحيض فإن حاضت قبل ذلك ثلاث حيض أو لم يكن دخل بها فلا ميراث لها منه لأن حكم التوريث إنما يتقرر بالموت وإن كان يستند إلى أول الردة لأنه بعد الردة حي حقيقة وإنما يرث الحي من الميت لا من الحي فلهذا يعتبر بقاء الوارث وقت موته حتى لو مات ولده قبل موته لم يرثه فكذلك يعتبر قيام عدتها وقت موته فإذا انعدم لم يكن لها ميراث.
قال: وإن كانت المرأة هي التي ارتدت ثم ماتت وهي في العدة فلا ميراث للزوج منها لأنه لا تأثير لردتها في زوال ملكها ولهذا نفذ تصرفها في مالها بعد الردة وهذا لأن نفسها لم تصر مستحقة بسبب الردة بخلاف الرجل فإذن قد وقعت الفرقة بردتها ولا حق له في مالها.
قال: وإذا ارتدت وهي مريضة ثم ماتت أو لحقت بدار الحرب وهي في العدة في القياس لا ميراث للزوج منها وهي رواية عن أبي يوسف رضي الله تعالى عنه لأنه لا عدة في جانب الزوج وتوريث الباقي من الميت بشرط بقاء العدة ألا ترى أنه لو طلقها قبل الدخول في مرضه لم يكن لها الميراث لأنها ليست في عدته ولكنه استحسن فقال له الميراث لأن حقه قد تعلق بمالها بمرضها فكانت بالردة قاصدة إبطال حقه فارة عن ميراثه فيرد عليها قصدها كما في جانب الزوج بخلاف ما(6/293)
ص -135- ... إذا كانت صحيحة حين ارتدت وإنما يعتبر قيام العدة وقت الموت وهي كانت في عدته يوم ماتت ولو كانت في نكاحه يوم ماتت كان له الميراث فكذلك إذا كانت في عدته.
قال: وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ثم ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله ثم أسلمت ومات وهي في العدة فلا ميراث لها لأنها بالردة صارت مبطلة حقها لأنها تخرج بها من أن تكون أهلا للميراث فلا يعود حقها بالإسلام بعد ذلك لأنه في معنى ابتداء ثبوت الحق وليس بينهما نكاح قائم في هذه الحالة بخلاف ما لو طاوعت بن زوجها في العدة فجامعها فإنه لا يبطل ميراثها لأنها بهذه الطواعية لم تبطل حقها فإنه ليس لفعلها تأثير في الفرقة لأن الفرقة قد وقعت بإيقاع الثلاث ولم تخرج بهذا الفعل من أن تكون أهلا للإرث فبقاء ميراثها ببقاء العدة ولا تأثير لهذا الفعل في إسقاط العدة وهذا بخلاف ما لو طاوعت بن زوجها قبل أن يطلقها الزوج لأن الفرقة هناك وقعت بفعلها وذلك مسقط لميراثها ولأن تعلق حقها بماله يومئذ كان بسبب النكاح وفعلها مؤثر في رفع النكاح فلهذا سقط به ميراثها وكذلك إن أكرهها الابن على ذلك وغلب على نفسها فلا ميراث لها لأن الفعل ينعدم من جانبها بهذا السبب وإنما تقع الفرقة حكما لثبوت الحرمة من غير أن يصير مضافا إلى الزوج فلا ميراث لها منه لأن بقاء الميراث بعد الفرقة بسبب الفرار وذلك عند إضافة الفعل إلى الزوج فإن كان الزوج أمر ابنه بذلك كان لها الميراث لأنه قاصد إلى إبطال حقها حين أمر ابنه أن يكرهها على ذلك الفعل فكان فارا وإن كان الزوج هو المرتد بعد ما طلقها ثلاثا لم يبطل ميراثها لأنه لم يوجد منها ما يسقط حقها وإنما تكرر سبب الفرار من الزوج وبهذا يتقرر حقها فلا يسقط.
قال: وإذا أسلم أحد الزوجين وأبى الآخر أن يسلم ففرق بينهما في مرض الزوج ثم مات لم ترثه لأنه لو لم يفرق بينهما حتى مات لم ترثه لاختلاف الدين إذ لا توارث بين المسلم والكافر فبعد التفريق أولى.(6/294)
قال: وإذا قذف المريض امرأته ولاعنها وفرق بينهما ثم مات فلها الميراث منه لأن سبب الفرقة من الزوج وهو قذفه إياها بعد تعلق حقها بماله وهي لا تجد بدا من الخصومة لدفع عار الزنى عن نفسها فلا تصير بذلك راضية بسقوط حقها بمنزلة ما لو علق الطلاق بفعلها في مرضه ولا بد لها من ذلك الفعل.
قال: ولو كان قذفها في صحته ثم مرض فلاعنها ثم فرق بينهما فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لها الميراث أيضا وعند محمد رحمه الله لا ميراث لها منه وهو نظير ما سبق إذا علق الطلاق في صحته بفعل لا بد لها منه ففعلت ذلك الفعل في مرضه.
قال: وإذا فرق بين العنين وامرأته في مرضه ثم مات وهي في العدة فلا ميراث لها منه لأنها صارت راضية بسقوط حقها حين اختارت الفرقة وكانت تجد بدا من هذا الاختيار بأن(6/295)
ص -136- ... تصبر حتى يموت الزوج فتتخلص منه وكذلك المعتقة إذا اختارت الفرقة وهذا أولى لأن الفرقة هنا إنما تقع بمجرد اختيارها نفسها وهي غير مضطرة إلى ذلك.
قال: وإذا ارتد الزوجان معا والعياذ بالله ثم أسلم أحدهما ومات الآخر فلا ميراث للباقي منه لأنه مرتد والمرتد لا يرث أحدا فإن أسلما معا ثم مات أحدهما كان للآخر الميراث لأن وقوع الفرقة بينهما بالموت وإن أسلمت المرأة ثم مات الزوج مرتدا ورثته لأن إصراره على الردة بعد إسلامها كإنشاء الردة حتى تجعل هذه الفرقة مضافة إلى فعل الزوج فكان لها الميراث إذا مات الزوج وهي في العدة فإن طلقها ثلاثا وهما مرتدان وهو مريض ثم أسلما فلا ميراث لها منه لأنه حين طلقها لم يكن حقها متعلقا بماله لردتها فلا يصير هو فارا فلو ثبت حقها إنما يثبت بعد إسلامها ابتداء ولا نكاح بينهما بعد إسلامهما.(6/296)
قال: وإذا قال المريض لامرأته قد طلقتك ثلاثا في صحتي وانقضت عدتك وصدقته بذلك فلا ميراث لها لأن ما تصادقا عليه كالمعاين أو كالثابت بالبينة في حقهما ولأن الحق في الميراث لها وقد أقرت بما يسقط حقها فإن أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية فهو جائز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى كما يجوز لأجنبية أخرى الإقرار من جميع المال والوصية من الثلث وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لها الأقل من ميراثها ومما أقر أو أوصى به هما يقولان قد صارت أجنبية منه حتى أنها لا ترثه ولها أن تتزوج في الحال فإقراره لها كإقراره لأجنبية أخرى ولو اعتبرت التهمة لاعتبرت في حق التزويج لأن الحل والحرمة يؤخذ فيهما بالإحتياط فإذا كان يجوز له أن يتزوج بأختها وأربع سواها ويجوز لها أن تتزوج بزوج آخر عرفنا أنه لا تهمة ولأن المانع من صحة الإقرار والوصية لها كونها وارثة له وذلك ينعدم بالحكم بانقضاء عدتها بيقين وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول لما مرض والنكاح قائم بينهما في الظاهر فقد صار ممنوعا عن الإقرار والوصية لها فيحتمل أنه واضعها على أن تقر بالطلاق في صحته وبانقضاء عدتها وتصدقه على ذلك لتصحيح إقراره ووصيته لها ولكن هذه التهمة في الزيادة على قدر الميراث فأما في مقدار الميراث لا تهمة فلهذا جعلنا لها الأقل وأبطلنا الزيادة على ذلك للتهمة كما لو سألته في مرضه أن يطلقها ثلاثا ففعل ثم أقر لها بدين أو أوصى لها بوصية لا تصح إلا في الأقل لتمكن تهمة المواضعة في الزيادة على ذلك وهذه التهمة فيما بينهما وبين سائر الورثة لا في حق الشرع وحل التزوج حق الشرع فلهذا صدقا على ذلك.(6/297)
قال: وإذا مات الرجل وقالت امرأته قد كان طلقني ثلاثا في مرضه ومات وأنا في العدة وقال الورثة بل طلقك في صحته فالقول قول المرأة لأن الورثة يدعون عليها سبب الحرمان وهي جاحدة لذلك فإن الطلاق في مرضه لا يحرمها فلا تكون هي مقرة بالحرمان كما لو قالت طلقني في حالة نومه ولأن الورثة يدعون الطلاق بتاريخ سابق وهي تنكر ذلك التاريخ ولو أنكرت أصل الطلاق كان القول قولها فكذا إذا أنكرت التاريخ.(6/298)
ص -137- ... قال: ولو كانت أمة فقالت أعتقت قبل موت زوجي وصدقها المولى وقالت الورثة أعتقت بعد موته فالقول قول الورثة لأن سبب الحرمان وهو الرق كان ظاهرا فيها فإذا ادعت زواله قبل الموت وأنكره الورثة كان القول قول الورثة ولأنها تدعي تاريخا سابقا لعتقها فلا تصدق إلا بحجة ولا معتبر بتصديق المولى لأنه للحال لا يملك اسناد عتقها إلى حال حياة الزوج فلا يعتبر قوله في ذلك وكذلك إن كانت كافرة وادعت الإسلام قبل موت الزوج لم يقبل قولها إلا بحجة لأنها تدعي زوال سبب الحرمان بعد ما عرف ثبوته وإن لم يعرف كفرها ولا رقها فادعت الورثة أنها كافرة أو رقيقة يوم موته وقالت ما زلت على حالتي هذه حرة مسلمة فالقول قولها لأن سبب الميراث وهو النكاح ظاهر والورثة يدعون عليها سبب الحرمان وهي تنكر ولأن من في دار الإسلام فالظاهر أنه حر مسلم ولا يقال هذا إثبات الاستحقاق بالظاهر لأن الاستحقاق بالنكاح معلوم وإنما هذا دفع المانع بالظاهر.
قال: وإذا مات الزوج كافرا فجاءت المرأة مسلمة تدعي ميراثها فقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة لأنها جاءت تدعي الميراث وما يحرمها قائم فيها لأنها مسلمة والمسلمة لا ترث الكافر فمع ظهور سبب الحرمان لا ميراث لها إلا أن يثبت سبب الاستحقاق بالبينة ولأن الأصل أن الاشتباه إذا وقع فيما سبق يحكم الحال كما إذا اختلف صاحب الرحا مع المستأجر في جريان الماء في المدة فإن كان الماء جاريا في الحال يجعل جاريا فيما مضى فإذا كانت هي مسلمة في الحال تجعل مسلمة فيما مضى أيضا والمسلمة لا ترث الكافر.(6/299)
قال: وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ثم قال بعد شهرين قد أخبرتني أن عدتها قد انقضت وكذبته ثم تزوج أختها أو أربعا سواها ثم مات فالقول قولها والميراث لها دون الأربع والأخت لأن الميراث من حقها وهو لا يصدق في إبطال حقها كما في نفقتها وسكناها ومن ضرورة بقاء الميراث لها بالنكاح أن لا ترث أختها أو أربع سواها بهذا السبب وقد بينا في كتاب النكاح اختلاف الروايتين في هذه المسألة.
قال: وإذا تزوج ثلاثا سواها إحداهن أختها فلا ميراث لأختها وللاثنتين معها الميراث لأن إخباره غير معتبر في ميراثها ولو لم يخبر حتى تزوج اثنتين كانتا وارثتين معها بخلاف أختها وإذا طلقها ثلاثا في مرضه ثم مات بعد تطاول ذلك وهي تقول لم تنقض عدتي فالقول قولها ولها الميراث لأنها أمينة ومدة العدة قد تطول وتقصر ولكن عليها اليمين بالله ما انقضت عدتها إذا طلبت الورثة لأنهم يدعون عليها ما لو أقرت به لزمها فإذا أنكرت حلفت على ذلك ولو أقام عليها الورثة البينة بإقرارها بانقضاء العدة قبل موته فلا ميراث لها لأن الثابت بإقرارها كالثابت بالمعاينة وإن كانت تزوجت قبل موته في قدر ما تنقضي في مثله العدة ثم قالت لم تنقض عدتي من الأول لم تصدق على ذلك لأن تزويجها نفسها إقرار منها بانقضاء عدتها دلالة فإن المسلمة تباشر العقد الصحيح دون الباطل ولو لم تتزوج وقالت قد أيست من(6/300)
ص -138- ... الحيض ثم اعتدت بثلاثة أشهر ثم مات الزوج وحرمت الميراث ثم ولدت بعد ذلك من زوج غيره فنكاح الآخر فاسد ولها الميراث من الأول لأنا تيقنا بكذبها فإن الآيسة لا تلد فتبين أنها كانت ممتدا طهرها لا آيسة وإنما تزوجت في العدة فالنكاح فاسد ولها الميراث من الأول لأنه مات وهي في العدة وكذلك إن حاضت لأن الآيسة لا تحيض إلا أنها إن ادعت الحيض لم تصدق على زوجها الآخر إلا أن يصدقها لأن النكاح بينهما صحيح في الظاهر فلا تصدق في دعواها البطلان وإن صدقها فرق بينهما ولم يصدقا على ورثة الأول ما لم يقروا بذلك لأنها تستحق الميراث عليهم فلا بد من تصديقهم إياها بما تقول.
قال: وإذا كانت المطلقة في المرض مستحاضة وكان حيضها مختلفا فقد بينا فيما سبق أنها تأخذ بالاحتياط ففي الصلاة والرجعة تأخذ بالأقل وفي الحل للأزواج تأخذ بالأكثر وفي الميراث تأخذ بالأقل لأن المال بالشك لا يستوجب وبقاء العدة عند موت الزوج شرط لميراثها فما لم يتيقن بهذا الشرط لم ترث وإن كان حيضها معلوما وانقطع الدم عنها في آخر الحيضة الثالثة ثم مات الزوج فإن كانت أيامها عشرة فلا ميراث لها لأنا تيقنا بانقضاء عدتها قبل موته وإن كانت أيامها دون العشرة فإن مات قبل أن تغتسل أو قبل أن يذهب وقت الصلاة فلها الميراث لأن عدتها باقية ما لم تغتسل وكذلك إن اغتسلت وبقي عضو لأن عدتها لا تنقضي مع بقاء عضو لم يصبه الماء وقد بينا هذا في باب الرجعة.(6/301)
قال: وإذا بقي الزوج في مرضه بعد ما طلقها أكثر من سنتين ثم ولدت المرأة بعد موته بشهر فلا ميراث لها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولها الميراث في قول أبي يوسف رحمه الله وهو نظير الاختلاف المذكور في النفقة أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ترد نفقة ستة أشهر لأنهما يجعلان هذا من حبل حادث من زوج بعد انقضاء عدتها حملا لأمرها على الصلاح وكذلك في حكم الميراث يتبين بها انقضاء عدتها قبل موته فلا ميراث لها وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى تجعل معتدة إلى أن ولدت فلهذا لا ترد شيئا من النفقة فكان لها الميراث.
قال: وإذا طلقها في مرضه ثم قتل أو مات من غير ذلك المرض غير أنه لم يصح فلها الميراث وكان عيسى بن إبان يقول لا ميراث لها لأن مرض الموت ما يكون سببا للموت ولما مات بسبب آخر فقد علمنا أن مرضه لم يكن مرض الموت وإن حقها لم يكن متعلقا بماله يومئذ فهو كما لو طلقها في صحته ولكنا نقول قد اتصل الموت بمرضه حين لم يصح حتى مات وقد يكون للموت سببان فلا يتبين بهذا أن مرضه لم يكن مرض الموت وإن حقها لم يكن ثابتا في ماله وقد بينا أن إرثها منه بحكم الفرار وهو متحقق هنا.
قال: وإذا قرب الرجل ليقتل فهو بمنزلة المريض إذا طلق امرأته ثلاثا في تلك الحالة فلها الميراث والحاصل أن المريض مشرف على الهلاك فكل سبب يعترض مما يكون الغالب(6/302)
ص -139- ... فيه الهلاك فهو بمنزلة المرض وما يكون الغالب فيه السلامة وقد يخاف منه الهلاك أيضا فلا يجعل بمنزلة المرض فالذي قرب ليقتل في قصاص أو رجم فالظاهر فيه هو الهلاك والسلامة بعد هذا نادر فأما المحبوس قبل أن يخرج ليقتل فالغالب فيه السلامة فإنه يتخلص بنوع من أنواع الحيلة فإذا طلقها في تلك الحالة لم يكن فارا وكذلك إن كان مواقفا للعدو فما دام في الصف فهو بمنزلة الصحيح فإذا خرج بين الصفين يبارز قرنه من المشركين فهو بمنزلة المريض لأنه صار مشرفا على الهلاك والمحصور بمنزلة الصحيح لأن غالب حاله السلامة فإن خرج يقاتل فهو كالمريض وراكب السفينة بمنزلة الصحيح فإن تلاطمت الأمواج وخيف الغرق فهو بمنزلة المريض في هذه الحالة والمرأة الحامل كالصحيحة فإن أخذها الطلق فهي بمنزلة المريضة فإذا قتلته المرأة بعد ما طلقها ثلاثا في مرضه فلا ميراث لها منه لأن بقاء ميراثها ببقاء العدة كبقاء الميراث ببقاء النكاح وإن قتلته قبل الطلاق لم ترثه للإثر وهو قوله لا ميراث للقاتل بعد صاحب البقرة والمقعد والمريض والمفلوج ما دام يزداد ما به فهو كالمريض وإن صار قديما لا يزداد كان بمنزلة الصحيح في الطلاق وغيره لأنه ما دام يزداد علته فالغالب أن آخره الموت وإذا صار بحيث لا يزداد فلا يخاف منه الموت فكان بمنزلة الصحيح وصاحب جرح أو قرحة أو وجع لم يصيره على الفراش بمنزلة الصحيح في الطلاق وغيره وحد المرض الذي يكون به فارا أن يكون صاحب فراش قد أضناه المرض فأما الذي يجيء ويذهب في حوائجه فلا يكون فارا وإن كان يشتكي ويحم لأن الإنسان في العادة قل ما يخلو عن نوع مرض في باطنه ولا يجعل بذلك في حكم المريض بل المريض إنما يفارق الصحيح في أن الصحيح يكون في السوق ويقوم بحوائجه والمريض يكون صاحب فراش في بيته وهذا لأن ما لا يمكن الوقوف على حقيقته يعتبر فيه السبب الظاهر ويقام ذلك مقام المعنى الخفي تيسيرا وقد تكلف بعض المتأخرين فقال إذا(6/303)
كان بحال يخطو ثلاث خطوات من غير أن يستعين بأحد فهو في حكم الصحيح في التصرفات وهذا ضعيف فالمريض جدا لا يعجز عن هذا القدر إذا تكلف فكان المعتبر ما قلنا وهو أن يكون صاحب فراش ومن قرب ليقتل فطلق امرأته ثلاثا ثم خلى سبيله أو حبس ثم قتل بعد ذلك فلا ميراث لها منه بمنزلة المريض إذا صح بعد ما طلق امرأته ثلاثا وقد بينا هذا كله فكذلك في هذا الفصل والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الولد عند من يكون في الفرقة
قال: رضي الله تعالى عنه وإذا اختلعت المرأة من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج فالخلع جائز والشرط باطل لأن الأم إنما تكون أحق بالولد لحق الولد فإن كون الولد عندها أنفع له ولهذا لو تزوجت أو كانت أمة والولد حر لم تكن أحق بالحضانة لأنها مشغولة بخدمة زوجها أو مولاها فلا منفعة للولد في كونه عندها وإذا ثبت أن هذا من حق الولد فليس لها أن تبطله بالشرط.(6/304)
ص -140- ... قال: وإذا أرادت المرأة أن تخرج بولدها من مصر إلى مصر فإن كان النكاح بينهما قائما فليس لها أن تخرج إلا بإذنه مع الولد وبغير الولد فإن وقعت الفرقة بينهما وانقضت عدتها فإن كان أصل النكاح في المصر الذي هي فيه فليس لها أن تخرج بولدها إلى مصر آخر لما فيه من الأضرار بالزوج بقطع ولده عنه إلا أن يكون بين المصرين قرب بحيث لو خرج الزوج لمطالعة الولد أمكنه الرجوع إلى منزلة قبل الليل فحينئذ هذا بمنزلة محال مختلفة في مصر ولها أن تتحول من محلة إلى محلة وإن كان تزوجها في ذلك المصر الذي يريد الرجوع إليه ونقلها إلى هذا المصر فإن كانت من أهل هذا المصر فلها أن تخرج بولدها إليه لأن الإنسان إنما يتزوج المرأة في مصر ليقيم معها فيه وإنما ساعدته على الخروج لأجل النكاح فإذا ارتفع كان لها أن تعود إلى مصرها لأن في المقام في الغربة نوع ذل ولها أن تخرج بولدها لأنها بأصل النكاح استحقت المقام بولدها في ذلك المصر فإنما تستوفي ما استحقت لا أن تقصد الإضرار بالزوج وإن لم تكن من أهل ذلك المصر الذي تزوجها فيه فإن أرادت أن تخرج بولدها إلى مصرها لم يكن لها ذلك لأن أصل العقد ما كان في مصرها واختيارها الغربة لم يكن بسبب النكاح فلا يكون لها أن ترجع بولدها إلى مصرها ولكن يقال لها اتركي الولد واذهبي حيث شئت وكذلك إن أرادت الخروج إلى مصر آخر لأنها في ذلك المصر غريبة كما هنا فلا تقصد بالخروج إليه دفع وحشة الغربة إنما تقصد قطع الولد عن أبيه وإن أرادت أن تخرج به إلى المصر الذي كان تزوجها فيه فليس لها ذلك أيضا لأنها غريبة في ذلك المصر كما هنا وفي الجامع الصغير يقول انظر إلى عقدة النكاح أين وقع وهذه إشارة إلى أن لها أن تخرج بالولد إلى موضع العقد كما لو كان تزوجها في مصرها والأصح أنه ليس لها ذلك لأنها تقصد الإضرار بالزوج لا دفع الوحشة عن نفسها بالخروج إلى ذلك الموضع ولأن الزوج ما أخرجها إلى دار الغربة بخلاف ما(6/305)
إذا تزوجها في مصرها وإن كان أصل النكاح في رستاق له قرى متفرقة فأرادت أن تخرج بولدها من قرية إلى قرية فلها ذلك إن كانت القرى قريبة بعضها من بعض على الوجه الذي بينا لأنه ليس فيه قطع الولد عن أبيه وإن كانت بعيدة فليس لها ذلك إلا أن تعود إلى قريتها وقد كان أصل النكاح فيها وكذلك إن أرادت أن تعود من القرية إلى المصر وإن أرادت أن تخرج بولدها من مصر جامع إلى قرية قريبة منه فليس لها ذلك إلا أن يكون النكاح وقع في تلك القرية فتخرج إليها لأنها بأصل العقد استحقت المقام في قريتها بولدها وإن لم يكن أصل النكاح فيها فإنها تمنع من الخروج بولدها لأن في أخلاق أهل الرستاق بعض الجفاء قال صلى الله عليه وسلم: "أهل الكفور من أهل القبور" ففي خروجها بولدها إلى القرية من المصر إضرار بالولد لأنه يتخلق بأخلاقهم وهي ممنوعة من الإضرار بالولد وليس لها أن تخرج بولدها إلى دار الحرب وإن كان النكاح وقع هناك لما فيه من الإضرار بالولد فإنه يتخلق بأخلاق أهل الشرك ولا يأمن على نفسه هناك فإن دار الحرب دار نهبة وغارة وكذلك إن(6/306)
ص -141- ... كانت هي من أهل الحرب بعد أن يكون زوجها مسلما أو ذميا لأنها صارت ذمية تبعا لزوجها فتمنع من الرجوع إلى دار الحرب.
قال: وليس للمرأة وإن كانت أحق بولدها أن تشتري له وتبيع لأن الثابت لها حق الحضانة فأما ولاية التصرف للأب أو لمن يقوم مقامه بعده فإن كانت هي وصية أبيه فلها أن تتصرف بسبب الوصاية لا بسبب الأمومة.
قال: وكل فرقة وقعت بين الزوجين فالأم أحق بالولد ما لم تتزوج وقد بينا تمام هذا في النكاح إلا أن ترتد فحينئذ إن لحقت بدار الحرب فهي ممنوعة من أن تخرج بولدها ولا حق لها في الحضانة وإن كانت في دار الإسلام فإنها تحبس وتجبر على الإسلام فلا يكون لها حق الحضانة إلا أن تتوب فإن تابت فهي أحق بالولد.
قال: وإذا احتلم الغلام فلا سبيل لأبيه عليه إن كان قد عقل وكان مأمونا عليه لأنه صار من أهل أن يلي على غيره فلا يولي عليه إلا أن يكون مخوفا عليه فحينئذ يضمه الأب إلى نفسه لدفع الفتنة ولا نفقة له على أبيه إلا أن يتطوع وقد بينا تمام فصول النفقة في النكاح والله أعلم بالصواب.
باب الخلع(6/307)
قال: وإذا اختلعت المرأة من زوجها فالخلع جائز والخلع تطليقة بائنة عندنا وفي قول الشافعي رحمه الله هو فسخ وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روى رجوعه إلى قول عامة الصحابة رضي الله عنهم استدل الشافعي بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلى أن قال {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] إلى أن قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فلو جعلنا الخلع طلاقا صارت التطليقات أربعا في سياق هذه الآية ولا يكون الطلاق أكثر من ثلاث ولأن النكاح عقد محتمل للفسخ حتى يفسخ بخيار عدم الكفاءة وخيار العتق وخيار البلوغ عندكم فيحتمل الفسخ بالتراضي أيضا وذلك بالخلع واعتبر هذه المعاوضة المحتملة للفسخ بالبيع والشراء في جواز فسخها بالتراضي.
ولنا: ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلع تطليقة بائنة والمعنى فيه أن النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ألا ترى أنه لا يفسخ بالهلاك قبل التسليم فإن الملك الثابت به ضروري لا يظهر إلا في حق الاستيفاء وقد قررنا هذا في النكاح وبينا أن الفسخ بسبب عدم الكفاءة فسخ قبل التمام فكان في معنى الامتناع من الإتمام وكذلك في خيار البلوغ والعتق فأما الخلع يكون بعد تمام العقد والنكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه ولكن يحتمل القطع في الحال فيجعل لفظ الخلع عبارة عن رفع العقد في الحال مجازا وذلك إنما يكون بالطلاق ألا ترى أن الرجل يقول خلعت الخف من رجلي يريد به الفصل في الحال فأما الآية فقد ذكر الله تعالى التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض وبهذا لا يصير الطلاق أربعا وفائدة هذا الاختلاف أنه لو خالعها بعد تطليقتين عندنا(6/308)
ص -142- ... لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وعنده له أن يتزوجها وإن نوى بالخلع ثلاث تطليقات فهي ثلاث لأنه بمنزلة ألفاظ الكناية وقد بينا أن نية الثلاث تسع هناك فكذلك في الخلع وإن نوى اثنتين فهي واحدة بائنة وعلى قول زفر رحمه الله تعالى اثنتان كما في لفظ الحرمة والبينونة وكذلك كل طلاق بجعل فهو بائن لأن الزوج ملك البدل عليها فتصير هي بمقابلته أملك لنفسها ولأن غرضها من التزام البدل أن تتخلص من الزوج ولا يحصل ذلك إلا بوقوع البينونة فإن قال الزوج لم أعن بالخلع طلاقا وقد أخذ عليه جعلا لم يصدق في الحكم لأنه أخذ الجعل على سبيل التملك ولا يتملك ذلك إلا بوقوع الطلاق عليها فكان ذلك أدل على قصده الطلاق من حال مذاكرة الطلاق ولكن فيما بينه وبين الله تعالى يسعه أن يقيم معها لأن الله تعالى عالم بما في سره إلا أنه لا يسع المرأة أن تقيم معه لأنها لا تعرف منه إلا الظاهر كالقاضي.
قال: والمبارأة بمنزلة الخلع في جميع ذلك لأنه مشتق من البراءة وهو أدل على قطع الوصلة من الخلع وإذا جعل الخلع تطليقة بائنة فالمبارأة أولى وللمختلعة والمبارأة النفقة والسكنى ما دامت في العدة هكذا نقل عن علي رضي الله عنه وهذا لأن النفقة لم تجب قبل مجيء وقتها فلا يتناولها الخلع والبراءة العامة وإنما ينصرف مطلق اللفظ إلى ما هو واجب.(6/309)
قال: فإن كان الزوج اشترط عليها البراءة من النفقة والسكنى فهو بريء من النفقة لأنها أسقطت حقها ووجوب النفقة لها في العدة باعتبار حالة الفرقة حتى إذا كانت ممن لا تستحق النفقة عند ذلك لا تستحقه من بعد فيصح إسقاطها ولكن في ضمن الخلع تبعا له حتى لو أسقطت نفقتها بعد الخلع بإبراء الزوج عنها لا يصح ذلك لأنها مقصودة بالإسقاط فلا يكون إلا بعد وجوبها وهي تجب شيئا فشيئا بحسب المدة ولا يصح ابراؤها عن السكنى في الخلع لأن خروجها من بيت الزوج معصية قالوا ولو أبرأته عن مؤنة السكنى بأن سكنت في بيت نفسها أو التزمت مؤنة السكنى من مالها صح ذلك مشروطا في الخلع لأنه خالص حقها.
قال: والخلع جائز عند السلطان وغيره لأنه عقد يعتمد التراضي كسائر العقود وهو بمنزلة الطلاق بعوض وللزوج ولاية إيقاع الطلاق ولها ولاية التزام العوض فلا معنى لاشتراط حضرة السلطان في هذا العقد.
قال: وإن قال لامرأته قد خالعتك أو بارأتك أو طلقتك بألف درهم فالقبول إليها في مجلسها والحاصل أن إيجاب الخلع من الزوج في المعنى تعليق الطلاق بشرط قبولها لأن العوض الذي من جانبه في هذا العقد طلاق وهو محتمل للتعليق بالشرط ولهذا لا يبطل بقيامه عن المجلس ويصح منه وإن كانت غائبة حتى إذا بلغها فقبلت في مجلسها ثم وإن قامت من مجلسها قبل أن تقبل بطل ذلك بمنزلة تعليق الطلاق بمشيئتها وتمليك الأمر منها لأنها تقدر على المشيئة في مجلسها فيبطل بقيامها فكذلك تقدر على القبول قبل ذلك والذي من جانبها في الخلع التزام المال فيكون بمنزلة البيع والشراء لا يحتمل التعليق بالشرط حتى إذا بدأت(6/310)
ص -143- ... فقالت: اخلعني أو بارئني أو طلقني بألف درهم فإنه يبطل بقيامها عن المجلس قبل قبول الزوج وكذلك بقيام الزوج عن المجلس قبل القبول كما يبطل ايجاب البيع بقيام أحدهما عن المجلس قبل قبول الآخر وكذلك إن كان الزوج غائبا حين قالت هذه المقالة لا تتوقف على قبوله إذا بلغه كما لا يتوقف إيجاب البيع على قبول المشتري إذا كان غائبا.
قال: فإن قالت طلقني ثلاثا بألف درهم فطلقها واحدة فله ثلث الألف لأن حرف الباء يصحب الأبدال والأعواض والعوض ينقسم على المعوض فهي لما التمست الثلث بألف فقد جعلت بإزاء كل تطليقة ثلث الألف ثم فيما صنع الزوج منفعة لها لأنها رضيت بوجوب جميع الألف عليها بمقابلة التخلص من زوجها فتكون أرضى بوجوب ثلث الألف عليها إذا تخلصت من زوجها وبالواحدة تتخلص منه وهذا بخلاف ما لو كان الزوج قال لها أنت طالق ثلاثا بألف فقبلت واحدة لم يقع شيء لأنه لو وقعت الواحدة لوقعت بثلث الألف والزوج ما رضي بزوال ملكه عنها ما لم يجب عليها جميع الألف وبخلاف ما لو قال هذه طالق وهذه بألف فقبلت إحداهما وقع الطلاق عليها بنصف الألف لأن الزوج هناك راض بوقوع الفرقة بينه وبين إحداهما إذا وجبت عليها حصتها من المال فإن نكاح إحداهما لا يتصل بنكاح الأخرى.
قال: ولو طلقها ثلاثا في كلام متفرق في مجلس واحد في القياس يلزمها ثلث الألف لأنها بانت بالأولى فلزمها ثلث الألف فهو بإيقاع الثانية والثالثة بعد ذلك لا يستوجب عليها عوضا آخر وفي الاستحسان يقع عليها ثلاث تطليقات بجميع الألف لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة ويجعلها ككلام واحد فكأنه أوقع الثلاث عليها بكلام واحد فيلزمها جميع الألف.(6/311)
قال: ولو كانت قالت له طلقني ثلاثا على ألف درهم أو على أن لك علي ألف درهم فطلقها واحدة قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تقع تطليقة رجعية وليس عليها شيء من الألف وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يقع عليها تطليقة بائنة بثلث الألف وحجتهما في ذلك أن الخلع من عقود المعاوضات وحرف على في المعاوضات كحرف الباء ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول بعت منك هذا المتاع بدرهم أو على درهم وكذلك لا فرق بين أن يقول احمل هذا المتاع إلى موضع كذا بدرهم أو على درهم فإذا كان عند حرف الباء تتوزع الألف على التطليقات الثلاث فكذلك عند ذكر حرف على يدل عليه أنها لو قالت طلقني وفلانة على ألف درهم فطلقها وحدها كان عليها حصتها من المال بمنزلة ما لو التمست بحرف الباء فكذلك هنا وهذا بخلاف ما قال في السير الكبير إذا صالح الإمام أهل حصن على أن يؤمنهم ثلاث سنين على ألف درهم ثم بدا له بعد مضي السنة أن ينبذ إليهم يلزمه رد جميع المال ولو كان الصلح بحرف الباء يلزمه رد ثلثي المال لأن اعطاء الأمان ليس بعقد معاوضة وحرف على للشرط فجعله بمنزلة الباء مجاز يصار إليه لدلالة المعاوضة ولأن غرضهم لا يحصل هناك فمقصودهم أن يتحصنوا في هذه المدة ولا يتمكنوا من ذلك في بعض المدة فلهذا حملنا حرف على على الشرط وهنا مقصودها يحصل بإيقاع الواحدة فكان(6/312)
ص -144- ... محمولا على المعاوضة بمنزلة حرف الباء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول حرف على للشرط حقيقة لأنه حرف الالتزام ولا مقابلة بين الواقع وبين ما التزم بل بينهما معاقبة كما يكون بين الشرط والجزاء فكان معنى الشرط فيه حقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط فلا حاجة إلى العدول من الحقيقة إلى المجاز فإذا كان محمولا على الحقيقة والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزء فجزء فإنما شرطت لوجوب المال عليها إيقاع الثلاث فإذا لم يوقع لا يجب شيء من المال ولأن لها في ذلك غرضا صحيحا وهو حصول البينونة الغليظة حتى لا تصير في وثاق نكاحه وإن أكرهها على ذلك فاعتبرنا معنى الشرط في ذلك ليحصل مقصودها كما في مسألة الأمان وكما أن المال في الأمان نادر فكذلك في الطلاق الغالب فيه الإيقاع بغير بدل وبهذا فارق البيع والإجارة لأن معنى الشرط هناك تعذر اعتباره فإنه لا يحتمل التعليق بالشرط فلهذا جعلنا حرف على بمعنى حرف الباء والدليل على أن حرف على للشرط قوله تعالى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 104- 105] أي بشرط أن لا أقول وقال الله تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} [الممتحنة: 12] أي بشرط أن لا يشركن وهذا بخلاف قوله طلقني وفلانة على كذا لأنه لا غرض لها في طلاق فلانة لتجعل ذلك كالشرط منها ولها في اشتراط إيقاع الثلاث غرض صحيح كما بينا وإن طلقها ثلاثا في هذه المسألة متفرقات في مجلس واحد فالألف لازمة عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى قياسا واستحسانا لأن شيئا من البدل لم يجب بإيقاع الأولى والثانية والمجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة وعندهما على القياس والاستحسان الذي بينا في حرف الباء.(6/313)
قال: وإذا طلق الرجل امرأته وهي في العدة بعد الخلع على جعل وقع الطلاق ولم يثبت الجعل وكذلك البائنة بعد الخلع يعني إذا قال لها أنت بائن ثم طلقها على جعل في العدة لأنها باعتبار قيام العدة محل للطلاق والطلاق يجعل تعليقا من الزوج بشرط القبول وقد قبلت ولا يجب عليها الجعل لأن وجوب الجعل عليها باعتبار زوال ملك الزوج عنها وذلك لا يحصل بعد البينونة ولكن امتناع وجوب المقبول لا يمنع صحة القبول في حكم وقوع الطلاق كما لو خالعها ببدل فاسد كالخمر والخنزير.
قال: وإن قال لها بعد البينونة خلعتك ينوي به الطلاق لم يقع لأن هذا اللفظ بمنزلة لفظ البينونة والحرمة وقد بينا أن ذلك لا يعمل في العدة بعد الفرقة فكذلك لفظ الخلع ألا ترى أن الواقع بلفظ الخلع يكون بائنا وإن لم يذكر البدل بمقابلته بخلاف الواقع بلفظ الطلاق ولو قال كل امرأة لي طالق لم تطلق هذه المبانة إلا أن يعنيها فإن عناها طلقت لأنه أوقع بهذا اللفظ على كل امرأة هي مضافة إليه مطلقا وهي المنكوحة فإنها تضاف إليه ملكا ويدا فأما المبانة تضاف إليه يدا لا ملكا فكانت مقيدة فلا تدخل تحت المطلق إلا أن يعنيها كما لو قال كل مملوك لي فهو حر لا يدخل المكاتب فيه إلا أن يعنيه ولا يقع شيء من الطلاق بعد انقضاء(6/314)
ص -145- ... العدة لأنه ليس له عليها ملك ولا يد وبدونهما لا تكون محلا لإضافة الطلاق إليها لأن الإيقاع تصرف منه على المحل فيستدعي ولايته على المحل.
قال: وإن طلقها على جعل بعد الطلاق الرجعي جاز ولزمها الجعل لأن زوال الملك لا يحصل بهذا الطلاق لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح فإنه يعتاض عن ملك قائم له فيصح كما قبل الطلاق الرجعي.
قال: وخلع السكران وطلاقه وعتاقه واقع عندنا وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع وهو اختيار الكرخي والطحاوي وقد نقل ذلك عن عثمان وهذا لأنه ليس للسكران قصد صحيح والإيقاع يعتمد القصد الصحيح ولهذا لا يصح من الصبي والمجنون ألا ترى أنه لو سكر من شرب البنج لم يقع طلاقه فكذلك إذا سكر من النبيذ ولأن غفلته عن نفسه فوق غفلة النائم فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه ثم طلاق النائم لا يقع فطلاق السكران أولى ولا معنى لقول من يقول غفلته هنا بسبب المعصية وذلك سبب للتشديد عليه لا للتخفيف فإن السكران لو ارتد لم تصح ردته بالإتفاق ولا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ولو اعتبر هذا المعنى لحكم بصحة ردته وحجتنا ما روينا كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه ولأن السكران مخاطب فإذا صادف تصرفه محله نفذ كالصاحي ودليل الوصف قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فإن كان خطابا له في حال سكره فهو نص وإن كان خطابا له قبل سكره فهو دليل على أنه مخاطب في حال سكره لأنه لا يقال إذا جننت فلا تفعل كذا وهذا لأن الخطاب إنما يتوجه باعتدال الحال ولكنه أمر باطن لا يوقف على حقيقته فيقام السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا وبالسكر لا ينعدم هذا المعنى فإذا ثبت أنه مخاطب قلنا غفلته عن نفسه لما كانت بسبب هو معصية ولا يستحق به التخفيف لم يكن ذلك عذرا في المنع من نفوذ شيء من تصرفاته بعد ما تقرر سببه لأن بالسكر لا يزول عقله إنما يعجز عن(6/315)
استعماله لغلبة السرور عليه بخلاف البنج فإن غفلته ليست بسبب هو معصية وما يعتريه نوع مرض لا أن يكون سكرا حقيقة فيكون بمنزلة الإغماء وبخلاف النائم لأن النوم يمنعه من العمل فلانعدام الإيقاع نقول إنه لا يقع والسكر لا يمنعه من العمل مع أن الغفلة بسبب النوم لم تكن عن معصية وهذا بخلاف الردة فإن الركن فيها الاعتقاد والسكران غير معتقد لما يقول فلا يحكم بردته لانعدام ركنها لا للتخفيف عليه بعد تقرر السبب.
قال: وخلع المكره وطلاقه وعتاقه جائز عندنا وهو باطل عند الشافعي رحمه الله تعالى فتأثير الإكراه عنده في إلغاء عبارة المكره كتأثير الصبي والجنون وعندنا تأثير الإكراه في انعدام الرضا لا في اهدار القول حتى تنعقد تصرفات المكره ولكن ما يعتمد لزومه تمام الرضا كالبيع والشراء لا يلزم منه وما لا يعتمد تمام الرضا كالنكاح والطلاق والعتاق يلزم منه وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فهذا يقتضي أن عين ما(6/316)
ص -146- ... أكره عليه فحكمه وإثمه يكون مرفوعا عنه والمعنى فيه أن هذه فرقة يعتمد سببها القول فلا تصح من المكره كالردة وتأثيره أن القول إنما يعتبر شرعا إذا صدر عن قصد صحيح وبسبب الاكراه ينعدم ذلك القصد لأن المكره يقصد دفع الشر عن نفسه لا عين ما تكلم به وهو مضطر إلى هذا القصد والاختيار أيضا فيفسد قصده شرعا ألا ترى أنه لو أكره على الاقرار بالطلاق كان اقراره لغوا لهذا يقرره أن تأثير الاكراه المبيح للاقدام في جعل المكره آلة للمكره وإعدام الفعل من المكره كما في الإكراه على إتلاف المال فيجعل المكره آلة ويصير كأن المكره هو الذي تكلم بالإيقاع فيكون لغوا ألا ترى أن حق إبقاء قدر الملك على المكره جعل كالآلة حتى يكون المكره ضامنا قيمة عبده عندكم إذا أكرهه على أن يعتقه ويكون ضامنا نصف الصداق إذا أكرهه على الطلاق قبل الدخول فكذلك في إبقاء عين الملك عليه يجعل آلة له وحجتنا في ذلك ما روي أن امرأة كانت تبغض زوجها فوجدته نائما فأخذت شفرة وجلست على صدره ثم حركته فقالت لتطلقني ثلاثا أو لأذبحنك فناشدها الله تعالى فأبت فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "لا قيلولة في الطلاق" واستكثر محمد من الاستدلال بالآثار في أول كتاب الإكراه حتى روي عن عمر رضي الله عنه قال أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رديد النكاح والطلاق والعتاق والصدقة والمعنى فيه أنه مكلف أوقع الطلاق في محله فيقع كالطائع وتفسير الوصف أن الإكراه لا يزيل الخطاب أما في غير ما أكره عليه فلا إشكال وفيما أكره عليه كذلك حتى تنوع عليه أفعاله فتارة يباح له الإقدام وتارة يفترض عليه كشرب الخمر وتارة يحرم عليه كالقتل والزنا وذلك لا يكون إلا باعتبار الخطاب وتأثيره أن انعقاد التصرف بوجود ركنه ومحله ولا ينعدم بسبب الإكراه ذلك إنما ينعدم الرضا به والرضا ليس بشرط لوقوع الطلاق ألا ترى أن الرضا باشتراط(6/317)
الخيار ينعدم ولا يمنع لزوم الطلاق فكذلك الإكراه وبسبب الإكراه لا ينعدم القصد الصحيح فإن المكره يقصد ما باشره ولكن لغيره وهو دفع الشر عن نفسه لا لعينه فهو كالهازل يكون قاصدا التكلم بالطلاق ولكن للعبث لا لعينه ثم الهزل لا يمنع وقوع الطلاق فكذلك الإكراه وللمكره اختيار صحيح لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما وهذا دليل صحة اختياره إلا أنه لا يحكم بصحة ردته لأنها تنبني على الاعتقاد وهو غير معتقد وفيما يخبر به عن اعتقاده مكره فذلك دليل ظاهر على أنه غير معتقد بخلاف الهازل فإنه مستخف بالدين والاستخفاف بالدين كفر وبخلاف الإقرار بالطلاق فإنه خبر متمثل بين الصدق والكذب وقيام السبب على رأسه دليل على أنه كاذب والمخبر به إذا كان كذبا فالإخبار عنه لا يصير صدقا ولا معنى لجعل المكره آلة للمكره هنا لأنه إنما يجعل بالإكراه آلة فيما يصلح أن يكون فيه آلة لغيره دون ما لا يصلح أن يكون كذلك وفي التكلم لا يصلح أن يكون آلة لغيره إذ لا يتحقق تكلم المرء بلسان غيره فبقي مقصورا عليه ولكن في حكم الإتلاف يصلح أن يكون آلة لغيره فلهذا كان الضمان على المكره مع(6/318)
ص -147- ... أن الخلاف ثابت في الإكراه بالحبس وهذا النوع من الإكراه لا يجعل المكره آلة للمكره والمراد بالحديث رفع الإثم عن المكره لا رفع العين والحكم ألا ترى أنه لو أكره أن يجامع أم امرأته وجب عليه الغسل وحرمت عليه امرأته بذلك.
قال: وخلع الصبي وطلاقه باطل لأنه ليس له قصد معتبر شرعا خصوصا فيما يضره وهذا لما بينا أن اعتبار القصد ينبني على الخطاب والخطاب ينبني على اعتدال الحال وكذلك فعل أبيه عليه في الطلاق باطل لأن الولاية إنما تثبت على الصبي لمعنى النظر له ولتحقق الحاجة إليه وذلك لا يتحقق في الطلاق والعتاق.
قال: والمعتوه والمغمى عليه من مرض بمنزلة الصبي في ذلك لانعدام القصد الصحيح منهما.(6/319)
قال: وإذا اختلعت الصبية من زوجها الكبير فالطلاق واقع عليها لأن الزوج من أهل الإيقاع وإيجاب الخلع تعليق الطلاق بشرط قبولها وقد تحقق القبول منها فيقع كما لو قال لها إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت ولكن لا يلزمها المال لأن التزام المال من الصبية لا يصح خصوصا فيما لا منفعة لها فيه كالإلتزام بالإقرار والكفالة وقد بينا أن وقوع الطلاق يعتمد القبول لا وجود المقبول وكذلك الأمة إذا اختلعت من زوجها بغير إذن المولى فالطلاق واقع عليها ولا تؤاخذ بالمال إلا بعد العتق لأنها مخاطبة يصح التزامها في حق نفسها دون المولى فتؤاخذ به بعد العتق كما لو التزمت بالإقرار والكفالة وإن فعلته بإذن المولى سعت فيه لأن التزامها المال بإذن المولى صحيح في حق المولى فتؤاخذ به في الحال والمدبرة وأم الولد في ذلك سواء كالأمة إلا أنها لا تحتمل البيع فتؤدي البدل من كسبها إذا التزمت بإذن المولى فأما المكاتبة لا تؤاخذ ببدل الخلع إلا بعد العتق سواء اختلعت بإذن المولى أو بغير إذنه لأن إذن المولى غير معتبر في إلزام المال إياها ألا ترى أن المولى لا يملك أن يلزمها المال ولا تأثير للكتابة في فك الحجر عن التزام المال بسبب الخلع فلهذا تؤاخذ به بعد العتق.
قال: وإذا وكل أحد الزوجين صبيا أو معتوها أو مملوكا بالقيام مقامه بالخلع والاختلاع جاز ذلك لأن الوكيل بهذا العقد سفير معبر عن الموكل ولهؤلاء عبارة معتبرة حتى ينفذ تصرفهم بإذن المولى فينفذ العقد بعبارتهم أيضا.(6/320)
قال: وإذا خلع الرجل ابنته الصغيرة من زوجها على صداقها ولم يدخل بها فإن لم يضمن الأب فهو باطل لأنه ليس له ولاية الزام المال إياها بهذا السبب إذ لا منفعة لها فيه ولا يدخل في ملكها بمقابلته شيء بخلاف ما لو زوج ابنه الصغير بماله فإن ذلك العقد من مصالحه ويدخل في ملكه شيء متقوم بإزاء ما يلزمه من المال فإن ضمن الأب المال جاز الخلع لأن الزوج ينفرد بالإيقاع واشتراط القبول في الخلع لأجل المال فإذا كان الأب هو الملتزم للمال بضمانه يتم الخلع كما لو خالع امرأته مع أجنبي على مال وضمن الأجنبي من أصحابنا من يقول تأويل هذه المسألة إذا خالعها على مال مثل الصداق فأما إذا خالعها على(6/321)
ص -148- ... الصداق ينبغي أن لا يصح لأنه عين ملكها وليس للأب ولاية اخراج عين عن ملكها بغير عوض ولا معتبر بضمانة في ذلك ولكنا نقول وإن سمى الصداق في الخلع فإنما يتناول العقد مثله فضمان الأب إياه صحيح وإسقاطه حقها في نصف الصداق باطل فيغرم الزوج لها نصف الصداق كما لو طلقها قبل الدخول ويرجع الزوج على الأب بما يضمن من ذلك لأنه قد ضمن للزوج وإن كان قد دخل بها فلها أن ترجع بجميع مهرها على الزوج لأن حقها في جميع المهر تأكد بالدخول فلا يملك الأب إبطال حقها عن شيء منه ولكنها ترجع بالصداق على الزوج والزوج على الأب بحكم الضمان أو ترجع على الأب بجميع الصداق هنا وبنصف الصداق في الأول لأن الأب يصير كالمعاوض مع الزوج بما ضمنه للزوج مما لها عليه.
قال: ولو كانت كبيرة فإن كان خلع الأب بإذن البنت جاز ذلك عليها وإن كان بغير إذنها وقد ضمن الأب للزوج فالخلع جائز وترجع هي بالصداق على زوجها ثم الزوج على الأب بحكم ضمانه لأنه ليس له ولاية المعاوضة في مالها.
قال: وكل خلع كان بجعل فامتنع وجوب الجعل أما لفساده كالخمر أو لأن الملتزم لم يكن من أهله كالصغيرة فالواقع به طلاق بائن لأن لفظ الخلع ليس بصريح في الطلاق ولكنه يشبه الفرقة كالبينونة والحرمة وكل تطليقة أو تطليقتين بجعل أبطلت الجعل وأمضيت فيه الطلاق فالطلاق رجعي إذا كان قد دخل بها لأن الوقوع بصريح لفظ الطلاق فلا يوجب البينونة إلا بعوض ولم يجب العوض.(6/322)
قال: ولو خلع ابنته الكبيرة بصداقها وضمنه للزوج فبلغها فأجازت لم يضمن الأب شيئا لأن إجازتها في الانتهاء كإذنها في الابتداء وكذلك لو خلعها بالنفقة وضمنها له بغير أمرها فإن أجازت فلا شيء على الأب وإن أبت فلها أن تتبع الزوج بالنفقة لأنها حقها كالصداق فلا يعمل إسقاط الأب لحقها ويرجع الزوج على الأب بما ضمن له من ذلك وكذلك لو فعل هذا غير الأب من الأقارب والأجانب لأنه لا ولاية للأب عليها في هذا التصرف فهو والأجنبي فيه سواء.
قال: وإذا اختلعت بمال ودفعته إليه ثم أقامت البينة أنه طلقها ثلاثا قبل الخلع كان لها أن ترجع عليه بالمال لأنه تبين بهذا أن البينونة لم تحصل بما التزمت من المال فلا يكون التزامها صحيحا وإقدامها على الخلع لا يمنعها من إقامة هذه البينة لأن دعواها في قبول البينة على الطلاق ليس بشرط فالتناقض منها لا يمنع قبول البينة وكذلك لو أقامت البينة على حرمة بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
قال: وإذا قالت المرأة اخلعني ولك ألف درهم أو قالت طلقني ولك ألف درهم ففعل وقع الطلاق ولم يجب المال عليها عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يجب المال لوجهين أحدهما أن الواو وإن كان للعطف حقيقة فقد يستعمل بمعنى الباء مجازا كما في القسم فإن قوله والله كقوله بالله فقولها ولك ألف بمنزلة قولها طلقني(6/323)
ص -149- ... بألف أو بعني طلاقي بألف وإنما حملناه على هذا المجاز لمعنى المعاوضة لأن الخلع معاوضة وفي المعاوضات لا يعطف أحد العوضين على الآخر إنما يلصق أحدهما بالآخر ألا ترى أنه لو قال احمل هذا المتاع إلى بيتي ولك درهم كان هذا وقوله احمله بدرهم سواء حتى يجب المال إذا حمله ولأن هذا الواو بمعنى واو الحال كقول المولى لعبده اد إلي ألفا وأنت حر وقول الغازي للمحصور افتح الباب وأنت آمن وقد بينا فيما سبق أن الواو قد تكون للحال كما في قوله أنت طالق وأنت مريضة وإذا كانت للحال كانت هي ملتزمة المال له حال إيقاع الطلاق عليها وذلك لا يكون إلا عوضا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الواو للعطف حقيقة والحمل على الحقيقة واجب حتى يقوم الدليل على المجاز وباعتبار العطف تبين أن الألف ليس بعوض عن الطلاق ولا وجه لحملها على الباء أو واو الحال لمعنى المعاوضة لأن المال في الطلاق نادر والمعتاد فيه الإيقاع بغير عوض بخلاف الإجارة فالعوض فيه أصل لا تصح الإجارة بدونه وبخلاف قوله أد إلي ألفا وأنت حر لأن أول كلامه هناك غير مفيد شرعا إلا بآخره فإنه يصير به تعليقا للعتق بأداء المال وهنا أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال أنت طالق وعليك ألف درهم كان ايقاعا مفيدا بدون آخره فلا حاجة إلى أن يحمله على الحال وإن صدر منها فهو التماس مفيد أيضا فلهذا لا يحمل على واو الحال بل هو بمعنى العطف فمعناه ولك ألف درهم في بيتك أو بمعنى الابتداء فيكون وعدا منها إياه بالمال والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولأن أدنى ما يكون في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا فالمال بالشك لا يجب.(6/324)
قال: وإذا قالت طلقني ولك ألف درهم فقال أنت طالق على هذه الألف التي سميت فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الطلاق واقع والمال عليها قبلت أو لم تقبل لأنها بالكلام الأول ملتزمة للمال عندهما فبقي وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بالكلام الأول لم تكن ملتزمة للمال فبقي إيقاع الزوج عليها بمال ابتداء فإن قبلت وقع الطلاق ولزمها المال وإن لم تقبل لا يقع عليها شيء ولو قالت طلقني ثلاثا على أن لك علي ألف درهم فطلقها ثلاثا لزمها المال لأنها صرحت بحرف على وهو لالتزام المال ولو كان طلقها اثنتين قبل هذا فقالت طلقني ثلاثا على أن لك ألفا فطلقها واحدة لزمها الألف لأن الألف بإزاء ما يصح فيه التماسها من الزوج وذلك إيقاع ما ليس بواقع وهي التطليقة الثالثة فأما إيقاع ما هو واقع لا يتحقق فكان تكلمها به لغوا غير معتد به ولأنها التزمت المال لحصول البينونة الغليظة لها وقد تم ذلك بإيقاع الثالثة.
قال: وإذا قال الرجل طلقتك أمس بألف درهم أو على ألف درهم فلم تقبلي وقالت قد قبلت فالقول قول الزوج مع يمينه لأن إيجاب الطلاق بمال تعليق بقبولها فالزوج أقر بالتعليق وأنكر وجود الشرط فكان القول قوله كما لو علق بدخولها فقالت قد دخلت وأنكر الزوج ذلك وهذا بخلاف البيع إذ قال قد بعت منك هذا العبد أمس بألف درهم فلم(6/325)
ص -150- ... تقبل وقال المشتري قد قبلت فالقول قول المشتري لأن البيع عقد معاوضة لا ينعقد إلا بإيجاب وقبول فاقراره بالبيع يكون إقرارا بقبول المشتري فلا يعمل رجوعه عن الإقرار بعد ذلك فأما ايجاب الطلاق بمال يكون تصرفا عند الايقاع وهو التعليق بمنزلة اليمين ولهذا لا يبطل بقيامه قبل قبولها فلم يكن هو مقرى بالإيقاع أصلا فجعلنا القول قوله مع يمينه لهذا.
قال: وإذا قال لها قد طلقتك واحدة بألف درهم وقبلت وقالت هي إنما سألتك أن تطلقني ثلاثا بألف درهم وإنما طلقتني واحدة فإنما لك ثلث الألف فالقول قولها مع يمينها لأنهما اتفقا على وقوع الواحدة عليها وإنما تنازعا في المال فهو يدعي الزيادة عليها وهي تنكر فالقول قولها وكذلك لو قالت سألتك أن تطلقني بمائة درهم وقال الزوج بل بألف فالقول قولها لما بينا أن الاختلاف في مقدار المال الواجب عليها فإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج لأنه يثبت الزيادة ببينته في حقه والبينة للإثبات فتترجح بالزيادة فيه وكذلك لو قالت خلعتني بغير شيء وقال الزوج بل بألف فالقول قولها والبينة بينة الزوج لما قلنا.
قال: وإذا اتفقا على أنها سألت أن يطلقها ثلاثا بألف درهم فقالت طلقتني واحدة وقال الزوج طلقتك ثلاثا فالقول قول الزوج إن كان في ذلك المجلس لأنه أخبر بما يملك إنشاءه وقد بينا أنه لو طلقها ثلاثا متفرقات في المجلس يلزمها الألف فلا تتمكن التهمة في خبره.
قال: ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق حصلت له جميع الألف فإن كانا قد افترقا من ذلك المجلس لزمها الطلاق إن كانت في العدة لإقرار الزوج بوقوع الطلاق عليها وهو مالك للإيقاع ولا يكون عليها إلا ثلث الألف لأنه في حق المال متهم في خبره فإنه يخبر بما يملك إنشاءه فكان القول قولها مع يمينها وعليه إثبات الزيادة بالبينة.(6/326)
قال: وإذا قالت المرأة سألتك أن تطلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقتني واحدة ولا شيء لك وقال هو بل سألتني واحدة على ألف وقد طلقتكها فالقول في ذلك قول المرأة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا شيء عليها لأنها تنكر وجوب المال بناء على ما تقدم إذا قالت طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها واحدة لا يجب عليها شيء عند أبي حنيفة رحمه الله وإن قالت سألتك أن تطلقني ثلاثا بألف درهم فلم تطلقني في ذلك المجلس وقال الزوج قد طلقتك ثلاثا في ذلك المجلس فالثلاث واقعات عليها لإقرار الزوج بها والقول في المال قولها مع يمينها إما لإنكارها وجوب المال أو لإنكارها الزيادة على الثلاث إن أقرت أنه طلقها واحدة في ذلك المجلس وإن قالت سألتك أن تطلقني أنا وصاحبتي فلانة على ألف درهم فطلقتني وحدي وقال الزوج طلقتها معك وقد افترقا من ذلك المجلس فالقول قول المرأة وعليها حصتها من الألف لأن الاختلاف بينهما في مقدار ما عليها من المال والزوج مخبر بما لا يملك إنشاءه في حق المال ولكن الطلاق واقع على الأخرى بإقرار الزوج لأنه ينفرد بالإيقاع عليها(6/327)
ص -151- ... وكذلك إن قالت لم تطلقني ولا صاحبتي في ذلك المجلس فالقول قولها مع يمينها لإنكارها أصل المال وعلى الزوج أن يثبت المال بالبينة ولكن الطلاق واقع عليها بإقرار الزوج.
قال: وإذا خلع الرجل امرأتيه على ألف درهم فإن الألف تنقسم على مهريهما الذي تزوجهما عليهما لأنه سمى الألف بمقابلة شيئين ومقتضى هذه التسمية الإنقسام باعتبار القيمة كما لو اشترى عبدين بألف درهم إلا أن البضع عند خروجه من ملك الزوج غير متقوم فوجب المصير إلى أقرب الأشياء إليه وذلك المهر الذي تزوجها عليه ألا ترى أن في الكتابة الفاسدة على العبد قيمة نفسه بعد ما يعتق لأن ما هو المعقود عليه هو ملك اليد والمكاسب ليست بمتقومة فيصار إلى قيمة أقرب الأشياء إليه وهو الرقبة ثم الأصل في الخلع إن النشوز إذا كان من الزوج فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا بإزاء الطلاق لقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] إلى أن قال {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] وإن كان النشوز من قبلها فله أن يأخذ منها بالخلع مقدار ما ساق إليها من الصداق لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولو أراد أن يأخذ منها زيادة على ما ساق إليها فذلك مكروه في رواية الطلاق وفي الجامع الصغير يقول لا بأس بذلك وجه هذه الرواية ما روي أن جميلة بنت سلول رحمها الله تعالى كانت تحت ثابت بن قيس رحمه الله تعالى فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا أعيب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق ولكني أخشى الكفر في الإسلام لشدة بغضي إياه فقال صلى الله عليه وسلم "أتردين عليه حديقته" فقالت نعم وزيادة فقال صلى الله عليه وسلم "أما الزيادة فلا" وروي أنه قال لثابت: "أخلعها بالحديقة ولا تزدد" ولأنه لا يملكها شيئا إنما يرفع العقد فيحل له أن يأخذ منها قدر ما ساق إليها بالعقد ولا يحل له الزيادة على ذلك(6/328)
ووجه رواية الجامع الصغير ما روي أن امرأة ناشزة أتى بها عمر رضي الله عنه فحبسها في مزبلة ثلاثة أيام ثم دعاها وقال كيف وجدت مبيتك فقالت ما مضت علي ليال هن أقر لعيني من هذه الليالي لأني لم أره فقال عمر رضي الله عنه وهل يكون النشوز إلا هكذا إخلعها ولو بقرطها وعن ابن عمر رضي الله عنه أن مولاة اختلعت بكل شيء لها فلم يعب ذلك عليها وعن ابن عباس رضي الله عنه لو اختلعت بكل شيء لأجزت ذلك وهذا لأن جواز أخذ المال هنا بطريق الزجر لها عن النشوز ولهذا لا يحل إذا كان النشوز من الزوج وهذا لا يختص بما ساق إليها من المهر دون غيره فأما في الحكم الخلع صحيح والمال واجب في جميع الفصول عندنا وعند نفاة القياس لا يجب المال إذا كان النشوز من الزوج ولا تجب الزيادة إذا كان النشوز منها لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] إلى أن قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وقال بن جريج يعني في الزيادة والاعتداء يكون ظلما والمال لا يجب بالظلم ولكنا نستدل بما روينا من الآثار وتأويل الآية في الحل والحرمة لا في منع وجوب أصل المال.
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها إن طلقتني ثلاثا فلك علي ألف درهم فقال نعم سأطلقك(6/329)
ص -152- ... فلا شيء له حتى يفعل لأنها التزمت المال بمقابلة الإيقاع دون الوعد فإن فعل ذلك في المجلس فله الألف وإن لم يفعل في المجلس فلا شيء له والطلاق واقع لأن الذي من جهتها التزام المال بمنزلة إيجاب البيع لا يتوقف على ما وراء المجلس ولكن يبطل بالقيام عن المجلس قبل الإيقاع فإذا أوقع الطلاق بعد ذلك مطلقا وقع الطلاق لأن الزوج ينفرد به وكلامها وإن كان شرطا في الصورة ففي المعنى التزام العوض لأن التزام المال لا يحتمل التعليق بالشرط فهو نظير قوله إن عملت لي هذا العمل فلك علي ألف درهم يكون التزاما للعوض بطريق الإجارة.
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إذا أعطيتني ألفا أو متى أعطيتني ألفا فهي امرأته على حالها حتى تعطيه ذلك لأنه علق الطلاق بشرط إعطاء المال فلا يقع بدونه ومتى أعطته في المجلس أو بعده فالطلاق واقع عليها لأن إذا ومتى للوقت فمعنى قوله إذا أعطيتني في الوقت الذي تعطينني وليس للزوج أن يمتنع منه إذا أتته به لا أنه يجبر على القبول ولكن إذا وضعته بين يديه طلقت وهو استحسان وفي القياس لا تطلق حتى يقبله الزوج وهو قول زفر رحمه الله تعالى وأصله في العتاق إذا قال لعبده إذا أديت إلي ألفا فأنت حر وجه القياس أن الحالف لا يجبر على إيجاد الشرط ووجه الإستحسان أن كلامه تعليق بالشرط صورة وإيجاب للطلاق بعوض معنى حتى إذا قبل المال كان الواقع بائنا ولو وجده زيوفا كان له أن يرد ويستبدل وهذا حكم المعاوضة والملتزم للعوض إذا خلى بين صاحبه وبين المال يصير قابضا فباعتبار الشرط قلنا لا حاجة إلى قبولها في المجلس وباعتبار المعاوضة قلنا إذا وضعت المال بين يديه طلقت وليس لها أن ترجع بشيء منه لأنها أدت المال عوضا عن الطلاق وقد سلم لها.(6/330)
قال: ولو كان قال لها إن جئتني بألف درهم فأنت طالق فإن جاءت به في ذلك المجلس وقع الطلاق وإن تفرقا قبل أن تأتيه به بطل هذا القول لأن كلام الزوج تعليق بالشرط فيتم به من غير حاجة إلى قبولها ولكنها تتمكن من أداء المال في المجلس فقيامها قبل الأداء يكون مبطلا بمنزلة قوله إن شئت فأنت طالق وهما سواء في المعنى إلا أن ذلك تمليك الأمر منها بغير عوض وهذا تمليك الأمر منها بعوض فكما يبطل هناك بقيامها عن المجلس قبل المشيئة يبطل هنا بقيامها قبل الأداء.
قال: وإن قال لها أنت طالق على أن تعطيني ألف درهم أو على ألف درهم فهو سواء فإن قبلت في ذلك المجلس وقع الطلاق عليها والمال دين عليها تؤخذ به لأن كلام الزوج إيجاب للطلاق بجعل وليس بتعليق بشرط الإعطاء بمنزلة من يقول لغيره بعت منك هذا العبد على ألف درهم أو على أن تعطيني ألف درهم يكون إيجابا لا تعليقا فإذا وجد القبول في المجلس وقع الطلاق ووجب المال عليها بخلاف قوله إن جئتني أو إذا أعطيتني فإن هناك قد صرح بالتعليق بالشرط فما لم يوجد الشرط لا يقع الطلاق والدليل على الفرق أن هناك لو كان لها على الزوج ألف فاتفقا على جعل الألف قصاصا بما عليه لا يقع الطلاق وهنا يصير قصاصا بالدين الذي لها عليه وقد يجوز أن يثبت الحكم بالقبول مع التصريح بالإعطاء قال الله(6/331)
ص -153- ... تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} وبالقبول يثبت حكم الذمة فإذا ثبت أن الحكم هنا يتعلق بقبول المال يشترط القبول منها في المجلس فإذا لم تقبل حتى قامت فهو باطل وفيما تقدم لما كان الإعطاء شرطا فبجعله قصاصا بما عليه لا يصير الشرط موجودا قبل الإعطاء والمقاصة بين دينين واجبين ففي قوله إذا أعطيتني المال المال غير واجب عليها فلا يصير قصاصا وفي قوله أنت طالق على أن تعطيني المال يجب عليها بالقبول فيصير قصاصا فإذا لم يصر قصاصا في قوله إذا أعطيتني فرضي الزوج أن يوقع عليها طلاقا مستقبلا بالألف التي لها عليه فذلك جائز إذا قبلت وكان هذا منه لها ايجابا مبتدأ.
قال: وإن كان للرجل امرأتان فسألتاه أن يطلقهما على ألف أو بألف فطلق إحداهما لزم المطلقة حصتها من الألف أما في حرف الباء فلأنهما جعلتا الألف بدلا عن طلاقها فإذا طلق إحداهما فعليها حصتها وكذلك في حرف على لأنه لا منفعة لها في طلاق الضرة حتى يجعل شرطا ولأن أكثر ما في الباب إن كل واحدة منهما التزمت حصتها من الألف بشرط أن يطلق صاحبتها وإذا أبى كان هذا شرطا فاسدا إلا أن الخلع لا يبطل بالشرط الفاسد كالنكاح فإن طلق الأخرى في ذلك المجلس أيضا لزمتها حصتها من المال فإن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة فكان هذا وما لو طلقها بكلام واحد سواء وإن افترقوا قبل أن يطلق واحدة منهما بطل إيجابهما بالافتراق فإذا طلقهما بعد ذلك كان الطلاق واقعا بغير بدل.(6/332)
قال: وإذا ادعت المرأة الخلع وأنكره الزوج فأقامت شاهدين شهد أحدهما بالخلع بألف والآخر بألف وخمسمائة فالشهادة باطلة لأنها تدعي أحد الأمرين لا محالة فتكون مكذبة للشاهد الآخر ولأن الخلع في جانبها قياس البيع وشهود البيع إذا اختلفوا في جنس الثمن أو في مقداره بطلت الشهادة فكذلك هنا إذا اختلفا في جنس الجعل كالعرض والعبد أو كالعرض والدراهم فالشهادة باطلة لأن كل واحد منهما شهد بالطلاق لعوض آخر ولا يمكن إيجاب واحد من العوضين عليها فلو حكم بالطلاق لحكم بالطلاق بغير عوض وقد اتفقا أن الزوج ما أوقع الطلاق بغير عوض.
قال: ولو كان الزوج هو المدعي للخلع والمرأة منكرة فشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة فإن كان الزوج يدعي ألفا وخمسمائة جازت شهادتهما على الألف لأن الطلاق قد وقع بإقرار الزوج بقي منه دعوى المال ومن ادعى على غيره ألفا وخمسمائة فشهد له شاهدان شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة تقبل شهادتهما على الألف لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى فإن ادعى الزوج الألف لم تجز شهادتهما لأن الزوج قد كذب أحد شاهديه وهو الذي شهد بألف وخمسمائة والمدعي إذا أكذب شاهده بطلت شهادته له والطلاق واقع بإقراره وكذلك إذا اختلفا في جنس الجعل لأن الزوج مكذب لأحدهما لا محالة فلا بد أن يدعي أحد الجنسين فإن شهد أحدهما بألف والآخر بخمسمائة فعند أبي حنيفة لا تقبل شهادتهما لاختلافهما لفظا وعندهما تقبل على الخمسمائة إذا ادعى الزوج الألف لاتفاقهما على مقدار الخمسمائة(6/333)
ص -154- ... معنى وقد بينا هذا فيما سبق ثم الأصل بعد هذا في باب الخلع أن البدل في الخلع بمنزلة الصداق في النكاح فإنه مال يلتزمه لا بمقابلة مال وقد بينا حكم الصداق في النكاح فالخلع قياسه إلا في فصول يذكر الفرق بينهما فيها حتى إذا اختلعت على دار فلا شفعة للشفيع فيها وإن اشترط أن يرد عليها ألفا مع ذلك ففي وجوب الشفعة في حصة الألف خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه كما في الصداق وليس في جعل الخلع خيار الرؤية ولا رد بعيب يسير كما في الصداق.
قال: وإذا اختلعت بما في بيتها من شيء فهو جائز وكلما يكون في بيتها في تلك الساعة فهو له لأن بالإشارة إلى المحل تنقطع المنازعة بينهما بسبب الجهالة وإن لم يكن فيه شيء فلا شيء له عليها لأنها لم تغر الزوج بتسمية الشيء فإنه ينطلق على ما لا قيمة له فلهذا لا يلزمها شيء وفي هذا الفصل في النكاح يجب مهر المثل ولكن باعتبار أن تسمية الشيء لغو من الزوج فكأنه تزوجها على غير مهر فلها مهر مثلها وهنا يصير كأنه خلعها بغير شيء فلا شيء عليها وهذا لأن البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم بمهر المثل ولا قيمة للبضع عند خروجه عن ملكه.
قال: وإذا اختلعت على ما في بيتها من متاع فله ما فيه فإن لم يكن فيه شيء رجع عليها بالمهر الذي أخذت منه لأنها غرته بتسمية المتاع فإنه اسم لما يكون متقوما منتفعا به فإذا لم يوجد في البيت شيء كان مغرورا من جهتها وللمغرور دفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار ولا يمكن إثبات الرجوع بقيمة المتاع لكونه مجهول الجنس والقدر ولا بقيمة البضع لأنه عند الخروج من ملك الزوج غير متقوم فإنه لا يملكها شيئا إنما يسقط حقه عنها فكان أولى الأشياء ما ساق إليها من الصداق فإن الغرر يندفع عنه بالرجوع بذلك.(6/334)
قال: وإن قالت اخلعني على ما في يدي من دراهم فإن كانت في يدها ثلاثة دراهم أو أكثر فله ذلك وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم لأنها سمت جميع الدراهم وأدنى الجمع المتفق عليه ثلاثة وليس لأقصاه نهاية فأوجبنا الأدنى وفي الصداق في هذا الفصل لها مهر مثلها لأن هناك الزوج يملك عليها ما هو متقوم فلها أن لا ترضى بالأدنى وفي معاوضة المتقوم بالمتقوم يجب النظر من الجانبين وفي تعيين الأدنى ترك النظر لها فلهذا أوجبنا مهر المثل وهنا الزوج لا يملكها شيئا متقوما فيتعين أدنى الجمع لكونه متيقنا ولأنها لما كانت تلتزم لا بعوض متقوم كان هذا في حقها قياس الإقرار والوصية ومن أقر لغيره بدراهم أو أوصي له بدراهم يلزمه ثلاثة وإن كان في يدها درهمان تؤمر بإتمام ثلاثة دراهم له لأنها فيما التزمت ذكرت لفظ الجمع وفي المثنى معنى الجمع وليس بجمع مطلق فإن التثنية غير الجمع.
فإن قيل قد ذكرت في كلامها حرف من وهو للتبعيض والدرهمان بعض الجمع فينبغي أن لا يلزمها إلا ما في يدها كما قال في الجامع إذا قال إن كان ما في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فعبده حر وفي يده أربعة دراهم كان حانثا.(6/335)
ص -155- ... قلنا: نعم حرف من قد يكون للتبعيض وقد يكون صلة كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} وقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ففي كل موضع يصح الكلام بدون حرف من كان حرف من فيه صلة لتصحيح الكلام كما في مسألة الخلع فإنها لو قالت اخلعني على ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا وحرف من صلة لتصحيح الكلام ويبقى منها لفظ الجمع فلهذا يلزمها ثلاثة دراهم والدنانير والفلوس في هذا قياس الدراهم.
قال: وإن اختلعت منه بما في نخلها من ثمرة وليس فيها شيء فله المهر الذي أعطاها لأنها غرته بتسمية الثمرة وهو اسم لمال متقوم وإن اختلعت منه بما يثمر نخلها العام فهو جائز فإن أثمرت فله ذلك وإن لم تثمر شيئا فلا شيء له في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ثم رجع فقال يرجع عليها بما أعطاها من المهر أثمرت أو لم تثمر ولا شيء له من الثمرة وهو قول محمد رحمه الله تعالى وجه قوله الأول أنها لم تغره بشيء ولكنها أوجبت له ما يثمر نخلها العام فكان هذا بمنزلة الإيجاب بطريق الوصية ومن أوصى بما تثمر نخيله العام فإن أثمرت فهي للموصى له وإن لم تثمر فلا شيء له فهذا مثله وجه قوله الآخر أنها تلتزم بدل الخلع عوضا وإن لم يكن بمقابلته ما هو متقوم والثمار المعدومة لا تصلح عوضا في شيء من العقود فيبقى مجرد تسمية ما هو متقوم منتفع به وذلك بمنزلة الغرور منها وذلك يثبت حق الرجوع بما أعطاها وهذا لأن الغرور ثابت هنا معنى لما تعذر تسليم المسمى له شرعا فهو بمنزلة ما لو وجد الغرور منها صورة بأن سمت المتاع الذي في يدها وليس في يدها متاع فيرجع عليها بما أعطاها.(6/336)
قال: وإن اختلعت منه بما في بطن جاريتها أو على ما في بطون غنمها فهو جائز وله ما في بطونها بخلاف الصداق فإن في مسئلته يجب مهر المثل لها لأن ما في البطن ليس بمال متقوم في الحال ولكن باعتبار المآل هو مال بعد الانفصال إلا أن أحد العوضين في باب النكاح لا يحتمل التعليق بالشرط فكذلك العوض الآخر ولا يمكن تصحيح التسمية في الحال لأن المسمى ليس بمال ولا باعتبار المآل لأنه في معنى الإضافة أو التعليق بالانفصال فكان لها مهر مثلها وأما في الخلع أحد العوضين وهو الطلاق يحتمل الإضافة والتعليق بالشرط فكذلك العوض الآخر وأمكن تصحيح تسمية ما في البطن باعتبار المآل وهو ما بعد الانفصال وإذا صحت التسمية فله المسمى وإن لم يكن في بطونها شيء فلا شيء له لأنها ما غرته فما في البطن قد يكون مالا متقوما وقد يكون غير ذلك من ريح أو ولد ميت والرجوع عليها بما أعطي بحكم الغرور وما وجد في بطونها بعد الخلع فهو للمرأة لأنها سمت الموجود في البطن عند الخلع فلا يتناول ما يحدث بعد ذلك بل الحادث نماء ملكها فيكون لها.
قال: وإن اختلعت منه بحكمه أو بحكمها أو بحكم أجنبي فهو جائز كما في الصداق إلا أن هناك المعيار مهر المثل وهنا المعيار ما أعطاها فإن اختلعت بحكمه فحكم الزوج عليها بمقدار ما أعطاها أو بأقل فذلك صحيح لأنه مسقط بعض حقه وإن حكم بأكثر من ذلك لم يلزمها الزيادة إلا أن ترضى به وإن كان بحكمها فإن حكمت بما أعطاها الزوج أو أكثر جاز لأن(6/337)
ص -156- ... تصرفها على نفسها بالتزام الزيادة صحيح وإن حكمت بأقل من ذلك لم يثبت النقصان إلا أن يرضى الزوج بذلك لأن حكمها بذلك على الزوج وإن كان بحكم أجنبي فله ما أعطاها لأن الأجنبي إن حكم بأقل من ذلك فهو متصرف على الزوج بإسقاط بعض حقه وإن حكم بأكثر من ذلك فهو متصرف عليها بإلزام الزيادة فلا ينفذ بدون رضاها.
قال: وإن اختلعت منه على خادم بغير عينها فهو جائز وله خادم وسط أو قيمته أيهما أتت به أجبر على القبول كما في الصداق.
قال: وإن اختلعت منه بما تكتسب العام من مال أو بما ترثه أو بما تتزوج عليه أو بما تحمل جاريتها أو غنمها فيما يستقبل كان له المهر الذي أعطاها في جميع ذلك لأن المسمى لا يصلح عوضا في شيء من النقود إما لأنه على خطر الوجود لا يدري أيكون أم لا أو لأنه مجهول الجنس والصفة والقدر فلا يصح التزامه في الخلع أيضا ولكنها غرته بتسمية المال فيلزمها رد ما ساق إليها بسبب الغرور وكذلك ما تحمل جاريتها أو نعمها من ولد لا يصح تمليكه من الغير بشيء من أسباب التمليك الوصية وغيرها فيه سواء فيلزمها رد المقبوض بسبب الغرور.(6/338)
قال: وكذلك إن اختلعت على أن تزوجه امرأة وتمهر عنه فالخلع جائز والشرط باطل للجهالة المستتمة في المسمى ولكن الغرور يتمكن لتسمية الأمهار فعليها رد العوض وإن اختلعت منه على موصوف من المكيل أو الموزون أو النبات فهو جائز كما في الصداق وإن اختلعت منه على ثوب أو على دار فالتسمية فاسدة للجهالة المستتمة كما في الصداق وله المهر الذي أعطاها بسبب الغرور وكذلك إن اختلعت منه بدابة للجهالة المستتمة فإن اسم الدابة يتناول أجناسا مختلفة فله المهر الذي أعطاها وإن اختلعت منه بشيء معروف مسمى ولها عليه مهر وقد دخل بها أو لم يدخل بها لزمها ما سمت له ولا شيء لها مما سمى على الزوج من المهر في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لها أن ترجع عليه بالمهر إن كان قد دخل بها وينصف المهر إن لم يدخل بها وكذلك لو كانت أخذت المهر ثم خلعها قبل الدخول على شيء مسمى فليس للزوج أن يرجع عليها بشيء من المهر في قول أبي حنيفة وفي قول محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يرجع عليها بنصف المهر وإن كان العقد بينهما بلفظة المبارأة فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى في المبارأة الجواب كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى والحاصل أن الخلع والمبارأة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى توجبان براءة كل واحد منهما عن صاحبه من الحقوق الواجبة بالنكاح حتى لا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء بعد ذلك وعند محمد لا يوجبان إلا المسمى في العقد وفيما سوى ذلك من حقوق النكاح يجعل كالفرقة بغير جعل بالطلاق وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الخلع الجواب كما قال محمد رحمه الله تعالى وفي المبارأة الجواب كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى وجه قول(6/339)
ص -157- ... محمد رضي الله عنه أن هذا طلاق بعوض فيجب به العوض المسمى ولا يسقط شيء من الحقوق الواجبة كما لو كان بلفظ الطلاق وهذا لأنه لا تأثير لعقد المعاوضة إلا في استحقاق العوض المسمى به والدليل عليه أنه لو كان لأحدهما على الآخر دين واجب بسبب آخر أو عين في يده لا يسقط شيء من ذلك بالخلع والمبارأة فكذلك الحقوق الواجبة عليه بالنكاح والدليل عليه أن نفقة عدتها لا تسقط وهي من الحقوق الواجبة بالنكاح فكذلك المهر بل أولى لأن النفقة أضعف وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المقصود بهذا العقد لا يتم إلا باسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح فلا تمام هذا المقصود يتعدى حكم هذا العقد إلى الحقوق الواجبة بالنكاح لكل واحد منهما وهذا لأن الخلع إنما يكون عند النشوز وسبب النشوز الوصلة التي بينهما بسبب النكاح فتمام انقطاع المنازعة والنشوز إنما يكون بإسقاط ما وجب باعتبار تلك الوصلة وفي لفظهما ما يدل عليه فإن المبارأة مشتقة من البراءة والخلع من الخلع وهو الانتزاع يقول الرجل خلعت الخف من الرجل إذا قطعت ما بينهما من الوصل من كل وجه فأما إذا كان العقد بلفظ الطلاق فقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يسقط الحقوق الواجبة أيضا بالنكاح لإتمام المقصود وفي ظاهر الرواية ليس في لفظ الطلاق ما يدل على إسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح فلهذا لا تسقط فأما سائر الديون فوجوبها ما كان بسبب وصلة النكاح والنشوز والمنازعة لم يتحقق فيه فلهذا لا يسقط وأما نفقة العدة فهي غير واجبة عند الخلع إنما تجب شيئا فشيئا والخلع والمبارأة سقاط ما هو واجب بحكم النكاح في الحال وأبو يوسف رحمه الله تعالى أخذ في المبارأة بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لتحقيق معنى البراءة وفي الخلع أخذ بقول محمد رحمه الله تعالى لأنه ليس فيه معنى البراءة عن الحقوق الواجبة فجعل لفظ الخلع بمنزلة لفظ الطلاق وعلى هذا الأصل لو كان مهرها ألف درهم فاختلعت منه قبل(6/340)
الدخول على مائة درهم من مهرها فليس لها أن ترجع على الزوج بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما ترجع عليه بأربعمائة ولو كانت قبضت الألف ثم اختلعت بمائة درهم منها لم يكن للزوج غير المائة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يرجع عليها إلى تمام النصف وكذلك لو كان المهر عبدا بعينه في يدها فاختلعت منه بمائة درهم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يرجع عليها بشيء من العبد وعندهما يرجع عليها بنصف العبد ولو تزوجها على ألف درهم فوهبت له النصف وقبضت النصف ثم اختلعت منه بشيء مجهول كالثوب ونحوه فإنه يرجع عليها بما دفع إليها من المهر لا بالألف التي كان أصل العقد بها لأن ثبوت حق الرجوع عند الغرور لدفع الضرر عن الزوج وذلك يتم إذا رجع بما ساق إليها ولو كانت وهبت جميع المهر لزوجها لم يرجع الزوج عليها بشيء لأن الرجوع بحكم قبضها ولم يقبض شيئا والرجوع لدفع الضرر عن الزوج والضرر مندفع هنا حين سلم له جميع المهر بالهبة.(6/341)
ص -158- ... قال: وإذا اختلعت من زوجها بعبد بعينه فمات قبل أن يسلمه فعليها قيمته له كما في الصداق لأن السبب الموجب للتسليم لم ينفسخ بهلاكه فإن تبين أن العبد كان مات قبل الخلع فإنما يرجع عليها بالمهر الذي أخذت منه لأنها غرته بتسمية العبد وإن كان حيا فاستحق فعليها قيمته لأنه تعذر تسليمه مع بقاء السبب الموجب للتسليم له وإن ظهر أنه كان حرا فعليها المهر الذي أخذت منه في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما وفي قول أبي يوسف رضي الله عنه عليها قيمته أن لو كان عبدا وهذا والصداق سواء.
قال: وإن اختلعت منه بما لا يحل كالخمر والخنزير والميتة لم يكن له عليها شيء لأن المسمى ليس بمال متقوم في حق المسلمين فلا يتمكن الغرور منها بهذه التسمية فصارت هذه التسمية وجودها كعدمها وبهذا فارق الصداق فإن تسمية الخمر هناك وجودها كعدمها ولكن بدون التسمية يجب مهر المثل هناك ولا يجب هنا شيء وإن غرته فقالت اختلع منك بهذا الخل فإذا هو خمر فعليها أن ترد المهر المأخوذ في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليها مثل ذلك الكيل من خل وسط وهذا والصداق سواء.(6/342)
قال: وإذا تزوجها على ألف درهم ثم اختلعت منه بمال مؤجل فهو جائز إذا كان الأجل معلوما لأن الخلع عقد معاوضة فيصح اشتراط الأجل المعلوم في بدله كسائر المعوضات وإن كان الأجل مجهولا جهالة مستتمة مثل الميسرة أو موت فلان أو قدوم فلان فالمال عليها حال لأن الأجل اسم لزمان منتظر ولم يصر مذكورا بذكر هذه الألفاظ لجواز أن يتصل موت فلان أو قدومه والميسرة بالعقد فبقي هذا شرطا فاسدا والخلع لا يبطل به فكان المال حالا عليها وإن كان إلى الإعطاء أو إلى الدياس أو النيروز أو المهرجان فالمال إلى ذلك الأجل لأنهما ذكرا في العقد ما هو أجل وهو الزمان الذي هو منتظر فإن وقت الشتاء ليس بزمان الحصاد والدياس بيقين ولكن في آخره بعض الجهالة من حيث أنه قد يتقدم إذا تعجل الحر ويتأخر إذا تطاول البرد ولكن هذا القدر لا يمنع صحة الأجل خصوصا في العقد المبني على التوسع كالكفالة والخلع مبني على التوسع فتثبت فيه هذه الآجال فإن ذهبت الغلة في ذلك العام فلم يكن حصاد ولا جزاز فالأجل إلى مثل ذلك الوقت الذي يكون فيه في مثل ذلك البلد وكذلك العطاء لأن ذكر العطاء كان على سبيل الكناية عن وقته فلا معتبر بوجود حقيقته ووقته معروف عند الناس في كل موضع فإذا جاء ذلك الوقت وجب تسليم المال وبدل الخلع إذا كان دينا فهو في حكم أخذ الرهن والكفيل به بمنزلة الصداق حتى إذا هلك هلك بما فيه وكان هو أمينا في الفضل.
قال: وإن خلعها على وصيف بغير عينه فإن جاءت بقيمته أجبر على قبوله كما في الصداق وإن صالحها من الوصيف على دراهم مما يكال أو يوزن أو العروض أو الحيوان من غير صفته فهو جائز بعد أن يكون يدا بيد كما في الصداق وهذا لأنه إذا لم يكن مقبوضا كان دينا بدين وذلك حرام.(6/343)
ص -159- ... قال: وإذا اختلعت في مرضها بمهرها الذي كان لها على زوجها ثم ماتت في العدة فله الأقل من ميراثه ومن المهر إن كان يخرج من ثلث مالها مهر وإن لم يكن لها مال سوى ذلك فله الأقل من ميراثه منها ومن الثلث وإن ماتت بعد انقضاء العدة فله المهر من ثلث مالها والحاصل أنه إذا اختلعت في مرضها فبدل الخلع معتبر من ثلث مالها عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى من جميع المال واعتبر الخلع بالنكاح فإن المريض لو تزوج امرأة بصداق مثلها اعتبر من جميع ماله لأن ذلك من حوائجه وكذلك المريضة إذا اختلعت لأن ذلك من حوائجها لتتخلص به من أذى الزوج ولكنا نقول البضع عند دخوله في ملك الزوج متقوم وعند الخروج لا يتقوم حتى أن للأب أن يزوج ابنه امرأة بماله وليس له أن يخالع ابنته من زوجها بمالها والخلع ليس من أصول حوائجها فكان بدل الخلع بمنزلة الوصية منها للزوج فيعتبر من الثلث ومن عليه القصاص إذا صالح في مرضه على الدية عندنا يعتبر من جميع ماله لأنه يحتاج إليه لاحياء نفسه فكان ذلك من أصول حوائجه بخلاف بدل الخلع وعند زفر رحمه الله تعالى يعتبر هنا من الثلث بخلاف الخلع لأن القصاص عقوبة فلا يعتاض عنه بالمال حقيقة فيكون التزام المال بمعنى الصلة المبتدأة والمملوك بالنكاح مما يعتاض عنه بالمال باعتبار الأصل وما يسلم للزوج هنا يصلح أن يكون عوضا يعتبر من جميع مالها إذا عرفنا هذا فنقول إذا ماتت قبل انقضاء العدة فسبب ميراثه باق ببقاء العدة ويجوز أن يكون قصدها بهذا الخلع إيصال المنفعة المالية إلى الزوج ولكن هذه التهمة في الزيادة على قدر ميراثه فأما في الأقل فلا تهمة فلهذا كان له الأقل من ميراثه ومما سمت له وإذا ماتت بعد انقضاء العدة فليس بينهما سبب التوارث عند موتها فيكون له جميع المسمى من الثلث بمنزلة ما لو أوصت له أو أقرت له بشيء بعد ما طلقها ثلاثا وإن كان لم يدخل بها فاختلعت منه في مرضها بمهرها فنقول أما نصف المهر فقد(6/344)
سقط عن الزوج بالطلاق قبل الدخول لا من جهتها والنصف الباقي له من ثلث مالها لأن ذلك القدر بمنزلة الوصية منها له وليس بينهما سبب التوارث إذا كان الطلاق قبل الدخول فلا معنى لاعتبار الأقل وكذلك إن كانت اختلعت منه بأكثر من مهرها فنصف المهر سقط بالطلاق قبل الدخول والنصف الباقي مع الزيادة للزوج من ثلث مالها فإن برئت من مرضها فله جميع المسمى بمنزلة ما لو خالعها في صحتها.
قال: وإن اختلعت وهي صحيحة والزوج مريض فالخلع جائز بالمسمى قل أو كثر لأنه لو طلقها بغير عوض كان صحيحا فبالعوض القليل أولى ولا ميراث لها منه لأن الفرقة إنما وقعت بقبولها فكأنه طلقها بسؤالها.
قال: وإن تبرع أجنبي في مرضه باختلاعها من الزوج بمال ضمنه للزوج فهو جائز من ثلثه إذا مات من ذلك المرض لأن الأجنبي التزم المال في مرضه من غير عوض حصل له فكان معتبرا من ثلثه وإن كان الزوج مريضا حين فعل الأجنبي هذا بغير رضاها فلها الميراث(6/345)
ص -160- ... إذا مات الزوج قبل انقضاء عدتها لأن الفرقة وقعت بغير رضاها فيكون الزوج فارا في حقها.
قال: وإذا وكل رجل رجلا أن يخلع امرأته فقام الوكيل من مجلسه قبل أن يخلعها فهو على وكالته لأن مطلق التوكيل لا يتوقت بالمجلس كما في سائر العقود وهذا لأن المطلوب من الوكيل تحصيل مقصود الموكل والمجلس وما بعده في هذا سواء وهذا بخلاف ما لو قال لها أمرك بيدك لأن ذلك تمليك الأمر منها وجواب التمليك يقتصر على المجلس وهذا إنابة له مناب نفسه في عقد الخلع فيصير نائبا عنه ما لم يعزله كما لو قال له طلقها.
قال: وإذا وكل رجلين بالخلع فخلع أحدهما لم يجز لأن الخلع عقد معاوضة يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير وهو إنما رضي برأي المثنى ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى فلا يحصل مقصوده إذا انفرد أحدهما به كما في البيع بخلاف ما لو قال طلقاها فطلقها أحدهما جاز لأن إيقاع الطلاق مجرد عبارة لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير وعبارة الواحد وعبارة المثنى سواء وما هو مقصود الزوج يحصل بإيقاع أحدهما.(6/346)
قال: وإذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا على عبدي هذا إن شئت فقامت من مجلسها قبل أن تشاء فهي امرأته ولا يقع الطلاق في هذا إلا بقبولها لأن العبد المسمى ملك الزوج فكان ذكره والسكوت عنه سواء فيبقى قوله أنت طالق ثلاثا إن شئت فإذا قامت قبل أن تشاء خرج الأمر من يدها فلا يقع عليها شيء لأن المشيئة منها لم توجد ولأنه أوقع الطلاق بعوض فلا يقع إلا بوجود القبول وإن لم يجب العوض ولا منفعة فيه لأحدهما كما لو طلقها على خمر أو ميتة لا يقع الطلاق إلا بقبولها وإن كان لا يجب عليها شيء بعد القبول وإن قبلت في المجلس وقع الطلاق عليها لوجود القبول ولأنها لما قبلت فقد شاءت والعبد عبد الزوج على حاله لأن ملكه لا يكون عوضا عن ملكه ولا شيء له عليها لأنها لم تغره وإن قال أنت طالق إن شئت على عبدك الذي في يدي فإن قبلت وقع الطلاق عليها وله العبد لأن ملكها يصلح عوضا عن الطلاق سواء كان في يدها أو في يد الزوج فإن استحق العبد فله قيمته لأن التسليم بالعقد صار مستحقا عليها وقد بطل فيبقى الزوج بالاستحقاق من الأصل والسبب الموجب تسليم قائم فعليها قيمته له.
قال: وإن طلقها على ما في يده فقبلت فإذا في يده جوهرة لها فهي له وإن لم تكن علمت بذلك لأنها هي التي أضرت بنفسها حين قبلت الخلع قبل أن تعلم ما في يده ولو اشترى منها بهذه الصفة كان جائزا ولا خيار لها فالخلع أولى وإن لم يكن في يده شيء فالطلاق رجعي ولا شيء له عليها لأنها لم تغره وصريح الطلاق لا يوجب البينونة إلا بعوض.
قال: وإن اختلعت منه بعبد حلال الدم فقتل عنده بقصاص رجع عليها بقيمته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهذا بمنزلة الاستحقاق عنده على ما نبينه في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى وكذلك لو كان وجب قطع يده فقطع عند الزوج رده وأخذ قيمته في قول أبي حنيفة(6/347)
ص -161- ... رحمه الله تعالى وهذا بمنزلة العيب الفاحش يكون في يدها بالعبد وعندهما عيب القطع في حكم الحادث عند الزوج فيمنعه من رد العبد عليها وموضع بيان هذه المسألة في كتاب البيوع.
قال: ولو خلعها على عبد نصراني أو أمة لها زوج أو عبد له امرأة ولم تعلمه ذلك لم يرجع عليها بشيء فإن هذا بمنزلة العيب اليسير لأن نقصان المالية يقل بهذه الأسباب وبدل الخلع لا يرد بالعيب اليسير كالصداق.
قال: وإن اختلعت ومهرها ألف درهم على عبد على إن زادها ألف درهم فاستحق العبد من يده رجع عليها بالألف وبنصف قيمة العبد لأن المرأة بذلت العبد بإزاء شيئين الألف التي قبضت والخلع وهما سواء فانقسم العبد نصفين نصفه بيع من الزوج بالألف فعند الاستحقاق يرجع بثمنه المدفوع ونصفه بدل الخلع فعند الاستحقاق يرجع بقيمته فلهذا رجع عليها بالألف وبنصف قيمة العبد وكذلك لو كان أعطاها مكان الألف خادما قيمته ألف أخذ الخادم ونصف قيمة العبد لأن نصف العبد كان بيعا له بالخادم والاستحقاق يبطل البيع فيرجع بالخادم والنصف الآخر من العبد كان جعلا فيرجع بقيمته عند الاستحقاق.
قال: وإن خلعها على إن أعطته درهما قد نظر إليه في يدها فإذا هو زيف أو ستوق فله أن يأخذ منها جيدا لأن مطلق تسمية الدراهم يتناول الجياد فكان له أن يرد الزيف والستوق ويطالبها بما استحق من العقد.
قال: وليس هذا بمنزلة العيب في العبد يريد به أن العبد لا يرد بالعيب اليسير في الخلع والدراهم ترد بعيب الزيافة وإن كان ذلك عيبا يسيرا لأن الخلع ما تعلق بتلك الدراهم بعينها وإنما تعلق بدراهم جياد في ذمتها حتى أن لها أن تمنع ذلك الدرهم وتعطيه آخر فكان له أن يطالبها بما استحق بالعقد ولأنه بالرد هنا يستفيد شيئا وهو الرجوع بالجيد بخلاف العبد فإن العبد تعلق بعينه فلا يستفيد شيئا برده بعيب يسير لأنه يرجع بقيمته ولا فرق بين قيمته صحيحا وبين عينه مع العيب اليسير.(6/348)
قال: ولو اختلعت منه على ثوب في يدها أصفر فقالت هو هروي فإذا هو مصبوغ كان له ثوب هروي وسط لأن المسمى إذا لم يكن من جنس المشار إليه فالعقد يتعلق بالمسمى ولهذا لا يجوز البيع في مثله لأنه يتعلق بالمسمى وهو معدوم فكذلك بالخلع يتعلق بالمسمى وهو ثوب هروي والخلع على مثله صحيح وينصرف إلى الوسط كما في الصداق.
قال: وإذا تزوج المريض امرأة مريضة على ألف درهم ودفعها إليها ولا مال له غيرها ومهر مثلها مائة درهم فاختلعت بها منه قبل أن يدخل بها ثم ماتت من ذلك المرض ولا مال لها غيرها ثم مات الزوج بعدها من ذلك المرض فلورثة المرأة من هذه الألف مائتا درهم وخمسة وسبعون درهما ولورثة الزوج سبعمائة وخمسة وعشرون درهما وهذه المسألة تنبني على أصول أحدها أن المريض إذا تزوج امرأة على أكثر من صداق مثلها فالزيادة على صداق(6/349)
ص -162- ... المثل بمنزلة الوصية في الاعتبار من الثلث ومقدار صداق مثلها لا يعتبر من الثلث والثاني أن المريضة إذا اختلعت من زوجها بمال يكون معتبرا من ثلث مالها والثالث أن الطلاق قبل الدخول يسقط نصف الصداق عن الزوج شرعا ثم وجه تخريج المسألة أن في مقدار مهر مثلها وهو المائة لا وصية من الزوج لها وقد عاد بالطلاق قبل الدخول نصفه إليه بقي لها خمسون وقد أوصت بذلك للزوج حين اختلعت منه به فإنما يسلم للزوج ثلث ذلك وهو ستة عشر وثلثان فيكون حاصل مال الزوج تسعمائة وستة وستين وثلثين وقد حاباها بأربعمائة وخمسين في أصل النكاح لأن المحاباة كانت تسعمائة ولكن بالطلاق قبل الدخول عاد إلى الزوج نصفها فبقيت المحاباة بأربعمائة وخمسين وذلك أكثر من ثلث ماله فتعتبر محاباته من الثلث فكان ينبغي أن يسلم لها ثلث هذا المقدار إلا أنه قال أنه تنفذ وصيته في ثلاثة أثمان هذا المقدار لأنا لو نفذنا في ثلثها رجع ثلث ذلك إلى ورثة الزوج بالخلع فيزداد ما لهم وتجب الزيادة في تنفيذ الوصية لها بحسبه فلا يزال يدور هكذا فلقطع الدور قال تنفذ وصيته في ثلاثة أثمانه وطريق معرفة ذلك بالسهام أنك تحتاج إلى مال ينقسم ثلثه أثلاثا وأقل ذلك تسعة فكان ينبغي أن يجعل مال الزوج على تسعة أسهم وتنفذ وصيته في ثلثه إلا أن سهما من هذه الثلاثة يعود إلى الورثة بالخلع وصية منها له فيصير في يد ورثة الزوج سبعة أسهم وحاجتهم إلى ستة وهذا السهم الزائد هو الدائر الذي يسعى إلى الفساد فالسبيل طرح هذا السهم من قبل من خرج الدور من قبله وهو معنى قول أبي حنيفة سهم الدور ساقط وإنما ظهر هذا الدور من جانب الورثة بزيادة حقهم فنطرح من أصل حقهم سهما فيبقى حقهم في خمسة وحق المرأة في ثلاثة فيكون ثمانية فلهذا جعلنا مال الزوج على ثمانية ثم نفذنا وصيته لها في ثلاثة ويعود سهم من هذه الثلاثة إلى ورثته بالخلع فيصل للورثة ستة وقد نفذنا الوصية في ثلثه فيستقيم الثلث(6/350)
والثلثان ثم وجه التخريج من حيث الدراهم أن مال الزوج تسعمائة وستة وستون وثلثان فإذا قسمت ذلك أثمانا فكل ثمن من ذلك مائة وعشرون وخمسة أسداس فثلاثة أثمانه تكون ثلاثمائة واثنين وستين ونصفا تنفذ الوصية في الابتداء في هذا المقدار يبقى للورثة ستمائة وأربعة وسدس ثم يعود إليهم من جهتها مائة وعشرون وخمسة أسداس فيكون جملة ذلك سبعمائة وخمسة وعشرين وقد نفذنا الوصية في ثلاثمائة واثنين وستين ونصف فيستقيم الثلث والثلثان وحصل لورثة المرأة في الابتداء ثلاثة وثلاثون وثلث وبالوصية مائتان وأحد وأربعون وثلثان فيكون جملة ذلك مائتين وخمسة وسبعين فاستقام التخريج وهذه المسألة بأخواتها تعود في كتاب العتق في المرض فيؤخر تخريج سائر الطرق إلى ذلك الموضع والله أعلم بالصواب.
باب المشيئة في الطلاق
قال: رجل قال لامرأته إن شئت فأنت طالق فذلك إليها ما دامت في مجلسها لأنه علق الوقوع بمشيئتها وذلك من عمل قلبها بمنزلة اختيارها وقد اتفقت الصحابة رضوان الله(6/351)
ص -163- ... عليهم إن للمخيرة الخيار ما دامت في مجلسها فكذلك يثبت هذا الحكم فيما هو في معناه وهو المشيئة وهذا لأن الرأي الذي يوجبه الزوج لها معتبر بما يثبت لها من الخيار شرعا وهو خيار المعتقة وذلك يتوقت بمجلسها غير أنها إن شاءت هنا فهي طالق تطليقة رجعية لأن الوقوع بلفظ الزوج وقد أتى بصريح الطلاق وإن قامت قبل أن تشاء فهي امرأته ولا مشيئة لها بعد ذلك لانقطاع مجلسها بالقيام أو لوجود دليل الإعراض عما فوض إليها من المشيئة وكذلك إن أخذت في عمل آخر يعرف أنه قطع لما كانا فيه من ذكر الطلاق لأن الاعراض عن المشيئة يتحقق باشتغالها بعمل آخر كما يتحقق بقيامها وقيام الزوج من ذلك المجلس لا يبطل مشيئتها لأن قيامه دليل الرجوع فيكون كصريح الرجوع ولو رجع عما قال كان رجوعه باطلا بخلاف قيامها فإنه دليل الرد ولو ردت المشيئة صح منها وبه فارق البيع فإن الموجب لو قام عن المجلس قبل قبول الآخر يبطل إيجابه فكذلك يبطل بقيامه وكذلك لو قال إن أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت فأنت طالق لأن هذه الألفاظ في المعنى تتقارب فإنه تعليق للوقوع باختيارها ولأن هذه المعاني لا تفارقها كمشيئتها فيتحقق منها في المجلس ولو قال طلقي نفسك إن شئت أو أحببت أو هويت أو رضيت أو أردت فهو كذلك إلا أن هنا ما لم تقل طلقت نفسي لا يقع لأن قوله طلقي نفسك تمليك الأمر منها وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت صار الأمر في يدها لوجود الشرط فلا يقع ما لم توقع وهناك قوله أنت طالق إيقاع وقد علقه بالمشيئة فإذا قالت شئت يتنجز وإن قال إن كنت تحبينني أو تبغضينني فأنت طالق أو ما أشبه هذا من الكلام الذي لا يطلع على ما في قلبها غيرها فذلك إليها في المجلس والقول فيه قولها استحسانا وفي القياس لا يقبل قولها إذا أنكره الزوج لأنها تدعي شرط الطلاق وذلك منها كدعوى نفس الطلاق ولكنه استحسن فقال لا طريق لنا إلى معرفة هذا الشرط إلا من جهتها فلا بد من قبول قولها فيه(6/352)
لأن الحجة بحسب الممكن في كل فضل ولما علق الزوج الطلاق بما في قلبها مع علمه أنه لا يعرف ذلك إلا بقولها صار الطلاق معلقا بإخبارها فكأنه قال إن أخبرتني أنك تحبينني وقد أخبرت بذلك فإنما أقمنا نفس الخبر مقام حقيقة ما في قلبها للتيسير استحسانا لهذا وإنما توقت بالمجلس لأن إخبارها يتحقق في المجلس كمشيئتها واختيارها ولو قال لها طلقي نفسك ولم يذكر فيه مشيئة فذلك بمنزلة المشيئة لها ذلك ما دامت في المجلس لأنه تمليك للإيقاع منها وجواب التمليك يقتصر على المجلس بخلاف ما لو قال لأجنبي طلق امرأتي فإن ذلك توكيل والتوكيل لا يتوقت بالمجلس وفي جانبها ليس بتوكيل فإنها لا تكون وكيلا ولا رسولا في الإيقاع على نفسها فبقي تمليكا للأمر منها فإن طلقت نفسها ثلاثا وقال الزوج أردت ثلاثا فهي طالق ثلاثا لأن قوله طلقي نفسك تفويض ولهذا جعلناه تمليكا للأمر منها على معنى أنه فوض إليها ما كان إليه والتفويض يحتمل معنى العموم والخصوص فنية الثلاث فيه نية العموم وبعد ما صارت الثلاث مفوضة إليها يكون إيقاعها الثلاث كإيقاع الزوج(6/353)
ص -164- ... ولو قال أردت واحدة لم يقع عليها شيء في قول أبي حنيفة وعندهما يقع عليها واحدة وكذلك لو قال طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما يقع عليها واحدة وإن قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة أو اثنتين وقع ذلك بالإتفاق هما يقولان أوقعت ما فوض إليها وزادت على ذلك لأن الواحدة موجودة في الثلاث فهو كما لو قالت طلقت نفسي واحدة وواحدة وواحدة وكما لو قال لها طلقي نفسك فطلقت نفسها وضرتها وكما لو قال لعبده أعتق نفسك فأعتق نفسه وصاحبه أو قال لأجنبي بع عبدي هذا فباعه مع عبد آخر والدليل على وجود الواحدة في الثلاث أن الثلاث آحاد مجتمعة ألا ترى أنه لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة يقع وإنما يصح إيقاعها إذا كان ما أوقعت موجودا فيما فوض إليها توضيحه أنه لو قال لها طلقي نفسك فقالت أبنت نفسي يقع عليها تطليقة رجعية وبما زادت من صفة البينونة لا تنعدم الموافقة في أصل الطلاق فكذلك إذا أوقعت الثلاث لأن موجب الثلاث البينونة الغليظة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أتت بغير ما فوض إليها فكانت مبتدئة فيتوقف إيقاعها على إجازة الزوج كما لو قال لها طلقي نفسك فطلقت ضرتها وبيان الوصف أن الثلاث غير الواحدة وقد قررنا هذا في مسألة الشهادة فيما سبق بخلاف ما لو قالت واحدة وواحدة وواحدة لأنها بالكلام الأول تكون ممتثلة لما فوض وفي الكلام بالثانية والثالثة تكون مبتدئة وكذلك إن أوقعت على نفسها وضرتها.
فإن قيل فكذلك هنا بقولها طلقت نفسي تكون ممتثلة لو اقتصرت عليه فإنما تكون مبتدئة في قولها ثلاثا فتلغو هذه الزيادة.(6/354)
قلنا: الطلاق متى قرن بالعدد فالوقوع بالعدد لا بلفظ الطلاق ولهذا لو قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا تطلق ثلاثا ولو مات بعد قوله طالق قبل قوله ثلاثا لم يقع شيء فإذا كانت مبتدئة في كلمة الإيقاع لم يقع عليها شيء بدون إجازته وبه فارق صفة البينونة لأن قولها أبنت نفسي أي طلقت نفسي تطليقة بائنة وأصل الطلاق إنما يقع بقولها طلقت نفسي لا بذكر صفة البينونة وهي في ذلك ممتثلة أمره وهذا بخلاف ما لو قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة لأن الثلاث غير الواحدة ولكن من ضرورة صيرورة الأمر في يدها في الثلاث وقوع الواحدة بإيقاعها فإنها بعض ما صار مملوكا لها فإنما ينفذ باعتبار أنها تصرفت فيما ملكت وهنا إنما صارت الواحدة في يدها وليس من ضرورته صيرورة الثلاث في يدها فهي في إيقاع الثلاث غير متصرفة فيما تملك ولا ممتثلة أمره توضيحه أن المخاطب متى زاد على حرف الجواب كان مبتدئا كما لو قال تعال تغد معي فقال إن تغديت اليوم فعبده كذا كان مبتدئا حتى لو رجع إلى بيته فتغدى حنث لأنه زاد على حرف الجواب ومتى نقص لا يكون مبتدئا والمخاطبة بالواحدة إذا أوقعت الثلاث فقد زادت على حرف الجواب والمخاطبة بالثلاث إذا أوقعت الواحدة لم تزد على حرف الجواب فلهذا افترقا يقرره أنه إذا فوض الثلاث إليها فأوقعت واحدة فهي تقدر على(6/355)
ص -165- ... إيقاع الثانية والثالثة في المجلس ولو فعلت كانت ممتثلة لا محالة فبتركها إيقاع الثانية والثالثة لا تخرج من أن تكون ممتثلة في الأولى بخلاف ما إذا أوقعت الثلاث وقد أمرها بالواحدة لأن هناك لا تقدر على الامتثال بعد هذا لاشتغالها بغير ما أمرها به.
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت واحدة أو اثنتين فهذا باطل لأن قوله إن شئت أي إن شئت الثلاث فإن هذا اللفظ غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من أن يجعل بناء على ما سبق وإذا جعلناه بناء يتبين أنه جعل الشرط مشيئتها الثلاث فلا يتم الشرط بمشيئتها الواحدة ولو قال لها أنت طالق واحدة إن شئت فقالت شئت اثنتين أو ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لم توجد مشيئتها الواحدة فإن الثلاثة غير الواحدة وعندهما تقع واحدة لأنها قد شاءت الواحدة وزيادة وهذا بناء على الفصل الأول.(6/356)
قال: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت واحدة وواحدة وواحدة وقع عليها ثلاث تطليقات دخل بها أو لم يدخل بها لأن تمام الشرط بآخر كلامها فما لم يتم الشرط لا ينزل الجزاء فلهذا وقع الثلاث عند تمام الشرط جملة سواء دخل بها أو لم يدخل بها ولأن الكلام المعطوف بعضه على بعض يتوقف أوله على آخره وبآخره تتحقق منها مشيئة الثلاث فكأنها قالت شئت ثلاثا ولو قالت شئت واحدة وسكتت ثم قالت شئت واحدة وواحدة لم يقع عليها شيء لأن كلامها تفرق بسكوتها وهي في الكلام الأول شاءت غير ما جعله الزوج شرطا لأن الشرط مشيئتها الثلاث وقد شاءت الواحدة واشتغالها بمشيئة أخرى يكون ردا للمشيئة التي جعلها الزوج شرطا فكان هذا بمنزلة قولها لا أشاء ولو قالت ذلك لم يكن لها مشيئة بعده فكذلك هنا بخلاف الأول فإن كلامها موصول هناك وبتأخره يبين أنه إيجاد للشرط لا رد للمشيئة ولو قالت قد شئت إن شاء أبي كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها وما أتت به إنما علقت مشيئتها بمشيئة أبيها والتعليق غير التنجيز ألا ترى أن المفوض إليها تنجيز الطلاق لا تمليك التعليق ثم اشتغالها بالتعليق بمنزلة قيامها في خروج الأمر من يدها فلا مشيئة لها بعد ذلك وإن كانت في المجلس ولو قال لها إذا شئت فأنت طالق أو متى شئت كان لها أن تشاء في المجلس وبعد القيام من المجلس متى شاءت مرة واحدة لأن كلمة إذا ومتى للوقت فكأنه قال أي وقت شئت فيكون موجب هذا الحرف تعدى المشيئة إلى ما بعد المجلس من الأوقات لا التكرار فكان لها المشيئة مرة واحدة في أي وقت شاءت وكذلك قوله إذا ما شئت أو متى ما شئت ولو قال لها أنت طالق كلما شئت كان لها ذلك أبدا كلما شاءت مرة بعد أخرى حتى يقع عليها ثلاث تطليقات لأن كلمة كلما تقتضي التكرار وإن شاءت مرة واحدة وصارت طالقا واحدة وانقضت عدتها ثم تزوجها كان لها المشيئة أيضا لبقاء بعض التطليقات المملوكة له ولو شاءت ثلاث مرات ثم تزوجها بعد زوج فلا(6/357)
مشيئة لها لأن كلامه إنما يتناول التطليقات المملوكة ولم يبق منها شيء بعد وقوع الثلاث وفي هذا خلاف زفر وقد بيناه ولو أنها شاءت(6/358)
ص -166- ... مرتين ووقع عليها تطليقتان وانقضت عدتها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم عادت إليه تعود بثلاث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولها المشيئة في ذلك كله مرة بعد مرة لبقاء شيء من التطليقات المملوكة له وقد قررنا هذا الفرق فيما سبق أنه إذا بقي شيء مما تناوله عقده واستفاد من جنسه يتعدى حكم ذلك العقد إليه بخلاف ما إذا لم يبق شيء منه وكذلك لو لم تشأ حتى طلقها الزوج ثلاثا فلا مشيئة لها بعد ذلك وإن عادت إليه بعد الزوج بخلاف ما لو طلقها واحدة أو اثنتين ولو لم تشأ شيئا وردت المشيئة كان ردها باطلا لأن ردها إعراض بمنزلة قيامها عن المجلس وفي لفظ كلما لا تبطل مشيئتها بقيامها فكذلك بردها وهذا لأن شرط المشيئة في حكم الرد كسائر الشروط ولو علق الطلاق بدخولها الدار فردت كان ردها باطلا ألا ترى أن في جانب الزوج جعل هذا في اللزوم والتعليق بشرط آخر سواء .
قال: ولو قال لها كلما شئت فأنت طالق ثلاثا فقالت شئت واحدة فهذا باطل لأن معنى كلامه كلما شئت الثلاث ولو قال كلما شئت فأنت طالق واحدة أو قال فأنت طالق ولم يقل واحدة فشاءت الثلاث لم يقع عليها شيء في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما تقع واحدة وقد بينا هذا ولو قالت قد شئت أمس تطليقة وكذبها الزوج فالقول قول الزوج لأنها أخبرت بما لا تملك إنشاءه فإنها أخبرت بمشيئة كانت منها أمس ولا يبقى لها ذلك بعد مضي أمس.
فإن قيل أليس أنها لو شاءت في الحال يصح منها فقد أخبرت بما تملك إنشاءه.(6/359)
قلنا: لا كذلك فالمشيئة في الحال غير المشيئة في الأمس وكل مشيئة شرط تطليقة فهي لا تملك إنشاء ما أخبرت به إنما تملك إنشاء شيء آخر وهو بمنزلة قوله لها أنت طالق إن دخلت الدار اليوم أو إن كلمت فلانا غدا فقالت في الغد قد كنت دخلت الدار أمس لا يقبل قولها وإن كانت تملك الإيقاع في الحال بأن تكلم فلانا ولو قالت قد شئت أن أكون طالقا غدا كان ذلك باطلا لأنه فوض إليها التنجيز فلا تملك الإضافة إلى وقت منتظر كما لا تملك التعليق بالشرط.
قال: وإذا قال لامرأتيه إن شئتما فأنتما طالقان فشاءت إحداهما دون الأخرى كان باطلا عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى تطلق التي شاءت لأنه لو خاطبها بالطلاق مطلقا كان كلامه متناولا كل واحدة منهما فكذلك إذا خاطبهما بطلاق معلق بالمشيئة يصير كأنه قال لكل واحدة منهما أنت طالق إن شئت ولكنا نقول معنى قوله إذا شئتما أي شئتما طلاقكما فبمشيئة إحداهما وجد بعض الشرط وبوجود بعض الشرط لا ينزل شيء من الجزاء كما إذا قال إذا دخلتما هذه الدار أو كلمتما فلانا ففعلت إحداهما دون الأخرى وعلى هذا لو شاءتا إيقاع الطلاق على إحداهما دون الأخرى لم تطلق لأن الشرط مشيئتهما طلاقهما فبمشيئتهما طلاق إحداهما يوجد بعض الشرط وكذلك لو ماتت إحداهما ثم شاءت الأخرى الطلاق كان ذلك باطلا لأنه تحقق فوات بعض الشرط بموت إحداهما وكذلك هذا في الأجنبيتين وكذلك في المحبة إذا قال إن أحببتما أن أطلقكما فأحبتا طلاق إحداهما لم يقع شيء.(6/360)
ص -167- ... قال: قال رجل لامرأته شائي طلاقك ينوي الطلاق فقالت قد شئت فهي طالق فإن لم يكن له نية فليس بطلاق لما بينا أن مشيئتها من عمل قلبها كاختيارها وهذا بمنزلة قوله اختاري الطلاق فقالت قد اخترت وهناك إن نوى الزوج الإيقاع يقع فكذلك هنا لأنه يحتمل أن يكون مراده اختاري الطلاق لأطلقك أو اختاري فتكوني طالقا فاعتبر نية الإيقاع فيه فكذلك في المشيئة وإن قال أحبي الطلاق أو أريدي الطلاق أو اهوي الطلاق فقالت قد فعلت كان باطلا وإن نوى به الطلاق لأن الإرادة والمحبة والهوى من العباد نوع تمن فكأنه قال لها تمني الطلاق فقالت قد تمنيت لا يقع به شيء وفي الكتاب أشار إلى الفرق بين هذا وبين قوله شائي لأن قوله شائي الطلاق واجبة فيكون مملكا منها وأحبي وأريدي واهوي لم يملكها فيه شيئا ومعنى هذا أن المشيئة في صفات المخلوقين الزم في اللغة من الإرادة والهوى والمحبة ألا ترى أن المشيئة لا تذكر مضافة إلى غير العقلاء وقد تذكر الإرادة قال الله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وليس إلى الجدار من الإرادة شيء توضيح الفرق أن الزوج هو الموقع ولهذا شرط نية الإيقاع منه ولفظ المشيئة يملك الزوج الإيقاع به فإنه لو قال لها شئت طلاقك بنية الإيقاع يقع فكذلك إذا فوض إليها يكون مملكا منها ما كان له فأما لفظ الإرادة والمحبة والهوى لا يملك الزوج الإيقاع به لأنه لو قال أحببت طلاقك أو هويت طلاقك أو أردت طلاقك لا يقع به شيء وإن نوى فكذلك لا يصير مملكا منها بهذا اللفظ شيئا وكذلك لو قال أنت طالق إن أحببت فقالت قد شئت الطلاق وقع عليها لأنها أتت بما جعله شرطا بل بأقوى على ما بينا أن المشيئة منها أقوى من المحبة بخلاف ما لو قال أنت طالق إن شئت فقالت قد أحببت أو هويت أو أردت لم يقع شيء لأنها أتت بدون ما جعله شرطا في حكم الطلاق وما لم يتم الشرط لا ينزل الجزاء.(6/361)
قال: ولو قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فقالت قد طلقت نفسي واحدة فهي طالق لأن ايقاعها على نفسها مشيئة منها وزيادة فيتم به شرط المشيئة.
قال: ولو قال أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت قد شئت إن كان كذا لشيء ماض كانت طالقا لأن التعليق بشرط موجود يكون تنجيزا ألا ترى أن الوكيل بالتنجيز يملك هذا النوع من التعليق بخلاف التعليق بما يكون في المستقبل ألا ترى أنها لو قالت قد شئت إن كنت زوجي كان ذلك مشيئة منها ولو قالت قد شئت إن شئت فقال الزوج قد شئت كان باطلا لأنها علقت مشيئتها بمشيئة منتظرة وهي مشيئة الزوج فكان ذلك باطلا منها كما لو علقت بمشيئة رجل آخر.
فإن قيل ينبغي أن يقع بقول الزوج شئت لأنه يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ.
قلنا إنما يملك الإيقاع بمشيئة الطلاق وهو بهذا اللفظ شاء مشيئتها لأنه قصد جوابها حتى لو قال شئت الطلاق نقول يقع إذا نوى الطلاق وإذا قال لغيره طلق امرأتي فهو رسول معناه أن الوكيل في الطلاق والرسول سواء لأنه سفير ومعبر والرسالة لا تختص بالمجلس فكان(6/362)
ص -168- ... له أن يطلقها بعد المجلس ولو قال طلقها إن شئت كان ذلك على المجلس عندنا حتى لا يملك الإيقاع بعد قيامه من المجلس وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يملك لأن قوله إن شئت فضل من الكلام فإنا نعلم أنه إنما يطلقها إذا شاء فتلغو هذه الزيادة ويبقى قوله طلقها ولكنا نقول بآخر كلامه يتبين أن مراده تمليك أمرها منه لا الرسالة وجواب التمليك يقتصر على المجلس كما لو خاطبها به وحاصل هذا أن في حقها لا تتحقق الرسالة فإنها لا تكون رسولا إلى نفسها فيكون تمليكا سواء قال لها طلقي نفسك أو قال إن شئت وفي حق الأجنبي تتحقق الرسالة والتمليك جميعا فإذا قال طلق كان رسالة وإذا قال إن شئت كان تمليكا لأمرها منه وعلى هذا نقول إذا قال طلقها فله أن يعزله قبل الإيقاع ولو قال طلقها إن شئت لم يكن له أن يعزله كما لو ملك الأمر منها وكذلك لو جعل ذلك إلى صبي أو معتوه لأن مجرد العبارة يتحقق من هؤلاء.
قال: وإن قال هي طالق إذا شئت فقال قد شئت فهي طالق لوجود الشرط وإن قال طلقها إن شئت فقال قد شئت كان باطلا حتى يقول هي طالق لأن هذا اللفظ تمليك فلا يقع الطلاق به ما لم يأت بكلمة الإيقاع وقد بينا هذا الفرق في التمليك منها فكذلك من الأجنبي وإن قال طلقها ثلاثا فقال قد فعلت فهي طالق ثلاثا لأن هذا جواب الكلام وهذا لأن قوله قد فعلت غير مفهوم المعنى بنفسه فيصير ما تقدم معادا فيه فكأنه قال قد فعلت ما قلت من إيقاع الثلاث عليها.(6/363)
قال: وإن قال لرجلين طلقاها فطلقها أحدهما جاز لأن الإيقاع مجرد عبارة لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير فينفرد به كل واحد منهما وهذا بخلاف ما لو قال لغيره طلق امرأتي فوكل الوكيل غيره بذلك لأن الموكل رضي بعبارته لا بعبارة غيره وإنما جعله رسولا في الإيقاع لا في الإرسال وإن قال طلقاها ثلاثا فطلقها أحدهما واحدة والآخر اثنتين فهي طالق ثلاثا لأن فعل كل واحد منهما كفعلهما ولو أوقع الواحدة ثم الاثنتين كانت طالقا ثلاثا ولو قال طلقاها جميعا ولا يطلق واحد منكما دون صاحبه فطلق أحدهما لم يقع لأن آخر كلامه عزلهما عن الإيقاع إلا أن يجتمعا عليه ولو عزلهما عن الإيقاع أصلا صح عزله فكذلك إذا عزلهما عن الإيقاع إلا أن يجتمعا.
قال: وإذا قال لرجل طلق امرأتي ثم نهاه بعد ذلك فإن علم بالنهي فليس له أن يوقع بعد ذلك وإن لم يعلم به فهو على وكالته لأنه خاطبه بالنهي عن الإيقاع وحكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به كخطاب الشرع لأنه لا تمكن له من الامتثال ما لم يعلم والتكليف بحسب الوسع وعلى هذا قال في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى إذا جعل طلاق امرأته إلى رجل غائب فطلقها ذلك الرجل قبل أن يعلم بالتفويض إليه لم يقع في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن حكم ذلك الخطاب لا يثبت في حقه ما لم يعلم به ألا ترى أنه لو كان قال له طلقها إن شئت كان له مجلس علمه فما لم يعلم لا يبطل بقيامه ولكن زفر(6/364)
ص -169- ... رحمه الله تعالى يقول الموقع للطلاق معبر لا يلحقه في ذلك عهدة وإنما يتوقف حكم الطلاق في حقه على علمه لدفع الضرر عنه ولا ضرر عليه هنا فيقع الطلاق بايقاعه.
قال: ولو قال لامرأته طلقي نفسك ثم نهاها فطلقت نفسها قبل أن تقوم من مجلسها وقع الطلاق لأن ذلك في حقها تمليك لا إرسال وتوكيل وكما يتم إيقاع الطلاق بالزوج إذا أوقع على وجه لا يملك الرجوع عنه فكذلك يتم التمليك به على وجه لا يملك الرجوع عنه أو هذا في معنى التعليق بمشيئتها أو تخييره لها فلا يملك الرجوع عنه بعد تمامه.
قال: ولو قال لها إن شئت فأنت طالق فقالت نعم كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها وقولها نعم ليس بمشيئة منها للطلاق فما لم يوجد الشرط بقولها شئت لا يقع عليها شيء وكذلك لو قالت قد قبلت لأن قبولها ليس بمشيئة للطلاق.
قال: ولو قال لرجلين إذا شئتما ففلانة طالق ثلاثا فشاء أحدهما واحدة والآخر اثنتين لم يقع عليها شيء لأن الشرط مشيئتهما الثلاث ولم يشأ أحد منهما الثلاث وبدون تمام الشرط لا ينزل الجزاء.(6/365)
قال: ولو قال لها أنت طالق إذا شئت وشاء فلان فقالت قد شئت إن شاء فلان وقال فلان قد شئت كان هذا باطلا لأن الشرط مشيئتها ولم يوجد لأنها علقت مشيئتها بمشيئة فلان وقد بينا أن مثل هذا التعليق لا يكون مشيئة منها وبمشيئة فلان إنما وجد بعض الشرط وإن قال لها إن شئت فأنت طالق ثلاثا ثم قال لأخرى طلاقك مع طلاق هذه ثم شاءت تلك الطلاق طلقت وطلقت هذه معها ثلاثا إن كان أراد بقوله الطلاق لأنه علق طلاق الأولى بمشيئتها فقوله للأخرى طلاقك مع طلاق هذه كلام محتمل يجوز أن يكون المراد طلاقك مع طلاق هذه في ملكي ويجوز أن يكون المراد طلاقك مع طلاق هذه متعلق بذلك الشرط فينوي في ذلك فإن نوى الطلاق وقع عليهما بمشيئة الأولى وإن قال لم أنو الطلاق كان مدينا في القضاء لكون كلامه محتملا وإن قال إذا شئت فأنت طالق ثم قال لامرأة له أخرى أنت طالق إذا طلقت فلانة ثم شاءت فلانة الطلاق طلقت لوجود الشرط ولم تطلق الأخرى لأن الوقوع على الأولى عند مشيئتها بإيقاع الزوج وإيقاعه سبق يمينه في حق الثانية وشرط الحنث يراعي وجوده بعد اليمين ولو قال أولا إن طلقت فلانة فأنت طالق ثم قال لفلانة أنت طالق إذا شئت فشاءت الطلاق وقع عليهما على فلانة بوجود المشيئة وعلى الأخرى بوجود شرط الحنث لأنه صار مطلقا فلأنه بإيقاع منه بعد اليمين بطلاقها وذلك شرط الحنث في حقها.
قال: ولو قال لها إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاءت فتزوجها فلها المشيئة حين تعلم بذلك في مجلسها لأن قوله إن تزوجت فلانة شرط وقوله فهي طالق إن شاءت جزاء والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز فكأنه بعد ما تزوجها قال هي طالق إن شاءت(6/366)
ص -170- ... فلهذا توقف على مجلس علمها وإن شاءت قبل أن يتزوجها فتلك المشيئة باطلة لأن المعلق بالشرط معدوم قبله فقبل التزوج لم يصر في يدها شيء فلهذا تلغو مشيئتها قبل التزوج وفي كل فصل تتوقف مشيئتها بالمجلس إن كانت قائمة فقعدت لم تبطل مشيئتها وإن كانت قاعدة فقامت بطلت مشيئتها لأن حالة القعود أجمع على الرأي مما قبل القعود لأن القعود يفرغ الرأي والقيام يفرقه فإنما انتقلت إلى القعود للتروي والنظر في أمرها فلا يكون ذلك إعراضا منها فإذا قامت فذلك دليل الإعراض منها.(6/367)
قال: ولو قال لها أنت طالق غدا إن شئت فقالت الساعة قد شئت كان باطلا وإنما لها المشيئة في الغد بخلاف ما لو قال لها إن شئت فأنت طالق غدا ونوى الساعة بذلك أو قال إن شئت الساعة فأنت طالق غدا فإن لها المشيئة في مجلسها لأن قوله إن شئت شرط وقوله فأنت طالق غدا جزاء فقد علق بالشرط طلاقا مضافا إلى الغد ولو علق بالمشيئة طلاقا منجزا يعتبر وجود المشيئة في الحال حتى إذا قامت بطلت مشيئتها فكذلك إذا علق بها طلاقا مضافا وفي الفصل الأول بدأ بإضافة الطلاق إلى الغد ثم جعل ذلك الطلاق معلقا بمشيئتها فيراعي وجود المشيئة في ذلك الوقت وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن في الفصلين جميعا يراعي وجود المشيئة في الغد لأن التعليق بمشيئتها في المعنى كالتنجيز فإنما يعتبر وجوده وقت وقوع الطلاق وفي الفصلين الوقوع في الغد فلذلك يعتبر وجود المشيئة في الغد وعن زفر رحمه الله تعالى أن في الفصلين يعتبر وجود المشيئة في الحال لأن قوله إن شئت شرط والشرط وإن تأخر ذكره كان متقدما معنى لأنه ما لم يوجد الشرط لا ينزل الجزاء فكأنه بدأ بذكر المشيئة ألا ترى أنه لا فرق بين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق غدا وبين قوله أنت طالق غدا إن دخلت الدار ثم إنما يقع في قوله إن شئت الساعة فأنت طالق غدا إذا قالت شئت أن أكون غدا طالقا وإن قالت شئت أن يقع الطلاق اليوم كانت هذه المشيئة باطلة ولم يقع عليها الطلاق اليوم ولا غدا لأنها شاءت غير ما جعله الزوج مفوضا إلى مشيئتها فإنه جعل الطلاق في الغد مفوضا إلى مشيئتها فإذا شاءت أن يقع اليوم فقد اشتغلت بشيء آخر فكان ذلك كقيامها عن المجلس.(6/368)
قال: ولو قال إن شئت فأنت طالق إذا شئت فهما مشيئتان إحداهما على المجلس بقوله إن شئت والأخرى مطلقة بقوله إذا شئت ولكن المشيئة المطلقة معلقة بالمشيئة المؤقتة فإذا قالت في المجلس شئت أن أكون طالقا إذا شئت فقد وجد الشرط وصارت المشيئة المطلقة منجزة فكأنه قال لها أنت طالق إذا شئت فمتى شاءت بعد هذا طلقت وإن لم تقل شيئا حتى قامت من المجلس فلا مشيئة لها لأن شرط المشيئة المطلقة لم يوجد والمشيئة المقيدة بطلت بالقيام عن المجلس ويستوي إن صرح بذكر الساعة فقال إن شئت الساعة فأنت طالق إذا شئت أو لم يتكلم بالساعة ونواها قال لأن هذا كلام له وجهان في القضاء،(6/369)
ص -171- ... وفيما بينه وبين الله تعالى فإن نوى ما دامت في المجلس فهو كما نوى وإن نوى بعده فهو كما نوى ومراده أن كلمة إذا قد تكون بمعنى أن وقد تكون بمعنى متى فإن جعلت بمعنى إن كان آخر كلامه تكرارا وإن جعلت بمعنى متى كان تصريحا بالمشيئة المطلقة فينوي في ذلك ولم يذكر في الكتاب ما إذا قال إذا شئت فأنت طالق إن شئت وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر رحمه الله تعالى التقديم والتأخير سواء فهذا كالأول وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى المعتبر هنا المشيئة المطلقة فسواء شاءت في المجلس أو بعده طلقت فإن المشيئة المطلقة أعم فلا تظهر بعدها المشيئة المؤقتة.(6/370)
قال: وإن قال أنت طالق كيف شئت فهي طالق تطليقة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا مشيئة لها إن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها وقعت تطليقة رجعية والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك فإن شاءت البائنة وقد نوى الزوج ذلك كانت بائنة وإن شاءت ثلاثا وقد نوى الزوج ذلك كانت طالقا ثلاثا وإن شاءت واحدة بائنة وقد نوى الزوج ثلاثا فهي واحدة رجعية وإن شاءت ثلاثا وقد نوى الزوج واحدة بائنة فهي واحدة رجعية وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يقع عليها شيء ما لم تشأ فإذا شاءت فالتفريع كما قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى وعلى هذا لو قال لعبده أنت حر كيف شئت عتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولا مشيئة له ولا يعتق عندهما ما لم يشأ هما يقولان الزوج تكلم بطلاق المشيئة فلا يقع بدون مشيئتها كقوله أنت طالق كم شئت أو أنت طالق حيث شئت أو أين شئت لا يقع ما لم تشأ وهذا لأن حرف كيف وإن كان استخبارا عن الوصف والحال ولكن ذلك إنما يتحقق فيما كان أصله موجودا قبل الاستخبار دون ما لم يكن أصله موجودا فيقام الأصل مقام الصفة فيما لم يكن موجودا قبل كلامه فلهذا تعلق أصل الطلاق بمشيئتها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما يتأخر إلى مشيئتها ما علق الزوج بمشيئتها دون ما لم يعلق وكيف لا يرجع إلى أصل الطلاق فيكون منجزا أصل الطلاق ومفوضا للصفة إلى مشيئتها بقوله كيف شئت إلا أن في غير المدخول بها وفي العتق لا مشيئة لها في الصفة بعد إيقاع الأصل فيلغو تفويضه المشيئة في الصفة إليها أيضا وفي المدخول بها لها المشيئة في الصفة بعد وقوع الأصل أن تجعلها بائنا أو ثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى على ما أمليناه في كتاب الدعوى فيصح تفويضه إليها فإن شاءت في مجلسها أن تكون بائنة أو ثلاثا جاز ذلك إذا نوى الزوج ما شاءت وإن نوى الزوج الواحدة البائنة فشاءت الثلاثة فقد شاءت غير ما نوى فلهذا كان الواقع عليها تطليقة رجعية توضيحه أن(6/371)
الاستخبار عن وصف الشيء وحاله لما كان من ضرورته وجود أصله تقدم وقوع أصل الطلاق في ضمن تفويضه المشيئة في الصفة إليها فإن الاستخبار عن وصف الشيء قبل وجود أصله محال كما قال القائل:
يقول خليلي كيف صبرك بعدنا ... فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف(6/372)
ص -172- ... بخلاف قوله كم شئت لأن الكمية استخبار عن العدد فيقتضي تفويض العدد إلى مشيئتها وأصل العدد في المعدودات الواحد وبخلاف قوله حيث شئت وأين شئت لأنه عبارة عن المكان والطلاق إذا وقع في مكان يكون واقعا في الأمكنة كلها فكان ذلك تعليق أصل الطلاق بمشيئتها وهذه الألفاظ كلها على المجلس لأنها لا تنبئ عن الوقت فيتوقت بالمجلس كقوله إن شئت ولو قال أنت طالق زمان شئت أو حين شئت فقامت من ذلك المجلس لم تبطل المشيئة لأن زمان وحين عبارة عن الوقت فكأنه قال أنت طالق إذا شئت أو متى شئت.
قال: وإذا قال أنت طالق أمس إن شئت فلها المشيئة في ذلك المجلس لأنه لو لم يقل إن شئت كان يقع الطلاق عليها في الحال وكان قوله أمس لغوا فكذلك إذا قال إن شئت يكون كلامه تعليقا للطلاق في الحال بمشيئتها فلها المشيئة ما دامت في المجلس وإن قال أنت طالق على ألف درهم إذا شئت أو متى شئت أو كلما شئت فذلك إليها متى شاءت اعتبارا للطلاق بالجعل بالطلاق بغير جعل وهذا لأن في الطلاق بجعل يعتبر قبولها وهي بالمشيئة تكون قابلة ولما كان حرف إذا ومتى للوقت فقد علق الطلاق بجعل بقبولها في أي وقت يكون فسواء قبلت في المجلس أو بعده بمشيئتها وقع الطلاق ولزمها المال وإن قال إن شئت فهذا على المجلس كما لو كان الطلاق بغير جعل فإن قالت في المجلس قد شئت وقع الطلاق ولزمها المال وإن قامت قبل أن تشاء فهي امرأته.(6/373)
قال: وإذا قال لها إذا شاء فلان فأنت طالق وفلان ميت أو كان حيا فمات ساعتئذ والزوج يعلم بذلك أو لا يعلم لم يقع عليها الطلاق أما إذا كان حيا فمات فلأن الشرط مشيئته وقد فات بموته وبفوات الشرط يمتنع نزول الجزاء وأما إذا كان ميتا فلأنه علق الطلاق بشرط لا كون له فيكون تحقيقا للنفي كما لو قال أنت طالق إن شاء هذا الجدار أو إن تكلمت الموتى أو إن تكلمت هذه الحصاة يكون تحقيقا للنفي لا إيقاعا وكذلك إذا قال إذا شاء الجن أو ما أشبه هذا من خلق لا يرى ولا يظهر ولا تعلم مشيئته هذا تحقيق للنفي وتأثيره في إخراج الكلام من أن يكون عزيمة ولو قال إذا شاء فلان وفلان غائب فمات ولا يعلم أنه شاء أو لم يشأ لم تطلق كما لو قال أنت طالق إن تكلم فلان بطلاقك فمات فلان قبل أن يعلم ذلك منه لم تطلق لأن المتعلق بالشرط لا ينزل إلا بعد العلم بوجود الشرط.
قال: ولو قال أنت طالق إن كنت تحبين كذا لشيء يعلم أنها تحبه أو لا تحبه مثل الموت والعذاب فقالت أنا أحب ذلك فهي طالق إذا قالت ذلك في مجلسها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد رحمه الله تعالى فيما يعلم أنها لا تحبه لا يقبل قولها ولا تطلق لأنا نتيقن بكذبها فإن أحدا لا يحب العذاب في النار ولا الموت في الدنيا والمخبر عن الشيء إذا كان متهما بالكذب لا يقبل خبره فعند التيقن بالكذب أولى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا محبتها تكون بقلبها وذلك مما لا يوقف عليه فيقام(6/374)
ص -173- ... خبرها بذلك مقام حقيقته تيسيرا وصار كأنه قال لها إن أخبرتني أنك تحبين الموت والعذاب وقد أخبرت بذلك مع أن في خبرها احتمال الصدق وقد يبلغ ضيق الصدر بالمرء وسوء الحال درجة يحب فيها الموت وقد تحملها شدة بغضها للزوج على أن تؤثر العذاب والموت على صحبته وذلك محسوس وقد تحملها شدة البغض أو الغيرة على أن تقتل نفسها وهل في ذلك إلا إيثار العذاب والموت على صحبته وكذلك لو قال لها إن كنت تبغضين كذا لشيء يعلم أنها تحبه مثل الجنة والغنى فقالت أنا أبغضه فهو كالأول على ما بينا وإن قال أنت طالق إن كنت تحبين كذا فقالت لست أحبه وهي كاذبة لم يقع الطلاق عليها لأن السبب الظاهر وهو الإخبار قام مقام المعنى الخفي فيدور الحكم مع السبب الظاهر وجودا وعدما ويسقط اعتبار المعنى الخفي وكذلك إن قال أنت طالق ثلاثا إن كنت أنا أحب ذلك ثم قال لست أحب ذلك وهو كاذب فهي امرأته ويسعه أن يطأها فيما بينه وبين الله تعالى ويسعها المقام معه وهذا مشكل لأنه إن كان لا يعرف ما في قلبها حقيقة يعرف ما في قلبه ولكن الطريق ما قلنا أن ما في قلبه وما في قلبها لا يمكن الوقوف على حقيقته فإنما يتعلق بالسبب وهو الإخبار فإذا أخبر بخلاف ما جعله شرطا لم يقع عليها شيء المحبة والبغض في ذلك سواء وإن قال لها إن كنت أحب طلاقك فأنت طالق ثم قال لست أحب ذلك أو لم يقل شيئا فهي امرأته لأن شرط وقوع طلاقها إخباره بمحبة طلاقها فإذا لم يقل شيئا لم يوجد الشرط وإن قال لست أحبه فقد أخبر بضد ما جعله شرطا فلا يقع الطلاق وإن كان يحب ذلك حقيقة وكذلك لو قال لها إن كنت تحبين طلاقك فأنت طالق ثلاثا فشرط الوقوع إخبارها بمحبة الطلاق ما دامت في المجلس حتى إذا قامت قبل أن تقول شيئا لم تطلق وإن كانت تحب ذلك بقلبها لانعدام الشرط وهو الخبر وكذلك إن قالت لا أحبه وهي كاذبة لم تطلق لأنها أخبرت بضد ما هو شرط الطلاق وكذلك لو قال إن كنت تحبين الطلاق بقلبك أو(6/375)
تهوينه أو تريدينه أو تشتهينه بقلبك دون لسانك فأنت طالق ثلاثا فقالت لا أشاء ولا أحب ولا أهوى ولا أريد ولا أشتهي فهي امرأته لأنها أخبرت بضد ما هو شرط الطلاق ولا تصدق بعد ذلك على خلاف هذا القول إما للتناقض أو لأن بالخبر الأول قد تم شرط بره وبعد تمام شرط البر في اليمين لا يتصور الحنث وإن سكتت ولم تقل شيئا حتى قامت فهي امرأته لأن الشرط لم يوجد وهو إخبارها في المجلس وإن كان في قلبها خلاف ما أخبرت به فإنه يسعها أن تقيم معه فيما بينها وبين الله تعالى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ولا يسعها ذلك في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه جعل الشرط محبتها بقلبها حين صرح به فلا معتبر بخبرها بخلافه ولكنا نقول إنما يعتبر من كلامه ما يمكن الوقوف على معرفته فإما أن يقوم خبرها مقام حقيقة ما في قلبها لأنه إنما يعبر عما في قلبها لسانها أو لما جعل الشرط ما لا طريق لنا إلى معرفته حقيقة كان ذلك تحقيقا للنفي كما بينا من نظائره فيما سبق.(6/376)
ص -174- ... قال: وإن قال لامرأتيه أيتكما شاءت فهي طالق ثلاثا فشاءتا جميعا فهما طالقان وإن شاءت إحداهما وسكتت الأخرى فالتي شاءت طالق لأن كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] ولم يقل يأتوني ويقال أيكم فعل كذا ولا يقال فعلوا ولا فعلتم وإذا ثبت أنه يتناول كل واحدة على الانفراد صارت مشيئة كل واحدة شرطا لوقوع الطلاق عليها على الانفراد بخلاف قوله إن شئتما على ما تقدم فإن شاءتا وقال الزوج إنما عنيت أحدا كما لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى على معنى أنه نوى التخصيص في لفظ العموم فإن كان عنى واحدة منهما بعينها فارق تلك الواحدة وإن عنى بغير عينها يمسك أيتهما شاء وفارق الأخرى ولا يسع امرأتيه أن تقيما معه لأنهما يتبعان الظاهر فكما لا يصدقه القاضي في ذلك فكذلك لا يسعهما أن يصدقاه وإن قال أشدكما حبا لي أو للطلاق طالق أو قال أشدكما بغضا لي أو للطلاق طالق فادعت كل واحدة منهما أنها أشد حبا أو بغضا في ذلك وكذبهما الزوج لم تطلق واحدة منهما لأن كل واحدة منهما تدعي شرط الطلاق والزوج ينكر ذلك وقد يكونان في ذلك سواء لا يحبان ولا يبغضان فإن قيل لماذا لا يقام هنا إخبار كل واحدة منهما مقام حقيقة كونها أشد حبا أو بغضا.
قلنا: لا طريق لواحدة منهما إلى معرفة ما في قلب صاحبتها وبدون ذلك لا يعرف أنها أشد حبا أو بغضا فتكون في الإخبار مجازفة فلهذا لا يقام الخبر مقام حقيقة الشرط توضيحه أنا لما أقمنا هنا الخبر مقام حقيقة الشرط جعلناهما طالقين ونحن نتيقن أنه ما طلقهما إنما طلق أشدهما حبا له أو بغضا له ولا يتصور ذلك في حقهما جميعا ولهذا لا تطلق واحدة منهما والله أعلم.
باب الخيار(6/377)
قال: وإذا قال لامرأته اختاري فاختارت نفسها في القياس لا يقع عليها شيء وإن نوى الطلاق لأن التفويض إليها إنما يصح فيما يملك الزوج مباشرته بنفسه وهو لا يملك إيقاع الطلاق عليها بهذا اللفظ حتى لو قال اخترتك من نفسي أو اخترت نفسي منك لا يقع شيء فلا يملك التفويض إليها بهذا اللفظ أيضا ولكنا تركنا القياس لآثار الصحابة روي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وجابر وزيد وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما دامت في مجلسها ذلك فإن قامت من مجلسها فلا خيار لها ولأن الزوج مخير بين أن يستديم نكاحها أو يفارقها فيملك أن يسويها بنفسه في حقه بأن يخيرها وقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه حين نزل قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] ثم كان القياس أن لا يبطل خيارها بالقيام عن المجلس لأن التخيير من الزوج مطلق والمطلق فيما يحتمل التأبيد متأبد ولكنا تركنا هذا القياس لآثار الصحابة رضي الله عنهم ولأن الخيار الطارئ لها على النكاح من جهة الزوج(6/378)
ص -175- ... معتبر بالخيار الطارئ شرعا وهو خيار المعتقة وذلك يتوقت بالمجلس فكذلك هذا لها الخيار ما بقيت في المجلس وإن تطاول يوما أو أكثر لأن المجلس قد يطول وقد يقصر ألا ترى أن حكم قبض بدل الصرف ورأس مال السلم لما توقت بالمجلس لم يفترق الحال بين أن يطول أو يقصر فإذا قامت أو أخذت في عمل يعرف أنه قطع لما كانت فيه من ذلك بطل خيارها لأن اشتغالها بعمل آخر يقطع المجلس ألا ترى أن المجلس يكون مجلس مناظرة ثم ينقلب مجلس أكل إذا اشتغلوا به ثم مجلس القتال إذا اقتتلوا ولأن الذهاب عن المجلس إنما كان مبطلا لخيارها لوجود دليل الإعراض عما فوض إليها وذلك يحصل باشتغالها بعمل آخر وكذلك بقيامها وإن لم تذهب لأن القيام يفرق الرأي وبه فارق الصرف والسلم فإن بمجرد القيام قبل الذهاب هناك لا يبطل العقد لأنه لا معتبر بدليل الإعراض ثم وإنما المعتبر الافتراق قبل القبض وإن كانت قاعدة حين خيرها فاضطجعت بطل خيارها في قول زفر رحمه الله تعالى وهو رواية الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأن الاضطجاع دليل الإعراض والتهاون بما خيرها وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يبطل خيارها لأن الإنسان قد يضطجع إذا أراد أن يروي النظر في أمر ولو كانت متكئة حين خيرها فاستوت قاعدة لا يبطل خيارها لأنه دليل الإقبال على ما حز بها من الأمر وإن كانت قاعدة فاتكأت ففي إحدى الروايتين لا يبطل خيارها لأن الاتكاء نوع جلسة فكأنها كانت متربعة فاحتبت وفي الرواية الأخرى يبطل خيارها لأن الاتكاء بمنزلة الاضطجاع لأنه إظهار للتهاون بما خيرها وإذا خيرها وقال لم أرد به الطلاق فالقول قوله مع يمينه لأن قوله اختاري كلام محتمل يجوز أن يكون مراده اختاري نفقة أو كسوة أو دارا للسكنى وفي الكلام المحتمل القول قول الزوج أنه لم يرد الطلاق مع يمينه لكونه متهما في ذلك وإن نوى الطلاق فإن كان قال لها اختاري فقالت اخترت لا يقع شيء أيضا(6/379)
لأنه ليس في كلامه ولا في كلامها ما يوجب التخصيص وإزالة الإبهام والطلاق لا يقع بمجرد القصد من غير لفظ يدل عليه بخلاف ما إذا قال لها اختاري نفسك فقالت اخترت أو قال اختاري فقالت اخترت نفسي لأن هناك في كلام أحدهما تنصيص على التخصيص فيقع به الطلاق عند النية ثم المخيرة إذا اختارت زوجها لم يقع عليها شيء إلا على قول علي رضي الله عنه فإنه يقول يقع تطليقة رجعية إذا اختارت زوجها فكأنه جعل عين هذا اللفظ طلاقا فقال إذا اختارت زوجها فالواقع به طلاق لا يرفع الزوجية ولسنا نأخذ بهذا بل نأخذ بقول عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وهذا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يكن ذلك طلاقا وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة عندنا وهو قول علي رضي الله عنه وعلى قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما واحدة رجعية وعلى قول زيد رضي الله عنه إذا اختارت نفسها فثلاث وكأنه حمل هذا اللفظ على أتم ما يكون من الاختيار وعمر وابن(6/380)
ص -176- ... مسعود رضي الله عنهما حملا على أدنى ما يكون منه وهو التطليقة الرجعية ولكنا نأخذ في هذا بقول علي رضي الله عنه لأن اختيارها نفسها إنما يتحقق إذا زال ملك الزوج عنها وصارت مالكة أمر نفسها وذلك بالواحدة البائنة وليس في هذا اللفظ ما يدل على الثلاث لأن حكم مالكيتها أمر نفسها لا يختلف بالثلاث والواحدة البائنة ولهذا قلنا وإن نوى الثلاث بهذا اللفظ لا تقع إلا واحدة بائنة لأن هذا مجرد نية العدد منه وقوله اختاري أمر بالفعل فلا يحتمل معنى العدد بخلاف قوله أنت بائن فنية الثلاث إنما تصح هناك باعتبار أنه نوى به نوعا من البينونة وهنا الاختيار لا يتنوع فبقي هذا مجرد نية العدد.(6/381)
قال: والتخيير في السفينة كالتخيير في البيت لأن السفينة في حق راكبها كالبيت لا يجريها بل هي تجري به قال الله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42] ألا ترى أنه لا يتمكن من إيقافها متى شاء فلها الخيار ما دامت في مجلسها بخلاف ما إذا خيرها وهي راكبة فسارت الدابة بعد الخيار شيئا يبطل خيارها لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها حتى يتمكن من إيقافها متى شاء فكان ذلك كمشيئتها في حكم تبدل المجلس إلا أن تكون الدابة واقفة أو سائرة فاختارت نفسها متصلا بتخيير الزوج من غير سكوت بين الكلامين فحينئذ يصح اختيارها لأن دليل الإعراض إنما يتحقق بسكوتها بعد تخيير الزوج ولم يوجد وكذلك إن كان معها على تلك الدابة أو كانا في محمل واحد وهكذا الجواب في البيع إن اتصل قبول المشتري بإيجاب البائع من غير سكتة بينهما في هذا الفصل ينعقد البيع وإلا فلا وإن خيرها وهي في صلاة مكتوبة فاتمت صلاتها لم يبطل خيارها لأنها ممنوعة عن قطع الصلاة قبل إتمامها فلا تتمكن من الاختيار ما لم تفرغ ودليل الإعراض بترك الإختيار بعد التمكن منه والوتر في هذا كالمكتوبة لأنها ممنوعة من قطعها قبل الإتمام فأما في التطوع إذا كانت في الشفع الأول فأتمت ذلك الشفع لا يبطل خيارها لأنها ممنوعة من إبطال العمل والركعة الواحدة لا تكون صلاة معتبرة كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والله ما أجزت ركعة قط وإن تحولت إلى الشفع الثاني بطل خيارها لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة فاشتغالها بالشفع الثاني دليل الإعراض بمنزلة ما لو افتتحت الصلاة بعد ما خيرها الزوج وروى بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى في الأربع قبل الظهر إذا كانت في الشفع الأول حين خيرها فأتمت أربعا لم يسقط خيارها لأن هذه الأربع تؤدى بتسليمة واحدة عادة وإن كانت قاعدة فدعت بطعام فطعمت يبطل خيارها لأن مجلسها تبدل حين دعت بطعام فقد صار مجلسها مجلس الأكل وهذا دليل الإعراض والتهاون منها بخلاف(6/382)
ما لو أكلت شيئا يسيرا من غير أن تدعو بالطعام فذلك القدر لقلته لا يبدل المجلس فلا يكون ذلك دليل الإعراض بل ذلك منها تفريغ نفسها لما حزبها وكذلك إن شربت ماء لأنها إنما شربت لتتمكن من الكلام ففي حالة المشاجرة قد يجف فم المرء فلا يقدر على الكلام ما لم يشرب فلا يكون ذلك دليل الإعراض بل ذلك منها تفريغ نفسها ولو نامت أو(6/383)
ص -177- ... امتشطت أو اغتسلت أو اختضبت في ذلك المجلس فهذا كله دليل الإعراض لاشتغالها بعمل آخر لا تحتاج إليه وليس ذلك من عمل الإختيار وكذلك إن جامعها فتمكينها من أدل الدلائل على إعراضها وكذلك إن أقامها من مجلسها إما لأنها طاوعته في القيام أو لأنها تركت الاختيار حتى أقامها فذلك دليل الإعراض منها وكذلك هذا كله في قوله أمرك بيدك وأنت طالق إن شئت لتوقتهما بالمجلس وإن لبست ثيابها من غير أن تقوم لم يبطل خيارها لأنها إنما تلبس لتكون مستترة منه إذا اختارت نفسها فلا يكون دليل الإعراض وكذلك إذا دعت شهودا لأنها تقصد بذلك إشهادهم على اختيار أمر نفسها وكذلك إذا قالت ادعوا إلي أبي أو أمي لأنها تقصد بذلك أن تستشيرهما فلا يكون ذلك دليل الإعراض منها والإستشارة في مثل هذا حسن على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: "إني أعرض عليك أمرا فلا تحدثي فيه شيئا حتى تستشيري أبويك" ثم تلا عليها آية التخيير وخيرها فقالت أفي هذا أستشير أبوي أنا أختار الله ورسوله وكذلك إن سبحت أو قرأت آية أو نحوها من القرآن فلا يكون دليل الإعراض منها وقد يفعل المرء ذلك للإستخارة فلا يبطل به ما صار في يدها من الخيار والأمر والمشيئة.
قال: وإذا خيرها أو جعل أمرها إليها فقالت قد طلقتك فهو باطل وقد بينا هذا فيما سبق أن الزوج ليس بمحل للطلاق وروينا فيه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.(6/384)
قال: وإذا قال اختاري ثم اختاري ثم اختاري ينوي الطلاق بهذا كله فاختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات لأن الوقوع بهذه الألفاظ عند اختيارها نفسها يكون جملة واحدة فإن اختيارها نفسها جواب للكلمات الثلاث والترتيب بحرف ثم في كلام الزوج فلا يوجب ذلك ترتيبا في الوقوع لأن الوقوع باختيارها نفسها ولو اختارت نفسها بالأولى قبل أن يتكلم بالثانية والثالثة بانت بالأولى ولم يقع بالثانية والثالثة شيء لأن البائن لا يلحق البائن ولأنها ملكت أمر نفسها حين بانت بالأولى فلا يكون كلامه الثاني والثالث إيجابا بل إخبارا عن حالها أنها مالكة أمر نفسها وهو صادق في ذلك بخلاف الأول فإن هناك كلامه الثاني والثالث إيجاب لأنه تكلم به قبل أن تملك أمر نفسها.
قال: ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فاختارت نفسها فقال الزوج نويت بالأولى الطلاق وبالآخريين أن أفهمها لم يصدق في القضاء وبانت بثلاث لأن الكلام الثاني والثالث إيجاب صحيح من حيث الظاهر والقاضي مأمور باتباع الظاهر ولكنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن الكلام الواحد قد يكرر للتأكيد وتفهيم المخاطب ولو قال لها اختاري فقالت قد اخترت فلما قامت عن المجلس قالت عنيت نفسي لم تصدق في ذلك لأن الأمر خرج من يدها بالقيام عن المجلس فإنما اخبرت بما لا تملك إنشاءه وهذا يدل على إنها لو قالت قبل أن تقوم أردت نفسي أن ذلك يصح منها لبقائها في المجلس كما لو سكتت حتى الآن ثم قالت(6/385)
ص -178- ... اخترت نفسي ولكنه قال في التعليل قد خرج الأمر من يدها حين تكلمت بذلك فهذا إشارة إلى أنها وإن قالت في المجلس أردت نفسي لا يقبل قولها وهذا هو الصحيح لأن اشتغالها بكلام مبهم دليل الإعراض والتهاون وإن قال لها اختاري نفسك فقالت قد اخترت فهذا جواب وهي طالق لأن جوابها بناء على خطاب الزوج فما تقدم في الخطاب يصير كالمعاد في الجواب فكأنها قالت اخترت نفسي وإذا خيرها بعد ذكر الطلاق فاختارت نفسها ثم قال لم أنو به الطلاق لم يصدق في القضاء وكذلك إن قال هذا في غضب وقد بينا هذا في فصول الكنايات وكما لا يصدقه القاضي فكذلك لا يسع المرأة أن تقيم معه إلا بنكاح مستقبل وإذا قال لها اختاري ثم طلقها واحدة بائنة بطل الخيار لأنها صارت مالكة أمر نفسها بما أوقع عليها وإنما كانت تختار أمر نفسها لهذا المقصود فلا يتحقق ذلك بعد ما ملكت أمر نفسها وكذلك لو قال أنت طالق واحدة بائنة إن شئت فقالت قد شئت سقط الخيار لأنها ملكت أمر نفسها ولو كان الطلاق رجعيا كان الخيار على حالة لأنها بهذا الطلاق لا تصير مالكة أمر نفسها وكذلك هذا في الأمر باليد وذكر في الأمالي أنه إذا قال لها اختاري إذا شئت أو امرك بيدك إذا شئت ثم طلقها واحدة بائنة ثم تزوجها فاختارت نفسها أنها لا تطلق في قول أبي يوسف رحمه الله لأن الزوج أوقع بنفسه ما فوض إليها فيكون ذلك إخراجا للأمر من يدها وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تطلق تطليقة بائنة لأن التفويض قد صح فلا يبطل بزوال الملك إلا أنها بعد زوال الملك كانت لا تتمكن من الاختيار لكونها مالكة أمر نفسها فإذا زال ذلك بالعقد فهي على خيارها وما قاله أبو يوسف رحمه الله ضعيف لأن الطلاق متعدد فلا يتعين ما أوقعه الزوج لما فوضه إليها كما لو قال لغيره بع قفيزا من هذه الصبرة ثم باع بنفسه قفيزا لا ينعزل الوكيل.(6/386)
قال: وإذا قال لها اختاري الأزواج أو اختاري أهلك أو أبويك فقالت قد اخترت الأزواج أو أبي أو أهلي وقد عنى الزوج الطلاق في القياس لا تطلق لأنها ما اختارت نفسها وقد كان القياس في أصل هذا اللفظ أن لا يقع به شيء تركنا القياس لآثار الصحابة رضي الله عنهم وإنما ورد الأثر في اختيارها نفسها فما سوى ذلك يبقى على أصل القياس ولكنه استحسن فقال هي طالق لأن هذا في معنى اختيارها نفسها فإنها إنما تختار الأزواج إذا ملكت أمر نفسها وإنما تتمكن من الرجوع إلى بيت أبيها وأهلها إذا ملكت أمر نفسها فكان هذا في معنى اختيارها بخلاف ما لو قال اختاري أختك أو أخاك أو ذا رحم محرم منك فاختارت ذلك وهو ينوي الطلاق فإن هذا ليس في معنى اختيارها نفسها من كل وجه فيؤخذ فيه بالقياس ولا يقع عليها شيء ولو قال لها اختاري فقالت أختار نفسي في القياس لا تطلق لأن كلامها وعد وليس بإيجاب ألا ترى أنه لو قال لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي لم يقع شيء ولكن في الاستحسان تطلق لأن قولها أختار وعد صورة وإيجاب معنى والعادة الظاهرة في هذا اللفظ أنه يراد به الحال دون الاستقبال يقول الرجل فلان يختار كذا وأنا أختار كذا والشاهد يقول بين(6/387)
ص -179- ... يدي القاضي أشهد والمؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والمراد به التحقيق دون الوعد ولم يوجد مثل هذه العادة في قولها أنا أطلق نفسي فلهذا يؤخذ هناك بالقياس ولو قال لها اختاري فقالت قد فعلت لم يقع شيء كما لو قالت اخترت لأن قولها قد فعلت في معنى الإبهام أزيد من قولها قد اخترت وإذا قال اختاري نفسك فقالت قد فعلت طلقت كما لو قالت اخترت لأنها أخرجت الكلام مخرج الجواب فيصير ما تقدم في الخطاب كالمعاد في الجواب وإن قال اختاري إن شئت فقالت قد اخترت نفسي وقع الطلاق عليها لأن في اختيارها نفسها مشيئة وزيادة وإن قال اختاري بألف درهم فاختارت زوجها لم يلزمها المال لأن وجوب المال عليها بإزاء البينونة ولا يحصل ذلك إذا اختارت زوجها بخلاف ما إذا اختارت نفسها فالبينونة قد حصلت هنا وقد أوجب الزوج ذلك لها بعوض وفي اختيارها نفسها قبول منها.
قال: وإن قال اختاري فقالت قد اخترت نفسي إن كنت زوجي أو إن كان كذا لشيء ماض وقع الطلاق لأن التعليق بالموجود تنجيز فهذا وقولها اخترت نفسي سواء فإن اشترطت شيئا لم يكن فقد بطل الخيار لأنها أتت بالتعليق وإنما فوض إليها التنجيز فاشتغالها بالتعليق يكون إعراضا عما فوض إليها فيبطل خيارها.(6/388)
قال: وإن قال اختاري فقالت قد طلقت نفسي طلقت واحدة بائنة بخلاف ما لو قال لها طلقي نفسك فقالت قد اخترت نفسي كان هذا باطلا لأن لفظ الاختيار أضعف من لفظ الطلاق ألا ترى أن الزوج يملك الإيقاع بلفظ الطلاق دون لفظ الاختيار فالأضعف لا يصلح جوابا للأقوى والأقوى يصلح جوابا للأضعف توضيحه أن قولها طلقت نفسي لو كان قبل تخيير الزوج توقف على إجازة الزوج فإذا كان بعد تخيير الزوج يكون عاملا وقولها اخترت نفسي قبل تخيير الزوج يكون لغوا لا يتوقف على إجازة الزوج فكذلك بعد تفويض الزوج بقوله طلقي نفسك لأن التفويض غير التخيير يقرره أن بقوله اختاري نفسك يثبت لها الخيار ومن ضرورته أن تملك اكتساب سبب الفرقة وقولها طلقت نفسي من ذلك فيصح منها فأما قوله طلقي نفسك فإنه تفويض للطلاق إليها وليس من ضرورته أن يثبت الخيار لها في اكتساب سبب الفرقة وقولها اخترت نفسي من ذلك فلهذا كان باطلا منها.
قال: ولو قال الزوج لرجل خير امرأتي أو قل لها أمرك بيدك فما لم يخيرها ذلك الرجل لا يصير الأمر بيدها لأنه أناب ذلك الرجل مناب نفسه في تخييرها وما أوجب لها الخيار بنفسه بخلاف ما لو قال لذلك الرجل قل لها أن الخيار بيدها أو أن أمرها بيدها أو أنها طالق إن شاءت فذلك بيدها أخبرها الرجل أو لم يخبرها لأنه أوجب لها ذلك بنفسه وجعل المخاطب رسولا إليها في إعلامها ذلك فسواء أعلمها أو علمت بنفسها بسماعها من الزوج أو من غيره كان لها الخيار في مجلس علمها ولو لم تعلم به إلا بعد أيام فمتى علمت كان لها الخيار في مجلسها لأنها لا تتمكن من التصرف بمقتضى هذا التخيير ما لم تعلم به فيتوقف ثبوت الحكم(6/389)
ص -180- ... في حقها على علمها به في خطاب الشرع وكما في خيار المعتقة أنه يبقى إلى علمها به ومتى علمت كان لها الخيار في ذلك المجلس.
قال: وإن قال هي بالخيار اليوم فلها الخيار إلى غروب الشمس ولا يبطل خيارها بقيامها عن المجلس لأنه أوجب لها خيارا ممتدا فلا يبطل ذلك ما بقي وقته وإن لم تعلم حتى مضى اليوم بطل خيارها لأن الخيار كان مؤقتا بوقت فلا موجب له بعد مضي ذلك الوقت ولكن ينتهي بمضي الوقت سواء علمت أو لم تعلم وكذلك لو قال هي بالخيار هذا الشهر وذكر في النوادر أنها لو اختارت زوجها ثم أرادت أن تختار نفسها قبل مضي الشهر فليس لها ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لها ذلك وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله لها ذلك على عكس هذا وقال إذا قال لها الخيار إلى رأس الشهر فاختارت زوجها في يوم ثم أرادت أن تختار نفسها في يوم آخر فليس لها ذلك في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ولها ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله فمن يقول لها ذلك قال لأن اختيارها زوجها بمنزلة قيامها عن المجلس فكما لا يبطل خيارها في الأمر المؤقت بالقيام عن المجلس واشتغالها بعمل آخر فكذلك باختيارها زوجها ومن يقول ليس لها أن تختار نفسها قال لأن الخيار واحد في جميع المدة وقد أبطلته حين اختارت زوجها فلا يبقى بعد إبطالها خيار حتى تختار به نفسها.
قال: وإن قال لامرأة يوم أتزوجك فاختاري أو متى أتزوجك فاختاري أو إن تزوجتك أو إذا تزوجتك أو كلما تزوجتك فلها الخيار في جميع ذلك في المجلس الذي يتزوجها فيه لأن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز إلا في كلما فإن لها الخيار كلما تزوجها في ذلك المجلس مرة بعد مرة لأن كلمة كلما تقتضي التكرار.(6/390)
قال: وإن قال اختاري إذا أهل الشهر أو إذا كملت السنة أو إذا قدم فلان فإن لم تعلم بذلك فلها الخيار إذا علمت فالمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز ولو خيرها مطلقا عند وجود هذه الأمور يتوقف على المجلس الذي علمت به كذلك هنا.
قال: وإن قال اختاري يوم كذا أو رأس الشهر أو صلاة الأولى فلها الخيار في ذلك اليوم كله ووقت تلك الصلاة كله ورأس الشهر ليلته ويومه كله لأن الشهر يشتمل الليالي والأيام ورأسه الليلة الأولى ويومها ويسقط خيارها بمضي هذا الوقت إن علمت أو لم تعلم لأنه أوجب لها الخيار مؤقتا فلا يبقى بعد مضي الوقت.
قال: وإن قال اختاري يوم يقدم فلان فقدم فلان ليلا فلا خيار لها ولو قدم بالنهار فلها الخيار في ذلك اليوم إلى غروب الشمس لأن الخيار يتوقت فذكر اليوم فيه للتوقيت به فيتناول بياض النهار خاصة بخلاف قوله أنت طالق يوم يقدم فلان لأن الطلاق لا يحتمل التوقيت ولا يختص بأحد الوقتين فذكر اليوم فيه عبارة عن الوقت.(6/391)
ص -181- ... قال: وإن قال اختاري تطليقة فقالت قد اخترتها فهي واحدة رجعية لأن قوله تطليقة بمنزلة التفسير لأول كلامه والمبهم إذا تعقبه تفسير يكون الحكم لذلك التفسير فيصير مفوضا إليها الطلاق باللفظ الصريح وكذلك الأمر باليد لو قال لها أمرك بيدك في تطليقة كان هذا تفسير الأول كلامه ولو قال اختاري تطليقتين فقالت قد اخترت واحدة وقع عليها تطليقة رجعية لأنها ملكت إيقاع اثنتين ومن ضرورته أن تملك إيقاع الواحدة وهذا بخلاف ما لو قال لها اختاري تطليقتين إن شئتهما فاختارت واحدة لا يقع عليها شيء لأنه جعل الشرط مشيئتها تطليقتين ولم يوجد ذلك بإيقاع الواحدة.
قال: ولو قال لها اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي فهذا جواب منها تام للكلمات الثلاث فتطلق ثلاثا وكذلك لو قالت اخترت نفسي مرة واحدة أو بمرة أو اختياره فهذا جواب تام للكلمات الثلاث فتطلق ثلاثا وإن قالت اخترت التطليقة الأولى وقع عليها واحدة بالإتفاق.(6/392)
قال: وإن قالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهي طالق ثلاثا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تطلق واحدة بائنة بمنزلة ما لو قالت اخترت التطليقة أو اخترت التطليقة الأولى لأن معنى قولها اخترت الأولى ما صار إليها بالكلمة الأولى والذي صار إليها بالكلمة الأولى تطليقة فكأنها صرحت بذلك توضيحه أن الأولى نعت لمؤنث فيجوز أن يكون المراد به التطليقة فلا يقع به إلا واحدة ويجوز أن يكون المراد به المرة أو الاختيار فيقع الثلاث ولكن الطلاق بالشك لا ينزل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الأولى نعت لمؤنث ولكن النعت ينصرف إلى منعوت مذكور ولا ينصرف إلى ما لم يذكر مع إمكان صرفه إلى المذكور والمذكور الاختيار دون الطلاق فكان هذا بمنزلة قولها اخترت الاختيارة الأولى أو المرة الأولى ولو صرحت بذلك طلقت ثلاثا وحرف آخر له أنها أتت بالترتيب فيما لا يليق به صفة الترتيب فيلغو ذكر الترتيب فيبقى قولها اخترت فيكون جوابا للكل وبيان هذا أن التطليقات الثلاث قد اجتمعت في ملكها حتى يقع الثلاث جملة باختيارها نفسها والمجتمع في زمان أو مكان لا يليق به صفة الترتيب فكذلك المجتمع في الملك لا يليق به صفة الترتيب وهذا بخلاف قولها اخترت التطليقة الأولى فإن هناك يلغو ذكر الترتيب أيضا فيبقى قولها اخترت التطليقة فإن قيل كان ينبغي أن لا يقع هناك شيء لأنه لما لغي ذكر الترتيب بقي قولها اخترت وقد بينا أن بهذا اللفظ لا يقع الطلاق ما لم تقل اخترت نفسي.
قلنا: هذا إذا لم يكن في لفظ الزوج ما يدل على تخصيص الطلاق وهنا ما يدل على ذلك وهو قوله اختاري ثلاث مرات فإن الطلاق هو المحصور بعدد الثلاث ولو قال اختاري نفسك أو طلاقك فقالت اخترت كان جوابا فكذلك هنا.
قال: ولو قال إن قدم فلان فاختاري فقالت بعد قدومه بأيام لم أعلم إلا الساعة ولي(6/393)
ص -182- ... الخيار فالقول قولها مع يمينها إن نازعها الزوج لأنه يتمسك بالأصل وهو عدم العلم بالقدوم ولأن الزوج يدعي عليها ما يسقط خيارها بعد ما عرف ثبوته لها وهي تنكر ذلك فالقول قولها مع يمينها ولكن لو لم تختر نفسها في ذلك المجلس حتى خاصمت فيه الزوج وذهبت إلى القاضي فلا خيار لها لقيامها عن المجلس بعد ما علمت بالقدوم فهو كما لو أقامها الزوج.
قال: وإذا خيرها في مجلسها فقالت بعد القيام منه قد كنت اخترت نفسي فيه لم تصدق على ذلك إذا كذبها الزوج لأنها تخبر بما لا تملك إنشاءه فإذا أقامت البينة على ذلك كان الثابت بالبينة كالثابت بتصديق الخصم فيفرق بينهما وإن لم يكن لها بينة فالقول قول الزوج مع يمينه على علمه لأنه يستحلف على فعل غيره.
قال: وإن قال لها اختاري اليوم واختاري غدا فردت الخيار اليوم أو اختارت زوجها فليس لها الخيار في بقية ذلك اليوم ولها الخيار غدا لأن قوله واختاري غدا تخيير مضاف إلى وقت آت والمضاف غير المنجز فإنها إنما ردت الخيار المنجز في اليوم فيبقى خيارها في الغد على حاله بخلاف ما لو قال اختاري اليوم وغدا فردت اليوم أو اختارت زوجها فلا خيار لها في الغد لأنه عطف الغد على اليوم والعطف للإشراك فاقتضى ذلك امتداد الخيار إلى مضي الغد لا تجديد الخيار المضاف وإذا كان الخيار واحدا وقد بطل ذلك بردها فلا خيار لها بعد ذلك فأما إذا قال واختاري غدا فهو خيار آخر أوجبه لها في الغد لأنه ذكر للغد خبرا فلا يجعل الخبر الأول خبرا له وإن اختارت اليوم نفسها فبانت فلا خيار لها في الغد لأنها قد ملكت أمر نفسها باختيارها نفسها وذلك ينفي الخيار المضاف كما ينفي الخيار المنجز ولأن الخيار المضاف إلى الغد لا يتضمن تطليقة أخرى لأن التطليقة التي في ضمن الخيار المنجز تحتمل الإضافة إلى الغد ما لم تقع فإذا وقعت باختيارها نفسها في اليوم لم يبق حتى تختار نفسها في الغد بها.(6/394)
قال: وإن قال اختاري غدا الطلاق فقالت اليوم اخترت غدا الطلاق أو قالت قد اخترت الزوج فاختيارها اليوم باطل ولها الاختيار غدا لأن الزوج أضاف التخيير إلى وقت منتظر فلا يثبت لها الخيار قبل مجيء ذلك الوقت واختيارها قبل أن يثبت لها الخيار لغو وإن قالت في الغد قد اخترت زوجي لا بل نفسي كانت امرأته ولا خيار لها لأن بقولها قد اخترت زوجي بطل خيارها فبقولها لا بل نفسي اختارت نفسها بعد ما بطل خيارها وإن قالت اخترت نفسي لا بل زوجي بانت بقولها اخترت نفسي فلا ترفع البينونة بقولها لا بل زوجي بعد ذلك.
قال: وإن قال إن شئت فأنت طالق واختاري فقالت قد اخترت نفسي وشئت الطلاق كانت طالقا اثنتين لأن قولها قد اخترت نفسي جواب التخيير وقولها شئت الطلاق إيجاد للشرط في طلاق المشيئة والصريح يلحق البائن ولا يكون قولها اخترت نفسي عملا هو ضد مشيئة الطلاق بل هذا من جنس مشيئة الطلاق فلا يخرج به طلاق المشيئة من يدها وكذلك(6/395)
ص -183- ... لو قال اختاري إن هويت أو أحببت أو أردت فقالت قد اخترت نفسي وقعت تطليقة بائنة لوجود الشرط باختيارها نفسها فقد هويت ذلك وأحبت وأرادت حين اختارت نفسها.
قال: ولو قال اختاري من ثلاث تطليقات ما شئت فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تملك أن تختار بهذا اللفظ إلا واحدة أو اثنتين وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تملك أن تختار الثلاث بهذا اللفظ لأن كلمة ما للتعميم ومن قد تكون للتبعيض وقد تكون للتمييز كما يقال سيف من حديد وهو معنى قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وقد تكون صلة كما في قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الاحقاف: 31] وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] فكانت مراعاة جانب التعميم بكلمة ما أولى وإذا حمل على معنى التعميم صارت الثلاثة مفوضة إليها فكانت كلمة من لتمييز الطلاق من سائر الأشياء في التفويض إليها أو هو صلة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلمة ما للتعميم كما قالا وكلمة من للتبعيض حقيقة والكلام محمول على حقيقته فإن الحقيقة لا تترك إلى المجاز إلا لقيام الدليل فيعمل بحقيقة الكلمتين ويقول يزاد على الواحدة لحرف التعميم وينقص عن الثلاث لحرف التبعيض فيصير بيدها اثنتان فإذا أوقعت واحدة أو اثنتين جاز ذلك وإن أوقعت ثلاثا لم يقع شيء عنده لأن المأمور باثنتين لا يملك إيقاع الثلاث عنده وعندهما تطلق ثلاثا لأن الثلاث صارت مفوضة إليها وفي الكتاب استشهد لقولهما بما لو قال كل من هذا الطعام ما شئت جاز له أن يأكل كله ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هناك قام دليل المجاز وهو العرف ولأنه إباحة لا يتعلق بها اللزوم فينبني الأمر فيه على التوسع بخلاف الطلاق فإنه يتعلق به اللزوم فيعتبر فيه حقيقة كل لفظ ولو لم تختر شيئا حتى قال الزوج لك ألف درهم على أن تختاريني فاختارته كانت قد أبطلت الخيار لأن اسقاط(6/396)
الخيار لا يتعلق بالجائز من الشرط الفاسد فإن الشرط الفاسد لا يمنع ثبوته ولا شيء لها من الألف لأنها لا تملك الزوج باسقاطها خيارها شيئا.
قال: ولو قال لها اختاري فقالت قد اخترت نفسي أو زوجي بطل الخيار ولم يقع شيء لأن حرف أو يقتضي إثبات أحد المذكورين بغير عينه فاشتغالها بالكلام المبهم يكون إبطالا منها للخيار ولا يقع عليها شيء لأنها لم تجعل اختيارها نفسها عزيمة في كلامها وإن قالت قد اخترت نفسي وزوجي طلقت بقولها قد اخترت نفسي فقولها بعد ذلك وزوجي لغو وإن قالت قد اخترت زوجي ونفسي فقد سقط اختيارها بقولها اخترت زوجي فقولها ونفسي بعد ذلك لغو وهي امرأته ولا خيار لها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الأمر باليد
قال: وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها فالحكم فيه كالحكم في الخيار في سائر مسائل الباب المتقدم إلا أن هذا صحيح قياسا واستحسانا لأن الزوج مالك لأمرها فإنما يملكها بهذا اللفظ ما(6/397)
ص -184- ... هو مملوك له فيصح منه ويلزم حتى لا يملك الزوج الرجوع عنه اعتبارا بإيقاع الطلاق وإن نوى بالأمر ثلاثا كان كما نوى حتى إذا طلقت نفسها ثلاثا تطلق ثلاثا لأن هذا تفويض للأمر إليها وهو يحتمل العموم والخصوص بخلاف قوله اختاري فإنه أمر بالفعل فلا يحتمل معنى العموم وإن لم ينو الثلاث فهي واحدة بائنة وعن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى هي ثلاث ولا يصدق في القضاء إذا قال نويت واحدة لأنه فوض إليها بهذا الكلام جنس ما يملك عليها وذلك ثلاث ولكنا نقول التفويض قد يكون خاصا وقد يكون عاما فإذا نوى الواحدة فقد قصد تفويضا خاصا وهو غير مخالف للظاهر وكذلك إن نوى الطلاق فقط لأنه لا يثبت إلا القدر المتيقن عند الاحتمال وكذلك إن نوى اثنتين لأن هذا نية العدد وهي لا تسع في هذا اللفظ فتكون واحدة بائنة.
قال: وإذا قال لها أمرك بيدك ثم قال لها أمرك بيدك بألف درهم فقالت قد اخترت نفسي فهي بائن بتطليقتين والألف عليها لازمة لأن كلامها جواب للإيجابين جميعا وأحدهما ببدل والآخر بغير بدل وإنما يقعان معا عند اختيارها نفسها فيلزمها المال لأن الطلاق بجعل يصادفها وهي منكوحة كالتي هي بغير جعل.
قال: وإذا قال لها امرك في يدك ينوي ثلاثا ثم قال لها أمرك بيدك على ألف درهم ينوي ثلاثا فقبلت ذلك ثم قالت قد اخترت نفسي بالخيار الأول كان المال عليها لازما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الأمرين قد صارا امرا واحدا معناه أن الزوج لا يملك عليها إلا الثلاث والذي أوجبه بجعل هو الذي تضمنه الكلام الأول وقد قبلت ذلك وأوقعت فيلزمها المال توضيحه إن ذكرها الترتيب لغو على أصل أبي حنيفة فيبقى قولها اخترت نفسي فيكون جوابا للكلامين ويلزمها المال وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى هي طالق ثلاثا ولا يلزمها المال لأنها بالاختيار أوقعت ما تضمنه الكلام الأول وقد كان ذلك بغير جعل.(6/398)
قال: وإن قال لها أمرك بيدك اليوم أو قال في اليوم فإن اختارت زوجها فقد بطل خيارها وإن لم تختر شيئا فلها الخيار إلى غروب الشمس وذكر بشر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى فرقا بين قوله اليوم وبين قوله في اليوم فقال إذا قال في اليوم فلها الخيار في مجلسها لوجود حرف في فإن المظروف قد يشغل جزءا من الظرف فإنما جعل لها الخيار في جزء من اليوم بخلاف قوله اليوم فإن ذلك تصريح بالخيار في جميع اليوم ولكن هذا الفرق ضعيف والمقصود في الوجهين جميعا توقيت الخيار باليوم.
قال: وإذا قال الزوج جعلت أمرك بيدك أمس فلم تختاري شيئا وقالت هي بل قد اخترت فالقول قول الزوج مع يمينه على علمه لأنها أخبرت بما لا تملك إنشاءه وتدعي وقوع الطلاق عليها والزوج منكر لذلك فإنه أقر بالتخيير فقط ولا يقع به شيء ما لم تختر نفسها.
قال: وإن جعل أمرها بيد صبي أو مجنون فهو بيده في مجلسه لأن موجب هذا التفويض(6/399)
ص -185- ... صحة إيقاع الطلاق منهما وذلك يكون بعبارته والصبي من أهله فكان كالبالغ ليس للزوج أن يخرجه من يده ولا يبطل إلا بقيام المفوض إليه من مجلسه.
قال: وإن جعل أمرها بيد رجلين فطلقها أحدهما لم يقع لأنه ملك الأمر منهما فأحدهما لا يستبد بالتصرف فيما هو مملوك لهما ولأنه جعل الأمر في أيديهما ليرويا النظر في أمرها ونظر الواحد لا يقوم مقام نظر المثنى بخلاف قوله طلقاها لأنه أتم النظر بنفسه وإنما أنا بهما مناب نفسه في العبارة وعبارة الواحد والمثنى سواء.
قال: ولو قال لامرأته وهي أمة أمرك بيدك يريد اثنتين فاختارت نفسها طلقت اثنتين لأن هذا نية العموم في التفويض فالاثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة بخلاف ما إذا كانت حرة فنية الاثنتين في حقها نية العدد وهذا اللفظ لا يحتمل نية العدد وكذلك إن كانت الحرة عنده في ثنتين فهذا في حقها نية العدد لأنه بأصل النكاح يملك عليها ثلاثا فلا يكون هذا في حقها إلا نية العدد فلا تقع إلا واحدة.
قال: وإن قال لها أمرك بيدك اليوم وغدا وبعد غد فهو أمر واحد إن ردته اليوم بطل كله وقد بينا هذا في التخيير فكذلك في الأمر باليد وروى أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي عن أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا ردت اليوم فأمرها بيدها غدا فهو بمنزلة ما لو قال وأمرك بيدك غدا وقد بينا الفرق بينهما.(6/400)
قال: وإذا قال أمرك بيدك اليوم وبعد غد فهما أمران حتى إذا ردت اليوم فلها الخيار بعد الغد وعلى قول زفر رحمه الله هذا أمر واحد وكذلك لو قال اليوم ورأس الشهر زفر يقول عطف أحد الوقتين على الآخر من غير تكرار لفظ الأمر فيكون أمرا واحدا كما في قوله اليوم وغدا ولكنا نقول أحد الوقتين المذكورين هنا غير متصل بالآخر بل بينهما وقت غير مذكور ولا يثبت فيه حكم الأمر فعرفنا أنه ليس المراد بذكر الوقت الثاني امتداد الأمر الأول فاقتضى ضرورة إيجاب أمر آخر فأما إذا قال وغدا فأحد الوقتين متصل بالوقت الآخر فكان ذكر الغد لامتداد حكم الأمر إليه فلا يثبت به أمر آخر إذ لا ضرورة فيه والله أعلم
باب الظهار
اعلم بأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فقرر الشرع أصله ونقل حكمه إلى تحريم مؤقت بالكفارة من غير أن يكون مزيلا للملك بيانه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية وسبب نزولها قصة خولة بنت ثعلبة فإنها قالت كنت تحت أوس بن الصامت رضي الله عنه وقد ساء خلقه لكبر سنه فراجعته في بعض ما أمرني به فقال أنت علي كظهر أمي ثم خرج فجلس في نادي قومه ثم رجع إلي وراودني عن نفسي فقلت والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يقضي الله ورسوله في ذلك فوقع علي فدفعته بما تدفع به المرأة الشيخ الكبير وقد خرجت إلى بعض جيراني فأخذت ثيابا ولبستها فأتيت رسول(6/401)
ص -186- ... الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فجعل يقول: "لي زوجك وبن عمك وقد كبر فاحسني إليه" فجعلت أشكو إلى الله ما أرى من سوء خلقه فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يغشاه عند نزول الوحي فلما سرى عنه قال: "قد أنزل الله تعالى فيك وفي زوجك بيانا". وتلا قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى آخر آيات الظهار ثم قال: "مريه فليعتق رقبة" فقلت لا يجد ذلك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه أن يصوم شهرين متتابعين" فقلت هو شيخ كبير لا يطيق الصوم فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه فليطعم ستين مسكينا" فقلت ما عنده شيء يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا سنعينه بفرق" وقلت أنا أعينه بفرق أيضا فقال صلى الله عليه وسلم: "افعلي واستوصي به خيرا" ثم اختلفت العلماء رحمهم الله تعالى في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا} [المجادلة:3و8 ] فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى هو العزم على الجماع الذي هو امساك بالمعروف وقال الشافعي رحمه الله تعالى المراد هو السكوت عن طلاقها عقيب الظهار وقال داود المراد تكرار الظهار حتى إن على مذهبهم لا يلزمه الكفارة بالظهار مرة حتى يعيد مرة أخرى وهذا ضعيف لأنه لو كان المراد هذا لكان يقول ثم يعودون لما قالوا والدليل على فساده حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار إنما عزم على الجماع وقد ألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفارة وكذلك حديث سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه فإنه قال كنت لا أصبر عن الجماع فأدخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعتها وخرجت إلى قومي فأخبرتهم بذلك فشددوا الأمر علي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم "أنت بذاك" فقلت أنا بذاك وها أنا بين يديك فامض في حكم الله تعالى فقال صلى(6/402)
الله عليه وسلم "أعتق رقبة" الحديث كما روينا في كتاب الصوم وليس في هذا تكرار الظهار والشافعي رحمه الله تعالى يقول كما سكت عن طلاقها عقيب الظهار فقد صار ممسكا لها فيتقرر عليه الكفارة ولكنا نقول المراد بقوله تعالى {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا} أن يأتي بضد موجب كلامه وموجب كلامه التحريم لا إزالة الملك فاستدامة الملك لا تكون ضده بل ضده العزم على الجماع الذي هو استحلال وبمجرد العزم عندنا لا تتقرر الكفارة أيضا حتى لو أبانها بعد هذا أو ماتت لم تلزمه الكفارة عندنا والحاصل أن عند الشافعي رحمه الله تعالى معنى العقوبة يترجح في الكفارة فتجب بنفس الظهار الذي هو محظور محض إلا أنه يتمكن من إسقاطها بأن يصل الطلاق بكلامه شرعا فإذا لم يفعل تتقرر عليه الكفارة وعندنا في الكفارة معنى العبادة والعقوبة والمحظور المحض لا يكون سببا لها وإنما سببها ما تردد بين الحظر والإباحة وذلك إنما يتحقق بالعزم على الجماع الذي هو إمساك بالمعروف حتى يصير السبب به مترددا وسنقرر هذا الأصل في كتاب الإيمان إن شاء الله سبحانه وتعالى ثم لا خلاف أن هذه الكفارة على الترتيب دون التخيير فإن من كانت كفارته بالاعتاق أو الصيام فليس له أن يقربها حتى يكفر لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] فإن جامع قبل أن يكفر(6/403)
ص -187- ... استغفر الله تعالى ولم يعد حتى يكفر لأنه ارتكب الحرام وليس عليه فيما صنع كفارة لما روي أن رجلا ظاهر من امرأته ثم وقع عليها من قبل أن يكفر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستغفر الله تعالى ولا يعود حتى يكفر ولو جامعها في صوم الكفارة بالنهار ناسيا أو بالليل عامدا فعليه استقبال الكفارة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقد بينا هذا في كتاب الصوم وكذلك لو أعتق نصف رقبة ثم جامعها ثم أعتق ما بقي لم يجزه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الشرط في الأعتاق تقديمه على المسيس وأخلاؤه عنه كما في الصوم والعتق عنده يتجزأ وهذا التفريع لا يجيء على قولهما لأن العتق عندهما لا يتجزأ ولما أعتق بعضه عتق كله وإن كانت كفارته بالإطعام فليس له أن يجامعها قبل التكفير عندنا وقال مالك رحمه الله له ذلك لأنه ليس في التكفير بالإطعام شرط التقديم على المسيس ولا مدخل للقياس في هذا الباب ولكنا نستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" من غير تفصيل ولأن من الجائز أن يقدر على الإعتاق أو الصيام فتصير كفارته بذلك فلو وطئها كان قد مسها قبل التكفير بالعتق وذلك حرام إلا أنه لو أطعم ثلاثين مسكينا ثم جامعها لا يلزمه استقبال الطعام بخلاف الإعتاق والصيام لأن شرط الإخلاء عن المسيس من ضرورة شرط التقديم على المسيس وذلك غير منصوص عليه في الإطعام وثبوته لمعنى في غير الإطعام على ما بينا فلهذا لا يلزمه الاستقبال بخلاف الإعتاق والصيام.(6/404)
قال: وإذا ظاهر الرجل من أربع نسوة له فعليه أربع كفارات عندنا وقال الشافعي رضي الله عنه إذا ظاهر منهن بكلمة واحدة لم يلزمه إلا كفارة واحدة لأن الظهار سبب موجب للكفارة فبالكلمة الواحدة لا ينعقد الإظهار واحد في حكم الكفارة كاليمين ولو قال لله علي أن لا أقربكن ثم قربهن لم يلزمه إلا كفارة واحدة ولكنا نقول الظهار يوجب تحريما مؤقتا بالكفارة فإذا أضاف إلى محال مختلفة يثبت في كل محل حرمة لا ترتفع إلا بالكفارة كالتطليقات الثلاث لما كانت توجب حرمة مؤقتة بزوج فإذا أوجبها في أربع نسوة بكلمة واحدة تثبت في حق كل واحدة منهن حرمة لا ترتفع إلا بزوج بخلاف اليمين فإن الكفارة تجب هناك بهتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وذلك لا يتعدد بتعدد النساء ومذهبنا مروى عن عمر رضي الله تعالى عنه وإبراهيم والحسن البصري رحمهما الله تعالى.
قال: وإذا ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة فعليه لكل ظهار كفارة هكذا نقل عن علي رضي الله تعالى عنه ولأن تكرار الظهار في امرأة واحدة كتكرار اليمين فكما يجب باعتبار كل يمين كفارة فكذلك باعتبار كل ظهار.
فإن قيل فإذا ثبتت الحرمة المؤقتة بالظهار الأول كيف تثبت بالظهار الثاني والثالث.
قلنا: بالظهار الأول تثبت الحرمة مع بقاء ملك المحل فيتحقق الظهار الثاني والثالث وأسباب الحرمة تجتمع في محل واحد فإن صيد الحرم حرام على المحرم لإحرامه ولكونه(6/405)
ص -188- ... في الحرم والخمر حرام على الصائم لعينها ولصومه وليمينه إذا حلف لا يشربها والكفارة الثانية غير الكفارة الأولى فالحرمة الثانية في الحكم غير الأولى أيضا وإن ظاهر منها ثلاث مرات ونوى بالثاني والثالث تكرار الكلام الأول فعليه كفارة واحدة لأن صفة الإخبار والأنشاء في الظهار واحدة والكلام الواحد يعاد ويكرر ولا يجب به إلا ما يجب بالأول.
قال: وإن قال لها أنت علي كظهر أمي أو كبطنها فهو مظاهر لأن بطن الأم عليه في الحرمة كظهرها والظهار منكر من القول وزور كما قال الله تعالى وذلك أن يشبه من هو في أقصى غايات الحل بمن هو في أقصى غايات الحرمة وذلك لا يختلف بالظهر والبطن وكذلك لو ذكر جزءا من امرأته شائعا أو عضوا جامعا يعبر به عن جميع البدن بخلاف ما إذا ذكر عضوا لا يعبر به عن جميع البدن كاليد والرجل وقد بينا هذا في باب الطلاق وكذلك إذا شبهها بظهر امرأة محرمة عليه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة فهذا والتشبيه بظهر الأم سواء للمعنى الذي بينا كما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي أنه إذا شبهها بظهر امرأة قد زنا بأمها أو بابنتها فحرمت عليه بذلك فهو مظاهر منها لأنه شبهها بمحرمة عليه على التأبيد قال لأن قضاء القاضي بحل المناكحة بينهما لا ينفذ عندي لكونه بخلاف النص فإن النكاح حقيقة للوطء وهذا بخلاف ما لو شبهها بظهر امرأة قد لاعنها لأن اللعان وإن كان يوجب الحرمة المؤبدة عندي فهو مما يسع فيه الاجتهاد وينفذ فيه قضاء القاضي بخلافه فلم يكن في معنى حرمة الأم وقال محمد رحمه الله تعالى في الكيسانيات إذا شبهها بظهر أم المزني بها لا يكون مظاهرا لأن العلماء مختلفون في حرمتها عليه ولو قضي القاضي بحل المناكحة بينهما نفذ قضاؤه لأن الناس تعارفوا اطلاق اسم النكاح على العقد ولو شبهها بظهر امرأة قد لمس أمها أو ابنتها من شهوة أو نظر إلى فرجها من شهوة لم يكن مظاهرا في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى(6/406)
لأن هذه الحرمة حرمة ضعيفة ليست في معنى حرمة الأم حتى ينفذ قضاء القاضي بخلافها وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يكون مظاهرا لأن ثبوت الحرمة بالنظر إلى الفرج منصوص عليه في قوله صلى الله عليه وسلم "ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها" فيتحقق معنى الظهار إذا شبهها به وإن شبهها بظهر امرأة أجنبية أو ذات رحم منه غير محرم فليس بمظاهر لأنه شبه محللة بمحللة فإن الأخرى تحل له بالملك فلا يكون مظاهرا وكذلك لو شبهها بظهر رجل أجنبي أو قريب فهو ليس بمحرم عليه النظر إليه ومسه فلا يكون مظاهرا.
قال: وإن ظاهرت المرأة من زوجها فليس ذلك بشيء لأن موجبه التحريم وهو مختص بالنكاح كالطلاق وليس إلى المرأة من ذلك شيء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال عليها الكفارة للظهار لأن المعنى في جانب الرجل تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك يتحقق في جانبها والحل مشترك بينهما وقال الحسن عليها كفارة اليمين لأن هذا بمنزلة التحريم منها زوجها على نفسها وتحريم الحلال يمين فتلزمها الكفارة كما لو حلفت أن لا تمكنه من نفسها ثم مكنته.(6/407)
ص -189- ... قال: ولا يكون الرجل مظاهرا من أمته ولا من أم ولده ولا من مدبرته عندنا وقال مالك يصح ظهاره منهن لأن ملك اليمين في محل ملك المتعة سبب لملك المتعة كملك النكاح فيتحقق معنى الظهار وهو تشبيه المحللة بالمحرمة ولكنا نستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] وهذا يتناول الزوجة دون المملوكة وقد بينا أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ونقل الشرع حكمه إلى التحريم المؤقت بالكفارة والمملوكة ليست بمحل للطلاق فلا تكون محلا للظهار أيضا ولهذا لا يصح إيلاؤه من الأمة لأن الإيلاء طلاق مؤجل والأمة ليس بمحل للطلاق وقال ابن عباس رضي الله عنه من شاء باهلته عند الحجر الأسود أنه لا كفارة في الظهار من الأمة وكذلك لو ظاهر من امرأة أجنبية فهو باطل كما لو طلقها وهذا لأن الأجنبية لا تحل له ما لم يتزوجها فإنما شبه محرمة بمحرمة.
قال: ولو قال لامرأته أنت علي كفرج أمي أو كفخذها كان مظاهرا لأن فرج الأم وفخذها محرم عليه كظهرها فيتحقق تشبيه المحللة بالمحرمة ولو قال كيدها أو رجلها لم يكن مظاهرا لأنه لا يحرم عليه النظر إلى يدها ورجلها ولا مسها فلم يتحقق بهذا اللفظ تشبيه المحللة بالمحرمة ولو قال جنبك أو ظهرك علي كظهر أمي لم يكن مظاهرا بمنزلة قوله يدك أو رجلك لأن هذا العضو لا يعبر به عن جميع البدن عادة وقع في بعض النسخ ظفرك مكان قوله ظهرك وهو غلط فالظهر مع الجنب اليق من الظفر.(6/408)
قال: ولو قال أنت علي كأمي فهذا كلام يحتمل وجوها لأن الكاف للتشبيه وتشبيه الشيء بالشيء قد يكون من وجه وقد يكون من وجوه فإذا نوى به البر والكرامة لم يكن مظاهرا لأن ما نواه محتمل ومعناه أنت عندي في استحقاق البر والكرامة كأمي وإن نوى الظهار فظهار لأنه شبهها بجميع الأم ولو شبهها بظهر الأم كان ظهارا فإذا شبهها بجميع الأم كان أولى وإن لم يكن له نية فليس ذلك بشيء في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله تعالى وفي قول محمد رضي الله تعالى عنه هو ظهار ولم يذكر قول أبي يوسف رحمه الله تعالى وعنه روايتان إحداهما كقول محمد رضي الله تعالى عنه لأنه قال في الأمالي إذا كان هذا في حالة الغضب وقال نويت به البر لم يصدق في القضاء وهو ظهار وعنه أنه قال إيلاء لأن الأم محرمة عليه بالنص قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكان قوله أنت علي كأمي بمنزلة قوله أنت علي حرام وقد بينا في هذا اللفظ أنه إذا لم ينو شيئا يثبت أقل الوجوه وهو الإيلاء وبنحو هذا يحتج محمد رضي الله تعالى عنه ولكنه يقول هو ظهار لكاف التشبيه في كلامه فإن الظهار يختص بهذا الحرف ومتى كان مراده البر يقول أنت عندي كأمي ولا يقول علي إلا أنه إذا نوى البر أقمنا حرف على مقام عند لتصحيح نيته فإذا لم ينو بقي محمولا على حقيقته فكان ظهارا وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول كلام العاقل محمول على الصحة مهما أمكن حمله على وجه صحيح يحل شرعا لا يحمل على ما يحرم شرعا والظهار منكر من القول وزور فلا يمكن حمله عليه(6/409)
ص -190- ... إذا أمكن حمله على معنى البر والكرامة توضيحه أنها كانت محللة له وهذا الكلام يحتمل معنى البر ويحتمل معنى الظهار ولكن الحرمة بالشك لا تثبت كما لا يثبت الطلاق بالشك.
قال: ولو قال لها أنت علي حرام كأمي فقد انتفى احتمال معنى البر هنا لتصريحه بالحرمة فبقي احتمال الطلاق والظهار فإن أراد الطلاق فهو طلاق لأن قوله أنت علي حرام يكون طلاقا بالنية فقوله كأمي لتأكيد تلك الحرمة فلا تخرج به من أن تكون طالقا بالنية وكذلك إن أراد التحريم دون الظهار فهو طلاق وبعض مشايخنا رحمهم الله يقولون ينبغي أن يكون إيلاء بمنزلة قوله أنت علي حرام إذا قصد به التحريم فقط ولكنا نقول إنما قصد التحريم هنا لزوال الملك لأنه شبهها بالأم وهي محرمة حرمة تنافي الملك وزوال الملك بالتحريم يكون بالطلاق وإن نوى به الظهار فهو ظهار لأنه شبهها في الحرمة بامه ولو شبهها بظهر الأم كان ظهارا فكذلك إذا شبهها بالأم وإن لم يكن له نية فهو ظهار لأن عند الاحتمال لا يثبت إلا القدر المتيقن والحرمة بالظهار دون الحرمة بالطلاق فالحرمة بالظهار لا تزيل الملك والحرمة بالطلاق تزيله.(6/410)
قال: وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي فهو ظهار في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى سواء نوى الظهار أو الطلاق أو لم يكن له نية بمنزلة قوله أنت علي كظهر أمي لأن ذلك اللفظ إنما كان ظهارا باعتبار التشبيه في الحرمة فالتصريح بما هو مقتضي كلامه يؤكد حكم الكلام ولا يغيره وهذا اللفظ صريح في الظهار فلا تعمل فيه نية شيء آخر كاللفظ الذي هو صريح في الطلاق لا تعمل فيه نية شيء آخر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن نوى الظهار أو لم يكن له نية فهو ظهار وإن نوى الطلاق فهو طلاق لأن المنوي من محتملات لفظه فإن قوله أنت علي حرام تسع فيه نية الطلاق لو اقتصر عليه فقوله كظهر أمي يحتمل معنى التأكيد لتلك الحرمة فلا يخرج به من أن يكون محتملا لنية الطلاق وروى أصحاب الأملاء عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا قال نويت به الطلاق يقع الطلاق بنيته ويكون مظاهرا بالتصريح بالظهار ولا يصدق في القضاء في صرف الكلام عن ظاهره بمنزلة قوله زينب طالق وله امرأة معروفة بهذا الاسم فقال لي امرأة أخرى وإياها عنيت يقع الطلاق على تلك بنيته وعلى هذه المعروفة بالظاهر ولكن هذا ضعيف فإن الطلاق لو وقع بقوله أنت علي حرام كان متكلما بلفظ الظهار بعد ما بانت والظهار بعد البينونة لا يصح فإن قيل الظهار مع الطلاق اثنتان بقوله أنت علي حرام.
قلنا: اللفظ الواحد لا يحتمل المعنيين المختلفين.
قال: وإن قال أنا منك مظاهر فهو ظهار لأن موجب الظهار هو التحريم وقد بينا أن لفظ التحريم يصح إضافته إلى كل واحد منهما باعتبار أن الحل مشترك بينهما فكذلك لفظ الظهار وكذلك لو قال قد ظاهرت منك فإن صيغة الإقرار والإنشاء في الظهار واحدة كما في الطلاق.(6/411)
ص -191- ... قال: وكذلك لو قال أنت مني كظهر أمي أو عندي ومعي فهو ظهار كقوله علي لأن تشبيه المحللة بالمحرمة يتحقق بهذه الكلمات.
قال: ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر لأنها محرمة عليه ما لم يكفر وعليها أن تمتنع من الحرام ولها إن تطالبه بالتكفير وتخاصمه في ذلك لأنها استحقت الإمساك بالمعروف وهو بالظهار فوت عليها ذلك فلها أن تطالبه بما صار مستحقا لها بالنكاح ويجبره القاضي على التكفير عند طلبها لأنه لا يتوصل إلى الإمساك بالمعروف إلا به ولا ينبغي له أن يباشرها ولا يقبلها حتى يكفر لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ولأن هذه الحرمة في معنى الحرمة بالطلاق إلا في حكم زوال الملك والارتفاع بالكفارة والحرمة متى ثبتت بالطلاق توجب تحريم اللمس والتقبيل فكذلك بالظهار.
قال: وإذا قال لامرأة إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي أو قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي فهو كما قال لأن الظهار يحتمل التعليق بالشرط كالطلاق فيصح اضافته إلى الملك والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإذا قال إذا تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها طلقت وبطل الظهار عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الظهار معطوف على الطلاق فتبين بالطلاق قبل أن يصير مظاهرا وعندهما يقعان معا وقد بينا هذا في باب الطلاق.
قال: وإذا قال إذا تزوجتك فأنت طالق ثم قال إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها لزم الطلاق والظهار جميعا لأنه تعلق كل واحد منهما بالتزويج هنا من غير واسطة فعند التزويج يقعان معا.(6/412)
قال: ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم أبانها فدخلت الدار في العدة أو بعد العدة لم يكن مظاهرا منها لأن موجب الظهار حرمة ترتفع بالكفارة وبالبينونة تثبت حرمة أقوى من ذلك فلا يظهر الضعيف مع القوي ولأن المرأة محل الظهار لأنها محللة له بأبلغ جهاته وقد زال ذلك بالبينونة والمعلق بالشرط عند وجود الشرط لا ينزل إلا عند بقاء المحل لأن الوصول إلى المحل عند ذلك يكون فإذا لم تبق محلا بعد البينونة لم يكن مظاهرا منها.
قال: وإذا ظاهر المسلم وهو حر أو عبد من زوجته وهي حرة أو أمة مسلمة أو صبية أو كتابية فهو مظاهر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ولأن العبد كالحر في كونه أهلا لموجب الظهار وهو الحرمة المؤقتة بالكفارة والأمة والصبية والكتابية كالحرة المسلمة في كونها محللة بأبلغ جهاته.
قال: وإن كان الزوج ذميا فظهاره باطل عندنا سواء كانت المرأة مسلمة أو ذمية وعند الشافعي رحمه الله تعالى ظهار الذمي صحيح لأن الذمي من أهل الطلاق وقد بينا أن الحرمة بالظهار في معنى الحرمة بالطلاق فكل من صح طلاقه صح ظهاره وكذلك هو من أهل الكفارة(6/413)
ص -192- ... لأنه من أهل الأعتاق والإطعام إلا أنه ليس من أهل الكفارة بالصوم وبهذا لا يمتنع صحة الظهار كالعبد فإنه ليس من أهل التكفير بالمال وكان ظهاره صحيحا وهذا على أصله مستقيم فإن معنى العقوبة عنده يترجح في الكفارة فيكون بمنزلة الحد وفي الحد معنى الكفارة قال صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات" لأهلها ثم يقام على الذمي بطريق العقوبة ولئن لم يكن من أهل الكفارة فهو أهل للحرمة فيعتبر ظهاره في حق الحرمة كما اعتبر أبو حنيفة رحمه الله تعالى إيلاء الذمي في حق الطلاق وإن لم يعتبر في حق الكفارة وكلامنا في المجوسي يتضح فإنه يعتقد الحل في أمه وأخته فإنما شبه امرأته بمن يعتقد الحل فيها بالنكاح فلا يكون مظاهرا كالمسلم إذا شبه امرأته بأجنبية.(6/414)
ولنا: أن الذمي ليس من أهل الكفارة فلا يصح ظهاره كالصبي وبيان الوصف أن المقصود بالكفارة التكفير والتطهير والكافر ليس بأهل له وما فيه من الشرك أعظم من الظهار بخلاف الحدود فالمقصود هناك الخزي والنكال وإنما الكفارة في حق من جاء تائبا مستسلما لحكم الشرع كما فعله ماعز رضي الله عنه والدليل عليه أن معنى العبادة يترجح في الكفارة حتى تتأدى بالصوم الذي هو محض عبادة ولا يتأدى إلا بنية العبادة ويفتى به ولا يقام عليه كرها والكافر ليس بأهل للعبادة وتأثير هذا الوصف بعد ثبوته أن موجب الظهار الحرمة المؤقتة بالكفارة ولا يمكن إثبات تلك الحرمة هنا لأنه ليس بأهل للكفارة فلو صح ظهاره لثبتت به حرمة مطلقة وهذا ليس بموجب الظهار وبه فارق حرمة الطلاق فإنه حرمة بزوال الملك أو بانعدام محل الحل والكافر من أهله وبه فارق العبد لأنه من أهل الكفارة إلا أنه عاجز عن التكفير بالمال لعدم الملك حتى لو عتق وأصاب مالا كانت كفارته بالمال وبه فارق الإيلاء لأنه طلاق مؤجل على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى والذمي من أهل الطلاق ولأن الحرمة الثابتة باليمين تكون مطلقة لا مؤقتة بالكفارة ولهذا لا يجوز التكفير قبل الحنث.(6/415)
قال: وإذا ظاهر المسلم من امرأته ثم ارتد ثم أسلما فهو على ظهاره في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى يكفر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قد سقط الظهار عنه بالردة لأن الكافر ليس من أهل الظهار وهو بالردة قد التحق بالكافر الأصلي وكما لا ينعقد الظهار بدون الأهلية لا يبقى بعد انعدام الأهلية وهذا لأن الثابت بالظهار حرمة مؤقتة بالكفارة وبعد الردة لا يمكن إبقاء هذه الحرمة لأنه لم يبق أهلا للكفارة فلو بقي إنما يبقى حرمة مطلقة وهذا لم يكن موجب ظهاره وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول ظهاره قد صح موجبا لحكمه فلا يرتفع حكمه إلا بالكفارة وهذا لأن الحرمة بالظهار في معنى الحرمة بالطلاق ثم المسلم لو طلق امرأته ثلاثا ثم ارتد ثم أسلم لا تحل له إلا بعد زوج فكذلك إذا ظاهر منها وهذا لأنه غير مقر على كفره بل هو مجبر على العود إلى الإسلام فيمكن إبقاء الحرمة المؤقتة بالكفارة باعتبار ما بعد إسلامه توضيحه أن اعتبار الأهلية عند انعقاد السبب ليتقرر موجبا وعند أداء الكفارة ليصح الأداء ففيما بين ذلك لا يعتبر بقاء الأهلية ألا ترى أنه لو جن بعد ما ظاهر من امرأته ثم(6/416)
ص -193- ... أفاق بقي ظهاره حتى يكفر مع أنه من أهل التكفير بالعتق حتى لو أعتق عبدا عن ظهاره في ردته ثم أسلم جاز عتقه عن الكفارة على ما نبينه.
قال: وإذا قال لامرأته إن شئت فأنت علي كظهر أمي فشاءت ذلك في مجلسها لزمه الظهار وهذا والطلاق المعلق بمشيئتها سواء في أنه يعتبر وجود المشيئة في المجلس وإن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإن قال أنت علي كظهر أمي اليوم فهو كما قال لا يقربها في ذلك اليوم حتى يكفر فإذا مضى اليوم بطل الظهار وقال بن أبي ليلى رحمه الله تعالى هو مظاهر أبدا حتى يكفر وقاس هذا بالحرمة الثابتة بالطلاق في أنه لا يتوقت بالتوقيت ولكنا نقول موجب الظهار الحرمة وهو محتمل للتوقيت كالحرمة بسبب العدة وحرمة البيع إلى الفراغ من الجمعة وحرمة الصيد على المحرم إلى أن يحل والحرمة بسبب اليمين فإذا احتمل التوقيت صح توقيته ولا يبقى بعد مضي الوقت بخلاف الطلاق فالحرمة هناك باعتبار زوال الملك أو لانعدام محل الحل وذلك لا يحتمل التوقيت وعلى هذا لو قال أنت علي كظهر أمي شهرا أو حتى يقدم فلان فهو كما قال ويسقط بمضي الشهر أو قدوم فلان لانتهاء الحرمة بمضي وقتها.
قال: ولو ظاهر من امرأته ثم طلقها ثلاثا أو ارتدت عن الإسلام فبانت منه ثم أسلمت وتزوجته بعد زوج آخر كان الظهار على حاله لا يقربها حتى يكفر لأن ظهاره قد صح وتثبت به الحرمة إلى أن يكفر فثبوت الحرمة بسبب آخر لا يمنع بقاء تلك الحرمة لأن أسباب الحرمة تجتمع في محل واحد وإذا بقيت تلك الحرمة لا ترتفع إلا بالكفارة.(6/417)
قال: ولو ظاهر من امرأته وهي أمة ثم اشتراها لم يكن له أن يقربها حتى يكفر لأن الحرمة تثبت بالظهار فهو بمنزلة الحرمة الثابتة بالطلاق ولو طلقها اثنتين لم تحل له بسبب الشراء بعد ذلك ما لم تتزوج بزوج آخر فكذلك إذا ثبتت الحرمة بالظهار أو هذه حرمة مع بقاء الملك فكانت كالحرمة الثابتة بسبب الحيض والحائض لا تحل له بملك اليمين كما لا تحل له بملك النكاح وكذلك إن أعتقها ثم تزوجها لأن النكاح الثاني كالأول ومع بقاء النكاح الأول ما كان يحل له أن يقربها حتى يكفر فكذلك في النكاح الثاني.
قال: وظهار الصبي والمعتوه باطل كطلاقهما لأن موجب الظهار الحرمة المؤقتة بالكفارة وليسا من أهل وجوب الكفارة عليهما ولا من أهل مباشرة سبب الحرمة بالقول.
قال: وظهار السكران والمكره لازم كطلاقهما لأن الإكراه والسكر لا يؤثر في اكتساب سبب الحرمة بالقول ولا في اكتساب وجوب الكفارة عندنا.
قال: وظهار الأخرس من امرأته في كتاب أو إشارة مفهومة صحيح كطلاقه لكونه أهلا لموجب الظهار ولا يدخل على المظاهر إيلاء وإن لم يجامعها أربعة أشهر أو أكثر وقال(6/418)
ص -194- ... مالك رحمه الله إذا لم يجامعها ولم يكفر حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء لأن المولى مضار متعنت بمنع حقها في الغشيان وقد تحقق ذلك في حقها بالظهار لأن في الموضعين لا يتمكن من قربانها شرعا إلا بالكفارة ولكنا نقول حكم كل واحد منهما منصوص عليه في القرآن ولا يقاس المنصوص على المنصوص فلو أثبتنا حكم الإيلاء في الظهار كان بطريق المقايسة وكما لا يجوز أن يثبت حكم الظهار في الإيلاء بطريق المقايسة فكذلك لا يثبت حكم الإيلاء في الظهار مع أن الظهار ليس في معنى الإيلاء فإن التكفير في الظهار قبل الجماع وفي الإيلاء بعده.
قال: ولو قال إن قربتك فأنت علي كظهر أمي كان موليا إن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء وإن قربها في الأربعة الأشهر لزمه الظهار بمنزلة قوله إن قربتك فأنت طالق وهذا لأنه منع نفسه من قربانها إلا بظهار يلزمه ومعنى الإضرار والتعنت بهذا يتحقق فكان موليا منها وإذا بانت بالإيلاء ثم تزوجها فقربها فهو مظاهر لأن اليمين باقية والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
قال: وإذا ظاهر من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى أنت علي مثل هذه ينوي الظهار فهو مظاهر لأنه شبه الثانية بالأولى ولأن قصد التشبيه في حكم الظهار وهذا قصد صحيح لما بينا أن تشبيه الشيء بالشيء قد يكون في وجه خاص وكذلك إن قال رجل آخر لامرأته أنت علي مثل امرأة فلان عليه ينوي الظهار كان مظاهرا منها أيضا وإن لم ينو الظهار فهو باطل لأن الكلام محتمل يجوز أن يكون التشبيه في حكم الحل والملك أو البر والكرامة والمحتمل لا يكون ملزما شيئا بدون النية.(6/419)
قال: وإن ظاهر من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى قد أشركتك في ظهار فلانة كان مظاهرا أيضا منها كما في الطلاق وهذا لأن الإشراك يقتضي التسوية وقد صرح بالظهار فكان ذلك تنصيصا على التسوية بينهما في حكم الظهار وإن قال لامرأته أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم يلزمه شيء لأن الاستثناء إذا اتصل بالكلام يخرجه من أن يكون عزيمة كما في الطلاق والعتاق قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بطلاق أو عتاق واستثنى فلا حنث عليه" وإن قال إن شاء فلان فالمشيئة إلى فلان في مجلس علمه كما في الطلاق ألا ترى أنه لو علق بمشيئتها ينجز إذا شاءت في مجلس علمها فكذلك إذا علق بمشيئة غيرها.
قال: وكفارة الظهار على العبد الصوم ما لم يعتق لأنه عاجز عن الإعتاق وعجزه أبين من عجز المعسر فإنه ليس بأهل للملك فيكفر بالصوم وليس لمولاه أن يمنعه من الصوم لما تعلق به من حق المرأة وقد بيناه في كتاب الصوم فإن عتق قبل أن يكفر وملك مالا فكفارته بالعتق لأن التكفير بالصوم كان لضرورة العجز عن التكفير بالمال فإذا زال ذلك لزمه التكفير بالمال كالمتيمم إذا وجد الماء وهذا بناء على أصلنا أن المعتبر في الكفارات حالة الأداء لا حالة الوجوب وفي أحد قولي الشافعي رضي الله عنه المعتبر حالة الوجوب بناء على أصله في(6/420)
ص -195- ... اعتبار معنى العقوبة فيها كما في الحدود حتى إذا وجب عليه الحد وهو عبد ثم عتق قبل الإقامة يقام عليه حد العبيد لأحد الأحرار بخلاف الكفارة وعندنا المعتبر حالة الأداء إلا أن الصوم بدل عن العتق ومع القدرة على الأصل لا يتأدى الواجب بالبدل وحد العبيد ليس ببدل عن حد الأحرار والمصير إليه ليس للعجز فبدن العبد يحتمل من الضرب فوق ما يحتمله بدن الحر وسنقرر هذا في كتاب الإيمان إن شاء الله تعالى.
قال: وإن أعتق عنه مولاه في رقه أو أطعم عنه بأمره لم يجزه لأن الرق مناف للملك فلا يملك المال بتمليك المولى مع قيام المنافي فيه فإن المتنافيين لا يجتمعان وبدون ملكه لا يتصور الإعتاق عنه والكفارة الواجبة عليه لا تسقط بملك الغير فلهذا لا يجوز إعتاقه عن كفارته ولا إطعامه المساكين سواء باشره المولى أو العبد بإذن المولى.
قال: حر ظاهر وهو معسر ثم أيسر فعليه العتق لأن جواز تكفيره بالصوم كان للعجز وقد زال قبل إسقاط الواجب فالتحق بما لو كان موسرا في الابتداء فإن أعسر قبل أن يكفر فعليه الصوم لأنه عاجز عن التكفير بالعتق فيكفر بالصوم لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] الآية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(6/421)
عنوان الكتاب:
كتاب المبسوط – الجزء السابع
تأليف:
شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
دراسة وتحقيق:
خليل محي الدين الميس
الناشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان
الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م(7/1)
ص -3- ... باب العتق في الظهار
قال رضي الله عنه: ويجوز في كفارة الظهار عتق الرقبة العوراء عندنا ولا يجوز عند الشافعي رحمه الله تعالى لأنها ناقصة بنقصان لا يرجى زواله فكانت كالعمياء وهو الأصل عنده أن كل عيب لا يرجى زواله يكون فاحشا يمنع جواز التكفير به. وكل عيب يرجى زواله يكون يسيرا لا يمنع جواز التكفير به كالحمى والشجة ونحوها.
والأصل عندنا قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} [المجادلة: الآية 3] فهو دليل على أن الواجب رقبة مطلقة والتقييد بصفة السلامة يكون زيادة والزيادة على النص نسخ.
ولكن مطلق الرقبة يقتضي قيامها من كل وجه. والقائم من وجه دون وجه لا يكون مطلقا، والعمياء مستهلكة من وجه لفوات منفعة الحس وهو البصر، فإن بقاء الآدمي بمنافعه معني ففوات منفعة الحس يكون استهلاكا من وجه وليس في العور فوات منفعة الحس.
وكذلك في قطع اليدين تفوت منفعة البطش، وبقطع إحدى اليدين لا تفوت، وكذلك أشل اليدين لا يجزى لفوات منفعة الحس. ومقطوع الرجلين أو أشلهما لا يجزئ لفوات منفعة المشي ومقطوع أحد الرجلين يجزى لأن منفعة المشي لا تفوت به، وكذلك مقطوع اليد والرجل من خلاف لأنه يتمكن من المشي بالعصا ومنفعة البطش باقية أيضا فلم تكن مستهلكة. والمجنون والمعتوه لا يجزئ لفوات العقل به وهو منفعة مقصودة والذي يجن، ويفيق يجزئ لأن منفعة العقل غير فائتة، بل هي قائمة تستتر تارة وتظهر أخرى. والخرساء لا تجزي لأن منفعة الكلام مقصودة.
والآدمي إنما باين سائر الحيوانات بالبيان ففواتها يكون استهلاكا من وجه وتجزي الرقبة الصغيرة لأنها قائمة من كل وجه ولا يقال أنها فائتة المنافع من البطش والمشي والعقل والكلام، لأنها عديمة المنافع إلى الإصابة عادة فلا يعد ذلك عيبا ولأن ما لا يخلو عنه أصل الفطرة السليمة لا يعد نقصانا فضلا عن الاستهلاك.(7/2)
قال "وتجزى الرقبة الكافرة في كفارة الظهار واليمين والأفطار عندنا". ولا تجزي عند الشافعي رضي الله عنه إلا الرقبة المؤمنة لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] ولا خبث أشد من الكفر" وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقبة سوداء وقال: "علي عتق رقبة أفتجزيني هذه، فامتحنها بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال : صلى الله عليه وسلم : "أعتقها فإنها مؤمنة" فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدى(7/3)
ص -4- ... إلا بالمؤمنة ولأن هذا تحرير في تكفير فلا يجزى فيه غير المؤمنة ككفارة القتل. وهذا لأن الرقبة مطلقة هنا مقيدة بالإيمان في القتل. والمطلق محمول على المقيد، لأن القيد مسكوت عنه في المطلق، وقياس المسكوت عنه على المنصوص صحيح، ولأن التعليق بالشرط يقتضي نفي الحكم عند عدمه في عين ما تعلق بالشرط، وكذلك في نظائره استدلالا به.
والكفارات جنس واحد، فالتقييد بشرط الإيمان في بعضها يوجب نفي الجواز عند عدم الإيمان في جميعها، كالتقييد بشرط العدالة في بعض الشهادات أوجب نفي الجواز عند عدمها في الكل، وكذلك التقييد بالتبليغ إلى الكعبة في هدي جزاء الصيد أوجب ذلك في جميع الهدايا.
"وحجتنا" في ذلك ظاهر الآية فالمنصوص اسم الرقبة وليس فيه ما ينبئ عن صفة الإيمان والكفر.
فالتقييد بصفة الإيمان يكون زيادة. والزيادة على النص نسخ، فلا يثبت بخبر الواحد ولا بالقياس.
ثم قياس المنصوص على المنصوص عندنا باطل لأنه اعتقاد النقص فيما تولى الله بيانه، وذلك لا يجوز، وكذلك شروط الكفارات لا تثبت بالقياس كأصلها ولا يجوز دعوى التخصيص هنا لأن التخصيص فيما له عموم والمطلق غير العام، وامتناع جواز العمياء، ونظائرها ليس بطريق التخصيص، بل لكونها مستهلكة من وجه كما بينا مع أن التخصيص فيما له لفظ. والصفة في الرقبة غير مذكورة ولا يقال بين صفة الكفر، والإيمان تضاد.
فإذا جوزنا المؤمنة انتفى جواز الكافرة لأن جواز المؤمنة عندنا لأنها رقبة لا بصفة الإيمان ألا ترى أنا نجوز الصغيرة والكبيرة، وبين الصفتين تضاد، وكذلك نجوز الذكر والأنثى وبين الصفتين تضاد ولكن الجواز باسم الرقبة فكان الوصف فيه غير معتبر.(7/4)
فأما حمل المطلق على المقيد فالعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يجوزون ذلك في حادثة واحدة كما في قوله صلى الله عليه وسلم : "في خمس من الإبل شاة" مع قوله: "في خمس من الإبل السائمة شاة" ولكن الأصح: أنه لا يجوز حمل المطلق على المقيد عندنا في حادثة ولا في حادثتين حتى جوز أبو حنيفة رحمه الله تعالى التيمم بجميع أجزاء الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم : "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" ولم يحمل هذا المطلق على المقيد وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "التراب طهور المسلم" وهذا لأن للمطلق حكما وهو الإطلاق وفي حمله على المقيد إبطال حكمه.
وإليه أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله: "ابهموا ما أبهم الله". وامتناع وجوب الزكاة في غير السائمة ليس لحمل المطلق على المقيد، بل للنص الوارد بأن لا زكاة في العوامل واشتراط العدالة في الشهادات ليس لحمل المطلق على المقيد بل للنص الوارد بالتثبت في خبر الفاسق وكذلك وجوب التبليغ إلى الكعبة في جميع الهدايا للنص وهو قوله تعالى: {ًثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: من الآية33] ولو جاز ذلك إنما يجوز بعد ثبوت المساواة بين الحادثتين. ولا مساواة بين كفارة القتل وبين سائر الكفارات.(7/5)
ص -5- ... فإن القتل من أعظم الكبائر وفيه تفويت رقبة مؤمنة مخاطبة بالإيمان بخلاف أسباب سائر الكفارات، ففيها من التغليظ ما ليس في غيرها.
ولهذا لا يكون الإطعام بدلا عن الصيام في كفارة القتل بخلاف كفارة الظهار. واشتراط صفة التتابع عندنا في الصوم في كفارة اليمين ليس بطريق حمل المطلق على المقيد، بل بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وهي مشهورة، وهي لازمة عليهم فإنهم لا يشترطون صفة التتابع فيها لحمل المطلق على المقيد ولا معنى لقول من يقول لذلك المطلق أصلان أحدهما مقيد بالتفرق وهو صوم المتعة. لأن ذلك غير مقيد بالتفرق، ولكن لا يجوز قبل يوم النحر لأنه مضاف إلى وقت الرجوع بحرف إذا وهو قوله تعالى"{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: من الآية196].
فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات أن الرجل قال: علي عتق رقبة مؤمنة أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة فلهذا امتحنها بالإيمان مع أن في صحة ذلك الحديث كلاما.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم : "قال: أين الله؟" فأشارت إلى السماء ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانا. ولا حجة لهم في الآية لأن الكفر خبث من حيث الاعتقاد والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد إنما المصروف إلى الكفارة المالية. ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال.
قال "ويجزئ الأصم في جميع الكفارات استحسانا" وفي القياس لا يجزئ، وهو رواية في النوادر. لأن منفعة السمع مقصودة، وبالصمم يفوت ذلك.
وجه الاستحسان أن بالصمم لا تفوت منفعة السمع أصلا، حتى أنه يسمع إذا صاح إنسان في أذنه.
وقيل الرواية التي قال: لا يجوز محمول على صمم أصلي ولا بد وأن يكون معه الخرس فإنه لم يسمع الكلام ليتكلم.
وهذا لا يجزئ ومراده من الرواية التي قال: يجزئ إذا كان الصمم عارضا فلا يكون معه الخرس، ويسمع عند المبالغة في رفع الصوت.(7/6)
قال "ويجزي الخصي، ومقطوع الأذنين، ومقطوع المذاكير عندنا. ولا يجزئ عند زفر رحمه الله تعالى" لأنها مستهلكة من وجه بفوات منفعة مقصودة من الآدمي.
ولكنا نقول: بعد قطع الأذنين الشاخصتين السمع باق، وإنما يفوت ما هو زينة، وجمال فلا تصير الرقبة به مستهلكة كفوات شعر الحاجبين، واللحية. وفي الخصي ومقطوع المذاكير إنما تفوت منفعة النسل وهو زائد على ما هو المطلوب من المماليك. فأما إذا كان مقطوع اليد والرجل من جانب واحد لا يجزئ لأن منفعة المشي فائتة، فإنه لا يتمكن من المشي بعصا، وكذلك إن كان من كل يد ثلاثة أصابع مقطوعة لم يجز لفوات منفعة البطش. وقطع(7/7)
ص -6- ... أكثر الأصابع في هذا، كقطع جميعها. وإن كان المقطوع من كل يد أصبعا أو أصبعين سوى الإبهام يجزئ، لأن منفعة البطش باقية وإن كان مقطوع الإبهام من كل يد فمنفعة البطش فائتة. فلهذا لا يجزئ، وكذلك لا يجوز المفلوج اليابس الشق لفوات جنس المنفعة منه.
ولا يجوز عتق أم الولد في الكفارة لأن المنصوص عليه الرقبة وذلك اسم للذات حقيقة وللذات المرقوق عرفا وقد دل على الرق قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فيقتضي قيام الرق مطلقا. وبالاستيلاد يتمكن النقصان في الرق حتى لا يعود إلى الحالة الأولى بحال ولأن قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: الآية 3] يقتضي إنشاء العتق من كل وجه. وإعتاق أم الولد تعجيل لما صار مستحقا لها مؤجلا فلا يكون إنشاء من كل وجه. وولد أم الولد بمنزلة أمه والمدبر كذلك. لأن بالتدبير صار مستحقا له. ولهذا لا يحتمل التدبير الفسخ ويثبت به استحقاق الولاء.
قال ولا يجزئ إعتاق المكاتب إذا كان أدى شيئا من بدل الكتابة" لأنه عتق بعوض والكفارة به لا تتأدى.
قال صلى الله عليه وسلم : "بشر أمتي بالسناء والتمكين ما لم يبتغوا بعمل الآخرة الدنيا".
ودليل أن المقبوض عوض أنه لو وجده زيوفا رده، واستبدل بالجياد، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في رقه بعد أدائه بعض البدل.
فكان علي رضي الله عنه يقول: "يعتق بقدر ما أدى" وابن مسعود رضي الله عنه يقول: "إذا أدى قيمة نفسه يعتق" واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رقه شبهة مانعة من جواز التكفير به.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يجوز لأن رقه لم ينتقص بما أدى من البدل.
ولهذا احتمل عقد الكتابة الفسخ بعد استيفاء بعض البدل، كما احتمل قبله فأما إذا اعتقه قبل أن يؤدي شيئا جاز عن الكفارة عندنا استحسانا.(7/8)
وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأن استحقاق العتق والولاء يثبت بعقد الكتابة فوق ما يثبت بالتدبير والاستيلاد.
ولهذا يصير أحق بمكاسبه ويعتبر الثلث، والثلثان من مال الكتابة دون مالية الرقبة ويمتنع على المولى التصرفات فيه فإما أن يقول: يتمكن بهذا السبب نقصان في رقه أو يكون كالزائل عن ملك المولى من وجه حتى لو أتلفه يضمن قيمته ولو وطئ مكاتبته يغرم العقر وثبوت حكم الزوال عن ملكه من وجه يكفي للمنع من التكفير ولأنه في حق المولى كفائت المنفعة لأنه صار أحق بمنافعه ومكاسبه أو لأن العتق لما صار مستحقا بالكتابة فإذا أوقعه وقع من الوجه المستحق ولهذا يسلم له الأولاد، والإكساب. والعتق عند الكتابة لا تتأدى به الكفارة مع أن هذا من المولى إعتاق صورة فأما في المعنى هو إبراء عن بدل الكتابة.(7/9)
ص -7- ... ولهذا يسقط مال الكتابة ويسلم له الأولاد، والإكساب وهو كما لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزئ عن كفارته بالإتفاق.
وحجتنا في ذلك ظاهر الآية ففيها أمر بتحرير الرقبة والتحرير تصيير شخص مرقوق حرا وقد حصل. والرقبة اسم لذات مرقوق عرفا والمكاتب كذلك. قال صلى الله عليه وسلم : "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" ولا يتمكن النقصان في رقه ولا يصير العتق مستحقا له بسبب الكتابة لأن حكم العتق في الكتابة متعلق بشرط الأداء ولو علق عتقه بشرط آخر لم يثبت به الاستحقاق، فكذلك بهذا الشرط بل أولى لأن التعليق بسائر الشروط يمنع الفسخ وبهذا الشرط لا يمنع ولو تمكن نقصان في رقه لما تصور فسخه وإعادته إلى الحالة الأولى لأن نقصان الرق بثبوت الحرية من وجه.(7/10)
وكما أن ثبوت الحرية من جميع الوجوه لا يحتمل الفسخ فكذلك ثبوته من وجه، ولأن الثابت بالكتابة انفكاك الحجر عنه في حق المكاتب وبذلك لا يتمكن النقصان في رقه كالإذن في التجارة إلا أن ذلك فك بغير عوض فلا يكون لازما في حق المولى وهذا فك بعوض فيكون لازما، ولكن مع هذا المنافع والمكاسب غير الرقبة فبالتصرف فيها لازما كان أو غير لازم لا يتمكن النقصان في الرق. والملك كالإعارة مع الإجارة وبسبب اللزوم يمتنع على المولى التصرف فيه ويلزمه ضمان العقر والأرش لأن ذلك في حكم المكاسب والمنافع. والمكاسب صارت مستحقة له ولكن بهذا الاستحقاق لا تصير الرقبة في حكم المستهلك وإذا ثبت أن العتق لا يصير مستحقا بهذا السبب ظهر أن إعتاق المولى إياه يكون تحريرا مبتدأ من كل وجه فيصير به ممتثلا للأمر. والدليل عليه أنه يسقط به بدل الكتابة ولو كان هذا إعتاقا بجهة الكتابة لتقرر به البدل فإن تسليم المعوض يوجب تقرير البدل، ولا يجوز أن يكون إعتاقه إبراء لأنه يحتمل التعليق بالشرط. وإذا أعتق نصفه يعتق ذلك القدر والإبراء عن نصف البدل لا يوجب عتق شيء منه فأما سلامة الإكساب، والأولاد فلأنه عتق، وهو مكاتب لا لأنه عتق بجهة الكتابة كما لو كاتب أم ولده ثم مات المولى عتقت بجهة الاستيلاد وسلم لها الأولاد والإكساب وهذا لأن العتق في حق المكاتب واحد. والإعتاق من المولى تختلف جهاته ففيما يرجع إلى حق المكاتب جعل هذا ذلك العتق لكونه متحدا وفي حق المولى يجعل إعتاقا بجهة الكفارة لأنه قصد ذلك وهو كالمرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول لا يرجع عليها بشيء وتجعل هبتها في حق الزوج تحصيلا لمقصود الزوج عند الطلاق وفي حقها تجعل تمليكا بهبة مبتدأة.(7/11)
قال فإن أعتق عن ظهاره نصيبه من عبد بينه وبين غيره لم يجزه عن كفارته في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإن ضمن نصيب شريكه فأعتق ما بقي منه". لأن العتق عبده يتجزأ فإنما عتق نصيبه في الابتداء. ونصف الرقبة ليس برقبة، ثم يتمكن النقصان في حق النصف الآخر(7/12)
ص -8- ... لأنه يتعذر عليه استدامة الرق فيه وهذا النقصان في ملك الشريك غير مجز عن الكفارة وبالضمان إنما يملك ما بقي منه فإذا أعتقه كان هذا في المعنى إعتاق عبد إلا شيئا، وعند الضمان إنما يستحق عليه السعاية فيما ضمن لشريكه فإعتاقه يكون إبراء عن تلك السعاية فلا تتأدى به الكفارة فأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى العتق لا يتجزأ فإن أعتق نصيبه عتق كله إلا أن المعتق إن كان موسرا فهو ضامن لنصيب شريكه ولا سعاية على العبد فكان هذا إعتاقا بغير عوض فيجزئ عن الكفارة، وإن كان معسرا فعلى العبد السعاية في نصيب شريكه فيكون هذا عتقا بعوض فلا تتأدى به الكفارة فأما إذا كان العبد كله له فأعتق نصفه عن كفارته عندهما يعتق كله بغير سعاية ويجوز عن الكفارة وعند أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصفه ولا يجوز عن كفارته فإن أعتق النصف الباقي بعد ذلك بنية الكفارة في القياس لا يجزيه لما بينا أن بإعتاق النصف يتمكن النقصان في النصف الآخر كما في الفصل الأول. وفي الاستحسان يجزئ لأن هذا النقصان بسبب العتق عن الكفارة فلا يمنع الجواز ومعنى هذا أن الرقبة كلها مملوكة له هنا فالنقصان في النصف الآخر إنما يحصل في ملكه فيمكن تحريره عن الكفارة إذا أكمله ويجعل كأنه في المرة الأولى أعتق النصف وزيادة ثم أعتق ما بقي بخلاف المشترك وهذا نظير الاستحسان فيمن أضجع أضحيته ليذبحها فأصابت السكين عين الشاة لا يمنع جواز التضحية بها استحسانا لأن حصول هذا العيب بسبب فعل التضحية.
قال ولا يجزيه العتق بما في البطن عن الكفارة وإن ولدته لأقل من ستة أشهر. لأن الجنين بمنزلة جزء من الأم في بعض الأحكام فلا يكون رقبة مطلقة. لأن الرقبة المطلقة ما يكون نفسا على حدة من كل وجه خصوصا في حكم العتق. والجنين بمنزلة الجزء، حتى يعتق بعتقها على وجه لا يجوز استثنائه كيدها ورجلها.(7/13)
قال وإن اشترى أباه ينوي به العتق عن ظهاره أجزأه استحسانا في قول علمائنا الثلاثة رضي الله عنهم. وفي القياس لا يجزئ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الأول وزفر والشافعي رحمهما الله تعالى" وجه القياس أن الواجب عليه التحرير والشراء غير التحرير لأن الشراء استجلاب للملك. والعتق إبطال له فكانت المغايرة بينهما على سبيل المضادة ولأن العتق بسبب القرابة صار مستحقا له عند دخوله في ملكه فلا تتأدى به الكفارة كما لو قال لعبد الغير: إن اشتريتك فأنت حر ثم اشتراه ينوي به الكفارة. وهذا لأن عند وجود الشرط إنما يعتق بالسبب الذي حصل الاستحقاق به وهو القرابة ولا يتصور اقتران نية الكفارة بذلك السبب.
والدليل على أن الاستحقاق بالقرابة أن أحد الشريكين في العبد إذا ادعى سببه يضمن لشريكه قيمة نصيبه، كما لو أعتقه. توضيحه أن أم هذا الولد استحقت حق العتق عند دخولها في ملكه وذلك مانع إعتاقها عن الكفارة.(7/14)
ص -9- ... حتى لو قال لها: إذا اشتريتك فأنت حرة عن ظهاري لا يجزئه عن الظهار فالإبن الذي استحق حقيقة العتق عند دخوله في ملكه، أو الأب أولى أن لا يجوز إعتاقه عن الكفارة.
وهذا لأن العتق مجازاة للأبوة ومجازاة الأبوة فرض فلا يتأدى به واجب آخر وصرف منفعة الكفارة إلى أبيه لا يجوز كالطعام والكسوة.
وحجتنا في ذلك ظاهر الآية ففيها أمر بالتحرير وهو تصيير شخص مرقوق حرا كالتسويد تصيير المحل أسود وقد وجد ذلك وهذا لأن شراء القريب إعتاق. قال صلى الله عليه وسلم : "لن يجزئ ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" أي بالشراء كما يقال أطعمه فأشبعه وسماه بالشراء مجازيا وإنما يكون مجازيا بالإعتاق.
والدليل عليه أنه لو اشترى نصف قريبه يضمن لشريكه إن كان موسرا. والضمان الذي يختلف باليسار والإعسار لا يكون إلا عن إعتاق وهذا لأنه بالشراء يصير متملكا، والملك في القريب إكمال لعلة العتق فإذا صار مضافا إلى الشراء يكون به معتقا، لأن السبب الموجب للحكم بواسطة كالموجب بغير واسطة في كون الحكم مضافا إليه.
والدليل على إثبات هذه القاعدة أن عتق القريب يثبت بالقرابة والملك جميعا. قال صلى الله عليه وسلم : "من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر".
وهذا لأن العتق صلة. وللملك تأثير في استحقاق الصلة شرعا حتى تجب الزكاة باعتبار الملك صلة للفقراء كما أن للقرابة تأثيرا في استحقاق الصلة، وكل واحد من الوصفين لكونه مؤثرا علة ومتى تعلق الحكم بعلة ذات وصفين، فالحكم لآخرهما وجودا. لأن تمام العلة به وآخر الوصفين هنا الملك فيكون به معتقا.(7/15)
ولهذا لو ادعى أحد الشريكين نسب نصيبه يضمن لشريكه لأن آخر الوصفين وجود القرابة هنا فيصير به معتقا، وهو كالشهادة على النسب بعد الموت يوجب ضمان الميراث عند الرجوع لأن آخر الوصفين ما أثبته الشهود ولا يدخل على هذا شهادة الشاهد الثاني فإنه لا يحال بالإتلاف عليها، وإن تمت الحجة بها لأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء، والقضاء يكون بهما معا وبهذا تبين فساد قولهم أن العتق مستحق بالقرابة لأن الاستحقاق لا يثبت قبل كمال العلة، ولأنه لا يجبر على الشراء وهذا بخلاف المحلوف بعتقه لأن الملك هناك شرط لا أثر له في استحقاق ذلك العتق فيكون معتقا بيمينه ولم تقترن نية الكفارة بها حتى لو اقترنت جاز.
وقولهم أن العتق بسبب القرابة فرض قلنا: إنما يقع العتق بسبب القرابة ويكون مجازاة له، إذا قصد ذلك فأما إذا قصد به الكفارة كان هذا في حقه إعتاقا عن الكفارة فهو بمنزلة من فرض عليه نفقة أخيه فصرف إليه زكاة ماله جاز، ثم تسقط به النفقة حكما لحصول المقصود. وهذا الفقه الذي أشرنا إليه في مسألة الكتابة أن في حق المعتق العتق واحد فيحصل مقصوده من أي وجه نواه المعتق ولكن في حق المعتق تكثر جهاته فيكون عما نوى ليصح قصده.(7/16)
ص -10- ... وليس هذا نظير أم الولد لأن استحقاق العتق لها بالاستيلاد كما قال صلى الله عليه وسلم : "عتقها ولدها" فيكون الملك فيها شرطا للعتق لا إكمالا للعلة. ولا معنى لقولهم أن هذا صرف منفعة الكفارة إلى أبيه، لأنه لما جاز صرف هذه المنفعة إلى عبده جاز صرفها إلى أبيه بخلاف الإطعام، والكسوة فصرفه إلى عبده لا يجوز فإلى أبيه أولى وكذلك إن وهب له أبوه أو تصدق به عليه أو أوصى له به وهو ينوي عن كفارته فهو على الخلاف الذي بينا. لأن الملك بهذه الأسباب يحصل بصنعه وهو القبول فأما إذا ورث أباه ينوي به الكفارة لا يجزئه لأن الميراث يدخل في ملكه من غير صنعه وبدون الصنع لا يكون محررا، والتكفير إنما يتأدى بالتحرير، ولهذا لا يضمن لشريكه إذا ورث نصف قريبه.
وإذا قال: فلان حر يوم اشتريه، ثم اشتراه ونوى عن ظهاره لا يجزئه لأنه إنما يعتق عند الشراء بقوله حر ولم يقترن به نية الكفارة وإن كان عنى بقوله هو حر يوم اشتريه عن ظهاري أجزأه لاقتران نية الكفارة بالإعتاق. قال "وإن قال إذا اشتريته فهو حر ثم قال إذا اشتريته فهو حر عن ظهاري فاشتراه لا يجزئ عن الظهار" لأن التعليق الأول قد صح على وجه لا يملك إبطاله ولا تغييره فإنما يحال بالعتق عند الشراء عليه لأنه ترجح بالسبق ولم تقترن به نية الكفارة.
قال ولا يجزئ أن يعتق عن ظهار واحد نصف رقبة ويصوم شهرا، أو يطعم ثلاثين مسكينا" لأن نصف الرقبة ليس برقبة وإكمال الأصل بالبدل غير ممكن فإنهما لا يجتمعان فكيف يتحقق إكمال أحدهما بالآخر؟
فإن قيل: إن أعتق نصف رقبتين بأن كان بينه وبين شريكه عبدان قلنا: لا يجوز أيضا لأن نصف الرقبتين ليس برقبة والشركة في كل رقبة تمنع التكفير بها بخلاف الأضحية فإن رجلين لو ذبحا شاتين بينهما عن أضحيتهما جاز لأن الشركة لا تمنع التضحية كما في البدنة.(7/17)
قال "ولو أعتق عبدا عن ظهارين فله أن يجعله عن أيهما شاء ويجامع تلك المرأة وكذلك الصوم والإطعام. وفي القياس لا يجوز" وهو قول زفر لانعدام نية التعيين ولأنه يصير معتقا عن كل ظهار نصف رقبة إذ ليس إحداهما بأولى من الأخرى، فهو كما لو أعتق رقبة عن كفارة القتل والظهار.
ووجه الاستحسان أن نية التعيين في الجنس الواحد لغو غير مفيد فلا تعتبر بخلاف الجنسين. ألا ترى أن من كان عليه قضاء أيام من رمضان فنوى صوم القضاء جاز وإن لم يعين صوم يوم الخميس أو الجمعة، لأن الجنس واحد بخلاف ما لو كان عليه صوم القضاء والنذر فإنه لا بد فيه من التعيين لاختلاف الجنس.
قال "ولو أعتق رجل عنه بغير أمره لم يجزه عن ظهاره" لأن المعتق عن المعتق ونيته من غيره لغو، لأنه يعقب الولاء وليس لأحد أن يلزم غيره ولاء بغير أمره فإن كان بأمره فهو على(7/18)
ص -11- ... وجهين إما أن يكون بجعل أو بغير جعل فإن كان بجعل بأن قال أعتق عبدك عن ظهاري على ألف درهم فأعتقه جاز عن ظهاره استحسانا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ووجب المال عليه، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى يعتق عن المعتق والولاء له ولا يجزئ عن ظهار الآمر ولا مال عليه لأنه التمس منه محالا وهو أن يعتق ملك نفسه من غيره "ولا عتق فيما لا يملكه ابن آدم" فكان إعتاق زيد ملكه عن عمرو محالا ولا يجوز إضمار التمليك هنا لأن الإضمار لتصحيح المصرح به لا لإبطاله وإذا أضمرنا التمليك صار معتقا عن الآمر ملكه لا ملك نفسه وهو خلاف ما صرح به ولكنا نقول: معنى كلامه ملكني عبدك هذا بألف درهم، ثم كن وكيلي في إعتاقه عن ظهاري لأنه التمس منه إعتاقه عن ظهاره ولا وجه لتصحيح التماسه إلا بهذا الإضمار وتصحيح كلام العاقل واجب بحسب الإمكان فإذا أمكن تصحيحه بهذا الطريق يصحح لمعنى، وهو أن الملك في المحل شرط العتق وشرط الشيء تبعه فيصير كالمذكور بذكر أصله كمن نذر صلاة تلزمه الطهارة ومن نذر اعتكافا يلزمه الصوم ويصير ذلك كالمذكور.(7/19)
وعلى هذا لو قال: بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري هو حر يعتق من جهته ويصير القبول والتمليك ثابتا بمقتضى كلامه ومعنى قوله: عبدك يعني العبد الذي هو ملك لك للحال لا عند مصادفة العتق إياه فمقصوده من هذا تعريف العبد لا إضافته إليه والخلاف ثابت فيما لو قال أعتق هذا العبد عني وأما إذا كان بغير جعل بأن قال أعتق عبدك عن ظهاري بغير شيء فأعتقه المأمور على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى الولاء للمأمور ولا يجزئ عن ظهار الآمر وهو القياس وعلى قول أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى الولاء للآمر ويجزئ عن ظهاره باعتبار إضمار التمليك كما في الأول وهذا لأن الملك سواء حصل له بعوض أو بغير عوض يجوز عن كفارته إذا أعتقه. ولا يجوز أن يقال: الملك بطريق الهبة لا يحصل إلا بالقبض لأن القبض في باب الهبة كالقبول في البيع فكما سقط اعتبار القبول هناك لكون البيع في ضمن العتق فكذلك يسقط اعتبار القبض هنا أو يجعل القبض مدرجا في كلامه حكما كما يندرج القبول في كلامه أو يجعل العبد قابضا نفسه من المولى له كما لو قال: أطعم عن ظهاري ستين مسكينا يجوز بغير بدل علي أن يقبض الفقير له ثم لنفسه. والدليل عليه أنه لو قال: أعتقه عني بألف ورطل من خمر فأعتقه جاز عن الآمر ويندرج البيع الفاسد هنا. والملك بالبيع الفاسد لا يحصل إلا بالقبض كما في الهبة. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان: مستوهب أمر بالعتق قبل القبض فلا يجزئ عنه كما لو استوهبه العبد نصا ثم قال قبل قبضه: أعتقه وهذا لأن القبض في باب الهبة شرط لوقوع الملك على وجه لا يجوز إسقاطه بحال فلا يسقط بالاندراج في العتق لأن المسقط إنما يعمل في محله لا في غير محله بخلاف القبول في البيع فإنه يحتمل السقوط حتى لو قال بعت منك هذا الثوب بعشرة فاقطعه فقطعه صار متملكا وإن لم يقبل وهذا لأن الإيجاب مع القبول قد يحتمل السقوط في(7/20)
ص -12- ... البيع وهو عند التعاطي فمجرد القبول أولى أن يحتمل السقوط وبه فارق البيع الفاسد لأن الفاسد في الحكم ملحق بالجائز. والقبض هناك نظير القبول هنا في أنه يحتمل الإسقاط ولا يجوز أن يجعل القبض مدرجا في كلامه هنا.
لأن القبض فعل والقول لا يتضمن الفعل إنما يتضمن قولا مثله والقبول قول فيجوز أن يندرج في كلامه. ولا يجوز أن يجعل العبد قابضا نفسه هنا لأن الإعتاق إبطال للملك والمالية. والعبد إنما يقبض ما يسلم له دون ما لا يسلم له وبه فارق الطعام فإن المسكين يقبض عين الطعام فيمكن أن يجعل قابضا للآمر أولا ثم لنفسه ولكن العبد ينتفع بهذا الإعتاق فمن هذا الوجه يندرج فيه أدنى القبض ولكن أدنى القبض يكفي في البيع الفاسد، ولا يكفي في الهبة كالقبض مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ومع الاتصال في الثمار على رؤوس الأشجار يكفي لوقوع الملك في البيع الفاسد دون الهبة وبهذا يتضح الفرق بين هذه الفصول قال ولو أعتق المظاهر عبده على جعل لم يجز قل الجعل أو كثر لأن التكفير بما يخلص لله تعالى وعمله في العتق بجعل لا يكون خالصا لله تعالى لأنه قصد به العوض ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن ربه عز وجل يقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كله لذلك الشريك وأنا منه بريء" وإن وهب له الجعل بعد ذلك لم يجزه عن الكفارة لأن هذا إبراء عن الدين ولا مدخل للإبراء عن الدين في الكفارات والله أعلم بالصواب.
باب الصيام في الظهار
قال "وإذا لم يجد المظاهر ما يعتق عن ظهاره فعليه صيام شهرين متتابعين بالنص فإن أفطر فيهما يوما لمرض أو لغيره فعليه استقبال الصيام لفوات صفة التتابع بفطره" والواجب المقيد بوصف شرعا لا يتأدى بدونه وكذلك إن أيسر قبل أن يفرغ من الصوم انتقض صيامه وعليه العتق.(7/21)
لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فإن المقصود إسقاط الكفارة عنه وذلك لا يحصل قبل تمام الشهرين وهو كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة. والطارئ من اليسار قبل حصول المقصود كالمقترن بحالة الشروع في الصوم.
ومعنى قوله: انتقض صومه في حكم جوازه عن الكفارة. فأما أصل الصوم باق فيستحب إتمامه نفلا، لأن اليسار لا يمنع ابتداء الصوم إنما يمنع التكفير.
قال "ولو صام شهرين أحدهما شهر رمضان لم يجزه عن الظهار" لأنه لم يشرع في شهر رمضان إلا صوم واحد وهو الفرض فلا يصح التكفير به لأن وجوب الكفارة في ذمته. وما في الذمة إنما يتأدى بما للمرء لا بما عليه وقد قررنا هذا في كتاب الصوم، وبينا اختلاف أبي حنيفة رحمه الله تعالى مع صاحبيه رحمهما الله في المسافر. وإذا لم يجز صومه في شهر رمضان عن الظهار فعليه أن يستقبل بعد يوم الفطر شهرين لانقطاع التتابع في حق صوم الكفارة، وكذلك لو(7/22)
ص -13- ... دخل صومه يوم النحر أو أيام التشريق فعليه استقبال الصوم صام في هذه الأيام أولا، لأن الصوم في هذه الأيام منهي عنه فلا يتأدى به الواجب في ذمته. وينقطع التتابع بتخلل هذه الأيام لأنه يجد شهرين خاليين عن هذه الأيام قال "ولا يجزى الصوم لمن له خادم" لأنه واجد لما يتأدى به الأصل فلا يتأدى الواجب بالبدل بخلاف من له مسكن فقط لأنه غير واجد لما هو الأصل وهو محتاج إلى المسكن فجعل ملكه فيه كالمعدوم لكونه مشغولا بحاجته، وقد بينا في كتاب الزكاة أن ملك المسكن يزيد في حاجته والخادم كذلك إلا أنه عين المنصوص عليه فلا معتبر بالمعنى فيه وإن كان له دراهم أو دنانير يجد بها رقبة لم يجز الصوم لقوله تعالى" {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: الآية4] "والواجد لثمن الرقبة كالواجد لعينها ألا ترى أن في حكم التيمم الواجد لثمن الماء كالواجد لعينه؟.
وهذا لأن الوجود عبارة عن التيسر دون الغني وبملك الدراهم، والدنانير بتيسر عليه تحصيل ما يعتق. ويسار التيسر ينفي الشرط المنصوص وهو عدم الوجود قال "وإذا ظاهر من أربع نسوة له فأعتق رقبة ليس له غيرها ثم صام أربعة أشهر متتابعة ثم مرض فأطعم ستين مسكينا ولم ينو في ذلك واحدة بعينها أجزأه عنهن استحسانا" لما بينا أن نية التمييز غير معتبرة في الجنس الواحد وقد أعتق حين وجد ثم صام حين لم يجد ما يعتق وذلك كفارته، ثم أطعم حين لم يستطع الصوم وذلك كفارته لأن المعتبر عدم الإستطاعة عند التكفير بالإطعام وذلك يتحقق بمرضه. ولا يشترط استدامة العذر بعد التكفير، ثم فيما أدى وفاء بالواجب عليه فيجزيه.(7/23)
قال "وإذا بانت من المظاهر امرأته، ثم كفر عنها وهي تحت زوج أو مرتدة لاحقة بدار الحرب جازت الكفارة عنه" لأن الحرمة الثابتة بالظهار باقية بعد البينونة، والكفارة واجبة بدليل أنه لو تزوجها لم يكن له أن يقر بها حتى يكفر ولو سقطت لم يعد بالتزوج. وإذا ثبت بقاء الواجب صح إسقاطه بأدائه وإن كانت لا تحل له للحال لكونها مرتدة أو ذات زوج. وهذا لأن أداء الكفارة يرفع الحرمة الثابتة بالظهار ولا يوجب حل المحل.
قال "وإذا ارتد الزوج والعياذ بالله، ثم أعتق عبدا له عن ظهاره ثم أسلم أجزى عنه وهذا بناء على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى" لأن الظهار يبقى بعد ردته عنده وطعن عيسى رحمه الله تعالى فقال: هذا الجواب غلط لأن الكفارة إنما تتأدى بعتق هو قربة خالصة ولهذا لا يتأدى بالعتق بجعل. والمرتد ليس من أهل القربة ولا تتأدى الكفارة إلا بنية العبادة والمرتد ليس من أهلها وما ذكره في الكتاب أصح لأن تصرفات المرتد موقوفة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنما ينفذ عتقه بعد إسلامه وكما توقف أصل عتقه توقف نيته، فيصير بعد الإسلام كالمجدد لذلك كله ولا يبعد أن يتوقف حكم النية كمن أبهم النية عند الإحرام تتوقف على أن يكون حجا أو عمرة لتعيينه في الثاني ويجعل عند التعيين كأنه جدده.(7/24)
ص -14- ... وهذا لأنه بعد ما أسلم يبطل حكم ردته ولهذا يعاد إليه من أملاكه ما كان قائما بعينه في يد وارثه فكذلك يبطل ما ينبني على ردته وهو فساد نيته.
قال وإن أكل في صوم الظهار ناسيا لصومه لم يضره، وكذلك إن جامع غير التي ظاهر منها" لأن حرمة هذا الفعل عليه لأجل الصوم فيختلف بالنسيان والعمد بخلاف ما لو جامع التي ظاهر منها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فإن حرمة ذلك الفعل ليس لأجل الصوم ألا ترى أنه كان محرما قبل الشروع في الصوم فيستوي فيه النسيان والعمد ثم إن صام المظاهر شهرين بالأهلة أجزأه وإن كان كل شهر تسعة وعشرين يوما وإن صام لغير الأهلة ثم أفطر لتمام تسعة وخمسين يوما فعليه الاستقبال لأن الأهلة أصل. والأيام بدل كما قال صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فأكملوا شعبان ثلاثين يوما" فعند وجود الأصل وهي الأهلة لا معتبر بالأيام وعند عدم الأصل الاعتبار بالأيام فلا يتم الشهران إلا بستين يوما فإن صام خمسة عشر يوما ثم صام شهرا بالأهلة تسعة وعشرين ثم خمسة عشر يوما أجزأه.
وهذا بناء على قولهما فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجزيه وقد بينا هذا في حكم العدة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان ابتداء الشهر بالأيام يعتبر كله بالأيام لأنه ما لم يتم الشهر الأول لا يدخل الشهر الثاني، وعندهما الاعتبار بالأيام فيما تعذر عليه الاعتبار بالأهلة وهو الشهر الواحد فقط والله أعلم.
باب الإطعام في الظهار(7/25)
قال رضي الله عنه "ويجزيه أن يدعو ستين مسكينا فيغديهم ويعشيهم وهو قول علمائنا أن الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام" وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير، وكان أحمد بن سهل رضي الله تعالى عنه يقول: "لا يتأدى بالتمليك وإنما يتأدى بالتمكين فقط" لظاهر قوله تعالى" {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: من الآية 4] والإطعام فعل متعد ولازمه طعم يطعم وذلك الأكل دون الملك، ففي التمليك لا يوجد الإطعام وإنما يوجد ذلك في التمكين لأنه لا يتم ذلك إلا بأن يطعم المسكين. والكلام محمول على حقيقته والشافعي رحمه الله يقول: الإطعام يذكر للتمليك عرفا يقول الرجل لغيره أطعمتك هذا الطعام أي ملكتك والمقصود سد خلة المسكين واغناؤه وذلك يحصل بالتمليك دون التمكين فإذا لم يتم المقصود بالتمكين لا يتأدى الواجب كما في الزكاة وصدقة الفطر. وقاس بالكسوة فإنه لو أعار المساكين ثيابا فلبسوا بنية الكفارة لا يجوز فكذلك الإطعام. والجامع أنه أحد أنواع التكفير.
وحجتنا في ذلك أن المنصوص عليه الإطعام وحقيقة ذلك في التمكين والمقصود به سد الخلة وفي التمليك تمام ذلك فيتأدى الواجب بكل واحد منهما أما بالتمليك فلأن الأكل الذي هو المنصوص جزء مما هو المقصود بالتمليك لأنه إذا ملك فإما أن يأكل أو يصرف إلى حاجة أخرى فيقام هذا التمليك مقام ما هو المنصوص عليه لهذا المعنى ويتأدى بالتمكين لمراعاة عين النص والدليل عليه أنه يشبهه بطعام الأهل فقال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}(7/26)
ص -15- ... [المجادلة: من الآية 4] وذلك يتأدى بالتمليك تارة وبالتمكين أخرى فكذا هذا لأن حكم المشبه حكم المشبه به، وليس هذا كالكسوة لأن الكسوة بكسر الكاف عين الثوب فأما الفعل بفتح الكاف كسوة، وهو الإلباس فثبت بالنص أن التكفير بعين الثوب لا بمنافعه. والإعارة والإلباس تصرف في المنفعة فلا يتأدى به الواجب فأما في التمكين من الطعام المسكين طاعم للعين وبالتمكين يحصل الإطعام حقيقة وهذا بخلاف الزكاة فالواجب هناك فعل الإيتاء بالنص وفي صدقة الفطر الواجب فعل الأداء وذلك لا يحصل بالتمكين بدون التمليك، وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن فقه الرجل، ثم المعتبر في التمكين أكلتان مشبعتان إما الغداء والعشاء وإما غداءان أو عشاءان لكل مسكين. فإن المعتبر حاجة اليوم وذلك بالغداء والعشاء عادة ويستوي في خبز البر أن يكون مأدوما أو غير مأدوم وفي الكتاب أطلق الخبز ومراده خبز البر وقد فسره في الزيادات.
وهذا لأن المسكين يستوفي منه حاجته وإن لم يكن مأدوما بخلاف خبز الشعير فإنه لا يستوفي منه تمام حاجته إلا إذا كان مأدوما وكذلك لو غداهم وعشاهم بسويق وتمر قالوا وهذا في ديارهم فإنهم يكتفون بذلك عادة، ويستوفون منه حاجتهم.
فأما في ديارنا لا بد من الخبز وهذا كله بمنزلة طعام الأهل ويعتبر فيه الأكلتان المشبعتان مما يكون معتادا في كل موضع.
فقد قالت الصحابة رضوان الله عليهم: أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز واللحم، وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز واللبن، وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز والملح.
قال "وإن اختار التمليك أعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير لا يجزئه دون ذلك عندنا".
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "لكل مسكين مد من بر لحديث الأعرابي في كفارة الفطر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه خمسة عشر صاعا وقال: "فرقها على ستين مسكينا".(7/27)
ولكنا نستدل بحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر البياضي رضي الله عنهما فقد ذكر في الحديثين إطعام ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع من بر. وحديث علي وعائشة رضي الله عنهما قالا: "لكل مسكين مدان من بر" وعن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما "لكل مسكين نصف صاع من حنطة" ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين فيكون نظير صدقة الفطر. ولا يتأدى ذلك بالمد بل بما قلنا فكذلك هذا.
وذكر في بعض الروايات في حديث الأعرابي "فرقها ومثلها ومعها" ثم هذا الاستدلال من الشافعي رحمه الله تعالى لا يستقيم لأن الصاع لا يتقدر بأربعة أمناء عنده وإن أعطى قيمة الطعام كل مسكين أجزأه لحصول المقصود وهو سد الخلة وهو عندنا وقد بيناه في الزكاة.(7/28)
ص -16- ... قال وإن أعطى من صنف من ذلك أقل مما سميناه وهو يساوي كمال الواجب من جنس آخر لم يجزه إلا عن مقداره" معناه إذا أعطى كل مسكين مدا من بر يساوي صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر يساوي نصف صاع من حنطة.
وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يجزئه.لأن المقصود يحصل بالمؤدي وهو كإعطاء القيمة ألا ترى أنه لو كسا عشرة مساكين ثوبا واحدا في كفارة جاز عن الطعام إذا كانت قيمة نصيب كل واحد منهم مثل قيمة الطعام ولكنا نقول المؤدي عين المنصوص ولا معتبر بالمعنى في المنصوص، بل يعتبر عين النص بخلاف الكسوة فالمنصوص عليه ما يحصل به الاكتساء وبعشر الثوب لا يحصل ذلك لكل مسكين فلم يكن المؤدي منصوصا عليه فيعتبر المعنى فيه. توضيحه أن في إقامة صنف مقام صنف إبطال التقدير المنصوص عليه في كل صنف وكل تعليل يتضمن إبطال النص فهو باطل وليس في الكسوة تقدير منصوص عليه فإقامته مقام الطعام لا يؤدي إلى إبطال التقدير المنصوص عليه ولأن المقصود بالكسوة غير المقصود بالطعام فللمغايرة يجوز إقامة أحدهما مقام الآخر والمقصود بأصناف الطعام واحد فاعتبار عين المؤدي فيه أولى فإذا كان المؤدي لكل مسكين مدا من بر له عليه أن يعيد على كل واحد منهم بمد آخر ليصل إلى كل واحد منهم ما قدر نصا.
قال وإن لم يجدهم استقبل الطعام. ولا يجزئه أن يطعم ستين مسكينا آخرين مدا مدا".
لأن الواجب عليه إيصال نصف صاع إلى كل مسكين ليحصل به سد الخلة وزوال الحاجة في يومه وذلك لا يحصل بصرف نصف الوظيفة إلى كل مسكين.
قال ولو أعطى كل مسكين مدا من بر ومدين من شعير أو تمر أجزأه" لأن كل واحد منهما أصل والمقصود يحصل بأداء نصف الواجب من كل صنف وهو زوال حاجته في يومه ولو أطعم الطعام كله مسكينا واحدا لم يجزه في دفعة واحدة لأن الواجب تفريق الفعل بالنص فإذا جمع لا يجزيه إلا عن واحد كالحاج إذا رمى الحصيات السبع دفعة واحدة.(7/29)
ولو أعطاه في ستين يوما أجزأه عندنا. ولا يجزئه عند الشافعي رحمه الله تعالى لأن الواجب عليه بالنص إطعام ستين مسكينا والمسكين الواحد بتكرر الأيام لا يصير ستين مسكينا فلا يتأدى الواجب بالصرف إليه.
وشبه هذا بالشهادة فإن الشاهد الواحد وإن كرر شهادته في مجلسين لا يصير في معنى شاهدين ولكنا نقول فيما هو المقصود المسكين الواحد بتجدد الأيام في معنى المساكين لأن المقصود سد الخلة وذلك يتجدد له بتجدد الأيام فكان هو في اليوم الثاني في المعنى مسكينا آخر لتجدد سبب الاستحقاق له ولأن الإطعام يقتضي طعاما لا محالة.
فمعنى الآية فإطعام طعام ستين مسكينا وقد أدى ذلك وبه فارق الشهادة لأن المقصود(7/30)
ص -17- ... طمأنينة القلب هناك وبتكرار الواحد شهادته لا يحصل هذا المقصود. ولم يذكر ما لو فرق الفعل في يوم واحد ولا إشكال في طعام الإباحة أنه لا يجوز إلا بتجدد الأيام لأن الواحد لا يستوفي في يوم واحد طعام ستين مسكينا.
فأما في التمليك فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى: يجوز لأن التمليك أقيم مقام حقيقة الإطعام والحاجة بطريق التمليك ليس لها نهاية فإذا فرق الدفعات جاز ذلك في يوم واحد كما في الآيام واستدلوا على هذا بما ذكر في كتاب الأيمان أنه لو كسا مسكينا واحدا في عشرة أيام كسوة عشرة مساكين أجزأه لتفرق الفعل وإن انعدم تجدد الحاجة في كل يوم.
والدليل عليه أنه بعد ما أخذ وظيفته في ذلك اليوم لو صرف إليه رجل آخر طعام مسكين عن كفارته يجوز ذلك فكذلك إذا صرف إليه ذلك الرجل طعام مسكين آخر.
وبعضهم قالوا: لا يجوز لأن المعتبر سد الخلة ولهذا لا يجوز صرفه إلى الغني لأنه طاعم بملكه وإطعام الطاعم لا يتحقق كما أن التمليك من المالك لا يتحقق وبعد ما استوفي وظيفته في هذا اليوم لا يحصل سد خلته بصرف وظيفة أخرى في هذا اليوم إليه بخلاف كفارة أخرى لأن المستوفي في حكم تلك الكفارة كالمعدوم، ولا يمكن أن يجعل مثله في حق هذه الكفارة وبخلاف الثوب لأن تجدد الحاجة إليه يختلف باختلاف أحوال الناس فيه فلا يمكن تعليق الحكم بعينه لتعذر الوقوف عليه فيقام تجدد الأيام فيه مقام تجدد الحاجة تيسيرا.
قال ولو أطعم ستين مسكينا كل مسكين صاعا من حنطة من ظهارين في امرأة واحدة أو امراتين لم يجز إلا من أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ويجزئه في قول محمد رحمه الله تعالى لأن في المؤدى وفاء بوظيفة الكفارتين والمصروف إليه محل الكفارتين فيجزئه كما لو أعطى عن كفارة نصف صاع على حدة لكل مسكين.(7/31)
والدليل عليه لو كانت الكفارتان من جنسين إحداهما كفارة الظهار والأخرى كفارة الفطر أجزأ عنهما بالنية بالإجماع فكذلك إذا كانتا من جنس واحد وهما يقولان: زاد في الوظيفة ونقص عن المحل فلا يجزئه إلا بقدر المحل كما لو أعطى ثلاثين مسكينا في كفارة واحدة كل مسكين صاعا.
وبيان ذلك أن الواجب عليه في كل كفارة طعام ستين مسكينا فمحل إطعام الظهارين مائة وعشرون مسكينا وقد نقص عن المحل وزاد في الواجب لأن الواجب لكل مسكين نصف صاع وقد أدى صاعا.
وحقيقة المعنى فيه أن في الجنس الواحد كما لا تعتبر نيته في التمييز لا تعتبر نيته في العدد. فنيته عن ظهارين وعن ظهار واحد سواء بخلاف ما إذا كانتا من جنسين لأن نية(7/32)
ص -18- ... التعيين معتبرة عند اختلاف الجنس فكذلك تعتبر نيته عن الكفارتين ليكون عن كل واحدة منهما نصف المؤدى.
قال ولا يجزئه أن يعطي من هذه الكفارة من لا يجزئه أن يعطيه من زكاة المال" وقد بينا ذلك في كتاب الزكاة إلا فقراء أهل الذمة فإنه يعطيهم من هذه الكفارة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفقراء الإسلام أحب إلينا ولا يجزيه أن يعطي فقراء أهل الحرب وإن كانوا مستأمنين في دارنا وقد بينا هذا الفصل بتمامه في صدقة الفطر.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن ما أوجبه على نفسه بنذره يجوز صرفه إلى فقراء أهل الذمة فأما ما أوجبه لله تعالى عليه لا يصرفه إلا إلى فقراء المسلمين كالزكاة وهذه الرواية مخالفة للرواية المشهورة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
قال فإن أعتق عبدا حربيا في دار الحرب لم يجزه عن الظهار لأنه معتق بلسانه مسترق بيده وهو محل للاسترقاق فلا ينفذ عتقه فإن أعتقه في دار الإسلام أجزأه، لأن عتقه ينفذ في دار الإسلام وهو ذمي تبع لمولاه ألا ترى أنه لا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب فهو كإعتاق الذمي وقد بيناه ولم يذكر إعتاق العبد المرتد عن ظهاره.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن المرتدة تجزي بخلاف المرتد لأن المرتد مشرف على الهلاك فإنه يقتل بخلاف المرتدة.
وذكر الكرخي في المختصر: أنه لو أعتق عبدا حلال الدم عن الظهار أجزأه لأن العتق يتحقق فيه وما عليه حق مستحق فلا يمنع جواز التكفير به كما لو كان مديونا أو مرهونا.(7/33)
قال ولو أعتق المديون جاز عن الكفارة وإن كان عليه السعاية في الدين" وكذلك لو أعتق المرهون جاز عن الكفارة وإن كان الراهن معسرا وسعى العبد في الدين لأن تلك السعاية ليست في بدل رقبته حتى يرجع به على الراهن إذا أيسر فلا يكون هذا عتقا بجعل بخلاف المريض مرض الموت إذا أعتق عبدا عن ظهاره ولا مال له سواه لأنه يسعى في ثلثي قيمته للورثة وتلك السعاية بدل رقبته فيكون ذلك في معنى عتق بجعل.
قال ولو تصدق عنه رجل بغير أمره لم يجزه" لأن أحدا لا يملك أن يدخل الشيء في ملك غيره بغير رضاه وبدون ملكه لا تتأدى كفارته ولو تصدق عنه بأمره أجزأه. وقد بينا الفرق بينه وبين العتق وقررنا طريق الحق أنه يجعل المسكين نائبا في القبض له أولا ثم لنفسه. وإن صام عنه بأمره أو بغير أمره لا يجزئه لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه "لا يصوم أحد عن أحد" وقد بينا هذا في كتاب الصوم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الإيلاء
قال رضي الله تعالى عنه الإيلاء في اللغة هو اليمين قال القائل:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الألية برت
وفي الشريعة عبارة عن يمين يمنع جماع المنكوحة هكذا نقل عن إبراهيم رحمه الله تعالى.(7/34)
ص -19- ... وقد كان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فجعله الشرع طلاقا مؤجلا بقوله تعالى" {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: من الآية226] وإذا حلف الرجل لا يجامع امرأته أبدا أو لم يقل أبدا فهو مول لأن مطلق اللفظ فيما يتأبد يقتضي التأبيد وبعد ما صار موليا، إن جامعها قبل تمام أربعة أشهر فعليه كفارة اليمين لوجود شرط الحنث وقد سقط الإيلاء لأن ثبوت حكم الإيلاء بقصده الإضرار والتعنت بمنع حقها بالجماع وقد زال ذلك حين أوفاها حقها وهو الفيء المذكور في قوله تعالى" {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: من الآية226] "لأن الفيء عبارة عن الرجوع.
يقال فاء الظل إذا رجع وقد رجع عما قصد من الأضرار حين جامعها ولهذا قال بعض الناس: ليس عليه كفارة لأن الله تعالى وعده بالرحمة والمغفرة بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: من الآية226] ولكنا نقول: حكم الكفارة عند الحنث ثابت بقوله تعالى" {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: من الآية89] " الآية وإن مضت المدة قبل أن يفيء إليها طلقت تطليقة بائنة عندنا وكان معنى الإيلاء إن مضت أربعة أشهر ولم أجامعك فيها فأنت طالق تطليقة بائنة هكذا نقل عن علي و ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا عزيمة الطلاق مضي المدة. وعند الشافعي لا يقع الطلاق بمضي المدة ولكنه يوقف بعد المدة حتى يفيء إليها أو يفارقها فإن أبى أن يفعل فرق القاضي بينهما وكان تفريقه تطليقة بائنة والكلام في فصلين:(7/35)
"أحدهما" أن عنده الفيء بعد مضي المدة لأن الله تعالى قال" {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} [البقرة: من الآية226] فبين أن هذه المدة للزوج لا عليه وإنما تكون المدة له إذا كان الأمر موسعا عليه والتضييق بعده فأما إذا كان مطالبا بالجماع في المدة فلا تكون المدة له ثم قال الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: من الآية226] وحرف الفاء للتعقيب عرفنا أن الفيء الذي يؤمر به الزوج بعد مضي المدة وعندنا الفيء في المدة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فإن فاءوا فيهن وقراءته لا تتخلف عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقسيم في قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: من الآية227] دليل على أن الفيء في المدة وعزيمة الطلاق بعده كما في قوله تعالى" {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: من الآية231] والإمساك بالمعروف بالمجامعة في المدة والتسريح بالإحسان بتركها حتى تبين بمضي المدة وهذا التربص مشروع للزوج لأن الإيلاء كان طلاقا معجلا فجعل الشرع للزوج فيه مدة أربعة أشهر حتى مكنه من التدارك في المدة وجعل الطلاق مؤخرا إلى ما بعد المدة.
"والفصل الثاني" أن الفرقة عنده لا تقع إلا بتفريق القاضي بينهما أو بإيقاع الزوج الطلاق لأن الله تعالى قال" {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] وهو إشارة إلى أن عزيمة الطلاق بما هو مسموع وذلك بإيقاع الطلاق أو تفريق القاضي.
والمعنى فيه أن التفريق بينهما لدفع الضرر عنها عند فوت الإمساك بالمعروف فلا يقع إلا(7/36)
ص -20- ... بتفريق القاضي كفرقة العنين فإن بعد مضى المدة هناك لا تقع الفرقة إلا بتفريق القاضي بل أولى لأن الزوج هناك معذور، وهنا هو ظالم متعنت والقاضي منصوب لإزالة الظلم فيأمره أن يوفيها حقها أو يفارقها فإن أبى ناب عنه في إيقاع الطلاق وهو نظير التفريق بسبب العجز عن النفقة على قوله.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] فذكر عزيمة الطلاق بعد ذكر المدة فهو إشارة إلى أن ترك الفيء في المدة عزيمة الطلاق عند مضي المدة.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عزيمة الطلاق مضى أربعة أشهر" وقد أضاف إلى الزوج فدل أن الطلاق يتم به من غير حاجة إلى قضاء القاضي.
ومعنى قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية227] سميع لإيلائه عليم بقصده الإضرار ولأن هذه المدة مدة تربص بعد ما أظهر الزوج من نفسه أنه غير مريد لها فتبين بمضيها كمدة العدة بعد الطلاق الرجعي ولا فرق، لأن هناك الزوج بالطلاق يظهر كراهية صحبتها فيصير في المعنى كأنه علق البينونة بمضي المدة قبل أن يراجعها، وهنا هو بيمينه يظهر كراهيتها فيصير كأنه علق البينونة بمضي الوقت قبل أن يفيء إليها.
ولهذا جعلنا الواقعة تطليقة بائنة لأن المقصود دفع ضرر التعليق عنها. وذلك لا يحصل بالتطليقة الرجعية، ولكن العدة هنا تجب هنا بعد وقوع الطلاق بمضي المدة لأن وقوع الطلاق بعده وهناك الطلاق كان واقعا فجعلنا الإقراء محسوبة من العدة وكذلك لو حلف لا يقربها أبدا لأن القربان متى ذكر مضافا إلى النساء فالمراد به الجماع.(7/37)
وإن قال الزوج لم أعن الجماع لم يصدق في القضاء لأنه قصد تغيير اللفظ عن الظاهر المتعارف فلا يصدق في القضاء هنا، ولا في الفصل الأول ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن حقيقة معنى الجماع هو الاجتماع ففيما نوى به مما سوى الجماع هو محتمل فيدين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن حلف لا يدخل عليها وقال: لم أعن الجماع فهو مصدق في القضاء لأن الدخول عليها لفظ مشترك يستعمل في الجماع والزيارة وغير ذلك فالمنوي غير مخالف للظاهر وحرف الصلة يدل عليه وهو على فإنه إذا كان المراد الجماع يقال دخل بها وكذلك لو حلف ليغيظنها أو ليسوءنها أو لا يجمع رأسه ورأسها شيء أو لا يمسها. وفي نسخ أبي سليمان أو لا يلامسها فهذه الألفاظ تطلق في الجماع وغير الجماع، فإن نوى بها الجماع كان موليا وإن نوى غير الجماع لم يكن موليا لأن المولى من لا يتمكن من الجماع في المدة إلا بشيء يلزمه حتى يتحقق إضراره بمنع حقها في الجماع، وإن حلف لا يمس جلده جلدها وعنى به حقيقة المس فالحنث هنا يحصل بدون الجماع فلا يكون إيلاء ويمكنه أن يجامعها من غير أن يلزمه شيء بأن يلف آلته في حريرة ثم يدسه فيها وقال في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى: إذا حلف لا يأتيها وعنى الجماع فهو مول وإن قال لم أعن الجماع صدق في القضاء مع يمينه لأن الإتيان قد يراد به الجماع ويراد به الزيارة أو الضرب فكان(7/38)
ص -21- ... اللفظ محتملا والمحتمل لا يوجب شيئا بدون النية وكذلك لو حلف لا يغشاها فهو مدين في القضاء لأن الغشيان يراد به الجماع قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [لأعراف: من الآية189] ويراد به غير الجماع قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ} [لقمان: من الآية32] وكذلك لو حلف لا يقرب فراشها. فلفظ القرب إضافة إلى فراشها لا إليها ولذلك يحتمل الجماع، وغيره فإن عنى الجماع فهو مول، وإلا فليس بمول لأنه يتمكن من أن يجامعها من غير حنث إما على الأرض، أو بأن تدخل هي فراشه من غير أن يقرب هو فراشها.
وإن حلف لا يباضعها فهو مول ولا يصدق في القضاء لأن ظاهر اللفظ للجماع، فإن المباضعة إدخال البضع في البضع فلا يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره، وكذلك لو حلف لا يغتسل منها من جنابة لأن الاغتسال منها إنما يكون بالجماع في الفرج خاصة. فأما بالجماع فيما دون الفرج يكون اغتسالا من الإنزال لا منها وإذا كان ظاهر لفظه للجماع في الفرج لم يصدق في صرف اللفظ عن ظاهره وكان موليا بمنعه حقها بيمينه فإن حقها في الجماع في الفرج لا فيما دونه.
قال وإذا حلف لا يقربها أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا عندنا.
وقال ابن أبي ليلى هو مول إن تركها أربعة أشهر بانت بالتطليقة وهكذا كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول في الابتداء فلما بلغه فتوى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا إيلاء فيما دون أربعة أشهر رجع عن قوله.
و ابن أبي ليلى استدل بظاهر الآية قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة:226] والإيلاء هو اليمين فتقييد اليمين بمدة أربعة أشهر يكون زيادة.
ولكنا نقول المولى من لا يملك قربان امرأته في المدة إلا بشيء يلزمه وإذا عقد يمينه على شهر فهو يتمكن من قربانها بعد مضي الشهر من غير أن يلزمه شيء فلم يكن موليا كما في ترك مجامعتها مدة بغير يمين.(7/39)
قال وكل ما حلف به على أربعة أشهر أو أكثر أن لا يقربها مما يكون به حالفا فهو مول عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا عقد يمينه على أربعة أشهر لم يكن موليا بناء على الأصل الذي بينا أن تضييق الأمر عنده بعد مضي المدة فإذا كانت المدة أربعة أشهر ينتهي اليمين بمضيها فلا يمكن تضييق الأمر عليه بعد ذلك لأنه يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وإذا كانت المدة أكثر من أربعة أشهر فتضييق الأمر عليه بعد مضي المدة ممكن.
وعندنا مجرد مضي المدة عزيمة الطلاق فإذا كانت المدة أربعة أشهر يتم معنى الإيلاء به وتقع الفرقة بمضيه.
ثم اليمين نوعان أحدهما ما يقصد به تعظيم المقسم به والثاني الشرط والجزاء والأول يعرفه أهل اللغة فأما الشرط والجزاء يمين عند الفقهاء ولا يعرفه أهل اللغة وبكل(7/40)
ص -22- ... واحد من النوعين يثبت حكم الإيلاء فإذا قال أحلف أو أحلف بالله لا أقربك فهو مول عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى في قوله أحلف بالله كذلك فأما في قوله أحلف عنده لا يكون يمينا ولكنه وعد أن يحلف بهذا اللفظ.
ولكنا نستدل بقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: من الآية96] "وقال الله تعالى" {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: من الآية62] فدل أن كل واحد منهما يمين سواء ذكر قوله بالله أو أطلق لأن الحلف في الظاهر يكون بالله وكذلك لو قال أشهد أو أشهد بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أشهد لا يكون يمينا بل يكون هذا اللفظ للشهادة فإذا قال بالله كان يمينا.
ولكنا نقول كل واحد من اللفظين يمين سواء ذكر قوله بالله أو أطلق قال الله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}[المنافقون: من الآية1] إلى قوله" {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة: من الآية16] فقد سمي شهادتهم يمينا وقال الله تعالى" {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: من الآية6] واللعان يمين قال صلى الله عليه وسلم : "لولا الأيمان التي سبقت لكان لي ولها شأن" ولأن قول الشاهد بين يدي القاضي أشهد في معنى اليمين ولهذا عظم الوزر في شهادة الزور لأنه بمعنى اليمين الغموس وكذلك قوله أقسم أو أقسم بالله فعند زفر رحمه الله تعالى قوله أقسم لا يكون يمينا كقوله أحلف.(7/41)
ولكنا نستدل بقوله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: من الآية17و 18] والاستثناء في اليمين وقال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: من الآية 53] وكذلك لو قال أعزم أو أعزم بالله فإن العزم آكد ما يكون من العهد وذلك يكون باليمين وكذلك لو قال علي نذر أو نذر لله قال صلى الله عليه وسلم : "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" وكذلك لو قال: عهد الله علي.
فالعهد يمين قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: من الآية91] معناه إذا حلفتم بدليل قوله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: من الآية91] وكذلك قوله: على ذمة الله، لأن الذمة عبارة عن العهد قال الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}[التوبة: من الآية10] وقال صلى الله عليه وسلم : "إذا أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم".
وأهل الذمة هم أهل العهد، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام إن قربتك فهو مول.
وعند الشافعي رضي الله عنه لا يكون موليا بهذه الألفاظ لأنه لا يلزمه عين ما التزم عند القربان فلا يلزمه غيره كما لو قال: هو مستحل الميتة إن قربتك.
ومذهبنا مروى عن ابن عباس رضي الله عنه وهو بناء على مسألة تحريم الحلال فإن تحريم الحلال عندنا يمين فتحليل الحرام كذلك وتحريم الكفر بانة مصمتة فاستحلالها يمين لما علقه بالقربان بخلاف استحلال الميتة فإن حرمتها ليست بباتة ولكنها تنكشف عند الضرورة.(7/42)
ص -23- ... وسنقرر هذا الفصل في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى وكذلك قوله وعظمة الله أو وعزة الله أو وقدرة الله فهذا وقوله والله سواء لأن معنى كلامه والله العظيم، والله العزيز والله القادر. وسنقرر حكم اليمين بصفات الله تعالى وكذلك إن حلف على ذلك بعتق أو طلاق فهو مول، لأنه لا يتمكن من قربانها في المدة لا بشيء يلزمه ولأن الشرط والجزاء يمين قال صلى الله عليه سلم: "من حلف بطلاق أو عتاق" فقد سماه حالفا وكذلك إن حلف على ذلك بحج أو هدى أو عمرة، أو صوم جعل لله عليه إن قربها لأنه يتحقق بهذا منع القربان حين علق بالقربان ما يكون ممتنعا من التزامه عادة وتلحقه مشقة في أدائه.
وإذا قال: والقرآن لا أقربك لا يكون موليا لأن الناس لم يتعارفوا الحلف بالقرآن. والمعتبر في الأيمان العرف فكل لفظ لم يكن الحلف به متعارفا لا يكون يمينا. وهذا اللفظ إنما يذكر في الكتاب خاصة. وقد طعن عليه بعض الناس فقالوا القرآن كلام الله تعالى والكلام صفة المتكلم فلماذا لم يجعل الحلف بهذه الصفة يمينا.
ولكنا نقول كلام الله تعالى صفته ولكن الحلف به غير متعارف فكان هذا بمنزلة قوله وعلم الله على ما نبينه في الأيمان وعلى هذا الخلاف ما لو قال هو بريء من القرآن إن قربتك فهو مول لأن البراءة من القرآن كفر فهو بمنزلة قوله هو بريء من الإسلام إن قربتك.
وإن قال والكعبة أو الصلاة أو الزكاة لا أقربك أو حلف على ذلك بشيء من طاعة الله أو بشيء من الحدود لا يكون موليا لأنه حلف بغير الله وهو منهي عنه ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه سلم لما سمع عمر رضي الله تعالى عنه يقول وأبي قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو فليذر" فدل أن الحلف بغير الله لا يكون يمينا شرعا وإن قال بالله لا أقربك فهو مول.(7/43)
وحروف اليمين ثلاثة الباء والواو والتاء فأعمها الباء حتى تدخل في اسم الله وفي غير اسم الله تعالى وفي المضمر والمظهر والواو أخص منها فإنها تدخل في المظهر دون المضمر ولكنها تدخل في اسم الله وفي غير اسم الله تعالى والتاء أخص منها فإنها لا تدخل إلا في اسم الله تعالى مظهرا قال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الانبياء: من الآية 57] وكذلك لو قال وأيم الله أو لعمرو الله لأن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ وقيل معنى قوله وأيم الله أي وأيمن الله فيكون جمع اليمين ولعمرو الله أي والله الباقي وفي قوله لعمرك دليل على أن هذا اللفظ يمين وإن قال الله لا أقربك فهو مول أيضا والكسرة في الهاء دليل على محذوف وهو القسم ولا يصدق في الحكم أنه لم يرد به الإيلاء لأنه خلاف الظاهر وإن قال قولا لا يقربها ولم يحلف لا يلزمه شيء.
هكذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ولأن الله تعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}(7/44)
ص -24- ... [البقرة: من الآية226] والإيلاء يمين فبدون يمينه كان كلامه وعدا والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم فهو يتمكن من قربانها من غير أن يلزمه شيء وإن حلف لا يقربها في مكان كذا أو في مصر كذا أو قال في أرض العراق لم يكن موليا عندنا.
وقال ابن أبي ليلى هو مول لأنه قصد الإضرار والتعنت بيمينه فلزمه حكم الإيلاء ولكنا نقول اليمين إذا وقتت بمكان توقتت به فهو يتمكن من قربانها في غير ذلك المكان في المدة من غير أن يلزمه شيء فلا يتحقق به منع حقها في الجماعز.
قال ولو حلف لا يقربها وهي حائض لم يكن موليا لأنه حلف على أقل من أربعة أشهر فإن الحيض لا يمتد إلى أربعة أشهر ولأنه لا حظ لها في الجماع في حالة الحيض فلا يكون مانعا حقها بهذه اليمين.
فإن قيل فعلى هذا لو حلف على أربعة أشهر ينبغي أن لا تعتبر مدة الحيض فيبقى يمينه على أقل من أربعة أشهر.
قلنا هذا إن لو كانت هذه المدة ثابتة بالمعنى وثبوتها بالنص فلا يجوز الزيادة عليها بالرأي وإن حلف لا يقربها حتى يقدم فلان أو حتى يفعل هو شيئا يقدر على فعله قبل مضى أربعة أشهر فليس بمول لأنه يقدر على أن يجامعها بعد وجود ما جعله غاية قبل مضى أربعة أشهر وإن تأخر ذلك أربعة أشهر لم يضره لأنه بأصل اليمين لم يكن موليا فلا يصير موليا بترك المجامعة بعد ذلك كما لو ترك المجامعة بغير يمين وإن حلف لا يقربها حتى يفعل شيئا يعلم أنه لا يقدر عليه فهو مول معناه حتى يمس السماء أو يحول هذا الحجر ذهبا لأنه إذا لم يكن في مقدوره ذلك الفعل كان مقصوده من جعله غاية تحقيق معنى التأبيد.
وعلى هذا لو قال: والله لا أقربك حتى تخرج الدابة أو الدجال أو حتى تطلع الشمس من مغربها فهو مول استحسانا. وفي القياس ليس بمول لأنه ما جعله غاية يتوهم وجوده قبل مضى أربعة أشهر. ولكنا نقول مقصود الزوج بهذا المبالغة في النفي لا التوقيت فيتحقق به معنى الإيلاء.(7/45)
قال وإذا حلف لا يقربها سنة إلا يوما لم يكن موليا عندنا" وقال زفر رحمه الله تعالى هو مول لأن اليوم المستثني من آخر السنة كما في الإجارة والآجال وهو لا يملك قربانها في المدة إلا بكفارة تلزمه.
والدليل عليه أنه لو قال: سنة بنقصان يوم كان موليا فكذلك إذا قال إلا يوما. ولكنا نقول استثني يوما منكرا فما من يوم بعد يمينه إلا ويمكنه أن يجعله اليوم المستثنى فيقربها من غير ان يلزمه شيء والذي قال: إن اليوم من آخر السنه غير صحيح لأن المستثنى منكر فلو جعلناه من آخر السنة لم يكن منكرا وتغيير كلامه من غير حاجة لا يجوز. وفي الآجال(7/46)
ص -25- ... والإجارة دعت الحاجة إلى ذلك لأنا لو جعلنا اليوم منكرا فيهما لم يصح العقد للجهالة ولا يحصل المقصود وهو تأخر المطالبة والتمكن من استيفاء المنفعة وهنا لا حاجة لأن الجهالة لا تمنع انعقاد اليمين.
فلهذا جعلنا اليوم المستثنى منكرا كما نكره بخلاف قوله بنقصان يوم لأن النقصان لا يكون إلا من آخر المدة وذلك تنصيص على أن يكون المستثنى آخر يوم من السنة فإذا ثبت أنه ليس بمول عندنا، قلنا: إذا قربها في يوم فهذا اليوم هو اليوم المستثني فلا يكون موليا حتى يمضي ذلك اليوم ثم ينظر بعد مضيه فإن كان الباقي من السنة أربعة أشهر أو أكثر فهو مول وإن كان الباقي دون أربعة أشهر فليس بمول لأن الاستثناء قد ارتفع وصارت اليمين مطلقة في بقية المدة، وكذلك لو قال والله لا أقربك سنة إلا مرة لم يكن موليا لأنه متمكن من قربانها بسبب الاستثناء من غير أن يلزمه شيء فإذا قربها مرة ارتفع الاستثناء وصارت اليمين مطلقة. فإن بقي بعد فراغه من الجماع من السنة أربعة أشهر أو أكثر فهو مول وإن كان الباقي دون ذلك لم يكن موليا فإن وصل قوله إن شاء الله بيمينه لم يكن موليا لأن الإستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة وهو مروى عن ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهم وإن اشترط مشيئتها ومشيئة فلان فهو على المجلس وقد بينا نظيره في الظهار.
قال "وإذا قال لامرأته أنا منك مول وعني الإيجاب فهو مول كما في قوله أنا منك مظاهر" لأنه أضاف لفظه إلى محله فإن الرجل يكون موليا من امرأته وإن قال عنيت الخبر بالكذب لم يدين في القضاء لأن ظاهر كلامه إيجاب وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن صيغة الإيجاب والأخبار في الإيلاء واحد والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا.
قال وإذا حلف على أربع نسوة لا يقربهن فهو مول منهن إن تركهن أربعة أشهر ابن بالإيلاء عندنا.(7/47)
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يكون موليا حتى يقرب ثلاثا منهن فحينئذ يكون موليا من الرابعة لأنه يملك قربان كل واحدة منهن من غير أن يلزمه شيء فلم يكن موليا حتى يقرب ثلاثا منهن فحينئذ لا يملك قربان الرابعة إلا بكفارة تلزمه لأنه يتم شرط الحنث بقربانها فيكون موليا منها ويكون معنى كلامه إن قربت ثلاثا منكن فوالله لا أقرب الرابعة.
"وجه قولنا" أنه مضار متعنت في حق كل واحد منهن بمنع حقها من الجماع فيكون موليا من كل واحدة منهن كما لو عقد يمينه على كل واحدة منهن على الأنفراد إلا أنه لا يلزمه الكفارة بقربان بعضهن لأن الكفارة موجب الحنث فلا تجب ما لم يتم شرط الحنث ولكن عند تمام الشرط لا يكون وجوب الكفارة بقربان الآخرة فقط بل بقربانهن جميعا.
فأما وقوع الطلاق باعتبار البر، وذلك يتحقق في كل واحدة منهن فهذا ابن بمضي المدة(7/48)
ص -26- ... بخلاف ما لو قال: إن قربت ثلاثا منكن فوالله لا أقرب الرابعة لأن هناك ما عقد اليمين في الحال بل علقه بشرط فلا ينعقد يمينه قبل وجود الشرط فإن جامع بعضهن في الأربعة الأشهر سقط عمن جامع منهن لأنه قد فاء إليها في المدة ولا كفارة عليه لعدم تمام شرط الحنث فإذا تمت أربعة أشهر بانت التي لم يجامعها لأن الفيء في حقها لم يوجد فبقي حكم الإيلاء في حقها فتبين بمضي المدة ولو لم يجامع شيئا منهن ولكن طلق إحداهن ثلاثا كان موليا على حاله لأن شرط حنثه منتظر إن جامعهن حنث إذ ليس في يمينه تقييد الجماع بما قبل الطلاق وإن لم يطلق ولكن ماتت إحداهن بطل الإيلاء عنهن لأن شرط حنثه قد فات لأنه لا يحنث بجماع من بقي بعد هذا ولا بجماع الميتة واليمين لا يبقى بعد فوات شرط الحنث فلهذا لا يبطل الإيلاء عنهن.
قال وإن حلف لا يقرب واحدة منهن فهو مول منهن فإن مضت الأربعة الأشهر ابن جميعا.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد رضي الله تعالى عنه يكون موليا من واحدة منهن حتى إذا مضت المدة طلقت واحدة منهن بغير عينها لأنه منع نفسه عن قربان واحدة منهن ألا ترى أنه لو قرب واحدة منهن يلزمه الكفارة وحكم الطلاق ينبني على المنع من القربان فعند مضي المدة يقع الطلاق على إحداهن بغير عينها كما لو قال والله لا أقرب إحداكن.
ووجه ظاهر الرواية أنه ذكر الواحدة منكرا في موضع النفي، لأن القربان منفي والنكرة في موضع النفي تعم بخلاف النكرة في موضع الإثبات. فإن الرجل إذا قال رأيت اليوم رجلا يقتضى رؤية رجل واحد ولو قال: ما رأيت اليوم رجلا يقتضى نفي رؤية جميع الرجال.
وهذا لأن معنى التنكير في محل الفيء لا يتحقق إلا بالتعميم ففيما ينبني على نفي القربان وهو وقوع الطلاق عند مضي المدة يتناولهن كلامه جميعا، وفيما ينبني على وجود القربان وهي الكفارة يتناول كلامه إحداهن.(7/49)
فلهذا إذا قرب واحدة منهن لزمته الكفارة، وسقط الإيلاء عنهن لأن اليمين لم يبق بعد تمام الشرط وهذا بخلاف قوله إحداكن فإن معنى التعميم هناك لا يتحقق ألا ترى أنه لو قرن بكلامه حرف كل بان قال كل إحداكن لا يتناولهن جميعا وهنا لو قرن بكلامه حرف كل فقال كل واحدة منكن تناولهن جميعا، فكذلك بسبب التنكير وإن كان نوى واحدة بعينها دون غيرها فهو مول منها خاصة فيما بينه وبين الله تعالى لأن ما نواه محتمل ألا ترى أنه لو طلق واحدة منهن ونوى واحدة بعينها صحت نيته فكذلك في الإيلاء ولكن لا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر.
قال وإذا آلى من واحدة لم يسمها ولم ينوها فهو بالخيار يوقع الطلاق على أيتهن شاء فتبين به وحدها ولو أراد التعيين قبل مضى المدة لم يملك" لأن فيه تغيير حكم اليمين فإنه قبل(7/50)
ص -27- ... التعيين يحنث بقربان واحدة أيتهن قرب وبعد التعيين لا يحنث بقربان البواقي وكما لا يملك إبطال حكم اليمين لا يملك تغييره فأما بعد وقوع الطلاق بمضى المدة ملك تعيين الطلاق لأنه ليس في هذا تغيير حكم اليمين ولكنه تعيين الطلاق المبهم وذلك إلى الزوج ثم إذا عين الطلاق في إحداهن لا يتعين يمينه فيها إلا في رواية عن أبي يوسف وقد بينا هذا فيما أمليناه في شرح الجامع.
قال وإذا آلى الرجل من امرأته وبينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو أكثر أجزأه إن فاء بقلبه ولسانه والحاصل أن العاجز عن الجماع في المدة يكون فيئه باللسان عندنا وذلك مروي عن علي و ابن مسعود رضي الله عنهما وعند الشافعي رحمه الله تعالى ألفيء باللسان ليس بشيء لأن المتعلق بالفيء حكمان وجوب الكفارة وامتناع حكم الفرقة ثم الفيء باللسان لا يعتبر في حق أحد الحكمين وهو الكفارة فكذلك في الحكم الآخر. ولكنا نقول الكفارة تجب بالحنث والحنث لا يتحقق في الفيء باللسان فأما وقوع الطلاق عند مضي المدة باعتبار معنى الإضرار والتعنت، وذلك ينعدم في الفيء باللسان عند العجز عن الفيء بالجماع فكان الفيء بالجماع أصلا وباللسان بدلا عنه لأن الفيء عبارة عن الرجوع وإذا كان قادرا على الجماع فإنما قصد الإضرار والتعنت بمنع حقها في الجماع ففيئه بالرجوع عن ذلك بأن يجامعها وإذا كان عاجزا عن الجماع لم يكن قصده الإضرار بمنع حقها في الجماع لأنه لا حق لها في الجماع في هذه الحالة وإنما قصد الإضرار بإيحاشها بلسانه ففيئه بالرجوع عن ذلك بأن يرضيها بلسانه لأن التوبة بحسب الجناية ثم العجز عن الجماع تارة يكون ببعد المسافة وتارة بالمرض فإذا كان بينه وبينها أربعة أشهر أو أكثر فهو عاجز عن جماعها في المدة فيكون فيئه بقلبه ولسانه وإن كان بينهما أقل من أربعة أشهر فهو قادر على الجماع فلا يكون فيئه إلا بالجماع لأن حكم البدل إنما يعتبر عند العجز عن الأصل، وكذلك إن كان مريضا حين(7/51)
آلى ففيئه الرضا بالقلب واللسان إن تمت أربعة أشهر وهو مريض لأنه عاجز عن الجماع لمرضه وكذلك إن اتصل مرضه بالإيلاء فإن كان صحيحا حين آلى وبقي صحيحا بعد إيلائه مقدار ما يستطيع فيه أن يجامعها ثم مرض بعد ذلك لم يكن فيئه إلا بالجماع.
وقال زفر: فيئه باللسان لتحقق عجزه عن الجماع والمعتبر عنده آخر المدة كما لو كان واجدا للماء في أول الوقت فلم يتوضأ حتى عدم الماء جاز له التيمم.
ولكنا نقول لما تمكن من جماعها فقد تحقق منه الإضرار، والتعنت بمنع حقها في الجماع فلا يكون رجوعه إلا بإيفاء حقها في الجماع فأما إذا كان مريضا حين آلى ثم صح قبل تمام أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا بالجماع ويستوي إن كان فاء إليها في مرضه أو لم يفىءلأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فإن تمام المقصود بمضي المدة وسقط اعتبار حكم البدل بهذه القدرة كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة وكذلك إن كانت المرأة مريضة أو صغيرة لا تجامع ففيئه الرضا باللسان. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله(7/52)
ص -28- ... تعالى أن الزوج إذا كان مريضا حين آلى ثم مرضت المرأة ثم صح الزوج قبل مضى أربعة أشهر ففيئه الرضا باللسان عند زفر رحمه الله تعالى لأن تأثير مرضها في المنع من الجماع كتأثير مرضه.
وعلى قول أبي يوسف لا يكون فيئه إلا بالجماع لأن العجز الذي كان لأجله فيئه الرضا باللسان قد زال قبل تمام المدة فكان ذلك كالمعدوم أصلا ولو كانا محرمين بالحج أو أحدهما فآلى وقت أداء الحج أربعة أشهر أو أكثر لم يكن فيئه إلا بالجماع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لأنه متمكن من ذلك وإن كان حراما.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى فيئه الرضا باللسان لأنه ممنوع من جماعها في المدة شرعا فهو كما لو كان ممنوعا منها حسا ببعد المسافة ألا ترى أنه لو خلى بأمرأته وأحدهما محرم بالحج لم تصح الخلوة كما لو كان بينهما ثالث ومتى وطئها بعد الفيء باللسان فعليه كفارة اليمين لأن الفيء باللسان يمنع وقوع الطلاق ولا يرتفع اليمين فيتحقق شرط الحنث متى جامعها.
قال "وإيلاء النائم والصبي والمجنون والمعتوه الذي يهذي باطل بمنزلة طلاق هؤلاء" وهذا لأن اليمين من هؤلاء لا ينعقد فإن قولهم غير معتبر في اللزوم.(7/53)
قال "وإذا آلى الرجل من امرأته أنه لا يقربها أبدا ثم طلقها ثلاثا بطل الإيلاء عندنا خلافا لزفر" لأن الإيلاء طلاق مؤجل فإنما ينعقد على التطليقات المملوكة ولم يبق شيء منها بعد وقوع الثلاث عليها، وكذلك لو بانت بالإيلاء ثلاث مرات ثم تزوجها بعد زوج لم يكن موليا إلا على قول زفر وإن قربها كفر يمينه لأن الإيلاء وإن لم يبق في حكم الطلاق لنفاذ ملك الطلاق فقد بقيت اليمين فإذا قربها ثم شرط الحنث وليس من ضرورة بقاء اليمين حكم الإيلاء، كما لو قال لأجنبية: والله لا أقربك ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قربها كفر يمينه وإن كان طلقها تطليقة بائنة فإن تمت الأربعة الأشهر وهي في العدة وقعت عليها تطليقة بالإيلاء وإن لم تكن في العدة لم يقع عليها شيء لأن المولى في المعنى كالمعلق تطليقة بائنة بمضى الأربعة الأشهر قبل أن يفيء إليها وقد صح ذلك في الملك فلا يبطل بالبينونة ولكن الطلاق لا يقع عليها إلا في العدة