السير الكبير - الشيبانى ج 1
السير الكبير
الشيبانى ج 1(1/)
شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني الجزء الاول [ مقدمة الشارح ] بسم الله الرحمن الرحيم قال الامام الاجل الزاهد (1) إمام الائمة أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى شمس الائمة: اعلم بأن السير الكبير آخر تصنيف صننفه محمد رحمه الله في الفقه.
لهذا لم يروه عنه أبو حفص رحمه الله لانه صنفه بعد انصرافه من العراق، ولهذا لم يذكر اسم أبى يوسف رحمه الله في شئ منه، لانه صنفه بعد ما استحكمت النفرة بينهما، وكلما احتاج إلى رواية حديث عنه قال: أخبرني الثقة، وهو مراده حيث يذكر هذا اللفظ.
وأصل سبب تلك النفرة الحسد، على ما حكى (2) المعلى قال: جرى ذكر محمد في مجلس أبى يوسف فأثنى عليه، فقلت له: مرة تقع فيه ومرة تثنى عليه ؟ فقال: الرجل محسود.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهم الله أن أبا يوسف رحمه الله في أول ما قلد القضاء كان يركب كل يوم إلى مجلس الخليفة، فيمر به طلبة العلم، فيقول أبو يوسف: إلى اين تذهبون ؟ فيقال له: إلى مجلس محمد.
فقال: أبلغ من قدر محمد أن يختلف إليه ؟ والله لافقهن حجامى بغداد وبقاليها.
__________
(1) ط " الزاهد شمس الائمة إمام..".
(2) ط " حكى عن المعلى ".
[ * ](1/1)
وعقد مجلس الاملاء لذلك، ومحمد رحمه الله مواظب على الدرس، فلما كان في آخر حال أبى يوسف رحمه الله رأى الفقهاء يمرون به بكرة فقال: إلى أين ؟ فقالوا: إلى مجلس محمد.
قال: اذهبوا فان الفتى محسود.
وسببها الخاص ما حكى (1) أنه جرى ذكر محمد في مجلس الخليفة، فأثنى عليه الخليفة.
فخاف أبو يوسف أن يقربه، فخلا به فقال: أترغب في قضاء مصر ؟ فقال محمد: وما غرضك في هذا ؟ فقال: قد ظهر علمنا بالعراق فأحب أن يظهر بمصر.
فقال محمد: حتى أنظر.
وشاور (2) في ذلك أصحابه، فقالوا: ليس غرضه قضاؤك ولكن يريد أن ينحيك عن (3) باب الخليفة.
ثم أمر الخليفة أبا يوسف أن يحضره مجلسه، فقال أبو يوسف: إن به داء لا يصلح معه لمجلس أمير المؤمنين.
فقال: وما ذاك ؟ قال: به سلس البول بحيث لا يمكنه استدامة الجلوس (4).
قال الخليفة: نأذن (5) له بالقيام عند ذلك (6).
ثم خلا بمحمد وقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، وهو رجل ملول فلا تطل الجلوس عنده.
فإذا أشرت إليك (7) فقم.
ثم أدخله على الخليفة.
فاستحسن الخليفة لقاءه لانه كان ذا جمال وكلام واستحسن (8) كلامه، وأقبل عليه وجعل يكلمه (9).
ففى خلال ذلك الكلام أشار إليه (10) أبو يوسف أن قم.
فقطع الكلام وخرج.
فقال الخليفة: لو لم يكن به هذا الداء لكنا نتجمل به في مجلسنا.
فقيل لمحمد رحمه الله: لم خرجت
__________
(1) ه، ط " يحكى ".
(2) ه " وأشاروا ".
(3) أ " من ".
(4) ط ".
البول ولا عليه استدامة الجلوس ".
(5) ه " فأذن ".
(6) ط، ه " عند حاجته ".
(7) ب، ط، أ " عليك ".
(8) ب، أ " فأحسن ".
(9) قوله " وجعل يكلمه " ساقط من ط، وفيها " كلمه ".
(10) ب، أ " عليه ".(1/2)
في ذلك الوقت ؟ فقال: قد كنت أعلم أنه لا ينبغى لى أن أقوم في ذلك الوقت، لكن يعقوب (1) كان (13 آ) أستاذى فكرهت مخالفته.
ثم وقف محمد على ما فعله أبو يوسف، فقال: اللهم اجعل سبب خروجه من الدنيا ما نسبنى إليه.
فاستجيبت دعوته فيه.
ولذلك قصة معروفة.
ولما مات أبو يوسف لم يخرج محمد إلى جنازته.
وقيل إنما لم يخرج استحياء من الناس، فان جواري (2) أبى يوسف كن يعرضن به فيما يبكينه، على ما يحكى أن جواريه كن يقلن عند الاجتياز بباب محمد: اليوم يرحمنا من كان يحسدنا * اليوم نتبع من كانوا لنا تبعا اليوم نخضع للاقوام كلهم * اليوم نظهر منا الحزن والجزعا فهذا بيان سبب النفرة.
فأما سبب تصنيف هذا الكتاب أن السير الصغير وقع في يد عبدالرحمن ابن عمرو الاوزاعي عالم أهل الشام.
فقال: لمن هذا الكتاب ؟ فقال: لمحمد العراقى.
فقال: وما لاهل العراق والتصنيف في هذا الباب ؟ فانه لا علم لهم بالسير.
ومغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت من جانب الشام والحجاز دون العراق، فانها محدثة فتحا.
فبلغت مقالة الاوزاعي محمدا (3) فغاظه ذلك، وفرغ نفسه حتى صنف هذا الكتاب.
فحكى أنه لما نظر فيه
الاوزاعي (4) قال: لولا ما ضمنه من الاحاديث لقلت إنه يضع العلم من عند نفسه.
وإن الله عين جهة إصابة (5) الجواب في رأيه.
صدق الله، وفوق كل ذى علم عليم.
ثم أمر محمد رحمه الله أن يكتب هذا الكتاب في ستين دفترا، وأن يحمل على عجلة إلى باب الخليفة.
فقيل للخليفة: قد صنف محمد كتابا يحمل على
__________
(1) ه " لكن أبو يوسف أستاذى ".
(2) ه، ط " خدمة ".
(3) ط " فبلغ ذلك محمدا ".
(4) ه، ط " فحكى أنه وقع بيد الاوزاعي فلما نظر..".
(5) ط " عين جهة الصواب في.
".(1/3)
العجلة إلى الباب.
فأعجبه ذلك وعده من مفاخر أيامه.
فلما نظر فيه ازداد إعجابه به.
ثم بعث أولاده إلى مجلس محمد رحمه الله ليسمعوا منه هذا الكتاب.
وكان اسماعيل بن توبة (1) القزويني مؤدب أولاد الخليفة، فكان يحضر معهم ليحفظهم كالرقيب، فسمع الكتاب.
ثم اتفق أن لم يبق من الرواة إلا اسماعيل ابن توبة وأبو سليمان الجوزجانى، فهما رويا عنه هذا الكتاب.
__________
(1) ط " ثوبة ".
[ * ](1/4)
[ سند السرخسى ] قال رضى الله عنه (1): أخبرنا الشيخ الامام شمس الائمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله بقراءتي عليه قال: أنا القاضى الامام أبو على الحسين بن الحضر بن محمد النسفى، أنا الامام أبو بكر محمد بن
الفضل وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمدان الخطيب المهلبى قالا: أنا عبدالله بن محمد بن يعقوب الحارثى قال: ثنا أبو محمد عبد (13 ب) الرحيم بن داود السمنانى، ثنا أبو إبراهيم اسماعيل بن توبة القزويني، ثنا محمد بن الحسن رحمه الله.
قال رضى الله عنه: كان شمس الائمة الحلواني شيخنا رحمه الله يقول: قال القاضى الامام: كنا نقرأ هذا الكتاب على الشيخ الامام أبى بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فلما انهينا إلى أبواب الامان توفى رحمه الله فقرأناه على الخطيب المهلبى، فإلى أبواب الامان الرواية عنهما والباقى عن الخطيب.
قال رضى الله عنه: وأخبرنا به القاضى الحسن على بن الحسين السغدى قراءة عليه قال: ثنا الحاكم الامام أبو محمد عبدالله بن أحمد الكفينى، ثنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد بن الحسن، ثنا أبو القاسم أحمد بن جم بن عصمة البلخى، أنا نصر بن يحيى، أنا أبو سليمان الجوزجانى، عن محمد بن الحسن رحمه الله.
قال الشيخ الامام رضى الله عنه: وأخبرنا به الشيخ الصالح الثقة أبو حفص عمر بن منصور البزار قراءة عليه قال: أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الوراق قال: أنا أبو نصر أحمد بن نصر (2) بن محمد بن اشكاب، أنا أبو محمد عبدالله بن عبد الوهاب القزويني، ثنا اسمعيل بن توبة القزويني، أنا محمد بن الحسن، قال: ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن شرحبيل بن السمط،
__________
(1) أي السرخسى.
(2) ط " نصير " وهو خطأ.
[ * ](1/5)
1 [ فضيلة الرباط ]
1 - عن سلمان الفارسى أنه قال: من رابط يوما في سبيل الله تعالى كان كصيام شهر وقيامه.
ومن قبض مرابطا في سبيل الله تعالى أجير من فتنة القبر وأجرى عليه عمله إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على سلمان فهو كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان مقادير أجزية (1) الاعمال لا تعرف بالرأى بل (2) طريق معرفتها التوقيف.
2 - وقد ذكر بعد هذا: عن مكحول أن سلمان الفارسى مر بشرحبيل بن السمط وهو مرابط قلعة بأرض فارس، فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون لك عونا على منزلك هذا ؟ قال: بلى.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لرباط يوم خير من صيام شهر وقيامه.
ومن مات وهو مرابط أجير من فتنة القبر ونمى له عمله كأحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة.
__________
(1) ه، ط " لان المقادير وأجزية ".
(2) قوله " لا تعرف بالرأى بل " ساقط من ه، ط وفيهما " طريق معرفتها التوقيف دون الرأى ".(1/6)
فتبين بهذا أن من كان عنده حديث منهم فتارة كان يرويه وتارة كان يفتى به من غير أن يروى، فكل ذلك جائز.
والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر العدو لاعزاز (1) الدين، ودفع شر المشركين عن المسلمين (14 آ).
وأصل الكلمة من ربط الخيل.
قال الله تعالى { ومن رباط الخيل } (2) فالمسلم يربط خيله حيث يسكن من الثغر ليرهب العدو به، وكذلك يفعل (3)
عدوه.
ولهذا سمى مرابطة، لان ما كان على ميزان المفاعلة يجرى بين اثنين غالبا، ومنه سمى الرباط رباطا للموضع المبنى في المفازة (4) ليسكنه الناس ليأمن المارة بهم من شر اللصوص.
وجعل رباط يوم في هذا الحديث كصيام شهر وقيامه.
3 - وقد روى بعد هذا أكثر من هذا القدر فإنه روى: عن مكحول أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى وجدت غارا في الجبل فأعجبني أن أتعبد فيه وأصلى حتى يأتنى قدري.
فقال عليه السلام: لمقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته ستين سنة في أهله.
وهذا التفاوت إما بحسب التفاوت في الامن والخوف من العدو، فكلما كان الخوف أكثر كان الثواب في المقام أكثر.
أو بحسب تفاوت منفعة المسلم (5) بمقامه، فان أصل هذا الثواب لاعزاز الدين وتحصيل المنفعة للمسلمين بعمله.
قال عليه السلام: " خير الناس من ينفع الناس ".
__________
(1) ه " بلا اعزاز ".
(2) سورة الانفال، 8، الآية 60.
(3) ه، ط " يفعله ".
(4) ه، ط " المفاوز ".
(5) ط " المسلمين ".
[ * ](1/7)
أو بحسب تفاوت الاوقات في الفضيلة، وبيانه في حديث رواه مكحول عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لرباط يوم في سبيل الله صابرا محتسبا من وراء عورة المسلمين في غير شهر رمضان، أفضل
عند الله من عبادة مائة سنة صيام نهارها وقيام ليلها.
ولرباط يوم في سبيل الله صابرا محتسبا من وراء عورة المسلمين في شهر رمضان، أفضل عند الله تعالى من عبادة ألف سنة صيام نهارها وقيام ليلها.
ومن قتل مجاهدا ومات مرابطا فحرام على الارض أن تأكل لحمه ودمه، ولم يخرج من الدنيا حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وحتى يرى مقعده من الجنة، وزوجته من الحور العين، وحتى يشفع في سبعين من أهل بيته، ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة ".
وفى قوله (1): " أجير من فتنة القبر " دليل لاهل السنة والجماعة على ان عذاب القبر حق، فان الفتنة هنا بمعنى العذاب.
قال الله تعالى { ذوقوا فتنتكم } (2).
وكقوله تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } (3) أي عذبوا.
وأصل الفتنة الاختبار.
يقول (4) الرجل: فتنت الذهب إذا ادخله النار ليختبره.
ومنه قوله تعالى { وهم (14 ب) لا يفتنون } (5) أي لا يبتلون.
وقوله تعالى { وفتناك فتونا } (6) وقوله تعالى { إنهى إلا فتنتك } (7) بمعنى الابتلاء أيضا.
ومنه يقال: فتانا القبر لمنكر ونكير، فانهما يختبر ان صاحب القبر بالسؤال عن إيمانه.
وقيل معنى قوله أجير من فتنة القبر أي من ضغطة القبر.
فكل أحد
__________
(1) ه " وفى قوله عليه السلام ".
(2) سورة الذريات، 51، الآية 14.
(3) سورة البروج، 85، الآية 10.
(4) ه " لقول ".
(5) سورة العنكبوت، 29، الآية 2.
(6) سورة طه، 20، الآية 40.
(7) سورة الاعراف، 7، الآية 155.
[ * ](1/8)
يبتلى بهذا إلا من عصمة الله تعالى منه، على ما روى أنه لما سوى التراب على سعد بن معاذ رضى الله عنه تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " الله أكبر، الله أكبر، " فارتج البقيع بالتكبير.
فقيل له في ذلك، فقال: " إنه ضغطه القبر ضغطة اختلفت منها أضلاعه، ثم فرج الله عنه.
ولو نجا أحد من ضغطه القبر لنجا هذا العبد الصالح ".
ولكن (1) في حديث عائشة رضى الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " تلك الضغطة للمؤمن بمنزلة الوالدة الشفيقة يشكو إليها ابنها البار بها الصداع، فتضع يدها على رأسه تغمزه، وهى للمنافق بمنزلة البيضة تحت الصخرة ".
ومعنى هذا الوعد في حق من مات مرابطا والله أعلم أنه في حياته كان يؤمن المسلمين بعمله فيجازى في قبره بالامن مما يخاف منه.
أو لما اختار في حياته المقام في أرض الخوف والوحشة لاعزاز الدين يجازى بدفع الخوف والوحشية عنه في القبر، كما روى أن الصائمين (2) إذا خرجوا من قبورهم يوم القيامة يؤتون بالموائد يأكلون ويشربون والناس جياع عطاش في القيامة (3) لانهم اختاروا الجوع والعطش في الدنيا فجازاهم الله بإعطاء الموائد في الآخرة.
وقوله: وأجرى عليه عمله ونمى له عمله (4) فذلك في كتاب الله عزوجل قال الله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } (5).
وقال عليه السلام: " من مات في طريق الحج كتب الله له حجة مبرورة في كل سنة ".
فهذا هو المراد أيضا في حق كل من مات مرابطا لانه (6) يجعل بمنزلة المرابط إلى فناء الدنيا فيما يجرى له في الثواب.
__________
(1) ه، ط " الا إن في ".
(2) ه، ط " كما روى في الحديث أن المرابطين..".
(3) ه، ط " في القيامة في الحساب " وقوله في الحساب لا توجد في سائر النسخ.
(4) قوله " ونمى له عمله " ساقطة في ه، ط.
(5) سورة النساء، 4، الآية 100.
(6) ط، ه " ولانه ".(1/9)
والمعنى في ذلك أنه كان بنيته استدامة الرباط لو (1) بقى حيا إلى فناء الدنيا، والثواب بحسب النية.
قال عليه السلام: " الاعمال بالنيات ".
4 - وروى محمد بإسناده عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه قال: ألا أنبئكم بليلة هي أفضل من ليلة القدر: حارس يحرس في سبيل الله في أرض خوف لعله لا يؤوب إلى أهله أو رحله.
في الحديث حث (2) على الحراسة للغزاة في أرض الحرب، فقد جعل ليلة الحارس أفضل من ليلة القدر التى هي خير من ألف شهر (15 آ).
وكان المعنى فيه أن الحارس يسعى لازالة الخوف عن المسلمين، والذى يحيى ليلة القدر يسعى في فكاك نفسه.
وقد روى هذا مرفوعا في حديث رواه أبو هريرة رضى الله عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمقام ساعة في سبيل الله تعالى أفضل من إحياء ليلة القدر عند الحجر الاسود ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة أعين لا تمسسها (3) نار جهنم: عين فقئت في سبيل الله، وعين بكت
من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ".
وقوله: لا يؤوب إلى أهله (4) أي يستشهد في وجهه فلا يرجع إلى أهله.
وفيه إشارة إلى أن الحارس في أرض الحرب يعرض نفسه لدرجة الشهادة لانه سلم ما باع (5) من الله تعالى على ما قال الله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم.
الآية } (6).
__________
(1) ط " أن لو ".
(2) ط، ه " وفيه حث ".
(3) ط " لا تمسها ".
(4) ط " رحله ".
(5) ط " ويسلم ما باعه قال تعالى..".
(6) سورة التوبة، 9، الآية 111.
[ * ](1/10)
5 - قال محمد رحمه الله: أخبرنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: من صام يوما في سبيل الله بعدت منه جهنم مسيرة خمسين عاما للراكب المجد لا يفتر ولا يعرس.
لا يفتر أي لا يضعف، ولا يعرس أي لا ينزل في آخر الليل، وهو التعريس.
والمراد من الحديث أن يجمع بين الصوم والجهاد، فالطاعات (1) كلها سبيل الله تعالى لانه يبتغى بها رضاء الله تعالى، غير أن عند الاطلاق يفهم منه الجهاد.
والجمع بينهما أشد على النفس فيكون أفضل، على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الاعمال قال: " أحمزها (2) "، أي أشقها على البدن.
وهذا أبلغ في قهر النفس الامارة (3).
وما روى (4) عن أبى حنيفة رضى الله عنه أنه كره الجمع بين الصوم والمشى في طريق مكة.
فلذلك للتحرز عن الجدال في الحج.
وإليه أشار أبو حنيفة رحمه الله فقال: إذا جمع بينهما ساء خلقه وجادل رفيقه والجدال في الحج منهى عنه (5).
وأما إذا أمن ذلك فهو أفضل.
ثم بين مسافة (6) تبعيد جهنم خمسين عاما.
6 - وذكر بعد هذا عن عمرو بن عنبسة (6) السلمى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوما في سبيل الله تعالى بوعد (8) من النار مسيرة مائة عام.
__________
(1) ه " فالطاعة ".
(2) ساقطة في ط.
(3) ط، ه " الامارات بالسوء ".
(4) ط، ه " والذى يروى أن أبا حنيفة كان يكره الجمع..".
(5) ساقطة في ب، أ.
(6) ب، أ، ط " بين في مسافة ".
(7) ه " عبسة " أ " عنيسة ".
(8) ه " يبعد ".
[ * ](1/11)
وفى هذا اللفظ للعلماء قولان: أحدهما الاجراء على ظاهره أن جهنم تبعد منه.
ويؤيد هذا بقوله تعالى { أولئك عنها مبعدون.
لا يسمعون حسيسها } (1) لان (2) المراد من التبعيد الامن منه، لان من كان أبعد عن جهنم كان آمنا منها (3).
والتفاوت بين الحديثين في التقدير بحسب التفاوت في نية المجاهد (15 ب) أو يكون المراد هو المبالغة في بيان تبعيد جهنم منه لا حقيقة المسافة،
وذكر السبعين والخمسين والمائة للمبالغة في لسان العرب.
وأيد هذا قوله تعالى { إن تستغفر لهم سبعين مرة } (4).
7 - وعن عمر (5) رضى الله عنه أنه كان يهتف بأهل مكة فيقول: يا أهل مكة ! يا أهل البلدة ! ألا التمسوا الاضعاف المضاعفة في الجنود المجندة والجيوش السائرة.
ألا وإن لكم العشر (6) ولهم الاضعاف المضاعفة.
وهذه خطبة الاستنفار لتحريض (7) الناس على الجهاد.
وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن.
كما قال تعالى { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } (8) ثم اقتدى به عمر رضى الله عنه في تحريض أهل مكة حين تقاعدوا عن الجهاد.
__________
(1) سورة الانبياء، 21، الآية 101، 102.
(2) ط، ه " والثانى أن المراد " وهو خطأ.
(3) ط، ه " كان آمن منه ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 80.
(5) ط، ه " عمر بن الخطاب ".
(6) ه " العشرة ".
(7) ط، ب " للتحريض على الجهاد ".
(8) سورة الانفال، 28 الآية 65.
[ * ](1/12)
وفى الحديث دليل على أن المجاورة بمكة مشروعة.
ينال بها (1) الثواب.
أشار إليه عمر رضى الله عنه في قوله: ألا إن لكم العشر (2)، ولكن الثواب في الجهاد في سبيل الله أعظم، فحثهم على الجهاد ببيان تحصيل أعلى الدرجات لكى
لا يتخلفوا عن الجهاد معتمدين على أنهم جيران بيت الله وسكان حرمه.
واعتمد فيما ذكر من الاضعاف المضاعفة على قوله { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله.
إلى قوله..والله يضاعف لمن يشاء } (3).
فإذا كان هذا موعودا لمن ينفق المال في سبيل الله فمن يبذل نفسه في سبيل الله فهو أولى.
والذى يروى عن أبى حنيفة رحمه الله أنه كره (4) المجاورة بمكة، فتأويله معنيان.
أحدهما أنه من كثر مقامه بمكة يهون البيت في عينه لكثرة ما يراه، أو لكى لا يبتلى في الحرم بارتكاب الذنوب.
قال الله تعالى { ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } (5).
8 - وذكر بعد هذا عن عمر رضى الله عنه [ أنه ] قال: لا تزال هذه الامة على شرعة من الاسلام حسنة، وفى رواية شريعة من الاسلام (16 آ)، هم فيها لعدوهم قاهرون وعليهم ظاهرون، ما لم يصبغوا الشعر ويلبسوا المعصفر ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم.
فإذا فعلوا ذلك كانوا قمنا أن ينتصف منهم عدوهم.
في الحديث بيان النصرة لهذه الامة ما داموا مشتغلين (6) بالجهاد.
__________
(1) ه، " وهو سبب الثواب ".
(2) ه " العز " وهو خطأ.
(3) سورة البقرة، 2، الآية 261.
(4) ط، ه " أنه استحب لمن فرغ من الحج أن يرجع إلى أهله، فليس ذلك لكراهة المقام، بل لئلا تنقص حرمة البيت في قلبه بكثرة ما يراه، ولئلا يبتلى..".
(5) سورة الحج، 22، الآية 25.
(6) ط، ه " مشغولين ".
[ * ](1/13)
قال الله تعالى (1) { إن تنصروا الله ينصركم } (2).
وفيه بيان أنهم إذا اشتغلوا (3) بالدنيا واتبعوا اللذات والشهوات وأعرضوا عن الجهاد يظفر (4) عليهم عدوهم.
ومعنى قوله كانوا قمنا أي خليقا وجديرا.
ثم كنى عن اتباع الشهوات بأن يصبغوا الشعر، يريد به (5) الخضاب لترغيب النساء فيهم.
فأما نفس الخضاب فغير مذموم بل هو من سيما المسلمين.
قال عليه السلام: " غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود ".
وقال الراوى: رأيت أبا بكر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته كأنها ضرام عرفج، بنصب العين ورفعه مرويان.
يريد به أن كان مخضوب اللحية.
فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين الاعداء كان ذلك محمودا منه.
فأما إذا فعل ذلك في حق النساء فعامة المشايخ على الكراهة وبعضهم جوز ذلك.
وقد روى عن أبى يوسف أنه قال: كما يعجبنى أن تنزين لى يعجبها أن أتزين لها.
وقوله: ويلبسوا (6) المعصفر، فيه دليل على أن لبس الثواب الاحمر مكروه.
وقد جاء في حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر (7)، وعن القراءة في الركوع.
وقال عليه السلام: " إياكم والحمرة فانها زى الشيطان (8) ".
وفى حديث سعد: رأني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ملحفة حمراء فأعرض عنى بوجهه، فذهبت وأحرقتها، ثم رأني فقال: ما فعلت بالملحفة ؟ قلت: أحرقتها حين
__________
(1) ط، ه " وبيان ذلك في قوله تعالى ".
(2) سورة محمد، 47، الآية 7.
(3) ط، ه " ركنوا إلى الدنيا ".
(4) ط، ه " ظهر ".
(5) ط، ه " يعنى يغير والشيب بالخضاب ".
(6) ب، أ " ويلبس ".
(7) ه، ط " نهانى رسول الله..أن ألبس المعصفر ".
(8) ب، أ " الشياطين ".(1/14)
رأيتك أعرضت عنى فقال: هلا أعطيتها بعض أهلك ؟ وما روى بعد هذا من حديث البراء بن عازب رضى الله عنه أنه قال: ما رأيت ذا لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانما كان ذلك في الابتداء ثم كره استعمالها للرجال بعد ذلك.
وما روى عن الشعبى أنه كان يلبس المعصفر، فانما فعل ذلك فرارا من القضاء، فانهم أرادوه للقضاء مرارا فلبس المعصفر ولعب الشطرنج وكان يخرج مع الصبيان لنظر الفيل.
حتى رأوا ذلك منه فتركوه.
وقوله: ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم، أي التزموا الخراج واشتغلوا بالزراعة وقعدوا عن الجهاد.
فظاهر هذا اللفظ حجة لمن كره الاشتغال بالزراعة.
وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم (16 ب) أنه رأى شيئا من آلات الحراثة (1) في بيت قوم.
فقال: " ما دخل هذا بيت قوم إلا ذلوا حتى كر عليهم عدوهم (2) ".
ولكن تأويله عندنا إذا أعرضوا عن الجهاد.
فأما بدون ذلك فلا بأس بالاشتغال بالزراعة، فان النبي صلى الله عليه وسلم ازدرع بالجرف، هو اسم موضع (3).
ولا بأس بالتزام الخراج وتملك الاراضي الخراجية، فان الصغار في خراج الرؤوس لا في خراج الاراضي، فان ابن مسعود والحسن بن على وأبا هريرة كانت لهم أراض خراجية بسواد العراق،
وكانوا يؤدون الخراج منها.
9 - وذكر محمد رحمه الله بعد هذا عن عثمان رضى الله عنه أنه قام في أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة ! خذوا بحظكم من الجهاد في سبيل الله.
ألا ترون إلى إخوانكم من أهل الشام وأهل المصر وأهل
__________
(1) ه، ط " الزراعة ".
(2) قوله " حتى كر عليهم عدوهم " ساقط في ه، ط وهى فيهما بعد قوله بعد اعرضوا عن الجهاد.
(3) قوله " هو اسم موضع " لا يوجد في ه، ط.
والجرف موضع قرب المدينة.(1/15)
العراق ؟ فوالله ليوم يعمله أحدكم في سبيل الله تعالى خير له من ألف يوم يعمله في بيته صائما قائما لا يفطر ولا يفتر.
ومعنى قوله قام بأهل المدينة يعنى قام خطيبا، وهذا أيضا كانت خطبة استنفار لاهل المدينة كما فعل عمر رضى الله عنه بأهل مكة.
وفيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف صادقا بالله، وإن لم يكن له حاجة إلى ذلك، فإن عثمان رضى الله عنه حلف على ما ذكر من الوعد للمجاهد في سبيل الله وكان مستغنيا عن ذلك.
ثم عيرهم عثمان باخوانهم من أهل الشام ومصر [ والعراق ]، فإنهم لم يتقاعدوا عن الجهاد، تحريضا لهم على الجهاد.
ومعنى هذا التفصيل ما بينا أن في الجهاد إعزاز الدين وقهر المشركين ودفع شرهم عن المسلمين.
وذلك غير ظاهر في عمل من يقيم في أهله بالمدينة.
10 - وذكر بعد هذا عن طاووس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى بعثنى بالسيف بين يدى الساعة، وجعل رزقي
تحت رمحي أو ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم ".
والمراد بقوله: بعثنى بالسيف أي بعثنى بالقتال (1) في سبيل الله كما قال عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس [ حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] " (2)، ولان القتال في حق غيره من الانبياء لم يكن مأمورا به وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وصفته في التوراة: نبى الملحمة عيناه حمراوان من شدة القتال.
__________
(1) ه، ط " لاقاتل ".
(2) الزيادة في ه، ط.(1/16)
وفى صفة أمته (1): أناجليهم في صدورهم، وسيوفهم على عواتقهم.
وإليه أشار في قوله عليه السلام: " السيوف أردية الغزاة ".
وفى حديث سفيان بن عيينة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف: سيف لقتال المشركين باشر به القتال بنفسه.
وسيف لقتال أهل الردة كما قال تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } (2) فقاتل به أبو بكر رضى الله عنه (17 آ) بعده في حق مانعي (3) الزكاة.
وسيف لقتال أهل الكتاب والمجوس كما قال تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله.
إلى أن قال: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (4) فقاتل به عمر رضى الله عنه.
وسيف لقتال المارقين كما قال تعالى { فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله } (5) فقاتل به على رضى الله عنه على ما روى عنه أنه قال: أمرت بقتال المارقين والناكثين (6) والقاسطين.
وقوله بين يدى الساعة أي بالقرب من القيامة (7).
قال الله تعالى
{ أقترب الساعة } (8) وقيل في تفسير قوله (9) { فيم أنت من ذكراها } (10) فيم السؤال عن الساعة وأنت من أشراطها ؟ ومعنى قوله: وجعل رزقي تحت رمحي أو ظل رمحي، قيل هذا كان في ابتداء الاسلام (11) كان الغازى إذا جنه الليل فركز رمحه عند قوم فعليهم أن يضيفوه، فإن لم يفعلوا ذلك حتى أصبح كان متمكنا من أن يغرمهم،
__________
(1) ب " امنه "، ط، ه " هذه الامة ".
(2) سورة الفتح، 48، الآية 16.
(3) ب، أ " مانع ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(5) سورة الحجرات، 49، الآية 9.
(6) ب، أ " الناكبين ".
(7) ط، ه " من قيام الساعة ".
(8) سورة القمر، 54، الآية 1.
(9) ط، ه " في معنى قوله ".
(10) سورة النازعات، 79، الآية 43.
(11) ه، ط " كان في الابتداء ".
م - 2 السير الكبير [ * ](1/17)
ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلى بطيبة نفس منه ".
وقيل المراد به حل الغنائم لهذه الامة، فانها [ ما ] كانت تحل لاحد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك في قوله تعالى { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: " خصصت بخمس "
وذكر من جملتها حل الغنائم.
ولم يرد بالظل حقيقة الظل، لكن أراد به الامان.
ومنه قوله: السلطان ظل الله في الارض.
يريد به الامان.
ومعنى قوله: وجعل الذل والصغار على من خالفني أي ذلك الشرك لقوله تعالى { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } (2) فهذا بيان الذل على المشركين.
وقيل المراد من الصغار صغار الجزية على ما قال تعالى: { وهم صاغرون } (3) وقوله من تشبه بقوم فهو منهم، أي تشبه بالمجاهدين في الخروج معهم والسعى في بعض حوائجهم وتكثير سوادهم، فيكون منهم في استحقاق الغنيمة في الدنيا والثواب في الآخرة.
وفى مثل هذا قال عليه السلام: " هم القوم لا يشقى ؟ ؟ جليسهم ".
في حق العلماء.
11 - وذكر بعد هذا عن مكحول قال: لما قتل ابن رواحة قال عليه السلام: " كان أولنا فصولا وآخرنا قفولا، وكان يصلى الصلاة لوقتها ".
في الحديث دليل على أنه لا بأس بالثناء على الميت بما هو فيه، وإنما يكره مجاوزة الحد بذكر ما لم يكن فيه.
ومعنى قوله أولنا فصولا أي من الصف بالخروج إلى المبارزة، وآخرنا قفولا أي رجوعا عن القتال، فبين شدة رغبته في الجهاد وهو مندوب إليه (4).
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 69.
(2) سورة المنافقين، 63، الآية 8.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(4) ط، ه " وهى مندوب إليها ".
[ * ](1/18)
قال تعالى { فاستبقوا الخيرات } (1) وقال تعالى: { وسارعوا إلى مغفرة من
ربكم } (2).
وبين شدة صبره على القتال حيث (17 ب) كان آخرهم رجوعا.
وهو صفة مدح (3).
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } (4).
ثم بين أنه كان يصلى الصلاة لوقتها، أي مع حرصه.
على القتال كان يحفظ (5) الصلاة لوقها، وهو أشق ما يكون على المجاهد، وهو صفة مدح.
قال الله تعالى { حافظوا على الصلوات } (6).
وجاء في تأويل قوله تعالى { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } (7) أنه المحافظة على الصلوات في وقتها.
والحديث حجة على الشافعي فانه يجيز الجمع بين الصلاتين في السفر، والجهاد أبدا يكون في حال ما يكون مسافرا.
ومع هذا مدحه على محافظة الصلوات في وقتها، ولو كان الجمع جائزا لما استقام ذلك.
12 - وذكر بعد هذا عن معبد قال: إذا زرعت هذه الامة نزع منهم النصر وقذف في قلوبهم الرعب.
وروى بعده عن محمد بن كعب قال: قيل لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه في قوله تعالى: { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } (8) أهو التعرب ؟ قال: لا، ولكنه الزرع.
وتأويل (9) الحديثين واحد.
فتأويل الاول: إذا زرعت هذه الامة
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 148.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 133.
(3) ب، آ " مدحه ".
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 200.
(5) ه، ط " يصلى ".
(6) سورة البقرة، 2، الآية 238.
(7) سورة مريم، 19، الآية 87.
(8) سورة آل عمران، 3، الآية 100.
(9) ط، ه " فتأويل الحديثين ما بينا أنهم إذا اشتغلوا بالزراعة مع الاعراض عن الجهاد أصلا..".
[ * ](1/19)
يعنى إذا اشتغلوا بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد أصلا نزع منهم النصر.
فأما إذا اشتغل البعض بالزراعة والبعض بالجهاد فلا بأس به، وينبغى أن يكون كذلك حتى يتقوى المقاتل بما يكتسبه الزراع ويأمن الزارع [ بما ] يذب المقاتل عنه.
قال عليه السلام: " المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ".
وهذا لان الكل إذا اشتغلوا بالجهاد لا يتفرغون للكسب (1) فيحتاجون إلى ما يأكلون ويعلفون دوابهم، فلا يجدون فيعجزون عن الجهاد، فيعود على موضوعه بالنقص.
ثم فهموا من معنى الآية التعرب.
وهو المقام بالبادية وترك الهجرة للقتال.
وكأنهم اعتمدوا في ذلك ظاهر قوله تعالى { الاعراب أشد كفرا ونفاقا } (2) فبين لهم على رضى الله عنه أن المراد هو الاعراض عن الجهاد بالاشتغال بالزراعة، وأيد هذا التأويل قوله تعالى { إن تطيعوا الذين كفروا } (3) وهذا (4) لان طاعة الكفار فيما يطلبون منا، وهم يطلبون منا الاعراض عن الجهاد لا نفس الزراعة.
13 - وذكر عن الحسن البصري أن رجلا وضع قرنا له، أي جعبة، وقام يصلى.
فاحتمل رجل قرنه.
فلما انصرف نظر فلم يرقرنه، فأفزعه ذلك.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يحل لا مرئ مسلم أن يروع أخاه المسلم.
منهم من يروى: فاحتل (5)، أي حله ليخرج بعض ما فيه، ومنهم من
__________
(1) ط، ه " وهذا لانهم لو اشتغلوا عن آخرهم بالجهاد لم يتفرغوا للكسب ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 97.
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 149.
(4) ط، ه " وطاعة الكفار فيما يطلبون منا، وهم كانوا يدعونهم إلى الاعراض عن القتال، لا إلى الزرع مقصودا ".
(5) ط " ماحيل ".
[ * ](1/20)
يروى فاحتل (1) بمعنى احتال.
والاصح هو الاول، والمعنى أنه رفعه على وجه لم يشعر به أحد.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم (18 آ) أنه فعله على وجه المزاح لا على قصد السرقة، ولكن مع هذا قال ذلك، لانه حين لم ير قرنه أفزعه ذلك، والذى مازحه هو الذى أفزعه.
فقال: " لا يحل لامرئ مسلم أن يروع أخاه المسلم ".
فيه بيان عظم حرمة المؤمنين وعظم حرمة المجاهدين في سبيل الله تعالى.
وقد ورد في نظيره آثار مشهورة.
عن الحسن أن رجلا سل سيفه على رجل فجعل يفرقه (2).
فبلغ ذلك الاشعري فقال: لا زالت الملائكة تلعنه حتى غمده.
وفى رواية أغمده (3).
يحتمل أنه أراد به مالكا الاشعري، والاصح أنه أراد أبا موسى الاشعري (4) وهو كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، لان هذا ليس من باب ما يعرف بالرأى.
وفيه دليل على عظم وزر من روع مسلما بأن شهر عليه سلاحا وإن لم يكن من قصده أن يضربه (6).
وجاء في الحديث: " من شهر سلاحا على مسلم فقد أطل دمه ".
أي
أهدره.
وفى قوله: ما زالت الملائكة تلعنه، إشارة إلى هذا.
فإن الملائكة يستغفرون للمؤمن، وإنما يلعنونه إذا تبدلت صفته.
فإنما يحمل على من يفعل ذلك مستحلا قتل المسلم فيصير كافرا أو قاصدا قتله لايمانه.
__________
(1) ط " فاحيل ".
(2) ط " يفرغه ".
(3) ط " حتى أغمده " وقوله " وفى رواية أغمده " لا توجد في ط.
(4) ط " قيل هذا القائل أبو مالك الاشعري، وقيل أبو موسى الاشعري، وهو الاظهر ".
(5) ط " وما قاله كأنه رواه لان..".
(6) ب، أ " نصر به ".
[ * ](1/21)
14 - قال: وذكر عن سليمان بن بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم.
ما من رجل يخالف (1) إلى امرأة رجل من المجاهدين إلا وقد وقف يوم القيامة فيقال له: هذا خانك في أهلك، فخذ من عمله ما شئت.
فما ظنكم ؟ فيه بيان عظم حرمة المجاهدين، لان زيادة حرمة النساء لزيادة حرمة الازواج.
وإليه أشار الله تعالى في قوله { وأزواجه أمهاتهم } (2).
وفى قوله تعالى { نؤتها أجرها مرتين } (3).
ثم إنما استحق هذا الوعيد لان المجاهد خرج من بيته وجعل أهل أمانة عند القاعد، وعند الله تعالى.
فإذا خان في أهله فقد خان في أمانة الله تعالى، ولانه سعى إلى قطع الجهاد (4)، لان المجاهد إذا علم أن غيره يخونه في أهله
لا يخرج، ولا يحل له الخروج من غير ضرورة لان حفظ أهله واجب عليه عينا، والقتال ليس بواجب عليه عينا، ومتى لم يخرج ينقطع الجهاد فيكون هو ساعيا في قطع الجهاد وتقوية المشركين على المسلمين (5) فلهذا قال: إنه يحكم يوم القيامة في عمله يأخذ منه ما شاء.
ثم قال: ما ظنكم، يعنى أتظنون أنه يبقى له شيئا من عمله مع حاجته إليه في ذلك الوقت.
__________
(1) يقال هو يخالف إلى امرأة فلان أي يأتيها إذا غاب عنها زوجها.
(2) سورة الاحزاب، 33، الآية 6.
(3) = =، 33، " 31.
(4) ط، ه " ثم الذى يخون المجاهد في أهله خائن في أمانة أخيه وخائن في أمانة الله تعالى.
والمجاهد خلف أهله عند القاعدين بأمانة الله، وهو الساعي في منع المجاهد من الخروج لانه إذا علم أن غيره..".
(5) ط، ه " وكان بهذه الجناية يقوى المشركين على المسلمين " وبعد هذا زيادة لا توجد في أ، ب وهى " فان المجاهد إذا بلغه ذلك يشتغل به قلبه فلا يجد في القتال، أو يرجع فيقل جند المسلمين، فربما يقع الدبرة على المسلمين.
فلهذا قال.
".
[ * ](1/22)
وبيان هذا في حديث على (18 ب) رضى الله عنه قال: قال رسول الله: " لا تؤذوا المجاهدين، فان الله تعالى يغضب (1) لهم كما يغضب (1) للمرسلين.
ويستجيب (2) لهم كما يستجيب (2) للمرسلين.
ومن آذى مجاهدا في أهله فمأواه النار، ولا يخرجه منها إلا شفاعة المجاهد له إن فعل ذلك ".
15 - قال: وذكر بعد ذلك عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كل أمة رهبانية، ورهبانية أمتى (3) الجهاد.
ومعنى الرهبانية هو التفرغ للعبادة وترك الاشتغال بعمل الدنيا.
وكان ذلك في الامم الماضية بالاعتزال عن الناس والمقام في الصوامع.
فقد كانت العزلة فيهم أفضل من العشرة.
ثم نفى ذلك رسول الله عليه السلام بقوله: " لا رهبانية في الاسلام ".
وبين طريق الرهبانية لهذه الامة في الجهاد، لان فيه العشرة من الناس، والتفرغ عن عمل الدنيا، والاشتغال بما هو سنام الدين.
فقد سمى رسول الله عليه السلام الجهاد سنام الدين.
وفيه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
وهو صفة هذه الامة، وفيه تعرض لاعلى الدرجات وهو الشهادة.
فكان أقوى وجوه الرهبانية.
16 - وذكر بعد هذا عن أبى قتادة أن رسول الله قام يخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الجهاد فلم يدع شيئا أفضل من الجهاد إلا الفرائض.
يريد به الفرائض التى يثبت فرضها عينا، وهى الاركان الخمسة.
والجهاد فرض أيضا لكنه فرض كفاية، والثواب بحسب وكادة الفريضة (4)،
__________
(1) ط، أ " يعف ".
(2) ط، ه " يستحب ".
(3) ط، ه " هذه الامة ".
(4) ب، أ " الفرضية ".
[ * ](1/23)
فما يكون فرضا عينا فهو أقوى، فلهذا استثنى الفرائض من جملة ما فضل رسول الله عليه السلام الجهاد عليه.
قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله ! أرأيت من قتل في سبيل الله هل ذاك مكفر عنه خطاياه ؟ قال: فسكت ساعة حتى ظننا أنه
قد أوحي إليه، ثم قال: نعم.
إذا قتل محتسبا صابرا مقبلا غير مدبر، إلا الدين فإنه مأخوذ به، كما زعم جبريل عليه السلام.
فيه بيان علو درجة الشهداء والشهادة حيث جعل الله [ الشهادة ] سببا لتمحيص الخطايا.
وقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال: " من استشهد في سبيل الله فأول قطرة تقطر من دمه تغفر له جميع ذنوبه، وبالقطرة الثانية يكسى حلة الكرامة، وبالقطرة الثالثة يزوج الحور العين ".
وهو معنى الحديث المعروف: " السيف محاء للذنوب إلا الدين ".
ومن علو حال الشهداء ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " إن الله جعل أرواح من استشهد في إخوانكم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، ثم تأوى إلى قناديل معلقة في ظل العرش.
فلما أصابوا طيب مأكلهم ومشربهم قالوا: (19 آ) ليت إخواننا يعلمون ما نحن فيه فيجدون في الجهاد.
فيقول (1) الله تعالى: إنى مبلغهم عنكم.
وهو تأويل قوله تعالى (2) { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } (3).
ثم هذه الدرجة للشهيد إذا كان راغبا فيها، وذلك بأن (4) يكون محتسبا صابرا مقبلا.
__________
(1) ه، ط " فقال ".
(2) ط، ه " وفى ذلك نزل قوله تعالى ".
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 169.
(4) ط، ه " بأن يكونوا محتسبين صابرين مقبلين ".
[ * ](1/24)
ثم في الحديث بيان شدة الامر في مظالم العباد.
فانه مع هذه الدرجة
للشهيد بين أنه مطالب بالدين، وأنه قال ذلك عن وحى فانه قال: كما زعم جبريل عليه السلام، ليعلم كل أحد أنه لابد من طلب رضا الخصم.
وقيل هذا كان في الابتداء حين نهى رسول الله عليه السلام عن الاستدانة لقلة ذات يدهم لعجزهم عن قضائه.
ولهذا كان لا يصلى على ميت مدين لم يخلف مالا يقضى به دينه (1)، ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام: " من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فهو على ".
وقد ورد نظير هذا في الحج، أن (2) النبي عليه السلام دعا لامته بعرفات فاستجيب له إلا المظالم فيما بينهم.
ثم دعا بالمشعر (3) الحرام صبيحة الجمع، فاستجيب له حتى المظالم.
ونزل جبريل عليه السلام يخبره أن الله تعالى يقضى عن بعضهم حق بعض.
فلا يبعد مثل ذلك في حق الشهيد المدين.
فهذا معنى قولنا إنه دخل فيه بعض اليسر.
17 - وذكر بعد هذا عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رجلا سأل النبي عليه السلام فقال: رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يريد عرض الدنيا.
فقال عليه السلام: لا أجر له.
فأعظم الناس ذلك.
فقالوا للرجل: عد لرسول الله لعلك تفقهه (4)، أي لم تفهمه.
فقال: رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغى عرض الدنيا.
فقال: لا أجر له.
ثم أعاد ثالثا، فقال: لا أجر له.
فيه دليل على أنه لا بأس للسائل أن يكرر السؤال، وأنه لا ينبغى للمجيب
__________
(1) ط، ه " ديونه ".
(2) ط، ه "..في باب الحج فإن.
".
(3) ط، ه " عند المشعر ".
(4) ط، ه " أعد سؤالك لعله لم يفقهه ".
[ * ](1/25)
أن يضجر من ذلك، فرسول الله عليه السلام لم ينكر عليه تكرار السؤال، والصحابة أمروه بالاعادة مع أنهم كانوا معظمين له، وكانوا لا يمكنون أحدا في ترك تعظيمه، فعرفنا أنه ليس في إعادة السؤال ترك التعظيم.
ثم تأويل الحديث من وجهين: أحدهما أن يرى الخارج من نفسه أنه يريد الجهاد ومراده في الحقيقة إصابة المال.
فهذا حال (1) المنافقين في ذلك الوقت، وهذا لا أجر له.
أو يكون المراد أن يخرج على قصد الجهاد ويكون معظم مقصوده تحصيل المال في الدنيا، لا نيل الثواب في الآخرة.
وفى حال مثله قال عليه السلام: " ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
وقال للذى استؤجر على الجهاد بدينارين: " إنما لك ديناراك في الدنيا والآخرة ".
فأما إذا كان معظم مقصوده الجهاد وهو يرغب في ذلك في الغنيمة فهو داخل في جملة مال قال الله تعالى (19 ب) { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } (2) يعنى التجارة في طريق الحج.
فكما أن هناك لا يحرم ثواب الحج فهاهنا لا يحرم ثواب الجهاد.
18 - وقال: وعن خيثمة (3) قال: أتيت أبا الدرداء رضى الله عنه فقلت: رجل أوصى إلى فأمرني أن أضع وصيته حيث تأمرني.
فقال: لو كنت أنا لكنت أضعها في المجاهدين في سبيل الله، فهو أحب إلى من أن أضعها في الفقراء والمساكين.
وإنما مثل الذين ينفق (4) عند الموت كمثل الذى يهدى إذا شبع.
__________
(1) ط، ه " على ما كان عليه حال..".
(2) سورة البقرة، 2 الآية 198.
(3) ط " وعن أبى حنيفة " وهو خطأ.
ب، أ.
" وعن أبى خيثمة وفى رواية عن أبى حنيفة ".
وهو خطأ.
أثبتنا رواية ه.
(4) ب " يعنق " أ " يعتق " أثبتنا رواية ط، ه.
[ * ](1/26)
فيه دليل أن الوصية بهذه الصفة صحيحة (1) بأن تقول للوصي: ضع ثلث مالى حيث أحببت أو حيث أحبه فلان.
وفيه دليل أن الصرف إلى فقراء المجاهدين أولى من الصرف إلى غيرهم.
لان فيه معنى الصدقة والجهاد بالمال، وإيصال منفعة ذلك إلى جميع المسلمين بدفع أدى المشركين عنهم بقوته.
ثم بين أن مع هذا كله لا ينال هذا الموصى [ من الثواب ] (2) ما كان يناله إن لو فعل بنفسه في حياته.
لان في حياته كان ينفق المال في سبيل الله تعالى مع حاجته إليه، وقد زالت حاجته بموته (3).
فهو كالذى يهدى إذا شبع.
وفى نظيره قال عليه السلام: " أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل (4) العيش وتخشى الفقر، لا حتى إذا بلغت هذه - وأشار إلى التراقي - قلت: لفلان كذا ولفلان كذا.
لقد كان ذلك وإن لم تقل ".
19 - وذكر بعد هذا عن مكحول أنه بلغه أن من لم يجاهد أو لم يعن مجاهدا أو لم يخلفه في أهله بخير، أصابته قارعة قبل يوم القيامة.
والقارعة هي الداهية التى لا يحتملها المرء ولا يتمكن من ردها.
قال الله تعالى { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } (5) الآية.
وفى هذا بيان فضيلة الجهاد، ونيل الثواب بالاغاثة للمجاهد، وعظم وزر من خان المجاهد في أهله.
وكأن هذه الخصال الثلاث يعنى ترك الجهاد، وترك إعانة المجاهدين، والخيانة للمجاهد في أهله، لا تجتمع إلا في منافق.
والوعيد
المذكور لائق بحق المنافقين.
__________
(1) ط، ه " فيه دليل صحة الوصية بهذه الصفة ".
(2) الزيادة من ط، ه.
(3) ط، ه " لموته ".
(4) ط " مائل " وهو خطأ.
(5) سورة الرعد، 13، الآية 31.
[ * ](1/27)
20 - قال: وذكر عن الحسن رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ربكم (1) من خرج مجاهدا في سبيلى ابتغاء مرضاتي فأنا عليه ضامن أو هو على ضامن، إن قبضته أدخلته الجنة، وإن رجعته رجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة.
وفى الحديث بيان ما وعد الله تعالى للمجاهد في سبيله من الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ولفظ الضمان المذكور في الحديث لبيان الموعود على سبيل المجاز والتوسع في العبارة (2)، ولا يجب لاحد على الله (20 آ) تعالى ضمان في الحقيقة.
فيكون دليلا على أنه لا بأس بالتوسع بمثل هذه العبارة، فيقال: إن الله ضمن الرزق لعباده، أو يقال: رزق العباد على الله تعالى.
ويكون المراد به أن وعد لهم ذلك، وهو لا يخلف الميعاد.
21 - قال: وذكر عن الحسن قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من المسلمين فقال: ضعفت عن الجهاد، ولى مال، فمرنى بعمل إذا عملته كنت بمنزلة المرابط.
قال: مر بالمعروف، وانه عن المنكر، وأعن الضعيف، وأرشد الاخرق، فإذا فعلت ذلك كنت
بمنزلة المرابط.
في الحديث بيان علو درجة المرابط، فان الرجل إذ (3) عجز عن ذلك طلب من رسول الله عليه السلام أن يرشده إلى ما يقوم مقام المرابط (4) في
__________
(1) ه " فيما تأثر عن ربه "، ط " فيما يروى عن ربه ".
(2) ه " العبادة " وهو خطأ.
(3) ط، ه " لما ".
(4) ط، ه " المرابطة ".
[ * ](1/28)
الثواب.
وقد أرشده رسول الله عليه السلام إلى ذلك فيما قال (1)، لان الجهاد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو الشرك، وإعانة الضعيف من المسلمين بدفع أذى المشركين عنهم، وإرشاد الاخرق وهو المشرك.
فمن فعل ذلك بحسب ما يقدر عليه بنفسه أو بماله فهو بمنزلة المرابط.
22 - قال: وذكر بعد هذا عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: إذا تبايعتم بالعين، واتبعتم أذناب البقر، وكرهتم الجهاد، ذللتم حتى يطمع فيكم عدوكم.
العين جمع عينة وهو نوع بيع أحدثه البخلاء من أكلة الربا للتحرز عن محض الربا.
وقد بينا صورته في " الجامع الصغير " وإنما كره ذلك ابن عمر رضى الله عنه لان فيها إظهار البخل وترك الانتداب إلى ما ندب إليه الشرع من إقراض المحتاج.
وقوله: واتبعتم أذناب البقر، أي اشتغلتم بالزراعة وتركتم الجهاد أصلا.
وقد بينا أن ذلك سبب لطمع العدو في المسلمين وكرتهم (2) عليهم فيذلون بذلك.
23 - وذكر بعد هذا عن ضمرة بن حبيب أن النبي عليه السلام قال: أعظم القوم أجرا خادمهم.
وفى الحديث (3) حث على الرغبة في خدمة المجاهدين وتعهد دوابهم (4) فمن فعل ذلك كان له مثل أجر المجاهدي مع استحقاق صفة السيادة في الدنيا.
__________
(1) قوله " فيما قال " ساقط من ط، ه.
(2) ب.
أ " كربهم ".
(3) ط، ه " وفيه ".
(4) ط، ه " وتعهد حالهم ودوابهم ".
[ * ](1/29)
قال عليه السلام: " سيد القوم خادمهم ".
هذا لان المجاهد لا يتفرغ للجهاد إلا إذا كان له من يطبخ ويربط دابته، فأما إذا لم يكن احتاج إلى أن يفعل بنفسه فيتقاعد عن الجهاد، فكان الخادم سببا للجهاد.
24 - وذكر بعد هذا عن مجاهد قال: أردت الجهاد فأخذ ابن عمر بركابي.
فأبيت ذلك عليه فقال: أتكره لى الاجر ؟ فقد بلغنا أن خادم المجاهدين في أهل الدنيا بمنزلة جبريل في أهل السماء.
25 - وذكر بعد هذا عن مجاهد، عن تبيع، وهو ابن امرأة كعب - عن كعب قال: إذا (20 ب) وضع الرجل رجله في السفينة خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه.
المائد فيه كالمتشحط في دمه في سبيل الله، والغريق فيه له مثل أجر شهيدين، والصابر فيه كالملك على رأسه التاج.
قال محمد رحمه الله: وبه نأخذ، فنقول لا بأس بغزو البحر وهو أعظم أجرا من غيره.
ففى هذا دليل على أن مراد كعب إذا ركب السفينة على قصد الجهاد.
وما يقوله كعب فاما أن يقوله من الكتب المنزلة مما لم يظهر ناسخه في شريعتنا، أو يقوله سماعا ممن روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ ثم ] (1) ركوب السفينة على قصد الجهاد إنما كان أفضل لانه أشد وأخوف، وفيه تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله، فينال به درجة الشهيد في تمحيص الخطايا.
__________
(1) الزيادة من ط، ه.
[ * ](1/30)
وقوله المائد (1) فيه يعنى المائل لميل السفينة عند تلاطم الامواج، فهذا كالمتشحط في دمه بعدما استشهد في سبيل الله، لانه معاين سبب الهلاك، آيس من نفسه على هذه الحال.
والغريق فيه له مثل أجر شهيدين، لانه باذل نفسه مرتين: حين ركب السفينة وحين غرقت (2).
وكل ذلك منه لابتغاء مرضاة الله.
والصابر فيه كالملك على رأسه التاج: يعنى إذا لم يندم على ما صنع مع ما عاين من سبب الغرق.
فقد تحقق فيه تسليم النفس فهو في الجنة كالملك.
وإنما شبهه بالملك لان الملك ينال بعض شهواته، والشهيد في الجنة ينال كل شهواته.
قال الله تعالى { وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين } (3) (4).
وإذا ثبت جواز ركوب السفينة للجهاد ثبت جواز ركوبها للحج بالطريق (5) الاولى، لان فريضة الحج أقوى، وكذلك لا بأس بركوبها على قصد التجارة إذا كان الغالب السلامة، وهو لا يمنع حق الله تعالى الذى يلزمه فيما يستفيد من المال.
26 - قال: وذكر بعد هذا عن سهل بن معاذ قال: غزوت مع
عبدالله بن عبدالملك بن مروان في ولاية عبدالملك الصائفة - والصائفة اسم للجيش العظيم الذين يجتمعون في الصيف، ثم يغزون إذا دخل الخريف وطاب الهواء - قال: فنزلنا على حصن سنان (6)، فضيق
__________
(1) أ " المايل ".
(2) ط، ه " غرق ".
(3) سورة الزخرف، 43، الآية 71.
(4) في ط، ه زيادة ليست في النسخ الاخرى هي " وليس للملك الذى على رأسه التاج في الدنيا إلا بعض هذا ".
(5) أ، ب " بطريق ".
(6) ذكر ياقوت أنه في بلاد الروم (معجم البلدان 3: 285).
[ * ](1/31)
الناس المنازل وقطعوا الطريق.
فقال رجل: إنى غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا.
فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا في الناس: ألا من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له.
معنى تضييق المنزل أن ينزل بالقرب من موضع نزول أخيه المسلم بحيث لا يبقى له المربط والمطبخ وموضع قضاء الحاجة.
وهذا منهى عنه، لان كل من نزل بموضع فهو أحق به على ما قال عليه السلام: " منى مناخ من سبق ".
فلا يتمكن من المقام في منزله إلا بما حوله من مواضع قضاء حاجته، فيكون ذلك حريما لمنزله، وكما لا يكون لغيره أن يزعجه عن منزله لا يكون له أن يقطع عنه مرافق منزلة بالتضييق عليه.
ومعنى قطع الطريق أن ينزل على الممر أو بالقرب منه على وجه يتأذى
به المارة (21 آ).
ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزجر عن هاتين الخصلتين في الوعيد ما قال إنه لا جهاد له.
أي لا ينال من ثواب المجاهدين ما يناله من يتحرز عن ذلك، وهذا لان الجهاد شرع لدفع الاذى (1) عن المسلمين، وهذا الحال مؤذ للمسلمين بفعله.
27 - وذكر بعد هذا عن رجل من الكلاعيين، اسم قبيلة (2)، من أصحاب معاذ بن جبل قال: إياكم وهذه السرايا، فإنهم يجبنون ويغلون.
وعليكم بفسطاط المؤمنين وجماعتهم (3).
__________
(1) ط، ه " المجاهد دافع الاذى..".
(2) قوله " اسم قبيلة " لا يوجد في ط، ه.
(3) ط، ه " جماعاتهم ".
[ * ](1/32)
السرية اسم لعدد قليل يدخلون أرض الحرب.
سموا سرية لانهم يسرون بالليل ويكمنون بالنهار.
فكره الخروج معهم في الجهاد، وبين أنهم يجبنون فيفرون لقلة عددهم إذا حزبهم أمر، ويغلون إذا أصابوا شيئا، لانهم لا يصدرون عن رأى أمير مطاع فيهم.
وهذا (1) مروى عن النبي صلى الله عليه وسلم [ فانه قال ] (2): " لا ينزلن في الخيل (3) النفل، يروى مخففا ومشددا، فانهم إن يغنموا يلغوا وإن يقاتلوا يفروا ".
والمراد به العدد القليل الذين يخرجون من دار الاسلام متلصصين من غير أمر الامير.
سماهم نفلا لان مقصودهم النفل وهو الغنيمة، أو لانهم يتنفلون في الخروج، فان الخروج إنما يلزمهم بأمر الامام.
وأما الفسطاط المذكور في حديث معاذ فالمراد به الجيش العظيم.
سمى
فسطاطا وعسكرا لكثرة ما يستصحبونه من الفساطيط.
وفيه دليل على أنه ينبغى للغازي أن يختار الخروج مع هؤلاء لا مع أصحاب السرايا، لقوله عليه السلام: " يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ من النار ".
28 - وذكر بعده حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على الجهاد وبيان درجة الخارج للمبارزة بين الصفين.
وقد قدمنا في هذا الباب ما فيه كفاية.
29 - وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذى نفسي بيده ! لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا، فأقتل ثم أحيا، فأقتل ثم أحيا (4)
__________
(1) ط، ه " وهو ".
(2) الزيادة من ط، ه.
(3) كذا في النسخ ب، أ، ط، وفى ه " الجفل ".
(4) في ه، ط لا توجد ثم أحيا الاخيرة.
م - 3 السير الكبير [ * ](1/33)
كان أبو هريرة رضى الله عنه يقول: أشهد لله أنه قال ثلاثا أشهد لله، أي بالله (1).
فيه بيان درجة الشهادة، فان النبي صلى الله عليه وسلم تمناها لنفسه مع علو درجته، وتمنى تكرار ذلك لنفسه مرة بعد أخرى ليتبين بذلك ما للشهيد عند الله من الدرجات.
وبيان ذلك في حديث أبى أمامة الباهلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يموت وله عند الله خير فيتمنى الرجوع إلى الدنيا،
وله الدنيا بما فيها إلا الشهيد ".
فانه يتمنى الرجوع ليستشهد ثانيا من عظم ما ينال من الدرجة.
وفى حديث جابر رضى الله عنه قال: رأني رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتما فقال: (21 ب) ما لك ؟ فقلت: استشهد أبى وترك دينا وعيالا.
فقال: ألا أبشرك يا جابر، إن الله تعالى كلم أباك كفاحا، أي شفاها (2) فقال: تمن يا عبدالله.
فقال: أتمنى أن أحيا لاقاتل في سبيلك ثانيا فأقتل.
فقال: قد سبق منى القضاء بأنهم إليها لا يرجعون، ولكني أبلغك الدرجة التى لاجلها تتمنى ما تتمنى ".
30 - وذكر عن الحسن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وفيهم ابن رواحة.
فغدا الجيش وأقام ابن رواحة ليشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قضى صلاته رآه فقال: يا ابن رواحة (3) ! ألم تكن في الجيش ؟ قال: بلى.
ولكني أحببت أن
__________
(1) في ط، ه زيادة " فإن اللام والباء يتعاقبان.
يقال أمر له وأمر به ".
(2) ب، أ " مشافها ".
(3) ب، أ " يا ابن أبى رواحة " وهو خطأ.
[ * ](1/34)
أشهد معك الصلاة.
وقد علمت منزلهم فأروح فأدركهم.
فقال: والذى نفس محمد بيده ! لو أنفقت ما في الارض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم.
وفيه حث على الجهاد والتكبير للخروج إلى الجهاد، وأن من كان على عزم الخروج فلا ينبغى أن يتخلف عن أصحابه لاداء الصلاة الجماعة.
ألا ترى أن النبي عليه السلام قال في حق ابن رواحة ما قال، مع أن الصلاة
خلف رسول الله أفضل.
وفى حديث أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ".
فهذا يؤيد ما قلنا.
31 - وعن الحسن قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخطب فقال: يا خير الناس ! فلم يفهم عمر رضى الله عنه ذلك.
فقال: ما تقول ؟ فقالوا له: يقول: يا خير الناس.
فقال له عمر: ادن إلى (1)، لست بخير الناس.
ألا أنبئك بخير الناس ؟ قال: من هو يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر رضى الله عنه: هو رجل من أهل البادية صاحب صرمة إبل أو غنم، قدم بإبله أو غنمه إلى مصر من الامصار فباعها ثم أنفقها في سبيل الله، فكان مسلحة بين المسلمين وبين عدوهم.
فذاك خير الناس.
والصرمة هي القطعة (2).
والمسلحة هي الثغر الذى يوضع فيه السلاح
__________
(1) قوله " ادن إلى " ليس في ط، ه.
(2) في القاموس " الصرمة، بالكسر، القطعة من الابل ما بين العشرين إلى الثلاثين، أو إلى الخمسين والاربعين..".
[ * ](1/35)
أو من يحمل السلاح، ومنه سمى الرجل الذى يحمل السلاح بين يدى السلطان مسلحة.
وإنما قال عمر لست بخير الناس إظهارا للتواضع فقد كان هو خير الناس في أيام خلافته بعد وفاة (1) الصديق رضى الله عنه.
وهو نظير ما يروى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه كان يقول في حال خلافته: اقيلوني (2) فلست بخيركم.
وقد كان خير الناس بعد النبيين والمرسلين كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وإنما جعل عمر رضى الله عنه صاحب الصرمة خير الناس لانه بذل من نفسه وماله لمنفعة المسلمين.
وخير الناس من نفع الناس.
وقد قال عليه السلام: " خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه (22 آ) في سبيل الله كلما سمع هيعة (3) طار إليها ".
ثم قال الرجل: يا أمير المؤمنين ! إنى رجل من أهل البادية، وإنى أجفو عن أشياء من العلم، فعلمني مما علمك رسول الله.
فقال عمر: أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ؟ قال: بلى.
قال: وتقيم (4) الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ؟ قال: بلى.
قال: عليك بالعلانية وإياك والسر.
عليك بكل عمل إذا اطلع عليه منك لم يفضحك، وإياك وكل عمل إذا اطلع عليه منك شأنك وفضحك.
قوله: أجفو عن أشياء أي أجهل.
ولهذا سمى الذين يسكنون القرى والمفاوز أهل الجفاء لغلبة الجهل عليهم.
فبين له عمر رضى الله عنه بما ذكره أنه عالم
__________
(1) ط، ه " بعدما قبض ".
(2) ب، أ " اقتلوني " وهو خطأ.
(3) الهيعة الصوت تفزع منه وتخافه من عدو (القاموس).
(4) ط، ه " قال ألست تقيم..".
[ * ](1/36)
[ وليس بجاهل ] (1).
فكأنه اعتمد قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } (2) والمراد المؤمنون.
ومعنى قوله: عليك بالعلانية، أي بسلوك الطريق الجادة، وهو ما عليه جماعة المسلمين، والتجنب عن المذاهب الباطلة، وهو معنى قوله عليه السلام
" عليكم بدين العجائز ".
والسر ما لا يعرفه جماعة المسلمين.
وقيل معناه عليك في الصحبة مع الناس باتباع العلانية والاكتفاء بما يظهر لك من حالهم، وعليك في معاملة نفسك بكل عمل إذا اطلع عليه منك لم يشنك، يعنى لا تكون سريرتك مخالفة لعلانيتك، وما كنت تتمتع منه (3) إذا كنت مع الناس استحياء منهم فامتنع منه إذا خلوت استحياء من الله تعالى.
ومن لم يفعل ذلك شانه الله وفضحه.
32 - ختم محمد رحمه الله الباب بحديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من مات مرابطا مات شهيدا.
يعنى له من الثواب ما للشهيد لانه بذل نفسه لابتغاء مرضاة الله تعالى، صابرا على المرابطة حتى أتاه اليقين.
والله المعين (4).
__________
(1) الزيادة من ط، ه.
(2) سورة آل عمران، 3 الآية 18.
(3) ط، ه " تمتنع من مباشرته ".
(4) ط، ه " والله أعلم ".
[ * ](1/37)
2 [ باب وصايا الامراء 33 - روى حديث ابن بريدة عن أبيه برواية أبى حنيفة رحمه الله أن النبي عليه السلام كان إذا بعث جيشا أو سرية قال لهم (1): اغزوا باسم الله.
وقد بدأ محمد رحمه الله " السير الصغير " بهذا الحديث، وقد بينا فوائد الحديث هناك.
ثم بين معنى قوله عليه السلام في آخر هذا الحديث: وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم.
أنه إنما كره ذلك لا على وجه التحريم بل التحرز عن الاخفار عند الحاجة إلى ذلك.
فكان الاوزاعي يقول: لا يجوز إعطاء ذمة الله للكفار، ويتمسك بظاهر هذا الحديث، فمقتضى مطلق النهى حرمة المنهى عنه.
وذكر هذا اللفظ في حديث يرويه على رضى الله عنه بطريق أهل البيت أنه قال: " لا تعطوهم ذمة الله ولا ذمتي، فذمتي ذمة الله (2) " وإنما كره لهم عندنا لمعنى في غير المنهى عنه، وهو أنهم قد يحتاجون إلى النقض (22 ب) لمصلحة يرونها (3) في ذلك، وإن ينقضوا عهودهم (4) فهو أهون من أن ينقضوا عهد الله وعهد رسوله.
وقد أشار إلى ذلك في آخر الحديث فقال:
__________
(1) قوله " لهم " لا توجد في ط، ه.
(2) قوله " فذمتي ذمة الله " لا توجد في ه.
(3) ب " يرونه ".
(4) ه " عهدهم ".
[ * ](1/38)
فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير من أن تخفروا ذمة الله تعالى.
والذمة هي (1) العهد قال الله تعالى { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } (2) ومنه سميت الذمة للآدمي فانه محمد الالتزام بالعهد.
والمراد بذممهم وذمم آبائهم الحلف والمحالفة (3) التى كانت بينهم في الجاهلية.
ومعنى الاخفار هو نقض العهد.
يقال: خفروا إذا عاهدوا، وأخفروا إذا نقضوا العهد، وذلك لا بأس به عند الحاجة إليه.
قال الله تعالى: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } (4) منكم ومنهم في العلم، وذلك للتحرز عن العذر.
وفى قوله { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } (5) ما يدل على ذلك.
وأيد ما قلنا قوله عليه السلام: " ثلاثة (6)
أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته، وقال في تلك الجملة: رجل أعطى ذمتي ثم خفر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا ولم يعطه أجره ".
ففيه بيان أنه لا بأس بإعطاء ذمته ولكن يحرم الغدر، وأمراء الجيوش كانوا يعطون الامان بالله ورسوله، ولم ينكر عليهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما.
فدل أنه لا بأس به.
34 - ثم ذكر حديث ابن عمر رضى الله عنه قال: بعث أبو بكر الصديق رضى الله عنه يزيد بن أبى سفيان على جيش، فخرج معه يمشى وهو يوصيه.
فقال: يا خليفة رسول الله ! أنا الراكب وأنت
__________
(1) ب، ه " هو ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 10.
(3) ب، أ " الممالحة ".
(4) سورة الانفال، 8، الآية 58.
(5) سورة التوبة، 9، الآية 1.
(6) ط، ب، أ " ثلاث ".
[ * ](1/39)
الماشي، فإما أن تركب وإما أن أنزل: فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أنا الذى أركب ولا أنت بالذى تنزل.
إنى أحتسب خطاى (1) هذه في سبيل الله.
الحديث.
فيه دليل على أنه ينبغى للمرء أن يغتم المشى في تشييع الغزاة، على أي صفة كان، كما فعله الصديق رضى الله عنه.
وروى أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اغبرت قدماه في سبيل الله وجبت له الجنة ".
وفى حديث أنس رضى الله عنه: " ما اجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف مسلم ".
35 - وذكر محمد بعد هذا حديث أبى بكر رضى الله عنه بطريق آخر أنه أتى براحلته ليركب.
فقال: بل أمشي.
فقادوا راحلته وهو يمشى، وخلع نعليه وأمسكهما بإصبعيه (2) رغبة أن تغبر قدماه في سبيل الله.
وإنما فعل ذلك أبو بكر رضى الله عنه هذا اقتداء برسول الله عليه السلام، فانه حيث بعث معاذا إلى اليمن شيعه ومشى معه ميلا أو ميلين أو ثلاثة أميال.
ونظير هذا ما روى عن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه كان يمشى في طريق الحج ونجائبه تقاد إلى جنبه.
فقيل له: ألا تركب يا ابن رسول الله عليه السلام ؟ فقال: لا.
إنى سمعت رسول الله عليه السلام يقول: " من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسهما (23 آ) نار جهنم ".
فالمستحب لمن يشيع الحاج أو (3) الغزاة أن يفعل كما فعله أبو بكر رضى الله عنه.
__________
(1) ه " بخطاياى ".
(2) ط، ه " باصبعه ".
(3) ه، ط " و ".
[ * ](1/40)
ثم قال: إنى موصيك بعشر فاحفظهن: (1) إنك ستلقى أقواما زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع، فذرهم وما فرغوا له أنفسهم.
وبه يستدل أبو يوسف ومحمد رضى الله عنهما في أن أصحاب الصوامع
لا يقتلون.
وهو رواية عن أبى حنيفة أيضا.
وعن أبى يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة عن قتل أصحاب الصوامع فرأى قتلهم حسنا.
والحاصل أن هذا إذا كانوا ينزلون إلى الناس ويصعد الناس إليهم فيصدرون عن رأيهم في القتال، يقتلون.
فأما إذا أغلقوا (1) أبواب الصوامع على أنفسهم فانهم لا يقتلون.
وهو المراد في حديث أبى بكر رضى الله عنه لتركهم القتال أصلا.
وهذا لا، المبيح للقتل شرهم من حيث المحاربة، فإذا أغلقوا الباب على أنفسهم اندفع شرهم مباشرة وتسبيبا.
فأما إذا كان لهم رأى في الحرب وهم يصدرون عن رأيهم فهم محاربون تسبيبا فيقتلون.
(2) قال: وستلقى أقواما قد حلقوا أوساط رؤوسهم، فافلقوها بالسيف.
والمراد الشمامسة، وهم بمنزلة العلوية فينا.
وهم أولاد هارون عليه السلام.
فقد أشار في هذا الحديث بطريق آخر: وتركوا شعورا كالعصائب.
يصدر الناس عن رأيهم في القتال ويحثونهم على ذلك، فمنهم أئمة الكفر، قتلهم أولى من قتل غيرهم.
وإليه أشار في هذا الحديث بطريق آخر فقال: فاضربوا مقاعد الشياطين (2) منها بالسيوف.
أي في أوساط رؤوسهم المحلوقة.
والله لان
__________
(1) ط، ب، أ " طينوا ".
(2) ه، ط " الشيطان ".
[ * ](1/41)
أقتل رجلا منهم أحب إلى من أن أقتل سبعين من غيرهم.
قال الله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم (1) } والمراد بمقاعد الشياطين شعر (2)
رؤوسهم، وذلك يكون في الرأس كما قال أبو بكر رضى الله عنه في إقامة الحد: اضربوا الرأس فان الشيطان في الرأس.
(3) قال: ولا تقتلن مولودا.
وما من أحد إلا وهو مولود، لكن المراد هو الصبى.
سماه مولودا لقرب عهده بالولادة.
والمراد به إذا كان لا يقاتل.
فسره في الطريق الآخر فقال: لا تقتلن صغيرا ضرعا.
(4) قال: ولا امرأة.
والمراد به إذا كانت لا تقاتل، على ما روى أن النبي عليه السلام مر بامرأة مقتولة فقال: " هاه، ما كانت هذه تقاتل، أدرك خالدا فقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا " (3).
(5) قال: ولا شيخنا كبيرا.
وفى رواية فانيا.
يعنى إذا كان لا يقاتل، ولا رأى له في ذلك، فأما إذا كان يقاتل أو يكون له رأى في ذلك فانه يقتل، على ما روى عن النبي عليه السلام أمر بقتل دريد بن الصمة.
وكان ذا رأى في الحرب، فأشار عليهم أن يرفعوا الظعن إلى علياء بلادهم، وأن يلقى الرجال العدو بسيوفهم على متون الخيل.
فلم يقبلوا رأيه، وقاتلوا مع أهاليهم، وكان ذلك سبب انهزامهم.
وفيه يقول (23 ب) دريد بن الصمة: أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد
__________
(1) سورة التوبة، 29، الآية 12.
(2) ب، أ، ط " شئون " أثبتنا رواية ه.
وفى القاموس " الشؤون موصل قبائل الرأس ".
(3) العسيف الاجير (القاموس).
[ * ](1/42)
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى (1) غوايتهم وأنني غير مهتد فلما كان ذا الرأى في الحرب قتله النبي عليه السلام.
(6 - 8) قال: ولا تعقرن شجرا بدا ثمره، ولا تحرقن نخلا ولا تقطعن كرما.
وبظاهر الحديث استدل الاوزاعي فقال: لا يحل للمسلمين أن يفعلوا شيئا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب، لان ذلك فساد، والله لا يحب الفساد، واستدل بقوله تعالى { وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل } (2)، ولما روى في حديث على رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذا في وصاياه لامراء السرايا.
ذكر أبو الحسن الكرخي الحديث بطوله وقال فيه: إلا شجرا يضركم، أي يحول بينكم وبين قتال العدو.
واستدل أيضا بما روى في الحديث: أوحى الله تعالى إلى نبئ من أنبيائه: من أراد أن يعتبر بملكوت الارض فلينظر إلى ملك آل داود وأهل فارس.
فقال ذلك النبي: أما أهل داود فهم أهل لما أكرمتهم به فمن أهل فارس ؟ فقال: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.
وإذا تبين أن السعي في العمارة محمود تبين أن السعي في التخريب (3) مذموم.
ولكنا نقول: لما جاز قتل النفوس، وهو أعظم حرمة (4) من هذه الاشياء لكسر شوكتهم فما دونه من تخريب البنيان وقطع الاشجار لان يجوز أولى (5).
__________
(1) ط " رأى ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 205.
(3) ه، ط " الخراب ".
(4) لا توجد في ه، ط.
(5) ط، ه " لئن يكون مأذونا فيه أولى ".
[ * ](1/43)
وبيان هذا في قوله تعالى { ولا يطئون موطئا يغيط الكفار ولا ينالون من عدوه نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } (1).
وتأويل حديث أبى بكر ما أشار إليه محمد رحمه الله في " الكتاب " بعد هذا: أنه علم بإخبار النبي عليه السلام أن الشام تفتح وتصير للمسلمين، فنهاهم عن التخريب وقطع الاشجار.
على ما بينه بعد هذا.
وهو تأويل الحديث المروى عن النبي عليه السلام أيضا.
ألا ترى أنه نصب المنجنيق على حصن ثقيف وفيه من التخريب مالا يخفى.
(9 - 10) قال: ولا تذبحن بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشى إلا لاكل.
لما روى أن النبي عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لاكله.
وفى الحديث دليل على أنه يجوز للغانمين تناول الطعام والعلف في دار الحرب، وأن ذبح المأكول للاكل من هذه الجملة.
ثم محمد رحمه الله أعاد هذا الحديث بطريق آخر وزاد في آخره: ولا تغلن.
وفيه بيان حرمة الغلول، وهو اسم لاخذ بعض الغانمين شيئا من الغنيمة سرا لنفسه سوى الطعام والعلف.
وذلك حرام.
قال الله تعالى { ومن يغلل
يأت بما غل يوم القيامة } (2) وقال عليه السلام: " الغلول من جمر جهنم ".
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 120.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 161.
[ * ](1/44)
قال: ولا تجبنن.
وهذا لقوله تعالى { ولا تهنوا } (1) أي ولا تضعفوا عن القتال وإظهار الغزاة الجبن لضعفهم عن القتال.
قال: ولا (24 آ) تفسدن ولا تعصين.
قيل معناه ولا تعصيني فيما أمرتك به، ففائدة الوصية إنما تظهر بالطاعة.
وقيل معناه: إن كنت تطلب النصرة من الله تعالى فلا تعصيه.
36 - ثم أعاد محمد رحمه الله الحديث بطريق ثالث برواية عبدالرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي قال: لما جهز أبو بكر رضى الله عنه الجيوش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهى جيوش على بعضها أمر شرحبيل بن حسنة، وعلى بعضها يزيد بن أبي سفيان، وعلى بعضها عمرو بن العاص، رضوان الله عليهم - وأمرهم بأن يخرجوا ويجتمعوا في بيار شرحبيل، وهى على ستة أميال من المدينة.
وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يجهز جيشا ينبغى له أن يأمرهم بأن يعسكروا خارجا من البلدة في موضع معلوم ليجتمعوا فيه، لان ارتحالهم من ذلك الموضع بعدما اجتمعوا فيه أيسر من ارتحالهم من بيوتهم جملة.
ثم أتاهم أبو بكر رضى الله عنه، وصلى بهم الظهر، ثم قام فيهم
__________
(1) سورة آل عمران، 3، الآية 139.
[ * ](1/45)
فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إنكم تنطلقون إلى أرض الشام وهى أرض سبعة (بالسين).
وفسروه بكثرة السباع المؤذية فيها، وهو تصحيف شبعة أي كثيرة النعم بها يشبع المرء من كثرة ما يرى من النعم، فكأنه رغبهم في التوجيه إليها فقال إنكم تنتقلون من الجوع واللاواء بالمدينة إلى مثل هذه الارض المخصبة.
قال: وإن الله ناصركم، وممكن لكم حتى تتخذوا فيها مساجد فلا يعلم الله أنكم إنما تأتونها تلهيا.
وإنما قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانه قد جاء في حديث معروف عن النبي عليه السلام قال: " إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر " وبهذا يتبين أنه إنما نهاهم عن التخريب وقطع الاشجار لعلمه أن ذلك كله يصير للمسلمين.
وإنما كره لهم أن يأتوها تلهيا لانهم خرجوا للجهاد، والجهاد من الدين.
قال الله تعالى { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } (1) قال: وإياكم والاشر ! ورب الكعبة لتأشرن.
والاشر نوع طغيان يظهر لمن استغنى.
قال الله تعالى { إن الانسان ليطغى.
أن رآه استغنى } (2).
فلهذا أقسم أبو بكر رضى الله عنه أنهم يبتلون بذلك لكثرة ما يصيبون من الاموال مع نهيه إياهم عن ذلك.
ثم الحديث إلى آخره مذكور في الاصل، إلى أن قال: ثم إذا أنا انصرفت من مقامي هذا فاركبوا ظهوركم، ثم صفوا إلى صفا واحدا حتى آتيكم.
وهكذا ينبغى للامام أن يفعل إذا عرض الجيش.
__________
(1) سورة الانعام، 6، الآية 70.
(2) سورة العلق، 96، الآية 6، 7.
[ * ](1/46)
قال: فمر على أولهم حتى أتى على آخرهم، يسلم عليهم ويقول: اللهم اقبضهم بما قبضت به بنى إسرائيل (24 ب) بالطعن والطاعون.
انطلقوا موعدكم الله.
[ وتأويل قوله هذا أنه حثهم على أن يخرجوا لا على قصد الرجوع، فان تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله به يتم، ودعا لهم بالشهادة في قوله: " اللهم اقبضهم بما قبضت به بنى اسرائيل " ] (1).
[ وقيل ] (2) مراده ما قال رسول الله عليه السلام: " فناء أمتى بالطعن والطاعون ".
وقد كان يكثر ذلك بالشام.
فسأل أبو بكر رضى الله عنه لهم درجة الشهادة إن ابتلوا (3) بذلك.
فيه دليل على أنه لا بأس للانسان أن يدعو لغيره (4) بالشهادة لانه وإن كان دعاء بالموت صورة فهو دعاء بالحياة معنى.
وبين أبو بكر أن هذا آخر العهد بلقائهم.
فأما إن كان مراده الاخبار يقرب أجله، أو الاخبار بأنهم لا يرجعون إليه فانه لا يلقاهم قبل القيامة.
قال: فانطلقوا حتى نزلوا بالشام.
وجمعت لهم الروم جموعا عظيمة من مدائن الشام.
فحدث بذلك أبو بكر رضى الله عنه.
فأرسل إلى خالد بن الوليد، وهو بالعراق، أن اصرف (5) بثلاثة آلاف فارس فأمد بهم إخوانك (6) بالشام.
ثم قال: العجل العجل.
فوالله لقرية من قرى الشام أحب إلي من رستاق عظيم من العراق.
__________
(1) هذه الزيادة ساقطة في ب.
(2) ساقطة من ب، أ.
(3) قوله " ان ابتلوا " ساقط في ه.
(4) أ " غيره ".
(5) ه، ط " انصرف ".
(6) أ " اخوانكم ".
[ * ](1/47)
وهكذا ينبغى للامام أنه إذا بلغه كثرة جمع الاعداء (1) على جيش من المسلمين أن يمدهم ليتقووا به، وأن يحث المدد على التعجيل ليحصل المقصود بوصولهم إليهم قبل أن ينهزموا.
فالمنهزم لا يرده شئ.
وإنما قدم أبو بكر الشام على العراق لان الشام بلدة مباركة لانه موضع المرسلين.
قال: فأقبل خالد مغذا جوادا بمن معه (2).
يريد بقوله مغذا أي مسرعا منقادا لما أتى من أمر الخليفة، يقال: أغذ القوم إذا أسرعوا السير.
ثم شق الارض حتى خرج إلى ضمير (3) وذنبة (4) فوجد المسلمين معسكرين بالجابية (5).
قال: فتسامع بخالد أعراب العرب الذين كانوا في مملكة الروم ففزعوا له.
لانه كان مشهورا بالجلادة.
وقد سماه النبي عليه السلام سيف الله وفى ذلك يقول قائلهم: شعر ألا فاصبحينا (6) قبل خيل أبى بكر لعل منايانا قريب وما ندرى وقصة هذا مذكورة في المغازى أن قائل هذا البيت كان رجلا من
__________
(1) ب، أ " أعدائه ".
(2) قوله " بمن معه " ساقط من أ.
(3) قرية في آخر حدود دمشق مما يلى السماوة (ياقوت، معجم البلدان).
(4) موضع من أعمال دمشق (ياقوت، معجم البلدان).
(5) قرية، قرب مرج الصفر في حوران من أعمال دمشق (ياقوت، معجم البلدان).
(6) انظر البلاذرى، فتوح البلدان، ص 132.
وفيه ألا عللاني قبل جيش أبى بكر ".
[ * ](1/48)
عظماء المرتدين أتته جاريته بقصعة فيها شراب.
فأسند ظهره إلى حائط وذكر هذا البيت.
ثم جعل يشرب، فاتفق أن رجلا من أصحاب خالد تسور الحائط (1) فلما سمع (2) ضرب على عاتقه ضربة ندر (3) منها رأسه في القصعة.
قال: فنزل خالد بن الوليد على الامراء الثلاثة.
وسارت الروم من أنطاكية وحلب وقنسرين وحمص وحماة.
وخرج هرقل كارها لمسيرهم متوجها نحو أرض الروم.
وسار باهان في الهرمينية (4) إلى الناس بمن كان معه.
وهرقل ملك الروم، وباهان صاحب جيشه.
فتبين أنهم اجتمعوا عن آخرهم.
واجتمع أمراء المسلمين في خباء يبرمون أمر الحرب بينهم، وعندهم رجل يقال له قضاعة قد بعثوه فاجتس لهم أمر القوم، ثم جاءهم فخلوا به.
أي بعثوه جاسوسا.
وهكذا ينبغى لامير الجيش أن يبعث (25 آ) جاسوسا يأتيه بما يعزم عليه العدو من الرأى، وأن يخلو به إذا رجع لكيلا يشتهر هو، ولكيلا يقف جميع الجيش على ما قصده العدو، فلا يصير ذلك سببا لجبنهم.
قال: فأقبل أبو سفيان يتوكأ على عصاه، فقال: السلام عليكم.
فقالوا: وعليك السلام.
لا تقربنا.
__________
(1) ط " فاتفق أن تسور رجل من المسلمين الحائط وضرب ".
(2) قوله " فلما سمع " ساقط من ط، ه.
(3) ا، ب، ط " بدر " وندر معناه سقط (القاموس).
(4) ه " الهزمنية ".
م - 4 السير الكبير [ * ](1/49)
وإنما قالوا ذلك لانهم كانوا يتهمونه بأنه لم يحسن إسلامه.
فقال أبو سفيان: ما كنت أرى أن أعيش حتى أكون بحضرة قوم من قريش يبرمون أمر حربهم وأنا بينهم ولا يحضروني أمرهم.
وإنما قال هذا لانه كان مشهورا بينهم بالرأى في الحرب.
فقال بعضهم: هل لكم في رأى شيخكم، فإن له رأيا في الحرب.
قالوا: نعم.
فدعوه فدخل.
فقالوا: أشر علينا.
فقال أبو سفيان: أنتم الامراء.
فقالوا: ما بنا غنى عن رأيك.
فقال أبو سفيان: كأنى أرى في المرج تلا عظيما.
قالوا: بلى.
قال: فإنى أرى أن ترتحلوا حتى تجعلوا ذلك التل خلف ظهوركم، ثم تؤمروا عكرمة بن أبى جهل على خيل، وتجعلوا معه كل نابض بوتر - أم رام عن قوس.
فإن لى به خبرا - أي علما بأنه يصلح لذلك - فإذا نادى بلال النداء الاول لصلاة الغداة فليخرج عكرمة، وتلك الرماة معه، فليصف أولئك الرماة عند صدور خيولهم، فإن هاجهم هيج من الليل كانوا مستعدين بإذن الله تعالى.
وهذا رأى حسن أشار به عليهم، وقد كان فعله رسول الله عليه السلام يوم أحد، وكان سببا لانهزام المشركين لولا ما ظهر من عصيان الرماة وهو طلبهم الغنيمة، على ما قال الله تعالى (حتى إذا قشلتم وتنازعتم في الامر ؟ وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) (1).
__________
سورة آل عمران، 3، الآيه 152.
[ * ](1/50)
قال: فقبلوا ذلك من رأى أبى سفيان لعلمهم بأنه قد نصحهم، وأقبلت خيل من الروم عظيمه تريد بياتهم.
فسمعوا رغاء الابل، فلم يشكوا أن العرب قد هربت وأقبلوا عباديد (1).
أي متفرقين.
يقال: طير عباديد إذا كانوا متفرقين.
وسابق بعضهم بعضا من غير تعبية، فوجدوا خيل عكرمة والرماة مستعدين لم تعلم الروم بهم.
فحملوا في وجوه القوم، فلم يزل الله ينصرهم بقتلهم، حتى إذا (2) كادت الشمس تطلع ولوا هاربين إلى عسكرهم عند الواقوصه.
وانصرف عكرمه وأصحابه إلى عسكر المسلمين.
فكان ذلك أول الفتح.
ثم قاتلوهم بعد ذلك، فأرسل باهان إلى خالد بن الوليد أن اخرج إلى حتى اكلمك.
فبرز خالد وبينهما ترجمان.
فقال باهان لخالد: هلم إلى أمر نعرضه عليكم: تنصرفون ونحمل من كان منكم راجلا ونوقر لكم ظهوركم.
وفى رواية: ونوقر لكم طعاما وأداما، والاول أصح ونأمر لكم بدنانير خمسة خمسة، فإنا نعلم أنكم في أرض قليله الخير، وإنما حملكم على المسير ذلك (3).
فقال له خالد: ما حملنا على المسير ما ذكرت من شدة العيش في بلادنا، ولكن قاتلنا من
__________
(1) ط " عناديد " ب، أ " عباديل " والصحيح رواية ه.
وفى القاموس " العباديد الفرق من الناس والخيل، الذاهبون في كل وجه ".
(2) ساقطة من ه.
(3) في ه وحدها زيادة بعد ذلك " قلة خير بلدكم ".
[ * ](1/51)
وراءنا في الامم فشربنا دماءهم، فحدثنا أنه ليس من قوم أحلى دما من الروم، فأقبلنا إليكم لنشرب دماءكم.
فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: حق والله ما حدثنا عنهم يعنون ما أخبرنا به أنهم لا ينصرفون إلا بقبول الدين أو الجزية أو الانقياد لهم شئنا أو أبينا.
37 ثم استدل محمد رحمه الله على جواز قطع النخيل وتخريب البيوت في دار الحرب بقوله تعالى (ما قطعتم من لينه) (1) الآية.
قال الزهري: هو جميع أنواع النخل ما خلا العجوة.
وقال الضحاك: اللينه النخلة الكريمة ؟ والشجرة التى هي طيبة الثمرة.
ونزول الآية في قصه بنى النضير، فإن النبي عليه السلام حين قدم المدينة صالحهم على أن لا يكونوا عليه ولا له.
ثم خرج إليهم يستعين بهم في دية الكلابيين اللذين (2) قتلهما عمرو بن أمية الضمرى، ومعه أبو بكر وعمر وعلى رضوان الله عليهم.
فقالوا: اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما تريد.
ثم خلا بهم حيى (3) بن أخطب فقال: لا تقدرون على قتله في وقت يكون عليكم أهون منه الآن.
فهموا بقتل (4) رسول الله عليه السلام.
وجاء جبريل عليه السلام فأخبر بذلك رسول الله عليه السلام.
فقام توجها إلى المدينة.
وفى ذلك نزل قوله تعالى (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) (5).
ثم سار إليهم فحاصرهم وقال: اخرجوا
من جواري، على أن تأتوا كل عام فتجدوا ثماركم.
فقالوا: لا نفعل.
فحاصرهم خمس عشرة ليلة.
وكانوا قد سدوا دروب أزقتهم، وجعلوا يقاتلون المسلمين
__________
(1) سورة الحشر، 59، الآية 5.
(2) ب، أ " الذين ".
(3) ط " أحى "، أ " حى ".
(4) ط " بقتله ".
(5) سورة المائدة، 5، الآية 11.
[ * ](1/52)
من وراء الجدر، كما قال الله تعالى { لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر } (1).
فجعل المسلمون يخربون بيوتهم ليتمكنوا من الحرب.
وكلما نقبوا جدار بيت من جانب ليدخلوا نقبواهم من الجانب الآخر ليخرجوا إلى بيت آخر، كما قال الله تعالى { تخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } (2).
فلما لحقهم من العسر ما لحقهم، ولم يأتهم أحد من المنافقين، وقد كانوا وعدوا لهم ذلك - أي المنافقين وعدوا بنى النضيرة النصرة، كما قال الله تعالى حكاية عنهم { وإن قوتلتم لننصرنكم } (3).
وقد كان أمر رسول الله بقطع النخيل فقطعت.
وكان العذق (4) أحب إلى أحدهم من الوصيف (5).
فقال بعضهم لبعض: ليس لنا مقام بعد النخيل.
فنادوه.
يا أبا القاسم، قد كنت تنهى عن الفساد فما للنخيل تقطع وتحرق ؟ أتومننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الابل إلا الحلقة - يعنى السلاح - ؟ قال: نعم.
ففتحوا الحصون، وأجلاهم على ما وقع الصلح عليه.
وفى رواية: استعمل رسول الله عليه السلام أبا ليلى المازنى وعبد الله ابن سلام أبا لبابة (6) على قطع نخيلهم.
وكان أبو ليلى يقطع العجوة (7).
وعبد الله يقطع اللون (8).
فقيل لابي ليلى لم قطعت العجوة ؟ قال: لانها كانت أغيظ لهم.
وقيل لابن سلام: لم قطعت اللون ؟ قال: علمت أن الله مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة وهى خيار أموالهم.
ففى ذلك نزل قوله تعالى { ما قطعتم من لينة }.
الآية.
وفى رواية: نادى اليهود من فوق الحصون: تزعمون أنكم مسلمون لا تفسدون (26 آ)، وأنتم تعقرون النخل، والله ما أمر بهذا، فاتركوها
__________
(1) سورة الحشر، 59، الآية 14.
(2) سورة الحشر، 59، الآية 2.
(3) سورة الحشر، 59، الآية 11.
(4) العذق: النخلة بحملها (القاموس) وفى أ " الغدر ".
(5) ط " الوضيف ".
(6) ساقط من ب، أ.
(7) العجوة بالحجاز التمر المخشى، ونوع من التمر بالمدينة (القاموس).
(8) اللون جماعة النخل واحدتها لونة ولينة، أو أردأ التمر (القاموس).
[ * ](1/53)
لمن يغلب من الفريقين.
فقال بعض المسلمين: صدقوا.
وقال بعضهم: بل نعقرها كبتا وغيظا لهم.
فأنزل الله تعالى { ما قطعتم من لينة } رضاء (1) بما قال الفريقان.
38 - واستدل بحديث أسامة بن زيد أن النبي عليه السلام كان عهد أن يغير على أبنى، (2) صباحا ثم يحرق.
وفى رواية: أبيات صباحا.
وهو اسم موضع كان قتل أبوه زيد بن حارثة في ذلك الموضع.
ووجد رسول الله عليه السلام موجدة شديدة على ذلك،
وأمره على ثلاثة آلاف رجل، وأمره (3) أن يذهب بهم إلى ذلك الموضع ويشن الغارة عليهم ثم يحرق.
وقبض رسول الله عليه السلام قبل خروجه، ونفذ أبو بكر رضى الله عنه جيشه كما أمر به رسول الله عليه السلام.
39 - وعن الزهري أن النبي عليه السلام لما مر من أوطاس (4) يريد الطائف بداله قصر مالك بن عوف النصرى (5)، فأمر به أن يحرق.
وفي ذلك قال حسان.
وهان على سراة بنى لؤى * حريق بالبويرة (6) مستطير قال محمد رحمه الله: فقد أمر بتحريق قصره وليس بمحاصر له،
__________
(1) ه " رضى لما ".
(2) موضع بالشام من جهة البلقاء (ياقوت، معجم البلدان).
(3) ه " وامرأة ".
(4) أوطاس واد في ديار هوزان كانت فيه وقعة حنين (ياقوت، معجم البلدان).
(5) ب، أ، ط، " النضرى " والصواب النصرى.
انظر هو المشتبه للذهبي.
(6) البويرة موضع منازل بنى النضير اليهود (ياقوت، معجم البلدان) وفى ط " النويرة " أ " النريرة " وهو خطأ.
[ * ](1/54)
وإنما أمر به لان فيه كبتا وغيظا له.
فقد كان هو أمير الجيش في حصن الطائف.
فعرفنا أنه لا بأس به.
40 - ثم قال: ثم انتهى رسول الله عليه السلام إلى الطائف، فأمر بكرومهم أن تقطع.
وفى ذلك قصة قد ذكرت في المغازى أنهم عجبوا من ذلك وقالوا: النخلة (1) لا تثمر إلا بعد عشر سنين، وكيف العيش بعد قطعها ؟ ثم أظهر
بعضهم الجلادة، فنادوا من فوق الحصن: لنا في الماء والتراب والشمس خلف مما تقطعون.
فقال بعضهم: هذا إن لو تمكنت من الخروج جحرك.
وأمر رسول الله عليه السلام بقطع نخيل خيبر.
حتى مر عمر رضى الله عنه بالذين يقطعون، فهم أن يمنعهم، فقالوا: أمر به رسول الله عليه السلام.
فأتاه عمر رضى الله عنه فقال: أنت [ أمرت ] (2) بقطع النخيل ؟ قال: نعم.
قال: أليس وعدك الله خيبر ؟ قال: بلى.
فقال عمر: إذا تقطع نخيلك ونخيل أصحابك،.
فأمر مناديا ينادى فيهم بالنهي عن قطع النخيل.
قال الراوى: فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم: هذا مما قطع رسول الله عليه السلام.
والنطاة اسم حصن من حصون خيبر.
وقد كانت لهم ستة حصون: الشق، والنطاة، والقموص، والكتيبة (3) والسلالم (4)، والوطيحة (5).
41 - قال: كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى
__________
(1) ب، أ " الحبلة ".
والحبلة بالضم الكرم (القاموس).
(2) من ط، ه.
(3) ط " الكنيسة "، ه " الكسسة " وهما خطأ.
انظر ياقوت مادة الكتيبة.
(4) ط " الملاليم "، ه " السلالة " وهما خطأ.
انظر ياقوت مادة السلالم.
(5) كذا وردت في الاموال لابي عبيد.
وعند ياقوت والبلاذري " الوطيح ".
[ * ](1/55)
خليفته بالشام: انظر من قبلك، فمرهم فلينتعلوا (1) وليحتفوا.
أي يمشوا أحيانا بغير نعل، وأحيانا في النعال ليتعودوا ذلك كله.
وفى رواية: فليتنعلوا (2).
وهو صحيح.
جاء في الحديث: كان رسول الله عليه السلام يجب التيامن حتى في تنعله وترجله.
يعنى ترجيل الشعر.
والمراد بالترجل النزول عن الدابة.
وإنما أمرهم بهذا للاشفاق عليهم حتى إذا (26 ب) ابتلوا بالمشى حفاة في دار الحرب لا يشق عليهم.
وفى قصة الغار قال أبو بكر رضى الله عنه: فنظرت إلى بطن قدم رسول الله عليه السلام حين دخل الغار وهو يقطر دما.
لانه لم يتعود الحفية.
ولهذا استحبوا الاحتفاء في المشى بين الفرضين (3).
قال: وليأتزروا وليرتدوا.
أي لا يخرجوا للصلاة وللناس إلا في إزار ورداء.
فالصلاة إن كانت تجرى في ثوب واحد إذا توشح به، فالمستحب أن يصلى في إزار ورداء.
وإنما أمر بالرداء لانه زى العرب.
قال: وليؤدبوا الخيل.
والمراد به رياضة الخيل لتكون ألين عطفا عند الحاجة، أو ليؤدبوا الخيل على النفار، على ما جاء في الحديث: " تضرب الدابة على النفار ولا تضرب على العثار ".
لان العثار قد يكون من سوء إمساك الراكب للجام، والنفار من سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك.
قال: ولا يظهر (4) لهم صليب.
__________
(1) ط " فليشتغلوا ".
(2) ب " فلينتعلوا ".
(3) ب، أ، ه " العرضين ".
(4) ب، أ، ط، ه " يقر ".
[ * ](1/56)
معناه لا تمنكوا أهل الذمة من إظهار الصليب في أمصار المسلمين والمرور به في الطرق، لان ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين، وما أعطيناهم الذمة
على أن يستخفوا بالمسلمين.
قال: ولا يجاورنهم الخنازير.
ومعناه أنهم يمنعون أهل الذمة من إظهار الخمور والخنازير وبيعها في أمصار المسلمين لان ذلك معصية، ولا يتمكنون من إظهارها، ولكنهم لا يمنعون من أن يفعلوا ذلك في بيوتهم وكنائسهم التى وقع الصلح عليها، لان هذا ليس بأشد من شركهم وعبادتهم غير الله.
ولا يمنعون من ذلك في بيوتهم.
قال: ولا يقعدون على مائدة يشرب عليها الخمر.
وهكذا ينبغى للمسلم أن لا يقعد على مثل هذه المائدة، ولكنه يمنع من شرب الخمر على وجه النهى عن المنكر إن أمكن من ذلك.
وأن لا يجوز من ذلك الموضع، فان اللعنة تنزل عليهم كما قال عليه السلام في أشراط الساعة " تدار الكاس على موائدهم واللعنة تنزل عليهم ".
قال: ولا يدخلن الحمام إلا بإزار.
لان ستر العورة فريضة.
وفى الحديث: " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ولا يدخل (1) حليلته الحمام ".
قال: وإياكم وأخلاق الاعاجم.
يعنى في التنعم وإظهار التجبر، ومما يكون مخالفا لاخلاق المسلمين من أخلاق الاعاجم وهم المجوس.
فقد علمنا أنه لم يرد النهى عماهو من أخلاق المسلمين.
__________
(1) ط " تدخل ".
[ * ](1/57)
ثم بين محمد رحمه الله تفسير الحديث على ما بينا وقال في آخره: فإن أرادوا إظهار شئ مما ذكرنا فليفعلوه خارجا من أمصار
المسلمين.
يعنى في القرى، لان المصر موضع أعلام الدين ففى إظهار (1) ذلك فيها استخفاف بالمسلمين، وذلك ينعدم في القرى.
فأهل القرى كما وصفهم به رسول الله عليه السلام فقال: " هم أهل الكفور، هم أهل القبور ".
يشير إلى جهلهم وقلة تعاهدهم لامر الدين.
قال الشيخ الامام شمس الائمة (27 آ) رحمه الله: والصحيح عندي أن مراد محمد بهذا الجواب قرى الكوفة، فان عامة أهلها (2) أهل الذمة والروافض.
فأما في ديارنا يمنعون من إظهار ذلك في القرى التى يسكنها المسلمون كما يمنعون في الامصار، فان القرى في ديارنا لا تخلو عن مساجد الجماعة، وعن واعظ يعظهم عادة، وذلك من أعلام الدين أيضا.
42 - وذكر عن أبى أسيد الساعدي أن النبي عليه السلام قال يوم بدر: إذا كثبوكم فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم.
ومعنى قوله كثبوكم قربوا منكم وازدحموا عليكم.
وهو أدب حسن أمرهم بأن يدفعوا العدو عن أنفسهم بالرمي عند الحاجة.
وهذا حين كان نهاهم عن القتال، على ما روى في القصة أنه حين دخل العريش مع أبى بكر رضى الله عنه للمناجاة نهى الناس عن القتال وقال هذه المقالة.
__________
(1) ط " اجهار ".
(2) ط " فعامتها ".
[ * ](1/58)
وفى قوله: ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم، بيان أنه لا ينبغى للغازي أن يسل سيفه حتى يصير من العدو بحيث تصل إليه ضربته، لا أن ذلك مكروه في الدين، ولكنه من مكايدة العدو، فبريق السيف مخوف للعدو في أول ما يقع
بصره عليه.
وقيل إن سل السيف قبل أن يقرب من العدو فشل.
قال الله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } (1).
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 46.
[ * ](1/59)
3 [ باب الامارة ] 43 - قال: ينبغى للامام إذا بعث سرية قلت أو كثرت أن لا يبعثهم حتى يؤمر عليهم بعضهم.
وإنما يجب هذا اقتداء برسول الله عليه السلام فانه داوم على بعث السرايا وأمر عليهم (1) في كل مرة.
ولو جاز تركه لفعله مرة تعليما للجواز، ولانهم يحتاجون إلى اجتماع الرأى والكلمة، وإنما يحصل ذلك إذا أمر عليهم بعضهم حتى إذا أمرهم بشئ أطاعوه في ذلك، فالطاعة في الحرب أنفع من بعض القتال.
ولا تظهر فائدة الامارة بدون الطاعة.
قال عليه السلام: " من أطاعنى فليطع أميرى، ومن عصى أميرى فقد عصاني ".
44 - ثم استدل محمد (2) رحمه الله على ما قلنا بحديث عبدالرحمن ابن عوف رضى الله عنه أن النبي عليه السلام قال: إذا اجتمع ثلاثة نفر فليؤمهم أكثرهم قرآنا وإن كان أصغرهم.
وإنما قدمه لانه أفضلهم ثم قال: إذا (3) أمهم فهو أميرهم، فذلك أمير أمره رسول الله عليه السلام.
وبنحو هذا الحديث استدل الصحابة على خلافة أبى بكر رضى الله عنه
__________
(1) ه " عليه ".
(2) ساقطة من ط.
(3) قوله " ثم قال إذا " ساقط من ه، وسقط من ط " ثم قال ".
[ * ](1/60)
وقالوا: قد اختاره رسول الله لامر دينكم فكيف لا ترضون [ به ] (1) لامر دنياكم وكذلك إن كانا رجلين ليس معهما غيرهما فالافضل ان يؤمر أحدهما على صاحبه، لان ذلك أحرى أن يتطاوعا ولا يختلفا.
45 - وذكر محمد رحمه الله في الكتاب حديث سلمان (2) ابن عامر: أن النبي عليه السلام كان في بعض أسفاره، فأسرى من تحت الليل - أي سار - فتقطع الناس - أي تفرقوا - في غلبة النوم.
فمالت راحلتا أبى بكر (27 ب) وأبى عبيدة رضى الله عنهما بهما إلى شجرة فجعلتا تصيبان منها وهما نائمان، فاستيقظا وقد مضى النبي عليه السلام وأصحابه ونزلوا.
فلما كانا بحيث يسمعهما النبي ناداهما: ألا هل أمرتما ؟ قالا: بلى يا رسول الله.
فقال: ألا رشدتما (3) - أي أصبتما الصواب -.
وكذلك المسافرون إذا خافوا اللصوص فينبغي لهم أن يؤمروا عليهم أميرا ليطيعوه ويصدروا عن رأيه عند الحاجة إلى القتال، فأما إذا لم يخافوا ذلك فلا بأس بأن لا يؤمروا أحدا.
قال: وينبغى أن يستعمل على ذلك البصير بأمر الحرب، الحسن
__________
(1) الزيادة من ط، ه.
(2) ط " سليم " ه " سلمان " ب " سليمان ".
أنظر تهذيب التهذيب 4: 137.
(3) ه " أرشدتما ".
[ * ](1/61)
التدبير لذلك، ليس ممن يقحم (1) بهم في المهالك، ولا ممن يمنعهم عن الفرصة إذا رأوها، لان الامام ناظر لهم، وتمام النظر أن يؤمر عليهم من جربه بهذه (2) الخصال، فإنه إذا كان يمنعهم من الفرصة يفوتهم ما لا يقدرون على إدراكه على ما قيل: الفرصة خلسة.
وإذا اقتحم في المهالك من جرأته لم يجدوا بدا من متابعته، ثم يخرج هو بقوته (3) وربما لا يقدرون على مثل ما قدر هو فيهلكون (4).
46 - وروى في تأييد هذا حديث عمر رضى الله عنه فإنه كان يكتب إلى عماله: لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين فإنه هلكة من الهلك يقدم بهم.
والبراء أخو أنس بن مالك رضى الله عنهما كان من جملة كبار صحابة رسول الله في الزهد.
وفى (5) درجته ما قال رسول الله عليه السلام: " رب أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لابرة، منهم البراء بن مالك ".
وقد روى أن الامر اشتد على المسلمين في بعض الغزوات فقيل للبراء ابن مالك: ألا تدعو ؟ وقد قال رسول الله عليه السلام ما قال.
فرفع يديه وقال: اللهم امنحنا أكتافهم.
فولوا منهزمين في الحال.
ومع هذا نهى عمر رضى الله عنه عن تأميره لجرأته فانه كانه يقتحم المهالك ولا يبالى به.
__________
(1) ه " يقتحم ".
(2) ب " هذه ".
(3) ه " لقوته ".
(4) ط " على مثله فيهلكوا ".
(5) ط، ه " من ".
[ * ](1/62)
ويحكى عن نصر بن سيار مقرب البرامكة الذى أخرجه أبو مسلم عن مرو أنه قال: اجتمع عظماء العجم على أن من كان صاحب جيش فينبغي أن يكون فيه عشر الخصال من خصال البهايم: شجاعة كشجاعة الديك، وتحنن كتحنن (1) الدجاجة يعنى الشفقة، وقلب كقلب الاسد، وغارة كغارة الذئب، وحملة كحملة الخنزير، وصبر كصبر الكلب - أي على الحيل -، وحرص كحرص الكركي، وروغان كروغان الثعلب - أي الحيل، وحذر كحذر الغراب، وسمن كسمن الدابة التى لا ترى مهزولة أبدا، وهى تكون بخراسان.
47 - قال محمد رحمه الله: فإن كان الامير لا بصر له بذلك فليجعل معه وزيرا يبصره ذلك.
قال الله تعالى { واجعل لى وزيرا من أهلى.
هرون أخى.
اشدد به أزرى.
الآية (2) }.
فإن لم يجعل معه وزيرا فليدع الامير قوما من السرية يبصرون ذلك فيشاورهم فيأخذوا بقوله، لان النبي عليه السلام كان يشاور الصحابة حتى في قوت أهله وإدامهم، وبذلك أمر.
قال الله تعالى (28 آ) { وشاورهم في الامر } (3).
وقال النبي عليه السلام: ما هلك قوم عن مشورة.
قال: ثم يأمر الناس بذلك فيطيعونه ولا يخالفونه لقوله عليه السلام: " لا تحل الجنة العاص ".
أمر بأن ينادى به يوم خيبر حين نهاهم عن القتال، فقيل له: استشهد فلان.
فقال عليه السلام:
__________
(1) ه " تجبن كتجبن ".
(2) سورة طه، 20، الآية 29 وما بعدها.
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 159.
[ * ](1/63)
أبعد ما نهيت عن القتال ؟ قالوا: نعم.
فقال: لا تحل الجنة لعاص.
فمع درجة الشهادة قال في حقه ما قال ليبين أن العصيان فيما لا يتيقن فيه الخطأ من الامير لا يحل بحال (1).
__________
(1) قوله " بحال " ساقط من ه.
وفيها بعد ذلك " والله أعلم بالصواب " ط " والله اعلم " ب " والله الموفق " وقد ضرب عليها.
[ * ](1/64)
4 [ باب مبعث السرايا ] 48 - ذكر محمد رحمه الله حديث (1) صخر الغامدى أن النبي عليه السلام قال: اللهم بارك لامتي في بكورهم.
وكان إذا أراد أن يبعث سرية بعثهم أول النهار.
فيه دليل على أن صاحب الحاجة ينبغى له أن (2) يبتكر (3) للسعى في حاجته، فذلك أقرب إلى تحصيل مراده ببركة دعاء رسول الله عليه السلام.
وكان رسول الله يقول: البكرة رباح أو نجاح.
ولاجل هذا استحبوا الابتكار لطلب العلم.
وقيل إنما ينال العلم ببكور كبكور الغراب.
وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يبعث سرية يندب (4) إلى أن يبعثهم أول النهار.
وقد قيل: ينبغى أن يختار لذلك الخميس والسبت لما (5) روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " اللهم بارك لامتي في بكورها سبتها وخميسها ".
__________
(1) ط " قال: ذكر عن صخر الغامدى " ه " قال: ذكر محمد..".
(2) ساقطة من ه.
(3) ط، ه " يتبكر ".
(4) ط، ه " يندب ".
5 - ط، ه " قال عليه السلام اللهم..".
م - 5 السير الكبير(1/65)
49 - وذكر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى رجلا قد عقل راحلته.
فقال: ما يحبسك ؟ قال: الجمعة يا أمير المؤمنين.
قال: الجمعة لا تحبس مسافرا، فاذهب.
ففيه دليل على أنه لا بأس بالخروج يوم الجمعة للغزو أو للحج أو لسفر آخر بخلاف ما يقوله بعض الناس من المتقشفة (1) أنه يكره الخروج يوم الجمعة للسفر لما فيه من شبه الفرار عن أداء الجمعة (2)، لكنا نقول: الخروج في سائر الايام جائز من غير كراهة، وليس فيه فرار عن شطر الصلاة.
والخروج في رمضان جائز، فقد خرج رسول الله من المدينة إلى مكة لليلتين خلتا من رمضان ولم يكن فيه شبه الفرار عن أداء الصوم.
ثم لا شك أن الجمعة غير واجبة عليه قبل الزوال، وهو مسافر بعد الزوال.
ولا جمعة على المسافر، فكيف يكون سفره فرارا عن واجب عليه ؟.
وكما يباح له الخروج قبل الزوال يباح له الخروج بعد الزوال عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله، فانه يعتبر في وجوب أداء العبادات المؤقت أول الوقت.
وإذا كان هو مقيما في أول الوقت وجب عليه أداء الجمعة على وجه لا يتغير بالسفر عنده (3).
كما يجب أداء الظهر في سائر الايام على وجه لا يتغير بالسفر عنده.
فأما عندنا فالمعتبر آخر الوقت في حكم وجوب الاداء لا على وجه
لا يتغير.
ولهذا لو كان مسافرا في آخر الوقت في سائر الايام يلزمه صلاة السفر.
ففى هذا اليوم إذا كان يخرج من عمران مصره قبل خروج وقت الظهر لا يجب عليه الجمعة، ولا بأس له بالمسافر لما قبر الزوال (28 ب).
وإن كان يعلم أنه لا يخرج من مصره حتى يمضى وقت الظهر فليشهد الجمعة، لانها تلزم (4) إذا كان في المصر في آخر الوقت، وليس له أن يخرج قبل أدائها.
__________
(1) ط، " بخلاف ما تقول المتفقهة ".
(2) ط " الفرار عن الجمعة ".
(3) ساقطة من ط.
(4) ه " يلزمه " ط " تلزمه ".
[ * ](1/66)
وفى الكتاب يقول (1): لانها فريضة عليه.
وهذا التعليل على أصل محمد، فأصل الفرض عنده في حق المقيم الجمعة.
وقد بينا الاختلاف هذا في كتاب الصلاة.
وزفر رحمه الله لا يعتبر آخر الوقت، وإنما يعتبر حال يضيق (2) الوقت بحيث لا يسع لاداء الجمعة بناء على أصله أن السببية للوجوب تتعين في ذلك الجزء حتى لا يسع التأخير عنه.
ولهذا قال: لا (3) تسقط الصلاة باعتراض الحيض بعد ذلك.
وكذلك إذا كان لا يخرج من مصره حتى يضيق (4) الوقت فينبغي له أن يشهد الجمعة.
قال: وكان شيخنا الامام شمس الائمة يقول: عندي في هذه المسألة نوع إشكال، وهو أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدئه (5) وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة فلا ينفرد هو بأدائها بل مع الامام والناس.
فينبغي أن يلزمه شهود الجمعة.
وهذه الشبهة تتقرر على أصل زفر
رحمه الله، فانه يعتبر التمكن من الاداء، ولهذا يعين السبيبة في الجزء الذى يتضيق عقبيه وقت الاداء.
فأما عندنا فإنما تتعين السببية في آخر جزء من أجزاء الوقت.
50 - قال: وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال رسول الله عليه السلام: خير الاصحاب أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن (6) يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا كانت كلمتهم واحدة.
__________
(1) ه " وفى كتاب الصلاة لانها..(2) ط " تضييق ".
(3) ط " تسقط ".
(4) ب، أ " يتضيق ".
(5) ه، ط " وفى هذه المسألة بعض الاشكال عندي فإنه لا ينفرد بأداء الجمعة وإنما يستقيم اعتبار آخر الوقت فيما ينفرد هو بأدائه..".
(6) ط " ولا تغلب ".
[ * ](1/67)
قيل معنى قوله خير الاصحاب أربعة يعنى خير أصحابي، فيكون إشارة إلى الخلفاء الراشدين أنهم خير أصحابه.
وقيل بل المراد ما هو الظاهر، وهو دليل لابي حنيفة ومحمد رحمه الله أن الجمعة تتأدى بثلاثة نفر سوى الامام، لان خير الاصحاب ما يتأدى الفرض بمعاونتهم.
وفيه دليل على أن السرقة أقل من الجيش، وإنما سموا سرية لانه يسرون بالليل ويكمنون بالنهار لقلة عددهم.
وسمى الجيش جيشا لانه يجيش بعضه في
بعض لكثرة عددهم.
ولم يرد به أن ما دون الاربعة لا يكون سرية، وإنما مراده أنهم إذا بلغو أربعمائة فالظاهر من حالهم أنهم لا يرجعون من دار الحرب قبل نيل المراد.
وقوله: ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة، دليل على أنه لا يحل للغزاة أن ينهزموا وإن كثر العدو إذا بلغوا هذا المبلغ، لان من لا يغلب فهو غالب، ولكن هذا إذا كانت كلمتهم واحدة.
فقد كان المسلمون يوم حنين اثنى عشر ألفا، ثم ولوا منهزمين كما قال الله تعالى { ثم وليتم مدبرين } (1)، ولكن لم تكن كلمتهم واحدة، لاختلاط المنافقين والذين أظهروا الاسلام من أهل مكة بهم يومئذ، ولم يحسن إسلامهم بعد.
فأما عند اتحاد الكلمة فلا يحل لهم الفرار، لانه ثلاثة جيوش: أربعة آلاف على الميمنة، وهم خير الجيوش، ومثل (29 آ) ذلك في المسيرة، ومثل ذلك في القلب.
وأدنى الجمع المتفق عليه يساوى أكثر الجمع في الحكم.
51 - وذكر عن رسول الله عليه السلام أنه قال: خير أمرآء السرايا زيد بن حارثة.
أقسمه (2) بالسوية وأعدله (3) في الرعية.
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 25.
(2) ط " أقسمهم ".
(3) ط " أعدلهم ".
[ * ](1/68)
وزيد هذا مولى رسول الله عليه السلام.
فقد كان لخديجة، وهبته لرسول الله عليه السلام فأعتقه وتبناه إلى أن انتسخ حكم التبني فهو مولاه.
وفيه نزل قوله تعالى { وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه } (1) - أي أنعم الله عليه بالاسلام وأنعمت عليه بالاعتاق - ثم أمره رسول الله عليه السلام
على ثمانى سرايا، إلى أن قتل يوم مؤتة، فأثنى عليه أنه خير الامراء، وعين لتحقيق صفة الخيرية هاتين الخصلتين، لان أمير السرية يحتاج إليهما، وهو أن يعتبر المعادلة في القسمة بينهم فيما ينالونه، وينصف بعضهم من بعض فيما يرجعون إليه.
فقد فوض ذلك إليه.
وبعض الناس عابوا على محمد رحمه الله في رواية هذا اللفظ، فان من حق الكلام أن يقول: أقسمهم بالسوية وأعدلهم بالرعية.
ولكنا نقول: روى محمد رحمه الله الخبر بهذا اللفظ فدل على صحة استعماله.
52 - قال: ولا بأس للامام أن يبعث الرجل الواحد سرية أو الاثنين أو الثلاثة إذا كان محتملا لذلك، لما روى أن النبي عليه السلام بعث حذيفة بن اليمان في بعض أيام الخندق سرية وحده.
وبعث عبدالله بن أنيس (2) سرية وحده، وبعث دحية الكلبى سرية وحده، وبعث ابن مسعود وخبابا سرية.
والذى روى أن النبي عليه السلام نهى أن تبعث سرية دون ثلاثة نفر تأويله من وجهين.
إما أن يكون ذلك على وجه الاشفاق بالمسلمين من غير أن يكون ذلك مكروها في الدين.
__________
(1) سورة الاحزاب، 33، الآية 37.
(2) ب " المس "، ه " أنيس " ط " أنس ".
انظر تهذيب التهذيب 5: 149.
[ * ](1/69)
أو يكون المراد بيان (1) الافضل أن لا يخرج أقل من ثلاثة ليتمكنوا من أداء الصلاة الجماعة على هيأتها بأن يتقدم أحدهم ويصطف الاثنان خلفه.
وهذا معنى ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب ".
ومن حيث المعنى نقول: ليس المقصود من بعث السرايا القتال فقط، بل تارة (2) يكون المقصود أن يتحسس (3) خبر الاعداء فيأتيه بما عزموا عليه من السر.
وتمكن الواحد من الدخول بينهم لتحصيل هذا المقصود أظهر من تمكن الثلاثة.
وقد يكون المقصود أن يأتيه أحدهما بالخبر ويمكث (4) الآخر بين الاعداء ليقف على ما يتجدد لهم من الرأى بعد ما ينفصل (5) عنهم الواحد.
وهذا يتم بالمثنى.
وقد يكون المقصود القتال، أو التوصل إلى قتل بعض المبارزين منهم غيلة، وبالثلاثة فصاعدا يحصل هذا المقصود.
ولهذا كان الرأى فيه إلى الامير يعمل بما فيه نظر للمسلمين.
__________
(1) ساقط من ط.
(2) ط " بأن ".
(3) ط " يجتس ".
(4) ب " يمكن " وهو خطأ.
(5) ط " انفصل ".
[ * ](1/70)
5 [ باب الرايات والالوية ] 53 - قال: وينبغى أن تكون ألوية المسلمين بيضا والرايات سودا، على هذا جاءت الاخبار.
وقد روى عن راشد بن سعد رضى الله عنه قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.
وقال عروة بن الزبير رضى الله عنهما (29 ب): كانت راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة يدعى العقاب.
وهو اسم رايته، كما سمى عمامته السحاب وفرسه السكب وبغلته الدلدل.
ثم اللواء اسم لما يكون للسلطان، والراية اسم لما يكون لكل قائد تجتمع جماعة تحت رايته.
54 - واختلفت الروايات في أن النبي صلى الله عليه وسلم متى اتخذ الرايات.
فذكر الزهري قال: ما كانت راية قط حتى كانت يوم خيبر، إنما كانت الالوية.
وذكر غيره أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانت سوداء.
ففى هذا بيان أن الراية كانت قبل خيبر.(1/71)
وإنما استحب في الرايات السوداء لانه علم لاصحاب القتال، وكل قوم يقاتلون عند رايتهم، وإذا تفرقوا في حال (1) القتال يتمكنون من الرجوع إلى رايتهم، والسواد في ضوء النهار أبين وأشهر من غيره خصوصا في الغبار.
فلهذا استحب ذلك.
فأما من حيث الشرع فلا بأس بأن تجعل الرايات بيضا أو صفرا أو حمرا، وإنما يختار الابيض في اللواء لقوله عليه السلام: " إن أحب الثياب عند الله تعالى البيض، فليلبسها (2) أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم ".
واللواء لا يكون إلا واحدا في كل جيش، ورجوعهم إليه عند حاجتهم إلى رفع أمورهم إلى السلطان.
فيختار الابيض لذلك ليكون مميزا من الرايات السود التى هي للقواد.
5 - وذكر عن سلمة بن الاكوع رضى الله عنه قال: والله
لقد رأيتنى وإني لاعدو في (3) إثر على رضى الله عنه فما أدركته حتى انتهى إلى الحصن يوم خيبر.
فخرجت غادية (4) اليهود، يعنى الذين يغدون (5) من العمال (6)، - ومنهم من يروى: عادية اليهود والمراد به الاكابر من المبارزين - قال: ففتحوا بابهم الذى يلى المسلمين.
وكانت لهم حصون (7) من ورائها جدر ثلاثة، يخافون البيات
__________
(1) ط، ه " حالة ".
(2) ه " فليلبسوها ".
(3) أ " على أثر ".
(4) أ، ب، ه، " عادية ".
(5) ط " يغدون ".
(6) أ " العمل ".
(7) أ، ب " حصن ".
[ * ](1/72)
بالنطاة (1)، عملها أكابر اليهود، ولا تطيقها الخيل.
فخرجوا من حصنهم ذلك وتلك الجدر حتى أصحروا للمسلمين - أي خرجوا إلى الصحراء -، فخرج مرحب وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنى مرحب * شاكى السلاح بطل مجرب أضرب أحيانا وحينا أضرب * أكفى إذا أشهد من يغيب ومرحب الشاعر هذا قتله على رضى الله عنه.
والقصة معروفة في المغازى.
ومقصوده ما ذكر في آخر الحديث.
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق الرايات.
وإنما كانت الالوية قبل ذلك فجعل الرايات يومئذ.
56 - قال محمد رحمه الله: وينبغى أن يتخذ كل قوم شعارا إذا خرجوا في مغازيهم حتى إن ضل رجل عن أصحابه نادى بشعارهم (2).
وكذلك ينبغى أن يكون لاهل كل راية شعار معروف، حتى إن ضل رجل عن أهل رايته نادى بشعاره فيتمكن من الرجوع إليهم.
وليس ذلك بواجب في الدين، حتى لو لم يفعلوا يأثموا، ولكنه أفضل وأقوى على الحرب وأقرب، إلى موافقة ما جاءت به الآثار (3) على ما روى عن سنان بن وبرة (4) الجهنى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) أحد حصون اليهود في خيبر.
انظر ما سبق في ص 55.
(2) ه " شعارهم ".
(3) ط، ه " الاخبار ".
(4) ط " وبر " وهو خطأ.
انظر تهذيب التهذيب.(1/73)
غزوة (1) المريسيع وهى غزاة بنى المصطلق، وكان شعارنا: يا منصور أمت معناه قد ظفرت بالعدو فاقتل من شئت منهم.
وهذا كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وكان شعاره يوم أحد أمت أمت.
57 - وعن عائشة رضى الله عنها قالت: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين: يا بنى عبدالرحمن.
والخزرج: يا بنى عبدالله.
والاوس: يا بنى عبيدالله.
وقال لهم رسول الله ليلة في حرب الاحزاب: إن بيتم الليلة فشعاركم حم.
لا ينصرون.
وهو قسم للتأكيد أن الاعداء لا ينصرون.
58 - وكان شعاروهم يوم (30 آ) حنين: يا أصحاب سورة البقرة وبه ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولوا منهزمين، فقال:
يا أصحاب سورة البقرة ! إلى أنا عبدالله ورسوله.
سائر اليوم.
وجعل يتقدم في نحر العدو، فرجع إليه المسلمون حين سمعوا صوته.
وفى رواية: كان شعارهم يومئذ: حم لا ينصرون.
فلما ثاب المسلمون - أي رجعوا إليه (2) - تولى المشركون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انهزموا وياسين.
وهذا قسم أكد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره.
فالحاصل أن الشعار هو العلامة، فالخيار في ذلك إلى إمام المسلمين.
إلا أنه ينبغى له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم على العدو بطريق التفاؤل.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن.
__________
(1) ه " غزاة ".
(2) ه، ط " أي رجعوا إلى رسول الله ".
[ * ](1/74)
6 [ باب الدعاء عند القتال ] 59 - ذكر عبدالله بن أبى أوفى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقى العدو قبل أن يواقعهم (1) قال: اللهم إنا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك.
اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم.
وفيه دليل على أنه ينبغى لكل غاز أن يقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء عند القتال.
وهذا لان المؤمن بالدعاء يستنزل الرزق والنصر ويدفع (2) أنواع البلاء وشر الاعداء.
وبذلك أمرنا، قال تعالى: { فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى } (3) وقال: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } (4).
وأخبر عن الرسل أنهم دعوا على الاعداء كما أخبر به عن نوح قال: { رب لا تذر على الارض من الكافرين
ديارا } (5)، وعن موسى وهارون والخليل صلوات الله عليهم كذلك.
60 - قال: وإذا لقى المسلمون المشركين فإن كانوا قوما لم يبلغهم الاسلام فليس ينبغى لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم.
__________
(1) ط، ه " يوافقهم ".
(2) ط، ه " يدافع ".
(3) سورة البقرة، 2، الآية 186.
(4) سورة الاعراف، 7، الآية 55.
(5) سورة نوح، 71، الآية 26.
[ * ](1/75)
لقوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (1)، وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش فقال: " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله "، ولانهم ربما يظنون أننا نقاتلهم طمعا في أموالهم وسبى ذراريهم ولو علموا أنا نقاتلهم على الدين ربما أجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال.
وفى تقدم عرض الاسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به.
فإن كان قد بلغهم الاسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية.
به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر (2) ما ينتهى به القتال.
قال الله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3)، وفيه التزام بعض حكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه
عليهم إذا لم يعملوا به.
إلا أن يكونوا قوما لا يقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الاوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الاسلام أو السيف (4).
قال الله تعالى: { تقاتلونهم أو يسلمون } (5).
__________
(1) سورة الاسراء 17، الآية 15.
(2) أ، ه، ط، ب " أحد ".
(3) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(4) ط، ه " السيف أو الاسلام ".
(5) سورة الفتح، 48، الآية 16.
[ * ](1/76)
فإذا أبوا الاسلام قوتلوا غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية.
وإن قاتلوهم قبل الدعوة فقتلوهم هم فلا شئ على المسلمين من دية ولا كفارة.
لان وجوب ذلك يعتمد (1) الاحراز، وذلك بدار الاسلام (2) أو الدين (3) على حسب ما اختلفوا (4) فيه.
فأما مجرد النهى عن القتل بدون الاحراز لا يوجب الدية والكفارة كما في نساء أهل الحرب وذرايهم.
وهذا لان موجب النهى الانتهاء لا غير، ويقوم المحل حكم (؟) وراء ذلك.
61 - فإن بلغهم الدعوة فإن شاء المسلمون دعوهم دعاء مستقبلا على سبيل الاعذار والانذار، وإن شاءوا قاتلوهم بغير دعوة لعلمهم بما يطلب منهم.
وربما يكون في تقديم الدعاء (30 ب) بالمسلمين، فلا بأس بأن يقاتلوهم من غير دعوة.
والذى روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم.
وعن طلحة رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل المشركين حتى يدعوهم.
فتأويله ما قال محمد رحمه الله في كتابه: 62 - إن النبي صلى الله عليه وسلم أول من جاءهم الاسلام في ذلك
__________
(1) ط، ه " باعتبار الاحراز ".
(2) ط " وذلك بالدار أو بالدين ".
(3) ه " وبالدين هل على..".
(4) ب " ما اختارنا فيه " هو خطأ.
[ * ](1/77)
الوقت، وما كان أكثرهم يعلم أنه إلى ماذا يدعوهم.
فلهذا كان تقديم الدعاء.
وهكذا نقل عن إبراهيم أنه سئل عن دعاء الديلم فقال: قد علموا الدعاء.
يريد به أن زماننا مخالف لزمان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم، أو كان ذلك عن رسول الله على وجه التأليف لهم رجاء أن يتوبوا (1) من غير أن يكون (2) ذلك واجبا.
ألا ترى إلى ما روى أنه كان يقاتل المشركين فتحضر الصلاة فيصلى بأصحابه، ثم يعود إلى موضعه فيدعوهم.
ومعلوم أن هذا لم يكن إلا على وجه التأليف.
63 - وعن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضى الله عنه مبعثا (3) فقال له: امض ولا تلتفت، - أي لا تدع شيئا مما آمرك به -.
قال: يا رسول الله ! كيف أصنع بهم ؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى (4) أن تقولوا لا إله إلا الله ؟ فإن قالوا نعم فقل
لهم: هل لكم أن تصلوا ؟ فإن قالوا نعم فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم الصدقة ؟ فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك.
والله لان يهدى الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
ومعلوم أن هذا كله مما لا يشكل أنه ذكر على وجه التألف من غير أن يكون واجبا.
__________
(1) ط " يتولوا " وهو خطأ.
(2) ط " كان ".
(3) ط " معنا ".
(4) ساقطة من ط.
[ * ](1/78)
64 - وعن عبدالرحمن بن عائذ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعثا قال: تألفوا الناس وتأنوا بهم.
ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الارض من أهل بيت، من مدر (1) ولا وبر، إلا أن تأتوني بهم مسلمين، أحب إلى من أن يأتوني بأبناهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم.
وعن أبى عثمان النهدي قال: كنا ندعو وندع.
أي ندعو تارة وندع الدعاء تارة ونغير عليهم.
فدل أن كل ذلك حسن يدعون مرة بعد مرة إذا كان يطمع في إيمانهم.
فأما إذا كان لا يطمع في ذلك فلا بأس أن يغيروا (2) بغير دعوة.
بيانه في الحديث الذى روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث أبا قتادة بن ربعى في أربعة عشر رجلا إلى غطفان فقال: " شنوا الغارة عليهم ولا تقتلوا النسوان والصبيان ".
ثم ذكر الراوى حسن تدبير أبى قتادة قال: لما هجمنا على (3) حاضر منهم عظيم ليلا.
- معنى (31 آ) قوله حاضر منهم أي حى منهم، وهو القبيلة - خطبنا وأوصانا فقال: إذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمنعوا في الطلب - أي لا تبعدوا في الذهاب في الغنيمة -.
وألف بين كل رجلين وقال: لا يفارق رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلى فيخبرني خبره.
ولا يأتيني رجل فأسأله عن صاحبه فيقول لا علم لى به.
__________
(1) ط " بدر " وهو خطأ.
(2) ط " نغير ".
(3) في ب، أ " على حصن حاضر ".
[ * ](1/79)
قال: فأحطنا (1) بالحاضر، فسمعت رجلا يصرخ: يا خضراء، فتفاءلت وقلت: لاصيبن خيرا - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل بمثل هذا، فانه [ لما ] خرج من الغار مع أبى بكر رضى الله عنه يريد المدينة مر على بريدة الاسلمي.
فأمر أبا بكر أن يسأله عن اسمه.
فلما قال: بريدة، قال: برد لنا الامر، فلما قال: من أسلم، قال: سلمنا - فعرفنا أنه لا بأس بالتفاؤل على هذه (2) الصفة.
وحين عبر جيش المسلمين جيحون سمعوا رجلا ينادى غلامه يا ظفر، فقالوا: قد ضفرنا، وآخر ينادى غلامه: يا علوان، فقالوا: قد علونا.
ثم روى نحو هذا عن زيد بن حارثة رضى الله عنه أنه فعله في سرية كان هو أميرهم، وقال: حين انتهينا إلى الحاضر في غبش (3) الصبح - يعنى حين اختلط الظلام بالضوء - وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى المصطلق، وهم غادون ونعمهم (4) تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم،
وسبى ذريتهم، وكان في ذلك السبى جويرية بنت الحارث.
وعهد إلى أسامة أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق.
والغارة لا تكون بدعوة.
65 - وذكر عن الحسن قال: ليس للروم دعوة.
فقد دعوا في آباد الدهر (5).
أي قد بلغتهم الدعوة قبل زماننا، أو مراده قد بشر عيسى عليه السلام إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يؤمنوا به إذا بعث كما قال الله تعالى { ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد } (6) وبالله التوفيق.
__________
(1) ه " ثم أحطنا "، ط " يا حطبا ".
(2) ط، ه " بهذه ".
(3) ه " غلس ".
(4) ه " ونعمم ".
(5) ه " الروم ".
(6) سورة الصف، 61، الآية 6.
[ * ](1/80)
7 [ باب البركة في الخيل وما يصلح منها ] 66 - ذكر عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
يعنى الجهاد وإرهاب العدو كما قال الله تعالى { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } (1)، فأراد به الاجر لصاحبها، كما قال في حديث آخر: " الخيل لثلاثة (2): لرجل أجر، وهو أن يمسكها في سبيل الله كلما سمع هيعة (3) طار إليها ".
وأراد الخير استحقاق سهم من الغنيمة بالخيل.
وقد سمى الله تعالى المال خيرا في قوله تعالى { إن ترك خيرا الوصية } (4) والغنيمة (5) خير لانه
مال مصاب بأشرف الجهات، فيطلق عليه اسم الخير.
67 - وعن صالح بن كيسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الخيل الشقر (6).
وهذه الصفة في الخيل تبين بالعرف (31 ب) والذنب، فان كانا أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت.
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 60.
(2) ه " في حديث أجر الخيل الثلاثة ".
(3) الهيعة صوت العدو تفزع منه (القاموس).
(4) سورة البقرة، 2، الآية 180.
(5) ه " في استحقاق الغنيمة خير..".
(6) ه " أشقر ".
م - 6 السير الكبير(1/81)
68 - وعن عبدالله بن أبى نجيح الثقفى رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اليمن في الخيل في كل أقرح، أدهم، أرثم، محجل الثلاثة، طلق اليمنى، فإن لم يكن فكميت بهذه الصفة.
فالاقرح: هو الذى يكون في جبهته بياض بقدر الدرهم أو دون ذلك.
فان كان البياض فوق ذلك فهو أغر.
والادهم: أسم الاسود منه.
والارثم: هو الذى يكون البياض في شفته العليا فوق الجحفلة (1).
ومحجل الثلاث طلق اليمنى: هو الذى يكون البياض في قوائمه الثلاث...؟ ؟ اليمنى، وهو ضد الارجل (2).
والارجل: ما يكون البياض في اليمنى من قوائمه خاصة، وهذا يتشاءم به، والاول يرغب فيه.
وهذا كان معروفا بينهم في الجاهلية، فقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين أن البركة فيما يكون بهذه الصفة من الخيل كما هو عند العوام من الناس.
69 - وذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كتب إلى سعد ابن أبى وقاص رضى الله عنه: لا تخصين فرسا ولا تجرين فرسا فوق الميلين.
فمن (3) الناس من أخذ بظاهر الحديث وكره خصاء الفرس لما روى أن عليا رضى الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إنما يفعل ذلك من لا خلاق له في الآخر.
أي لا نصيب لهم في الآخرة،
__________
(1) الجحفلة بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير (القاموس)، وفى ه " الجبهة ".
(2) ط " الا رحل ".
(3) ه " من ".
[ * ](1/82)
وتأولوا فيه قوله تعالى { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } (1).
وجاء في التفسير أن المراد خصاء الدواب.
والمذهب عندنا أنه لا بأس بذلك، فقد تعارفوا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، [ ولا منازع ] (2).
وبالاتفاق لا بأس بشراء (3) الفرسى الخصى وركوبه (4).
وقد كان فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة.
ولو كان هذا الصنيع مكروها لكان يكره شراؤه (5) وركوبه ليكون زجرا للناس عن ذلك الفعل.
وتأويل النهى في حديث عمر رضى الله عنه ما ذكر محمد رحمه الله في الكتاب:
70 - أن صهيل الخيل يرهب العدو، والخصاء يذهب صهيله.
فكره الخصاء لذلك، لا لانه حرام في الدين.
والمراد من اللفظ الثاني النهى عن إجراء الفرس فوق ما يحتمله، أو على وجه التهلى به.
فأما إذا كانت المسابقة بالافراس للرياضة فهو حسن لا بأس به.
71 - وذكر عن عامر الشعبى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أجرى وسبق.
يروى سبق بالتشديد والتخفيف.
فمعنى الرواية بالتخفيف أنه سبق صاحبه.
ومعنى الرواية بالتشديد أنه التزم على السبق صلة.
ولا بأس بالمسابقة بالافراس ما لم تبلغ غاية لا تحتملها.
جاء في الحديث: تسابق (6) رسول الله (32 آ) صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما (7) فسبق
__________
(1) سورة النساء، 4، الآية 119.
(2) الزيادة من ط.
(3) ه " بشرى ".
(4) ه " وركوبهم ".
(5) ه " شر له ".
(6) ط " سباق ".
(7) من قوله تسابق إلى هنا ساقط من ه.
[ * ](1/83)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر، وثلث عمر، رضى الله عنهما.
معنى قوله صلى أن كان رأس دابته عند صلاء دابة رسول الله عليه السلام (1) وهو الذنب.
72 - وفى حديث مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا يحضر الملائكة شيئا من الملاهي سوى النضال والرهان.
يعنى الرمى والمسابقة.
73 - وفى حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر.
المراد بالحافر الفرس، وبالخف الابل، وبالنضل الرمى.
74 - وفى الحديث أن العضباء (2) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبق.
فشق ذلك على المسلمين.
فقال عليه السلام: ما رفع الله تعالى في الدنيا شيئا إلا وضعه.
لذلك المسابقة على الاقدام لا بأس بها لحديث الزهري قال: كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والركاب والارجل.
__________
(1) ب، أ " دابته ".
(2) ه " القصواء "، والعضباء الناقة المشقوقة الاذن، ولم تكن ناقة الرسول كذلك، وإنما هو لقب لقبت به (القاموس).
[ * ](1/84)
لان الغزاة يحتاجون إلى رياضة أنفسهم حتى إذا ابتلوا بالطلب والهرب وهم رجاله لا يشق عليهم العدو، لما يحتاجون إلى ذلك في رياضة الدواب.
75 - فإن شرطوا جعلا نظر (1).
فإن كان الجعل من أحد الجانبين خاصة بأن قال لصاحبه إن سبقتني أعطيتك كذا، وإن سبقتك لم آخذ منك شيئا فهو جائز على ما شرطا (2) استحسانا (3)، لقوله عليه السلام: المؤمنون عند شروطهم.
وفى القياس لا يجوز، لانه تعليق المال بالخطر.
وأما إذا كان المال مشروطا (4) من الجانبين فهو القمار بعينه.
والقمار حرام، إلا أن يكون بينهما محلل.
وصورة (5) المحلل أن يكون معهما ثالث.
والشرط أن الثالث إذا سبقهما أخذ منهما، وإذا سبقاه لم يعطهما شيئا، فهو فيما بينهما، أيهما سبق أخذ الجعل من صاحبه، فهذا جائز.
وهو مروى عن سعيد بن المسيب.
وهذا إذا كان المحلل على دابة يتوهم أن يسبق (6)، فان كان لا يتواهم ذلك فلا فائدة في إدخاله بينهما، ولا يخرج به شرطهما من أن يكون قمارا.
قال رضى الله عنه (7): وكان شيخنا الامام شمس الائمة رحمه الله يقول على قياس هذا بالجرى بين طلبة العلم يفتى فيه بالجوار أيضا.
وهو
__________
(1) ط، أ " نظرنا ".
(2) ط " ما شرط ".
(3) ساقطة من ط.
(4) ط " وإن كان الجعل مشروطا ".
(5) ط " وتفسير ".
(6) ه " سبق ".
(7) أي السرخسى.
[ * ](1/85)
إذا وقع الاختلاف بين اثنين في مسألة وأراد الرجوع إلا الاستاذ (1) وشرط أحدهما لصاحبه أنه إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان كما قلت لا آخذ منك شيئا.
فهذا جائز.
وإن كان شرط من الجانبين فهو القمار.
وهذا لان في الافراس إنما جوز ذلك لمعنى يرجع إلى الجهاد.
فيجوز هنا أيضا للحث على الجهاد في التعلم.
76 - وذكر عن صفوان بن عمرو السكسكى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أصحاب السكسك ينهاهم عن الركض (32 ب) والمراد النخاسون.
وإنما نهاهم عن ركض (2) يتعب الدابة من غير حاجة إلى ذلك، أو ركض يكون بتكلف، لان ذلك يغرر المشترى، والغرور حرام.
والمراد الركض للتلهي من غير غرض.
وقد أمرنا بالاحسان إلى الخيول لارهاب العدو بها.
ولا يجوز إتعابها (3) بالركض تلهيا.
77 - قال: ونهاهم أن يتركوا أحدا أن يركب بمنزع في سوطه يبزع (4) به دابته.
أي بحديدة كما يفعله بعض النخاسين لنخس الدابة عند الركض، وذلك يجرح الدابة من غير غرض فيه، وربما يسرى (5) (؟).
فلهذا نهاهم عن ذلك كما هو عادة العرب من اتخاذ حديدة في ظاهر الخف عند العقب لنخس الفرس به، فانه منهى عنه كما قلنا.
وكان عمر بن عبد العزيز ينهى عن ركض الفرس إلا في حق، أي عند غرض صحيح في الجهاد أو غيره.
__________
(1) ه " الاسناد ".
(2) ه " الركص ".
(3) ه " الغؤها ".
(4) بزع البيطار شرط، وكمنبر المشرط (القاموس).
(5) ط " يشرى ".(1/86)
8 [ باب كراهية الجرس ] 78 - ذكر عن كعب قال: ما استنفر (1) جيش من الملسمين
إلا بعث الله ملكا ينادى في (2) ظهورهم: اللهم اجعل ظهورها شديدا، وحوافرها حديدا، إلا ذات الجرس.
79 - وعن خالد بن معدان (3) قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم راحلة عليها جرس فقال.
تلك مطى الشيطان.
80 - وعن أم حبيبة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العير التى فيها جرس لا تصحبها الملائكة.
فمن العلماء من أخذ بظاهر هذه الآثار، وكرهوا اتخاذ الجرس على الراحلة في الاسفار في الغزو وغير ذلك.
وكرهوا أيضا اتخاذ الجلاجل في رجل الصغير، على ما يروى عن عائشة رضى الله عنها أنها رأت امرأة معها صبى (4) وفى رجله جلاجل فجعلت تقول: نحى عنه ما ينفر الملائكة.
وتأويل هذه الآثار عندنا أنه كره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب.
__________
(1) ظ " أسفر ".
(2) ساقطة من ه.
(3) ط " خالد بن معدانه ".
(4) ط " صغير ".
[ * ](1/87)
فانهم إذا قصدوا أن يبتوا العدو علم بهم العدو بصوت الجرس فيبدرون (1) بهم.
فإذا كانوا سرية علم بهم العدو فأتوهم فقتلوهم.
فالجرس في هذه الحالة يدل المشركين على المسلمين فهو مكروه.
وأما ما كان في دار الاسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به.
يعنى قد ينتفع المسلمون في أسفارهم بصوت الجرس يدفعون (2) به
النوم عن أنفسهم، ومن يضل عن الطريق يتمكن من اللحوق بهم بصوت الجرس فلا يضل.
ومن الدواب ما ينشط في السير بصوت الجرس.
فإذا أمنوا اللصوص، وكان في الجرس منفعة لهم بهذه الصفة فلا بأس باتخاذه.
وهو نظير الحداء (3)، وذلك معروف في العرب.
وقد أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسير بالليل، والحادي يحدى بين يديه.
فعرفنا أنه لا بأس (33 آ) بمثله، وما يكون في أرجل الصبيان على سبيل اللهو من غير (4) منفعة فلا يستحب أيضا، وإن كان فيه منفعة فلا بأس.
__________
(1) ط " فبدروا " أ " فيعدون " ولعلها " فيغدرون ".
(2) من هنا إلى قوله فلا يضل ساقط من ط.
(3) ط " الحدو " ب، أ، ه " الحدى ".
(4) ساقطة من ه.
[ * ](1/88)
9 [ باب رفع الصوت (1) ] 81 - قال: ولا يستحب رفع الصوت في الحرب من غير أن يكون ذلك مكروها من وجه الدين.
ولكنه فشل.
فإن كان فيه تحريض ومنفعة للمسلمين فلا بأس به.
يعنى أن المبارزين يزدادون نشاطا برفع الصوت، وربما يكون فيه (2) إرهاب للعدو (3) على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صوت أبى دجانة في الحرب فئة ".
فأما إذا لم يكن فيه منفعة فهو فشل.
وربما يدل على الجيش (4) فلهذا لا يستحب.
82 - وذكر عن الحسن رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره رفع الصوت عند ثلاثة: عند قراءة القرآن، وعند
الجنائز، وعند الزحف.
أي القتال.
83 - وعن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند الثلاثة: الجنائز والقتال والذكر.
__________
(1) العنوان ساقط من ط، أ، ب.
(2) ساقطة من ط.
(3) أ " ارهاب العدو ".
(4) ب، أ " الجبن " ه " الجبين ".
[ * ](1/89)
والمراد بالذكر الوعظ.
ففى الحديثين كراهة رفع الصوت عند سماع القرآن والوعظ.
فتبين به أن ما يفعله الذين يدعون الوجد والمحبة مكروه ولا أصل في الدين.
ويستبين (1) به أنه تمنع الصوفية مما يعتادون من رفع الصوت وتخريق الثياب عند السماع، فان ذلك مكروه في الدين عند سماع القرآن والوعظ، فما ظنك عند سماع الغناء ؟ فأما رفع الصوت عند الجنائز فالمراد به (2) النوح وتمزيق الثياب وخمش الوجوه، فذلك حرام.
والمراد ما كان عليه أهل الجاهلية من الافراط في مدح الميت عند جنازته، حتى كانوا يذكرون في ذلك ما هو شبه المحال.
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه (3) ولا تكنوا.
أراد (4) به والله أعلم أن امنعوه عن ذلك ولا تذكروه بسوء.
__________
(1) ه " فبين "، ط " وتبين ".
(2) ساقطة من ط.
(3) في حاشية نسخة ق " معناه قولوا أير أبيك في فيك ولا تقولوا بالكناية يعنى فرج أبيك "
والهن الفرج (القاموس).
(4) من هنا إلى قوله بسوء ساقط من ط، ه.(1/90)
10 [ باب العمائم في الحرب (1) ] 84 - قال: ولبس العمائم في الحرب وغيرها حسن من أمر المسلمين، فإن العمائم تيجان العرب.
وقال صلى الله عليه وسلم: تعمموا تزدادوا حلما.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (2) يوم الفتح وعليه عمامة سوداء فعرفنا أن ذلك حسن.
85 - وذكر عن ابن عمر (3) رضى الله عنهما قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه فقال: تجهز، فإنى باعثك في السرية - الحديث - إلى أن قال: وعلى عبدالرحمن عمامة قد لفها على رأسه.
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه، ونقض عمامته بيديه، ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه شيئا (4) منها.
ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف.
وإنما فعل ذلك إكراما له، خصه بهذه الكرامة من بين الصحابة رضى الله عنهم.
وفيه دليل على أن المستحب إرخاء ذنب العمامة بين (33 ب) الكتفين،
__________
(1) هذا العنوان ساقط من ط، أ، ب.
(2) ط " بمكة ".
(3) ط " عمر ".
(4) ساقطة من ه، ط.
[ * ](1/91)
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منهم من قدر ذلك بشبر، ومنهم
من قال: إلى وسط الظهر، ومنهم من قال: إلى موضع الجلوس.
وفى هذا دليل على أن يجدد اللف لعمامته (1) لا ينبغى أن يرفعها من رأسه دفعة واحدة، لكن ينقضها كما لفها.
فقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا بعمامة ابن عوف، وذلك بمنزلة النشر غب الطى، فيكون أولى من النشر والالقاء (على الارض) (2) دفعة واحدة.
__________
(1) ب، ط، أ " بعمامته ".
(2) الزيادة من ه، ظ.
[ * ](1/92)
11 [ باب القتال في الاشهر الحرم ] 86 - ذكر عن سليمان (1) بن يسار أنه سئل: هل يصلح للمسلم أن يقاتل الكفار في الاشهر الحرم ؟ قال: نعم.
وبه نأخذ.
87 - وكان عطاء يقول: لا يحل القتال في الاشهر الحرم لقوله تعالى { فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين } (2)، ولكنا نقول: هذا منسوخ، ناسخه قول الله تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } (3) يفيد إباحة قتلهم في كل وقت ومكان.
والمراد بقوله تعالى { فإذا انسلخ الاشهر الحرم } مضى مدة العهد الذى كان لبعضهم، لابيان حرمة القتال في الاشهر الحرم.
ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا الطائف لست مضين من المحرم، ونصب المنجنيق عليها، وافتتحها في صفر، ونسخ الكتاب بالنسة المشهورة التى تلقاها (4) العلماء بالقبول جائز.
__________
(1) ط " سليم " وهو خطأ.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 5.
(3) = =، 9، = 5.
(4) ط " تلقتها ".
[ * ](1/93)
12 [ باب هجرة الاعراب (1) ] 88 - وعن الحسن رضى الله عنه قال: هجرة الاعراب (2) إذا ضمهم ديوانهم.
وقد كانت الهجرة فريضة في الابتداء.
قال الله تعالى { والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا } (3).
89 - وقال صلى الله عليه وسلم: (4) ثم ادعوهم (5) إلى التحول إلى دار المهاجرين فإن أبوا فأخبروهم (6) أنهم كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذى يجرى على المسلمين، وليس لهم في الفئ ولا في الغنيمة نصيب.
ومن مذهب الحسن أنه لم ينسخ هذا الحكم، وأن من أسلم من الاعراب فعليه أن يثبت اسمه في ديوان الغزاة ليكون مهاجرا.
فقد كان المقصود بالهجرة في ذلك الوقت القتال.
وعلى قول أكثر العلماء رضى الله عنهم فرضية (7) الهجرة انتسخت يوم فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد
__________
(1) هذا العنوان ساقط من ب، أ، ط.
(2) ب، أ، ط " الاعرابي ".
(3) سورة الانفال، 8، الآية 72.
(4) من هنا إلى قوله المهاجرين ساقط من ه.
(5) ط " ادعهم ".
(6) ط " فأخبرهم ".
(7) ط " فريضة ".
[ * ](1/94)
ونية.
وقال: المهاجر (1) من أمتى من هجر السوء، أو قال: ما نهى الله عنه.
90 - وإليه أشار محمد رحمه الله فقال: إذا وطن (2) الاعرابي مصرا من أمصار المسلمين فقد خرج من الاعرابية، وصار من أهل الامصار، التحق في (34 آ) الديوان أو لم يلحق.
وإنما شرط أن يتوطن مصرا ليتعلم شرائع الدين.
فان تمكن من ذلك في قبيلته فلا حاجة إلى توطن المصر، ولكن إذا تعلم ما يحتاج إليه فقد خرج من الاعرابية، يعنى ما وصف الله به الاعراب (3) في قوله { وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } (4).
__________
(1) ه " المهاجرون ".
(2) ه، ط " أوطن ".
(3) قوله " به الاعراب " ساقط من ط.
(4) سورة التوبة، 9، الآية 97.
[ * ](1/95)
13 [ باب صلة المشرك ] 91 - وذكر عن أبى (1) مروان الخزاعى قال: قلت المجاهد: رجل من أهل الشرك بينى وبينه قرابة، ولى عليه مال، أدعه (2) له ؟ قال: نعم، وصله.
وبه نأخذ فنقول: لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا،
محاربا كان أو ذميا لحديث سلمة بن الاكوع قال: صليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدت مس كف بين كتفي، فالتفت فإذا (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أنت واهب لى ابنة أم قرفة ؟ قلت: نعم.
فوهبتها له.
فبعث بها إلى خاله حزن (4) بن أبى وهب، وهو مشرك وهى مشركة.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا، وأمر بدفع ذلك إلى أبى سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقا (5) على فقراء أهل مكة.
فقبل ذلك أبو سفيان، وأبى صفوان وقال (6): ما يريد محمد بهذا إلا أن يخدع شباننا ولان صلة الرحم محمودة عند كل عاقل وفى كل دين، والاهداء إلى الغير
__________
(1) أ، ب، ه " ابن مروان ".
(2) ط " ادع له ".
(3) ه فإذا هو رسول الله ".
(4) ط " حزام ".
(5) ط " ليفرقوا ".
(6) ب، أ " فقبل ذلك أبو سفيان وصفوان وقالا..".
[ * ](1/96)
من مكارم الاخلاق.
وقال صلى الله عليه وسلم: بعثت لاتمم مكارم الاخلاق.
فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعا.
92 - ثم ذكر عن كعب بن مالك قال: قدم عامر بن مالك، أخو البراء وهو مشرك.
فأهدى للنبى صلى الله عليه وسلم فرسين وحلتين (1).
فقال عليه السلام: لا أقبل هدية مشرك (2).
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا المشركين.
وأنه أهدى مع عمرو بن أمية الضمرى إلى أبى سفيان تمر عجوة، واستهداه أدما.
فقبل هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له الادم.
وأن نصرانيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريرا يتلالا، فقبل هديته.
وأن عياض بن حمار المجاشعى أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أسلمت يا عياض ؟ فقال: لا.
قال عليه السلام: إن الله تعالى نهانى أن أقبل زبد (3) المشركين، أي عطاياهم.
وذكر الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زبد المشركين، أي عن قبول هديتهم.
فتأويل ما روى أنه لم يقبل من وجوه: أحدها: أنه لم يقبل ممن كان يطمع في إيمانه إذ رد هديته ليحمله ذلك على أن يؤمن ثم يقبل هديته.
أو لم يقبل لانه كان فيهم من يطالب بالعوض ولا يرضى بالمكافأة بمثل ما أهدى.
وبيان هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: " لقد هممت أن لا أقبل هدية الاعراب.
وفى رواية: لا أقبل الهدية إلا من قرشي (34 ب) أو ثقفي ".
وأيد هذا ما روى أن عامر بن مالك كان أهدى إليه فرسين قد كان أحدهما
__________
(1) ط " حليين ".
(2) ه " المشرك ".
(3) الزبد بسكون الباء الرفد والعطاء (النهاية).
م - 7 السير الكبير [ * ](1/97)
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أيديهم في بعض الحروب، فعوضه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هديته، فجعل يطلب الزيادة حتى قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: " ما بال أقوام يهدون ما نعرفه أنه لنا، ثم لا يرضون بالمكافأة بالمثل ".
وإنما لم يقبل هدية عامر لان أباه كان أجار سبعين نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قتلهم قومه، وهم أصحاب بئر معونة (1).
وفى هذا قصة (2) معروفة، فلهذا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته.
93 - ثم قال محمد رحمه الله: يكره لامير الجيش أن يقبل هداياهم.
فإن قبلها فليجعلها فيئا للمسلمين (3).
وتكلموا في معنى هذا اللفظ.
فقيل هذا ليس بكراهة التحريم، ولكن مراده التنزيه، لانه إذا قبل هداياهم لا يأمن أن يتألفهم (4)، على ما جاء في الحديث: " الهدية تذهب وحر (5) الصدر (6).
وقد أمرنا بالغلظة عليهم.
قال الله تعالى: { وليجدوا فيكم غلظة } (7).
وقيل المراد به لا يحل له أن يقبلها على أن يختص بها، ولكنه يقبلها على أن يجعلها في فئ (8) المسلمين، لانهم أهدوا إليه لمنعته، ومنعته بالمسلمين لا بنفسه.
وكذلك إذا اهدوا إلى قائد من قواد المسلمين بخلاف ما إذا أهدوا إلى مبارز، فان عزته بقوة في نفسه فتسلم له الهدية.
__________
(1) ط " بنى معاوية ".
(2) ط " قضية ".
(3) ط، ه فيئا لجماعة المسلمين ".
(4) ط " أن تلافيهم " ه " أن يتابع دينهم ".
(5) ط " وغر ".
والوحر الحقد والغيط (القاموس).
(6) ط ه، " الصدور ".
(7) سورة التوبة، 9، الآية 123.
(8) ط " فيئا في المسلمين ".
[ * ](1/98)
وأما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت الهدية له، فان عزته ومنعته لم تكن بالمسلمين.
قال الله تعالى: { والله يعصمك من الناس } (1) وما كان في حقه توهم الركون بقلبه إذا قبل هداياهم، فلهذا قبلها في بعض الاوقات.
واختلفت الصحابة رضى الله عنه ومن بعدهم في جواز قبول (2) الهدية من أمراء الجور، فكان ابن عباس وابن عمر (3) رضى عنهم يقبلان هدية المختار، وهكذا نقل عن إبراهيم النخعي.
وكان أبو ذر وأبو الدرداء رضى الله عنهما لا يجوزان ذلك.
حتى روى أن أمير أهدى إلى أبى ذر رضى الله عنه مئة دينار فجعل يقول: هل أهدى إلى كل مسلم مثل هذا ؟ فقيل: لا.
فردها وقال: { كلا، إنها لظى: نزاعة للشوى } (4).
وعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: للسلطان نصيب من الحلال والحرام، فإذا أعطاك شيئا فخذه فان ما يعطيه حلال لك.
وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال.
وإن كان صاحب تجارة أو زرع أكثر ماله من ذلك فلا بأس بقبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك كله وجه حرام.
وفى قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض المشركين دليل على ما ذكرنا.
وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة، 5، الآية 67.
(2) ه، ط " قبول هدية من أمير من أمراء الجور ".
(3) " ابن عمر " ساقطة من ط.
(4) سورة المعارج، 70، الآية 15، 16.
[ * ](1/99)
14 [ باب المبارزة ] 94 - ذكر عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو يتغنى فقال: أتتغنى ؟ (35 آ) فقال: أخشى أن أموت على فراشي وقد قتلت سبعة وسبعين من المشركين بيدى سوى ما شاركت فيه المسلمين ؟ وفيه دليل على أنه لا بأس للانسان أن يتغنى إذا كان وحده ليدفع به الوحشة عن نفسه، فإن البراء بن مالك رضى الله عنه كان من زهاد الصحابة رضى الله عنهم، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أقسم على الله لابره ".
ثم كان يتغنى في مرضه حين بقى (1) وحده، واستبعد ذلك من أنس، فبين (2) أنه لا يفعل هذا (3) تلهيا، ولكن يدفع الوسواس عن نفسه، فانه كان يطمع في الشهادة وخشى (4) أن يموت في مرضه فاستوحش من ذلك وجعل يتغنى.
فعرفنا أن هذا القدر لا بأس به، إنما المكروه ما يكون على سبيل اللهو على ما قال صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن صوتين أحمقين فاجرين (5)
__________
(1) ط " مع ".
(2) ط " فتبين ".
(3) ساقطة من أ، ب.
(4) ط " حتى ".
(5) ط " فاجرتين ".
[ * ](1/100)
صوت الغناء فإنه مزمار الشيطان، وخمش الوجوه وشق الجيوب رنة (1) الشيطان ".
يعنى رفع الصوت عند المصيبة.
ثم صح (2) أن البراء رضى الله عنه برئ من مرضه ثم استشهد كما كان يطمع.
__________
(1) أ، ب ط، ه " ورثة ".
(2) ط، ه " قد صح ".
[ * ](1/101)
15 [ باب من قاتل فأصاب نفسه (1) ] 95 - وذكر عن مكحول أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول رجلا من العدو ليضربه فأخطأ فأصاب رجله فنزف حتى مات.
فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحابه رضى الله عنهم: أشهيد هو ؟ قال: نعم، وأنا عليه شهيد.
وتأويل الحديث أنه شهيد فيما تناول من الثواب في الآخرة.
فأما من ابتلى بهذا في الدنيا يغسل ويكفن ويصلى عليه، لان الشهيد الذى لا يغسل من يصير مقتولا بفعل مضاف إلى العدو.
وهذا صار مقتولا بفعل نفسه ولكنه معذور في ذلك، لانه قصد العدو لا نفسه، فيكون شهيدا في حكم الآخرة، ويصنع به ما يصنع بالميت في الدنيا.
وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " المبطون شهيد، والنفساء شهيد، والمرأة التى تموت بجمع (2) لم تطمث شهيد ".
يعنى في أحكام الآخرة لا في أحكام الدنيا.
ثم اختلفت مشايخنا فيمن تعمد قتل نفسه بحديدة أنه هل يصلى عليه ؟
فمنهم من قال: لا يصلى عليه.
وما أشار إليه في الكتاب في حق الذى أخطأ دليل على أنه إذا تعمد ذلك لا يصلى عليه لحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده
__________
(1) العنوان ساقط من أ، ب، ط.
(2) " أي ماتت مع شئ مجموع فيها غير منفصل من حمل أو بكارة ".
كذا في هامش ق.
[ * ](1/102)
يجأ بها نفسه في نار جهنهم خالدا مخلدا، ومن تردى من موضع فهو يتردى (1) في نار جهنم خالدا مخلدا، ومن شرب سما فمات فهو يشربها في نار جهنم خالدا مخلدا ".
قال رضى الله عنه (2): وكان شيخنا الامام (3) يقول: الاصح عندي أن يصلى عليه وأن تقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (4).
وتأويل الحديث فيمن استحل ذلك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسق وقتاله كفر ".
قال (5) رضى الله عنه: وسمعت القاضى الامام (35 ب) على السغدى (6) يقول: الاصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا لانه لا يصلى عليه، لا لانه لا توبة له، ولكن لانه باغ على نفسه، ولا يصلى على الباغى.
96 - وذكر عن سلمة بن الاكوع رضى الله عنه قال: قلت يا رسول الله ! زعم أسيد بن حضير أن عامر بن سنان بن (7) الاكوع حبط عمله، وكان ضرب يهوديا فقطع رجله ورجع السيف على عامر فعقره فمات منها.
فقال: كذب من قال ذلك.
إن له لاجرين (8).
إنه جاهد مجاهد وإنه لعيوم في الجنة عوم الدعموص (9).
__________
(1) ط " تردى ".
(2) ط، ه " قال الشيخ الامام رضى الله عنه " يعنى السرخسى.
(3) ط، ه " كان شيخنا الامام شمس الائمة..".
(4) سورة النساء، 4، الآية 116.
(5) الضمير هنا راجع إلى شمس الائمة.
وفى ط، ه " قال رضى الله عنه (أي السرخسى) قال الامام: سمعت ".
(6) ط " السعدى " وهو خطأ.
(7) ساقطة من أ، ب، ط.
(8) ه " الاجرين ".
(9) ط " الدغموص " وهو خطأ.
والدعموص دوبية أو دودة سوداء تكون في الغدار ان إذا نشت (القاموس).
[ * ](1/103)
وبه تقول إنه معذور (1) فيما أصيب به، مثاب على ما صنع.
فإنه جاهد في قتل الكافر مبالغ في ذلك، مصاب حين رجع إليه السيف فعقره، وصبر على ذلك إلى أن مات، فهو جاهد صابر { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (2).
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إنه له الاجرين.
97 - قال: وإذا التقت السريتان ليلا من المسلمين وكل (3) واحدة ترى أن صاحبتها من المشركين فاقتتلوا فأجلوا عن قتلى ثم علموا فلا شئ عليهم من دية ولا كفارة.
لان كل واحدة (4) من السريتين باشرت دفعا مباحا، فقد قصدت كل سرية إلى الاخرى، وإنما (5) قتلها الاخرى دفعا عن أنفسهم، وذلك دفع مأمور به شرعا فلا يكون موجبا دية ولا كفارة.
98 - والاصل فيه ماروى عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال:
خرجت طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ليلا فالتقتا تحت الليل ولا يشعر بعضهم ببعض، ويظنون أنهم العدو.
فكانت بينهم جراحات وقتلى.
ثم تنادوا (6) بشعار الاسلام فكف بعضهم عن بعض.
وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جراحاتكم في سبيل الله.
ومن قتل منكم فهو شهيد.
__________
(1) ط " مغدور ".
(2) سورة الزمر، 39، الآية 10.
(3) ط " وكل واحد يرى أن صاحبه ".
(4) ه " كل واحد ".
(5) ط " فإن ".
(6) ط " تبادر اشعار ".
[ * ](1/104)
99 - وإذا كان القوم من المسلمين يقاتلون المشركين، فقتل مسلم مسلما ظن أنه مشرك، أو رمى إلى مشرك فرجع السهم فأصاب مسلما ققتله فعليه الدية والكفارة.
لان هذا صورة الخطأ.
والدية والكفارة في قتل الخطأ واجب بالنص.
100 - والاصل في هذا ما روى أن سيوف المسلمين اختلفت (1) يوم أحد على اليمان أبى حذيفة فقتلوه.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الدية فوهبها لهم حذيفة.
وكان المعنى في الفرق بين هذا والاول أن المقتول ها هنا ما كان قاصد قتل صاحبه الذى قتله، وكانت حرمة نفسه باقية في نفسه، فيجب الدية صيانة لدمه عن الهدر.
وفى الاول (2) المقتول كان قاصدا إلى قتل صاحبه،
وذلك يسقط حرمة نفسه في حقه، فانما قتله بدفع مباح.
__________
(1) ه " اختلف ".
(2) ه " وفى الفصل الاول ".
[ * ](1/105)
16 [ باب قتل ذى الرحم المحرم (1) ] 101 - قال ولا بأس بأن يقتل الرجل من المسلمين كل ذى رحم محرم منه من المشركين يبتدئ به (2)، إلا الولد خاصة، فإنه يكره له أن يبتدئ والده بذلك، وكذلك جده من قبل أبيه (36 آ) أو من قبل أمه وإن بعد إلا أن يضطره إلى ذلك.
لقوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفا } (3) فالمراد الابوان إذا كانا مشركين بدليل قوله تعالى: { وإن جاهداك، الآية } (4) وليس من المصاحبة بالمعروف البداية بالقتل.
وأما إذا اضطره إلى ذلك فهو يدفع عن نفسه، وهو مأمور بالبداية بنفسه في الاحسان إليها ودفع شر القتل عنها أبلغ جهات الاحسان.
ثم الاب كان سببا لايجاد الولد، فلا يجوز للولد أن يجعل نفسه سبب إعدامه (5) بالقصد إلى قتله، إلا أن يضطره إلى ذلك، فحينئذ يكون الاب هو المكتسب لذلك السبب بمنزلة الجاني على نفسه على ما هو الاصل أن الملجأ بمنزلة الآلة للملجئ (6).
ولهذا لا يحبس الاب بدين الولد ويحبس بنفقته، لانه إذا منع نفقته فقد قصد إتلافه.
__________
(1) هذا العنوان ساقط من أ، ب، ط.
(2) ط " يبتديه به ".
(3 و 4) سورة لقمان، 31، الآية 15.
(5) ه " سببا لاعدامه ".
(6) ط " المنجى ".
[ * ](1/106)
ثم استدل محمد رحمه الله في الكتاب بما روى: 102 - أن حنظلة بن أبى عامر وعبد الله بن عبدالله بن أبى بن سلول (1) رضى الله عنهما استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما فنهاها عن ذلك.
وعن عمير (2) بن مالك رضى الله عنه قال قال رجل: يا رسول الله ! إنى لقيت أبى في العدو، فسمعت منه مقالة لك سيئة فقتلته.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى هذا دليل على أنه لا يستوجب بقتله شيئا إذا قتله.
لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بشئ.
والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه لا يجوز.
وأول (3) الوجوه أن لا يقصده بالقتل (4)، ولا يمكنه من الرجوع إذا تمكن منه في الصف، ولكنه يلجئه إلى موضع ويستمسك (5) به حتى يجئ غيره فيقتله.
روى في الكتاب حديثا بهذه الصفة قال: فهو أحب إلينا.
فأما إباحة قتل غير الوالدين والمولودين من ذى الرحم المحرم من المشركين فقد بيناه في الجامع الصغير، وبالله التوفيق.
__________
(1) ابن سلول ساقطة من أ، ب.
(2) ه " عمر " وهو خطأ.
(3) ه، ط " وأولى ".
(4) ط " بقتله ".
(5) ط، ه " ويتمسك ".
[ * ](1/107)
17 [ باب البكاء على القتلى ] 103 - روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببنى (1) عبد الاشهل وهم يندبون قتلاهم يوم أحد.
فقال: لكن حمزة لا بواكي (3) له.
قالت المرأة التى روت: فخرجنا حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فندبنا حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت.
حتى سمعنا نشيجه في البيت.
فأرسل إلينا أن قد أصبتم، أو قد أحسنتم.
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لان حمزة كان سيد الشهداء يومئذ، لكنه كان غريبا بالمدينة فندبه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال.
وذكر في المغازى أن سعد بن معاذ رضى الله عنه لما سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء قومه، وكذلك (4) سعد بن عبادة، وكذلك معاذ بن جبل.
فجاء كل فريق إلى باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يندبون حمزة رضى الله عنه، فاستأنس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكائهم (36 ب) حتى نام.
__________
(1) أ، ب " بيت ".
(2) ط " يواكى ".
(3) ط " فرثاه ".
(4) ب، أ " فكذلك ".
[ * ](1/108)
ومن ذلك الوقت جرى الرسم بالمدينة أنه إذا مات منهم ميت يبدأون بالبكاء لحمزة رضى الله عنه.
والرجال في تعزية بعضهم بعضا يقولون: مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك.
104 - ثم أعاد الحديث بطريق ابن عمر رضى الله عنهما وزاد في آخره: فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يبكين.
فقال: يا ويحهن ! إنهن لها هنا منذ اليوم.
فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم.
فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث وقال: هذه رخصة كانت يومئذ، وقد انتسخت بما ذكر في آخر الحديث.
وأكثرهم على أن رفع الصوت بالبكاء والنوح قد انتسخ ولا رخصة فيه، على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " النائحة ومن حولها من مستمعيها عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وأما البكاء من غير رفع الصوت فلا بأس به لما روى أنه لما قبض إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه: أليس قد نهيتنا عن البكاء ؟ فقال: " إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين، وأما هذه رحمة (1) يجعلها (2) الله تعالى في قلوب الرحماء.
العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط الرب ".
وعن عمر رضى الله عنه أنه سمع امرأة وه يبكى على ولدها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها يا عمر، فان القلب حزين، والنفس مصابة، والعهد قريب ".
ولكن مع هذا الصبر أفضل على ما قال الله تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون } (3).
__________
(1) ه " الرحمة ".
(2) ط " فجلعها ".
(3) سورة البقرة، 2 الآية 156.
[ * ](1/109)
18 [ باب حمل الرؤوس إلى الولاة ] 105 - وذكر عن عقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنه أنه قدم على أبى بكر الصديق (1) رضى الله عنه برأس يناق (2) البطريق.
فأنكر ذلك.
فقيل له: يا خليفة رسول الله ! إنهم يفعلون ذلك بنا.
قال: فاستنان (3) بفارس والروم ؟ لا يحمل إلى رأس، إنما يكفى الكتاب والخبر.
وفى رواية: قال لهم: لقد بغيتم.
أي تجاوزتم الحد.
وفى رواية: كتب إلى عماله بالشام: لا تبعثوا إلى برأس، ولكن يكفيني، الكتاب والخبر.
فبظاهر الحديث أخذ بعض العلماء، وقال: لا يحل حمل الرؤوس إلى الولاة لانها جيفة.
فالسبيل دفنها لاماطة الاذى، ولان إبانة الرأس مثله، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور.
وقد بين أبو بكر رضى الله عنه أن هذا من فعل أهل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم.
وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه إذا كان في ذلك كبت وغيظ للمشركين أو فراغ قلب للمسلمين (4) بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك.
__________
(1) لا توجد في ه.
(2) كسحاب.
انظر القاموس " ينق ".
(3) ط " فاستبان ".
(4) ه " المسلمين ".
[ * ](1/110)
ألا ترى أن عبدالله بن مسعود رضى الله عنه حمل رأس أبى جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى ألقاه بين يديه، فقال: هذا رأس عدوك أبى جهل (1).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، هذا فرعونى وفرعون أمتى.
وكان شره (ص 37 آ) على وعلى أمتى أعظم من شر فرعون على موسى وأمته "، وما منعه ولم ينكر عليه ذلك.
106 - وهو معنى ما رواه عن الزهري رحمه الله قال: لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس إلا يوم بدر.
وحمل إلى أبى بكر رضى الله عنه فأنكره.
وأول من حملت إليه الرؤوس ابن الزبير رضى الله عنه.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أنيس إلى سفيان ابن عبدالله، قال عبدالله: فضربت عنقه وأخذت برأسه فصعدت إلى جبل فاختبأت فيه، حتى إذا رجع الطلب وجهت برأسه حتى جئت به النبي صلى الله وسلم.
وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضى الله عنه يقتل كعب بن الاشرف، جاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك.
فتبين بهذه الآثار أنه لا بأس بذلك.
والله الموفق.
__________
(1) في ط زيادة " لعنه الله ".
[ * ](1/111)
19 [ باب السلاح والفروسية ] 107 - ذكر عن عتبة بن أبى حكيم رضى الله عنه قال: ذكرت القوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سبقها سلاح قط
إلى خير " يعنى أنه (1) أقوى آلات الجهاد.
فيه حث للغزاة على تعلم الرمى.
وفى ذلك آثار منها حديث عقبة بن عامر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } (2) " ألا إن القوة الرمى " قالها ثلاثا.
وفى حديثه أيضا (3) " إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه الذى يحتسب به، ومنبله، والرامي به ".
وقال: " كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاثة: تأديبه فرسه، وملا عبته (4) أهله، ورميه عن قوسه ".
وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحد بين أبويه إلا لسعد بن أبى وقاص رضى الله عنه يوم أحد فقال: " ارم فداك أبى وأمى ".
108 - وذكر أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب أن وفروا الاظافير في أرض العدو فإنها سلاح.
وهذا مندوب إليه
__________
(1) الضمير راجع إلى القوس.
وهى مؤنث وقد تذكر (القاموس).
(2) سورة الانفال، 8، الآية 60.
(3) ط " وفى حديث أن الله...".
(4) ط " ملاعبة ".
[ * ](1/112)
للمجاهدين في دار الحرب، وإن كان قص الاظافير من الفطرة.
لانه إذا سقط السلاح من يده وقرب العدو منه ربما يتمكن من دفعة بأظافيره.
وهو نظير قص الشوارب فإنه سنة.
ثم الغازى في دار الحرب مندوب إلى أن يوفر شاربه ليكون أهيب في عين العدو فيحصل به الارهاب.
109 - وذكر عن عمر رضى الله عنه أنه قال: علموا أولادكم
السباحة، والفروسية (1)، ومروهم بالاحتفاء (2) بين الاغراض (3).
وهذا مروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن في حديثه " علموا أولادكم السباحة والرمى، والمرأة الغزل ".
وقال: " اركبوا.
وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ".
والحاصل أن ما يعينه على الجهاد فهو مندوب إلى تعلمه، وإلى أن يعود نفسه ذلك لما فيه من إعزاز الدين وقهر المشركين.
110 - وعن عبيد بن عمير (4) رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه رضى الله عنهم يوم فتح مكة: أفطروا فإنه يوم قتال.
وفيه دليل على أن مكة فتحت عنوة (37 ب) بالقتال، وأن الافضل للغازي إذا كان يقاتل العدو في شهر رمضان أن يفطر.
فإن الصوم ربما يضعفه عن شئ من القتال.
والخلل الذى يتمكن بذلك لا يمكنه تداركه في غير هذا الوقت.
وهو يتمكن من أداء الصوم في عدة من أيام أخر.
ولهذا كان الفطر
__________
(1) من هنا إلى قوله السباحة في حديث الرسول الآتى ساقط من ه.
(2) ب هنا " الاختفاء ".
واحتفى مشى حافيا (القاموس).
(3) ب، أ، ه هنا " الاعراض " والاغراض واحده غرض وهو الهدف يرمى فيه (القاموس).
(4) ط " عبيدالله بن عمر ".
م - 8 السير الكبير [ * ](1/113)
أفضل للمريض والمسافر إذا كان يجهده الصوم، فلان يكون أفضل للمسافر فالمقاتل كان أولى.
111 - وعن عون بن أبى جحيفة عن أبيه رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم - يعنى يوم
فتح مكة -.
ورأيت بلالا رضى الله عنه أدخل (1) وضوءه إليه ثم أخرجه يهريقه.
فرأيت الناس يبتدرونه، فمن أصاب منه شيئا تمسح (2) به، ومن لم يصب أخذ من بلل يد صاحبه فتمسح (3) به.
وبه يستدل محمد رحمه الله على طهارة الماء المستعمل، لانهم كانوا يتبركون بذلك، ولا يتبرك بما هو نجس، فلو كان نجسا لانكر عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبو حنيفة يعتذر ويقول: لم ينقل أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما يستقيم الاحتجاج به أن لو بلغه فلم ينكر عليهم.
قال: ثم رأيت بلالا رضى الله عنه أخرج عنزة فركزها.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء متشمرا.
فصلى إلى العنزة بالناس ركعتين.
ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه.
والعنزة شبه الحربة (4) كانت تحمل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره لتركز بين يديه إذا صلى.
__________
(1) ط " يدخل ".
(2) ط " يمسح ".
(3) ط " فيمسح ".
(4) العنزة رميح بين العصا والرمح فيه زج (القاموس) والزج حديدة طرف الرمح.
[ * ](1/114)
ومنه عادة الامراء في حمل السلاح أمامهم.
وفيه دليل أنه لا بأس بلبس الثوب الاحمر، وأن المصلى في الصحراء ينبغى أن يتخذ السترة بين يديه، وأنه إذا كانت السترة بين يدى الامام خاصة فذلك يكفى.
ولا تشترط السترة بين يدى القوم، [ لان الامام ] (1) بمنزلة
السترة للصف الاول، والصف الاول للثاني.
وأنه لا يمنع أحد من المرور وراء السترة لان السترة تحول بينه وبين المصلى بمنزلة الحائط.
والمقصود من السترة أن يعلم به من يكون بالبعد منه فلا يمر بينه وبين السترة، ولا يمتنع (2) من المرور وراءه، ولا يحصل ذلك إلا إذا كان طويلا غليظا.
فقيل ينبغى أن يكون طوله ذراعا وغلظته بقدر الاصبع، لما قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجزئ من السترة السهم ".
والله المعين (3).
__________
(1) الزيادة من ه، ط.
(2) ه " يمنع ".
(3) ط " والله أعلم " ه " والله المعين والله أعلم ".
[ * ](1/115)
20 [ باب الحرب كيف يعبأ له ] وفى نسخة كيف تغشاه (1) 112 - ذكر عن محمد بن ابراهيم بن الحارث رحمه الله قال: لما كان من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادى حنين (2) - وهو واد (3) حدور (4) ذو شعاب ومضايق.
وفرق الناس فيه، وأوعز (5) إلى الناس أن يحملوا على محمد (38 آ) وأصحابه حملة واحدة.
- أي أمرهم بذلك، وتقدم إليهم فيه -.
ومالك (6) هذا كان صاحب الجيش يوم حنين.
فكان أمرهم أن يستصحبوا أهاليهم وأموالهم ليقاتلوا عنهم إن (7) لم يقاتلوا عن دينهم.
فحطأه دريد بن الصمة في هذا الرأى.
وقال له: راعى الضأن (8) ماله وللحرب (9) ؟ وهل يرد المنهزم شئ ؟ هذا الذى تسوقونه كله غنائم
__________
(1) أ، ب، ه " يغشاه ".
(2) انظر ياقوت، معجم البلدان 3: 354.
(3) ط، ه، أ، ب، " وادى ".
(4) أ، ب " حذور " ه " جدور " ق " أجوف ".
(5) ط " وأوغر " ه " وأوعد الناس ".
(6) ه " ومالك بن عوف هذا ".
(7) أ، ب، ه " وإن ".
(8) ط " ضأن ".
(9) ط " والحرب ".
[ * ](1/116)
محمد وأصحابه (1).
قيل: فما الرأى ؟ قال: أن تحملوا الظعن إلى علياء بلادكم.
وأن يلقى الرجال بالسيوف على متون الخيل عدوهم.
فقال مالك: لا أغير ما صنعت.
فهل غير هذا ؟ قال: نعم.
اجعل الناس فريقين: يمنة ويسرة، ليكمنوا (2) في هذه (3) الشعاب والمضايق، حتى إذا دخلها العدو خرجوا من الجانبين فحملوا عليهم حملة واحدة.
فقال: أما هذه فنعم.
وفعل ذلك برأيه.
وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فصفهم صفوفا في السحر، ووضع الاولوية في أهلها.
الحديث.
إلى أن قال: فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادى حنين انحدارا، وهو واد (4) حدور.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء دلدل.
فاستقبل الصفوف فطاف عليهم يحثهم على القتال ويبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا.
وهكذا ينبغى للامام أن يفعله في موضع الخوف، وبالليل إذا كانوا بالقرب من العدو.
قال: فبينما هم على ذلك ينحدرون في غبش الصبح إذ حمل المشركون عليهم حملة واحدة من تلك الشعاب والمضايق فانكشفت أول الخيول
__________
(1) ط " فحمدوه أصحابه ".
(2) ه " ليمكنوا ".
(3) ب، أ " هذا ".
(4) ط، ه، أ، ب " وادى ".
[ * ](1/117)
خيل بنى سليم مولية - يعنى انهزمت راجعة -، ثم تبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس مدبرين لا يلوي أحد على أحد.
وفى المغازى (1) أن إبليس عليه اللعنة نادى: ألا إن محمدا قد قتل.
فليرجع كل ذى دين دينه.
فلهذا انهزموا كما قال تعالى { ثم وليتم مدبرين } (2).
وأمعن بعضهم في الانهزام حتى انتهى إلى مكة.
وسمع صفوان بن أمية واحدا من المنافقين يقول: قتل محمد واستراح الناس منه.
وكان صفوان يومئذ مشركا فقال: بفيك الاثلب (3).
لرب من قريش أحب إلى من رب من هوازن إذا كنت مربوبا.
قال: فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم في (4) دابته حتى رأى المسلمين ولوا مدبرين.
فثبت قائما، وجرد سيفه وطرح غمده.
فجعل يتقدم في نحر العدو وهو يصيح بأعلى صوته.
يا أصحاب الشجرة يوم الحديبية ! الله الله ! الكرة على نبيكم.
وذكر في المغازى أنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه
العباس رضى الله عنه على يمينه، وسفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رضى الله عنهما (38 ب) على يساره.
وما كان كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم يوم فتح مكة إلى هذا الوقت، لكثرة ما كان آذاه بهجائه.
فحين رأى ذلك الحد منه كلمه وعانقه.
وبلغ الله صوت رسوله إلى المهاجرين والانصار فكبروا بأجمعهم، وحملوا على العدو حملة واحدة، فانهزم العدو قبل أن يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف كما قال الله تعالى { وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا.
الآية } (5).
__________
(1) ه، ط " وفى المغازى ذكر أن..".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 25.
(3) الاثلب التراب والحجارة أو فتاتها (القاموس).
(4) ط، ه " من ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 26.
[ * ](1/118)
21 [ باب الحرب خدعة (1) ] 113 - ذكر عن سعيد (2) بن ذى حدان قال: أخبرني من سمع عليا رضى الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة أو خدعة بالنصب.
وكلاهما لغة.
وفيه دليل على أنه لا بأس للمجاهد أن يخادع قرنه (3) في حالة القتال، وأن ذلك لا يكون غدرا منه.
وأخذ بعض العلماء بالظاهر فقالوا: يرخص في الكذب في هذه الحالة، واستدلوا بحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: في الصلح بين اثنين، وفى القتال، وفى
إرضاء الرجل أهله ".
والمذهب عندنا أنه ليس المراد (4) الكذب المحض، فان ذلك لا رخصة فيه، وإنما المراد استعمال المعاريض.
وهو نظير ما روى أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه كذب ثلاث كذبات.
والمراد أنه تكلم بالمعاريض، إذ الانبياء عليهم صلوات الله وسلامه معصومون (5) عن الكذب المحض.
__________
(1) العنوان ساقط من ب، أ، ط موجود في ه وبعده: فيه لغتان بنصب الحاء وبرفعه، وبالنصب أفصح.
(2) ط " سعد " وهو خطأ.
(3) ط، ه " قرينة ".
(4) ط، ه " المراد به ".
(5) ب، أ " معصومين ".
[ * ](1/119)
وقال عمر: إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب.
وتفسير هذا ما ذكره محمد رحمه الله في " الكتاب ".
وهو أن يكلم من يبارزه بشئ وليس الامر كما قال.
ولكنه يضمر خلاف ما يظهره (1) له.
كما فعل (2) على رضى الله عنه يوم الخندق حين بارزه عمرو بن عبد ود قال أليس قد ضمنت لى أن لا تستعين على بغيرك ؟ فمن هؤلاء الذين دعوتهم ؟.
فالتفت كالمستبعد لذلك فضرب على ساقيه ضربة قطع رجليه.
وكان من الخدعة أن يقول لاصحابه قولا ليرى من سمعه أن فيه ظفرا أو أن فيه أمرا يقوى أصحابه، وليس الامر كذلك حقيقة، ولكن يتكلم على وجه لا يكون كاذبا فيه ظاهرا.
على ما روى
أن عليا رضى الله عنه في حروبه كان ينظر إلى الارض ثم يرفع رأسه إلى السماء يقول: ما كذبت ولا كذبت.
يرى من حضره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما ابتلى به، وأمره في ذلك بما أمر به أصحابه.
ولعله لا يكون كذلك.
فهذا ونحوه لا بأس به.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الجنة لا يدخلها العجايز ".
فلما سمعت العجوز ذلك جعلت تبكى حتى بين لها صفة أهل الجنة حين يدخلونها.
__________
(1) ه " يظهر ".
(2) ه، ط " قال ".
[ * ](1/120)
ومن هذا النوع أن يقيد كلامه بلعل وعسى، فإن ذلك بمنزلة الاستثناء (39 آ) يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة على ما قال: بلغنا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
واسم هذا الرجل مذكور في المغازى نعيم بن مسعود [ الثقفى ].
فقال: يا رسول الله ! إن بنى قريظة قد غدرت وبايعت أبا سفيان وأصحابه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعلنا نحن أمرناها بهذا.
فقال: أنت سمعته يقول هذا ؟ قال: نعم.
قال: فوالله ما كذب.
وتمام هذه القصة ذكر في المغازى من وجهين: أحدهما: أن بنى قريظة كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن جاء الاحزاب ومعهم حيى بن أخطب رأس بنى النضير.
فما زال بكعب ابن الاشرف (1) وبنى قريظة حتى نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوا أبا سفيان، عى أن يغيروهم (2) على المدينة والاحزاب
يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فاشتد الامر على المسملين لذلك كما قال الله تعالى { إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم } (3).
فجاء نعيم بن مسعود يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المبايعة، وهو كان مشركا يومئذ فقال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: " فعلنا أمرناهم بذلك " يريد (4) أن هذا من مواطأة بيننا وبينهم حتى نحيط بالاحزاب من كل جانب.
فلما خرج من عنده قال له عمر: يا رسول الله، أمر بنى قريظة أهون من أن
__________
(1) ه " الاشراف " ب " الاسد " والصحيح ما أثبتنا، انظر تهذيب التهذيب.
(2) ه " يغزوهم ".
(3) سورة الاحزاب، 23، الآية 10.
(4) ه " ليريهم أن ".
[ * ](1/121)
يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة يا عمر ".
فكانت تلك الكلمة سبب تفرقهم وتفرق كلمتهم وانهزامهم.
والوجه الآخر: أنهم بعد هذه المبايعة قالوا لحيى بن أخطب: لا نأمن أن يطول الامر وتذهب الاحزاب ونبقى مع محمد فيحاصرنا ويخرجنا من ديارنا كما فعل بك وباصحابك.
فقال حيى بن أخطب: أنا أطلب منهم أن يبعثوا سبعين من أبناء كبرائهم إليكم ليكونوا رهنا في حصنكم.
وكان نعيم بن مسعود عندهم حين جرت هذه المحاورة، فحثهم على ذلك.
فقالوا (1): هو الرأى.
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره.
بما جرى.
فقال صلى الله عليه وسلم: " فلعلنا أمرناهم بذلك ".
فجاء إلى أبى سفيان فوجد عنده رسول بنى قريظة يسأله الرهن.
فقال له: هل علمت أن محمدا لم يكذب قط ؟ قال: نعم.
فقال: إنى سمعته الآن يقول كذ.
وهذا (2) مواطأة بينه وبين بنى قريظة،
ليأخذوا سبعين منكم فيدفعوهم إليه ليقتلهم، وقد ضمن لهم على ذلك إصلاح جناحهم، يعنى رد بنى النضير إلى ؟ ؟ دارهم.
فقالوا: هو كما قلت واللات والعزى.
وكان ذلك يوم الجمعة.
فبعث إلى بنى قريظة أن اخرجوا على تلك المبايعة التى بيننا فقد طال الامر.
فقالوا: غدا يوم السبت، ونحن لا نكسر السبت.
ومع ذلك لا تخرج حتى تعطونا الرهن (39 ب).
فقال أبو سفيان: هو كما أخبرنا به نعيم.
وقذف الله الرعب في قلوبهم فانهزموا في تلك الليلة.
وكفى الله المؤمنين القتال.
قال محمد بن الحسن رحمه الله: فهذا ونحوه من مكايد الحرب فلا بأس به.
__________
(1) ه، ط " فقال ".
(2) ه " وهو ".
[ * ](1/122)
22 [ باب الفرار من الزحف ] 114 - قال محمد رحمه الله: لا أحب لرجل من المسلمين به قوة أن يفر من رجلين من المشركين (1).
وهذا لقوله تعالى { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } (2).
وفيها تقديم وتأخير معناه: ومن يولهم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا محترفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، أي سرية، للقتال بالكرة على العدو من جانب آخر.
أو (3) متحيزا إلى فئة أي ينحاز فيتوجه إليهم.
يقال: تحرز وتحيز إلى فلا أي انضم إليه.
والفئة القوة والجماعة.
واختلف أهل التفسير.
فقال قتادة والضحاك: كان هذا يوم بدر خاصة، إذ لم يكن للمسلمين فئة ينحازون إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم.
وأكثرهم على أنه لم ينسخ هذا الحكم.
والفرار من الزحف من الكبائر على ما قال صلى الله عليه وسلم: " خمس من الكبائر لا كفارة فيهن " وذكر في الجملة الفرار من الزحف.
وقال:
__________
(1) ط " رجلين مشركين ".
(2) سورة الانفال، 8، الآية 16: وفى ه، ط قوله " فقد باء..بئس المصير " لا يوجد.
(3) ه " أي ".
[ * ](1/123)
" إن من أعظم الموبقات الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم القتال، وقذف المحصنات ".
ثم إن كان عدد المسلمين مثل نصف عدد المشركين لا يحل لهم الفرار منهم وكان الحكم في الابتداء أنهم إذا كانوا مثل عشر المشركين لا يحل لهم أن يفروا، كما قال الله تعالى { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } (1) ومن أخبر الله أنه غالب فليس له أن يفر.
ثم خفف الامر فقال: { الآن خفف الله عنكم } (2) إلى قوله { فان يكن منكم فئة صابرة يغلبوا مائتين } (3).
وهذا إذا كان بهم قوة القتال بأن كانت معهم الاسلحة.
فأما من لا سلاح له فلا بأس بأن يفر ممن معه السلاح.
وكذلك لا بأس بأن يفر ممن يرمى إذا لم يكن معه آلة الرمى.
ألا ترى (4) أن له أن يفر من باب الحصن، ومن الموضع الذى يرمى فيه بالمنجنيق لعجزه (5) عن المقام في ذلك الموضع ؟ وعلى هذا لا بأس بأن يفر الواحد من الثلاثة، إلا أن يكون المسلمون اثنى عشر ألفا كلمتهم واحدة.
فحينئذ لا يجوز لهم أن يفروا من العدو وإن كثروا لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة، ومن كان غالبا فليس له أن يفر ".
115 - وذكر عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد وأنا فيهم.
فحاص المسلمون حيصة، يعنى انهزموا من العدو.
فلما قدمنا المدينة قلنا: نحن الفرارون.
فقال
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 65.
(2) سورة الانفال، 8، الآية 66.
(3) سورة الانفال، 8، الآية 66.
(4) ط " ألا يرى ".
(5) ه " لعجز ".
[ * ](1/124)
صلى الله عليه وسلم: بل أنتم العكارون في سبيل الله.
أنا لكم فئة [ لترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله ] (1).
والمراد بالعكار الراجع إلى القتال في سبيل الله (2).
يعنى.
كان هذا منكم تحيزا إلى.
أنا لكم (40 آ) فئة لترجعوا معى إلى الجهاد في سبيل الله.
116 - قال محمد رحمه الله: قتل أبو عبيد (3) الثقفى، وهو أبو المختار، يوم قس الناطف (4) - اسم موضع -، وأبى أن يرجع حتى قتل.
فقال عمر رضى الله عنه: يرحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إلى كنت له فئة.
ففى هذا بيان أنه لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلمين (5) من العدو مالا يطيقهم (6).
ولا بأس بالصبر أيضا بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء النفس في التهلكة، بل في هذا تحقيق بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى،
فقد فعله غير واحد من الصحابة رضى الله عنهم منهم عاصم بن ثابت حمى الدبر (7)، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فعرفنا أنه لا بأس به، والله الموفق.
__________
(1) من ط، ه.
(2) في القاموس " العكار الكرار العطاف، واعتكروا في الحرب، والعسكر رجع بعضه على بعض فلم يقدر على عده ".
(3) ط " أبو عبيد الله ".
(4) قس الناطف موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، كانت به وقعة بين المسلمين والفرس سنة ثلاث عشرة (ياقوت، معجم البلدان)، وفى ب " قسط الناطق " ه " الناطف " ط " قيس الناطف " وكلها خطأ، والصواب ما أثبتنا.
(5) ط، ه " المسلم ".
(6) ط " يطيقه ".
(7) في هامش ق: الذى حماه الدبر.
ا ه، والدبر جماعة النحل (القاموس).
[ * ](1/125)
23 [ باب من أسلم في دار الحرب ] ولم يهاجر إلينا 117 - قال: وإذا أسلم رجل من أهل الحرب فقتله رجل من المسلمين قبل أن يخرج إلى دار الاسلام خطأ فعليه الكفارة ولادية عليه.
118 - وفى الاملاء عن أبى حنيفة رحمه الله أنه لا كفارة عليه أيضا، لان وجوبها بها باعتبار تقوم الدم لا باعتبار حرمة القتل فقط.
ألا ترى أنها لا تجب بقتل نساء أهل الحرب.
وتقوم الدم يكون بالاحراز بدار الاسلام.
والدليل على وجوب الكفارة قوله تعالى { فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } (1).
جاء في التفسير عن عطاء ومجاهد رحمهما الله: أنه الرجل يسلم فيقتل خطأ قبل أن يأتي المسلمين.
وقيل نزول (2) الآية في رجل يقال له مرداس كان أسلم فقتله أسامة ابن زيد رضى الله عنهما قبل أن يأتي المسلمين، وهو لا يعلم بإسلامه.
فأوجب الله الكفارة دون الدية.
ثم الدية تجب حقا لله تعالى، والاحراز بالدين يثبت في حق الله تعالى، وإنما الحاجة إلى الاحراز بالدار فيما يجب من الضمان لحق العباد.
وقد قررنا هذا في " السير الصغير " والله الموفق (3) وبه العون.
__________
(1) سورة النساء، 4، الآية 92.
(2) ه " نزل ".
(3) ط " والله أعلم ".
[ * ](1/126)
24 [ باب دواء الجراحة ] 119 - روى عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.
120 - وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم شج في وجهه يوم أحد حتى سال الدم على خده وقال: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بدمه وهو يدعوهم إلى الله ؟ فنزل قوله تعالى { ليس لك من الامر شئ } (2).
ثم داوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه، فروى أنه أحرق قطعة من حصير فداوى به وجهه.
وروى أنه داواه بعظم بال وعصب عليه.
وكان يمسح على
الجبائر أياما.
وفيه دليل جواز الاشتغال بالمداواة للجراحات.
121 - وقد كرهه بعض الناس لآثار جاءت في النهى.
منها (3) ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتى
__________
(1) اسمه أسعد.
انظر تهذيب التهذيب 12: 13.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 128.
(3) ا، ب " منه ".
[ * ](1/127)
سبعون ألفا بغير حساب (40 ب).
قيل: من هم يا رسول الله ؟ قال: الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
122 - واعتمادنا في جواز المداواة على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تداووا عباد الله ! فإن الله لم يخلق داء الا وخلق له دواء.
إلا السام (1) والهرم ".
وما رووا قد انتسخ بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ رضى الله عنه بمشقص (2) حين رمى يوم الخندق فقطع أكحله (3).
وروى أنه كوى أسعد بن زرارة (4) رضى الله عنه.
ثم وجه التوفيق بين الخبرين.
أنه إذا كان يعتقد أن الدواء هو الذى يشفيه فلا يحل له أن يشتغل بالتداوي.
وفيه دليل جواز المداواة بعضم بال.
وهذا لان العظم لا يتنجس بالموت على أصلنا، لانه لا حياة فيه إلا أن يكون عظم الانسان أو عظم خنزير فإنه يكره التداوى به لان الخنزير نجس العين فعظمه نجس كلحمه لا يجوز الانتفاع
به بحال ما.
والآدمي محترم بعد موته على ما كان عليه في حياته.
فكما يحرم التداوى بشئ من الآدمى الحى إكراما له فكذلك لا يجوز التداوى بعظم الميت.
قال صلى الله عليه وسلم: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحى ".
__________
(1) السام الموت (القاموس).
(2) مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش (القاموس).
(3) الاكحل عرق في اليد، أو عرق الحياة (القاموس).
(4) ط " برادة " وهو خطأ.
انظر تهذيب التهذيب.
[ * ](1/128)
123 - وذكر عن الزهري قال: قضت السنة أن لا يسترق كافر مسلما.
قال: وبه نأخذ إذا أسلم عبد الكافر لم يترك يسترقه ويجبر (1) على بيعه.
حمل الحديث على استدامة الملك والاستخدام قهرا بملك اليمين، لان الاسترقاق مستدام، والاستدامة فيما يستدام كالانشاء.
وقيل: المراد ابتداء الاسترقاق في الحر المسلم، فان ذلك لا يثبت الكافر عليه، وإن أخذه واستبعده.
وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم " الاسلام يعلو ولا يعلى ".
والمراد به الحكم دون الاخبار عن الحسن (2)، فإن ذلك يتحقق.
ولا يجوز الخلف فيما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم المسلم مصون (3) عن إذلال الكافر إياه شرعا، وفى تبديل صفة المالكية بالمملوكية إذلال، وفى الاستخدام قهر، واستدامة الملك فيه إذلال أيضا، فيصان المسلم عن ذلك بأن يجبر الكافر على بيعه ولا يعتق عليه، لان ماليته فيه مصونة عن الاتلاف بعقد الذمة.
والسبب الذى اعترض بينهما غير
مؤثر في إيجاب الصلة له عليه.
ولهذا لا يعتق، بخلاف القريب فإنه يعتق على قريبه إذا ملكه، لان للقرابة تأثير في استحقاق الصلة.
124 - قال: وينبغى للرجل إذا أسلم أن يغتسل عن (4) الجنابة، لان المشركين لا يغتسلون عن الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في (5) ذلك.
__________
(1) ه " ويخير ".
(2) ه " الحسن ".
(3) ه " مصئون ".
(4) ه " غسل ".
(5) ه " عن ".
م - 9 السير الكبير [ * ](1/129)
وفى هذا بيان (41 آ) أن صفة الجنابة تتحقق في الكافر بمنزلة الحدث إذا وجد سببه، ولكن اختلف مشايخنا في أن الغسل متى يلزمه.
فمن يقول: يخاطبون بالشرائع، يقول: الغسل واجب عليه في حال كفره، ولهذا لو أتى به صح.
ومن يقول: لا يخاطبون بالشرايع، فيقول إنما يلزمه الاغتسال بعد الاسلام، لان صفة الجنابة مستدامة بعد الاسلام كانشائه.
وصحة الاغتسال منه قبل الاسلام لوجود سببه.
ولهذا لو انقطع دم الحائض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال به، لانه لا استدامة للانقطاع.
فإذا لم يوجد السبب بعد الاسلام حقيقة وحمكا لا يلزمها الاغتسال.
ومعنى قوله إنهم لا يدرون كيف الغسل، أنهم لا يأتون بالمضمة والاستنشاق في الاغتسال من الجنابة.
وهما فرضان، فلهذا يؤمر إذا أسلم
بالاغتسال (1) من الجنابة.
125 - واستدل عليه بحديث أبى هريرة رضى الله عنه أن ثمامة ابن أثال (2) الحنفي لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل.
قال ابن عمر رضى الله عنهما: زعموا أنه أنه صلى ركعتين.
فقال صلى الله عليه وسلم: قد (3) حسن إسلام صاحبكم.
وعن كليب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه فقال: احلق عنك شعر الكفر.
فحلق رأسه.
126 - قال محمد رحمه الله: ولا نرى هذا من الواجب على الناس
__________
(1) ب، أ " يؤمر إذا بالاغتسال ".
(2) ط " يمامة بن أثال ".
(3) ب، أ " فقد ".
[ * ](1/130)
ألا ترى أنه لم يأمر به أكثر أصحابه ؟ ولعله رأى كليبا معجبا بشعره فأمره بأن يزيل ذلك عن نفسه لدفع الاعجاب عنه، أو استحب له زيارة التطهير بأن يزيل عن نفسه ما كان نابتا من شعر رأسه في حال الكفر.
بخلاف ما تقدم من الاغتسال، فإن الامر (1) به كان على سبيل الايجاب لتقرر سببه.
__________
(1) ط " فإن ذلك الامر به ".
[ * ](1/131)
25 [ باب اتخاذ الانف من الذهب (1) ] 127 - وذكر عن عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه يوم الكلاب (2) في الجاهلية، فاتخذ (3) أنفا من ورق، فأنتن عليه، فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب.
وبهذا يأخذ محمد رحمه الله فيقول: 128 - لا بأس بذلك.
وكذلك إذا سقطت سنه فلا بأس أن يتخذ سنا من ذهب أو يضبب أسنانه من ذهب.
وهو مروى عن إبراهيم.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: يكره ذلك.
ولا يرى بأس بأن يتخذه من الفضة لان استعمال الفضة للانتفاع جائز للرجل دون استعمال الذهب، بدليل اتخاذ الخاتم.
وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم خص عرفجة بهذه الرخصة.
ثم من أصل أبى حنيفة رضى الله عنه أن العام المتفق على قبوله له يترجح على الخاص.
فرجح الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الذهب بيمينه والحرير بشماله وقال: " هذان حرامان على (41 ب) ذكور أمتى حل لاناثهم (4) "، والله أعلم.
__________
(1) هذا العنوان ساقط من ط.
وفى ق زيادة " من الذهب والفضة ".
(2) الكلاب كغراب ماء بين الكوفة والبصرة كان فيه يوم (انظر تفصيله في ياقوت، معجم البلدان 7: 269).
(3) ه " واتخذ ".
(4) ط " لاناثها ".
[ * ](1/132)
26 [ باب أموال المعاهدين ] 129 - [ قال ] (1): وإذا أودع المسلمون قوما من المشركين فليس يحل لهم أن يأخذوا شيئا من أموالهم إلا بطيب أنفسهم، للعهد الذى جرى بيننا وبينهم.
فإن ذلك العهد في حرمة التعرض للاموال والنفوس
بمنزلة الاسلام.
فكما لا يحل شئ من أموال المسلمين إلا بطيب أنفسهم فكذلك لا يحل شئ من أموال المعاهدين.
وهذا لان في الاخذ بغير طيب أنفسهم معنى الغدر وترك الوفاء بالعهد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " في العهود وفاء لا غدر (2) فيه ".
130 - ثم استدل عليه بحديث أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه أن ناسا من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام العهود فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك فأخذوا منها بقلا أو ثوما (3).
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه فنادى في الناس: إن رسول الله يقول: لا أحل لكم شيئا من أموال المعاهدين إلا بحق.
__________
(1) من ط، ه.
(2) ب، أ " عذر ".
(3) ه، ط " فوما ".
[ * ](1/133)
27 [ باب دخول المشركين المسجد ] 131 - وذكر عن الزهري أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد في الهدنة وهو كافر.
غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام (1).
قال الله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام.
الآية } (2).
والمراد بالهدنة الصلح الذى كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة يوم الحديبية.
وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد ما نقضوا هم العهود (3) وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد.
ولذلك قصة.
فهذا دليل لنا على مالك رضى الله عنه فانه يقول: لا يمكن المشرك من أن يدخل شيئا في المساجد.
والدليل على ذلك أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد.
فقيل: هم أنجاس.
فقال: " ليس على الارض من نحاستهم شئ ".
ثم أخذ الشافعي رضى الله عنه بحديث الزهري فقال: يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة للآية (4).
__________
(1) في ط زيادة " خاصة عند الشافعي " ولا توجد في سائر النسخ.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 28.
(3) ط، ه " العهد ".
(4) ه " الآية ".
وهى ساقطة من ط.
[ * ](1/134)
فأما عندنا فلا يمنعون عن ذلك كما لا يمنعون من دخول سائر المساجد ويستوى في ذلك الحربى والذمى.
وتأويل الآية: الدخول على الوجه الذى كانوا اعتادوا في الجاهلية، على ما روى أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.
و (1) المراد القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام.
وبه نقول إن ذلك ليس إليهم، ولا يمكنون في ذلك بحال.
__________
(1) ط " أو ".
[ * ](1/135)
28 [ باب دخول النساء الحمام وركبهن السروج ] 132 - وذكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب أن
لا يدخل الحمام إلا امرأة نفساء أو مريضة.
وبهذا يأخذ من يكره النساء دخول (42 آ) الحمامات.
ويستدل بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة وضعت جلبابها في غير بيت زوجها فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
ولما دخلت نساء حمص (1) على عائشة رضى الله عنها قالت: أنتن من اللاتى تدخلن الحمامات ؟ فقلن: نعم.
فأمرت باخراجهن وغسل موضع جلوسهن.
فأما عندنا فلا بأس للمرأة أن تدخل الحمام إذا خرجت متعففة واتزرت حين دخلت الحمام.
لان دخول الحمام بمعنى (2) الزينة، وهى النساء أليق منها بالرجال.
أو للحاجة إلى الاغتسال، وأسباب وجوب الاغتسال في حق النساء أكثر.
والرجل يتمكن من الاغتسال بالحياض والانهار، والمرأة لا تتمكن من ذلك.
وتأويل الحديث أنه إنما كره للمرأة الخروج بغير إذن زوجها.
وقد أمرن بالقرار في البيوت.
قال الله تعالى: { وقرن في بيوتكن.
الآية } (3).
قال: ولا تركب امرأة مسلمة على سرج.
وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الفروج على السروج ".
__________
(1) مدينة مشهورة في سورية.
(2) ه " المعنى ".
(3) سورة الاحزاب، 33، الآية 33.
[ * ](1/136)
ثم المراد إذا ركبت متلهية، أو ركبت متزينة لتعرض نفسها على الرجال فأما إذا ركبت لحاجتها إلى ذلك بأن كانت ممن (1) يجاهد أو يخرج للحج مع زوجها فركبت متسترة فلا بأس بذلك.
قال: ولا يترك أهل الكتاب يركبون على السروج ولكن
على الاكف (2)، ويؤمرون بأن يتنطقوا حتى يعرفوا.
أي يتخذوا الزنانير فوق ثيابهم، ويركبون على السروج التى على هيئة الاكف.
وهو الذى يكون في قربوسه شبه الرمانة.
وهذا لانهم يمنعون من التشبه بالمسلمين فيما يكون فيه معنى العز.
قال صلى الله عليه وسلم: " أذلوهم ولا تظلموهم ".
وان عمر بن الخطاب رضى الله عنه صالحهم على أن يشدوا على أوساطهم الزنانير.
وكتب إلى عماله: مروا أهل الذمة بأن يختموا (3) رقابهم بالرصاص، وأن يتنطقوا ولا يتشبهوا بالمسلمين.
وتمام بيان هذا الفصل يأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والله الموفق.
__________
(1) ط " بأن كانت تجاهد أو تخرج ".
(2) ط " بل يركبون على السروج التى كهيئة الاكف وهو الذى يكون في قربوسة شبه الرمانة ويؤمرون.." وقد خلط المتن بالشرح.
(3) ط " يجمعوا ".
[ * ](1/137)
29 [ باب من الجعائل ] 133 - قال أبو حنيفة رضى الله عنه: تكره الجعائل ما دام للمسلمين قوة، فإذا لم يكن فلا بأس أن يقوى بعضهم بعضا لقوله تعالى { وجاهدوا في الله حق جهاده } (1) وحق الجهاد أن يجاهدوا (2) بالمال أو النفس.
فإذا كان الذى يخرج صاحب مال ينبغى له أن يجاهد بماله ونفسه ولا يأخذ من غيره جعلا في عمله لله تعالى، وإذا لم يكن له مال فلا بأس بأن يأخذ من غيره بطيب (3) نفسه.
ما يتقوى به على الجهاد، ليكون هو مجاهدا بنفسه وصاحب المال مجاهدا بماله.
134 - كما روى عن عمر رضى الله عنه أنه كان يغزى العزب (4) عن ذى الحليلة، وكان يعطى (42 ب) للغازي فرس القاعد.
135 - وذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن الجعائل فقال: من جعله في كراع (5) أو سلاح فلا بأس به.
__________
(1) سورة الحج، 22، الآية 78.
(2) ط " يجاهدوا ".
(3) ط، ق " بطيبة ".
(4) العزب محركة من لا أهل له (القاموس).
(5) في هامش ق " الكراع سمى به الخيل خاصة.
وعن محمد: الكراع الخيل والبغال والحمير.
مغرب ملخصا ".
[ * ](1/138)
وهذا لان صاحب المال إنما أعطى المال ليتقوى به على الجهاد، حتى (1) يكون هو مجاهدا بماله فيكره له أن لا يستعين به على العدو ويتفضل (2) لنفسه.
136 - كما روى أنه سئل عبدالله بن يزيد الانصاري رضى الله عنه عن الرجل يجعل الجعل ثم يبدو له فيجعل أقل مما اجتعل قال: إذا لم يكن أراد الفضل فلا بأس به.
يعنى إذا لم يكن قصده أن يحبس الفضل ليصرفه على حوائج نفسه فلا بأس به فيرد، ما فضل على المأخوذ منه إذا رجع.
بمنزلة من يحج من غيره إذا رجع بفضل نفقته يلزمه أن يرده.
وهذا لانه لو لم يرد الفضل كان ذلك
في معنى الاجرة (3) له على عمله، والاستيجار على الجهاد باطل.
137 - وعلى هذا لو أراد الامام أن يجهز جيشا فإن كان في بيت المال سعة فينبغي له أن يجهزهم بمال بيت المال ولا يأخذ من الناس شيئا، وإن لم يكن في بيت المال سعة كان له أن يتحكم على الناس بما يتقوى به الذين يخرجون إلى الجهاد.
لانه نصب ناظرا لهم، وتمام النظر في ذلك.
على ما روى أن معاوية رضى الله عنه ضرب بعثا على أهل الكوفة، فرفع عن جرير (4) بن عبدالله وعن ولده فقالا: لا نقبل ذلك، ولكن نجعل من أموالنا للغازي.
__________
(1) ط " وحتى ".
(2) ق " يستفضل " وفى الهامش " يتفضل، نسخة ".
(3) ط " الاجر ".
(4) ب، أ، " عن جرير وولده ".
[ * ](1/139)
138 - وذكر عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها.
يعنى أن الغزاة يعملون لانفسهم.
قال الله تعالى: { إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم } (1) ثم يأخذون الجعل من إخوانهم من المؤمنين ليتقووا به على عدوهم.
وذلك لهم حلال.
كما أن أم موسى كانت تعمل لنفسها في إرضاع ولدها وتأخذ الاجر من فرعون تتقوى به على الارضاع، وكان ذلك حلالا لها.
139 - قال: وإذا أعطى الرجل رجلا (2) جعلا على أن يسلم فأسلم فهو مسلم، لانه وجد منه حقيقة الاسلام وهو التصديق والاقرار.
وباشتراط الجعل لا يتمكن خلل في ذلك، فيحكم باسلامه، سلم له الجعل أو لم يسلم، لان أكثر ما فيه أنه لا يتم رضاه بدون سلامة الجعل له.
وذلك لا يمنع صحة الاسلام، كمن أسلم مكرها.
وللذى شرط الجعل أن يمنعه ذلك إن شاء، وإن أعطاه فهو أفضل.
لانه وعد له ذلك.
والوفاء بالعهد من أخلاق المؤمنين، وخلف الوعد من أخلاق المنافقين.
إلا أن الذى أسلم عامل لنفسه فلا يستوجب الجعل به على (43 آ) غيره، لانه إنما استوجب الجعل عليه عوض عمله له، والمال لا يكون عوضا عن الاسلام، وهو ليس بعامل له ليستوجب عليه العوض.
فما وعد له إما أن يكون رشوة أو صلة لتزداد به رغبته في الاسلام.
وواحد منهما لا يتعلق به الاستحقاق قبل التسليم.
فإذا أبى أن يعطيه الجعل فرجع عن الاسلام فهو مرتد، إن لم يرجع إلى الاسلام ضربت عنقه، لقوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه ".
وهذا بخلاف المكره على الاسلام إذا ارتد عن الاسلام فانه لا يقتل
__________
(1) سورة الاسراء، 17، والآية 7.
(2) ط " الرجل ".
[ * ](1/140)
استحسانا لان قيام السيف على رأس دليل على أنه غير معتقد بما (1) أقر به، فيصير ذلك شبهة يندرئ بها القتل.
فأما اشتراط الجعل فلا يكون دليلا على أنه غير معتقد فيتم إسلامه بلا شبهة.
فإذا ارتد بعد ذلك قتل.
140 - وذكر عن غالب بن خطاف (2) قال: كنا قعودا بباب الحسن فأتانا شيخ فسلم علينا وقعد.
ثم قال: حدثنى أبى عن جدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يسلم على قوم إلا فضلهم بعشر حسنات وإن ردوا.
وفيه دليل على أن البداية بالسلام أفضل، وأن ثواب المبتدئ به أكثر (3)، لان الجواب يبتنى على السلام، والبادى بالسلام هو المسبب للجواب، وهو البادئ بالاحسان، والراد يجازى (4) إحسانه بالاحسان.
ثم قال: حدثنى أبى عن جدى أنه جعل للقوم مئة من الابل على أن يسلموا فأسلموا.
فبعثني أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاخبره بذلك وأسأل له العرافة.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبى يقرأ عليك السلام.
فقال: عليه وعليك.
فهذا دليل على أن من بلغ غيره سلاما من غائب ينبغى له أن يرد عليهما السلام، لان الغائب محسن إليه بالسلام والرسول بالايصال، فينبغي له أن يجازيهما
__________
(1) ط " لما ".
(2) ب، أ " قحطان " ط، ق " القطان وفى هامش ق " بن القحطان ن نسخة " أثبتنا رواية ه.
وفى تهذيب التهذيب: " غالب بن خطاف وهو ان أبى غيلان القطان أبو سليمان البصري.." وفى التقريب " غالب بن خطاف بضم المعجة وقيل بفتحها ".
(3) ط " اجزل ".
(4) في الاصول " مجازى ".
(5) ه " عليه وعليك السلام " ط " عليك وعليه السلام ".
[ * ](1/141)
قال: فقلت: وإنه جعل للقوم مئة من الابل على أن يسلموا فقد أسلموا وحسن إسلامهم، أفله أن يرجع فيما أعطاهم ؟ قال: إن شاء.
فإن ثبتوا على إسلامهم فذلك وإلا بعثنا إليهم الخيل.
وفى هذا دليل على أن المال الذى شرطه لهم صلة مبتدأة، وأن للواهب أن يرجع في الهبة ما لم يعوض منها، وأنه لا بأس بأن يرغب غيره في الاسلام
بهذا الطريق.
ألا ترى أن سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات منصوص عليه ؟ وقد كانوا يعطون ذلك للتأليف (1) بالثبات على الاسلام عند بعض المفسرين، والترغيب في الاسلام بعد ما وعدوا أن يؤمنوا عند بعضهم.
وفيه دليل على أنهم إذا ارتدوا بعد ما أسلموا على شرط الجعل فانهم يقتلون، لان المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " بعثنا إليهم الخيل " أي للقتال.
قال: وأمرني أن (43 ب) أسألك له العرافة.
قال: إن شاء.
ولكن العرفاء في النار.
أي لا أمنعه (2) ما سأل، ولكن أخبره أنه لا خير له فيما سأل.
والعرافة هي الرياسة، والعريف هو الوازع (3).
قال صلى الله عليه وسلم: " لابد للناس من وازع، والوازع في النار " يعنى أنه يظلمهم ويتكبر عليهم إذا ترأس غالبا، ومأوى الظالمين والمتكبرين النار.
ففيه بيان أن التحرز عن طلب الرياسة أفضل لانه أسلم.
141 - قال: وإن أعطى رجل مسلم مسلما مالا على قتل حربى
__________
(1) ط " للتألف ".
(2) ط، قد " ك نمنعه ".
(3) في هامش ق " الوزعة محركة جمع وازع.
وهم الولاة المانعون من محارم الله.
والوازع الكلب، والزاجر، ومن يدبر أمور الجيش ويرد من شذ منهم.
قاموس ".
[ * ](1/142)
فقتله فلا بأس بذلك وأحب للذى أعطاه أن يفى (1) له بذلك ولا يجبر عليه.
لان قتل الحربى جهاد، فمن يباشره يكون عاملا لنفسه أو عاملا لله تعالى في إعزاز الدين أو الجماعة المسلمين (2) في دفع فتنة المحارب عنهم،
فلا يستوجب الاجر على الذى وعدله المال، لما (3) لم يكن عمله له على الخلوص، ولكن إن وفى بما وعد له على الخلوص، فهو أفضل.
وإن أبى لم يجبر عليه في الحكم.
142 - ثم روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين (4) ابن وهب بعد ما أسلم: ألا ترى إلى ما هم به ابن عمك من قتلى ؟ فقال: أنا أكفيك يا رسول الله ! فاستأجر رجلا من العرب وجعل له عشرة دنانير على أن يقتله.
وفى رواية: جعل له خمسة أوساق من تمر على أن يقتله.
فقتله.
وهذا المقتول عمرو بن جحاش.
وفيه دليل أنه لا بأس بذلك فان ما أعطاه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا محالة.
__________
(1) ه " يفئ بذلك ".
(2) ه " أو للمسلمين " ط، ق " أو لجماعة المسلمين ".
(3) ه " ما ".
(4) ه " لياسين " وهو خطأ، ط " لبنيامين ".
[ * ](1/143)
143 - قال: وإن كان الامام أعطاه ذلك من مال بيت المال فينبغي له أن يفى (1) به له، لان مال بيت المال معد لحوائج المسلمين.
وهذا القاتل من وجه عامل للمسلمين، فينبغي للامام أن يفى (1) له بما وعد له أن يعطيه من مال بيت مال المسلمين (2)
__________
(1) ه " يفئ ".
(2) ه " من مال المسلمين " ط " من بيت المال المسلمين "، والجملة مطموسة في ق.
[ * ](1/144)
30 [ باب آنية المشركين ] وذبائحهم وطعامهم 144 - قال: لا بأس بأن يؤكل (1) ويشرب في آنية المشركين، ولكن لتغتسل بالماء قبل أن يؤكل فيها.
لان الاواني لا يلحقها نجاسة الكفر، وإنما يلحقها النجاسة العينية وذلك يزول بالغسل، فيستوى في هذا الحكم أواني المسلمين والمشركين، إلا أن المشركين لا ينعمون غسل الاواني.
فينبغي للمسلم أن يعيد الغسل، ولا يؤتمن المشرك على ذلك.
وإن لم يفعل وأخذ بالظاهر فلا بأس به، لان الاصل في الاواني الطهارة.
ولكن الغسل أقرب إلى الاحتياط لما روى عن أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه أنه قال: يا رسول الله، إنا نأتى أرض المشركين، أفنأكل في آنيتهم ؟ قال: فإن لم تجدوا منها بدا فاغسلوها ثم كلوا فيها.
وباقى الحديث قد بيناه في كتاب الصيد.
وسئل الحسن رحمه الله عن آنية المجوس وصحافهم وبرمهم (2) هل يطبخ فيها ويؤتدم فيها ؟ فقال للسائل: أنقها (3) غسلا ثم اطبخ فيها وائتدم.
وعن ابن سيرين رحمه الله أن (44 آ) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يظهرون على المشركين فيأكلون في آنيتهم ويشربون.
__________
(1) ب، أ " يأكل ".
(2) البرم، بضم فسكون قدر من حجارة (القاموس).
(3) ه " انفها " وهو خطأ.
م - 10 السير الكبير [ * ](1/145)
وعن حذيفة رضى الله عنه أنه أتى بباطية (1) قد شرب فيها خمر.
فأمر بها فغسلت، ثم شرب فيها.
فهذه الآثار تدل على صحة ما ذكرنا.
145 - قال: ولا بأس بطعام النصارى واليهود من الذبائح وغيرها لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } (2)، ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، لقوله صلى الله عليه وسلم " سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم (3) ".
وهذا لان المجوس يدعون إلاهين (4) فلا يصح منهم تسمية الله على الخلوص، وهو شرط حل الذبيحة، وأهل الكتاب يظهرون التوحيد وإن كانوا يضمرون في ذلك شركا.
146 - وروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: لا بأس بطعام المجوس إلا بالذبيحة.
وعن سويد غلام سلمان قال: أتيت سلمان رضى الله عنه يوم هزم الله أهل فارس بسلة وجد فيها خبز وجبن وسكين.
فجعل يطرح
__________
(1) في هامش ق " الباطنية بغير همز الناجود.
وعن أبى عمرو هي شئ من الزجاج عظيم يملا من الشراب ويوضع بين يدى الشرب يغرفون منها.
مغرب ".
(2) سورة المائدة، 5، الآية 5 (3) في هامش ق: " وفى حديث المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، أي خذوهم على طريقتهم واجروا في قبول الجزية مجراهم.
نهاية ".
(4) في النسخ " الاثنين ".
[ * ](1/146)
لاصحابه من الخبز ويقطع لهم من الجبن فيأكلون، وهم مجوس.
فعرفنا أنه لا بأس بطعامهم ما خلا الذبيحة.
وفيه دليل أنه لا بأس للغانمين أن يتناولوا من طعام الغنيمة قبل القسمة.
147 - وعن سعيد بن جبير رضى الله عنهما أنه سئل عن شواريز (1) المجوس وكوامخهم (2).
فقال: لا بأس به.
وهذا لانه لا يستعمل فيه شئ من الذبيحة، وهم في إصلاح الاطعمة فيما سوى الذبيحة كالمسلمين.
148 - وسئل الشعبى عن الاكل مع مجوس وهو يزمزم فقال: كل (3) من طعام المجوس.
ولم يتعرض لما سأله السائل.
وهذا للاثر (4) المروى عن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى عماله يأمرهم أن يمنعوا المجوس من الزمزمة إذا أكلوا.
ولكنه أثر شاذ.
ولاجل عقد الذمة نتركهم فيما هو (5) أعظم من ذلك من شرب الخمور وتناول الخنازير.
فلهذا لم يتعرض الشعبى لهذا الجانب، وأفتى له بتناول طعام المجوس، يعنى (6) ما خلا الذبيحة.
__________
(1) في هامش ق: " جمع شيراز وهو اللبن الرائب إذا استخرج منه ماؤه.
مغرب ".
(2) ه، ط " كواميخهم ".
وفى هامش ق: " والكامخ فارسي تعريب كامه وهو الردى من المرى (مغرب) والمرب منسوب إلى المربياء النسبة.
وفارسيته اب كامه ".
(3) ط " يحل ".
(4) ط، ه، ق " وهذا الاثر ".
(5) ه، ط، " تركهم وما هو أعظم ".
(6) لا توجد في ط.
[ * ](1/147)
149 - وعن إبراهيم رحمه الله قال: لما فتح أصحابنا السواد أكلوا من خبزهم.
وقد ذكر الواقدي في المغازى أنهم ظفروا بمطبخ كسرى، وقد أدركت القدور، وظنوا أن ذلك صبغ، فجعلوا يلطخون لحيتهم بذلك.
فقيل: إنه مأكول.
فأكلوا من ذلك حتى أتخموا (1).
ولكن الظاهر أن قدوره كانت لا تخلو عن اللحم، فإنما يحمل على أنه إنما تناول من ذلك بعض الاعراب الذين لا معرفة لهم بالاحكام ولا يستدل بفعل أمثالهم على الجواز.
150 - ثم ذكر على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه سئل عن ذبائخ النصارى من أهل الحرب فلم يربها بأسا.
وكره تزويج (2) نسائهم.
وإنما كره ذلك مخافة أن يبقى له نسل (44 ب) في دار الحرب، فأما أن يكون حراما عنده فلا.
151 - واستدل على هذا بحديث على رضى الله عنه (3).
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر (4) يدعوهم إلى الاسلام.
فمن أسلم قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية، وأن (5) لا يؤكل لهم ذبيحة ولا ينكح لهم امرأة.
__________
(1) ه " غموا ".
(2) كذا في جميع الاصول ولعلها " تزويج ".
(3) ه " واستدل على هذا الحديث بأن رسول..".
(4) هجر بلدة مشهورة بالبحرين (ياقوت، معجم البلدان).
(5) في الاصول " في أن ".
[ * ](1/148)
فكأنه استدل بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس بذلك على أنه لا بأس بنكاح نساء أهل الكتاب (1).
فانه بنى هذا الكتاب (2) على أن المفهوم حجة.
ويأتى بيان ذلك في موضعه (3).
152 - ثم بين أنه كما لا يحل له أن يطأ المجوسية بالنكاح لا يحل له أن يطأها بملك اليمين.
لان حل الوطئ يبتنى على ملك المتعة.
وذلك لا يثبت للمسلم (4) على المجوسية بسبب ملك اليمين، كما لا يثبت بسبب النكاح.
فأما الصابئون على قول أبى حنيفة رضى الله عنه فيحل أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم ولا يكره ذلك.
وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يحل ذلك.
وهم بمنزلة المجوس.
وهذا الاختلاف في أن الصابئين منهم.
فوقع عند أبى حنيفة أنهم صنف من النصارى يقرأون الزبور، وهذا هو الذى يظهرونه من اعتقادهم.
ووقع عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله أنهم يعبدون الكواكب ويعتقدون في أن الكواكب آلهة.
وهذا هو الذى يضمرونه من اعتقادهم، ولكنهم لا يستجيرون إظهار ما يعتقدون قط بمنزلة الباطنية.
فبنى أبو حنيفة الجواب على ما يظهرون، وهما بنيا على ما يضمرون.
وعلى ذلك هم بمنزلة المجوس أو شر منهم.
والله الموفق.
__________
(1) في ه زيادة "..من أهل الحرب ".
(2) ه " فانه يبنى هذا على أن المفهوم حجة ".
(3) في هامش ق " في باب ما يجب من طاعة الوالى وما لا يجب ".
(4) ه " للمسلمين ".
[ * ](1/149)
31 [ باب الاسلام ] 153 - ذكر عن الحسن رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الاوثان، وهم قوم لا يوحدون الله.
فمن قال منهم: لا إله إلا الله، كان ذلك دليلا على إسلامه.
والحاصل أنه يحكم باسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوما من اعتقاده، لانه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا، فنستدل (1) بما نسمع من إقراره على اعتقاده.
فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده.
وعبدة الاوثان كانوا يقرون بالله تعالى.
قال الله تعالى.
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } (2)، ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعالى: { إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } (3).
وقال فيما أخبر عنهم (4) { أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا لشئ عجاب } (5).
__________
(1) ط " فيستدل ".
(2) سورة الزخرف، 43، الآية 87 (3) سورة الصافات، 37، الآية 35.
(4) ب، أ، " عنه ".
(5) سورة ص، 38، 5.
[ * ](1/150)
فمن قال منهم: لا إله إلا الله، فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده (45 آ) فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ".
154 - وعلى هذا المانوية وكل من يدعى إلا هين إذا قال واحد منهم: لا إله إلا الله، فذلك دليل إسلامه.
فأما اليهود والنصارى فهم يقولون: لا إله إلا الله، تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم.
وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته.
فكان دليل الاسلام في حقهم الاقرار بأن محمدا رسول الله.
على ما روى [ عنه ] أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال اشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله.
فنظر الرجل إلى أبيه فقال له (1): أجب أبا القاسم.
فشهد بذلك ومات.
فقال صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذى أعتق بى نسمة من النار ".
ثم قال لاصحابه: " لوا (2) أخاكم ".
155 - قال: فأما اليوم (3) ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكنهم يزعمون أنه رسول إلى العرب لا إلى بنى إسرائيل.
ويتمسكون بظاهر قوله تعالى: { هو الذى
__________
(1) ه " فقال له أبوه ".
(2) لوا أمر من ولى يلى.
وفى هامش ق " أي لوا أمره في الدفن والكفن (حصيرى) وفى نسخة الحصيرى: " آووا " أي اتخذوا له مأوى وهو القبر ".
ا ه.
(3) ط، ه " اليهود " وهى أصح.
[ * ](1/151)
بعث في الاميين رسولا منهم } (1) فمن يقر منهم بأن محمدا رسول الله لا يكون مسلما حتى يتبرأ من دينه مع ذلك، أو يقر بأنه دخل في الاسلام.
حتى إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه.
لانهم لا يدعون ذلك.
فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له.
وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه.
فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الاسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك.
كذلك لو قال: برئت من اليهودية ولم يقل مع ذلك: دخلت في الاسلام، فإنه لا يحكم بإسلامه، لانه يحتمل أن يكون تبرأ من اليهودية ودخل في النصرانية.
فإن قال مع ذلك: ودخلت في الاسلام فحينئذ يزول هذا الاحتمال.
وقال بعض مشايخنا: إذا قال: دخلت في الاسلام يحكم باسلامه وإن لم يتبرأ مما كان عليه.
لان في لفظه ما يدل على دخول حادث منه في الاسلام، وذلك غير ما كان عليه.
فتضمن هذا اللفظ التبرى مما كان عليه.
ولو قال المجوسى: أسلمت، أو أنا مسلم، يحكم باسلامه.
لانهم لا يدعون هذا الوصف لانفسهم ويعدونه شتيمة بينهم يشتم الواحد منها بها ولده: فيكون ذلك دليل الاسلام في حقه.
156 - وذكر عن الحسن أن رجلا سأله فقال: يا أبا سعيد ! قدمت سفينة من الهند فاشتريت منها علجة مسبية فجئت بها إلى
__________
(1) سورة الجمعة، 62، الآية 2.
[ * ](1/152)
منزلي فماتت، أفأنبذها أم أغسلها وأصلى عليها ؟ فقال: سبحان الله لا، بل، اغسلها ثم كفنها، ثم صلى عليها، فإنها دخلت في الاسلام.
وتأويله في الصغيرة فانها إذا سبيت وليس معها واحد من أبويها فانه يحكم بإسلامها تبعا لدار الاسلام إذا دخلت فيها.
فأما الكبيرة التى قد عقلت الكفر فلا يحكم باسلامها، فلا يصلى عليها إذا ماتت قبل أن تصف الاسلام، لان الصلاة على الميت (45 ب) من حق المسلم على المسلم لاجل إيمانه.
ولكن يصنع بها ما سوى الصلاة من الغسل والتكفين والدفن، فإن ذلك (1) سنة الموتى (2) من بنى آدم.
ألا ترى إلى ما روى أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات أبو طالب فقال: إن عمك الضال قد توفى (3).
فقال: اذهب فاغسله وكفنه ووراه.
157 - وذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا قال له: ماتت أمي وهى نصرانية، أأتبع (4) جنازتها ؟ قال: اتبع جنازتها وادفنها ولا تصل عليها.
وبه نقول إذا لم يكن لها ولد كافر يقوم بدفنها.
فإنه ينبغى للولد المسلم أن يقول بذلك ولا يتركها جزرا (5) للسباع.
فقد أمر بالاحسان إلى والديه، وإن كانا مشركين، وبالمصاحبة معهما بالمعروف لقوله تعالى
__________
(1) قوله " والدفن، فإن ذلك " ساقط من ه.
(2) ه " الموت ".
(3) ه " مات " وكذا في ق وفوقها " توفى أصح ".
(4) ب، أ " اتبع ".
(5) الجزر جمع جزرة وهى الشاة السمينة (القاموس).
[ * ](1/153)
{ وصاحبهما في الدنيا معروفا } (1) وليس من الاحسان والمعروف أن
يتركهما بعد الموت جزرا للسباع.
فأما إذا كان هناك من يقوم بذلك من أقاربهما المشركين فالاولى للمسلم أن يدع ذلك لهم.
ولكن يتبع الجنازة إن شاء.
على ما روى أن الحارث بن أبى ربيعة ماتت أمه نصرانية، فتتبع جنازتها في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
إلا أنه إذا كان مع الجنازة قوم من أهل دينها فينبغي للمسلم أن يمشى ناحية منهم ولا يخالطهم فيكون مكثرا سواد المشركين، أو يمشى أمام الجنازة ليكون معتزلا عنهم.
158 - وذكر عن إبراهيم رحمه الله في السبى (2) إذا أقر بالاسلام وأسلم ثم مات قبل أن يصلى.
قال: يصلى عليه.
وبه نقول، فإنه قبل أن يصلى.
تم إسلامه، لان الصلاة من شرائع الاسلام لا من نفس الاسلام.
وعن سلمة قال: قال: سألت الشعبى عن السبى متى يصلى عليه ؟ قال: إذا صلى فصلوا عليه.
وتأويل هذا فيما إذا لم يسمع منه الاقرار بالاسلام (3)، ولكنه صلى مع المسلمين الجماعة، فان ذلك يوجب الحكم باسلامه عندنا، لان المشركين
__________
(1) سورة لقمان، 31، الآية 15 (2) كذا في جميع النسخ وانفردت ق ب " الصبى ".
(3) ط، ق " باللسان ".
[ * ](1/154)
لا يصلون بالجماعة على هيئة جماعة المسلمين.
وإظهار ما يختص به المسلمون فعلا يكون بمنزلة إظهار ما يختص به المسلمون قولا، فيصير به مسلما، حتى
إذا رجع عن الاسلام ضربت عنقه إن كان رجلا.
وأما إذا صلى وحده لم يحكم باسلامه إلا في رواية رواها داود بن رشيد عن محمد أنه إذا صلى إلى قبلة المسلمين يحكم باسلامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا ".
فأما إذا صام أو أدى الزكاة أو حج لم يحكم باسلامه في ظاهر الرواية.
وفى رواية داود بن رشيد عن محمد قال: إذا حج البيت على الوجه الذى يفعله المسلمون يحكم باسلامه لانه ظهر منه فعل ما يختص به المسلمون، فيجعل ذلك دليلا على إسلامه.
والله أعلم.(1/155)
32 [ باب الجهاد مع الامراء ] 159 - ذكر عن مكحول رحمه الله (1) أنه قال في مرضه الذى مات فيه (46 آ): حديث كنت أكتمكموه، لولا ما حضرني من أمر الله ما حدثتكم به.
أي لولا ما أخاف من وعيد كتمان العلم على ما قال صلى الله عليه وسلم " من كتم علما عنده ألجم يوم القيامة بلجام من نار ".
وقال تعالى: { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } (2).
ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكفروا أهل ملتكم وإن عملوا الكبائر، الصلاة مع كل إمام.
الصلاة على كل ميت.
الجهاد مع كل أمير.
وهو دليل لاهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر بارتكابه الكبائر ولا يخرج من الايمان.
قال الله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (3).
ولا شك أن مرتكب الكبائر داخل في جملة من دعاهم
الله إلى التوبة في هذه الآية، وقد سماهم مؤمنين.
وهو دليلنا على مالك في جواز الاقتداء بالفاسق، فان قوله: مع كل إمام، أي فاسقا كان أو عدلا.
كما قال في حديث آخر: " صلوا خلف كل بر وفاجر ".
__________
(1) قوله " رحمه الله " لا يوجد في ه، ط، ق.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 187 (3) سورة النور، 24، الآية 31 [ * ](1/156)
وكذلك الصلاة على كل ميت، أي فاسقا كان أو عدلا بعد أن يكون مؤمنا غير باغ (1).
وكذلك قوله: الجهاد مع كل أمير، أي عادلا كان أو جائزا.
فلا ينبغى للغازي أن يمتنع من الجهاد معه، ويجوز الامير لا ينقطع طمع الغزاة في النصرة.
جاء عن ابن مسعود رضى الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا (2): " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
قال مكحول: وخصلتان من رأيى لم أسمع فيهما من رسول الله شيئا (3): على بن أبى طالب، وعثمان بن عفان لا تذكروهما إلا بخير.
{ تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسئلون عما كانوا يعملون } (4).
والحديث في الكف عن الصحابة إلا بخير مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا (5)، فمن أحبهم فقد أحبنى، ومن آذاهم فقد آذانى ".
وخص مكحول الختنين (6) بالذكر لانه كان يسمع من بعض أهل الشام فيهم ما يكره، فلهذا خصهما بالذكر في وصيته.
ثم سمى عليا أولا، وهكذا فيما رواه نوح بن أبى مريم عن أبى حنيفة رضى الله عنه، فانه قال: سألته عن مذهب أهل السنة فقال: أن تفضل
__________
(1) ق " غير باغى ".
(2) ه، ط زيادة " إلى النبي صلى الله عليه...".
(3) قوله " شيئا " ساقط من ه.
(4) سورة البقرة، 2، الآية 134.
(5) ط " عرضا ".
(6) في هامش ق " قال الجوهرى: والختن بفتحتين عند العرب كل من كان من قبل المرأة كالاب والاخ.
والجمع اختان.
وختن الرجل عند العامة زوج ابنته.
مصباح ".
[ * ](1/157)
أبا بكر وعمر (1)، وتحب عليا وعثمان، وترى المسح على الخفين، ولا تكفر أحدا من أهل القبلة، وتؤمن بالقدر، ولا تنطق في الله بشئ.
ومن الناس من يقول: قبل الخلافة كان على مقدما على عثمان، وبعد الخلافة عثمان أفضل من على.
فأما المذهب عندنا أن عثمان أفضل من على رضوان الله عليهما، قبل الخلافة وبعدها (2).
كما روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أبو بكر خليفتي بعد في أمتى، وعمر حبيبي، وعثمان منى، وعلى أخى وصاحب لوائى ".
فنفضلهم على الترتيب الذى ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يرد أبو حنيفة (46 ب) رضى الله عنه بما ذكر تقديم على على عثمان، ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة.
فالواو عنده لا توجب الترتيب.
وإنما ذكر مكحول عليا رضى الله عنه أولا لانه كان إمام أهل
الشام.
وأهل الشام في ذلك الوقت كان يقع بعضهم على على رضى الله عنه، فلهذا قدمه في الذكر حتى يزجرهم (3) عن ذلك.
160 - وعن مجاهد قال: قلت لابن عمر رضى الله عنهما: ما تقول في الغزو، فقد صنع الامراء ما قد رأيت.
قال: أرى أن تغزو، فإنه ليس عليك مما أحدثوا شئ.
يعنى ما أحدثوا مما تكرهه.
وقد روى أنه لما ولى يزيد بن معاوية قال ابن عمر: إن يكن خيرا شكرنا، وإن يكن بلاء صبرنا، ثم قرأ قوله تعالى { فانما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم }.
الآية (4).
__________
(1) في هامش ق " نسخة: فقال إنه يحب عليا وعثمان، ويفضل أبو (كذا) بكر وعمر رضى الله عنهما، ويرى المسح ".
(2) ب، أ " بعده ".
(3) ب، أ، ه " يزجر ".
(4) سورة النور، 24، الآية 54.
[ * ](1/158)
وعن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إذا عدل السلطان فعلى الرعية الشكر، وللسلطان الاجر.
وإذا جار فعلى الرعية الصبر، وعلى السلطان الوزر.
فهذا كله لبيان أنه لا ينبغى أن يترك الجهاد بما يصنعه الامراء من الجور والغلول.
قال: (1) فإذا أردت ذلك فاجعل طريقك على.
فمررت بالمدينة.
فقال: إنى أحب أن أعينك في وجهك هذا بطائفة من مالى.
قلت: إذا لا أقبل.
إنى رجل قد وسع الله عليه.
قال: إن غناك لك.
إنى
أحب أن تكون طائفة من مالى في هذا الوجه.
فانطلق يلتمس القرض فلم يجد أحدا يقرضه، فقال: أتخافون أن لا أقضيكم ؟ ثم كتب إلى قيم له بالشام أن يدفع إلى (2) دنانير قد سماها أستعين بها على وجهى.
وفيه دليل على أنه لا ينبغى للغازي، وإن كان غنيا، أن يمتنع من قبول المال إذا علم أن المعطى يعطيه من حلال على وجه الرغبة في الجهاد بالمال، لان الامتناع عن قبول ذلك في صورة المنع مما هو طاعة، وذلك لا يحل.
قال: فانطلقت فلم أزل (3) مرابطا في جزيرة من البحر سنين، ثم بدا لبعض أمراء المؤمنين أن يخرب تلك الجزيرة ويخرج أهلها منها.
فوالله لكأنما جئ بى سبيا حيث رجعت إلى أهلى.
__________
(1) أي ابن عمر.
(2) ب، أ، ه " إليه ".
(3) ب، أ " فلم أر ".
[ * ](1/159)
وإنما شق عليه ذلك، لانه انقطع عن ثواب المرابطين حين رجع إلى أهله.
وهكذا ينبغى أن يكون تأسف المؤمن على ما ينقطع عنه من الثواب.
161 - ثم استدل على أنه لا يترك الجهاد بجور الامراء بقوله صلى الله عليه وسلم: " الجهاد ماض منذ بعثنى الله (47 آ) إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتى الدجال، لا يصده جور جائر ولا عدل عادل ".
ولحديث سليمان بن قيس حيث قال: قلت لجابر: أرأيت إن كان على إمام جائر أأقاتل معه أهل الضلالة والشرك ؟ قال: نعم.
{ عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا } (1).
ولحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصل الاسلام ثلاثة: الكف عمن قال لا إله إلا الله أن تكفروه بذنب، ولا تخرجوه من الاسلام بعمل: والجهاد ماض منذ بعثنى الله حتى يقاتل آخر عصابة من أمتى الدجال، والايمان بالاقدار كلها.
يعنى ما ذكره في الحديث المشهور حين سأله جبريل عليه السلام: ما الايمان ؟ الحديث، إلى أن قال: والقدر خيره وشره من الله.
وفى (3) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضى الله عنهما
__________
(1) سورة النور، 24، الآية 54.
(2) قوله: " رسول الله..." لا يوجد في ب، أ.
(3) ب، أ " في ".
[ * ](1/160)
ومع كل واحد منهما فئام (1) من الناس، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليهما السلام.
ثم قيل: يا رسول الله، إنهما تكلما في القدر فقال أبو بكر رضى الله عنه: الحسنات من الله والسيئات منا.
وقال عمر الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى.
فاتبع طائفة من الناس أبا بكر وطائفة عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأقضى بينكما بما قضى به اسرافيل بين جبرئيل وميكائيل.
فإن جبرئيل قال مثل ما قلت يا عمر، وميكائيل قال مثل ما قلت يا أبا بكر.
ثم قالا: إنا إذا اختلفنا اختلف أهل السماء، وإذا اختلف أهل السماء اختلف أهل الارض فلنتحاكم إلى اسرافيل.
فقضى بينهما بأن القدر خيره وشره من الله تعالى.
وهذا قضائي بينكما.
يا أبا بكر، لو شاء
الله أن لا يعصى ما خلق ابليس.
فهذا هو الاصل لاهل السنة في الايمان بالقدر.
ولا يظن بميكائيل وأبى بكر، بما نفيا تقدير الشر من الله، إلا خيرا، لان طالب الصواب قبل أن يستقر رأيه جاهد في الله حق جهاده.
__________
(1) فوق هذه الكلمة في ق كتب " جماعة ".
وفى القاموس " الفئام ككتاب الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه ".
م - 11 السير الكبير [ * ](1/161)
33 [ باب من يحل له الخمس والصدقة ] 162 - وذكر عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة: الغازى في سبيل الله، أو (1) العامل عليها، أو الغارم، أو رجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين تصدق (2) على هذا المسكين فأهدى إلى الغنى.
وأخذ (3) أهل المدينة بظاهر الحديث وقالوا: تحل الصدقة للغازي وإن كان غنيا، وللغارم إذا كان غرمه لاصلاح ذات البين وإن كان غنيا.
ولكن تأويل الحديث عندنا: إذا كان الغازى غنيا في أهله وليس بيده مال حيث هو فحينئذ لا بأس له أن يأخذ من الصدقة ما يتقوى به.
وكذلك الغارم إذا كان ماله غائبا عنه أو دينا على ظهور الرجال لا يقدر على أخذه، فهما حينئذ بمنزلة ابن السبيل.
فأما من يكون ماله بحضرته وذلك فوق ما عليه من الدين بقدر نصاب، لا يحل له أخذ الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغنى ".
وأما العامل فما يأخذه عمالة (4) وليس بصدقة في حقه، فغناه لا يمنعه من أخذه، والمشترى من الفقير مبيعا عوضا عن ماله.
__________
(1) ه، " و " بدلا من أو في جميع الحديث.
(2) ه " يصدق " وهو خطأ.
(3) ق " وتمسك ".
(4) في هامش ق " العمالة أجر العامل.
مغرب ".
[ * ](1/162)
والذى أهدى إليه المسكين إنما يأخذه هدية لا صدقة، على ما قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة رضى الله عنها: " هي لها صدقة ولنا هدية ".
163 - وذكر عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن رجلا سأله عن التهلكة أهو الرجل إذا (47 ب) ما التقى الجمعان حمل (1) فقاتل حتى يقتل ؟ فقال: لا، ولكنه الرجل يذنب ثم لا يتوب.
وهو المراد بمعنى قوله تعالى: { ولا تلقوا بأديكم إلى التهلكة } (2).
فوقع عند السائل أن من حمل على جماعة من الاعداء يكون ملقيا نفسه في التهلكة.
فبين له البراء بن عازب أن الملقى نفسه في التهلكة من يذنب ثم لا يتوب، فانه يصير مرتهنا (3) بصنيعه (4).
فأما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التى تستفيد بها الحياة الابدية، كيف يكون ملقيا نفسه في التهلكة ؟ 164 - ثم بين المذهب فقال: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئا يقتل أو يجرح أو يهزم.
فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك.
وقيل لابي هريرة: ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل
__________
(1) ب، ه " فحمل ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 195.
(3) ط " مرتكبا ".
(4) ط " بصنعه ".
[ * ](1/163)
حتى قتل وألقى بيده إلى التهلكة ؟ فقال: كلا، ولكنه تأول آية من كتاب الله وهو قوله تعالى { ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله } (1).
فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم.
لانه لا يحصل بحملته شئ مما يرجع إلى إعزاز الدين، ولكنه يقتل فقط.
وقد قال الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } (2).
وهذا بخلاف ما إذا أراد أن ينهى قوما من فساق المسلمين عن منكر وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهية، وأنهم يقتلونه، فانه لا بأس له بالاقدام على ذلك، وهو العزيمة.
وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت لان القوم هناك يعتقدون ما يأمرهم به، فلابد من أن يكون فعاله مؤثرا في باطنهم.
فأما الكفار غير معتقدين لما يدعوهم إليهم، فالشرط أن تكون حملته بحيث تنكى فيهم ظاهرا، فإذا كان لا ينكى لا يكون مفيدا فيما هو المقصود فلا يسعه الاقدام عليه.
والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 207.
(2) سورة النساء، 4، الآية 29.
[ * ](1/164)
34 [ باب ما يجب من طاعة الوالى وما لا يجب ] 165 - [ قال: ] وإذا دخل العسكر دار الحرب للقتال بتوفيق الله عزوجل (1) فأمرهم أميرهم بشئ من أمر الحرب، فإن كان فيما أمرهم به منفعة لهم فعليهم أن يطيعوه لقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم } (2) والمراد الامراء عند بعض المفسرين والعلماء عند بعضهم.
وإنما تجب طاعة العلماء (3) فيما يأمرون به لانه يأمرونهم بما فيه منفعة للناس في أمر دينهم.
وكذلك إن أمروهم بشئ لا يدرون أينتفعون به أم لا فعليهم أن يطيعوه، لان فرضية الطاعة ثابتة بنص مقطوع به.
وما تردد لهم من الرأى في أن ما أمر به منتفع أوغير منتفع به لا يصلح معارضا للنص المقطوع.
166 - وقد تكون طاعة الامير في الكف عن القتال خيرا من كثير من (4) القتال.
وقد يكون الظاهر الذى يعتمده (48 آ) الجند يدلهم على شئ، والامر في الحقيقة بخلاف ذلك عند الامير.
ولا يرى الصواب في أن يطلع على ما هو الحقيقة عامة الجند.
فلهذا كان عليهم.
__________
(1) قوله " بتوفيق الله.." لا توجد في ط.
وفى ه، ق " تعالى " بدلا من " عزوجل ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 59.
(3) ه، ط، ق " الامراء ".
(4) قوله " كثير من " لا توجد في ه.
[ * ](1/165)
الطاعة ما لم يأمرهم بأمر يخافون فيه الهلكة، وعلى ذلك أكثر (1) رأى جماعتهم لا يشكون في ذلك.
فإذا كان هكذا فلا طاعة له عليهم لقوله
صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
وفى حديث على رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليهم أميرا.
فغضب عليهم أميرهم فأجج نارا وقال: قد أمرتم بطاعتي فاقتحموها.
فمنهم من قال: ندخلها.
ومنهم من قال: لا ندخلها، فانا أسلمنا فرارا من النار.
فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا.
إنما الطاعة في المعروف لا في المنكر ".
ومعنى قوله: ما خرجوا منها، أي ينقلون منها إلى نار جهنم، ثم أكبر الرأى فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمزلة الحقيقة.
167 - فإذا كان عندهم أنهم لو أطاعوه هلكوا كان أمره إياهم بذلك قصدا منه إهلاكهم واستخفافا بهم.
وقد ذم الله تعالى الطاعة في ذلك فقال { فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين } (2) 168 - وإن كان الناس في ذلك الامر مختلفين فمنهم من يقول فيه الهلكة ومنهم من يقول فيه النجاة فليطعوا الامير في ذلك.
لان الاجتهاد لا يعارض النص، ولان الامتناع من الطاعة فتح لسان الائمة (3) عليهم، وفى إظهار الطاعة قطع ذلك عنهم، فعليهم أن يطيعوه.
__________
(1) ط، ق " أكبر ".
(2) سورة الزخرف، 43، الآية 54.
(3) ب، أ، ه " الائمة ".
[ * ](1/166)
169 - إلا أن يأمرهم بأمر ظاهر لا يكاد يخفى على أحد أنه هلكة، أو أمرهم بمعصية، فحينئذ (1) لا طاعة عليهم في ذلك ولكن
ينبغى أن يصبروا ولا يخرجوا على أميرهم.
لحديث (2) ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتاه من أمير ما يكرهه فليصبر، فان من خالف المسلمين قيد (3) شبر ثم مات مات ميتة الجاهلية ".
170 - واستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة بعث خالدا إلى بنى جذيمة (4) فقاتلهم بعد ما سمع الاذان منهم، وبعد ما وضعوا السلاح.
فأمر بهم فأسروا، ثم قال ليقتل كل رجل منكم أسيره.
فأما بنو سليم ففعلوا ذلك، وأما المهاجرون والانصار فخلوا أسراهم.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد.
ثلاث مرات.
ثم أرسل عليا رضى الله عنه فودى (5) لهم ما أصابه خالد من قليل أو كثير.
وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والانصار على ما صنعوا من تخلية سبيل الاسرى.
__________
(1) ق " فح ".
(2) ه " بحديث ".
(3) في هامش ق " وبينهما قيد رمح أي قدر رمح ".
(4) ه " حذيفة "، ط " خزيمة " الصواب ما أثبتنا.
(5) في هامش ق " وديت القتيل أديه دية أي أعطيت ديته، واتديت أخذت ديته.
وإذا أمرت قلت دفلانا، وللاثنين ديا، وللجماعة دوا ".
[ * ](1/167)
فعرفنا أنه لا طاعة للامير على جنده فيما هو معصية، ولا فيما كان وجه الخطأ فيه بينا.
فأما فيما سوى (48 ب) ذلك ينبغى لهم أن يطيعوه لئلا
يفشلوا ولا يتنازعوا كما قال الله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا } (1).
171 - قال: وينبغى أن يؤمر على الجند العاقل الفاضل، العالم بالحرب، الرفيق.
وقد بينا هذا فيما تقدم.
نقول (2): من يكون هكذا فهو موضع للامارة (3)، عربيا كان أو مولى أو غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي مجدع (4) ما أقام فيكم كتاب الله عزوجل ".
وفيه حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالسمع والطاعة لكل من يؤمر عليكم ما لم يأمركم بالمنكر، ففى المنكر لا سمع ولا طاعة ".
172 - قال: وإذا نادى الامير أن يكون فلان (5) وجنده في الميمنة، وفلان وجنده في المقدمة، وفلان وجنده في الميسرة، وفلان وجنده في الساقة، فلا ينبغى لاحد أن يترك الموضع الذى أمره بالكون فيه.
لان هذا من التدبير الحسن في أمر الحرب، فإنما تظهر فائدته بالطاعة.
173 - فإن عصاه عاص (6) فليتقدم إليه الامير.
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 46.
(2) ه " فنقول " ق " يقول ".
(3) في هامش ق " نسخة: الامرة ".
(4) ط " مجذع " وفى هامش ق " نسخة: اجدع ".
(5) ه " فلانا " وهو خطأ.
(6) ب " عاصي ".
[ * ](1/168)
يعنى لا ينبغى له أن يعاقبه في المرة الاولى لان هذه عثرة منه - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم (1) "، ولكن يتقدم إليه وإلى الجند جميعا أنه يؤدب من خالف أمره بعد ذلك، فيكون ذلك إنذارا منه.
قال صلى الله عليه وسلم: " قد أعذر من أنذر ".
وبيان هذا في قوله تعالى { وقد قدمت إليكم بالوعيد } (2)، فإن عصاه عاص بعد ذلك من غير عذر فما أحسن أدبه في ذلك ليكون ذلك فطاما له وزجرا لغيره عن إساءة الادب لمخالفة أمره، فإن امتناع الناس مما لا يحل لمخالفة العقوبة أكثر من امتناعهم خوفا من الله تعالى.
وبه ورد الاثر، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يزع (3) بالسلطان فوق ما يزع بالقرآن " (4).
174 - وإن ادعى عذرا يعتذر به وحلف على ذلك فلا سبيل له عليه، لانه أخبر بخبر محتمل للصدق (5)، وأكد ذلك بيمينه.
فينبغي أن يكف عنه إذ ليس ها هنا خصم ينازعه في ذلك وإنما لا يجعل اليمين في جانب المدعى في الخصومات، لان الخصم ينازعه في ذلك.
والشرع جعل اليمين في جانب المنكر دون المدعى.
175 - وإذا نادى منادى الامير أن الساقة غدا على أهل الكوفة فلا يتخلفن رجل من أهل الديوان ولا من المطوعة (6).
لانهم جميعا رعيته حين خرجوا للجهاد تحت رايته، فعليهم طاعته، إلا أن يكون الامر المشهور أنه إذا نادى بهذا يريد به أهل الديوان خاصة، فحينئذ الثابت بالعرف كالثابت بالنص.
__________
(1) في هامش ق " يعنى اتركوا لاهل المروءآت ذلاتهم.
كذا في المناوى ".
(2) سورة ق، 50، الآية 28.
(3) في هامش ق " وزعته كوضع وزعا كففته.
قاموس " " والكف الصرف - قاموس ".
(4) ب " ما نزع السلطان فوق ما نزع القرآن " ه " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "
ط " ان الله وزع..." والبقية مثل ه أثبتنا رواية ق لقربها من رواية ب، أ.
(5) ط، ق " يحتمل الصدق ".
(6) في هامش " أهل الديوان ما أجرى عليهم وثبت أساميهم في الجريدة، والمطوعة ما خرجوا طائعيين بغير أجر.
حصيرى ".
[ * ](1/169)
وإن كان رجل من أهل الكوفة ديوانه مع أهل البصرة، فهو مع أهل ديوانه وليس مع أهل بلده.
لان أمره راجع إلى الجهاد، وفى الجهاد إنما يجمعهم الديوان لا البلدة ولان مراده من هذا الامر أن ينضم بعضهم إلى بعض في التناصر، وتناصر أهل الديوان بالديوان (49 آ) ولهذا يتعاقلون به.
176 - ولو نادى المنادى: الساقة غدا على أصحاب الخيل، فهو على نحو ما ذكرنا.
وينبغى لاصحاب البراذين أن يكونوا مع أصحاب العراب (1) في ذلك.
لان كلها في الخيل.
قال الله تعالى: { والخيل والبغال والحمير } (2) وقال تعالى (3): { ومن رباط الخيل } (4).
ولما سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين قال: أوفى الخيل صدقة ؟ فأصحاب البراذين في ذلك مع أصحاب العراب.
إلا أن يكون المعروف من ذلك أنهم إذا نادوا بذلك يريدون أصحاب العراب خاصة، لانها أسرع في الطلب والحرب.
فحينئذ يكون الامر على ما أراد، لان الثابت بالعرف كالثابت بالنص.
177 - وإن قال: الميمنة غدا على أهل المصيصة (5)، فكان رجل من أهل الكوفة سكن المصيصة لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من تأهل ببلدة فهو من أهلها ".
__________
(1) يقال خيل عراب وأعرب ومعربة أي سليمة لا هجنة فيها (القاموس).
(2) سورة النحل، 16، الآية 8.
(3) ب، أ " إلى قوله تعالى ".
(4) سورة الانفال، 8، الآية 60.
(5) مدينة كانت من ثغور الشام بين انطاكية وبلاد الروم (ياقوت، معجم البلدان) وهى اليوم في تركية.
[ * ](1/170)
ولان من يكون ساكنا في بلدة مقيما بها يعد في الناس من أهلها.
ألا ترى أنا إذا عددنا فقهاء الكوفة ذكرنا في جملتهم النخعي والشعبى وأبا حنيفة رضى الله عنهم، وهم ما كانوا من الكوفة (1) في الاصل ولكنهم سكنوها.
وإن كان لم يتخذ المصيصة مسكنا فلا يدخل في هذا النداء، إلا أن يكون ديوانه مع أهل المصيصة فحينئذ يتناوله النداء.
باعتبار انضمامه إلى أهل المصيصة في الديوان.
178 - فإن شد (2) العدو إلى الساقة فلا بأس بأن يعينهم أهل الميمنة والميسرة إذا خافوا عليهم.
لانهم تواعدوا النصرة حين اجتمعوا على محاربة المشركين، ومن لا يعن غيره لا يعنه غيره عند حاجته.
وفى ترك التعاون ظهور (3) العدو عليهم.
فإذا ظهر العدو على الساقة يقصدون أهل الميمنة والميسرة من ذلك الجانب فعليهم أن يدفعوا عن أنفسهم بالدفع عن إخوانهم.
179 - قال: فإن كان ذلك يخل بمراكزهم، فلا ينبغى لهم أن يفعلوا.
لان الامام فوض إليهم حفظ ذلك عينا فيحرم عليهم تضييع ذلك والاشتغال بحفظ ما هو مفوض إلى غيرهم.
__________
(1) ه " من أهل الكوفة ".
(2) ه " شهد " وهو خطأ.
(3) ه " من ظهور " ولا معنى لمن هنا.
[ * ](1/171)
180 - وإن أمرهم الامام أن لا يبرحوا (1) من مراكزهم ونهى عن أن يعين بعضهم بعضا فلا ينبغى لهم أن يعصوه، وإن أمنوا من ناحيتهم وخافوا على غيرهم.
لان طاعة الامام فرض عليهم بدليل مقطوع به، وما يخافونه موهوم على ما قيل: أكثر ما يخاف لا يكون.
181 - والاصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة يوم أحد أن يقوموا بموضع ولا يبرحوا من مراكزهم.
فلما نظروا إلى المشركين، وقد انهزموا، ذهبوا يطلبون الغنيمة.
فكانت هزيمة المسلمين في ناحيتهم.
كما قال الله تعالى: { حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في الامر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } (2).
182 - قال: وإن خرج علج من المشركين بين الصفين يدعو إلى البراز فلا بأس بأن يخرج إليه رجل من المسلمين من غير أن يستأذن من الامام (49 ب) في ذلك.
لان دلالة الاذن في المبارزة كصريح الاذن، وتسوية الصفوف كان للقتال، فذلك دلالة الاذن في المبارزة.
ما لم ينههم.
فإن نهاهم فليس ينبغى لهم أن يخرجوا.
__________
(1) ق " يتركوا " وفى الهامش " يبرحوا، نسخة ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 152.
[ * ](1/172)
لان الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها، كمقدم المائدة بين يدى الغير إذا نهاه عن الاكل.
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام خيبر.
فقاتل رجل فقتل.
فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الجنة لعاص " (1).
183 - وكذلك إن نهى إنسانا بعينه، فلا ينبغى له أن يخرج لاحتمال النظر في نهى الامام له، ولا بأس بأن يخرج غيره لبقاء دليل الاذن في حقه.
والاصل فيه ما روى أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد ابن عتبة خرجوا يوم بدر يدعون إلى البراز.
فخرج إليهم ثلاثة من فتيان الانصار.
فقالوا لهم: انتسبوا.
فانتسبوا.
فقال: أنتم أبناء قوم كرام، ولكنا نريد أكفاءنا من قريش، فارجعوا إلى محمد وقولوا له: أخرج إلينا أكفاءنا.
هكذا ذكر في المغازى.
وهو دليل على أنه لا بأس بالخروج قبل نهى الامام لان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك.
وروى محمد (2) رحمه الله هذه القصة من وجه (3) آخر.
184 - فقال: فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا
__________
(1) ه " للعاصي ".
(2) ه " محمد بن الحسن ".
(3) ه " وجهه " وهو خطأ.
[ * ](1/173)
وأحب أن يكون أول القتال من أهل بيته وأمر حمزة بن عبدالمطلب وعلى بن أبى طالب وعبيدة (1) بن الحارث فخرجوا إليهم.
وفى ذلك نزل قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } (2).
185 - فإذا تبارز المسلم والمشرك فلا بأس بأن يعين المسلمون صاحبهم إن قدروا على ذلك.
لان المشرك قاصد إلى قتلهم كما هو قاصد إلى قتل صاحبهم لو تمكن من ذلك.
فلهم أن يدفعوا لو لم يكن قاصدا إليهم كان لهم أن يقتلوه لكونه مشركا محاربا.
وفى قصة المبارزين يوم بدر (3) ذكر أن عليا رضى الله عنه قتل الوليد، وحمزة قتل عبيدة، واختلف عبيدة وشبية ضربتين (4)، فأعان (5) على وحمزة عبيدة رضى الله عنهما على شيبة حتى قتلاه.
فعرفنا أنه لا بأس.
186 - ولا بأس بأن تخرج الجماعة الممتنعة إلى العلافة (6) بغير إذن الوالى فيتعلفون ثم يرجعون.
__________
(1) ب، أ " عبيد ".
(2) سورة الحج 22، الآية 19.
(3) ط " يوم أحد ".
(4) ب " ضربين ".
(5) ب " فاعتان ".
(6) يمكن أن تكون بفتح العين، وتشديد اللام، أو بكسر العين وتخفيف اللام.
وفى هامش ق " العلاقة - بتشديد اللام - هي موضع العلف ومعدنة كالملاحة لمعدن الملح ومنبته.
مغرب " وفوق ذلك ما يلى " والعلافة كالصناعة هي طلب العلف وشراؤه والمجئ به.
مغرب ".
[ * ](1/174)
لوجود دلالة الاذن.
فان الامام جرهم إلى ذلك الموضع مع علمه أنهم يحتاجون إلى العلف، وأنه يشق عليهم استصحاب العلف من دار الاسلام، ولا يجدون في دار الحرب من يشترونه منه، ولانه أذن لهم فيما فيه كبت وغيظ للعدو.
وفى أخذ العلوفة (1) منهم تحقيق هذا المعنى.
إلا أنهم لا يتمكنون من ذلك إلا بمنعة.
فلا بأس بأن يخرجوا إذا كانوا أهل منعة.
ولا يتفرقون إلا بحيث يغيث بعضهم بعضا.
لانهم إذا تفرقوا وبعد (2) بعضهم عن بعض على وجه لا يمكنه أن يستغيث به إذا حزبه أمر (50 آ) كان معرضا نفسه لاجل المال، فانه لا يأمن (3) أن يجتمع عليه نفر من المشركين فيقتلوه.
187 - كما لا يحل للواحد والمثنى أن يخرج ابتداء خوفا من ذلك، إلا أن يكون بالقرب من العسكر على وجه يتمكن من أن يستغيث بهم (4) إذا حزبه أمر.
فكذلك لا ينبغى لهم أن يتفرقوا إلا على هذه الصفة.
188 - وإن نادى منادى الامير بالنهي عن الخروج للعلافة، فلا ينبغى لاهل منعة ولا لغيرهم أن يخرجوا.
لان دلالة الاذن تنعدم بصريح النهى، وربما يكون النظر في هذا النهى.
إلا أنه ينبغى للامام أن يبعث لذلك قوما.
__________
(1) في هامش ق " العلوفة بالضم جمع علف.
مغرب ".
(2) قوله " وبعد " ساقط من ه.
(3) ق " لا يأمن من أن ".
(4) ه " لهم " وهو خطأ.
[ * ](1/175)
189 - وينبغى أن يؤمر عليهم أميرا لتتفق كلمتهم ويتمكنوا (1) من المحاربة مع المشركين إن ابتلوا بذلك.
190 - وكذلك إن خرجوا متفرقين قبل نهى الامام، فهجم عليهم العدو، فينبغي لهم أن يجتمعوا ويؤمروا عليهم أميرا ثم يقاتلوا حتى يلتحقوا بالعسكر.
لان حاجة الجيش إلى ذلك ماسة.
والامام ناظر لهم.
فإنما يتم النظر منه إذا بعث لذلك قوما.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى روينا: " هل أمرتما ؟ قال: نعم.
فقال: ألا (2) قد رشدتما ".
وقد بينا أن المسافرين يستحب لهم أن يؤمروا عليهم أمرا فما ظنك (3) في المحاربين ؟ 191 - وبعد ما نهى الوالى الناس عن الخروج إذا أصابهم ضرورة من العلف، وخافوا على أنفسهم أو على ظهورهم ولم (4) يجدوا ما يشترون فلا بأس بأن يخرجوا في طلب العلف.
لان موضع الضرورة مستثنى عن موجب الامر بدليل قوله تعالى { إلا ما اضطررتم إليه } (5).
__________
(1) ه، ب أ، ط " ويتمكنون " أثبتنا رواية ق.
(2) قوله " ألا " ساقطة من ه.
(3) في هامش ق " فما ظنكم.
نسخة ".
(4) ه " فلم ".
(5) سورة الانعام، 6، الآية 119.
[ * ](1/176)
192 - وإن قال الوالى لا يخرجن أحد إلى العلف إلا تحت لواء فلان، فينبغي لهم أن يراعوا شرطه، فيخرجوا تحت لوائه.
فإذا أتوا القرى فلا بأس بأن يتفرقوا فيها لطلب العلف على وجه يغيث بعضهم بعضا إذا احتاجوا إليه.
فإذا أتاهم العدو فلينضموا إلى صاحب اللواء حتى يقاتلوا تحت لوائه، وإن لم يكن صاحب اللواء بحضرتهم فليؤمروا عليهم أميرا.
والحاصل أن ينبغى أن يتحرزوا عن إلقاء النفس في التهلكة بأقصى ما يتمكنون منه.
قال الله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } (1).
193 - ولا ينبغى بعد ما خرجوا أن يفارقوا صاحب اللواء، إلا حيث يمكنهم أن يغيثهم إذا استغاثوا.
لانا نعلم أن مقصود الامام من قوله لا يخرجوا إلا تحت لواء فلان ليس الخروج فقط، ولكن مراده: كونوا تحت لوائه إلى أن ترجعوا.
ومن يراع أمره في شئ يراع صفة أمره.
194 - وكذلك لو قال منادي الامير: من أراد العلف فليخرج تحت لواء فلان، ولم يكن منه نهى ولا أمر غير هذا، فهذا بمنزلة النهى.
وقد (50 ب) بينا أنه بنى هذا الكتاب على أن المفهوم حجة، وظاهر
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 195.
م - 12 السير الكبير [ * ](1/177)
المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة، مفهوم الصفة ومفهوم الشرط في ذلك سواء.
ولكنه اعتبر المقصود يفهمه أكثر الناس في هذا الموضع، لان الغزاة في العام الغالب لا يقفون (1) على حقائق العلوم.
وإن أميرهم بهذا اللفظ إنما يقصد نهى الناس عن الخروج إلا تحت لواء فلان.
فجعل النهى المعلوم بدلالة كلامه كالمنصوص عليه.
وتمام هذه المسألة في الاصول.
195 - قال: ولا أحب إذا (2) انتهوا إلى القرى أن يدخل القرية الرجل الواحد، لعل فيها قوما مختفين (3) فيقتلوه.
ولكن يدخل عدد القرية متأهبين (4) للقتال.
فإن كان فيها أحد أعلم بعضهم بعضا لقوله تعالى { خذوا حذركم فانفروا ثبات (5) أو انفروا جميعا } (6).
196 - وإن نهى الامير المسلمين أن يقطعوا الشجر أو يهدموا الابنية فليس ينبغي لهم أن يعصوه في ذلك.
لان في هذا النهى احتمال معنى النظر للمسلمين.
وهذا المنع (7) من أمر الحرب.
ولو نهاهم عن القتال كان عليهم أن لا يعصوه ما لم يأت ضرورة أو معصية، فكذلك إذا نهاهم عن هذه الخصال.
__________
(1) ه " لا يتفقون ".
(2) ه " إذ ".
(3) ه " مختلفين " ق " محنقين ".
(4) ق " متهيئين " وفى الهامش: " نسخة: متاءهبين ".
(5) الثبة الجماعة والعصبة من الفرسان (قاموس).
(6) سورة النساء، 4، الآية 71.
(7) ق، ه " الصنيع ".
[ * ](1/178)
ولو عقد الامير لواء الرجل وقال: لا يخرجن معه إلا ثلاثمائة، فينبغي لهم أن يطيعوه فلا يخرج إلا العدد الذى قال (1).
لان الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى، فيكون هذا تصريحا بالنهي عن الزيادة عن العدد المستثنى.
198 - ولو صرح لهم بالنهي مطلقا لم يحل لهم عصيانه.
فكذلك ها هنا: 199 - فإن خرجوا أربعمائة فأصابوا غنائم لم يحرموا الغنيمة مع أهل العسكر.
وإن كانوا قد أساءوا، لانهم مجاهدون قاصدون إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز الدين.
فمخالفتهم الامير لا يكون أكثر تأثيرا من مخالفتهم أمر الله تعالى بارتكاب ما لا يحل.
فكما أن ذلك لا يخرجهم من أن يكون مؤمنين فهذا لا يخرجهم من أن يكونوا غزاة، كيف وهذا النهى بمعنى في غير المنهى عنه، فانه ما نهاهم عن الخروج لعين الخروج (2) أو القتال أو الاغتنام (3)، ولكن للاشفاق عليهم.
200 - فإن كان قد نفلهم الربع بعد الخمس فخرجوا فأصابوا غنائم، فإن كانت الثلاثمائة الذين أمرهم بالخروج قوما مسمين بأعيانهم ميز ثلاثة أرباع الغنيمة فأعطى أولئك منها نفلهم.
هكذا ذكر في بعض النسخ، وهو غلط.
ولكن الصواب ما ذكره في بعض النسخ أنه يقول الخمس من هذه الثلاثة الارباع.
ثم يعطيهم من ربع
__________
(1) ط، ه " فلا يخرج إلا على القدر المذكور فيه ".
(2) قوله " لعين الخروج " ساقط من ه.
(3) قوله " أو الاغتنام " ساقط من ط.
[ * ](1/179)
ما بقى نفلهم.
لانه هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس.
ومراده مما يصيبون، ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة.
201 - وذكر بعد هذا هذه المسألة وقال: يقسم (1) ما جاءوا به (51 آ) بينهم على سهام الخيل والرجالة، ثم ينظر إلى ما أصاب الثلاثمائة فيخرج الخمس من ذلك، ثم يعطيهم نفلهم مما بقى.
ووجه التوفيق أنه وضع المسألة هناك فيما إذا كان بعضهم فارسا وبعضهم راجلا.
وها هنا وضع المسألة فيما إذا كان فرسانا كلهم أو رجالة كلهم.
فلهذا ميز لهم ثلاثة أرباع الغنيمة ليعطى منها نفلهم.
وقال في موضع آخر: يرفع الخمس في جميع المصاب (2) أولا ثم ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيعطيهم من ذلك نفلهم.
فالحاصل أنه كرر ذكر هذه المسألة في أربعة مواضع في هذا الكتاب.
وأجاب في كل موضع بجواب آخر، فنذكر في كل موضع ما هو صواب من الجواب وما هو غلط إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
قال: ثم نظر إلى الربع الباقي فعزل خمسة ثم جمع ما بقى منه إلى ما بقى من الثلاثة الارباع.
فجعل ذلك مع غنايم أهل المعسكر يقسمها بينهم جميعا على قسمة الغنيمة.
وفى بعض النسخ يذكر.
__________
(1) ه " تقسيم ".
(2) في هامش ق " ما يصاب.
نسخة ".
[ * ](1/180)
أنه لا يخمس هذا الربع.
فكأنه بنى ذلك على أن المائة العصاة بمنزلة المتلصصين في دار الحرب بغير إذن الامام، فلا يخمس ما أصابوا.
وهو غلط.
فإنه إنما لا يخمس مصاب المتلصصين إذا لم يكونوا أهل منعة.
وهؤلاء أهل منعة بالانضمام إلى الثلاثمائة، فلابد من أن يخمس ما أصابوا.
202 - وإن كانت الثلاثمائة ليسوا قوما بأعيانهم والمسألة بحالها فإن الامام ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيخرج منها الخمس ثم ينظر إلى ربع ما بقى فيقسم بين الاربعمائة بالسوية نفلا لهم.
لان الاستحقاق بالتنفيل يثبت لثلاثمائة منهم، وليس بعضهم أولى من البعض.
فلابد من قسمة ذلك بينهم بالسوية، لاستوائهم في سبب الاستحقاق ثم يخرج الخمس من الربع الباقي ويجمع ما بقى منه إلى ما بقى من الثلاثة الارباع فيقسمها بينهم وبين جميع العسكر على سهام الخيل والرجال كما هو الحكم في قسمة الغنيمة بين الغانمين.
203 - فإن كانت المائة العصاة بأعيانهم فرأى الامير أن يحرمهم سهمهم مما أصابوا، فقسم ما بقى بين الثلاثمائة وأهل العسكر وحرم العصاة، ثم ولى آخر يرى ما صنع الاول جورا أمضى صنيعه ذلك ولم يرده.
لانه أمضى باجتهاده فعلا مختلفا (1) فيه.
فان عند بعض الفقهاء يحرم العصاة حظهم مما أصابوا ليكون زجرا وفطاما لهم عن العود إلى مثله، وردوا
ذلك إلى حرمان القاتل الميراث بسبب جنايته.
وبيان هذا يأتي في باب إحراق
__________
(1) ط، ه " مجتهدا ".
[ * ](1/181)
رحل الغال (1).
وقضاء القاضى في المجتهدات يكون نافذا لا يرد.
فلهذا قال: لا يرد الثاني ما صنع الاول.
204 - قال: ولا ينبغى للرجل أن يخرج إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه (2).
لان برهما واجب، والتحرز عن عقوقهما فرض عليه بعينه.
قال صلى الله عليه وسلم: " ليعمل (51 ب) البار ما شاء فلن يدخل النار.
وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة ".
وقال عليه السلام: " من أصبح ووالداه راضيان عنه فله بابان مفتوحان إلى الجنة ".
فلا ينبغى له أن يسد هذا الباب بالخروج بغير إذنهما، وهو لا يدرى أنه هل ينتفع بخروجه هو أو غيره أو لا ينتفع.
205 - وذكر عن عباس (2) بن مرداس أنه قال: يا رسول الله (4) إنى أريد الجهاد.
قال: ألك أم ؟ قال: نعم.
قال: الزم أمك فإن الجنة عند رجل أمك.
وتفريع المسائل على هذا الاصل في باب بعد هذا، فيؤخر بعض الكلام فيه إلى ذلك الموضع.
206 - وذكر عن ابن الزبير قال: سألت جابرا أيقاتل العبد بغير إذن مولاه ؟ قال: لا.
__________
(1) ط " في باب آخر ورحل الغال ".
(2) ق وحدها " باذنهما ".
(3) ق، ب " ابن عباس بن مرداس " وهو خطأ.
انظر تهذيب التهذيب.
(4) ه " يا رسول الله عليك السلام ".
[ * ](1/182)
وبه نأخذ.
لان منافعه ملك المولى، فلا يجوز له أن يفوتها عليه بالاشتغال بالقتال.
وماليته ملك المولى، فلا يجوز له أن يعرضها للتلف بالقتال، إلا أن يجيئ حال ضرورة المسلمين (1) إليه.
بأن وقع النفير عاما.
فحينئذ لا بأس أن يخرج لما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من لزوم الطاعة شرعا، ولانه ليس للمولى في مثل هذه الحالة أن يمنعه، بل يفترض عليه دفع شر المشركين بنفسه وبما يقدر عليه من ملكه.
فلذلك لا يجب على العبد أن يطيعه إن نهاه عن الخروج.
وكذلك هذا الجواب في حق الولد إذا نهاه والداه (2) في مثل هذه الحالة.
والله الموفق.
__________
(1) ق " للمسلمين ".
(2) ط " والده ".
[ * ](1/183)
35.
[ باب قتال النساء مع الرجال ] وشهودهن الحرب 207 - قال: لا يعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب.
لانه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال.
كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " هاه، ما كانت هذه تقاتل (1) ".
وربما يكون في قتالها
كشف عورة المسلمين، فيفرح به المشركون.
وربما يكون ذلك سببا لجرأة المشركين على المسلمين.
ويستدلون به على ضعف المسلمين فيقولون: احتاجوا إلا الاستعانة بالنساء على قتالنا.
فليتحرر عن هذا.
ولهذا المعنى لا يستحب لهن مباشرة القتال.
إلا أن يضطر المسلمون إلى ذلك.
فان دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز بل واجب.
واستدل عليه بقصة حنين (2) وقد بيناها.
وفى أواخر (3) تلك القصة: قالت أم سليم بنت ملحان، وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب،: يا رسول الله ! أرأيت هؤلاء الذين فروا منك وخذلوك،
__________
(1) في هامش ق " مر قوله عليه السلام: " هاه ! ما كانت هذه تقاتل " في باب وصايا الامراه في الحرب ".
(2) ه، ط " خيبر ".
(3) ه " آخر ".
[ * ](1/184)
فلا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم ! عافية الله أوسع.
فأعادت ذلك ثلاث مرات، وفى كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: عافية الله أوسع.
وفى المغازى أنها قالت: ألا نقاتل يا رسول الله (52 آ) هؤلاء الفرارين فنقتلهم كما قاتلنا المشركين ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عافية الله أوسع.
وأية حاجة إلى قتال النساء أشد من هذه الحاجة حين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموه (1).
وفى هذا بيان أنه لا بأس بقتالهن عند الضرورة لان الرسول لم يمنعها في تلك الحالة، ولم ينقل أنه أذن للنساء في القتال في غير ذلك الحالة.
208 - قال: ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز (2) الكبيرة فتداوى الجرحى، وتسقي الماء، وتطبخ للغزاة (3) إذا احتاجوا إلى ذلك، لحديث (4) عبدالله بن قرط الازدي قال كانت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات، يحملن الماء للمجاهدين يرتجزن، وهو يقاتل الروم.
والمراد العجائز، فالشواب (5) يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة.
والحاجة ترتفع بخروج العجائز.
209 - وذكر عن أم (6) مطاع، وكانت شهدت خيبر (7) مع
__________
(1) في هامش ق " أسلمه خذله.
جوهرى ".
(2) ق " العجوز ".
(3) ط " ولا بأس للعجائز أن يحضرن الحرب لمداواة الجرحى والطبخ للغزاة..".
(4) ه " بحديث ".
(5) ط، ه " فأما غير العجائز من النساء " وفى ه زيادة " فالثواب أن يمنعن..".
(6) ق " ابن " وهو خطأ.
(7) في أصل ب " حنينا " ثم صححت في الهامش بخيبر.
[ * ](1/185)
النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت أسلم، حيث شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من شدة الحال.
فندبهم إلى الجهاد (1) فنهضوا.
ولقد رأيت أسلم أول من انتهى إلى الحصن فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله علينا، وهو حصن الصعب ابن معاذ بالنطاة (2).
ففى هذا بيان أنها كانت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمنعها من ذلك.
فعرفنا أنه لا بأس للعجوز أن تخرج لاعانة المجاهدين بما يليق بها من العمل.
والله الموفق.
__________
(1) في هامش ق " القتل.
نسخة ".
(2) في هامش ق " وفى حديث خيبر: غدا إلى النطاة ".
[ * ](1/186)
36 [ باب الجهاد ] ما يسع منه وما لا يسع (1) 210 - قال أبو حنيفة رحمه الله: الجهاد واجب على المسلمين: إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم.
فكان الثوري يقول: القتال مع المشركين ليس بفرض، إلا أن تكون البداية منهم، فحينئذ يجب قتالهم دفعا لظاهر قوله { فان قاتلوكم فاقتلوهم } (2)، وقوله { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } (3).
ولكنا نستدل بقوله { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار (4) } (5).
وبقوله { وقاتلوا في سبيل الله } (6)، وبقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } (7)، وبقوله { وجاهدوا في الله حق جهاده } (8).
__________
(1) في هامش ق " لا يسعك أن تفعل كذا أي لا يجوز، لان الجائز موسع غير مضيق.
مغرب ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 191.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 36.
(4) في هامش ق " قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار.
أمروا بقتال الاقرب منهم فالاقرب.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته فان الاقرب أحق
بالشفقة.
بيضاوي ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 123.
(6) سورة البقرة، 2، الآية 190.
(7) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(8) سورة الحج، 22، الآية 78.
[ * ](1/187)
والحاصل أن الامر بالجهاد وبالقتال نزل مرتبا.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا في الابتداء بتبليغ الرسالة والاعراض عن المشركين قال الله تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } (1).
وقال تعالى { فاصفح الصفح الجميل } (2).
ثم أمر بالمجادلة بالاحسن كما قال { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } (3)، وقال { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن } (4).
ثم أذن لهم في القتال بقوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } (5).
ثم أمروا بالقتال إن كانت البداية منهم بما تلا من آيات.
ثم أمروا بالقتال بشرط انسلاخ (6) الاشهر الحرم كما قال تعالى { فإذا (52 ب) انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين } (7).
ثم أمروا بالقتال مطلقا بقوله تعالى { وقاتلوا في سبيل الله، واعلموا أن الله سميع عليم } (8).
فاستقر الامر على هذا.
ومطلق الامر يقتضى اللزوم، إلا أن فرضية القتال لمقصود إعزاز الدين وقهر المشركين.
فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين، بمنزلة غسل الميت وتكفينه (9) والصلاة عليه ودفنه.
إذ لو افترض على كل مسلم بعينه،
__________
(1) سورة الحجر، 15، الآية 94.
(2) سورة الحجر، 15، الآية 85.
(3) سورة النحل، 16، الآية 125.
(4) سورة العنكبوت، 29، الآية 46.
(5) سورة الحج، 22، الآية 39.
(6) ه "...بالقتال بانسلاخ ".
(7) سورة التوبة، 9، الآية 5.
(8) سورة البقرة، 2، الآية 244.
(9) قوله " وتكفينه " ساقط من ه، ب، أ، ط.
انفردت بها ق.
[ * ](1/188)
وهذا (1) فرض غير موقت بوقت، لم يتفرغ أحد لشغل (2) آخر من كسب أو تعلم.
وبدون سائر الاشغال لا يتم أمر الجهاد أيضا.
فلهذا كان فرضا على الكفاية.
211 - حتى لو اجتمعوا على تركه اشتركوا في المأثم.
وإذا حصل المقصود بالبعض سقط على الباقين.
وفى مثل هذا يجب على الامام النظر للمسلمين، لانه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم.
فعليه أن لا يعطل الثغور، ولا يدع الدعاء إلى الدين، وحث المسلمين على الجهاد.
وإذا ندب الناس إلى ذلك فعليهم أن لا يعصوه بالامتناع من الخروج.
ولا ينبغى أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الاسلام.
أو إعطاء جزية إذا تمكن من ذلك.
لان التكليف بحسب الوسع.
212 - وإن كانوا قوما لا تقبل منهم الجزية كعبدة الاوثان من
العرب والمرتدين فإنه يدعوهم إلى الاسلام، فإن أبو قاتلهم (3).
وأما المجوس وعبدة الاوثان من العجم في جواز أخذ الجزية منهم (4) عندنا بمنزلة أهل الكتاب، فيدعوهم إلى احدى هاتين الخصلتين، ويجب الكف عنهم إذا أجابوا إلى احداهما (5)، وإن امتنعوا منهما فحينئذ يقاتلون.
__________
(1) ه " وهو ".
(2) ه " بشغل ".
(3) ه " قاتلوهم ".
(4) ب، أ " عنهم " ولا توجد الكلمة في ط.
* (5) ه " أحدهما ".
[ * ](1/189)
وفى أهل الكتاب العربي وغير العربي سواء.
لقوله تعالى { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون } (1).
وكل (2) مسلم في هذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث داعيا إلى ما بينا، وأمر بالقتال على ذلك مع من أبى.
213 - قال: وإن قالوا للمسلمين وادعونا على أن لا نقاتلكم ولا تقاتلونا (3) فليس ينبغى للمسلمين أن يعطوهم ذلك لقوله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون } (4).
ولان الجهاد فرض، فانما تركوا الموادعة على أن تترك فريضة، ولا يجوز إجابتهم إلى مثل هذه الموادعة، كما لو طلبوا الموادعة على أن لا يصلوا ولا يصوموا (5).
إلا أن يكون لهم شوكة شديدة لا يقوى عليهم المسلمون.
فحينئذ لا بأس بأن يوادعهم إلى أن يظهر للمسلمين قوة ثم ينبذ إليهم.
قال الله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } (6).
وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين.
ولان حقيقة الجهاد في حفظ قوة أنفسهم أولا ثم في قهر المشركين وكسر شوكتهم.
فإذا كانوا عاجزين (53 آ) عن كسر شوكتهم كان عليهم أن يحفظوا
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(2) ه " وكلم " خطأ.
(3) ه " تقاتلون ".
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 139.
(5) ق " على أن لا نصلى ولا نصوم " وفى الهامش " أن لا يصلوا ولا يصوموا.
نسخة ".
(6) سورة الانفال، 8، الآية 61.
[ * ](1/190)
قوة أنفسهم بالموادعة إلى أن يظهر لهم قوة كسر شوكتهم، فحينئذ ينبذون إليهم ويقاتلون، وهو بمنزلة إنظار المعسر إلى الميسرة كما قال الله تعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } (1).
214 - وكذلك لو قالوا للمسلمين: وادعونا على أن نعطيكم في كل سنة مالا معلوما على أن تجروا علينا أحكامكم، فليس ينبغى الموادعة على ذلك لانهم لا يلتزمون شيئا من أحكامنا، وإنما ينتهى القتال بعقد الذمة لما فيه من التزام أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والرضا منهم بالمقام في دار الاسلام مقهورين.
ولما فيه ترك المحاربة أصلا، ولا يوجد ذلك فيما طلبوا، ولانهم لو أجيبوا إلى ذلك ربما يظنون أنا إنما نقاتلهم طمعا في أموالهم، بل لا يشكون
في ذلك، ولا يحل للمسلمين أن يقصدوا ذلك أو يظهروه من أنفسهم.
215 - إلا أن يكون لهم شوكة شديدة فحينئذ تجوز الموادعة معهم بغير مال يؤخذ منهم.
فلان يجوز بمال يؤخذ منهم كان أولى.
وهذا المال لا يؤخذ عوضا عن ترك القتال، وإنما يوخذ لان مالهم (2) مباح لنا.
فباعتبار تلك الاباحة يؤخذ هذا المال منهم.
216 - قال: فإذا أراد الخروج إلى الجهاد وله أبوان فليس ينبغى له أن يخرج حتى يستأذنهما.
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 280.
(2) ه " أموالهم ".
[ * ](1/191)
لان بر الوالدين وترك ما يلحق الضرر والمشقة بهما فرض عليه عينا، والجهاد فرض على الكفاية.
إذا لم يقع النفير عاما.
فعليه أن يقدم الاقوى.
وفى خروجه إلحاق الضرر والمشقة بهما.
فإن المجاهد على خطر (1) في التمكن من الرجوع.
217 - فإن أذنا له فليخرج.
وإن أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فليس ينبغى له أن يخرج مراعاة لحق (2) الذى يأبى منهما.
وكذلك إن أبيا جميعا.
والاصل فيه ما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى جئت أجاهد معك، وتركت والذى يبكيان.
فقال: " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما ".
وأفضل الجهاد ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أمره بالرجوع لكراهة الوالدين لخروجه.
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الاعمال قال: " الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله ".
فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد.
والوالدان في سعة من أن لا يأذن له إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة، لانهما يحملانه على ما هو الاقوى في حقه وهو برهما.
وبهذا تبين أن لا يسعه الخرج بغير إذنهما، لانه لو كان يسعه ذلك لكانا يأثمان في منعه، ولو كان يأثمان في منعه لكان هو في سعة من الخروج حتى يبطل عنهما الاثم.
__________
(1) ه " خطرة ".
(2) ه " مراعاة في حق ".
[ * ](1/192)
218 - وكذلك إن كان مات أحد أبويه والآخر حي.
لان السبب الموجب للبر في حق الحى منهما كامل.
219 - وإن كان كافرين أو أحدهما كافر (53 ب) والآخر مسلم فكرها خروجه للجهاد، أو كرهه الكافر منهما، فإن كان إنما كره ذلك على وجه المخافة (1) على نفسه والمشقة التى تلحقه بخروجه، فلا ينبغى له أن يخرج.
لانه في بر الوالدين يستوى الكافر والمسلم.
قال الله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } (2).
والمراد الابوان المشركان بدليل قوله تعالى { وإن جاهداك على أن
تشرك بى } (3).
220 - وإن كان إنما ينهاه عن ذلك كراهة أن يقاتل أهل دينه لا شفقة عليه فليخرج ولا يطعه.
لانه إنما كره خروجه بسبب دعاه الشرك إلى ذلك لا الولاد (4) (؟)، وليس عليه طاعة في داعية الشرك.
وإنما يعرف ذلك بغالب الظن (5) والرأى، لان فيما لا طريق إلى معرفة حقيقته (6) بينى الحكم فيه على أكثر الرأى.
وهذا إذا كان لا يخاف عليه الضيعة.
فإن كان يخاف عليه من ذلك لم يحل له أن يخرج.
__________
(1) ه " المخالفة ".
(2) و (3) سورة لقماق، 31، الآية 15.
(4) كذا في ب، أ، ه، ق.
وفى ط " بسبب ادعاء الشرك لا الاولاد ".
(5) ب، أ " بغالب الرأى ".
(6) ه " معرفته حقيقة ".
م - 13 السير الكبير [ * ](1/193)
لانه إذا كان معسرا محتاجا إلى خدمته فخدمته فرض عليه، وإن كان كافرا.
وليس من الصواب أن يترك فرضا عينا ليتوصل إلى ما هو فرض كفاية.
ولان ما يفوته من تضييع والده (1) لا يمكنه (2) تداركه.
وهو يتمكن أن يتدارك الجهاد في وقت آخر.
221 - قال: وإن أذن له الابوان وله جدان وجدتان فكرهوا خروجه فلا بأس بأن يخرج.
لانه في حال قيام الوالدين الاجداد والجدات كالاجانب.
ألا ترى أن
في حكم الحضانة والولاية واستحقاق الميراث هم كالاجانب، فكذلك في المنع عن الخروج لا أمر لهم ما دام الوالدان حيين.
222 - فإن مات الابوان فأذن له الجد الذى من قبل أبيه والجدة التى من قبل أمه، ولم يأذن له الآخران - يعنى أب الام وأم الاب (3) - فلا بأس بأن يخرج.
لان أب الاب عند عدم الاب قائم مقامه بدليل ثبوت الولاية له.
وأم الام عند عدم الام بمنزلتها، بدليل ثبوت حق الحضانة لها.
والآخران معهما بمنزلة سائر الاجانب.
223 - وإن أذن له الآخران ولم يأذن له هذان لم يكن له أن يخرج.
__________
(1) ه، ق " والديه ".
(2) ه " ما لا يمكنه ".
(3) ب، أ " أم الام " وهو خطأ.
[ * ](1/194)
224 - وإن لم يكن له جدة من قبل الام، ولا جد (1) من قبل الاب، فاستأذن الآخرين فلم يأذنا له، أو لم يأذن له أحدهما، فالمستحب له أن يخرج.
لان حق الحضانة لام الاب عند عدم أم الام.
وهى في ذلك بمنزلة الام والجد أب الام وإن لم يجعل كالاب في الولاية فقد جعل كالاب في حكم القصاص، وفى منع قبول الشهادة له، وحرمة وضع الزكاة فيه.
فإذا لم يبق جد أقرب منه كان هو قائما مقام الاب في منعه من الخروج أيضا.
225 - وإن كان له أم وأب أب فأذن له أحدهما دون الآخر لم
يسع له أن يخرج حتى يأذنا له.
لان أب الاب بمنزلة الاب عند عدمه.
فكأن هذا ومن كان أبوه وأمه (2) حيين في الحكم سواء.
226 - وإن لم يكن له أم وكانت له (54 آ) جدة من قبل الام وجدة من قبل الاب، فحق الاذن للتى من قبل الام خاصة.
ألا ترى أنها في الحضانة مقدمة على الاخرى، والجدة التى من قبل الاب لا تقوم مقام الاب بدليل أنه لا تثبت لها الولاية كما تثبت للجد.
227 - ولو كانت الام حية فحق الاذن إليها وليس إلى الجدات من ذلك شئ.
بمنزلة حق الحضانة.
وكذلك مع بقاء الاب ليس للاجداد إذن في هذا الباب.
__________
(1) ه " جدة " وهو خطأ.
(2) ه " أبواه ".
[ * ](1/195)
228 - وإن كان له أب وأم أب فليس ينبغى له أن يخرج حتى يأذن له.
لان أم الاب بمنزلة الام إذا لم يكن سواها أحد في الامهات بمنزلة الام.
ألا ترى أن حق الحضانة لها ؟ وأشار في الكتاب إلى أن له مخالفا في هذه المسألة.
ولم يبين من هو.
فكأن هذا المخالف يقول: أم الاب تدلى بالاب.
وإذا لم يعتبر إذن الجد الذى يدلى بالاب مع الاب لم يعتبر اذن أم الاب بالطريق الاولى.
وهذا فاسد.
فانه لو كان له أم، وأم أب، فأذنت له الام كان له أن
يخرج، ولو كان أم الاب.
باعتبار هذا الادلاء كالاب أو كالجد أب الاب (1) لم يكن له أن يخرج إلا بإذنهما.
229 - قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو حج أو عمرة فكره ذلك أبواه، وهو لا يخاف عليهما الضيعة (2) فلا بأس بأن يخرج.
لان الغالب في هذه الاسفار السلامة، ولا يلحقهما في خروجه مشقة شديدة.
فان الحزن بحكم الغيبة (3) يندفع بالطمع في الرجوع ظاهرا.
الا أن يكون سفرا مخوفا عليه نحو ركوب البحر، فحينئذ حكم هذا وحكم الخروج إلى الجهاد سواء.
لان خطر الهلاك فيه أظهر.
__________
(1) ه " الجدات للاب ".
(2) ط، ه " الضياع ".
(3) ه " على الغيبة ".
[ * ](1/196)
230 - والسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمنا والامن في الموضع الذى قصده ظاهرا لا يكون دون السفر للتجارة.
بل هذا فوقه (1) لقوله تعالى { فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } (2).
فلا بأس بأن يخرج إليه وإن كره الوالدان إذ كان لا يخاف الضيعة عليهما.
231 - قال: وإن كان يخرج في التجارة إلى دار الحرب بالامان فكرها ذلك فإن كانوا قوما يفون بالعهد معروفين بذلك فلا بأس
بأن يخرج.
لان الغالب هو السلامة، فصار هذا والخروج إلى بلدة أخرى من دار الاسلام سواء.
232 - وإن كان يخرج في تجارة إلى دار الحرب مع عسكر المسلمين فإن كان عسكرا عظيما كالصائفة (3) فلا بأس بأن يخرج وإن كرها خروجه.
لان الغالب من حاله السلامة فانه لا يعرض نفسه بالاشتغال بالقتال والعسكر العظيم يقوون على دفع شر العدو عنه وعن أنفسهم.
__________
(1) ه " بل هذا مأمور به ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 122.
(3) في هامش ق " الصائفة الغزوة في الصيف، وبها سميت غزوة الروم، لان سنتهم أن يغزوا صيفا ويقال عنهم في الشتاء.
ومن فسرها بالموضع أو الجيش فقد وهم.
وأما قول محمد رح إذا كانت الصوائف ونحوها من العساكر العظام لا بأس باخراج النساء معهم فعلى التوهم أو التوسع.
مغرب ".
[ * ](1/197)
233 - وإن كانت سرية أو نحوها لم يسعه أن يخرج إلا بإذنهما.
لان خطر الهلاك أظهر في خروجه مع قوم ليس قوة الدفع عنه.
وإن كان لا يخرج للجهاد مع مع هؤلاء بغير إذنهما لخطر الهلاك فكذلك لا يخرج للتجارة.
234 - وإن كره خروجه للجهاد أولاده أو إخوانه أو أعمامه أو عماته أو زوجته فلا بأس بأن يخرج إذا كان لا يخاف عليهم الضيعة، وإنما يخاف منهم الجزع عليه.
لان المنع من ذلك باعتبار وجوب بر الوالدين وغيرهما من الاولاد
والقرابات لا يساويهما في ذلك، فكذلك في المنع من الخروج، إلا أن يخالف الضيعة على أحد من هؤلاء فحينئذ لا يسعه أن يخرج ويدع من تلزمه نفقته، لان القيام بتعاهده والانفاق عليه مستحق عليه بعينه.
قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوته (1) ".
وهذا الحكم في الذكور من أولاده الصغار، والاناث صغار أو كبار إذا لم يكن لهن أزواج، والزمنى من الكبار الذين لا حرفة لهم من ذوى الرحم، لان نفقتهم واجبة عليه شرعا، كذلك زوجته.
235 - وأما بنوه الكبار الاصحاء وإخوانه الذين لا زمانة (2) بهم فلا بأس بأن يخرج ويدعهم وإن خاف الضيعة عليهم.
لانه لو كان حاضرا لم يجبر على نفقتهم وإن ضاعوا، فلا يمتنع خروجه بسبب خوف الضيعة عليهم.
وهذا كله إذا لم يكن النفير عاما.
__________
(1) ط " من يعوله وفى رواية من يقوته ".
(2) في هامش ق " وزمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن (بكسر الميم) من باب تعب.
، وهو مرض يدوم زمانا طويلا، والقوم زمنى مثل مرضى.
مصباح ".
[ * ](1/198)
236 - فأما إذا جاء النفير عاما فقيل لاهل مدينة: قد جاء العدو يريدون أنفسكم أو ذراريكم أو أموالكم.
فلا بأس بأن يخرج بغير إذن والديه.
لان الخروج في مثل هذه الحالة فرض عين على كل واحد.
قال الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) (1).
وما يفوته بترك هذه الفريضة لا يمكنه استدراكه، وما يفوته بالخروج بغير إذن الوالدين يمكنه استدراكه بعد هذا، فيشغتل بما هو الاهم، ولان الضرر في تركه الخروج أعم، فإن ذلك يتعدى إليه وإلى والديه
وإلى غيرهم من المسلمين.
ولانه لا يحل لوالديه أن ينهياه عن هذا الخروج فيكون له أن يخرج ليسقط به الاثم عنهما، ولا طاعة لهما عليه فيما كانا عاصيين فيه.
ألا ترى أن رجلا لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله أو ليقتله، أو أراد امرأة ليفجر بها، وهناك من له قوة على أنه يمنعه من ذلك فعليه أن يمنعه، وإن كره ذلك والداه لم يسعه أن يطيعهما في ذلك ولم يسعهما أن يمنعاه.
لان هذا فرض عليه بعينه، وإنما يلزمه طاعة الوالدين فيما يكون موسعا عليه بين الاتيان والترك.
فأما ما يفترض عليه مباشرته بعينه فليس لوالديه أن يمنعاه من ذلك.
أرأيت لو أريد (2) أحد والديه بشئ من ذلك فنهاه الوالد الآخر أن يعينه شفقة عليه أينبغي له أن يطيعه ويدع والده ينتهك حرمته ؟ ذكر هذا على سبيل الاستقباح (3) لمراعاة إذن الوالدين فيما هو فرض عليه بعينه.
237 - قال: ولا ينبغى للعبد أن يجاهد بغير إذن مولاه ما لم
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 41.
(2) ب، أ " أراء ".
(3) ه " الاستفتاح بمراعاة ".
[ * ](1/199)
يكن النفير عاما.
فإذا كان ذلك فله (1) أن يخرج، وليس لمولاه أن يمنعه من ذلك.
لان فرضية (55 آ) الخروج عند النفير العام كفرضية الصوم والصلاة، وذلك مستثنى للعبد مما ملكه (2) عليه مولاه.
وإذا تبين هذا في العبد، وللمولى عليه ملك على الحقيقة، تبين في حق
الولد مع الوالدين بطريق الاولى.
238 - وكذلك النساء إذا كانت بهن قوة القتال فليخرجن إذا كان النفير عاما.
وقد بينا ما صنعت أم سليم يوم حنين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " لمقام نسيبة (3) بنت كعب خير من مقام فلان وفلان " فسمى جماعة من الذين فروا.
وكان النفير عاما.
فاستحسن قتال النساء ومدح من لم يهرب منهن بما قال.
فأما إذا لم يكن النفير عاما فلا ينبغى أن يشتغل النساء بالقتال.
239 - ولا ينبغى للشواب (4) أن يخرجن أيضا في الصوائف ونحوها.
لان مقامهن في البيوت أقرب إلى دفع الفتنة.
__________
(1) ه فأما إذا كان ذلك فله " ب " فإذا كان له ذلك فله ".
(2) ه " يملكه ".
(3) في هامش ق " ونسيبة بنت كعب وبنت سماك بفتح النون، وبنت تيار وأم عطاء بضمها.
وهن صحابيات.
قاموس ".
(4) في هامش ق " والانثى شابة والجمع شواب مثل دابة ودواب.
مصباح ".
[ * ](1/200)
فأما العجائز فلا بأس بأن يخرجن مع الصوائف لمداواة الجرحى.
جاء عن أم عطية قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبع غزوات، فكنت أطبخ لهم وأداوى الجرحى وأسقيهم الماء.
240 - ولا يعجبنى أن يباشرن القتال، لان بالرجال غنية عن قتال النساء.
فلا يشتغلن بذلك من غير ضرورة.
وعند تحقق الضرورة
بوقوع النفير عاما لا بأس للمرأة أن تقاتل بغير إذن زوجها.
بلغنا أن صفية بنت عبدالمطلب قتلت يهوديا تسور عليهم (1) حصنا كانوا فيه.
وإنما كان هذا يوم الخندق.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم جمع النساء في أطم (2) من آطام المدينة.
وكان حسان بن ثابت معهن.
فجاء يهودى من بنى قريظة وأراد أن يتسور الحائط.
فأمرت صفية حسان بن ثابت بأن يقوم إليه بحجر أو خشب فيقتله.
فقال حسان: أنا من أرباب اللسان لست من أرباب الضرب والطعان في شئ.
فقامت بنفسها فقتلته.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك استحسنه منها.
فعرفنا أنه لا بأس بذلك.
241 - وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس
__________
(1) ه " عليهن ".
(2) في هامش ق " الاطم بضمتين القصر، وكل حصن مبنى بحجارة، وكل بيت مربع مسطح.
جمعه آطام وأطوم.
قاموس ".
[ * ](1/201)
بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام، وإن كره ذلك الآباء والامهات.
وفى غير هذا الحالة لا ينبغى لهم أن يخرجوا، إلا أن تطيب أنفسهم بذلك.
242 - قال: بلغنا أن على بن أبى طالب رضى الله عنه أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين.
فلو حضر قتالا لقاتل.
فهذا لا بأس به.
والروايات اختلفت في سن على رضى الله عنه حين أسلم.
فالذي ذكره محمد في هذا الكتاب التسع والعشر.
وفى رواية أنه أسلم وهو ابن سبع سنين.
وفى رواية أن أسلم وهو ابن خمس سنين.
واختلاف الرواية بهذه الصفة يبتنى على اختلاف الناس في سنه حين قتل.
فقال جعفر بن محمد: قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وقال (55 ب) الجاحظ (1): قتل وهو ابن ستين.
وقال العتبى (2): قتل وهو ابن ثلاث وستين.
ولا خلاف في أنه أسلم في أول مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بعث بمكة ثلاث عشرة سنة.
وبالمدينة عشرا، والخلافة بعده ثلاثون سنة انتهى ذلك بقتل على رضى الله عنه فذلك ثلاث وخمسون.
فإن كانت سنة حين قتل ما قاله جعفر بن محمد ظهر أنه أسلم وهو ابن
__________
(1) كذا في النسخ.
وفى هامش ق " الحافظ نسخة ".
(2) مهملة في ب.
وهى في ق " العتبى " وفى ه، ط " القتبى " وفى هامش ق " الشعبى نسخة ".
[ * ](1/202)
خمس سنين.
وإن كان على ما قاله الجاحظ فقد أسلم وهو ابن سبع سنين.
وإن كان على ما قاله العتبى فقد أسلم وهو ابن عشر سنين.
ولا خلاف أنه لم يكن بالغا حين أسلم.
وعليه دل قوله: سبقتكم إلى الاسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلم وإنما حققنا هذا لاعتماد أصحابنا على هذا الحديث في صحة إسلام الصبى.
243 - قال: وإذا خرج القوم إلى الصوائف فأرادوا أن يخرجوا
معهم النساء بغير منفعة إلا المباضعة (1) والخدمة فالمستحب أن لا يفعلوا ذلك مخافة عليهن.
لان النساء لحم على وضم (2) إلا ما ذب عنهن.
ومن خرج للقتال ربما يبتلى بعارض يشغله بنفسه ولا يتمكن فيه من الذب عن حرمه.
واقتضاء الشهوة بالمباضعة ليس من أصول حوائجه ولا ينبغى أن يعرض حرمه للضياع لاجله، ولو لم يكره (3) له الخروج بهن إلا لمخافة أن يشتغل بهن عن القتال لكان ذلك كافيا.
__________
(1) المباضعة الجماع (قاموس).
(2) في هامش ق " الوضم محركة ما وقيت به اللحم عن الارض من خشب وحصير.
قاموس ".
وثمة حاشية ثانية فيها " في حديث عمر رضى الله عنه: إنما النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه.
قال الاصمعي: الوضم الخشبة أو البارية التى يوضع عليها اللحم تقية من الارض.
وقال الزمخشري: الوضم كل ما وقيت به اللحم.
يقول: إنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذى لا يمتنع من أحد إلا أن يذب عنه ويدفع.
وقال الازهرى: إنما خص اللحم على الوضم وشبه به النساء لان من عادة العرب في باديتها إذا نحر بعير لجماعة يقتسمون لحمه أن يقلعوا شجرا كثيرا ويوضم بعضه على بعض ويعضى اللحم ويوضع عليه، ثم يلقى لحمه عن عراقه ويقطع على الوضم هبرا للقسم وتؤجج نار فإذا سقط جمرها اشتوى من حضر شوية بعد شوية على ذلك الحجر لا يمنع أحد منه.
فإذا وقعت المقاسم حول كل شريك قسمه عن الوضم إلى بيته ولم يعرض له أحد.
فشبه عمر رضى الله عنه النساء وقلة امتناعهن على طلابهن من الرجال باللحم مادام على الوضم ".
(3) ه " يكن " وهو خطأ.
[ * ](1/203)
فإن كان لابد من إخراجهن (1) فالاماء دون الحرائر.
لان حكم الاختلاط بالرجال في حق الاماء أخف.
ألا ترى أن جميع
الناس لهن بمنزلة المحرم في النظر والمس، وأنه لا بأس للامة أن تسافر بغير محرم، وليس للحرة ذلك إلا مع زوج أو محرم.
244 - ولكن مع هذا يرخص في إخراج الحرائر والاماء لمن يقوى على حفظهن إن ابتلى المسلمون بهزيمة، يخرجهن إلى دار الاسلام إما بقوة نفسه أو بما معه من الظهور والخدم.
لما روى أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو قرع بين نسائه وأخرج منهن معه التى تقرع.
قالت عائشة رضى الله عنها: فأصابتني القرعة في السفر الذى أصابني فيه ما أصابني.
حين تكلم أهل الافك بما تكلموا.
وهى غزوة المريسيع غزوة بنى المصطلق من خزاعة.
ومعلوم أنه كان يأمن عليهن من الضياع بمن معه من المسلمين، فمن يكون بهذه الصفة فلا بأس له بأن يخرجهن، وإنما يكره هذا لمن إذا ابتلى المسلمون بهزيمة لم يقو على إخراجهن واشتغل بنفسه فيكون مضيعا لهن.
والتعرض لمثل (2) هذا التضييع حرام شرعا.
245 - وكذلك إن كانوا سرية يدخلون أرض العدو فإنه لا ينبغى لاحد من العجائز أن يخرج معهم لمداواة الجرحى.
لانهم جريدة خيل إذا حزبهم أمر اشتغلوا بأنفسهم، ولا يتمكنون من الدفع عنها (3)، وهى عاجزة عن الدفع عن نفسها، وإنما يحل لها ذلك *
__________
(1) في هامش ق " فان كان لابد من مخرجهن نسخة ".
(2) ه " بمثل ".
(3) ه زيادة " وعن أنفسهم ".
[ * ](1/204)
في الصوائف التى أكبر الرأى فيها أنهم قاهرون لا ينهزمون من العدو فيتمكنون
من الدفع عنها وعن أنفسهم.
والحاصل أن الحكم يبنى على الظاهر (56 آ) فيما يتعذر الوقوف على حقيقة الحال فيه.
246 - ولا بأس بإدخال المصاحف في أرض العدو لقراءة القرآن في مثل هذا العسكر العظيم.
ولا يستحب له ذلك إذا كان يخرج في سرية.
لان الغزى ربما يحتاج إلى القراءة من المصحف إذا كان لا يحسن القراءة عن ظهر قلبه، أو يتبرك بحمل المصحف، أو يستنصر به.
فالقرآن حبل الله المتين من اعتصم به نجا.
إلا أنه منهى عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو به.
ولهذا لو اشتراه ذمى أجبر على بيعه.
والظاهر أنه في العسكر العظيم يأمن هذا لقوتهم، وفى السرية ربما يبتلى به لقلة عددهم.
فمن هذا الوجه يقع الفرق.
والذى روى أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يسافر بالقرآن في أرض العدو ".
وتأويله هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم.
هكذا ذكره محمد.
وذكر الطحاوي أن هذا النهى كان في ذلك الوقت لان المصاحف لم تكثر في أيدى المسلمين.
وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدى العدو أن يفوت شئ من القرآن من أيدى المسلمين، ويؤمن من مثله في زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء.
قال الطحاوي: ولو وقع مصحف في يدهم لم يستخفوا به لانهم وإن كانوا لا يقرون بأنه كلام الله فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات وابلغ المعاني فلا يستخفون به، كما لا يستخفون بسائر الكتب.(1/205)
لكن ما ذكره محمد أصح، فانهم يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين، وقد ظهر ذلك من القرامطة حين ظهروا على مكة، جعلوا يستنجون بالمصاحف (1) إلى أن قطعا لله دابرهم.
ولهذا منع الذمي من شرى المصحف، وأجبر على بيعه كما أجبر (2) على بيع العبد المسلم.
وكذلك (3) كتب الفقه بمنزلة المصحف في هذا الحكم.
فأما كتب الشعر فلا بأس بأن يحمله مع نفسه، وكذلك إن اشتراه الكافر لا يجبر على بيعه.
247 - وإن دخل إليهم مسلم بأمان فلا بأس بأن يدخل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد.
لان الظاهر هو الامن لما في يده.
فأما إذا كانوا ربما لا يوفون العهد فلا ينبغى له أن يحمل المصحف مع نفسه إذا دخل دارهم بأمان.
248 - وإذا قال الحربى أو الذمي للمسلم علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه.
ويفقه في الدين لعل الله يقلب قلبه (4).
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على المشركين وبه أمر (5) قال الله تعالى: { بلغ ما أنزل إليك من ربك } (6).
وقال الله
__________
(1) ق " بالمصحف ".
(2) ه، ط " يجبر ".
(3) هذه الفقرة كلها لا توجد في ب، أ.
(4) ق، ب، أ " يقبل بقلبه ".
(5) في هامش ق " وهذا لان النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن على المشركين، وهم كانوا أرباب اللسان فيتلقونه منه، حتى روى أنه عليه السلام كان يقرأ " حم.
تنزيل الكتاب
من الله العزيز العليم.
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " فتلقن أبو لهب لعنه الله فجعل يردد في نفسه لحلاوته ويقول: ما أظن هذا من كلام البشر.
حتى علم به أبو جهل فوقعت بينهما وحشة بهذا السبب.
من خط الحصيرى ".
(6) سورة المائدة، 5، الآية 67.
[ * ](1/206)
تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } (1).
ومعلوم أن تمام هذه الصفة في القرآن والفقه المستنبط من القرآن وهو الحكمة، كما قال الله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خير كثيرا } (2).
وفسره المفسرون بالفقه.
وإنما يتحقق دعاؤه (56 ب) بهذه الطريق إذا علمه ذلك وفهمه.
وقال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } (3) يعنى يسمع فيفهم.
فربما يرغب في الايمان لما يقف عليه من محاسن الشريعة.
وهذا هو المراد من قوله: لعل الله يقلب قلبه (4).
وفى حديث عثمان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس من تعلم القرآن وعلمه ".
ولم يفصل بين تعليم المسلمين وتعليم الكفار.
وإذا كان يندب إلى تعليم غير المخاطبين رجاء أن يعملوا به إذا خوطبوا، فلان يندب إلى تعليم المخاطبين رجاء (5) أن يهتدوا به ويعملوا كان أولى.
249 - وإذا دخل المشركون دار الاسلام فأخذوا الاموال والذراري والنساء، ثم علم بهم جماعة المسلمين، ولهم عليهم قوة، فالواجب عليهم أن يتبعوهم ما داموا في دار الاسلام، لا يسعهم إلا ذلك.
لانهم إنما يتمكنون من المقام في دار الاسلام بالتناصر وفى ترك التناصر ظهور العدو عليهم، فلا يحل لهم ذلك.
وفعل أهل الحرب بهذه الصفة منكر قبيح، والنهى عن المنكر فرض على المسلمين.
والذين وقع الظهور عليهم صاروا مظلومين، ويفترض على
__________
(1) سورة النحل، 16، الآية 125.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 269.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(5) ب، أ، " يقبل بقلوبهم ".
(5) ه " لرجاء ".
[ * ](1/207)
المسلمين دفع الظلم عن المظلوم (1) والاخذ على يد الظالم.
قال عليه السلام: " لا، حتى تأخذوا على يدى الظالم فتأطروه على الحق أطرا " (2).
250 - فإن دخلوا بهم دار الحرب نظر (3): فإن كان الذى في أيديهم ذرارى المسلمين، فالواجب على المسلمين أيضا أن يتبعوهم إذا كان غالب رأيهم (4) أنهم يقوون على استنقاد الذرارى من أيديهم إذا أدركوهم، ما لم يدخلوا حصونهم.
لانهم ما ملكوا الذرارى بالاحراز بدار الحرب، فكونها في أيديهم في دار الحرب وفى دار الاسلام سواء.
والمعتبر تمكن المسلمين من الانتصاف منهم، وذلك قائم باعتبار الظاهر ما لم يدخلوا حصونهم.
251 - فأما إذا دخلوا حصونهم فإن أتاهم المسلمون حتى يقاتلوهم لاستنفاذ الذرارى فذلك فضل أخذوا به، وإن تركوهم رجوت أن يكونوا في سعة من ذلك.
لان الظاهر أنهم بعدما وصلوا إلى مأمنهم ودخلوا حصونهم يعجز المسلمون عن استنقاذ الذرارى من أيديهم، إلا بالمبالغة في الجهد وبذل النفوس
والاموال في ذلك.
فان فعلوه فهو العزيمة، وإن تركوه لدفع الحرب والمشقة عن أنفسهم كان لهم في ذلك رخصة.
ألا ترى أنا نعلم أن في يد الكفار بالروم
__________
(1) ه " المظلومين ".
(2) في هامش ق " وفى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر المظالم التى وقعت فيها بنو اسرائيل والمعاصي فقال: " لا والذى نفسي بيده، حتى تأخذوا على يدى الظالم وتأطروه عى الحق أطرا.
من لسان العرب " قلنا: وتأطروه أي تعطفوه على الحق كما في النهاية.
(3) ساقطة في ب، أ، ق.
(4) ق " الغالب على رأيهم ".
[ * ](1/208)
والهند بعض أسارى المسلمين، ولا يجب على كل واحد منا الخروج لقتالهم لاستنقاذ الاسارى من أيديهم.
252 - فأما إذا كان ما ظهروا عليه المال دون الذرارى فإذا دخلوا دار الحرب وسع المسلمين أن لا يتبعوهم بعد ذلك، وإن كان تبعوهم فهو أفضل.
لانهم ملكوا الاموال بالاحراز، وانتهت العصمة الثابتة فيها بالاحراز بدار الحرب فالتحقت بسائر أموالهم.
والمسلمون في سعة من أن يتركوا أتباعهم لاخذ أموالهم من أيديهم، وإن كانوا لو فعلوا ذلك لاعزاز الدين وقهر المشركين كان أفضل.
فكذلك حكم هذه الاموال.
253 - والحكم فيما إذا ظهر أهل الحرب على ذرارى أهل الذمة أو على أموالهم على نحو ما ذكرنا أيضا.
لان المسلمين حين أعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا من أهل دار الاسلام.
ألا ترى أن إحراز بعقد الذمة للمال والنفس في حكم
الضمان، والعقوبة بمنزلة الاحراز الذى للمسلم.
فيستوى الحكم في وجوب الاتباع، والدليل على الفرق بين الاموال والذراري بعد دخول دار الحرب انهم لو أسلموا سلمت لهم الاموال، وأمروا برد الذرارى.
وفى دار الاسلام لو أسلموا أمروا برد الاموال والذراري.
والمسلون وأهل الذمة في ذلك سواء.
فيتضح الفرق.
254 - وإن كان المسلمون حين بلغهم هذا النفير أكبر الرأى منهم أنهم إن خرجوا في إثرهم لم يدركوهم (1) حتى يدخلوا حصونهم
__________
(1) ه " يدركوا ".
م - 14 السير الكبير [ * ](1/209)
في الذرارى، أو حتى يدخلوا في دار الحرب في الاموال، رجوت أن يكونوا في سعة من ترك الاتباع.
لان البناء على الظاهر جائز في مثل هذا.
والظاهر أنهم في الخروج يتعبون أنفسهم من غير فائدة.
وإنما الذى يفترض فيه الخروج بعينه (1) على كل من يبلغه إذا كان أكبر الرأى منه أنه إذا خرج أدركهم، وقوى على الاستنقاذ من أيديهم بمنعة (2) من المسلمين على ما بينا.
255 - قال: ولا بأس للذين يسكنون الثغور من المسلمين أن يتخذوا فيها النساء والذراري وإن لم يكن بين الثغور (3) وبين أرض العدو أرض للمسلمين.
لانهم يندبون إلى المقام في الثغور.
وإنما يتمكنون من المقام بالنساء والذراري.
فالنساء سكن للرجال (4).
ولانهم إذا أقاموا في (57 آ) ذلك الموضع بالنساء والذراري كثروا بمرور الزمان حتى يصير ذلك الموضع مصرا
من أمصار المسلمين، ويتخذ المسلمون وراء ذلك ثغرا بالقرب من العدو.
ولكن هذا إذا كانوا بحيث لو نزلت بهم جلبة (5) العدو قدروا على دفع شرهم عن أنفسهم عن ذراريهم.
وتمكنوا من أن يخرجوهم إلى أرض الاسلام.
__________
(1) ه " لعينه ".
(2) ق " بمنعة المسلمين ".
(3) ه " بين ذلك الثغور وبين..".
(4) ه " مسكن الرجال ".
(5) ق " حلبة ".
وفى هامش ق " الحلبة جمع الفرسان وبالجيم صوت العدو.
حصيرى " وإلى جانب ذلك ما يلى " وقوله في السير أن نزلت بهم جلبة العدو، وفى موضع آخر: ولا يقدرون على دفع جلبة العدو، ويروى حلبة بالحاء وسكون اللام وهى خيل تجتمع..من كل أوب، وإذا اجتمع القوم عن كل وجه لحرب قيل اجلبوا..مغرب ".
[ * ](1/210)
256 - فأما إذا لم يكن بهذه الصفة.
أي كانوا عددا قليلا لا يتمكنون من دفع جلبة العدو ولا يقدرون على إخراج الذرارى إلى أرض الاسلام.
فإنه لا ينبغى لهم أن يتخذوا النساء في مثل هذه الثغور.
لان الظاهر أنهم يضيعون في مثل هذه الثغور، ويأمنون الضياع في الفضل الاول.
وهو نظير ما سبق من الفصل بين الصائفة والسرية.
إلا أن هناك كره إخراج النساء مع الجيش العظيم للمباضعة، ولم يكره ذلك في الثغر إذا كثر فيه المسلمون.
لان أهل العسكر لا يطول مقامهم في دار الحرب فلا يحتاجون إلى النساء مدة مقامهم في الظاهر.
فأما أهل الثغور فيطول مقامهم
في الثغر، بل يؤمرون بأن لا يبرحوا منها.
وإذا كانوا عزابا (1) ضجروا بالمقام فيها، فلهذا لم ير (2) بأسا بأن يتخذوا فيها النساء والذراري.
257 - فإن قال أهل الثغر: لا نقدر على دفع العدو بأنفسنا إن أتانا ولكن نستغيث بالمسلمين فيأتينا الغياث منهم فندفع بهم العدو، فإنه لا ينبغى لهم أن يحملوا النساء والذراري إلى مثل هذه الثغور أيضا.
لانهم لا يقوون على الدفع عنهم بأنفسهم، ولحوق الغوث بهم للدفع موهوم.
ولا يبنى الحكم على الموهوم خصوصا فيما يكون الواجب فيه الاخذ بالاحتياط.
ألا ترى أنه يتوهم أن تقع فتنة أو عصبية بين المسلمين فيشتغل بعضهم ببعض (3) حتى لا يقدروا على إغاثة (4) تلك الثغور، فيضيع من
__________
(1) ه " غرابا ".
وفى هامش ق " وعزب الرجل يعزب من باب قتل عزبة وزان غرفة وعزوبة إذا لم يكن له أهل فهو عزب بفتحتين وامرأة عزب أيضا.
وجمع الرجال عزاب باعتبار بنائه الاصلى وهو عازب، مثل كافر وكفار.
مصباح ".
(2) ه " نر ".
(3) ب، أ " لبعض ".
(4) أ، ه، ب " إعانة ".
[ * ](1/211)
فيها من النساء والذراري.
فلهذا لا يستقيم (1) البناء على الغوث.
وإنما يبنون ذلك على شوكة أنفسهم.
258 - وذكر عن الشعبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ترك دابة بمهلكة فهى لمن أحياها ".
وبظاهر هذا الحديث أخذ بعض العلماء فقالوا: إذا ترك الغازى دابته في هزيمة (2) فأخذها مسلم آخر وأخرجها فهو أحق بها.
لان الاول تركها معرضا
عنها، وإنما كان مالكا لها لكونه محرزا لها بيده، فإذا زال ذلك التحقت بالصيود، فهى لمن أخذها وأحياها.
ولسنا نأخذ به، فإن هذا تسبيب أهل الجاهلية.
وقد نفاه الشرع قال الله تعالى { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة.
الآية } (3) وليس التسبيب في الدواب نظير الاعتاق في العبيد.
فبالاعتاق تحدث فيه صفة المالكية فتنتفى المملوكية.
وبالتسبيب لا تحذف صفة المالكية في الدواب.
وإذا بقيت مملوكة كانت لصاحبها.
وحرمة الملك باعتبار حرمة المالك (57 ب) فلا يملكها أحد بالآخذ.
259 - وذكر عن الشعبى أنه قال يأخذها صاحبها ولا نفقة له على الذى أحياها إن كان أنفق من ماله.
وبهذا تبين أن الحديث الاول وهم.
فالشعبي هو الذى رواه، وما كان يفتى بخلاف ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ق " لا يسعهم ".
(2) ق " غنيمة " وفى الهامش " هزيمة.
نسخة ".
(3) سورة المائدة، 5، الآية 103.
[ * ](1/212)
ثم مثل هذا الحديث الشاذ لا يكون معمولا به.
إذا كان مخالفا للاصول.
فكان الرجوع إلى المقام المتفق على قبوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرى ء مسلم إلا بطيبة نفس منه " أولى.
وكذلك قوله عليه السلام: " من وجد عين ماله فهو أحق به " دليل على صحة ما قلنا.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: يأخذها صاحبها ويرد على المنفق ما أنفق عليه من ماله.
وقال الشعبى: ليس عليه شئ من النفقة إن كان أنفق بغير إذنه.
ويقول الشعبى نأخذ لانه متبرع بالانفاق على ملك الغير بغير إذنه.
وهو يريد أن يلزمه دينا في ذمته لنفسه، وليس لاحد هذه الولاية على غيره.
فأما عمر بن عبد العزيز فكان يقول: دلالة الاذن في الانفاق من صاحبها معلوم بطريق الظاهر.
لانه لو تمكن من إخراجها أنفق عليها من مال نفسه، فإذا عجز عن ذلك كان مستعينا بكل من يقوى على ذلك راضيا بأن ينفق عليها من ماله.
ودلالة الاذن كصريح الاذن.
ولكنا نقول: هذه الاستعانة والرضا يحتمل أن يكون منه على وجه الشرع، ويحتمل أن يكون على وجه الرجوع عليه بما ينفق.
والمحتمل لا يصلح حجة لايجاب الدين له في ذمته، وهو نظير المودع ينفق على الوديعة في حال غيبة صاحبها بغير أمر القاضى، فانه لا يرجع على صاحبها بما أنفق لهذا المعنى.
كذا هذا.
والله الموفق.
[ * ](1/213)
37 [ باب صاحب الساقة ] إذا وجد في أخريات الناس رجلا مع دابته 260 - وإذا جعل أمير العسكر على الساقة (1) رجلا يلحق به من تخلف فهو حسن في دخول دار الحرب والانصراف منها.
لان فيه نظرا للمسلمين.
فالذي يغلبه النوم أو يعيى (2) ربما يجلس أو ينام للاستراحة في موضع الخوف ثم لا يلتحق بالجيش فيضيع.
261 - وإذا كان على الساقة من يكلفه اللحوق بالعسكر يؤمن عليه الضياع.
وفى نظيره قال عمر رضى الله عنه: لو تركتم لبعتم أولادكم.
262 - فإن وجد صاحب الساقة رجلا قامت (3) عليه دابته فأمره أن يترك الدابة ويلتحق بالعسكر كيلا يهلك، فأفخذه وألحقه بالعسكر وترك دابته فهلكت، لم يضمن له شيئا.
لانه ما تعرض للدابة بشئ، إنما أحسن إلى صاحبها حين ألحقه بالعسكر
__________
(1) في هامش ق " ساقه العسكر آخره " مغرب.
(2) في هامش ق " وعى إذا لم يهتد لوجهه.
مختار ".
(3) في هامش ق " وقامت الدابة وقفت.
مختار ".
[ * ](1/214)
ولو أساء (1) إلى صاحبها بأن حبس صاحب المواشى حتى ضاعت مواشيه لم يضمن شيئا.
فإذا أحسن إليه كان أولى.
ولان الرجل ابتلى ببليتن: إما يضيع دابته أو يضيع نفسه (58 آ) إن وقف معها.
ومن دفع إلى شرين فعليه أن يختار أهونهما.
وذلك (2) ترك الدابة.
فصاحب الساقة أمره بما يحق عليه فعله شرعا فيكون محسنا، وما على المحسنين من سبيل.
263 - وإن كان أخذ الدابة من يد صاحبها فنحاها عنه ثم منعه من أخذها، فهلكت، فهو ضامن له قيمتها.
لانه فوت له يده بضع (3) أحدثه في الدابة، وذلك غصب منه.
توضيحه (4) أنه ما أمر بإزالة يد صاحب الدابة عن الدابة وإنما أمر بإلحاقه بالعسكر.
وهو فيما أمر به غير محتاج إلى التعرض لدابته، فيكون ضامنا له قيمتها إذا أخرجها من يده كغيره، وكذلك إن ذبحها صاحب الساقة أو ضربها فقتلها فهو ضامن.
وهذا أظهر.
264 - فإن أخذ صاحب الدابة بلجام دابته ففك صاحب الساقة
يده وألحقه بالعسكر وترك الدابة في موضعها لم يضمن شيئا.
لان صنعه حل بيد صاحبها بالدابة.
وهذا دليل لابي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله في أن ضمان الغصب لا يجب إلا باعتبار صنع في المغصوب يفوت يد المالك يتحويله عن الموضع الذى كان يد المالك عليه ثابتا فيه.
فانه إذا أخذ لجام الدابة ونحاها كان ضامنا، وإذا فك يد صاحبها عن اللحام لم يكن ضامنا، وتلف الدابة في الموضعين
__________
(1) بياض مكان هذه الكلمة في ه.
وفى ب " آتى " ولعلها: أسئ.
(2) ه " وذلك في ترك ".
(3) ب " بصنيع ".
(4) ب، ه، ط، " يوضحه ".
[ * ](1/215)
حاصل بسبب واحد، إلا أن محمدا رحمه الله يسلم هذا الاصل فيما يحتمل النقل، ولكنه يقول فيما لا يحتمل النقل: يقام غيره مقامه باعتبار تفويت ثمرات الملك على المالك، كما يشترط الاشارة في الدعوى، والشهادة إلى العين فيما يحتمل النقل إلى مجلس القاضى، ثم فيما لا يحتمل يقام ذكر الحدود مقامه للتيسير.
265 - وكذلك لو كان الرجل راكبا فأنزله كرها وألحقه بالعسكر لم يضمن دابته.
لانه لم يصنع فيها شيئا، إنما صنعه في صاحبها.
266 - وإن أخذ صاحب الساقة الرجل فألحقه بالعسكر وترك دابته فمر بها سرية كانوا على إثرهم فعلفوها وقاموا عليها حتى ألحقوها بالعسكر، ثم حضر صاحبها فهو أحق بها.
لانه وجد عين ماله فيكون أحق به.
وليس لهم أن يرجعوا عليه بما أنفقوا،
لانه لم يأمرهم بذلك.
وقد بينا هذا.
وحكى أن الزبير بن العوام رضى الله عنه كان له رمح طويل.
وكان إذا شق عليه حمله ألقاه على الطريق فيمر به بعض الاعراب ممن يكون في آخر العسكر فيأخذه وهو لا يعرف قصته، حتى يأتي به المنزل، فيجئ الزبير ويقول: جزاك الله خيرا فيما حملت من رمحي.
فيأخذه.
فعل ذلك غير مرة.
267 - فإن كانوا حين أتوا بها العسكر أخبروا الامير خبرها فأمرهم أن ينفقوا عليها حتى يجدوا صاحبها ففعلوا ذلك، ثم حضر صاحبها، أخذها وأعطاهم ما أنفقوا بعد أمر الامير (58 ب).
ولم يعطهم شيئا مما أنفقوا قبل ذلك.(1/216)
لان في (1) هذا الامر نظرا لصاحبها باحياء ملكه وإمساكه عليه، والدابة لا تبقى بدون النفقة، والانسان لا يرضى بالتبرع بالانفاق على ملك الغير.
وللامير ولاية النظر لكل من عجز عن النظر لنفسه من الجند، فكان أمره بذلك كأمر صاحب الدابة حين صدر عن ولاية شرعية.
268 - فإن قالوا: أنفقنا عليها بعد الامر كذا، وذلك نفقة مثلها (2) وقال صاحبها: لم ينفقوا عليها من ذلك شيئا، فالقول قول صاحبها.
لانهم يدعون في ذمته دينا لانفسهم وهو منكر، فيكون القول قوله بعدما يحلف على علمه، لانه استحلاف على فعل الغير، وهو إنفاقهم عليها.
فيكون على العلم دون الثبات.
269 - فإن أقاموا شاهدين مسلمين على ما ادعوا، أو كان إنفاقهم بعلم الامير رجعوا على صاحبها.
ولا يلتفت إلى إنكاره لثبوت ما ادعوا بحجة حكمية: وذلك علم الامير
أو شهادة شاهدين.
270 - فإن كانوا - حين رفعوها إلى الامير وشهد (3) الشهود أنهم وجدوها، - لا يدرون لمن هي، إن رأى الامام أن يبيعها فباعها جاز.
لان ذلك نظر منه (4) لصاحبها.
فالانفاق ربما يأتي على ماليتها، وحفظ ثمنها أيسر من حفظ عينها، وللامير ولاية النظر على جنده.
__________
(1) ساقطة من ط.
(2) ه " بعد الامر كذلك نفقة مثلها " وفيها سقط.
(3) ط، ه " شهدت ".
(4) ه " فيه ".
[ * ](1/217)
وليس لصاحبها إذا حضر أن يبطل البيع، وإنما حقه في ثمنها.
271 - فإن كان أمرهم بالانفاق زمانا ثم باعها، فقالوا: اعطنا من الثمن ما أنفقنا، وأقاموا البينة على ما ادعوا من النفقة قبل أن يحضر صاحبها أو بعد ما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره.
لانهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها بإحيائهم مالية هذه الدابة، ولهذا لو حضر صاحبها كان لهم أن يحبسوها حتى يأخذوا ما أنفقوا، بمنزلة راد الآبق بحسبه بالجعل.
والثمن بدل تلك المالية، فيعطيهم الامير مقدار حقهم من ذلك.
وهذه البينة مقبولة منهم قبل حضور صاحبها باعتبار أن الامير خصم فيه عن صاحبها، كما تقبل البينة منهم في ابتداء الامر بالانفاق، فانهم لو قالوا للامير: وجدنا هذه الدابة ولا نعرف (1) صاحبها أقرهم بأن يأتوه بشهود على ذلك، ويقبل بينهم ليأمرهم بالانفاق.
272 - فإن لم يأتوه بشهود ورأى الامام النظر في أن يأمرهم بذلك فلا بأس بأن يقول: أمرتهم أن ينفقوا عليها، على أنه إن كان الامر كما زعموا رجعوا على صاحبها، وإلا فلست آمرهم بشئ من ذلك.
ويشهد على هذا.
أو يقول: أمرتهم يبيعها وإنفاق ثمنها إن كان الامر كما ذكروا.
وإن كان الامر على غير ما زعموا فلست آمرهم بشئ من ذلك.
وهذا لان الاشهاد بهذه الصفة يتمحض (3) نظرا لصاحبها بأنهم إن
__________
(1) ه " يعرف ".
(2) ب، أ " يأتوا ".
(3) ه " يتمحص ".
[ * ](1/218)
كانوا صادقين يحيا ملكه بهذا، وإن كانوا غاصبين لا يستفيدون البراءة عما لزمهم من الضمان بهذا.
ولذلك (1) لا يجوز البيع (59 آ) باعتبار هذا الامر إذا كان من في يده غاصبا.
273 - فإن حضر صاحبها وقد هلك الثمن في يد من باعها بعد أمر الامير بهذه الصفة فإن أقر بما أخبره به الامير فهو برئ من ضمانه وضمان ثمنه.
لانه يتبين أن البيع كان بإذنه صحيح.
274 - وإن جحد صاحبها ذلك فالبائع ضامن حتى يقيم البينة على ما يدعى، فإن أقام البينة على ما يدعى، فالثابت بالبينة كالثابت باتفاق الخصم.
275 - فإن وجد صاحبها الدابة في يد المشترى كان له أن يأخذها
إذا أقام البينة أنها له.
لانه وجد عين ماله.
276 - فإن أقام المشترى البينة على مال قاله الواجد وعلى ما أمره به الامير سلم له ما اشترى.
لانه أثبت سبب ملك صحيح لنفسه بالبينة.
277 - وإن لم يكن له بينة أخذ الدابة صاحبها ورجع المشترى على البائع بالثمن.
لاستحقاق المبيع من يده.
__________
(1) ه " وكذلك ".
[ * ](1/219)
278 - فإن أقام البائع البينة على ما ادعى، من أنه وجدها ضائعة وأن الامير أمره يبيعها برئ هو من الثمن.
بمحضر (1) من الذى استحقه.
وهذا التقييد دليل على مسألة أخرى وهو أن (2) المشترى إذا استحق منه المبيع فأراد (3) أن يرجع بالثمن على البائع، فأقام البائع بينة على أمر يبطل به استحقاق المستحق إن كان ذلك بحضرة المستحق تقبل، وإلا فلا ورجع المشترى فأخذها من المستحق، لان الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم.
وأى قاض رفع إليه هذه الحادثة وسئل إجازة البيع لم يجزه حتى تقوم البينة عنده على جميع ما بينا.
لان ولاية الاجازة إنما تثبت له إذ ظهر جميع ذلك عنده ولا يظهر إلا بالحجة.
والله المعين.
__________
(1) قوله " بمحضر من الذى..إلى قوله وإلا فلا " لا يوجد في ب، أ، ط.
وقد جعل في هامش ق وكتب تحته " من خط الحصيرى ".
(2) ساقطة من ه.
(3) ه " إذا " وهو خطأ.
[ * ](1/220)
38 [ باب سجدة الشكر ] 279 - وإذا أتى الامير أمر يسره فأراد أن يشكر الله تعالى عليه فلا بأس بأن يكبر مستقبل القبلة، فيخر ساجدا بحمد الله تعالى ويشكره، ويسبح ويكبر تكبيرة ويرفع رأسه.
وهذه سجدة الشكر.
وهى سنة عند محمد، وكذلك في قول أبى يوسف.
رواه عنه ابن سماعة.
فأما أبو حنيفة فكان لا يراها شيئا، أي شيئا مسنونا، أو لا يراها شكرا تاما، فان تمام الشكر في أن يصلى ركعتين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة.
وقد روى عن إبراهيم النخعي أنه كان يكرهها.
وهكذا روى ابن سماعة عن أبى يوسف عن أبى حنيفة.
لانه لو فعله من (1) يكون منظورا إليه ربما يظن ظان أن ذلك واجب أو سنة متبعة عند حدوث النعم، فيكون مدخلا في الدين ما ليس منه.
وقال عليه السلام: " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد (2) ".
وما من ساعة إلا وفيها نعمة متجددة لله تعالى على كل أحد من صحة أو غير ذلك.
فلو اشتغل بالسجود عند كل نعمة لم يتفرغ لشغل آخر.
ولما وفق (3) حتى سجد كان ذلك نعمة ينبغى أن يسجد لها ثانيا.
ولكن استحسن محمد الآثار المروية في الباب.
__________
(1) ه " ان ".
(2) في هامش ق " أي مردود عليه.
وهو مصدر وصف به.
نهاية ".
(3) ه " وقف ".
[ * ](1/221)
280 - منها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بشر ببشرى تسره يخر ساجدا لله (1).
وروى أن عليه السلام مر برجل به زمانة فسجد.
ومر به أبو بكر وعمر (59 ب) ففعلا ذلك.
وفى كتب الحديث يروى أن النبي عليه السلام مر بنغاشى (3) فسجد.
يعنى ناقص الخلق.
وروى أن أبا بكر رضى الله عنه لما أتاه فتح اليمامة سجد.
وعن أبى موسى الاشعري قال: كنا مع على بن أبى طالب بالنهروان فقال: التمسوه، يعنى ذا الثدية (3).
فالتمسوه فلم يجدوه.
فجعل
__________
(1) ه، ط " خر ل ساجدا ".
(2) في هامش ق " في الحديث أن عليه السلام مر بنغاشى، وروى برجل نغاش، فخر ساجدا.
وروى أنه عليه السلام رأى نغاشا فسجد شكرا.
هو القصير في الغاية الضعيف الحركة.
مغرب ".
[ * ] (3) في هامش ق " في حديث الخوارج ذو الثدية هو تصغير الثدى.
وإنما أدخل فيه الهاء، وإن كان الثدى مذكرا، كأنه أراد قطعة من ثدى.
وقيل هو تصغير التندوة بحذف النون لانها من تركيب الثدى وانقلاب الياء فيها واوا لضمة ما قبلها، ولم يضر ارتكاب الوزن الشاذ لظهور الاشقاق.
وروى ذو اليدية، بالياء بدل الثاء، تصغير اليد وهى مؤنثة ".
اه نهاية.
ثم تحت هذا ما يلى: " والثدى مذكر.
وأما قولهم من لقب علم الخوارج ذو الثدية فانما جئ بالهاء في تصغيره على تأويل البضعة.
وأما ما روى عن على رضى الله عنه أنه قال يوم قتلهم: انظر
فان فيهم رجلا إحدى ثدييه مثل ثدى المرأة فالصواب احدى يديه.
وذلك أنه كانت مكان يده كمة مجتمعة على منكبه فإذا مدت امتدت حتى توارى طول يده الاخرى ثم تترك فتعود.
مغرب ".
[ * ](1/222)
يعرق جبينه ويقول: ما كذبت ولا كذبت.
فوجدوه في ساقية أو بئر (1).
فسجد على رضى الله عنه سجدة.
وأصل هذا ما روى أنه لما قاتل على رضى الله عنه الحرورية قال انظروا، فان فيهم رجلا إحدى ثدييه مثل ثدى المرأة.
حدثنى نبى الله أنى صاحبه.
فقلبوا القتلى فلم يجدوه.
فقال: انظروا، فوالله ما كذبت ولا كذبت.
قالوا: فإن سبعة نفر تحت نخل لم نقلبهم بعد.
قال: انظروا.
قال الرواى: فرأيت في رجليه حبلا جروه به حتى ألقوه بين يديه.
فخر لله ساجدا، وقال: أبشروا.
وإنما فعل هذا لانه أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بأن القوم الذى فيهم رجل بهذه الصفة يقاتلونك وهم على الضلالة.
فحين وجدوه كان ذلك نعمة عظيمة.
فلهذا خر لله ساجدا.
وبالله العون والتوفيق.
__________
(1) ه " أدبر " وهو خطأ.
[ * ](1/223)
39 [ باب صلاة الخوف ] 281 - قال محمد رحمه الله: اختلف الناس في صلاة الخوف.
وأحسن الاقاويل فيها ما قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وجامعهما (1) عليه ابن عمر.
وهو أن يجعل الامام الناس طائفتين فتقف طائفة بإزاء العدو ويصلى بطائفة شطر الصلاة.
ثم تذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتى الطائفة الاخرى فيصلى بهم شطر الصلاة.
ثم يسلم الامام.
وتذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتى الطائفة الاولى فيقضون صلاتهم بغير قراءة لانهم أدركوا أول الصلاة، فهم في حكم المتقدمين في جميعها.
ثم تأتى الطائفة الثانية فيقضون ما فاتهم بقراءة لانهم مسبوقون فيها.
وقد بينا في كتاب الصلاة ما في هذا الباب من اختلاف الآثار واختلاف العلماء، وما في (2) نوادر أبى سليمان لابي يوسف من الفرق بينهما إذا كان العدو في جهة القبلة أو في دبر القبلة في حكم صلاة الخوف.
282 - وذكر هاهنا في حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن الامام يصلى بكل طائفة سجدة.
__________
(1) في هامش ق " ووافقهما عليه: نسخة ".
(2) ه، ب، أ " وفى ".
[ * ](1/224)
وإنما أراد به ركعة.
وهذه (1) لغة معروفة عند أهل الحجاز.
يقولون: سجد فلان سجدة أي صلى ركعة.
283 - وذكر في حديثه أيضا: فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي (2) القبلة أو غير مستقبليها.
وإنما أراد إذا كانوا قياما لا مشاة، فإن المشى عمل لا يجوز الصلاة معه بمنزلة السباحة في البحر والمسايفة (3) في زمان (4) القتال.
284 - وذكر عن (60 آ) محمد بن يحيى (5) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فنزل منزلا لم يقعد حتى يصلى ركعتين.
وأهل الحديث يروون هذا الحديث أتم من هذا، لانه في كل منزل كان يعين مكان الصلاة أولا فيصلى فيه ركعتين وهكذا ينبغى لكل مسافر أن يفعله،
فان النزول للاستراحة، وذلك نصيب البدن، فالاولى أن يقدم أمر الدين عليه.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصلى ويسعى في مهنة (6) أهله، وبه أمر أمته فقال: " لا تتخذوا بيوتكم قبورا ".
قيل معناه: لا تصلوا فيه.
وقيل معناه: بأن تناموا فيه من غير حاجة وأن تعينوا أهاليكم في حوائجهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " جعلت قرة عينى في الصلاة "، وقرة عين أمتة فيما فيه قرة عينه.
فالبداية به عند النزول في المنزل أولى.
__________
(1) ه " هذا ".
(2) ه " مستقبل " وهو خطأ.
(3) ه " المسابقة ".
(4) لا توجد في ق، وفى هامشها " في زمان القتال.
نسخة ".
(5) في حاشية ه " لا يوجد في الصحابة.
ولعله محمد بن يحيى بن حبان الانصاري المدنى الفقيه من التابعين.
فالحديث مرسل والله أعلم ".
(6) في هامش ق " المهنة بفتح الميم وكسرها الخدمة والابتذال.
يقال للامة إنها لحسنة المهنة أي الحلب.
والمرأة تقوم بمهنة بيتها أي باصلاحه.
مغرب ".
م - 15 السير الكبير [ * ](1/225)
285 - قال: وإذا ابتلى المسلم بالقتل صبرا فإنه يستحب له أن يصلى عند ذلك ركعتين ويستغفر بعدهما ذنوبه.
ليكون آخر عمله الصلاة والاستغفار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من ختم كتابه بالطاعة غفر له ما سلف ".
وقال: " الامور بخواتيمها ".
وفى حديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان أول كلامه وآخر كلامه قول لا إله إلا الله غفر له ما بين ذلك ".
فلهذا استحبوا أن يلقن الصبى في أول ما يقدر على التكلم كلمة التوحيد، ويلقن ذلك عند موته أيضا ليكون أول كلامه وآخر كلامه هذا.
286 - ثم الاصل في الباب حديث خبيب (1)، فإنه لما أسر فبيع بمكة خرجوا به إلى الحل (2) ليقتلوه.
فقال: دعوني أصلى ركعتين.
فقالوا: صل.
فصلى ركعتين.
ثم قال: لولا أن تظنوني جزعت من الموت لزدت.
وفى رواية: أوجزهما وقال: لولا خشية أن يقولوا: جزع من الموت لطولت صلاتي.
ثم نظر في وجوه المشركين فلم ير إلا شامتا أو إنسانا في يده حجرا أو عصا.
فقال: والله ما أرى إلا وجه عدو ! اللهم ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عن السلام، فأقرئ رسولك وأصحابه منى السلام.
__________
(1) في هامش ق " صلبوه بالتنعيم، وكان الذى تولى صلبه عقبة بن الحارث وأبو هبرة العبدرى.
فخبيب أول من صلب في الاسلام، وأول من سن صلاة ركعتين عند القتل.
روى عنه الحارث بن البرصاء.
وخبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة الاولى وبعدها ياء ساكنة جامع الاصول ".
(2) موضع بمكة.
[ * ](1/226)
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام وهو على المنبر بالمدينة.
ثم قال خبيب: اللهم أحصهم عددا، والعنهم بددا، ولا تبق منهم أحدا.
زاد في كتب الحديث أنه التمس منهم أن يكبوه على وجهه مستقبل القبلة ليقتلوه وهو ساجد، فأبوا عليه.
فجعل يقول:
ولست أبالى حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي ثم صلبوه بعد القتل مستدبر الكعبة، فتحولت خشبته حتى صار مستقبل الكعبة (1).
وقد استحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعه خبيب عند القتل من الصلاة ركعتين وسماه سيد الشهداء وقال: " وهو رفيقي في الجنة ".
فصارت سنة من ذلك الوقت.
287 - قال: وصلاة الخوف إنما تكون (2) إذا كانوا (60 ب) مواقفين للعدو.
فأما في حالة المسايفة (3) والمطاعنة والرمى فلا تستقيم الصلاة لان هذا عمل، ولا تستقيم الصلاة مع الاشتغال بعمل ليس منها ولكنهم يؤخرون الصلاة إلى أن يفرغوا من ذلك.
لان ما يفوتهم من الصلاة يمكنهم تداركه بعد هذا، وما يفوتهم بالاشتغال بالصلاة، والكف عن القتال في هذه الحالة لا يمكنهم تداركه.
__________
(1) ه " القبلة ".
(2) ه " يكون ".
(3) ق " المسابقة ".
[ * ](1/227)
والاصل فيه حديث أبى سعيد الخدرى قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة إلى هوى (1) من الليل حتى كفينا، كما قال الله تعالى: { وكفى الله المؤمنين القتال } (2).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الصلاة صلاة الظهر، فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها مثل ذلك، ثم المغرب، ثم العشاء،
وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف، فرجالا أو ركبانا.
289 - وفى رواية ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فأذن وأقام للاولى، ثم أقام لكل صلاة بعد الاولى.
وفى رواية عنه أنه أمره فأذن وأقام لكل صلاة.
وبأى ذلك أخذت فهو حسن.
وفيه دليل جواز تأخير الصلاة لشغل القتال، وأن المستحب في الفوائت أن تقضى بالجماعة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قياما على أرجلهم أو ركبانا لا يعملون شيئا صلوا بالايمان ولم يجز لهم تأخير الصلاة، لان عند العجز عن الركوع والسجود الفرض يتأدى بالايماء، وعجزهم ظاهر.
290 - وذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: نسى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الاحزاب حتى صلى المغرب.
ثم ذكر بعد ذلك أنه لم يصل فصلاها.
__________
(1) في هامش ق " الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان، وقيل هو مختص بالليل.
نهاية ".
(2) سورة الاحزاب، 33، الآية 25.
[ * ](1/228)
وفيه دليل على أن الترتيب يسقط بعذر النسيان.
وقد بينا هذا في كتاب الصلاة.
ثم يوم الاحزاب هو يوم الخندق أيضا، وقد ذكر في الحديث الاول أنه ترك أربع صلوات، وفى هذا الحديث ذكر أنه (1) ترك صلاة العصر، وكلاهما صحيح.
فقد روى أنه قال: " شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملا الله قبورهم وبيوتهم نارا " يعنى صلاة العصر.
فوجه التوفيق أن كل واحد من الامرين كان في يوم على حدة، لانهم
بقوا في الخندق سبعة عشر يوما.
وكانوا مشغولين بالقتال في أكثر تلك الايام ليلا ونهارا والله الموفق.(1/229)
40 [ باب الشهيد وما يصنع به ] 291 - قال محمد رحمه الله: الشهيد إذا قتل في المعركة لم يغسل، ويصلى عليه في قوله أهل العراق وأهل الشام.
وبه نأخذ وفى قول أهل المدينة لا يصلى عليه.
وممن قال ذلك مالك ابن أنس.
واعلم أن محمدا رحمه الله سلك في هذا الكتاب للترجيح طريقا سوى ما ذكره في سائر الكتب (61 آ)، وهو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز، فرجح ما اتفق عليه فريقان (1) وأخذ به دون ما تفرد به فريق واحد.
وهذا خلاف ما هو المذهب الظاهر لاصحابنا في الترجيح أنه لا يكون بكثرة العدد.
وعليه دل ظاهر قوله تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم } (2).
وقال تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (3).
وقال تعالى: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } (4).
ووجه ما اعتبره هاهنا أن مثل هذا الاختلاف إنما يترتب على اشتباه الاثر (5) فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازى، وكان ذلك أمرا ظاهرا.
فتهمة الغلط فيما تفرد به فريق واحد يكون أظهر من تهمة الغلط فيما اجتمع عليه فريقان كما في هذه المسألة.
__________
(1) ه " الفريقان ".
(2) سورة ص، 38، الآية 24.
(3) سورة الاعراف، 7، الآية 187.
(4) سورة يوسف، 12، الآية 103.
(5) ط، ه " الاشتباه في الآثار ".
[ * ](1/230)
292 - فإن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد.
وأكثر الصحابة يروون أنه صلى عليهم، حتى رووا أنه صلى على حمزة رضى الله عنه سبعين صلاة.
كان موضوعا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أتى رجل صلى عليه وعلى حمزة معه.
وكان جابر رضى الله عنه يومئذ قتل أبوه وخاله.
فكان مشغولا بهما، لم يشهد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء، على ما روى أنه حملهما إلى المدينة فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادفنوا القتلى في مضاجعهم.
فردهما.
ولا شك أن توهم الغلط في روايته أظهر.
293 - ثم أهل المدينة يقولون: إن الصلاة على الميت استغفار له وترحم عليه، والشهيد يستغنى عن ذلك، فإن السيف محاء للذنوب.
ونحن نقول: الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له، والشهيد أولى بهذه الكرامة.
ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد صلى عليه أصحابه، والناس يقولون: وارحم محمد وآل محمد في الصلاة، فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغنى بها عن استغفار المؤمنين والدعاء بالرحمة له.
ومن يقول منهم إن الشهيد حى بالنص ولا يصلى على الحى فهذا ضعيف أيضا، لانه حى في أحكام الآخرة فأما في أحكام الدنيا فهو ميت في حقنا، يقسم ميراثه، ويجوز لزوجته أن تتزوج بعد انقضاء العدة.
والصلاة على الميت من أحكام الدنيا إلا أنه لا يغسل ليكون
ما عليه شاهدا له على خصمه يوم القيامة.(1/231)
294 - قال عليه السلام في شهداء أحد: " زملوهم بدمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم (1) تشخب دما، اللون لون الدم والريح ريح المسك ".
ولهذا لا ينزع عنه جميع ثيابه (2)، على ما روى أن حمزة رضى الله عنه كفن في نمرة (3) كانت عليه حين استشهد، ولكن ينزع عنه السلاح لانه كان لبسه لدفع البأس فقد انقطع ذلك.
ولان دفن القتلى (61 ب) مع الاسلحة فعل أهل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم.
وكذلك ما لبس من جنس الكفن كالسراويل والقلنسوة والمنطقة والخاتم والخف.
هكذا ذكر عن جماعة من أئمة التابعين.
ولاهله أن يزيدوا في أكفانه ما أحبوا.
وبهذا اللفظ يستدل على أن التقدير بثلاثة أثواب أو بثوبين في كفن الرجال غير لازم.
295 - وإن صار مرتثا فهو شهيد في أحكام الآخرة ولكن يصنع به ما يصنع بالموتى من الغسل والتكفين.
والمرتث من يصير خلقا في حكم الشهادة مأخوذ من قول القائل: ثوب رث أي خلق.
296 - فإذا حمل من مصرعه حيا فمات على أيدى الرجال أو مرض في خيمته فهو مرتث.
لانه نال بعض الراحة.
__________
(أوداج جمع ودج محركة عرق في العنق (قاموس).
(2) من هنا إلى قوله: " لانه كان لبسه " ساقط من ق، وقد أضيف في الهامش على أنه في نسخة ثانية.
(3) النمرة بردة يلبسها الاعراب (قاموس).
[ * ](1/232)
فأما إذا جر برجله من بين صفين لكيلا تطأه الخيول فإنه لا يغسل.
لان نقله من مصرعه لم يكن لايصال الراحة إليه.
ولو أكل أو شرب فإنه يغسل.
لانه نال بعض الراحة بذلك.
297 - قال: وذكر عن زيد بن صوحان قال: لا تنزعوا عنى ثوبا إلا الخفين، ولا تغسلوا عنى دما، وارمسوني (1) في الارض رمسا، فإنى رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني.
ففيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ما ليس من جنس الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهدا له يوم القيامة.
298 - وعن سعيد بن عبيد أنه خطب الناس بالقادسية فقال: إنا لاقون غدا فمستشهدون.
فلا تغسلوا عنا دما، ولا تكفنونا في ثوب إلا ما علينا.
وهذه دليل على ما ذكرنا أيضا، وكأنه كره شيئا مما يرجع إلى الزينة في كفنه لا لان الزيادة لا تحل.
299 - وذكر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة: زملوهم في ثيابهم.
ثم قال: أي
__________
(1) في هامش ق " رمس الميت دفنه من باب طلب.
ومنه حديث زيد بن صوحان.
مغرب ".
[ * ](1/233)
هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى رجل قدمه في اللحد
قبل صاحبه.
وكان يدفن في القبر الاثنين والثلاثة.
وفيه دليل على أنه لا بأس عند الضرورة بدفن الجماعة في قبر واحد.
فالانصار يومئذ أصابهم قرح وجهد شديد حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إن الحفر علينا لكل إنسان شديد.
فقال: " أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة ".
300 - ولكن ينبغى عند الحاجة أن يجعل بين كل ميتين حاجز من التراب كى يصير في حكم قبرين.
وعلى هذا الوجه لا بأس بدفن المرأة والرجل في قبر واحد على ما رواه على ابراهيم، ويقدم إلى جانب القبلة أفضلهما وهو الرجل.
فإن كانا رجلين تقدم أفضلهما أيضا على ما قال عليه السلام: " قدموا أكثرهم أخذا للقرآن.
فإن أكثرهم أخذا للقرآن كان أفضلهم يومئذ.
لانهم يتعلمون القرآن بأحكامه.
301 - ثم روى حديث جابر أن منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يومئذ: " ادفنوا القتلى في مضاجعهم ".
وهذا حسن ليس بواجب.
وإنما صنع (1) هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه كره المشقة عليهم بالنقل مع ما أصابهم من القرح.
__________
(1) ب، أ، ق " نصنع هذا من رسول الله...أنه " أثبتنا رواية ه.
[ * ](1/234)
302 - وذكر عن محمد بن سيرين قال: استعمل يزيد بن معاوية على جيش، فكره أبو أيوب الانصاري الخروج معه، ثم ندم ندامة شديدة فغزا معه بعد ذلك، فحضر (1)، فأتاه يزيد بن معاوية يعوده
فقال: ألك حاجة ؟ قال: نعم.
إذا أنا مت فاغسلوني وكفنوني ثم احملوني حتى تأتوا بلاد العدو ما لم يشق على المسلمين، ثم تأمرهم فيدفنوني.
وهذا أيضا ليس من الواجب ولكنه شئ أحبه إما ليكون أقرب في نحر العدو فينال ثواب من مات مرابطا أو ليكون أبعد عن الشهرة بكثرة الزيارة.
فقد قال عليه السلام: " لا تتخذوا قبري بعدى معبدا (2) ".
وقال: " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وذكر في المغازى أنهم فعلوا ذلك به ودفنوه ليلا، فصعد من قبره نور إلى السماء، ورأى ذلك من كان بالقرب من ذلك الموضع من المشركين.
فجاء رسولهم من الغد فقال: من كان هذا الميت فيكم ؟ قالوا: صاحب لنبينا.
فأسلموا لما رأوا (3).
303 - وذكر عن ابن أبى مليكة قال: مات عبدالرحمن ابن أبى بكر بالحبشى (4) فنقل منه ودفن بمكة.
فجاءت عائشة رضى الله عنها حاجة أو معتمرة فزارت قبره وقالت:
__________
(1) في هامش ق " حضره الموت واحتضره أشرف عليه وهو في النزع فهو محضور ومحتضر بالفتح.
مصباح ".
(2) ه، ق " عيدا " وفى هامش ق " معبدا.
نسخة ".
(3) في ه زيادة " وذكر أنه لما بلغوا به إلى أرض الحرب قالوا للمسلمين: لم يبق في دارنا لا بيعة ولا كنيسة إلا أخربتموها فما حملكم على دفن ميتكم ها هنا ؟ ".
(4) ط، ه " بالحبشة " وهو خطأ، ب " بحبشة " خطأ أيضا أثبتنا رواية ق.
وفى هامش ق ما يلى: " وفى حديث عبدالرحمن بن أبى بكر أنه مات بالحبشى هو بضم الحاء وسكون الباء وكسر الشين بالتشديد موضع قريب من مكة.
وقال الجوهرى: هو جبل بأسفل مكة.
نهاية " [ * ](1/235)
وكنا كندمانى جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأنى ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (1) أنا والله لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذى مت فيه.
وإنما قالت ذلك لاظهار التأسف عليه حين مات في الغربة، ولاظهار عذرها في زيارته.
فإن ظاهر قوله عليه السلام: " لعن الله زوارات القبور " يمنع النساء من زيارة القبور.
والحديث وإن كان مؤولا فلحشمة ظاهرة قالت ما قالت.
وفيه دليل أن الاولى أن يدفن القتيل والميت في المكان الذى مات فيه في مقابر أولئك القوم.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات في حجرة عائشة رضى الله عنها دفن في ذلك الموضع ؟ 304 - قال.
ولو نقل ميلا أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به.
وفى هذا بيان أن النقل من بلد إلى بلد مكروه، لانه قدر المسافة التى لا يكره النقل فيها بميل أو ميلين.
وهذا لانه اشتغال بما لا يفيد (62 ب) فالارض كلها كفات للميت.
قال الله تعالى { ألم نجعل الارض كفاتا (2) أحياء وأمواتا } (3).
إلا أن الحى ينتقل من موضع إلى موضع لغرض له في ذلك،
__________
(1) الابيات من قصيدة لمتمم بن نويرة يرثى بها أخاه مالك بن نويرة.
انظر المفضليات 2: 63 وفى هامش ق " كان (جذيمة من ملوك (؟) فقد ابن أخته فقال: من وجده أعطه ما يشتهى على.
فوجده رجلان فاشتهيا عليه أن يجعلهما ندمانيه.
ففعل ولم يفارقاه حتى مات.
فجعل ذلك مثل في العرب لكل من لازم أحدا.
من خط الحصيرى ".
(2) في هامش ق " الكفات بالكسر الموضع يكف فيه الشئ أي يضم ويجمع.
والارض كفات لنا.
قاموس ".
(3) سورة المرسلات، 77، الآية 25، 26.
[ * ](1/236)
وذلك لا يوجد في حق الميت.
ولو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه أياما كان كافيا في الكراهة.
305 - وذكر عن الحسن قال: إذا وجد ما يلى صدر القتيل إلى رأسه غسل وصلى عليه.
يعنى إذا وجد أكثر البدن أو نصف البدن معه الرأس، وبه نأخذ.
فانه لا تعاد الصلاة على ميت واحد.
فلو صلى على النصف أو ما دونه يؤدى إلى تكرار الصلاة على ميت واحد بأن يوجد النصف الباقي.
وهذا لا يكون فيما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس.
306 - فأما القتيل فإن علم أنه قتل في سبيل الله تعالى لم يغسل.
وإن لم يعلم ذلك غسل.
لان الغسل سنة الموتى من بنى آدم، إلا أنه يسقط في حق الشهيد لمقصود قد بيناه.
فما لم يعلم ذلك وجب غسله بمنزلة سائر الموتى.
307 - وذكر عن أبى برزة الاسلمي أنه صلى ركعتين وهو آخذ بعنان فرسه.
ثم أنسل (1) قياد فرسه من يده.
فمضى الفرس على القبلة وتبعه أبوبرزة حتى أخذ بقياد فرسه.
ثم رجع ناكصا على عقبيه (2) فصلى بقية صلاته.
فقال الرجل: ما لهذا الشيخ فعل الله به وفعل.
__________
(1) ه " استل " وهو خطأ والنسل سقط.
(2) في هامش ق " نكص على عقبيه " أي رجع.
[ * ](1/237)
فانصرف أبوبرزة من صلاته فقال: من هذا الشاتم لى آنفا ؟ إنا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأينا من يسره.
ولو كنت تركت فرسى حتى تباعد ثم طلبته شق عليه.
فقال القوم للرجل: ما كان ينتهى بك خبثك حتى تتناول رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبه !.
ففى هذا دليل على أنه لا بأس للغازي أن يأخذ بعنان فرسه في الصلاة، لانه يبتلى به من ليس له سائس.
وإن (1) مشى في صلاته عند تحقق الحاجة يسيرا وهو مستقبل القبلة لم تفسد صلاته.
ألا ترى أن أبا بكر رضى الله عنه كبر عند باب المسجد وركع ودب راكعا حتى التحق بالصف.
ولو استدبر القبلة في مشيه حتى جعلها خلف ظهره كان مفسدا لصلاته لا لمشيه بل لتفويت شرط الجواز وهو استقبال القبلة.
وكأن الرجل استعظم مشيه في الصلاة لاجل الفرس فنال منه لانه لم يعرفه، فاستعظم فعله.
ثم بين أبوبرزة أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من يسره، يريد من تيسيره على الناس فعلا وقولا على ما قال عليه السلام: " خير دينكم اليسر " فبين عذر نفسه ولم يشتغل بمكافأة من نال منه ففعل ذلك القوم على وجه النيابة عنه.
وهذا هو الطريق المحمود في المعاشرة مع الناس.
308 - قال: ولا بأس للغزاة (63 آ) وغيرهم من المسافرين أن يصلوا على دوابهم حيث ما كانت وجوههم تطوعا يومون إيماء.
وهذا لان التطوع مستدام غير مختص بوقت.
والظاهر أن المسافر يلحقه الحرج في النزول واستقبال القبلة في كل وقت، فذلك يشبه (2) العذر لاثبات هذه الرخصة له إذا أراد استدامة الصلاة.
__________
(1) ب، أ، " وإن من مشى...".
(2) ه " شبه ".
[ * ](1/238)
والدليل عليه حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر، وكان ابن عمر رضى الله عنهما يصنع ذلك أيضا.
وعن جابر رضى الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ابواء (1) يصلى على راحلته ووجهه قبل المشرق.
ورآه يصلى على راحلته وهو ذاهب إلى خيبر حيث ما توجهت به مقبلا أو مدبرا.
فعرفنا أنه لا بأس بذلك.
309 - ثم ذكر أنه ينبغى للغزاة الذين لا ثياب لهم أن يصلوا قعودا وحدانا كأستر ما يكون يومون إيماء.
وذلك مروى عن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم.
310 - قال: ولا يعجبنا أن يصلوا جماعة.
فإن صلوا جماعة قعد الامام في وسط الصف لكيلا يقع بصرهم على عورته كما هو السنة في صلاة النساء بالجماعة (2).
311 - ثم ذكر الجمع بين الصلاتين في الغزو وغيره من الاسفار أنه لا بأس به فعلا لا وقتا، بأن يؤخر الاولى إلى آخر الوقت ثم ينزل فيصليها في آخر الوقت ويمكث ساعة حتى يدخل وقت الاخرى فيصليها في أول الوقت.
هكذا فعله ابن عمر رضى الله عنهما: وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا إذا جد به السير.
وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الصلاة والله الموفق.
__________
(1) ب " انمار " ولا ذكر لها.
أثبتنا رواية ق وهى الصحيحة.
(2) في هامش ق " ثم ذكر صفة قعوده فقال: يخرج رجليه إلى القبلة ويوضع (كذا) يديه بين فخذيه ويغض بصره ما استطاع.
في نسخة.
كذا بخط الحصيرى ".
[ * ](1/239)
41 [ باب صلاة القوم الذين يخرجون إلى العسكر ] ويريدون العدو 312 - قال: إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم واحدهما أقرب إلى أرض الحرب، فكتب والى المدينة القريبة إلى والى المدينة البعيدة أن الخليفة كتب إلى يأمرنى بالغزو فأعلم من قبلك ذلك ليقدموا على فإنى شاخص من ميدينتى يوم كذا، فخرج القوم من المدينة البعيدة على قصد الغزو مع والى المدينة القريبة ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فأهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم.
لانهم يتيقنون السفر ثلاثة أيام، فان من المدينة البعيدة إلى المدينة القريبة مسيرة يوم، ومنها إلى أرض الحرب مسيرة يومين، والغزاة يدخلون دار الحرب لا محالة فلهذا يقصرون الصلاة.
313 - وإن كانت المسيرة من المدينة القريبة إلى دار الحرب دون يومين فإنهم يتمون الصلاة.
لانهم (63 ب) لا يدرون أين يريد الوالى، فلعله لا يريد أن يجاوز(1/240)
أول دار الحرب.
وإنما يؤخذ في العبادة بالاحتياط.
وطريق العبادة الاحتياط في البناء على المتيقن به دون المحتمل، والغزاة تبع للوالى في نية السفر والاقامة،
لان عليهم طاعته بمنزلة العبد مع مولاه (1) والزوجة مع زوجها.
314 - وإن كان بين في كتابه (2) أين يريد المسير إليه من دار الحرب فقد زال الاشتباه ببيانه.
فان كان المسير (3) إلى ذلك الموضع مقدار ثلاثة أيام فصاعدا من مدينتهم قصروا الصلاة وإلا أتموا.
315 - وإن قدموا على والى المدينة القريبة فلم يخرج أياما فإنهم يقصرون الصلاة ما لم يعزموا على الاقامة خمس عشرة ليلة في المدينة القريبة (4).
لانهم صاروا مسافرين فما لم يعرفوا على الاقامة في موضعها أو في مدة الاقامة كانوا مسافرين على حالهم.
ألا ترى أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة، وابن عمر رضى الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهر وكان يقصر الصلاة ؟ 316 - وأما أهل المدينة القريبة فإنهم يتمون الصلاة حتى يخبرهم الامير أنه يريد سفر ثلاثة أيام فصاعدا، وإذا أخبرهم بذلك فما لم يخرجوا من مدينتهم يتمون الصلاة أيضا.
__________
(1) ه " في حق مولاه ".
(2) ه " وإن كان في كتابه ".
(3) ه، ق " فان كانت المسيرة ".
(4) قوله " القريبة " ساقط من ه.
م - 16 السير الكبير [ * ](1/241)
وإن خرجوا إلى العسكر ينتظرون أن يخرج الامير فمن كان منهم لا يعزم على الرجوع إلى منزلة فإنه يقصر الصلاة وإن أقام في ذلك المكان شهرا.
لانه صار مسافرا حين فارق عمران مصره على قصد السفر.
وإن كان من عزمه أن يرجع إلى منزله ساعة من نهار ليقضى حاجته فإنه يتم الصلاة.
لان عزمه على الرجوع إلى وطنه الاصلى إذا كان هو في فنائها بمنزلة مقامه في جوفها، فيتم الصلاة حتى يخرج من المدينة راجعا إلى العسكر.
وهو لا يريد الرجعة إلى أهله حتى يغزو، فإذا جعلها خلف ظهره قصر الصلاة لانه صار مسافرا بهذا الخروج.
وان عزموا على الاقامة في المعسكر خمسة عشر ليلة أتموا الصلاة لانهم نووا الاقامة في موضعها، فان فناء (1) المصر كجوف المصر في صحة نية الاقامة فيه.
317 - ولو أن أهل المدينة البعيدة قصروا الصلاة إلى أن ينتهوا إلى المدينة القريبة فقال الوالى: إن الخليفة كتب إلى أن تغزوا قبل أن تخرجوا من مدينتكم إلى فصلاتهم التى أدوها تامة.
لانهم كانوا مسافرين وما لم يعرفوا فسخ الوالى عزيمة السفر لا يصيرون مقيمين، لان التكليف يثبت بحسب الوسع.
ثم عليهم من حين سمعوا هذا الخبر أن يتموا الصلاة.
لانهم عزموا على الرجوع إلى وطنهم الاصلى، وبينهم وبين وطنهم (64 آ) مسيرة يوم فكانوا مقيمين في الحال.
__________
(1) في هامش ق " الفناء سعة أمام البيوت.
وقيل ما امتد من جوانبها.
مغرب ".
[ * ](1/242)
318 - وإن سمع بذلك بعضهم دون بعض فعلى الذين سمعوا أن يتموا الصلاة، وقصر الذين لم يسمعوا، فصلاتهم صحيحة ليس عليهم إعادتها.
لان ما يبتنى على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب ما لم يسمع به أصله خطاب الشرع، وهذا لان حكم الخطاب إنما يلزم المخاطب إذا تمكن من العمل بله، وذلك لا يكون إلا بعد السماع.
فكانوا مسافرين ما لم يسمعوا السبب الذى هو فاسخ لعزيمة سفرهم.
319 - فإن كان والى المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة: من أراد منكم الغزو فليوافنى في موضع كذا، ولم يخبر أين يريد، وذلك المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فإن أهلها يتمون الصلاة حتى ينتهوا إلى ذلك المكان.
لانهم قصدوا أقل من مدة السفر، ولعل من رأى الامام أن يقيم معهم في ذلك المكان ويبعث السرايا والجيوش من غيرهم ويتمون الصلاة في ذلك المكان أيضا، لانهم إذا لم يصيروا مسافرين بالقصد إلى ذلك المكان لا يصيرون مسافرين بالمقام في ذلك المكان أيضا.
320 - فإن أخبرهم الوالى بعد ما نزلوا ذلك المكان أن يسير بهم مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة ما داموا في ذلك المكان.
لانهم حصلوا فيه وهم مقيمون، فبمجرد نية السفر لا يصيرون مسافرين ما لم يرتحلوا منه بمنزلة المقيم ينوى السفر وهو في مصره.(1/243)
321 - فإن قصروا الصلاة قبل أن يرتحلوا من ذلك المكان
فعليهم إعادة الصلاة.
لانهم خرجوا منها قبل إكمال الفرض.
322 - ثم إن خرجوا من ذلك المكان قبل أن يمضى وقتها وقبل أن يعيدوها صلوها ركعتين ي وآن خرجوا بعد مضى وقتها صلوها أربعا.
لان تقرر الوجوب باعتبار آخر الوقت.
323 - فإذا خرج الوقت وهم مسافرون كان عليهم صلاة السفر.
وإن خرج الوقت وقم مقيمون كان عليهم صلاة المقيمين، ولا يتغير هذا الحكم بما أدوا.
لان المؤادة كانت فاسدة حين سلموا على رأس ركعتين وهم مقيمون فكأنهم لم يصلوها أصلا.
324 - فإن سبق أهل المدينة البعيدة إلى ذلك المكان فلم يأتهم والى المدينة القريبة عشرة أيام وأن ذلك المكان من مدينتهم على مسيرة يومين أتموا الصلاة.
لما بينا.
325 - وإن كان على مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة فيها وإن أقاموا شهرا أو أكثر.
لانهم صاروا مسافرين بالخروج إليها فلا يصيرون مقيمين ما لم يعزموا(1/244)
على إقامة خمس عشر ليلة (64 ب) وهم منتظرون للوالى في هذا المكان غير عازمين على إقامة خمس (1) عشرة ليلة.
326 - فإن قصروا الصلاة في ذلك المكان ثم أتاهم كتاب الوالى أنه قد أمر بالمقام فإنهم يقصرون الصلاة على حالهم حتى يرجعوا
إلى مدينتهم.
لانهم انصرفوا وبينهم وبين مواضع إقامتهم مسيرة سفر فلا يصيرون مقيمين حتى يدخلوا وطنهم.
327 - قال: وإن دخل المسلمون أرض الحرب فانتهوا إلى حصن ووطنوا أنفسهم على أن يقيموا عليه شهرا إلا أن يفتحوه قبل ذلك، أخبرهم (2) الوالى بذلك، فإنهم يقصرون الصلاة.
لانهم لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة لمكان الاستثناء، فالفتح قبل مضى خمس عشرة ليلة محتمل.
328 - وإن أخبرهم الوالى أنه لا يقيم بهم في ذلك المكان فتحوا أو لم يفتحوا فإنهم يقصرون الصلاة أيضا.
لانهم في دار الحرب محاربون لاهلها والمحارب بين أن يقهر عدوه فيتمكن من المقام، وبين أن يظهر عليه عدوه فلا يتمكن من المقام.
ومثل هذا الموضع لا يكون موضع الاقامة في حقه، ونية الاقامة في غير موضعها هدر كأهل السفينة إذا نووا الاقامة في موضع من لجة البحر.
__________
(1) ب، أ " خمسة عشر ليلة ".
(2) ه " فأخبرهم ".
[ * ](1/245)
329 - ولو أطالوا المقام في دار الحرب حتى وقع الثلج فصاروا لا يستطيعون الخروج، فعزموا على الاقامة سنتهم حتى يذهب عنهم الثلج فيخرجون، وهم في غير أمان من أهل الحرب، فإنهم يقصرون الصلاة أيضا.
لانهم لا يأمنون من أن يقاتلهم العدو فيمنعوهم من القرار في ذلك الموضع.
وعن زفر رحمه الله أنه إن كانت لهم منعة وشوكة على وجه ينتصفون
من العدو إن أتاهم يصح بينهم الاقامة باعتبار الظاهر.
وعن أبى يوسف رحمه الله قال: إذا كانوا في الاخبية والفساطيط لم يصح بينهم الاقامة.
وإن كانوا في الابنية وهم ممتنعون صحت منهم الاقامة.
والاصح ما ذكر محمد رحمه الله لما قلنا (1) ان موضع الاقامة ما يتمكن المرء من المقام فيه بقدر ما نوى.
330 - واستدل عليه بحديث زائدة بن عمير: قال: قلت لابن عباس رضى الله عنهما: إنا نطيل الثوآء (2) بأرض العدو، يعنى القرار، فكيف أنوى في الصلاة ؟ قال: ركعتين حتى ترجع إلى أهلك.
قلت: كيف تقول في العزل ؟ قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيه شيئا فهو كما ذكر وإلا فإنى أقول فيه نساؤكم حرث لكم فأتوا (65 آ) حرثكم أنى شئتم (3) من شاء عزل ومن شاء ترك.
__________
(1) ق " لما بينا ".
(2) في هامش ق " ثوى بالمكان أقام به ثواء وثويا على فعال وفعول ومنه: إنا نطيل الثوى في دار الحرب.
مغرب ".
(3) سورة البقرة، 2، الآية 223.
[ * ](1/246)
وفيه دليل جواز العزل.
وهذا اللفظ مروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أيضا.
واليهود كانوا يكرهون ذلك ويقولون انه المؤودة (1) الصغرى فنزلت الآية ردا عليهم.
وقد روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه سئل عن العزل فقال: إذا أخذ الله ميثاق نسمة من صلب رجل فهول خالقها، وإن صب الماء على
صخرة.
فان شئتم فاعزلوا وإن شئتم فاتركوا.
وهكذا يرويه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلا أنه في العزل عن الحرة يحتاج إلى رضاها ليحل له ذلك، وفى العزل عن أمته لا يحتاج إلى ذلك.
331 - قال: ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان ونوى الاقامة في موضع خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
لانه غير محارب لهم بل هو في أمان منهم، فيتمكن من المقام بقدر ما نواه كما يتمكن منه في دار الاسلام.
332 - ومن أسلم منهم في دار الحرب فلم يأسروه أو لم يعلموا بإسلامه فهو يتم الصلاة أيضا ما دام في منزله.
لانه كان مقيما في هذا الموضع فلا يصير مسافرا ما لم يرتحل منه.
333 - وإن سافر مسيرة ثلاثة أيام فقصر الصلاة ثم انتهى إلى مقصده في دار الحرب نوى أن يقيم خمسة عشر يوما (2) أتم الصلاة.
لانه ما لم يتعرض له أهل الحرب فهو يتمكن من القرار في موضعه، وهو غير محارب لهم فيكون في حكم المستأمن فيهم.
__________
(1) ب " المودة ".
(2) ه، ق " خمس عشرة ليلة ".
[ * ](1/247)
334 - قال: والاسير من المسلمين في أيديهم إن أقاموا به في موضع يريدون المقام فيه خمسة عشر يوما (1) فعليه أن يتم الصلاة وإن كان لا يريد المقام معهم بل يكون عازما على الفرار منهم إن تمكن من ذلك، لانه مقهور مغلوب في أيديهم، فيكون المعتبر في حقه نيتهم في
السفر والاقامة لا نيته، بمنزلة عبد الرجل وزوجته في دار الاسلام.
فانه يعتبر في حقهما نية المولى والزوج في السفر والاقامة لا نيتهما.
وكذلك من بعث إليه الخليفة من عماله ليؤتى به من بلد إلى بلد لا تعتبر نيته في السفر والاقامة، لانه غير متمكن من تنفيذ قصده.
فمن بعثه الخليفة لا يمكنه من ذلك فكذلك حال الاسير في أيديهم.
335 - وإن كان الاسير انفلت منهم وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة شهر في غار أو غير قصر الصلاة.
لانه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الاقامة في حقه حتى ينتهى إلى دار الاسلام.
336 - وكذا (2) الذى أسلم في دارهم إذا علموا بإسلامه فطلبوه فخرج هاربا يريد مسيرة ثلاثة أيام فهو مسافر، وإن أقام في موضع مختفيا شهر منهم أو أكثر.
لانه صار محاربا لهم حين طلبوه ليقتلوه.
__________
(1) في هامش ق " خمس عشرة ليلة.
نسخة ".
(2) ه " كذلك ".
[ * ](1/248)
337 - وكذلك المستأمن إذا غدروا به فطلبوه ليقتلوه.
لانه صار محاربا لهم، وحال هؤلاء كحال من دخل دار الحرب متلصصا فنوى الاقامة في موضع شهرا، فانه يكون مسافرا.
ونيته الاقامة لغو، لانه في غير موضع إقامته.
338 - قال: وإن كان واحد من هؤلاء مقيما بمدينة من دار الحرب فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها منهم فإنه يتم الصلاة أيضا.
لانه كان مقيما في هذه البلدة فلا يصير مسافرا ما لم يخرج منها.
339 - وكذلك إن خرج منها يريد مسيرة يوم أو يومين.
لان المقيم لا يصير مسافرا بنيته الخروج إلى ما دون مدة السفر، بمنزلة الرجل يخرج إلى ضيعته في بعض القرى (1).
340 - وهؤلاء بمنزلة جيش دخلوا دار الحرب من مسيرة يوم من منازلهم ولا يريدون أن يسيروا في أرض العدو إلا يوما آخر فلقوا العدو وقاتلوهم فإنهم يكملون الصلاة وإن طال مقامهم.
لانهم لم يكونوا مسافرين في دار الحرب، فبالقتال لا يصيرون مسافرين.
341 - ألا ترى أن أهل مدينة من أهل الحرب لو أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم فإنهم يتمون الصلاة.
__________
(1) ه " يخرج إلى بعض القرى ".
[ * ](1/249)
وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم فإنهم يتمون الصلاة.
وإن خرجوا منها يريدون مسيرة ثلاثة أيام فقد صاروا مسافرين يقصرون الصلاة فإن أقاموا في موضع من دار الحرب عند مدينتهم قصروا الصلاة أيضا.
لانهم محاربون ومن حصل مسافرا في دار الحرب محاربا للمشركين لا يصير مقيما بنية الاقامة في موضع منها.
342 - وإن رجعوا مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها
فعادوا فيها أتموا الصلاة.
لان مدينتهم كانت دار الاسلام حين أسلموا فيها، وكانت موضع إقامة لهم، فما لم يعرض (1) لها المشركون فهى وطن أصلى في حقهم.
فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها.
343 - وإن كان المشركون غلبوا عليها وأقاموا فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وخلا المشركون عنها فإن كانوا اتخذوها دارا ومنزلا لا يبرحونها فصارت دار الاسلام يتمون فيها الصلاة.
لانها صارت في حكم دار الحرب حين غلب المشركون عليها، فحين ظهر المسلمون عليها وعزموا على المقام فقد صارت دار الاسلام.
ونية المسلم الاقامة في دار الاسلام صحيحة.
__________
(1) ه " يتعرض ".
[ * ](1/250)
344 - وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها دارا ولكن يقيمون فيها شهرا ثم يخرجون إلى دار الاسلام قصروا الصلاة.
لان هذا الموضع من جملة دار الحرب، وهم محاربون لهم، فلا يصيرون مقيمين بنية الاقامة فيها.
345 - وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة.
فإن اتخذوها دارا فقد صارت دار الاسلام يتمون فيها الصلاة، فإن لم يتخذوها دارا ولكن هم أرادوا الاقامة بها شهرا أو أكثر فإنهم يقصرون الصلاة.
لانها دار الحرب وهم فيها محاربون.
فهذا التخريخ بهذه الصفة على قولهما، لانه بمجرد ظهور أحكام الشرك
في بلدة عند غلبة أهل الحرب عليها تصير دار حرب.
فأما عند أبى حنيفة رحمه الله فيشترط مع هذا أن تكون ملاصقة لدار أهل الشرك.
وأن لا يبقى فيها مسلم أو ذمى آمنا على نفسه وبيان هذا يأتي في موضعه.
وذكر بعد هذا باب من يغسل من الشهداء وباب صلاة الخوف في الخطا وقد استقصينا شرح مسائل البابين فيما أمليناه من شرح الريادات فانه أعاد تلك المسائل بعينها من غير زيادة ولا نقصان.(1/251)
42 [ باب أمان الحر المسلم والصبى والمرأة ] والعبد والذمى قال رضى الله عنه (1): اعلم بأن أدق مسائل هذا الكتاب وألطفها في أبواب الامان.
فقد جمع بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه.
وكان شاور فيها على بن حمزة الكسائي رحمه الله تعالى، فانه كان ابن خالته وكان مقدما في علم النحو.
وقيل من أراد امتحان حفاظ الرواية من أصحابنا فعليه بباب الاذان من كتاب الصلاة.
ومن أراد امتحان المتبحرين في الفقه فعليه بأمان الجامع، ومن أراد امتحان المتبحرين في النحو والفقه فعليه بأمان السير.
346 - قال: ثم أمان الرجل الحر المسلم جائز على أهل الاسلام كلهم عدلا كان أو فاسقا، لقوله عليه السلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم (2)، يسعى بذمتهم أدناهم (3) ".
والمراد بالذمة العهد، مؤقتا كان أو مؤبدا، وذلك الامان وعقد الذمة، فإن كان
__________
(1) أي السرخسى.
(2) في هامش ق " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم: أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا على جميع الاديان والملل كأنه جعل أيديهم يدا واحدة
وفعلهم فعلا واحدا.
نهاية لابن الاثير ".
(3) في هامش ق " يسعى بذمتهم أدناهم أي إذا أعطى أحد الجيش العدو أمانا جاز وكتب على جميع المسلمين ليس لهم أن يخفروه ولا أن ينقضوا عليه عهده.
وقد أجاز عمر أمان عقد على جميع الجيش.
نهاية لابن الاثير ".
[ * ](1/252)
اللفظ مشتقا من الادنى الذى هو الاقل كما قال الله تعالى: { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } (1) فهو تنصيص على صحة أمان الواحد.
وإن كان مشتقا من الدنو وهو القرب كما قال الله تعالى: { فكان قاب قوسين أو أدنى } (2) فهو دليل على صحة أمان المسلم الذى يسكن الثغور فيكون قريبا من العدو.
وإن كان مشتقا من الدناءة فهو تنصيص على صحة أمان الفاسق لان صفة الدناءة (66 ب) به تليق من المسلمين.
ثم الحاصل أن في الامان معنى النصر.
فان قوله { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } (3) نزلت في صلح الحديبية، وقد سماه الله فتحا مبينا ونصرا عزيزا.
وكل مسلم أهل أن يقوم بنصرة الدين، ويقوم في ذلك مقام جماعة المسلمين.
ألا ترى أنه إذا تحقق النصرة منه بالقتال على وجه يدفع شر المشركين سقط به الفرض عن جماعتهم، فكذلك إذا وجد منهم النصرة بعقد الامان والصلح كان ذلك كالموجود من جماعة المسلمين.
347 - ولهذا يصح أمان الحرة المسلمة لانها من أهل النصرة، إلا أنه ليس لها بنية صالحة لمباشرة القتال، والامان نصرة بالقول، وبنيتها تصلح لذلك، ألا ترى أنها تجاهد بمالها.
لان مالها يصلح لذلك كمال الرجل.
348 - والدليل على صحة أمانها أن زينب بنت رسول الله
__________
(1) سورة المجادلة، 58، الآية 7.
(2) سورة النجم، 53، الآية 9.
(3) سورة الفتح، 48، الآية 1.
[ * ](1/253)
صلى الله عليه وسلم أجارت (1) زوجها أبا العاص بن الربيع، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها.
وعن أم هانئ قالت: اجرت (2) حموين لى من المشركين، أي قريبين، فدخل على بن أبى طالب رضى الله عنه فتفلت (3) عليهما ليقتلهما، أي قصدهما فجأة، وقال: أتجيرين المشركين ؟ فقلت: والله لا تقتلهما حتى تبدأ بى قبلهما.
ثم خرجت وقلت: أغلقوا دونه الباب.
فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اسفل الثنية (4).
فلم أجده ووجدت فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي (5) على.
أجرت حموين لى من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما.
فكانت أشد على من زوجها.
إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار (6).
فقال: مرحبا بأم هانئ (7) فاخته.
فقلت: يا رسول الله ! ماذا لقيت من ابن أمي على ! ما كدت انفلت منه.
أجرت حموين لى من المشركين
__________
(1) ب " أجازت " خطأ.
(2) ب " أجزت " خطأ.
(3) في هامش ق " تفلت علينا فلان أي توثب.
ومنه حديث أم هانئ فتفلت عليهما ليقتلهما.
مغرب ".
(4) في هامش ق " الثنية العقبة، والثنية طريق الجبل.
وفى رواية: أسفل الثنية يعنى الكعبة ".
(5) ب " عمى " وهو خطأ.
(6) في هامش ق " أرهج الغبار أثاره.
والرهج ما أثير منه.
وقوله: وعليه رهج الغبار من إضافة البيان.
وأما رهجة الغبار فليس بشئ.
مغرب ".
(7) في هامش ق " هنأه أعطاه هنأ، من باب ضرب.
وباسم الفاعل منه كنيت فاخته بنت أبى طالب.
مغرب ".
[ * ](1/254)
فتفلت عليهما ليقتلهما.
فقال: ما كان له ذلك.
فقد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت.
ثم أمر فاطمة رضى الله عنها فسكبت له غسلا فاغتسل، ثم صلى ثمانى ركعات في ثوب واحد يخالف بين طرفيه، وذلك ضحى فتح مكة.
فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها، وبين أنه ما كان لعلى أن يتعرض لهما بعد أمانها.
وقيل في معنى قوله (1) ثمان ركعات أن ركعتين منهما للشكر على فتح مكة، وركعتين كان يفتتح صلاة الضحى بهما على ما رواه عمارة (2) بن رويبة، فأربعا كان يواظب عليهما في صلاة الضحى على ما رواه بن مسعود رضى الله عنه.
ومعنى قوله: مخالفا بين طرفيه أي متوشحا به من طرفيه.
فيكون فيه بيان أنه لا بأس بالصلاة في ثوب واحد متوشحا به.
وعن عمر رضى الله عنه قال: إن كانت المرأة لتأجر على المسلمين فيجوز ذلك - أي تعطى الامان للمشركين - وفى رواية: لتأخذ - أي تأخذ العهد بالصلح والامان (67 آ)، وهكذا قالت عائشة رضى الله عنها: إن كانت المرأة لتأخذ على المسلمين.
349 - فأما العبد المسلم فلا أمان له إلا أن يكون يقاتل.
وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن أبى يوسف
رحمه الله.
وفى الرواية الاخرى وهو قول محمد رحمه الله أمانه صحيح قاتل أو لم يقاتل، لانه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه.
والامان نصرة بالقول، وهو مملوك له بخلاف مباشرة القتال، فانه نصرة الدين بما لا يملكه من نفسه ومنافعه.
ولانه بالامان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، ثم يتعدى
__________
(1) ط، ه " صلاته ".
(2) ب " عمار " وهو خطأ.
انظر تهذيب التهذيب.
7: 416.
[ * ](1/255)
ذلك إلى غيره.
والعبد في مثل هذا كالحر أصله الشهادة على رؤية هلال رمضان (1).
لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول: معنى النصرة في الامان مستور فلا يتبين ذلك إلا لمن يكون مالكا للقتال، والعبد المشغول بخدمة المولى غير مالك للقتال، فلا تظهر الخيرية في أمانة، بخلاف ما إذا كان مقاتلا باذن المولى، فانه يظهر عنده الخيرية (2) في الامان حتى يتمكن من مباشرة القتال، فيكون تصرفه واقعا على وجه النظر للمسلمين.
وإنما يكون الامان ملتزما للكف عن قتالهم إذا كان متمكنا من القتال، فأما إذا لم يكن متمكنا من ذلك كان ملزما غيره ابتداء لا ملتزما، وليس للعبد هذه الولاية.
350 - قال: والامة كالعبد في ذلك.
واستدل محمد رحمه الله فيه بحديث عبدالله بن عمر رضى الله عنهما وقال: أمان المرأة والعبد والصبى جائز.
وتأويل هذا عند أبى حنيفة رحمه الله في العبد المقاتل.
351 - وبحديث الفضل الرقاشى قال: حضرنا أهل حصن.
فكتب عبد أمانا في سهم، ثم رمى به إلى العدو.
فكتبنا إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
فكتب: إنه رجل من المسلمين، وإن أمانه جايز.
وإنما علل لصحة (3) أمانه بكونه مسلما لا بكونه مقاتلا.
ولكن أبا حنيفة رحمه الله قال: هذا العبد كان مقاتلا لان الرمى بالسهم من عمل المقاتلين، وأمان المقاتل إنما يصح عنده لكونه رجلا من المسلمين.
وفى المغازى ذكر أنه كتب على سهمه بالفارسية مترسيد (4).
__________
(1) في هامش " رؤية الهلال.
نسخة ".
(2) في هامش ق " الحرمة.
نسخة ".
(3) ب، ه، ط " بصحة " أثبتنا رواية ق.
(4) أي لا تخافوا.
[ * ](1/256)
352 - فأما أمان الذمي فباطل، وإن كان يقاتل مع المسلمين بأمرهم لانه مائل إليهم للموافقة في الاعتقاد، فالظاهر أنه لا يقصد بالامان النظر للمسلمين.
ثم هو ليس من أهل نصرة الدين، والاستعانة بهم في القتال عند الحاجة بمنزلة الاستعانة بالكلاب، أو كأن ذلك للمبالغة في قهر المشركين، حيث يقاتلهم من يوافقهم في الاعتقاد.
وهذا المعنى لا يتحقق في تصحيح أمانهم بل في إبطاله (1).
353 - قال: فأما أمان الغلام الذى راهق من المسلمين أو كان من الكافرين فعقل الاسلام ووصفه.
فغير جائز على المسلمين في قول أبى (67 ب) حنيفة رحمه الله وفى قول محمد رحمه الله.
جائز.
لانه يصح إسلامه إذا كان عاقلا.
ومن صح إيمانه صح أمانه بعد إيمانه.
وهذا لان الامان نصرة الدين بالقول.
فإذا اعتبر قول مثله في أصل اللدين فذلك
يعتبر في نصرة الدين.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول في معنى الخيرية والنظر في الامان إنه مستور لا يعرفه إلا من اعتدل حاله، واعتدال الحال لا يكون قبل البلوغ، ثم هو لا يملك القتال بنفسه، وإنما يتبين الخيرية في الامان لمن يكون مالكا للقتال مباشرا له.
ولم يذكر قول أبى حنيفة فيما إذا كان الصبى مأذونا في القتال.
وكان أبو بكر الرازي يقول: يصح أمانة لكونه متمكنا من مباشرة القتال بمنزلة العبد.
وغيره من مشايخنا كان يقول: لا يصح أمانه لانه ليس بمعتدل الحال، فلا يتم معنى النظر للمسلمين في أمانة والله الموفق.
__________
(1) ه، ب، أ، ق " ابطالها " أثبتنا رواية ط.
م - 17 السير الكبير [ * ](1/257)
43 [ باب الامان ] ثم يصاب المشركون بعد أمانهم 354 - قال: رجل من المسلمين أمن قوما من المشركين، فأغار عليهم قوم آخرون من المسلمين فقتلوا الرجال وأصابوا النساء والاموال فاقتسموها، وولد منهن لهم أولاد، ثم علموا بالامان، فعلى القاتلين دية القتلى.
لان أمان الواحد نافذ في حق جماعة السماعة، فيظهر به العصمة والتقوم في نفوسهم وأموالهم.
والقتل من القاتلين كان بصفة الخطأ حين لم يعلموا بالامان، أو بصفة العمد إن علموا بالامان، ولكن مع قيام الشبهة المبيحة وهى المحاربة.
فتجب الدية بقوله تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة } (1).
والنساء والاموال مردودة عليهم لبطلان الاسترقاق بعصمة المحل، ويغرمون للنساء أصدقهن (2) لاجل الوطئ بشبهة، فقد ظهر أنهم باشروا الوطئ في غير الملك وسقط الحد بشبهة، فيجب المهر والاولاد أحرار.
__________
(1) سورة النساء، 4، الآية 92.
وقوله: وتحرير رقبة مؤمنة ساقط في ب، أ، ق.
(2) في هامش " صدق المرأة مهرها والكسر أفصح وجمعه صدق.
والاصدقة قياس لا سماع " مغرب ".
[ * ](1/258)
لانهم انفصلوا من حرائر فكانوا أحرار الاصل، بغير قيمة، مسلمين تبعا لآبائهم، لان الولد يتبع خير الابوين دينا.
355 - وذكر فيه حديث المهلب بن أبى صفرة قال: حاصرنا مدينة الاهواز (1) على عهد عمر رضى الله عنه ففتحناها، وقد كان صلحا لهم من عمر، فأصبنا نساء فوقعنا (2) عليهن.
فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه، فكتب إلينا أن خذوا أولادكم وردوا إليهم نساءهم.
وعن عطاء قال: كانت تستر (3) فتحت صلحا - وهوا اسم موضع - فكفر أهلها، فغزاهم المهاجرون (4) فسبوهم، وأصاب المسلمون نساءهم حتى ولدن لهم، فأمر عمر رضى الله عنه برد النساء على حريتهن وفرق بينهن وبين سادتهن.
فتأويل هذا أن القوم حين كفروا لم يغلبوا على الدار ولم يجر فيها حكم الشرك ولم تصر دارهم دار حرب.
فلهذا لم (68 آ) ير عمر عليهم شيئا.
وعن شويس (5) قال: لقد خشيت أن يكون من صلبى بميسان (6) رجال ونساء.
قالوا: وما ذاك يا فلان ؟ قال: كنت جئت بجارية فنكحتها زمانا.
ثم جاء
كتاب عمر فرددتها إذ رد الناس.
وإنما خاف من ذلك لانه ردها قبل أن تحيض عنده، وما كان ينبغى له أن يردها حتى تحيض ثلاث حيض لانها حرة.
وقد
__________
(1) انظر معجم البلدان، 1: 380 وما بعدها.
(2) ب " فوقعن ".
(3) انظر معجم البلدان 2: 386.
وفى هامش ق " تستر كجندب بلد.
قاموس ".
(4) في هامش ق " المجاهدون.
نسخة ".
وهى الصواب.
(5) ب " سوس " ه " شريس " أثبتنا رواية ط.
ق وفى هامش ق الشوس مصدر شويس.
وهو أن ينظر الرجل بمؤخرة عينه تكبرا أو غيظا وبتصغيره سمى شويس.
وكنيته أبو الرقاد.
مغرب ".
(6) انظر معجم البلدان 8: 224.
[ * ](1/259)
وطئها بشبهة فعليها أن تعتد بثلاث حيض، وليس عليه أن يردها حتى تعلم أنها حامل أو غير حامل (1).
356 - وعن أبى جعفر محمد بن على قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد ببنى جذيمة (2) رفع يديه حتى رؤى (3) بياض إبطيه وهو يقول: " اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد.
ثلاث مرات ".
ثم دعا عليا رضى الله عنه فقال: خذ هذا المال فاذهب به إلى بنى جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.
يعنى ما كان بينهم وبين أهل مكة من الخماشات (4) والذحول (5) في الجاهلية.
قال: فد لهم ما أصاب خالد.
فخرج إليهم على بذلك المال فودى لهم كل ما أصاب خالد منهم، حتى إنه أدى لهم ميلغة (6) الكلب.
حتى إذا لم يبق شئ يطلبونه وبقيت مع على بقية من المال، قال على رضى الله عنه: هذه البقية من المال لكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالد
__________
(1) في هامش ق " أبو الرقاد قال: لقد خشيت أن يكون من صلبى بميسان رجال ونساء - هي من كور العراق -.
وإنما قال ذلك لانه سبى جارية من أهل ميسان قد وطئها زمانا ثم لما أمرهم عمر رضى الله عنه بتخلية السبى خلى هو تلك الجارية ولم يدر أكانت حاملا أم لا.
مغرب ".
(2) في هامش ق " جذيمة كسفينة.
قبيلة من عبدالقيس.
قاموس ".
(3) ب " يرى ".
(4) ب " الحماسات " والخماشات الجراحات كما في هامش ق عن الحصيرى.
وفى هامش ق أيضا: " وفى حديث قيس بن عاصم: كانت بيننا وبينهم خمشات في الجاهلية واحدها خماشة، أي جراحات وجنايات ومن كل ما كان دون القتل والدية من قطع أو جدع أو جرح أو ضرب أو نهب ونحو ذلك من أنواع الاذى.
ومنه حديث الحسن وسئل عن قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها ".
فقال: هذا من الخماش.
أراد الجراحات التى لا قصاص فيها.
(5) الذحول: الاحقاد والعداوة (قاموس).
(6) في هامش ق " الميلغ والميلغة بكسرهما الاناء يلغ فيه الكلب في الدم.
قاموس ".
[ * ](1/260)
مما لا يعلمه ولا تعلمونه.
فأعطاهم ذلك.
ثم انصرف على رضى الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر.
وفيه دليل أن المسلمين إذا أصابوا شيئا مما كان في أمان أو موادعة فانه يؤدى لهم كل شئ أصيب لهم من دم أو مال.
وكان خالد أصاب ذلك خطأ.
وكانت عاقلته رسول الله صلى الله عليه وسلم لان قوته ونصرته كانت به.
ولهذا أدى ذلك بنفسه أو تبرع بأداء ذلك من عنده.
وهذا هو الاظهر فان تحمل العقل (1) في الدماء لا في الاموال، وما أطلق من لفظ الدية في بذل المال إنما أطلقه على وجه المجاز والاتباع لبذل النفس.
فاسم الدية حقيقة إنما يتناول بذل النفس، ولكن باعتبار معنى الاداء يجوز إطلاقه على بذل المال مجازا.
وفيه دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة على مال معلوم.
فانه قال: هذا لكم مما لا يعلمه ولا تعلمونه.
واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه.
357 - قال: وأيما عسكر من المسلمين حاصروا (2) حصنا أو مدينة فأسلم بعضهم، كان آمنا على نفسه وماله وأولاده الصغار لقوله عليه السلام: " فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقال الله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (3).
فأما زوجته وأولاده الكبار إن لم يسلموا معه فهم فئ، لان الصغار صاروا مسلمين تبعا له.
فأما الكبار ما صاروا مسلمين بإسلامه، وزوجته كذلك، فهم بمنزلة غيرهم من أهل الحرب.
__________
(1) في هامش ق " العقل والمعقلة: الدية.
مغرب ".
(2) ه، ط " حاصر ".
(3) سورة التوبة، 9، الآية 5.
[ * ](1/261)
358 - واستدل عليه (68 ب) بحديث الزهري أن ثعلبة وأسيد ابني سعية (1) وأسيد (2) بن عبيد قالوا لبنى قريظة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم: يا معشر بنى قريظة ! أسلموا تأمنوا على دمائكم وأموالكم هذا والله الذى كان أخبركم به بنو (3) الهيبان (4) قالوا: ليس به.
وقصة الهيبان مذكورة في المغازى أنه كان حبرا من أحبار الشام قدم على يهود يثرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحضره الموت فجمعهم فقال: أتدرون لم تركت أرض الخمر والخمير يعنى الخصب
من أرض الشام فنزلت بأرض الجدب والشدة ؟ قالوا: لا.
قال: لاجل نبى قد أظل زمانه (5) وهذا مهاجره، وكنت أرجوا أن أدركه، فمن يدركه منكم فلقرئه منى السلام وليؤمن به، فإنه خاتم النبيين وخير الخلائق أجمعين.
قال: فلما كانت الليلة التى في صبيحتها نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ابنا سعية وابن عبيد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وأمنوا على دمائهم وأموالهم.
وفى هذا دليل على أن المحاصر يأمن بالاسلام كما يأمن غير المحاصر.
__________
(1) ب " شعبة " ط " سعيد " وكلاهما خطأ.
والصواب ما أثبتنا.
(2) في جميع الاصول أسيد، وفى جوامع السيرة ص 194 أسد.
(3) ه، ق، ط " ابن الهيبان " وكانت كذلك في ب ثم ضرب عليها وصححت بنو.
(4) في هامش ق " الهيبان " بفتح الهاء والياء المشددة فيعلان من الهيبة الخوف.
مغرب ".
(5) ق " قد أشرف وأظل زمانه ".
[ * ](1/262)
359 - وذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: أيما رجل من العدو أشار إليه رجل بأصبعه إنك إن جئت قتلتك، فجاءه فهو آمن فلا يقتله.
وبعد هذا نأخذ فنقول: إذا أشار إليه بإشارة الامان وليس يدرى الكافر ما يقوله فهو آمن.
لانه بالاشارة دعاه إلى نفسه، وإنما يدعى بمثله الآمن لا الخائف، وما تكلم به: إن جئت قتلتك، لا طريق للكافر إلى معرفته بدون الاستكشاف منه، ولا يتمكن من ذلك قبل أن يقرب منه، فلابد من إثبات الامان بظاهر الاشارة وإسقاط ما وراء ذلك للتحرر عن الغدر.
فان ظاهر إشارته أمانه له.
وقوله: إن جئت قتلتك، بمعنى النبذ لذلك الامان.
فما لم يعلم بالنبذ كان آمنا بمعنى قوله تعالى { فانبذ إليهم على سواء } (1) أي سواء منكم ومنهم في العلم بالنبذ، وأشار إلى المعنى فيه فقال { إن الله لا يحب الخائنين } (2) ومبنى الامان على التوسع حتى يثبت بالمحتمل من الكلام فكذلك يثبت بالمحتمل من الاشارة.
360 - وبيان هذا في حديث الهرمزان.
فإنه لما أتى به عمر رضى الله عنه قال له: تكلم.
قال أتكلم بكلام حى أم كلام ميت ؟ فقال عمر: كلام حى.
فقال: كنا نحن وانتم في الجاهلية، لم يكن لنا ولا لكم دين.
فكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب.
فإذا أعزكم الله بالدين وبعث رسوله منكم (3) لم نطعكم.
فقال عمر: أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا ؟ اقتلوه.
فقال: أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيرا
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 58.
(2) السورة والآية نفسها.
(3) ق " فيكم " وفى الهامش " منكم.
نسخة ".
[ * ](1/263)
ثم تقتلوه ؟ فقال: متى أمنتك ؟ فقال: قلت لى تكلم بكلام حى.
والخائف على نفسه لا يكون حيا.
فقال عمر: قاتله الله ! أخذ الامان ولم أفطن (169) به.
فهذا دليل على التوسع في باب الامان.
361 - قال: فإذا أمن الامام قوما ثم بدا له أن ينبذ إليهم فلا بأس بذلك لقوله تعالى { فانبذ إليهم على سواء } (1).
ولان الامان كان باعتبار النظر فيه للمسلمين ليحفظوا قوة أنفسهم، وذلك يختص ببعض الاوقات، فإذا انقضى ذلك الوقت كان النظر والخيرية
في النبذ إليهم، ليتمكنوا من قتالهم بعد ما ظهرت لهم الشوكة.
والنبذ لغة هو الطرح قال الله تعالى { فنبذوه وراء ظهورهم } (2).
362 - وإنما يتحقق طرح الامان بإعلامهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الامان، حتى إن كانوا لم يبرحوا حصنهم فلا بأس بقتالهم بعد الاعلام.
لانهم في منعتهم، فصاروا كما كانوا.
363 - وإن نزلوا وصاروا في عسكر المسلمين فهم آمنون حتى يعودوا إلى مأمنهم كما كانوا.
لانهم نزلوا بسبب الامان، فلو عمل النبذ في رفع أمانهم قبل أن يصيروا ممتنعين كان ذلك خيانة من المسلمين والله لا يحب الخائنين.
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 58.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 187.(1/264)
364 - ودل على هذا قوله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } (1).
واستدل عليه بحديث معاوية، فإنه كان بينه وبين الروم عهد فكان يشير نحو بلادهم كأنه يقول: حتى نفى بالعهد ثم نغير عليهم.
يعنى أن العهد كان إلى مدة، ففى آخر المدة سار إليهم ليقرب منهم حتى يغير عليهم مع انقضاء المدة.
قال: وإذا شيخ يقول: الله أكبر ! وفاء لا غدر، وفاء لا غدر.
وكان هذا الشيخ عمرو بن عنبسة السلمى.
تبين له بما قال أن في صنعه معنى الغدر، لانهم لا يعلمون أنه يدنو منهم
يريد غارتهم وإنما يظنون أنه يدنو منهم للامان.
فقال معاوية: ما قولك وفاء لا غدر ؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى يمضى أمدها وينبذ إليهم على سواء.
وفى هذا دليل التحرز عما يشبه الغدر صورة ومعنى، والله الموفق.
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
[ * ](1/265)
44 [ باب مالا يكون أمانا ] 365 - قال: وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان فأخذه المشركون فقال لهم، أنا رجل، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين، فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم ويأخذ من أموالهم ما شاء.
لان هذا الذى قال ليس بأمان منه لهم، وإنما هو خداع باستعمال معاريض لكلام.
فان معنى قوله: أنا رجل منكم أي آدمى من جنسكم.
ومعنى قوله: جئت لاقاتل معكم المسلمين أي أهل البغى إن نشطتم في ذلك، أو اضمر في كلامه: عن، أي (1) جئت لاقاتل معكم دفعا عن المسلمين.
ولو كان هذا اللفظ أمانا منه لم يصح، لانه أسير مقهور في أيديهم فكيف يؤمنهم ؟ إنما حاجته إلى طلب الامان منهم.
وليس في هذا اللفظ من طلب الامان شئ.
366 - ثم استدل عليه بالآثار.
فمن ذلك ما روى أن (69 آ) رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن أنيس سرية وحده إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى (2) إلى نخلة أو بعرنة (3).
وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع له، أي جمع الجيش لقتاله، وأمره بقتله وقال: انتسب إلى خزاعة.
وإنما أمره بذلك لان ابن سفيان كان منهم.
__________
(1) ه " أو أضمر في كلامه غير انى جئت ".
(2) في الاصول: سفيان بن عبدالله بن نبيح.
أثبتنا ما في سيرة ابن هشام 4: 267.
(3) ه، ب " بعرفة " وهو خطأ، وفى هامش ق بعرفة كهمزة واد بعرفات.
قاموس ".
[ * ](1/266)
فقال: يا رسول الله ! إنى لا أعرفه.
فقال: إنك إذا رأيته هبته.
وكنت لا أهاب الرجال.
فأقبلت عشيشية (1) الجمعة، وهو تصغير العشية، فحانت الصلاة فخشيت أن أصلى فأعرف فأومأت إيماء وأنا أمشى.
وبه يستدل أبو يوسف على أن المنهزم ماشيا يومئ ثم يعيد.
قال: حتى أدفع (2) إلى راعية له: فقلت لمن أنت ؟ فقالت: لابن سفيان.
فقلت: أين هو ؟ قالت: جاءك الآن.
فلم أنشب أن (3) جاء يتوكأ على عصا - أي لم ألبث.
فلما رأيته وجدتني أقطر (4).
وفى رواية أفكل، أي ترتعد فرائصي (5) هيبة منه.
فجاء فسلم، ثم نسبنى (6) فانتسبت إلى خزاعة (7).
وذكر في الطريق الآخر كنت أعتزى (8) إلى جهينة.
أي أنتسب إليهم.
__________
(1) في هامش ق " وفى حديث أنيس: فأقبلت عشيشة أي عشاء.
مغرب ".
(2) في هامش ق " أدفعت إلى كذا بالبناء إلى المفعول انهيت إليه.
مصباح.
وفى حديث ابن أنيس: وأنا أمشى حتى أدفع إلى راعية له.
وروى: حتى أرفع.
والاصح حتى دفعت.
مغرب ".
(3) ه " فلم أنشب إلا أن..".
(4) في هامش ق " وفى حديث ابن أنيس وجدتني أقطر عرقا وبولا من شدة الهيبة وانتصابه على التمييز.
مغرب " " وقيل معنى قوله أقطر أي يقطر منه البول للخوف.
حصيرى ".
(5) في هامش ق " الفريصة " اللحم التى تكون بين الكتف والجنب كذا بخط الحصيرى ".
(6) في هامش ق " ويقال نسبنى فلان فانتسبت له أي سألني عن النسب وحملنى على الانتساب ففعلت.
ومنه حديث ابن أنيس: فجاء فسلم ثم نسبنى.
والتشديد خطأ.
مغرب ".
(7) ب " جماعة ".
(8) ب " اعترى ".
[ * ](1/267)
ثم قلت له: جئت لانصرك وأكثرك وأكون معك.
ومعناه لانصرك بالدعاء إلى الاسلام، وبالمنع عن المنكر وهو قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قال عليه السلام " انصر أخاك ظالما أو مظلوما.
فقيل: كيف ينصره ظالما قال: يكفه عن ظلمه ".
وقوله اكثرك أي أجعلك إربا إربا فأكثر أجزاءك إن لم تؤمن وأكون معك إلى أن أقتلك.
فقال للجارية: احلبي، فحلبت.
ثم ناولتنى فمصصت شيئا يسيرا، ثم دفعته إليه (1)، فعب (2) فيه كما يعب الجمل، حتى إذا غاب أنفه في الرغوة صوبته (3) وقلت للجارية: لئن تكلمت لاقتلنك وذكر بعد هذا: فمشيت معه حتى استحلى حديثى.
ثم أربته أنى وطئت على غصن شوك فشيكت رجلى.
فقال: الحق يا أخا جهينة.
فجعلت أتخلف ويستحلقني.
فلحقته وهو مولى.
فضربت عنقه وأخذت برأسه.
ثم خرجت اشتد حتى صعدت الجبل فدخلت غارا، وأقبل الطلب (4).
وفى رواية: خرجت الخيل توزع (5) في كل وجه في الطلب،
__________
(1) ب " إلى أبى سفيان " ه، ط " إلى ابن سفيان ".
(2) ه " فغب..يغب " وهو خطأ.
وفى هامش ق " العب من باب طلب أن يشرب الماء
بمرة من غير أن يقطع.
مغرب ".
(3) ه، ط، ب " ضربته " وهو خطأ.
" وصوب الاناء أماله إلى أسفل ليجرى ما فيه.
مغرب " من هامش ق.
(4) الطلب الطالبون تسمية بالمصدر، أو جمع طالب كخدم وخادم.
مغرب " من هامش ق.
(5) في هامش ق " وفى الحديث: فخرجت الحيل تتوزع كل وجه.
كذا في متن أحاديث السير، أي تفرق في الجهات.
مغرب ".
[ * ](1/268)
وأنا متمكن في الجبل.
فأقبل رجل معه إداوة (1)، ونعلاه في يده، وكنت حافيا.
فجلس يبول، فوضع إداوته ونعليه.
وضربت العنكبوت على الغار أو قال: خرجت (2) حمامة، فقال لاصحابه: ليس فيه أحد.
فنزل وترك نعليه وإداوته.
فخرجت ولبست النعلين وأخذت الاداوة فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار، حتى جئت المدينة، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد.
فلما رأني قال: أفلح الوجه.
- وهذا لفظ يتكلم به العرب خطابا لمن نال المراد وفاز بالنصرة - فقلت: وجهك الكريم يا رسول الله.
فأخبرته خبرى، فدفع إلى (70 آ) عصا وقال: تخصر بهذه يا ابن أنيس في الجنة فإن المتخصرين في الجنة قليل (3) ".
قيل معناه: تحكم بها في الجنة كما يتحكم الملوك بما يشاءون.
وقيل معناه: ليكن هذا علامة بينى وبينك يوم القيامة حتى أجازيك على صنيعك بسوآل الزيادة في الدرجة لك، فان مثلك ممن يكون بينه وبين نبيه علامة فيجازيه على صنيعه في الجنة.
قيل: فكانت عند ابن أنيس، حتى إذا مات أمر أهله أن
يدرجوها في كفنه.
__________
(1) الادواة المطهرة.
قاموس: (2) كذا في جميع الاصول.
إلا في ه " فرخت ".
(3) في هامش ق " المخصرة قضيب يشير به الخطيب والملك إذا خطاب " وفيه أيضا: وقيل التخصر أخذ مخصرة أو عصا باليد يبتكئ عليها.
ومنه قوله عليه السلام لابن أنيس وقد أعطاه عصا تخصر بها: فان المتخصرين في الجنة قليل.
مغرب " وزاد: ولقب بذلك فقيل: عبدالله المتخصر في الجنة.
ومن روى المختصر فقد حرف.
مغرب ".
[ * ](1/269)
ومراده من القصة الاستدلال بقوله جئت لانصرك وأكثرك فان ذلك لم يكن أمانا منه.
367 - وذكر حديث يزيد بن رومان قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوم كعب بن الاشرف وإعلانه بالشر وقوله الاشعار، وكعب هذا من عظماء اليهود بيثرب، وهو المراد بالطاغوت المذكور في قوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) (1) وكان يستقصى في إظهار العداوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة بعد حرب بدر.
وجعل يرثى قتلاهم، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشعاره، ويحثهم على الانتقام.
فمن ذلك القصيدة التى أولها: طحنت رحا بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر يستهل ويدمع فلما رجع إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لى بابن الاشرف ؟ فإنه قد آذانى.
فقال محمد بن مسلمة: أنا لك يا رسول الله
__________
(1) سورة النساء، 4، الآية 60، وفى هامش ق: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ".
عن ابن عباس رضى الله عنه أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي عليه السلام ودعاه المنافق إلى كعب بن الاشرف.
ثم انهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال: نتحاكم إلى عمر.
فقال اليهودي لعمر: قضى لى رسول الله عليه السلام فلم يرض بقضائه وخاصم إليك.
فقال عمر رضى الله عنه للمنافق: أكذلك ؟ فقال: نعم.
قال: الزما مكانكما حتى أخرج إليكما.
فدخل وأخذ بسيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله.
فنزلت.
وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل.
فسمى الفاروق.
والطاغوت على هذا كعب بن الاشرف.
وفى معناه من يحكم بالباطل ويؤثره جملة.
سمى بذلك لفرط طغيانه " لتشبيهه بالشيطان...بيضاوي ".
[ * ](1/270)
وأنا أقتله.
قال.
فافعل.
فمكث ابن مسلمة أياما لا يأكل ولا يشرب، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تركت الطعام والشراب ؟ فقال: يا رسول الله ! قلت لك قولا فلا أدرى أفى به أم لا.
فقال صلى الله عليه وسلم: إنما عليك بالجهد.
ومعنى هذا أنه ترك الاصابة من اللذات قبل أن يفى بما وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا ينبغى لمن قصد إلى خير أن يقدمه على الاصابة من اللذات.
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين له أن نفسه لا تتقوى إلا بالطعام والشراب كما قال تعالى { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } (1) وأن عليه الجهد بالوفا بالوعد لا غير.
قال: فاجتمع في قتله محمد وأناس من الاوس منهم عبادة بن بشر ابن وقش، وأبو نائلة (2) سلكان بن سلامة بن وقش، والحارث ابن أوس، وأبو عبس بن جبر (3).
فقالوا: يا رسول الله ! نحن نقتله
فأذن لنا فلنقل، فإنه لابد لنا منه، أي نخدعه باستعمال المعاريض
__________
(1) سورة الانبياء، 21، الآية 8.
(2) في هامش ق: " أبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش بن رغبة بن زعورا بن عبد الاشهل الانصاري الاشهلى.
ويقال سلكان لقب واسمه سعد.
شهد أحدا.
وهو أخو كعب بن الاشرف القرطبى في الرضاعة.
وكان من الرماة المذكورين، ومن أخيار الصحابة، له ذكر في قتل كعب ابن الاشرف.
وكان شاعرا، وهو ممن اشتهر بكنيته.
ونائله بالنون وكسر الياء تحتها نقطتان.
وسلكان بكسر السين وسكون اللام وبالنون.
وقش بفتح الواو وسكون القاف والشين المعجمة.
ورغبة بضم الراء وسكون الغين المعجمة وبالباء الموحدة.
وزعور بفتح الزاء وبالغين المهملة والراء.
جامع الاصول ".
(3) في هامش ق: " اسم أبى عبس عبدالرحمن بن جبر.
وقد تقدم في فصل الاسماء.
عبس بفتح العين وسكون الباء الموحدة وبالسين المهملة.
وجبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة.
جامع الاصول ".
[ * ](1/271)
وإظهار النيل منك.
قال: فقولوا.
فخرج إليه أبو نائلة، وكان أخاه من الرضاعة، فتحدث معه وتناشد الاشعار.
ثم قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء.
يعنى النبي، ومراده من ذكر البلاء النعمة.
فالبلاء يذكر بمعنى النعمة كما يذكر بمعنى الشدة، فانه من الابتلاء.
وذلك يكون بهما كما قالت الصحابة: ابتلينا (70 ب) بالضراء فصبرنا.
وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وقيل في تأويل قوله تعالى { وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم } (1).
أي في إنجائكم من فرعون وقومه نعمة عظيمة.
وقيل: أي في ذبحه أبناءكم واستحيائه نساءكم محنة عظيمة.
ثم قال: حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وتقطعت السبل عنا، حتى جهدت (2) الابدان، وضاع العيال، وأخذنا بالصدقة، ولا نجد ما نأكل.
قال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذايا يا ابن سلامة.
إن الامر سيصير إلى هذا.
قال سلكان: ومعى رجال من أصحابي على مثل رأيى.
وقد أردت أن آتيك بهم لنبتاع (3) منك طعاما تمورا وتحسن في ذلك إلينا ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 49.
(2) في هامش ق " وجهد الرجل فهو مجهود من المشقة.
يقال: أصابهم قحوط من المطر فجهدوا (بضم الجيم) واجهدوا شديدا.
وجهد عيشهم بالكسر أي نكد واشتد.
جوهرى ".
(3) ه " فنبتاع " ق " فلنبتاع ".
[ * ](1/272)
قال كعب: أما إن رفافى تتقصف تمرا من عجوة يغيب فيها الضرس.
والرفاف جمع الرف وهو الموضع الذى يجمع فيه التمر، شبه الحنبق (1).
وقوله تتقصف أي تتكسر من كثرة ما فيها من التمر.
ووصف جودتها بقوله: يغيب فيها الضرس.
قال: أما والله يا أبا نائلة ما كنت أحب أن أرى هذه الخصاصة.
يعنى شدة الحاجة، وإن كنت لمن أكرم الناس على.
فماذا ترهنون ؟ أترهنونن أبناءكم ونساءكم ؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا.
ولكنا نرهنك من
الحلقة (2) ما ترضى به يا كعب.
قال: إن في الحلقة (2) لوفاء.
يعنى السلاح.
وإنما قال ذلك سلكان كيلا ينكرهم إذا جاءوا إلى السلاح.
فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد.
فأتى أصحابه وأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسوا.
ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فأخبروه.
فمشى معهم حتى أتى البقيع، ثم وجههم وقال: امضوا على ذكر الله وعونه (3).
ثم دعا لهم.
وذلك في ليلة مقمرة مثل النهار.
__________
(1) في هامش ق " الحنبق تعريب خنبه وهى الانبار تتخذ من الخشب معلقة بالسقف.
مغرب ".
(2) ه " الخليعة " خطأ.
(3) ط، ه، ق " على بركة الله وعونه " وفى هامش ق " على ذكر الله وعونه.
نسخة ".
م - 18 السير الكبير [ * ](1/273)
فمضوا حتى أتوه.
فلما انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة، وكان ابن الاشرف حديث عهد بعرس.
فوثب.
فأخذت امرأته بناحية ملحفته فقالت: أين تذهب ؟ إنك رجل محارب، ولا ينزل مثلك في مثل هذه الساعة.
قال: إنما هو أخى أبو نائلة.
والله لو وجدني نائما ما أيقظني.
ثم ضرب بيده الملحفة فنزل وهو يقول: لو دعى الفتى لطعنة لاجابا ثم نزل إليهم فحياهم، وتحدثوا ساعة، ثم انبسط إليهم، فقالوا: ويحك يا ابن الاشرف ! هل لك أن نمشي إلى شرج العجوز (1) فنتحدث فيه بقية ليلتنا ؟ فقال: نعم.
فخرجوا يتمشون.
فلما توجهوا قبل الشرج أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال: ويحك يا ابن الاشرف !
ما أطيب عطرك هذا.
ثم مشى ساعة فعاد بمثلها.
حتى إذا اطمأن إليه أخذ بقرون رأسه وقال لاصحابه: اقتلوا عدو الله ! فضربوه بأسيافهم.
فالتفت عليهم فلم تغن شيئا.
يعنى رد بعضها بعضا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا (2) كان في سيفى وهو يشبه الخنجر، فانتزعته فوضعته في سرته، ثم تحاملت عليه فغططته، أي غيبته فيه، حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو الله صيحة ما بقى أطم من
__________
(1) في هامش ق " شرج العجوز موضع أنيس يجتمعون فيه.
مغرب.
وفى حاشية ه مثل ذلك، وزاد: في القاموس: عين بقرب المدينة ".
(2) في هامش ق " غاله غولا أهلكه.
ومنه المغول، وهو سكين يكون السوط علاقا له.
ومنه: فذكرت مغولا في سيفى.
مغرب ".
[ * ](1/274)
آطام اليهود إلا أوقدت عليه نار، وهذه عادة اليهود يوقدون النار بالليل عند الفزع.
قال ابن سنينة، يهودى من يهود بنى حارثة، إنى لاجد ريح دم بيثرب مسفوح.
وذكر في المغازى أنه كان بينه وبين ذلك الموضع مقدار فرسخ.
قال: وقد أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيف وهم يضربون كعبا فكلمه في رجله، أي جرحه، فلما فرغوا منه خرجوا يشتدون حتى أخذوا (1) على بنى أمية، ثم على بنى قريظة، ثم على بعاث.
حتى إذا كانوا بحرة العريض (2) وهذه أسماء المواضع - نزف الحارث الدم، يعنى كثر سيلان الدم من جراحته فعطفوا عليه، أي رحموه أو حملوه على أعناقهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أتوا البقيع
كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلى.
فلما سمع تكبيرهم عرف أنهم قتلوه.
ثم أتوا بصاحبهم الحارث بن أوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتفل على جرحه فلم يؤذه.
وأخبروه بخبر عدو الله، ثم رجعوا إلى أهلهم.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظفر تم به من رجال يهود فاقتلوه.
وإنما قال ذلك لئلا يتجمعوا في كل موضع التحدث بما جرى والتدبير فيه، وهذا من الحزم والسياسة.
__________
(1) ه " مروا ".
(2) بعاث موضع في نواحى المدينة (معجم البلدان 2: 223) ولم يذكر ياقوت حرة العريض.
[ * ](1/275)
قال: فخافت اليهود، ولم يخرج عظيم من عظمائهم، ولم ينطقوا بشئ، وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الاشرف.
وكان ابن سنينة من يهود بنى حارثة، وكان حليفا لحويصة بن مسعود.
وكان أخوه محيصة قد أسلم، فغدا محيصة على ابن سنينة فقتله.
فجعل حويصة يضرب محيصة، وكان أسن منه، ويقول: أي عدو الله ! قتلته.
أما والله لرب شحم في بطنك من ماله - لانه كان ينفق عليهما.
فقال محيصة: والله لو أمرنى بقتلك الذى أمرنى بقتله لقلتلك.
فقال له: لو أمرك محمد بقتلى لقتلتني ؟ قال: نعم.
قال حويصة: والله إن دينا يبلغ منك هذا الدين معجب.
فأسلم حويصة يومئذ وأنشأ محيصة يقول: يلوم ابن امى لو أمرت بقتله * لطبقت (1) دفراه بأبيض قاضب حسام كلون الملح أخلص صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرنى أنى قتلتك طائعا * ولو أن لى ما بين بصرى ومارب
ثم أعاد عليه هذا الحديث برواية جابر بن عبدالله رضى الله عنهما من وجه آخر.
368 - أن محمد بنم مسلمة هو الذى أتى ابن الاشرف فقال: يا كعب ! قد جئتك لحاجة.
قال: مرحبا بحاجتك.
قال: جئتك أستسلفك تمرا.
قال: ما بغيتكم (2) إلى مسألة التمر ؟ وإنما قال ذلك
__________
(1) ب " لطعت " خطأ.
(2) ه " بغيتك " وفى هامش ق " وفى بعض النسخ: وما بغيتكم يا آل مسلمة من التمر ".
[ * ](1/276)
لانهم كانوا يجدون في الجاهلية ألف وسق فقال محمد: إن هذا الرجل لم يدع عندنا شيئا وأصحابه.
وأراد به لم (71 ب) يدع عندنا شيئا مما كان يضرنا (1) من أمور الجاهلية أو شيئا من الشرك أو شيئا مما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا إلا هدانا إليه.
قال كعب: الحمد لله الذى أراك النصرة (2) فانظر حاجتك، ولكن لابد من رهن.
قال: أرهنك درعى، قال: لعلها درع أبيك الزغباء ؟ قال: نعم، قال: فأت بمن أحببته وخذ حاجتك، قال: فإنى آتيك في خمر الليل.
أي في ظلمة الليل، والخمر ما وراك.
فإنى أكره أن يرى الناس أنى أطلبك أو آتيك في حاجة أو أنى احتجت الحديث، إلى أن نزل إلى محمد وآنسه شيئا وحادثه، ثم أدخل يده في رأسه، وكان جعدا فقال: ما أطيب دهنك.
قال: إن شئت أرسلت إليك منه.
ثم عاد الثانية، فقال: قد تركت يا محمد أنت
وأصحابك هذا، يعنى الدهن.
فاما أن خلل أصابعه في رأسه ضرب بالخنجر سرته، الحديث.
فقد أخبره أنه يأتيه ليستسلفه تمرا ثم قتله.
ولم يك ذلك غدرا.
فتبين أنه لا بأس بمثله والله الموفق.
__________
(1) ه " نصرنا " خطأ.
وقوله: مما كان يضرنا إلى الشرك " ساقط من ط.
(2) ق " البصيرة " ط " البصرة ".
[ * ](1/277)
45 [ باب الامان على الشرط ] 369 - قال: وإذا أمن المسلمون رجلا على أن يدلهم على كذا ولا يخونهم، فإن خانهم فهم في حل من قتله، فخرج عليهم من مدينته أو حصنه على ذلك حتى صار في أيديهم، ثم خانهم، أولم يدلهم، فاستبانت لهم خيانته فقد برئت منه الذمة (1) وصار الرأى فيه إلى الامام إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئا.
لان الشرط هكذا جرى بينهم.
فقال عليه السلام: " المسلمون عند شروطهم ".
وقال عمر رضى الله عنه: الشرط أملك.
أي يجب الوفاء به.
ولانه كان مباح الدم، علقوا حرمة دمه بالدلالة وترك الخيانة، وتعليق أسباب التحريم بالشرط صحيح كالطلاق والعتاق، فان انعدم الشرط بقى حل دمه على ما كان.
ولان النبذ بعد الامان والاعادة إلى مأمنه إنما كان معتبرا للتحرز عن الغدر، وبالتصريح بالشرط قد انتفى معنى الغدر.
370 - واستدل عليه بحديث موسى بن جبير قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكتيبة أربعة عشر يوما - يعنى حصنا من
حصون خيبر - وكان (2) آخر حصونهم.
فلما أيقنوا بالهلكة سألوا
__________
(1) ب " ذمته ".
(2) ق، ب " وكانت ".
[ * ](1/278)
النبي صلى الله عليه وسلم الصلح.
فأرسل إلى ابن أبى الحقيق (1): انزل فأكملك، فقال: نعم، فصالحه على حقن دمائهم ويخرجون من خيبر وأرضها، ويخلون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال أو أراض.
وعلى الصفراء والبيضاء والحلقة.
وعلى البز إلا ثوب على ظهر إنسان.
قال: وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتوني شيئا.
فصالحوه على ذلك.
ثم كتم ابن أبى الحقيق آنية منفضة ومالا كثيرا.
كان في مسك (2) الجمل عند كنانة ابن أبى الحقيق.
وهذه كانت أنواعا من الحلى كانوا يعيرونها أهل مكة، ربما قدم القادم من (72 آ) قريش فيستعيرها شهرا للعرس، يكون فيهم.
فكان ذلك يكون عند الاكابر فالاكابر من آل أبى الحقيق.
حتى ذكر في المغازى أنه ضاع منها شئ مرة بمكة.
فغرم من ضاع على يده قيمة ذلك عشرة آلاف دينار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الآنية والاموال التى خرجتم بها من المدينة حين أجليتكم ؟ فقالوا: ذهبت في الحرب يا أبا القاسم.
إنما كنا نمسكها لمثل يومنا هذا، فلا والله ما بقى عندنا منها شئ.
وحلفوا على ذلك.
فقال: أفرأيتم إن وجدته عندكم أقتلكم ؟ قالوا: نعم.
__________
(1) ب " ابن أبى الحصين " خطأ.
(2) في هامش ق " المسك الجلد.
والجمع مسوك كفلس وفلوس.
مصباح ".
[ * ](1/279)
وفى رواية قال لكنانة وربيعة ابني أبى الحقيق: برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما.
قال: نعم.
قال: فكل ما أخذت من أموالكم فهو حلال لى ولا ذمة لكما ؟ قالا: نعم.
فأشهد عليهما أبا بكر وعمر وعليا والزبير وعشرة من يهود.
فقام يهودى إلى كنانة فقال: إن كان عندك أو تعلم علمه فأعلمه لتأمن على دمك، فو الله ليطلعن عليه، فقد اطلع على غير ذلك مما لم يعلمه أحد، فزبره (1) ابن أبى الحقيق، فتنحى اليهودي فقعد، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما الزبير بن العوام أن يعذبهما ويستأصل ما عندهما، فعذب كنانة حتى أجافه (2) فلم يعترف بشئ.
ويحتمل أن يكون هذا قبل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وإن كان بعد ذلك فيحتمل أنه فعل ذلك على سبيل السياسة ليظهر الامر ويتم الزجر في حق غيره عن مثل هذا التلبيس.
قال: فاعترف ربيعة بن أبى الحقيق فقال: قد رأيت كنانة يطوف كل غداة بهذه الخربة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حتى حفرها واستخرج منها ذلك الكنز.
وفى رواية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام ابن أبى الحقيق، وكان رجلا ضعيفا مختلط العقل، قال: ليس لى علم
__________
(1) في هامش ق " الزبر الزجر والمنع.
من باب طلب.
مغرب ".
[ * ] (2) في ه وحدها زيادة " أجافه أي جره جائفة ".
[ * ](1/280)
غير أنى كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة، فإن كان شيئا دفنه فهو فيها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الخربة فحفر فوجد ذلك الكنز، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع كنانة بن أبى الحقيق إلى محمد بن مسلمة ليقتله بأخيه محمود بن مسلمه، فقد كان هو الذى دلى على محمود الرحى.
وإنما استحل دماءهما وسبى ذراريهما لمكان الشرط الذى جرى بينه وبينهما، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت تحت كنانة، ومعها ابنة عمها، لم يسب من أهل خيبر غيرهما.
وكان قد وعد دحية الكلبى من سبى خيبر.
فسأله أن يعطيه صفية فأعطاه مكانها ابنة عمها.
وأمسك صفية لنفسه، وهى عروس بحدثان (1) ما دخلت على زوجها.
وذكر في المغازى أنها كانت رأت في منامها في بعض تلك الليالى أن القمر وقع في حجرها من السماء.
فلما أصبحت قصت رؤياها على كنانة (72 ب)، فلطمها لطمة على وجهها (2) وقال: أتريدين أن تكوني زوجة محمد ؟ ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يذهب بها إلى رحله.
فمر بها وسط القتلى.
فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ذهبت بجارية حديثة (3) السن إلى القتلى.
لقد ذهبت منك الرحمة.
فاعتذر بلال وقال: يا رسول الله، ما مررت بها إلا إرادة أن ترى مصارع قومها ولم أدر أنك تكره يا رسول الله.
وذكر في المغازى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فتزوجها.
فأمر أم أيمن أن تصلحها له.
فبنى بها في الطريق قبل أن ينتهى إلى المدينة.
وكانت
__________
(1) حدثان الامر بالكسر أوله وابتداؤه (قاموس).
(2) في هامش ق " على وجهها.
نسخة ".
(3) ه " حدثه ".
[ * ](1/281)
لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسبب ذلك ما روى أنه لما قرب بعيرها لتركب بعد ما بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يركبها بنفسه فأمرها أن تضع رجلها على فخذه وتركب فوضعت ركبتها على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعظمت وضع رجلها على ركبته، وإن كان بأمره.
فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها، وبعد ما قدموا المدينة دخلت عائشة متنكرة مع النساء منزلها لتراها.
فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من نساء عشيرتها.
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بين من دخل من النساء، ولم يذكر لها شيئا حتى عادت إلى منزلها.
ثم جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف رأيت صفية ؟ فقالت: ما رأيت شيئا غير ابنة يهودى بين يهوديات، ولكني سمعت أنك تحبها.
فقال: لا تقولي يا عائشة.
فانى لم أر في وجهها كبوة حين عرضت عليها الاسلام.
ثم روى أنه كان إذا اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم معها في موضع يخاطبها: يا ابنة اليهودي.
فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: إذا قلن لك هذا فقولي: من منكن مثلى ؟ أبى نبى وعمى نبى وزوجي نبى.
فانها كانت من أولاد هارون عليه السلام.
فلما قالت ذلك لهن قالت عائشة رضى الله عنها: ليس هذا من كيسك يا ابنة اليهودي.
ومن جوز التنفيل بعد الاصابة استدل باعطاء النبي صلى الله عليه وسلم دحية ابنة عم صفية.
ولكن تأويل ذلك ما قال محمد:
371 - إن الكتيبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا فلذلك أعطاه الجارية واستدل من جوز المعاملة بما ذكر في هذا الحديث في بعض الطرق أنهم قالوا: يا محمد، نحن أرباب الاموال ونحن أعلم بها، فلا تخرجنا.
عاملنا على النصف.
وتأويل ذلك لابي حنيفة رحمه الله قد بيناه في أول كتاب المزارعة والله الموفق.
[ * ](1/282)
46 [ باب الامان ] (1) 372 - قال: وإذا نادى المسلمون أهل الحرب بالامان فهم آمنون جميعا إذا سمعوا أصواتهم (73 آ) بأى لسان نادوهم به العربية والفارسية والرومية والقبطية في ذلك سواء.
لحديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فإنه كتب إلى جنوده بالعراق: إنكم إذا قلتم: لا تخف، أو مترسى، أو لا تذهل (2) فهو آمن، فإن الله تعالى يعرف الالسنة، والمعنى ما أشار إليه، فإن الامان التزام الكف عن التعرض لهم بالقتل والسبي حقا لله تعالى، والله لا يغرب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه خافية ثم فيما يرجع إلى المعاملات يعتبر حصول المقصود بالكلام من غير أن يختص ذلك بلغة.
وإنما اعتبر ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في العبادات حيث لم يجوزا التكبير والقراءة بالفارسية، لان تمام الاسلام (3) في وجوب مراعاة النص لفظا ومعنى.
وهذا لا يوجد في المعاملات.
وإذا كان الايمان يصح بأى لسان كان إذا حصل به ما هو المقصود وهو الاقرار والتصديق فالامان أولى.
وكذلك التسمية على الذبيحة تصح بأى لسان كان لحصول
المقصود.
فالامان أوسع من ذلك كله.
__________
(1) في ه وحدها " باب ألفاظ الامان ".
(2) أي لا تخف.
(3) كذا في ه وحدها.
وفى ق، ط، ب، " تمام الابتلاء في..".
[ * ](1/283)
373 - وإن نادوهم بلسان لا يعرفه أهل الحرب، وذلك معروف للمسلمين، فهم آمنون أيضا.
لان معرفتهم لذلك حقيقة أمر باطن لا يمكن تعليق الحكم به، فتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه وهو إسماعهم كلمة الامان.
وهذا أصل كبير في الفقه.
ولهذا شرطنا الاسماع حتى إذا كانوا بالبعد منهم على وجه يعلم أنهم لم يسمعوا فانه لا يكون ذلك أمانا، لان هذا ظاهر يمكن الوقوف عليه، فيمكن تعليق الحكم بحقيقته.
ثم لعله كان فيهم ترجمان يعرف معنى نداء المسلمين فيوقفهم على ذلك.
فلو لم يثبت الامان به كان نوع غدر من المسلمين.
والتحرز عن صورة الغدر واجب.
يوضح الفرق أنهم إذا لم يفهموا فانما كان ذلك بمعنى من المسلمين حيث نادوهم بلغة لا يعرفونها، فلا ببطل به حكم الامان في حقهم.
374 - فأما إذا كانوا بالبعد من المسلمين بحيث لا يسمعون كلامهم.
فانهم لم يقفوا على مقالة المسلمين لمعنى من جهتهم وهو أنهم لم يقربوا من المسلمين فلهذا.
لا يثبت حكم الامان لهم.
375 - قال: وإذا قال المسلمون للحربى أنت آمن، أو لا تخف أو لا بأس عليك، أو كلمة تشبه هذا فهو كله أمان.
لانه إنما يحاطب الخائف بمثل هذه العبارات لازالة الخوف عادة.
وإنما يزول عنه الخوف بثبوت الامان.
وكل مسلم يملك إنشاء الامان له فيجعل بهذا اللفظ منشئا، كمن يقول لعبده: أعتقك، أو أنت حر، يجعل منشئا عتقه بما وصفه.(1/284)
376 - ثم ذكر أمان مختلط العقل إذا كان يعقل الاسلام ويصفه وهو في ذلك بمنزلة الصبى الذى يعقل كما في أصل الايمان.
وقد بينا الخلاف في أمان الصبى فكذلك مختلط العقل (73 ب).
377 - فإن كان لا يعقل الاسلام ولا يصفه لا يجوز أمانه.
لانه بمنزلة الصبى الذى لا يعقل.
وإن كان عاقلا في أمر معيشته إلا أنه بالغ لا يصف الاسلام ولا يعقله فهذا بمنزلة المرتد، والمرتد لا يجوز أمانه، بخلاف الصبى فانه مسلم تبعا لابويه أو لاحدهما.
وإن كان لا يصف الاسلام ولا يعقله فإذا كان بحيث يعقل الامان صح أمانه عند محمد.
378 - قال: وإن أمر أمير العسكر رجلا من أهل الذمة أن يؤمنهم، أو أمره بذلك رجل من المسلمين فأمنهم فهو جائز.
لان الامير يملك مباشرة الامان بنفسه، فيملك الذمي بعد أمره إياه بذلك.
وهذا لان أمان الذمي إنما لا يصح لتهمة ميله إليهم اعتقادا، ويزول ذلك إذا أمره المسلم به.
ويتبين (1) بأمر المسلم إياه أن في أمانه معنى النظر للمسلمين، وهذا بخلاف ما إذا أمره بالقتال، لانه بأمره إياه بالقتال لا يتعين معنى الخيرية في الامان، فلو تعين ذلك إنما يتعين برأى الكافر وهو متهم في ذلك، فإذا أمره بالامان يتعين بهذا الامر معنى الخيرية في الامان برأى المسلم ولا تهمة في ذلك.
ثم المسألة على وجهين: إما أن يقول له أمنتكم أو يقول: قل لهم إن فلانا المسلم يؤمنكم (2).
وكل وجه من ذلك على وجهين: إما أن يقول الذمي لهم: قد أمنتكم، أو يقول: إن فلانا المسلم قد أمنكم.
فأما إذا قال له المسلم أمنهم،
__________
(1) ه " وتبين ذلك بأمر ".
(2) ق " إن فلانا يؤمنكم " وفى الهامش " إن فلانا المسلم يؤمنكم.
نسخة ".
[ * ](1/285)
فسواء قال لهم أمنتكم أو أمنكم فلان، فهم آمنون.
لانه صار مالكا للامان بهذا الامر، فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر، والمسلم إذا قال لهم: أمنتكم أو أمنكم فلان كانوا آمنين في الوجهين، لانه أضاف الامان إلى من يملك إنشاءه، فيكون ذلك إخبارا منه بأمان صحيح، فيجعل في حكم الانشاء لرفع الغدر.
فان كان المسلم قال له قل لهم إن فلانا أمنكم، فان كان على هذا الوجه فهم آمنون، لانه جعله رسولا إليهم، وقد أدى الرسالة على وجهها.
فيكون هذا بمنزلة مالو كتب إليهم كتاب الامان، وبعث به على يده.
فإذا بلغهم كانوا آمنين.
وإن قال لهم: أمنتكم.
فهذا باطل لانه خالف ما أمر به، لانه أمر بتبليغ الرسالة، وهذا لا يتضمن تمليك الامان منه.
فإذا قال: أمنتكم فهذا ليس بتبليغ للرسالة ولكنه إنشاء عقد منه مضاف إلى نفسه، وهو ليس من أهله فيكون باطلا.
379 - قال: والاسير في دار الحرب إذا أمنهم لا يصح أمانه (74 آ) على غيره من المسلمين.
لان أمانه لا يقع بصفة النظر منه للمسلمين بل لنفسه، حتى يتخلص منهم.
ولان الاسير خائف على نفسه.
وإنما يؤمن غيره من يكون آمنا في نفسه.
ولانهم آمنون منه لكونه مقهورا في أيديهم.
فعقده يكون على الغير ابتداء، وقلما تخلو دارهم عن أسير.
فلو صححنا أمانه انسد باب القتال علينا.
فانهم كلما حزبهم خوف أمروا الاسير حتى يؤمنهم.
والقول بهذا فاسد.
إلا أنه فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم فينبغي أن يفى لهم كما يفون له، ولا يسرق شيئا من أموالهم لانه غير متهم في حق نفسه.
وقد شرط أن يفى لهم فيكون بمنزلة المستأمن في دارهم.(1/286)
380 - وإن كان في أيديهم عبد مسلم أو أمة مسلمة لم ينبغ (1) له أن يعرض لهم في ذلك.
لانهم لو أسلموا عليه كان سالما لهم، فحكم هذا وحكم سائر أموالهم سواء.
381 - ولكن لا بأس بأن يأخذ ما وجد في أيديهم من أسير حر مسلم أو ذمى أو مكاتب أو أم ولد أو مدين لمسلم أو ذمى.
لان هؤلاء لا يجرى عليهم السبى.
ألا ترى أنهم لو أسلموا عليه لم يكن لهم، فهم ظالمون في إمساكهم، وهو بالامان ما التزم تقريرهم على الظلم، فكان له أن يزيل ظلمهم بالسرقة أو الغصب حتى يحرجهم، وإنما يلزمه أن يراعى بالعهد ما يجوز إعطاء العهد عليه.
ولا يجوز إعطاء الامان على ترك هؤلاء في أيديهم بعد التمكن من أخذهم منهم.
382 - ولو حصل المستأمنون في عسكر المسلمين غير ممتنعين منهم فبدا للامير أن ينبذ إليهم فعليه أن يلحقهم بمأمنهم.
فإن أبوا أن يخرجوا وقالوا: تكون مع ذرارينا ونسائنا الذين أسرتموهم فإنه ينبغى للامير أن يتقدم إليهم في ذلك على سبيل الاعذار والانذار، ويؤجلهم إلى وقت يتيسر عليهم اللحوق بمأمنهم في ذلك الوقت، ولا يرهقهم
في الاجل كيلا يؤدى إلى الاضرار بهم، ويقول: إن لحقتم بمأمنكم إلى أجل كذا أو إلا فأنتم ذمة نضع عليكم الخراج ولا ندعكم ترجعون إلى مأمنكم بعد ذلك، فإن لم يخرجوا حتى مضت المدة كان ذلك دليل الرضا
__________
(1) ه " لم يتسع " ق، ب " لم ينبغى ".
[ * ](1/287)
منهم بأن يكونوا ذمة فيكونوا (1) بمنزله قبول عقد الذمة نصا بمنزلة المستأمنين في دارنا (2) إذا أطالوا المقام.
383 - وإن خاف أمير العسكر إن لقى المسلمون عدوهم أن يغيروا (3) على عسكرهم، أو خاف أن يقتلوا المسلمين ليلا، فإنه يأمرهم بأن يلحقوا (74 ب) بمأمنهم، ويوقت لهم في ذلك وقتا، كما بينا، نظرا منه للمسلمين، ثم يأمرهم في كل ليلة، حتى يمضى ذلك الوقت، أن يجمعوا في موضع فيحرسوا.
لان الخوف منهم يزداد بالتقدم إليهم في الخروج ومفارقة النساء والذراري، والتوقيت كان نظرا منه لهم، فينبغي أن ينظر للمسلمين كما ينظر لهم، وطريق النظر هذا.
فإن مضى ذلك الوقت فصاروا ذمة أمر بهم (4) أن يجمعوا في موضع كل ليلة ويجعل عليهم حراسا حتى يخرجوا إلى دار الاسلام.
لان الامن لم يقع من جانبهم، وإن جعلهم ذمة بمضي الوقت، بل ازداد الخوف بما ألزمهم من صغار الجزية.
إلا أن الخوف يكون بالليل غالبا فيجعل عليهم حراسا كل ليلة، فإذا أصبح المسلمون خلوا سبيلهم في العسكر ليكونوا عند ذراريهم ونسائهم.
__________
(1) ه " فيكون ".
(2) ه " ديارنا ".
(3) ه " أن يغيرهم ".
(4) ه " أمرهم ".
[ * ](1/288)
384 - وكذلك إذا حصر (1) المسلمون العدو جمعهم في موضع وجعل عليهم حراسا.
لان الخوف يزداد منهم التقاء الصفين، ويحتاج المسلمون إلى أن يأمنوا من جانبهم ليتفرغوا لقتال العدو.
وذلك إنما يحصل إذا جعل عليهم حراسا يحرسونهم.
فإن لم يقدروا على أن يحرسهم إلا بأجر استأجر الامام قوما يحرسونهم من الغنيمة.
لان في هذا الاستئجار منفعة للغانمين.
فهو نظير الاستئجار على حفظ الغنائم، أو على حفظ منفعة الغانمين.
فان قيل: في هذا الحفظ معنى الجهاد فكيف يجوز الاستئجار عليه ؟ قلنا: لا كذلك.
فالقوم ذمة للمسلمين غير محاربين لهم.
فلا يكون حفظهم جهادا، ولكن يخاف من جانبهم أن يغيروا على غنائم المسلمين وأمتعتهم.
فلا فرق بين الاستئجار على حفظ الغنائم وبين الاستئجار على حفظ هؤلاء ومنعهم من أخذ الغنائم وقتل المسلمين.
385 - ولو أن مسلما من أهل العسكر في منعتهم أشار إلى مشرك في حصن أو منعة لهم أن تعال، أو أشار إلى أهل الحصن أن افتحوا الباب، أو أشار إلى السماء، فظن المشركون أن ذلك أمان، ففعلوا ما أمرهم به، وقد كان هذا الذى صنع معروفا بين المسلمين وبين
أهل الحرب من أهل تلك الدار أنهم إذا صنعوا كان أمانا، ولم يكن ذلك معروفا، فهو أمان جائز بمنزلة قوله قد أمنتكم.
__________
(1) ط، ه " حاصر " وفى هامش ق " حاصر.
نسخة ".
م - 19 السير الكبير [ * ](1/289)
لان أمر الامان مبنى على التوسع.
والتحرز عما يشبه الغدر واجب.
فإذا كان معروفا بينهم فالثابت بالعرف كالثابت بالنص.
فلو لم يجعل أمانا كان غدرا.
وإذا لم يكن معروفا فقد اقترن به من دلالة الحال (75 آ) ما يكون مثل العرف أو أقوى منه، وهو امتثالهم أمره وما أشار عليهم به، فهو من أبين الدلائل على المسالة.
ألا ترى أنهم لو قالوا لهم: اخرجوا حتى تهدموا هذا الحصن فخرجوا كانوا آمنين ؟.
386 - ثم استدل عليه بحديث عمر رضى الله عنه: أيما رجل من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك.
فأتاه، فهو آمن.
وتأويل هذا أنه إذا لم يفهم قوله: إن جئت قتلتك أو لم يسمع.
فأما إذا علم ذلك وسمعه وجاءه مع ذلك فهو فئ، لان دلالة الحال والعرف يسقط اعتباره إذا صرح بخلافه.
ألا ترى أن لو قال: تعالى إن كنت تريد القتال أو إن كنت رجلا، أو تعالى حتى تبصر ما أفعله معك، فانه لا يشكل على أحد أن هذا كلام تهديد لا كلام أمان.
فأما قوله: تعالى مطلقا فكلام موافقة.
وكذلك إشارته بالاصابع إلى السماء فيه بيان أن أعطيتك ذمة إله السماء، أو أنت آمن منى بحق رب السماء.
فهو بمنزلة قوله أمنتك.
387 - ولو أن عسكر المسلمين في دار الحرب وجدوا رجلا
أو امرأة، فقال حين وجدوه: جئت أطلب الامان.
فإن لم يكن لهم علم به (1) حتى هجموا عليه فهو فئ ولا يصدق في ذلك.
لان الظاهر يكذبه فيما يقول.
فانه كان مختفيا منهم إلى أن هجموا عليه.
وإنما يليق هذا بحال من يأتيهم مغيرا لا مستأمنا.
فالظاهر أنه يحتال بهذه الحيلة بعدما وقع في الشبكة فلا يصدق.
__________
(1) ب، ق " فان لم يكن علم بهم " [ * ](1/290)
388 - وإن كان ممتنعا في موضع لا يقدر عليه المسلمون، وهم يسمعون كلامه إن تكلم، فأرادوه ليقتلوه، فلما رأى ذلك لم يتكلم، ولكنه أقبل فوضع يده في أيديهم، فهو فئ، وللامام أن يقتله، ولا يقبل قوله إني جئت أطلب الامان.
لانه حين أراد المسلمون أسره أو قتله كان متمكنا على أن ينادى بالامان فيعلم أيؤمنون أم لا.
وقد كان ممتنعا في ذلك الموضع، فحين ترك النداء بالامان فهو الذى لم ينظر لنفسه بعد التمكن.
فالظاهر أنه أقبل رادا لقصد المسلمين، فحين لم يتمكن من ذلك احتال بهذه الحيلة.
389 - وإن لم يعرض (1) له المسلمون بقتل ولا أسر فأقبل إليهم حتى أتاهم فهو آمن.
لان إقباله إليهم دليل المسالمة، فهو بمنزلة النداء بالامان، بخلاف الاول.
فإقباله بعد قصد المسلمين دليل على أنه قصد المسالمة.
ألا ترى أن تجارهم هكذا يكون الحال بينهم وبين المسلمين يدخلون دار الاسلام من غير أن ينادوا لطلب (75 ب) الامان ؟ 390 - وإن كان في منعة حيث لا يسمع المسلمون كلامه
ولا يرونه، فانحط من ذلك الموضع ليس معه أحد ولا سلاح حتى أتى المسلمين، فلما كان حيث يسمعهم نادى بالامان، وهو في ذلك الموضع غير ممتنع من المسلمين، فهو آمن.
لانه أتى بما في وسعه من مفارقة المنعة والنداء بالامان إذا كان بحيث
__________
(1) ه، ط " يتعرض ".
[ * ](1/291)
يسمع المسلمون، وألقى السلاح، فالظاهر أنه جاء طالبا للامان، فهو آمن أمنوا أو لم يؤمنوا، لان الشرع أمن مثله.
قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } (1) وقال تعالى: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } (2).
391 - وكذلك لو كان معه السلاح إلا أنه ليس عليه هيئة رجل يريد القتال.
لانه ربما استصحب السلاح ليبيعه في عسكر المسلمين، أو خاف ضياعه إن خلفه عندهم، فاستصحبه ضنة (3) منه لسلاحه.
392 - وإن كان أقبل سالا سيفه مادا رمحه نحو المسلمين، فلما كان في موضع لا يكون ممتنعا منهم نادى الامان، فهو فئ.
لان الظاهر من حاله أنه أقبل مقاتلا.
والحاصل أن البناء على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقته جائز.
وغالب الرأى يجوز تحكيمه فما لا يمكن معرفة حقيقته، وإن كان يرجع إلى إباحة الدم.
ألا ترى أنه لو رأى إنسانا يدخل بيته ليلا ولا يدرى أنه سارق أو هارب من اللصوص فانه بحكم حاله: فان كان عليه سيما اللصوص أو كان معه آخر يجمع متاعه فلا بأس بأن يقتلهما قبل أن يدنوا منه، وإن كان عليه سيما أهل الخير فعليه أن يؤويه ولا يسعه أن يرمى إليه.
والدليل على جواز تحكيم السيماء (4) قوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } (5) والدليل على جراز الرجوع إى ؟ ؟ دلالة الحال قوله تعالى: { ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة } (6).
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(2) سورة الانفال، 8، الآية 61.
(3) ق " ضنا ".
(4) ه " التحكيم بالسيماء ".
(5) سورة الرحمن، 55، الآية 41.
(6) سورة التوبة، 9، الآية 46.
[ * ](1/292)
393 - ولو أن عسكرا نزل ليلا في أرض الحرب فجاء مشرك على الطريق لا يعدو على (1) غيره حتى لقي أول مسالح (2) المسلمين فسألهم الامان، إلا أنه في ذلك الموضع غير ممتنع، كان آمنا.
لانه لاتى بما في وسعه.
والظاهر أنه إذا صار بحيث يسمع المسلمين لا يكون ممتنعا منهم، والنداء بالامان في موضع لا يسمع المسلمين لا يكون مفيدا شيئا، فلا معنى لاشتراط.
وذكر في المغازى أن محمد بن مسلمة كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليالى حين كان محاصرا لبنى قريظة.
فخرج رجلان ووجههما نحوه.
فلما وصلا إليه قال: ما الذى جاء بكما ؟ قالا: جئنا بالامان (76 آ).
فخلى سبيلهما وقال: اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام ولم يوقف على أثرهما بعد ذلك.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعاتبه على ذلك.
394 - ولو وجدوا رجلا عليه سلاحه في مؤخر العسكر أو عن يمينه أو عن شماله يعارض العسكر، فلما بصروا به دعا إلى الامان، كان فيئا، وللامير أن يقتله.
لان الظاهر من حاله أنه جاء متجسسا، أو جاء على قصد أن يبيت بعض المسلمين.
وقد بينا أنه يؤخذ في مثل هذا بغالب الظن والرأى.
395 - وإن أشكل حاله ليس فيه أمر يستدل به على أنه مستأمن ولا يستدل به على أنه غير مستأمن، ولم يقع في القلوب
__________
(1) ه، ط " إلى " وفى هامش ق " إلى.
نسخة ".
(2) في هامش ق " المسلحة الجماعة.
مغرب " قلت: في القاموس: المسلحة بالفتح الثغر، والقوم ذوو سلاح.
[ * ](1/293)
ترجيح أحد الجانبين من حاله، فإنه ينبغى للامير أن يأخذه فيخرجه إلى دار الاسلام ويجعله ذمة.
لان عند تحقق المعارضة وانعدام الترجيح يجب الاخذ بالاحتياط، ومن الاحتياط أن لا يقتله ولا يجعله فيئا لاحتمال أنه جاء مستأمنا، وأن لا يرده إلى مأمنه لاحتمال أنه جاء مغير، فلا يبطل (1) حكم حرمته بالمحتمل ولا يجوز إراقة دمه به أيضا.
فيبقى حرا محتبسا في دارنا على التأبيد.
فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه، وإن أبى وضع عليه الخراج.
وكذلك القوم من أهل الحرب يريدون دخول دار الاسلام ولا يقدرون على أن ينادوا بالامان إلا في موضع لا يكونون فيه ممتنعين.
فنادوا بالامان حين انتهوا إلى ذلك المكان، فهم آمنون.
لانهم أتوا بما في وسعهم.
396 - ولو كانوا أهل منعة جاءوا فاستأمنوا، فإن شاء المسلمون أمنوهم، وإن شاءوا لم يؤمنوهم.
لان أهل المنعة في دارنا كهم في دار الحرب أو في حصونهم، لكونهم ممتنعين.
397 - ولو كانوا مستأمنين كان للمسلمين أن ينبذوا إليهم إذا
__________
(1) ه وحدها " ويبطل ".
[ * ](1/294)
كانوا في منعتهم.
فيكون لهم أيضا أن يمتنعوا من إعطاء الامان لهم بطريق الاولى.
فأما غير الممتنعين لو كانوا مستأمنين لم يجز نبذ الامان بيننا وبينهم حتى نلحقهم بمأمنهم.
فكذلك إذا جاءوا طالبين الامان حتى صاروا غير ممتنعين منا، إلا أن يكون أمير المسلمين تقدم على أهل تلك الدار من أهل الحرب انه لا أمان لكم عندنا، فلا يخرجن أحد منكم إلينا.
فإذا علموا بذلك فلا أمان لهم.
ومن جاء يطلب الامان فهو فئ، لانه أعذر إليهم بما صنع.
وقد قال الله تعالى { وقد قدمت إليكم بالوعيد } (1).
ثم الحاصل (76 ب) أنه من فارق المنعة عند الاستئمان فانه يكون آمنا عادة، والعادة تجعل حكما إذا لم يوجد التصريح بخلافه، فأما عند وجود التصريح بخلافه يسقط اعتباره، كمقدم المائدة بين يدى إنسان إذا قال: لا تأكل.
398 - ولو وجد المسلمون حربيا في دار الاسلام فقال: دخلت
بأمان، لم يصدق.
لانه صار مأخوذا مقهورا بمنعه الدار، فهو متهم فيما يدعى من الامان، وقول المتهم لا يكون حجة.
أرأيت لو أخذه واحد من المسلمين واسترقه ثم قال: كنت دخلت بأمان أكان مصدقا في ذلك ؟ 399 - ولو قال رجل من المسلمين أنا أمنته لم يصدق بذلك أيضا.
لانه أخبر بما لا يملك إنشاءه، وقد ثبت حق جماعة المسلمين في منعه
__________
(1) سورة ق، 50، الآية 28.
[ * ](1/295)
من الرجوع إلى دار الحرب واسترقاقه.
وقول الواحد في إبطال الحق الثابت بجماعة المسلمين غير مقبول.
400 - فإن شهد بذلك رجلان مسلمان غير المخبر أنه أمنه فهو آمن.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
ولا شهادة فيه للذى يقول: أنا أمنته، لانه يخبر عن فعل نفسه، فيكون دعوى لا شهادة فيه لغير المسلمين، لانها تقوم على إبطال حق المسلمين.
401 - وكذلك لو قال: أنا رسول الملك إلى الخليفة لم يصدق وكان فيئا.
لان هذا منه دعوى الامان.
فان الرسول آمن من الجانبين.
هكذا جرى الرسم في الجاهلية والاسلام.
فان أمر الصلح أو القتال لا يلتئم إلا بالرسول، ولابد من أن يكون الرسول آمنا ليتمكن من أداء الرسالة.
فلما تكلم قوم بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان لا ينبغى أن يتكلم به قال: " لو لا أنك رسول لقتلتك ".
فتبين بهذا ان الرسول آمن،
ولكن بمجرد دعواه لا يصدق أنه رسول.
402 - فإنه أخرج كتابا يشبه أن يكون كتاب ملكهم وادعى أنه كتاب ملكهم فهو آمن حتى يبلغ الرسالة.
وإنما يثبت الامان له ههنا بغالب الظن.
فلعل الكتاب مفتعل.
ولكن لما لم يكن في وسعه فوق هذا لانه لا يجد مسلمين في دار الحرب ليستصحبهما ليشهدا على أنه رسول من قبله يكتفى منه بهذا الدليل.(1/296)
فكذلك فيما سبق ولو لم يصحبه دليل ولا كتاب فأخذه واحد من المسلمين في دار الاسلام فهو فئ لجماعة المسلمين عند أبى حنيفة، لانه تمكن من أخذه بقوة المسلمين، فهو بمنزلة من وجد في عسكر المسلمين في دار الحرب فأخذه واحد، إلا أن هناك يجب (77 آ) فيه الخمس.
فيه رواية واحدة.
وفى هذا الفصل روايتان عند أبى حنيفة في إيجاب الخمس، وعند محمد هو فئ لمن أخذه، لانه مباح في دارنا.
فمن سبقت يده إليه يكون محرزا له مختصا بملكه كالصيد والحشيش.
وفى إيجاب الخمس فيه روايتان عن محمد أيضا.
والحاصل أن عند أبى حنيفة رحمه الله يصير هو مقهورا لمنعه الدار مأخذوا، حتى لو أسلم قبل أن يوجد كان فيئا، بمنزلة الاسير يسلم بعد الاخذ قبل أن يضرب الامام عليه الرق.
وعند محمد رحمه الله لا يصير مأخوذا بالدار ما لم يأخذه مسلم، حتى لو أسلم كان حرا.
لان الاحراز في الحقيقة يكون باليد لا بالدار، ولهذا لو رجع إلى داره قبل أن يؤخذ كان حر الاصل، فإذا أخذه إنسان كان مختصا بملكه، لاختصاصه بإحرازه.
فإن قال: إنى أمنته قبل أن آخذه فهو آمن عند محمد، لانه في الظاهر عبد له.
وقد أقر بحريته، ولا تهمة في
إقراره.
وينبغى في قياس قول أبى حنيفة رحمه الله أن لا يكون مصدقا في ذلك، لان الحق ثابت فيه لجماعة المسلمين.
وهو غير مصدق في إبطال حقهم، وإن لم يؤخذ بعد ما أسلم في دارنا حتى رجع إلى دار الحرب فهو حر لا سبيل عليه.
أما على قول محمد فلا إشكال فيه، لانه لو لم يرجع كان حرا، فكذلك إذا رجع.
وعند أبى حنيفة فلانه وإن صار مأخذوا لا يصير رقيقا ما لم يضرب عليه الرق.
فإذا رجع إلى دار الحرب فقد انعدم عرضية الاسترقاق فيه، وتقرر حريته في حال إسلامه، فلا يسترق بعد ذلك.
بمنزلة الاسير يسلم وينقلب إلى عسكر أهل الحرب، ثم يؤخذ بعد ذلك.
فكما يكون حرا هناك لا سبيل عليه فكذلك ههنا.
403 - وإذا مر عسكر المسلمين بمدينة من مدائن أهل الحرب(1/297)
ولم يكن لهم بهم طاقة، فأرادوا أن ينفذوا إلى غيرهم، قال لهم أهل المدينة: أعطونا أن لا تمروا في هذا الطريق على أن لا تقتل منكم أحدا ولا نأسره.
فإن كان ذلك خيرا للمسلمين فلا بأس بأن يعطوهم ذلك ويأخذوا في طريق آخر، وإن كان أبعد وأشق.
لانهم لا يأمنون أن يتبعوهم فيقتلوا الواحد والاثنين ممن في أخريات العسكر.
وهذه الموادعة تؤمنهم من ذلك.
وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموادعة يوم الحدبية من الشرط ما هو أعظم من هذا.
فان أهل مكة شرطوا عليه أن يرد عليهم كل من أتى مسلما منهم.
ووفى لهم بهذا الشرط، إلى أن انتسخ.
لانه كان فيه نظر للمسلمين لما كان بين أهل مكة وأهل خيبر
من المواطأة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى أحد الفريقين آغار الفريق الآخر على المدينة.
فوادع أهل مكة حتى يأمن من جانبهم إذا توجه إلى خيبر.
فعرفنا (77 ب) أن مثل هذا الشرط لا بأس بقوله إذا كان فيه نظر للمسلمين.
404 - فإن قبلوه ثم بدالهم أن يمروا في ذلك الطريق فلينبذوا إليهم ويعلموهم بذلك.
لان هذا بمنزلة الموادعة والامان، فيجب الوفاء به والتحرز عن الغدر إلى أن ينبذوا إليهم.
405 - فإن قال المسلمون: إن ممرنا في هذا الطريق لا يضرهم شيئا قيل لهم: لعل لهم في هذا الطريق زروعا ونخلا وكلا يحتاجون(1/298)
إليه، ولا يحبون أن ترعوه، أو لعل لهم مواشي ولا يحبون أن تعرضوا لها.
فإن قالوا: نمر ولا نتعرض لشئ من ذلك فإن هذا أسهل الطرق، قيل لهم: وإن لم تأخذوا شيئا، فلعل القوم يكرهون أن تروا حصونهم ومواشيهم.
وتعرفوا الطريق إليهم، فتأتوهم مرة أخرى.
أو تروا لهم عورة من هذا الموضع فتغزوهم مرة أخرى بما رأيتم من العورة.
فليس لكم إلا الوفاء بما قلتم أو النبذ إليهم عملا بقوله تعالى { فانبذ إليهم على سواء } (1).
406 - ولو قال أهل المدينة: أعطونا (2) على أن لا تشربوا من ماء نهرنا فأعطيناهم ذلك، فإن كان شربنا يضرهم في مائهم، أو لا نعلم
أيضر ذلك بمائهم أو لا فينبغي أن نفى لهم بذلك.
وإن كنا نتيقن أن ذلك لا يضر بماء نهرهم فلا بأس بأن نشرب من ذلك النهر ونسقى الدواب بغير علمهم.
لان الشرط كان مفيدا يجب مراعاته.
ومن اشتراط مثله يكون متعنتا (3) لا طالب منفعة أو دافع (4) ضرر.
فإذا علمنا أنه لا يضر بهم فهذا شرط غير مفيد فيلغى.
وإذا كان يضر بهم فهذا شرط مفيد لهم فيجب اعتباره، بمنزلة ما يجرى من الشروط بين المسلمين في المعاملات، وإن كان لا يدرى أيضر
__________
(1) سورة الانفال.
(2) ط " اعطونا العهد ".
(3) ه " مفتنا " خطأ.
(4) ه " دفع ضرر ".
[ * ](1/299)
بهم أم لا، فالظاهر أنهم لا يشترطون ذلك إلا لمنفعة لهم أو دفع ضرر عنهم، لان العاقل لا يشتغل بما لا يفيده شيئا، والبناء على الظاهر واجب ما لم يتبين خلافه.
407 - فإذا احتاج المسلمون إلى ذلك الماء لانفسم أو داوبهم فلينبذوا إليهم ويخبروهم أنهم فاعلون، ثم يشربون.
وكذلك الكلا هو بمنزلة الماء.
لانه غير مملوك لهم.
وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس شركة عامة في الكلا والماء فلا تنقطع (1) شركتهم بهذا الشرط إذا عملوا أنه لا فائدة لهم فيه.
408 - فأما الزرع والاشجار والثمار إذا أعطوهم أن لا يتعرضوا لذلك فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لشئ من ذلك أضر بأهل الحرب
أو لم يضر بهم.
لان هذا ملك (78 آ) لهم، ونفوذ تصرف الانسان في ملكه بحكم الملك لا باعتبار المنفعة والضرر، إلا أن يضطر المسلمون إليه فلنبذوا (2) إليهم ثم يأخذوا ويعلفوا.
لان بهذا الشرط لا تنعدم صفة الاباحة الثابتة في أملاكهم، ولكن التحرز عن الغدر واجب.
وقد حصل ذلك بالنبذ إليهم.
409 - وإن قالوا أعطونا على أن لا تحرقوا زروعنا (3) ولا كلانا فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأكل منه ونعلف دوابنا.
__________
(1) ه " ينقطع ".
(2) ه " فينبذوا ".
(3) ق " زرعنا ".
[ * ](1/300)
لان الوفاء إنما يلزمنا بقدر ما قبلنا من الشروط.
وذلك الاحراق والاكل ليس من الاحراق في شئ.
ألا ترى أن يحل للانسان أن يأكل ملكه ولا يحل له أن يحرقه ؟ وأهل الشام يكرهون الاحراق في أموال أهل الحرب ولا يكرهون التناول.
ولعلهم إنما شرطوا هذا الشرط لما في الاحراق من الفساد.
والاصل أن ما ثبت بالشرط نصا لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه.
410 - وإن سألونا (1) أن لا تخرب قراهم فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأخذ ما وجدنا في قراهم من متاع أو علف أو طعام أو غيره مما ليس ببناء.
لان التخريب يكون في الابنية.
أما أخذ الامتعة فمن الحفظة (2) لا من التخريب.
ولعلهم كرهوا ذلك لما في التخريب من صورة الافساد.
ولكن
كل ما كان في قراهم من خشب أو غيره فليس ينبغى أن نعرض له.
وما كان من خشب موضوع ليس في بناء فلا بأس بأن نأخذه ونوقد به، لان هذا انتفاع وليس بتخريب.
وإنما الذى لا يحل بعد هذا الشرط هدم شئ من مساكنهم أو تخريبه بالنار، لان ذلك فوق التخريب.
فيثبت حكم الشرط فيه بطريق الاولى.
وإن وجدنا بابا مغلقا ولم نقدر على فتحه فلا ينبغى أن نقلعه قبل النبذ إليهم، لان هذا تخريب.
بخلاف ما إذا قدرنا على فتح الباب، فان فتح الباب ليس بتخريب، فان لم نقدر على فتحه إلا بكسر الغلق (3) فليس ينبغى لنا أن نفعل، لان هذا تخريب، والقليل والكثير فيما التزمناه بالشرط نصا سواء.
__________
(1) ه " سألوا منا ".
(2) ه، ط، ب، " الحفظ " وفى ق وحدها " الحفظة " وفى هامش ق: " الحفيظة الغضب والحمية وكذلك بالكسر.
وقد أحفظته أي أغصبته فغصب.
جوهرى ".
(3) في هامش ق " الغلق بالتحريك المغلاق، وهو ما يغلق ويفتح بالمفتاح.
مغرب ".
[ * ](1/301)
411 - وإن شرطوا علينا أن لا نأكل من زروعهم ولا نعلف منها فليس ينبغى لنا أن نحرق شيئا منها.
لان الاحراق فوق الاكل في تفويت مقصودهم بالشرط، فيثبت الحكم فيه بالطريق الاولى، بمنزلة التنصيص على التأفيف في حق الابوين يكون تنصيصا على حرمة الشتم بالطريق الاولى.
وهذا بخلاف ما إذا شرطوا بأن لا يحرق، لان الاكل دون التحريق.
فان الاحراق إفساد العين، والاكل انتفاع بالعين.
فإذا شرطوا أن لا يأكل فمقصودهم بقاء العين لهم، وذلك ينعدم
بالاحراق كما ينعدم بالاكل.
وإذا شرطوا أن لا نحرق فمقصودهم (78 ب) أن لا يفسد شئ من ملكهم، وليس في الاكل فساد.
412 - فإن اشترطوا أن لا نحرق لهم زروعا (1) فقدرنا على أن نغرقها بالماء، فليس لنا أن نفعل ذلك.
لان هذا في معنى المنصوص من كل وجه، فان كل واحد منهما إفساد.
413 - وكذلك لو شرطوا أن لا نغرقها فليس ينبغى لنا أن نحرقها (2).
414 - وكذلك لو شرطوا أن لا نغرق سفينتهم (3) ولا نحرقها لم ينبغ لنا أن نذهب بها.
لان مقصودهم من هذا بقاء عينها لهم لينتفعوا بها، وذلك يفوت إذا ذهبنا بها.
__________
(1) ه " زرعا ".
(2) قوله: وكذلك لو شرطوا إلى نحرقها ساقط من ب.
(3) ق " سفنهم ".
[ * ](1/302)
أرأيت لو شرطوا أن لا نحرق منازلهم ولا نغرقها أكان ينبغى لنا أن ننقضها فنذهب بخشبها وأبوابها ؟ هذا لا ينبغى.
لانهم إنما أرادوا أن لا نستهلكها عليهم.
إلا أنه تعذر عليهم التنصيص على جميع أنواع الاستهلاك، وذكروا ما هو الظاهر من أسبابه وهو التغريق والاحراق.
415 - ولو شرطوا أن لا نقتل أسراهم إذا أصبناهم، فلا بأس بأن نأسرهم ويكونوا فيئا ولا نقتلهم.
لان الاسر (1) ليس في معنى ما شرطوا من القتل.
فان القتل نقص البنية.
ألا ترى أنه لا بأس بأن نأسر نساءهم وذراريهم وإن كان لا يحل قتلهم شرعا ؟ 416 - وإن شرطوا أن لا نأسر منهم أحدا فليس ينبغى لنا أن نأسرهم ونقتلهم.
لان القتل أشد من الاسر.
ومقصودهم بهذا الشرط يفوت بالقتل كما يفوت بالاسر.
إلا أن تظهر الخيانة منهم بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا ولا يأسروا منا أحدا، ثم فعلوا ذلك، فحينئذ يكون هذا منهم نقصا للعهد، فلا بأس بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم كما كان لنا ذلك قبل العهد.
ألا ترى أن أهل مكة لما صاروا ناقضين للعهد لمساعدة بنى بكر على بنى خزاعة
__________
(1) ه " الاسرى ".
[ * ](1/303)
وكانوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نبذ إليهم فإنه سأل الله تعالى أن يعمى (1) عليهم الاخبار حتى يأتيهم بغتة ؟ فإن فعل ذلك منهم رجل واحد لم يكن ذلك بنقض منهم لعهدهم.
لان فعل الواحد لا يشتهر في جماعتهم عادة، وليس هذا الواحد ولاية نقض العهد على جماعتهم.
ألا ترى أن مسلما لو ارتكب ما لا يحل في دينه لم يكن ذلك نقضا منه لايمانه، ولو أن ذميا فعل ذلك لم يكن نقضا منه لامانه.
فإن فعل ذلك جماعتهم أو أميرهم أو واحد منهم على وجه المحاربة (2) وهم يعلمون بذلك فلا يغيرونه (3) فحينئذ يكون نقضا للعهد منهم.
لان فعل أميرهم يشتهر لا محالة، والواحد منهم إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا
عليه فكأنهم أمروه بذلك، على ما قيل إن السفيه إذا لم ينه (4) مأمور.
ومباشرة ذلك الفعل على سبيل المجاهرة بمنزلة النبذ للعهد الذى جرى بيننا وبينهم.
417 - فإن شرطوا (5) على أن لا نقتل أسراهم على أن لا يقتلوا أسرانا، وأسروا منا أسارى فلم يقتلوهم فلا بأس بأن نأسر نحن أيضا أسراهم ولا نقتلهم.
لان هذا ليس نقض (79 آ) العهد منهم، فانهم التزموا بأن لا يقتلوا وما التزموا بأن لا يأسروا، وإذا بقى العهد نعاملهم كما يعاملوننا جزاء وفاقا.
__________
(1) في هامش ق " عمى عليه الخبر أي خفى.
مجاز من عمى البصر.
مغرب ".
(2) في هامش ق " على المجاهرة.
نسخة ".
(3) في هامش ق " وقوله في السير: وهم يعملونه بذلك فلا يغيرونه ويروى بالعين غير معجمة من التعبير اللوم.
والاول أصح.
مغرب ".
(4) ه " ينهه ".
(5) ه " اشترطوا ".
[ * ](1/304)
418 - وإذا دخل حربى دارنا بأمان فقتل مسلما عمدا أو خطأ أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين.
فبعث بها إلى المشركين أو زنى بمسلمة أو ذمية كرها، أو سرق، فليس يكون شئ منها نقضا (1) منه للعهد.
إلا على قول مالك، فانه يقول يصير ناقضا للعهد بما صنع.
لانه حين دخل إلينا بأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئا من ذلك، فإذا فعله كان ناقضا للعهد بمباشرته (2)، مما يخالف موجب (3) عقده، ولو لم يجعله ناقض العهد بهذا رجع إلى الاستخفاف بالمسلمين.
ولكنا نقول: لو فعل المسلم شيئا من هذا ليس بناقض لايمانه، فإذا فعله المستأمن لا يكون ناقضا لامانه.
419 - والاصل فيه حديث حاطب بن أبى بلتعه فإنه كتب إلى أهل مكة أن محمدا يغزوكم فخذوا حذركم.
ولذلك قصة.
وفيه نزل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء } (4) فقد سماه الله تعالى مؤمنا مع ما فعله.
وكذلك أبو لبابة بن عبد المنذر حين استشاره بنو قريظة أنهم إن نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يصنع بهم، فأمر يده على حلقه يخبرهم أنه يضرب أعناقهم.
وفيه نزل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } الآية.
__________
(1) ق " بنقض ".
(2) ه، ق " لمباشرته ".
(3) ب " ما يخالف من موجب ".
(4) سورة الممتحنة، 60، الآية 1.
م - 20 السير الكبير [ * ](1/305)
فعرفنا أن هذا لا يكون نقضا للايمان من المسلم، فكذلك لا يكون نقضا للامان من المستأمن، ولكنه إن قتل إنسانا عمدا يقتل به قصاصا لانه التزم حقوق العباد فيما يرجع إلى المعاملات.
420 - وإن قذف مسلما يضرب الحد.
لان فيه حق العبد أيضا، فانه مشروع صيانة لعرضه.
ولهذا تسمع خصومته في الحد، ولا تستوفى إلا به.
فأما ما أصاب من الاسباب الموجبة للحد حقا لله تعالى، كالزنا والسرقة، فالخلاف فيه معروف أنه لا يقام عليه ذلك
في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافا لابي يوسف.
421 - واستدل بصحة مذهبه هنا، بأن المسلمين اختلفوا في أهل الذمة هل تقام عليهم هذه الحدود.
فقال أهل المدينة: لا يقام عليهم ذلك، ولكن يرفعون إلى حاكمهم ليقيمها عليهم.
وذلك مروى عن على رضى الله عنه.
فاختلافهم في ذلك في حق الذمي، يكون اتفاقا منهم في حق المستأمن أنه لا يقام عليه.
ونحن لم نأخذ بذلك في حق الذمي لورود النص.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم اليهودي، ولكن ورود النص في الذمي، لا يوجب ذلك الحكم في حق المستأمن.
لان الذمي ملتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، فانه من أهل دارنا، فيقام عليهم الحدود كلها إلا حد الخمر، فانه لا يعتقد حرمة شربه، وبدون اعتقاد الحرمة لا يتقرر السبب.
فأما المستأمن فلا يصير من أهل دارنا ولا التزم شيئا من أحكامنا، وإنما دخل دارنا ليقضى حاجته، ثم يرجع إلى داره.
ولهذا لا يمنع من الرجوع.(1/306)
422 - ولا يجب القصاص على الذمي بقتل المستأمن كما لا يجب على المسلم.
فلهذا لا يقام عليه ما كان محض حق الله.
ولكنه يؤمر برد ما أخذ من أموال الناس.
ويغرم ما استهلك من ذلك ويكون عليه صداق التى أصابها.
لان الوطئ في غير الملك لا يخلو عن حدا أو مهر، فإذا لم يجب عليه الحد يلزمه المهر، لان ذلك من حقها.
ويوجع عقوبة على ما صنع ويجلس في السجن على قد ما يرى
الامام.
ويعذر لان في لفظ التعذير ما ينبئ عن معنى التطهير والتعظيم.
قال الله تعالى: { وتعزروه وتوقروه } (1) والكافر ليس من أهله فلهذا قال: يوجع عقوبة بما صنع من إساءة الادب والله الموفق.
__________
(1) سورة الفتح، 48، الآية 9.(1/307)
47 [ باب ما يصدق المستأمن فيه من أهل ] الحرب وما لا يصدق 423 - وإذا انتهى عسكر المسلمين إلى مطمورة (1) أو حصن فأقاموا عليها فناداهم قوم من أهلها أمنونا على أهلينا ومتاعنا على أن نفتحها لكم، ففعلوا ذلك وفتحوها لهم ؟ فالقوم الذين سألوا ذلك آمنون وإن لم يذكروا أنفسهم بشئ.
لان النون والالف أو النون والياء في قوله أمنونا كناية لاضافة المتكلم ما يتكلم به إلى نفسه.
وكلمة على للشرط قال الله تعالى { يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا } (2).
وقال تعالى { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } (3) أي بشرط ذلك.
فعرفنا أن تقرير كلامهم نحن آمنون مع أهلينا وأموالنا إن فتحناها لكم، وقد أعطاهم المسلمون ذلك فإذا فتحوا كانوا آمنين.
424 - فإذا خرج (4) أهل المطمورة، فقال الذين أومنوا: هذا
__________
(1) في هامش ق " بنى فلان مطمورة إذا بنى دارا في الار أو بيتا.
وهذا الذى أراده محمد رحمه الله في السير.
مغرب " قلت: وفى القاموس: المطمورة: الحفيرة تحت الارض.
(2) سورة الممتحنة، 60، الآية 12.
(3) سورة الاعراف، 7، الآية 105.
(4) ق " فإذا أخرج ".
[ * ](1/308)
متاعنا لجيد المتاع، وهؤلاء أهلونا لفرهة (1) السبى فالقياس في هذا أنهم لا يصدقون إلا ببينة تقوم على ذلك من المسلمين العدول.
لان حق المسلمين قد يثبت في جميع ما وجد (2) في المطمورة لظهور سببه، فهم يدعون المانع بعدما ظهر الاستحقاق بسببه فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة، ولا حجة على المسلمين إلا بشهادة العدول من المسلمين، بمنزلة مالو (3) ادعى أحد المتبايعين شرط خيار لم يقبل ذلك منه إلا بحجة.
425 - قال: ولكن العمل (80 آ) بالقياس يتعذر في هذا الموضع، فإنهم لا يجدون في المطمورة قبل فتح الباب عدولا مسلمين ليشهدوهم على مالهم من المتاع والاهل.
وكما يسقط اعتبار صفة الذكورة في الشهادة فيما لا يطلع عليه الرجال لاجل الضرورة يسقط اعتبار أصل الشهادة هنا لاجل الضرورة، ويجب العمل فيه بالاستحسان فنقول: إن صدقهم السبى الذين ادعوهم بما قالوا فهم مصدقون وهم آمنون معهم.
لاننهم كانوا في المطمورة جملة.
فإذا تصادقوا على شئ فعلينا أن نأخذ بذلك.
لانه لا طريق لنا إلى الوقوف على حقيقة ما كان بينهم، فيبنى الحكم على ما يظهر بتصادقهم.
__________
(1) في هامش ق " الفرهة: جمع فاره.
وهو الكيس كصحبة في صاحب.
مغرب ".
(2) ه، ق، ط " وجدوا ".
(3) ه " ماذا ".
[ * ](1/309)
وإن كذبوهم بما قالوا كانوا فيئا.
لانه عند التكذيب لم يثبت السبب الذى بنى الامان عليه ودعوى المستأمنين (1)، لا يكون مقبولا على ما كان معهم في المطمورة أنهم أهلونا إلا بحجة، فان مجرد خبرهم لا يصلح حجة في ذلك، لانه عارضوهم بالتكذيب بخلاف الاول.
فالسبب هناك قد ثبت فيما بينهم بالتصادق، وعليه بنينا (2) الامان فلهذا كانوا آمنين.
246 - فإن كانوا حين كذبهم هؤلاء ادعوا غيرهم أنهم أهلونا لم يصدقوا على ذلك.
لانه يتناقض (3) كلامهم، والمناقض لا قول له.
ولانا إنما نقبل قولهم عند التصديق لنوع من الاستحسان، وهو الذى سبق إلى فهم كل أحد أنهم لا يتجاسرون على التصادق على الباطل في مثل هذه الحالة.
وهذا المعنى ينعدم عند التناقض في الدعوى.
فكان جميع من في المطمورة فيئا، إلا المستأمنين ومن صدقهم في الابتداء أنه من أهليهم.
427 - وإن ادعى بعض السبى رجلان منهم، فقال كل واحد منهما: هذا من أهلى.
فإن صدق المدعى به أحدهما فهو من أهله وكان آمنا، وإن كذبهما جميعا كان فيئا.
لان السبب الذى رتبنا عليه الامان لم يثبت بينه وبين واحد منهما.
428 - وأهله امرأته وولده الذى كانوا في عياله من الصغار والكبار من النساء والرجال.
__________
(1) هامش ق " ودعوة المتأمنين.
نسخة ".
(2) ه " بيننا "، ق " يبتنى ".
(3) ه " يناقض "، قال تناقض ".
[ * ](1/310)
وفى القياس أهله زوجته فقط.
لانه في العرف يقال لمن له زوجة متأهل، ولمن لا زوجة له غير متأهل.
وإن كان يقوله جماعة.
ولكنه استحسن فقال: اسم الاهل يتناول كل من يعوله الرجل في داره وينفق عليه.
ألا ترى في قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام (إن ابني من أهلى) (1) وقد استثنى الله الزوجة عن الاهل في قصة لوط عليه السلام.
قال تعالى { فأنجيناه وأهله إلا امرأته } (2) وفى قصة نوح { قلنا: احمل فيها من كل زوجين وأهلك (80 ب) إلا من سبق عليه القول } (3) يعنى زوجته.
فعرفنا أن اسم الاهل يتناول غير الزوجة.
ويقال فلان كثير الاهل إذا كان ينفق على جماعة.
وهذا لان بين الاهل والعيال مساواة في الاستعمال عرفا.
429 - فأما ابن له كبير هو معتزل عنه فليس من أهله.
وكذلك كل ابنة من بناته لها زوج وقد ضمها زوجها إليه فهى ليست من أهله.
لانها ليست في نفقته، والاهل من يكون في نفقته في داره، سواء كان من قرابته أو لم يكن من قرابته.
430 - فإذا تصادقوا على (4) ذلك كانوا آمنين، وأيهم ادعى ذلك وكذبه المستأمن أو ادعى المستأمن وكذبه المدعي فهو فئ.
__________
(1) سورة هود، 11، الآية 45.
(2) سورة النمل، 27، الآية 57.
(39 سورة هود، 11، الآية 40.
(4) ه " فإذ تصادقوا في قرابته على ذلك ".
[ * ](1/311)
فإن رجع المكذب منهما إلى تصديق صاحبه وقال: أوهمت (1) لم يلتفت إلى قوله.
لانه مناقض في كلام ولان حق المسلمين تقرر فيه بالتكذيب، فلا يبطل بمجرد رجوعه إلى التصديق.
431 - ولو قالوا آمنونا على أهل بيوتاتنا فالمسألة بحالها.
فأهل بيت كل واحد منهم قرابته من قبل أبيه الذين ينسبون إليه في بلادهم كما يكون في بلادنا أهل بيت أمير المؤمنين آل عباس، وأهل بيت على بن أبى طالب، وأهل بيت طلحة والزبير.
لانه ليس المراد بيت السكنى، وإنما المراد بيت النسب.
والانسان منسوب إلى قوم أبيه.
فعرفنا أن ذلك بيت نسبه وأن من يناسبه إلى أقص أب يعرفون به فهم أهل بيته.
432 - ولا يكون أم المستأمن ولا زوجته ولا أخواته (2) لامه ولا خالاته وأخواله من أهل بيته، وإن كانوا في عياله.
لانهم ينسبون إلى غير من ينسب هو إليه.
ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الاماء يكونون من أهل بيت الخلافة يصلحون لها ؟ 433 - وكذلك لو قال: آمنونى على آلى.
فالآل وأهل البيت في عرف الاستعمال سواء.
__________
(1) في هامش ق " الصحيح وهمت.
واوهمت يستعمل في الغلط في الحساب.
والمستعمل في الغلط في غير الحساب وهمت.
ولهذا يقال: هذا وهم من فلان ولا يقال هذا إيهام من فلان.
حصيرى ".
(2) ط، ه " اخوته ".
[ * ](1/312)
وكذلك لو قال: آمنونى على جنسي، لان الانسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه.
ألا ترى أن ابراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وإن كانت أمه قبطية.
وكذا اسماعيل كان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه هاجر.
434 - وإن قال: آمنونى على ذوى قرابتي، أو على أقربائي، أو على أنسابي (1).
فهذا في قياس قول أبى حنيفة رحمه الله على كل ذى رحم محرم.
قد بينا هذا في الوصايا في الزيادات.
إلا أنه يقع الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الوصية في فصلين.
أحدهما: أن على قول أبى حنيفة رحمه الله استحقاق الوصية للاقرب فالاقرب.
وها هنا يدخل في الامان كل ذى رحم محرم، والاقرب والابعد فيه سواء.
لان ذلك إيجاب بطريق الصلة، والانسان في الصلة يميز بين الاقرب والابعد ويرتب الابعد على الاقرب.
وهذا استنقاذ.
والانسان عند اكتساب سبب الاستنقاذ لا يرتب الابعد على الاقرب.
يوضحه أن في التسوية هناك إضرارا بالاقرب فانه ينتقض حقه ولا (81 آ) يجرز الاضرار بالاقرب لمزاحمة (2) الابعد.
وها هنا ليس في التسوية إضرار بالاقرب، لانه يثبت الامان له سواء ثبت للابعد معه أو لم يثبت.
والفصل الثاني: أن في الوصية لذوى قرابته لا يدخل ولده ووالده، وإن كانوا لا يرثونه لمعنى من المعاني.
وفى الامان يدخل ولده ووالده استحسانا،
والقياس فيهما سراء، لان اسم القرابة إنما يتناول من يتقرب إلى الغير بواسطة، فأما من يتصل به بغير واسطة فهو أقرب من أن ينسب إلى القرابة.
وأيد هذا
__________
(1) في هامش ق " أنسبائى.
نسخة ".
(2) ق " بمزاحة ".
[ * ](1/313)
أن الله سبحانه وتعالى عطف الاقربين على الوالدين فقال: { الوصية للوالدين والاقربين } (1) ولكنه استحسن وقال: 435 - مقصوده من طلب الامان لقرابته استنقاذهم للشفقة عليهم، وشفقته على سائر القرابات.
فلمعرفة المقصود أدخلناهم في الامان، ولانا إنما لا ندخلهم في هذا الاسم لانه يعد من الجفاء أن يقول الرجل لابيه هو قريبى.
وفى فصل الامان الجفاء في ترك استنقاذه أو طلب الامان لغيره أظهر.
فلو أدخلناهم في الاسم ها هنا يؤدى إلى تحقيق معن البر لا إلى الجفاء والعقوق.
فلهذا أدخلوا في الامان.
436 - قال: ولو استأمنوا على متاعهم ثم ادعوا جيد المتاع فإن كان ذلك المتاع أخذ من يد بعض أهل المطمورة وسئل عن ذلك المأخوذ منه، فإن صدقونم فه مصدقون، وإن كذبوهم كان فيئا.
لانا عرفنا كون اليد في هذه الامتعة له إن أن أخذ منه.
ولصاحب اليد قول فيما في يده، كما أن للمرء قولا معتبرا في نفسه.
وقد بينا في الاصل أنه يرجع إلى تصديق المدعى، فكذلك في المتاع يرجع إلى تصديق من كان في يده.
ولا يقال يده زائلة في الحال، لان سبب زوالها الاخذ على وجه الاغتنام.
وما ثبت في الامان لا يكون محل الداخل بهذه الصفة.
وهذا المعنى في النفوس موجود أيضا فقد صارت مأخوذة منهم بالاغتنام حكما، ومع ذلك اعتبر
تصديقهم فيها باعتبار الاصل.
437 - فإن ادعوا بعد هذا التكذيب متاعا آخر لم يصدقوا على ذلك.
__________
(1) سورة البقرة، 2، الآية 180.(1/314)
لان في دعواهم الاولى بيان أنه ليس لهم في المطمورة سوى ما ادعوا من المتاع، وطريق المفهوم الذى نعتبره في هذا الكتاب وكانوا متناقضين فيما يدعون بعد ذلك.
438 - وإن كذبهم من كان المتاع في يده وقال: هو متاعى، ثم صدقهم بعد ذلك لم يلتفت إلى هذا التصديق للتناقض، ولتقرر حكم الاغتنام فيه بالتكذيب، فيكون المتاع فيئا.
439 - وإن وجدنا المتاع في أيدى المستأمنين فقالوا: هو متاعنا الذى أمنتمونا عليه، فالقول فيه قولهم.
لان أصل اليد لهم، وهى شاهدة لهم من حيث الظاهر.
فيبنى الحكم عليه ما لم يعلم خلافه.
440 - وكل من جعل القول قوله فإن الامام يستحلفه.
لان أكثر (81 ب) ما فيه أنه أمين فيما يخبر.
فالقول قوله مع اليمين، فان تهمة الكذب شرعا إنما تنتفى باليمين.
ولا يستحلفه إلا بالله.
لقوله عليه الصلاة والسلام: " فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر ".
إلا أنه يغلظ عليه اليمين.
فإن كان نصرانيا استحلفه بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى،
وإن كان يهوديا استحلفه بالله الذى أنزل التوراة على موسى.(1/315)
لان انزجازه عن اليمين الكاذبة عند ذكر هذه الزيادة أظهر، وهو المقصود بالاستحلاف هاهنا.
قال: وإن كان مجوسيا استحلفه بالله الذى خلق النار.
لهذا المعنى أيضا.
وقد قال كثير من مشايخنا: لا يستحلف المجوسى إلا بالله.
لان في ذكر هذه الزيادة معنى تعظيم النار، والنار بمنزلة سائر المخلوقات من الجمادات، بخلاف ما سبق فهناك فيما يزيد معنى تعظيم الكتابين والرسولين وذلك يستقيم.
441 - فإن كانوا أمنوهم على أهليهم فقال: هذا من أهلى وصدقه المدعى ثم قال المدعى ليس من أهلى وقد كذبت، فالقول قول المدعي.
لانه استفاد الامن بادعائه الاول، فهو بالكلام الثاني يريد إبطال الامان الثابت له.
442 - وهو لا يصدق في ذلك لو لم يكن مناقضا (1) فكيف إذا كان مناقضا (1)، ولو رجع المدعى دون المدعى كان المدعى فيئا.
لانه أقر على نفسه بالرق للمسلمين، وبكونه من أهل المدعى لا يخرج من أن يكون مقبول الاقرار على نفسه.
إلا أن يكون المدعى ادعى أنه عبد أو أمة له وصدقه المدعى، ثم قال بعد ذلك: ليست بمملوك، لم يصدق وكان مملوكا له.
لان بتصديقه صار مملوكا له.
فلا يبقى له قول معتبر في إبطال ملكه بعد ذلك.
ومملوكه من أهله فانه يعوله وينفق عليه فيتناوله الامان.
__________
(1) ق " متناقضا ".
[ * ](1/316)
443 - ولو قال المدعى: ليس من أهلى، وليس بمملوك لى.
وكذبه المدعى فهو فئ.
لان المدعى أقر في ملكه بثبوت حق الغانمين وذلك إقرار منه على نفسه.
إلا أنه ليس للامير أن يقتله.
لانه صار آمنا عن القتل بتصادقهما في الابتداء أنه مملوك له، فبعد ذلك لو أبيح قتله إنما يباح بقول المدعى.
وقوله ليس بحجة على مملوكه في إباحة دمه.
444 - وإن لم يكن مناقضا، كما لو أقر عليه بالقصاص فكيف إذا كان مناقضا ؟ وإن تصادقا جميعا أنه ليس بمملوك له فللامير أنه يقتله إن كان رجلا إن شاء.
لان بقول المدعى انتفى ملكه بإقرار المدعى وثبت أنه لم يتناوله الامان، وهو غير متهم فيما يقربه على نفسه من إباحة دمه.
445 - كما لو أقر على نفسه بالقصاص كان إقراره صحيحا، حرا كان أو مملوكا.
ولو قال المدعى: هو ابني في عيالي، وصدقه المدعى وهو رجل، فاتهمهما الامير، فإنه يحلف المدعى.
فإن حلف كان حرا وإن لم يحلف كان فيئا.
لاقراره على نفسه بثبوت حق الغانمين فيه، فان النكول بمنزلة الاقرار.(1/317)
ولكنه لا يقتل.
لانه آمن من القتل بتصادقهما.
فلو جاز قتله بعد ذلك إنما يجوز بالنكول، والنكول لا يصلح حجة لاباحة القتل بدليل المدعى عليه بالقصاص في النفس إذا نكل عن اليمين، فإنه لا يقضى عليه بالقصاص، فهذا مثله.
قال عيسى رحمه الله (1): هذا غلط.
لان إباحة القتل هنا ليست باعتبار النكول بل باعتبار أصل الاباحة، فانه كان مباح الدم فبنكوله ينتفى المانع وهو الامان، فيكون هذا بمنزلة ما لو ادعى القاتل العفو على الولى وجحد الولى وخلف، فانه يستوفى القصاص ولا يكون هذا قتلا باليمين.
ولكن ما ذكره في الكتاب أصح، لان الاباحة التى كانت في الاصل قد ارتفعت بتصادقهما على أنه من أهل المدعى.
فلو جاز قتله بعد هذا كان ذلك بسبب نكوله.
وذلك لا يجوز لمافى النكول من الشبهة والاحتمال.
فقد يكون للتورع عن اليمين الكاذبة، وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة.
ولا يستحلف المدعى لان المقصود من الاستحلاف لم يحصل.
لانه لا قول له على ابنه فيما يرجع إلى استحقاق الرق وإباحة القتل.
والمقصود بالاستحلاف هذا.
446 - وإن قال الذى استأمن على متاعه: لمتاع هذا من متاعى (2) وليس ذلك في يد أحد، فإن كان قال هذا بعد ما صار في أيدى المسلمين لم يصدق على ذلك إلا ببينة عادلة من المسلمين.
__________
(1) في هامش ه " هو عيسى بن أبان ".
(2) ه " لمتاع هذا متاعى ".
[ * ](1/318)
لانه لما لم تعرف فيه يد لاحد فيما مضى وجب المصير إلى اليد الظاهرة في الحال، وهى للمسلمين موجبة الاستحقاق لهم.
فالمدعى يبطل حقا ظهر
سبب استحقاقه للمسلمين.
وقوله لا يكون حجة في ذلك فلابد من بينة عادلة من المسلمين.
447 - وإن قال ذلك قبل أن يصل المتاع إلى أيدى المسلمين فالقول قوله مع يمينه.
لان ما كان في المطمورة فيده إليه أقرب من يد المسلمين حين كان في المطمورة.
فكأنه كان في يده حين ادعى ذلك.
448 - وإن كان في يده ويد المسلمين جميعا فوصل ذلك إلى الامير وهم متعلقون به، فهو للمستأمن بعد ما يحلف.
لان يده كانت أقرب إليه باعتبار الاصل، وقد علمنا أن يد المسلمين يد مستحدثة فيه فمع بقاء الاصل لا يعتبر يد المسلمين فيه.
ألا ترى أنا لو علمنا أنهم أخذوه من المستأمن كان القول فيه قول المستأمن ؟ فهذا أولى.
449 - وكذلك إن وصل إلى الامير، وقوم من أهل المطمورة وقوم من المسلمين متعلقون به، وأهل المطمورة يقرون أنه للمستأمن، فالقول قولهم.
باعتبار أن اليد في الاصل كانت لهم فلا يعتبر يد المسلمين (82 ب) بتعلقهم به.
450 - فأما إذا وصلوا إلى الامير وهو في يد المسلمين خاصة.(1/319)
فقد عرفنا زوال اليد التى كانت في الاصل، ولا يدرى لمن كانت حقيقة: للمدعى كان، أو للمصدقين له، أو لغيرهم.
فلا يعتبر ذلك.
وإنما يعتبر ما هو معلوم في الحال، وهو في يد المسلمين، فلا يجوز
إزالتها إلا ببينة عدول من المسلمين.
451 - فإن شهد قوم من المسلمين أن الذين في أيديهم ذلك (1) أخذوه من المستأمنين، أو أقر الذين ذلك في أيديهم أنهم أخذوه من المستأمنين، أو أقروا أنهم أخذوه من قوم من أهل المطمورة، وأقر أولئك أنه للمستأمنين فهو رد عليهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
والثابت بالاقرار في حق المقر كذلك.
والاستحقاق للمسلمين الآن باعتبار يد الآخذين في بيان جهة الوصول إلى أيديهم.
فلهذا وجب رده على المستأمنين، ولو لم (2) يقر الذين أخذ ذلك من أيديهم، إلا بعدما أخذه المسلمون منهم.
فهذا أو ما لو أقروا به قبل الاخذ منهم سواء لانا قد علمنا أن أصل اليد لهم وتلك قائمة حكما لما وجب اعتبار تصادقهم مع المستأمنين فكان إقرارهم بعد الاخذ منهم بمنزلة إقرارهم قبله.
452 - فإن اقتسم المسلمون المتاع، أو بيع المتاع، ثم ادعى المستأمنون أن المتاع متاعهم، لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة تشهد أن أخذ منهم أم من قوم كانوا مقرين بالملك لهم قبل القسمة.
__________
(1) ساقطة في ه.
(2) ه " ولم ".
[ * ](1/320)
لان سبب الملك قديم لمن وقع في سهمه أو للمشترى، والملك لا يستحق بمجرد الظاهر بل بالحجة التامة.
وإنما الظاهر حجة لدفع الاستحقاق، وحاجة المستأمنين هنا إلى استحقاق الملك على الملاك فلابد من بينة تشهد بما ذكرنا.
453 - فإن أقر المسلمون الذين كانوا أخذوه إنما أخذوه من أيدى المسلمين، أو من أيدى قوم يقرون أنه للمستأمنين، لم يصدقوا على ذلك.
لانهم (1) لم يبق لهم في المتاع يد ولا ملك، فهم كسائر المسلمين في هذا الاقرار.
إلا أن يقع شئ من ذلك في سهم الذى أقر فيصدق على نفسه ويؤخذ منه فيرد على المستأمنين.
لان إقراره في ملك نفسه بمنزلة البينة في حقه أو أقوى، ولكن لا يعوض.
لان الاستحقاق كان بإقراره، وإقراره ليس بحجة على سائر الغانمين، فكان لما هو في حقهم متلفا نصيب نفسه، فلا يستحق التعويض من الغنيمة.
454 - فأما السبى فهم مصدقون أنهم من أهل المستأمنين وإن وقعوا في أيدى المسلمين، ما لم يقتسموا أو يباعوا، سواء كانوا في دار الحرب أو قد أخرجوا منها.
لان اعتبار يدهم وقولهم في أنفسهم لا يزول إلا بضرب الرق عليهم، وذلك بالقسمة أو البيع دون الاحراز.
ألا ترى أن للامام أن يقتلهم بعد الاحراز ؟
__________
(1) ه " لانه ".
م 21 السير الكبير [ * ](1/321)
(83 آ) وليس بعد ضرب الرق عليهم أن يقتلهم.
وكذلك له أن يمن عليهم فيجعلهم ذمة، وإذا فعل كذلك كانوا أحرار الاصل.
455 - فأما إذا اقتسموا أو بيعوا لم يصدقوا على ذلك.
لان الرق قد تقرر فيهم، فلا قول لهم بعد ذلك، ولا يد معتبرة في أنفسهم.
إلا أن يقوم لهم بينة من المسلمين أنهم تصادقوا مع المستأمنين
قبل القسمة والبيع أنهم من أهليهم، فحينئذ لا سبيل عليهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
456 - وكذلك في المتاع إذا قامت البينة على أنهم تصادقوا على ذلك قبل الاخذ من أيديهم.
وكأنه جعل الاخذ من أيديهم في المتاع بمنزلة ضرب الرق عليهم بالقسمة والبيع في نفوسهم، ولكن هذا إنما يستقيم في متاع لم يعلم أن أصل اليد فيه لمن كان.
457 - وإذا ثبت الاستحقاق بالبينة بهذه الصفة فإن كان مشتريا رجع بالثمن، وإن كان غازيا أصابه ذلك بالقسمة، عوض قيمته من بيت مال المسلمين وإن كانت الغنايم كلها قسمت.
لان نصيبه قد استحق، فيستوجب الرجوع بعوضه على الغانمين.
458 - والظاهر أنه يتعذر الرجوع عليهم لتفرقهم، فتكون(1/322)
هذه نائبة من نوائب المسلمين، ومال بيت المال معد لها.
ألا ترى أنه لو بقى من الغنيمة شئ يتعذر قسمته كجوهرة ونحوها يوضع ذلك في بيت المال، فكذلك إذا ظهر درك يجعل ذلك في بيت المال، لان الغرم مقابل بالغنم.
459 - وإن كان الذين شهدوا على هذا هم الذين اشتروا أو وقع المتاع في سهامهم، صدقوا على أنفسهم لاقرارهم.
ولا يصدقون على بيت المال، فلا يثبت لهم حق الرجوع بعوض ولا ثمن، فيؤخذ ما في أيديهم فيرد على المستأمنين، وتركوا يرجعون بذلك كله إلى دار الحرب، إلا الكراع (1) والسلاح والرقيق فإنها قد احتسبت في دارنا
حتى نفذ فيها القسمة والبيع.
وهذا الاحتباس لحق الشرع وحق جماعة المسلمين، حتى لا يتقوى أهل الحرب بذلك عليهم.
فلا يصدق الملاك في إبطال حق المسلمين.
وصار هذا بمنزلة ما لو وهبوه للمستأمنين أو باعوه منهم، فلا يمكنون من إدخاله دار الحرب، بخلاف ما إذ ثبت بالبينة من المسلمين، فان البينة حجة على المسلمين.
460 - ولو قال الذين أمنوا على أهليهم ومتاعهم: جميع ما في المطمورة أهلونا، وجميع ما فيها متاعنا، ونحن بطارقتها (2)، وصدقهم بذلك من فهم فهم مصدقون.
__________
(1) الكراع: اسم يجمع الخيل.
(2) البطارقة: جمع بطريق وهو السيد.
[ * ](1/323)
لان المعنى (83 ب) الذى لاجله وجب تصديقهم إذا ادعوا بعض ما فيها، وذلك المعنى موجود في الكل، لكن هذا إذا لم يعلم خلاف ذلك.
بأن كانوا قوما معروفين بأنهم رؤوس أهل المطمورة.
وأما إذا كان يعلم خلاف ذلك لا يصدقون.
لان التصديق هنا باعتبار نوع من الظاهر، ويسقط اعتبار ذلك إذا ظهر دليل الكذب.
461 - قال: ولا يدخل في المتاع نقد ولا تبر ولا حلى ولا جوهر.
لان المتاع.
وإن كان اسما لما يستمتع (1) به في الحقيقة ولكن الذهب والفضة والحلى اختصت باسم آخر وهو العين أو الجوهر، وذلك يمنع دخولها
في مطلق اسم المتاع.
ولان المتاع ما يكون مبتذلا في الاستمتاع به على وجه يعنى بالاستمتاع، وهذا لا يوجد في مثل هذه الاعيان لنفاستها.
ويدخل في المتاع ما سواها من الثياب والفرش والستور وجميع متاع البيت، وفى القياس لا يدخل في ذلك الاواني.
لان في عرف الاستعمال يعطف الاواني على الامتعة، والشئ لا يعطف على نفسه، والعطف دليل على أن الاواني غير الامتعة.
وفى الاستحسان الاواني التى ينتفع بها في البيوت تدخل في المتاع.
لان المفهوم عند الناس من مطلق اسم المتاع ما يستمتع به في البيوت، ويتأتى به السكنى والمقام في البيوت.
وهذا موجود في الاواني.
__________
(1) ه " يتمتع ".
[ * ](1/324)
ولهذا لا يدخل السلاح والكراع والسروج في ذلك.
لانه لا يستمتع بها في البيوت، وإنما يستمتع بها عند الركوب أو الحرب - وذلك ليس من السكنى في البيوت في شئ، وفلا يتناولها مطلق اسم المتاع، كما لا يتناول النقود والمصاغ والجواهر.
462 - وإن كانوا قالوا آمنونا على مالنا أو على جميع مالنا من مال، دخل ذلك كله أيضا.
لان اسم المال يعم ذلك كله باعتبار أنه متمول منتفع به، ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله لرجل دخل جميع ذلك، فكذلك في الامان.
وإنما يختص في النذر بالصدقة لفظ المال بمال الزكاة لنوع من الاستحسان، وهو اعتبار ما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه.
وهذا لا يوجد في الامان، بل هذا نظير الوصية، لان الوصية أخت الميراث، والارث يثبت في كل مال
فكذلك الوصية.
وها هنا إعطاء الامان على المال نظير اغتنام المال، فكما أن الاغتنام يثبت في كل مال فكذلك حكم الامان عند إعطائه بلفظ المال.
463 - وإن قالوا للمسلمين أمنوا أهلينا فقالوا: نعم قد أمناهم فهم فئ، وأهلوهم آمنون.
لانهم طلبوا الامان لاهليهم ولم يذكروا (84 آ) أنفسهم بشئ، صريحا ولا كناية ولا دلالة.
فالانسان لا يكون من أهل نفسه، وإنما أهله غيره.
لان المضاف غير المضاف إليه.
فان قيل: نحن نعلم قصدوا بهذا أمان أنفسهم أيضا من وجهين: أحدهما: أنهم طلبوا الامان إشفاقا عليه أهليهم، وشفقتهم على أنفسهم أظهر منه عليه أهليهم.(1/325)
والثانى: أنهم قصدوا بهذا استبقاء أهليهم، وبقاؤهم بمن يعولهم وينفق عليهم، وذلك أنفسهم.
قلنا: نعم هم قصدوا هذا، ولكن حرموا هذا المقصود حين خذلهم الله فلم يذكروا أنفسهم بشئ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
ثم بمجرد القصد لا يثبت لهم الامان، بل بإعطاء المسلمين إياهم الامان.
وإنما أعطوا أهليهم فقالوا: أمناهم ولم يقولوا أمناكم.
وقد حكى أن مثل هذه الحادثة وقع في زمن معاوية.
وكان الذى يسعى في طلب الامان للجماعة قد آذى المسلمين.
فقال معاوية رضى الله عنه: اللهم أغفله عن نفسه.
فطلب الامان لقومه وأهله ولم يذكر نفسه بشئ.
فأخذ وقتل.
ثم الانسان في مثل هذه الحالة قد يسعى في استنقاذ أهله من غير أن يقصد نفسه بذلك، إما لانقطاع طمعه بأنه لا يؤمن إن طلب ذلك لنفسه، أو لانه مل من نفسه لفرط الضجر.
فباعتبار المقصود الدليل مشترك، وباعتبار اللفظ
لا ذكر له.
ألا ترى أنهم لو قالوا: نضع أيدينا في أيديكم على أن يؤمنوا أبناءنا ونساءنا.
ففعل المسلمون ذلك، لم ندخلهم في الامان.
فان معنى كلامهم: أن نضع أيدينا في أيديكم لتفعلوا بنا ما شئتم فكذلك ما سبق.
فان قالوا: لم نخرج إليكم على أن نراوضكم (1) في الامان على أهلينا.
فقالوا لهم: اخرجوا.
فلما خرجوا أمنوا أهليهم.
فلا سبيل للمسلمين عليهم، لا باعتبار أنهم أمنوا أهليهم بل باعتبار أنهم حين أمروهم أن يخرجوا للمرواضة.
على الامان، فهذا أمان منهم لهم.
ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شئ كان عليهم أن يردوهم إلى مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشئ بخلاف الاول.
فهناك قالوا وهم في المطمورة: أمنوا أهلينا.
فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام، ثم خرجوا لا على طلب الامان فكانوا فيئا.
__________
(1) ه " نراضيكم ".
وفى هامش ق " وفلان يراوض فلانا على أمر كذا، أي يداريه ليدخله فيه.
مختار.
" [ * ](1/326)
464 - وإن قالوا أمنونا على ذرارينا فأمنوهم على ذلك، فهم آمنون وأولادهم، وأولاد أولادهم، وإن سفلوا من أولاد الرجال.
لان اسم الذرية يعم جميع ذلك.
فذرية المرء فرعه الذى هو متولد منه، وهو أصل لذريته.
ألا ترى أن الناس كلهم ذرية آدم ونوح صلوات الله عليهما قال سبحانه وتعالى { أولئك الذين أنعم الله (84 ب) عليهم من النبيين من ذرية آدم.
الآية } (1).
465 - قال: ولا يدخل أولاد البنات في ذلك.
هكذا قال ها هنا.
ووجهته أن أولاد البنات من ذرية آبائهم لا من ذرية قوم الام، ألا ترى أن أولاد الخلفاء من الاماء من ذرية آبائهم، كما قال المأمون: لا عيب للمرء فيما أن يكون له (2) أم من الروم أو سوداء عجماء (3) فانما أمهات الناس أوعية * مستودعات، وللانساب (4) آباء 466 - وذكر بعد هذا ما يدل على أنه يدخل أولاد البنات في ذلك.
ووجهته ما بينا أن الذرية اسم للفرع المتولد من الاصل.
والاب والام أصلان للولد.
ثم الام من ذرية أبيها.
فما يتولد منها يكون من ذريته أيضا.
ومعنى الاصلية والتولد في جانب الام أرجح، لان ماء الفحل يصير مستهلكا بحضانها في رحمها.
فانما يكون الولد متولدا منها بواسطة ماء الفحل.
فإذا جعل النافلة (5) من ذرية أبى أبيه، فكذلك يجعل من ذرية أبى أمه.
__________
(1) سورة مريم، 19، الآية 58.
(2) ه " لا عيب فيما أن يكون له ".
(3) هذا البيت ساقط في ب.
(4) في هامش ب " وللابناء.
نسخة أصح ".
(5) في هامش ق " ويقال لولد الولد نافلة.
مصباح ".
[ * ](1/327)
وفيه حكاية يحيى بن يعمر (1).
فإن الحجاج أمر به ذات يوم فأدخل عليه وهم بقتله.
فقال له: لتقرأن علي آية من كتاب الله تعالى نصا على أن العلوية ذرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لاقتلنك، ولا أريد قوله تعالى { ندع أبناءنا وأبناءكم } (2).
فتلا قوله تعالى { ومن ذريته داود وسليمان.
إلى أن قال: وزكريا ويحيى وعيسى } (3) ثم قال:
فعيسى من ذرية نوح من قبل الاب أو من قبل الام ؟ فبهت الحجاج ورده بجميل.
وقال: كأنى سمعت هذه الآية الآن (4).
467 - ولو قالوا: أمنونا على أولادنا.
فهذا على أولادهم لاصلابهم.
وأولاد أولادهم من قبل الرجال، وأما أولاد البنات فليسوا بأولادهم.
هكذا ذكر ها هنا.
وذكر الخصاف عن محمد رحمهما الله أنهم يدخلون في الامان أيضا.
لان اسم الاولاد يتناولهم من الوجه الذى قلنا.
وأيد ذلك قوله عليه السلام حين أخذ الحسن والحسين: " أولادنا أكبادنا ".
فأما على هذه الرواية نقول ذلك نوع من المجاز بدليل قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } (5) ومن كان ولدك حقيقة كنت أبا له حقيقة،
__________
(1) في هامش ق " يعمر (بضم الاول) وقيل بضم الميم.
حصري ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 61.
(3) سورة الانعام، 6، الآية 84.
(4) في هامش ق " وقال: كأنى سمعت هذه الآية الآن.
نسخة ".
وهذه الزيادة لا توجد في ب، أ، ق.
وثمة هامش آخر في ق فيه: " وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: لا يقوى الاحتجاج بهذه الآية.
فان عيسى عليه السلام لم يكن له أب، فاستحال إلى أبيه فانتسب إلى أمه، وجعل هو من ذرية من كانت أمه من ذريته.
أما هنا بخلافه.
حصيرى ".
(5) سورة الاحزاب، 33، الآية 40.
[ * ](1/328)
أو كان ذلك لاولاد فاطمة رضى الله عنها على الخصوص.
كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل الاولاد ينتمون إلى آبائهم، إلا أولاد فاطمة فانهم ينتسبون إلى، أنا أبوهم ".
ولكن هذا حديث شاذ، وهو مخالف للكتاب
كما تلونا.
468 - ولو استأمنوا على أولاد أولادهم دخل في ذلك أولاد البنات.
لان اسم ولد الولد حقيقة لمن ولده ولده وابنة ولده.
فما ولد لابنته يكون ولد ولده حقيقة، بخلاف الاول.
فقد ذكر هناك أولاده وهم في الحقيقة ولده هو، ومن حيث الحكم من يكون منسوبا إليه بالولادة وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات (1).
469 - ولو قال: أمنونا على موالينا.
ولهم موال وموالى (85 آ) موال، فكلهم آمنون استحسانا.
في القياس لا يدخل موالى الموالى، لان الاسم لمواليه حقيقة، ولموالى الموالى مجازا.
ألا ترى أنه يستقيم نفيه عنهم فيقال: هؤلاء ليسوا من مواليه ؟ ولهذا لا يدخلون في الوصية لمواليه، حتى لا يزاحمون مواليه.
ولكنه استحسن فقال: 470 - موالى الموالى ينسبون إليه بالولاء بواسطة الموالى فهم بمنزلة أولاد الاولاد مع الاولاد.
وفى الوصية يدخل موالى الموالى إذا لم يكن له موال، إلا عند وجود الفريقين
__________
(1) في هامش ق " فقال رضى الله عنه في الوصية والوقف: قال بعضهم: ولد البنت لا يناوله اسم الولد إن كانت الوصية باسم الولدان.
أما إذا كانت بلفظ الجمع يدخل ولد البنت.
وذكر بعضهم أنه لا يدخل.
وهو اختيار شمس الائمة السرخسى.
ولو أوصى لولد ولده يدخل ولد البنت عندهم جميعا.
حصيرى ".
[ * ](1/329)
لو أثبتنا المزاحمة انتقض نصيب الموالى، ولا يجوز إدخال النقصان على الاقرب بمزاحمة الابعد، وهذا لا يوجد في الامان، فسواء، دخل موالى الموالى أولم يدخلوا
كان الامان لمواليه بصفة واحدة، والظاهر أن مقصوده استنقاذ الفريقين.
ثم لا نقول بالجمع (1) بين الحقيقة والمجاز، ولكن هذا الاسم للموالي حقيقة، ولموالى الموالى أيضا صورة، ومجاز، فباعتبار هذه الصورة تتمكن شبهة (2) في حقهم.
والامان مبنى على التوسع حيث يثبت (3) بمجرد الاشارة صورة، فلان (4) يثبت بهذا اللفظ أولى.
وبه فارق الوصية.
471 - ولو قال: أمنونا على إخواننا ولهم إخوة وأخوات فهم آمنون.
قال الله تعالى { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء } (5) وفى الحقيقة هذه الصيغة للذكور، إلا أن من مذهب العرب عند اختلاط الذكور بالاناث تغليب الذكور وإطلاق علامة الذكور على الكل.
والمستعمل بهذه الصيغة بمنزلة الحقيقة.
نقول: فان كان لهم أخوات ليس معهن واحد من الذكور لم يدخلن في الامان.
لان الاناث المفردات لا تتناولهن صيغة الذكور.
فان قيل: أليس ان الله سبحانه وتعالى قال { فان كان له إخوة فلامه السدس } (6)، ثم الاخوات المنفردات يحجبن الام من الثلث إلى السدس ؟ قلنا: لا بهذه الآية بل باتفاق الصحابة واعتبار معنى الحجب وقد بينا ذلك في الفرائض.
ولكن اعتبار المعنى في النصوص الشرعية جائز، فأما في ألفاظ العباد فيراعى عين
__________
(1) ق، ب " بجمع ".
(2) ه " يتمكن شبهه ".
(3) ه " حين ثبت ".
(4) ه " فلان ".
(5) سورة النساء، 4، الآية 176.
(6) سورة النساء، 4، الآية 11.(1/330)
الملفوظ به من غير أن يستقل بتعليله.
واسم الاخوة لا يتناوله الاناث المفردات (1) حقيقة ولا استعمالا.
472 - ولو قالوا: أمنونا على أبنائنا، ولهم بنون وبنات، فهم آمنون جميعا.
لما بينا في الاخوة.
ومن أصحاب من يقول: جوابه في الفصلين قولهما وقول أبى حنيفة الاول.
فأما قوله الآخر فيتناول الذكور خاصة، بمنزلة الوصية لبنى فلان وفلان أبى أولاد، أو لاخوة فلان.
ولكن الاصح أن هذا قولهم جميعا، لانه يتوسع في باب الامان ما لا يتوسع في باب الوصية.
فأبوه حنيفة في الوصية اعتبر الحقيقة فقط، فأما في الامان فيعتبر الحقيقة وما يشبه الحقيقة بطريق (85 ب) الاستعمال.
473 - فإن لم يكن فيهم ذكر وإنما لهم بنات خاصة، فهن فئ جميعا.
لان هذه الصيغة لا تتناول الاناث المفردات إلا إذا كان المضاف إليه أبا قبيلة.
وقد بينا هذا في الوصايا أنه إذا أوصى لبنى فلان، وفلان أبو قبيلة، فالمراد بهذه النسبة إلى القبيلة.
والاناث المفردات في النسبة بهذا اللفظ كالذكور، بخلاف ما إذا كان فلان أبا أولاد.
وقد قال بعض مشايخنا: إذا (2) تقدم منه كلام يستدل به على أنه أراد الامان لهن بأن قال: ليس لى إلا هؤلاء البنات أو الاخوات فأمنوني على بنى أو على إخوتى، فحينئذ يستدل بتلك المقدمة أن مراده الاناث فهن آمنات.
__________
(1) ه " المنفردات ".
(2) ه " انه إذا...".
[ * ](1/331)
474 - وإن قالوا: أمنونان على أولادنا دخل في هذا الذكور والاناث المفردات (1) أيضا.
لان الولاد حقيقة في الفريقين.
قال الله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم }.
ثم قال: { فان كن نساء فوق اثنتين } (2) فقد فسر الاولاد بالاناث المفردات.
475 - وإن قالوا: أمنونا على بناتنا وأخواتنا، فهذا على الاناث دون الذكور.
لان صيغة الكلام للاناث خاصة، فلا يدخل فيه الذكور (3) حقيقة ولا استعمالا.
ومن (4) حيث المقصود قد يطلب الامان للاناث خاصة لضعفهن، ولعلمه أنه لا يجاب إلى الامان لو طلبه للذكور بعد (5) ما اتصل منهم أذى بالمسلمين من حيث القتال.
476 - وإن قالوا: أمنونا على بنينا، فإذا لكلهم بنات إلا لواحد منهم فإن له ابنا واحدا، كان الامان عليهم جميعا.
لانهم استأمنوا للكل بكلمة واحدة.
وتلك الكلمة تتناول الذكور والاناث عند الاختلاط، وبالابن الواحد لاحدهم يتحقق الاختلاط.
477 - وإن قالوا: أمنونا، كل واحد منا على بينه، والمسألة بحالها، كان البنات كلهن فيئا إلا أولاد الرجل الذى له الابن.
__________
(1) ه " المنفردات ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 11.
(3) ه " الذكور ".
(4) ه " من ".
(5) ه " لبعض ما ".
[ * ](1/332)
لان كلمة " كل " توجب (1) الاحاطة على سبيل الانفراد.
وقد قال الله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت } (2).
وباعتبار انفراد اللفظ في حق كل واحد (3) منهم لا يتناول هذا اللفظ إلا أولاد الرجل الذى له الابن بخلاف الاول، لان الكلمة هناك للاحاطة على وجه الاجتماع، والاخوة والاخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات.
478 - ولو قالوا: أمنونا على آبائنا، ولهم آباء وأمهات، فهم آمنون جميعا.
لان اسم الآباء يتناول الآباء والامهات.
ألا ترى أنهما يسميان أبوين.
قال الله تعالى { ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك } (4) وكذلك إن لم يكن الاب منهم إلا الانسان واحد.
فالامهات والاب الذى معهن آمنون، لان الاسم حقيقة للكل استعمالا عند الاختلاط.
479 - ولو قالوا: أمنونا على أبنائنا، ولهم أبناء وأبناء أبناء، فالامان على الفريقين جميعا استحسانا.
وكان ينبغى في القياس أن يكون الامان للابناء خاصة.
لان اسم حقيقة للابناء مجاز في حق أبناء الابناء.
ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.
ولهذا جعل أبو حنيفة الوصية للابناء خاصة بهذا اللفظ.
إلا إذا لم يكن هناك أبناء، فحينئذ يتناول أبناء الابناء، لان الحقيقة لما تنحت وجب (5) استعمال اللفظ بطريق المجاز، ولكنه استحسن ها هنا فقال:
__________
(1) ه " يوجب ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 185.
(3) ه " كلواحد ".
(4) سورة النساء، 4، الآية 11.
(5) ه " وجبت ".
[ * ](1/333)
480 - إنما يطلب الامان لمن يكون مضافا إليه بالبنوة، وباعتبار الصورة، وهذا يوجد في أبناء الابناء.
فيصير ذلك شبهة يثبت به الامان لهم بخلاف الوصية، فإنها لا تستحق بالصورة والشبهة.
ثم في إثبات المزاحمة هناك بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الابناء.
ولا يوجد مثل ذلك في الامان.
وهذا نظير ما تقدم في قوله: لذوى قرابتي.
لان طلب الامان بهذا اللفظ لاظهار الشفقة على ما ينسب إليه بالنبوة.
وربما يكون ذلك في حق أبناء الابناء أظهر منه في حق الابناء، على ما قيل: النافلة أحب إلى المرء من الولد.
ولو كان لبعضهم أبناء لصلبه، ولبعضهم أبناء فهم آمنون جميعا لما قلنا.
481 - وإن قالوا: أمنونا على أبنائنا، وليس لهم آباء ولهم أجداد، فليس يدخل الاجداد في ذلك.
وهذا الفصل مشكل.
فان اسم الاب لا يتناول الجد حقيقة حتى يجوز أن ينفى عنه باثبات غيره، فيقال إنه جد وليس بأب، ولكن يتناوله مجازا.
ألا ترى إلى ما روى عن ابن عباس أنه قال لرجل: أي أب لك أكبر ؟ فلم يفهم الرجل ما قال.
فتلا ابن عباس قوله: تعالى { يا بنى آدم } وقال: أما علمت أن من كنت ابنه فهو أبوك ؟ فباعتبار هذا المجاز، أو باعتبار الصورة ينبغى أن يثبت الامان لهم كما ذكرنا في أبناء الابناء.
ولكنه فرق بينهما لمعنى آخر فقال:
482 - المجاز تبع للحقيقة.
ويمكن تحقيق هذا في أبناء الابناء.
فإنهم تفرعوا من الابناء، فكانوا تبعا لهم.
ولا يأتي مثل ذلك في(1/334)
الاجداد فإنهم أصول الآباء، مختصون باسم، فكيف يتناولهم اسم الآباء على وجه الاتباع لفروعهم.
ألا ترى أنه لو قال: أمنوني على أمي، وليست له أم إنما له جدة، أن الامان لا يتناولها ؟ فان قال قائل: يتناولها باعتبار أن الجدة تسمى أما.
قلنا: قد سمى الله تعالى الحالة أما في قوله تعالى { ورفع أبويه على العرش } (1) أي أباه، وخالته.
وسمى العم أبا في قوله تعالى { قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك: إبرهيم واسمعيل واسحق } (2) واسماعيل كان عما.
ثم أحد لا يقول إن العم والحالة يدخلان في الامان للآباء.
لان كل واحد منهما مختص باسم آخر، به ينسب إليه.
فكذلك الجد والجدة.
بخلاف بنى الابن فانهم ينسبون إليه باسم النبوة، ولكن بواسطة الابن.
فكان الامان بهذا الاسم متناولا لهم.
وهذا بيان لسان العرب، فان كل قوم في لسانهم الذى يتكلمون به أن الجد والد، كما أن ابن الابن ابن، فهو داخل في الامان.
وهكذا في لسان الفارسية فانه يقال للجد پدر پدر كما يقال للحفيد (3) پسر پسر، والله سبحانه وتعالى الموفق.
__________
(1) سورة يوسف، 12، الآية 105.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 123.
(3) ب " للجدة " وهو خطأ.
[ * ](1/335)
48 [ باب المرأة من أهل الحرب ] تخرج مع رجل من المسلمين فيقول: أسرتها.
وهى تقول: جئت مستأمنه 483 - وإذا دخل العسكر دار الحرب فخرج إليهم مسلم كان أسيرا، أو كان مستأمنا فيهم، أو كان أسلم منهم والتحق بجيش المسلمين ومعه حربية فقالت: جئت مستأمنة إليكم.
وقال المسلم: جئت بها قهرا.
فهذا إنما يكون على ما جاءت عليه المرأة (1)، فإن كانت مخلاة غير مربوطة تمشى معه حتى إذا انتهت إلى أدنى مسالح المسلمين، نادت بالامان أو لم تناد، فهى آمنة.
لان الظاهر شاهد لها، فانها جاءت مجيئ المستأمنات.
484 - ولو جاءت وحدها بهذه الصفة كانت آمنة، فكذلك إذا صحبها مسلم في الطريق.
لانه بمجرد هذه الصحبة لا تثبت اليد عليها المسلم فهى في يد نفسها.
فالذي يسبق إلى فهم (2) كل أحد أنها طاوعته في المجيئ مستأمنة.
وقد بينا أنه فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته يعتبر الظاهر وغالب رأى.
__________
(1) في هامش ق " الحربية.
نسخة ".
(2) ق " وهم " وفى الهامش " فهم.
نسخة ".
[ * ](1/336)
485 - وإن كان الرجل جاء بها وهو قاهر لها قد ربطها فنادت بالامان أو لم تناد فهى فئ.
لان الظاهر أنه هو الذى أسرها وأخرجها، وقد كانت يده بطريق القهر ثابتة عليها.
وذلك سبب لاستحقاقه نفسها.
فانها حربية لا أمان لها، إلا أنه حين أحرزها (2) بمنعه الجيش، فالجيش شركاؤه فيها، لان الاحراز بالدار حصل بهم جميعا.
ولو لم يخرجها إلى عسكر المسلمين ولكن أخرجها إلى دار الاسلام فهذا والاول سوآء.
إلا في خصلة واحدة وهو أنه يختص بها هنا إذا جاء بها قاهرا لها.
لانه تفرد بإحرازها بدار الاسلام، ولا خمس فيها لانه ما أصابها على وجه إعلاء كلمة الله تعالى، فهو بمنزلة ما أخذه المتلصص وأحرزه بدار الاسلام.
486 - فإن قالت تزوجته وخرجت معه، وقال هو: كذبت، بل قهرتها وأخرجتها، أو هي أمة اشتريتها، ووهبت لى، لم يصدق على شئ من ذلك إذا جاءت معه مخلاة.
لانها في يد نفسها، فإقرارها بأنه زوجها غير مسقط حكم يدها في نفسها.
فكانت مستأمنة.
إلا (86 آ) أن يأتي بها مقهورة، يعرف قهره إياها في دار الحرب.
فحينئذ يكون القول قوله.
لان باعتبار ما ظهر من القهر في موضعه سقط حكم يدها في نفسها.
__________
(1) ق " أخرجها " وفى الهامش " احرزها.
نسخة " أصح.
م - 22 السير الكبير [ * ](1/337)
487 - وكذلك إذا جاء معه برقيق فقالوا: نحن أحرار.
فقال هو: بل هم عبيدى، وقد جاءوا معه غير مقهورين ولا مربوطين.
فالقول قولهم سواء نادوا بالامان حين انتهوا إلى مسالح المسلمين أو لم ينادوا.
لانهم لو جاءوا وحدهم بهذه الصفة كانوا آمنين.
فكذلك إذا جاءوا معه.
488 - فإن أقام عليهم بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة،
أو من المستأمنين، عدول، أنه كان أسرهم وقهرهم، قبلت البينة وكانوا عبيدا له.
لان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم.
489 - ولو أقروا أنه قهرهم في دار الحرب، أو علمنا ذلك معاينة، كانوا عبيدا له.
وفى رغم الخصوم أنهم من أهل الحرب مستأمنون.
وشهادة الحربى المستأمن على المستأمن مقبولة، فلهذا قبلت شهادة الكل.
490 - وإن كان انتهى إلى أدنى مسالح المسلمين وليس بقاهر لهم ولا يعلم أنهم في يده، فنادوا بالامان حيث ينادون به، أو لم ينادوا، فهم آمنون لا سبيل عليهم.
كما لو جاءوا وليس معهم مسلم، وإن لم ينادوا بالامان، وكانوا رجالا، ولم يظهر منهم أمر يدل على أنهم جاءوا مستأمنين، ولا يعلم(1/338)
أنه قاهر لهم أيضا، فهو بمنزلة حربى خرج إلى دارنا بغير أمان، وقد بينا في ذلك.
والحاصل أنه لما لم يكن له يد عليهم حسا فهم في يد أنفسهم حقيقة وحكما، كان خروجهم معه وخروجهم دونه في الحكم سواء.
491 - ولو كان هذا المسلم خرج ومعه امرأة ولم يستأمن لها، فأراد المسلمون أخذها لتكون فيئا، فقال: هذه امرأتي، وصدقته بذلك، فهى امرأته لتصادقهما على النكاح في حال لم يتقرر لاحد فيها حق.
وإذا ثبت النكاح كانت حرة ذمية.
لانه حين خرج بها بناء على النكاح الذى بينهما فقد أمنها.
وأمان الواحد
من المسلمين بعدما خرج من قهر أهل الحرب كأمان جماعتهم.
ثم هي مستأمنة تحت مسلم، فتصير ذمية بمنزلة المستأمنة في دارنا لو تزوجت مسلما أو ذميا.
وهذا لان المرأة في المقام تابعة لزوجها، والزوج من أهل دارنا فتصير هي من أهل دارنا تبعا له.
492 - وكذلك لو خرج بسبي فقال: هؤلاء عبيدى وإمائي، وصدقوه (1) بذلك.
لانهم تصادقوا على ذلك قبل أن يثبت الحق فيهم للمسلمين.
ومعنى الحاجة والضرورة يتحقق هاهنا.
فالمستأمن في دارهم أو الذى أسلم يخرج * (هامش * (1) ه " صدقوا ".
[ * ](1/339)
عبيده وزوجته، ولا يمنكه أن يستصحب شاهدين مع نفسه (86 ب) انهم له، فلابد من بناء الحكم على قولهم إذا تصادقوا عليه.
وإن كذبوه كانوا فيئا.
لانهم من أهل الحرب دخلوا في دارنا بغير أمان.
493 - وإن قالوا نحن عبيد وإماء لاهل الحرب خرجنا نريد الامان ولسنا لهذا الرجل: فإن كان قاهرا لهم حين أخرجهم فهم له.
لانهم أقروا بالرق على أنفسهم وذلك يسقط اعتبار يدهم في أنفسهم.
وقد ظهر سبب استحقاقه لهم وهو القهر في موضعه وإن لم يعلم أنهم في يده.
494 - فإذا كانوا نادوا بالامان حين دنوا من أدنى المسالح فهم آمنون.
لان لم يثبت له سبب الاستحقاق منهم، وهو اليد القاهرة عليهم.
وقد
نادوا بالامان في موضعه، فالظاهر أنهم صادقون جاءوا مستأمنين.
495 - ولو جاءوا بهذه الصفة وحدهم كانوا آمنين، على ما بينا أن المستأمنين لا يقدرون على طلب الامان إلا بهذه الصفة فكذلك إذا جاءوا معه.
496 - وكذلك إن كان المسلمون يرونهم من على موضع بعيد لا يسمعون فيه النداء بالامان، فوقع في قلب المسلمين أنهم يريدون الامان، فلما بلغوا إلى الموضع الذى يسمع فيه النداء بالامان نادوا أولم ينادوا، فهم آمنون.(1/340)
لانهم جاءوا منقادين، وذلك دليل على أنهم طالبون للامان، والدليل في مثل هذا كالصريح.
497 - فإن زعموا أنهم عبيد لاهل الحرب فهم عبيد كما ذكروا (1).
يمكنون من الرجوع إلى مواليهم كما هو حكم الامان.
498 - وإن قالوا جئنا مراغمين (2) لموالينا نريد الذمة أو نريد الاسلام، فهم أحرار لا سبيل لمواليهم عليهم.
ولو جاءوا مستأمنين وأقاموا البينة من المسلمين على ذلك فكذلك.
لانهم أحرزوا أنفسهم بدارنا على مواليهم، ولو قهروا مواليهم فأحرزوهم بدارنا ملكوهم، فكذلك إذا أحرزوا أنفسهم يملكون رقابهم.
ومن ملك نفسه عتق، ولا ولاء عليه لاحد لانه عتق بملك نفسه.
والاصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الطائف:
" أيما عبد خرج إلينا مسلما فهو حر ".
فخرج إليه سبعة أعبد فأعتقهم.
وكانوا يسمون عتقاء الله.
ثم لا فرق بين أن يخرجوا مسلمين أو ذمة، لان الذمي من أهل دارنا كالمسلم.
فيتم فيهم إحراز أنفسهم بالطريقين.
__________
(1) ه " زعموا ".
(2) أي مغاضين.
[ * ](1/341)
499 - وإن قدم مواليهم فزعموا أنهم أذنوا لهم في الخروج إلى دار الاسلام للتجارة، فالقول قول الموالى.
لانهم تصادقوا على أنهم كانوا مملوكين لهم، ثم ادعوا سبب زوال ملك الموالى عنهم، وهو المراغمة (1)، فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة، بمنزلة العبد (87 آ) يدعى أن مولاه أعتقه.
وهذا لان الموالى يتمسكون بما هو الاصل، والاصل أن العبد غير مراغم، والقول قول من يتمسك بالاصل مع يمينه.
فيستحلف الامام الموالى بالله إن طلب العبيد ذلك.
ثم إذا حلفوا أنهم عبيد لهم، وإن كانوا أسلموا، أجبروا على بيعهم.
لان العبد المسلم (2) كما لا يترك في يد الذمي لا يترك في يد الذمي لا يترك في يد الحربى ليرجع به إلى دار الحرب.
وفى الاجبار على البيع هاهنا مراعاة حق العبد من حيث إزالة ذل الكافر عنه.
500 - والمستأمن يؤخذ (3) بمثال (4) هذا كالذمي فأما من صار منهم ذمة فإن مولاه يترك يذهب به حيث شاء.
لان المملوك تبع لمولاه، فلا يصلح منه قبول الذمة مقصودا.
ألا ترى أن الحربى المستأمن في دارنا إذا كان معه عبد أدخله مع نفسه، فطلب العبد
أن يكون ذمة لنا لا نجيبه إلى ذلك.
فان كان الامام أخذ منه الخراج قبل، رده على مولاه لانه كسب عبده.
ولا بأس بأن يأخذ منه الخراج قبل أن يأتي مولاه لانه يبنى الحكم على الظاهر، وهو في الظاهر مصدق فيما يقول ما لم يأت من يكذبه.
__________
(1) في هامش ق " خرج مراغما أي مغاضبا.
مغرب ".
(2) لا توجد في ه، ط.
(3) ه " يواخذ ".
(4) ه، ق، ط، " بمثل ".
[ * ](1/342)
501 - وهذا كله إذا علم أنه كان عبدا له، بحجة سوى إقراره.
وإن لم يعلم ذلك إلا بإقرار العبد فإن كان حين نادى بالامان أو رآه المسلمون أخبر أنه عبد جاء غير مراغم لمولاه صدق أيضا، ودفع إلى مولاه.
لانه أقر بذلك قبل أن يصير من أهل دارنا، وقبل أن يتعلق حق المسلمين به، فلا تتمكن التهمة في إقراره.
502 - ولو لم يكن أقر أنه عبد حتى صار ذمة وأخذ منه الخراج ثم جاء مستأمن فادعى أنه عبده بعثه إلى دار الاسلام للتجارة بأمان، وصدقه بذلك الذمي، فإن الامام لا يصدقه على ما قبض من الخراج ليرده، ولا على رقبته ليعيده إلى دار الحرب، ولكنه يجعله عبدا له بإقراره على نفسه.
لان الاقرار خبر محتمل بين الصدق والكذب (1)، فلا يكون حجة فيما يتمكن فيه التهمة، فيكون حجة على المقر فيما لا تهمة فيه.
وفى صيرورته
ملكا للمقر له لا تهمة فيه.
فأما في رده إلى دار الحرب فتتمكن التهمة لانه صار من أهل دارنا ممنوعا من الرجوع إلى دار الحرب.
فلعله واضع هذا الرجل حين لم يعجبه المقام في دارنا حتى يقر له بالرق فيرده إلى دار الحرب.
وليس من ضرورة صيرورته عبدا له أن يتمكن من رده إلى دار الحرب، كما لو اشترى عبدا ذميا في دارنا أو أسلم عبده فيجبر على بيعه ولا يمكن من أن برده إلى دار الحرب.
ولا إشكال أن ما قبض منه من الخراج قد صار حقا للمقاتلة.
فلا تصدق هو (87 ب) في إيجاب رد ذلك على الحربى.
__________
(1) ه " يحتمل الصدق والكذب ".
[ * ](1/343)
503 - فإن أقام الحربى بينة من المسلمين على ما ادعى من الرق فإنه يدعه ليرده إلى دار الحرب ويرد عليه ما أخذه من الخراج.
لانه أثبت حقه بما هو حجة على المسلمين.
504 - وإن شهد على ذلك قوم من أهل الحرب مستأمنون لم يقبل شهادتهم، ولم يقض عليه بالرق إذا كان هو منكر لذلك.
لانه ذمى وشهادة الحربى لا تكون حجة على الذمة.
505 - وإن شهد عليه قوم من أهل الذمة جعله عبدا له.
لان في هذا الحكم الشهادة تقوم عليه.
وشهادة أهل الذمة حجة على الذمة ولم تقبل شهادتهم في رد الخراج عليه ولا في رده إلى دار الحرب.
لان في هذا الحكم الشهادة تقوم على المسلمين.
وشهادة أهل الذمة ليست بحجة على المسلمين.
وليس من ضرورة ثبوت أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر.
506 - ولو كان أسلم لم يقبل عليه إلا شهود مسلمون.
فإذا قضى بشهادتهم جعله عبدا له وأجبره على بيعه.
كما لو أقر العبد بذلك.
507 - قال: فإذا استأمن الحربى إلى أهل الاسلام فآمنوه (1) فخرج معه بامرأة وبأطفال صغار فقال: هذه امرأتي، وهؤلاء ولدى.
__________
(1)
__________
(1) في هامش ق " فآمنوا.
نسخة ".
[ * ](1/344)
ولم يكن ذكرهم (1) في الامان فالقياس في هذا أنهم فئ غيره.
لانه طلب الامان لنفسه دون غيره (2)، وحكم الامان لا يتعدى إلى من كان منفصلا عنه، ولانه لم يوجد منه استئمان لهؤلاء إشارة ولا دلالة.
ولكن هذا قبيح، فيجعلون جميعا آمنين بأمانه استحسانا.
لانه إنما يستأمن إلينا فرارا منهم لمعنى هو أعلم به، أو ليقيم في دارنا زمانا ويتجر بما يتم له.
هذا المقصود إذا خرج بزوجته وأولاده الصغار.
فان قلت: المرء مع عياله، فهذا دليل استئمانه لهم، ثم هم تبع له من حيث إنه يعولهم وينفق عليهم، والتبع يصير مذكورا بذكر الاصل، إلا إذا كان هناك عرف يمنع منه.
والعرف هنا مؤيد لهذا المعنى.
ألا ترى أن الذمي في دارنا يؤدى الجزية، ولا جزية على أتباعه وذراريه من النساء وأولاده الصغار ؟ 508 - وكذلك لو جاء معه بسبي كثير فقال: هؤلاء رقيقي.
وصدقوه.
أو كانوا صغارا لا يعبرون عن أنفسهم، أو كان معه دواب عليها متاع ومعها قوم يسوقونها فقال: هؤلاء غلماني.
فصدقوه في ذلك، كان مصدقا مع يمينه.
لما بينا أن الظاهر شاهد له، فانه يستصحب ماله سواء جاء للتجارة أو على قصد الفرار منهم.
ولو جاء لا شئ معه هلك جوعا في دارنا
وإنما طلب الامان لنفسه حتى يتمكن من الفرار في دارنا زمانا، فدخل ماله في ذلك تبعا.
__________
(1) في هامش ق " ولم يذكرهم.
نسخة ".
(2) قوله " دون غيره " ساقط في ه، ق، ط.
[ * ](1/345)
إلا أن الامام يستحلفه لتنتفي تهمة الكذب بيمينه.
ومن كذبه من الرقاب (1) الذين معه كان فيئا (88 آ) وجميع ما معه.
لان الرق لم يثبت في حقه إذا كذبه، والتبعية في الامان تبتنى على ذلك، فكان هذا حرا حربيا في دارنا لا أمان له، فيكون فيئا مع ما معه.
509 - وإن قال: ليست الدواب دوابى، ولا الذين يسوقونها بغلماني، ولكن المتاع استأجرتهم ليحمل ذلك معى (2).
فصدقوه، فالقياس أنهم فئ ودوابهم.
لانه لم يستأمن لهم ولا استأمنوا لانفسهم إشارة ولا دلالة وفى الاستحسان هم آمنون مع دوابهم.
لان المستأمن لا يمكنه أن يأتي بالامتعة إلى دارنا على ظهره ليتجر فيها، ولكن من عادة التجار الكراء في مثل هذا.
وثبوت الامان لهم من جملة حوائجه.
ومما يتم به مقصوده فيتعدى حكم الامان إليهم بهذا الطريق، كما يتعدى إلى زوجته وولده ويصير كأنه استأمن لهم.
510 - وإن كان معه رجال فقال: هؤلاء أولادي.
فهم فئ.
لانهم أصول قد خرجوا بالبلوغ من أن يكونوا تبعا له من حكم الامان، كما أنهم في حكم الذمة والاسلام لا يتبعونه.
وكان ينبغى لهم أن يستأمنوا لانفسهم، فإذا لم يفعلوا كانوا فيئا.
__________
(1) ه " الرقاق " وفى هامش ق " الرقاق.
نسخة ".
(2) ق، ه " لحمل ذلك معى ".
[ * ](1/346)
511 - وإن كانوا صغارا يعبرون عن أنفسهم فقال: هم ولدى، وصدقوه فهم آمنون.
لانهم أتباعه ما لم يبلغوا.
ألا ترى أنهم يتبعونه في الذمة والاسلام وإن كانوا يعبرون عن أنفسهم، فكذلك في الامان.
وإن كذبوه فهم فئ للمسلمين.
لان نسبهم لا يثبت منه عند تكذيبهم إذا كانوا يعبرون عن أنفسهم، وقد زعموا أنهم صاروا فيئا حين دخلوا بغير أمان.
وقول من يعبر عن نفسه في هذا مقبول، وإن كان صغير، كمجهول الحال إذا أقر على نفسه بالرق لانسان وصدقة المقر له.
512 - وإن كان معه صغار لا يعبرون عن أنفسهم فقال: سرقتهم من دار الحرب وأخرجتهم، أو هم أيتام كانوا في عيالي فأخرجتهم معى، فهم له لا سبيل عليهم.
لان يده عليهم مستقرة إذا كانوا لا يعبرون عن أنفسهم.
فيجب قبول قوله فيهم.
وقد زعم أنه استولى عليهم في دار الحرب بطريق السرقة، فهم مماليكه واتباع له، أو أنهم في عياله اتباعه بسبب اتفاقه عليهم، وما كانوا يجيئون إلى دارنا إلا معه، فهم بمنزلة أهله.
513 - ولو خرج بنساء قد بلغن فقال: هؤلاء بناتى.
وصدقته فهن فئ في القياس.
لان معنى التبعية يزول ببلوغهن حتى لا يصرن مسلمات بإسلامه،
فهن بمنزلة الذكور البالغين من أولاده.(1/347)
وفى الاستحسان هن آمنات.
لانهن في عياله ونفقته، ما لم يتحولن إلى بيوت الازواج وبنى هذا الحكم على الظاهر (88 ب).
فالنساء لا يستأمن لانفسهن عادة ولكن يكن مع آبائهن أو أزواجهن، بخلاف الذكور من الاولاد.
لان الذكور بعد الادراك مقاتلة فلا يحصل الامان لهم إلا بالاستئمان مقصودا.
والنساء آمنات عن القتل.
وإنما حاجتهن إلى الامان لدفع الاسترقاق عن أنفسهم، ويمكن إثبات ذلك لهن بالاتباع لآبائهن في حكم الامان.
514 - وعلى هذا الامهات والجدات والاخوات والعمات والخالات ومن جاء معه منهن فهن آمنات، تبعا له، بخلاف الآباء والاجداد.
فإنه لا يتبعه في الامان أحد من المقاتلة إلا عبده وأجيره استحسانا، لتحقق حاجته إلى استصحابهم مع نفسه، إما للتجارة فيهم، أو لنقل أمتعة التجارة بهم.
وكل من كان آمنا بأمانه نعلم أنه كما قال إذا ادعى ذلك وصدقة الآخر (1) فهو آمن، لتصادقه عليه قبل ثبوت حق المسلمين فيه.
وإن كذبه ثم صدقه كان فيئا.
لان بتكذيبه يثبت حق المسلمين فيه.
فتصديقه بعد ذلك إبطال لحق المسلمين، وهو مناقض في ذلك.
وإن صدقه ثم كذبه كان فيئا أيضا.
لاقراره على نفسه بثبوت حق الاسترقاق فيه، وذلك مقبول منه.
__________
(1) ه " الاجير ".
[ * ](1/348)
إلا رقيقه وأولاده الصغار الذين يعبرون عن أنفسهم.
أما رقيقة فلان ملكه تقرر فيهم بالتصديق، فلا يبقى لهم قول في إبطال ملكه.
وأما أولاده فقد ثبت نسبهم بالتصديق وتأكدت حريتهم باعتبار أمانه، ولا قول لهم بعد ذلك في الاقرار بالرق على أنفسهم، بمنزلة معروف النسب وحر الاصل إذا أقر بالرق على نفسه، وهو صغير يعبر عن نفسه، فانه لا يقبل قوله.
أما ابنه وزوجته وأخته وعمته إذا كذبت بعد التصديق كانت فيئا، لاقرارها بالرق على نفسها.
فان قيل: فقد ثبت نسب الابنة (1) منه حين صدقته.
قلنا: نعم.
ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسبها منه بطلان إقرارها بالرق على نفسها.
والبالغة مقبولة القول فيما يضرها، بخلاف الصغير الذى يعبر عن نفسه، فانه مقبول القول فيما ينفعه لا فيما يضره، ولا يمكن إثبات الرق بإقراره ظهرت حريته بتصديقه.
فإن قيل: أليس أن هذا الصغير لو كان في يد رجل وهو مجهول الحال فأقر بأنه عبده كان عبدا له ؟ قلنا: نعم.
ولكن لا باقراره بل بدعوى ذلك الرجل.
إلا أن من يعبر عن نفسه لم تكن يد الغير مستقرة عليه.
فإذا ادعى أنه حر وجب الاخذ بقوله، وحين قال: أنا عبد له فقد تقررت يد ذى اليد عليه.
فيثبت الرق بدعوى ذى اليد، وباعتبار يده، كما لو كان ممن لا يعبر عن نفسه.
فأما أن يثبت الرق بإقراره (89 آ) فلا.
لان إقرار الصبى بما يتردد بين النفع والضرر لا يصح،
فكيف يصح إقراره بما يضره ؟ 515 - ولو أن المسلمين حاصروا حصنا فطلب إليهم رجل الامان
__________
(1) في هامش ق " نسب البنت.
نسخة ".
[ * ](1/349)
على أن ينزل إليهم، فأعطوه ذلك، فخرج ومعه امرأته وولده الصغار ورقيقه وماله فذلك كله فئ غيره.
لان هذا قد صار مقهورا خائفا على نفسه.
وإنما يطلب الامان لينجو بنفسه.
وفى تحصيل هذا المقصود لا حاجة إلى اتباع شئ من هولاء معه، بخلاف الاول فانه كان في داره غير خائف.
وإنما استأمن إلى دارنا ليسكن فيها، ويتجر، ولا يتم له هذا المقصود إلا باستصحاب هؤلاء.
والثانى أن حق المسلمين قد ثبت في جميع ما في الحصن هنا، فان المحصور كالمأخوذ.
فلهذا يتوقف حكم تصرفاته.
فالحاجة إلى إبطال حق المسلمين عنهم بعدما ثبت، وذلك بالنص، يكون لا بدلالة الحال.
فأما الذى استأمن إلى دارنا لم يثت حق المسلمين فيمن استصحبهم معه، وإنما حاجتهم إلى منع ثبوت حق الاسترقاق فيهم ودلالة الحال يكفى لذلك.
ولكن هذا المحصور إن خرج إلينا بسلاح كما يلبس الناس، راكبا على دابة، ومعه نقد بقدر نفقته في حقويه (1) فذلك سالم له استحسانا، لانه لا يمكنه أن يخرج عريانا.
ولو فعل ذلك أنكرنا ما عليه، ويحتاج إلى لبس السلاح أيضا ليرى أصحابه أنه يخرج إلى القتال أو يدفع شرهم عن نفسه إن رموه بعدما خرج.
وربما لا يمكنه أن يمشى فيحتاج إلى أن يخرج راكبا على دابته، ويحتاج إلى نفقته أيضا لانه يعلم أنه لا يعطى شيئا (2) في عسكر المسلمين، فانه يكفيه منهم أن ينجو رأسا برأس، ولو لم يستصحب نفقته مات جوعا، فلا يحصل مقصوده.
فباعتبار
هذا المعنى يصير هذا القدر مستثنى من جملة ما يستصحبه مع نفسه، فيسلم له، كما أن الطعام والكسوة مما يشتريه كل واحد من المتفاوضين يصير مستثنى عن مقتضى الشركة، لعلمنا بوقوع الحاجة إليه استحسانا.
__________
(1) في هامش ق " الحقو بالفتح موضع شد الازار، وهى الخاصرة.
ثم توسعوا حتى سموا الازار الذى يشد على العورة حقوا.
مصباح ".
(2) ه " شئ ".
[ * ](1/350)
516 - ثم أوضح الفرق بين المحصور وبين الذى جاء مستأمنا إلى دارنا فقال: ألا ترى أن المحصور لو نادى بالامان وانحظ إلى المسلمين من غير أن يؤمنوه كان فيئا.
والذى جاء إلى أدنى مسالح المسلمين إذا نادى بالامان ولم يقل المسلمون له شيئا كان آمنا.
فبهذا تبين أن الدلالة ها هنا تكفى وفى المحصور لا.
517 - ولو أن المسلمين (89 ب) أمنوا رجلا في الحصن ولم يذكر خروجه (1) إليهم لامر ينتفع به المسلمون من دلالة أو غيرها، فهو آمن على نفسه وماله وأولاده الصغار.
لانهم أمنوه ليسكن في موضعه.
وإنما يتأتى له السكنى بهذه الاشياء فيتبعونه في الامان بخلاف النازل من الحصن فانه استأمن لينجو بنفسه.
518 - ولو تقدمت مسالح المسلمين إلى أهل الحرب أن من استأمن منكم إلى دارنا أو إلى عسكرنا في تجارة فهو آمن وحده دون ما يأتي به فعلموا بذلك، فمن جاء منهم بعد ذلك بسبي لم يبينه للمسلمين فهو فئ كله لا يسلم له، إلا ما يسلم للمحصور الذى يخرج استحسانا
لانهم قد نبذوا إليهم الامان فيما يأتون به.
وإذا كان النبذ بعد الامان يرفع حكم الامان فاقترانه يمنع ثبوت حكمه.
ولانا إنما كنا نثبت الامان له فيما يأتي به طريق الدلالة، ولا دلالة مع التصريح بخلافه، ألا ترى أنهم
__________
(1) ه، ق، " خروجا إليهم " وفى هامش ق " خروجه.
نسخة ".
[ * ](1/351)
لو أعلموهم أنه لا أمان لمن جاء منهم بطلب الامان، ثم جاءوا بعد ذلك لم يأمنوا، إلا أن يعطيهم المسلمون الامان.
فعرفنا بأن حالهم بعد هذا النبذ كحال المحصور.
519 - ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربى ينادى بالامان، ومعهما مال، فهو في أيديهما أو على دابة ممسكين لها، فقال: المسلم: هذا عبدى والمال والدابة لى.
وقال المستأمن: كذب.
بل جئت مستأمنا والمال مالى.
فإن كان الحربى مقهورا برباط أو غيره فالقول قول المسلم.
لانه صار عبدا له حين جاء به مقهورا.
وليس للعبد يد معارضة ليد مولاه في المال.
وإن كان غير مقهور فهو حر مستأمن.
لكون الظاهر شاهدا له.
ثم يد كل واحد منهما في المال معارضة ليد صاحبه، فيكون المال والدابة بينهما نصفين.
520 - وإن كان أحدهما راكبا عليها والآخر ممسكا بلجامها فاليد للراكب دون الممسك باللجام أيهما كان.
لان المركوب نفع للراكب وما على الدابة فهو في يد من في يده الدابة.
521 - وكذلك إن كان ثوبا وأحدهما لابسه والآخر ممسك به، فالثوب للابس دون الممسك به.
فهو أحق به.(1/352)
522 - وكذلك اليد للراكب دون السائق والقايد للدابة.
فإذا كان المال في يد أحدهما فالقول فيه قول دون صاحبه.
وإن كان أحدهما يقود الدابة والآخر يسوقها فالدابة والمال للقايد.
لانه ممسك بلجام الدابة فهى وما عليها في يده دون السايق.
523 - فإن كانا خرجا إلى معسكرنا (1) في دار الحرب فقال المستأمن: هو مالى، وقال المسلم: هو مالى وهبه لى أهل الحرب أو اغتصبته منهم، وقد كان المسلم أسيرا فيهم، فإن المال في أيديهما فنصفه للمستأمن باعتبار يده (90 آ) ونصفه فئ لجماعة العسكر.
لان هذا النصف في يد الاسير، وقد أحرزه بمنعة الجيش، فهو فيما يدعى من الهبة يريد إبطال حق جيش المسلمين في المشاركة معه.
524 - ولا يصدق على ذلك إلا بينة من المسلمين، فإن أقام بينة من أهل الذمة أو من المستأمنين على ما ادعى، قضى له على المستامن بجيمع المال.
لان ما أقام من البينة حجة على المستأمن.
وذلك المال يكون كله فيئا لجماعة العسكر وهو فيهم.
لان ما أقام من البينة ليس بحجة في إبطال حق المسلمين فلا يثبت ما ادعى من الهبة والصدقة في حق المسلمين.
__________
(1) ه، ق " عسكرنا " وفى الهامش " معسكرنا.
نسخة ".
م - 23 السير الكبير [ * ](1/353)
وإن شهد له بذلك قوم من المسلمين فالمال سالم له.
لانه أثبت ما ادعى بما هو حجة على المسلمين فيجعل كالثابت معاينة.
525 - وإن كان المال في يد المستأمنين خاصة وشهد المسلمون أنه كان للاسير تصدق به عليه، وأنه أودعه هذا المستأمن، فإن شهدوا أنه أودعه إياه في منعة أهل الاسلام رد المال عليه.
لان الثابت بالبينة كالثابت معاينة.
وإن شهدوا أنه أودعه إياه في منعة أهل الحرب لم يقض على المستأمن بشئ من ذلك.
لان هذا سبب كان بينهما بالتراضى في دار الحرب، فالمستأمن من لم يلزم أحكامنا وإنما أراد أن يتجر عندنا ثم يرجع إلى داره، فلا يسمع القاضى الخصومة عليه فيما كان جرى بينهما في دار الحرب (1).
ألا ترى أن مسلما ومستأمنا لو دخلا دار الاسلام فادعى أحدهما على صاحبه أنه أدانه دينا في دار الحرب أو أودعه وديعة وأقام بينة مسلمين على ذلك لم يقض القاضى بينهما بشئ، إلا أن يسلم المستأمن أو يصير ذميا، فحينئذ يسمع خصومة كل واحد منهم على صاحبه، لانه صار من أهل دارنا ملتزما لاحكامنا.
526 - وكذلك لو أن مستأمنين في دارنا ادعى أحدهما على صاحبه دينا أو وديعة، فإن كانت المعاملة بينهما في دارنا تسمع الخصومة لانه مأمور بالانصاف والنظر بينهما مدة مقامهما في دارنا.
__________
(1) ق " فيما كان يجرى في دار الحرب ".
وفى هامش " جرى بينهما.
نسخة.
" [ * ](1/354)
527 - وإن كان المعاملة في دار الحرب، لم تسمع الخصومة.
في ذلك، إلا أن يسلما أو يصيرا ذمة.
وبعد ذلك إن ادعى أحدهما
على صاحبه أنه غصبه شيئا في دار الحرب لم تسمع هذه الخصومة أيضا.
لانها دار نهبة.
فكل من استولى على شئ ثم أسلم عليه أو صار ذميا كان سالما له، بخلاف الدين والوديعة، فان ذلك كانت معاملة جرت بينهما بالتراضى.
فتسمع الخصومة فيهما بعد ما صار من أهل دارنا.
528 - وكذلك المسلم والمستأمن إذا خرجا وقد غصب أحدهما صاحبه شيئا قائما بعينه، ثم أسلم المستأمن، لم يسمع القاضى الخصومة في ذلك.
لان المسلم إن كان (90 ب) هو الغاصب فقد استولى على مال مباح.
والحربي إن كان هو الغاصب فقد تم إحرازه له بخلاف الدين والوديعة.
فان الاستيلاء والاحراز فيه لا يتحقق فتسمع الخصومة فيه لهذا.
529 - ولو خرج المستأمن وفى أيديهما بغل عليه مال كل واحد منهما يقول: مالى وفى يدى.
فقامت لاحدهما بينة من المسلمين، قضى القاضى به له.
لانه نور دعواه بالحجة.
وتبين بهذه المسألة خطأ بعض مشايخنا فيما قال: إن كل واحد من المتداعيين إذا قال ملكى وفى يدى لا يسمع القاضى هذه الخصومة ويقول: إذا كان ملكك في يدك فماذا تطلب منى ؟ فقد نص هنا على قبول البينة من أحدهما.
ووجهه أنه محتاج إليها لدفع منازعة الآخر.
والبينة لهذا المقصود مقبولة.
وهو يقول للقاضى: أطلب منك أن تمنعه من مزاحمتي وتقرره في يدى.(1/355)
فإن قيل: لماذا لم يجعل هذا بمنزلة ما لو كان في يد أحدهما ؟ فإن هناك لا تسمع الخصومة فيه، وهنا في يد كل واحد منهما نصفه.
فينبغي أن لا تسمع
الخصومة بينهما فيه ما لم يصر المستأمن من أهل دارنا.
قلنا: في هذا الموضع يدعى كل واحد منهما أنه في دار الاسلام أو في عسكر المسلمين، فلابد من أن يسمع الخصومة فيه بينهما، بمنزلة ما لو ادعى أحدهما على صاحبه أنه أخذه منه في دار (1) الاسلام.
فإن شهدت الشهود أن الغاصب وثب في منعة أهل الحرب حتى تعلق بالبغل مع صاحبه قبل أن يستأمنا، فإنه يسمع هذه الخصومة أيضا ويقضى به لصاحبه.
لانه لم يخرج من يد صاحبه ولم يحرزه غاصبه ما دامت يد صاحب معارضة ليده، بخلاف ما إذا أخرجه من يد صاحبه في منعة أهل الحرب لان هناك قد تم زوال يد صاحبه.
وق تم الاحراز من الغاصب له.
فلهذا لا يقضى للمغصوب منه عليه بشئ وإن أسلما.
530 - وإن قال المسلم الذى كان أسيرا في دارهم: هذا البغل وهذا المال كان لهذا المستأمن، أخذته منه في الدار الحرب أو بعد ما خرجنا.
وقال المستأمن: البغل وما عليه لى وهذا كاذب.
والبغل في أيديهما، ففى القياس نصفه للمستأمن باعتبار يده، ونصفه فئ لاهل العسكر إذا أخرجه إليهم.
لان الاسير بإقراره يريد إبطال حق أهل العسكر بعد ما ثبت حقهم.
وهو غير مقبول القول في حقهم.
وفى الاستحسان يكون ذلك كله للمستأمن.
__________
(1) ساقطة في " ه ".
[ * ](1/356)
لان حق أهل العسكر إنما يثبت باعتبار يد الاسير، ولابد من قبول
قول الاسير في بيان جهة ثبوت يده على هذا المال.
وقد ثبت بقوله: إن أصل المال كان للمستأمن.
فما بقيت يده لا تتقرر يد الاسير عليه، فلا يكون محرزا له، فلهذا كان للمستأمن.
سواء خرجا إلى المعسكر أو إلى دار الاسلام.
531 - ولو كان ذلك في يد الاسير خاصة والمسألة بحالها، فإن صدقه المستأمن أنه أخذه منه في دار الحرب فلا سبيل للمستأمن عليه.
لانه قد تم استيلاء المسلم عليه حين انقطع يد المستأمن عنه.
فإن أخرجه إلى المعسكر فهو فئ لجماعتهم.
وإن أخرجه إلى دار الاسلام فهو له خاصة.
بمنزلة ما يخرجه المتلصص ولا خمس فيه.
532 - وإن قال المستأمن إنما أخذه منى في منعة المسلمين فالقول قول المستأمن.
لانهما تصادقا أن أصل الملك كان للمستأمن.
وبأمانه صار ملكه مغصوبا محترما.
فالاسير يدعى سبب تملك ماله عليه، وهو منكر، فالقول قوله مع يمينه بالله.
ولان أخذه من المستأمن حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الاوقات، وهو ما بعد حصولهما في دار الاسلام.
كمن (1) ادعى تاريجا سابقا في الاخا لا يقبل قوله من غير حجة.
والله سبحانه هو الموفق.
__________
(1) ق " من ".
[ * ](1/357)
49 [ باب ما يكون أمانا ومالا يكون ] 533 - وإذا حاصر المسلمون حصنا في دار الحرب فناداهم رجل من المسلمين فقال: أنتم آمنون.
وكان نداؤه إياهم في موضع لا يسمعون ذلك فليس هذا بأمان.
لان المقصود من الكلام إسماع المخاطب.
فإذا علم أنهم لا يسمعون كلامه كان لاغيا في كلامه (1) لا معطيا الامان لهم.
ولو كان هذا أمانا لكان الواحد من المسلمين في هذه البلدة يؤمن الروم والترك والهند فلا يسع للمسلمين قتالهم حتى ينبذوا إليهم، فكل أحد يعرف أن هذا ليس بشئ.
فان قيل: في الامان إسقاط الحد (2)، أو تحريم القتل والاسترقاق، وهذا يتم بالمتكلم به وحده، بمنزلة الطلاق والعتاق.
قلنا: لا كذلك، بل فيه إثبات صفة الامن لهم بكلام.
ألا ترى أنهم لو ردوا أمانه لم يثبت الامان.
ولا يكون إثبات صفة الامن لهم بكلامه في موضع يعلم أنهم لا يسمعونه.
534 - ولو ناداهم بالامان بحيث يسمعون الكلام وهو النداء (3)، إلا أن العلم قد أحاط أنهم لم يسمعوا، بأن كانوا نياما أو متشاغلين بالحرب، كان ذلك أمانا، حتى لا يحل قتالهم إلا بعد النبذ إليهم.
__________
(1) ق " في الكلام ".
(2) ه، ق " الحق ".
(3) ه " بحيث يسمعون النداء ".
[ * ](1/358)
لان حقيقة سماعهم باطن يتعذر الوقوف عليه، وفى مثله إنما يتعلق الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه وهو أن يكون منه (1) بحيث يسمعون نداءه.
وإذا قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا وعدما، وهذا لان التحرز عن الغرور واجب (92 ب).
ومعنى الغرور يتمكن إذا كان المنادى منهم بحيث يسمعون نداءه، ولا يتحقق ذلك إذا كان المنادى منهم بحيث لا يسمعون نداءه.
535 - قال: ألا ترى أنك لو انتهيت إلى رجل منهم نائما على فراشه فناديته بالامان وأنت قريب منه بحيث يسمع كلامك فلم يسمع ذلك لنومه أو لصمم كان به فإنه يكون ذلك أمانا ؟ وهذا على أصل أبى حنيفة أظهر، لانه يجعل النائم كالمنتبه على ما قال في مسألة الخلوة والصيد الذى يقع عند النائم.
وقال في كتاب الايمان: إذا حلف لا يكلم فلانا فناداه أو أيقظه فهو حانث في يمينه.
وفى بعض النسخ: فناداه وأيقظه.
وبهذه المسألة تبين أنه سواء أيقظه أو لم يوقظه إذا ناداه وهو منه بحيث يسمع كلامه فانه يكون متكلما له.
536 - ولو كتب كتابا فيه أمان ورمى به إليهم فنزلوا على ذلك كانوا آمنين.
__________
(1) ق " منهم " وفى الهامش " منه.
نسخة " [ * ](1/359)
لان الكتاب أحد اللسانين (1).
فان البيان بالبيان كهو باللسان (2).
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة ثم كتب إلى الآفاق وكان ذلك تبليغا منه، ولانهم لما وقفوا على ما في الكتاب نزلوا على ذلك، فلو لم يجعل ذلك أمانا لادى إلى الغرور.
وقد بينا فيه حديث عمر رضى الله عنه.
537 - وإن وجدوا كتابا فيه أمان لم يرم به إليهم أحد فليس هذا بأمان.
لان الكتاب جماد لا يتصور منه الامان.
وإنما يكون من الكاتب، وهو
غير معلوم.
والامان من المجهول لا يتحقق.
ثم لعل الكتاب مفتعل، أو كتبه بعض من لا يصح أمانه من أهل الذمة.
فلهذا لا يثبت الامان لهم حتى يعلم أن الرامى به مسلم بينة تقوم من المسلمين على ذلك، لان حق المسلمين قد ثبت في استرقاقهم، وهذه البينة تقوم لابطال حقهم.
538 - فإن قال مسلم: أنا رميت به إليهم.
فإن كان قال ذلك قبل أن يظفر بهم المسلمون، فهو مصدق.
لانه أخبر بما يملك إنشاءه ولا تتمكن التهمة في خبره.
ولان حق المسلمين لم يتقرر فيهم بعد، فيكون تأثير كلامه في منع ثبوت حق المسلمين فيهم، والواحد من المسلمين يملك ذلك.
539 - وإن قال ذلك بعد ما أعطى القوم بأيديهم لم يصدق على ذلك، حتى يشهد الشاهدان من المسلمين سواه أنه رمى إليهم.
__________
(1) ق، ه " البيانين ".
(2) ه، ق " فإن البيان بالكتابة كهو باللسان " وهو أصح ".
[ * ](1/360)
لانه أخبر بما لا يملك إنشاءه، وقصد بإخباره إبطال حق ثابت للمسلمين فيهم، فلا يقبل قوله على ذلك ولا شهادته.
لانه شهد على فعل نفسه وذلك دعوى لا شهادة.
540 - فإن شهد سواه مسلمان، يثبت الامان لهم، وردوا حتى يبلغوا مأمنهم.
وإن لم يقم بينة فقسموا ووقع بعضهم في سهم المقر، كان حرا لاقراره بحريته، (92 آ) وكونه آمنا، وإقراره على نفسه في ملكه صحيح، إلا أنه لا يترك ليرجع إلى دار الحرب.
لان احتباسه في دارنا على التأييد من حق المسملين وإقراره عليهم غير مقبول.
فيجعل ذميا إن أبى أن يسلم.
لان من احتبس في دارنا على التأييد يضرب عليه الجزية، بمنزلة الذمي على ما يأتيك بيانه.
541 - وكذلك لو رأى الامام بيعهم فاشتروا المقر بالامان فعليه الثمن.
لانهم في الظاهر أرقاء.
ثم يكونون أحرارا في يديه، بمنزلة من اشترى عبدا قد أقر بحريته، ولا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب لما بينا.
542 - ولو أن مسلما قال للمحصورين: إن الامير قد أمنكم وهو كاذب في مقالته ففتحوا حصنهم كانوا آمنين.(1/361)
لانه أخبرهم بأمان صحيح وهو يملك إنشاء مثله، فيكون إخباره به إظهار الامان السابق إن كان، وإنشاء إن لم يكن سبق الامان، بمنزلة قضاء القاضى في العقود على أصل أبى حنيفة.
ثم مقتضى كلامه أنتم آمنون بأمان الامير فافتحوا الباب.
543 - ولو صرح بهذا كانوا آمنين بأمانه.
فكذلك إذا ثبت بمقتضى كلامه.
وإن كان المخبر بذلك لهم ذميا أو مستأمنا كانوا فيئا.
لان المخبر به إذا كان كذبا فبالاخبار لا يصير صدقا، ولا يمكن أن يجعل هذا أمانا من جهته، بمقتضى كلامه، لانه لا يملك إنشاء الامان.
544 - وإن كان الامير قال.
أمنتهم، في مجلسه، فلم يبلغهم ذلك حتى نهاهم الامير أن يبلغوهم، فذهب رجل سمع ذلك من الامير فأبلغهم
إياه، فإن كان الذى قال لهم ذلك مسلم فهم آمنون.
لانه لو كان كاذبا في أصل الخبر كانوا آمنين من جهته كما بينا.
فإذا كان صادقا في أصل الخبر إلا أنه أخبر به بعد نهى الامير أولى أن يكونوا آمنين.
545 - فإن أبلغهم ذمى ذلك، فإن كان سمع مقالة الامير الاولى ولم يسمع مقالته الثانية فالقول آمنون.
لان قول الامام ذلك في مجلسه أمر لكل سامع بالتبيلغ إليهم دلالة، والثابت بالدلالة كالثابت بالافصاح بعد ثبوت ولاية التبليغ للسامع لا ينعزل ما لم يبلغه النهى، بمنزلة عزل الوكيل، والحجر على العبد المأذون، لا يثبت (1) في حقه ما لم يعلم به، فكان هذا مبلغا أمان الامام إليهم بأمره.
وعبارة الرسول في مثل هذا كعبارة المرسل.
__________
(1) ه " ولا يثبت ".
[ * ](1/362)
وإن كان سمع المقالتين جميعا والمسألة بحالها فهم فئ.
لانه حين بلغه النهى صار معزولا عن التبليغ وارتفع حكم ذلك الامر في حقه.
وهذا لان النهى بمنزلة النبذ لذلك الامان.
إلا أنه إن كان بعد وصول الامان إليهم لا يثبت النبذ في حقهم ما لم يعلموا به.
فإن كان قبل الوصول إليهم يثبت حكمه قبل علمهم به.
ألا ترى أن من أذن (92 ب) لعبده في أهل سوقة، ثم حجر عليه في بيته، لا ينحجر ما لم يعلم به أهل سوقه.
ولو أذن له في بيته ثم حجر عليه قبل أن يعلم أهل سوقه بالاذن كان ذلك حجرا.
546 - ولو قال الامير لذمى: اذهب فأخبرهم أنى قد أمنتهم،
ثم قال له: ارجع ولا تخبرهم.
أو كان كاتبه ذميا فقال: اكتب إليهم بأمانهم.
فأعلمهم، ثم قال: لا تكتب.
فكتب إليهم بعد ذلك، فنزلوا، كانوا فيئا، ولو لم ينه الرسول والكاتب عن ذلك أو نهاه ولم يسمع حتى كتب إليهم أو بلغهم فنزلوا، كانوا آمنين.
والفقه في الكل التحرز عن صورة الغرور وحقيقته.
547 - ولو أن مسلما قال لاهل الحصن: إن هذا الرجل قد أمنكم، وأشار إلى شخص معه، فنزلوا، فإذا المحكي عنه ذمي أو مستأمن فهم فئ، صدق عليه أو كذب.(1/363)
لانه أخبرهم بأمان باطل فلا يصير به معطيا أمانا صحيحا لهم وهو لم يغرهم في شئ.
ولكنهم اغتروا بأنفسهم حين لم يفحصوا عن حال المحكى عنه بعد ما عينه لهم منه، أو من الحاكى، أو من غيرهما.
548 - وإن أشار لهم إلى مسلم أو مسلمة كانوا آمنين صدق في ذلك أو كذب.
لانه أخبرهم بأمان صحيح فيكون معطيا الامان لهم حين أضافه إلى من يصح أمانه.
549 - ولو أن ذميا قال لهم ذلك حكاية عن مسلم، فإن علم أنه صادق كانوا آمنين، وإن علم أنه كاذب أو لم يعلم أصادق هو أم كاذب كانوا فيئا.
لانه لا يملك إعطاء الامان بنفسه، فهم إذا اعتمدوا خبر من لا يملك الامان بنفسه كانوا مغترين لا مغرورين.
550 - وإن قال المحكى عنه صدق فيما قال.
فإن كان قال ذلك
في حال بقاء منعتهم ثم نزلوا بعد ذلك فهم آمنون.
لانه صدق المخبر في حال تملك إنشاء الامان لهم فلا يكون متهما في التصديق.
551 - وإن كان قال لهم بعد ما صاروا في أيدينا غير ممتنعين، لم يصدق على ذلك.
لانه متهم في هذا التصديق.
فقد صار بحال لا يملك إنشاء الامان لهم، ولانه قصد بهذا التصديق إبطال حق ثابت للمسلمين في استرقاقهم.(1/364)
إلا أنه إذا قسمهم الامام فوقع بعضهم في سهم المقر أو فيما رضخ (1) به الذمي عتق عليهما.
552 - وكذلك إن باعهم الامام فاشتراهم الذمي المخبر أو المسلم المصدق له، عتقوا جميعا لتصادقهما، على أنهم أحرار آمنون.
وذلك عامل في حق من صار ملكا لهما منهم، ولكن لا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب.
لان احتباسهم في دارنا من حق المسلمين حين قسمهم الامام إذا باعهم، وهما لا يصدقان فيما يرجع إلى حق المسلمين.
وبالله العون.
__________
(1) في هامش ق " رضخ له إذا أعطاه شيئا قليلا رضخا.
واسم ذلك القليل رضيخة ورضخة ورضخ أيضا.
ومنه قوله: إما سهما أو رضخا أي نصيبا وافيا أو شيئا يسيرا.
مغرب ".
[ * ](1/365)
50 [ باب الحربى يدخل الحرم غير مستأمن (93 آ) ] 553 - وإذا دخل الحربى الذى لا أمان له الحرم فإنه لا يهاج (1) له بقتل ولا أسر (2).
وهذا أصل علمائنا أن من كان مباح الدم خارج الحرم يستفيد الامن بدخول الحرم.
قال الله تعالى: { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } (3).
وقال عز من قائل: { ومن دخله كان آمنا } (4).
وقال عليه السلام في خطبة يوم الفتح: " إنها لم تحل لاحد قبلى ولا تحل لاحد بعدى.
ولم تحل لى إلا ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة ".
وإنما قال ذلك لانه قتل منهم أناسا وهم غير مقاتلين له في تلك الحالة، ولو كانوا مقاتلين له لم تظهر فائدة تخصيصه بما قال، لان من استحل الحرم يستحل منه على ما بينه.
__________
(1) في هامش ق " هاجه فهاج أي هيجه وأثاره فثار.
وبعثه فانبعث.
يتعدى ولا يتعدى مغرب ".
[ * ] (2) ه " بالقتل والاسر ".
(3) سورة العنكبوت، 29، الآية 67.
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 97.
[ * ](1/366)
قال ابن عمر رضى الله عنهما: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته (1).
وقال ابن عباس مثل ذلك.
ولم يقل أبوه.
ولكن إنما قال ذلك على سبيل المبالغة في النهى عن قتل أحد في الحرم ابتداء، وكما لا يقتل لا يؤسر لان فيه إتلافه حكما فالحرمة حياة والرق تلف، وحكم الحرمة تمنع من ذلك.
ألا ترى أن الصيد كما لا يقتل في الحرم لا يتملك
الاخذ.
554 - فإن أسلم قبل أن يخرج فهو حر لا سبيل عليه.
لانه كان آمنا حرا ما دام في الحرم.
وقد تأكدت حريته بالاسلام.
وإن سألنا أن يكون ذمة لنا فإن شئنا أعطيناه ذلك وإن شئنا لم نعطه.
لانه مأخوذ مشرف على الهلاك.
فالظاهر أنه لا يطلب عقد الذمة ملتزما لاحكامنا اختيارا بل اضطرارا، ليتمكن به من الفرار.
فالرأى إلى الامام.
في إعطاء الذمة له، بمنزلة المأسور قبل ضرب الرق عليه إذا طلب أن يكون ذمة.
555 - وإن أبى أن يسلم وجعل يتردد في الحرم فإنه لا يجالس ولا يطعم ولا يبايع حتى يضطر ويخرج.
لانه بسبب الامن الثابت بالحرم يتعذر علينا التعرض له بالاساءة، ولا يلزمنا الاحسان إليه.
فان منع الاحسان لا يكون إساءة، فلهذا لا يجب قبول الذمة منه إن طلب، لان ذلك إحسان إليه.
__________
(1) في هامش ق " وهاج الشى يهيج هيجا واهتاج أي ثار.
وهاجه غيره.
ومنه حديث الملاعنة.
رأى معه امرأته رجلا فلم يهجه، أي لم يزعجه ولم ينظره.
نهاية ".
[ * ](1/367)
إلا أنه لا يمنع منه الكلاء وماء العامة.
لان ذلك حقه.
فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شركة عامة (1) بين الناس في قوله: " الناس شركاء في ثلاث: الكلاء والماء والنار " وفى منع حقه منه إساءة إليه وهو معنى قوله: ولو كان لك أن تمنعه الماء كان لك أن تقتله.
556 - فإن قال الامير: إنى لا آسره ولكن أحبسه، لم يكن له
ذلك أيضا.
لان في الحبس معنى العقوبة.
وكذلك لو قال: أخرجه من الحرم، لم يكن له ذلك.
لان الامن الثابت بسبب الحرم يحرم التعرض له بالحبس والاخراج كما في حق الصيد.
557 - ولو كانوا جماعة دخلوا الحرم للقتال فلا بأس للمسلمين (93 ب) أن يقتلوهم لقوله تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } (2) قال ابن عباس رضى الله عنهما: الحرم كله المسجد الحرام.
أي كالمسجد الحرام في هذا الحكم، ولان حرمة الحرم لا يلزمنا بحمل الاذى عنهم، كما لا يلزمنا تحمل الاذى عن الصيد حتى أن الضبع إذا صال على إنسان في الحرم جاز قتله دفعا لاذاه.
__________
(1) ساقطة من ه.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 19.(1/368)
558 - فإن حمل عليهم المسلمون فانهزموا فأخذوا منهم الاسرى فلا بأس بأن يقتلوهم.
لانهم لم يراعوا حرمة الحرم.
فيكون الحرم في حقهم بمنزلة الحل ابتداء وانتهاء.
بخلاف الصيد فإنه بعد الصيال إذا هرب لم يحل قتله.
لان الصيد غير عاقل، وإنما عاقل، وإنما يباح دفع أذاه عند قصده حسا، وقد رفع ذلك بهربه.
فأما الآدمى فعاقل يجوز دفع أذاه بقتله زجرا.
ولهذا شرع القصاص لمعنى الحياة.
فكما يجوز قتالهم في الابتداء إذا قصدوا دفعا لاذاهم وزجرا لهم عن هتك حرمة الحرام، فكذلك يجوز قتلهم بعد الانهزام والاسر لمعنى الزجر عن هتك حرمة الحرم بطريق الاعتبار.
559 - وكذلك لو دخلوا الحرم مقاتلين ومعهم عيالاتهم، فهزموا وأخذت عيالاتهم فلا بأس بأن يؤسروا.
لانهم أتباع المقاتلة، وحين التحق الحرم بالحل في حق الاصول لهتكهم حرمة الحرم فكذلك في حق الاتباع فإن ثبوت الحكم في حق التبع بثبوته في الاصل.
560 - ولو كانوا قاتلوا في غير الحرم فقتلوا جماعة من المسلمين ثم انهزموا بعيالاتهم حتى أدخلوهم الحرم فحصلوا في الحرم منهزمين لافئة لهم، لم يحل أن يعرض لهم ولا لعيالاتهم.
م - 24 السير الكبير(1/369)
لانهم التجأوا إلى الحرم معظمين لها وكانوا آمنين فيها بخلاف الاول فإنهم دخلوا الحرم هاتكين حرمتها بالقصد إلى قتال المسلمين فيها.
561 - ولو كانت فئتهم تجمعت بالحرم وصارت لهم منعة فهرب هؤلاء بعيالاتهم إلى فئتهم في الحرم فلا بأس بقتلهم وأسرهم.
لان الملتجئ إلى فئة يكون محاربا ولا يكون تاركا للحرب.
ألا ترى أن المنهزم من أهل البغى تبع فيقتل، إذ بقيت لهم فئة، فكذلك في هذا الموضع.
562 - وجميع ما ذكرنا في أهل الحرب هو الحكم في الخوارج
وأهل البغى.
إلا أنه لا تسبى ذراريهم ولا نساؤهم.
لانهم مسلمون من أهل دارنا، ولتأكد حريتهم بالاسلام كانوا آمنين من السبى.
فأما فيما سوى ذلك مما يحل فيه قتلهم ويحرم فهم كأهل الحرب.
والله الموفق.(1/370)
المقدمة تتضمن هذه المقدمة ثلاثة أقسام: 1 - الشيباني: مصادر ترجمته، ترجمة موجزة له، مؤلفاته، شأن السير الكبير في الشرق والمغرب 2 - السرخسى: مصادر ترجمته، ترجمة موجزة له، شرحه السير الكبير، قيمة هذا الشرح.
3 - مخطوطات شرح السير الكبير، ما اعتمدنا عليه منها في هذه النشرة، وصف المخطوطات، نهج التحقيق.(1/371)
محمد بن الحسن الشيباني مصادر ترجمة الشيباني المصادر القديمة هجرية ابن سعد (230): الطبقات الكبرى vii، القسم الثاني ص 78 الخطيب البغدادي (463): تاريخ بغداد، 2: 172 - 182 ابن عبد البر (463): الانتقاء ص 24 الشيرازي (476): طبقات الفقهاء، ص 114 ابن عساكر (571): تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الحسن بن فرقد)
ابن خلكان (- 681): وفيات الاعيان، 1: 574 الذهبي (- 748): تاريخ الاسلام (مخطوطة أيام صوفيا) الذهبي جزء في ترجمته طبع مع مناقب أبى حنيفة الصفدى (764): الوافى بالوفيات، 2: 332 القرشى (775): الجواهر المضية في طبقات الحنفية، 2: 42 ابن قطلوبغا (- 879): تاج التراجم في طبقات الحنفية ص 40 حاجى خليفة (- 1067): كشف الظنون 2: 1014 التميمي الغزى (- 1099): الطبقات السنية في طبقات الحنفية.
(مخطوطة التيمورية 540 تاريخ، ج 3 ص 288) اللكنوى (- 1304): الفوائد البهية في طبقات الحنفية، ص 72(1/372)
المصادر الحديثة الكوثري، محمد زاهد (- 1371 ه): بلوغ الامانى في سيرة الامام محمد ابن الحسن الشيباني.
وفيه ترجمة جيدة جمعت جل ما قيل عن الشيباني، وأفدنا منها شخت: ثلاث محاضرات في تاريخ الفقه الاسلامي ظهرت في كتابنا: المنتقى من دراسات المستشرقين،، ص 105 - 106 المصادر الاجنبية.
Schacht , Esquisse d ' une histoire du Droit Musulman Brockelmann , GAL 1952 Paris.
Schacht , The Origins of Mohammaden Jurisprusenc 1950 Oxford
Schaht , Aus den Bidliotheren von Konstantonopel und 1931 - 1928 vol Kairo 3 , Berlin فيه فهرس لمؤلفات الشيباني الموجودة في استامبول.
1954 Hamidullah , Muslim Conduct of state.
Lahore(1/373)
" 1.
" كان الحسن بن فرقد جزريا، من ديار بيعة، في شمال الشام، صار في جند الشام أيام الامويين وسكن حرستا في غوطة دمشق، وأوتى بسطة في الغنى.
ثم انتقل إلى واسط، فولد له فيها ابنه محمد سنة 132 ه، وكانت الدولة الاموية قد زالت، وبدأ أمر العباسيين.
وانتقل محمد إلى الكوفة فنشأ بها.
كانت الكوفة يومئذ مركزا من مراكز الفقه واللغة والنحو، كما كانت البصرة مركز الادب واللغة والنحو.
وكانت ملتقى كبار الفقهاء واللغويين والنحاة، كأبى حنيفة وأبى يوسف والئورى والكسائي والفراء وسلمة وثعلب.
فأثرت هذه البيئة في تكوين ثقافة محمد بن الحسن، وجعلته ينصرف إلى اللغة والشعر وإلى الفقه والحديث، وساعده على ذلك أن أباه خلف له - إذ توفى - ثلاثين ألفا، أنفقها على ذلك.
وقد اتصل بشيوخ كثيرين أخذ عنهم.
فلازم أبا حنيفة أربع سنات فلما توفى سنة 150 ه أتم الفقه على أبى يوسف.
ثم أخذ يرحل إلى الكبار، فرحل إلى الاوزاعي عالم أهل الشام، وسفيان ابن عيينة في مكة، وعبد الله بن المبارك في خراسان.
هذا إلى كثيرين أخذ عنهم في البصرة.
على أن أهم رحلاته كانت إلى مالك في المدينة.
فقد لازمه هناك ثلاث سنوات، وسمع منه الموطأ مرات.
فجمع بذلك طريقة أهل الاستنباط في الكوفة وهم أهل الرأى، إلى طريقة مالك وطريقة الاوزاعي.
فلما عاد شهر علمه فأقبل عليه الطلبة من كل مكان.
وقصده كثيرون من بلدان بعيدة.
وهناك
اثنان كانا من أكثر من قصدة شأنا.
الاول أسد بن فرات فاتح صقلية، فقد كان رأى مالكا وسمع موطأه، ثم جاء إلى محمد بن الحسن يسمع الموطأ منه أيضا،(1/374)
فلما عاد إلى أفريقية نشر مذهب أبى حنيفة، بتأثير محمد بن الحسن، في أفريقية والمغرب، وعلى ضوء كتبه أتم تدوين الاسدية التى هل أصل مدونة سحنون.
والثانى كان الشافعي.
فقد قصد إليه ولازمه واستنسخ مصنفاته، وأغدق محمد بن الحسن عليه من علمه ومن ماله.
ثم عاد إلى مصر وأخرج مذهبه.
وهذا الاثنان كان يفرد لهما مجالس خاصة يأخذان بها عنه.
وثمة آخرون لهم شأن كأبى حفص الكبير، الذى أخذ عنه البخاري فقه أهل الرأى، وأبى سليمان الجوزجانى التى انتشرت به الكتب الستة، وأبى عبيد القاسم بن سلام، ويحيى بن أكثم، وإسماعيل بن توبة، وغيرهم.
وقد أتيح لمحمد بن الحسن أن يتصل بالخليفة الرشيد، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله بعد فتياه في مسألة أمان الطالبى، وتعرض لغضب الرشيد وفتشت كتبه خوفا من أن يكونا فيها شئ مما يحض الطالبين على الخروج، ثم أصلحت بينهما زبيدة فعاد إلى مكانه عنده.
وقد ولى قضاء القضاة قبل وفاته بمدة بعد أبى يوسف.
وكذلك سهم فيما ثار في عصره من مشكلات.
فأبدى رأيه في خلق القرآن، والتجسيم، وتفضيل الخلفاء الاربعة وغير ذلك.
حتى إذا كانت سنة 189 خرج الرشيد إلى الرى، ومعه محمد بن الحسن والكسائي.
فمات محمد بن الحسن هناك وقد قارب الستين من عمره.
ومات الكسائي أيضا.
فيقال إن الرشيد قال: دفن الفقه واللغة في يوام واحد.(1/375)
" 2 " ظهرت ثقافة الشيباني كل الظهور في مؤلفاته.
فقد انعكست فيها براعته في العربية، وفهمه أسرارها، وعلمه الكبير في الفقه.
ويظهر شأن محمد بن الحسن في الفقه في ناحيتين: الاولى أنه أكبر أصحاب أبى حنيفة الذين أثروا في نشر هذا المذهب بكثرة تواليفه.
فقد كان من أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجا.
والثانية إنتاجا، وفى آرائه أصالة قد تجعله ذا مذهب خاص.
وظلت كتبه متداولة معتمدة بين الناس والثانية أن الكتب التى ألفت في الفقه كالمدونة والاسدية والام والحجة، قد تأثر أصحابها به، فألفت على ضوء كتبه.
وأوسع كتبه الاصل، المعروف بالمبسوط.
وقد سرد فيه الفروع على مذهب أبى حنيفة وأبى يوسف.
وأبان رأيه في كل مسألة.
والجامع الكبير.
قد جمع لاهم المسائل في الفقه.
وقيل إنه لم يؤلف في الاسلام مثله.
والزيادات.
وزيادة الزيادات.
وقد ألفها بعد الجامع الكبير.
استدراكا لما فاته فيها من مسائل.
والجامع الصغير.
روى فيه ما سمعه عن أبى يوسف رواية عن أبى حنيفة.
والسير الصغير.
يرويه عن أبى حنيفة.
في أمور السير.
والحجج.
سرد فيه آراءه في الاحتجاج على أهل المدينة.
وهذا الكتاب مع مسانيد أبى حنيفة يعلمنا الاساس السنى للمذهب العراقى في عصر الشيباني وما قبله.(1/376)
وهو أول مثال لما ألف في اختلاف المذاهب.
لانه عنى بالخلافيات بين أهل الكوفة وأهل المدينة.
وكتاب الآثار.
روى فيه عن أبى حنيفة أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة.
وأكثرها عن إبراهيم النخعي.
والمخارج والحيل.
وقد ذكر الكوثري أن هذا ليس للشيباني وإنما نسب إليه.
والرقيات.
وهى المسائل التى فرعها حينما كان قاضيا في الرقة.
وغير ذلك.
وقد روى فقه أبى حنيفة في تأليف المبسوط والجامع الصغير والسير الصغير وسرد مذهبه وآراءه في باقى كتبه.
ولاكثر هذه التواليف شروح كثيرة.(1/377)
" 3 " آخر الكتب التى ألفها الشيباني كتاب السير الكبير.
ويقصدون بالسير المغازى.
وسبب تأليف السير الكبير كان ضربا من المنافسة بين علماء العراق وعلماء الشام.
ويذكر السرخسى - إن صح ما ذكره - أن كتاب السير الصغير وقع في يد الاوزاعي فقيه أهل الشام وعالمهم.
فسأل عن مؤلفه فقيل: هو لمحمد العراقى، فقال الاوزاعي: ما لاهل العراق والتصنيف في هذا الباب ؟ فإنه لا علم لهم بالسير.
ويوضع السرخسى قول الاوزاعي بأن مغازى الرسول كانت من جانب الحجاز والشام، دون العراق، فأهل الحجاز والشام أعلم بهذه المغازى وألصق بها.
فبلغ محمد بن الحسن قول الشيباني، فانصرف إلى تأليف السير الكبير وجعله في ستين دفترا، وأرسله إلى الرشيد.
ويدور موضوع الكتاب حول جميع الامور المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين وأحكامها.
فهو في الحقيقة القانون الدولي للمسلمين في أمور الحرب.
وعلى هذا تكلم محمد بن الحسن عن أهل الاسلام وأهل الحرب المشركين، وبين أحكام الاسارى من الفريقين، سواء أكانوا رجالا أم نساء أم أطفالا، وإسلام المشركين، والامان على اختلاف ضروبه وألفاظه، والمستأمنين، والرسل الذين يفدون إلى دار الاسلام من دار الحرب، والحصانات التى يتمتعون بها، والغنائم، والصلح والتحكيم، والفداء، وأحكام السلام والرقيق والكراع، والاراضي التى يستولى عليها أهل الحرب، في الحرب، وأهل الاسلام في دار(1/378)
الحرب، ونقض المعاهدات، وجرائم الحرب، هذا إلى مئات من المسائل المتعلقة بأهل الحرب وصلاتهم بالمسلمين في أيام الحرب والسلم معا.
وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن، أو الاحاديث التى قيلت في مغازى الرسول على إثر حوادث معينة وقعت، وعلى الاحكام التى وقعت أثناء حروب المسلمين وفتوحهم، كما أعمل القياس في أحايين كثيرة، وجعل كذلك كله أحكاما جيدة.
ومن هنا يبدو شأن هذا الكتاب في ناحية القانون الدولي الاسلامي.
وقد أعجب به الرشيد عندما اطلع عليه، وعده من مفاخر أيامه.
وأرسل ابنيه يستمعانه على مؤلفه.
وزاد الاهتمام به في أيام الدولة العثمانية فترجم إلى اللغة التركية في أيام السلطان محمود خان، واتخذ أساسا لاحكام المجاهدين العثمانين في حروبهم مع الدول الاوربية.
كما عنى به الكثيرون فشرحوه، وأهم شرح له هو شرح السرخسى والجمال الحصرى (636 ه).
وقد كان الشيباني، بتأليفه في أمور تتعلق بالقانون الدولي، أسبق من غروسيوس الهولندي 1583 5461 - Grotius م الذى عاش في القرن السابع عشر وسمى أبا القانون الدولي لانه بحث في بعض الامور الخاصة بالقانون الدولي.
وسبق
من سبق غروسيوس أو عاصروه مثل Vasquez و Suarez و.
Vitoria من الفقهاء النصارى.
وقد تنبه في السنوات الاخيرة لشأن الشيباني من هذه الناحية المشتغلون بالقانون الدولي، فأسست في غوتنجن بألمانيا جمعية الشيباني للحقوق الدولية وضمت علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم.
وانتخب رئيسا لها الدكتور عبدالحميد بدوى، الفقيه المصرى الكبير، كما انتخبنا نائبا للرئيس.
وتهدف الجميعة إلى التعريف بالشيباني، وإظهار آرائه في هذا الباب، ونشر مؤلفاته المتعلقة بذلك.(1/379)
- 2 - محمد بن أحمد السرخسى مصادر ترجمة السرخسى المصادر القديمة القرشى (875): الجواهر المضيئة 2: 29 ابن قطلوبغا (879): تاج التراجم ص 38 حاجى خليفة (1067): كشف الظنون التميمي الغزى (1099): الطبقات السنية في تراجم الحنيفة (مخطوطة التيمورية، ج 3 ص 175) المصادر الغربية.
Heffening , dans Encycl.
de l ' Islam مادة السرخسى Broklnann , GAL
وانظر مؤلفات شخت العامة(1/380)
" 1 " لا ندرى الكثير عن حياة السرخسى (محمد بن أحمد بن سهل، أبو بكر، شمس الائمة)، ولعل ذلك لانه عاش بعيدا جدا، فيما وراء النهر، وأنه قضى شطرا من حياته في السجن.
الذى نعرفه أنه من سرخس - وهى مدينة قديمة بين مشهد ومرو -، وأنه تلقى العلم على عبد العزيز الحلواني المتوفى سنة 448 ه، وتخرج به.
فبرع في الفقه والكلام والاصول والمناظرة.
وتخرج عليه تلاميذ منهم أبو بكر الحصيرى (محمد بن إبراهيم) المتوفى سنة 500 ه.
ثم انتقل إلى أوز كند - وهى بلدة فيما وراء النهر من نواحى فرغانة - وانتقل إلى بلاط خاقانها.
لكنه ما لبث أن ألقى به في السجن، سنة 466 ه، لانه أفتى بأن زواج الخاقان بعتيقته، قبل أن تمضى عدتها حرام.
فقضى في سجن أوزكند ما يقرب من خمس عشرة سنة.
وكان طلبة العلم يترددون إليه، فيقفون أمام سجنه، ويملى عليهم الفقه.
في سجنه هذا أملى المبسوط - في خمسة عشر مجلدا - من خاطره دون مطالعة كتاب.
وكان كلما أنهى إملاء باب أشار إلى أنه أملاه وهو مسجون.
وأنهاه في سنة 477 ه.
ثم أملى شرح السير الكبير للشيباني من خاطره، في مجلدين ضخمين.
فلما بلغ كتاب الشروط، وقارب الفراغ منه أطلق سراحه، فذهب إلى مرغينان في ربيع الاول سنة 480، وأتم شرحه هذا في جمادى الاولى من السنة نفسها.
وقد اختلف في سنة وفاته.
فذكر بعضهم أنها كانت سنة 483، وجعلها آخرون سنة ست وثمانين، وذهب بها فئة إلى حدود التسعين.(1/381)
" 2 " أما شرحه السير الكبير فقد سلخ فيه ثلاث سنوات تقريبا وقد أملاه إملاء من حفظه، دون الرجوع إلى نص محمد نفسه.
ومن المؤسف أن نص محمد نفسه فقد فلا نستطيع الرجوع إليه للتأكد من صحة حفظ السرخسيى.
وكذلك فقد شرح الجمال الحصيرى الذى عاش بدمشق في القرن السابع.
وهكذا لم يبق يبن أيدينا من نص محمد إلا ما رواه السرخسيى من ذاكرته وهو في السجن.
ونلاحظ في نص السرخسيى ما يلى: 1 - لم يحافظ السرخسيى على سند محمد بن الحسن عند روايته أقواله بل حذفها، واكتفى بالقول: ذكر محمد عن فلان كذا، أو روى محمد عن فلان كذا.
2 - عندما يروى أقوال محمد الخاصة فيقول: قال محمد.
3 - بعد ذكر حديث محمد أو قوله يشرح ما أورد.
فقد تأتى بآيات جديدة أو أحاديث أو حوادث في المغازى تؤيد ما قال.
وقد يخالفه أحيانا في آرائه، أو يبين آراء أبى حنيفة وأبى يوسف وغيرهما، مما خالفهم فيه محمد.
4 - لم يرو السرخسى في نصه كتاب محمد كله، بل حذف أبوابا منه.
فمثلا يذكر أنه حذف بابا بين باب إثبات النسب من أهل الحرب من السبايا، وباب الحدود في دار الحرب، ولكنه لم يصرح ما هو الباب المحذوف.
وعلى هذا فنحن لا ندرى على الضبط ما حذف.
5 - يلاحظ في شرحه ركاكة في العبارة، وطولها.
ونصادف غموضا أحيانا.(1/382)
وعدم مراعاة قواعد النحو.
ولعل ذلك لانه فقيه متأخر لم يعن بالعربية عناية الفقهاء الاولين، ولانه عاش فيما وراء النهر، ولانه أملا إملاء فلم يتح له أن يحرر
ما أملاه وأن ينقحه.
6 - روى في مقدمة شرحه قصة الخصومة التى وقعت بينه وبين القاضى أبى يوسف على أنها صحيحة، والوضع ظاهر عليها.(1/383)
- 3 - مخطوطات شرح السير الكبير أوتى شرح السير حظا كبير من الانتشار منذ قيام الدولة العثمانية لان مذهبها كان مذهب أبى حنيفة، ولان السير الكبير اتخذ دليلا ترجع إليه الدولة في حروبها - أول الامر - مع الدول غير الاسلامية.
لذلك كانت مخطوطات هذا الشرح التى نسخت في العهد العثماني، منذ القرن التاسع الهجرى، كثيرة جدا.
أما الاصول القديمة فقليلة.
وقد عد بروكلمن (1) في تاريخه ما يقرب من (17) نسخة موجودة في مكتبات استامبول وتركيا وفينا ودمشق.
ونحن نضيف (11) نسخة عرفناها ولم يذكرها بروكلمن.
وهى: 1 - مخطوطة مكتبة الجامعة الامريكية في بيروت.
عليها سماع سنة 631 ه.
رقم 296.
349.
MS 2 - قطعة من الجزء الاول من الشرح في دار الكتب المصرية ناقصة الآخر، تنتهى بباب المسلم يخرج من دار الحرب.
قديمة من القرن السابع على الاكثر.
رقم 770 فقه حنفى.
3 - مخطوطة مكتبة جامعة ليدن، كتبت سنة 800 ه.
رقم 373.
OR 4 - مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس.
كتبت سنة 864 ه.
رقم 837 و 838
__________
(1) 291، , ] * [ GAL , Si(1/384)
5 - مخطوطة أحمد الثالث باستامبول.
كتبت في القرن العاشر أو الحادى عشر على الاكثر، رقم 1149.
6 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية) كتبت سنة 1117 رقم 65 فقه حنفى.
7 - مخطوطة الظاهرية بدمشق، كتبت سنة 1130.
رقم 5854 عام.
8 - مخطوطة طلعت (بدار الكتب المصرية) كتب سنة 1131.
رقم 887 فقه حنفى.
9 - مخطوطة طلعت، كتبت سنة 1141 ه.
رقم 1089 فقه حنفى ط.
10 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية)، كتبت سنة 1158 رقم 64 فقه حنفى م.
11 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية) كتبت في أوائل القرن الثاني عشر.
رقم 66 فقه حنفى م.(1/385)
النسخ التى اعتمدنا عليها ووصفها لم نستطع الحصول على النسخ الموجودة في استامبول، ما عدا نسخة أحمد الثالث التى لم يذكرها بروكلمن، فرجعنا إلى النسخ المخطوطة التى عرفناها نحن.
وقد اعتمدنا على النسخ التالية: 1 - نسخة باريس رقم 837 2 - نسخة مصطفى فاضل رقم 66 فقه حنفى م 3 - نسخة أحمد الثالث رقم 1149 4 - نسخة طلعت رقم 887 فقه حنفى
5 - مطبوعة حيدر آباد بالهند وبعد طبع الجزء الاول، اطلعنا على: 6 - نسخة الجامعة الاميركية ببيروت، وعارضنا النص بها ولم نشر إليها في الحواشى.
وصف النسخ 1 - مخطوطة باريس: 837 Arabe يتألف المجلد الاول من 248 ورقة، وقد سبق النص بفهرس الابواب، وجعل داخل مربعات في كل مربع اسم باب.
وبدئ بسر لوحة كتب فيها: " برسم الخزانة الشريفة العالية المولوية السلطانية المجاهدية المرابطية السيد الناصري محمد بن عثمان سلطان الممالك الرومية المحروسة خلد الله سلطانه ".(1/386)
ويقابل هذا صفحة نقلت ترجمة السرخسى من غاية البيان وتاج التراجم.
خط المجلد نسخي جميل ما عدا بعض الاوراق كتبت بخط فارسي عادى.
وفى الصفحة 25 سطرا.
والنص محاط بإطار في كل صفحة.
وفى الهامش تصحيحات ومقابلات على الاصل المنقولة منه، وعنوانات بالمطالب.
وفى آخر هذا المجلد اسم الناسخ محمد بن حجى.
وحاشية تذكر: أنه قوبل على الاصل المنقول منه.
والمجلد الثاني: يبدأ بسر لوحة كالاول.
وقد كتب لخزانة السلطان محمد ابن عثمان وفى آخره ما يلى: " وكان الفراغ من كتابته نهار الخميس ثامن عشر ذى القعدة الحرام سنة
أربع وستين وثمانمائة بدمشق المحروسة حماها الله تعالى ".
وفى الحاشية: " الحمد لله.
قوبل هو والجزء الذى قبله على النسخة المنقولة منها وهى نسخة قديمة مؤرخة شهر رمضان المعظم [ سنة ] إحدى وعشرين وستماية لكن فيها سقم..بحسب الامكان.
وبالله التوفيق ".
فيتضح أن هذه النسخة الخزائنية قد كتبت برسم السلطان محمد بن عثمان، سنة 864 ونقلت عن أصل كتب سنة 621 ه.
2 - مخطوطة مصطفى فاضل: 66 فقه حنفى م.
تقع هذه النسخة في 492 ورقة.
كتبت بخط فارسي جميل، وقد أحيطت الصفحات بإطارات مذهبة.
في الصفحة 29 سطرا.
في الورقة الاولى شرح معنى(1/387)
السيرة والسير من كتاب المغرب، ونقل ما وجد بخط الامام الحصيرى على ظهر النسخة التى كتبها بخطه، وتملكان.
أما في آخره فكتب ما يلى: " كتبه لنفسه من نسخة قابلها الامام الاوحد العلامة جمال الدين محمود ابن أحمد بن عبد السيد الحصيرى وصححها العبد الفقير إلى الله تعالى الراجى عفو ربه ومغفرته أحمد بن عبدالملك بن أحمد بن محمد بن سليم القيسيى الدمشقي الحنفي غفر الله له ولجميع المسلمين آمين ".
وهذه النسخة كتبت في أوائل القرن الثاني عشر، إلا أنها نقلت عن أصل كتبه جمال الدين الحصيرى وصححه، وكان الحصيرى في القرن السابع، كما سنرى.
وتمتاز هذه النسخة بأن على هوامشها تصحيحات الجمال الحصيرى، وشروحا لالفاظ النص والشرح الفقيهة، مأخذوة عن المغرب للمطرزى، والنهاية لابن الاثير، والمصباح، والقاموس.
كما تتصف بالصحة والضبط.
3 - نسخة أحمد الثالث: رقم 1149.
تقع هذه النسخة في 353 ورقة، كتبت بخط نسخي جميل، في الصفحة 27 سطرا.
يبدأ النص في أول الكتاب رأسا فلا يسبقه فهرس للابواب، وفى رأس الورقة الاولى ما يلى: " إلى الامام الربانى محمد الشيباني رحمه الله ".
وليس على النسخة تاريخ النسخ وإنما هي من القرن العاشر أو الحادى عشر على الاكثر.
وفى طرف الصفحة الآخرة ما يلى: " تمت المقابلة على يدى العبد الضعيف عبدالله بن أحمد عفا عنه الملك الصمد ".
ولا يذكر على أي أصل قابلها.(1/388)
وهذه النسخة هي من فئة نسخة باريز، وتشبهها تماما بكل ما فيها.
استعنا بها للتأكد من النسخة المذكورة.
4 - نسخة طلعت: رقم 887 فقه حنفى.
تقع هذه النسخة في 305 ورقات.
كتبت بخط نسخي واضح وأحيطت الصفحات بإطارات.
وفى الصفحة 31 سطرا.
على الورقة الاولى وقفية تشعر بأن الذى وقف الكتاب هو عبدالرحمن بك ابن يوسف بك الغازى ارنوتى سنة 1210، كما ذكر أن عبدالله المرادى المفتى بدمشق الشام قد تملك النسخة.
وجاء في آخر ورقة: " وكان الفراغ من كتابته نهار الثلاثاء ثالث عشر شوال المبارك من شهور سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ".
وليس عليها اسم الناسخ ولا ذكر للنسخة التى نقلت عنها.
وميزة هذه النسخة أنها ترجع إلى فئة غير فئة المخطوطات التى ذكرناها وأنها صحيحة واضحة.
5 - نسخة الجامعة الاميركية ببيروت: هذه نسخة قديمة من القرن السابع الهجرى تقع في مجلدين.
المجلد الاول في 383 صفحة.
في كل صفحة 25 سطرا.
كتبت بخط نسخي قديم قليل الاعجام.
تنقص من صفحاتها الصفحة الاولى وما بين صفحات 46 و 50، وفيها صفحات أصابتها الرطوبة.
وفى آخرها خط جمال الدين محمود الحصيرى بالثناء على صدر الدين سليمان الحنفي، سنة 631 ه، وأنه قرأ الكتاب عليه.
وهذا يعنى أن هذا المجلد كتب في هذه السنة أو قبلها.
والحصيرى هذا هو الذى(1/389)
شرح السير ولم يصلنا شرحه، وهو الذى نقلت من نسخته نسخة مصطفى فاضل 66 م.
أما المجلد الثاني فيقع في 358 صفحة بخط مثل خط المجلد الاول.
وفى آخره سماع على صدر الدين سليمان الحنفي بدمشق مؤرخ سنة 676 ه.
ولا شك أن هذه النسخة هي أقدم الاصول وأوثقها، لذلك ما كدنا نطلع عليها بعد طبع الجزء الاول حتى عارضنا المطبوع بها.
فرأينا أنها من أصول فئة نسخة مصطفى فاضل وطلعت، ولم نجد فروقا ذات شأن فيها.
6 - مطبوعة دائرة المعارف العثمانية: بحيدر آباد.
طبع شرح السير الكبير في حيدر آباد الدكن بالهند سنة 1335، 1336، بعناية دائرة المعارف العثمانية.
في أربعة أجزاء.
وتتصف هذه الطبعة بالسقم، وكثرة الاخطاء المطبعية، وعدم كونها طبعة
علمية تعتمد على مخطوطات كثيرة معارضة.
وقد اعتبرناها كأنها نسخة مخطوطة وأفدنا منها في أحايين كثيرة.(1/390)
نهج التحقيق لقد بدأنا بتحقيق الكتاب وأمامنا النسخ الاربع الاولى.
فاخترنا نسخة باريز أساسا نقلت وصححت على نسخة من القرن السابع، وهذا أقدم ما عرفنا من الشرح، واخترنا نسخة مصطفى فاضل لانها نقلت عن نسخة الحصيرى الذى كان في القرن السابع، والذى صححها فنقلت تصحيحاته إلى هذه النسخة.
وهاتان النسختان ترجعان إلى فئتين مختلفتين من مخطوطات الشرح.
ثم لاحظنا أن نسخة أحمد الثالث إلى فئة مخطوطة باريز المنقولة عن نسخة في القرن السابع، في حين تنتمي مخطوطة طلعت إلى مخطوطة مصطفى فاضل المنقولة عن نسخة الحصيرى في القرن السابع أيضا، فاعتمدناهما توكيدا للنسخ الاولى.
فلما اطلعنا على نسخة الجامعة الاميركية، وهى نسخة قاضى قضاة الحنفية بدمشق الصدر سليمن التى قرأها على الجمال الحصيرى، وعارضنا النص بها، وجدنا أنها من فئة نسخة فاضل ونسخة طلعت.
أي النسخ التى مرجعها الحصيرى.
فوكدت لنا صحة هذه نص هذه الفئة.
فتكون النسخ هكذا: أصل من القرن السابع 621 نسخة باريز أحمد الثالث أصل من القرن السابع قرئ على الحصيرى " الجامعة الامريكية " أصل من القرن السابع للحصيرى نسخة مصطفى فاضل طلعت(1/391)
وعلى هذا فكان أساس اعتمادنا على نسخة باريز ونسخة فاضل.
ثم تأكدنا من صحة النص بنسخة الجامعة الاميركية.
ولم ننس أن ننظر في نسخة الشرح المطبوعة في حيدر آباد والتى هي أقرب إلى فئة مخطوطات نسخة باريز منها إلى فئة مخطوطات نسخة فاضل، واعتبرناها كأنها مخطوطة من المخطوطات.
أما عملنا في هذه النشرة فكان ما يلى: 1 - عارضنا الاصول بعضها ببعض وأثبتنا الاختلافات.
2 - أثبتنا حواشى وتفسيرات نسخة فاضل التى وجدنا في إثباتها فائدة.
3 - ميزنا ما يشعر أنه قول الشيباني من قول السرخسى، فجعلنا الاول بحرف أضخم، والثانى بحرف أصغر.
وقد كانت طبعة الهند وضعت أقوال الشيباني بين ().
4 - جعلنا لفقرات أقوال الشيباني أرقاما ليسهل فيما بعد الرجوع إليها ووضع فهرس بموضوعاتها.
5 - صححنا كثيرا من أخطاء النحو أو أخطاء النسخ الواضحة ولم نشر إليها.
وهذه الاخطاء النحوية موجودة في جميع الاصول، حتى في نسخة الجامعة الاميركية التى قرئت على الحصيرى، مما يدل على أن ذلك من القديم.
6 - شرحنا الالفاظ الفقهية التى تحتاج إلى شرح، وكثيرا ما أغنتنا تعليقات نسخة مصطفى فاضل عن ذلك.
7 - ضبطنا الاعلام المذكورة في النص عند الحاجة إلى ذلك، وعرفنا بالاماكن.
8 - ألحقنا بكل جزء فهارس للاحاديث والاعلام والاماكن والابواب(1/392)
ليسهل الرجوع إليه.
وسنلحق بالجزء الاخير، إن شاء الله، فهرسا للموضوعات.
وآخر للالفاظ الفقهية.
وقد بذلنا جهدنا في إخراج النص صحيحا، ومع ذلك فالمرء في المخطوطات القديمة لا يستطيع مهما أوتى من علم وإحاطة وتبصر أن يجزم بكمال النص الذى حققه.
فليتفضل من يجد فيه خطأ أو خللا بتصحيحه.
فإن هذا الكتاب لم يكن من مفاخر أيام الرشيد وحده بل هو من مفاخر الفكر الاسلامي في كل الاعصار، هذا الفكر الذى سبق إلى وضع الاحكام الدولية المتعلقة بأهل الحرب ودار الاسلام منذ القرن التاسع الميلادى، يوم لم يكن في أوربة فكر مشرع ولا قانون دولي.(1/393)
شكر ولابد أن نختم هذه المقدمة بالشكر الجزيل لامين جامعة الدول العربية العام السيد عبد الخالق حسونة، الذى ما كاد يعلم بشأن هذا الكتاب في القانون الدولي الاسلامي، حتى وافق على إخراجه.
وقد كان للدكتور عبدالحميد بدوى رئيس جمعية الشيباني للحقوق الدولية، والدكتور نجيب الارمنازى سفير سورية السابق في مصر، الفضل في تبيان شأن الكتاب والحث على نشره.
وصادف قرار الجامعة العربية هوى قديما في قلبنا لتحقيق هذا الكتاب، منذ سلخنا في دراسته ومصاحبته زمنا غير قصير، أيام كنا نعد للدكتوراه في القانون، في باريس.
فلما تفضل الدكتور طه حسين، رئيس المجلس الاعلى لمعهد المخطوطات، ورأى أن نحقق الكتاب، سارعنا إلى ذلك مغتبطين شاكرين.
وثمة شكر وافر آخر نخص به الدكتور طه حسين، فقد تكرم بقراءة الكتاب كله قبل طبعه ونبهنا إلى ماسهونا عنه.
في باريس.
فلما تفضل الدكتور طه حسين، رئيس المجلس الاعلى لمعهد المخطوطات، ورأى أن نحقق الكتاب، سارعنا إلى ذلك مغتبطين شاكرين.
وثمة شكر وافر آخر نخص به الدكتور طه حسين، فقد تكرم بقراءة الكتاب كله قبل طبعه ونبهنا إلى ماسهونا عنه.
جامعة الدول العربية يونية 1957 صلاح الدين المجد(1/394)
الرموز ب: نسخة باريس ق: نسخة مصطفى فاضل أ: نسخة أحمد الثالث ط: نسخة طلعت ه.
: طبعة الهند بحيدر آباد : ما بينهما أضيف لتوضيح النص، وليس هو من الاصل [ - ]: ما بينهما مضاف من النسخ الاخرى * (-) *: ما بينهما آية قرآنية (-): ما بينهما حديث (-): ما بينهما يدل على أرقام ورقات النسخة ب آ: الوجه ب: الظهر أنموذجات من صفحات النسخ المخطوطة(1/395)
السير الكبير - الشيبانى ج 2
السير الكبير
الشيبانى ج 2(2/)
شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني الجزء الثاني(2/408)
51 - باب من الامان الذى يشك فيه 563 - وإذا أحاط المسلمون بحصن من حصون أهل الحرب فأشرف منهم أربعة نفر فقالوا: آمنونا على أن نخرج إليكم لنراوضكم على الصلح.
ففعل ذلك بهم، فخرج منهم عشرون رجلا معا، فإن عرفنا الاربعة بأعيانهم كانوا آمنين، ومن سواهم فئ للمسلمين، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا جعلوهم فيئا.
لانهم حصلوا في أيدينا بغير أمان.
فإن المحصور بمجرد الخروج لا يستفيد الامن ما لم يعط له الامان نصا.
(آخر ص 136).
وكيف يستفيد الامن وإنما حصر ليخرج، وليس بين الاربعة وبين من سواهم سبب يوجب الامن لهم بطريق التبعة.
وأما حكم الاربعة: 564 - فإن استقام بين المسلمين وبينهم صلح وإلا ردوهم إلى حصنهم، كما هو موجب الامان.
وإن أبوا أن يرجعوا إلى الحصن لم يكن للمسلمين أن يجبروهم على ذلك.
لانهم حصلوا آمنين فينا.(2/409)
ولا يجوز التعرض لهم بحبس ولا أسر.
ولكن يقال لهم اذهبوا إلى أرض الحرب إن شئتم (1)، فإنا لا نتعرض لكم حتى تبلغوا مأمنكم.
لان الوفاء بالامان والتحرز عن الغدر واجب.
565 - فإن قالوا: لا نفارق عسكركم.
فالسبيل أن يتقدم الامام إليهم ويؤجلهم في ذلك على حسب ما يراه، ويخبرهم أنهم إن لم يذهبوا جعلهم ذمة وأخرجهم إلى دار الاسلام.
وقد تقدم بيان هذا الفصل.
وليس للامام أن يقول لهم: إن ذهبتم إلى وقت كذا وإلا جعلناكم عبيدا، أو وإلا فدماؤكم حلال.
لانهم آمنون فينا، ومن ضرورة الامان ثبوت العصمة عن الاسترقاق والقتل.
وكما لا يملك تنفيذ ذلك منهم في الحال لا يملك تعليقه بمضي الزمان، بخلاف (2) تصييرهم ذمة على ذلك، فإن ذلك لا ينافى الامان بل يقرره.
والكافر لا يمكن من إطالة المقام فينا بدون صغار الجزية والتزام أحكامنا في المعاملات لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين.
566 - ولو أن المسلمين قالوا لاربعة من أهل الحصن: انزلوا، فأنتم آمنون حتى نراوضكم على الصلح.
فنزل عشرون رجلا فيهم أولئك
__________
(1) ه " إذهبوا إلى أي أرض الحرب شئتم ".
(2) ب " ويخلاف ".
*(2/410)
الاربعة، ولكن لا نعلم الاربعة بأعيانهم، وكل واحد يقول: أنا من الاربعة.
فهم جميعا آمنون، لا يحل قتل أحد منهم ولا أسره.
لان كل واحد منهم تردد حاله بعدما حصل فينا بين أن يكون آمنا معصوم الدم وبين أن يكون مباح الدم.
فيترجح جانب العصمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع الحلال والحرام في شئ إلا غلب الحرام
الحلال ".
ولان الامان يتوسع في إثبات حكمه لا في المنع من ثبوت حكمه، ولان ترك (1) القتل والاسر، وهو حلال له، خير من أن يقدم على قتل أو أسر في محل معصوم.
ثم هذا التجهيل من ناحية المسلمين حين لم يعلموا الاربعة بعلامة يتمكنون من تمييزهم بتلك العلامة عن أغيارهم، فلا يؤثر ذلك في إبطال الامان الثابت بطريق الاحتمال لكل واحد منهم.
ولكنهم يبلغون مأمنهم بمنزلة ما لو أمنوا جميعا.
567 - ولو أن الامير أمن أربعة نفر من أهل الحصن بأعيانهم ولم يأمرهم بالنزول، ثم فتح الحصن، فقال كل واحد منهم: أنا من الاربعة.
فإن عرف المسلمون الذين أمنوهم وإلا كان القوم كلهم فيئا.
لانهم أخذوا (2) في منعة أهل الحرب، ومن كان في منعة أهل الحرب فهو مباح الاخذ، إلا أن يعلم فيه مانع، ولم يعلم ذلك في واحد منهم، بخلاف الاول، فهناك (3) الاربعة صاروا آمنين، وهم في منعة المسلمين.
ومن في منعة
__________
(1) ه " يترك القتل به.."، ب " يترك القتل لها ".
(2) ب " وجدوا ".
(3) ب، " فإن هناك ".
*(2/411)
المسلمين لا يكون محاربا لهم، باعتبار الحال، فما لم يعلم أنه محارب باعتبار الاصل وأنه لم يتناوله الامان لا يجوز التعرض له.
ألا ترى أنه لو أسلم أربعة في الحصن، فأمرهم المسلمون بالنزول، فنزل عشرون وادعى كل واحد منهم أنه هو الذى أسلم في الحصن، لم يحل سبى أحد منهم.
568 - لو أسلم أربعة في الحصن ولم يخرجوا حتى ظهر المسلمون على الحصن، فادعى كل واحد منهم أنه هو الذى أسلم، كانوا جميعا فيئا، إلا من عرف بعينه أنه كان فيمن أسلم.
فحينئذ يكون حرا هو وأولاده (1) الصغار، ويسلم له ماله.
لانه هو المحرز له.
فأما الكبار من أولاده فلا يتبعونه في الاسلام فكانوا فيئا أجمعين (2).
إلا أنه ليس للامام أن يقتل أحدا منهم هاهنا.
لان كل واحد منهم قابل للاسلام أو راغب فيه (ص 137) وإسلام الاسير يؤمنه عن القتل ولكنه لا يؤمنه عن الاسترقاق.
569 - قال: ولو لم أسب هؤلاء لم أسب أهل قسطنطينية إذا علمت أن فيها مسلما واحدا أو ذميا ولا أعرفه بعينه.
فهذا ليس بسبي، وكل من وقع عليه الظهور في دار الحرب فهو فئ ما لم يعلم المانع فيه.
واستوضح هذا الفرق بما.
__________
(1) ب، ه " يكون هو حرا مع أولاده.
" (2) ب " أجمعون ".
*(2/412)
لو دخل قوم من دار (1) الحرب بغير أمان قرية (2) من قرى أهل الذمة فأتاهم المسلمون ليأخذوا أهل الحرب فادعى كل واحد في القرية أنه من أهل الذمة، فهم آمنون كلهم.
لانهم في موضع الامن والعصمة.
فلا يحل التعرض لاحد منهم ما لم يعلم
أنه من أهل الحرب.
570 - ولو أن قوما من أهل الذمة دخلوا بعض حصون أهل الحرب بمرأى (3) العين من المسلمين، ثم ظهرنا على أهل الحصن، فكل من في الحصن فئ، إلا من عرف بالذمة بعينه.
لانهم وجدوا في موضع النهبة والاباحة فكانوا فيئا، ما لم يظهر المانع في بعضهم.
وتحكيم المكان في مثل هذا أصل في الشرع.
ألا ترى أنه من رأى شخصا في دار الحرب وهو لا يعلم حاله يباح له الرمى إليه ما لم يعلم أنه مسلم أو ذمى.
ولو رآه في دار (4) الاسلام لا يحل له ذلك ما لم يعلم أنه حربى.
571 - ولو أن ذميا دخل حصنا من حصونهم، فافتتح الحصن حين دخل الرجل، ولم يقتل أحدا منهم حتي أخذوا، وقد أحاط العلم بأن الذمي فيمن أخذ ولا يعلم أيهم هو، فإنه لا ينبغى للامام أن يقتل أحدا منهم.
__________
(1) ب " في دار ".
(2) ه، ب " في قرية ".
(3) ل " برأى ".
(4) قوله " في دار " ساقط من ه.
*(2/413)
لانه ليس بعضهم بأن يقتله أولى من البعض.
ولو قتلهم جميعا كان متيقنا بقتل من لا يحل قتله.
ولا طريق له إلى التحرز عما لا يحل إلا بالكف عن قتلهم جميعا.
وهذا لان التحرز عن قتل الذمي فرض عليه، وقتل الحربى الاسير مباح له.
ولا معارضة بين المباح والفرض.
وفى الموضع الذى تتحقق المعارضة يترجح جانب الحرمة على الحل.
فهنا أولى.
572 - فإن كان القوم قتل بعضهم، أو مات بعضهم، أو خرج بعضهم، فلم يحط العلم بأن الذمي فيهم فلا بأس بقتل الرجال كلهم.
لانهم وجدوا في موضع الحرب، والمانع من قتلهم كون الذمي فيهم.
وذلك غير متيقن به، فلا بأس بقتلهم بناء على أن الذمي كان هو الذى مات أو خرج منهم.
وهذا لان الظاهر من حال كل واحد منهم أنه حربى مباح الدم.
وإنما يبنى على الظاهر فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته، إلا أن يعارض الظاهر يقين بخلافه.
ففى الفصل الاول عارض الظاهر يقين وهو العلم بكون الذمي فيهم، وفى هذا الفصل لم يعارض الظاهر يقين، فبنى الحكم عليه.
573 - فإن كان أكبر (1) ظن الامام أن الذمي فيهم وكلهم يقول: أنا الذمي، فالمستحب له أن لا يقتل أحدا منهم.
لان أكبر (1) الرأى، وإن كان لا يعارض الظاهر، لكن يثبت به استحباب الاحتياط.
ألا ترى أن من وجد ماء وغلب على رأيه أنه نجس ولكن لم يخبره أحد بنجاسته فالمستحب له أن يتوضأ بغيره، وإن توضأ به أجراه.
فهاهنا أيضا المستحب أن لا يقتل أحدا منهم.
574 - وإن كان لو قتلهم، جاز.
باعتبار الظاهر.
والاصل فيه قوله
__________
(1) ل " أكثر ".
*(2/414)
صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: " ضع يدك على صدرك واستفت قلبك، فما حك في صدرك فدعه، وإن أفتاك الناس به ".
وإن كان لا رأى له في ذلك فلا بأس بأن يقتلهم باعتبار الظاهر.
وإن شك في اثنين أو ثلاثة منهم فلا بأس بأن يقتل الباقين ويسبي الذين في أكبر رأيه أن الذمي فيهم.
575 - وكذلك لو أن رجلا منهم أشرف على الحصن فدلنا على عورة من عوراتهم فآمنه الامام ثم افتتح الحصن من ساعته فهذا والذمى سواء.
لان الذى آمناه معصوم عن القتل، فإن حرمة القتل بالامان وبالذمة سواء.
576 - ولو وجدت المراوضة بين المسلمين وبين أهل الحصن (ص 138) على الصلح فقال المسلمون: أخرجوا إلينا أربعة منكم، فهم آمنون حتى نراوضهم.
فخرج منهم عشرون معا، فهم آمنون.
لان أربعة من العشرين قد صاروا آمنين بإعطاء المسلمين لهم الامان.
فإن إعطاء الامان لمجهول صحيح.
فإذا حصلوا في عسكرنا وبعضهم آمنون ثبت الامان لهم جميعا إذ ليس بعضهم بأولى من بعض.
ولا يحل التعرض لواحد منهم لتردد حاله بين أن يكون آمنا معصوما وبين أن يكون مباحا.
ألا ترى أن المسلمين لو قالوا: ليخرج إلينا رجل منكم فهو آمن.
فإذا فتح الباب كان لكل واحد منهم أن يخرج ويكون آمنا.(2/415)
فإذا خرج عشرة معا فكل واحد منهم في صورة من سلطة المسلمون على الخروج، ولو خرج وحده كان آمنا.
فخروج غيره معه لا يبطل ما أوجب له المسلمون من الامان.
ألا ترى أنهم لو قالوا: إن فتح رجل منكم الباب فهو آمن فوثب عشرة منهم ففتحوه معا كانوا آمنين.
لان كل واحد منهم لو فتحه وحده كان آمنا، فلا يبطل أمانه بفتح الغير معه.
577 - ولو قال: إن خرج رجل منكم إلينا لنراوضه على الصلح فهو آمن.
فخرج رجل، ثم تبعه آخر، ثم آخر.
فإن كان الاول صار في منعتنا قبل خروج الآخرين فالثاني والثالث فئ للمسلمين.
لان حكم الامان تعين في الاول حين صار في منعتنا وحده، ثم خرج الثاني والثالث بغير أمان، فان النكرة في موضع الاثبات يخص.
فبعد ما تعين الاول له لا يمس الثاني والثالث.
وإن لم يصل الاول إلى منعتنا حتى لحقه صاحباه فهذا وخروجهم معا سواء.
لان المنصوص عليه خروجه إلينا.
وإنما يتم ذلك بوصوله إلى منعتنا، فقبل ذلك لم يتعين الامان في الاول، فكان هذا وخروجهم معا سواء.
ألا ترى أن الاول لو رجع قبل أن يصل إلى منعتنا ثم خرج الآخر كان آمنا إذا وصل إلى منعتنا.
ولو وصل الاول إلى منعتنا ثم مات أو رجع فخرج الآخر كان فيئا.(2/416)
أرأيت لو أن الثاني عجل فوصل إلى منعتنا قبل أن يخرج الاول من منعة المشركين ألم يكن آمنا ؟ وهو أول رجل وصل إلى منعتنا، فعرفنا أن المعتبر حال الوصول إلى منعتنا، وقد وصلوا إلينا معا فكأنهم خرجوا معا فكانوا آمنين.
فإن قيل: إذا خرجوا معا كيف يثبت الامان لهم والنكرة في الاثبات لا تعم ؟ قلنا: هذه نكرة موصوفة بصفة عامة وهى الخروج إلينا، ومثل هذه النكرة تعم، كالرجل يقول: لا أكلم إلا رجلا عالما.
ولكن ينهى
شرط الامان بوصول أحدهم إلينا قبل خروج الآخرين.
فإذا خرجوا معا كانوا آمنين لهذا.
578 - ولو كان قال: عشرة منكم آمنون على أن تفتحوا الباب.
فقال الامام: نعم.
ففتحوا الباب.
فعشرة منهم آمنون، والخيار في تعيينهم إلى الامام.
لانه ما أوجب الامان للفاتحين بأعيانهم، وإنما أوجبه لعشرة منكرة منهم.
ولكن إيجاب الامان للمجهول يصح منجزا، وكذلك معلقا بالشرط.
ثم البيان يكون إلى من أوجب في المجهول كما في الطلاق والعتاق.
وإنما يثبت الامان لعشرة منهم بغير عيال ولا مال، إلا ما عليهم من الكسوة والسلاح استحسانا.
لان ثبوت الامان لهم بعد فتح الباب وتمام القهر.
وقد بينا أن العيال لا يدخلون في مثله.(2/417)
579 - وإن كانوا قالوا: عشرة من أهل حصننا آمنون على أن يفتح لكم الباب.
فقال الامام: نعم.
فله الخيار، إن شاء جعل العشرة من نسائهم وصبيانهم وإن شاء جعلهم من رجالهم.
لان اللفظ الذى به طلب الامان يتناول الكل، والكل (ص 139) من أهل الحصن.
وفى الاول إنما خاطب الرجال.
فيثبت الامان لعشرة من الرجال يعينهم الامام.
850 - وينبغى أن يحتاط للمسلمين في ذلك، حتى لا يختار للامان من تكون منفعة المسلمين في استرقاقه أقل لانه نصب ناظرا لهم.
وهذا بخلاف ما سبق من قوله ليخرج إلينا أربعة منكم.
وقوله:
ليخرج إلينا أحد منكم.
لان هناك الامان إنما يثبت لهم بعد ما وصلوا إلى منعتنا، وكل واحد منهم لو خرج وحده كان آمنا.
فبانضمام غيره إليه لا يبطل الامان.
وهذا الامان لعشرة منهم بعد الفتح وهم في الحصن.
وحقيقة هذا الفرق ما ذكرنا أن النكرة هنا غير موصوفة، وهناك النكرة موصوفة بالخروج إلينا.
ألا ترى أنه لو قال: إن رمى رجل منكم بنفسه إلينا وحده كان آمنا (1).
فرمى عشرة معا كانوا آمنين.
لان النكرة موصوفة، وكل واحد منهم لو رمى بنفسه وحده كان آمنا، فبانضمام غيره إليه لا يبطل حقه.
581 - ولو قال: ليخرج إلينا هؤلاء الاربعة حتى نراوضهم على الصلح.
فخرجوا، فهم آمنون، سواء قال: وهم آمنون أو لم يقل.
__________
(1) ب، ه " بنفسه إلينا فهو آمن ".
*(2/418)
لانه دعاهم إلى الخروج لطلب السلم والموافقة، ولان المراوضة على الصلح إنما تتأتى ممن كان آمنا على نفسه.
فهذا دليل الامان لهم.
بخلاف ما إذا قال لاربعة منهم: اخرجوا إلينا.
فخرجوا.
فإنه يكون له أن يقتلهم.
لانه ليس في لفظه ما يدل على الامان أو على الخروج على سبيل الموافقة، ولكن هذا طلب المبارزة.
فكأنه قال: اخرجوا إلينا للقتال إن كنتم رجالا.
582 - ولو قال: اخرجوا إلينا فبيعوا واشتروا، كانوا آمنين.
لان في كلامه ما دل على الامان والخروج إلى الموافقة.
فالتجارة تكون عن مراضاة، وإنما يتمكن منها من يكون آمنا.
583 - ولو قال: ليخرج إلينا هؤلاء الاربعة حتى نرواضهم على الصلح.
فخرج أربعة غير أولئك الاربعة، فهم فئ للمسلمين.
لان دلالة الامان لا تكون فوق التصريح بعينه.
584 - ولو قال لاربعة بأعيانهم أمنتكم، فخرج غيرهم كانوا فيئا.
585 - وإن أشكل على المسلمين فلم يدروا أيهم أولئك الاربعة أم غيرهم، فإن الامام يسألهم عن ذلك، فإن زعموا أنهم غيرهم، كانوا فيئا لاقرارهم على أنفسهم بحق الاسترقاق.
وإن زعموا أنهم أولئك الاربعة، فالقول قولهم.
لان الظاهر شاهد لهم.
والظاهر أنه لا يتجاسر أحد على الخروج إلا من أو من بعينه.(2/419)
فإن اتهمهم استحلفهم بالله على ذلك.
فإن نكلوا عن اليمين كانوا فيئا، ولكن لا يقتلون.
لان النكول بمنزلة الاقرار، ولكن فيه ضرب شبهة واحتمال، فلا يجب القتل به.
وقد تقدم بيانه.
586 - وإن خرج عشرون رجلا معا فقال كل واحد منهم: أنا من الاربعة، وحلف على ذلك، فهم آمنون جميعا.
لان كل أربعة لو خرجوا وحدهم وحلفوا كان القول قولهم.
فخروج (1) غيرهم لا يبطل حكم الامان في حقهم.
أو لانه اختلط المستأمن بغير المستأمن في منعتنا.
وفى مثل هذا يثبت الامان لهم جميعا احتياطا.
فعلى الامام أن يبلغهم مأمنهم.
__________
(1) ه " فخرج " *(2/420)
52 باب الخيار في الامان
587 - قال: وإذا حاصر المسلمون حصنا فأشرف عليهم رأس الحصن فقال: آمنونى على عشرة من أهل هذا الحصن على أن أفتحه لكم.
فقالوا: لك ذلك.
ففتح الحصن.
فهو آمن وعشرة معه.
لانه استأمن لنفسه نصا بقوله: آمنونى.
فالياء والنون يكنى بهما المتكلم عن نفسه (ص 140) وقوله على عشرة، كلمة عشرة للشرط.
وقد شرط أمان عشرة منكرة مع أمان نفسه، فعرفنا أن العشرة سواه.
ثم الخيار في تعيين العشرة إلى رأس الحصن.
لانه جعل نفسه ذا حظ (1) من أمانهم وهو ليس بذى حظ، باعتبار أنه داخل في أمانهم (2)، فقد استأمن لنفسه بلفظ على حدة، وليس بذى حظ على أنه مباشر لامانهم.
فان ذلك لا يصح منه.
فعرفنا أنه ذو حظ على أن يكون معينا لمن تناوله الامان منهم، باعتبار أن التعيين في المجهول كالايجاب (3) المبتدأ من وجه.
588 - ولو كان قال: آمنوا لى (4) عشرة من أهل الحصن.
فله
__________
(1) ل " داخل ".
(2) ل " أما منهم ".
(3) ه " لايجاب ".
(4) ب " أمنوني على عشرة " ه " أمنوني إلى عشرة ".
*(2/421)
عشرة يختار أي عشرة شاء.
فإن اختار عشرة هو أحدهم فذلك جائز.
وإن اختار عشرة سواه فالعشرة آمنون وهو فئ.
لانه ما استأمن لنفسه عينا، وإنما استأمن لعشرة منكرة، ولكن بقوله لى شرط لنفسه أن يكون ذا حظ، ولا يمكن أن يجعل ذا حظ على وجه مباشرة
الامان لهم، فإن ذلك لا يصح منه، فعرفنا أنه ذو حظ، على أن يكون هو المعين للعشرة.
ونفسه فيما وراء ذلك كنفس غيره إذا لم يتناوله الامان نصا.
589 - فإن عين نفسه في جملة العشرة صار آمنا.
بمنزلة التسعة الذين عينهم مع نفسه.
590 - وإن عين عشرة سواه فقد تعين حكم الامان فيهم وصار هو فيئا.
كغيره من أهل الحصن.
وكان حقيقة كلامه: آمنوا لاجلي عشرة، وأوجبوا لى حق تعيين عشرة تؤمنونهم.
ولو قال ذلك كان الحكم فيه ما بينا.
قال: وبلغنا نحو ذلك عن الاشعث بن قيس أنه قال ذلك يوم النجير (1).
وقد ذكر أهل الحديث نحو ذلك عن معاوية رضى الله عنه.
وكذلك لو كانت البداية من رأس الحصن بأن يقول: فأفتح لكم الحصن على انى آمن على عشرة.
أوقال: على أن لى عشرة آمنين من أهل الحصن، فهذا وما تقدم سواء (2) في الفصلين جميعا.
__________
(1) ه " يوم خيبر " ل، ب " يوم التخيير " (2) ل " لهذا وما تقدم سوا " ه " فهذا وما تقدم سواء " ب " فهو على ما تقدم سواء " *(2/422)
591 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنونى في عشرة من أهل الحصن، أو على أنى آمن في عشرة.
فهو سوآء (1)، وهو آمن وتسعة معه.
لان حرف في للظرف.
فقد جعل نفسه في جملة العشرة الذين التمس
الامان لهم.
فلا يتناول ذلك إلا تسعة معه، لانه لو تناول عشرة سواه كان هو آمنا في أحد عشرة، بخلاف الاول، فهناك ما جعل نفسه في جملة العشرة.
فان قيل: فقد جعل العشرة هنا ظرفا لنفسه والمظروف غير المظرف.
قلنا: هو كذلك فيما يتحقق فيه الظرف.
ولا يتحقق ذلك في العدد إلا بالطريق الذى قلنا.
وهو أن يكون هو أحدهم ويجعل كأنه قال: اجعلوني أحد العشرة الذين تؤمنونهم.
فان قيل: إذا لم يمكن حمله على معنى الظرف حقيقة فينبغي أن يجعل بمعنى مع، كقوله تعالى (فادخلي في عبادي) (2) أو يجعل بمعنى على، كقوله تعالى) (ولاصلبنكم في جذوع النخل) (3) وباعتبار الوجهين يثبت الامان لعشرة سواه.
قلنا: الكلمة للظرف حقيقة، فيجب حملها على ذلك بحسب الامكان.
وذلك أن يكون هو أحدهم داخلا في عددهم.
فلهذا لا نحمله على المجاز.
ثم الخيار في التسعة الذين معه إلى الامام هاهنا، لا إلى رأس الحصن.
لانه جعل نفسه أحد العشرة، فكما لا خيار له لمن سواه من العشرة في التعيين لا خيار له.
وهذا لانه جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة على أن
__________
(1) قوله " فهو سواء " ساقط من ه.
(2) سورة الفجر، 89، الآية 29.
(3) سورة طه، 20، الآية 71.
*(2/423)
يتناوله حكم أمانهم، لا أن يكون هو معينا لهم.
وقد نال ما سأل.
وبقى الامام موجبا الامان لتسعة بغير أعيانهم فإليه بيانهم.
592 - ولو قال: آمنونى وعشرة، أو أفتح لكم على أنى آمن
أنا وعشرة.
فالامان له ولعشرة سواه.
لان حرف الواو للعطف.
وإنما يعطف الشئ على غيره لا على نفسه.
ففى كلامه تنصيص على أن العشرة سواه ها هنا.
فإن لم يكن في الحصن إلا ذاك العدد (ص 141) أو أقل، فهم آمنون كلهم.
لان الامان بذكر العدد بمنزلة الامان لهم بالاشارة إلى أعيانهم.
وإن كان أهل الحصن كثيرا فالخيار في تعيين العشرة إلى الامام.
لان المتكلم ما جعل نفسه ذا حظ في أمان العشرة، وإنما عطف أمانهم على أمان نفسه.
فكان الامام هو الموجب للامان لهم فإليه التعيين.
وإن رأى أن يجعل العشرة من النساء والولدان فله ذلك.
لانهم من أهل الحصن، إلا أن يكون المتكلم اشترط ذلك من الرجال.
593 - ولو قال: آمنوانى بعشرة من أهل الحصن، كان هذا وقوله: وعشرة سواء.(2/424)
لان الباء للالصاق، فقد ألصق أمان العشرة بأمانه.
وإنما يتحقق ذلك إذا كانت العشرة سواه.
ولكن هذا غلط زل به قلم الكاتب والصحيح ما ذكر في بعض النسخ العتيقة (آمنونى فعشرة).
لان الفاء من حروف العطف وهو يقتضى الوصل والتعقيب، فيستقيم عطفه على قوله أمنوني وعشرة.
فأما الباء فتصحب الاعواض فيكون قوله: أمنوني بعشرة بمعنى عشرة أعطيكم من أهل الحصن عوضا عن أمانى.
وهذا لا معنى له في هذا الجنس من المسائل.
فعرفنا أن الصحيح قوله: أمنوني فعشرة
594 - ولو قال: أمنوني ثم عشرة.
كان هذا والاول سواء، فالعشرة سواه.
لان كلمة ثم للتعقيب مع التراخي.
وبهذا يتبين أيضا أن الصحيح في الاول قوله فعشرة، لانه بدأ بما هو للعطف مطلقا ثم بما هو للعطف على وجه التعقيب بلا مهملة ثم لها هو للتعقيب مع التراخي.
595 - ولو قال: أمنوا لى (1) عشرة، فالخيار في تعيينهم إلى الامام.
لان المتكلم لم يجعل نفسه ذا حظ، وإنما التمس الامان بعشرة منكرة.
فكان الامام هو الذى ابتدأ فقال: عشرة منكم آمنونى على أن يفتحوا.
فالخيار في تعيينهم إلى الامام.
إن شاء جعل المتكلم أحدهم، وإن شاء لم يجعل.
596 - ولو قال: أمنوني مع عشرة، فالعشرة سواه.
__________
(1) ه " أمنوني عشرة ".
*(2/425)
لان كلمة مع للضم والقران.
وإنما يضم الشئ إلى غيره لا إلى نفسه.
فعرفنا أن العشرة سواه.
والخيار في تعيينهم إلى الامام.
لانه هو الذى أبهم الايجاب والمتكلم ما جعل نفسه ذا حظ من أمان العشرة.
597 - ولو قال: أمنوني في عشرة من أهل حصنى.
فهذا وقوله من أهل الحصن سواء.
والامان له ولتسعة يختارهم الامام.
فإن قيل: هو جعل نفسه معرفة بإضافة الحصن إلى نفسه والعشرة منكرة فينبغي أن لا يدخل المعرفة في النكرة.
كما قال في " الجامع ": إن دخل دارى هذه أحد فعبده حر فدخلها هو لم يحنث قلنا: هو معرفة هنا بإضافة الامان إلى نفسه قبل إضافة الحصن إلى نفسه بقوله آمنونى.
وإنما الحاجة إلى معرفة حكم (في).
وقد بينا أنه للظرف.
ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يكون هو في جملة العشرة.
والعمل بالحقيقة هاهنا ممكن لانه من أهل الحصن كغيره.
598 - وكذلك لو قال: في عشرة من أهل بيتى، أو في عشرة من بنى أبى، كان هو وتسعة سواه.
لانه من جملة أهل بيته والمراد بيت النسب.
وهو من جملة بنى أبيه.
فكان العمل بحقيقة الظرف هاهنا ممكنا، فلهذا كان الامان بعشرة ممن سماهم هو أحدهم، والبيان إلى الامام.
599 - ولو قال: في عشرة من إخوانى، فهو آمن وعشرة سواه من إخوانه.(2/426)
لانه صرح بما يمنع العمل بحقيقة الظرف هنا.
والانسان لا يكون من إخوانه، فوجب أن يجعل حرف " في " بمعنى مع، كما هو الاصل أنه متى تعذر العمل بحقيقة الكلمة وله مجاز متعارف يحمل على ذلك المجاز لتصحيح الكلام.
600 - وكذلك لو قال: في عشرة من ولدى.
لانه لا يكون من ولد نفسه، فلا بد من أن يجعل العشرة سواه.
وعلى هذا لو قال: أمنوا عشرة من إخوانى أنا فيهم، أو قال: عشرة من أولادي أنا منهم فالامان لعشرة سواه.
(ص 142).
601 - ولو قال: عشرة من أهل بيتى أنا فيهم، أو عشرة من أهل حصنى أنا فيهم، فالامان لعشرة وهو أحدهم.
لما بينا من الفرق.
602 - ولو قال: في عشرة من بنى، فهو على عشرة من بنيه سواه يعينهم الامام.
لانه لم يجعل نفسه ذا حظ من أمانهم.
603 - فإن كانوا ذكورا كلهم أو مختلطين فالامام يعين أي عشرة شاء من ذكورهم أو إناثهم.
فإن لم يكن فيهم ذكر فهم فئ كلهم، سوى الرجل المستأمن.
لانه إنما استأمن لبنيه.
وقد بينا أن هذا الاسم لا يتناول الاناث المفردات.(2/427)
فإن قيل: أليس انهم لو كانوا مختلطين فعين الامام عشرة من الاناث كان له ذلك، وإذا لم يتناولهم اسم البنين فكيف يعينهم الامام ؟ قلنا: لانه ما آمن عشرة وهم بنوه، وإنما آمن عشرة هم من بنيه.
وعند الاختلاط البنات العشرة هم عشرة من بنيه.
فلهذا كان له أن يعينهم.
فأما عند عدم الاختلاط فالاناث المفردات لسن من بنيه فكيف يتناولهن الامان ؟ 604 - ولو كانوا بنين وبنات، وبنى بنين وبنى بنات، فله أن يختار عشرة، إن شاء من الولدان وإن شاء من ولد الولد.
وقد بينا أن هذا الاسم يتناول بنى البنين في الامان كما يتناول البنين استحسانا.
ذكر في الكتاب " بنى البنات " فمن أصحابنا من قال: هذا غلط من
الكاتب، والصحيح: بنات البنين.
وقيل: بل هو صحيح، وهو احدى الروايتين اللتين ذكرنا فما سبق أنه يطلق اسم البنين على أولاد البنات كما يطلق على أولاد البنين.
والاخوة والاخوات في هذا بمنزلة البنين والبنات.
إلا أنه إذا قال: في عشرة من اخواني وله اخوات منفردات وبنى أخوة فهم فئ كلهم لان اسم الاخوة لا يتناول الاخوات المنفردات ولا بنى الاخوة حقيقة ولا مجازا، بخلاف بنى البنين.
فالاسم هناك يتناولهم مجازا، فإذا اختلط ابن الابن بالبنات المنفردات يتناولهم اسم البنين مجازا.
605 - ولو قال: آمنونى في عشرة من أصحابي.
فالعشرة سواه.
لان أصحابه غيره، ولا وجه لاعمال حرف " في " هاهنا للظرف (1).
606 - وكذلك لو قال: في عشرة من رقيقي، أو في عشرة من موالى.
__________
(1) ب ".
حرف " في " حقيقة الظرف هنا ".
*(2/428)
607 - ولو نظر الامام إلى فارس منهم فقال: أنت آمن في عشرة من فرسانكم.
فهو آمن وتسعة سواه.
فان حرف " في " هاهنا للظرف.
فانه بصفة العشرة الذين آمنهم الامام، فيمكن أن يجعل هو أحدهم.
608 - وإن قال: أنت آمن في عشرة من الرجالة.
فالعشرة من الرجالة سواه.
لانه ليس بصفة العشرة، فانه فارس، فعرفنا أن حرف " في " بمعنى مع هنا.
وكذلك لو كان على عكس هذا.
قال: وإنما يؤخذ في هذا بما عليه كلام الناس.
يعنى الذى سبق إلى فهم كل أحد من هذه الالفاظ التى ذكرت.
609 - ولو قال: في عشر من بناتى، وله بنون، فالامان للبنات خاصة.
لان اسم البنات لا يتناول الذكور بحال.
610 - وكذلك لو كان له بنات بنين، فهو عليهن دون البنين.
لان اسم البنات لا يتناولهن مجازا.
وإن لم يكن له إلا بنات بنات، فليس يدخلن في الامان.(2/429)
وهذا بناء على أظهر الروايتين أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم لا إلى أبى أمهم.
إلا أن يكون جرى مقدمة بأن يقول: لى بنات بنات، وقد ماتت أمهاتهن، فأمنوني في بناتى.
فحينئذ يعرف بتلك المقدمة أنه إنما استأمن لهن.
والرجوع إلى دلالة الحال لمعرفة المقصود بالكلام أصل صحيح في الشرع.
611 - ولو قال: آمنونى في موالى.
وله موال (1) وموالى موال (1)، كانوا آمنين استحسانا (2).
لان الاسم لمعتقه حقيقة، باعتبار أنه أحياهم بالاعتاق حكما.
أو لمعتق معتقه مجازا، باعتبار أنه حين جعل المعتقين أهلا لايجاب العتق لهم، فكأنه سبب لاعتاقهم.
وقد بينا أن الامان مبنى على التوسع، وأن مجرد صورة اللفظ يكفى لثبوت حقن الدم به احتياطا، وإنما لا يجمع بين الحقيقة والمجاز في محل واحد، فأما في محلين فيجوز أن يجمع على وجه لا يكون (ص 143) المجاز معارضا للحقيقة في إدخال الجنس على صاحب الحقيقة، وفى الامان لا يؤدى إلى هذه المعارضة بخلاف الوصية.
وإنما هذا نظير قوله تعالى (حرمت
عليكم أمهاتكم) (3) حتى يتناول الام والجدات جميعا.
612 - ولو قال: آمنونى في موالى.
وله موال أعتقوه وموال (4) أعتقهم، فالامان لا يتناول الفريقين بهذا اللفظ.
لان مقصوده من طلب الامان للاعلى (5) مجازاته على ما أنعم عليه، وللاسفل الترحم والزيادة في الانعام عليه.
وهما معنيان متغايران.
ولا عموم
__________
(1) ل " موالى ".
(2) ل " استحبابا ".
(3) سورة النساء، 4، الآية 23.
(4) ل، ه " موالى ".
(5) ل " الاعلى ".
*(2/430)
للاسم المشترك، باعتبار أنه لا يتحقق اجتماع المعنيين المتغايرين في كلمة واحدة.
فلهذا كان الامان لاحد الفريقين كالوصية، إلا أن (1) الوصية للمجهول لا تصح، فكانت باطلة بهذا اللفظ.
والامان للمجهول صحيح.
فيكون ذلك على ما نواه الذى أمنهم، وهو مصدق في ذلك.
لانه لا يعرف إلا من جهته.
فإن قال: ما نويت شيئا.
فهم جميعا آمنون استحسانا (2).
لا باعتبار أن اللفظ المشترك عمهم فالمشترك لا عموم له، ولكن باعتبار أن الامان يتناول أحد الفريقين، ولا يعرفون بأعيانهم.
وعند اختلاط المستأمن بغير المستأمن يثبت الامان لهم احتياطا كما بينا.
فان قيل: كان ينبغى أن يكون خيار التعيين إلى الامام، وإن لم ينو شيئا في الابتداء، لانه أوجب في المجهول، فإليه البيان.
قلنا: لا كذلك، فان المشترك غير المجمل.
واللفظ الذى أوجب الامان هنا ليس بمجمل حتى يرجع في البيان إلى المجمل، وإنما هو مشترك.
باعتبار أنه يحتمل كل واحد من الفريقين على وجه الانفراد، كأنه ليس معه غيره.
وفى مثل هذا لا بيان للموجب، وإنما يطلب البيان بالتأمل في صفة الكلام.
فإذا تعذر الوقوف عليه كانوا جميعا آمنين، لاختلاط المستأمن بغير المستأمن.
وهذا لان بيان المشترك بما يكون مقارنا، فأما ما يكون طارئا فهو نسخ، فلا جرم (3) إذا قال: نويت الاسفلين أو الاعلين، كان ذلك صحيحا.
لانه بيان بما اقترن بالكلام.
فأما إذا قال: اختار الآن، فهذا ليس ببيان، إنما هو في معنى النسخ، وهو لا يملك ذلك.
__________
(1) ه " لان ".
(2) ل " استحبابا ".
(3) ب " حرمة ".
*(2/431)
613 - وإن قال المتكلم: أنا نويت الاسفلين.
وقال الامام: أنا نويت الاعلين.
فهو على ما عنى الامام.
لانه هو الموجب بالصيغة المشتركة (1).
ألا ترى أنه لو قال: آمنى على قريبى عباس بن عمر.
فقال: آمنتك.
وله قريبان كل واحد منهما بهذا الاسم.
فقال الامام: عنيت هذا.
وقال المستأمن: عنيت الآخر.
كان ذلك على ما عنى الامام.
وإن قال الامير: لم أعن واحدا منهما بعينه.
وقال المستأمن: كذلك.
فهما آمنان.
لاختلاط من صار آمنا بغيره على وجه لا يمكن تمييزه.
وإن قال المستأمن: عنيت هذا.
وقال الامير: لم أعن واحدا بعينه،
إنما أجبته إلى ما طلب.
فالامان الذى عناه المستأمن.
لان الامام بنى الايجاب على كلامه، وأحدهما في ذلك عين بإرادة المستأمن إياه.
فيجعل ذلك كالمعين في جواب الامام (2) أيضا.
614 - ولو قال: آمنى على عشرة من موالى الاسفلين.
فالخيار في تعيينهم إلى المستأمن هنا، كما في قوله على عشرة من أهل حصنى.
لانه جعل نفسه ذا حظ من أمانهم، بذكر كلمة الشرط بعد أمان نفسه.
615 - وكذلك لو قال: على ابن عمى.
فله أن يختار أيهما شاء إذا كان له ابنا عم.
ولو قال: على ابن عمى زيد بن عمرو.
فإذا كان له ابنا عم كل واحد
__________
(1) ل، ب " المشترك ".
(2) ص " الامان ".
*(2/432)
منهما بهذا الاسم، وأجمع المستأمن والذى آمن لم يعينا واحدا منهما، فهما آمنان.
لان التعريف بالاسم والنسب كالتعريف بالاشارة.
وإنما وقع الامان بهذا اللفظ على أحدهما بعينه، ولكنا لا نعرفه (ص 144)، فاختلط المستأمن بغير المستأمن.
وفى الاول إنما أوجب الامان في منكر مجهول.
فكان له أن يعين أيهما شاء.
ألا ترى أنه لو أعتق عبدا بعينه من عبيده، ثم اختلط بغيره على وجه لا يمكن تمييزه لم يكن له خيار التعيين.
بخلاف ما لو أعتق أحد عبديه (1) بغير عينه.
616 - ولو قال: آمنونى في عشرة أنفس من بنى.
فقد يقدم بيان هذا.
إلا أن هنا ليس للامام أن يعين عشرة من بناته ليس
فيهن ذكر.
لانه أوجب الامان لعشرة هم بنوه.
وهذا لا يتناول الاناث المفردات، بخلاف الاول.
فهناك أوجب الامان لعشرة هم من بنيه، والاناث المفردات من بنيه إذا كان له معهن ذكر.
617 - ولو قال: آمنونى على موالى.
وليس له إلا مواليات إناث لا ذكر فيهن.
فهن آمنات معه استحسانا.
وفى القياس هذا وما تقدم من الاخوة والبنين سواء في أنه لا يتناول الاناث المفردات ولكنه استحسن فقال: 618 - وأهل اللغة يستجيزون إطلاق اسم الموالى على الاناث
__________
(1) ه " عبيده ".
*(2/433)
المفردات، ويعدون قول القائل مواليات من باب التكلف، بل يقولون للمعتقات: هن موالي بنى فلان، كما يقولون للمتقين، وللعرف عبرة في معرفة المراد بالاسم.
فلهذا تناول هذا اللفظ الاناث المفردات في الامان والوصية بخلاف اسم الاخوة والبنين.
والله أعلم بالصواب (1).
__________
(1) ه " والله تعالى الموفق ".
*(2/434)
53 باب الامان على غيره ما يدخل هو فيه وما لا يدخل وما يكون فداء وما لا يكون 619 - قال: رجل من المحصورين قال للمسلمين: أفتح لكم
الحصن على أن تؤمنونى على فلان رأس الحصن.
فقالوا: نعم.
ففتح الحصن.
فهو والرأس آمنان.
لانه صرح باشتراط الامان لنفسه وللرأس على فتح الحصن.
فانه أضاف الامان إلى نفسه بالكناية، وإلى الرأس بالتصريح باسمه ووصل كلمة على الذى هو للشرط به (1).
620 - وكذلك لو قال: أنا آمن على فلان رأس الحصن إن فتحت الباب.
فقالوا: نعم.
وهذا (2) لان نعم غير مفهوم المعنى بنفسه، فإذا ذكر في موضع الجواب يصير الخطاب معادا فيه.
فكأن المسلمين قالوا له: أمناك (3) على فلان رأس الحصن على أن تفتح الباب.
وفى هذا إيجاب الامان لهما، بمنزلة
__________
(1) ب " الذى هو للشرطية ".
(2) ق " فهذا ".
(3) من هنا إلى قوله أمناك على أهلك..ساقط في ل.
*(2/435)
مالو قالوا: أمناك على أهلك وولدك، أو على أهلك ومالك، على أن تفتح الحصن.
ولو كان قال: اعقدوا لى الامان على فلان فهما آمنان أيضا.
621 - وكذلك لو قال: اجعلوا لى الامان على فلان.
لانه صرح باشتراط الامان لنفسه ولفلان.
وهذا بخلاف ما قال في الباب الاول آمنوا لى عشرة.
فانه لا يتناوله الامان، لان تقدير كلامه هناك آمنوا لاجلي، فلا يصير مضيفا الامان إلى نفسه، بل يصير ملتمسا الامان لعشرة منكرة، متشفعا (1) في ذلك.
وكم من شفيع لاحظ له فيما يشفع فيه.
ولا يتحقق هذا المعنى هنا، فان قوله: اعقدوا لى الامان تصريح بإضافة
الامان إلى نفسه.
ولانه قال على فلان.
ولو حملنا قوله على معنى الشفاعة لم يبق لقوله: (على) فائدة، بل يصير كلامه اعقدوا أو اجعلوا (2) لاجلي وبشفاعتي الامان لفلان.
وكلمة على للشرط، فلابد من إعمالها إذا صرح بها.
وذلك في أن يلتمس الامان لنفسه ويشترط أمان فلان معه.
وفى تلك المسألة لم يذكر كلمة على، إنما قال: آمنوا لى عشرة.
622 - ولو قال: عاقدوني على أن (3) الامان على رأس الحصن، فالرأس آمن والمتكلم فئ.
لانه أضاف العقد إلى نفسه دون الامان.
وكم من مباشر للعقد لاحظ له من المقصود بالعقد، خصوصا في هذا العقد الذى لا تتعلق الحقوق فيه بالعائد.
ولابد من الاضافة (4) (ص 145) إلى من يقع العقد له.
ألا ترى أن المسلمين لو قالوا: عاقدناك الامان (5) على الرأس إن
__________
(1) ب " مستشفعا ".
(2) ه.
ق " واجعلوا ".
(3) " أن " ساقطة من ق، ل.
(4) ل " إضافة ".
(5) ساقط من ل.
*(2/436)
فتحت.
فكان الامان على الرأس دونه.
لان المعاقدة على ميزان المفاعلة، فيه (1) يصير العقد مضافا إليه دون ما يتناوله العقد وهو الامان.
623 - ثم إنما يأمن الرأس وحده، ولا يدخل في الامان عياله ورقيقه في هذين الفصلين.
لان الامان له بعد الفتح وتمام القهر.
وفى مثله لا يدخل إلا ما عليه
من اللباس.
624 - ولو قال (2): عاقدوني (3) الامان، أو اكتبوا إلى الامان على فلان.
فقالوا: نعم.
فالامان لفلان دونه.
لانه التمس أن يكتبوا إليه أمان فلان.
والمكتوب إليه قد لا يكون ذا حظ من المكتوب.
فهذا وقوله: عاقدوا لى سواء.
ووقع في بعض النسخ: (اكتبوا لى الامان على فلان).
وهو غلط.
فان قوله: اكتبوا لى الامان كقوله: اجعلوا لى الامان.
لان فيه تصريحا بإضافة الامان المكتوب إلى نفسه، فعرفنا أن الصحيح: اكتبوا إلى.
625 - ولو قال: اعقدوا لى الامان، أو (4) عاقدوني على الامان على عيالي، أو قال: على ولدى، أو على مالى، أو على قرابتي.
فهو آمن، وجميع من اشترط عقد الامان عليه.
__________
(1) ه، ل " فيه ".
(2) " قال " ساقطة من ل.
(3) ه، ب " عاقدوا لى ".
(4) ه " أو قال عاقدوني ".
*(2/437)
أما في قوله: اعقدوا لى، فهو غير مشكل.
وأما في قوله: عاقدوني فهو لا يدخل في الامان في القياس، كما في الفصل الاول.
لانه أضاف العقد إلى نفسه دون الامان، ولكنه استحسن هنا لوجهين: أحدهما: أن في كلامه دلالة اشتراط الامان لنفسه، لانه شرط الامان لولده ولعياله.
والمقصود به إبقاؤهم.
وإنما بقاؤهم ببقائه على وجه يعولهم بعد هذا، كما كان يعولهم من قبل.
ولا يتحقق هذا إلا إذا تناوله الامان،
فانه إذا قتل أو استرق لا يعولهم بعد ذلك.
وهذا في قوله: على مالى، أظهر.
لانه لا غرض له في طلب الامان لما له سوى أن يبقى على ملكه، فيصرفه إلى حوائجه، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يثبت الامان له.
ولانه ليس بسفير في هذا العقد.
فالعاقد على مال نفسه يكون عاملا لنفسه، ولا يكون سفيرا عن غيره.
وكذلك في حق العيال والولد، لان قصده إلى استنقاذهم لحاجته إلى ذلك حتى يقوموا بمصالحه (1)، أو لاظهار الشفقة عليهم، وذلك في حق نفسه أظهر.
فعرفنا أنه طلب الامان لنفسه دلالة بخلاف ما سبق.
626 - ولو قال: عاقدوني على الامان على عيال فلان أو على ولد فلان.
فهو لا يدخل في الامان.
لانه ليس في كلامه دليل على طلب الامان لنفسه، فان بقاء عيال فلان غير متعلق ببقائه، وبقاؤه غير متعلق أيضا بقيامهم بمصالحه.
فكان هذا وقوله على رأس الحصن، سواء.
ولم يذكر أن فلانا المنسوب إليه العيال والولد هل يدخل في هذا الامان أم لا ؟ وعلى أحد الطريقين الاستحسان ينبغى أن يدخل، لان بقاء عيال فلان على ما كانوا عليه يتعلق بأمان فلان.
وعلى الطريق الآخر لا يدخل، لان
__________
(1) ب " لمصالحه ".
*(2/438)
المتكلم أظهر الشفقة والترحم على ولد فلان وعياله، وذلك لا يكون دليلا على شفقته على فلان.
ثم أوضح هذا بما: 627 - لو قال الرأس: عاقدوني الامان على أهل مملكتي، أو على
بيتى، فإنه بهذا اللفظ يعلم كل واحد أن مراده إبقاء نفسه على ما كان عليه متصرفا في مملكته، وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت الامان.
628 - ولو قال: اعقدوا لى الامان على أهل حصنى على أن أفتحه لكم.
فهو آمن وأهل الحصن من بنى آدم.
فأما الاموال والسلاح والمتاع والكراع فهو فئ.
لان ثبوت الامان بعد فتح الباب.
وفى مثله لا تدخل الاموال تبعا.
ألا ترى أنهم شرطوا له ذلك جزاء على فتح الباب ؟ 629 - ولو تناول الامان جميع ما في (1) الحصن من الاموال والنفوس لم يبق للمسلمين فائدة في فتح الباب.
(ص 146) فبهذا يتبين أنهم قصدوا ذلك ليتوصلوا إلى استغنام الاموال، ولان في اشتراط فتح الباب دليل على أن الذين تناولهم الامان غير مقرين على السكنى في الحصن، وإنما تدخل الاموال في الامان لان التمكن من المقام بها يكون، فإذا انعدم ذلك المعنى هنا لا يدخل المال.
__________
(1) قوله " ما في " ساقط من ه.
*(2/439)
630 - ولو قال: اعقدوا لى الامان على أهل حصنى على أن أدلكم على الطريق إلى موضع كذا.
ففعلوا، وفتح الحصن.
فجميع من في الحصن، وجميع ما فيه داخل في الامان هنا.
لان شرط الامان هنا جزاء على الدلالة لا على فتح الباب، ففى كلامه بيان أنه يدلهم ليتمكن القرار في حصنه مع أهل الحصن على ما كانوا من قبل.
وفى مثل هذا الامان تدخل الاموال.
631 - وكذلك لو قال: اعقدوا لى الامان على أهل حصنى على
أن تدخلوه فتصلوا فيه.
فليس لهم قليل ولا كثير من النفوس ولا من الاموال.
لان في كلامه تصريح بما هو فائدة فتح الباب، وهو الصلاة فيه دون إزعاج أهله منه.
وقد يرغب المسلمون في ذلك ليفشوا الخبر بأن المسلمين صلوا بالجماعة في حصن كذا، فيقع به الرعب في قلوب المشركين، أو ليعبد (1) الله في مكان لم يعبده في ذلك المكان أهله.
ومكان العبادة شاهد للمؤمن يوم القيامة كما ورد به الاثر.
632 - ولو قال: آمنونى على أهل الحصن على أن تدخلوه، ولم يذكر غير ذلك.
فهذا الامان على الناس خاصة.
لان فائدة دخول الحصن الاستغنام، هو الظاهر وما سواه محتمل (2).
ولكن المحتمل لا يقابل الظاهر.
فإذا انعدم التصريح بالوجه المحتمل كان الكلام محمولا على الظاهر.
إليه أشار بقوله.
__________
(1) ه " ليعبدوا ".
(2) ب " يحتمل ".
*(2/440)
وبعض هذا قريب من بعض.
ولكن هذا على ما يقع عليه معاني الكلام.
633 - ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنونى في أهل حصنى، أو مع أهل حصنى، أو وأهل حصنى، لم تدخل الاموال في شئ من هذا.
لان اشتراط الامان لهم جزاء على فتح الباب مطلقا.
634 - ولو قال: أفتح الحصن على أن تؤمنونى على ألف درهم.
فهو آمن.
وماله كله فئ.
إنما له ألف درهم يعطيه الامام من أي موضع شاء.
لانه شرط ألف درهم مطلقا مع أمان نفسه، جزاء على الفتح.
وفى مثل هذا الامان لا يدخل ماله، ولكن يدخل ما شرط من الالف عوضا على فتح الباب.
فإذا فتح أعطى ما شرط له من العوض.
635 - وكذلك لو قال: أفتح الحصن وتؤمنوني على ألف درهم.
فان الواو هنا بمعنى الحال، يعنى في حال ما تؤمنونى على ألف درهم.
فيكون شرطا.
كقوله لا مرأته: أنت طالق وأنت مريضة.
636 - فإن قال: أفتح الحصن فتؤمنونى على ألف درهم من مالى، أو على أن تؤمنونى.
فإنما له ألف درهم من ماله والباقى كله فئ.(2/441)
وإن لم يف ماله بألف درهم لم يكن زيادة على ماله.
لانا علمنا أنه لم يجعل الالف لنفسه عوضا، فانه أضاف الالف إلى نفسه بقوله: من مالى.
وماله لا يسلم له عوضا عن فتح الباب، بل يسلم له بأن أعطى الامان في ماله كما في نفسه.
وبطريق الامان لا يسلم له زيادة على ماله، بخلاف الاول.
فقد أطلق تسمية الالف بمقابلة (1) منفعة شرطها على نفسه للمؤمنين، فيكون ذلك عوضا، بمنزلة الاجير يقول: أعمل لك هذا العمل على درهم، ولو قال: أعمل لك هذا العمل على درهم من مالى لم يكن ذلك إجارة.
وإن لم يكن ماله دراهم ولكنه كان عروضا أعطى من ذلك ما يساوى ألفا، لانه قال: من مالى.
فانما جعل المشروط فيه الامان جزء من ماله، وبصفة المالية الاموال (2) جنس واحد، بخلاف ما إذا قال (ص 147)
على ألف درهم من دراهمي.
لان المشروط فيه الامان هناك جزء من دراهمه، فإذا لم يكن له دراهم لم يصادف هذا الامان محله، فكان لغوا.
ونظيره الوصية إذا قال: أوصيت لفلان بألف درهم من مالى.
أعطى ألف درهم من ماله، وإن لم يكن له دراهم.
وإن قال: من دراهمي لم يعط شيئا.
ثم ذكر سؤالا فقال: 637 - إذا قال على ألف من مالى لماذا لا يجعل شرطا للالف على نفسه للمسلمين عوضا عن الامان، فيصير (3) كأنه شرط لهم فتح الحصن وألف درهم عن نفسه عوضا عن أمانه.
قلنا: لان في هذا إلغاء هذا الشرط.
فإنه لو فتح الباب ولم يذكر هذه الزيادة كان ماله كله فيئا.
فعرفنا أنه ليس مراده - وتؤمنوني على ألف من مالى - أن تكون الالف للمسلمين من ماله، وإنما مراده أن يكون الالف سالما له من ماله
__________
(1) ق " في مقابلة ".
(2) ب " المال ".
(3) ه " فتصير ".
*(2/442)
بطريق الامان، وما سواه فئ للمسلمين.
ألا ترى أنه لو قال: افتح الحصن على أن تؤمنونى على دقيقي أو على مالى أو على سلاحي كان ذلك محمولا على طلب الامان لهذه الاشياء مع نفسه.
فكذلك قوله على ألف من مالى ؟ 638 - ولو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق أو على عشرة أفراس، كان ذلك عوضا، بمنزلة قوله: على ألف درهم مطلقا.
لان الرقيق يصلح عوضا عما ليس بمال كالدراهم، وفتح الباب بهذه
الصفة، فللمسلمين أن يعطوه الا رؤس من أي موضع أحبوا.
بخلاف ما إذا قال: رقيقي أو كراعي.
639 - ولو (1) لم يشترط فتح الحصن.
ولكن قال: آمنونى حتى أنزل إليكم على ألف درهم، أو قال: على ألف درهم من مالى، فأمنوه.
فعليه ألف درهم في الوجهين جميعا.
لانه ما شرط في مقابلة ما التمس من الامان منفعة للمسلمين.
فعرفنا أن مراده بذكر الالف أن يكون عوضا للمسلمين على أمانه سواء أطلق أو قال: من ما ؟ ؟.
وهذا لان بنزوله يتوصل المسلمون إلى ماله الذى في الحصن، ليكون ذلك دلالة التماس الامان في هذا القدر من ماله.
وإذا حملنا على اشتراط العوض كان مفيدا للمسلمين بخلاف ما سبق.
640 - وكذلك لو قال: على عشرة أرؤس من الرقيق، أو من رقيقي، فهذا عوض.
وقد فدى به نفسه، فعليه أن يدفع ذلك إلى المسلمين.
__________
(1) ه " ولم يشترط ".
*(2/443)
641 - ولو قال: على أهلي، أو ولدى، أو مالى، فهو آمن، وجميع ما نزل به من ذلك، ولا شئ عليه.
لان أهله وولده ليس بمال، ولم تجر العادة بأن يجعلهم المرء فداء لنفسه، بل يجعل نفسه وقاية دونهم.
فعرفنا أن مراده التماس الامان لهم مع نفسه.
وكذلك إذا ذكر المال مطلقا، لان ذلك مجهول الجنس والصفة والقدر، فلا يصلح أن يكون فدء، ولانه لا يفدى نفسه بجميع ماله عادة، إذا (1) يهلك جوعا.
642 - ولو قال: آمنونى على رقيقي على أن أنزل، فهو آمن ورقيقه.
ولو قال: على نصف رقيقي، كان هذا فداء.
وباعتبار حقيقة المعنى لا يتضح الفرق بينهما، ولكن باعتبار عرف الناس.
فان الانسان يفدى نفسه ببعض ما يأتي به معه ليتعيش آمنا بما بقى، ولا يفدى بجميع ما ينزل به.
فإذا ذكر نصف المال أو نصف جنس من المال فالغالب أن مراده الفداء.
وإذا ذكر جميع المال أو جميع جنس من المال كالرقيق، فالغالب أن مراده طلب الامان لذلك الجنس مع نفسه.
فإذا ذكر ما ليس بمال كالزوجة والولد فالغالب أن مراده الاستئمان لهم لا الفداء، سواء ذكر عددا منهم أو ذكر جماعتهم (ص 148)، وهو بمنزلة ما لو ذكر إنسانا آخر بقوله: آمنونى على فلان.
فانه يكون ذلك طلب الامان لفلان لا جعله فداء لنفسه.
643 - فإن قال: آمنونى على عشرة من رقيقي حتى أنزل، فهذا فداء.
__________
(1) ه " إذ ".
*(2/444)
فإن نزل معه بماله وزوجته فهم فئ أجمعون.
لما بينا أن في أمان النازل لا يدخل سوى ما عليه من اللباس.
ألا ترى أن في الامان بغير فداء لا يدخل المال والعيال ؟ فكذلك في الامان بالفداء.
644 - ولكنه إن نزل معه بمثل ما اشترط في فدائه فقال: جئت به للفداء الذي شرطتم على، فالقياس أن يكون ذلك فيئا، فيكون عليه فداء آخر.
لان الامان له بعد النزول، وذلك لا يتناول ما معه من المال، فصار المال فيئا للمسلمين.
وهو لا يتمكن من أدآء ما التزمه من الفداء بفئ للمسلمين ولكنه استحسن فقال:
يحسب (1) له هذا من الفداء.
لانه يتمكن من أدآء ما التزمه بماله، وهو ينزل إلينا ولا مال له عندنا.
وإذا لم ينزل بهذا القدر مع نفسه لا يتمكن من الفداء.
فكان اشتراط الفداء عليه تسليطا له على أن يأتي به، كما أن اشتراط بدل الكتابة على المكاتب يكون تسليطا له على الاكتساب وتمليكا لليد والكسب منه.
645 - فإن كان المشروط عليه عشرة أرؤس فجاء بأحد عشرة، كان لنا أن نأخذ الكل: عشرة بالفداء والباقى لانه فئ.
لان الاستحسان في مقدار حاجته إلى الفداء، وفيما زاد عليه يؤخذ بالقياس.
__________
(1) ه " يجب ".
*(2/445)
646 - وكذلك لو جاء بعشرين رأسا فقال: جئت بها لتبيعوها (1)، فإنه يؤخذ الكل منه.
باعتبار القياس كما ذكرنا.
647 - وإن جاء بصنف غير الرقيق فقال: أردت أن أبيعه وأعطيكم القيمة، فإنه يقبل ذلك منه مع يمينه استحسانا.
لان الرقيق في معاوضة ما ليس بمال مطلقا يثبت مترددا بين العين وبين القيمة، وبأيهما جاء قبل منه.
فكانت المجانسة بين الفداء وبين ما جاء به ثابتة، باعتبار المالية، فلهذا يصدق في ذلك.
648 - وهذا إذا قال: على عشرة أرؤس من الرقيق.
وأما إذا قال: من رقيقي، ثم جاء بالدراهم، فذلك فئ، وهو مطالب بما التزمه من الفداء.
لانه بإضافة الرقيق إلى نفسه يصير معينا لهم.
فكأنه عينهم بالاشارة،
وفى مثل هذا لا يؤخذ منه القيمة مكان العين.
649 - فإن قال: لم يدعنى أهل الحصن أنزل إليكم بذلك فجئت بالقيمة.
لم يصدق على ذلك.
لان ما جاء به من الدراهم صار (2) غنيمة للمسلمين، فلا يصدق على أن يجعل ذلك محسوبا عليهم بالفداء.
وذلك لانه كان متمكنا من أن يبين
__________
(1) مكان هذه الكلمة بياض في ه.
(2) ه " صارت ".
*(2/446)
للمسلمين قبل نزوله أنهم يمنعونه من النزول بالرقيق حتى يأذنوا له في النزول بالقيمة.
فإذا لم يفعل كان التقصير منه، وإن فعل ذلك فأذنوا له في النزول بالقيمة كان ما يأتي به من الدراهم فداء ولا يكون فيئا.
650 - ولو أن صاحب القلعة قال: آمنوني على قلعتي، أو على مدينتي على أن أفتحها لكم.
فإن جرى كلام يدل على أن المراد عين القلعة والمدينة بأن قال: إنى أخاف إن فتحت لكم أن تهدموا قلعتي أو تخربوا مدينتي، فقالوا له: أنت آمن على قلعتك ومدينتك.
فهذا عليهما خاصة دون ما فيهما من الاموال والنفوس.
لان مطلق الكلام يتقيد بما سبق من دلالة الحال.
وإنما جعلوا له الامان جزاء على فتح الباب.
ومقصودنا من ذلك الاستغنام، فعرفنا أن الامان يختص بما سمى له، إلا أنه يأمن بماله وولده وعياله، لانه استأمن على قلعته ليتمكن من القرار فيها، وتمكنه بهذه الاشياء.
ففى هذا الحكم يشبه حاله حال المستأمن إلى دارنا للتجارة.
فأما إذا لم يسبق كلام يكون دليلا على (ص 149) تخصيص ففى
القياس الجواب كذلك أيضا.
لما بينا أن المقصود من فتح الباب هو الاستغنام والاسترقاق.
ثم ليس في لفظة القلعة والمدينة ما ينبئ عن أهلها أو عما فيها، ولعله إنما استأمن لهذه الصفة لخوفه على القلعة أن تقلع وعلى المدينة أن تحرق أو تخرب.
وقد كان ذلك مسقط رأسه ومسكن آبائه، فقصد بالامان إبقاؤها دون إبقاء من فيها.
وفى الاستحسان هذا أمان على القلعة والمدينة وعلى جميع ما فيها، لدلالة العرف.(2/447)
فإنه إذا قيل هذه مدينة عامرة أو قلعة حصينة يفهم منه عمارتها بكثرة أهلها لا بجدرانها.
أرأيت لو قال: آمنونى على مملكتي على أن أفتح لكم القلعة أليس يفهم من هذا اللفظ جميع ما في مملكته من النفوس والاموال ؟ ولان مقصوده أن تبقى له المدينة والقلعة على ما كانت من قبل، ويكون هو المتصرف في أهلها كما كان.
وإنما يحصل هذا المقصود إذا دخلوا في الامان.
651 - ولو أشرف رجل من أهل الحصن فقال: أفتح لكم على أن تؤمنونى من مالى على ألف درهم.
فله ألف درهم من ماله بطريق الامان لا بطريق العوض.
كما في قوله: على أن تؤمنونى على ألف درهم من مالي.
إذ التقديم (1) والتأخير في هذا لا يوجب اختلاف المعنى.
وكذلك لو قال: على ألف درهم.
فلا فرق بين أن يقدم ذكر الالف على أمان نفسه أو يؤخره في أن يكون عوضا شرطه عليهم بفتح الباب.
652 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنونى بألف درهم، كان آمنا وحده.
وكان عليه ألف درهم يكتسبها فيؤديها.
لان جميع ماله يصير فيئا بفتح الباب لو لم يقل بألف درهم فكذلك إذا
قال: بألف درهم.
وهذا لان حرف الباء يصحب الاعواض.
فإذا وصل الالف بأمان نفسه بحرف الباء كان ذلك تنصيصا على أن الالف عوض عن الامان،
__________
(1) ق " أو " وفى الهامش " إذ التقديم في هذا والتأخير.
نسخة ".
*(2/448)
والامان حاصل له.
فكان الالف عليه بمنزلة من يقول لغيره: وهبت هذه (1) العين منك على أن تبيعني جاريتك هذه بمئة دينار كانت المئة عوضا عن الجارية.
653 - وكذلك لو قال: أفتح لكم وتؤمنوني بألف درهم.
654 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنونى من مالى بألف درهم.
فالالف عوض عن أمانه أيضا، إلا أنه يؤخذ منه من ماله مقدار الالف وجد، مكان ما عليه عوضا من الامان بخلاف الاول.
لان هاهنا عين لما (2) التزم من العوض محلا مخصوصا وهو ماله الذى في يده، وعلى ذلك أعطيناه الامان.
ولا بد من أن يأخذ ذلك القدر منه بطريق الفداء لا بطريق الاستغنام.
وفى الاول التزم العوض في ذمته من غير أن عين له محلا، فيبقى ماله فيئا كما هو موجب فتح الباب على وجه إتمام القهر.
وإن لم يجدوا له مالا هنا فعليه ألف درهم يؤديها إلى المسلمين.
لان الامان قد سلم له فيلزمه العوض بمقابلته.
ولكنه كان يعطى ذلك العوض من المال الموجود في يده إن كان، فإذا لم يكن فقد عرفنا أن مراده من المال الذى يكسبه.
655 - ولو لم يذكر فتح الباب ولكن قال: آمنونى حتى أنزل إليكم بألف درهم من مالى، أو من مالى بألف درهم.
فهذا فداء.
لان حرف الباء يصحب الاعواض.
فانما التمس أمانا بعوض.
وقد
نال ذلك حين نزل فعليه إذا الالف.
__________
(1) ق " هذا ".
(2) ق " عما ".
*(2/449)
وكذلك لو كان بحرف على هنا.
لانه لم يشترط على نفسه للمسلمين منفعة حتى يكون ذكر الالف شرطا شرطه (1) لنفسه على المسلمين، عوضا، فتكون الالف عوضا عن أمانه في الوجهين.
656 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنوني على أهلى وألف درهم.
أو قال: بأهلى وألف درهم، فهو سواء.
وله ألف درهم من ماله مع أهله، وما سوى ذلك فئ.
لان الاهل ليس بمال، فلا يكون ذكره الالف على سبيل البدل عن أمانه، سواء (ص 150) ذكره بحرف على أو بحرف الباء ولكنه على وجه الاستئمان لهم.
ثم الواو للعطف، وحكم العطف حكم المعطوف عليه.
فإذا كان المعطوف عليه استيمانا كان المعطوف كذلك.
657 - ولو بدأ بالمال فقال: أفتح لكم وتؤمنوني على ألف درهم وعلى أهلى وولدى، كان آمنا على ألف يعطونها إياه، وعلى أهله وولده، وما سوى ذلك فئ.
لانه شرط ذلك كله لنفسه جزاء على فتح الباب، فما يصلح عوضا وهو الالف يعطو له إياه.
وأهله وولده كنفسه في أنه شرط أمانهم جزاء على الفتح.
658 - ولو قال: أفتح لكم على أن تؤمنونى بألف درهم وبأهلي
وولدى.
فعليه الالف وأهله وولده كلهم فئ.
__________
(1) ه " وشرطه ".
*(2/450)
لان حرف الباء محكم (1) في الاعواض.
فقد قرنه بالالف فكان عوضا عن أمانه، وقرنه بالاهل والولد أيضا، وعطفهما على العوض أيضا، فكان تنصيصا على أن كل ذلك عوضا عن أمانه.
659 - فإذا بدأ بالاهل فقال: على أن تؤمنوني بأهلى وألف درهم، فالقياس هكذا يقتضى.
ولكن الاستحسان: الاهل ليس بمال ليصلح أن يكون عوضا.
فاستدللنا بذلك على أن المراد الاستئمان للاهل جزاء على الفتح، وقد عطف الالف عليه، فيكون ذلك استثناء الالف من ماله من جملة ما يكون فيئا.
ألا ترى أنه لو قال: أفتح لكم على أن تؤمنونى بجميع قرابتي وبأهلي وولدى وبألف درهم، فالذي يسبق إلى وهم كل أحد أن هذا كله استثناء لا فداء.
660 - ولو قال: أنزل إليكم على أن تؤمنونى على أهلى وألف درهم، أو بأهلى وألف درهم.
فهو سواء.
وله أهله وألف درهم من ماله الذى نزل به.
وما سوى ذلك فئ كما هو الحكم في أمان النازل.
لانه عطف الالف على الاهل ومراده في حق الاهل الاستئمان دون الفداء، فكذلك فيما عطف عليه.
661 - ولو قال: بألف درهم وأهلي.
فهذا فداء.
وعليه أن يعطيهم ألف درهم وأهله.
لان الالف عوض حين قرن به حرف الباء ثم عطف الاهل عليه، فكان ذلك تنصيصا على الفداء.
__________
(1) ق " يحكم ".
*(2/451)
قال: وبعض هذا أقرب من بعض.
ولكن إنما يؤخذ بالغالب من معاني كلام الناس في كل فصل، إلا أن يكون قبل ذلك مراوضة تدل على فداء أو على أمان عليه، فيؤخذ بذلك.
لان الكلام يحتمل كل واحد من المعنيين.
فإذا سبق ما يكون دليلا على أحد المعنيين ترجح ذلك، وإذا لم يسبق حمل على أغلب الوجهين.
كما هو الحكم في المشترك إذا ترجح أحد المحتملين فيه بدليل في صيغته.
662 - ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مئة دينار على تؤمنونى على عشرة آلاف (1) درهم من مالى.
فعليه بعد فتح الباب أن يعطيهم مئة دينار، وعليهم أن يسلموا له عشرة آلاف من ماله، كما استثناه لنفسه.
وهذا لا يكون فداء.
لانه لو لم يذكر المئة الدينار كان ذلك استئمانا منه على عشرة آلاف من ماله، فكذلك إذا ذكر المئة الدينار شرطا للمسلمين على نفسه مع فتح الباب.
663 - ولو قال: أفتح لكم وأعطيكم مئة دينار، على أن تؤمنونى بألف درهم.
فعليه مئة دينار وألف درهم.
لانه صرح بكون الالف عوضا عن أمانه حين وصل حرف الباء بذكره، وصرح بكون الدنانير عوضا عن أمانه حين شرط على نفسه أن يعطيها للمسلمين، إلا أن يقول بألف درهم آخذها، أو تعطونها، فحينئذ يكون ذلك تنصيصا على اشتراط الالف على المسلمين لنفسه عوضا.
وهذا تفسير ما قال إن هذا الكلام يحتمل معنيين.
يعنى بقوله ألف درهم.
أي بألف درهم التزمها، أو بألف أخذها منكم.
فإذا جاء دليل أخذ به، وإذا لم يأت دليل أخذ بما هو الغالب من معاني الكلام.
والله أعلم (ص 151).
__________
(1) في هامش ق " بعشرة آلاف.
نسخة ".
*(2/452)
54 باب الحربى يستأمن إلى معسكر المسلمين 664 - فإذا استأمن الحربى إلى العسكر من غير حصن ولا قلعة ولا مطمورة فقال: استأمن لاخرج إليكم، ثم أرجع إلى أهلى، فأتيكم بالتجارات، فذهب ثم جاء بتجارة أو سلاح أو غير ذلك، وقال: هذا مالى.
فالقول قوله وهو آمن على ما جاء به.
لانه استأمن في حال لم يصر مقهورا، فهو بمنزلة من استأمن ليخرج إلى دار الاسلام.
وقد بينا أن هناك يدخل ماله في أمانه تبعا.
وإن لم يذكر، فكذلك الذى استأمن إلى العسكر إذا لم يكن محصورا، وقوله في المال مقبول باعتبار أن اليد له.
فالظاهر شاهد له.
665 - وكذلك لو جاء بامرأة فقال: هذه امرأتي، أو ابنتى، أو أختى، أو جاء بصبيان فقال: هؤلاء ولدى.
فهو مصدق على ذلك.
وهم آمنون معه، بمنزلة من استأمن إلى دار الاسلام.
وقد ذكرنا هناك أنه يتبعه عياله في الامان كما يتبعه ماله.
ومن كذبه منهم فيما قال فهو فئ.
لاقراره على نفسه بالرق حين كذبه في سبب التبعية في الامان.(2/453)
وإن صدقوه ثم رجع المستأمن فقال: لا قرابة بينى وبينهم، وكذبوه فهم آمنون.
لانهم بالتصادق استفادوا الامان في الابتداء، فلا يبطل ذلك بقول المستأمن.
لان إقراره عليهم بالرق أو بما يبطل أمانهم مردود.
وان اتهم
الامير أحدا منهم حلفه، فان نكل أخذ مملوكا، ولكن لا يقتل بنكوله.
666 - ولو جاء معه رجال فقال: هؤلاء أولادي وإخوانى.
فهم فئ أجمعون.
لما بينا أن المقاتلة لا يتبعونه في الامان لو استأمن إلى دار الاسلام، فكذلك إذا استأمن إلى العسكر (1) ولم يستأمن لهم نصا ولا استأمنوا لانفسهم.
667 - ولو جاء بمتاع أو رقيق فقال: هذا مالى، أو بامرأة فقال: هذه عيالي.
فعلم أنه جاء بذلك من قرية أو مطمورة قريبة من العسكر (1)، فإن كان لم يعلم (2) بها أهل العسكر فذلك كله سالم، سوآء كانت بحيث لو علموا بها كانوا قاهرين لاهلها أو لم يكونوا.
لان معنى القهر لا يتحقق إذا لم يعلموا بهم، والقريب كالبعيد في حق من لا يعلم به.
ألا ترى أن من تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به صح تيممه، بمنزلة ما لو كان الماء بعيدا ؟ 668 - وكذلك لو كان علم بهم، إلا أنهم لم يقاتلوهم ولم يتعرضوا لهم وهم ممتنعون من المسلمين.
__________
(1) ه " المعسكر ".
(2) في هامش ق " لا يعلم.
نسخة ".
*(2/454)
لان أهل المنعة لا يصيرون مقهورين بمجرد العلم بهم ما لم يتعرض لهم بالقتال.
فانما جاء بذلك من موضع لم يتناوله قهر المسلمين فيكون سالما له.
669 - وإن جاء به (1) من قرية قريبة من العسكر (2) ليست لهم منعة وقد علم أهل العسكر بها وبما فيها، أولم يعلموا بما فيها إلا أنهم لو دخلوها علموا ذلك، فليس له شئ مما جاء به.
لان العسكر دخلوا دار الحرب على قصد قهر المشركين، فإذا نزلوا بساحة قوم غير ممتنعين منهم، وعلموا بحالهم، كانوا قاهرين لهم.
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرب من خيبر قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فساء صباح المنذرين) (3).
وإذا ثبت القهر بهذا الطريق عرفنا أنه إنما جاء بهذا مما كان في يد المسلمين وتحت قهرهم، ولا يسلم له شئ منه، بمنزلة المحصور الذى يستأمن لينزل أو ليفتح الباب.
670 - وإن كان أخرجه من مطمورة في قرية قد عرف المسلمون القرية ولكنهم لم يعلموا المطمورة، فجميع ذلك سالم.
لان ما في المطمورة لا يتناوله قهرهم إذا لم يعلموا بها، دخلوا القرية أو لم يدخلوها، فانهم عدموا آلة الوصول إليها.
671 - وإن جاء بذلك من (4) حصن قد قاتلهم المسلمون وهم مقيمون عليه ليفتحوه (ص 152) فجميع ما جاء فيه فئ.
__________
(1) ساقطة من ق.
(2) ه " المعسكر ".
(3) سورة الصافات، 37، الآية 177.
(4) ه " عن ".
*(2/455)
لان قهر المسلمين يتناول ما في الحصن، بدليل أنه لو نزل رجل من أهل الحصن مستأمنا لم يسلم شئ مما جاء به مع نفسه.
فأى فرق بين أن يستأمن وهو خارج، وبين أن يستأمن ليخرج في حق المال يخرجه من الحصن.
فكما أن هناك لا يسلم له شئ في المال والعيال بدون التصريح بالاستئمان منه له، كذلك هذا (1).
والله أعلم.
__________
(1) ب " هاهنا ".
*(2/456)
55 باب الحربى يستأمن إلينا ثم نجده في أيديهم 672 - وإذا استأمن الحربى إلى العسكر ليدلهم على عورات المشركين ولقى المسلمون العدو ففقدوه.
فلما هزموهم (1) وجدوه فيهم وقال: أسروني من صف المسلمين، ولا يعرف كذبه من صدقه، فإنه ينظر في حاله، فإن كانت هيأته (2) كهيأة (3) المأسور بأن كان مغلولا أو مربوطا أو مضروبا لم يعرض له، وكان عندنا على أمانه الاول.
لانه عند تعذر الوقوف على حقيقة الحال يصار إلى تحكيم الظاهر.
وإلى العلامة والزى.
فإذا تبين بذلك أنه كان مأسورا فيهم قلنا: أسرهم إياه لا يبطل أمانه، كما لو أسروا ذميا لا يبطل ذلك عهده، ولكنه يستحلف على ما يدعى من ذلك.
لان بما شاهدناه من دلالة الحال يصير الظاهر شاهدا له ولكن لا تنتفى تهمة الكذب عن كلامه.
فالقول قوله مع يمينه.
__________
(1) ب " هزموا ".
(2) ل " حياته ".
(3) ه، ق " هيأة ".
*(2/457)
673 - وإن لم يكن عليه شئ من علامات الاسر فهو فئ.
وللامام أن يقتله.
لان الظاهر أنه فارق عسكرنا باختياره، والتحق بمنعة أهل الحرب،
فانتهى به الامان الذى بيننا وبينه، وحاله كحال غيره من أهل الحرب.
674 - وإن (1) أشكل أمره بأن دل بعض العلامات على أنه أتاهم اختيارا وبعض العلامات على أنهم أسروه، فهو فئ.
ولكن لا ينبغي للامام أن يقتله.
لان عند تعارض العلامات يحكم الموضع الذى وجد فيه وإنما وجد في منعة أهل الحرب، وفى موضع إباحة الاسترقاق.
إلا أن تعارض العلامات يمكن شبهة في أمره، فمنع القتل، إذ القتل مما يندرئ بالشبهات.
فان قيل: عند تعارض العلامات لماذا لا يتمسك بالاصل وهو الامان الذى كان ثابتا له منا ؟.
قلنا: التمسك بالاصل المعلوم هو لانعدام الدليل المزيل له، لا لوجود الدليل المبقى.
وقد ظهر الدليل المزيل لامانه، وهو كونه في منعة أهل الحرب.
فكان ينبغى على هذا القياس أن يكون فيئا على كل حال.
إلا أنا تركنا هذا القياس فيما إذا ظهر أنه كان أسيرا فيهم بدليل.
فإذا انعدم ذلك أو جاء ما عارضه وجب الاعتماد على ما هو معلوم في الحال، وهو أنه حربى وجد في منعتهم.
675 - قال: ولو جالت خيل المسلمين جولة ثم إنهم عطفوا
__________
(1) ب " ولو ".
*(2/458)
فهزموهم، فوجدوه في أيديهم، فهذا والاول سواء.
إذا علم أنه كان في منعتهم قبل هزيمتهم.
وإن هزمهم المسلمون فوجدوه لا يدرون أكان معهم أو مع أهل الحرب، إلا أنهم كانوا فقدوه.
فلما وجدوه قال: لم أبرح (1)
عسكركم.
فإن كان أهل العسكر قليلا وأحاط العلم بأنه لا يخفى مثله إن كان في العسكر، فهو فئ.
لانا تيقنا بأنه كاذب محتال، وأنا حين فقدناه قد التحق بمنعة أهل الحرب، فانتهى حكم الامان.
وإن كان العسكر عظيما قد يخفى مثله فيه ولا يدرى أصدق أم كذب، فهو على أمانه.
لان الدليل المزيل للاصل المعلوم لم يظهر هنا، وهو وصوله إلى منعة المشركين.
ولكنا ندعى ذلك عليه وهو منكر، فالقول قوله مع يمينه.
676 - وإن كان قليلا ففقدوه، فلما هزموا العدو (ص 153) إذا هم به لا يدرون أكان مع العدو أو كان معهم.
فسئل عن ذلك فقال: ذهبت أتعلف العلف (2)، أو ضللت الطريق ولم ألحق بالعدو.
ففى القياس هو فئ.
__________
(1) ه، ب " لا أبرح في عسكركم ".
(2) ساقطة من ب، ق.
*(2/459)
لانا علمنا مفارقته العسكر في دار الحرب.
ودار الحرب موضع أهل الحرب.
فكان ذلك بمنزلة وصوله إلى منعتهم في حكم انتهاء الامان.
ولكنه استحسن وقال: هو مصدق مع يمينه.
لانه أخبر بخبر محتمل.
فانه لم يجد بدا من أن يخرج من المعسكر ليقضى حاجته أو ليأتي بالعلف.
وربما يضل الطريق عند الخوف وكثرة الزحام، كما أخبر به.
وقد عرفنا ثبوت الامان له.
فيجب التمسك بذلك الاصل ما لم يظهر مزيله بدليل.
والله أعلم.(2/460)
56 باب المراوضة (1) على الامان بالجعل وغيره 677 - قال: ولو أن عسكر المسلمين أتوا حصنا من حصون أهل الحرب فناهضوه، وقال لهم أهل الحصن: يخرج عشرة منا يعاملونكم على الامان، وقد رضينا بما صنعوا.
فلما خرج العشرة سألوا المسلمين أن يسلموا السبى ويأخذوا ما سوى ذلك.
فأبى المسلمون ذلك.
وصالحهم العشرة على أن يؤمنوهم خاصة وعيالاتهم.
فتراضوا على ذلك.
ثم دخلوا الحصن وفتحوا الباب.
فدخل المسلمون يسبون.
فقال أهل الحصن: أخبرنا العشرة بأنكم آمنتم السبى، لم يلتفت إلى كلامهم، سواء صدقهم العشرة في ذلك أو كذبوهم.
وجميع ما في الحصن فئ، سوى العشرة مع عيالاتهم.
لانه لم يؤخذ من المسلمين أمان لغير العشرة صريحا ولا دلالة.
وأهل الحصن لا يدخلون في أمان العشرة تبعا.
فان في أمان المحصور لا يدخل من كان تبعا له حقيقة فكيف يدخل من لم يكن تبعا ؟ والعشرة وإن أخبروهم بأمان السبى كما زعموا فقد كذبوا في ذلك.
__________
(1) في هامش ق " في حديث طلحة: فتراوضنا حتى اصطرف منى.
أي تجاذبنا في البيع والشراء.
وهو ما يجرى بين المتبايعين من الزيادة والنقصان، كأن كل واحد منهما يروض صاحبه رياضته الدابة.
نهاية ".
*(2/461)
والمشركون إنما أتوا من قبل أنفسهم حين نصبوا الخائنين للسفارة بيننا وبينهم، وصاروا مغترين لا مغرورين من جهة المسلمين.
678 - وعلى هذا لو شهد قوم من المسلمين كانوا في الحصن أن
العشرة أخبروهم بذلك لم تنفعهم هذه الشهادة.
لما بينا، فان الثابت بالبينة لا يكون أقوى من الثابت بالمعاينة.
679 - ولو عاينا أن العشرة أخبروهم بذلك حين دخلوا الحصن لم يمنعنا ذلك من استرقاقهم.
لانه لا أمان لهم منا.
680 - ولو كان أهل الحصن أخذوا الامان من المسلمين على ما في حصونهم حتى يرجع إليهم العشرة بصلح أو غير صلح، فهذا والاول سواء.
لان ذلك الامان قد انتهى برجوع العشرة إليهم، فكأنه لم يكن أصلا.
681 - ولو كانوا أخذوا الامان حتى ترجع إليهم العشرة فيخبروهم بما جرى على وجهه والمسألة بحالها، فقال العشرة: قد أخبرناهم بذلك.
وقال أهل الحصن: لم تخبرونا بشئ من ذلك.
فهم على أمانهم.
لان العشرة يدعون انتهاء الامان الذى كان منا لاهل الحصن، وأهل الحصن منكرون لذلك، فالقول قولهم ولا شهادة للعشرة على ذلك.
لانهم يشهدون على فعل أنفسهم، ولانهم يشهدون على إجازة ما فعلوا، فانهم(2/462)
يقولون: قد أخبرنا أهل الحصن ورضوا بما فعلنا، ولا شهادة للمرء على إجازة ما باشره.
682 - ولو شهد على مقالتهم قوم مسلمون، أو من أهل الذمة، كانوا في الحصن، قبلت الشهادة وكانوا فيئا لان شهادتهم حجة على أهل الحصن.
فكان الثابت بشهادتهم كالثابت بإقرار أهل الحصن (ص 154).
683 - فإن كان الشهود (1) من المسلمين على ذلك فساقا رد (2)
السبى إلى الحصن، وأعيد الامر كما كان، ثم ينبذ إليهم ويقاتلون.
لان الامر بالتوقف في خبر الفاسق منصوص عليه، ولا فرق بين أن يكون المشهود عليه مسلما أو حربيا في أنه ليس للفاسق عليه شهادة مقبولة.
وما لم يثبت إخبار العشرة إياهم بالامر على وجهه كانوا آمنين فلا يحل سبيهم.
684 - وإن كانوا حين دخل المسلمون عليهم كسر حصنهم فصاروا لا منعة لهم، فعليهم أن يلحقوهم بمأمنهم.
لانهم في أمان منا.
فلا يجوز النبذ إليهم حتى نبلغهم مأمنهم.
685 - ولو قالت العشرة ما أخبرناهم بالصلح على وجهه، ولكنا
__________
(1) ه " الشهود على ذلك من المسلمين ".
(2) ب " يرد ".
*(2/463)
أخبرناهم أنكم آمنتم السبى.
فهذا والاول سواء، ولا يجوز التعرض بشئ مما في الحصن.
لانهم كانوا في أمان منا إلى غاية.
وهو أن يخبرهم العشرة بالامر على وجهه، ولم يفعلوا.
686 - فإن قال المسلمون: فنحن نسلم لكم السبى كما أخبركم به العشرة ونأخذ ما سواه من المتاع، لانكم رضيتم بذلك وفتحتم الحصن عليه.
وقال أهل الحصن: لا نرضى بهذا الآن.
فذلك لاهل الحصن.
لان الامان منا يتناول جميع ما في الحصن، فهم على ذلك الامان، وإن رضوا بغيره، ما لم ينبذ إليهم أو ينتهى بوجود غايته، وغايته الاخبار بالامر على وجهه.
فإذا لم يوجد كان علينا أن نعيدهم إلى منعتهم كما كانوا،
أو نبلغهم مأمنهم ثم ننبذ إليهم.
687 - ولو بعث الامير مع العشرة رجلا من المسلمين.
فقال الرجل المسلم: قد أخبرهم العشرة كيف كان الصلح.
وأنكر ذلك أهل الحصن، فالقول قولهم.
لان شهادة الواحد في الالزام لا تكون حجة على المستأمنين (1) كما لا تكون حجة على المسلمين.
688 - وإن كان بعث معهم رجلين مسلمين أو أكثر فشهدا بذلك كانوا فيئا.
__________
(1) ه " المستأمن ".
*(2/464)
لان شهادة المسلمين حجة تامة، فيثبت بشهادتهما (1) ما يوجب انتهاء الامان به.
فإن قيل: كيف تقبل شهادتهما وهما يجران بها نفعا إلى نفسهما (2) لان لهما نصيبا في الغنيمة ؟ قلنا: نعم.
لكن الحق في الغنيمة لا يتأكد قبل الاحراز.
ولهذا من مات منهم لا يورث نصيبه.
ومثل هذا الحق الضعيف لا يورث تهمة مانعة من قبول الشهادة.
ألا ترى أن مسلمين من الجند لو شهدا على ذمى أنه سرق من الغنيمة شيئا بعينه، أو شهدا عليه أنه سرق شيئا من مال بيت المال.
كانت شهادتهما مقبولة ولا ينظر إلى مالهما فيه من المنفعة بناء على الشركة العامة.
689 - وإن كان الرجلان ممن تقبل شهادتهما بين المسلمين فالقوم على أمانهم.
لان ما ينتهى به الامان لم يثبت بهذه الشهادة، فان ثبوته بناء على قبول
شهادتهما.
690 - ولو كان بعث رجلين من أهل الذمة مع العشرة وهما ممن تقبل شهادتهما على أهل الذمة، فهم فئ أيضا.
لانهم يشهدون على المستأمنين، ولاهل الذمة شهادة مقبولة على المستأمنين فيما يندرئ بالشبهات وفيما لا يندرئ بالشبهات، فكانا بمنزلة المسلمين في ذلك.
__________
(1) في هامش ق " بشهادتهم.
نسخة ".
(2) ب، ه " أنفسهما ".
*(2/465)
691 - فإن شهد على ذلك رجل وامرأتان، جازت الشهادة وكانوا فيئا، إلا أنهم لا يقتلون.
لان شهادة الرجال مع النساء (1) حجة فيما يثبت مع الشبهات، وليس بحجة فيما يندرئ بالشبهات.
لتمكن شبهة الضلال والنسيان في شهادتهن.
692 - ولو كان بعث مع العشرة رجلين من أهل الحرب مستأمنين، فشهدا عليهم، فإن كان من أهل تلك الدار جازت شهادتهما، وإن كان من غير تلك الدار بأن كانا من الترك (2)، وأهل الحصن نصارى لم تقبل شهادتهما، لتباين الدارين.
فإن ذلك يقطع ولاية الشهادة كما يقطع ولاية التوارث.
(ص 155).
وهذا لان دار الحرب دار قهر، ليس (3) بدار حكم.
فباعتبار اختلاف المنعة يتباين الدار، حتى لا تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض، إذا كانوا من أهل دور مختلفة، وإن كانوا مجتمعين في دارنا بخلاف أهل الذمة فانهم صاروا من أهل دارنا، ودار الاسلام دار حكم، فإذا جمعهم
حكم واحد قبلت شهادة بعضهم على بعض، وإن اختلفت مللهم، كما تقبل شهادة المسلمين بعضهم على بعض، وإن اختلفت مذاهبهم (4).
693 - وكل شئ رددت فيه أهل الحصن مأمنهم فإنى (5) أرد فيه العشرة إلى مأمنهم أيضا.
__________
(1) ه، ق " شهادة النساء مع الرجال ".
(2) ق " الشرك " وفى الهامش " الترك.
نسخة ".
(3) ق " ليست ".
(4) ب، ق " أهواؤهم ".
(5) ل " فان ".
*(2/466)
لان الامان تناولهم يقينا، فلا يجوز التعرض لهم قبل النبذ إليهم.
694 - ولو شهد قوم من أهل الحصن سوى العشرة ممن يعدل في دينه أن العشرة أخبروهم بالصلح لم تجز شهادتهم.
لانهم صاروا عبيدا للمسلمين بزعمهم.
فان الشهود يزعمون (1) أن الامان قد انتهى بإخبار العشرة إياهم بالامر على وجهه، فهم أرقاء أو حالهم متردد بين الرق والحرية، فيكونون (2) بمنزلة المكاتبين لا شهادة لهم.
695 - وإذا لم تقبل شهادتهم فأهل الحصن آمنون غير العشرة وأموالهم ورقيقهم.
هكذا وقع في بعض النسخ وهو غلط والصحيح: غير الشهود على العشرة.
فانه لا إشكال في أمان العشرة، فكيف يستثنيهم من جملة الآمنين ؟ ولكن هؤلاء الذين شهدوا هم مقرون بانتهاء الامان، وإقرارهم صحيح على
أنفسهم، فكانوا فيئا مع أموالهم ورقيقهم ومن صدقهم من عيالهم وأولادهم الصغار أيضا، لانهم في حجر الامهات، وعند التكذيب هن آمنات، فكذلك أولادهن.
ومن لم يكن له أم من أولادهم الصغار فهم مصدقون عليهم.
وهذا لانهم لما صاروا أرقاء والامهات حرائر فباعتبار بقاء الامان لهن كان المعتبر في حق الاولاد حجر الامهات.
ومن لم يكن له أم فلابد من اعتبار حجر
__________
(1) ب، ق " فانهم يزعمون ".
(2) ق " فيكون ".
*(2/467)
الاب في حقه، فيصير رقيقا معه، ولا يصدقون على الكبار من أولادهم إلا أن يصدقوهم فحينئذ يكونون أرقاء بإقرارهم.
696 - قال: ولو كتب الامير كتابا إلى أمير الحصن يخبره بما جرى، وختمه بخاتمه، وبعثه على يدى رسول من قبله مع العشرة.
فلما فتح الحصن قال أميرهم: لم يأت بالكتاب ولم يدفعه إلى الرسول.
وقال الرسول: قد دفعته إليه وقرأه بمحضر منى.
فأهل الحصن على أمانهم الاول.
لان الرسول يدعى انتهاء الامان بإيصال الكتاب إليه، وهو منكر لذلك، فالقول قول المنكر.
وهذا لان الذى يتعلق بانتهاء الامان إباحة قتلهم واسترقاقهم، وهذا مما يندرئ بالشبهات، فخبر الواحد فيه لا يكون حجة تامة وإن كان مسلما.
697 - فإن كان بعث معه رجلين مسلمين فشهدا بأنه قرأ عليه
بمحضر منهما حتى سمعه وعلم ما فيه فهم فئ أجمعون.
لان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم، وشهادة المسلمين حجة تامة.
698 - ولو شهدا أنه دفع الكتاب إليه، فقرأه عليه بالعربية، وترجم له الترجمان، ولكنهما لا يدريان ما قاله الترجمان، فالقياس فيه أنهم آمنون حتى نعلم أنه قد علم ما في الكتاب.(2/468)
لانا نعرف أنه لا يعرف العربية، (ص 156) والشهود لم يعرفوا ما قال له الترجمان، فلا يثبت علمه بما في الكتاب بهذا القدر، وما لم يصر ذلك معلوما له لا ينتهى الامان ولا تنتفى الشبهة.
فلا يجوز لهم الاقدام على القتل والسبي، ولكنه استحسن.
699 - فقال: فئ، لانه ليس في وسع المسلمين فوق ذلك إذا أرادوا النبذ إليهم.
وإن خان الترجمان فذكر لهم غير ما في الكتاب فإنما أتوا من قبل أنفسهم حين اتخذوا ترجمانا هو خائن.
وما لا يمكن الوقوف عليه حقيقة لا يجوز (1) تعلق (2) الحكم به، وإنما يعلق بالسبب الظاهر، وقد تم ذلك كما شهد الشهود.
700 - ولو أن رسل المؤمنين لم يحضروا مجلس أميرهم إلا أن الامير رد جواب الكتاب بكتاب مختوم ثم فتح الحصن فجحد الامير الكتاب فقال: ما وصل إلى كتاب، ولا أخبرني العشرة بما جرى على وجهه.
فهم على أمانهم.
لان الغالب أن الكتاب الذى جاء به إلى أمير العسكر محتمل.
فلعله
افتعل ذلك مفتعل على لسان أميرهم.
وانتهاء الامان لا يثبت مبيحا للقتل والاستغنام بمثل هذا الكتاب المفتعل.
__________
(1) ه " حقيقة يجوز تعليق ".
(2) ق " تعليق ".
*(2/469)
701 - وكذلك إن كان هذا الكتاب من ملكهم الاعظم ثم أنكره بعد ما وقع الاستيلاء على مملكته.
فانه لا يبطل به الامان الذى كان بين المسلمين وبينهم.
لما بينا أن الكتاب محتمل قد يفتعل على لسان الاعظم كما يفتعل على لسان من هو دونه.
702 - ولا يحل إراقة الدماء والاسترقاق باعتبار هذا الكتاب الذى لا يدرون أحق هو أم باطل.
فإن قيل: أليس أن كتاب القاضى إلى القاضى يجعل حجة في الاحكام وهذا الاحتمال فيه موجود.
قلنا: أما فيما يندرئ بالشبهات لا يجعل حجة، وفيما يثبت مع الشبهات في القياس لا يكون حجة أيضا.
وإنما جعل حجة فيما يثبت مع الشبهات استحسانا، لتحقق الحاجة فيه بشرائط يقع بها الامن عن الافتعال ظاهرا، وهو الختم، وشهادة الشهود عليه وعلى ما فيه، ومثل ذلك لا يوجد في كتاب كبيرهم إلينا.
والله أعلم.(2/470)
57 باب أمان الرسول 703 - قال: فإذا أرسل أمير العسكر رسولا إلى أمير حصن في حاجة له، فذهب الرسول وهو مسلم.
فاما بلغ الرسالة قال: إنه أرسل
على لساني إليك الامان، لك ولاهل مملكتك، فافتح الباب.
وأتاه بكتاب افتعله على لسان الامير، أو قال ذلك قولا، وحضر المقالة ناس من المسلمين.
فلما فتح الباب دخل المسلمون وجعلوا يسبون.
فقال أمير الحصن: إن رسولكم أخبرنا أن أميركم أمننا وشهد أولئك المسلمون على مقالتهم.
فالقوم آمنون، يرد عليهم ما أخذ منهم.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل فكأن أمير العسكر أمنهم.
فان قيل: عبارة الرسول كعبارة المرسل فيما جعله رسولا فيه، فأما فيما افتعله فلا.
قلنا: هذا التمييز غير معتبر في حق المبعوث إليه.
لانه لا طريق له إلى ذلك.
وإنما الذى في وسعه الاعتماد على ما يخبر به الرسول، فلهذا يجعل ما أخبر به كأنه حق بعد ما ثبت أنه رسول.
وهذا لان الواجب على المرسل أن يختار لرسالته الامين دون الخائن، والصادق دون الكاذب.
فلو لم يجعل ما يخبر الرسول به كأنه حق من حقهم أدى ذلك إلى الغرور، وذلك حرام.
أرأيت لو ناداهم الامير، إن هذا رسولي في كل ما يجرى بينى وبينكم.(2/471)
ثم أتاهم بهذا لم يكن القوم آمنين.
ومن تأمل قوله تعالى (ولو تقول علينا بعض الاقاويل، لاخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين) (1) يتضح عنده هذا المعنى.
وقد تقول عليه غيره بعض الاقاويل (ص 157) نحو مسيلمة ونظرائه ممن ادعى الرسالة، ولم يصبهم في الدنيا.
فعرفنا أن حال الرسل فيما يخبرون به عمن أرسلهم لا يكون كحال غيرهم.
704 - وكذلك إن كان الرسول ذميا أو حربيا مستأمنا.
لان ثبوت هذا الامان من جهة أمير العسكر لا من جهة الرسول.
فان الرسول في حصنهم غير ممتنع منهم.
فلا يصح أمانه من جهة نفسه.
ثم هذا التقصير كان من جهة الامير حين اختار لرسالته كافرا خائنا وهو منهى عن ذلك.
ألا ترى إلى ما روى أن عمر رضى الله عنه قال لابي موسى رضى الله عنه: مر كاتبك فليدخل المسجد وليقرأ هذا الكتاب.
فقال: إن كاتبى لا يدخل المسجد.
قال: ولم ؟ أجنب هو ؟ قال: لا، ولكنه نصراني.
فقال: سبحان الله، اتخذت بطانة من دون المؤمنين ؟ أما سمعت قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) (2).
أي.
لا يقصرون في إفساد أموركم.
705 - فإن قال الرسول: إنى قلت لهم هذا الذى ادعوا، ولا نعلم ذلك إلا بقوله، وقد فتح الحصن وسباهم المسلمون، لم يصدق على ذلك.
__________
(1) سورة الحاقة، 69، الآية 45، 46.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 118.
*(2/472)
لانه أخبر بما لا يملك استئنافه، وادعى ما يبطل حق المسلمين بعد ما ظهر سبب ثبوت حقهم، فلا يصدق فيه إلا بحجة.
706 - ولكن من وقع سهمه منهم صار حرا، لاقراره أنه آمن، ولا يترك ليرجع إلى دار الحرب.
لان ذلك من حق المسلمين.
707 - وإن شهد على هذه المقالة قوم من أهل الذمة لا تقبل شهادتهم.
لانها تقوم على المسلمين.
708 - وإن كان الذى أتاهم بهذه الرسالة رجل ليس برسول، ولكنه افتعل كتابا فيه أمانهم، فدخل به إليهم، أو قال لهم ذلك قولا، وقال: إنى رسول الامير، أو رسل المسلمين، والمسألة بحالها، فهم فئ كلهم.
وللامام أن يقتل مقاتلتهم.
لانه لا يمكن إثبات الامان لهم من جهته.
فانه غير ممتنع منهم حين قال لهم ذلك، بل هو بمنزلة الاسير فيهم.
وأمان الاسير لا ينفذ على المسلمين.
فلا يمكن تصحيحه من جهة أمير العسكر، لانه ما أرسله حتى تكون عبارته قائمة (1) مقام عبادة الامير.
وهذا لان معنى الغرور لا يتحقق هنا لو أبطلنا هذه المقالة، وإنما جاء التقصير من جهتهم حين اعتمدوا قول مجهول غير معروف بالرسالة، ولا كان رسولا إليهم من جهة الامير، في وقت من
__________
(1) ه " قائما ".
*(2/473)
الاوقات.
والامير لا يمكنه أن يتحرر عن هذا، لانه لا يعرف المفتعل ليمنعه من الافتعال.
وكما أنه يسقط عنهم الوقوف على ما ليس في وسعهم، يسقط عن الامام التحرز عما ليس في وسعه.
709 - ولو قال لهم هذا الذى لم يكن رسولا، هذه المقالة وهو في عسكر المسلمين، ناداهم ففتحوا الباب، كانوا آمنين حتى ينبذ (1) إليهم.
لانه يجعل هذه المقالة أمانا من جهته حين كان في منعة المسلمين.
وقد بينا أن من يملك الامان إذا أخبر عن من يملك الامان فذلك أمان صحيح لهم.
سواء كان الخبر صدقا أم كذبا.
إن كان صدقا فمن جهة المخبر عنه.
وإن كان كذبا فمن جهة المخبر، إلا أنه لا يثبت ذلك إلا بشهادة العدول من المسلمين، لانها تقوم (2) لابطال حقهم في الاستغنام.
710 - ولو أن رسول الامير حين بلغ رسالة الامير قال: إن فلانا القائد قد أمنكم وأرسلني بذلك إليكم، أو إن المسلمين على باب الامير آمنوكم، أو إنى كنت قد أمنتكم، قبل أن أدخل إليكم، وناديتكم بذلك.
وشهد على هذه المقالة قوم من المسلمين.
فهم فئ أجمعون إذا كان ما أخبر به كذبا.
لانه ليس برسول (ص 158) القائد حتى يجعل عبادته كعبادة القائد، ولا هو رسول المسلمين على باب الامير حتى تكون عبارته كعبارتهم، ولا يملك هو أمانهم (3) بنفسه في هذه الحالة لانه في منعتهم، فلهذا بطل حكم كلامه.
__________
(1) ب " ننبذ ".
(2) ب " لا تقوم ".
(3) ه، ب، ق " وهو لا يملك أمانهم ".
*(2/474)
711 - ولو كان رجل من المسلمين أرسل في حاجته فقضى حاجته ثم أخبرهم أن من أرسله آمنهم.
فهذا أيضا باطل.
لان رسول الواحد من عرض العسكر (1)، في مثل هذا لا يشبه رسول الامير أو رسول جماعة المسلمين.
فان ذلك المرسل لو كان في هذا الموضع لا يصح أمانه، فكذلك رسوله إذا أخبر عنه.
وهذا هو القياس في رسول الامير ورسول جماعة المسلمين أيضا،
غير أنا استحسانا (2) في هاتين الخصلتين.
لان جماعة المسلمين من أهل المنعة حيث ما كانوا، ورسولهم قائم مقامهم.
فإذا أضاف الامان إليهم كان صحيحا.
وكذلك الامير أمانه صحيح حيث يكون أميرا، لانه لا يكون أميرا إلا باعتبار المنعة.
فلسان رسوله كلسانه في الاخبار بالامان.
وهذا لا يوجد في حق الواحد من عرض الناس، فلهذا لا يعتبر إخبار رسوله إياهم بالامان عنه.
712 - قال: ولو أن الامير أرسل إليهم من يخبرهم أنه آمنهم، ثم رجع إليه فأخبره أنه قد أتاهم برسالته، فهم آمنون، وإن كانوا لا يعلمون أن الرسول قد بلغهم.
لان البناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته.
والظاهر أن الرسول بعد ما يدخل عليهم لا يخرج حتى يؤدى الرسالة.
ولان فيما يقوله الرسول احتمال الصدق، وإن لم يترجح جانب الصدق.
وبهذا القدر تثبت الشبهة.
وقد بينا أن الامان يثبت في موضع الشبهة.
فلا يجوز للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.
__________
(1) في هامش ق " فلان من عرض العشيرة أي من شقها لا من صميمها.
مغرب ".
(2) ب " استحسناها ".
*(2/475)
- 713 ولو كان الامير والمسلمون آمنوهم، ثم بعثوا رجلا ينبذ إليهم ويخبرهم أنهم قد نقضوا العهد، فرجع الرسول وذكر أنه قد أخبرهم بذلك.
فليس ينبغى للمسلمين أن يغيروا عليهم حتى يعلموا ذلك.
لانه أتاهم بخبر (1) متميل بين الصدق والكذب.
وذلك لا يكون حجة
تامة في نقض العهد، وإن كان حجة في الامان بمعنى.
وهو أن الذى يتعلق بنبذ الامان إباحة السبى، واستحلال الفرج (1) والدماء.
وهذا مما لا يثبت مع الشبهة.
ومجرد الظاهر أو خبر الواحد لا ينفك عن الشبهة.
فأما الذى يتعلق بالامان حرمة السبى، وذلك مما يثبت مع الشبهة.
ولان ما يتعلق بنبذ الامان إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه، فلا يجوز أن يعتمد فيه بمجرد الظاهر، وأما ما يتعلق بالامان إذا وقع فيه غلط يمكن تداركه فيجوز الاعتماد فيه على الخبر الواحد إذا كان رسولا.
714 - فإن أغار عليهم المسلمون قبل التثبت فقالوا: لم يبلغنا ما جاء به رسولكم، فالقول قولهم.
لانهم أنكروا نبذ الامان، وفيه تمسك بالاصل المعلوم.
فيرد عليهم المسلمون ما أخذوا من أموالهم، ويغرمون ديات من قتلوا منهم، لانهم كانوا في أمان ما لم يعلموا بالنبذ.
فان قيل: فليس في وسع الامير فوق هذا.
قلنا: لا كذلك، بل في وسعه أن يرسل إليهم رسولا ينبذ إليهم، ويرسل لهم معه برجلين عدلين من أهل الشهادة، حتى يشهدا على تبليغه
__________
(1) ق " محتمل " وفى الهامش " متميل.
نسخة ".
(2) ه، ب " الفروج ".
*(2/476)
النبذ.
فهذا أدنى ما تتم به الرسالة في النبذ.
حتى لو أرسل إليهم رجلين فرجعا وشهدا على تبليغ النبذ إليهم لم يجز ذلك، لان أحدهما شهد على فعل نفسه، وذلك لا يكون حجة في الاحكام.
ولا (1) يقبل في مثل هذا إلا ما يكون حجة في الاحكام.
715 - ولو جاء رسول أميرهم بكتاب مختوم إلى أمير العسكر: إنى قد ناقضتك العهد.
(ص 159) فليس ينبغي للمسلمين أن يعجلوا حتى يعلموا حقيقة ذلك.
لان الكتاب محتمل ولعله مفتعل.
716 - وإن كان الذى جاء بالكتاب رجلان من أهل الحرب فشهدا أن هذا الكتاب كتاب الملك وخاتمه، جازت شهادتهما على أهل الحرب.
لان الرسولين عندنا في أمان، والقوم كذلك، قبل أن يتم النبذ.
وشهادة أهل الحرب على أمثالهم من أهل دارهم حجة تامة.
وبعد تمام النبذ بشهادتهم لا بأس بقتلهم واسترقاقهم.
717 - إلا أن يكون اللذان شهدا بالكتاب ممن لا تجوز شهادتهما منهم، أو من أهل الذمة، أو من المسلمين، فحينئذ لا يحل للمسلمين أن يعجلوا بقتالهم.
__________
(1) قوله: " ولا يقبل..الاحكام " لا يوجد في أصلنا، وموجود في سائر النسخ.
*(2/477)
لان شهادة هؤلاء ليس بحجة في الاحكام.
ونبذ الامان لا يثبت بمثل هذه الشهادة.
فينبغي للامير أن يبعث ليهم رجلين عدلين ممن يثق به من (1) المسلمين ليسألوهم عن ذلك.
ألا ترى أنهم لو أسروهم فجحدوا الكتاب وحلفوا أنهم ما كتبوه، كان القول قولهم شرعا، ولا يبطل إنكارهم بشهادة من لا شهادة له.
فلا بد من أن يبعث الامير من تجوز شهادته، حتى إذا أنكروا الكتاب شهدوا به عليهم.
718 - ولو أن الامير بعث إليهم عشرة معهم كتاب فيه نقض
العهد، وقال للرجل المسلم: اقرأه عليهم.
وقال للآخرين: اشهدوا عليهم بذلك.
فاجتمع أميرهم مع القواد والبطارقة.
فقرأ الرجل عليهم بالعربية وترجم الترجمان بلسانهم.
ثم رجع الرسل فأخبروا بما كان فلا بأس بأن يغير المسلمون عليهم.
لانه ليس في وسعهم فوق هذا، والتكليف يثبت بحسب الوسع فيما يندرئ بالشبهات وفيما يثبت مع الشبهات.
719 - فإن أغاروا عليهم فقالوا: إن الترجمان لم يخبرنا بنقض العهد، وإنما أخبرنا أن في الكتاب: قد زدناكم في مدة الامان كذا.
فقولهم هذا باطل.
__________
(1) ه " عن ".
*(2/478)
لما بينا أنهم أتو من قبل أنفسهم حين اختاروا للترجمة خائنا، وليس في وسعنا أن نعلم حقيقة ما يخبرهم به الترجمان، إلا أن يستقر عند المسلمين الذين حضروهم أن الترجمان قال لهم غير ما في الكتاب.
فان استيقن المسلمون بذلك فالقوم على أمانهم.
أرأيت لو كان أهل الحرب الذين أمناهم لهم لغات مختلفة، وكانوا قوما من العرب لهم لغة، فكلموهم بلغة غير لغتهم أو أعربوا في الكلام.
فذكروا الغريب من اللغات فقالوا: لم نفهم اللغة، أينبغي أن نصدقهم على هذا ونحن نعلم أنهم من أهل المعرفة باللغة ؟ لا نصدقهم على شئ من ذلك حتى نستيقن أنهم لم يفهموا.
فإذا تيقنا بذلك فقد سقط اعتبار الظاهر باليقين، وكانوا هم على الامان.
وكذلك إن كان أكبر الرأى منا أنهم لم يفهموا، لان أكبر الرأى
بمنزلة اليقين فيما يبتنى على الاحتياط.
وقال أبو حنيفة رضى الله عنه: لو أن مسلما جاء برجل من المشركين إلى الامير وهم في المفازة (1)، وكانوا على حصن، حاصروه وقال: إنى كنت أمنت هذا.
فأتاني على أمانى إياه، لم يصدق حتى يشهد شاهدان سواه أنه قد أمنه.
لانه صار فيئا للمسلمين حين جاء به إلى الامير، فانه غير ممتنع منهم.
وهذا المسلم لا يتمكن من أن يؤمنه ابتداء، فلا يصدق فيما يقر به من أمانه.
وفى القياس للامام أن يقتله إن شاء بمنزلة غيره من المأسورين.
ولكن في الاستحسان له أن (2) يجعله فيئا، ولا يقتله (ص 160) لان احتمال الصدق في خبره يمكن شبهة مانعة من إراقة الدم.
وهذا لان حرمة قتل المستأمن من حق الله تعالى.
وخبر الواحد فيما يرجع إلى أمر الدين حجة شرعا، خصوصا فيما لا يكون فيه إلزام على شخص بعينه، وهو منكر لذلك الخبر.
__________
(1) ه " الغازة " ب " المغارة " (2) ساقطة من ق *(2/479)
720 - ولو أن مسلما غير الذى جاء به شهد أنه آمنه.
لم تقبل شهادته حتى يشهد على ذلك رجلان مسلمان.
واستدل بحديث الهرمزان، فإن عمر رضى الله عنه قال له: تكلم، لا بأس عليك، أو تكلم بكلام حى.
ثم اشتبه ذلك على عمر.
فشهد له أنس بن مالك.
فأبى عمر أن يقبل ذلك حتى جاء معه رجل آخر فشهد بذلك، فآمنه عمر.
ففى هذا بيان أنه لا بد من شهادة رجلين إذا شهدا على أمان غيرهما.
لان ذلك الغير منكر للامان، ولو كان مقرا به لم تكن شهادته حجة على فعل نفسه، فلا بد من أن يشهد به شاهدان سواه حتى يثبت الامان، إلا في حق الرسول خاصة إذا علم المسلمون أنه قد أخبرهم بالامان، لان المسلمين ائتمنو على الرسالة.
فان ظهر منه خيانة فذلك على المسلمين.
ألا ترى أن الامام إذا ولى قاضيا أمر المسلمين فأخطأ في إقامة حد من رجم أو قطع في سرقة كان ذلك على بيت مال المسلمين (1).
لانهم ولوه ذلك على المسلمين، فخطآؤه عليهم، كذلك الرسول حين ولوه الرسالة فخطآؤه وجنايته تكون عليهم دون أهل الحرب.
والله أعلم.
__________
(1) ق " كان ذلك في بيت المال " وفى الهامش " على بيت المسلمين ".
نسخة ".
*(2/480)
58 باب السرية تؤمن أهل الحصن ثم تلحقها السرية الاخرى 721 - قال: ولو أن سرية صالحوا أهل حصن على خمس مئة دينار على أن يؤمنوهم حتى يخرجوا إلى دار الاسلام صح ذلك.
لانهم لو أمنوهم بغير عوض إلى هذه الغاية جاز، فمع العوض أجوز.
لان في الامان تحريم القتل والاسترقاق، وهو صحيح بعوض وبغير عوض.
بمنزلة الصلح ظن القصاص.
722 - ولا بأس بأن يغيروا بعد هذا الصلح على غيرهم من أهل الحرب.
لانهم خصوا بالامان أهل الحصن.
ودخل في أمانهم أمتعتهم ومواشيهم تبعا لانهم أمنوهم، ليقيموا في حصنهم.
فلا يجوز أن يعرضوا لشئ من
أموالهم إلا ما كانوا أخذوه قبل الصلح، وليس عليهم رد شئ من ذلك.
لان المأخوذ صار غنيمة لهم، وما أمنوهم ليردوا عليهم الغنائم إنما أمنوهم ليتركوا (1) التعرض لاموالهم، وقد خرج المأخوذ من أن يكون من جملة أموالهم.
__________
(1) ب " ليترك ".
*(2/481)
723 - فإن مضت هذه السرية في أرض الحرب ودخلت سرية أخرى من المسلمين، فلما انتهوا إلى الحصن أخبروهم بذلك الصلح، وشهد على ذلك عدلان من المسلمين، فليس ينبغى لهم أن يتعرضوا لاهل الحصن بشئ.
لان عقد السرية الاولى نافذ في حق المسلمين كافة.
قال عليه السلام: " المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم يعقد عليهم أولاهم (1)، ويرد عليهم أقصاهم ".
قيل المراد بعقد أول السرايا الامان.
فينفذ ذلك على المسلمين.
724 - وإذا ثبت أن حكم هذه السرية حكم السرية الاولى، وهم لو رجعوا إليهم لم يحل لهم أن يتعرضوا (2) لاهل الحصن بشئ، إلا أن ينبذوا إليهم برد الدنانير المقبوضة عليهم.
فكذلك السرية الثانية لا يجوز لهم قتالهم حتى يردوا عليهم الدنانير التى أخذها أصحابهم ثم ينبذوا إليهم ويقاتلوهم.
وهذا لانهم أعطوا الدنانير ليأمنوا إلى وقت خروج السرية الاولى من دار الحرب، فما لم يخرجوا كانوا في أمان (ص 161).
ولو قاتلناهم من غير رد الدنانير كان فيه أضرار وغرور وهو حرام.
وإن ردوا الدنانير فقاتلوهم حتى ظفروا بهم، ثم التقوا هم والسرية
__________
(1) ق " أولهم ".
(2) ب " يعرضوا ".
*(2/482)
الاولى فهم شركاء في أموال أهل الحصن والدنانير التى أخذتها السرية الاولى.
لان كل ذلك غنيمة.
وقد اشتركوا في إحرازها بدار الاسلام.
وذلك سبب الشركة بينهم فيها.
إلا أن السرية الثانية إن كانوا غرموا الدنانير من أموالهم أخذوها من أموال أهل الحصن قبل القسمة.
لانهم توصلوا إلى هذه الاموال برد تلك الدنانير، وما كانوا متبرعين فيما أدوا منها، وإنما كانوا متطرقين (1) بها إلى الوصول إلى هذه الغنيمة، فيكون حقهم في ذلك القدر مقدما على حق الغانمين.
ثم الباقي مقسوم بين الكل على سهام الغنيمة.
فإن كانوا غرموها من غنيمة أصابوها لم يأخذوها، لان ما أدوا من جملة الغنيمة مشترك بينهم، بمنزلة ما توصلوا به إلى أخذه.
وهو بمنزلة ما لو قضى بعض الورثة دينا به رهن (2)، وهو من جملة التركة.
فان قضاه من مال نفسه رجع به في التركة، وإن قضاه من التركة لم يرجع بشئ منه.
725 - وإن لم تلتق السريتان في دار الحرب سلمت للسرية الاولى الدنانير التي أخذوها وللسرية الثانية غنائمهم التي غنموا.
__________
(1) ب " متطرفين ".
(2) ه، ق " بعض الورثة دين مورثه وهو من.
".
*(2/483)
لان كل فريق اختص بإحراز ذلك بدارنا.
وليس للسرية الثانية أن يأخذوا الدنانير من السرية الاولى.
وإن غرموها من أموالهم.
لانهم اختصوا بمنفعة ما أدوا حين سلمت لهم غنائم أهل الحصن، بخلاف الاول فقد اشتركت السريتان هناك في المنفعة وهو غنائم أهل الحصن مع أنه لا فرق.
فهناك رجوعهم في غنائم أهل الحصن خاصة، وهنا غنائم أهل الحصن سالمة لهم.
726 - وإن لم تظفر السرية الثانية بالحصن فالتقوا مع السرية الاولى في دار الحرب، لم يكن للسرية الثانية أن يأخذوا شيئا من دنانيرهم من جملة ما أحرزوا بدارنا من الغنائم.
لانه لا منفعة للسرية الاولى فيما ردوا من الدنانير حين لم يتوصلوا بها إلى غنائم أهل الحصن، فكانوا متبرعين في حقهم، بخلاف الاول.
وهذا لان الغنم مقابل بالغرم.
فإذا ظهرت المنفعة لهم جميعا بسبب ماردوا من الدنانير، نفذ الرد في حق الكل.
وإذا لم تظهر المنفعة لا ينفذ ذلك في حق غير الذين ردوا.
727 - وإن كانت السرية الثانية غنمت من غير أموال أهل الحصن فأرادوا أخذ دنانيرهم من ذلك لم يكن لهم ذلك: لان هذه الغنائم كانوا يتوصلون (1) إليها بدون رد الدنانير، فلا يظهر حكم رد الدنانير في حقها، كما لا يظهر في حق ما أصاب السرية الاولى،
__________
(1) ب " يتواصلون ".
*(2/484)
بخلاف ما إذا غنموا من أهل الحصن، فان وصولهم إلى تلك الغنائم باعتبار رد الدنانير فيرفعون دنانيرهم منها قبل القسمة.
728 - وإن كان أهل الحصن أخبروا السرية الثانية بالامان، ولم يكن بينة على ذلك، فلم يصدقوهم.
ولكن قاتلوهم وظفروا بهم، ثم علموا بعد ذلك بالامان فعليهم رد ما أخذوا وضمان ما استهلكوا من أموالهم وديات من قتلوا منهم على عواقلهم (1).
لانه ظهر أن القوم كانوا مستأمنين، وأن نفوسهم وأموالهم كانت معصومة متقومة.
فكل من قتل منهم رجلا فانما قتله خطأ، فتجب الدية على عاقلته.
بلغنا أن رجلين من المشركين جاءا إلى رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم مستأمنين فأجازهما (3) بحلتين، ثم خرجا من عنده فلقيهما قوم من المسلمين (ص 162) فقتلوهما.
ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فعرفهما وعرف الحلتين، فوداهما بدية حرين مسلمين.
هكذا (4) ذكر محمد رحمه الله (5) الحديث.
وفى كتب المغازى أن الرجلين كانا من بنى عامر.
قتلهما عمرو بن أمية الضمرى حين انصرف من بئر معونة، وقد فعل بنو عامر بأصحابه ما فعلوا.
__________
(1) العواقل ج عاقلة.
(2) ب، ه " النبي ".
(3) في هامش ق " أي أعطاهما جائزة.
حصيرى " وفى حاشية ص " أي أعطاهما حلتين ".
(4) ص " هكذى ".
(5) قوله " رحمه الله " لا توجد في ب، ق، وفى ه " رحمة الله عليه ".
*(2/485)
729 - وكذلك لو كان أهل الحصن قالوا للسرية الاولى: آمنونا
أنتم.
فهذا والاول سواء.
لانهم هم الذين يؤمنونهم، سواء صرحوا بقولهم أنتم أولم يصرحوا.
730 - ولو قالوا: على أن لا تعرضوا أنتم لنا حتى تخرجوا إلى دار الاسلام.
ففعلوا ذلك.
ثم جاءت السرية الثانية، فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير أن يردوا عليهم شيئا.
لانهم إنما استأمنوا منهم خاصة ليزيلوا تعرضهم عنهم.
ومقصودهم من أداء الدنانير هنا أن تنصرف عنهم السرية التى أحاطت بهم، وقد حصل هذا المقصود لهم، بخلاف الاول.
فهناك التمسوا أمانا عاما إلى مدة معلومة.
وكما أن الامان يقبل التخصيص بالوقت، يقبل التخصيص من حيث السرايا، إلا أن عند الاطلاق موجب اللفظ العموم، وعنه التنصيص على ما يوجب الخصوص يثبت الحكم خاصة (1).
ثم فرع على الامان العام فقال: 731 - إن خرجت السرية الاولى قبل وصول الثانية إلى أهل الحصن.
ثم وصلوا إليهم فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير نبذ ورد الدنانير.
__________
(1) ق، ب " خاصا ".
*(2/486)
لان الامان كان لهم إلى غاية، وهو خروج السرية الاولى إلى دار الاسلام.
فانتهى الامان بوجود الغاية.
ألا ترى أن السرية الاولى لو عادوا إليهم بعد ما خرجوا كان لهم أن يقاتلوهم ؟ فكذلك السرية الثانية.
732 - ولو كان خرج بعضهم دون بعض فالمعتبر فيه خروج الامير مع جماعة القوم الذين لهم المنعة.
لان الباعث لاهل الحصن على التماس الصلح وأداء الدنانير خوفهم من السرية، وذلك كان باعتبار جماعتهم ومنعتهم.
وكان ينبغى في القياس على قول أبى حنيفة، رضى الله عنه (1)، أنه وإن بقى واحد منهم في دار الحرب لا يحل قتالهم بدون رد الدنانير.
لان الحكم إذا ثبت بجملة يبقى ببقاء الواحد، كما قال في البلدة التى ارتد أهلها وبقى فيها مسلم أو ذمى آمن (2) أنها لا تصير دار الحرب.
ولكن هذا القياس متروك هاهنا لاجل التعذر.
أرأيت لو قتل رجل منهم أو مات أو أسر أو فقد ألم (3) يحل قتال أهل الحصن أيضا بعد خروج الجماعة ؟ 733 ولو لم يخرج السرية الاولى ولكنهم قتلوا حل قتال أهل الحصن أيضا.
لانهم إذا قتلوا فكأنهم خرجوا.
يعنى أن أهل الحصن يأمنون جانبهم إذا قتلوا فوق ما يأمنون جانبهم إذا خرجوا.
__________
(1) ب، ه " رحمه الله تعالى "، رحمه الله ".
(2) ه " أمر ".
(3) ه " لم ".
*(2/487)
734 وإن قتل منهم ناس وبقى ناس فالمعتبر هو المنعة كما في الخروج.
فإن كان من بقى منهم لا منعة له فلا بأس بقتال أهل الحصن.
وإن كانوا أهل منعة لم يحل قتالهم ما لم يخرج هؤلاء إلى دارنا، ولو كانوا صالحوهم على أن يؤمنوهم هذه السنة فهذا جائز.
لانهم وقتوا الامان بما هو معلوم يقينا، ولو وقتوه بما هو غير معلوم وهو خروجهم إلى دار الاسلام، جاز، ففيما هو معلوم أجوز.
ثم لما عرفوا للسنة بالالف واللام ينصرف إلى السنة المعهودة التى هم فيها، ومضيها انقضاء ذى الحجة، حتى إذا كان الباقي منها شهرا فلهم ذلك خاصة.
(ص 163).
735 وإن قالوا: إنما صالحناكم على ما نحسب نحن عليه السنة لم يلتفت إلى ذلك.
لان المسلمين هم الذين أعطوهم الامان، والمدة المذكورة تنصرف إلى ما يكون معلوما عند المسلمين دون ما يكون معلوما لهم.
فان المسلمين لا يعرفون ذلك.
وقد أمرنا ببناء الاحكام على ما نعرفه.
قال تعالى (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) (1).
إلا أن يكونوا بينوا ذلك في صلحهم فحينئذ الشرط أملك.
736 وإن قالوا: لنا سنة كاملة من وقت الصلح اثنا عشر شهرا، لم يلتفت إلى ذلك.
__________
(1) سورة يونس، 10، الآية 5.
*(2/488)
لانهم قالوا: هذه السنة، واثنا عشر شهرا مدة سنة منكرة لا سنة معرفة.
ألا ترى أنه لو قال: لله على صوم سنة ينصرف نذره إلى سنة كاملة ؟ ولو قال: صوم السنة ينصرف إلى بقية السنة ومضيها انقضاء ذى الحجة.
737 وإن قالوا: عنينا هذه السنة إلى انصرافكم من صائفتكم، لم يلتفت إلى ذلك.
لانهم ادعوا ما هو خلاف الظاهر (1).
فان الظاهر ما يسبق إلى الافهام، والذى يسبق إلى الافهام من ذكر السنة المدة دون الانصراف، إلا أن ذلك محتمل أيضا.
738 فإن بينوا في الصلح فهو على ما بينوا.
وإن قالوا: على أن تؤمنونا سنة، فهذا على اثنا عشرا من وقت الصلح.
لانهم ذكروا سنة منكرة، وذلك اثنا عشر شهرا.
قال الله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) (2) يعنى شهور السنة.
739 ولو قالوا: نصالحكم على أن تؤمنونا على ألف دينار، ولم يوقتوا وقتا، فهذا على خروجهم إلى دار الاسلام.
لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال وبما يعلم من مقصود المتكلم، وبعد ما أحاطت بهم السرية يعلم أن مقصودهم بهذا الصلح الامن من الخوف الذى نزل بهم، وإنما يتم ذلك بخروج السرية إلى دار الاسلام.
فكأنهم صرحوا بهذا وقالوا: آمنونا حتى تخرجوا إلى دار الاسلام.
__________
(1) ه " ادعوا خلاف ما هو الظاهر ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 36.
*(2/489)
740 فإن خرجوا ثم عادوا، هم أو غيرهم، فلهم أن يقاتلوا أهل الحصن من غير رد الدنانير.
ولكن لا ينبغى أن يقاتلوهم (1) حتى ينبذوا إليهم.
لان الامان لهم مطلق.
والمقصود الذى ذكرنا يرجع إلى ما أدوا من الدنانير.
فباعتبار ذلك المقصود تتم سلامة الدنانير لهم إذا خرجوا، وباعتبار كون الامان مطلقا لا يحل قتالهم ما لم ينبذوا إليهم، كما لو أمنوهم بغير عوض، بخلاف ما سبق: فهناك الامان مؤقت نصا، فلا يبقى بعد مضى الوقت.
741 ولو أن الامام بعث إليهم من دار الاسلام من يدعوهم إلى الصلح، فصالحوه على أن يؤمنوهم على مال مطلقا.
ثم بدا للامام
أن ينبذ إليهم، فليس ينبغى أن يقاتلهم حتى يرد إليهم ما أخذوا منهم، بخلاف الاول.
لان (2) هناك مقصودهم من بذل المال إزالة الخوف الذى حل بهم، وهاهنا ما حل بهم خوف، وإنما مقصودهم من بذل المال ها هنا تحصيل الامن لهم مطلقا، حتى لا يتعرض أحد من المسلمين لجانبهم.
والمطلق فيما يحتمل التأييد بمنزلة المصرح بذكر التأييد.
فكأنهم قالوا: آمنونا أبدا.
فلهذا لا يحل قتالهم إلا بعد رد المال عليهم.
742 فإن كانت السرية التى أحاطت بالحصن صالحوهم على أن يكفوا عنهم على ألف دينار ولم يزيدوا على هذا شيئا، فليس ينبغى لهم أن يتعرضوا لهم ما داموا في تلك الغزاة.
__________
(1) ه " يقاتلوا أهل الحصن ".
(2) ب " فان ".
*(2/490)
ولا بأس بأن يغير عليهم غير تلك السرية من المسلمين وإن لم تخرج تلك السرية من دار الحرب.
لانهم عند بذل المال (ص 164) شرطوا عليهم أن يكفوا عنهم وهذا اللفظ يخصهم دون سائر المسلمين.
743 ومن حيث المقصود يعلم أنهم أرادوا أن يأمنوا جانبهم، وهذا المقصود يتم بخروجهم إلى دار الاسلام، فيتم سلامة الدنانير لهم عند ذلك.
744 فإن عادوا إليهم بعد ذلك لم يكن عليهم رد الدنانير، ولكن لا ينبغى لهم أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.
لان بينهم وبين أهل الحصن أمان خاص، ولكن (1) مطلق غير مؤقت نصا.
وقد قلنا إن مثل هذا الامان لو كان بينهم وبين جماعة المسلمين لم يحل قتالهم قبل النبذ إليهم للتحرز عن الغدر.
745 فكذلك إذا كان بينهم وبين السرية، حتى أغاروا عليهم من غير نبذ وأخذوا منهم مالا ردوا عليهم ما أخذوا.
لانهم كانوا في أمان منهم حتى ينبذ (2) إليهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أحل لكم شيئا من أموال المعاهدين ".
746 ولو أن الخليفة بعث ثلاثة عساكر إلى دار الحرب.
__________
(1) ب، ه " لكنه ".
(2) ه " ينبذوا ".
*(2/491)
فبعث أهل حصن لم يأته المسلمون بعد إلى أمير عسكر من تلك العساكر أن آمنوا أهل حصن كذا على أن تكفوا عنهم حتى ترجعوا من غزاتكم هذه على ألف دينار.
وتراضوا على هذا، فليس للعسكرين الباقيين ولا لغيرهم ممن يدخل من دار الاسلام أن يغيروا عليهم، حتى ترجع العسكر الثلاثة إلى دار الاسلام.
لان هذا الامان نافذ في حق جماعة المسلمين.
ولم يكن مقصود أهل الحصن بهذا أن يأمنوا جانب العسكر المبعوث إليهم خاصة، فانهم لم ينزلوا بساحتهم بعد، بل (1) خوفهم منهم ومن العسكرين الآخرين ومن جميع المسلمين بصفة واحدة، فعرفنا أن مقصودهم من بذل المال إزالة هذا الخوف من أنفسهم إلى غاية، وهو خروج العسكر، وذلك إنما يحصل إذا علم الامان كافة المسلمين، فليس لاحد أن يغير عليهم إلا بعد النبذ ورد الدنانير.
747 بخلاف ما إذا دنا العسكر المبعوث إليهم من الحصن حتى حاصروهم، أو كانوا قريبا منهم.
فإن هناك مقصودهم الامن من جانبهم (2) خاصة.
لانهم صاروا محصورين مقهورين من جهتهم.
وقد بينا أن مطلق الكلام يتقيد بالمقصود، فلهذا كان للعسكرين الباقيين أن يقاتلوهم من غير نبذ.
ألا ترى أنه لو كان أمير الشام أو الخليفة أو ولى العهد مع أحد العساكر الثلاثة، فأرسلوا إليه أن آمنوا على أن تكفوا عنا حتى ترجعوا من غزاتكم ففعل، أن ذلك على العساكر كلها، وعلى جميع أهل الحرب أيضا، حين
__________
(1) ب " تعديل ".
(2) ب، ه " من جانب هؤلاء ".
*(2/492)
لم يذكروا أهل حصن خاصة.
لان اللفظ عام، فيكون موجبا الحكم في كل ما يتناوله، إلا أن يقوم دليل الخصوص بأن يبينوا فيقولوا: آمنوا أهل حصن كذا.
748 ولو كان الخليفة مع عسكره (1) أحاط بذلك الحصن فآمنهم (2)، والمسألة بحالها، كان الامان لهم خاصة من العسكر الذين أحاطوا بهم دون غيرهم، فكذلك ما سبق.
749 وكذلك لو كانوا بعثوا إلى أحد العساكر فقالوا: آمنونا أنتم خاصة.
فهذا والاول سواء.
لانهم هم الذين يؤمنونهم خاصة، وإن لم يذكروا هذه الزيادة، ولكن حكم أمانهم يثبت في حق المسلمين كافة.
750 وإن قالوا: على أن تكفوا عنا أنتم خاصة، وذلك قبل أن
ينتهوا إليهم، فهذا على ذلك العسكر خاصة.
لوجود دليل للتخصيص.
وكذلك إن كانوا قالوا للخليفة: آمنونا نحن خاصة.
فالامان لهم دون غيرهم من أهل الحرب.
للتصريح بما يوجب التخصيص في الكلام.
__________
(1) ب " العسكر ".
(2) ب " فناهضهم ".
*(2/493)
751 فإن لحق رجل (ص 165) من أهل هذا العسكر بغيره من العساكر فليس ينبغى له أن يقاتل معهم أهل الحصن.
لانهم استفادوا الامان من جانب أهل ذلك العسكر خاصة، وذلك حكم ثابت في حق كل واحد منهم على الانفراد.
فكما لا يكون له أن يقاتلهم مع عسكره لا يكون لهم أن يقاتلهم مع عسكر آخر.
752 ولو أن سرية حاصروا (1) حصنا، فسألهم أهل الحصن أن يؤمنوهم على أربعة أشهر، على أن يعطوهم خمس مئة دينار ففعلوا، ثم دخلت سرية أخرى في دار الحرب وعلموا بذلك، ليس لهم يقاتلوهم حتى يردوا عليهم الدنانير أو ينتهي الامان بمضي المدة.
لنفوذ أمانهم على كافة المسلمين.
فإن ردوا الدنانير من أموالهم فقاتلوهم وظفروا بهم، ثم خرجوا بالغنائم إلى دار الاسلام بالدنانير التى أدوا، فيعطون ذلك قبل الخمس وقبل كل قسمة.
لانهم إنما توصلوا إلى هذه الغنايم بما أدوا، فلا يكونون متبرعين
فيما أدوا، بل يكونون أحق بما أصابوا من الحصن حتى يأخذوا دنانيرهم.
أرأيت لو وجدوا في الحصن تلك الدنانير بعينها ما كانوا أحق بها قبل الخمس والقسمة ؟ فكذلك إذا وجدوا في الحصن مثلها.
وهو نظير المرهون إذا أسره العدو، ثم اشتراه منهم مسلم فأخرجه، وظفر به الراهن دون المرتهن فأخذه بالثمن، فانه يسقط دين المرتهن، إلا أن
__________
(1) ه " حاصر ".
*(2/494)
يرد على الراهن ما أعطى من الثمن، فحينئذ يأخذ العبد ويكون رهنا عنده، لان الراهن ما تمكن من أخذه وإحياء ملكه فيه إلا بما أدى، فلم يكن متطوعا.
وكذلك العبد الموصى بخدمته لانسان مدة معلومة، وبرقبته لآخر، فان الموصى له بالخدمة إذا فداه بالثمن من المشترى من العدو فهو أحق به، ولا يكون متبرعا في هذا الفداء، لانه ما كان يصل إلى خدمته إلا به، حتى إذا انقضت مدة الخدمة بيع العبد له في الفداء.
إلا أن يرد عليه صاحب الرقبة مثل ما أدى فحينئذ يسلم العبد له.
وكذلك المبيع في يد البايع إذا أسره العدو فاشتراه رجل منهم، فللبائع أن يأخذه بالثمن، ثم يقال للمشترى: إن شئت فخذه بالثمنين جميعا، وإن شئت فدع.
لان البائع ما كان يتوصل إلى إحياء حقه إلا بأداء الفداء، فلا يكون هو متبرعا فيما أدى، فكذلك حال السرية الثانية فيما أدوا من الدنانير، فيسلم لهم هذا قبل الخمس.
لان الخمس في الغنيمة (1)، وما أدوا لم يكن من الغنيمة.
فمثله المردود عليهم لا يكون من الغنيمة أيضا (2)، ولكن بمنزلة النفل ينفلونه قبل الخمس على ما نبينه في آخر الباب.
753 ولو لم يظفروا بالحصن، وجعلوا يقاتلونهم، حتى مضت أربعة أشهر، (3) ثم ظفروا بهم، فليس لهم أن يأخذوا بتلك الدنانير ولا مثلها قبل الخمس، بل يخمس جميع ما أصابوا، والباقى بينهم على سهام الغنيمة.
__________
(1) قوله " لان الخمس في الغنيمة " ساقط من ه.
(2) في ه " فكذلك مثل المردود عليهم لا يكون.." وهذه العبارة ذكرت في هامش ق وأردفت بقوله: نسخة ".
(3) ب، ق " الاربعة ".
*(2/495)
لان تمكنهم من اغتنام ما في هذا (1) الحصن لم يكن برد الدنانير فانهم لو لم يردوا حتى مضت مدة الامان كان لهم أن يغيروا عليهم من غير نبذ، بخلاف المسألة الاولى، فانهم ما كانوا يتمكنون من الاغتنام في المدة قبل رد الدنانير، ولو فعلوا أمروا برد الاموال عليهم وإعادتهم إلى مأمنهم.
754 ولو أنهم لم يخرجوا إلى دارنا حتى التقوا، هم والسرية الاولى، في دار الحرب، فإن كانوا ظفروا بأهل الحصن بعد الاربعة الاشهر فهم شركاء (ص 166) فيما أصابوا، وليس لهم من دنانيرهم شئ.
ولو كانوا ظفروا بهم في الاربعة الاشهر أخذوا دنانيرهم أولا ثم الشركة بينهم في الباقي.
لانهم اشتركوا في الاحراز بدارنا، وذلك سبب الشركة في الغنيمة.
وقد بينا أنهم إذا كانوا ظفروا بهم بعد مضى المدة فجميع ما أصابوا غنيمة، وإن كان قبل مضى المدة بعد رد الدنانير عليهم.
وقد قررنا هذا في الخمس فكذلك في شركة السرية الاولى معهم.
755 ولو (2) أن السرية الثانية بعد رد الدنانير لم يقدروا فتح الحصن، فدخلوا أرض الحرب ثم أتى أهل الحصن سرية ثالثة، فلا بأس بأن يغيروا عليهم.
لان حكم أمانهم قد بطل برد السرية الثانية الدنانير عليهم.
ألا ترى أنه كان يجوز لهم أن يغيروا عليهم.
فكذلك يجوز للسرية الثالثة.
__________
(1) ساقطة من ه، ق، ب.
(2) ه " فلو ".
*(2/496)
756 فإن ظفروا بهم في المدة أو بعدها، ثم التقت السرايا في أرض الحرب.
فهم شركاء في جميع الغنائم.
لانهم اشتركوا في إحرازها ولا سبيل للسرية الثانية على أخذ دنانيرهم وإن وجدوها بعينها.
لانهم ما ظفروا بالحصن.
فان قيل: السرية الثالثة إنما تمكنوا من فتح الحصن في المدة برد تلك الدنانير، فينبغي أن يكون للسرية الثانية حق استرداد ذلك قبل القسمة.
قلنا: نعم.
ولكن لم يكن لاهل السرية الثانية ولاية على أهل السرية الثالثة.
ألا ترى أنهم لو خرجوا إلى دار الاسلام قبل أن يلتقوا لم يكن لهم سبيل على شئ مما أصابوا.
وملاقاتهم إياهم في دار الحرب سبب لثبوت حق الشركة لهم في الغنيمة لا في غيرها.
فان لم يجعل هذه الدنانير من الغنيمة فلا حق للسرية الثانية فيها.
وإن جعلت من الغنيمة فليس لهم حق الاختصاص بشئ منها، إلا أن يكون الامام أو من كان أميرا على السرايا هو الذى أمر السرية الثانية برد الدنانير من أموالهم، فحينئذ له ولاية على السرايا كلها.
فالذين أدوا
بأمره لا يكونون متبرعين في حق أحد 757 فإن ظفر السرية الثالثة بهم في المدة ردوا على السرية الثانية دنانيرهم أولا.
لانهم ما تمكنوا من هذه الاغتنام إلا بذلك.
وإن ظفروا بهم بعد المدة، فليس عليهم رد شئ من ذلك، ولكن على الامام أن يعطى الذين أدوا مالهم من بيت مال المسلمين.(2/497)
لانه أمرهم بأداء مال لاجل منفعة رجعت إلى المسلمين، فكان ذلك دينا لهم على بيت المال.
ولان خمس تلك الغنيمة سلم لبيت المال، فيرد عليهم ما غرموا من مال بيت المال أيضا ليكون الغرم بمقابلة الغنم.
758 ولو لم يأت أهل الحصن سرية أخرى حتى رجعت إليهم السرية الاولى فردت عليهم الدنانير وظفروا بهم، فلا سبيل عليهم على أخذ الدنانير من رأس الغنيمة.
لانهم أخذوا مثل ما أرادوا (1)، وفسخوا حكم فعلهم بالرد.
فكأنهم لم يأخذوا شيئا في الابتداء حتى ظفروا بالحصن، فيكون لجميع ما أصابوا حكم الغنيمة.
759 وإن كان تلك الدنانير ضاعت منهم، وحين رجعوا أعطوا مثلها من أموالهم، ليس مما غنموا، فهم أحق بالغنيمة حتى يستوفوا منها مثل ما أعطوا إن كانوا ظفروا بهم في المدة.
لان حالهم عند الرجوع ورد الدنانير كحال سرية أخرى.
760 ولو أن الامام وادع قوما من أهل الحرب سنة على مال
دفعوه إليه، فذلك جائز (ص 167).
إنما ينبغى له أن يوادع إذا كان خيرا للمسلمين.
لما بينا أنه نصب ناظرا للمسلمين، ولا يجوز له ترك القتال والميل إلى أخذ المال إلا أن يكون فيه نظر للمسلمين.
__________
(1) ه " لو فسخوا "، ب " أو فسخوا ".
*(2/498)
ثم هذا المال ليس بفئ ولا غنيمة حتى لا يخمس، ولكنه بمنزلة الخراج يوضع في بيت المال.
لان الغنيمة اسم لمال مصاب بايجاف الخيل والركاب، والفئ اسم لما يرجع من أموالهم إلى أيدينا بطريق القهر.
فأما هذا فمال رجع إلينا بطريق المراضاة، فيكون بمنزلة الجزية والخراج يوضع في بيت مال المسلمين.
لان الامام إنما تمكن منه لمنعة جماعة المسلمين.
761 فإن نظر الامام فرأى هذه الموادعة شرا للمسلمين فليس ينبغى له أن يقاتلهم حتى يرد عليهم ما أخذ.
لان الوفاء بالعهد والتحرز عن الغدر واجب.
762 فإن رد عليهم عينه أو مثله من بيت المال، ونبذ إليهم، ثم بعث جندا حتى ظفروا بهم، فإنه يخمس جميع ما أصابوا، ويقسم الباقي بين الغانمين على سهام الغنيمة، وليس له أن يرتجع شيئا مما أعطى من الدنانير.
لانه كان في الاخذ عاملا للمسلمين.
فقد ردها أو مثلها من مال المسلمين.
فان مال بيت المال معد لنوائب المسلمين، وهذا كان من جملة النوائب.
بخلاف ما ذكرنا في السرية الاولى إذا ردوا من أموالهم بعد ما ضاعت
تلك الدنانير منهم.
لان هناك المأخوذ الذى ضاع منهم كان من جملة الغنيمة، والمردود لم يكن من الغنيمة، إنما كان من خاص أموالهم.
وهاهنا (1) المأخوذ
__________
(1) ق، ه " هنا ".
*(2/499)
كان لجماعة المسلمين، والمردود أيضا من مال جماعة المسلمين.
فلهذا لا يرجع في شئ من ذلك.
ثم عاد إلى مسألة السريتين فقال: 763 لو أن السرية الثانية ردوا الدنانير بأمر أميرهم خاصة ثم أدركتهم سرية أخرى، فافتتحت السريتان الحصن وأخذوا ما فيه، فإنه يقسم المصاب على رؤوس الرجال من السريتين أولا، ثم ينظر إلى ما أصاب السرية التى ردت الدنانير فيبدأ بدنانيرهم من ذلك.
لان أمر أميرهم غير نافذ على السرية الثالثة، وإنما ينفذ على أهل سريته خاصة.
وأموال أهل الحصن مصاب السريتين جميعا، فلا بد من قسمتها بينهم ليتبين مصاب السرية الثانية، حتى يرفعوا (1) دنانيرهم منها قبل القسمة.
وإنما قسمت هذه الغنيمة على عدد الرؤوس.
لانها ليست بقسمة الغنيمة حتى يعتبر فيها سهام الفرسان والرجالة.
ألا ترى انها قبل الخمس وقسمة الغنيمة بعد الخمس.
764 فإذا دفعوا دنانيرهم يضم ما بقى إلى ما أصاب السرية الثالثة بالقسمة الاولى.
فيخمس جميع ذلك، ثم يقسم الباقي بين السريتين على سهام الغنيمة.
قال: وإنما مثل هذا مثل إمام بعث سريتين ونفل إحداهما بعينها
__________
(1) ق " يرفعون ".
*(2/500)
الرابع قبل الخمس.
وهناك يقسم ما أصابوا أولا على رؤوس الرجال حتى يتبين نصيب المنفلين فيعطون نفلهم من ذلك، ثم يضم ما بقى إلى ما أصاب السرية الاخرى، فيخمس ويقسم ما بقى بينهم على سهام الغنيمة.
وهذا بخلاف ما سبق في أول الكتاب في مسألة المئة العصاة إذا كانوا بأعيانهم.
فإن هناك القسمة بينهم وبين الثلاث مئة على سهام الخيل الرجالة في أصح الروايات، حتى يتبين نصيب الثلاث مئة فيعطون من ذلك نفلهم.
لان هناك إنما نفلهم الربع بعد الخمس، والقسمة التى تكون بعد الخمس قسمة الغنيمة.
وهذا إنما نفلهم الربع قبل الخمس.
والقسمة الاولى هاهنا ليست بقسمة الغنيمة.
فلهذا قسم على عدد (ص 168) رؤوس الرجال.
765 فإن كان ما أصاب السرية الرادة لم يرد على دنانيرهم، سلم لهم جميع ذلك، ويخمس ما أصاب السرية الاخرى، ثم يقسم ما بقى بين السريتين جميعا على الغنيمة.
لان المغنوم هذا المقدار.
وإن لم يف ما أصابهم بدنانير فكذلك الجواب.
لانه لا أمر لاميرهم فيما أصاب السرية الثالثة ليأخذوا أشياء منها بحساب الدنانير.
والله أعلم (1).
__________
(1) ه، ق، ب زيادة " وبالله التوفيق ".
*(2/501)
59 باب ما يتكلم به الرجل فيكون أمانا أولا يكون 766 فإذا أخذ المسلم أسيرا من المشركين وطلب الاسير منه الامان فآمنه، فهو آمن لا يحل له ولا للامير ولا لغيره أن يقتله.
لان أمان الواحد من المسلمين نافذ على الجماعة.
فكأن الامير هو الذى آمنه، ولكنه يكون فيئا لانه مقهور مأخوذ.
وقد ثبت فيه حق المسلمين فلا يبطل بأمان الواحد الحق الثابت لجماعتهم.
وأمنا من القتل بسبب الامان لا يكون فوق أمانه من القتل بالاسلام.
767 - ولو أسلم بعد ما أسر لم يقتل، ولكن يكون فيئا.
فكذلك إذا آمنه بعد الاسر.
وهذا لانه صار بمنزلة الرقيق، وإن لم يتعين مالكه ما لم يقسم.
وإسلام الرقيق لا يزيل الرق عنه.
ثم الدليل على أن إسلامه بعد الاخذ لا يبطل الحق الثابت فيه للمسلمين حديث العباس رضى الله عنه.
فإنه أسلم يوم بدر بعد ما أسر.
وحسن إسلامه، على ما روي أن المسلمين قالوا فيما بينهم: قد قتلنا الرجال وأسرناهم، فنتبع العير الآن.
فلما عزموا على ذلك قال(2/502)
العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في وثاق الاسر: هذا لا يصلح.
قال: لم ؟ قال: لان الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين.
وقد أنجزها لك فارجع سالما.
فهذا دليل على حسن إسلامه في ذلك الوقت.
ومع ذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفداء.
وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى: إن يعلم الله في قلوبكم
خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) الآية (1).
768 فإن قال: لا أسلم، ولكن أكون ذمة لكم.
فللامام أن لا يعطيه ذلك ويقتله.
لانه صار مأخوذا مقهورا.
وقد بينا أنه لا يفترض الاجابة إلى إعطاء الذمة في حق مثله.
769 فإن كان حين أخذه المسلمون خافوا أن يسلم فكعموه - أي سدوا فمه، والكعام اسم لما يسد به الفم -.
أو ضربوه حتى يشتغل بالضرب فلا يسلم، فقد أساءوا في ذلك.
لان فعلهم في صورة المنع عن الاسلام لمن يريد الاسلام، وذلك لا رخصة فيه.
ولكنهم إن كعموه كى لا ينفلت ولم يريدوا به أن يمنعوه من الاسلام فهذا لا بأس به، لقوله تعالى (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) (2)
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 67.
(2) سورة محمد، 47، الآية 4.
*(2/503)
فان قيل: إذا كعموه حتى لا يسلم ينبغى أن يكون ذلك كفرا منهم لانهم رضوا بكفره، ومن رضى بكفر غيره يكفر.
قلنا: لفعلهم ذلك تأويلان: أحدهما أنهم علموا أنه لا يسلم حقيقة، ولكن يظهر الاسلام تقية لينجو من القتل.
فلا يكون ذلك رضا منهم بكفره.
والثانى أن مقصودهم من ذلك الانتقام منه والتشديد عليه، لكثرة ما آذاهم لا على وجه الرضى بكفره.
ومن تأمل قوله تعالى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) (1)
يتضح له هذا المعنى.
وأيد هذا ما روى أن عثمان رضى الله عنه جاء بعبدالله بن سعيد (2) (ص 169) بن أبى سرح يوم فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بايع عبدالله، فأعرض عنه.
حتى جاء إلى كل جانب هكذا، فقال: بايعناه فلينصرف.
فلما انصرف قال لاصحابه: أما كان فيكم من يقوم إليه فيضرب عنقه قبل أن أبايعه ؟ فقالوا: أهلا أو مأت إلينا بعينك يا رسول الله ؟ فقال: ما كان لنبى أن تكون له خائنة الاعين.
وأحد لا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرضى بكفره، ولكن علم أنه كان يظهر في ذلك تقية.
فلهذا أعرض عنه وقال ما قال.
770 - ولو أن الاسير قال للمسلم حين أراد قتله: الامان الامان.
فقال له المسلم: الامان الامان.
وإنما أراد رد كلامه على وجه التغليظ عليه: ولكنه لم يرد على هذا.
فهذا في حقه حلال الدم لا بأس بأن يقتله.
ولكن من سمع منه هذه المقالة يمنعه من قتله، ولا يصدقه فيما ادعى من مراده.
__________
(1) سورة يونس، 10، الآية 88.
(2) " بن سعيد " لا توجد في ه، ب، ق.
*(2/504)
لان سياق كلامه من حيث الظاهر أمان، ولكنه محتمل لما أراد.
إلا أن ذلك في ضميره فلا يقف عليه غيره.
فأما الامير والناس يتتبعون الظاهر فلا يمكنونه من قتله بعد ما آمنه.
وفيما بينه وبين ربه هو في سعة من قتله، لان الله مطلع على ضميره.
771 - ولو كان قال له المسلم: الامان الامان تطلب ؟ أو قال:
لا تعجل حتى تنظر ما تلقى.
فهذا لا يكون أمانا.
ولا بأس بقتله له ولغيره.
لان في سياق كلامه تنصيصا (1) على معنى التهديد، وسياق النظم دليل على ترك الحقيقة.
ألا ترى إلى قوله تعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
إنا أعتدنا للظالمين نارا) (2) أنه زجر وتوبيخ لا تخيير باعتبار سياق الكلام ؟ وكذلك قوله تعالى (اعملوا ما شئتم.
إنه بما تعملون بصير) (3) تهديد وليس بأمر.
وكذلك إذا قال الرجل لغيره: افعل في مالى ما شئت إن كنت رجلا، أو افعل بى ما شئت إن كنت صادقا، لا يكون إذنا بل يكون زجرا وتقريعا.
فكذلك هاهنا إذا قال المسلم: الامان، ستعلم أؤ منك أو لا تعلم، أنه أراد رد كلامه.
772 - وإذا قال: الامان وسكت.
لا يعلم ما في ضميره.
فجعل ذلك أمانا باعتبار الظاهر.
بمنزلة من يقول لغيره: افعل في مالى كذا وكذا، يكون إذنا، وإن قال: أردت به التهديد، لم يدن في القضاء.
__________
(1) ه، ق " تنصيص ".
(2) سورة الكهف، 18، الآية 29.
(3) سورة فصلت، 41، الآية 40.
*(2/505)
773 - ولو أن المشرك نادى من الحصن قبل أن يظفر به: الامان الامان.
فقال له المسلم: الامان الامان.
فرمى بنفسه إلى المسلمين.
فقال الذى آمنه: إنما أردت التهديد، لا يلتفت إلى كلامه، وخلى
سبيله.
، سواء كان الامير قال له ذلك أو غيره.
لان ما في ضميره لا يعرفه المشرك.
فلو اعتبر ذلك أدى إلى الغرور وهذا حرام، وبهذا فارق الاسير لانه صار مقهورا مأخوذا.
فلا يتحقق معنى الغرور بينه وبين المسلم فيعتبر ما في ضميره في حقه خاصة.
774 - ولو كان المسلم قال للمحصور: الامان الامان، ما أبعدك عن ذلك ! أو انزل إن كنت رجلا.
فأسمعه الكلام كله بلسانه، فرمى المشرك بنفسه، فهو فئ يجوز قتله.
لانه لم يغره في شئ، فقد أسمعه ما هدده به، وبين له أن كلامه تهديد وليس بإعطاء الامان.
ألا ترى أن الرجل يقول لآخر: لى عليكم ألف درهم.
فيقول الآخر: لك على ألف درهم ؟ ما أبعدك من ذلك ! فانه لا يكون كلامه إقرارا لهذا المعنى.
فأما إذا أسمعه ذكر الامان ولم يسمعه ما وصل به فهو آمن، لا يعتبر في حقه ما أسمعه دون ما لم يسمعه.
وما لم يسمعه هو بمنزلة ما في ضميره لو اعتبر أدى إلى الغرور، والغرور حرام والله أعلم.
(ص 170).(2/506)
60 باب ما يكون أمانا ممن يدخل دار الحرب والاسرى، وما لا يكون أمانا 775 - ولو أن رهطا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة.
وأخرجوا كتابا يشبه كتاب الخليفة، أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعة منهم للمشركين.
فقالوا لهم: ادخلوا.
فدخلوا دار الحرب.
فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب، ولا أخذ شئ من أموالهم ما داموا في دارهم.
لان ما أظهروه لو كان حقا كانوا في أمان من أهل الحرب، وأهل الحرب في أمان منهم أيضا لا يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشئ، هو الحكم في الرسل إذا دخلوا إليهم كما بينا.
776 - فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم.
لانه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين حقيقة، وإنما يبنى الحكم على ما يظهرون لوجوب التحرز عن الغدر.
وهذا لما بينا أن أمر الامان شديد والقليل منه يكفى.
فيجعل ما أظهروه بمنزلة الاستيمان منهم.
ولو استأمنوا فآمنوهم وجب عليهم أن يفوا لهم.(2/507)
فكذلك إذا ظهر ما هو دليل الاستيمان.
777 - وكذلك لو قالوا: جئنا نريد التجارة.
وقد كان قصدهم أن يغتالوهم.
لانهم لو كانوا تجارا حقيقة كما أظهروا لم يحل لهم أن يغدروا بأهل الحرب، فكذلك إذا أظهروا ذلك لهم.
778 - وكذلك لو لقوهم في وسط دار الحرب إلا أن ما كانوا أخذوا قبل أن يلقوهم، فهو سالم لهم، ولا يحل أن يتعرضوا لشئ بعد ذلك.
لانهم حين خلوا سبيلهم بناء على ما أظهروا فكأنهم آمنوهم الآن.
وذلك يحرم عليهم التعرض لهم في المستقبل، ولا يلزمهم رد شئ مما أصابوا قبل ذلك.
779 - ولو كانوا تشبهوا بالروم ولبسوا لباسهم، فلما قالوا لهم:
من أنتم ؟ قالوا: نحن قوم من الروم كنا في دار الاسلام بأمان.
وانتسبوا لهم إلى من يعرفونه من أهل الحرب، أو لم ينتسبوا، فخلوا (1) سبيلهم.
ولا بأس بأن يقتلوا من يقدرون عليه منهم ويأخذوا الاموال.
لان ما أظهروا لو كان حقيقة لم يكن بينهم وبين أهل الحرب أمان.
فان بعضهم ليس في أمان من بعض حتى لو استولى عليه أو على ماله بملكه، وإذا أسلم عليه كان سالما له.
يوضحه أنهم ما خلوا سبيلهم بناء على استئمان
__________
(1) ق " فخلى ".
*(2/508)
منهم صورة أو معنى، وإنما خلوا سبيلهم على بناء أنهم منهم.
فهذا وقولهم: نحن منكم، سواء.
780 - وكذلك لو أخبروهم أنهم قوم من أهل الذمة أتوهم ناقضين للعهد مع المسلمين، فأذنوا لهم في الدخول.
فهذا والاول سواء.
لانهم خلوا سبيلهم على أنهم منهم، وأن الدار تجمعهم، والانسان في دار نفسه لا يكون مستأمنا.
واستدل عليه بحديث عبدالله بن أنيس المتخصر (1) في الجنة حين قال لسفيان بن عبدالله: جئت لانصرنك وأكثرك وأكون معك.
ثم قتله.
فدل أن مثل هذا لا يكون أمانا.
وقد بينا تفسير المتخصر فيما سبق (2).
ومما يبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير العاملين في الدنيا بعد الانبياء والمرسلين المتخصرون (3) ".
يعنى الذين يعملون في الدنيا من الطاعات ما يعتمدون عليها في الجنة وينالون بها من الدرجات، كما يتوكأ الرجل على عصاه في الدنيا يضعه (4)
على خاصرته.
__________
(1) ب، ق " المحتضر " خطأ.
وفى هامش ق " المختصر نسخة " " المتخصر.
نسخة " ثم ما يلى: " وقيل التخصر أخذ مخصرة أو عصا باليد يتكأ عليها.
ومنه قوله عليه السلام لابن أنيس وقد أعطاه عصا: " تخصر بها فان المتخصرين في الجنة قليل.
" ولقب بذلك.
ونقل عبدالله المختصر الجنة..مغرب ".
(2) انظر الجزء الاول ص 269.
(3) ب " المختصرون ".
(4) ه " في الدنيا بعضه بعضا على خاصرته ".
*(2/509)
781 - ولو أن رهطا من المسلمين كانوا أسراء في أيديهم، فخلوا سبيلهم، لم أر بأسا أن يقتلوا من أحبوا منهم، ويأخذوا الاموال ويهربوا إن قدروا على ذلك.
لانهم كانوا مقهورين في أيديهم، وقبل أن يخلوا سبيلهم، لو قدروا على شئ من ذلك كانوا متمكنين منه.
فكذلك بعد تخلية سبيلهم.
لانهم ما أظهروا من أنفسهم ما يكون دليل الاستئمان، وما خلوهم على سبيل إعطاء الامان بل على وجه قلة المبالاة بهم والالتفات إليهم.
782 - وكذلك لو قالوا لهم: قد آمنا كم فاذهبوا حيث شئتم.
ولم تقل الاسراء (ص 171) شيئا.
لانه إنما يحرم عليهم التعرض لهم بالاستئمان صورة أو معنى، فبه يلتزمون الوفاء ولم يوجد منهم ذلك.
وقول أهل الحرب لا يلزمهم شيئا لم يلتزموه.
783 - بخلاف ما إذا جاءوا من دار الاسلام فقال لهم أهل الحرب: ادخلوا فأنتم آمنون.
لان هناك جاءوا عن اختيار مجئ المستأمنين، فانهم حين ظهروا لاهل الحرب في موضع لا يكونون ممتنعين منهم بالقوة.
فكأنهم استأمنوهم وإن لم يتكلموا به.
وأما الاسراء فحصلوا في دارهم مقهورين لا عن اختيار منهم، فلابد للاستئمان من قول أو فعل يدل عليه.
784 - ولو أن قوما منهم لقوا الاسراء فقالوا: من أنتم ؟ فقالوا:(2/510)
نحن قوم تجار دخلنا بأمان أصحابكم.
أو قالوا: نحن رسل الخليفة.
فليس ينبغى لهم بعد هذا أن يقتلوا أحدا منهم.
لانهم أظهروا ما هو دليل الاستئمان.
فيجعل ذلك استيمانا منهم، فلا يحل لهم أن يغدروا بهم بعد ذلك.
ما لم يتعرض لهم أهل الحرب.
785 - فإن علم أهل الحرب أنهم أسراء فأخذوهم ثم انفلتوا منهم حل لهم قتالهم وأخذ أموالهم.
لان حكم الاستئمان إليهم يرتفع بما فعلوا.
ألا ترى أن المستأمنين لو غدر بهم ملك أهل الحرب فأخذ أموالهم وحبسهم، ثم انفلتوا، حل لهم قتل أهل الحرب وأخذ أموالهم ؟ باعتبار أن ذلك نقض للعهد من ملكهم.
786 - وكذلك لو فعل ذلك بهم رجل بأمر ملكه أو بعلمه ولم يمنعه من ذلك.
فإن السفيه إذا لم ينه مأمور.
فأما إذا فعلوا بغير علم الامير أو علم جماعتهم لم يحل للمستأمنين أن يستحلوا حريم القوم بما صنع هذا بهم.
لان فعل الواحد من عرضهم (1) لا يكون نقضا للعهد بينهم وبين المستأمن، فانه لا يملك ذلك وإنما هذا ظلم منه إياهم، فيحل لهم أن ينتصفوا منه باسترداد عين ما أخذ منهم أو مثله إن قدروا على ذلك.
ولا يحل لهم أن يتعرضوا له بشئ سوى هذا، لان الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه بالمثل فقط.
__________
(1) يقال هو من عرض الناس أي من عامتهم (القاموس).
*(2/511)
787 - ولو كان الاسراء قالوا لهم حين أخذوهم: نحن قوم منكم: فخلوا سبيلهم.
حل لهم قتلهم وأخذ أموالهم.
لما بينا أن ما أظهروه ليس باستئمان.
788 - وكذلك لو كانوا أسلموا في دار الحرب فهم بمنزلة الاسراء في جميع ما ذكرنا.
لان حصولهم في دار الحرب لم يكن على وجه الاستئمان.
789 - ولو كان الذين لقيهم أهل الحرب من المسلمين قالوا: نحن قوم من برجان جئنا من أرض الاسلام بالامان.
آمننا بعض مسالحكم لنلحق ببلادنا.
فخلوا سبيلهم، لم يحل لهم أن يعرضوا بعد هذا لاحد منهم.
وبرجان هذا اسم ناحية وراء الروم (1)، بين أهلها وبين أهل الروم عداوة ظاهرة.
ولا يتمكن بعضهم من الدخول على بعض إلا بالاستئمان.
فما أظهروه بمنزلة الاستئمان.
ألا ترى أن ذلك لو كان حقا لم يحل لهم أن يتعرضوا لهم ؟ 790 - فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم.
ما لم يرجعوا إلى بلاد المسلمين.
فإن.
رجعوا فقد انتهى حكم ذلك الاستئمان وإذا دخلوا
دارهم بعد ذلك حل لهم أن يصنعوا بهم ما قدروا عليه.
__________
(1) انظر معجم البلدان.
قال: بلد من نواحى الخزر.
*(2/512)
لانهم الآن بمنزلة المتلصصين فيهم، سواء علموا برجوعهم أو لم يعلموا.
لان رجوعهم إنما يخفى على أهل الحرب لتقصير منهم في حفظ حريمهم، بخلاف الوقوف على حقيقة الحال فيما سبق.
791 - ولو أن المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا قتلهم.
فقال رجل منهم: أنا مسلم.
فلا ينبغى لهم أن يقتلوه حتى يسألوه عن الاسلام.
لا لانه سيصير (1) مسلما بهذا اللفظ، ولكن بظاهر قوله تعالى (ص 172): (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا) (2).
ولانه تكلم بكلام مبهم فيستفسر.
وليس من الاحتياط المبادرة إلى قتله قبل الاستفسار.
792 - فإن وصف الاسلام حين سألوه عنه فهو مسلم لا يحل قتله.
وهو فئ إلا أن يعلم أنه كان مسلما قبل ذلك.
لان هذا منه ابتداء الاسلام لما لم يعرف إسلامه قبل هذا.
وذاك يؤمنه من القتل دون الاسترقاق.
793 - فإن كان عليه سيماء المسلمين، وأكبر (3) الظن من المسلمين أنه كان مسلما، فهذا منزلة العلم بإسلامه، حتى يجب تخلية سبيله
__________
(1) ه، ق " يصير ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 94.
(3) غير منقوطة في ص.
ق " أكثر "، ه، ب " أكبر ".
*(2/513)
لان أكبر الرأى بمنزلة اليقين فيما بنى أمره على الاحتياط، وفيما يتعذر الوقوف فيه على حقيقة الحال.
794 - ولو قال: لست بمسلم، ولكن ادعوني إلى الاسلام حتى أسلم، لم يحل قتله أيضا.
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ".
فكان لا يقاتل قوما حتى يدعوهم.
ولو أردنا قتال قوم لم تبلغهم الدعوة لا ينبغى (1) لنا أن نقاتلهم حتى ندعوهم.
وربما يجيبون وربما يمتنعون.
فهذا الذى طلب منا أن ندعوه وأظهر من نفسه الاجابة إلى ذلك أولى أن لا يحل قتله قبل الدعاء إلى الاسلام.
795 - ولو قال: أنا مسلم.
فاستوصف الاسلام فأبى أن يصفه، فإنه ينبغى للمسلمين أن يصفوا الاسلام، ثم يقولوا له: أنت على هذا ؟ فإن قال: نعم.
فهو مسلم.
وإن قال: لست على هذا، أو قال: ما أعرف هذا الذى تقولون، فهو حلال الدم.
إلا أن الاولى أن يقول له الامام: أتدخل في هذا الذى دعوناك إليه ؟ فإن قال: نعم.
لم نقتله، وكان فيئا.
وإن قال: لا، فحينئذ يضرب عنقه.
وبهذا الفصل يتبين الجواب في مسألة الزوجة والجارية أنه إذا استوصفها الاسلام فلم تحسن أن تصفه ينبغى له أن يصف الاسلام بين يديها ويقول: أنا على هذا، وظني بك أنك على هذا.
فان قالت: نعم.
فذلك يكفى، وتكون مسلمة يحل له وطئها بالنكاح والملك (2).
__________
(1) ه " لم لا ينبغى "، ب " لم ينبغى "، ق " لم ينبغ ".
(2) زيادة في ق " والله الموفق للصواب وعليه المستعين "، ب، ه " والله أعلم ".
*(2/514)
61 باب أمن الرسول والمستأمن إذا خيف أن يدل على بعض عورات المسلمين 796 - ولو أن رسول ملك أهل الحرب جاء إلى عسكر المسلمين فهو آمن حتى يبلغ رسالته بمنزلة مستأمن جاء للتجارة لان في مجئ كل واحد منهما منفعة للمسلمين.
797 - فإن أرادا الرجوع فخاف الامير أن يكونا قد رأيا للمسلمين عورة فيدلان عليها العدو، فلا بأس بأن يحبسهما عنده حتى يأمن من ذلك.
لان في حبسهما نظرا للمسلمين ودفع الفتنة عنهم.
وإذا جاز حبس الداعر (1) لدفع فتنته وإن لم نتحقق منه خيانة (2) فلان يجوز حبس هذين أولى.
798 - فإن قالا للامام: خل سبيلنا وإنا عندك بأمان.
لم ينبغ له أن يخلي سبيلهما.
__________
(1) في هامش ق " الداعر الخبيث المفسد.
مصدره الدعارة.
مغرب " وفى ه، ب " الداعي " خطأ.
(2) ب " جناية ".
*(2/515)
لان الظاهر أنهما يدلان العدو على ما رأيا من العورة.
فان اعتقادهما يحملهما على ذلك.
وأيد هذا الظاهر قوله تعالى (لا يألونكم خبالا) (1).
799 - وإن قالا: نحلف أن لا نخبر بشئ من ذلك.
لم يصدقهما في ذلك.
لان اليمين إنما تكون حجة لمن شهد الظاهر له.
والظاهر هنا يشهد بخلاف ما يقولان.
فلا يلتفت إلى يمينهما.
وأيد هذا قوله تعالى (إنهم لا أيمان لهم) (2)
أي لا أيمان يجوز الاعتماد عليها فيما يرجع إلى الاضرار (3) بالمسلمين.
وهذه اليمين بهذه الصفة فلا يجوز للامام أن يعتمدها، ولكنه يحبسهما عنده حتى يأمن.
إلا أنه لا ينبغى له أن يقيدهما ولا أن يغلهما.
لان فيه تعذيبا لهما، وهما في أمان منه، فلا يكون له أن يعذبهما ما لم يتحقق منهما خيانة.
فان قيل: ففى الحبس (ص 173) تعذيب أيضا.
قلنا: لا نعنى بقولنا يحبسهما الحبس في السجن.
فان ذلك تعذيب.
وإنما نعنى به أنه يمنعهما من الرجوع ويجعل معهما حرسا يحرسونهما.
وليس في هذا القدر تعذيب لهما بل فيه نظر للمسلمين.
ولئن كان فيه نوع تعذيب من حيث الحيلولة بينهما وبين وطنهما فالمقصود دفع ضرر هو أعظم من ذلك.
وإذا لم نجد بدا من إيصال الضرر إلى بعض الناس، ترجح أهون الضررين على أعظمهما.
ثم هذا المقصود يحصل بحرس يجعله معهما.
فليس له أن يعذبهما فوق ذلك بالتقييد.
__________
(1) سورة آل عمران، 3، الآية 118.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 12.
(3) ب " الضرر ".
*(2/516)
فان حضر قتال وشغل عنهما الحرس وخاف انفلاتهما فلا بأس بأن يقيدهما حتى يذهب ذلك الشغل.
لان هذا موضع الضرر.
فإذا ذهب ذلك الشغل حل قيودهما لان الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها.
800 - وإن سار الامام راجعا إلى دار الاسلام فله أن يذهب بهما معه حتى يبلغ الموضع الذى يأمن فيه مما يخاف عنهما، ثم يخلى سبيلهما.
لان النظر للمسلمين دفع الفتنة عنهم في ذلك.
801 - فإن لم يأمن منهما حتى يدخل أرض الاسلام لم يخل سبيلهما حتى يدخل أرض الاسلام.
لان الفتنة في تخلية سبيلهما في دار الحرب تعظم عسى.
وعلى الامام أن يتحرز ويجتهد لدفع ذلك عن نفسه وعن العسكر.
فإن أبيا أن يبرحا مكانهما أكرههما على ذلك.
لان في موضع النظر للامام ولاية الاكراه.
ألا ترى أنه إذا وقع النفير عاما كان له أن يجبر الناس على الخروج ؟ وفى نظيره قال عمر رضى الله عنه: " لو تركتم لبعتم أولادكم ".
802 - فإن وصل إلى مأمنه من دار الاسلام ثم أمرهما بالانصراف فسألاه أن يعطيهما ما لا يتجهزان به إلى بلادهما فإنه ينبغى(2/517)
له أن يعطيهما من النفقة ما يبلغهما إلى المكان الذى أبيا أن يصحباه منه (1).
لانه جاء بهما مكرهين من ذلك الموضع، فعليه أن يردهما إليه.
وكان ذلك منه نظرا للمسلمين، فتكون تلك المؤنة من بيت مال المسلمين بمنزلة نائبة تنوب المسلمين.
803 - وفيما يجاوز ذلك قد أتيا اختيارا منهما، فلا يعطيهما للرجوع نفقة، وإنما يعطى هذه النفقة من بيت المال إذا لم تصب الجند غنيمة، أو أصابوها واقتسموها.
فأما إذا أصابوا غنيمة ولم تقسم بعد
فإنه يعطيهما النفقة من تلك الغنيمة.
لانه أكرههما على ذلك نظرا منه للجند خاصة.
فتكون المؤنة من مال هو حق للجند، بمنزلة ما لو استأجر لحمل الغنايم أو سوقها أو حفظها.
804 - وكذلك إذا منعهما من الرجوع وأكرههما على المقام معه.
فانه ينبغى أن ينفق عليهما من غنايم المسلمين.
805 - وإذا حملهما من ذلك الموضع مع نفسه على الدواب من غنايم المسلمين.
لانهما آمنان عنده.
والتحرز عن الغدر واجب.
فإذا حبسهما لمنفعة الغانمين أنفق عليهما من أموالهم بمنزلة العامل على الصدقات يعطى الكفاية من
__________
(1) ه، ب " أن يصحبا معه " وفى هامش ق " يصحبا معه.
نسخة ".
*(2/518)
مال الصدقة.
والمرأة إذا كانت محبوسة عند الزوج لحقه استوجبت (1) النفقة عليه.
806 - فإن أراد تخلية سبيلهما بعد ما أمن، وكان هو في موضع يخافان فيه، فينبغي له أن ينظر لهما ولا يخلى سبيلهما إلا في موضع لا يخاف عليهما فيه.
لانهما تحت ولايته وفى أمانه.
وهو مأمور يدفع الظلم عنهما.
فكما ينظر للمسلمين بما يزيل الخوف عنهم فكذلك ينظر لهما.
أرأيت (ص 174) لو حملهما معه في البحر، فلما انتهى إلى جزيرة أمن فيها، أينبغي له أن يتركهما في تلك الجزيرة ؟ لا، ولكن يحملهما إلى موضع لا يخاف عليهما فيه الضيعة (2)، ثم يعطيهما ما يكفيهما لجهازهما وحملانهما.
807 - وإن كانا لا يأمنان من اللصوص فينبغي له أن يرسل معهما قوما يبلغونهما مأمنهما.
لان ذلك على الامام ولكنه ربما لا يقدر على مباشرته بنفسه فيستعين عليه بقوم من المسلمين.
808 - فإن كانا لا يبلغان مأمنهما حتى يبلغا موضعا يخاف فيه الذين أرسلوا معهما، فإنه ينبغى يرسل أن معهما إلى أبعد موضع يأمن فيه أهل الاسلام، ثم يخلى سبيلهما.
ليس عليه غير ذلك.
__________
(1) فوق هذه الكلمة في ق " استحقت ".
(2) ق " الصنيعة " خطأ.
*(2/519)
لان فيمات وراء ذلك تعريض المسلمين للهلاك، وذلك لا يحل له لدفع الخوف عن المشركين.
ثم إن أجبر المسلمين على أن يذهبوا معهما إلى الموضع الذى يخافون فيه فقتلوا كان هو الساعي في دمهم.
وإن تركهما ليذهبا فأصيبا لم يكن هو ساعيا في دمهما.
فكان هذا أهون الامرين والله أعلم.(2/520)
62 باب أهل الحصن يؤمنهم الرجل من المسلمين على جعل أو غير جعل 809 - وإذا حاصر المسلمون حصنا وفيها أسير من المسلمين فآمنهم، ثم جاء بهم ليلا حتى أدخلهم المعسكر فهم (1) فئ للمسلمين.
لان الذى أمنهم كان مقهورا غير ممتنع منهم، وأمان مثله باطل.
ولانه ما قصد بهذا الامان النظر للمسلمين، وإنما قصد تخليص نفسه ولو صححنا أمان مثله لم يتوصل المسلمون إلى فتح الحصن من حصونهم قهرا، فقل ما يخلو
حصن عن أسير فإذا أيقنوا بالفتح أمروا الاسير حتى يؤمنهم، وإن لم يكن فيهم أسير، أمروا رجلا منهم حتى يسلم ثم يؤمنهم فيكون حكمه وحكم الاسير سواء فلاجل هذه المعاني قلنا: هم جميعا فئ (2) للمسلمين.
810 - وفى القياس لا بأس بقتل رجالهم.
لان الامان الباطل لا يحرم القتل، كما لو حصل من صبى لا يعقل أو من كافر، ولكنه استحسن وقال: لا ينبغى للامام أن يقتل رجالهم.
لوجهين:
__________
(1) ه " فيهم " خطأ.
(2) ق " فيئا ".
*(2/521)
أحدهما: أن ظاهر قوله عليه السلام " يسعى بذمتهم أدناهم " الحديث يعم الاسير وغيره وهذا الظاهر وإن ترك العمل به لقيام الدليل بنفى (1) شبهة فيما يندرئ بالشبهات بمنزلة قوله: أنت ومالك لابيك.
والثانى: أن القوم إنما جاءوا إلى المعسكر للاستئمان لا للقتال فانهم جاءوا باعتبار أمان الاسير إياهم، وقد بينا أن المحصور إذا جاء على هيئة يعلم أنه تارك للقتال بأن ألقى السلاح ونادى بالامان وجاء فانه يأمن القتل.
فهؤلاء أيضا يأمنون من القتل ولكنهم (2) لا يأمنون من الاسترقاق، فنخمسهم ونقسمهم بين الغانمين.
وكذلك لو كان الذى أمنهم مستأمنا فيهم، أو كان رجلا منهم أسلم
فالمعنى يجمع الكل.
811 - ولو أمنهم مسلم من أهل العسكر فأمانه جائز.
لانه آمن منهم، ممتنع في عسكره فأمانه كأمان جماعة المسلمين.
812 - فإن لم يخرجوا من حصنهم بعد نبذ الامام إليهم، ثم قاتلهم كما لو كان هو الذى أمنهم بنفسه، ثم رأى النظر في قتالهم، فإن خرجوا إلى المعسكر وقالوا: آمننا فلان، لم نصدقهم على ذلك حتى يشهد عدلان من المسلمين (3).
__________
(1) ق " يبقى ".
(2) ق " ولكن ".
(3) في ه زيادة " على ذلك ".
*(2/522)
لانهم صاروا فيئا باعتبار الظاهر، وقد ادعوا ما يسقط حق المسلمين عنهم فلا بد من شاهدين (ص 175) عدلين من المسلمين على ذلك ولا يقبل قول ذلك الرجل: إنى آمنتهم.
لانه يخبر بما لا يملك استئنافه (1) وكذلك لو شهد هو مع رجل آخر.
لانه يشهد على فعل نفسه (2) ولا شهادة للمرء على فعل نفسه (2) 813 - فإن شهد عدلان سوآء، وجب تبليغهم مأمنهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت معاينة 814 - وإن لم تكن لهم بينة إلا قول ذلك الرجل، كانوا فيئا.
إلا أنه لا يقتل رجالهم (3) استحسانا للشبهة التى تمكنت (4) فان ذلك الرجل أخبر بحرمة قتلهم، وهو محتمل للصدق، وحرمة القتل من أمر الدين،
وخبر الواحد في أمر الدين حجة، وإن لم يكن حجة في إلزام الحكم فلهذا لا يقتلون 815 - ولو كان المسلم آمنهم على ألف دينار أخذها منهم، ثم علم بذلك الامام وهم في حصنهم، فهو بالخيار.
__________
(1) ب " استيفاؤه ".
(2) في هامش ق " على فعله.
نسخة " وهى كذا في ب.
(3) ساقطة من ق.
(4) في هامش ق " التى تمكنت.
نسخة ".
*(2/523)
إن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض (1) لهم حتى يخرج من دار الحرب، وأخذ الدنانير، فكانت فيئا للمسلمين.
لان الامام لو رأى النظر في إنشاء الامان بهذه الصفة كان له أن يفعله.
فكذلك إذا رأى النظر في أن يجيز أمان غيره ثم المال مأخوذ بقوة العسكر فيكون فيئا لهم وإن شاء رد عليهم الدنانير للتحرز عن الغدر ثم نبذ إليهم وقاتلهم.
بمنزلة ما لو آمنهم بنفسه على هذا الوجه.
816 - وإن كانوا دخلوا عسكر المسلمين حين صالحهم الرجل أو خربوا حصنهم فإن للامام أن يأخذ ألف دينار فيجعلها فيئا للمسلمين.
لان معنى النظر ههنا متعين في إجازة ذلك الصلح، فانهم آمنون في العسكر ولا سبيل للامام عليهم حتى يبلغهم مأمنهم وإن رد الدنانير عليهم فعرفنا أن في أخذ الدنانير منفعة للمسلمين.
وهو نظير العبد المحجور عليه
يؤاجر نفسه ويسلم من العمل.
817 - وإذا قسم الدنانير بين الغانمين قال لهم: الحقوا حيث شئتم من بلاد أهل الحرب.
ولا يعرض لهم حتى يبلغوا مأمنهم.
فيتم به الوفاء لما شرط لهم في الصلح.
818 - وإذا فتح المسلمون الحصن فقال رجل منهم: إنى كنت
__________
(1) ب " يعرض ".
*(2/524)
صالحت القوم قبل فتح الحصن على هذه الالف دينار.
وصدقه أهل الحصن بذلك، فإن الامام ينظر في ذلك، فإن كان خيرا للمسلمين أن يصدقه صدقه وأخذ منه الدنانير وأمرهم أن يلحقوا بمأمنهم، وإن كان خيرا للمسلمين أن يكذبه كذبه ولم يعرض للدنانير وجعلهم فيئا.
لانه نصب ناظرا للمسلمين.
فينظر ما يكون أنفع للمسلمين فيعمل به.
ألا ترى أنه لو رأى النظر للمسلمين في أن يمن عليهم، كان له أن يفعل ذلك.
فهذا مثله.
إلا أنه لا يقتل رجالهم على كل حال للشبهة التى دخلت باخبار الرجل أنه آمنهم.
819 - وإن كان حين أخبر الرجل بهذا كانوا ممتنعين في حصنهم فهم آمنون، والامام بالخيار.
كما بينا فيما إذا أنشأ لهم الامان في هذه الحالة.
فان الاخبار به في حق المسلمين بمنزلة الانشاء.
والله أعلم.(2/525)
63 باب ما يكون أمانا وما لا يكون
على شرط يشترطه 820 - وإذا قال رجل من المحصورين: آمنونى حتى أنزل إليكم على أن أدلكم على مئة رأس (1) من السبى في موضع.
فآمنوه على ذلك.
فلما نزل أتى بهم ذلك الموضع فإذا ليس فيه أحد، فقال: قذد كانوا هاهنا، فذهبوا، ولا أدرى أين ذهبوا.
(ص 176) فإنه ينبغى للمسلمين أن يردوه إلى مأمنه إن لم يفتحوا الحصن.
فإن افتتحوا الحصن (2) فعليهم أن يبلغوه مأمنه من أرض الحرب.
لانه حصل أمنا في المعسكر، فان الامان شرط يثبت بوجود القبول ولا يتأخر إلى أداء (3) المقبول، بمنزلة العتق بجعل (4).
فانه لو أعتق عبده على أن يؤدى إليه ألف درهم فقبل كان العتق واقعا، وإن لم يؤد.
821 - فهاهنا الامان يثبت له أيضا إذا نزل عن منعته، على أن
__________
(1) ب " ارؤس ".
(2) ه، ق " وان افتحوا فعليهم ".
ب " فان افتحوه فعليهم ".
(3) ه " ولا يتأخر اذ المقبول ".
(4) ه " يجعل فيه ".
*(2/526)
يدل.
فسواء وفى بما قال أو لم يف كان هو في أمان من المسلمين فيبلغوه مأمنه.
فإن قال المسلمون: إنما آمناه على أن يدلنا ولم يف بالشرط، قيل لهم: إنه لم يقل لكم إنى إن لم أدلكم فلا أمان بينى وبينكم.
وهذا تنصيص من محمد، رحمه الله، على أن مفهوم الشرط ليس بحجة، وهو المذهب عندنا.
وقد حكاه الكرخي عن أبى يوسف رحمه الله
في قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد) (1) أنه لا يدل على أنه لا يدرأ عنها العذاب إن لم تشهد.
وقال تعالى (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) (2).
وهذا لا يدل على أنها إذا أتت بالفاحشة ولم تحصن أنه لا يلزمها ذلك العذاب.
وهذا لان مفهوم الشرط كمفهوم الصفة.
وذلك ليس بحجة.
قال الله تعالى (وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك) (3) ثم لم يدل على حرمة (4) اللاتى لم يهاجرن معه.
وقال تعالى (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (5) وهذا لا يدل على إباحة الظلم في غير الاشهر (6) الحرم.
فكذلك قولهم: آمناك على أن تدلنا لا يكون دليلا على أنه لا أمان لك إن لم تدلنا، لان ذلك محتمل، والمحتمل لا يعارض المنصوص ولا يدفع حكمه، إلا أن ينص فيقول: على أنى إن لم أدلكم عليهم فلا أمان بينى وبينكم.
فحينئذ هذا نص يصلح معارضا لذلك النص.
وفى النبذ حل القتل والاسترقاق وذلك من باب الاطلاق يحتمل التعليق
__________
(1) سورة النور، 24، الآية 8 (2) ورة النساء، 4، الآية 25 (3) سورة الاحزاب، 33، الآية 50.
(4) ب " عدم حرمة ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 36.
(6) ب " أشهر ".
*(2/527)
بالشرط، فإذا لم يدل لم يكن له أمان، وللامام الخيار إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئا.
ونظير هذا مالو كفل بنفس رجل إلى شهر لم يبرأ بمضي الشهر ما لم يسلم نفس الخصم إليه.
وإن قال: على أنى برئ من الكفالة بعد شهر كان على ما قال.
822 - ولو كان هذا الرجل أسيرا في أيدينا وقال: تؤمنونى على أن أدلكم على مئة رأس، والمسألة بحالها، ثم لم يدلهم، فللامام أن يقتله.
لانه صار مقهورا في أيدينا، وحل للامام قتله واسترقاقه.
وإنما علق على إزالة ذلك عنه بالدلالة ولم يفعل.
ففى الاول كان في منعته، وإن كان محصورا فانما نزل على أمان فأخذه من المسلمين والتزم لهم بمقابلة ذلك دلالة فيها منفعة للمسلمين.
فإذا لم يف بما التزم كان على الامام أن يبلغه مأمنه، وفى الحقيقة لا فرق بين الفصلين، فانه إذا لم يدل عاد إلى ما كان عليه قبل هذا الالتزام في الوجهين، إلا أن هذا الاسير، قبل هذذ الالتزام، كان مباح القتل والاسترقاق في أيدينا، فيعود كما كان.
والمحصور قبل هذا الالتزام، كان في منعته، فإذا لم يف بما التزم وجبت إعادته إلى منعته كما كان.
823 - وإن كان المحصور قال: إنى إن لم أدلكم كنت لكم فيئا.
أو قال: رقيقا، لم يف بالشرط.
فهو فئ للمسلمين، وليس للامام أن يقتله.
لانه لو لم يقل هذه الزيادة كان آمنا من القتل والاسترقاق (ص 167) وإن لم يف بالشرط.
فهذه الزيادة دليل معارض الكلام (1) الاول في رفع
__________
(1) ب " دليل يعارض الكلام "، ق " دليل على معارض الكلام " وفى هامشها " دليل معارض.
نسخة ".
*(2/528)
حكمه.
وإنما يعمل المعارض بحسب الدليل.
ولانه شرط إزالة ذلك الامان في حكم الاسترقاق خاصة دون القتل، وفى هذا الشرط منفعة، فيجب مراعاتها.
824 - وكذلك لو قال: على أنى إن لم أف كنت ذمة لكم.
فهو كما قال.
وإذا لم يف بالشرط فهو ذمة لا يقتلونه ولا يسترقونه.
لان الوفاء بالشرط واجب.
825 - ولو قال آمنونا حتى يفتح لكم الحصن فتدخلون (1)، على أن تعرضوا علينا الاسلام فنسلم.
ثم أبوا أن يسلموا، فهم آمنون.
وعلى المسلمين أن يخرجوا من حصنهم حتى يعودوا ممتنعين كما كانوا، ثم ينبذون إليهم.
لانهم استفادوا الامان بقبول الشرط قبل الوفاء به.
ثم لا يبطل حكم الامان بالامتناع من الوفاء بما وعدوا (2)، وبحكم الامان يجب إعادتهم إلى مأمنهم، ثم النبذ إليهم.
826 - فإن شرط المسلمين عليهم: إنكم إن أبيتم الاسلام فلا أمان بيننا وبينكم.
فرضوا بذلك، والمسألة بحالها، فلا بأس باسترقاقهم وقتل المقاتلة منهم إذا أبوا أن يسلموا.
لان الشرط هكذا كان، وفيما يجرى بيننا وبينهم الواجب الوفاء بالشرط فقط.
والدليل عليه حديث بنى (3) أبى الحقيق حيث قال رسول الله:
__________
(1) ق " فتدخلوا ".
(2) ق " عما وعدوا " وفى هامش ق " بما وعدوا.
نسخة حصيرى ".
(3) ص، ه، ب " ابن " أثبتنا رواية ق، انظر الجزء الاول ص 278 - 281 *(2/529)
" وبرئت منكم الذمة (1) إن كتمتموني شيئا " فقبلوا ذلك.
ثم ظهر ذلك عليهم فاستخار قتلهم واسترقاقهم.
وقد بينا قصة ذلك.
وقد روى أن رجلا من المشركين بعد وقعة أحد حين رجع الجيش ضل الطريق، فدخل المدينة، وجاء إلى بيت عثمان بن عفان رضى الله عنه سرا.
وكان بينهما قرابة.
فأتى عثمان النبي صلى الله عليه وسلم وسأل له الامان.
فقال: " قد آمناه على أنا إن أدركناه بعد ثالثة فقد حل دمه ".
فخرج الرجل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه، فانى أرجو أن تجدوه ".
فوجدوه بعد ثالثة، قد (2) سلط الله عليه النوم.
فأخذ فقتل.
فبهذا تبين أن الشرط المنصوص عليه في الامان معتبر وإن كان ذلك يرجع إلى النبذ وإباحة القتل.
827 - ولو أسلم بعضهم وأبى البعض كان من أسلم منهم حرا لا سبيل عليه، ومن أبى الاسلام فهو فئ اعتبارا للبعض بالكل.
وهذا لان الجميع المضاف إلى جماعة يتناول كل واحد منهم على الانفراد (3) بدليل قوله تعالى (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم) (4) فكان هذا بمنزلة ما لو شرطنا على كل واحد منهم: إنك إن أبيت الاسلام فلا أمان بيننا وبينك.
828 - وكذلك لو أن واحدا من المحصورين قال: آمنونى على أن أنزل إليكم فأسلم.
ثم أبى أن يسلم، يرد إلى حصنه.
__________
(1) في هامش ق " ذمة الله ".
(2) ص، ه " فقد ".
(3) ق، ه " على الانفراد ".
(4) سورة نوح، 71، الآية 7.
*(2/530)
لانه آمن عندنا.
وفى مثل حاله قال (تعالى وإن أحد من المشركين
استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) (1).
829 - وإن شرطوا عليه: إنك إن أبيت الاسلام فلا أمان بيننا وبينك، ثم أبى الاسلام.
فهو فئ للمسلمين.
لان الشرط هكذا جرى بيننا وبينه.
830 - فإن جعله الامام فيئا بعد ما عرض عليه الاسلام فأبى، ثم أسلم، لم يقبله بعد إسلامه ولكنه يجعله فيئا.
لان حكم ذلك الامان انتهى حين أبى الاسلام بعد ما عرض عليه، ويبقى هو أسيرا في أيدينا.
831 - فإذا أسلم لم يقتل وكان فيئا، وهذا إذا حكم عليه بأنه فئ بعد ما أبى الاسلام.
832 - فإن جعل الامام يدعوه إلى الاسلام وهو يأبى إلا أنه لم يحكم عليه (ص 178) بأنه فئ حين أسلم ففى القياس هو فئ.
لان شرط انتباذ الامان قد تحقق بابائه الاسلام، والمتعلق بالشرط يثبت بوجود الشرط، وبمنزلة الطلاق والعتاق إذا علق بالشرط.
وفى الاستحسان هو حر مسلم.
لان الاباء متردد (2) محتمل قد يكون لكراهة الاسلام فهو إباء حقيقة.
__________
(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(2) ق " مسترد " وفوقها " متردد.
نسخة ".
*(2/531)
وقد يكون للتأمل فيه إلى أن تزول (1) الشبهة عن قلبه فلا تعين جهة الاباء إلا بحكم الحاكم.
ألا ترى أنه إذا أسلم أحد الزوجين في دارنا فان الفرقة تتوقف على إباء
الآخر الاسلام.
ثم لا يتحقق ذلك إلا بقضاء القاضى (2)، وكذلك النكول في باب الاموال بمنزلة الاقرار شرعا، ولا يثبت ذلك إلا بقضاء القاضى (3).
733 - ولو لم يأب الاسلام ولكن قال: دعوني حتى أنظر في أمرى، فإن الامام يؤجله ثلاثة أيام، لا يزيد على ذلك.
لان التأمل وإزالة الشبهة يحتاج إلى مدة، فإذا طلب ذلك من الامام أجله (4) ثلاثة أيام.
فانها مدة تامة للنظر بدليل خيار الشرط.
والاصل فيه المرتد، فإنه إذا استمهل النظر في أمره أمهله ثلاثة أيام.
ورد به حديث عن عمر حين قدم عليه رجل من قبل أبى موسى فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل عندكم من مغربة خبر - يعنى أمر حادث وخبر غريب - فقال: نعم.
رجل كفر بعد إسلامه.
فقال: ماذا فعلتم به ؟ فقال: قربناه فضربنا عنقه.
قال: فهلا طينتم عليه بيتا ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا وأسقيتموه، فلعله أن يتوب ويراجع أمر الله (5) ! اللهم إنى لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
__________
(1) ه " يزول ".
(2) في ق، ه زيادة " محتملا في نفسه "، ب، لكونه محتملا في نفسه "، ولا توجد في الاصل.
(3) ب، ه، زيادة " بكونه محتملا بنفسه "، ق " محتملا في نفسه ".
(4) فوق هذه الكلمة في ق " جعل له.
نسخة ".
(5) ق، ه " ويرجع إلى أمر الله "، وفى هامش ق " يراجع أمر الله.
نسخة ".
*(2/532)
وبظاهره يأخذ الشافعي، رحمه الله، ويقول: يجب تأجيله شرعا، طلب ذلك أو لم يطلبه.
فتأويله عندنا أنه كان استملهم فأبوا، فلهذا أنكره عمر رضى الله عنه.
وإذا كان المرتد الذى وقف على محاسن الشريعة يؤجل
ثلاثة أيام فهذا الذى لم يقف عليها (1) أصلا أحرى أن يؤجل.
834 - فإن سكت حين عرض عليه الاسلام ولم يجب بقبول أو برد (2) فإن الامام يعرض عليه الاسلام ثلاث مرات ويخبره في كل مرة أنه إن لم يجبه، حكم عليه أنه فئ.
وهذا لان سكوته إباء منه للاسلام.
إلا أنه محتمل في نفسه فيكرر عليه العرض ثلاث مرات لابلاء (3) العذر، ويخبره في كل مرة على سبيل الانذار.
فان أبى حكم عليه بأنه فئ.
وهو بمنزلة الخصم إذا سكت عن الجواب في مجلس القاضى جعله منكرا، وإذا سكت عن اليمين بعد ما طلب منه جعله ناكلا، وعرض عليه اليمين ثلاثا وأخبره في كل مرة أنه يحكم عليه إن لم يحلف، ثم يحكم بعد الثالثة.
835 - ولو كان قال: حين أراد النزول: آمنونى على أن تعرضوا على الاسلام.
فإن اسلمت فيما بينى وبين ثلاثة أيام وإلا فلا أمان بينى وبينكم.
ثم عرضوا عليه الاسلام، فله مهلة ثلاثة أيام ولياليها من حين عرضوا عليه الاسلام.
لانه شرط ذلك لنفسه.
فانه بين أنه يسلم بعد ما يعرض عليه الاسلام
__________
(1) ه، ب " عليه ".
(2) ه، ب، ق " برد ".
(3) في هامش ه " حقيقته جعلته باليا لعذري، أي خابرا له، عالما بكنهه.
من بلاه إذا خبره وجربه.
مغرب ".
*(2/533)
واستهمل في ذلك ثلاثة أيام.
فعرفنا أن ابتداء المدة من ساعة العرض.
وذكر أحد العددين من الايام والليالي بعبارة الجمع يقتضى دخول ما بإزالة من العدد
الآخر.
836 - فإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئا، ولا حاجة إلى حكم الحاكم.
لان الشرط هكذا جرى، فاشتراط الحكم عند الاطلاق ليتميز به التأمل من الاباء، وقد حصل ذلك بالمدة هنا.
ثم التوقيت نصا (1) يمنع أن يكون لما بعد مضى الوقت حكم ما قبله، كما في الاجارة.
837 - وإن كان لم يقل: وإلا فلا أمان بينى وبينكم، والمسألة بحالها، فإنه يرد إلى مأمنه بعد مضى ثلاثة أيام.
(ص 179) لان مدة ثلاثة أيام شرطه للتروي والنظر (2) لا للامان.
فبعد مضيها يتحقق الاباء.
ولكنه أمن حين لم يشترط عليه نبذ الامان بعد الاباء، فيجب تبليغه مأمنه من حصنه.
838 - وإن كانوا قد افتتحوا حصنه، بلغوه أدنى (3) مأمن له من أرض الحرب، ثم حل قتاله.
839 - وإن كان قال: فإن أسلمت فيما بينى وبين ثلاثة أيام
__________
(1) ق " أيضا " وفى هامشها " نصا.
نسخة ".
(2) ب " مدة ثلاثة أيام شرطها للتروي والنظر ".
(3) ق " بلغوه في مأمن ".
*(2/534)
وإلا كنت عبدا لكم.
فإن أسلم فهو حر لا سبيل عليه، وإن مضت المدة قبل أن يسلم كان فيئا يقسم مع الغنيمة ولا يقتل.
لان الشرط هكذا كان.
840 - وكذلك لو قال: وإلا كنت ذمة لكم.
أو قال ذلك جميع
أهل الحصن، ثم مضت المدة قبل أن يسلموا، فهم ذمة للمسلمين.
كما التزموه بالشرط.
841 - ولو قال المحصور للمسلمين: تؤمنونى على أن أنزل إليكم فأدلكم على قرية فيها مئة رأس.
فقال المسلمون: إن دللتنا على قرية فيها مئة رأس فأنت آمن.
ورضى بذلك ونزل (1).
ثم جاء بهم إلى قرية لا شئ فيها.
فقال: قد كانوا هنا وذهبوا.
فهو فئ للمسلمين، وليس له أن يقول: ردوني إلى مأمنى بخلاف ما سبق.
لان المسلمين علقوا الامان له بالشرط، وهو الدلالة.
والمتعلق بالشرط معدوم قبل الشرط، وفى الاول أوجبوا له الامان على أن يدل، وقد قبل ذلك.
فيكون آمنا دل أو لم يدل.
ألا ترى أن من قال لعبده (2): أنت إن أديت إلى ألفا فأنت حر.
فقبل ذلك.
فانه لا يعتق ما لم يؤد.
ولو قال: أنت حر على أن تعطيني ألف درهم.
فقبل فهو حر، أدى أو لم يؤد.
فكذلك ها هنا.
__________
(1) في هامش ق " ثم نزل.
نسخة ".
(2) في هامش الاصل " بلغ قراءة عليه إبقاه الله ".
*(2/535)
842 - وكذلك لو قال له: إن نزلت وأسلمت فأنت آمن.
ثم نزل ولم يسلم فهو فئ.
لان قولهم فأسلمت معطوف على الشرط، فيكون شرطا.
وإنما علقوا أمانه بشرط أن يسلم.
فإذا لم يسلم لم يكن له أمان.
843 - وإذا قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتسلم.
فهو آمن
بعد النزول قبل أن يسلم (1).
فيجب أن تبلغه مأمنه وإن أبى الاسلام.
وعلى هذا لو قالوا: أنت آمن على أن تنزل فتعطينا مئة دينار، فقبل ذلك ونزل، ثم أبى أن يعطى الدنانير، فإنه يكون آمنا.
بخلاف ما لو قالوا: إن نزلت فأعطيتنا مئة دينار فأنت آمن.
لان هنا الامان معلق بشرط أداء الدنانير، وفى الاول بشرط أداء القبول.
844 - فإذا نزل وقبل، كان آمنا وكانت الدنانير عليه.
845 - فإذا أبى أن يعطيها أو قال: ليست عندي، حبس حتى يؤديها (2) ولا يكون فيئا لاجل الامان الثابت له.
فمتى ما أعطى الدنانير وجب تخلية سبيله، حتى يلحق بمأمنه.
846 - وإن أبى أن يعطيه حتى يخرجه الامام مع نفسه إلى دار الاسلام ثم أعطاها يخلى سبيله حتى يرجع إلى مأمنه.
__________
(1) ق " فهو حر قبل أن يسلم " وفى هامشها " فهو آمن بعد النزول قبل ان يسلم.
اصل نسخة.
صححه ".
(2) ق " حتى يعطيها "، وفى هامشها " حتى يؤديها.
نسخة ".
*(2/536)
لانه في أمان، وقد كان محبوسا في دين عليه، فإذا قضى الدين لم يبق لنا عليه سبيل.
846 - وإن طال مكثه في دارنا ولم يعط الدنانير جعله الامام ذمة.
لان الكافر لا يتمكن من إطالة المقام في دارنا بدون صغار الجزية، ولانه احتبس عندنا إلى أداء الدنانير، وهو ممتنع عنه أو عاجز عن الاداء.
والكافر إذا احتبس في دارنا تضرب عليه الجزية، بمنزلة الرهن.
847 - فإذا (1) جعله الامام ذمة أخرجه من الحبس وأبطل عنه الدنانير.
لان تلك الدنانير كان التزمها عوضا عن أمان نفسه، أو كان قد افتدى بها (2) نفسه ليلحق بمأمنه.
فإذا (3) كان الامان (ص 180) فقد استفاد ذلك بأقوى السببين وهو عقد الذمة أو الاسلام.
إن أسلم فيسقط عنه أداؤها، بمنزلة المكاتب إذا أعتقه المولى، أو أم الولد إذا أعتقت بموت المولى وهى مكاتبة، يسقط بدل الكتابة (4) لوقوع الاستغناء عن أدائها.
وإن كان فداء فقد انعدم المعنى الذى لاجله كان يفدى بها نفسه، لانه حين أسلم أو صار ذميا فقد صار من أهل دارنا ممنوعا من الرجوع إلى
__________
(1) ق " فان " وفوقها " فإذا.
نسخة ".
(2) ق، ه، ب " به ".
(3) ب " فان كان ذلك الامان "، ه " فإذا كان للامان "، ق " فإذا كان ذلك للامان ".
(4) في هامش ق " بدل المكاتبة.
نسخة ".
*(2/537)
دار الحرب، وإن أعطى الدنانير كغيره من أهل الذمة، وإنما كان يفدى بها نفسه ليلحق بمأمنه.
فإن قيل: لماذا لم يجعل المال عليه عوضا عن رقبته، حتى يطالب به بعد عقد الذمة بسلامة رقبته له ؟ قلنا: لانه لم يكن عبدا للمسلمين قط، وإنما يكون المال عوضا عن رقبته إذا كان عبدا في وقت، فعتق (1) بذلك المال.
848 - وكذلك لو صالحوه على أن يعطيهم رأسا، فعليه رأس وسط أو قيمته دراهم أو دنانير.
لان ما يلزمه بطريق الفداء لا يكون عوضا عن مال.
والرأس المطلق في مثله يثبت مقيدا بالوسط مترددا بين القيمة والعين، كما في بدل الخلع، والصلح عن دم العمد.
849 - فإذا (2) أعطى ما التزم ولم يفتح حصنه بعد، فأراد أن يذهب إلى موضع آخر، لم يمنع (3) من ذلك.
وله أن يذهب حيث شاء من أرض الحرب.
لانا عرفنا أنه نزل من الحصن وفدى نفسه بالمال لا ليعود إلى الحصن (4) بل ليأمن مما كان خائفا منه في الحصن.
وإنما يتم له ذلك إذا تمكن من الذهاب إلى حيث شاء من أرض الحرب.
__________
(1) ق " يعتق ".
(2) ب " فان ".
(3) ق " فلم يمنع " وتحتها " لم يمنع.
نسخة.
صححه ".
(4) في هامش ق " ليعود للحصن.
نسخة ".
*(2/538)
850 - فإذا (1) بلغ مأمنه منها حل قتاله.
لان مقصوده قد تم حين وصل إلى منعة أخرى.
فينتهى الامان الذى كان بينه وبين المسلمين.
إلا أن يكون قد اشترط على المسلمين أنه آمن منهم حتى يخرجوا إلى دار الاسلام، أو كذا كذا شهرا (2).
فحينئذ يجب الوفاء له بذلك الشرط.
لانا إنما نجعل الامان منتهيا بيننا وبينه إذا وصل إلى مأمنه لدلالة الحال وهو أنه كان خائفا محصورا، وإنما قصد إزالة ذلك الخوف عن نفسه، ويسقط اعتبار دلالة الحال إذا جاء التصريح بخلافها (3).
851 - وإذا لم يذكر شيئا من هذه الشروط، ثم اختار الرجوع إلى حصنه، فرجع حتى صار فيه ممتنعا، فقد خرج من أمان المسلمين أيضا.
لانه وصل إلى منعته باختياره، وذلك سبب لانتهاء الامان.
إلا أن يكون شرط أنه آمن كذا كذا شهرا، أو حتى ينصرف المسلمون إلى دار الاسلام، فحينئذ هو آمن.
وإن دخل الحصن (4) لبقاء مدة الامان، بمنزلة ما لو التحق بمنعة أخرى.
__________
(1) في هامش ق " فانه إذا بلغ.
نسخة ".
(2) في هامش ق " شهر.
نسخة ".
(3) ب، ق " بخلافه ".
(4) في هامش ق " دخل على حصن.
نسخة ".
*(2/539)
852 - فإن ظهر المسلمون على الحصن خلوا سبيله لبقاء مدة الامان.
إلا أن يكون قاتل المسلمين حين رجع إلى الحصن.
فحينئذ يكون فيئا.
لانه بمباشرة القتال في مأمنه يصير ناقضا للامان (1) الذى كان له منا، ولا حكم للامان بعد النقض في حرمة القتل والاسترقاق.
853 - وإن قال (2) للمسلمين: آمنونى على أن أنزل إليكم فأعطيكم مئة دينار، فإن لم أعطكم فلا أمان بينى وبينكم.
أو قال: إن
نزلت إليكم فأعطيتكم مئة دينار فأنا آمن.
ثم نزل فطالبوه فأبى أن يعطيهم.
فهو فئ في القياس.
لوجود شرط انتباذ الامان في أحد الفصلين، وانعدام شرط الامان في الفصل الثاني (ص 181).
وفى الاستحسان لا يكون فيئا حتى يرفع (3) إلى الامام فيأمره (4) بالاداء، وإن أبى حكم عليه بأن يجعله فيئا.
لما بينا أن في (5) امتناعه من الاداء لما (6) طلب منه (7) احتمال المعاني، فلا تتعين جهة الاباء إلا بحكم الحاكم.
أرأيت لو قال لهم: لا أعطيكم وإنما أعطى الامير.
أو قال: لا أعطيكم إلا بشهود.
أكان فيئا بهذا الامتناع ؟ ليعلم أن القول بالقياس في هذا قبيح.
__________
(1) في هامش ق " ناقض الامان ".
(2) ه، ق " فان قال " وفى هامشها " وإنه قال.
نسخة ميرزا "، ب " وإن كان قال ".
(3) ق " يرجع ".
(4) ق " حتى يأمره "، وفى هامشها " إلى الامام فيأمره.
نسخة ميرزا ".
(5) ساقطة من ق.
(6) ب، ق " كما ".
(7) ق " من ".
*(2/540)
854 - ولو رفعوه إلى الامام فقال: هات (1) المئة الدينار: فقال: أجلني فيها حتى انحلها.
(2) لها.
فلا بأس للامام أن يؤجله يومين أو ثلاثة.
لانه ليس في هذا القدر كثير ضرر على المسلمين، وفيه منفعة له، والامام مأمور بالنظر في كل جانب.
ألا ترى أن من لزمه الدين إذا استمهل هذا القدر من المدة أمهله الحاكم ولم يحبسه.
فهذا الذى يفدى نفسه بالمال أولى بأن يمهله ولا يعجله.
855 - وإن كان قال (3): تؤمنونى على أن أنزل إليكم فأعطيكم رأسا أو مئة دينار ما بيني وبين ثلاثة أيام، فنزل فهو آمن، ولا سبيل عليه حتى يمضى الوقت.
لانه شرط هذه المدة (4) مهلة لنفسه.
فلا يحبس قبل مضيها، كما لا يحبس من عليه الدين المؤجل.
856 - فإن مضت (5) المدة فهو آمن لقبوله (6).
ولكن يحبس حتى يؤدى ما التزم به، إلا أن يسلم أو يصير ذمة، فحينئذ يبطل المال عنه.
لما بينا من الطريقين فيه.
__________
(1) في هامش ق " دفعوه.
نسخة ميرزا ".
(2) ق، ه " احتال " وفى هامش ق " انحلها ".
نسخة ميرزا ".
(3) ق " وإن قال ".
(4) ق، هذا الوقت أي المدة " وفى هامشها " هذه المدة.
نسخة ".
(5) ه " مضى المدة ".
(6) ق " بقبوله ".
*(2/541)
857 - ولو قال: تؤمنونى على أن أعطيكم مئة دينار على أجل كذا.
فإن لم أعطكم فلا أمان بينى وبينكم.
أو قال: إن أعطيتكم إلى أجل كذا فأنا آمن.
ثم لم يعطهم حتى مضى الاجل.
فهو فئ، ولا حاجة إلى قضاء القاضى هاهنا.
لانه صرح باشتراط الوقت لنفسه (1)، فلا يزاد على الوقت الذى
صرح به.
ولو (2) شرطنا قضاء القاضى بعد مضى الوقت كان زيادة على الوقت.
والزيادة على النص في معنى النسخ.
858 - ولو كان قال: تؤمنونى على أن أنزل فأدلكم على قرية فيها مئة رأس (3)، على أنى إن لم أدلكم فلا أمان بينى وبينكم.
ثم نزل فدلهم على قرية فيها مئة رأس قد أصابها المسلمون قبل هذا الامان أو بعده، قبل نزوله أو بعد نزوله، قبل أن يدلهم.
فليست هذه بدلالة.
فإن دلهم على غيرها وإلا كان فيئا.
وكذلك لو علم المسلمون بها قبل دلالته ولم يصيبوها.
لانه التزم دلالة فيها منفعة للمسلمين.
وذلك لا يوجد إذا دل على ما كان معلوما للمسلمين.
ولان الدلالة إنما تتحقق إذا كان التوصل إلى المقصود بتلك الدلالة، ووصول المسلمين إلى هذه القرية لم يكن بدلالته حين علموا بها قبل دلالته، أصابوها أو لم يصيبوها.
__________
(1) ه " بنفسه ".
(2) ه " لو " بلا واو قبلها.
(3) ه زيادة " رأس من السبى ".
*(2/542)
ألا ترى أن المحرم إذا دل على صيد كان (1) المدلول عالما بمكانه لم يكن ملتزما للجزاء بهذه (2) الدلالة.
859 - ولو كانوا خرجوا (3) معه فدلهم على الطريق فجعلوا يسيرون أمامه حتى عرفوا مكانها قبل (4) أن ينتهى إليها فيدلهم عليها.
فهذه دلالة، وهو آمن (5) لا سبيل لهم عليه.
لانهم إنما أخذوا في ذلك الطريق بدلالته.
وإنما علموا بها حين أخذوا في ذلك الطريق، فما يحصل لهم من العلم يكون مضافا إلى أصل السبب وهو دلالته.
ألا ترى أن دلالة المحرم على الصيد بهذا الطريق يتحقق حتى يلزمه جزاء الصيد.
860 - وكذلك لو وصف لهم مكانها ولم يذهب معهم فذهبوا بصفته حتى أصابوها فهو آمن.
لان الدلالة هكذا تكون.
فان (ص 182) من يدل غيره على طريق قد يذهب معه وقد لا يذهب (6)، ولكن يصف الطريق له فيصير معلوما بدلالته، ويسمى دالا عليه في الوجهين.
__________
(1) ب " قد كان ".
(2) ه " بهذا ".
(3) ق " لو كا خرجوا " وفى هامشها " ولو كانوا خرجوا.
نسخة ميرزا زاده ".
(4) ق " عرفوا مكانها، عرفوه قبل أن.." وفى هامشها " عرفوا مكانها قبل أن.
نسخة ميرزا زاده.
(5) قوله " وهو آمن " لا يوجد في ق.
وفى هامشها " وهو آمن لا سبيل لهم عليه.
نسخة ميرزا زاده.
كذا من نسخة حصيرى ".
(6) ق " وقد لا يكون يذهب " وفى هامشها " قد لا يذهب ولكن، نسخة ميرزا زاده ".
*(2/543)
861 - وكذلك لو قال: آمنونى على أن أدلكم على بطريق بأهله وولده، فإن لم أفعل فلا أمان لى عليكم.
فلما نزل وجد المسلمين قد أصابوا بطريقا فقال: هذا الذى أردت أن أدلكم عليه.
فليس هذا بشئ.
لانه التزم الدلالة على بطريق منكر، حتى ينتفع المسلمون بدلالته.
ولا يحصل هذا المقصود بهذه الدلالة.
862 - وإن كان قال: على أن أدلكم على بطريق الحصن فإنه قد نزل هاربا من الحصن.
ثم لما نزل وجد المسلمين قد أصابوا ذلك البطريق، فهو آمن لا سبيل عليه.
لانه التزم الدلالة على معرف معلوم بعينه أو بنسبه، وقد دل عليه.
وهذا لان في المعين لا يعتبر الوصف وفى غير المعين يعتبر.
ألا ترى أن من قال: لا أكلم هذا الشاب، فكلمه بعد ما شاخ حنث في يمينه.
ولو قال: لا أكلم شابا، فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث.
وحصول العلم للمسلمين بدلالته أو انتفاعهم بدلالته وصف معتبر في المشروط.
فإنما يعتبر في غير المعين، فأما في المعين فلا يعتبر شئ من ذلك.
863 - وعلى هذا لو التزم أن يدلهم على حصن أو مدينة فإن لم يعينها لا تعتبر دلالته على ما يعلم المسلمون بها، وفى المعين يعتبر ذلك.
ثم في غير المعين لو دلهم على شئ من ذلك قد كانوا يعرفونه في دخلة(2/544)
دخلوها أرض الحرب قبل هذه الدخلة إلا أن موضعها أشكل عليهم في هذه المدة فهو آمن لا سبيل عليه.
لانهم توصلوا إليها بدلالته لا بما كان سبق من علمهم بها.
ألا ترى أن المحرم في مثل هذا يكون دالا على الصيد ملتزما للجزاء، ولان المقصود دلالة فيها منفعة للمسلمين، وقد وجد، فإنهم انتفعوا بهذه الدلالة.
فأما علمهم الذى سبق فما كان يوصلهم إلى هذه المنفعة بعد ما اشتبه (1) عليهم أو بعد ما نسوها.
فيتحقق منه الوفاء بالشرط عند هذه الدلالة.
والله أعلم (2).
*
__________
(1) ق " اشتبهت " وفى هامشها " اشتبه.
نسخة ميرزا زاده ".
(2) ق، ه، والله تعالى الموفق "، ب " والله الموفق ".
*(2/545)
64 باب من يكون آمنا من غير أن يؤمنه أهل الاسلام 864 - ولو أن مسلما في دار الحرب تزوج منهم كتابية وأخرجها لى دار الاسلام فهى حرة.
لا باعتبار أن النكاح أمان منه لها، فان أمان المسلم في دار الحرب باطل، أسيرا كان أو تاجرا أو رجلا أسلم منهم، ولكن لانها جاءت معه مجئ المستأمنات.
فإنها جاءت للمقام في دارنا مع زوجها، وهذه صفة المستأمنة.
فإن أرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يكن لها ذلك، لقيام النكاح بينها وبين المسلم.
865 - ولو أن المستأمنة في دارنا تزوجت لمسلم صارت ذمية.
فكذلك إذا بقيت في دارنا بنكاح مسلم.
وهذا لان المرأة تابعة للزوج في المقام، والزوج من أهل دارنا فتصير هي من أهل دارنا تبعا.
866 - وإن قال الزوج: قهرتها في دار الحرب وأخرجتها قهرا.
وقالت المرأة: بل خرجت على النكاح ولم يقهرنى.
فهذا على ما يدل عليه الظاهر.
فإن جاء بها مربوطة فالظاهر شاهد للزوج.
فيكون القول قوله وهى له أمة.(2/546)
وإن جاءت معه غير مربوطة فالظاهر يشهد لها فتكون حرة ذمية، إلا أنه لا نكاح بينها وبين الزوج، لاقراره بما يبطل النكاح.
وهو الملك بطريق القهر.
فإن إقرار الزوج بما ينافى النكاح يبطله.
كما لو زعم أن زوجته قد ارتدت وأنكرت هي، فإن أقام بينة من المسلمين أو من أهل الذمة أنه قهرها في دار الحرب كانت أمة له.
لانه أثبت سبب ملكه رقبتها بالحجة، وهى ذمية في الظاهر لاقرارها إنها في نكاح مسلم في دار الاسلام (ص 183) وشهادة أهل الذمة على الذمية تقبل.
867 - ثم إن كان المسلم مستأمنا في دار الحرب كره له ما صنع، وأمر بأن يعتقها ويخلى سبيلها.
لانه حين دخل عليهم بأمان فقد ضمن أن لا يغدر بهم، وأن لا يتعرض لهم بشئ من ذلك (1).
فيؤمر بالوفاء بما ضمن ولا يجبر عليه في الحكم، لانه غدر بأمان نفسه خاصة دون أمان المسلمين، وذلك أمر بينه وبين ربه.
868 - وإن كان أسيرا فيهم أو كان أسلم منهم، لم يؤمر بشئ من ذلك.
لانه متمكن (2) شرعا من استرقاقهم وأخذ مالهم إذا قدر عليهم وقد بينا أن تزوجه إياها لا يكون أمانا منه لها.
__________
(1) في هامش ق " في ذلك.
نسخة ".
(2) ه " يتمكن ".
*(2/547)
ثم خمس فيها.
لانه أخرجها على وجه التلصص.
ولا يقبل على قهره إياها شهادة أهل الحرب من المستأمنين.
لانها ذمية في الظاهر، وقد تصادقا على أنها كانت زوجة له.
وشهادة
المستأمن بالرق على الذمية لا تقبل.
869 - وإن قالت: ما تزوجني ولا قهرني، ولكنه آمنني فخرجت معه.
فهى حرة إن خرجت طائعة لدلالة الحال، ولا تكون زوجة له.
لانه يدعى عليها النكاح وهى تنكر.
870 - ولو ادعى أنه تزوجها في دار الاسلام لم يقبل قوله إلا بحجة.
فكذلك قولها إذا ادعت أنه تزوجها في دار الحرب.
فإن أرادت الرجوع إلى دار الحرب تمنع من ذلك.
لان النكاح لم يثبت حين أنكرت، وبه تصير ذمية تابعة للرجل.
871 - وإن أقام الزوج البينة من المستأمنين (1) في هذا الفصل على أنه قهرها في دار الحرب تقبل البينة.
لانها مستأمنة في الظاهر وشهادة المستأمنين على المستأمنة بالرق مقبولة.
__________
(1) ب " للمستأمنين "، ق " وإن أقام الزوج من المستأمنين بينه.." وفى هامشها " وإن أقام الزوج البينه من المستأمنين.." نسخة ميرزا زاده ".
*(2/548)
872 - وإن أخرجها معه مقيدة فهى أمة له، ولا خمس فيها.
لان الظاهر شاهد له.
فان لم يعلم أنه صنع بها هذا إلا في دار الاسلام ففى قول أبى حنيفة رحمه الله (1) هي فئ لجماعة المسلمين.
لانها لما أنكرت النكاح لم يثبت لها حكم الامان في دارنا.
فان (2) المستأمنة من تجئ للمقام في دارنا.
ولا نعلم لذلك سببا حين أنكرت النكاح فكانت حربية لا أمان لها في دارنا.
ومن أصل أبى حنيفة رحمه الله: أن الحربى إذا دخل دارنا بغير (3)
أمان فأخذه مسلم يكون فيئا لجماعة المسلمين.
وعندهما يكون للاخذ، وفى إيجاب الخمس فيه روايتان.
873 - ولو أن ذميا دخل دار الحرب بأمان فتزوج منهم امرأة، أخرجها مع نفسه بعد ما استأمن المسلمين عليها، فهى حرة.
لانها جاءت مجئ المستأمنات، ولان المسلمين آمنوها حين استأمن عليها.
ثم تكون ذمية من أهل دارنا تبعا لزوجها.
بمنزلة ما إذا تزوجت المستأمنة ذميا في دارنا، فلا ترجع إلى دار الحرب.
وإن أذن الزوج لها في ذلك أو طلقها فالاستئمان عليها ليس بشرط ولكنها إذا خرجت معه طائعة فهى آمنة.
لانها جاءت للمقام مع زوجها، وهو من أهل دارنا.
__________
(1) ه " رضى الله تعالى عنه ".
(2) ق " لان "، وفى هامشها " فان المستأمنة.
نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " دارنا اليوم بغير "، وتحتها " دارنا بغير أمان.
أصل نسخة ".
*(2/549)
874 - فإن استأمن هذا الذمي على ابنته أو اخته فهى آمنة أيضا.
لان المسلمين آمنوها.
ولانها جاءت مجئ المستأمنات حين (1) استأمن عليها.
ولها أن ترجع إلى دار الحرب متى شاءت.
لانها ليست بتابعة لابيها أو أخيها الذمي فإنها بالغة.
875 - وإن أخرجها مع نفسه ولم يستأمن لها فهى فئ للمسلمين في قول أبى حنيفة.
لانها جاءت مجئ المستأمنات، فإنها ليست بتابعة له في المقام، ولم يستأمن لها نصا.
876 - وإن قال الذمي: قد كنت قهرتها في دار الحرب وأخرجتها.
وكذبته، ولا قرابة بينهما، فإنه لا يصدق.
لان ظاهر الحال يكذبه فيما قال.
فإنها جاءت غير مربوطة معه.
وقد ثبت فيها حق جماعة المسلمين.
فلا يصدق الذمي فيه في إبطال ذلك.
877 - وإن شهد له بذلك شهود من المسلمين كانت أمة له.
لانه أثبت سبب الملك فيها بالحجة ولا يقبل في ذلك شهادة أهل الذمة.
__________
(1) في هامش ق " حيث.
نسخة ".
*(2/550)
لانها تقوم (ص 184) على المسلمين وقد صارت هي أمة له في الظاهر.
878 - وإن أخرجها مغلولة قد علم ذلك فالقول قوله.
لان الظاهر شاهد له.
879 - وإن لم يعلم أنه قهرها إلا في دار الاسلام فعند أبى حنيفة رحمه الله هي فئ لجماعة المسلمين.
وعندهما هي له.
ولكن يؤخذ منه الخمس.
بمنزلة ما لو أصاب الذمي ركازا في دار الاسلام فانه يخمس وما بقى يكون له.
880 - ولو خرج علج من أهل الحرب مع مسلم إلى المعسكر فقال المسلم: أخذته أسيرا.
وقال الحربى: جئت مستأمنا.
فالقول قول الحربى.
لانه جاء مجئ المستأمنين، والظاهر شاهد له (1).
فإنه غير مقهور
حين جاء معه لان الواحد ينتصف من الواحد.
ألا ترى أنه لو جاء وحده هكذا كان آمنا ؟ فكذلك إذا جاء مع مسلم.
881 - ولو كان جاء به وهو مكتوف أو مغلول أو في عنقه حبل يقوده، فالقول قول المسلم.
لان دلالة الحال تشهد (2) له.
وقد بينا أن في مثل هذا يحكم بدلالة الحال.
__________
(1) في هامش ق " يشهد له.
نسخة ".
(2) ه " شاهد ".
*(2/551)
882 - ولو كان هذا الحربى جاء مع عدد من المسلمين وهو مخلي عنه (1) فقالوا: هو أسيرنا.
وقال الحربى: جئت مستأمنا معهم.
فالقول قول المسلمين.
لانه مقهور لجماعتهم لا يقدر على الانتصاف والتخلص منهم لو أراد ذلك.
فهو بمنزلة المربوط.
ألا ترى أنهم لو كانوا مئة رجل قد أحدقوا به حتى صار لا يقدر على التخلص منهم فإنه يسبق إلى وهم كل أحد أنه أسير لا مستأمن، فيكون فيئا لجميع العسكر.
883 - وإن شهد مسلمان أنه جاء مستأمنا قبلت الشهادة.
لان شهادة المسلمين حجة تامة على جماعة (2) المسلمين.
884 - وإن لم يشهد به شاهدان ولكن أقر رجل واحد من القوم أنه جاء مستأمنا لم يصدق في ذلك.
لان قول الواحد ليس بحجة في الحكم، وشركتهم فيه شركة عامة فلا حكم لاقرار الواحد فيه، إلا أن يقع في سهمه بالقسمة.
885 - قال: ولو أن مسلما خرج من دار الحرب ومعه امرأة.
فقال: ليست لي بزوجة، ولكني آمنتها فأخرجتها على الامان.
فهي في القياس فئ.
__________
(1) ب " عنهم " وفى هامش ق " مخلى عنهم.
نسخة ".
(2) فوق هذه الكلمة في ق " جميع.
نسخة ".
*(2/552)
لان أمانه إياها في دار الحرب باطل، لكونه مقهورا في منعة أهل الحرب.
وكما حصلت في دار الاسلام فقد صارت فيئا مأخوذة بالدار.
فلا يعمل أمانه في إبطال حق المسلمين عنها.
وفى الاستحسان هي حرة مستأمنة، ترجع إلى دار الحرب متى شاءت.
لانه لما خرج معها مستديما لذلك الامان (1)، صار بمنزلة المنشئ للامان في أول جزء من أجزاء دار الاسلام.
وإنما يثبت حق المسلمين فيها إذا حصلت في دارنا غير آمنة.
وهى ما حصلت في دارنا إلا آمنة.
فأدنى الدرجات أن يقترن أمان المسلم إياها بسبب ثبوت حق المسلمين فيها.
وذلك (2) يمنع ثبوت حقهم فيها.
يوضحه: أنهما لما وصلا إلى الموضع الذى لا يأمن فيه المسلمون ولا أهل الحرب، فقد خرجا من منعة أهل الحرب، وصح أمان المسلم إياها في هذا الموضع.
وهى لا تصير مأخوذة بدار الاسلام ما لم تصل إلى الموضع الذى يأمن (3) فيه المسلمون (4).
وهذا بخلاف ما لو آمنها ثم خرجت هي وحدها لان أمانه إياها في دار الحرب باطل.
وهو ليس معها في الموضع الذى يصح فيه الامان حتى يجعل كالمنشئ للامان في ذلك الموضع.
فلهذا
كانت فيئا.
886 - ولو أن مسلما في دار الحرب آمن جندا عظيما فخرجوا معه إلى دار الاسلام فظفر بهم المسلمون كانوا فيئا.
(1) ساقطة من ه.
(2) ه " وتلك ".
(3) ق " يصل إليه المسلمون ويأمنون فيه ".
وفى هامشها " ما لم تصر إلى الموضع الذى يأمن فيه المسلمون.
وهذا بخلاف.
نسخة ميرزا زاده ".
(4) ه " المسلم ".
*(2/553)
لان هذا المسلم ليس ممتنعا منهم في دار الاسلام ولا في دار الحرب، بل هو مقهور في الموضعين بمنعتهم.
فيكون (ص 185) أمانه لهم باطلا.
ألا ترى أن هذا العسكر لو دخلوا دار الاسلام فدخل إليهم مسلم بأمان ثم أمنهم كان ذلك باطلا ؟ لانه غير ممتنع منهم، فكذلك إذا خرج معهم من دار الحرب مستديما لذلك الامان، بخلاف ما لو آمن واحدا منهم وخرج معه، لان الواحد لا يكون مقهورا بالواحد بل يمتنع منه وينتصف في الظاهر فيصح أمانه له، كما لو دخلا (1) دار الاسلام.
887 - ولو كان آمن في دار الحرب عشرين رجلا منهم، ثم خرج معهم إلى دار الاسلام فهم آمنون.
بمنزلة ما لو أنشأ الامان لهذا العدد في دار الاسلام ابتداء.
فإن قيل: هو غير ممتنع من هذا العدد أيضا، بل هو مقهور بهم في الظاهر، فينبغي أن لا يصح أمانه.
قلنا: نعم هو مقهور باعتبار نفسه، ولكنه قاهر ممتنع بقوة المسلمين.
لان هؤلاء لا يمتنعون من جماعة المسلمين، والقوة للمسلم في دار الاسلام بجماعة (2) المسلمين.
فإذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين كأن هذا الرجل قاهرا لهم في دار الاسلام حكما لا مقهورا بهم.
فيصح أمانه لهم.
بخلاف الجند، فإنهم ممتنعون من أهل دار الاسلام بشوكتهم، فيكون هو مقهورا فيهم في دارنا كما في دار الحرب.
__________
(1) ق " كما لو دخل دار الاسلام ".
وفى هامشها " كما لو دخلا دار الاسلام.
نسخة ميرزا زاده ".
(2) ق " من جماعة المسلمين " وفى هامشها " كجماعة المسلمين.
نسخة ميرزا زاده ".
*(2/554)
ألا ترى أن القوم الذين لا منعة لهم لو دخلوا دارنا بغير أمان وأخذهم قوم من المسلمين كانوا فيئا لجماعة المسلمين ؟ 888 - ولو أن جندا عظيما منهم دخلوا دارنا، فقاتلهم (1) قوم من المسلمين حتى قهروهم كانوا لهم خاصة.
وما كان الفرق إلا بهذا.
إن الذين لهم منعة ما صاروا مقهورين بحصولهم في دار الاسلام، بخلاف الذين لا منعة لهم.
ثم تحقق ما قلنا: إنهم إذا لم يكونوا ممتنعين من جماعة المسلمين، فلو لم يجعل أمان الواحد الذى جاء معهم صحيحا أدى إلى الغرور، لانهم فارقوا منعتهم بناء على ذلك الامان.
وفى الجند لا يؤدى إلى هذا.
لانهم ما فارقوا منعتهم بناء على أمانه بل هم ممتنعون بشوكتهم في دارنا، كما في دار الحرب.
وعلى هذا لو أخرجهم هذا المسلم إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فإن كانوا بحيث لا يمتنعون من العسكر فهم آمنون.
لان قوة العسكر في هذا
الموضع بعسكر المسلمين، فيكون قاهرا لا مقهورا إذا وصل إلى عسكر المسلمين.
وإن كانوا بحيث يمتنعون من العسكر لكثرتهم فأمانه لهم باطل وإن خرج معهم لما بينا (2).
889 - ولو كان المسلمون حاصروا حصنا وفيهم مسلم فآمن قوما لا منعة لهم وأخرجهم معه إلى العسكر لم يكونوا آمنين، بخلاف الاول.
لان المحصورين قد صاروا مقهورين من وجه، فحالهم كحال المأسورين (3)
__________
(1) ق " وأخذهم قوم " وفى هامشها " دارنا فقاتلهم قوم من المسلمين.
نسخة ميرزا زاده ".
(2) ق " وإن خرج كما بينا معهم " وفى هامشها " وإن خرج لما بينا معهم.
نسخة ميرزا زاده " (3) ق " المأسور "، ه " الاسير ".
*(2/555)
فلا يصح أمان المسلم لهم إذا كان فيهم، لما فيه من إبطال حق المسلمين عليهم بخلاف الاول.
ولانه لو جاز هذا الامان لم يقدر المسلمون على قهرهم بحال، فإنهم إذا أيقنوا بالقهر أسلم بعضهم، ثم آمنهم على أن يخرج مع كل نفر منهم، ولا يجوز القول بما يؤدى إلى سد باب الاسترقاق على المسلمين.
يوضحه: أن يد المسلمين إلى المحصورين سابقة على قوة هذا المسلم الخارج معهم، فلا يبطل، باعتبار هذه القوة، حكم اليد السابقة.
بخلاف جميع ما سبق.
890 - ولو أن حربية أسلمت وزوجها حربى، فهما على نكاحهما حتى تحيض ثلاث حيض.
لان يد الامام لا تصل إلى الزوج لتعرض عليه الاسلام، فتجعل ثلاث
حيض قائمة مقام ثلاث عرضات، باعتبار أنها مؤثرة في الفرقة بينهما إذا صار غير مريد لها، كما بعد الطلاق.
وبإصراره على الكفر يعلم أنه غير مريد لها.
891 - فإن لم تحض حتى خرجا إلى دار الاسلام كان الرجل فيئا للمسلمين (ص 186).
لانه خرج لا على وجه الاستئمان.
ولكن يبقى النكاح بينهما.
لان الرق الذى ثبت فيه لا ينافى ابتداء النكاح فيما (1) بينهما، ولا ينافى بقاء النكاح أيضا.
وإنما الموجب للفرقة تباين الدارين، ولم يوجد ذلك، فالرجل لما صار عبدا للمسلمين كان من أهل دارنا.
__________
(1) لا توجد في ب، ق.
*(2/556)
892 - ثم لا تقع الفرقة بينهما وإن حاضت ثلاث حيض (1)، حتى يعرض عليه الاسلام.
لان الحيض كانت خلفا عن عرض الاسلام، باعتبار تعذر عرض الاسلام عليه، وقد زال قبل حصول المقصود به.
والقدرة على الاصل قبل حصول المقصود بالخلف يسقط اعتبار الخلف.
فلهذا يعرض عليه الاسلام.
893 - فإن أسلم فهى امرأته، وإن أبى فرق بينهما.
894 - ولو كان الزوج هو الذى أسلم وهى من غير أهل الكتاب، ثم خرجا إلى دارنا قبل أن تحيض شيئا، فهى امرأة آمنة حرة لا سبيل عليها.
لانها جاءت مجئ المستأمنات.
فإنها تابعة للزوج في المقام، ومن جاءت للمقام في دارنا كانت مستأمنة.
فأما الرجل فليس بتابع لا مرأته في المقام،
وهو إنما جاء مغترا (2) لا مستأمنا، إذ لم يطلب الامان ولم يظهر منه علامة لذلك.
895 - ثم إن كانت من أهل الكتاب فهى ذمية.
لان النكاح بينهما مستقر، وذلك يلزمها المقام في دارنا مع زوجها.
896 - وإن كانت من غير أهل الكتاب فالنكاح بينهما غير مستقر، فلا تصير ذمية، ولكن يعرض عليها الاسلام، فإن أسلمت وإلا فرق بينهما، وكان لها أن ترجع إلى دار الحرب.
__________
(1) ق " حيضات "، وفى هامشها " ثلاث حيض.
نسخة ميرزا زاده ".
(2) ص، ه، ب " مغيرا "، اثبتنا رواية ق.
*(2/557)
لانها مستأمنة.
وقد بينا في " كتاب الطلاق " (1) اختلاف الروايات فيما إذا أسلم أحد الزوجين المستأمنين في دارنا، أن في إحدى الروايتين تتوقف الفرقة بينهما على مضى ثلاث حيض، كما لو كانا في دار الاسلام.
وفى الرواية الاخرى أي الامرين يسبق إما عرض الاسلام على المصر منهما أو مضى ثلاث حيض تقع الفرقة به.
وعليه نص هاهنا، لانهما تحت يد الامام في الحقيقة، فيتمكن من عرض الاسلام، والمصر من أهل دار الحرب حكما، فتقع الفرقة بينهما بمضي ثلاث حيض.
897 - فإن لم تسلم ولكنها تحولت إلى دين أهل الكتاب فقد تقرر النكاح بينهما، بمنزلة ما لو كانت كتابية في الاصل فتكون ذمية.
وأشار إلى الفرق بين إسلام الزوج وإسلام المرأة فقال محمد (2) رحمه الله: 898 - الزوج ليس من عيال امرأته إذا أسلمت، والمرأة من عيال الزوج إذا أسلم، فتكون آمنة إذا خرجت معه.
ألا ترى أن حربيا لو استأمن إلى دار الاسلام فأخرج (3) معه امرأته كانت آمنة ؟ فكذلك إذا أسلم.
899 - ولو أن امرأة منهم استأمنت ثم أخرجت معها زوجها لم يكن آمنا تبعا لها، فكذلك إذا أسلمت.
__________
(1) في حاشية ه " يعنى في المبسوط ".
(2) ه " فقال: يعنى محمد رحمة الله عليه ".
(3) ق " وخرجت معه " وفوقها " وخرج معه.
نسخة ميرزا زاده ".
*(2/558)
900 - ولو كانت التى أسلمت آمنت زوجها على أن أخرجته إلى دارنا فخرج معها كان آمنا.
لما بينا أن استدامة ذلك الامان حين حصلا في دارنا بمنزلة الانشاء.
901 - فإن قالت هي: آمنته وأخرجته معى.
وقال المسلمون: خرج معك بغير أمان.
فالقول قولها.
لان الظاهر شاهد لها.
فقد علم أنه خرج معها، وهو لا يخرج معها مصرا على الكفر إلا بأمانها.
والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال فيه.
902 - ولو أسلم رجل من المحصورين وأخرج (1) معه امرأته، وهى كافرة، كانت فيئا للمسلمين.
لانه لو استأمن وهو محصور فخرج بأمان لم تتبعه زوجته، فكذلك إذا أسلم.
وكذلك (ص 187) لو أسلمت المرأة وآمنت زوجها فخرج معها.
لان أمانها إياه في منفعة أهل الحرب باطل، وهو كما لا يأمن تبعا لها
في الامان، لا يأمن بأيمانها (2) أيضا.
903 - بخلاف ما لو لم يكن محصورا فاستأمن إلى عسكر
__________
(1) ب " وخرج "، ه " فخرج ".
(2) ق ه " بأمانها ".
*(2/559)
المسلمين أو (1) إلى دار الاسلام، فإنه تتبعه زوجته والصغار من أولاده والكبار من الاناث.
لان حكم القهر لم يتناولهم (2) هناك.
وقد يتناول المحصورين، فيؤثر (3) أمانه وايمانه في إزالة القهر عنه خاصة.
904 - ولو أن ذميا تزوج امرأة في دار الحرب وأخرجها مع نفسه، فهى حرة ذمية.
لان عقد الذمية أقوى من عقد الامان.
905 - ولو خرج مستأمنا مع زوجته كانت حرة آمنة.
906 - فإذا خرج وهو ذمى مع زوجته فأولى أن تكون آمنة، ثم هي تابعة لمن هو من أهل دارنا في المقام، وهو الذمي، فتصير ذمية.
907 - ولو خرج الذمي بابنة له كبيرة، أو أخت من أهل الحرب، كانت فيئا.
إلا أن يكون استأمن عليها.
لانها ليست بتابعة له في المقام في دار الاسلام (4)، فلا يكون خروجها معه دليل الاستئمان، بخلاف الزوجة.
فإن قيل: أليس أن المستأمن لو أخرج مع نفسه ابنته أو أخته كانت آمنة معه، وكان ينبغى أن يكون الحكم في الذمي هكذا ؟
__________
(1) ه " والى ".
(2) في هامش ق " لا يتناولهم.
نسخة ".
(3) ه، ق " فتأثير ".
(4) ق " في دارنا " وفى هامشها " في دار الاسلام.
نسخة ميرزا زاده ".
*(2/560)
قلنا: هناك الزوجة التى هي تابعة له لا تصير ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب، بمنزلة المستأمن نفسه، ويمكن إثبات مثل هذا الحكم في الابنة والاخت أيضا.
وباعتبار الظاهر هو يعولهما كما يعول زوجته.
فأما الذمي فتصير زوجته ذمية ممنوعة من الرجوع إلى دار الحرب، ولا يمكن إثبات مثل هذا الحكم في حق الابنة والاخت لانعدام التبعية في حق (1) الاحتباس في دارنا.
ولا يجوز أن يثبت في التابع حكم آخر سوى الثابت فيمن هو أصل.
908 - ولو أخرج الذمي معه امرأة وقال (2): هي امرأتي، وصدقته.
كانت امرأته حرة، وإن لم يعرف ذلك إلا بقولهما.
لانهما تصادقا على ذلك، والظاهر أنهما لا يجدان في دار الاسلام شهودا على نكاح كان بينهما في دار الحرب.
فلاجل الضرورة يقبل قولهما إذا لم يكن هناك (3) من ينازعهما.
ألا ترى أنه لو أخرج معه برجال (4) ونساء وقال: هم عبيدى وإمائي وصدقوه.
قبل قولهم في ذلك.
909 - وكذلك لو خرج مستأمنا فهو مصدق فيما يدعى من ذلك إذا صدقه المدعى عليه لهذا المعنى.
910 - وإن كذبته المرأة وقالت: لا نكاح بينى وبينه ولا قرابة، كانت فيئا.
لان السبب الموجب للتبعية لم يثبت عند تكذيبهما فتبقى حربية في دارنا
لا أمان لها فكانت فيئا.
__________
(1) ق " في حكم الاقتباس "، وتحتها " في حق الاحتباس، نسخة ميرزا زاده ".
(2) فوقها في ق " فقال.
نسخة ".
(3) ق " هنا " وبجانبها " هناك.
نسخة ".
(4) ق " رجالا ".
*(2/561)
911 - ولو أن مسلما خرج من دار الحرب ومعه رجل أو امرأة وقال: هذا مملوكي أو هذه مملوكتي.
وقال الآخر: ليس كذا (1)، ولكنه آمننا فخرجنا معه.
ففى القياس هما فئ.
لان ما ادعى هو من الملك قد انتفى بتكذيبهما، وما ادعيا من الامان قد انتفى بانكاره.
وفى الاستحسان هما حران مستأمنان يرجعان إذا أحبا.
لانهما مع الاختلاف تصادقا على أنه (2) لا سبيل للمسلمين عليهما.
والاسباب مطلوبة لاحكامها لا لاعيانها (3)، فبعد الاتفاق على الحكم لا يعتبر الاختلاف في السبب.
يوضحه أن اختلاف السبب في الصورة، فأما في المعنى فالسبب واحد وهو الامان الثابت لهما تبعا أو مقصودا.
فهو بمنزلة ما لو أقر أن لفلان عليه ألف درهم قرضا، وقال المقر له: هي غصب.
فإن المال يلزمه لهذا المعنى.
912 - ولو كان الذى أخرجها ذمي أو حربى مستأمن وقال: هي امرأتي.
فقالت المرأة: لست بزوجة له، ولكنه آمنني فأخرجني.
كانت فيئا للمسلمين.
لان النكاح لم يثبت (4) لانكارها، وقد زعمت أنها خرجت بأمان الذمي
أو الحربى، وذلك باطل.
__________
(1) ق، ب " وقال الآخر: كذب ".
(2) ق " تصادقا أنهما "، ه " تصادقا أنه " وفى هامش ق " تصادقا على أنه لا سبيل.
نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " لا بأعيانها " وفوقها " لا لاعيانها.
نسخة ".
(4) ه " لا يثبت ".
*(2/562)
913 - ولو خرج حربى مع مسلمين فقال: آمنني (ص 188) هذان.
وكذباه، فهو فئ.
لانه يدعى عليهما ما لا يعرف سببه، فلا يصدق إلا بحجة.
وقد ثبت حق المسلمين فيه باعتبار الظاهر، لانه حربى في دارنا لا أمان له، فلا يصدق في إبطاله.
914 - فإن صدقه أحدهما فهو آمن يرجع إلى دار الحرب إن أحب.
لان الامان يثبت له من جهة من صدقه بتصادقهما، وإن لم يثبت من جهة الآخر.
فكأنه ما ادعى إلا على هذا.
وفى أمان الواحد كفاية له.
915 - وإن قال: آمنني هذا.
وكذبه (1).
وقال الآخر: أنا الذى آمنته.
وكذبه الحربى، وثبت كل واحد على مقالته فهو فئ.
لان الامان لم يثبت له من جهة من ادعاه حين كذبه (2)، ولا من جهة من أقر له لتكذيب الحربى إياه.
فكان فيئا.
بمنزلة ما لو قال المسلم: أنا آمنتك.
وقال الحربى: أبطلت، بل كتب إلى من دار الاسلام رجل بالامان.
لم يصدق وكان فيئا.
916 - وكذلك لو قال: آمنى فلان المسلم.
وهو غائب أو ميت.
__________
(1) في هامش ق " فكذبه.
نسخة ".
(2) في هامش ق " من جهة ادعائه حين كذبه.
نسخة حصيرى ".
*(2/563)
لان الامان لم يثبت له بمجرد دعواه على الغائب والميت، ومن أقر بالامان.
فقد كذبه الحربى في ذلك.
وهذا بخلاف ما تقدم.
فهناك الامان من جهة واحد بعينه، وإنما (1) الاختلاف بينهما في السبب، وههنا الاختلاف بينهما فيمن كان الامان من جهته، فلا يثبت واحد من الامرين مع التكذيب.
917 - ولو كان قال بعد هذا الذى أقر له بالامان: صدقت أنت آمنتني، وقد غلطت فيما قلت.
ففى القياس هو فئ.
لان إقراره له قد بطل بالتكذيب، فلا يعمل التصديق بعد ذلك.
إذ الامان عقد محتمل للفسخ والتصديق بعد التكذيب، إنما يعتبر فيما لا يكون محتملا للفسخ كالنسب والولاء.
وفى الاستحسان هو آمن إذا لم يصر على ذلك التكذيب.
لان الغلط في هذا الباب قد يقع، فإنه ما رأى من آمنه قبل هذا الوقت، وبالمرة الواحدة قل ما تثبت معرفته.
فإذا تبين له الغلط وجب اعتبار تصديقه لدفع الضرر، بخلاف ما إذا ثبت على التكذيب بعد الاستثبات.
لان توهم الغلط هناك قد انتفى.
وهو نظير ما لو قال الرجل لا مرأة جالسة إلى جنبه: هي أختى من الرضاعة.
ثم قال: غلطت، هي امرأتي.
كان مصدقا في ذلك، ولم يفرق بينهما.
فإن ثبت على ذلك بعد الاستثبات ثم قال بعد ذلك قد غلطت لا يصدق.
وفرق بينهما للمعنى الذى قلنا.
918 - ولو قال الحربى: ما آمنني أحد من المسلمين، لكنى خرجت بغير أمان.
بعد ما قال له المسلم: أنا آمنتك.
ثم رجع إلى تصديقه، لم يصدق، وكان فيئا
__________
(1) ه، ق " فانما " وفى هامش ق " وإنما.
نسخة ".
*(2/564)
لانه ليس في هذا يوهم الغلط، فأهم الاشياء عند الحربى الذى يخرج إلى دارنا هو الامان.
وبعد ما خرج بأمان مسلم لا يشتبه عليه أصل الامان.
فبعد إنكار أصل الامان لا يعتبر تصديقه، بخلاف الاول، فقد يقع (1) الاشتباه له فيمن كان أمانه من جهته، فلهذا يعتبر رجوعه إلى التصديق ويعذر بالغلط في ذلك.
919 - ولو خرج إلى دارنا رجل وامرأة من أهل الحرب، فشهد مسلمان بأنهما خرجا بأمان بعض المسلمين، وهما يقولان كذبا: ما آمننا أحد.
ففى قياس قول أبى حنيفة رحمه الله المرأة آمنة والرجل فئ.
لانهما صارا رقيقين في الظاهر، والشهادة على عتق الامه مقبولة من غير الدعوى بالاتفاق، وعلى عتق العبد كذلك في قولهما، ولا يقبل في قول أبى حنيفة رحمه الله.
920 - فإن كانا ادعيا ذلك بعد الانكار ثم شهد المسلمان به قبلت الشهادة.
لان هذا تناقض في الدعوى.
والتناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية.
921 - وإن شهد لهما ذميان (ص 189) أو مستأمنان بذلك
لم تقبل الشهادة.
لانها تقوم على المسلمين.
__________
(1) في هامش ق " وقع.
نسخة ".
*(2/565)
وبعد شهادة المسلمين لو أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا من ذلك.
لانه قد ثبت بالحجة أنهما مستأمنان.
فإن قيل: هما قد أقرا بالرق على أنفسهما في الابتداء، فكيف يتركان ليرجعا حربيين ؟ قلنا: لان الامام قد حكم بكذبهما فيما قالا بالحجة، والمقر إذا صار مكذبا في إقراره يسقط حكم إقراره.
922 - ولو قالا: خرجنا بغير أمان.
فشهد لهما شاهدان بأنهما أسلما في دار الحرب قبل أن يخرجا، وصدقا الشاهدين بذلك، فإن كان الشاهدان مسلمين فهما حران، وإن كانا من أهل الذمة فهما رقيقان للمسلمين.
لان شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين، وإسلامهما إنما ظهر بعد ما صارا فيئا، فلا يبطل الرق عنهما.
923 - ولو قالا للشاهدين المسلمين: كذبتما، ما أسلمنا قط.
أجبرا على الاسلام.
لان شهادة المسلمين عليهما بالاسلام عليهما حجة تامة.
924 - فإن أسلما فهما حران.
أما على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله فهو غير مشكل، وأما عند
أبى حنيفة رحمه الله فلان في هذه الشهادة التزام حق على الرجل، والمسلمون(2/566)
خصم في ذلك.
فإنكاره لا يمنع قبوله البينة بمنزلة ما لو أنكر العتق وهناك من يدعى حقا من حد قذف أو قصاص فيما دون النفس.
925 - وإن أبيا أن يسلما قتل الرجل وحبست المرأة حتى تسلم.
لانه ثبت بالحجة أنهما حران مرتدان.
فلا يجرى عليهما شئ في دارنا ولكن الحكم في المرتد والمرتدة ما بينا.
926 - وإن قالا ما أسلمنا قط.
وشهد الشاهدان أنهما أسلما يوم كذا في دار الحرب.
فقالا: قد كنا على النصرانية في دار الحرب بعد هذا الوقت (1).
فإنهما يجبران على الاسلام.
فإن أسلما فالرجل حر والمرأة فئ للمسلمين.
لانه ظهر بإقرارهما ارتدادهما في دار الحرب وخروجهما إلى دارنا على ذلك.
والمرتدة في دار الحرب تسترق، ولا يبطل الرق عنها بإسلامها.
وهذا بخلاف الاول فلم تظهر هناك الردة منهما بعد ما ثبت إسلامهما إلا في دارنا.
فان قيل: هناك قد أقرا أيضا أنهما كانا كافرين بعد الوقت الذى شهد فيه المسلمان عليهما بالاسلام.
قلنا: نعم.
ولكنهما ما أقرا بكفر متجدد منهما في تلك الحالة ليجعل ذلك ردة، إنما أنكرا أصل الشهادة.
فأما هنا فقد أقرا بأنهما أظهرا كفرا حادثا بعد الوقت الذى ثبت فيه إسلامهما بالحجة في دار الحرب.
فان قيل مع هذا: في هذه الشهادة إثبات حرية المرأة فلماذا يعتبر قولهما حتى تجعل أمة بعد ما شهد الشهود بحريتها ؟
__________
(1) ق " بعد هذا الوقت نظهرها ".
(2) ب " والامة فئ " ه، ق " والمرأة أمة فئ ".
*(2/567)
قلنا: لان هذا إقرار منها بالرق على نفسها.
وإقرار المرأة بالرق مقبول، بمنزلة اللقيط إذا كانت أنثى فأقرت بالرق.
927 - ولو أن حربية أسلمت في دار الحرب وعرف إسلامها، ثم أخذت في الاسراء فقالت: قد ارتددت قبل أن تأخذوني.
كانت فيئا، وصدقت لاقرارها على نفسها بالرق.
928 - وكذلك لو كانت مسلمة لحقت بدار الحرب ثم أخذت في الاسراء، فزعمت أنها لحقت بدار الحرب مرتدة، فهى أمة، وإن كذبها أبوها فيما قالت.
لانها أقرت على نفسها بالرق بسبب هو ظاهر.
فإنها أخذت من دار الحرب، وحكم الشرك ظاهر فيها.
929 - وكذلك لو أن ذميا أو ذمية لحقتا بدار الحرب، ثم أخذا فقالا: خرجنا ناقضين للعهد.
كان القول قولهما، وكانا فيئا.
لانهما أقرا بالرق على أنفسهما.
وكل هذا يوضح ما سبق أن شهادة المسلمين بأنها أسلمت في دار الحرب لا تمنع صحة إقرارها بالرق بعد ذلك بسبب ردتها في دار الحرب.
930 - ولو أن مسلمة في دار الاسلام حرة معروفة الابوين تعلق بها رجل وقال: هي أمة لى.
فقالت: صدقت (1)، قد كنت
__________
(1) في هامش ق " صدق.
نسخة ".
*(2/568)
ارتددت ولحقت بدار الحرب (ص 190) فسباني وأخرجنى.
فهى أمة له في القياس.
لانهما تصادقا على سبب يوجب الملك له فيها.
فيجعل ما تصادقا (1) عليه كالثابت بالمعاينة أو بالبينة.
يوضحه أنها تقر على نفسها بما يتلفها حكما وهو الرق.
ولو أقرت على نفسها بما يتلفها حقيقة من قصاص أو رجم وجب قبول قولها، لانها مخاطبة.
فهنا أولى.
وفى الاستحسان لا تصدق، وهى حرة لا سبيل عليها.
لانها تقر بما لا تملك إنشاءه.
فإنه حرية الاصل تثبت لها لحرية الابوين على وجه لا تملك إبطاله.
وهى متهمة فيما أقرت به من السبب، فان النساء جبلن على الميل إلى الهوى، فلعلها أحبت هذا الرجل وهو لا يرغب فيها بالنكاح فأقرت له بالرق بهذا السبب كاذبة ليحصل (2) مرادها.
وهذا بخلاف ما إذا عرف لحاقها (3) بدار الحرب.
لان هناك الظاهر يشهد لهما فيما قالا.
فإن المسلمة لا تلحق بدار الحرب ما دامت مصرة على الاسلام عادة.
يوضحه: أن اعتقادها باطن لا يمكن الوقوف عليه، فلا بد من قبول قولها فيه.
فأما لحوقها بدار الحرب فظاهر (4) يمكن الوقوف عليه، فلا حاجة إلى قبول قولها في ذلك.
__________
(1) ق " تصادق "، وفى هامشها " تصادقا.
نسخة ".
(2) ه، ق " لتحيل مرادها " وفى هامشها " فتحصل مرادها.
نسخة ".
(3) ه " لحوقها ".
(4) ه، ق " ظاهر ".
*(2/569)
تقريره: هو أن دار الحرب دار سبى واسترقاق.
فإذا عرفت لحاقها فإنما أصابها من موضع الاسترقاق، فتكون أمة له، ما لم يظهر المانع وهو إسلامها عند الاخذ.
فأما دار الاسلام فليس بدار استرقاق بل دار حرية متأكدة، فلا تبطل بمجرد قولها إذ لم يعلم صدقها في ذلك.
والذمية في هذا كالمسلمة.
فأما الحر الذمي إذا قال ذلك ولم يعرف صدقه ولحوقه بدار الحرب ناقضا للعهد فعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى هو والمرأة في ذلك سواء.
لان عندهما معنى حق الله تعالى هو المعتبر في حرية الرجل كما في حرية المرأة، ولهذا قبلا الشهادة فيه من غير دعوى.
وفى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى هو عبد سوآء عرف لحاقه أو لم يعرف.
لان معنى حقه هو المعتبر في حريته عنده، ولهذا تقبل الشهادة على عتق العبد من غير دعوى.
ولان معنى الميل إلى الهوى منعدم في حق الرجل، وليس في هذا الاقرار معنى حل الفرج بالملك بخلاف إقرار المرأة.
931 - ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربى: رجل أو امرأة.
فقال: أمنته بالعربية وأخرجته.
وقال الحربى: أبطل، ولكنه آمنني بالفارسية، وثبتا على الاختلاف فهو آمن.
لانهما اتفقا على السبب والحكم (1)، وإن اختلفا في العبارة، ولا معتبر بهذا الاختلاف، خصوصا في الامان.
فقد ثبت من غير عبارة.
وإذا كان الاختلاف، في العبارة لا يمنع قبول الشهادة فكيف يمنع ثبوت الامان ؟ 932 - وكذلك لو اختلفا في الوقت الذى آمنه فيه، أو في المكان، أو في الكتاب والرسالة، والامان باللسان.
__________
(1) في هامش ق " اتفقا على سببية الحكم.
نسخة م ".
*(2/570)
لانهما اتفقا على ما هو المقصود.
والامان مما يعاد ويكرر.
فالاختلاف في هذه الاشياء لا يمنع الحكم بما هو المقصود.
933 - ولو قال المسلم: أسلم فخرج معى.
وقال الحربى: بل آمنني.
فهو فئ.
لان الاختلاف هنا بينهما في الحكم المطلوب بالسبب، فإن المسلم يستفيد الامان من قبل إيمانه، والمستأمن إنما يستفيد الامان من جهة من آمنه، فمنع اختلافهما لا يثبت واحد من الامرين.
934 - وإن قال: سألني أن يخرج معى ويكون ذميا فأعطيته ذلك.
وقال الحربى: بل آمنني.
فهو آمن هنا.
لانهما اتفقا على الحكم، وهو ثبوت الامان له من جهة هذا المسلم وإن اختلفا في سببه (ص 191) والمسلم يدعى عليه زيادة وهو احتباسه في دارنا والتزامه (1) الجزية، فلا تثبت تلك الزيادة بمجرد قوله، ويبقى (2) أصل الامان له باتفاقهما عليه، فيرجع إلى دار الحرب إن شاء.
935 - ولو كان مع الحربى المستأمن في دارنا جارية له فأعتقها كان لها أن ترجع إلى دار الحرب.
لانها مستأمنة تبعا له، حتى لو أراد إعادتها إلى دار الحرب كان ممكنا من ذلك، فبإعتاقه إياها لا يبطل ذلك الحكم.
936 - ولو باعها من مسلم أو ذمى صارت ذمية تبعا لمولاها.
__________
(1) ق " إعطاؤه الجزية " وفى هامشها " التزامه الجزية.
نسخة م ".
(2) فوقها في ق " وإبقاء.
نسخة " *(2/571)
لانه من أهل دارنا.
937 - فإن أعتقها لم يكن لها أن ترجع إلى دار الحرب.
لانها بعد ما صارت ذمية لا تعود حربية بالعتق.
938 - ولو وجد بها عيبا فردها لم يكن له أن يعود بها إلى دار الحرب، ولكن يجبر على بيعها.
لانها صارت ذمية بالشراء، وثبت الملك لمسلم أو ذمى فيها، فكانت بمنزلة أمة ذمية اشتراها المستأمن.
939 - فإن كان باعها من مستأمن مثله فأعتقها المشترى فإن كان من أهل دار البائع، فلها أن تعود إلى دار الحرب كما لو كان البائع أعتقها بنفسه.
لان حالهما (1) سواء (2).
وإن كان المشترى من أهل دار أخرى (3) لم يكن لها أن تعود إلى واحدة من الدارين.
لان تبعية البائع انقطعت بالبيع، وما كان للمشترى أن يخرجها إلى دار نفسه قبل أن يعتقها، فكذلك بعد العتق لا يكون لها أن ترجع إلى داره.
وهذا لان المستأمن إنما يتمكن من إعادة ما أخرجه من داره، وهو ما أخرج هذه الامة
__________
(1) ه " لان لهما سواء ".
(2) إلى جانب هذه الكلمة في الاصل: بلغ قراءة عليه أبقاه الله تعالى ".
(3) ه " دار الحرب ".
*(2/572)
من داره.
وإذا كان هذا الحكم ثابتا في السلاح ففى الآدمى أولى.
وإذا ثبت أنها
احتبست في دارنا كانت بمنزلة الذمية بعد الاعتاق.
وقبل الاعتاق يجبر على بيعها من المسلمين أو من أهل الذمة كما هو الحكم في الذمية.
940 - وإن ردها بعيب على البائع فكذلك الجواب.
لانها بعد ما صارت ذمية باعتبار المعنى الذى قلنا لا تعود حربية.
941 - ولو كان باعها (1) من مسلم فشهد مسلمان أن الحربى كان أعتقها في دارنا قبل أن يبيعها قبلت هذه الشهادة لما فيها من معنى حرمة الفرج، فيبطل البيع ويرد البائع الثمن على المشترى.
فإن أرادت أن تخرج إلى دار الحرب لم تمنع من ذلك.
لان البيع لها ظهر بطلانه، فقد تبين أنها حرة حربية.
فإن قيل: هي تقر بأنها أمة للمسلم، وانه لا سبيل لها إلى الرجوع إلى دار الحرب.
قلنا: نعم.
ولكن القاضى حكم ببطلان إقرارها بذلك، فلا يبقى لاقرارها حكم.
الا ترى أن المشترى مقر أيضا بأن الثمن سالم للبايع لانه كان قبضها، وذلك لا يمنعه من الرجوع بالثمن على البائع لان الحاكم حكم بخلاف زعمه.
942 - ولو لم يبعها الذى أخرجها ولكنه قال: كانت زوجتى فقهرتها (2) وأخرجتها، فهى أمة لى.
فقالت: كنت زوجة له فخرجت معه غير مقهورة.
فالقول قولها.
__________
(1) ب " ابتاعها ".
(2) ه " قهرتها ".
*(2/573)
لان الظاهر شاهد لها.
فإنها خرجت وليس عليها أثر القهر.
ثم يفرق بينهما إن أسلما بإقراره.
فقد أقر أنها صارت أمة له، وذلك مناف للنكاح، وإقراره حجة عليه.
فإن قيل: فقد حكم الامام هنا بأنها حرة فلماذا يعتبر إقراره بعد ذلك في التفريق بينهما ؟ قلنا: لانه حكم بذلك بمجرد قولها (1) ونوع من الظاهر.
(ص 192) وذلك لا يوجب (2) تكذيب المقر لا محالة.
ألا ترى أنه لو أقام البينة على ما ادعى قبلت بينته وقضى بها أمة له، بخلاف ما سبق فقد حكم هناك بحريتها بحجة تامة.
ألا ترى أنه لا تقبل البينة على رقها بعد ذلك.
943 - واستوضح هذا بمسلم تحته مسلمة لم يدخل بها إذا زعم أنها ارتدت من الاسلام وجحدت المرأة ذلك.
فإنه يفرق بينهما بإقراره، ولها نصف الصداق.
لانه غير مصدق عليها في إبطال حقها، وإن كان مصدقا على نفسه، وكذلك في مسألة الحربى.
فإن قال الامام: استحلفها ما كان الامر على ما قلت.
فلا يمين عليها في قياس أبى حنيفة رحمه الله تعالى.
لانه يدعى عليها الرق، وأبو حنيفة لا يرى الاستحلاف في دعوى الرق.
__________
(1) ق " قولهما ".
(2) ق " لا يجب " وفى هامشها " لا يوجب.
نسخة م ".
*(2/574)
وعندهما يستحلفها على ما ادعى من سبب الرق عليها، فإن نكلت قضى بكونها أمة.
لان نكولها بمنزلة إقرارها.
ومن أصلهما القضاء بالنكول في دعوى الرق.
والله أعلم بالصواب (1).
__________
(1) ق " والله الموفق ".
*(2/575)
65 باب من الامان بغير إذن الامام وبعد نهي الامام 944 - وإذا حاصر المسلمون حصنا فليس ينبغى لاحد منهم أن يؤمن (1) أهل الحصن ولا أحدا منهم إلا بإذن الامام.
لانهم أحاطوا بالحصن ليفتحوه، والامان يحول بينهم وبين هذا المراد في الظاهر.
ولا ينبغى لاحد من المسلمين أن يكتسب سبب الحيلولة بين جماعة المسلمين وبين مرادهم، خصوصا فيما فيه قهر العدو.
ولان كل مسلم تجب طاعة الامير عليه (2).
فلا ينبغى أن يعقد عقدا يلزم الامير طاعته في ذلك إلا برضاه.
ولان ما يكون مرجعه إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالامام هو المنصوب للنظر في ذلك.
فالافتيات (3) عليه في ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالامام، ولا ينبغى للرعية أن يقدموا على ما فيه استخفاف بالامام.
945 - فإن فعل ذلك فهو جائز.
لان علة (؟) صحة الامان ثابت ومتكامل في حق كل مسلم، على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " يسعى بذمتهم (4) أدناهم "، وعلى الامام أن يكف عن قتالهم حتى ينبذ إليهم بعد ما يرد هم إلى مأمنهم، وإن كانوا أخرجوا.
__________
(1) ق " أن يؤمنهم ولا أحد منهم " وفى هامشها " أن يؤمن أهل الحصن..نسخة م ".
(2) في هامش ق " ولانه يجب على كل مسلم طاعة الامير..نسخة حصيرى ".
(3) ه " الاقتداء عليه " خطأ، ب " الاقتياب عليه " خطأ، غير منقوطة في ص.
أثبتنا رواية ق.
(4) ق " في ذمتهم " وفى هامشها " بذمتهم.
نسخة م ".
*(2/576)
946 - وإن رأى أن يؤدب الذى آمنهم فعل.
لانه أساء الادب حين (1) فعل ما يرجع إلى الاستخفاف بالامام، ولو لم يؤدبه اجترأ غيره على مثله، وذلك يقدح في السياسية وتدبير الامارة.
إلا أنه إذا آمنهم على وجه النظر منه للمسلمين وظهر ذلك للامام فإنه لا يؤدبه في ذلك.
لانه قصد بفعله توفير المنفعة على المسلمين، فربما تفوتهم تلك المنفعة لو أخره إلى استطلاع رأى الامام.
وفى مثل هذه الحالة يباح له إعطاء الامان.
فإن الواحد منهم إذا قال له سرا: آمنى على أن أدلكم على عوراتهم، أو على أن أفتح لك الحصن، وخاف إن لم يؤمنه أن يفوته ما وعده من ذلك، فلا إشكال أن له أن يؤمنه من غير استئمان الامام.
لان الامان في مثل هذه الحالة يرجع إلى تحصيل مقصود المسلمين، وهو يستوجب الشكر على ذلك لا التأديب، فلا يؤدبه في مثل ذلك الموضع.
947 - ولو أن مسلما آمن واحدا منهم على مئة دينار على أن ينزل من حصنه إلى المعسكر.
فلما قبض الدنانير وجاء به إلى عسكر المسلمين علم به الامام، فقد أساء المسلم في ذلك وأمانه جائز، كما لو فعله بغير عوض.
ثم ينظر الامام في ذلك.
__________
(1) في هامش ق " حيث.
نسخة ".
*(2/577)
948 - فإن كان شرط له المسلم أنه آمن حتى يخرجوا من أرض
الحرب (1) فالامام بالخيار، إن شاء رد الدنانير عليه ورده إلى مأمنه، (ص 193) وإن شاء وفى بما شرط له وأخذ الدنانير فجعلها غنيمة لاهل العسكر.
لان المعطى للامان إنما يمكن من أخذ الدنانير بقوة العسكر، فلا يختص بها ولكن يجعل فعله لذلك كفعل الامير أو فعل (2) جماعة المسلمين.
949 - وإن كان شرط له أن ينزل إلى العسكر فيلقى رجلا في حاجة له، ثم يعود إلى حصنه، فإن الامام يمضى هذا الامان ويجعل الدنانير غنيمة لاهل العسكر.
لان معنى النظر هنا متعين في تنفيذ هذا الامان.
فإنه آمن فينا حتى يعود إلى حصنه، فان رد عليه الدنانير فلا فائدة للمسلمين في ردها بخلاف الاول.
950 - فإن لم يعد إلى حصنه حتى فتح الحصن فهو آمن فينا حتى يبلغ مأمنه من أرض الحرب.
ولا فائدة في رد الدنانير عليه، ولكن لا يتعرض (3) له حتى يصل إلى مأمنه، والدنانير فئ لاهل العكسر.
951 - وكذلك لو كان المسلم آمن أهل الحصن شهرا على مئة
__________
(1) في هامش ق " يخرجوا من أهل الحرب وأرضهم.
نسخة حصر ".
(2) في هامش ق " في جماعة المسلمين.
نسخة حصر ".
(3) ب " لا يعرض ".
*(2/578)
دينار وأخذها منهم، فالامام بالخييار إن شاء رد الدنانير ونبذ إليهم، وإن شاء أجاز أمانه ولم يتعرض لهم حتى يمضى شهر، وأخذ المئة الدنانير (1) فجعلها فيئا للمسلمين.
لان في كل جانب توهم (2) المنفعة عسى، فإنه إن طمع في فتح الحصن قبل مضى شهر فالمنفعة في رد الدنانير، وإن لم يطمع في ذلك فالمنفعة في أخذ الدنانير وإمضاء الامان.
فلهذا يخير الامام في ذلك.
952 - ولو أن الامير أمر مناديا فنادى في العسكر (3): إن من آمن منكم أهل الحصن أو واحدا منهم فأمانه باطل، ثم آمنهم مسلم بجعل أو بغير جعل فأمانه جائز.
لان العلة الموجبة لصحة الامان من المسلم لم تنعدم بهذا النداء.
وولاية الامان لكل مسلم ثابتة شرعا كولاية الشهادة، ولا تنعدم هذه الولاية بنهي الامام.
ثم أهل الحرب لا يعلمون هذا النهى، فلو لم يصلح أمان هذا المسلم بعد هذا النهى رجع إلى الغرور وهو حرام.
إلا أن للامير أن يؤدب الذى آمن بالحبس والعقوبة إن كان لم يؤمنهم على وجه النظر للمسلمين.
لان إساءة الادب ههنا أبلغ منها في الفصل الاول، فإنه جاهر بمخالفة الامام فيستوجب الحبس والعقوبة بهذا.
__________
(1) ب " المئة الدينار ".
(2) ب " يوهم ".
(3) ب " المعسكر ".
*(2/579)
953 - فإن أمر بأن ينادى أهل الحصن أو يكتب إليهم أو يرسل إليهم رسولا: إن آمنكم واحد من المسلمين فلا تغتروا بأمانه، فإن أمانه باطل.
ثم آمنهم رجل فنزلوا على أمانه، فهم فئ.
لا باعتبار أن أمان المسلم لا يصح بعد هذا النهى ولكن لان هذا القول من الامام بمنزلة النبذ إليهم، وكما يصح نبذه إليهم بعد الامان يصح قبل الامان إذ المقصود بالنبذ دفع الغرور، وذلك ينتفى في الوجهين جميعا، إذا كان النبذ لو طرأ على الامان دفع (1) ثبوت حكمه، فإذا اقترن بالامان منع ثبوت حكمه.
بخلاف الاول، فهناك لا علم لاهل الحرب بنهي الامير، والنبذ إليهم لم يتحقق ما لم يعلموا به.
وإنما صح النبذ قبل الامان دفعا (2) للضرر عن المسلمين.
فإنه لو لم يصح ذلك تمكن بعض فساق المسلمين أن يحول بينهم وبين فتح حصونهم بأن يؤمنهم كلما نبذ الامير إليهم مرة بعد مرة، فلا يظفرون (3) بحصن أبدا.
فلدفع هذا الضرر صح النبذ إليهم قبل الامان للاعذار والانذار.
954 - ولو كان قال لهم: لا أمان لكم إن آمنكم رجل مسلم حتى أؤمنكم أنا.
ثم أتاهم مسلم فقال: إنى (4) رسول (ص 194) الامير ليكم، قد آمنكم.
فنزلوا على ذلك.
فهم آمنون.
وإن كان الرجل كذب في ذلك.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل.
فإن قيل: هذا إذا ثبتت الرسالة، فأما إذا كذب فلا يمكن أن تجعل
__________
(1) في هامش ق " منع.
نسخة " وفى ه " رفع ".
(2) ب " منعا ".
(3) في هامش ق " يظهرون.
نسخة ".
(4) ق هامش قال لهم إنى " وفى هامشها " وقال إنى.
نسخة م ".
*(2/580)
عبارته كعبارة الامير، لانه لم يرسله، ولا يمكن تصحيح الامان لهم من جهته، لانه لو قال آمنتكم لا يصح، فينبغي أن يكون أمانه باطلا.
قلنا: نعم.
ولكن حين أخرج الكلام مخرج الرسالة فقد تحقق معنى الغرور، إذ لا طريق لهم إلى الوقوف على حقيقة كلامه أنه صادق في ذلك أو (1) كاذب.
وإذا كان (2) عقله ودينه يدعوه إلى الصدق ويمنعه من الكذب وسعهم أن يعتمدوا على هذا الظاهر، فلو لم يصحح (3) الامان أدى إلى الغرور، بخلاف ما إذا أضاف الامان إلى نفسه.
955 - فإن كان الامير قال لهم: لا أمان لكم إن آمنكم مسلم وأتاكم برسالة منى، حتى آتيكم أنا فأؤمنكم بنفسى.
والمسألة بحالها فهم فئ.
لان هذا بمنزلة النبذ لكل أمان إليهم إلا أمانا يسمعونه من لسانه.
ولان دفع الضرر عن المسلمين واجب، ولا طريق للامير في دفع الضرر عنهم إلا ما فعله من التقدمة (4) إليهم، فلو لم يصحح ذلك (5) أدى إلى أن يتمكن الفاسق من إفساد (6) الجهاد على المسلمين، وذلك لا يجوز.
إلا أن في هذا الفصل إن كان الامير هو الذى أرسل إليهم ليبلغهم الامان ففعل فهم آمنون.
لان عبارة الرسول كعبارة المرسل، فكأنه آمنهم بنفسه، وهو بما تقدم إليهم قصد أن يمنعهم من الاعتماد على خبر من يزعم أنه رسول، كاذبا (7)، ولا يمنعهم من الاعتماد على خبر من يرسله إليهم حقيقة، ولانه إنما أبطلنا الخبر إذا كان
__________
(1) ق " أم " (2) ق هامش " وإنما عقله.." وفى هامشها " وإذا كان عقله.
نسخة ميرزا زاده ".
(3) ق " يصح ".
(4) ه " التقديم "، ق " التقدم " وفى هامشها " التقدمة.
نسخة ".
(5) في ه وحدها " يصحح ذلك الفعل..".
(6) ه " فساد ".
(7) ب " كاذب ".
*(2/581)
الرسول كاذبا لدفع الضرر عن المسلمين، وهذا لا يوجد فيما إذا كان الرسول صادقا.
يوضحه: أنه إذا أرسل إليهم بعد تلك المقالة، فذلك رجوع منه (1) عن تلك المقالة، ورجوعه صحيح.
ألا ترى أنه لو قال لهم: إذا آمنتكم فأماني باطل.
ثم (2) آمنهم بعد ذلك كان ذلك أمانا صحيحا.
باعتبار أن هذا رجوع عما قاله لهم (3)، وذلك القول ما كان ملزما إياه شيئا فيصح رجوعه عنه.
956 - ولو أن مسلما وادع أهل الحرب سنة على ألف دينار جازت موادعته، ولم يحل للمسلمين أن يغزوهم، وإن قتلوا واحدا منهم غرموا ديته.
لان أمان الواحد من المسلمين بمنزلة أمان جماعتهم.
957 - وإن لم يعلم الامام بذلك حتى مضت سنة (4) أمضى موادعته وأخذ المال فجعله في بيت المال.
لان منفعة المسلمين متعينة في إمضاء الموادعة بعد مضى المدة.
فهو بمنزلة العبد المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل، فإنه ينفذ العقد وتكون (5) الاجرة للمولى.
وإن كان لو علم به المولى قبل مضى المدة كان متمكنا من فسخ الاجارة.
__________
(1) في هامش ق " منهم.
نسخة ".
(2) ق " فآمنهم " وفى هامشها " ثم آمنهم بعد ذلك.
نسخة م ".
(3) لا توجد في ق.
وفى هامشها " قاله لهم.
نسخة ".
(4) ق " السنة " وفى هامشها " سنة.
نسخة ".
(5) ه " يكون ".
*(2/582)
ثم إنما أخذ هذا المال منهم بقوة المسلمين، فإن خوف أهل الحرب من جماعة الملسمين لا من واحد منهم فلهذا يأخذ المال منهم فيجعله في بيت المال معدا لنوائب المسلمين.
958 - وإن علم بموادعته قبل مضى السنة، فإنه ينظر في ذلك.
فإن كانت المصلحة في إمضاء تلك الموادعة أمضاها وأخذ المال فجعله في بيت المال.
لان له أن ينشى ء الموادعة بهذه الصفة إذا رأى المصلحة فيها، فلان يمضيها كان أولى.
وإن رأى المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم وقاتلهم.
لان أمان المسلم كان صحيحا والتحرز عن الغدر واجب.
959 - فإن كان مضى نصف السنة (ص 195)، ففى القياس يرد نصف المال ويمسك النصف (1) للمسلمين.
اعتبارا للبعض بالكل وقياسا للموادعة، في مدة معلومة بعوض معلوم.
وقياسا على الاجارة.
وهناك إذا انفسخ العقد في بعض المدة يسقط من الاجر بحساب ما بقى، ويتقرر بحساب ما مضى.
وفى الاستحسان يرد المال كله.
لانهم ما التزموا المال إلا بشرط (2) أن يسلم لهم الموادعة في جميع المدة،
__________
(1) ق " نصفه " وفى هامشها " النصف.
نسخة ".
(2) ب " لانهم إنما التزموا المال بشرط..".
*(2/583)
والجزاء إنما يثبت باعتبار الشرط جملة، ولا يتوزع على أجزائه.
وكلمة على، للشرط حقيقة (1).
والموادعة في الاصل ليست من عقود المعاوضات، فجعلنا هذه الكلمة فيها عاملة بحقيقتها.
فإذا لم يسلم لهم الموادعة سنة كاملة وجب رد المال كله عليهم.
وهذا لانه ربما يكون خوفهم من بعض المدة دون البعض، فانهم يأمنون في الشتاء أن يأتيهم العدو، وإنما يخافون ذلك في الصيف.
فإذا نبذ إليهم في وقت خوفهم، ومنعهم بعض المال، لم يحصل شئ من مقصودهم بهذا الشرط، وذلك يؤدى إلى الغرور، فلهذا يرد المال إن (2) نبذ إليهم قبل مضى المدة.
960 - وإن كانوا وادعوه ثلاث سنين، كل سنة بألف دينار، وقبض المال كله، ثم أراد الامام نقض الموادعة بعد مضى سنة (3) فإنه يرد عليهم الثلثين.
لان الموادعة كانت هاهنا بحرف الباء، وهو يصحب الاعواض، فيكون المال عوضا، فينقسم على المعوض باعتبار الاجزاء، كيف وقد فرق العقود ههنا بتفريق التسمية حيث قال: كل سنة بألف دينار.
بخلاف الاول فهناك العقد واحد في جميع السنة، والمال مذكور بحرف على، وهو حرف الشرط.
فإن قيل: أليس أن في الاجارة بين أن يقرن بالبدل حرف الباء أو حرف على في أنه يتوزع البدل على المدة، وكذلك في باب البيع، فلماذا فرق بينهما هنا ؟ قلنا: لان البيع والاجارة معاوضة باعتبار الاصل، ولا يحتمل التعليق بالشرط، وأما الموادعة فليست بمعاوضة باعتبار الاصل، وإنما تصير معاوضة
__________
(1) ق " للشرط في الحقيقة " وفى هامشها " على للشرط حقيقة.
نسخة م ".
(2) ب " إذا ".
(3) ق " السنة " ه، ب وفى هامش ق " سنة.
نسخة م ".
*(2/584)
عند التصريح بحرف الباء الذى يصحب الاعواض، وهى تحتمل التعليق بالشرط.
فإذا ذكر فيها حرف الشرط كان محمولا على الشرط حقيقة.
وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة فيما إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثا على ألف درهم.
فطلقها واحدة، أنه لا يجب شئ من المال، بخلاف ما إذا قالت بألف درهم.
لان الطلاق يحتمل التعليق بالشرط ليس بمعاوضة، باعتبار الاصل، فيفصل فيه بين حرف الباء وعلى كما في الامان.
ولكنهما قالا: الخلع معاوضة.
وما هو المقصود لها - وهو زوال ملكه عنها - يحصل بالواحدة (1)، فرجحنا معنى المعاوضة فيه بخلاف الامان على ما قررنا.
961 - ولو حاصر المسلمون حصنا فقال أميرهم لاهل الحصن: إنى لعلى أن أؤمنكم، فمتى آمنتكم فأماني باطل.
أو قال: فلا أمان لكم.
أو: فقد نبذت إليكم.
ثم آمنهم.
فأمانه باطل كما قال.
لانه بين لهم على وجه انتفى شبهة الغرور من كل وجه.
وهو بما تقدم من الكلام يصير كأنه نبذ إليهم الامان الذى يكون منه.
فإن قيل: لماذا لم يجعل إقدامه على الامان رجوعا عن تلك المقالة كما في المسألة المتقدمة ؟ قلنا: هناك في الوضع زيادة هو أنه آمنهم بعد مقالته وقال: قد أبطلت قولى لكم انه لا أمان لكم.
فهذا البيان يظهر أنه رجوع.
فأما هنا فليس في
كلامه ما يدل على الرجوع عن المقالة الاولى بل ما يدل على تحقيقها.
ألا ترى أنه لو قال لهم: إنى أقاتل أهل هذا الحصن معكم، وقد دعوتهم إلى أن أؤمنهم فلم يجيبوني.
فأنا أريد أن أظهر لكم الامان، لعلى (ص 196)
__________
(1) ق، ب، ه " بالواحدة هناك.
".
*(2/585)
إذا دعوتهم اجابوني.
وهذا الامان الذى أظهره لكم باطل وزور فلا تغتروا به.
ثم آمنهم كان ذلك باطلا.
وهذا لان الامان مما يحتمل النقض، فإذا أعلمهم أن تكلمه به باطل ثم تكلم بعد ذلك فهو بمنزلة من لم يتكلم به.
ونظائر هذا في (1) فصول التلجئة (2) في البيع وغيره.
وقد بيناه في كتاب الاكراه والاقرار.
وذكر بعد هذا باب النزول على الحكم وقد بينا تمام الشرح هذا الباب فيما أمليناه من شرح الزيادات.
__________
(1) في هامش الاصل إلى جانب هذه الكلمة " بلغ قراءة عليه أبقاه الله تعالى ".
(2) في حاشية ه " التلجئة أن يلجئك إلى أن تأتى أمرا باطنه خلاف ظاهره.
مغرب ".
*(2/586)
66 - باب الحكم في أهل الحرب إذا نزلوا على حكم رجل من المسلمين (1) 962 - قال: وإذا نزل أهل الحصن (2) قد حوصروا فيه على حكم رجل من المسلمين فذلك جائز لقوله عليه السلام: ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم احكموا فيهم ".
ولان الروايات اختلفت في نزول بنى قريظة على الحكم.
فذكر بعض أهل المغازى أنهم نزلوا على حكم
سعد بن معاذ رضى الله عنه ابتداء - فإن النبي عليه السلام لما حاصرهم خمس عشرة ليلة وكان قال لهم في الابتداء - حين أخبره على رضى الله عنه إنهم يسبونه -: يا إخوة القردة والخنازير ! أتسبونني ؟ انزلوا على حكم الله وحكم رسوله.
فقالوا: لا يا أبا القاسم ! ما كنت فحاشا.
ثم لما طال عليهم الامر (3) عرض عليهم أن ينزلوا على حكم من شاءوا من المسلمين.
وكانوا حلفاء (4) الاوس قبل مبعث رسول الله.
(5)
__________
(1) عنوان هذا الباب في ه " باب من نزول أهل الحصن على حكم من شاءوا من المسلمين ".
(2) ق، ه " الحصن " وفى هامش ق " أهل حصن.
نسخة ".
(3) ه، ق " لما طال الامر " ب " لما طال الامر عليه ".
(4) ق " خلفاء " خطأ (5) ق " مبعث النبي..".
*(2/587)
وكان سعد بن معاذ سيد الاوس، فرضوا بالنزول على حكمه [ (1) رجاء أن يحسن إليهم لما كان بينه وبينهم في الجاهلية.
فأنزلهم رسول الله على حكمه ].
فهذا يدل على أنه لا بأس بأن ينزلهم على حكم رجل من المسلمين.
والاشهر أنهم نزلوا على حكم رسول الله عليه السلام.
ثم جعل رسول الله عليه السلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ برضاهم.
فإنما فعل ذلك لان الانصار أحاطوا برسول الله فكلموه في شأنهم على سبيل الشفاعة.
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة قلوبهم فقال: ألا ترضون أن يحكم فيكم رجل منكم ؟ قالوا: نعم.
قال: فذاك إلى سعد
ابن معاذ.
وإنما جعل ذلك إليه لانه كان أصابه سهم يوم الخندق فقطع أكحله.
وكان لا يرقأ الدم.
فدعا وقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لذلك.
فلا شئ أحب إلى من قتال قوم أخرجوا رسولك من بين أظهرهم.
وإن لم تبق من ذلك شيئا فاجعل هذا سبب شهادتى، ولا تمتنى حتى تقر عينى في بنى قريظة.
فلما دعا بذلك رقأ الدم.
وإنما تكلم بهذا الدعاء لانه كان أتى بنى قريظة بأمر رسول الله
__________
(1) ما بين [ ] لا يوجد في الاصل.
وهو في جميع النسخ.
*(2/588)
صلى الله عليه وسلم مع جماعة من رؤوس الانصار حين أخبر أنهم نقضوا العهد ليدعوهم إلى تجديد العهد.
فأغلظوا له القول وشتموه.
فانصرف عنهم وهو يقول: أتشتموني ؟ بيننا وبينكم أهم من الشتم (1) وهو السيف.
فلما هزم الله الاحزاب وحاصر المسلمون بنى قريظة دعا هو بهذا الدعاء.
فلما نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله جعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ، وهو كان مريضا في مسجد رسول الله.
فأتاه الانصار وحملوه على حمار ليأتوا به معسكر رسول الله.
فجعلوا يكلمونه في الطريق ويقولون: حلفاؤك ومواليك، أمكنك الله منهم فأحسن إليهم.
وقد علمت أن رسول الله عليه السلام يحب الاحسان والابقاء (2).
وقد علمت ما فعل عبدالله بن أبى في تخليص حلفائه من بنى قينقاع، وأنت أحق بذلك منه.
فلما أكثروا من ذلك مسح لحيته بيده وقال: لقد آن لسعد
أن لا يأخذه في الله لومة لائم.
فقالوا فيما بينهم: هلكت قريظة والله.
فانصرفوا عنه إلى مجلس رسول الله.
فلما أتى سعد إلى مجلس رسول الله قال للانصار: قوموا لسيدكم (ص 197)، فأنزلوه.
فلما جلس بين يدى رسول الله قال: قد جعلت الحكم فيهم إليك فاحكم فيهم.
__________
(1) ق، ه " أهم من هذا الشتم ".
(2) ق، ه، ب " الايفاء ".
*(2/589)
فأقبل سعد عليهم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت.
قالوا: نعم.
ثم قال للناحية التى فيها رسول الله عليه السلام، وهو معرض إجلالا لرسول الله،: وعلى من هنا بمثل ذلك.
فقال رسول الله ومن معه: نعم.
قال سعد: فإنى حكمت فيهم بأن تقتل الرجال، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الاموال.
فقال عليه السلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، أي سبع سموات.
وهكذا روى في بعض الروايات.
ففى هذا دليل أنهم إذا نزلوا على حكم رجل فجعل الحكم إلى غيره برضاهم انه يجوز، وليس له أن يجعل إلى غيره بغير رضاهم، لان سعدا أخذ عليهم العهد بين يدى رسول الله عليه السلام ليسترضيهم بذلك، ولم ينكر ذلك عليه رسول الله عليه السلام.
وهذا لان الناس يتفاوتون في الرأى، وهذا الحكم مما يحتاج فيه إلى الرأى.
فرضاهم بحكم شخص لا يكون رضا بحكم شخص آخر، حتى إذا جعله إلى غيره بغير رضاهم فحكم بشئ لم ينفذ حكمه، إلا أن يجيزه المحكم (1) الاول بعد ما يعلم به، فحينئذ ينفذ.
لان اجازته بمنزلة
انشائه.
ولانه إنما تم الحكم برأيه وقد رضوا بذلك.
ثم ان حكم المحكم فيهم بأن يقتل المقاتلة أو بأن يجعلوا ذمة أو بأن يجعلوا فيئا فذلك كله نافذ، استدلالا بما حكم به سعد.
وذكر في بعض الروايات أن سعدا حكم يومئذ بأن يقتل من جرت عليه الموسى.
وبه يستدل من يقول بأن البلوغ باعتبار نبات العانة.
ولسنا نقول بهذا.
__________
(1) ق " الحكم " وفى هامشها " المحكم.
نسخة م ".
*(2/590)
لان نبات العانة يختلف فيه أحوال الناس.
ألا ترى أن ذلك يبطئ في الاتراك ويسرع في الهنود.
فلا يمكن أن يجعل حكما.
وتأويل هذا أنه علم باخبار رسول الله إياه من طريق الوحى ان ذلك علامة بلوغ بنى قريظة.
وإنما حكم بذلك لان من جرت عليه الموسى منهم كان مقاتلا.
وإنما حكم بقتل مقاتلهم.
والمقاتل يقتل بالغا كان أو غير بالغ.
ولكن الاول أصح لان غير البالغ إنما يقتل قبل الاسر إذا قاتل، فأما بعد ما أسر فلا يقتل.
ثم ذكر: أنه لما حكم فيهم سيقوا حتى حبسوا في دار بنت الحارث النجارية وأمر بهم أن يكتفوا.
وهكذا ينبغى أن يصنع بالاسراء.
قال الله تعالى (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) (1).
قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنى قريظة حتى قتل من قتل منهم في يوم صائف.
وسمى ممن قتل منهم بين يدى رسول الله
في المغازى: حيى بن أخطب، وكعب بن أسيد، وجماعة.
فلما انتصف النهار قال النبي عليه السلام، لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح.
قيلوهم واسقوهم حتى يبردوا.
ثم اقتلوا من بقى منهم.
وفى المغازى ذكر أن رسول الله عليه السلام قام وقال لسعد بن معاذ: شأنك ومن بقى منهم.
وكان الذين يلون قتلهم على بن أبى طالب والزبير بن
__________
(1) سورة محمد، 47، الآية 4.
*(2/591)
العوام.
فقتلوا عند موضع دار ابن أبى الجهم (1).
فسالت دماؤهم حتى بلغ أحجار الزيت (2).
ولم يبين في الكتاب عدد من قتل منهم.
وقد اختلفت الروايات فيه.
فأظهر الروايتين أنهم قتلوا سبع مئة رجل منهم.
وقال مقاتل: قتلوا أربع مئة وخمسين.
وكان عدد السبى ست مئة وخمسين.
فكان كل من يشك في أمره يكشف عن عانته، على ما قال عطية القرظى: شكوا في أمرى يومئذ فكشفوا عن عانتي، فإذا أنا لم أنبت، فجعلونى (ص 198) في الذرية.
وذكر عن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى أمراء الاجناد أن اقتلوا من جرت عليه الموسى، ولا تسبوا إلينا من العلوج أحدا.
وإنما نهى عن ذلك على سبيل النظر للمسلمين حتى لا يقصدوهم بسوء.
ألا ترى أنهم حين لم يبالغوا في مراعاة نهيه ابتلى بمثل ذلك فقتله أبو لؤلؤة (3) وكان نصرانيا وكان مجوسيا (4) ؟ وذكر عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: عرضت على رسول الله يوم أحد وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني.
ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني في المقاتلة.
وإنما أورد هذا مستدلا به على أنه لا يحكم في البلوغ نبات العانة، وإنما يعتبر فيه العلامة بالاحتلام، أو بأن يتم له خمس عشرة سنة، في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله.
وفى قول أبى حنيفة رحمه الله ثمان عشرة سنة في رواية وتسع عشرة سنة في رواية.
وقد بينا هذه المسألة في كتاب الطلاق.
تم أبواب الامان بحمد الله وتوفيقه.
آمننا الله من النار وأسكننا دار القرار (5).
__________
(1) ه، ق " عند موضع دار ابى الجهم " وفى هامش ق " عند دار ابى الجهم، نسخة م " (2) موضع بالمدينة قريب من الزوراء.
وهو موضع صلاة الاستسقاء (معجم البلدان).
(3) في هامش ص " قاتل عمر ".
(4) قوله " وكان نصرانيا " لا توجد في سائر النسخ.
(5) قوله " آمننا بالله.." لا يوجد في ه، ب.
وبهذا الباب ينتهى الجزء الاول من ه.
*(2/592)
67 أبواب الانفال (1) 963 الانفال الغنائم في أصل الوضع.
وأصلها نفل.
ومنه قول القائل.
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثى والعجل (2) وقال الله تعالى (يسألونك عن الانفال) (3) أي الغنائم.
وسبب نزول الآية ما روى عن عبادة بن الصامت قال: ساءت أخلاقنا يوم بدر فحرمنا.
فقيل: وكيف ساءت أخلاقكم ؟ قال: لما هزم الله العدو افترقنا ثلاث فرق: فرقة كانوا حول رسول الله، عليه السلام، يحرسونه.
وفرقة اتبعوا المنهزمين.
وفرقة جمعوا الاموال.
ثم ادعت كل فرقة أنها أحق بالغنائم.
فاجتمعنا عند رسول الله، عليه السلام، وارتفعت أصواتنا، ورسول الله ساكت.
فأنزل الله تعالى في تلك الحالة (يسئلونك عن الانفال.
قل: الانفال لله والرسول.
الآية) (3).
__________
(1) ب، ق، ه، " باب الانفال ".
(2) الببت للبيد.
انظر اللسان.
(3) سورة الانفال، 8، الآية 1.
*(2/593)
والمراد في استعمال لفظ الانفال في عبارة الفقهاء ما يخص به الامام بعض الغانمين.
فذلك الفعل يسمى منه تنفيلا، وذلك المحل (1) يسمى نفلا.
964 ولا خلاف أن التنفيل جائز قبل الاصابة، للتحريض على القتال.
فإن الامام مأمور بالتحريض.
قال الله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) (2) فهذا الخطاب لرسول الله ولكل من قام مقامه.
والتحريض بالتنفيل.
فإن الشجعان قل ما يخاطرون بأنفسهم إذا لم يخصوا بشئ من المصاب.
فإذا خصهم الامام بذلك فذلك يغريهم على المخاطرة بأرواحهم وإيقاع أنفسهم في حلبة العدو (3).
وصورة هذا التنفيل أن يقول: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أخذ أسيرا فهو له.
كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم المنادى حين نادى يوم بدر ويوم حنين.
أو يبعث سرية فيقول: لكم الثلث مما تصيبون بعد الخمس.
أو يطلق بهذه الكلمة.
فعند الاطلاق لهم ثلث المصاب قبل أن يخمس يختصمون به، وهم شركاء الجيش فيما بقى بعد ما يرفع منه
الخمس.
وعند التنفيل بهذه الزيادة يخمس ما أصابوا، ثم يكون لهم الثلث مما بقى يختصون به، وهم شركاء الجيش فيما بقى.
ولا يستحق القاتل بدون تنفيل الامام عندنا.
__________
(1) ه " المال ".
(2) سورة الانفال، 8، الآية 65.
(3) الحلبة بالفتح والتسكين خيل تجمع للسباق من كل أوب (الصحاح).
*(2/594)
وعلى قول الشافعي من قتل مشركا على وجه المبارزة وهو مقبل غير مدبر استحق سلبه، وإن لم يسبق التنفيل من الامام.
لان قول رسول الله عليه السلام من قتل قتيلا فله سلبه، لنصب الشرع.
ومثل هذا الكلام في لسان صاحب الشرع لبيان السبب كقوله " من بدل دينه (ص 199) فاقتلوه ".
965 ولكنا نقول هذا لو أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة بالمدينة بين يدى أصحابه.
ولم ينقل أنه قال هذا إلا بعد تحقق الحاجة إلى التحريض.
فإن مالك بن أنس قال: لم يبلغنا أن النبي عليه السلام قال في شئ من مغازيه " من قتل قتيلا فله سلبه " إلا يوم (1) حنين.
وذلك بعد ما انهزم المسلمون (2) ووقعت الحاجة إلى تحريضهم ليكروا (3)، كما قال تعالى (ثم وليتم مدبرين) (4).
وذكر محمد بن إبراهيم التيمى أنه قال: ذلك يوم بدر أيضا.
وقد كانت الحاجة إلى التحريض يومئذ معلومة، فإنهم كانوا كما وصفهم الله تعالى به في قوله (وأنتم أذلة) (5).
فعرفنا انه انما قال ذلك بطريق التنفيل للتحريض، لا بطريق نصب الشر وأيد ما قلنا ما ذكره عبدالله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله
عليه وسلم محاصرا وادى القرى (6)، فأتاه رجل فقال: ما تقول في الغنايم ؟
__________
(1) ه، ب، ق " الا في موضع يوم..".
(2) في هامش ق " بعد انهزام المسلمين، نسخة م ".
(3) ب " ليكثروا " وقد ضبطها في ق بضم الكاف وذكر في الهامش " وفى رواية بالكسر.
نسخة م ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 25 (5) سورة آل عمران، 3 الآية 123 (6) أنظر عنه معجم البلدان (أوربة) 4: 878 *(2/595)
فقال: لله سهم ولهؤلاء أربعة.
قال: فالغنيمة يغنمها الرجل ؟ قال: إن رميت في جنبك بسهم فاستخرجته فلست بأحق به من من أخيك المسلم.
فهذا دليل ظاهر على أن القاتل لا يستحق السلب بدون التنفيل.
وعلى هذا القول اتفق أهل العراق وأهل الحجاز.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا نفل بعد إحراز الغنيمة.
وهو مذهب أهل العراق والحجاز.
وأهل الشام يجوزون التنفيل بعد الاحراز.
وممن قال به الاوزاعي.
وما قلنا دليل على فساد قولهم.
لان التنفيل للتحريض على القتال وذلك قبل الاصابة لا بعدها.
ولان التنفيل لاثبات الاختصاص (1) ابتداء، لا لابطال حق ثابت للغانمين، أو لابطال حق ثابت في الخمس لاربابها.
وفى التنفيل بعد الاصابة إبطال الحق.
966 والدليل على أنه لا يجوز ذلك حديث الحسن أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زماما من شعر من المغنم.
فقال: ويلك ! سألتنى زماما من نار مرتين أو ثلاثا (2) والله ما كان لك أن تسألينه، وما كان لى أن أعطيكه (3).
__________
(1) ق " التخصيص، أي الاختصاص ابتداء " وفى هامشها " الاختصاص ابتداءه نسخة حصر " (2) ق " ثلاثة ".
(3) ه " أعطيك ".
*(2/596)
وعن مجاهد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبة (1) من شعر أخذه من المغنم فقال: هب لى هذه.
فقال: أما نصيبي منها فلك.
وعن أبى الاشعث الصنعانى قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام ومعه زمام من شعر.
فقال: مر لى بهذا الزمام، فإنه ليس لراحلتي زمام.
فقال: سألتنى زماما من نار.
مالك أن تسألينه ومالى أن أعطيكه.
فرمى به في المغنم.
ولو جاز التنفيل بعد الاصابة لما حرمه رسول الله عليه السلام ذلك مع صدق حاجته.
والذى روى (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل بعد الاحراز فإنما يحمل على أنه أعطى ذلك من الخمس بعض المحتاجين باعتبار أنه من المساكين.
أو أعطى ذلك من سهم نفسه من الخمس أو الصفى (3) الذى كان له على ما قال: " لا يحل من غنائمكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ".
أو أعطى مما أفاء الله عليه لا بإيجاف الخيل والركاب، كأموال
بنى النضير.
فقد كانت (4) خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى (ما أفاء ألله على رسوله.
الآية) (5).
__________
(1) ه، ق، ب، " بكثبة ".
وفى هامش ق " بكبة.
نسخة م ".
(2) ق، ب " يروى ".
(3) ق " الصفا " وفى هامشها " من الصفى.
نسخة م ".
(4) في هامش ق " فانها كانت.
نسخة م ".
(5) سورة الحشر، 59، الآية 6.
*(2/597)
أو أعطى ذلك من غنايم بدر.
فقد كان الامر فيها مفوضا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (قل الانفال لله والرسول) (1) ثم انتسخ ذلك بقوله (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فان لله خمسه).
الآية (2).
وذكر 967 عن موسى بن سعد (3) بن يزيد أو زيد (ص 200) قال: نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: من قتل قتيلا فله سلبه، وما أخذوا بغير قتال، قسمه بينهم عن فواق (4).
يعنى على سواء.
وهكذا ذكر عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لما نزلت الآية (يسألونك عن الانفال إلى قوله لكارهون) فقسمها بينهم بالسواء.
وقد اتفقت الروايات على أنه أعطى كل قاتل سلب قتيله يومئذ على ما ذكر عن عاصم بن عمرو بن قتادة قال: أخذ على سلب الوليد ابن عتبة، وأخذ حمزة سلب عتبة، وأخذ عبيدة بن الحارث سلب شيبة
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 1.
(2) سورة الانفال، 8، الآية 41.
(3) ه، ب، ق "..سعد بن زيد ".
وفى التقريب " موسى بن سعد أو سعيد " انظر حاشية ه.
(4) في هامش ق " قسم الغنائم يوم بدر عن فواق، أي قسمها في قدر من فواق الناقة وهو قدر ما بين الحلبتين من الراحة.
بضم الفاء وتفتح.
وقيل أراد التفضيل في القسمة كأن جعل بعضهم أفوق من بعض على قدر عنائهم وبلائهم.
نهاية ".
*(2/598)
فدفعه إلى ورثته.
وكان عبيدة قد جرح فمات في ذات أجدال بالصفراء (1) قبل أن ينتهى إلى المدينة.
وهو اسم موضع.
968 واختلفت الروايات في قاتل أبى جهل.
فروى عن عبدالرحمن بن عوف قال: كنت يوم بدر بين شابين حديث أسنانهما أحدهما معوذ بن عفراء والآخر معاذ بن عمرو بن الجموح فقال لى أحدهما: أي عم أتعرف أبا جهل ؟ قلت: وما شأنك به ؟ قال: بلغني أنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو لقيتة لما فارق سوادى سواده، حتى يموت الاعجل منا موتا، وغمزني الآخر إلى مثل ذلك.
ثم لقيت أبا جهل وهو يسوى صف المشركين.
فقلت: ذاك صاحبكما الذى تريدانه.
فابتدراه بسيفيهما فقتلاه.
وجاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كل واحد منهما: أنا قتلته فلى سلبه.
فقال عليه السلام: أمسحتما سيفكما ؟ فقالا: لا.
فقال: أرياني سيفكما.
فأرياه فقال: كلا كما قتله.
ثم أعطى السلب معوذ بن عفراء.
وذكر في المغازى أنه انما خصه لانه رأى أثر الطعان على سيفه فعلم أنه
هو القاتل وأنه أعانه الآخر.
__________
(1) الصفراء: واد من ناحية المدينة كثير النخل والزرع، في طريق الحاج، بينه وبين بدر مرحلة (معجم البلدان) وورد في حاشية ه أن ذات اجدال، بالجيم والحاء، دار في طريق مكة (المغرب).
*(2/599)
وروى أنه بعث إلى عكرمة بن أبى جهل فسأله: من قتل أباك ؟ فقال: الذى قطعت أنا يده.
وإنما كان قطع يد معوذ بن عفراء من المنكب.
وأشهر الروايتين أنه أثخنه على بن أبى طالب رضى الله عنه، وأجهز عليه ابن مسعود.
على ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: كنت أفتش القتلى يوم بدر لابشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أراه مقتولا منهم.
فرأيت أبا جهل صريعا وبه رمق، فجلست على صدره، ففتح عينيه وقال: يا رويعى الغنم، لقد ارتقيت مرتقى عظيما.
فقلت: الحمد لله الذى مكنني من ذلك.
فقال: لمن الدبرة ؟ فقلت: لله ولرسوله.
فقال: ماذا تريد أن تصنعه ؟ فقلت: أحز رأسك.
فقال: خذ سيفى فهو أمضى لما تريد، واقطع رأسي من كاهلى ليكون أهيب في عين الناظر.
وإذا رجعت إلى محمد فأخبره أنى اليوم أشد بغضا له مما كنت من قبل.
فقال: قطعت رأسه وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبى جهل.
فقال عليه السلام: الله أكبر، هذا فرعونى وفرعون أمتى.
كان شره على وعلى أمتى أعظم من شر فرعون على موسى وأمته، ثم نفلني سيفه.
زاد في بعض الروايات: وأخبرته بما قال، فقال: إنه كفر في الدنيا وعند موته، وسيكفر في النار أيضا.
قيل: وكيف يا رسول الله ؟ قال: إذا دخل النار جعل ينظر ويقول(2/600)
لاصحابه: أين محمد وأصحابه ؟ فيقال له: هم في الجنة.
قال: كلا، إنما كان اليوم يوم زحمه (1) (ص 201) فهربوا.
والروايات متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ابن مسعود سيفه.
وفى بعض الروايات أيضا أعطاه سلبه.
فإن صح هذا فإنما يحمل على أن الذى جرحه ما أثخنه، فيكون قاتله من قطع رأسه.
وإن كان الصحيح أنه أعطى سلبه غير ابن مسعود فانما يحمل على أن الاول كان أثخنه وصيره بحال يعلم أنه لا يعيش ولا يتصور منه القتال، فيكون السلب له دون من قطع رأسه.
وإنما أعطى سيفه ابن مسعود لان التدبير في غنايم بدر كان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بينا.
وبهذا يستدل من يجوز التنفيل بعد الاصابة فإنه يقول: أعطاه سيفه على طريق التنفيل.
وهذا ضعيف لان ما كان مستحقا لغيره بالتنفيل لا يجوز أن ينفله الامام لغيره، كيف وقد روى أنه كان على سيفه فضة ؟ وعلى قول أهل الشام لا نفل في ذهب ولا فضة، على ما بينه، وإن كان هذا تنفيلا، فهو حجة لنا عليهم.
969 وذكر عن أبى قتادة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه.
وتمام هذا الحديث أن أبا قتادة قال: كان للمسلمين جولة يوم حنين.
فلقيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين.
فأتيته من ورائه وضربت على حبل عاتقه ضربة، فتركه وأقبل على فضمني إلى نفسه ضمة شممت منها ريح الموت.
ثم أدركه الموت فأرسلني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: من قتل قتيلا وله عليه بينة فله سلبه.
فقلت: من يشهد لى ؟ فقال رجل: صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه عنى.
__________
(1) في ص، ب، ه.
" رحمه " أثبتنا رواية ق.
*(2/601)
فقال أبو بكر لا ها الله ! (1) أيعمد (2) أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله ثم يعطيك سلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق أبو بكر.
وأعطاني سلبه.
970 وذكر عن ابن عباس رضى الله عنه قال: لا مغنم حتى يخمس، ولا نفل حتى يقسم جفة.
أي جملة.
وإنما أراد بهذا نفى التنفيل بعد الاصابة، نفى اختصاص واحد من الغانمين بشئ قبل الخمس بغير تنفيل.
وهو مذهبنا.
971 وذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: لا نفل في أول الغنيمة، ولا بعد الغنيمة، ولا يعطى من الغنايم إذا اجتمعت إلا راع أو سائق أو حارس (3) غير محابى.
ومعنى قوله لا نفل في أول الغنيمة أي بعد الاصابة: لا ينبغى للامام أن ينفل أحدا شيئا قبل رفع الخمس ولا بعد رفع الخمس.
وقيل معناه لا ينبغى له أن ينفل في أول اللقاء قبل الحاجة إلى التحريض، لان الجيش في أول اللقاء يكون لهم نشاط في القتال فلا تقع الحاجة إلى التحريض، فأما بعد ما طال الامر وقل نشاطهم فتقع الحاجة إلى التحريض، فينبغي أن يكون التنفيل عند ذلك.
فلا ينبغى أن ينفل بعد الاصابة.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل
__________
(1) في هامش ق " أي لا والله.
حصري ".
(2) ه " إذا لا يعمد ".
(3) ه " حارث ".
*(2/602)
في البداءة الربع وفى الرجعة الثلث.
فأهل الشام حملوا هذا على التنفيل بعد الاصابة، وليس كما ظنوا، بل المراد به أنه كان ينفل أول السرايا الربع، وآخر السرايا الثلث لزيادة الحاجة إلى التحريض.
فان أول السرايا يكونون ناشطين في القتال (ص 202) فلا يحتاجون إلى الامعان في طلب العدو، وآخر السرايا قد قل نشاطهم ويحتاجون إلى الامعان في الطلب.
فلهذا زاد فيما نفل لهم.
وأما الراعى والسائق والحارس فهم أجراء يعطيهم الامام أجرهم باعتبار عملهم للمسلمين.
وهو معنى قوله غير محابى، فإنما يعطيهم الاجر بقدر عملهم، وليس ذلك من النفل في شئ.
972 وذكر عن خالد بن الوليد وعوف بن مالك أنها كانا لا يخمسان الاسلاب.
وعن حبيب بن مسلمة ومكحول أن السلب مغنم وفيه الخمس.
وهكذا روى عن ابن عباس رضى الله عنهما.
وإنما يؤخذ بقول هؤلاء لقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ) (1).
والسلب من الغنيمة.
وتأويل ما نقل عن خالد وعوف إذا تقدم التنفيل من الامام لقوله " من قتل قتيلا فله سلبه ".
وعندنا في هذا الموضع لا يخمس السلب.
فأما بدون التنفيل يخمس، على ما روى عن مكحول أن البراء
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 41 *(2/603)
ابن مالك أخو أنس بن مالك قتل مرزبان الزارة (1) وأخذ سلبه مذهبا بالذهب مرصعا بالجواهر تبلغ قيمته أربعين ألفا.
فكتب صاحب الجيش ذلك إلى عمر رضى الله عنه.
فكتب عمر أن يأخذ منه الخمس ويدفع سائر ذلك إليه.
وهذا مشكل، فإنه إن كان سبق التنفيل فلا خمس في السلب.
وإن كان لم يسبق التنفيل فأعطى ما بقى إلى البرآء فيكون تنفيلا بعد الاصابة.
وذلك لا يجوز عندنا.
ولكن تأويله (2) أنه كان تقدم بتنفيل مقيد بأن كان الامير قال: من قتل قتيلا فله سلبه بعد الخمس.
وفى هذا الموضع يخمس السلب عندنا والباقى للقاتل.
وذكر عن ابن عباس رضى الله عنه قال: الفرس والسلب من النفل.
والمراد أن القاتل بعد التنفيل يستحق الفرس، لان السلب اسم لما يسلب منه بإظهار، الجزاء والعناء (3).
وهذا يتحقق في الفرس كما يتحقق في السلب، فيدخل الكل في التنفيل بقوله.
973 فإن جرح الكافر رجل بعد تنفيل الامام ثم قتله الآخر،
__________
(1) في هامش ق " المرزبان معرب وهو الكبير من الفرس، والجمع المرازبة.
يقال للاسد مرزبان الزارة للاستعارة، لان الزارة الاجمة، وهى فعلة من زئير الاسد وهو صياحه، جعلت الالف فيها همزة ساكنة، وقد تلين.
وقد ذكره..في باب فعل من المعتل العين.
وأما ما في السير من حديث البراء بن أنس أنه بارز مرزبان الزارة فهو إما لقب ذلك المبارز كما يلقب الاسد، أو مضاف إلى الزارة قرية بالبحرين.
والاول أصح.
مغرب ".
(2) ق، ه " ولكن تأويله عندنا..".
(3) ه، ب، ق، ص " الغناء " وفى ق " وقيل بالعين.
نسخة " أما الجزاء فقد رجح في هامش ه أنها " الجرأة ".
*(2/604)
فإن كان الاول صيره بحيث لا يستطيع قتالا ولا عونا بيد ويعلم أنه لا يعيش مع مثل تلك الجراحة فالسلب للاول، وإلا فالسلب للثاني.
لان مقصود الامام من هذا التنفيل أن يظهر القاتل فضل جزاء وعناء بقتل المشرك.
وهذا إنما حصل من الاول دون الثاني.
لانه إذا صار بحيث لا يتوهم القتال منه، فالثاني لا يحتاج إلى عناء وقوة في حز رأسه، وإن كان يتحامل مع تلك الجراحة ويتوهم أن يعيش ويقاتل فقد أظهر الثاني بقتله العناء والقوة فيكون السلب له.
ألا ترى أن الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه، ثم رماه آخر فقتله كان للاول.
ولو كان يتحامل بعد رمى الاول حتى رماه الثاني فهو للثاني.
واستدل على هذا بحديث محمد بن ابراهيم التيمى.
974 قال: قطع محمد بن مسلمة رجلى (1) مرحب (2) وضرب على عنقه.
فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلبه محمد بن مسلمة.
وفى بعض الروايات أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال محمد: والله يا رسول الله ما قطعت رجليه إلا وأنا قادر على قتله، ولكني أردت أن يذوق من الموت ما ذاق أخى محمود.
وكان مرحب قد دلى عليه حجر الرحاء.
فمكث ثلاثا حيا ثم مات.
فقضى رسول الله عليه السلام (ص 203) بسلبه لمحمد بن مسلمة.
وروى أنه لما قطع محمد بن مسلمة رجليه قال مرحب: أجهز على
__________
(1) ه " رجل ".
(2) في هامش ق " مرحب اسم رجل.
مغرب ".
*(2/605)
يا محمد ! فقال: لا، حتى تذوق ما ذاق أخى محمود.
وجاوزه.
فجاء على ابن أبي طالب رضي الله عنه فذفف (1) عليه.
أي حز رأسه وأخذ سلبه.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سلبه لمحمد بن مسلمة.
قال الراوى من أولاده: وكان سيف مرحب عندنا، فيه كتاب كنا لا نعرفه حتى جاء يهودى فقرأه، فإذا فيه: هذا سيف مرحب، من يذقه يعطب.
975 وذكر عن عمر رضى الله عنه أنه قال: عانق رجل رجلا، وجاء آخر فقتله.
فأعطى سلبه للذى قتله.
وعن على رضى الله عنه أنه قال: هو بينهما.
لان كل واحد منهما أظهر زيادة عناء وقوة أحدهما بإثباته والآخر بقتله.
وإنما نأخذ بقول عمر رضى الله عنه لان الاول بإمساكه لم يخرجه من أن يكون مقاتلا، وإنما القاتل هو الثاني في الحقيقة.
فيكون السلب له بالتنفيل.
وقد كان التنفيل من الامام للقاتل لا للممسك.
والله أعلم بالصواب.
__________
(1) في هامش ق " ذفف على الجريح بالدال والذال أسرع قتله.
مغرب ".
*(2/606)
68 باب النفل وما كان للنبى خالصا 976 قال: لا بأس بأن يعطى الامام الرجل المحتاج إذا أبلى (1) من الخمس ما يعينه (2)، ويجعله نفلا له بعد الغنيمة.
لانه مأمور بصرف الخمس إلى المحتاجين، وهذا محتاج.
وإذا جاز صرفه إلى محتاج لم يقاتل فلان يجوز صرفه إلى محتاج قاتل وأبلى بلاء حسنا كان أولى.
وهذا لان بقتاله وقتال أمثاله حصل هذا الخمس.
وهو نظير من وجد ركازا فرآه الام محتاجا وصرف الخمس إليه.
فإن ذلك يجوز.
ورد بنحوه أثر عن على رضى الله عنه أنه قال للواجد: خمسها لنا وأربعة أخماسها لك وسنتمها لك.
ثم هذا تأويل ما رواه سعيد بن المسيب عن (3) النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا نفل إلا من الخمس.
وعن سعيد قال: كان النفل من الخمس.
__________
(1) في هامش ق " أبلى في الحرب إذا أظهر بأسه.
مغرب ".
(2) فوق هذه الكلمة في ق " يغنيه.
نسخة ".
(3) قوله " عن النبي صلى الله عليه وسلم " ساقطة من ه.
*(2/607)
يعنى النفل بعد الاصابة للمحتاجين كان يكون من الخمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتبين بهذا أن من جوز التنفيل بعد الاصابة من جملة الغنيمة استدلالا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نفل بعد الغنيمة، فقد أخطأ.
لانه ترك التأمل، ولم يدر أنه من أي محل نفل.
وقد كان تنفيله مما كان له خاصة.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حظوظ من الغنايم: الصفى، وخمس الخمس، وسهم كسهم أحد الغانمين.
ومعنى الصفى أنه كان يصطفى لنفسه شيئا قبل القسمة من سيف أو درع أو جارية ونحو ذلك.
وقد كان هذا لولى الجيش في الجاهلية مع حظوظ أخر.
وفيه يقول القائل: لك المرباع (1) منها والصفايا (2) وحكمك (3) والنشيطة (4) والفضول (5) فانتسخ ذلك كله سوى الصفى.
فانه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد موته بالاتفاق.
حتى إنه ليس للامام الصفى بعد وفاة الرسول عليه السلام، وإنما الخلاف في سهمه من الخمس أنه هل بقى للخلفاء بعده.
وقد بينا ذلك في السير الصغير.
977 - وذكر عن الزهري قال: كانت بنو النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقسمها بين المهاجرين ولم يعط أحدا
__________
(1) كانت الغنيمة في الجاهلية تقسم أرباعا.
فيكون للرئيس الربع.
وقد ردها الاسلام خمسا.
(القاموس).
(2) في هامش ق " وقيل إنما سمى الصفية صفية لانها صفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه.
حصيرى ".
(3) في هامش ق " والحكم ما يحكم به الرئيس عليهم في الغنيمة فيأخذه.
من تيسير المسير ".
4) النشيطة في الغنيمة ما أصاب الرئيس قبل أن تصير إلى بيضة القوم (القاموس).
(5) ما فضل من الغنيمة بعد القسمة.
*(2/608)
من الانصار منها شيئا، إلا سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبا دجانة فإنهما كانا محتاجين فأعطاهما.
وبيانه أن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله: (فما أوجفتم عليه من خيل (ص 204) ولا ركاب) (1) فإنهم ما فتحوا
بنى النضير عنوة وقهرا، وإنما صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما حملت الابل، إلا الحلقة (2).
وما سوى ذلك فهو لرسول الله عليه السلام.
وإنما حملهم على ذلك ما ألقى الله من الرعب في قلوبهم.
فإن قيل: ففى زماننا لو حاصر الامام حصنا ثم صالحهم على مثل هذا هل تكون الاموال له خاصة أم تكون غنيمة للجيش ؟ قلنا: بل تكون غنيمة، لان خوفهم من منعة الامام لا من نفسه، ومنعته بالجيش.
فأما في ذلك الوقت فمنعة رسول الله ما كان بمن حوله من الناس ولكنهم كانوا يأمنون به.
قال الله تعالى (والله يعصمك من الناس) (3).
978 - وقد روى أنه فيما صنع استرضى الانصار أيضا.
فإن المهاجرين كانوا نازلين مع الانصار في بيوتهم وقال عليه السلام للانصار: " إما أن أقسم بنى النضير بين المهاجرين برضاكم ليتحولوا إليها فتسلم لكم منازلكم، وإما أقسمها بين الكل وهم يسكنون معكم في منازلكم على حالهم.
__________
(1) سورة الحشر، 59، الآية 6.
(2) في هامش ق " الحلقة حلقة الدرع وغيرها.
وفى حديث الزهري " وعلى ما حملت الابل إلا الحلقة " أي السلاح، وقيل الدروع خاصة.
مغرب ".
(3) سورة المائدة، 5، الآية 67.
*(2/609)
فقام سعد بن معاذ وقال: يا رسول الله ! بل نرضى بأن تقسمها بينهم، ويكونون معنا في منازلنا أيضا.
وفيه نزل قوله تعالى (والذين تبوء والدار والايمان) الآية (1).
وقد روى أن النبي عليه السلام أعطى يومئذ سعد بن معاذ سيف
ابن أبى الحقيق نفله إياه.
وإنما أعطاه تنفيلا بعد الاصابة لانه كان له خاصة.
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وفدك، وخيبر.
وكانت بنو النضير حبسا لنوائبه.
أي محبوسة لذلك كالموقوفة.
وكانت فدك لابن السبيل.
والمراد بنوائبه جوائز الرسل والوفود الذين كانوا يأتونه.
وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء: جزءان للمهاجرين وجزء كان ينفق على أهله منه.
فإن فضل رده على فقراء المهاجرين.
وإنما أراد بهذا بعض خيبر لا كلها.
فقد اتفقت الروايات على أنه قسم الشق والنطاة (2) على ثمانية عشر سهما بين المسلمين.
وقد بينا هذا في الاول القسمة (3).
__________
(1) سورة الحشر، 59، الآية 9 (2) ق " الشطر والنظأة " خطأ.
وفى هامشها " الشق والنطاة.
نسخة م " قلت: وهما حصنان من حصون خيبر، كما ذكرنا في الجزء الاول.
(3) في حاشية ه " أي من المبسوط ".
*(2/610)
979 - وذكر عن عروة أن النبي عليه السلام أقطع الزبير عامرا ومواتا (1) من أموال بنى النضير.
وعن الزهري أن النبي عليه السلام أقطع لابي بكر وعمر وسهيل وعبد الرحمن بن عوف أموالا من أموال بنى النضير عامرة.
وفى بعض الروايات غامرة وهى الخراب التى يبلغها الماء.
قال محمد رحمه الله: فمن يسمع هذه الآثار يتوهم أنه نفل بعد الاصابة على وجه نصب الشرع، ولا نعلم أنه إنما فعل ذلك لانه كان خالص حقه.
فإذا تأمل ما يروى عن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله ! ألا تخمس ما أصبت من بنى النضير كما خمست ما أصبت من بدر ؟ قال: لا أجعل شيئا جعله الله لى دون المؤمنين مثل ما هو لهم.
وتلا قوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) (2).
ثم ذكر: 980 - عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الانفال فقال: لا نفل بعد رسول الله.
وإنما أراد به ما بينا أن ما كان خالصا لرسول الله عليه السلام فليس لاحد بعده مثل تلك الخصوصية لينفل منه، كما كان ينفل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ه، ص " موات " وفوقها في ق " مواتا " وجاء في هامش ق " الموات الارض الخراب، وخلافه العامر.
مغرب ".
(2) سورة الحشر، 59، الآية 7 *(2/611)
981 - وذكر عن ابن الحنفية أن النبي عليه السلام نفل يوم بدر سعد بن أبى وقاص سيف العاص بن سعيد.
982 - وإنما يحمل هذا على أنه إنما نفله من الخمس، لانه كان محتاجا، أو على أن غنايم بدر كانت مفوضة إليه، كما قال تعالى (قل الانفال لله والرسول) وعلى أنه اصطفى ذلك لنفسه ثم أعطاه
سعدا.
وهو نظير ما يروى أنه اصطفى يوم بدر ذا الفقار ثم أعطاه عليا وكان يقاتل به، وقد كان سيف منبه بن الحجاج.
وفى رواية نبيه بن الحجاج، بخلاف ما يزعم الروافض أن ذا الفقار كان نزل من السماء لعلى رضى الله عنه، وذلك كذب وزور.
ومبنى مذهب الروافض على الكذب.
وإنما سمى ذا الفقار لكسر فيه.
983 - وعلى هذا أيضا يحمل حديث الزهري أن النبي عليه السلام لما أمر يوم بدر أن يردوا ما في أيديهم من الغنايم ثم جاء أبو أسيد الساعدي بسيف ابن عائذ المخزومى حتى ألقاه في الغنايم، وكان رسول الله لا يسأل شيئا إلا أعطاه.
فجاءه الارقم بن أبى الارقم وعرف ذلك السيف، فسأل النبي عليه السلام فأعطاه إياه.
984 - وعليه يحمل أيضا حديث سلمة بن الاكوع قال: جاء عين (1) من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم
__________
(1) في هامش، ص " عين جاسوس ".
*(2/612)
في سفر.
فأكل معهم وخالطهم ثم ذهب.
فقال رسول الله عليه السلام: الحقوه فاقتلوه.
وكان سلمة سباقا يسبق الفرس عدوا.
فلحقه وأخذ بحطام ناقته فقتله.
وأتى رسول الله عليه السلام بناقته وسلبه فنفله إياه.
وكأنه جعل هذا من الخمس، ثم نفله إياه لحاجته.
وللامام رأى في مثل هذا.
985 - وذكر عن عكرمة قال: لما كان في حصار بنى قريظة قال رجل من اليهود: من يبارز ؟ فقام إليه الزبير بن العوام.
فقالت صفية: واحدى ! فقال رسول الله عليه السلام: أيهما علا صاحبه يقتله.
فعلاه
الزبير فقتله.
ونفله رسول الله عليه السلام سلبه.
وذكر الواقدي في المغازى أن من زعم أن هذا كان في بنى قريظة فقد أخطأ، وإنما كان هذا بخيبر.
فقد كانت المبارزة والقتال يومئذ.
فأما بنو قريظة فلم يخرج أحد منهم للمبارزة والقتال.
وصفية كانت أم الزبير ولم يكن لها ولد سواه، فتأسفت عليه حين خرج للمبارزة وقالت: واحدى.
أي وآ أسفا على واحد لى لا ولد لى سواه.
فطيب رسول الله عليه السلام قلبها بما قال.
ثم نفل الزبير سلبه.
وكان ذلك بالطريق الذى قلنا إنه جعله مما كان له خاصة (1) ثم نفله إياه.
986 - وذكر عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه
__________
(1) ق " حاجة " وفى هامشها " خاصة.
نسخة م ".
*(2/613)
السلام بعث بعثا قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكانت سهامهم اثنى عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا.
وتأويل هذا أنهم نفلوا ذلك من الخمس لحاجتهم، أو نفلوا ذلك بينهم بالسوية.
وقد كانوا رجالة كلهم، أو فرسانا كلهم.
وعندنا مثل هذا التنفيل بعد الاصابة يجوز.
لانه في معنى القسمة.
وإنما لا يجوز النفل بعد الاصابة إذا كان فيه تخصيص بعضهم.
987 - قال (1): ولو أن إماما نفل من الغنيمة بعد الاصابة قبل القسمة بعض من كان له جزاء أو عناء على وجه الاجتهاد والنظر منه، ثم رفع إلى وال آخر لا يري التنفيل بعد الاصابة فإنه يمضى ما صنع ولا يرده.
لانه أمضى تنفيلا مجتهدا فيه (2)، وقضاء القاضى في المجتهدات نافذ، بمنزلة ما لو قضى على الغائب بالبينة، فإنه ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه.
988 - واستدل عليه بحديث ابن عمر رضى الله عنهما قال: بارزت دهقانا فقتلته، فنفلنى أميرى سلبه.
فأجاز ذلك عمر رضي الله عنه.
وقد صح من مذهب عمر رضى الله أنه كان لا يجوز التنفيل بعد الاصابة، على ما روينا من قوله: لا نفل بعد الغنيمة.
__________
(1) ص، ب " يقول ".
(2) ق، ب " فعلا مختلفا فيه ".
*(2/614)
فلو كان هو الوالى ما نفل إليه شيئا بعد الاصابة، ولكن لما نفله الامير وأمضاه أجاز ذلك عمر رضى الله عنه.
989 - وذكر عن شبر (1) بن علقمة قال: بارزت رجلا من الاعاجم فقتلته.
فنفلنى سعد سلبه.
ثم رفع ذلك إلى عمر فأمضاه.
990 - وإذا قال الامير لاهل العسكر جميعا: ما أصبتم فهو لكم نفلا بالسوية بعد الخمس، فهذا لا يجوز.
(ص 206) لان المقصود من التنفيل التحريض على القتال، وإنما يحصل ذلك إذا خص البعض بالتنفيل، فأما إذا عمهم فلا يحصل به ما هو المقصود بالتنفيل، وإنما في هذا إبطال السهمان التى أوجبها رسول الله عليه السلام، وإبطال تفضيل الفارس على الراجل، وذلك لا يجوز.
991 - وكذلك إن قال: ما أصبتم فلكم، ولم يقل: بعد الخمس.
فهذا لا يجوز.
لان فيه إبطال الخمس التى أوجبها الله تعالى في الغنيمة.
992 - وذكر عن مكحول قال: لا يصلح للامام أن ينفل كل شئ إلا الخمس.
لانه حق على قوى المسلمين أن يرده على ضعيفهم.
ومعنى هذا أنه لا ينبغى له أن يقول: من أصاب شيئا فهو له بعد الخمس.
لان التنفيل على هذا الوجه يكون إبطالا لحق ضعفاء المسلمين.
وذلك لا يجوز، على ما روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ه، ص " بشير " خطأ، ق " الشتير " خطأ.
وفى هامش ق " الشبر.
نسخة " وفيه: الشبر بتحريك الباء وسكونها العطاء، وبه سمى شبر بن علقمة.
مغرب ".
*(2/615)
أرأيت الرجل يكون حامية القوم وآخر لا يقدر على حمل السلاح أيسوى (1) بينهما في الغنيمة ؟ فقال عليه السلام: وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.
993 - قال: والنفل في الاموال كلها من الذهب والفضة وغير ذلك.
994 - وإذا قال الامام: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل رجل قتيلا، وكان معه دراهم أو دنانير، أو فضة سيف، أو سوار من ذهب، أو قرط ذهب، أو منطقة من فضة أو ذهب، فذلك كله له.
وعلى قول أهل الشام لا نفل في ذهب ولا فضة.
وإنما النفل فيما يكون من الامتعة فأما في أعيان الاموال فلا.
والذهب والفضة عين مال، فيكون حكم الغنيمة مقررا فيها.
وقاسوا هذا بإباحة التناول لكل واحد من الغانمين بقدر الحاجة فإن ذلك يثبت في الطعام والعلف دون الذهب والفضة، حتى لو أراد بعضهم أن يرفع الدراهم من الغنيمة فيشترى بها طعاما لنفسه لم يكن له ذلك.
ولكنا نقول: التنفيل للتحريض على المخاطرة بالروح في قتال العدو.
وفى هذا المعنى يستوى الاموال، بل الذهب والفضة أولى.
لانه
إنما يخاطر بأعز الاشياء عنده، فإذا علم أنه لا يسلم له المال النفيس يمتنع من هذه المخاطرة.
وقد بينا أن السلب اسم لما يسلب.
فكل ما يكون مع الحربى إذا قتله فقد استلبه منه.
ويستحق كل ذلك بمطلق اسم السلب.
__________
(1) ه، ب " ايستوى ".
*(2/616)
ثم استدل عليه: بحديث عمر رضى الله عنه في قصة البراء بن مالك حين قتل مرزبان الزارة، وذكر أنه كان عليه منطقة ذهب فيها جوهر فقوم فبلغ ثلاثين ألفا.
وقد ذكر قبل هذا أنه كان بلغ أربعين ألفا، فأما أن يقال ثلاثون ألفا قيمة المنطقة فقط، وأربعون قيمة جميع السلب، أو يقال ما سبق، فوهم من الراوى.
والصحيح ما ذكر هنا.
فقد قال في الحديث عن أنس رضى الله عنه: قال بعثنا إلى عمر بالخمس ستة آلاف درهم.
فبهذا التفسير يتبين أن قيمة السلب كان ثلاثين ألفا.
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل ابن مسعود سيف أبى جهل يوم بدر وكان عليه فضة.
فدل بهذا على أنه يجوز التنفيل في الذهب والفضة.
وذكر: 995 - عن مكحول قال: لا سلب إلا لمن أسر علجا أو قتله.
ولا يكون السلب في يوم هزيمة أو فتح.
ويصلح في السلب الثياب
والسلاح والمنطقة والدابة، وما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه.
ولا سلب في السلعة.
أما قوله لا سلب إلا لمن أسر علجا أو قتله فهو كما قال.(2/617)
لان التنفيل إنما يكون باعتبار الجزاء والعناء، وإنما يحصل ذلك بالاسر والقتل.
وأما قوله: (ص 207) لا سلب في يوم هزيمة ولا فتح.
فالمراد به أنه لا ينبغى للامام أن ينفل الاسلاب من القتلى والاسرى في الهزيمة، ولكن ينبغى أن يقول: من قتل قتيلا أو أسر قبل الهزيمة أو الفتح فله سلبه، ليتم النظر منه للمسلمين.
وهذا لانه لا يحتاج في قتل المنهزم (1) إلى عظيم جزاء وعناء وكذلك بعد الفتح.
فأما إذا أطلق وقال: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له.
فلكل مسلم ما شرط الامام له، سواء كان ذلك منه في حالة الهزيمة أو غيرها، لان اللفظ عام، وبمجرد المقصود لا يثبت تخصيص العام بل يجب إجراؤه على عمومه.
ألا ترى أن المسلمين يوم بدر أسروا كثيرا منهم بعد الهزيمة ؟ بل كانت عامة الاسراء بعد الهزيمة.
ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسرى لمن أسروهم، حتى أخذوا فداء هم.
وأما قوله: يصلح من السلب السلاح والثياب والمنطقة والدابة، فما كان مع العلج بعد هذا فلا سلب فيه فهو كما قال.
والمراد أن ما معه مما خلفه في المعسكر ليس عليه ولا على فرسه الذى خرج يقاتل عليه، فليس ذلك من السلب، لان السلب اسم لما يسلب منه.
فإنه يتناول ما معه خاصة مما إذا قتل هو لا يبقى مانع يمنع ذلك من القاتل، وهذا غير موجود فيما خلفه في المعسكر،
فانهم يمنعون ذلك من القاتل.
فلا يتمكن هو من أخذه بقتل العلج.
وكذلك إن كان معه بغلة عليها متاعه فليس ذلك من سلبه.
ويحتمل أن يكون هذا هو
__________
(1) ب " المهزوم ".
*(2/618)
المراد بقوله لا سلب في السلعة، يعنى أنه لا يقود هذا مع نفسه لحاجته إليه في القتال، فيكون بمنزلة السلع التى يحملها للتجارة.
والاظهر أن المراد من قوله: لا سلب في السلعة ما يكون معه من المال العين، وهذا مذهب أهل الشام لا نأخذ به.
فأما عندنا ما معه في حقوه فهو من السلب يسلم للقاتل.(2/619)
69 باب النفل في دار الحرب (1) 996 - قال: كل أمير كان في أرض الحرب يلى سرية أو جندا فله أن ينفل منها أصحابه قبل إصابة الغنيمة وهو في ذلك بمنزلة الامام.
لانه فوض إليه تدبير القتال، والتنفيل من تدبير القتال، لما بينا أن المقصود به التحريض على القتال.
فكل أمير في ذلك بمنزلة الامام.
ألا ترى أنه إذا أمرهم بشئ في القتال كان عليهم طاعته في ذلك، كما تجب طاعة الامام فيما يأمر به، فكذلك في التنفيل هو بمنزلة الامام.
997 - ولو أن أمير الشام بعث جندا إلى أرض الحرب وأمر عليهم أميرا ولم يأذن لاميرهم أن ينفل ولم ينهه عن ذلك، فرأى أميرهم أن ينفل جاز تنفيله، وإن كره ذلك بعض من تحت رايته.
لانه ما أمر بأن يتبع رأيهم، وإنما أمروا أن لا يخالفوه فيما يراه صوابا.
ولانه ولى القتال فيدخل فيه ما يحصل به التحريض على القتال.
998 - وإن نهاه الذى وجهه أن ينفل فليس له أن ينفل أحدا شيئا.
لان سبب الامارة التقليد، وهو يقبل التخصيص، بمنزلة نقليد القضاء
__________
(1) هذا عنوان الباب في النسخ جميعا، ما عدا ه ففيها: " باب من تنفيل الامير المفوض إليه تدبير القتال من جانب الامام ".
*(2/620)
فإنه يقبل التخصيص.
ولانا إنما صححنا تنفيله قبل النهى بطريق الدلالة، فيسقط اعتبارها عند التنصيص بخلافها.
999 - فإن رضى جميع من معه جاز تنفيله من أنصبائهم بعد رفح الخمس.
لان لهم ولاية على أنفسهم، وإنما يعمل رضاه في حقهم.
فأما الخمس حق غيرهم، فلا يعمل فيه رضاهم بالتنفيل.
1000 - وإن كره ذلك بعضهم وأذن فيه بعضهم فله أن ينفل من حصص الذين أذنوا له في ذلك.
لما بينا أن ولايتهم مقصورة على حصصهم دون حصص الباقين ممن كره تنفيله.
1001 - قال: (ص 108) ولو أن أمير المصيصة (1) بعث سرية لم يكن له أن ينفل بعضهم على بعض.
يريد به أنه لا ينبغى له أن ينفل السرية ما أصابوا.
1002 - بخلاف ما إذا دخل الامام مع الجيش دار الحرب، ثم بعث سرية ونفل لهم ما أصابوا فإنه يجوز.
لان السرية المبعوثة من المصيصة يختصون بما أصابوا قبل تنفيل الامام،
وليس لاهل المصيصة معهم شركة في ذلك.
فإن المصيصة من دار الاسلام،
__________
(1) المصيصة مدينة كانت من الثغور في شمال أنطاكية من سورية، وهى اليوم في تركيا.
وانظر معجم البلدان.
*(2/621)
ومن يتوطن في دار الاسلام لا يشارك الجيش فيما أصابوا، فليس في هذا التنفيل إلا إبطال الخمس.
وأما السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب فلا يختصون بالمصاب قبل تنفيل الامام، وإنما هذا التنفيل للتخصيص على وجه التحريض لهم، فكان مستقيما.
1003 - ثم لا ينبغى للامام أن ينفل أحدا شيئا إلا ببلاء يبليه.
وذلك لا يحصل في التنفيل للسرية المبعوثة في دار الاسلام ويحصل في السرية المبعوثة من الجيش في دار الحرب.
لانهم دخلوا جميعا للقتال، ثم اختصت السرية بالتقدم في نحو العدو (1)، فيكون ذلك إظهار البلاء منهم، فإذا نفلهم على ذلك كان صحيحا، بمنزلة التنفيل في السلب للقاتل.
ألا ترى أنه إذا برز علج من الصف ودعا إلى البراز فقال الامير: من برز إليه فقتله فله سلبه، فذلك تنفيل صحيح ؟ لان الذى يبرز إليه يظهر فضل بلاء (2) بصنعه (3)، فيجوز للامير أن ينفله على ذلك.
1004 - وكذلك لو حاصروا حصنا فكره (4) القوم التقدم فيقول الامير: من تقدم إلى القتال، أو إلى الباب، أو إلى حصر (5) الحصن فله كذا، فذلك تنفيل مستقيم لما فيه من معنى التحريض
__________
(1) ق، ب " في عين العدو ".
(2) ه، ب " البلاء ".
(3) ه، ق " يصنعه " وفى هامش ق " فضل بلاء بصنعه.
نسخة حصيرى ".
(4) ق " وكره ".
(5) ه، ب " حفر ".
*(2/622)
والمنفعة للمسلمين.
وكل من فعل ذلك استحق ما سمى له من المصاب قبل الخمس والقسمة.
فأما ما ليس فيه منفعة للمسلمين فلا ينبغى فيه التنفيل (1).
لانه لا مقصود فيه سوى إبطال الخمس، أو تفضيل الفارس على الراجل، وذلك غير صحيح.
1005 - ولو أن أمير العسكر في دار الحرب وجه سريتين بعد الخمس إحداهما يمنة والاخرى يسرة، ونفل لاحداهما الثلث بعد الخمس مما يصيبون ولاخرى الربع بعد الخمس، فهو جائز.
لان التنفيل للترغيب في الخروج، وذلك يختلف باختلاف الطريق في القرب والبعد، والوعورة والسهولة، والخوف والامن، وباختلاف الطريق حال المبعوث إليهم في المنعة والقوة، والامير ناظر لهم فيجوز أن يفاوت في النفل بحسب ذلك.
1006 - فإن جاءت كل سرية بمال أخذ الخمس من ذلك، ثم أعطوا نفلهم بينهم بالسوية، لا يفضل فيه الفارس على الراجل.
لان الاستحقاق بالتسمية بخلاف الغنيمة، فاستحقاقها باعتبار العناء والقوة، وهو بمنزلة تفضيل الذكر على الانثى في الميراث، والتسوية بين
الذكر والانثى في الوصية.
1007 - ثم ما بقى بعد ذلك يقسم بين أصحاب السريتين والجيش على سهام الغنيمة.
__________
(1) في هامش ق " النفل نسخة م ".
*(2/623)
لانهم اشتركوا في إحرازها بالدار.
1008 - فإن ذهب رجل ممن بعثه الامير في سرية الربع مع أصحاب سرية الثلث فأصابوا غنائم، ففى القياس لا شئ لهذا الرجل من النفل.
لان استحقاق النفل بالتسمية، وما سمى الامام له شيئا في أصحاب سرية الثلث، وهو لم يخرج مع الذين سمى له نفلا معهم، فهو قياس ما لو تخلف مع العسكر ولم يخرج، أو خرج رجل من العسكر مع أصحاب سرية الثلث ولم يؤمر بالخروج أصلا.
فكما لا يستحق هناك النفل فكذلك هنا.
ولم يبين وجه الاستحسان هنا.
فقال بعض مشايخنا (ص 209): على طريقة الاستحسان يكون له النفل مع أصحاب سرية الثلث.
لان تسمية الامام لهم ما كان باعتبار أعيانهم بل لتحريضهم على الخروج إلى الطريق (1) الذى وجهوا إليه، وقد وجد هذا في حق الواحد.
والاصح أن للاستحسان فيه وجها آخر فسره في آخر الكتاب (2) فنبينه عند ذلك.
1009 - ولو أن الامام قال: من شاء فليخرج في هذه السرية، ومن شاء في هذه، فلجميع من خرجوا النفل الذى نفلوا.
لانهم خرجوا باذن الامام.
فبهذا تبين ضعف الاستحسان الذى ذكرنا في المسألة الاولى، لان فيه تسوية، بين ما إذا عين الامام للخروج قوما في كل جانب وبين ما إذا لم يعين وجعل الامر مفوضا إلى رأيهم.
__________
(1) ق " إلى الموضع " وفى هامشها " إلى الطريق.
نسخة ".
(2) ه " الباب " وفى هامش ق " في آخر الباب.
نسخة ".
*(2/624)
1010 - ولو بعث سرية وعليهم أمير ونفلهم الثلث بعد الخمس، ثم إن أمير السرية نفل قوما نفلا لفتح الحصن أو للمبارزة، ولم يكن أمره (1) الامير بذلك، فإن نفل أمير السرية يجوز من حصة السرية من النفل، ومن سهامهم بعد النفل، ولا يجوز من سهام أهل العسكر مما (2) أصابوا.
لانه أمير على السرية.
فهو في حق العسكر بمنزلة واحد من أصحاب السرية، فلا ينفذ تنفيله عليهم.
وهو في حق السرية بمنزلة أمير العسكر، فيجوز تنفيله فيما هو حقهم، وحقهم ما نفل لهم وما يصيبهم من السهام بالقسمة، فينفذ تنفيل أميرهم من ذلك خاصة.
1011 - ولو أن السرية لما بعدوا من العسكر مسيرة يوم فقدوا رجلا منهم.
فقالوا لبعضهم: أقيموا على صاحبنا هاهنا.
وبعضهم ذهبوا (3) حتى أصابوا غنائم ورجعوا إلى أصحابهم وقد وجدوا الرجل، كانوا شركاء كلهم في النفل.
لانهم فارقوا المعسكر جملة، وأحرزوا المصاب بالمعسكر جملة، فكانوا شركاء في النفل، بمنزلة ما لو باشر القتال بعضهم والبعض كانوا ردءا (4) لهم.
وهذا لان إحراز المصاب بالمعسكر في استحقاق النفل بمنزلة الاحراز بدار
الاسلام في استحقاق السهم.
__________
(1) ق " نفله الامير ".
(2) ق " ما ".
(3) ق، ب "..ها هنا ومضوا حتى أصابوا..".
(4) ق " رداء " وفى هامشها " ردءا ".
*(2/625)
1012 - ولو وقعت هذه الحادثة لبعض العسكر في دار الحرب، ثم اجتمعوا عند إحراز الغنائم بدار الاسلام كانوا شركاء في الغنيمة.
فهذا مثله.
وعلى هذا لو أصاب الرجل المفقود غنائم، والذين قاموا لانتظاره غنائم، والسرية كذلك، ثم التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر، فلهم النفل من جميع ذلك بينهم بالسوية كما لو لم يتفرقوا.
لانهم اشتركوا في إحراز المصاب بالمعسكر.
1013 - ولم لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر، فلكل فريق النفل مما أصاب خاصة.
لانه تفرد بإحراز ذلك بالمعسكر.
والامام إنما نفل لهم الثلث مما أصابوا، فذلك يتناول كل فريق منهم.
ثم الباقي يكون بينهم وبين أهل العسكر على سهام الغنيمة.
1014 - وعلى هذا لو أن السرية بعد ما بعدت من المعسكر تفرقوا سريتين، وبعدت إحداهما عن الاخرى بحيث لا تقدر إحداهما على عون الاخرى، فإن التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر كان لهم النفل في جميع ذلك بينهم بالسوية.
بمنزلة ما لو كانوا مجتمعين حين أصابوا.
وإن لم يلتقوا حتى أتى كل فريق المعسكر، فلكل فريق النفل مما أصابوا خاصة.(2/626)
وكذلك لو التقوا في مكان دون المعسكر بحيث يراهم أهل المعسكر، لو قوتلوا لنصروهم.
فهذا وما لو التقوا في المعسكر سواء.
لان ما قرب من المعسكر بمنزلة جوف المعسكر، على معنى أن إحراز المصاب (ص 210) بالمعسكر يحصل بالاتصال إلى ذلك الموضع، وقد تفرد به كل فريق.
1015 قال: ولو أن هذه السرية حين بعدوا من المعسكر وأصابوا غنائم لم يقدروا على الرجوع إلى المعسكر، فخرجوا إلى دار الاسلام من موضع آخر، ولم يلتقوا مع أهل المعسكر.
فالغنيمة كلها لهم: يخمس ما أصابوا، والباقى بينهم على سهام الغنيمة دون أهل العسكر.
لانهم تفردوا بالاحراز بدار الاسلام، وهو سبب تأكد الحق.
فان قالوا: سلم لنا نفلنا أولا، لم يسلم لهم ذلك.
لان الغنيمة لما صارت لهم كلها بطل التنفيل، بمنزلة ما لو كانوا دخلوا من أرض الاسلام.
1016 ولو أن الامام بعث سرية من دار الاسلام فنفل لهم الثلث بعد الخمس أو قبل الخمس كان هذا التنفيل باطلا.
لانه ما خص بعضهم بالتنفيل، ولا مقصود من هذا التنفيل سوى إبطال الخمس، وإبطال تفضيل الفارس على الراجل.
وذلك لا يجوز،
بخلاف ما إذا التقوا في دار الحرب.
ففى التنفيل هناك معنى التخصيص لهم.(2/627)
لان الجيش شركاؤهم (1) في الغنيمة، ففى التنفيل يخصهم ببعض المصاب، وذلك مستقيم.
1017 ولو أن السرية أصابت الغنائم في موضع كان أهل العسكر فيه ردأ لهم، يقدرون على أن يغيثوهم إذا استغاثوا، ثم خرجوا بالغنيمة إلى دار الاسلام قبل أن يأتوا المعسكر، فأهل المعسكر شركاؤهم في المصاب.
لانهم اشتركوا في الاصابة حكما حين كانوا ردءا لهم وقت الاصابة بخلاف الاول.
1018 وإذا ثبتت الشركة بينهم فلاصحاب السرية نفلهم بمنزلة مالو رجعوا بالمصاب إلى العسكر وهو بمنزلة المدد يلحق الجيش بعد الاصابة فإنهم يشتركون في المصاب.
وإن كان المدد لم يلحق الجيش ولم يقربوا منهم حتى خرجوا فلا شركة لهم في المصاب.
وإن قربوا منهم بحيث لو استغاثوا بهم أغاثوهم، ثم خرج الجيش قبل أن يجتمعوا، فلهم الشركة في المصاب.
لانهم حين قربوا منهم فكأنهم خالطوهم في الحكم، وإنما حصل الاحراز بقوة الجماعة.
1019 قال: ولو أن أمير السرية المبعوثة من العسكر في دار
__________
(1) ه " شركاء ".
*(2/628)
الحرب نفل قوما ما صعدوا الحصن بالسلاليم حتى فتحوه، فنفله جائز في حصة أصحاب السرية كما بينا.
وإن لم ترجع السرية إلى المعسكر حتى خرجوا إلى دار الاسلام جاز نفل أميرهم في جميع ما أصابوا.
لانه لا شركة لاهل العسكر معهم في المصاب، وإنما الحق لهم خاصة.
ونفل الامير جائز عليهم، وقد يبطل نفل أمير العسكر لهم لفوات ما هو المقصود بالتنفيل، حتى اختصوا بالسرية في المصاب دون العسكر.
فإن قيل: كان ينبغى أن يجوز (1) تنفيل أمير السرية في جميع المصاب وإن رجعوا إلى العسكر، لانهم لو لم يرجعوا كان المصاب لهم خاصة، وإنما يثبت للعسكر الشركة معهم بالرجوع، وقد سبق تنفيله الرجوع إليهم فلا يتضمن هذا التنفيل إبطال حق ثابت لهم.
قلنا: هم لا يستحقون الشركة بالرجوع إليهم خاصة، بل إذا رجعوا إليهم كانوا بمنزلة الردء لهم، فكأنهم لم يزالوا معهم.
وبهذا يتبين أن الحق كان ثابتا لهم، ولو كان الاستحقاق بالرجوع إليهم لما استحقوا، إلا أن يلقوا قتالا فيقاتلوا عن الغنيمة، بمنزلة التجار والاسراء من المسلمين.
1020 والذين أسلموا في دار الحرب (ص 211) إذا التحقوا بالجيش بعد الاصابة لم يستحقوا الشركة إلا أن يلقوا قتالا.
وها هنا لما استحقوا عرفنا أن الطريق فيه ما ذكرنا.
1021 وعلى هذا لو بعث الامام سرية من دار الاسلام ونفل
__________
(1) ه " يجور ".
*(2/629)
لهم الثلث وقال: تقدموا حتى نلحقكم، فأصابوا غنائم، ثم تبعهم العسكر، فإن التقوا في دار الحرب فلهم النفل.
وإن لم يلتقوا بدار الحرب بأن أخطأ العسكر الطريق أو بدا للامام أن لا يبعث أهل العسكر فلا شئ لاصحاب السرية من النفل.
لان المصاب غنيمة لهم خاصة.
1022 وإذا التقوا في دار الحرب فالمصاب بينهم وبين العسكر، فيحصل ما هو المقصود بالتنفيل، فلهذا استحقوا نفلهم.
وهذا بناء على مذهبنا.
وأما على قول أهل الشام فلا نفل للسرية الاولى المبعوثة من دار الاسلام.
ويروون فيه أثرا بهذه الصفة.
وتأويله عندنا: لا نفل للسرية المبعوثة من دار الاسلام إذا لم يلتحق بهم الجيش في دار الحرب.
لان في هذا التنفيل إبطال الخمس، وإبطال تفضيل الفارس على الراجل.
1023 ولو قال الامام لهم: لا خمس عليكم فيما أصبتم، أو الفارس والراجل سواء.
فيما أصبتم، كان ذلك باطلا منه، فكذلك كل تنفيل لا يفيد إلا ذلك.
فان قيل: أليس أن في قول الامير: من قتل قتيلا فله سلبه إبطال الخمس عن الاسلاب ومع ذلك كان مستقيما ؟ قلنا: هناك المقصود بالتنفيل التحريض على القتال، أو تخصيص القاتلين بإبطال شركة أهل العسكر عن الاسلاب، ثم تثبيت إبطال حق أرباب(2/630)
الخمس عن الخمس الاسلاب تبعا، وقد يثبت تبعا مالا يثبت مقصودا، بمنزلة
الشرب، والطريق في البيع، والوقوف في المنقول، يثبت تبعا للعقار وإن كان لا يثبت مقصودا.
والذى يوضح هذا أن الامام لو ظهر على بلدة من بلاد أهل الحرب كان له أن يجعلها خراجا، ويبطل منها سهام من أصابها والخمس.
1024 ولو أراد أن يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين ويجعل حصة الخمس خراجا للمقاتلة الاغنياء لم يكن له ذلك.
لانه ليس في هذا الابطال الخمس مقصودا، وذلك لا يجوز.
وفى الاول إبطال الخمس بثبت تبعا لابطال حق الغانمين في الغنيمة، فيجوز، وإن كان في الموضعين يخلص المنفعة للمقاتلة.
1025 ولو قال الامام للسرية المبعوثة من أرض الاسلام: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أصاب منكم شيئا فهو له، دون من بقى من أصحابه، كان هذا جائزا.
لان في هذا التنفيل معنى التخصيص.
فان المقاتل والمصيب (1) يختص بالنفل، ويحصل به معنى التحريض.
بخلاف ما إذا نفل لهم الثلث، لانه ليس في ذلك التنفيل تخصيص البعض ولا إبطال حق أحد من الغانمين.
1026 ولو بعث الامام رجلا أو رجلين من أرض الاسلام لقتال، وأصابوا غنائم، خمس ما أصابوا.
لانهم أصابوا على وجه إعزاز الدين، فانهم حين خرجوا بإذن الامام
__________
(1) في هامش ق " والمتلصص.
نسخة ".
*(2/631)
كانوا ظاهرين بقوة الامام، فعلى الامام أن يمدهم إذا حزبهم أمر.
فلهذا يخمس ما أصابوا، بخلاف ما يصيب المتلصص الخارج بغير إذن الامام.
1027 ولو قال الامام لهم: ما أصبتم فهو لكم على سهامكم، (ص 212) ولا خمس فيه، فهو جائز.
بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة فقال لهم الامام ذلك فإنه لا يجوز.
لان الذين لا منعة لهم إنما يثبت الخمس فيما أصابوا باعتبار إذن الامام.
فللامام أن يبطل بقوله ما كان وجوبه باعتبار قوله.
فأما وجوب الخمس فيما أصاب أهل المنعة فلم يكن بإذن الامام، فإنهم لو خرجوا مغيرين بغير إذنه خمس ما أصابوا، لانهم إذا كانوا أهل منعة فمعنى إعزاز الدين يحصل بقتالهم.
فإن كانوا خرجوا بغير إذن الامام (1) فلا يجوز أن يسقط حق أرباب الخمس من مصابهم بإسقاط الامام أيضا.
وهذا المعنى وهو أن الامام هناك كالمبين لهم بقوله: لا خمس عليكم أنه لا يريد أن يمدهم وأن يغيثهم إذا استغاثوا به، فالتحقوا في ذلك بالمتلصصين، وانعدم به السبب الذى كان يجب الخمس لاجله في مصابهم.
وفى حق أهل المنعة لم ينعدم السبب بقول الامام، لان السبب قوتهم ومنعتهم، وذلك باق بعد قول الامام: أبطلت الخمس عنكم.
1028 ولو بعث الامام سرية في دار الحرب ونفلهم الربع بعد الخمس كان جائزا.
وكان ينبغى على قياس ما تقدم أن لا يجوز، لان في هذا التنفيل تخصيص حق أهل العسكر بالابطال دون حق أرباب الخمس.
وإذا كان لا يجوز تخصيص حق أرباب الخمس بالابطال بسبب التنفيل فكذلك ينبغى
__________
(1) ب، ق " وإن كان بغير إذن الامام " وفى هامش ق " وإن كانوا خرجوا بغير إذن الامام.
نسخة " *(2/632)
أن لا يجوز تخصيص حق أهل العسكر بالابطال، ولكن الفرق بينهما أن
أرباب الخمس يستحقون بغير قتال، ولا عناء من جهتهم، فلا يجوز إبطال حقهم إلا تبعا لحق المقاتلة (2).
وأما المقاتلة فانما يستحقون أربعة أخماس بالعناء والقتال، فيجوز أن يخص بعضهم بشئ قبل الاحراز لفضل عناء كان منه، وإن كان فيه إبطال حق الباقين.
1029 ولو بعث الامام (2) سرية في دار الحرب وقال: لكم مما أصبتم الربع بعد الخمس.
وبعث سرية أخرى وقال: لكم الثلث بعد الخمس.
فضل رجل من كل سرية الطريق ووقع مع السرية الاخرى فذهب معهم.
وأصابت كل سرية الغنائم، ثم لم يلتقوا حتى انتهوا إلى العسكر.
فإن ما أصابت كل سرية يقسم على رؤوسهم، ويدخل فيهم الرجل الذى التحق بهم، على قدر ما جعل لهم الامام في الاستحسان.
وهذا الذى بينا أنه الوجه الصحيح من الاستحسان فيما سبق.
فإن كان ممن جعل له الامام الثلث أخذ الثلث من حصته، وإن كان ممن جعل له الربع أخذ الربع، وكان ما بين الربع إلى الثلث من نصيبه غنيمة لجماعة المسلمين.
يعنى أهل العسكر (3) لان نفل كل واحد منهم في المصاب، فيجعل فيما يستحقه كل واحد
__________
(1) ب " المقابلة ".
(2) ساقطة من ه، ب، ص.
(3) ب، ق " لجماعة أهل العسكر ".
*(2/633)
منهم كان شركاؤه كانوا في مثل حاله في حكم النفل، حتى إذا كانت كل سرية مئة رجل قسم مصاب كل سرية على مئة سهم ليتبين مصاب كل واحد منهم، فيأخذ نفله من جزئه ثلثا كان أو ربعا، ثم الباقي يكون غنيمة.
1030 وإن لحق رجل من إحدى السريتين بالاخرى خاصة قسم مصابهم على مئة سهم وسهم.
لان عددهم مئة وواحد.
فتكون القسمة على عدد رؤوسهم.
1031 ثم يأخذ الرجل اللاحق بهم من جزئه ما كان سمى الامام له من النفل.
لان استحقاقه بالتسمية، ولكن عند الاصابة إنما يستحق من جزئه (ص 213) بالنفل مقدار ما سمى له، ولا يلتفت إلى نفل الذين كانوا معه، لان الامام فرق بينهم في التسمية، ولا يجوز إثبات المساواة بينهم في المستحق بالتسمية.
1032 فإن التقت السريتان قبل أن يقربوا من المعسكر فالجواب فيه على ما بينا إلا في خصلة واحدة.
وما أصاب اللاحق بالسرية من النفل ضمه إلى نصيب أصحابه الذين كان أخرجه الامام معهم فاقتسموا نفلهم بالسوية على ما كان جعل لهم الامام.
وإن لم تصب تلك السرية شيئا دخلت معه في نفله.
لما بينا أن الاحراز بالمعسكر هنا حصل بهم جميعا، فكأنهم اشتركوا في الاصابة.(2/634)
وهو نظير ما لو ضل رجل منهم الطريق، فذهب وحده فأصاب غنيمة، ولم تصب السرية شيئا، ثم التقوا قبل أن ينتهوا إلى المعسكر، فإنهم يدخلون معه في النفل.
بمنزلة ما لو أصابوه جميعا.
ولو لم يلقوه حتى انتهوا إلى المعسكر كان النفل له خاصة.
1033 ولو أن السريتين أصابتا الغنيمة وهما متقاربتان بحيث يغيث بعضهم بعضا، إلا أن كل سرية أصابت غنيمة على حدة، لم يدخل بعضهم في نفل بعض.
لان استحقاق النفل بالتسمية.
ألا ترى أن الامام لو سمى النفل لبعض السرية خاصة لم يكن للباقين معهم شركة في ذلك وإن شاركوهم (1) في الاصابة حقيقة.
فكذلك هاهنا.
1034 - وإن شاركت إحدى السريتين الاخرى في الاصابة حكما باعتبار القرب لم يكن للبعض أن يدخل في نفل البعض ألا ترى أن السريتين لو قاتلتا في موضع يقدر أهل العسكر على أن يعينوهما، لم يكن لاهل العسكر معهم شركة في النفل، باعتبار هذا القرب، فكذلك الحكم فيما بين أهل السريتين.
1035 - ولكنهم لو أصابوا جميعا غنيمة واحدة قسمت على عدد رؤوسهم ليتبين محل النفل لكل سرية فإن محل النفل ما أصابت.
__________
(1) في هامش ق " شاركهم.
نسخة " *(2/635)
وإنما يتبين مصاب كل سرية بهذه القسمة.
ثم تأخذ كل سرية نفلها مما أصابها، والباقى بينهم وبين جميع أهل العسكر.
وقد بينا أن في النفل يستوى الفارس والراجل.
إلا أن يكون الامير بين لهم بأن يقول: لكم الربع بعد الخمس، للفارس منكم سهم الفارس (1) وللراجل سهم الراجل.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية (2) فإذا فضل بعضهم على بعض في التسمية ثبت الاستحقاق بتسميته (2) وإذا لم يفضل ثبت الاستحقاق لهم بالسوية.
ولا يقال 1036 - وإن لم يبين الامام فينبغي أن يكون الاستحقاق لهم على هذا بناء على الاستحقاق الثابت لهم من الغنيمة.
لان كل واحد منهما يستحق بسبب القتال، وهذا لان النفل غير الغنيمة.
فان هذا شئ رضخ لهم الامام باعتبار جزائهم وعنائهم.
ومن أصلنا أن المطلق لا يحمل على المقيد في حكمين مختلفين، وإن كانا في حادثة (3) واحدة فلا يجوز أن يجعل التقييد في الغنيمة بمنزلة التقييد في النفل، ولكن يعتبر في النفل إطلاق التسمية فيكون بينهم بالسوية.
ألا نرى أنه لو قال: من قتل قتيلا فله سلبه، فاعتور القتيل فارس وراجل حتى قتلاه، كان سلبه بينهما نصفين ؟ 1037 - ولو قال الامير لقوم من أهل الذمة بعثهم سرية: لكم
__________
(1) ه " للفارس سهم الفارس منكم.." (2) ق " بحسبه " وصححت في الهامش " بتسميته " (3) ق " مادة " وفى الهامش " حادثة.
نسخة " *(2/636)
الربع مما أصبتم، فكان فيهم فرسان ورجالة، وكان الربع بينهم بالسوية وكذلك في حق المسلمين.
(ص 214) 1038 - فإن قال قائل: ليس لاهل الذمة سهام معروفة ليعتبر النفل بها بخلاف المسلمين.
قلنا: أرأيتم لو بعث الامام سرية فيها مائتا رجل: مئة مسلمون ومئة من أهل الذمة، ونفلهم الربع.
فإن قسم النفل بينهم فجعل لاهل الذمة نصفه بينهم بالسوية وللمسلمين نصفه، وفضل فيه الفارس على
الراجل، كأن الراجل من أهل الذمة قد أخذ أكثر مما يأخذ راجل المسلمين، وقد عملا عملا واحدا، وأجزيا جزاء واحدا، فأى فعل يكون أقبح (1) من هذا.
فكأنه أشار في هذا إلى مخالف له في هذه المسألة.
ولكن لم يبق من المخالف.
والاشبه أن يكون المخالف له من يقول بأن المطلق يحمل على المقيد، وإن كانا في حادثين.
وقد بيناه في أصول الفقه، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) ب، ه " بأقبح " *(2/637)
70 باب النفل الذى ينفله أمير العسكر 1039 - وإذا خرج أمير العسكر مع السرية وخلف الضعفة في المعسكر، وأمر عليهم أميرا، فابتلوا بالقتال فنفل لهم أميرهم، فهو جائز على ما يجوز عليه نفل أمير السرية.
لان الذين خلفهم في المعسكر بمنزلة سرية وجههم من المعسكر إلى ناحية، فكما أن لاميرهم الولاية عليهم خاصة دون (1) الذين خرجوا مع أمير العسكر (2)، فهنا (3) لامير الضعفة الولاية عليهم خاصة دون الذين خرجوا مع أمير العسكر في حكم التنفيل.
1040 - ولو أن أمير السرية الذين نفل لهم الامام الثلث بعد الخمس بعد من المعسكر، ثم بعث سرية من سريته ونفلهم أقل من النفل الاول وأكثر، فذلك جائز في حصة أصحاب سريته.
ثم المسألة على وجهين: أحدهما أن نصيب السرية الثانية عنيمة، ثم يرجع إلى السرية الاولى، ثم يلحقون جميعا بأهل المعسكر.
وفى هذا يجوز النفل للسرية الاولى (4)، ويرفع
ذلك مما جاءوا به، ثم يقسم ما بقى حتى يتبين حصة السرية الاولى (5)، ثم ينفذ
__________
(1) ب " دون العسكر الذين.." (2) ة " الولاية عليهم خاصة دون العسكر " وقوله " الذين خرجوا مع أمير " ساقط فيها.
(3) ه ق " فها هنا " (4) ب، ق " نفل السرية الاولى " (5) ه " لان تنفيل الامير السرية الاولى " *(2/638)
من ذلك كله نفل السرية الثانية، لان تنفيل أمير السرية الاولى إنما يجوز في حصة أصحابه خاصة من النفل والغنيمة جميعا دون حصة أهل العسكر.
فإذا تبين من ذلك حصتهم (1) يعطى من ذلك نفل السرية الثانية.
فان كان يأتي ذلك على جميع حصتهم ويفضل أيضا لم يكن لهم من الفضل شئ، لانه لا ولاية لاميرهم على حصة أهل العسكر، إلا أن يكون أمير العسكر أذن له في التنفيل، فحينئذ هو نائب عن الامير ينفذ تنفيله للسرية الثانية في حق جميع أهل العسكر.
والفصل الثاني: فيما إذا لم يلقوا أهل العسكر حتى خرجوا إلى دار الاسلام.
فها هنا يبطل نفل السرية الاولى، لان الحق في المصاب لهم خاصة، والنفل العام في مثله باطل.
كما لو كانوا بعثوا (2) من دار الاسلام.
وجاز نفل السرية الثانية، لانهم بمنزلة سرية مبعوثة من جيش في دار الحرب.
وقد نفل لهم أميرهم.
فيعطيهم النفل من المصاب أولا ثم يقسم الباقي بينهم وبين جميع أهل السرية على قسمة الغنيمة.
1041 - ولو بعث الامام من المعسكر سرية ونفل لهم الربع قبل الخمس، فهو تنفيل صحيح في جميع ما أصابوا من ذهب أو فضة أو.
رقيق أو متاع.
لانه سمى لهم بلفظ عام.
1042 - فإن خص شيئا فهو على ما خص.
لان الوجوب لهم بالتسمية، فيراعى صفة التسمية.
__________
(1) ب، ق " تبين بالقسمة حصتهم " (2) ه " خرجوا " *(2/639)
1043 - فإن جاءت السرية بغنائم فيها رجال ونساء وصبيان، فأعتق واحد من أهل السرية بعض السبى فعتقه باطل.
لان الاستحقاق (ص 215) لهم بطريق الاغتنام، كاستحقاق أصل الغنيمة للجيش.
فكما أن (1) هناك الملك لا يثبت قبل القسمة حتى لا ينفذ العتق من بعض الغانمين في شئ من الغنيمة، فكذلك هاهنا.
فإن قيل: لا كذلك، بل الاستحقاق للنفل بالتسمية.
وقد صحت من الامام فينبغي أن يثبت له الملك بنفس الاصابة.
قلنا: تسمية الامام لقطع شركة الجيش معهم في مقدار ما نفل لهم، لا لاثبات الاستحقاق، وإنما يستحقون بعد هذه التسمية بالاصابة.
فإن قيل: أليس قد قلتم لا يفضل (2) في هذا الفارس على الراجل ؟ ولو كان الاستحقاق بالاصابة لثبت التفضيل.
قلنا: الامام بهذه التسمية كما قطع شركة الجيش معهم قطع حق الفارس في التفضيل، لضرورة انه سوى بينهم في النفل.
ثم من ضرورة انقطاع الشركة للغير واختصاصهم في النفل أن يتأكد حقهم فيه، وليس من ضرورة ثبوت الملك لهم قبل القسمة، فيكون المنفل في
حقهم بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الاسلام.
ولو أن الجيش بعد إحراز الغنائم بدار الاسلام أعتق واحد منهم بعض السبى لم ينفذ عتقه، فكذلك ها هنا.
وكان المعنى فيه أنه لا يدرى أين يقع نصيبه منها بالقسمة، وأن للامام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم.
وأن له أن يقتل الرجال من السبى.
فهذا موجود في النفل قبل الاحراز أيضا.
ثم خرج المسائل على هذا فقال:
__________
(1) ه " فكان " بدلا من فكما أن (2) ه " نفضل " *(2/640)
1044 - ولو كان في السبى قريب لبعض أهل السرية لم يعتق عليه بالقرابة.
لانه لم يملكه قبل القسمة.
1045 - ولو أراد الامام أن يقتل الرجال فليس لاصحاب السرية أن يمنعوه من ذلك لاجل نفلهم.
كما لا يكون للجيش ذلك في الغنائم المحرزة بدار الاسلام.
1046 - ولو ظهر المشركون على الغنيمة التى جاءت بها السرية فأحرزوها ثم إن المسلمين قاتلوهم حتى استنقذوا ذلك من أيديهم ردوا النفل إلى أهله.
لان حقهم تأكد في المنفل، وهو بمنزلة الغنائم المحرزة بدار الاسلام إذا استولى عليها المشركون فأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر فهناك الرواية واحدة.
أن الاولين إن ظفروا بما قبل القسمة أخذوها بغير شئ.
لان حقهم تأكد فيها بالاحراز.
والحق المتأكد في هذا الحكم بمنزلة الملك.
ألا ترى أن المرهون إذا أحرزه المشركون ثم وقع في الغنيمة فانه يكون للمرتهن أن يأخذ قبل القسمة بغير شئ لما له فيه من الحق المتأكد.
واختلفت الرواية فيما إذا وجدوها بعد القسمة فذكر هنا: أنهم يأخذونها بالقيمة إن شاءوا على قياس المرهون.(2/641)
فان المرتهن إذا وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة لماله من الحق المتأكد فيه.
وذكر بعد هذا: أنهم لا يأخذونها بعد القسمة وهو الاصح.
لان الحق للجيش الاول إنما تأكد في المالية دون العين.
ألا ترى أن للامام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم، فلا يكون الاخذ بالقيمة مفيدا لهم شيئا بخلاف الاخذ قبل القسمة.
ولصاحبه أن يأخذه قبل القسمة.
وهو بمنزلة ما لو أحرز الكفار شيئا من ذوات الامثال لبعض المسلمين، ثم وقع في الغنيمة، فلصاحبه أن يأخذه (1) قبل القسمة بغير شئ، وليس له حق الاخذ بعد القسمة، لانه لو أخذه أخذه بالمثل، فلا يكون مفيدا، بخلاف المرهون، فان حق المرتهن في حبس العين ثابت، فيكون الاخذ مفيدا في حقه.
وإذا ثبت هذا في الغنائم المحرزة فكذلك الحكم في المنفل (2) قبل الاحراز (ص 216)، فانهم أحق به قبل القسمة بغير شئ، وبعد القسمة فيه روايتان.
وهذا بخلاف الغنيمة التى لا نفل فيها قبل الاحراز، فانه إذا ظهر عليها العدو وأحرزوها ثم استنقذها منهم جيش آخر، فلا سبيل للجيش الاول عليها قبل القسمة، وبعد القسمة.
لان الثابت لهم كان حقا ضعيفا.
ألا ترى أن من مات منهم لم يورث نصيبه بخلاف ما بعد الاحراز.
وكذلك لو لحقهم مدد (3) شاركوهم في ذلك، بخلاف ما بعد الاحراز.
والحق الضعيف يبطل إحراز المشركين المال بدارهم فكأنها ما أخذت منهم حتى الآن.
وأما في المنفل فالحق متأكد لهم قبل الاحراز، حتى إن من مات منهم يورث نصيبه، ولا يشركهم المدد في ذلك إذا لحقوهم.
فلهذا وجب الرد عليهم قبل القسمة.
__________
(1) ه " يأخذ " (2) ه " النفل " (3) ه " المدد " *(2/642)
1047 - ولو قسمت الغنائم في دار الحرب أو بيعث ولم يقسم الثمن بعد القبض من المشترى حتى ظهر المشركون على الغنائم وعلى الثمن فأحرزوها، ثم استنقذها منهم عسكر آخر، فإنهم يردون الغنائم على المشترى قبل القسمة بغير شئ، وبعد القسمة بالقيمة.
لان المشترى ملك العين بالشراء، فيردون الثمن على الفريق الاول كما يردون هذا الجيش من أموال سائر الناس.
لان بيع الامام حين نفذ موجب الملك للمشترى في المبيع، فهو موجب الملك في الثمن لمن وقع البيع لهم أيضا.
1048 - ولو أن السرية لما جاءت بالغنائم ولهم فيها النفل استهلك رجل من أهل العسكر جميع تلك الغنائم.
فهو ضامن لحصة النفل خاصة، إلا من قتل من الرجال فإنه لا ضمان في ذلك.
لان النفل بمنزلة الغنائم المحرزة.
1049 - ولو أن واحدا من الغانمين استهلك الغنائم قبل الاحراز
لم يضمن شيئا لضعف حقهم فيها.
ولو استهلك بعد الاحراز بالدار كان ضامنا لتأكد الحق فيها بالاحراز، إلا من قتل من الرجال فإنه لا يكون ضامنا لها.
لان الحق في الرجال لا يتأكد بالاحراز ما لم يضرب عليهم الامام الرق.
ألا ترى أن له أن لا يقتلهم، وأن يمن عليهم فيجعلهم ذمة، فكذلك هذا الحكم في المنفل قبل الاحراز.(2/643)
1050 - ولو أن السرية جاءت بغنائم فيها طعام وعلف فلاهل العسكر أن يأكلوا ذلك بقدر حاجتهم لانهم شركاء للسرية فيها بسهامهم.
فكما أن لكل واحد من أهل السرية أن يتناول فيها مقدار حاجته فكذلك لاهل العسكر أن يتناولوا.
لان الشركة تقتضي المساواة.
فان قيل: فأين ذهب قولكم ان المنفل بمنزلة الغنائم المحرزة.
فان بعد الاحراز بالدار ليس لواحد من الغانمين أن يتناول من الطعام والعلف من غير ضرورة ولا ضمان.
فكان ينبغى أن يكون الجواب في المنفل قبل الاحراز كذلك.
قلنا: إنما افترقا في هذا الحكم، لان إباحة التناول من الطعام والعلف قبل الاحراز، باعتبار أنه يصير مستثنى من شركة الغنيمة لضرورة الحاجة لكل واحد منهم إلى ذلك، فانهم لا يقدرون على أن يستصحبوا من دار الاسلام ما يحتاجون إليه من الطعام والعلف للذهاب والرجوع، ولا يجدون ذلك في دار الحرب شراء.
وما يأخذونه يكون غنيمة.
وهذه الضرورة لا تتحقق في دار الاسلام.
فإذا صار مستثنى من الشركة باعتبار هذه الضرورة بقى على
أصل الاباحة، بمنزلة شراء كل واحد من المتفاوضين الطعام والكسوة لنفسه وعياله، فانه يصير مستثنى من موجب المفاوضة لضرورة الحاجة إليه.
ثم هذه الضرورة تتحقق في الغنائم التى فيها نفل في دار الحرب كما تتحقق في الغنائم التى لا نفل فيها فيصير (ص 217) مستثنى من حكم النفل أيضا.
ولهذا جاز لاصحاب السرية التناول منها، فكذلك لغيرهم.
فان قيل: لا كذلك، فانهم إذا قسموا في دار الحرب أو في دار الاسلام أعطوهم (1) النفل من الطعام والعلف كما أعطوهم من سائر الاموال، ولو صار هذا مستثنى من التنفيل لما استحق النفل منه.
__________
(1) ب " أعطوا " *(2/644)
قلنا: هذا الاستثناء باعتبار الضرورة والثابت بالضرورة، يتقدر بقدر (1) الضرورة.
ألا ترى أن الغنيمة التى لا نفل فيها إذا قسمت بين الغانمين فالطعام وغير الطعام في ذلك سواء ؟ ولم يدل ذلك على أن قبل القسمة لم تكن باقية على أصل الاباحة، فكذلك حكم المنفل.
ولهذا لا يباح التناول من الطعام والعلف للتجار الذين لا يقاتلون، لان ثبوت هذه الاشياء باعتبار الضرورة.
وإنما يتحقق في حق الغزاة الذين لهم شركة في القسمة دون التجار.
ولو تناول التجار شيئا من ذلك أو علفوا دوابهم لم يغرموا شيئا، لان باعتبار (2) الاستثناء الذى قلنا لا يتكأد الحق فيها، ما داموا في دار الحرب، فمن استهلك شيئا منها لم يكن ضامنا المنفل، وغير المنفل فيه سواء، بمنزلة قتل الرجال على ما قررنا.
1051 - قال: ولو أن السرية أصابوا أراضي بما فيها.
فلهم النفل من ذلك كله، لتعميم التنفيل من الامام، فإن رأى الامام أن يمن بها على أهلها ويجعلهم ذمة فلا بأس بذلك
لانه نصب ناظرا، فربما رأى النظر في ذلك.
وليس لاصحاب النفل أن يأبوا ذلك عليه.
لان حقهم في النفل كحق الغانمين في الغنائم المحرزة.
وللامام ولاية المن هناك فكذلك هنا.
1052 - إلا أنه ينبغى له أن يسترضيهم بأن يعطيهم عوضا من محل آخر واستدل عليه بفعل عمر رضي الله عنه فإنه حين بعث الناس إلى
__________
(1) ب، ق " بقدرها " (2) ق " اعتبار " *(2/645)
العراق قال لجرير بن عبدالله البجلى: لك ولقومك ربع ما غلبتم عليه.
ففتحوا السواد.
ثم جعل عمر رضي اله عنه الارض بعد ذلك أرض خراج.
ولم يمنعه ما نفل جريرا وقومه من ذلك.
قال: وبلغنا أن امرأة أتته فقالت: إن ذا قرابة لى مات من الغزاة فترك نصيبه من ذلك ميراثا، ولست، أسلم ما صنعت إلا أن تعطيني دنانير.
فأعطاها كفا من دنانير.
وفى المغازى يروى هذا الحديث أنها قالت: ليست أرضى حتى تملا كفى ذهبا وتحملنى على ناقة حمراء.
ففعل ذلك عمر رضى الله عنه.
فهذا دليل على أن من مات بعد الاحراز يورث نصيبه.
وأنه ينبغى للامام أن يسترضى أصحاب النفل بأن يعطيهم شيئا إذا أراد المن على أهل الاراضي بها والله أعلم.(2/646)
71 باب ما يبطل فيه النفل وما لا يبطل (1) 1053 - وإذا بعث الخليفة عسكرا إلى دار الحرب وعليهم أمير
فبعثت أميرهم سرية ونفل لها الربع.
ثم بعث الخليفة عسكرا آخر من ناحية أخرى، فلقوا السرية بعد ما غنمت الغنائم، ثم لحقوا جميعا بالمعسكر الاول، وأخرجوا الغنائم (2) إلى دار الاسلام، فالنفل سالم للسرية من جميع ما أصابوا على ما سمى أميرهم لهم.
لان أمير ذلك العسكر مبعوث الخليفة.
فهو فيما ينفل كالخليفة، ينفذ تنفيله في حق العسكرين وجماعة المسلمين.
بخلاف ما سبق من نفل أمير السرية لمن بعثه من سريته.
لان ولايته هناك مقصورة على أهل سريته (ص 218).
ألا ترى أنه بعد الرجوع إلى المعسكر هو كسائر الرعايا ؟ وهاهنا لامير العسكر ولاية كاملة، باعتبار تقليد الخليفة إياه.
فينفذ تنفيله في حق الكل، ثم ما يبقى بعد النفل والخمس يشترك فيه أهل العسكرين والسرية على سهام الغنيمة، لانهم اشتركوا في إحراز ذلك بدار الاسلام.
1054 - ولو أن السرية والعسكرين لقوهم خرجوا إلى دار الاسلام قبل أن يلقوا العسكر الاول فللسرية أيضا نفلها.
لان نفلهم قائم مقام الخليفة في التنفيل لهم، فيستحقون النفل بتسميته (3) لهم.
__________
(1) اسم هذا الباب في ه وحدها " باب مبعوث الخليفة أميرا كالخليفة ".
(2) ب " وخرجوا إلى دار الاسلام ".
(3) ب " بقسمته ".
*(2/647)
سوآء رجعوا إليه في دار الحرب أو لم يرجعوا، ثم الباقي بينهم وبين العسكر الثاني دون العسكر الاول.
لانهم هم الذين أحرزوه.
1055 - ولو لم تلق السرية واحدا من العسكرين حتى خرجت
لى دار الاسلام فقد بطل نفلهم.
لانهم هم المختصون بالاحراز.
وثبوت الحق في المصاب هنا.
والنفل العام في مثل هذا يكون باطلا، بمنزلة السرية المبعوثة من دار الاسلام.
1056 - ولو أن الامام قال للسرية المبعوثة من دار الاسلام: من أصاب منكم شيئا فهو له، دون أصحابه.
كان هذا جائزا، بخلاف ما إذا قال: لكم الربع.
لان التنفيل للتحريض، ومعنى التحريض على الاصابة يتحقق بهذا التنفيل الاول، ولان هذا التنفيل قطع شركة غير المصيب مع المصيب، وذلك جائز فيبطل فيه الخمس.
ويفضل (1) الفارس على الراجل أيضا، تبعا.
ومثل هذا لا يوجد فيما إذا نفل لهم الربع.
أرأيت لو قال لهم: من دخل منكم فارسا فأصاب شيئا فهو له.
أما كان يصح هذا التنفيل وفيه تحريضهم على التزام مؤنة الفرس، ولو قال لهم ما أصبتم ؟ فلو صح هذا التنفيل كان فيه تقليل نشاطهم في التزام مؤنة الفرس، لانهم إذا علموا أنه لا يزداد نصيبهم بالتزام مؤنة الفرس فقل ما يرغبون في ذلك.
فبهذا وقع الفرق بينهما.
__________
(1) ق " وتفضيل ".
*(2/648)
1057 - ولو أن العسكر الثاني لحقوا السرية المبعوثة في دار الحرب قبل أن يصيبوا شيئا، ثم قاتلوا جميعا فأصابوا غنائم، ثم لحقوا بالعسكر الاول وخرجوا، فالغنائم تقسم بين السرية والعسكر الذين لحقوهم (1) على قسمة الغنيمة.
كأنه (2) لا نفل فيها.
ثم ينظر إلى حصة السرية فيخرج نفلهم من ذلك.
لان أميرهم إنما نفل لهم الربع مما أصابوهم دون ما أصابه عسكر آخر.
ولا يتبين مصابهم إلا بالقسمة، فلابد من هذه القسمة ليتبين محل حقهم، فيعطون النفل من ذلك.
ثم يجمع ما بقى إلى ما أصاب أهل العسكر، فيقسم بين السرية والعسكرين على قسمة الغنيمة.
لانهم اشتركوا في الاحراز.
ولو لم يلقوا العسكر الاول حتى خرجوا قسم بينهم أولا ليتبين حصة السرية، ثم يعطون نفلهم من ذلك.
لان تنفيل الامير لهم صح مطلقا.
ثم يجمع ما بقى إلى حصة العسكر فيقسم بينهم على سهام الغنيمة لا شئ فيه لاهل العسكر الاول.
لانهم لم يشاركوهم في الاحراز.
__________
(1) ق " لحوقهم ".
(2) ه " وكأنه ".
*(2/649)
1058 - ولو أن أمير العسكر في دار الحرب بعث سرية وقال: ما أصبتم فهو لكم.
فهذا جائز.
لان المقصود قطع شركة الجيش معهم في المصاب إذا رجعوا إليهم، بخلاف السرية المبعوثة من دار الاسلام.
1059 - فان افتتحوا حصنا متاخمة (1) لدار (2) الاسلام، ثم لحقهم أهل العسكر بعد ذلك، فجميع ما أصابوا لهم دون أهل العسكر.
لان الامام قطع شركة أهل العسكر معهم (ص 219) بتنفيل صحيح.
1060 - لكن لو أعتق رجل منهم نصيبه من الرقيق، أو كان فيهم ذات رحم (3) محرم من بعضهم، لم تعتق (4) لانها لم تصر (5) مملوكة لهم بالاصابة قبل القسمة.
وان انقطعت شركة الغير معهم، بمنزلة الغنائم المحرزة بالدار قبل القسمة.
ألا ترى أن الامام لو رأى أن يجعلهم ذمة، أو رأى أن يقتل الرجال كان له ذلك.
1061 - قال: والنفل بمنزلة رضخ رضخ لهم (6) من الغنيمة.
فإذا
__________
(1) في هامش ق " تتاخم أرض كذا أي تحادها، ويتصل حدها بحدها.
ومنه: افتتحوا حصنا متاخما لارض الاسلام.
" مغرب ".
(2) في ه، ق، ب " بأرض ".
(3) ب " ذا رحم " ق، ه " ذو رحم ".
(4) ه، ب، " عتق ".
(5) ه " يصر ".
(6) رضح له أعطاه غير كثير (القاموس).
*(2/650)
كان سهام الغنيمين لا يمنعه من هذا فالرضخ كيف يمنعه ؟ 1062 - ولو كان قال لهم: من أصاب منكم شيئا فهو له.
ثم أعتق رجل منهم أسيرا قد أصابه، فإنه ينفذ عتقه، ولو أصاب ذا رحم محرم منه عتق عليه.
لانه اختص بملكه هنا بنفس الاصابة.
وهذا لانه ليس هنا أمر آخر منتظر (1) لوقوع الملك سوى الاصابة، حتى يتوقف الملك عليه، بخلاف الاول.
فان هناك أمرا آخر منتظرا وهو القسمة بينهم، فلا يثبت الملك قبل
وجودها.
وفى هذا الفصل ليس للامير أن يقتل أحدا من رجال الاسراء، لان الملك ثبت فيه للمصيب بنفس الاصابة.
فكأن الامام ضرب عليه الرق.
وكذلك من استهلك شيئا على المصيب في هذا الموضع غرم له.
وليس لغير المصيب من أهل العسكر، ولا من أهل السرية أن يرد أشياء من الطعام والعلف، بخلاف الاول.
وهذا لان التنفيل من الامام بمنزلة القسمة بعد الاصابة في دار الحرب.
ولو قسم بينهم ثبت هذه الاحكام فيما أصاب كل واحد منهم.
وكذلك إذا نفل لكل واحد منهم ما أصابه خاصة، بخلاف ما سبق، فان قوله " ما أصبتم فلكم " قطع لشركة الجيش.
فليس فيه معنى القسمة بينهم.
والملك في المصاب لا يثبت إلا بالقسمة.
1063 - ولو قال للسرية المبعوثة في دار الحرب: من أصاب منكم أسيرا فهو له.
فأصابوا جميعا أسيرا واحدا، فهو لهم.
لان " من " اسم مبهم.
فهو عام فيما يتناوله.
فكما يتناوله الفرد منهم
__________
(1) ب " ينتظر ".
*(2/651)
يتناول جماعتهم، بمنزلة قول الرجل لعبيده: من شاء منكم العتق فهو حر.
فشاءوا، عتقوا.
بخلاف قول أبى حنيفة رحمه الله فيما إذا قال: من شئت عتقه من عبيدى.
لانه أضاف المشيئة هناك إلى من لم يتناوله " من " وهاهنا أضاف الاصابة إلى من تناوله " من ".
1064 - وإذا ثبت الاستحقاق لهم بالاصابة صار الاسير مملوكا لهم.
حتى إذا كان قريبا لبعضهم عتق حصته منه.
ولو أعتقه أحدهم
عتق حصته.
لان الامام حين خص المصيب بالمصاب فذلك منه بمنزلة القسمة بعد الاصابة، لا فرق بين أن يصيب الاسير جماعة وبين أن يصيب الواحد، في ثبوت الملك به.
فكذلك في الغنيمة (1) قبل الاصابة.
1065 - ولو كان قال لهم: ما أصبتم فهو لكم.
وال مسألة بحالها، لم يعتق الاسير بإعتاق أحدهم إياه ولا بقرابته منه.
لان هذا التنفيل ليس في معنى القسمة من الامام.
ألا ترى أن المصيب لا يختص بالمصاب، ولكن ما يصيب الواحد منهم يكون بين جماعتهم، وبدون القسمة وما في معناها لا يثبت الملك بنفس الاصابة.
يوضح الفراق أن في كل موضع يختص المصيب بالمصاب على وجه لا يشاركه فيه غيره فتلك الاصابة في معنى الاصطياد.
فكما أن الملك في الصيد يثبت بنفس الاصابة، للواحد كان أو للجماعة، فكذلك الملك يثبت للسرية بمثل هذه الاصابة، وفى كل موضع لا يختص المصيب بالمصاب ولكن يشاركه فيه أصحابه.
فتلك الاصابة في معنى إصابة الغنيمة.
ومجرد الاخذ في الغنيمة لا يوجب الملك قبل القسمة فكذلك ما يكون في معناه.
__________
(1) ق، ه " القسمة " وفوق هذه الكلمة في ق " الغنيمة.
نسخة ".
*(2/652)
1066 - ولو بعث الامير في دار الحرب ثلاثة طليعة، ونفل لهم الربع مما يصيبون، فأصابوا أسيرا، ثم أعتقه أحدهم أو كان (ص 220) قريبا منه، لم يعتق.
لان أهل العسكر وأرباب الخمس شركاؤهم في المصاب، فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة قلوا أو كثروا.
ألا ترى أن للامام ولاية البيع وقسمة الثمن، وأن نصيبهم لا يدرى أين يقع بالقسمة.
1067 - ولو كان قال لهم: لكم ما أصبتم.
والمسألة بحالها، عتق المصاب بإعتاق أحدهم أو بقرابته منه استحسانا.
وفى القياس لا يعتق.
لان بهذا التنفيل لا يختص (1) المصيب بالمصاب، ولكن يشاركه فيه أصحابه، فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة.
بمنزلة أهل السرية على ما بينا.
وفى الاستحسان نفول قد ثبت الاختصاص لهم بالمصاب بسبب تنفيل (2) الامام.
وقد بينا أن هذا وإن كان من الامام قبل الاصابة فهو في المعنى كالموجود بعد الاصابة، فيكون بمنزلة القسمة، يثبت لهم الملك حتى ينفذ العتق فيه من بعضهم.
وهو نظير ما لو قسم الامام الغنيمة على الرايات بين العرفاء، ثم أعتق واحد منهم من أهل راية عبدا مما أصاب أهل تلك الراية، قبل أن يقسم العريف بينهم، فانه ينفذ عتقه.
والمعنى في الكل أن الشركاء متى قلوا فالشركة بينهم تكون شركة خاصة.
وهى لا تمنع الملك لهم في المشترك، بمنزلة الشركة بين الورثة في الميراث.
__________
(1) ق " يخص ".
(2) ب " نفل ".
*(2/653)
وعند الكثرة الشركة عامة، فيمنع ذلك ثبوت الملك.
بمنزلة شركة المسلمين في بيت المال وشركة الغانمين في الغنيمة.
فإن قيل: فما الحد الفاصل بين القليل والكثير في ذلك ؟ قلنا: قد ذكر في ذلك وجوها كلها محتملة (1).
1068 - أحدها: أنهم إذا كانوا أقل من تسعة جاز عتقهم، وإن كانوا تسعة فصاعدا لم يجز.
لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث تسعة سرية.
ولان الجمع في حد الكثرة والقلة جمع متفق عليه.
فالتسعة تكون جمع الجمع.
والثاني: أنهم إذا كانوا أقل من أربعين جاز عتقهم.
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أظهر الدعاء إلى الدين بمكة حين تموا أربعين بإسلام عمر رضى الله عنه.
فتبين بهذا أن الاربعين أهل عزة ومنعة.
فقد كان دعا رسول الله عليه السلام فقال: اللهم أعز الاسلام (2) بأحب الرجلين إليك ".
والعزة والمنعة إنما تحصل بالعدد الكثير من المسلمين.
والثالث: أنهم إن كانوا أقل من مئة جاز عتقهم.
لان الله تعالى يقول (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا.
فإن
__________
(1) ق " وجوها مختلفة "، وفى هامشها " كلها محتملة " نسخة.
(2) ق " أعز الدين " وفى الهامش " أعز الاسلام ".
نسخة.
*(2/654)
تكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين) (1) فكل هذا محتمل، إن قال به قائل وسعه اجتهاد الرأى فيه.
وأما أنا فلست أوقت في ذلك وقتا، ولكني أقول: إن كانوا قوما لا منعة لهم جاز العتق، وإلا فلا.
لان نصب المقادير بالرأى لا يكون، وليس في هذا نص.
والمنعة تختلف باختلاف أحوال الناس، فالسبيل أن يفوض إلى رأى الامام ليحكم برأيه فيه.
هذا هو الاقرب إلى معاني الفقه.
وهذا نظير ما بينا في كتاب الشفعة في الفرق بين الشركة الخاصة في النهر (2) والشركة العامة في استحقاق الشفعة.
فكل فصل ذكرناه ثمة، فانه يستقيم القول به هنا.
ثم في كل فصل ذكرنا أنه ينفذ العتق فانه لا يحل للامام أن يقتل الرجال من الاسراء.
لانهم قد ملكوا فصار ذلك بمنزلة الغنيمة المقسومة.
وكذلك بعد القسمة بين العرفاء ليس للامام أن يقتل أحدا من الرجال.
وهذا أظهر، لان الملك هنا يثبت بالقسمة الاولى، وهى قسمة الجمل.
وإن لم توجد القسمة بين الافراد بعد.
1069 - وإن كان العدد القليل بعثهم الامام من دار الاسلام فأصابوا غنائم ثم أعتق بعضهم الرقيق فعتقه باطل في القياس.
لان المصاب هنا غنيمة.
ألا ترى (ص 221) أنهم لو لحقهم المدد (3) في دار الحرب شاركوهم، فلا يثبت الملك لهم قبل القسمة.
ولان أرباب الخمس شركاؤهم، والامام رأى
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 66.
(2) ب " النهى ".
(3) ق، ب " مدد ".
*(2/655)
باعتبار ذلك، فلا يدرى أين يقع نصيب من أعتق عند القسمة، فينبغي أن لا ينفذ عتقه.
وفى الاستحسان ينفذ عتقه.
لان الشركة بينهم شركة خاصة، لقلة عددهم.
وقد تأكد حقهم بالاحراز حسب ما يتأكد حق الطليعة المبعوثة في دار الحرب بالاصابة، بعد تنفيل
الامام.
فكما أن هناك ينفذ العتق فكذلك هاهنا ينفذ.
ألا ترى أن المبعوث لو كان رجلا واحدا فأعتق السبى، أو كانوا أقرباءه بعد الاحراز، لم يشكل أنه ينفد عتقه.
1070 - وإن كان لو أعتقهم في دار الحرب لم ينفذ عتقه.
لان الحق لم يتأكد فيهم قبل الاحراز.
ثم بعد نفوذ العتق إن كان المبعوث رجلا واحدا فهو ضامن الخمس لارباب الخمس إن كان موسرا.
وكذلك إن كانوا نفرا فهو ضامن نصيب أصحابه ممن أعتقه.
وإن كان معسرا سعى الرقيق في حصة أصحابه.
كما هو الحكم في عتق العبد المشترك.
وأما في حصة الخمس فينبغي للامام أن لا يستسعيهم.
لان الخمس للمحتاجين، ولا حاجة أظهر من حاجة المعتقين فانهم لا يملكون شيئا حتى يلزمهم السعاية.
فلهذا ينبغى للامام أن لا يسلم حصة الخمس لهم.(2/656)
وعلى هذا لو جاءوا برجال فليس للامام أن يقتلهم بعد الاحراز.
لان الشركة في المصاب خاصة بين العدد القليل.
وقد تأكد حقهم بالاحراز.
وله أن يقتلهم قبل الاحراز.
لان الحق لم يتأكد بالاصابة قبل الاحراز، والمصاب غنيمة على الاطلاق.(2/657)
72 باب النفل الذى يبطل بأمر الامير والذى لا يبطل 1071 - ولو أرسل الامير في دار الحرب سرية (1) من المعسكر (2) ونفلهم الربع، فلما بعدوا منه خاف عليهم فأرسل سرية أخرى وقال: الحقوا بأصحابكم، فما أصبتم فأنتم شركاؤهم في ذلك كله من النفل وغيره.
فأدركوهم بعد ما أصابوا الغنيمة.
ورجعوا إلى المعسكر (2) جملة، فلا شئ للسرية الثانية من النفل.
لان أصحاب السرية الاولى قد تأكد حقهم في المنفل بنفس الاصابة على وجه لا يشركهم في ذلك غيرهم.
بمنزلة تأكد حق الغانمين بالاحراز.
ولو أراد الامام أن يثبت الشركة بين المدد والجيش بعد ما أحرزوا الغنيمة بالدار لم يملك ذلك بقوله، فهذا مثله.
1072 - وإن غنموا جميعا بعد ما لحقوهم فلهم النفل في الغنيمة الثانية.
لان ثبوت الحق للمنفلين (3) بالاصابة، وقد أشركوا جميعا في الاصابة.
والتنفيل من الامام لهم جميعا في الدفعتين.
__________
(1) ه، ق " سرية في دار الحرب ".
(2) ب " العسكر ".
(3) ه، ق " للمشتغلين ".
*(2/658)
1073 - قال: فإن كانت السرية الاولى مئة فارس والثانية خمسين فارسا وخمسين راجلا فلما أتوهم لم يعلموهم بما جعل لهم الامام من النفل حتى أصابوا غنائم، فإنها تقسم بين السريتين أولا على سهام الفرسان
والرجالة، ثم ينظر إلى ما أصاب السرية الاولى فيعطون من ذلك نفلهم لا ينقصون منه شيئا، وإلى ما أصاب السرية الثانية فيعطون منه نفلهم أيضا، ثم الباقي يخمس ويقسم بين السريتين وأهل العسكر على قسمة الغنيمة.
لان السرية الاولى استحقوا ربع ما يصيبون بالتنفيل الاول.
فكما لا يملك الامام إبطال حقهم بالرجوع عن ذلك التنفيل بعد علمهم، فكذلك لا يملك إدخال ضرر النقصان عليهم، باشتراك الغير معهم بدون علمهم.
لان الاشتراك والابطال كل واحد منهما خطاب من الامام إياهم، فلا يثبت حكمه في حقهم ما لم يعلموا به، بمنزلة خطاب الشرع في حق المخاطبين.
1074 - ولو أخبرت السرية الثانية السرية الاولى (ص 222) بما جعل لهم الامير من الشركة معهم في النفل قبل أن يصيبوا الغنيمة والمسألة بحالها، فالنفل بينهم بالسوية.
وهذا لان التنفيل الاول من الامام لم يكن لازما قبل الاصابة.
ألا ترى أنه لو رجع عنه بعلمهم كان صحيحا ؟ فكذلك إذا نقص حقهم بالاشتراك بعلمهم.
1075 - وكذلك إذا أعلموا بذلك أمير السرية الاولى.
فان إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم، إذ الامير نائب عنهم.(2/659)
1076 - وكذلك أن أظهروا ذلك حتى علم به عامتهم.
لانه يتعذر عليهم إعلام كل واحد من آحادهم، وإنما يمكنهم إظهار ذلك الخبر في عامتهم.
فإذا فعلوا ذلك فهو بمنزلة الواصل إلى كل واحد منهم، كالخطاب الشائع في دار الاسلام يشترك في حكمه من علم به ومن لم يعلم ممن
أسلم من أهل المدينة، حتى يلزمه قضاء الصلوات المتروكة بعد الاسلام، بخلاف من أسلم في دار الحرب والفرق باعتبار شيوع الخطاب.
1077 - ولو كان الامير قال (1) للسرية الثانية: أنتم شركاؤهم في النفل.
لكم ثلثاه ولهم ثلثه.
والمسألة بحالها.
فإن كانوا لم يعلموهم حين أدركوهم حتى أصابوا غنائم فللسرية الاولي نفلهم مما أصابوا كاملا.
لان حكم الخطاب (2) بالتفضيل لا يثبت في حقهم ما لم يعلموا، لما فيه من الاضرار بهم.
فانه ينتقص حقهم بذلك.
1078 - وإن كانوا أعلموهم ذلك ثبت حكم الخطاب في حقهم، فيكون النفل بينهم على الثلث والثلثين كما بين الامام.
1079 - قال: ولو جاز من الامام (3) أن ينقص (4) حق السرية الاولى بغير علمهم لجاز أن يقول للسرية الثانية كله لكم دون الاولى (5)، فلا ينبغى لاحد أن يجيز هذا.
__________
(1) ب، ق، " ولو قال الامير..".
(2) ب " بالتنفيل ".
(3) ه " ولو جاز للامام ".
(4) ه " تنقيص ".
(5) ه " الاول ".
*(2/660)
لان ما هو المقصود بالتنفيل - وهو التحريض - يفوت بتجويز هذا.
فان السرية لا يعتمدون ذلك التنفيل بعد ما بعدوا من الامام، إذ كان هو متمكنا من إبطاله بغير علمهم.
أرأيت لو قال لاهل العسكر بعد ما مضت السرية الاولى: قد أبطلت
نفلها.
كان يصح ذلك في حقهم قبل أن يعلموا به.
فكما لا يصح منه الابطال فكذلك لا يصح منه تحويله إلى السرية الثانية قبل علم السرية الاولى به.
ولو علموا به صح ذلك كله، إبطالا كان ذلك أو نفلا إلى غيره.
ألا ترى أنه لو قال لرجل: إن قتلت هذا القتيل فلك سلبه.
فلما خرج للمبارزة قال: قد أبطلت نفله، لم يبطل ذلك ما لم يعلم به المبارز، فكذلك ما سبق.
1080 - ولو بعث أمير المصيصة سرية منها.
وهى اسم بلدة من دار الاسلام في وسط الروم.
فنفل أصحاب الخيل دون الرجالة لم يجز.
لان هذه السرية مبعوثة من دار الاسلام، وهذا تنفيل عام.
فان أهل السرية أصحاب الخيل كلهم.
وقد بينا أن التنفيل العام في مثل هذه السرية لا يجوز.
لانه ليس فيه إلا إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل.
1081 - ولكنه لو أرسل معهم قوما من أصحاب المجانيق وقوما يحضرون الحصن فنفلهم شيئا لجزائهم وعنائهم فهذا جائز.(2/661)
لانه تنفيل خاص لبعض أهل السرية.
بمنزلة قوله: من قتل قتيلا فله سلبه وهذا.
بخلاف السرية المبعوثة في دار الحرب لو نفل أصحاب الخيل جاز.
لان التعميم في حقهم لا يمنع صحة التنفيل، إذ (1) المقصود قطع شركة الجيش معهم.
1082 - وكذلك إن نفل أصحاب الخيل العرب على البراذين جاز.
والعراب أفراس العرب والبراذين أفراس العجم.
وأفراس العرب أقوى
في الطلب والهرب، والبراذين أصبر على القتال وألين عند العطف.
والتنفيل بحسب العناء والجزاء، فلا بأس للامام أن يختص أحد الفريقين بالفعل على حسب ما يرى فيه من النظر والله أعلم.
__________
(1) ه " إذا ".
*(2/662)
73 باب نفل الامير 1083 - وإذا قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه، ثم لقي الامير رجلا فقتله، فله السلب استحسانا.
وفى القياس لا يستحق.
لان الغير إنما يستحق بإيجابه، وهو لا يملك الايجاب لنفسه بولاية الامارة.
بمنزلة القاضى لا يملك أن يقضى لنفسه.
ألا ترى أنه لو خص نفسه فقال: إن قتلت قتيلا فلى سلبه، لم يصح ذلك.
ولو كان هو كغيره في هذا الحكم يصح إيجابه خاصا كان أو عاما، كما في حق غيره.
ولان التنفيل للتحريض، وإنما يحرض غيره على القتال لا نفسه.
فالامارة تكفيه لذلك.
ووجه الاستحسان انه وجب النفل للجيش بهذا اللفظ، وهو رجل منهم فيستحق كما يستحق غيره.
ألا ترى أن فيما يجب شرعا وهو السهم هو كواحد من الجيش، فارسا أو راجلا ؟ فكذلك فيما يستحق بالايجاب.
أرأيت لو برز علج ودعا إلى البراز.
فقال الامير: من قتله فله سلبه.
فلم يتجاسر أحد على الخروج، حتى خرج هو بنفسه فقتله، كان لا يستحق سلبه.
وهذا بخلاف ما إذا خص نفسه، لانه متهم فيما يخص به نفسه من التنفيل، بمنزلة القاضى يكون متهما فيما يقضى به لنفسه.
فأما عند التعميم فتنتفى التهمة،
فيثبت الحكم في حقه كما يثبت في حق غيره.
ألا ترى أن إباحة التناول من الطعام والعلف يثبت في حق الامام كما يثبت في حق المعسكر، باعتبار أنه لا تتمكن تهمته فيما لا يختص الامير به.(2/663)
وإذا خحص غيره بالتنفيل لا تتمكن التهمة في ذلك، ولا يخرج فعله من أن يكون واقعا بصفة النظر.
1084 - ولو كان قال: من قتل منكم قتيلا فله سلبه.
ثم قتل الامير قتيلا لم يكن له سلبه.
لانه خصهم بقوله: منكم.
فلا يتناوله حكم الكلام بخلاف الاول.
ألا ترى أن من قال لعبده: اعتق مماليكى.
فقال العبد لسائر المماليك: أنتم أحرار.
لم يدخل هو في هذا الكلام.
ولو قال: مماليكى أحرار دخل هو في جملتهم لهذا المعنى.
1085 - ولو قال: إن قتلت قتيلا فلى سلبه.
ثم لم يقتل أحدا.
حتى قال: ومن قتل منكم قتيلا فله سلبه.
ثم قتل الامير بعد ذلك قتيلا استحق سلبه.
لان التنفيل صار عاما، باعتبار كلاميه.
ولا فرق بين تنفيل العام بكلامين وبينه (1) بكلام واحد.
وهذا لان كلامه الاول لم يكن صحيحا للتهمة المتمكنة بسبب التخصيص، وقد زال ذلك بكلامه الثاني.
وبعد ما انعدم المانع من صحة الايجاب يكون الايجاب صحيحا عاما في حقهم.
1086 - ولو كان قتل قتيلين: أحدهما قبل الكلام الثاني، والآخر بعده، فله سلب القتيل الثاني دون الاول.
لان القتل الذى جعله سببا تم منه في الاول قبل صحة الايجاب.
فصار
ذلك السبب غنيمة.
ثم صح الايجاب بالكلام الثاني، فيجعل عند الكلام الثاني
__________
(1) قوله " بينه " ساقطة من ه.
*(2/664)
كأنه أنشأ تنفيلا عاما الآن، فانما يستحق به سلب ما نفل بعد ذلك.
لان التنفيل لا يعمل فيما صار غنيمة قبله، باعتبار أن الكلام غير متناول له، ولو كان متناولا له لم يصح أيضا، لانه تنفيل بعد الاصابة.
1087 - ولو قال: إن قتلت قتيلا فلى سلبه.
ومن قتل منكم قتيلا فله سلبه.
ثم قتل الامير قتيلين، ورجل من القوم (ص 224) قتيلين.
فللامير سلب الاول دون الثاني.
لانه أوجب لنفسه بحرف لا يقتضى التكرار، وهو حرف الشرط.
ألا ترى أن من قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق.
فدخلت دخلتين لم تطلق إلا واحدة.
أوجب للقوم بكلمة (من) وهى عامة كما بينا.
فيتناول كل قتيل يقتله كل واحد منهم، حتى لو قتل رجل عشرين قتيلا كان له أسلابهم جميعا.
1088 - ولو قال لرجل منهم: إن قتلت قتيلا فلك سلبه.
فقتل رجلين، كان له سلب الاول خاصة.
لما بينا أنه علق استحقاقه بالشرط، وذلك ينتهى بقتل الاول.
وليس في لفظه ما يدل على التكرار والعموم.
1089 - ولو قال لجميع أهل العسكر: إن قتل رجل منكم قتيلا فله سلبه.
فقتل رجل عشرة منهم، استحق أسلابهم جميعا، وهذا استحسان.
وفى القياس لا يستحق إلا القتيل الاول، كما لو خصه بالايجاب بهذا اللفظ.
ووجه الاستحسان انه لما لم يقصد لانسان بعينه.
فقد خرج
الكلام منه عاما.(2/665)
ألا ترى أنه يتناول جميع المخاطبين.
فكما يعم جماعتهم يعم جماعة المقتولين بخلاف الاول.
ألا ترى أن في هذا الفصل إن قتل عشرة من المسلمين عشرة منهم استحق كل واحد منهم سلب قتيله ؟ فكذلك إذا كان الواحد هو القاتل لعشرة.
وحقيقة معنى الفرق أن مقصود الامام هنا تحريضهم على المبالغة في النكاية فيه.
وفى معنى النكاية لا فرق بين أن يكون القاتل للعشرة عشرة من المسلمين أو واحدا منهم.
وفى الاول مقصوده معرفة ذلك الرجل وجلادته، وذلك يتم بدون إثبات معنى العموم في المقتولين.
1090 - ولو قال لعشرة هو أحدهم: من قتل منا قتيلا فله سلبه.
أو إن قتل رجل منا قتيلا فله سلبه.
ثم قتل بنفسه قتيلين أو ثلاثة، استحق أسلابهم.
لان معنى التهمة قد انتفى باشتراك التسعة مع نفسه في الايجاب، وصار كلامه عاما باعتبار المعنى الذى قلنا.
فيستحق هو من سلب المقتولين ما يستحقه تسعة معه إذا قتلوا.
1091 - ولو قال لرجل بعينه: إن قتلت قتيلا فلك سلبه.
فقتل قتيلين معا، فله سلب أحدهما.
لان هذا الايجاب لا يتناول إلا الواحد، ثم يختار أي السلبين شاء.
لان الحق ثابت له، فالخيار في البيان إليه.
ولا يقال: كان ينبغى أن يكون الخيار إلى الامام، لانه هو الموجب له.
وهذا لان مثل هذا الكلام من الامام على
وجه بيان السبب، وإنما يكون الخيار لمن باشر السبب.
وأكثر ما فيه أنه يختار أفضلهما سلبا، ولو لم يقتل إلا ذلك الرجل بضربته كان مستحقا لسلبه.
فإن قتل معه غيره لا يجوز أن يصير محروما، لانه أظهر زيادة القوة بما صنع.(2/666)
وكذلك لو قال: إن أصبت أسيرا فهو لك.
فأخذ أسيرين معا.
فله أن يختار أرفعهما.
1093 - ولو خرج أمير العسكر في سرية ونفل لهم الربع فأصابوا غنائم، كان للامير النفل مع السرية.
لانه أوجب النفل لاصحاب السرية.
وهو واحد منهم.
وبهذا الفصل يتبين ما سبق أنه عند التعميم يكون الامام في استحقاق النفل كغيره.
والكلام في فصل السرية أظهر، فإن استحقاقهم للنفل على هيئة استحقاق الغنيمة.
ألا ترى أن المباشر منهم والردء في ذلك سواء.
ثم في استحقاق (ص 225) الغنيمة الامام بمنزلة الجيش.
فكذلك في استحقاق السرية إذا خرج وهو معهم.
والله أعلم بالصواب.(2/667)
74 باب من النفل الذى يصير لهم ولا يبطل إذا نفل بعضهم دون بعض 1094 - ولو قال الامير: إن قتل رجل منكم قتيلا فله سلبه.
فقتل رجلان قتيلا واحدا، فلهما سلبه.
لانه حين أخرج الكلام مخرج العموم فقد قصد به التحريض على النكاية.
1095 - وفى هذا لا فرق بين أن يكون القاتل واحدا أو جماعة
إلا أن يبين فيقول: إن قتل رجل منكم وحده قتيلا.
فحينئذ لا شئ للقاتلين من السلب.
لانه تبين بهذه الزيادة أن مقصوده التحريض على إظهار الجلادة (1) بالاستبداد (2) بالقتل وبالاشتراك لا يحصل ذلك.
1096 - ولو برز عشرة للقتال فقال الامير لعشرة من المسلمين: إن قتلتموهم فلكم أسلابهم.
فقتل كل رجل رجلا منهم، استحق كل قاتل سلب قتيله خاصة.
__________
(1) ب " الجلاد ".
(2) استبد به تفرد (القاموس) من حاشية ه.
*(2/668)
لان تعميم العشرة بالخطاب بمنزلة تعميم الكل بقوله: من قتل قتيلا فله سلبه.
وهذا لان ذا العدد إذا قوبل بذى عدد ينقسم الآحاد على الآحاد.
كقول الرجل: أعط هؤلاء العشرة هذه العشرة الدراهم.
والفعل المضاف إلى جماعة بعبارة الجمع يقتضى الانقسام على الافراد.
كما يقال: ركب القوم دوابهم، فإنه يفهم منه ركوب كل أحد دابته.
1097 - ولو قتل تسعة من المسلمين تسعة منهم، وقتل المشرك المسلم العاشر أو هرب فلم يقدر عليه، فلكل واحد من القاتلين سلب قتيله.
لان المقصود من هذا الكلام جعل القتل سببا لاستحقاق السلب لا اشتراط قتلهم، حتى لا يبقى منهم أحد.
إلا أن يبين ذلك فيقول: لكم أسلابهم إن قتلتموهم كلهم، ولم تغادروا منهم أحدا.
فحينئذ (1) يتبين بتنصيصه أنه علق الاستحقاق بشرط قتل الكل.
والشرط يقابل المشروط جملة ولا يقابله جزوا فجزوا.
وما لم يتم الشرط لا يثبت شئ من الجزاء.
فأما إذا لم يبين فإنما يحمل مطلق كلامه على ما هو المفهوم عادة، وهو التحريض على دفع شرهم عن المسلمين بقتلهم، فبقدر ما حصل من المقصود يستحق السلب.
1098 - وكذلك لو قال لسرية: ائتوا حصن كذا، فإن قتلتم مقاتلته وفتحتموه فلكم الربع.
فقتلوا بعضهم أو قتلوا رأسهم وتفرق جمعهم وفتحوا الحصن، فلهم النفل.
__________
(1) وضعت مختصرة في ق " فح ".
*(2/669)
لان ما هو المفهوم من كلامه قد حصل، وهو تفريق الجمع وفتح الحصن بالقتال.
وإن فتحوا الحصن بغير قتال لم يكن لهم نفل.
لان ما جعله سبب الاستحقاق لهم وهو القتال لم يوجد.
ألا ترى لو قال: إن قتلتم مقاتلته وسبيتم ذريته فلكم كذا.
فقتلوا البعض وسبوا من بقى منهم، كان لهم النفل.
ولو أخذوهم بغير قتال لم يكن لهم نفل لما قلنا.
1099 - ولو قال: إن قتل إنسان منكم قتيلا.
فقتل رجلان من المسلمين قتيلا، كان سلبه بينهما نصفين.
ولو قتل مسلم ومشرك مشركا أخطأ به فقتله مع المسلم كان نصف السلب للمسلم ونصفه في الغنيمة.
لان في حق المسلم يجعل كأن القاتل معه مسلم.
وفى حصة المشرك يجعل كأن القاتل معه مشرك.
وهذا لان الايجاب بالتنفيل من الامام كان للمسلمين.
فإنما يستحق المسلم بقدر ما باشر من السلب.
وإنما باشر هو قتل نصف النفس حين شارك غيره فيه.
ألا ترى أنه لو قتل مسلما خطأ مع غيره كان عليه نصف الدية.
فإذا كان فيما يجب من الغرم بالقتل يجعل هذا قاتلا نصف النفس فكذلك فيما يستحق من الغنم (1) به.
1100 - ولو قال: من قتل بطريقا (ص 226) فله سلبه.
فقتل مشركا ليس ببطريق لم يستحق (2) السلب.
__________
(1) ق " من الغنم " وفوقها " من المغنم.
نسخة ".
(2) ق " لا يستحق ".
*(2/670)
لان المقصود التحريض على قتل من تنكسر شوكتهم بقتله.
ولم يحصل هذا المقصود.
ألا ترى أنه لو قال: من قتل الملك فله سلبه.
فقتل رجلا غير الملك لم يستحق شيئا ؟ 1101 - ولو قال: من قتل بطريقا فله من الغنيمة ألف درهم.
فقتل رجل بطريقا استحق ما أوجب له الامام من الغنيمة ألف درهم، لمباشرته سلبه، ولكن مما يغنمون بعد هذا، حتى لو لم يغنموا بعد هذا شيئا لم يعطه مما كانوا غنموا قبل هذ شيئا.
لان سهام المسلمين قد وجبت فيه.
وهذا التنفيل فيما كانوا غنموا، لانه يكون تنفيلا بعد الاصابة، وذلك لا يجوز.
1102 - ولو قال: من قتل منكم صعلوكا فله سلبه.
فقتل رجل بطريقا، أو قتل الملك، لم يستحق شيئا.
لانه أوجب له سلب الصعلوك.
وسلب الملك والبطريق أفضل من سلب الصعلوك لا محالة.
فبإيجاب الادنى لا يستحق الاعلى.
بخلاف ما لو قال: من قتل صعلوكا فله مئة درهم، فقتل رجل بطريقا فإنه يستحق المئة.
لانه أتى بما شرط عليه وزيادة.
فانكسار شوكتهم بقتل البطريق أظهر منه بقتل الصعلوك.
والمسمى بمقابلته (1) وهو المئة معلوم.
والمسائل بعد هذا إلى آخر الباب مبنية على أصل وهو أنه:
__________
ق " لمقابلته.
نسخة ".
*(2/671)
1103 - إن أوجب له بالتنفيل شيئا بعينه لم يستحق شيئا آخر، سواء أتى بأدون مما شرط عليه أو أعلى.
لان محل الاستحقاق لم يوجد، والايجاب لا يعمل بدون المحل.
1104 - وإن كان أوجب له مالا مسمى، فإن أتى بخلاف ما شرط لم يستحق شيئا من المسمى.
لان مع مخالفة الجنس لا يحصل الامتثال.
1105 - وإن كان ما أتى به من جنس ما شرط عليه: فإن كان أدون مما شرط عليه في المنفعة لم يستحق شيئا.
لانه لم يمتثل الامر ولم يحصل المقصود بكماله.
1106 - فإن كان أعلى مما شرط عليه استحق المسمى.
لانه أتى بالمشروط وزاد عليه.
1107 - فإذا قال: من قتل شيخا فله سلبه، فقتل شابا استحقه.
لانه أتى بالمشروط وزيادة، فان النكاية وإظهار الجلادة في قتل الشاب
أكثر (1)، والسلب لا يتفاوت بالشباب والشيخوخة.
1108 - وإن قال: من قتل شابا فقتل شيخا لم يستحق.
(2)
__________
(1) في هامش ق " اظهر.
نسخة ".
(2) ق " لم يستحق شيئا ".
*(2/672)
لان ما أتى به أدنى (1) مما شرط عليه في معنى النكاية والجلادة.
1109 - ولو قال من جاء بأسير فهو له.
فجاء بوصيف، أو على عكس هذا لم يستحق شيئا لان المحل الذى أوجب صفة النفل فيه لم يوجد، فان الاسير (2) غير الوصيف.
1110 - وكذلك لو قال: من جاء بوصيف فهو له، فجاء برضيع، أو على عكس هذا لم يكن له.
لان الوصيف غير الرضيع.
فالمحل الذى أوجب حقه لم يوجد.
1111 - ولو قال: من جاء بألف درهم فله منها مئة.
فجاء بألف دينار، لم يكن له منها شيئا.
لانه أوجب له بعض ما يأتي به من الدراهم، وبين الدراهم والدنانير مخالفة في الجنس.
1112 - ولو قال: من جاء بوصيف فله مئة درهم فجاء بوصيفة لم يستحق شيئا.
لان الذكور والاناث من بنى آدم جنسان مختلفان لتباين المقصود.
ولهذا لو اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هي أمة لم ينعقد البيع، ومع اختلاف الجنس لا يتحقق الامتثال.
__________
(1) ه، ق " دون ما ".
(2) في هامش ق " فالاسير مأخوذ من الاسر وهو الشد والضبط والذى فيه دفاع وذب.
وفى الوصيف لا يحتاج إلى شدهم لانهم اختاروا ذلك.
وليس فيهم دفع ولا ذب ".
*(2/673)
1113 - ولو قال: من جاء بشاب فله مئة درهم فجاء بشيخ، لم يستحق شيئا.
ولو كان على عكس هذا استحق.
لان الجنس واحد والشاب فيما هو المقصود هاهنا خير من الشيخ.
فإذا جاء بما هو أزيد من المشروط عليه استحق النفل.
وإن جاء بأنقص منه لم يستحق (ص 227) بمنزلة ما لو قال: من جاء بألف درهم غلة فله مئة درهم.
فجاء بألف درهم جياد أخذ مئة درهم غلة.
لان الجنس واحد وما جاء به أفضل، ولكن لا يستحق إلا قدر ما سمى له وذلك مئة درهم غلة.
1114 - وكذلك لو قال: من جاء بألف درهم غلة فله عشرها.
فجاء بألف نقد بيت المال استحق عشرها من دراهم غلة.
لانه ما أوجب له الفضل والاستحقاق بالتسمية، ولا يثبت إلا بقدر المسمى.
1115 - ولو قال: من جاء بألف درهم جياد فله مئة.
فجاء بألف غلة، لم يكن له شئ.
لان ما جاء به دون ما شرط عليه.
1116 - ولو قال: من جاء بعشر شياه فله شاة.
فجاء بعشر بقرات، لم يستحق شيئا.
لاختلاف الجنس.
1117 - وكذلك لو قال: من جاء بعشرة أثواب ديباج فله(2/674)
كذا (1)، فجاء بعشرة أثواب بزيون (2) لم يكن له شئ.
وكذلك إن كان على عكس هذا.
لان الجنس مختلف.
1118 - ولو قال: من جاء بعشرة أثواب بزيون أحمر، فجاء بالاخضر أو الاصفر، فإن كان الاحمر أفضل مما جاء به لم يستحق شيئا.
وإن كان مثل ما جاء به أو دونه استحق ما سمى له.
لان الجنس واحد وإنما الاختلاف في الصفة هنا.
ألا ترى أن من اشترى ثوب بزيون على أنه أحمر فإذا هو أخضر فإن البيع يكون صحيحا.
1119 - وكذلك على هذا الاصل البغل والفرس والحمار.
ولو قال: من جاء بفرس فله مئة، فجاء ببرذون لم يستحق شيئا، وإن كان على عكس هذا استحق.
لان الجنس واحد والفرس أفضل من البرذون.
بخلاف ما إذا جاء بحمار أو بغل فإنه لا يستحق شيئا.
لان الجنس مختلف.
__________
(1) ه " كذلك ".
(2) في هامش ق " نوع من الثياب.
وقيل سندس.
حصيرى " وتحتها " البزيون كجرد حل وعصفور السندس.
قاموس " وتحتها " مارق من الديباج ".
وفى هامش ه " البزيون بالكسر وبوزن العرجون.
وعن الجوهرى بالضم.
من ثياب الروم.
وقيل هو السندس.
المغرب ".
*(2/675)
1120 - ولو قال: من جاء بفرس فله مئة.
فجاء رجل بفرس،
فإنما يعطى نفله مما يغنمون بعد هذا.
حتى إذا لم يغنموا شيئا آخر فإن نفله من الفرس خاصة دون ما غنموا قبل هذا.
فإن كان الفرس لا يساوى مئة لم يزد له على مقدار ثمنه شيئا.
وإن كان يساوى مئة أو أكثر فرأى الامام أن يجعل الفرس فيما غنموا قبل هذا ويعطيه المئة منها، فذلك مستقيم.
لان له ولاية بيع الغنائم.
وهذا التصرف منه بمنزلة بيع شئ من الغنائم بمثل قيمته فيجوز.
وإن كانت المئة أكثر من قيمة الفرس لم يعطه من الغنيمة إلا مقدار قيمة الفرس.
لان له ولاية المبادلة بشرط النظر لا بالمحاباة الفاحشة.(2/676)
75 - باب ما يجب من السلب بالقتل وما لا يجب 1121 - ولو قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فبرز علج للقتال، وخرج إليه مسلم فضربه ضربة أبانه (1) عن فرسه وأخذ فرسه (2) وجره إلى المسلمين حيا، فمات بعد أيام.
وقد كان صاحب فراش أو لم يكن، إلا أنه علم أنه مات من ضربته، فله السلب والفرس والسلاح من جملة السلب.
لانه صار قاتلا له حين مات من ضربته.
وفيما يجب على القاتل بالقتل لا فرق بين أن يموت المقتول بضربته في الحال وبين أن يموت منها بعد مدة، فكذلك فيما يجب له بالقتل.
1122 - ويستوى إن كان مات قبل إحراز الغنيمة (3) بدار الاسلام أو بعدها، ما لم يقسم.
فأما إذا قسمت الغنايم أو بيعت
والرجل حي بعد فإن سلبه يقسم في الغنيمة بين الغانمين.
لان سبب الاستحقاق فيه للقاتل لم يتم بعد وهو القتل.
فان تمام القتل لا يكون بدون الموت (4)، والرجل حى بعد.
وسبب ثبوت حق الغانمين
__________
(1) ق " رماه به " ه، ب " رماه بها ".
(2) قوله " وأخذ فرسه " ساقط في ه، ب، ق.
(3) ب، ق " الغنائم ".
(4) ق، ب " المقتول ".
*(2/677)
فيه قديم وهو الاغتنام، فيقسم بينهم.
وبالقسمة يتعين الملك، فمن ضرورته إبطال حق حكم التنفيل (ص 228) فيه.
وبعد ما نفذ الحكم من الامام بإبطال التنفيل فيه لا يستحقه بالتنفيل وإن تم السبب.
فإن قيل: لماذا لا تؤخر الغنيمة والبيع في السلب حتى ننظر إلى ماذا يؤول حال الرجل ؟ قلنا: لان السبب الموجب للقسمة وهو الاغتنام قديم فيه، فلا يؤخر الحكم الذى يثبت بتقرر سببه لاجل سبب موهوم.
ألا ترى أن المضروب نفسه يقسم في الغنيمة، فكيف لا يقسم سلبه ؟ فان قيل: لانه ليس في نفسه حق منتظر لاحد، فأما في السلب فحق منتظر للقاتل، فقد وجد سببه منه.
قلنا: قد بينا أن السبب لا يتم إلا بموت المضروب.
ثم لا يتأخر قسمة الغنيمة لحق أقوى (1) من هذا، وهو حق المالك القديم في المأسور، فإنه حق ثابت لو جاء قبل القسمة أخذه بغير شئ.
ثم لا تؤخر القسمة والبيع لحقه، فلان لا يؤخرها ههنا لحق الضارب، وهو غير ثابت في الحال،
كان أولى.
فإن قيل: فعلى هذا ينبغى إذا مات المضروب بعد القسمة أن يكون للقاتل حق أخذ السلب بالقيمة، كما في المأسور إذا جاء المولى بعد القسمة.
قلنا: هناك الملك كان ثابتا للمولى في الاصل فيتمكن من أخذه بالقيمة على وجه الفداء لذلك الملك، وهاهنا (2) الملك للضارب في السلب لم يكن ثابتا قط ليفديه بالقيمة، وإنما كان يثبت له الحق إبتداء بسبب التنفيل إن لو مات المضروب قبل القسمة، فأما بعد القسمة فلا يمكن إثبات حقه لا نعدام محله.
فإنما وزان هذا من المأسور ان لو خرج الحربى بالعبد إلينا بأمان ثم أسلم، أو باعه من مسلم.
وهناك لا يثبت للمولى حق الاخذ منه لانعدام محله، فكذلك حكم السلب.
__________
(1) ق، ه " هو أقوى ".
(2) ب " وهنا ".
*(2/678)
1123 - وعلى هذا لو أن المسلم حين رمى به عن فرسه اجتره (1) المشركون فذهبوا به حيا فلا شئ للضارب من فرسه وسلبه ما لم يعلم بموته (2) من ضربته.
لان تمام السبب به يكون، فالاستحقاق يثبت له ابتداء، فلا بد فيه من التيقن بالسبب، ولا يكفى وجوده ظاهرا، بمنزلة الشرط الذى تعلق به عتق أو طلاق، فإنه ما لم يتيقن به لا ينزل الجزاء.
وإنما طريق معرفة ذلك أن يشهد به عدلان من المسلمين.
لان السلب باعتبار الظاهر غنيمة المسلمين.
وإنما الحاجة إلى الاستحقاق عليهم.
فلا يكون ذلك إلا ببينة تقوم من المسلمين على موته قبل القسمة.
1124 - فأما إذا مات المضروب بعد القسمة والبيع لم يكن للقاتل من السلب شئ ولو قامت البينة به.
لفوات المحل بنفوذ القسمة والبيع من الامام فيه.
1125 - ولو كان قال: من قتل قتيلا فله مئة درهم.
فهذا والاول سواء، إلا في خصلة واحدة: وهو أنه إذا بيع الغنايم ثم مات المضروب استحق المئة هاهنا، ما لم يقسم الثمن.
أما إذا قسم الثمن أو قسمت الغنيمة ثم مات المضروب فلا نفل له.
لان محل حقه الغنيمة هاهنا.
وبالبيع لا يفوت هذا المحل.
فإن الثمن غنيمة باعتبار انه قائم مقام المبيع يقسم بين الغانمين.
فأما بالقسمة يفوت محل حقه فيبطل نفله.
وفى الاول محل حقه السلب، وهو يفوت بالسلب.
فإن الثمن ليس من السلب في شئ، ففى هذا يقع الفرق بينهما والله أعلم.
__________
(1) في هامش ق " اجتروا به المشركون " نسخة.
(2) ق، ه " موته ".
*(2/679)
76 باب من النفل لاهل الذمة والعبيد والنساء وغيرهم 1126 - وإذا قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل ذمى ممن كان يقاتل مع المسلمين قتيلا استحق سلبه.
لان الامام أوجب السلب للقاتل بلفظ عام يتناول المسلم والذمى.
والعام كالنص في إثبات الحكم (ص 229) في كل ما يتناوله.
1127 - ولو خص الذمي بهذا استحق السلب بالقتل، فكذلك إذا تناوله اللفظ العام.
وهذا لان الذمي إذا قاتل معنا استحق الرضخ (1) من الغنيمة كما يستحق
المسلم السهم.
ومن استحق الرضخ فهو شريك في الغنيمة، بمنزلة من يستحق السهم.
ولهذا كان له أن يتناول من الطعام والعلف مقدار حاجته.
1128 - وكذلك لو قتل رجل من التجار قتيلا سواء كان يقاتل قبل هذا أو كان لا يقاتل.
لانه قاتل الآن، وبه يصير شريكا في الغنيمة فيتناوله حكم التنفيل.
1129 - وكذلك لو قتلت امرأة مسلمة أو ذمية قتيلا.
__________
(1) الرضخ العطاء.
وفى الحديث: أمرت له برضخ (الصحاح).
*(2/680)
لانها شريكة بما يستحق من الرضخ.
1130 - وكذلك لو قتل عبد كان يقاتل مع مولاه قبل هذا، أو كان لا يقاتل حتى الآن.
لانه شريك بما يستحق من الرضخ.
فليستحق السلب بالتنفيل، ويكون ذلك لمولاه.
لانه كسب عبده.
إلا أن يكون الامير خص فقال: من قتل من الاحرار قتيلا، أو قال: من قتل من المسلمين قتيلا، فحينئذ يبنى (1) الامر على تخصيصه.
لان الاستحقاق بإيجابه.
فكما يعتبر عموم كلامه يعتبر خصوصه.
1131 - وإذا لم يستحق الذمي السلب عند التخصيص يرضخ له من الغنيمة على قدر ما يرى الامام.
لانه تبع للمسلمين، ومن يكون تبعا في القتال يستحق الرضخ دون السهم، كالعبيد والنساء.
وهذا لانه لابد من أن يعطى شيئا ليكون ذلك تحريضا له على الخروج.
ولا وجه للتسوية بين التبع والمتبوع، ولهذا أعطيناه الرضخ، ولا يزاد رضخه إن كان فارسا على سهم فارس من المسلمين، وإن كان راجلا على سهم راجل منهم.
لانه لا يكون ذمى أبدا إلا وفى المسلمين من هو أعظم غناء منه.
فإذا كان لا يزاد للمسلم العظيم الغناء على السهم فكيف يزاد للذمي ؟
__________
(1) ب " يكون ".
*(2/681)
وظاهر ما يقول في الكتاب يدل على أنه يجوز أن يبلغ برضخه سهم المسلم إذا كان عظيم الغناء.
والصحيح أنه لا يبلغ به أيضا ولكن ينقص بقدر ما يراه الامام كما لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر.
فإن قيل: أليس في التنفيل العام يسوى بينهما في السلب، وربما يكون سلب قتيل الذمي أكثر قيمة من السهم المسلم فلماذا لا يجوز أن يسوى بينهما أو يفضل الذمي فيما يرضخ له ؟ قلنا: لان استحقاق السلب بعد التنفيل إما أن يكون بالقتل أو بالايجاب من الامام.
ولا تفاوت بينهما في ذلك.
بخلاف استحقاق الغنيمة فإنه باعتبار معنى الكرامة.
ألا ترى أن في الاستحقاق بالتنفيل يسوى بين الفارس والراجل، وذلك لا يدل (1) على أنه يجوز التسوية بينهما في استحقاق الغنيمة.
1132 - ولو كان الامير قال: من قتل قتيلا فله سلبه.
فسمع ذلك بعض الناس دون البعض.
ثم قتل رجل قتيلا فله سلبه، وإن لم ؟ ؟ لامام (2).
لانه ليس في وسع الامام إسماع كل واحد منهم.
وإنما في وسعه أن يجعل الخطاب شائعا (3) وقد فعل.
فيكون هذا كالواصل إلى كل من تناوله الخطاب
حكما.
ألا ترى أن أبا قتادة رضى الله عنه كان قتل قتيلا يوم حنين قبل أن يسمع التنفيل، ثم أعطاه رسول الله عليه السلام سلبه على ما روينا.
ولان سماع الخطاب إنما يشترط لدفع الضرر عن المخاطب وفى هذا محض منفعة له.
__________
(1) في هامش ق " ولا يدل ذلك.
نسخة حصيرى ".
(2) في حاشية ق " مقالته.
نسخة ".
(3) فوق الكلمة في ق " سابقا.
نسخة ".
*(2/682)
1133 - وعلى هذا لو بعث سرية وقال لاميرهم.
لكم نفل الربع فإن إعلام أميرهم كإعلام جماعتهم.
1134 - وكذلك لو سمع بعضهم دون بعض فإن لم يسمع أحد منهم ولا من غيرهم لم يكن له نفل.
لان المقصود بالتنفيل التحريض على القتال.
ولا يحصل هذا إذا لم يسمع كلامه أحد.
فهو نظير ما لو تفكر (ص 230) هذا في نفسه ولم يتكلم به.
فأما إذا سمع أميرهم أو بعضهم فقد حصل المقصود وهو التحريض.
يوضحه أن كلام الامير يفشوا إذا سمعه بعض الناس عادة.
لان السامع يبلغ من لم يسمع كما قال عليه السلام (ألا فليبلغ الشاهد الغايب).
وأما ما لم يسمع منه أحد فلا يتصور أن يفشو، فلا يكون ذلك منه إشاعة الخطاب.
1135 - ولو قال في أهل عسكره (1): قد جعلت لهذه السرية نفل الربع.
ولم يسمع ذلك أحد من السرية، ففى القياس لا نفل لهم.
لان المقصود وهو التحريض لا يحصل إذا لم يسمعه أحد منهم.
فتكلمه
بذلك مع أهل العسكر وتكلمه به مع عياله ليلا أو في نفسه وحده سواء فيما هو المقصود بالتنفيل.
وفى الاستحسان لهم النفل.
لما بينا أن ما يتكلم به الامام في أهل عسكره فإنه يفشوا.
أو كأنه أمرهم بتبليغ أهل السرية به دلالة.
وليس في إثبات هذا الحكم في حقهم قبل التبليغ إضرار بهم، وإن كان الاولى التبليغ لهم ليتم معنى التحريض.
يوضحه أن أصحاب
__________
(1) ب " لاهل عسكره ".
*(2/683)
السرية قد يكونون قوما لا يخاطبهم الامام بنفسه عادة.
ومن عادة الملوك أنهم يتكلمون بين يدى خواصهم بما يريدون أن يظهر (1) للعامة، فبهذا الطريق يصير هذا (2) منه بمنزلة إشاعة الخطاب والامر إياهم بالتبليغ.
1136 - ولو قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
ثم لحقهم مدد من المسلمين، فقتل رجل من المسلمين منهم قتيلا، كان له سلبه.
لان المدد في استحقاق الشركة في الغنيمة يكون كالحاضر وقت التنفيل، فله سلب قتيله، علم بمقالة الامير أو لم يعلم.
1137 - ولو كان جاء مع المدد أمير آخر وعزل الامير الاول، بطل التنفيل فيما يستقبلون.
لان صحة تنفيله باعتبار ولايته، وقد زالت ولايته بالعزل.
والعارض قبل حصول المقصود بالشئ كالمقترن بأصل السبب.
1138 - ولو كان معزولا حين نفل لم يعتبر تنفيله.
فكذلك إذا صار معزولا بعد التنفيل قبل القتل، أو بعد بعث السرية قبل إصابة الغنائم.
فأما إذا أصابوا الغنائم قبل أن يصير الاول معزولا فلهم
النفل من ذلك.
لان المقصود قد تم بالتنفيل قبل العزل.
1139 - ثم إذا كان الامير الاول قد أخبر بأن الامير الثاني قادم
__________
(1) ق " يظهروا " وفى هامشها " يظهر.
نسخة حصير ".
(2) ه " فهذا الطريق نظير هذا " خطأ.
*(2/684)
بعزله فما دام بالبعد من (1) معسكره لا يصير هو معزولا.
فإذا صار قريبا من المعسكر بحيث يغيث أهل العسكر إن طلبوا منه فإنه يصير معزولا ويبطل نفل الاول.
لانه لما قرب منهم فكأنه خالطهم.
وهذا لانه بعد ما بعث الخليفة الثاني بعزل الاول.
إنما لا ينعزل الاول ما لم يقرب منهم، لحاجة أهل العسكر إلى من يدبر أمورهم.
والثانى عاجز عن ذلك لبعده عنه.
فإذا قرب منهم فقد ارتفع هذا المعنى.
1140 - ولو لم يقدم عليهم أمير آخر، ولكن مات أميرهم فأمروا عليهم أميرا آخر، وكان الاول قد نفل لهم، لم يبطل حكم تنفيله.
لان الثاني خليفة الاول قائم مقامه ولا يبطل شئ مما صنعه الاول.
إلا أن يبطل ذلك الامير الثاني.
فإن أبطله بعلم المخاطبين بطل.
لانه بمنزلة الاول.
ولو أبطل الاول ذلك بعلمهم بطل.
فكذلك الثاني.
1141 - ولو كان الخليفة قال لهم: إن مات أميركم أو قتل فأميركم فلان.
فهذا صحيح.
لانه تعليق الاطلاق بالشرط.
فيصح، كالعتق والطلاق.
والاصل فيه ما روى أن النبي عليه السلام قال يوم مؤتة: إن قتل زيد فجعفر أميركم، وإن قتل جعفر فابن رواحة أميركم.
الحديث.
__________
(1) ب " عن ".
*(2/685)
ثم في هذا الفصل إذا مات الاول بطل تنفيله، لان الثاني (ص 231) نائب الخليفة بتقليده من جهته، فكأنه قلده (1) ابتداء بعد (2) موت الاول، بخلاف ما سبق.
وهذا لان التنفيل رأى رآه الاول.
وحكم رأيه ينقطع برأى فوق رأيه، وهو تقليد الخليفة للثاني.
فأما في الفصل الاول فلم يعترض على رأيه رأى فوقه، إنما نظر الجند له ولانفسهم في نصب خليفة.
فيبقى حكم رأيه باعتبار خليفته، كما لو استخلف هو بنفسه.
ألا ترى أن في الاستخلاف في الصلاة لا فرق بين أن يفعله الامام الاول وبين أن يفعله القوم.
فهذا مثله.
1 - ولو قال لاهل العسكر: من قتل منكم قتيلا فله سلبه ثم لحق بهم مدد أو تجار أو قوم أسلموا من أهل الحرب.
فقتل رجل منهم قتيلا، ففى القياس لا يستحق السلب.
لانه خص الحاضرين بالخطاب بقوله: (منكم) بخلاف ما سبق، فقد عم الخطاب هناك بقوله: من قتل قتيلا.
وذلك يتناول الحاضر ومن يحضر.
وفى الاستحسان له السلب.
لانه ما قصد الحاضرين لاعيانهم، بل لتحريضهم على القتال وفى هذا المعنى من يحضر ومن حضر سواء.
ألا ترى أن الذين لحقوا بهم شركاؤهم فيما أصابوا قبل ذلك إذا قاتلوا
وجعلوا كالحاضرين وقت الاصابة، فكذلك هم شركاؤهم في حكم التنفيل، وجعلوا كالحاضرين وقت التنفيل.
__________
(1) في هامش ق " تقلده.
نسخة ".
(2) ق " من بعد ".
*(2/686)
1143 - ولو كان في العسكر قوم مستأمنون، فإن كانوا دخلوا بإذن الامام فهم بمنزلة أهل الذمة في استحقاق الرضخ واستحقاق النفل إذا قاتلوا.
1144 - وإن كانوا دخلوا بغير إذن الامام فلا شئ لهم مما يصيبون من السلب ولا من غيره، بل ذلك كله للمسلمين.
لان هذا الاستحقاق من المرافق الشرعية لمن هو من أهل دارنا.
فلا يثبت في حق من ليس من أهل دارنا، إلا أن يكون الامام استعان بهم، فباستعانته بهم يلحقون (1) بمن هو من أهل دارنا حكما.
ونظيره الركاز والمعدن.
فإن المستأمن إذا استخرج ذلك من (2) دارنا بغير إذن الامام أخذ كله منه، وإن استخرجه بإذن الامام فهو بمنزلة الذمي يخمس ما أصاب والباقى له.
1145 - ولو أن قوما من المسلمين دخلوا دار حرب غير دارهم، على إثر جيش من المسلمين، وكانوا أهل منعة، فأصابوا غنائم، وأصاب المسلمون أيضا غنائم، ثم خرجوا، فما أصاب المسلمون يخمس، والباقى بينهم على سهام الغنيمة.
وما أصاب المستأمنون فهو لهم لا خمس فيه.
لان إصابتهم لذلك لم تكن على وجه إعزاز الدين.
وإنما يخمس المصاب
إذا أصيب بأشرف الجهات، وهذا لا يتحقق في مصاب المسلمين دون مصاب
__________
(1) ه " يلتحقون ".
(2) ه " في ".
*(2/687)
المستأمنين.
وإنما كان ذلك منهم اكتسابا محضا، فيسلم لهم كسبهم.
بخلاف ما سبقه، فالاصابة هناك كانت بمنعة المسلمين، لان المستأمنين إنما قاتلوا تحت رايتهم، والاستعانة بهم بمنزلة الاستعانة بالكلاب، فلهذا خمس جميع المصاب.
1146 - ولو كان الذين فعلوا ذلك قوم من أهل الذمة، لهم منعة جمع ما أصاب الفريقان.
أخرج خمسه، والباقى غنيمة بينهم جميعا.
لان أهل الذمة من أهل دارنا، فانما يقاتلون للذب عن دار الاسلام.
ألا ترى أنه يجب علينا نصرة أهل الذمة إن قهروا إن قوينا (1) على نصرتهم.
وليس علينا ذلك في حق المستأمنين بعد ما دخلوا دار الحرب.
يوضحه أن أهل الذمة تبع للمسلمين في السكنى حين صاروا من أهل دارنا، فيكونون تبعا للمسلمين فيما يصيبون في دار الحرب أيضا.
وقد تم الاحراز بالكل.
فلهذا يخمس جميع المصاب.
فأما المستأمنون لا يكونون تبعا للمسلمين (ص 232) في السكنى حتى يتمكنوا من الرجوع إلى دار الحرب فكذلك في الاصابة.
1147 - ولو أن حربيا في دار الحرب أخذ مالا من مالهم، ثم استأمن إلى أهل العسكر، فله ما جاء به.
لانه بنفس الاخذ ملك المأخوذ لا بقوة المسلمين فالتحق بسائر أمواله.
وكذلك لو أسلم بعد الاخذ وصار ذميا وخرج إلى دارنا مع
العسكر فذلك المال له.
__________
(1) ه " وقوينا ".
*(2/688)
لانه ما أصاب بقوة المسلمين، فلا يثبت حقهم فيه، وروى أن المغيرة ابن شعبة رضى الله عنه كان فعل ذلك فإنه قتل الذين صحبوه في السفر وأخذ أموالهم وجاء إلى المدينة وأسلم، فلم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المال، ولم يأخد منه شيئا.
وروى أنه (1) قال له: أما إسلامك فمقبول، وأما مالك فمال غدر لا حاجة لنا فيه.
وإنما قال ذلك لانه كان غدر بهم.
ولذلك قصة معروفة.
1148 - ولو كان أسلم قبل إصابة المال ثم قتل بعضهم وأخذ ماله ولحق به العسكر فهو غنيمة بينه وبين أهل العسكر.
لانه أصابه بقوة المسلمين، وقد تم الاحراز بمنعة المسلمين.
1149 - ولو فعل ذلك أحد من أهل العسكر سواه (2) كان الحكم فيه هذا، فكذلك إذا فعله الذى أسلم منهم.
وكذلك لو خرج فصار ذمة للمسلمين ثم رجع فأصاب ذلك.
لانه لما صار ذمة للمسلمين فهو بمنزلة الذمي الداخل مع الجيش من دار الاسلام وانما تمكن من هذا المال بقوة المسلمين.
1150 - وكذلك لو استأمن إلى أهل العسكر ثم عاد بإذن الامير وفعل ذلك.
لما بينا أنه بعد إذن الامير بمنزلة الذمي فيما يصيب.
__________
(1) ه، ق " وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه..".
(2) ه " سواء " خطأ.
*(2/689)
1151 - ولو فعل بغير إذن الامير كان ذلك لاهل العسكر إذا كان المستأمن غير أهل تلك الدار.
لانه بمنزلة مستأمن دخل مع العسكر من دار الاسلام.
وهذا لانه لا منعة له، فإنما ذلك بقوة المسلمين، فيكون لهم، بخلاف ما إذا كان المستأمنون أهل منعة.
1152 - ولو أن العسكر أسروا الاسراء (1) من العدو، فقال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل أسير رجلا من العدو، فسلبه من الغنيمة إن لم يقسم الامير الاسراء، وإن كان قسمهم أو باعهم فالسلب لمولى القاتل.
لان بالقسمة صار عبدا له.
وسلب قتيله كسبه.
فأما قبل القسمة فالاسير من الغنيمة.
فسلب قتيله يكون من الغنيمة أيضا.
والله أعلم.
__________
(1) ب " أسيرا ".
*(2/690)
77 باب من الشركة في النفل وما يؤخذ (1) بحساب 1153 - وإذا (2) قال الامير: من أصاب أسيرا فهو له.
فأصاب رجل أسيرين أو ثلاثة فهم له.
لان صيغة كلامه عامة (3) في المصيب والمصاب جميعا.
1154 - وكذلك لو قال: إن أصاب إنسان منكم أسيرا فهو له.
لانه صرح بما يدل على التعميم في المصيب والمصاب.
وفى مثله لا فرق
بين حرف الشرط وحرف (4) من، وقوله إنسان.
لما لم يصمد (5) عينا به كان للجيش، حتى إذا أصاب جماعة أسيرا واحدا فهو لهم باعتبار هذا المعنى.
1155 - ولو قال: من أصاب منكم عشرة أرؤس فهم له.
فأصاب رجل منهم عشرين رسف فهم له كلهم.
للتصريح بما يوجب التعميم.
وهذا كله بمنزلة قوله: من أصاب شيئا فهو له.
__________
(1) ه " فيما نأخذ ".
(2) ب، ه " ولو ".
(3) ه " عام ".
(4) ق " وكلمة ".
(5) في حاشية ه " الصمد العقد، من باب طلب.
المغرب ".
*(2/691)
1156 - ولو قال: من أصاب عشرة أرؤس فله عشرهم.
فأصاب رجل عشرين فله عشر ما أصاب.
وذلك رأسان.
(ص 233).
1157 - وكذلك لو قال: من أصاب عشرة أرؤس فله رأس.
منهم، ثم أصاب رجل عشرين فله رأسان.
وإن أصاب عشرة فله رأس ونما يعطى الوسط مما أصاب، لا يعطى أرفعهم ولا أخسهم.
لان الامير أوجب له ذلك بإزاء منفعة المسلمين بعمله، وذلك التسعة التى تبقى لهم.
وتسمية الرأس مطلقا بمقابلة ما ليس بمال ينصرف إلى الوسط، كما في الخلع والصلح عن دم العمد.
ولان الامام مأمور بالنظر له وللمسلمين، وفى إعطاء أرفعهم إياه ترك
النظر للمسلمين.
وفى إعطاء (1) الا خمس ترك النظر له، فيعطيه الوسط ليعتدل النظر.
وخير الامور أوساطها.
1158 - وإن أصاب خمسة أرؤس أعطى نصف واحد من أوساطها (2) اعتبارا للبعض بالكل.
فإن قيل: الامام شرط لاستحقاقه المجئ بعشرة أرؤس والشرط لا ينقسم على المشروط باعتبار الاجزاء، فإذا أتى بما دون العشرة ينبغى أن لا يستحق شيئا.
قلنا: لا كذلك، ولكنه أوجب له ذلك بمقابلة منفعة المسلمين بعمله، فبقدر ما يحصل من المنفعة للمسلمين يعطيه من المسمى.
__________
(1) ه " عطاء ".
(2) ه، ق، ص " أوساطهم ".
*(2/692)
وهذا لان المقصود من التنفيل (1) التحريض على الاخد والاسر.
وهذا المقصود لا يحصل إذا اعتبرنا الشرط (2) صورة، لانه إذا تمكن من أخذ تسعة فعلم أنه لا يستحق شيئا لو جاء بهم لم يرغب في ذلك، لانه يحتاج إلى معالجة ومؤنة.
فإذا علم أن نصيبه فيه كنصيب سائر الغانمين قل ما يرغب في التزام ذلك.
فانما تمام معنى التحريض في اعتبار ما قلنا أنه يستحق بقدر ما جاء به.
أرأيت لو قال: من قتل منكم عشرة فله عشر أسلابهم.
فقتل تسعة، أما كان يستحق المسمى بحساب ما قتل ؟ فكل أحد يعلم أنه لم يكن مقصود الامام اشتراط العشرة، لان الواحد قل ما يتمكن من قتل عشرة منهم أو أخذ (3) عشرة أرؤس (4).
1159 - ولو أصاب رجلان عشرة أرؤس فلهما واحد من
أوساطهم.
لان تمام المنفعة المشروطة للمسلمين كان بهما.
فالمسمى يكون مشتركا بينهما أيضا.
1160 - ولو قال لرجل من أهل العسكر: إن أصبت رأسا فهو لك.
فأصاب رأسين لم يكن له إلا واحد منهما.
لانه أخرج الكلام مخرج الخصوص في المصيب والمصاب، فينتفى معنى العموم عنه فيهما (5).
__________
(1) ه " بالتنفيل ".
(2) ه " اعتبر بالشرط ".
(3) ه " أحد " خطأ.
(4) ه " رأسا ".
(5) ه " عنهما ".
*(2/693)
ثم إن أصابهما على الترتيب فله أولهما، وإن أصابهما معا فله أن يختار أفضلهما.
لانه لو لم يصب إلا الافضل كان سالما له، فلا يحرم ذلك بإصابة آخر معه.
1161 - ولو قال: إن أصبت عشرة أرؤس فلك منهم رأس.
فأصاب عشرين، لم يكن له إلا رأس واحد.
لاعتبار معنى الخصوص في كلامه.
1162 - فإن أصاب بعضهم قبل بعض فله واحد من العشرة الاولى، من أوساطهم، وإن أصابهم معا فله واحد من أوساطهم.
فإن قيل: لماذا لم يكن له أن يختار الافضل هنا كما في المسألة المتقدمة ؟ قلنا: لان هناك ما شرط عليه منفعة المسلمين بمقابلة ما أوجب له، وهنا قد شرط ذلك عليه حين سمى له جزاء مما يأتي به.
فلهذا يعتبر الوسط هاهنا.
1163 - وإن أصاب خمسة فله نصف رأس من أوساطهم.
اعتبارا للبعض بالكل، وتحقيقا لمراعاة معنى التحريض.
1164 - ولو قال لعشرة من العسكر: إن أصبتم عشرة أرؤس فلكم منها رأس.
فهذا وقوله للواحد سوآء (ص 234) في جميع ما ذكرنا.
لانه لما جمع بينهم في ذكر الاصابة فقد خصهم، والتخصيص في المصيب يدل على التخصيص في المصاب، لكونه مبنيا عليه.(2/694)
1165 - ولو قال لعشرة: إن أصاب رجل منكم عشرة أرؤس فله منها واحد.
فأصاب رجل عشرين رأسا فله رأسان من أوساطهم.
لانه أفرد كل واحد بالاصابة وجعل خطابه عاما فيهم.
فتعميم الخطاب في المصيبين يثبت حكم العموم في المصاب، كما لو خاطب به جميع أهل العسكر.
ألا ترى أن هنا لو أصاب كل رجل منهم عشرة أرؤس كان لكل رجل منهم رأس مما أصاب ؟ فكذلك إذا أصاب المئة واحد منهم يكون له عشرة أرؤس.
1166 - ولو قال لرجل واحد.
ما أصبت من عشرة أرؤس فلك منهم واحد.
فأصاب عشرين.
فله رأسان من أوساطهم.
لان كلمة " ما " توجب العموم، ولا يمكن إثبات العموم به في المصيب، لانه خص الواحد به، فأثبتنا العموم به في المصاب، بخلاف قوله إن أصبت.
لانه ليس في كلامه ما يوجب العموم صورة ولا معنى.
1167 - ولو قال لرجل من أهل العسكر: يا فلان ! إن قتلت هذا الذى برز من المشركين فلك سلبه.
فسمع ذلك رجل آخر من المسلمين، فبرز للمشرك وقتله، لم يكن له سلبه.
لان الامير خص به من خاطبه، والاستحقاق باعتبار تنفيله.
والتنفيل قابل للتخصيص، فيجعل في حق غيره كأن التنفيل لم يوجد أصلا.
1168 - فلو قتله المخاطب بالتنفيل مع مسلم آخر كان للمخاطب نصف السلب والنصف الآخر في الغنيمة.
لان كل واحد منهما قتل نصفه، والبعض يعتبر بالكل في حق كل واحد من القاتلين.(2/695)
78 باب من النفل (1) المجهول 1169 - ولو قال الامير: من جاء منكم بشئ فله منه طائفة.
فجاء رجل بمتاع أو ثياب أو برؤوس، فذلك إلى الامير يعطيه من ذلك بقدر ما يرى، على وجه النظر منه لمن جاء به ولاهل العسكر.
لانه عبر عما يأتي به بأعم ما يكون من أسماء الموجودات، وهو اسم الشئ، فيتناول كل ما يأتي به.
وقد أوجب له طائفة من ذلك.
وذلك اسم لجزء مجهول.
إلا أن هذه الجهالة لا تمنع صحة الايجاب فيما كان مبنيا على التوسع، وبعد صحة الايجاب البيان إلى الموجب أو إلى من يقوم مقامه.
والموجب الامام هنا.
وهو مأمور بالنظر للكل.
فينبغي أن يبين على وجه يراعى النظر فيه، ويكون ذلك البيان مقبولا منه بمنزلة من أوصى لانسان بطائفة من ماله، فان الوارث يعطيه من ذلك ما يشاء، لانه قائم مقام الموجب.
فان لم يكن له وارث فميراثه للمسلمين.
ويكون ذلك إلى الامام يعطيه ما يشاء على وجه النظر له وللمسلمين.
1170 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه شئ، أو له منه قليل أو يسير.
فهو على قياس ما سبق.
إلا أنه لا ينبغى للامير هنا أن يبلغ ما يعطيه نصف ما جاء به.
__________
(1) ق " التنفيل ".
*(2/696)
لانه أوجب له يسيرا مما جاء به أو قليلا، أو شيئا منكرا.
وذلك دليل القلة أيضا، والقلة والكثرة من الاسماء المشتركة إنما تظهر بالمقاتلة.
فالقليل من الشئ دون نصفه، حتى إذا قوبل بما بقى منه كان ما بقى أكثر.
1171 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه جزء، فذلك إلى الامير أيضا.
إلا أنه لا يزيده على النصف هنا، وله أن يبلغ به النصف.
لان أدنى ما يكون جزء من جزءين وذلك النصف.
1172 - ولو قال: بعضه.
فهو بمنزلة قوله: وله طائفة.
لان الاقل والاكثر (ص 235) يكون بعض الشئ وطائفة منه.
فليس في اللفظ ما يدل على شئ من ذلك.
فلهذا كان الرأى فيه إلى الامام.
1173 - ولو قال: من جاء بشئ فله منه سهم.
ففى قياس قول أبى حنيفة رضى الله عنه يعطيه سدس ما جاء به.
لان السهم عنده عبارة عن السدس، حتى قال: إذا أوصى رجل لرجل بسهم من ماله لم ينقص حقه عن السدس.
وذلك مروى عن ابن مسعود رضى الله عنه.
فأما على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله في الوصية: له سهم كسهام أحد الورثة.
وهو قول شريح رحمه الله.
وقد بينا هذا في الوصايا.
وهنا على
قياس قولهم إذا قال فله سهم يعطيه قدر ما يرى بعد أن لا يزيده على النصف، بمنزلة الجزء، لان الادنى سهم من سهمين، كجزء من جزءين.(2/697)
1174 - وإن قال: فله سهم رجل من القوم، كان له مقدار سهم راجل.
وإن كان في القوم فرسان ورجالة.
لانه لا يعطى إلا القدر المتيقن، وهو الاقل، بمنزلة ما لو أوصى بسهم من ماله وقد ترك خمس بنين وخمس بنات، فإنه يكون للموصى له سهم كسهم إحدى البنات حتى تكون القسمة من ستة عشر سهما.
ولا يعطى إلا الاقل لكونه متيقنا به، فكذلك هنا.
ثم في جميع هذا إذا أخذ نفله فالباقي بينه وبين أهل العسكر على سهام الغنيمة.
ولا يحرم سهمه باعتبار ما أوجب له من النفل.
فإن قيل: فإذا كان هو شريكا بسهمه فيما يأتي به كيف يستحق النفل ؟ قلنا: هذا إنما يمتنع إذا كان النفل عوضا، والغازي فيما ينكئ (1) في العدو لا يستحق عوضا بالشرط، وإنما يستحق ذلك بطريق التنفيل للتحريض ثم هو شريك القوم فيما بقى باعتبار معنى الكرامة.
1175 - ولو قال: من جاء بألف درهم فله ألفا درهم.
فجاء رجل بما قال لم يكن له غير ما جاء به.
لان معنى التحريض والنظر متعين (2) في إيجاب جميع ما يأتي به له أو بعضه.
فأما الزيادة على ذلك فليس فيه من معنى التحريض شئ فلا يستحق.
1176 - وكذلك هذا في كل ما يشترط عليه المجئ به مما لا مقصود فيه سوى العالية كالدنانير والوصفاء والافراس وما أشبه ذلك.
__________
(1) هامش ق " أي يؤثر فيه تأثيرا عظيم.
حصيرى ".
(2) ب " يتعين ".
*(2/698)
فإنه إذا كان قيمة ما جاء به دون ما أوجب له لم يستحق إلا بقدر قيمة ما جاء به.
1177 - ولو قال: من جاء بأسير فهو له وخمس مئة درهم.
فهذا صحيح ويعطى الخمس مئة مما يغنمون بعد هذا.
بخلاف ما سبق، لان المقصود هنا النكاية في العدو بأسر المبارزين منهم، وفيما تقدم لا مقصود سوى المالية.
ألا ترى أنه لو قال: من جاء ببطريق فهو له وألف دينار ؟ أو قال: من جاء بالملك فهو له وعشرون رأسا.
فجاء به رجل استحق من الغنيمة ما سمى له، وإن كان أكثر مما جاء، لحصول معنى النكاية بفعله.
ألا ترى لو قال من قتل الملك فله عشرة آلاف دينار، فقتله رجل أعطى ذلك، وإن لم يحصل للمسلمين بقتله شئ من المال ؟ 1178 - ولو نظر إلى مشرك على سور الحصن يقاتل، فقال: من صعد السور فأخذه فهو له وخمس مئة درهم.
ففعل ذلك رجل استحق ما سمى له.
لان المقصود النكاية في العدو بفعله وقد حصل.
1179 - فإن وقع الرجل من فوق السور إلى الارض خارجا من الحصن في موضع يمتنع (1) فيه من المسلمين، فأخذه رجل من المسلمين أو قتله لم يكن له شئ.
__________
(1) قال المعلق على ه " كذا في النسخ.
والظاهر لا يمتنع كما يدل عليه الشرح ".
*(2/699)
لان الامير أوجب له ذلك إذا صعد السور فأخذه وقتله.
وفى ذلك من النكاية في العدو ما لا يحصل إذا قتله بعد ما وقع على الارض خارجا من الحصن.
أرأيت لو وقع وسط (1) المسلمين حيث لا يمتنع منهم فقتله رجل أكان يستحق شيئا ؟ 1180 - ولو وقع في داخل الحصن فصعد إليه رجل فأخذه أو قتله استحق النفل.
لانه أتى بالمشروط عليه وزيادة.
فالصعود والنزول إلى داخل الحصن في النكاية فيهم وفى إظهار الجلادة من المسلم فوق مجرد الصعود.
1181 - ولو كان على السور على حاله فطعنه حتى رمى به إلى المسلمين في موضع يمتنع فيه من المسلمين، ثم أخذه فقتله كان له النفل.
لانه أتى بالمشروط عليه معنى، فإنه سقط من الحصن بفعله، فكان هذا والصعود إليه قريبا من السواء.
ألا ترى أنه لو توهقه (2) حتى جرده فألقاه من السور ثم قتله فإنه يستحق نفله ؟ 1182 - ولو كان الامير قال: من أخذه فهو له.
ولم يذكر صعودا إليه.
فوقع من السور خارجا من الحصن.
فإن كان في موضع يمتنع فيه عن المسلمين فأخذه رجل كان له.
وإلا فهو فئ لجماعة المسلمين.
__________
(1) ق " في وسط ".
(2) في هامش ق " توهقه جعل الوهق في عنقه وأعلقه بها.
وهو الحبل الذى في طرفيه أنشوطة تطرح في أعناق الدواب حتى تؤخذ.
مغرب ".
*(2/700)
لانه إذا وقع في موضع لا يمتنع فيه من المسلمين فقد صار مأخوذا بجماعتهم فلا يعتبر فيه فعل الآخذ بعد ذلك.
وإذا كان في موضع يمتنع فيه فإنما صار مأخوذا بالاخذ فيكون له.
1183 - ولو قال: من صعد الحصن ثم نزل عليهم فله خمس مئة درهم.
ففعل ذلك رجل استحق النفل.
لحصول النكاية.
وإن صعد فلم يستطع أن ينزل فرجع لم يكن له من النفل شئ.
لان ما أتى به دون المشروط عليه في النكاية.
1184 - ولو كان المسلمون على ثلمة في الحصن فقال الامير: من دخل فيها فله عشرة دنانير.
فدخل رجل ولم يقتل أحدا أخذ الدنانير.
لانه أتى بما كان مشروطا عليه.
والمقصود النكاية فيهم، وقد حصل.
1185 - وإن دخل من ثلمة أخرى أو صعد حائطا فنزل عليهم، فإن كان فعل ذلك من موضع مثل هذا الموضع أو أشد فيما يرجع إلى جرأة الداخل والنكاية فيهم والمنفعة للمسلمين فله نفله.
لانه أتى بالمشروط معنى وزيادة.
1186 - وإن كان ذلك الموضع أيسر في الدخول من هذا الموضع أو أشد، إلا أنه أقل منفعة للمسلمين لم يكن له النفل.(2/701)
وهو الاصل فيما ذكر إلى آخر الباب.
1187 - أنه متى أتى بما هو أقل من المشروط عليه فيما يرجع إلى
المقصود لا يستحق شيئا.
وإن كان مثله أو فوقه يستحق مقدار ما سمى له، حتى إذا قال من جاء بألف درهم جياد فله منها مئة فجاء بألف غلة لم يكن له شئ.
لان المقصود هنا منفعة المال، وما جاء به دون المشروط عليه.
1188 - ولو قال: من جاء بألف غلة فله منها مئة فجاء بألف جيادا أخذ منها مئة غلة.
لانه جاء بأنفع من المشروط عليه.
ولكن لا يستحق إلا المسمى.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية.
1189 - ولو قال: من جاء بألف جياد فهى (1) له.
فجاء بألف غلة كانت له.
لانه ما شرط للمسلمين عليه منفعة هاهنا.
فإنما يعتبر الصفة فيما جاء به لاجل منفعة المسلمين.
فإذا كان المشروط له بعض ما جاء به اعتبر معنى المنفعة.
فإذا كان جميع ما جاء به فلا معتبر بالصفة فيه.
__________
(1) ه " فهو ".
*(2/702)
1190 - ولو قال: من جاء بألف غلة فهى له فجاء بألف نقد بيت المال كان له ألف غلة.
لان الاستحقاق باعتبار التسمية وهو ما أوجبه له أكثر من ألف غلة، فما زاد على صفة ما أوجب له يكون في الغنيمة.
وعلى هذا ذكر هنا بعده من قوله: من جاء بنقرة.(2/703)
79 باب من النفل الذى يستحق بقتل القتيل ولا يستحق إذا اختلف فيه 1191 - وإذا قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فضرب مسلم مشركا فصرعه، واجتز آخر رأسه (ص 237) فإن كان الذى ضربه قتله، واجتز الآخر رأسه بعد الموت فالسلب للضارب.
لانه هو القاتل.
فإن تمام فعل القتل بالمقتول، وقد صار مقتولا بضربته.
1192 - وإن كان لم يقتله، وكان بحيث يقدر على التحامل مع ضربته أو العون بالكلام أو غيره فالسلب للذي اجتز رأسه.
لانه هو القاتل.
فإنه بعد فعل الاول كان مضروبا مقتولا.
وإنما صار مقتولا بعد فعل الثاني.
والامام لم يقل من صرعه أو ضربه، وإنما قال من قتله.
فإن قيل: لولا فعل الاول لما تمكن الثاني من جز رأسه.
قلنا: ولولا خروجه إلى هذا الموضع ما تمكن القاتل من قتله فيه، ثم بهذا لا يتبين أنه يكون قاتلا نفسه.
أرأيت لو توهقه إنسان فرمى به عن برذونه ولم يخرجه فوثب آخر فجز(2/704)
رأسه أكان القاتل هو الاول ؟ لا، ولكن القاتل من جز رأسه وإن كان لولا ما سبق من فعل الآخر لم يتمكن منه.
1193 - وكذلك إن كان ضربه الاول بحيث يعلم أن آخره يكون إلى الموت إلا أنه ربما عاش يوما أو يومين فاجتز آخر رأسه فالسلب للثاني.
لانه هو القاتل حقيقة.
ألا ترى أن في نظيره في قتل العمد يكون القود على الثاني، ويجعل فعل الثاني في حق الاول كالبرء، لانه قاطع لسراية فعل الاول.
واستدل عليه: 1194 - بحديث عمر رضى الله عنه.
فإن الذى ضربه في المحراب أصاب مقتله حتى سرب (1) اللبن فخرج من جرحه، وعلم أن آخر أمره إلى الموت.
ومع هذا كان حيا ما لم يمت.
حتى لو مات له ولد ورثه عمر ولم يرث ذلك الولد منه شيئا.
1195 - وإن كان الاول ضربه فنثر ما في بطنه فألقاه، أو قطع أوداجه إلا أن فيه الروح بعد، فاجتز الآخر رأسه فالسلب للذى ضربه.
لانه صار بمنزلة الميت بفعل الاول، والذى بقى فيه بمنزلة اضطراب المذبوح فلا يعتبر به.
__________
(1) ه " شرب " خطأ.
*(2/705)
ألا ترى أن الذئب لو عدى على شاة فقطع أوداجها أو نثر ما في بطنها ثم أدركها صاحبها فذبحها لم يحل أكلها، وإن كانت تضطرب عند الذبح.
ومثله لو عقرها الذئب عقرا يعلم أن آخر ذلك الموت إلا أنها تعيش يوما أو يومين فذبحها صاحبها جاز أكلها.
وهو معنى قوله تعالى " وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " (1).
وذلك مروى عن ابن عباس رضى الله عنه في شاة بقر الذئب بطنها فخرج قصبها فأدركها صاحبها فذبحها.
قال: لا بأس بأكلها.
وهذا لان المتيقن به لا يتبدل إلا بمثله.
فالروح قبله كان متيقنا به فلا يحكم بموته إلا بفعل يتيقن به بأنه لا يبقى فيه الروح بعده، وما يتوهم أن يعيش بعده يوما أو أكثر ليس بهذه الصفة فلا يجعل مقتولا، بل إنما يجعل مقتولا يحز الرأس.
1196 - فإن قال الذى اجتز رأسه: اجتززت رأسه قبل أن يموت، وقال الضارب: بل اجتززت رأسه بعد ما مات.
فإنه يجعل القول قول من يشهد له الظاهر.
فإن كان فعل الضارب على نحو ما ذكرنا من قطع الاوداج أو إلقاء ما في البطن فالقول قوله.
لانا نتيقن أن فعله قاتله وفعل الثاني كذلك.
وعند المساواة في الاثير يترجح الاول بالسبق.
وإن كان فعل الاول بحيث يعاش من مثله يوما أو أكثر فالقول قول الثاني والسلب له.
لانا نتيقن أن فعل الثاني قتل، ولا نتيقن به في فعل الاول.
ولا معارضة
__________
(1) سورة المائدة، 5، الآية 3.
*(2/706)
بين الاضعف والاقوى.
فإنما يحال بزهوق الروح على الاقوى (ص 238) الذى نتيقن به.
1197 - وإن كانت جراحة الاول مشكلة، أو كان خفى عليه موضعها من الجسد، أو أخذه أصحابه فاحتملوه فالسلب للذى اجتز رأسه.
لانا نتيقن بأن فعله قتل.
وفى فعل الاول تردد إذا لم يوقف على صفته، والمتردد لا يعارض المتيقن به، لان من علم حياته يقينا لا يجعل ميتا إلا بتيقن
مثله، وذلك بعد فعل الثاني.
1198 - ولو أن مسلما احتمل رجلا من المشركين عن فرسه حتى جاء به إلى صف المسلمين ثم ذبحه لم يكن له سلبه، ولم يحل له أن يقتله.
لانه لما جاء به إلى الصف حيا فقد صار هذا أسيرا للمسلمين، ولا يحل قتل الاسير بغير إذن الامام.
لان للامام في الاسير رأى بين أن يقتله وبين أن يجعله فيئا.
ولم يكن مقصود الامام من قوله من قتل قتيلا فله سلبه الاسير، وكيف يكون قصده هذا وإنما نفل للتحريض.
وقتل الاسير بغير إذن الامام لا يحل شرعا.
1199 - فلو كان حين احتمله أنزله عن دابته فقتله بين الصفين كان له سلبه.
لانه قتل مقاتلا على وجه المبارزة.
فإنه لم يصر أسيرا بمجرد إنزاله عن دابته.(2/707)
ألا ترى أنه لولا أخذه لكان ينتصف منه في ذلك الموضع، بخلاف الاول فإنه بعد ما حصل في صف المسلمين فقد صار مقهورا لا ينتصف من المسلمين.
وإن لم يكن مأخوذ هذا الرجل.
والذى يوضح الفرق أنه لو أسلم بعد ما جاء به إلى صف المسلمين كان عبدا للمسلمين.
1200 - ولو أسلم بين الصفين بعد ما أنزله عن دابته كان حرا لا سبيل عليه.
1201 - وكذلك لو توهقه حتى أنزله عن دابته ثم قتله بين الصفين فله سلبه.
1202 - فلو جره بوهقه إلى صف المسلمين ثم قتله لم يكن له سلبه، إلا أن يكون المشرك ممتنعا مع ذلك يعالج نفسه ويقاتله بعد ما أتى به صف المسلمين فقتله، فحينئذ يستحق سلبه.
لانه لم يتم أسره بعد إذ كان ممتنعا مقاتلا.
ألا ترى أنه لو حمل فوقع في صف المسلمين وهو يقاتل مع ذلك فقتله إنسان استحق سلبه ؟ 1203 - ولو أسلم حين وقع في الصف وألقى سلاحه ثم قتله رجل لم يكن له سلبه.
لانه صار أسيرا مقهورا بما صنعه.
1204 - ولو قال الامير حين اصطفت الفريقان للقتال: من(2/708)
جاء برأس فله مئة دينار.
فهذا جائز، وهو على رؤوس الرجال ليس على السبى.
لان المقصود في هذه الحالة التحريض على القتال.
ومطلق الكلام يتقيد بما هو المعلوم من دلالة الحال.
فكل من قتل إنسانا وجاء برأسه استحق النفل من الغنيمة كما سمى له الامام.
1205 - فإن جاء رجل برأس وقال: أنا قتلته.
وقال آخر: بل أنا قتلته، وهذا أخذ برأسه.
فالقول قول الذى جاء بالرأس.
لان الظاهر شاهد له.
فإن تمكنه من جز رأسه والمجئ به دليل على أنه هو القاتل.
فالقول قوله مع يمينه.
فإن قيل: بالظاهر يدفع الاستحقاق، وحاجته إلى إثبات الاستحقاق.
قلنا: نعم، ولكن التكليف بحسب الوسع، وهو عند قتل المشرك
لا يمكنه أن يشهد على ذلك شاهدين عادة، فلا بد من تحكيم العلامة لاستحقاقه.
وإن أقام الآخر البينة أنه هو الذى قتله فالسلب له.
لانه علمنا أن مقصود الامير التحريض على القتل وحث المبارزين على ما لا يقدر عليه غير هم، وذلك فعل القتل دون جز رأس (1) المقتول.
فكأنه جعل قوله: من جاء برأس (2) كفاية عن هذا.
واللفظ متى (3) صار مجازا عن غيره بدليل سقط اعتبار حقيقته.
أرأيت (4) (ص 239) أنه لو قتل مشركا فاجتره (5) أصحابه إليهم
__________
(1) ه " رؤس " خطأ.
(2) ه " برؤس ".
(3) ساقطة من ه.
(4) ب " ألا ترى ".
(5) ه " فجره ".
*(2/709)
فلم يقدر على رأسه، أو ضرب رأسه فأندره فوقع في نهر فذهب به الماء أكان لا يستحق السلب بهذا.
أرأيت لو ضرب رأسه فأندره فوقع في كف آخر أكان السلب للذى وقع في كفه ؟ لا، ولكنه للقاتل.
1206 - ولو جاء برأس فقال بعض الناس: هذا رجل مات فاجتز رأسه.
وقال الذى جاء برأسه: بل قتلته.
فالقول قوله مع يمينه.
لانا وجدنا معه علامة يستدل بها على أنه هو القاتل، وتحكيم العلامة في مثل هذا أصل.
1207 - ولو قال بعض الناس: هذا رأس مسلم.
نظر (1) إلى
السيماء.
فإن كانت عليه سيماء المشركين فله النفل، وإلا فلا.
لان تحكيم السيماء فيما يحكم فيه بالعلامة (2) أصل، بدليل ما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين.
فإن تحكيم السيماء في الصلاة عليهم والدفن.
1208 - وإن أشكل فلم يدرأ رأس مسلم هو أو رأس مشرك لم يعط شيئا حتى يعلم أنه رأس مشرك.
لان معه علامة يستدل بها على أنه مشرك.
وبدونه لا يستحق القاتل.
فما لم يعلم بما هو المشروط لا يستحق شيئا.
1209 - وإن جاء برأس يزعم أنه قتله، ومعه آخر يزعم أنه قتله.
__________
(1) ق " ينظر ".
(2) ه " العلامة ".
*(2/710)
فالقول قول الذى في يده الرأس مع يمينه.
فإن حلف أخذ النفل، وإن نكل ففى القياس لا نفل لكل واحد منهما.
لان الناكل قد صار مقرا أنه لاحق له.
ولم يجد مع الآخر علامة يستدل بها على أنه قاتل، إذا الرأس لم يكن في يده.
وحاجته إلى الاستحقاق على المسلمين.
ونكول الناكل ليس بحجة عليهم.
1210 - وفى الاستحسان النفل للآخر.
لان نكول الناكل كإقراره.
1211 - ولو أقر أن القاتل هذا، بعد ما جحد، أو قبل أن يجحد كان النفل له.
فكذلك إذا نكل عن اليمين.
والمعنى في الكل أن الذى جاء بالرأس مستحق للنفل بوجود العلامة معه.
فهو بإقراره أو نكوله حول ما كان مستحقا
له إلى الثاني، وذلك صحيح.
كمن أقر بعين لانسان، وقال المقر له ليس لى ولكنه لفلان، فإنه يكون للمقر له الثاني، ويجعل محولا إليه ما صار مستحقا له بإقراره.
1212 - وكذلك لو جاء رجلان برأس وهما يزعمان أنهما قتلاه.
فالنفل بينهما، سواء كان الرأس في أيديهما أو في يد أحدهما، وهو مقر أنهما قتلاه.
لان العلامة ظهرت في حقهما بتصادقهما، أو بكون الرأس في أيديهما.
1213 - وإن قال الذى في يده الرأس: قتلته أنا وهذا الرجل، وقال الآخر: قتلته دونه.
فالنفل لهما.(2/711)
لان العلامة لمن في يده الرأس.
وهو ما حول بإقراره إلى صاحبه، إلا بنصف ما صار مستحقا له.
فيبقى استحقاقه للنصف الآخر.
1214 - ولو جاء بالرأس وهما آخذان به، وكل واحد منهما يقول أنا قتلته وحدي.
استحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لقطع المنازعة بينهما.
فإن نكل أحدهما فالنفل لصاحبه خاصة.
فإن حلفا فالنفل بينهما نصفان.
لاستوائهما في العلامة وهو المجئ بالرأس والاستحقاق مبنى عليه.
1215 - ولو نظر المسلمون إلى رجل يجتز رأس مقتول فقال: أنا قتلته.
وحلف على ذلك أعطى نفله.
لوجود العلامة معه.
فإن كانوا رأوه جاء من موضع بعيد لا يقتله في مثل ذلك الموضع حتى اجتز رأسه وهو مقتول فهذا لا نفل له.
لان تحكيم العلامة إنما يكون في موضع لا يعارضه دليل أقوى منه،
وقد عارضه دليل هاهنا، وهو علمنا بأنه مقتول (ص 240) حال ما كان الرجل بالبعد منه على وجه لا يتمكن من ضربه.
والذى سبق إلى وهم كل واحد في هذه الحالة أنه كاذب.
1216 - فإن قال: إنى كنت قتلته ثم قاتلت ثم رجعت إليه فاجتززت رأسه لم يلتفت إلى قوله.(2/712)
لانه أخبر بما لا يشهد له الظاهر به، وبما ليس معه علامة يستدل به على صدقه.
فلو أعطى شيئا إنما يعطى بمجرد الدعوى.
وذلك لا يجوز بالنص.
1217 - ولو كان الامير قال حين انهزم: من جاء برأس فله مئة درهم.
فهذا أيضا على رؤوس الرجال.
لان في انهزام المسلمين في آثارهم يقتلونهم، فالظاهر أن المراد التحريض على الاتباع والقتل.
ولو قال الامام: عنيت السبى لم يلتفت إلى قوله.
لانه أضمر خلاف ما أظهر، ولا طريق لهم إلى معرفة ما في ضميره.
فإنما يبنى الحكم في حقهم على ما أظهر وعلى ما عليه الغالب من الامور، إلا أن يبين فيقول: من جاء برأس من السبى فله كذا.
1218 - وإن كانوا قد انهزموا وتفرقوا وكف المسلمون عن القتل، وقال الامير: من جاء برأس فله كذا فهذا على السبى.
لانه قد انقضى وقت القتال.
وإنما الآن وقت جمع الغنائم.
فعرفنا أن مراده التحريض على الطلب والجمع.
وإن قال: عنيت به رأس القتيل لم يلتفت إلى قوله، لما بينا أن الحكم يبنى على ما هو الغالب من المراد في كل فصل.
1219 - ولو قال في حالة القتال: من جاء برأسين فله أحدهما.
فهذا على السبى.
لانه ملكه بعض ما يأتي به.
وذلك إنما يتحقق في السبى لا في رأس القتيل، فإنه جيفة لا يحتمل التمليك ولا يحصل به معنى التحريض.
بخلاف(2/713)
ما إذا قال: فله مئة درهم لان معنى التحريض على القتل هناك يحصل بما أوجب له.
1220 - ولو قال: بطريق القوم قتل.
فقال الامير: من جاء برأسه فله مئة.
فإن كان في موضع لا يقدر عليه إلا بقتال فقاتل رجل من المشركين عن رأسه حتى جاء به فله النفل.
وكذلك إن كان في موضع يخاف فيه أن يقاتل المشركون عنه فأخذه وجاء به ولم يقاتلهم فله النفل، لانا نعلم أن مقصود الامير التحريض على أن يأتي برأسه، فقد أتى به، وفى هذا كبت وغيظ للعدو لانه قصد أن ينصب رأس بطريقهم حتى يعلم أنه قتل فتنكسر شوكتهم.
وهذا نوع من الجهاد، فيستحق النفل عليه.
1221 - فإن تنحى العدو عن ذلك الموضع فذهب رجل حتى اجتز رأسه وجاء به من موضع لا يخاف فيه العدو فليس له قليل ولا كثير.
لان فعله هذا ليس بجهاد، وإنما هذا من الامير على وجه الاستئجار بحمل الجيفة إليه، ولم يصمد لقوم بأعيانهم.
إنما قال: من جاء برأسه.
وفى مثل هذا الاستئجار باطل.
1222 - فإن عمد لرجل بعينه فقال: إن جئتني برأس البطريق فلك كذا.
أو لقوم بأعيانهم فقال: أيكم جاء برأسه فله كذا.
والمسألة بحالها.
فللذى جاء به أجر مثله لا يجاوز به ما سمى له.(2/714)
لان هذا كان من الامام على وجه الاستئجار، ولكنه إجارة فاسدة.
فإن مقدار العمل كان مجهولا، لانه ما كان يعلم موضعه حين استأجره.
والحكم في الاجارة الفاسدة وجوب أجر المثل عند إقامته العمل، ولا يجاوز به ما يسمى له، لانه قد رضى بالمسمى.
وإنما يعطيه ذلك من الغنيمة، لانه استأجره لمنفعة المسلمين.
فإن مقصوده أن ينصب رأسه لتنكسر قلوبهم فلا يكروا على المسلمين.
فهو بمنزلة ما لو أستأجر رجلا ليدلهم على الطريق أو يسوق الغنم أو الرمك (1)، أو ليحمل الامتعة، ويعطيه ذلك مما غنموا قبل هذا، لان استحقاقه على وجه الاجر لا على وجه النفل.
وإنما الذى لا يجوز التنفيل بعد إحراز الغنيمة، فأما الاستئجار لمنفعة المسلمين من غنائمهم بعد الاحراز فصحيح.
والله أعلم (ص 241).
__________
(1) الرمك (بفتح الراء والميم) جمع رمكة (محركة) وهى الفرس والبرذونة تتخذ للنسل (القاموس) *(2/715)
80 - باب ما يجوز فيه السلب إذا قتله وما لا يجوز (1) 1223 - وإذا قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل رجل أجيرا من المشركين لم يكن يقاتل معهم فله سلبه.
لان المقصود بهذا التنفيل التحريض على القتال.
فيتناول كل من يباح قتله منهم.
وقتل الاجير منهم مباح، لان له بنية صالحة للقتال، وهو يقاتل إذا احتيج إليه.
وإنما يتمكن القاتل من القتال بعلمه لانه يهيئ له أسباب ذلك.
1224 - وكذلك لو قتل تاجرا منهم، أو عبدا كان مع مولاه يخدمه، أو رجلا كان ارتد ولحق بهم، أو ذميا نقض العهد ولحق بهم.
لان قتل هؤلاء كلهم مباح.
1225 - ولو قتل امرأة منهم لم يكن له سلبها.
لان قتل النساء ممنوع منه شرعا.
على ماروى أن النبي عليه السلام حين رأى امرأة مقتولة استعظم ذلك فقال: هاه ! ما كانت هذه تقاتل.
وقد علمنا أن الامير لم يرد بكلامه التحريض على قتل من لا يحل قتله.
إلا إذا علم أنها كانت تقاتل فحينئذ له سلبها.
__________
(1) إلى جانب العنوان في الاصل " بلغ قراءة عليه أبقاه الله ".
*(2/716)
لان قتلها مباح في هذه الحالة.
ألا ترى أن النبي عليه السلام استعظم قتلها باعتبار أنها لا تقاتل.
1226 - وكذلك الغلام الذى لم يبلغ منهم إن قتله مسلم فليس له سلبه.
لان قتل الصبيان منهم لا يحل.
فعلمنا أن الامير لم يرد ذلك بالتحريض.
إلا أن يعلم أنه كان يقاتل معهم.
فحينئذ يباح قتله، وللقاتل سلبه.
1227 - ولو قتل مريضا أو مجروحا منهم فله سلبه.
سواء كان يستطيع القتال أو لا يستطيع.
لانه مباح القتل في الوجهين.
فإنه يقاتل برأيه، وإن كان عاجزا عن القتال بنفسه في الحال لما به من المرض.
1228 - فإن قتل شيخا منهم.
فإن كان شيخا فانيا لا يتوهم منه قتال بنفسه ولا برأيه ولا يرجى له نسل لم يكن له سلبه.
لان مثل هذا لا يباح قتله.
وإن كان بحيث يرجى له نسل أو كان له في الحرب رأى فهذا يباح قتله على ما روى أن دريد بن الصمة قتل وهو ابن مئة وستين سنة.
ولكن كان
ذا رأى في الحرب.
فإذا كان بهذه الصفة فلقاتله سلبه.
1229 - ولو قتل مسلما كان في صف المشركين يقاتل المسلمين معهم لم يكن له سلبه.(2/717)
لان هذا وإن كان مباح القتل ولكن سلبه ليس بغنيمة.
لانه مال المسلم، ومال المسلم لا يكون غنيمة للمسلمين بحال كأموال أهل البغى.
1230 - فإن كان السلب الذى عليه للمشركين أعادوه إياه فذلك للذى قتله.
لان ما عليه من السلب غنيمة.
وهو مباح القتل في هذه الحالة، فيدخل في تحريض الامام عليه.
ألا ترى أنه لو صمد له نفسه فقال: إن قتلته فك سلبه، استحق ذلك.
فكذلك إذا عم به.
1231 - ولو قتل صبيا أو امرأة، وسلبه لرجل من المشركين لم يكن له سلبه.
لانه لو كان السلب للقتيل لم يستحقه، لا باعتبار أنه ليس بمحل الاغتنام، بل باعتبار أن كلام الامام لم يتناوله أصلا.
وفى هذا المعنى لا فرق بين أن يكون السلب الذى عليه ملكا أو عارية.
1232 - ولو قتل رجلا من المشركين يعلم أن سلبه لرجل آخر منهم، أو امرأة، أو شيخ، أو صبى، فالسلب للقاتل.
لان الذى قتله مباح القتل.
والسلب الذى عليه محل الاغتنام لمن كان منهم، فيستحقه القاتل بالتنفيل.
1233 - ولو كان السلب الذي عليه لمسلم أو معاهد غير ناقض
للعهد لم له يكن سلبه.(2/718)
لانه ليس بمحل الاغتنام.
وهذا إذا كان المسلم دخل إليهم بأمان.
1234 - فإن كان لرجل منهم أسلم ولم يهاجر، فالسلب للقاتل في قول أبى حنيفة رضى الله عنه.
لان من أصله أن بمجرد الاسلام يصير ماله معصوما في الاثم دون الحكم (ص 242)، بمنزلة نفسه.
فأما التقوم والعصمة عن الاغتنام فإنما يكون بالاحراز بالدار، ولم يوجد ذلك.
ألا ترى أنه لو خرج إلى دارنا وترك أمواله في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على الدار، كان جميع ماله فيئا، ولو لم يخرج حتى ظهر المسلمون على الدار فعقاره وعروضه فئ، إلا ما كان في يده منه.
لانه يصير محرز السبق يده إليه، وهذا لا يوجد فيما أعاره من الحربى المقتول.
فلهذا استحقه القاتل بالتنفيل.
1235 - وكذلك إذا كان الحربى أخذ هذا السلب غصبا فقتله هذا المسلم كان له سلبه.
لما بينا أنه لا يد للمسلم عليه، حتى يصير محرزا له بها فيكون محل الاغتنام.
1236 - ولو أن عبدا من عبيد هذا الذى أسلم (1) قاتل المسلمين فأخذ كان فيئا.
لانه صار غاصبا نفسه من مولاه حتى قاتل المسلمين، فلم يبق له عليه يد محرزة له، فيكون فيئا كغيره من أهل الحرب.
وهذا وغاصب السلب سواء.
__________
(1) ه " هذا المسلم ".
*(2/719)
1237 - فإن كان الحربى إنما غصب السلب من مسلم دخل إليهم بأمان والمسألة بحالها فالسلب للقاتل.
لان الحربى بالغصب صار محرزا لمال المسلم.
وهم يملكون أموالنا بالاحراز، فيصير للقاتل بالتنفيل.
إلا أن لصاحب السلب أن يأخذه منهم بالقيمة إن شاء، لان التنفيل بمنزلة القسمة حين (1) اختص المنفل له بملكه.
والمالك القديم إذا وجد عين ماله في الغنيمة بعد القسمة يكون أحق به بالقيمة إن شاء فهذا قياسه.
والله أعلم.
__________
(1) تحت هذه الكلمة في ه " حتى.
نسخة حصيرى ".
*(2/720)
81 باب السلب الذى لا يحرزه المنفل له 1238 - ولو قال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فرمى مسلم من صف المسلمين رجلا في صف المشركين فقتله فله سلبه.
لانه قتل مقاتلا يحل له قتله.
وهو السبب لاستحقاق السلب بتنفيل الامام.
1239 - فإن لم يعرض المشركون لسلبه حتى انهزموا فظفر المسلمون به قتيلا عليه سلبه وعنده دابته فذلك كله للقاتل.
لان حقه تأكد فيه بمباشرة السبب، ولم يعترض عليه ما يبطله.
إنما تأخر أخذه لعدم تمكنه، أو لغفلة منه، وذلك غير مبطل لحقه.
1240 - وإن كان المشركون أخذوا دابته وسلاحه، والمسألة بحالها، لم يكن للقاتل من سلبه شئ.
لانه لم يحرزه حتى (1) أخذه المشركون.
ولو كان محرزا له فأخذه
المشركون وأحرزوه بطل ملكه فكيف إذا لم يحرزه ؟ وبهذا تبين أن سبب استحقاقه قد انفسخ لان الامام إنما جعل القتل (2) سببا لاستحقاق السلب بالتنفيل.
لان القاتل به يتمكن من الاخذ، وقد زال
__________
(1) فوق هذه الكلمة في ق " حين.
نسخة ".
(2) في هامش ق " القتال.
نسخة حصيرى ".
*(2/721)
هذا التمكن بأخذ المشركين إياه.
وبعد ما انفسخ السبب لا يكون له أثر في الحكم، فيبقى هذا مالهم وقع في أيدى (1) المسلمين فهو غنيمة.
1241 - ولو لم يعلم أنهم أخذوا سلبه أو لم يأخذوه، فما وجد عليه من سلبه فهو للقاتل، وما وجد وقد نزع عنه فهو فئ لاعتبار الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة.
1242 - فإن كانوا جروه إليهم حين قتل وسلبه عليه، ثم انهزموا فهو للذى قتله.
لانهم جروه لكيلا تطأه (2) الخيول، لا لاحراز سلبه.
ألا ترى أن المجروح من المسلمين إذا جر برجله من بين الصفين لكيلا تطأه الخيول فمات كان شهيدا لا يغسل ؟ 1243 - وهذا إذا كان الذين جروه غير ورثته.
فإن كان الوارث هو الذى جره فسلبه غنيمة.
لان الظاهر أن الوارث إنما جره لاحراز سلبه.
فإنه يخلفه فيما كان له.
وقد كان هو محرزا سلبه بلباسه، فكذلك من يخلفه يجره (3) إليهم.
فأما الأجنبي فما كان يخلفه في ملكه، وإنما يكون محرزا له إذا نزعه عنه.
لانه يتملكه (4) ابتداء.
والملبوس تبع اللابس.
فإذا تركه عليه عرفنا أنه لم يقصد
تملكه ابتداء.
__________
(1) في هامش ق " يدى.
نسخة " وفى ب " يد ".
(2) ه " يطأه ".
(3) ه " بحره ".
(4) ب " يملكه ".
*(2/722)
1244 - وإن لم يدر أن الذى جره كان وارثا أو وصيا أو أجنبيا فالسلب للقاتل.
لان سبب استحقاقه معلوم.
فما لم يعلم اعتراض، (ص 243) ما يبطله يجب اعتباره في الحكم.
1245 - وكذلك إن وجدوا دابته عنده فهي للقاتل.
وإن وجدوها في يد رجل منهم كانت غنيمة.
لان باعتراض (1) يد أخرى عليها ينفسخ حكم السبب الاول.
1246 - ولو وجدت بعد ما سار العسكر منقلة أو منقلتين (2) فهى للقاتل في القياس.
لانه لا يظهر اعتراض يد أخرى مبطلة لحقه.
ولعلها اتبعت (3) العسكر عابرة (4) من غير أن يأخذها أحد.
وفى الاستحسان هي غنيمة.
لانها لم توجد في يد القتيل، ولا في الموضع الذى كان يد القتيل عليها ثابتة فيه.
ولو أخذنا فيها بالقياس لزمنا أن نقول: هي للقاتل.
__________
(1) ه " اعتراض ".
(2) ميلا أو ميلين ".
وفى هامش ق " منقلة أو منقلتين.
حصر، أي مرحلة ".
وفى حاشية ه " المنقلة مثل المرحلة وزنا ومعنى.
مغرب ".
(3) ه، ب " انبعث " خطأ.
وهى غير منقوطة في ص.
أثبتنا رواية ق.
(4) كذا في ه، ب.
وهى غير منقوطة في ص.
وفى ق " عائرة " وفى هامشها " حائرة أي تفر على وجه لم يأخذه أحد.
حصيرى ".
*(2/723)
1247 - وإن ساروا شهرا فرجعوا إلى مدائنهم، وهذا يقبح (1)، فالظاهر إنها لا تمشى عابرة هكذا، ولكنها تقف للعلف أو تتحول يمنة أو يسرة عن الطريق.
فإذا سارت مستوية على الطريق عرفنا أن سائقا ساقها، فكانت غنيمة.
إلا أن نعلم أنها ذهبت عابرة فهى للقاتل حينئذ.
لانه لم تعترض عليها يد أخرى.
وفعلها جبار لا يصلح أن يكون فاسخا (2) لسبب الاستحقاق الثابت للقاتل.
1248 - ولو أنهم أخذوا دابته (3) فحملوا عليها القتيل مع سلاحه وساقوها منهزمين ثم (4) ظفرنا بهم فذلك كله للقاتل.
لانهم ما قصدوا إحراز ما عليه، وإنما حملوه على دابته ليردوه إلى أهله.
فلا يكون ذلك منهم إحراز لما عليه.
1249 - إلا أن يكون ابن القتيل هو الذى فعل ذلك، فحينئذ يكون ذلك غنيمة.
لان الابن لا يفعل ذلك إلا محرزا له، باعتبار أنه خليفة القتيل.
غيره يرد عليه وهو لا يرد على أحد.
وأحد الورثة في هذا المعنى كجماعتهم.
ألا ترى أنه يقوم مقام الميت في إثبات حقه وملكه ؟ 1250 - وكذلك لو أوصى إلى رجل ففعل الوصي ذلك.
(1) كذا في الاصل وق.
وفى ب " يصح " وفى ه " وهذا معهم " خطأ.
(2) ه " ناسخا " خطأ.
ب " فسخا ".
(3) ه " دابة " خطأ.
انظر الشرح.
(4) ساقطة من ه.
*(2/724)
لان الوصي خليفته بعد موته.
ففعله يكون إحرازا كفعل الوارث، سواء نزع منه سلبه أو لم ينزعه.
1251 - فإن كان الاجانب حين حملوه عليها مع سلاحه حملوا عليها أيضا أمتعة لانفسهم وساقوها، فالدابة وما عليها غنيمة، إلا ما على القتيل من السلب.
لانهم قصدوا إحراز الدابة حين استعملوها في حوائجهم، ولم يقصدوا إحراز سلبه حين لم ينزعوه عنه.
1252 - فإن كانوا علقوا عليها إداوة (1) أو مخلاة (2) فقط، فالدابة وما عليها من سلب القتيل كله للقاتل.
لان بهذا القدر لا يكونون محرزين لها.
فالاحراز بثبوت يدهم عليها.
وإنما تثبت اليد على الدابة بحمل مقصود بتعليق إداوة.
ألا ترى أن رجلين لو تنازعا في دابة لاحدهما عليها حمل وللآخر إداوة فإنه يقضى بها لصاحب الحمل المقصود ؟ 1253 - ولو غيروا سرجها باكاف، أو بسرج غيره، ولم يحملوا عليها غير القتيل وسلبه فذلك كله للقاتل.
لان تغيير السرج بسرج آخر لا يكون دليلا على أنهم قصدوا إحرازها، أو أثبتوا أيديهم عليها.
وإنما يؤخذ (3) في هذا ونحوه بما يكون عليه أكثر (4)
الرأى، وما يكون فيه (5) العلامات من أخذهم ذلك لانفسهم أو غير ذلك.
والله أعلم.
__________
(1) في هامش ق " الاداوة المطهرة والجمع الاداوى.
مغرب ".
(2) في هامش ق " المخلاة ما يوضع فيه الشعير ".
(3) ب، ه " يوجد " خطأ.
(4) ه " أكبر ".
(5) ب " عليه ".
*(2/725)
82 باب الاستثناء في النفل والخاص منه 1254 - وإذا قال الامير: من أصاب ذهبا أو فضة فله من ذلك الربع.
فهذا على التبر والمضروب، سواء كان من ضرب المسلمين أو المشركين.
لان اسم الذهب والفضة يتناول الكل حقيقة.
والاستحقاق بناء عليه.
ألا ترى أنه لو استثنى بهذا الاسم (1) وقال: من أصاب (ص 244) شيئا فهو له، إلا ذهبا (2) أو فضة، كان الكل مستثنى بهذا الاسم.
فكذلك إذا بنى الايجاب عليه.
ألا ترى أن وجوب الزكاة في الذهب والفضة باعتبار العين ؟ وكذلك وجوب التقايض عند مبادلة البعض بالبعض، وحرمة الفضل عند اتحاد الجنس.
وكان التبر والمضروب في ذلك سواء.
وهذا بخلاف ما إذا حلف لا يشترى ذهبا أو فضة فاشترى دراهم أو دنانير لم يحنث.
لانه عقد اليمين هناك على الشرى، وذلك لا يتم إلا بالبائع.
وبائع المضروب يسمى صبر فيا.
وإنما يسمى بائع الذهب من يبيع غير المضروب
فأما هاهنا فعلق الاستحقاق بحقيقة الاسم، فعروضه من اليمين أن لو حلف لا يمس ذهبا ولا فضة.
وذلك يتناول المضروب وغير المضروب.
ثم الايجاب بطريق التنفيل بمنزلة الايجاب بالوصية.
__________
(1) في هامش ق " بهذا اللفظ.
نسخة " (2) ب، ه " ذهب " خطأ.
*(2/726)
ولو أوصى لغيره بالذهب أو الفضة من ماله يتناول ذلك المضروب وغيره.
1255 - ولو قال: من أصاب حديدا فهو له، ومن أصاب غير ذلك فله نصفه.
فما أصاب رجل من الحديد تبرا أو إناء من حديد، أو سلاح، أو سكاكين، أو سيوف، فهو له كله.
لان اسم الحديد لذلك كله.
فإن بالصنعة (1) لا يتبدل اسم العين، لانه لا ينعدم به ما هو المقصود بالعين، بل يتقرر، وهو معنى البأس.
قال الله تعالى " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " (2).
فأما جفون السيف وأنصبة (3) السكاكين وغلفها (4) فله نصفه.
لانه ليس (5) بحديد.
فإنما يستحق النفل بقوله: ومن أصاب غير ذلك فله نصفه.
إلا أنه يؤخذ نصف ذلك منه، أو نصف قيمته إن كان نزع ذلك يضربه.
لانه صاحب الاصل.
وحق الغانمين ثابت في نصف ما هو تبع.
إلا أن الضرر مدفوع عنه.
فإذا احتبس عنده لوجوب دفع الضرر عنه كان
__________
(1) ه، ب " الصيغة " خطأ.
ق " بالصنع ".
(2) سورة الحديد، 57، الآية 25.
(3) في هامش ق " النصاب جزو السكين.
قاموس " نصاب السكين هو ما يقبض عليه.
نصاب كل شئ أصله.
وجمعه نصب وأنصبة، مثل حمار وحمر وأحمرة.
مصباح منير ".
(4) ق " غلافها ".
(5) ب " لان هذا ليس ".
*(2/727)
عليه قيمته، بمنزلة بناء مشترك بين اثنين في أرض أحدهما، فإن لصاحب الارض أن يتملك على شريكه نصيبه من البناء بالقيمة لهذا المعنى.
1256 - ولو قال: من أصاب بزا فهو له.
فأصاب ثوب ديباج أو بزيون أو أكسية صوف، لم يكن له.
لان اسم البز لا يتناول هذه الاشياء.
إنما يتناول اسم القطن والكتان خاصة.
ألا ترى أن البزاز في الناس من يبيع ثوب القطن والكتان.
وسوق البزازين الموضع الذى فيه ثوب القطن والكتان، دون الديباج والكساء.
فكأنه بنى على عادة أهل الكوفة.
فأما في ديارنا فمن يبيع ثوب القطن والكتان يسمى كرابيسيا.
فلو أصاب كتانا أو قطنا غير مغزول، أو مغزولا غير منسوج لم يكن له من ذلك شئ، لان اسم البز يتناول الملبوس ولا يتناول الغزل عادة.
ألا ترى أن بائعه يسمى قطانا وغزالا ولا يسمى بزازا ؟ 1257 - ولو قال: من أصاب ثوبا فهو له.
فأصاب ثوب ديباج أو بزيون مما يلبسه الناس * أو فروا (1) أو كساء فهو له.
لان اسم الثوب عادة يطلق على ملبوس بنى آدم.
فكل ما يلبسه الناس
عادة فهو داخل في هذا الايجاب.
ما خلا الخف والعمامة والقلنسوة.
فإنه لو أصاب ذلك لم يستحقه.
لان الثوب اسم لما يلبس للاكتساء به، والعمامة والقلنسوة لا يحصل بهما الاكتساء.
ألا ترى أن كفارة اليمين لا تتأدى بالكسوة إذا أعطى كل مسكين
__________
(1) ه " فردا " خطأ.
*(2/728)
قلنسوة أو عمامة أو خفين، إلا أن يجعل ذلك مكان الطعام إذا كان يساوى ذلك.
ومن حلف لا يلبس ثوبا فلبس عمامة أو قلنسوة لم يحنث.
1258 - ولو أصاب مسحا (1) أو بساطا، (ص 245) أو سترا أو فراشا، لم يكن ذلك له (2).
لان هذا لا يلبسه الناس عادة وإنما يتمتعون (3) به في البيوت.
وإنما يتناوله اسم المتاع لا اسم الثوب.
حتى لو قال: من أصاب متاعا فهو له، استحق ذلك كله، وملبوس الناس أيضا.
لان ذلك كله من المتاع.
فالمتاع اسم لما يستمتع به.
وكذلك يستحق الاواني عند اطلاق اسم المتاع وإن لم يذكره نصا لانه لو قال: من أصاب متاعا دون الآنية، فأصاب طاسا أو أباريق، وقماقم، وقدورا من نحاس، لم يكن له من ذلك شئ.
لان هذا من الآنية وقد استثناها من المتاع، فهو دليل على أنه عند عدم الاستثناء يستحق ذلك كله.
1259 - ولو قال من أصاب فضة أو ذهبا فأصاب سيفا محلى بفضة أو ذهب كان له الحلية.
لان الاسم يتناوله حقيقة.
ألا ترى أن حكم الصرف يثبت في حصة الحلية في البيع ؟ وكذلك إن أصاب سرجا مفضضا فله الفضة من ذلك كله خاصة.
__________
(1) في هامش ق " المسح بالكسر واحد المسوح، البلاس.
مغرب " و " المسح البلاس، مصباح ".
(2) ه " لم يكن له ذلك ".
(3) ه " يستمتعون ".
*(2/729)
1260 - ولو وجد أبوابا فيها مسامير فضة أو ذهب إن نزعت تفككت الابواب لم يكن له من ذلك شئ.
قال: لان الغالب غير الفضة والذهب.
يعنى أن المسامير في حكم المستهلكة حين كانت مغيبة.
والمقصود من الذهب والفضة التزين بها، وفى المسامير المقصود الانتفاع لا التزين، بخلاف حلية السرج والسيف، فهو ظاهرا يقصد به التزين.
ولان المسمار صار تبعا محضا من حيث أنه إذا نزع لا يبقى اسم الباب، والمصاب باب.
وفى العادة لا يسمى هذا بابا من ذهب، وإن كان فيه مسامير ذهب، بخلاف السرج واللجام، فإنه يقال إنه مفضض لما عليه من الفضة.
1261 - ولو وجد حلى فضة أو ذهب مرصعا (1) بفصوص، أو خاتم فضة فيه فص، فالفصوص كلها غنيمة.
لان اسم الذهب والفضة لا يتناولها حقيقة.
والحلى له.
لان اسم الذهب والفضة يتناوله حقيقة، ولم يغلب عليه اسم آخر.
ألا ترى أنه يقال خاتم فضة وخاتم ذهب، ولا ينسب إلى الفص،
وإن كان الفص مرتفعا ؟ 1262 - وكذلك لو وجدنا صليبا من ذهب أو فضة فيه فصوص.
__________
(1) ص " مرصع ".
*(2/730)
لانه لم يغلب على اسم الذهب والفضة اسم آخر.
ألا ترى أن الصليب ينسب إلى ما صيغ منه من الذهب أو الفضة دون ما فيه من الفصوص.
1263 - ولو قال: من أصاب ياقوتا أو زمردا فأصاب حليا مفضضا فيه الياقوت والزمرد فإن ذلك ينزع ويدفع إليه.
لان الاسم باق له حقيقة، وإن ركب في الفضة أو الذهب، لانه لم يعترض عليه اسم آخر يزيله.
1264 - وكذلك لو أصاب خاتما فيه فص ياقوت أو زمرد فإن ذلك يقلع ويدفع إليه.
لانه ليس في نزعه ضرر على المسلمين فيما هو المقصود لهم وهو المالية.
1265 - ولو قال: من أصاب حديدا فهو له.
فأصاب سرجه ركاباه من حديد، نزع الركابان له.
لان الاسم فيهما باق حقيقة.
يقال ركاب من حديد وركاب من خشب.
وليس في النزع ضرر.
1266 - ولو كان في السرج مسامير حديد، أو ضبة (1) حديد إن نزعت تفكك السرج لم يكن له منه شئ.
__________
(1) في هامش ق " الضبة من حديد أو صفر أو نحوه يشعب بها الاناء.
وجمعها ضبات
كجنة وجنات.
مصباح ".
*(2/731)
لان هذا بمنزلة المستهلك فيه، على معنى أنه استعمل لمنفعة السرج، لا للزينة بمنزلة المسامير في الابواب.
ألا ترى أنه لو أصاب سفينة مضببة بالحديد إن نزعت تخلعت السفينة لم يكن له من ذلك شئ.
وهذا هو الاصل في جنس هذه المسائل: إن كل شئ كان مستعملا في عين آخر، لا للزينة بل لينتفع به، باسم غير الاسم الذى أوجب به النفل، لم يتناوله الاسم.
وإن كان مستعملا للزينة (ص 246) يتناوله الاسم.
لان الزينة صفة زائدة على ما هو المطلوب من الانتفاع بالعين.
ثم إن كان ينزع بغير ضرر فاحش نزع لحقه.
وإن تفاحش الضرر في نزعه بيع، فيقسم الثمن على قيمة ما يتناوله النفل، وقيمة ما لم يتناوله النفل، بمنزلة ما لو انصبغ ثوب إنسان بصبغ غيره، وأبى صاحب الثوب أن يغرم قيمة الصبغ، فإنه يباع الثوب، ويقسم الثمن بينهما على قيمة ملك كل واحد منهما.
1267 - ولو قال: من أصاب قزا فهو له.
فأصاب قباء أو جبة حشوها قز لم يكن له ذلك.
لان الحشو مغيب.
وكان المقصود من اتخاذه في القباء والجبة الانتفاع به دون الزينة.
فيكون بمنزلة المستهلك فيه.
ألا ترى أنه لا بأس بمثل هذا القباء للرجال، وإن كان لبس القز حراما للرجال في غير حالة الحرب.
ولو قال قائل يستحق هذا لم يجد بدا من أن يقول: إذا أصاب ثوبا سداه (1) قز ولحمته غير القز أليس انه يستحق السدى ؟ وهو بعيد جدا.
1268 - ولو قال: من أصاب ثوب قز فهو له.
فأصاب جبة
__________
(1) في هامش ق " السدا وزن الحصا من الثوب خلاف اللحمة.
وهو ما يمد طولا في النسج - مصباح ".
*(2/732)
ظهارتها أو بطانتها قز، فله الثوب الذي هو قز منهما، والآخر في الغنيمة.
لان اسم الثوب يتناول كل واحد من الظهارة والبطانة على الانفراد.
وأحدهما غير غالب على صاحبه، بل كل واحد منهما ظاهر على الحقيقة.
ومن حيث الحكم يكره للرجال لبس هذا الثوب.
فهو بمنزلة حلية السيف.
ثم يباع ويقسم الثمن كما بينا.
لان الضرر فاحش في نزع الظهارة من البطانة.
1269 - ولو قال: من أصاب جبة حرير فهى له.
فأصاب جبة ظهارتها أو بطانتها حرير، فالمعتبر الظهارة هاهنا.
لان الجبة منسوبة إلى الظهارة عادة، والبطانة في التسبة تبع للظهارة.
ثم الايجاب له كان باسم الجبة.
وهذا الاسم لا يتناول الظهارة بدون البطانة.
فلهذا استحق الكل.
بخلاف ما سبق، فالايجاب هناك باسم الثوب، والظهارة بدون البطانة تسمى ثوبا.
1270 - ولو قال: من أصاب ذهبا فهو له.
فأصاب ديباجا منسوجا بالذهب.
فإن كان الذهب مستعملا في سدى الثوب فليس له منه شئ.
بمنزلة القز الذى هو سدى الثوب.
وإن كان الذهب فيه بينا يرى فإنه يستحق الذهب دون غيره.
والطريق فيه البيع كما ذكرنا، لان المعتبر هو اللحمة دون السدى.(2/733)
ألا ترى أن ما يكون سداه قزا وإبريسما يحل لبسه للرجال كالعتابي (1)، وما يكون لحمته ابريسما لا يحل لبسه للرجال.
يوضحه أنه باللحمة يصير ثوبا.
فعرفنا أنه منسوب إلى اللحمة دون السدى.
1271 - ولو قال: من أصاب حريرا فأصاب جبة لبنتها (2) من حرير، أو ثوبا عمله من حرير، لم يكن له منه شئ.
لان هذا تبع محض.
ألا ترى أنه لا بأس بلبس هذا الثوب للرجال ؟ 1272 - وكذلك لو قال: من أصاب ذهبا فأصاب ياقوتا فيه مسمار ذهب، أو خاتم فضة في فصها مسمار ذهب، لم يكن له من ذلك شئ.
لانه مضبب وتبع محض.
ألا ترى أنه لو أصاب أسيرا مضبب الاسنان بالذهب لم يكن له ذلك الذهب.
ولو أصاب أسيرا قد اتخذ أنفا من ذهب كان له الذهب.
لان الانف بائن من جسده فإنه يربطه بخيط وينزعه متى شاء فلم يكن تبعا محضا.
بخلاف الاسنان، وهذا كله استحسان.
وفى القياس يستحق ذلك كله لبقاء الاسم حقيقة.
__________
(1) غير منقوطة في ص.
وفى ه، ب " العنانى " أثبتنا رواية ق.
(2) في هامش ق " ومنه الحديث: لبنتها ديباج.
وهى رقعة تعمل موضع جيب القميص والجبة.
نهاية ".
*(2/734)
1273 - ولو قال: من أصاب ثوب خز (1) فهو له.
فأصاب جبة خز بطانتها سمور أو فنك (2)، لم يكن له إلا الظهارة.
لانه أوجب باسم الثوب.
وقد بينا في هذا أن (ص 247) البطانة لا تكون تبعا للظهارة في القز.
فكذلك في الخز.
ولو كان التنفيل باسم الجبة كان الجواب كذلك ههنا.
لان السمور والفنك لا يكون تبعا للخز في النسبة بحال، فإنه يقال لهذه الجبة إنها جبة سمور أو فنك، فبإيجاب الخز له لا يستحق ما لا يتبعه في النسبة بحال.
1274 - وكذلك لو قال: من أصاب ثوب فنك.
فله الفنك دون الظهارة.
لان اسم الثوب والجبة يتناول الفنك بدون الظهارة، والظهارة لا تتبع البطانة في النسبة.
1275 - ولو قال: من أصاب شيئا من البزيون.
فأصاب جبة البدن منها بزيون، والكمان والدخاريص ديباج، فله البدن خاصة.
لان بعض هذا ليس يتبع للبعض.
فلو كانت كلها بزيونا إلا اللبنة فهى للمصيب كلها.
__________
(1) في هامش ق " الخز اسم دابة، ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها.
والجمع خزوز كالفلوس.
مصباح ".
" الخز المعروف أو لا ثياب تنسج من صوف وابريسم.
وهى مباحة.
وقد لبسها الصحابة والتابعون.
فيكون النهى عنها لاجل التشبه بالعجم وزى المسرفين.
وإن أريد بالخز النوع الآخر، وهو المعروف الآن، فهو حرام لان جميعه معمول من الابريسم.
نهاية ".
(2) دابة لها فراء من أجود أنواع الفراء (القاموس).
*(2/735)
لان اللبنة تبع محض.
1276 - ولو قال: من أصاب جبة بزيون، فأصاب جبة بدنها بزيون وما سوى البدن ديباج، أو على عكس ذلك، لم يكن له منها شئ.
لان ما أصاب ليس بجبة بزيون.
ألا ترى أنه إذا نزع منها الديباج لا يسمى ما بقى جبة، وإنما جعل الشرط إصابة جبة بزيون.
1277 - ولو قال: من أصاب فضة أو ذهبا.
فأصاب قصعة مضببة بهما.
فإن كان جعل ذلك للزينة فله الذهب والفضة.
وعلامة ذلك أنها لو نزعت تبقى قصعة.
وإن كانت الضبة جعلت لكسر القصعة بحيث لو نزعت لم تكن قصعة، أو سقط منها كسرة، فهذا بمنزلة المسامير.
لانها استعملت فيها للمنفعة لا للزينة.
فكانت تبعا محضا.
1278 - ولو قال: من أصاب شعرا فهو له، فأصاب جلود معز عليها الشعر، أو أنماط (1) شعر، أو ستر شعر، أو مسوحا (2)، لم يكن له ذلك.
__________
(1) في هامش ق " النمط ثوب من صوف يطرح على الهودج.
مغرب ".
(2) كذا في ق.
وفى ه، ب، ص " منسوجا ".
*(2/736)
لان اسم الشعر لا يتناول غير المحلوق من الجلد عادة، ولا يتناول الثوب المتخذ من الشعر، بمنزلة اسم القطن والكتاب فإنه لا يتناول الثوب المتخذ منه.
ألا ترى أنه لا مجانسة بين مثل هذا الثوب وبين الاصل الذى اتخذ منه ؟ فعرفنا أنه بالصنعة صار شيئا آخر.
1279 - ولو قال: من أصاب خزا، فأصاب جلود خز، أو خزا قد حلق من الجلود، فله الخز في الوجهين جميعا.
لان اسم الخز يتناولهما حقيقة.
فإن قيل: بعد (1) الحلق أينسب الجلد إلى الخز ؟ فيقال: هو خز، بخلاف جلود المعز والضأن.
فإنها لا تنسب إلى ما عليها من الشعر والصوف.
لان أحدا لا يقول جلد الصوف.
1280 - ولو أصاب ثوب خز فهو له.
لان الثوب منسوب إلى الخز مطلقا، بخلاف ما لو قال: من أصاب صوفا أو بزيونا، فأصاب ثوب بزيون أو ثوب صوف.
لان بعد النسج لا يسمى صوفا ولا بزيونا مطلقا، بل مقيدا بالثوب، بمنزلة القطن والكتان.
ولو أصاب خزا مغزولا كان له.
لان بعد الغزل يسمى خزا مطلقا.
بخلاف القطن والكتان.
فصار الحاصل في الخز أن الاسم ينطلق عليه على أي وجه كان.
1281 - ولو قال: من أصاب جبة خز (2) أو جبة مروية (3)
__________
(1) ساقطة من ه، ق، ص.
أثبتناها من ب.
(2) ب " حرير ".
(3) نسبة إلى مرو.
*(2/737)
فهى له، فأصاب جبة بطانتها وظهارتها فنك أو سمور، فهى غنيمة.
وكذلك لو كانت ظهارتها مروية وبطانتها من فنك أو سمور.
لان هذه تنسب عادة إلى الفنك والسمور دون الخز والمروى.
على معنى أن الاسم ينطلق على الفنك والسمور مقصودا بدون الظهارة، فإنه يسمى جبة، ولا ينطلق على الخز والمروى الذى هو ظهارة بدون البطانة.
فإنما الاصل في النسبة ما يتناوله الاسم وحده دون ما لا يتناوله الاسم وحده.
1282 - وإن أصاب جبة خز بطانتها (ص 248) مروية أو قوهية (1)، كانت له الظهارة دون البطانة.
من قبل أن هذه الجبة لا تنتسب إلى البطانة، إذ البطانة بانفرادها لا تسمى جبة.
وقد ينطلق اسم الجبة على الظهارة من الخز بغير البطانة.
فلهذا يستحق الظهارة دون البطانة.
وقد ذكر قبل هذا في الحرير أنه يستحق الظهارة والبطانة جميعا.
فقيل فيه روايتان.
وقيل بينهما فرق، لان الظهارة من الحرير بدون البطانة لا تسمى جبة حقيقة ولا مجازا، ومن الخز تسمى جبة، وإن كان مجازا.
فإذا كانت البطانة من سمور أو فنك يستعمل اللفظ حقيقة فيسقط اعتبار المجاز.
وإذا كان مرويا فقد تعذر استعمال اللفظ حقيقة فيستعمل بطريق المجاز ويجعل له الظهارة خاصة.
ألا ترى أنه لو قال: من أصاب جبة خز أو سمور أو فنك، فأصاب شيئا من ذلك ظهارته وشئ (2) أو حرير، لم يكن له الظهارة وكان له ما سوى ذلك ؟ لان اسم الحبة يتناول ما سوى الظهارة، إما حقيقة أو مجازا، والظهارة لا تكون تبعا للبطانة بحال.
__________
(1) ق " هروية " وفى هامشها " قوهية.
نسخة ".
(2) في هامش ق " الوشى خلط لون بلون.
ومنه وشى الثوب إذا رقمه ونقشه.
والوشى نوع من الثياب الموشية تسمية بالمصدر.
يقال: فلان يلبس الوشى.
مغرب ".
*(2/738)
1283 - ولو قال من أصاب جبة مروية، فأصاب جبة ظهارتها مروية وبطانتها من غيره، فله الكل.
وهذا والحرير سوآء.
ألا ترى أن الظهارة بدون البطانة هاهنا تسمى قميصا دون الجبة ؟ والذى يوضح هذا.
لو قال من أصاب قلنسوة ظهارتها على ما قال وبطانتها وحشوها من غير ذلك كان له الكل.
لانها لا تكون قلنسوة بدون البطانة، والحشو.
1284 - ولو صمد الجبة على رجل بعينه فقال: من أصاب هذه الجبة الخز فهى له.
فأصابها إنسان، فإذ هي مبطنة بفنك أو سمور فالكل للمصيب ههنا.
لانه بنى الاستحقاق هنا على اليقين بالاشارة دون الاسم، والنسبة، فكل واحد منهما للتعريف.
إلا أن عند التعريف بالاشارة يسقط اعتبار النسبة، لان الاشارة أبلغ، بخلاف جميع ما سبق.
واستوضح هذا بالوصية بجبة الخز والجواب فيه كالجواب في النفل.
1285 - ولو قال: من أصاب جبة مروية فهذا على الظهارة.
لما بينا أن النسبة إلى الظهارة، وهى لا تسمى جبة بدون البطانة، والحشو يتبع لهما، فيستحق الكل.
1286 - ولو قال: من أصاب جبة خز، فأصاب جبة خز بطانتها غير الخز، وهى محشوة بقز أو قطن، فله الظهارة خاصة.(2/739)
لان الظهارة من الخز تسمى جبة بانفرادها مجازا.
فلا يستحق البطانة
بهذا الاسم، وإذا لم يستحق البطانة لم يستحق الحشو.
1287 - ولو قال: من أصاب قباء مرويا، فأصاب قباء بطانته غير مروى، وحشوه كذلك، فله الظهارة خاصة.
لان الظهارة وحدها تسمى قباء.
يقال: قباء طاق، وقباء طاقين، بخلاف الجبة، فالظهارة وحدها هناك تسمى قميصا لا جبة.
ولو كانت الظهارة والبطانة مرويتين والحشو من غيره استحق الكل.
لانه لما استحق الظهارة والبطانة استحق الحشو تبعا.
ألا ترى أنه لو قال: من أصاب قباء، استحق الحشو تبعا للظهارة والبطانة.
وإن لم يكن الحشو قباء.
فكذلك عند التقييد يستحق الحشو وإن لم يكن مرويا.
والسراويل بمنزلة القباء في جميع ما قلنا، لانه لا يسمى سراويل مبطنا كان أو غير مبطن.(2/740)
83 باب النفل من أسلاب الخوارج وأهل الحرب يقاتلون معهم بأمان أو بغير أمان (ص 249) 1288 - قال: أمان الخوارج لاهل الحرب جائز كأمان أهل العدل، لانهم مسلمون من أهل فئة ممتنعة وبيان هذا الوصف في قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) (1) وفى قول على رضى الله عنه: إخواننا بغوا علينا.
ثم أمان الواحد من المسلمين كأمان جماعتهم.
لان أهل الحرب لا يقفون على السبب الموجب للقتال بين أهل العدل وأهل البغى، حتى يميزوا أهل العدل من أهل البغى فيستأمنوا منهم.
فإذا استأمنوا من أهل البغى فقد سالمونا على أن ينجزوا فينا وذلك أمان نافذ.
فلا ينبغى لاهل العدل أن يغيروا عليهم حتى ينبذوا إليهم.
إن كانوا في منعة، أو يبلغوهم مأمنهم إن كانوا في غير منعة.
1289 - ولو استعان الخوارج بأهل الحرب على قتال أهل العدل فخرجوا إليهم فظهر عليهم أهل العدل، سبوا أهل الحرب، ولا يكون استعانة الخوارج بهم أمانا لهم.
من أصحابنا من قال: كان ذلك أمانا لهم.
ولكنهم حين قاتلوا أهل العدل
__________
(1) سورة الحجرات، 49، الآية 9 *(2/741)
صاروا ناقضين لذلك الامان.
وهذا غلط.
فإنهم لو أمنوهم ثم قاتلوا معهم أهل العدل لم يكن ذلك نقضا للامان إذا كانوا تحت راية الخوارج على ما ذكره بعد هذا ولكن.
الوجه فيه أنهم ما خرجوا مسالمين للمسلمين، إنما خرجوا مقاتلين.
أما في حق أهل العدل فغير مشكل، وأما في حق الخوارج فلانهم انضموا إليهم ليعينوهم لا ليكونوا في أمان منهم.
ألا ترى أن الجيش في دار الحرب يعين بعضهم بعضا من غير أن يكون بعضهم في أمان من بعض.
1290 - فإذا ظفرنا بهم كانوا فيئا، سوآء قاتلونا (1) مع الخوارج أو لم يقاتلونا.
ولكن إن أراد الخوارج قتلهم وأخذ أموالهم لم يحل لهم ذلك.
لانهم ضمنوا لهم ترك التعرض حين دعوهم إلى أن يخرجوا مقاتلين معهم أهل العدل، أو لا يتمكنون من ذلك إلا بهذا.
ومن ضمن لغيره شيئا فعليه الوفاء بذلك
1291 - فإن سبوهم وأخذوا أموالهم لم يحل لنا أن نشترى شيئا من ذلك.
لانها جعلت لهم بسبب حرام شرعا.
ولو اشتراها مشتر جاز شراؤه.
__________
(1) في هامش ق " قاتلوا.
نسخة ".
*(2/742)
لان العصمة ليست لعصمة المحل بل لمعنى الغدر.
فلا يمنع ذلك ثبوت الملك وصحة الشراء من المتملك.
1292 - وهو بمنزلة مسلم (1) يدخل إليهم (2) بأمان كأنه لا يكون معطيا لهم أمانا بهذا، ولكن يكره له أن يسبى بعضهم ويأخذ شيئا من مالهم، لما فيه من معنى الغدر.
فإن فعل ذلك أمر برده ولم يجبر عليه في الحكم، وإن اشترى رجل منه ذلك المال جاز الشراء (3) مع الكراهية.
1293 - فإن قاتلوا فقال أمير أهل العدل: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل رجل قتيلا من الخوارج لم يكن له سلبه.
لانهم مسلمون وأموالهم محرزة بدار الاسلام فلا تكون غنيمة.
1294 - وإن قتل حربيا فله سلبه.
لان ماله مباح الاغتنام إذا لم يكن له أمان من جهة أحد من المسلمين.
1295 - فإن أخذ أهل الحرب رقيقا وأموالا من أهل العدل فأحرزوها بمنعة الخوارج ثم أسلموا فعليهم رد جميع ما أخذوا.
لانهم لم يحرزوها بدارهم، وإنما يملكون أموالنا بالاحراز بدارهم.
__________
(1) في هامش ق " رجل.
نسخة ".
(2) ق " عليهم " وفوقها " إليهم.
نسخة ".
(3) ب " الشرى ".
*(2/743)
1296 - ولو كانت المنعة لهم في دارنا فأحرزوا المال بها لم يملكوها.
فإذا كانت للخوارج فأولى أن لا يملكوها.
فإن كانوا أدخلوها (1) دارهم ثم أسلموا أو صاروا ذمة فهى لهم.
لانهم ملكوها بتمام الاحراز.
وقال عليه السلام: " من أسلم على مال فهو له.
1297 - ولو (2) أصابوا من نساء أهل العدل وصبيانهم لم يسع الخوارج تركهم يذهبون بهم إلى دار الحرب (ص 250).
لانهم ظالمون في حبس أحرار المسلمين.
وليس عليهم الوفاء لهم بالتقرير على الظلم، ولكنهم يأمرونهم بتخلية سبيلهم.
فإن أبوا قاتلوهم لاستنقاذ ذرارى المسلمين من أيديهم لم يسعهم (3) غير ذلك.
ألا ترى أن المسلمين في دار الحرب إذا تمكنوا من استنقاذ ذرارى المسلمين من أيديهم لم يسعهم غير ذلك.
1298 - وكذلك لو أرادوا إدخال الاموال دارهم فالواجب على الخوارج أخذ ذلك منهم ليردوها على أهلها.
__________
(1) ق " دخلوا " وفى الهامش " ادخلوها.
نسخة ".
(2) ق " وإن " وفوقها " ولو.
نسخة ".
(3) في هامش ق " لا يسعهم.
نسخة ".
*(2/744)
لانهم لم يملكوها قبل الاحراز، فهم ظالمون في حملها، بخلاف المستأمن
في دار الحرب.
لان هناك قد ملكوا المال بالاحراز، وهو قد ضمن أن لا يتعرض لهم في أخذ أموالهم، فلا يسعه أن يأخذها.
وإذا علم هذا الحكم في الاموال في حق الخوارج ففى الاحراز أولى.
1299 - وإن كانوا استهلكوا ما أخذوا من أموال أهل العدل ثم أسلموا لم يضمنوا شيئا من ذلك.
لانه فعلوه وهم محاربون.
ولانهم حين انضموا إلى أهل البغى كانوا بمنزلتهم في هذا الحكم.
وأهل البغى إذا (1) استهلكوا أموال أهل العدل ثم تابوا لم يضمنوا، فكذلك أهل الحرب.
وعلى هذا لو كان الذين أعانوهم على المسلمين، لم يكونوا خوارج ولكنهم لصوص غير متأولين.
لان في حق أهل الحرب حكم سقوط الضمان لا يختلف بالتأويل وعدم التأويل، إنما ذلك فيما بين المسلمين.
فأما أهل الحرب فلا يضمنون في الوجهين لانهم فعلوه وهم محاربون.
1300 - ولو استعار بعضهم من بعض السلاح، ثم قال أمير أهل العدل: من قتل قتيلا فله سلبه.
فقتل خارجي عليه سلاح حربى أو على عكس ذلك، لم يكن السلب للقاتل في الوجهين.
__________
(1) ه " لو ".
*(2/745)
أما إذا كان سلاح الخارجي على الحربى فلان هذا المال ليس بمحل للاغتنام.
وأما إذا كان سلاح الحربى على الخارجي فلانه حين استعاره منه
وأثبت يده على ذلك المال فقد ثبت حكم الامان فيه.
ألا ترى أنهم لو بعثوا إلى أهل الحرب فاستعاروا منهم سلاحا أو كراعا فأخرجوه إليهم أنه يثبت حكم الامان في ذلك المال، لحصوله (1) في يد الخوارج، حتى لا يكون غنيمة، فكذلك ما سبق.
إلا أن أهل العدل إذا ظفروا بذلك لم يردوه على أهل الحرب، ولكنهم يبيعونه ويقفون ثمنه حتى يجئ أصحابه من أهل الحرب فيأخذون الثمن.
1301 - ومن استهلك من أهل العدل شيئا لم يضمن، كما هو الحكم في أموال أهل البغي إذا وقعت في يد أهل العدل.
وهذا لان ثبوت الامان في هذا المال بثبوت يد أهل البغى عليه، واليد لا تكون فوق الملك.
1302 - ولو ملكوها من أهل البغى كان الحكم فيه هذا، ولو لم يبع ذلك أهل العدل حتى تفرق الخوارج ثم جاء أصحاب السلاح والكراع من أهل الحرب يطلبون ذلك ففي القياس يرد عليهم ذلك ليردوهم إلى دارهم.
لان حكم الامان كان ثابتا في هذا المال من جهة بعض المسلمين،
__________
(1) ب " بحصوله ".
*(2/746)
ولانه بمنزلة مال الخوارج وهو مردود عليهم بعد ما تفرق جمعهم ولم يبق لهم فئة.
وفى الاستحسان يجبرون على بيعة في دار الاسلام وأخذ ثمنه.
لانه صار محبوسا في يد أهل العدل.
والكراع والسلاح بعد ما صار محتبسا في دار الاسلام لا يمكن الكافر من رده إلى دار الحرب فيتقوى به
على المسلمين.
وهو قياس ما لو كانوا عبيدا فأسلموا.
يوضحه أن هذا المال لو كان للخوارج لم يجز رده عليهم مع بقاء توهم الاستعانة على (ص 251) قتال المسلمين، إن كانت منعتهم باقية.
فكذلك لا يجوز رده على أهل الحرب ليستعينوا به على قتال المسلمين، فإن منعة أهل الحرب باقية.
1303 - ولو أن الخوارج آمنوا تجارا دخلوا عسكرهم من أهل الحرب، ثم استعاروا منهم كراعا أو سلاحا، أو أخذوا منهم غصبا، ثم قتل رجل من الخوارج عليه ذلك السلاح بعد تنفيل الامام، فإن سلبه لا يكون للقاتل.
لان بأمانهم صار هذا المال معصوما من الاغتنام، فإن أمانهم في ذلك كأمان أهل العدل يبيعون ما أصابوا من ذلك ويقفون ثمنه حتى يجيئوا فيأخذوه.
1304 - وإن احتاج أهل العدل إلى أن يقاتلوا بشئ من ذلك فلا بأس للامام أن يدفع إليهم ليقاتلوا به عند الحاجة.
لان هذا المال لو كان عنده للمسلمين جاز له أن يفعل ذلك عند(2/747)
الحاجة (1).
فإذا كان للمستأمنين فأولى.
ولان المستأمنين حين أعاروهم هذا المال ليقاتلوا به أهل العدل فقد رضوا بأن يكون هذا بمنزلة أموال الخوارج في حقنا.
ولو ظفرنا بأموال الخوارج جاز أن نفعل به (2) هذا، فكذلك في أموال المستأمنين إذا كانوا هم الذين أعاروهم.
1305 - وإن كانوا أخذوا ذلك منهم غصبا فليس ينبغى لامام أهل العدل أن يدفعه إلى أحد من أهل العدل ليقاتل به عند عدم الضرورة.
لانه لم يوجد من المستأمنين الرضا بأن يقاتل أحد بمالهم.
والعصمة ثابتة في أموالهم بسبب الامان، بخلاف الاول، فقد رضوا هنالك بأن يقاتل بمالهم.
1306 - وعلى هذا لو استهلك بعض أهل العدل ذلك المال هنا ضمنه للمستأمنين، وفى الفصل الاول لم يضمنه، كما لا يضمن مال الخوارج.
وكذلك لا ينبغي لامير أهل العدل أن يبيع هذا المال هنا، إلا أن يخاف التلف عليه فيبيعه حينئذ.
لان عين المال محفوظ على المستأمنين كما هو محفوظ على المسلم.
فهذا بمنزلة مال لبعض أهل العدل في يده وصاحبه غائب، فيحفظ عينه.
إلا أن يتعذر ذلك فيبيعه ويحفظ ثمنه عليه.
__________
(1) ه " الحجة " خطأ.
(2) ه، ق " فيه ".
*(2/748)
فإن تفرق الخوارج قبل أن يبيع الامام ذلك فإنه يرد المال في الفصلين على أصحابه ليردوه إلى دار الحرب.
لان هذا بمنزلة مال الخوارج، وهناك يرد عليهم عين مالهم بعد ما تفرقوا.
ولانهم أعطو المال هنا إلى الخوارج بعد ما ثبتت العصمة فيها بالامان، فلا يحبس في دارنا، بمنزلة ما لو كان الامان لهم من أهل العدل ثم أعاروا الخوارج كراعهم وسلاحهم.
1307 - ولو أن الخوارج آمنوا قوما من أهل الحرب على أن يقاتلوا معهم أهل العدل، فخرجوا فقاتلوا، أو لم يقاتلوا، حتى ظهر أهل العدل عليهم، فليس يقع على أهل الحرب سبى ولا تكون
أموالهم غنيمة.
لانهم حين أعطوهم الامان فقد ثبتت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم، وبسبب القتال لا ينبذ (1) ذلك الامان، لانهم قاتلوا بمنعة الخوارج.
فكما أن القتال من الخوارج لا يكون نقضا لامانهم، فكذلك القتال من المستأمنين معهم لا يكون نقضا للامان، ولكن حكمهم كحكم الخوارج فيما يحل منهم وما يحرم، وفى حكم التنفيل في السلب.
وهذا بخلاف ما سبق إذا قالوا لهم: اخرجوا فقاتلوا معنا، ولم يذكروا الامان.
لان أولئك لم تثبت لهم العصمة في نفوسهم وأموالهم.
فإن انضمامهم إلى الخوارج للقتال معنا لا يوجب ذلك.
__________
(1) ب " ينتبذ ".
*(2/749)
1308 - ولو أن الخوارج كانوا هم الداخلين عليهم في دار الحرب (ص 252) فأمن القوم بعضهم بعضا، ثم ظهر عليهم أهل العدل.
فإن كان أهل الحرب في عزهم ومنعتهم فهم فئ، ومن قتل منهم قتيلا فله سلبه.
لانهم في عزهم ومنعتهم لا يكونون مستأمنين.
وإنما الخوارج هم المستأمنون إليهم.
ولانهم حين قاتلوا في منعتهم ودارهم فقد انتبذ الامان الذى كان بينا وبينهم، فكانوا أهل الحرب ظفرنا بهم.
1309 - وإن كانوا خرجوا إلى عسكر الخوارج بأمان، وكانوا غير ممتنعين إلا بمنعة الخوارج فإنه لا يقع على أحد منهم سبي.
لانهم مستأمنون في منعة الخوارج، والمستأمن في عسكر المسلمين في دار الحرب كالمستأمن في دار الاسلام في حكم العصمة.
ولان الامان لم ينبذ
بقتالهم حين لم يكونوا أهل منعة بأنفسهم.
1310 - ولو أن الخوارج طلبوا إلى تجار أهل الحرب مستأمنين فيهم أن يعينوهم على أهل العدل، فأنعموا لهم (1)، وعلم ذلك أهل العدل لم يحل لهم التعرض لهم بقتل ولا أخذ مال حتى ينصبوا الحرب لاهل العدل.
لانهم مستأمنون، فحكمهم كحكم أهل الذمة.
ولو أن أهل الذمة قصدوا أن يقاتلوا المسلمين فما لم يظهروا ذلك لا يحل التعرض لهم، ولانهم حين أنعموا للخوارج كانوا بمنزلة الخوارج، والخوارج ما لم ينصبوا لقتال أهل العدل لا يحل التعرض لهم في نفس أو مال.
__________
(1) في هامش ق " أنعمت له بالالف قلت له نعم.
مصباح ".
*(2/750)
فإن قاتلوا فحكمهم كحكم الخوارج فيما يحل ويحرم.
لانهم قاتلوا تحت راية الخوارج، فلا ينتبذ أمانهم بذلك.
1311 - ولو كان أهل الحرب قالوا لمسلم: أنت آمن فادخل إلينا.
فدخل، لم يحل له أن يتعرض لشئ من أموالهم إن كان من أهل العدل أو من الخوارج.
لانه ضمن أن لا يتعرض لهم، وعليه الوفاء بما ضمن، لقوله عليه السلام " وفاء لا غدر فيه ".
1312 - وكذلك إن لم يدخل إليهم حتى آمنهم وآمنوه، وهذا أظهر من الاول في حقه.
لانهم في أمان صحيح من جهته.
إلا أن في هذا الفصل ليس لامام المسلمين أن يعرض لهم بشئ،
ولا أخذ مال، حتى ينبذ إليهم.
فإن فعل ذلك كان ضامنا لجميع ما استهلك بخلاف الاول.
لان القوم هنا في أمان صحيح من جهة واحدة من المسلمين.
فإنه آمنهم وهو في منعة المسلمين، فصح أمانه.
وفى الاول للامام أن يقاتلهم من غير نبذ لانه ما آمنهم المسلم، ولكنهم آمنوه.
إلا أن من ضرورة كونه في أمانهم أن لا يعرض (1) لهم كما لا يعرضون (2) له، وليس من ضرورته أن يكونوا في أمان من المسلمين.
__________
(1) ه " يتعرض ".
(2) ه " لا يتعرضون ".
*(2/751)
1313 - ولو سأل الخوارج من أهل الحرب أن يعينوهم على أهل العدل فقالوا: لا نعينكم إلا أن يكون الامير منا، ويكون حكمنا هو الجارى.
ففعلوا ذلك، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فأهل الحرب وأموالهم فئ.
أما إذا كانت الخوارج لم يؤمنوهم فالجواب ظاهر.
لانهم أهل حرب لا أمان لهم.
وأما إذا كانوا أمنوهم حتى خرجوا فلانهم نقضوا ذلك الامان حين قاتلوا أهل العدل لمنعتهم وتحت رايتهم، بخلاف ما تقدم.
فهناك إنما قاتلوا تحت راية الخوارج، وكان حكم الخوارج هو الجارى، فلم يكن ذلك نقضا لامانهم.
وأما أموال أهل البغى فهى مردودة عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها.
لان مال المسلم لا يكون غنيمة في دار الاسلام للمسلمين بحال.
1314 - وحكم تنفيل السلب على هذا.
حتى إذا قتل خارجي وعليه سلاح حربى فهو للقاتل.
لانه لا عصمة في أموال أهل الحرب هنا.
فإن قتل حربى وعليه سلاح خارجي لم يكن للقاتل.(2/752)
لانه مال معصوم عن الاغتنام.
واستوضح هذا بما: 1315 - لو اجتمع قوم من المستأمنين في دار الاسلام فأمروا عليهم أميرا، أو امتنعوا وقاتلوا المسلمين، فإنه يكون ذلك نقضا لامانهم.
بخلاف ما إذا لم يكونوا أهل منعة ففعلوا ذلك، وحكمهم في هذا كحكم أهل الذمة.
1316 - وكذلك إن كان أهل الحرب الذين دخلوا لاعانة الخوارج قاتلوا أهل العدل من ناحية، وقاتلهم الخوارج من ناحية أخرى.
فإن كان أهل الحرب أميرهم منهم وهم ممتنعون بغير منعة الخوارج فهم فئ إذا ظهرنا عليهم.
لانهم صاروا ناقضين للامان باعتبار منعتهم.
وإن كانت منعتهم بالخوارج فحكمهم حكم الخوارج، وإن كان أميرهم منهم.
لان التمكن من القتال بالمنعة لا بالامير.
1317 - ولو أن عشرة من الخوارج لا منعة لهم آمنوا عشرة من أهل الحرب على أن يخرجوا فيغيرون معهم، فهؤلاء إذا وقع الظهور
عليهم لا يجرى عليهم السبي.
ولا تكون أموالهم غنيمة.(2/753)
لانهم في أمان قوم من المسلمين، وما نقضوا ذلك الامان بالاغارة والقتال حين لم يكونوا أهل منعة.
ولكنهم يؤخذون بجميع ما استهلكوا من الاموال، ويقتلون بمن قتلوه عمدا.
لانهم بمنزلة اللصوص حين لم يكن لهم منعة.
ألا ترى أن في حق الخوارج يثبت هذا الحكم باعتبار أنه لا منعة لهم فكذلك في حق المستأمنين معهم.
1318 - ولو كانوا لم يؤمنوهم وإنما قالوا لهم: أخرجوا فأغيروا معنا، والمسألة بحالها، فالجواب في حق الخوارج في هذا والاول سوآء.
وأما أهل الحرب فهم فئ وجميع ما معهم، ولا يقتلون بمن قتلوا، ولا يضمنون ما استهلكوا، لانهم لا أمان لهم من جهة أحد من المسلمين ولكنهم لصوص من أهل الحرب، ولصوص أهل الحرب لا فرق بين أن يقع الظهور عليهم في دار الاسلام وبين أن يقع في دار الحرب في هذا الحكم.
وعلى هذا يبتنى حكم التنفيل في السلب، فإن أموالهم لما كانت فيئا كان للقاتل منهم السلب بالتنفيل.
فصار الحاصل أن المستأمنين من جهة الخوارج والمستأمنين من جهة(2/754)
أهل العدل سواء في حكم التلصص وقطع الطريق، وفيما يكون نقضا للعهد (1)
إذا كانوا أهل منعة حين قاتلوا.
1319 - ولو أن الخوارج صالحوا أهل الحرب ووادعوهم ثم دخل رجل منهم إلى أهل العدل بغير أمان كان آمنا بتلك الموادعة.
لانهم بمنزلة أهل العدل في الموادعة مع أهل الحرب.
ألا ترى أن في عقد الذمة وإعطاء الامان هم بمنزلتهم ؟ فكذلك في الموادعة.
1320 - ولا ينبغى لاهل العدل أن يقاتلوهم حتى ينبذوا إليهم.
كما لو كانت الموادعة من جهتهم.
فإن استعان بهم الخوارج فخرجوا وقاتلوا معهم أهل العدل فوقع الظهور عليهم لم يسب أحد منهم.
لان تلك الموادعة كانت بمنزلة إعطاء الامان لهم.
وقد بينا أن من يكون في أمان من الخوارج إذا قاتل أهل العدل تحت راية الخوارج لم يكن ذلك نقضا للامان.
فهؤلاء كذلك.
وحالهم كحال الخوارج فيما يحل ويحرم منهم ومن أموالهم.
1321 - وإن كانوا خرجوا على أن يكون (ص 254) الامير من أهل الحرب يحكم فيهم بحكم أهل الشرك، والمسألة بحالها، ثم وقع الظهور عليهم فهم فئ.
لانهم صاروا ناقضين لتلك الموادعة حين قاتلوا بمنعتهم أهل العدل.
وحكم التنفيل في السلب على هذا يخرج في الفصلين.
__________
(1) ق " وفيما كان نقضا للعهد " وفى الهامش " وفيما يكون نقضا منهم.
نسخة حصيرى ".
*(2/755)
1322 - وكذلك إن كانوا خرجوا هم من ناحية ليقاتلوا أهل العدل، والخوارج من ناحية أخرى.
فإن كان أمير أهل الحرب منهم
فهم فئ.
لانهم قاتلوا تحت رايتهم بمنعتهم.
وإن كان الخوارج بعثوا إليهم أميرا منهم فحكمهم كحكم الخوارج (1).
لانهم قاتلوا تحت راية الخوارج.
1323 - ولو خرج من الموادعين قوم لا منعة لهم فأغاروا في دار الاسلام، فوقع الظهور عليهم، فهم بمنزلة اللصوص في حكم الضمان والقصاص.
لانهم ما قاتلوا عن منعة لهم، فلا يكون ذلك نقضا منهم للموادعة.
1324 - ولو أن قوما من أهل الحرب أمنهم واحد من المسلمين، ثم نبذ الامام إليهم، فآمنهم ذلك المسلم أيضا فهم آمنون.
لان المعنى الذى لاجله صح أمان المسلم في المرة الاولى موجود في المرة الثانية.
1325 - فإن قال لهم الامير: إن هذا قد آمنكم غير مرة فلا تلتفتوا إلى أمانه، فإنه كلما آمنكم فقد نبذنا إليكم، كان ذلك صحيحا منه.
__________
(1) ب " كحكمهم " *(2/756)
لان نبذ الامان تأثيره في إطلاق الامان والاستغنام، فيجوز تعليقه بالشرط كالطلاق.
ولان النبذ يحتاج إليه لنفى الغرور، وذلك يحصل بالنبذ بهذه الصفة.
1326 - ولو أن مسلما آمن حربيا فكره الامام مقامه في دار الاسلام فإنه يتقدم إليه في الخروج.
ولان للامام ولاية النبذ بعد صحة الامان، فلا يكون ذلك إلا بعد أن يبلغه مأمنه، فيتقدم إليه في الخروج، ويجعل له من المهلة ما يتمكن فيها من الخروج بغير ضرر، بمنزلة المستأمن إذا طال المقام في دارنا.
وقد تقدم بيان الحكم فيه.
1327 - ولو قال الامام لحربي لا تدخل دارنا بأمان فلان فإنك إن دخلت بأمانه فأنت فئ، ثم دخل بأمانه لم يكن فيئا.
لان حجر المسلم عن إعطاء الامان باطل، فإنه لا تنعدم بحجره العلة المصححة لامانه، فيكون حجره إبطالا لحكم الشرع.
ولا يمكن جعل كلامه نبذا لامان وهو في دارنا.
لان نبذ الامان بعد إعطاء الامان لا يصح ما لم يبلغ مأمنه، فكذلك قبل إعطاء الامان.
وبه فارق الموادعين، لان أولئك في منعتهم، ونبذ الامان صحيح لو حصل منه بعد الامان، فكذلك قبله.
فأما هذا في دارنا فلا يملك أحد نبذ أمانه ما لم يبلغ مأمنه.
والامام وغيره فيه سواء.
1328 - ولو قال الامام لاهل الحرب: من دخل منكم دارنا بأمان فلان فهو ذمة لنا.
فدخل رجل قد علم تلك المقالة بأمان فلان.
فهو ذمة، ولا يترك يرجع إلى دار الحرب.(2/757)
لان دخوله بعد العلم بمقالة الامير دلالة الرضا بقبول الذمة، والدلالة في هذا كالصريح.
بمنزلة مقام الذمي الذى يقدم إليه الامام في دارنا بعد مضى المدة.
وهذا بخلاف قوله فهو فئ.
لان ذلك نبذ الامان، فلا يصح إذا لم يكن في منعته، وهذا تأكيد للامن الثابت بذلك الامان وليس نبذ.
1329 - وعلى هذا لو قال للمحصورين: إن آمنكم فلان فقد
نبذت إليكم، فخذوا حذركم.
ثم آمنهم فلان، كان ما تقدم نبذا صحيحا وحل به قتالهم.
لانهم في منعتهم.
1330 - ولو قال: من خرج منكم بأمان فلان فهو فئ، أو فقد حل دمه.
فخرج (ص 255) رجل فهو آمن.
لان النبذ إليه وهو في منعتنا باطل.
1331 - ولو قال: من خرج منكم بأمان فلان فهو ذمة لنا.
فهذا صحيح.
لانه ليس فيه نبذ الامان، إنما فيه تقرير حكم الامن.
فكونه في منعتنا لا يمنع منه.
والله أعلم (1).
__________
(1 ه، ق " وال الموفق ".
*(2/758)
84 باب من نفل الخيل ما يكون على العراب (1) دون البراذين 1332 - وإذا قال الامير من قتل قتيلا فله فرسه، فقتل مسلم رجلا من المشركين، وله فرس مع غلامه.
فإنه لا يستحق فرسه.
لان إيجاب فرس القتيل له من أبين الدلائل على أن مراده قتل من هو فارس في حال ما يقتله.
وهذا لم يكن فارسا في حال ما قتله بالفرس الذى مع غلامه.
والغلام ليس بحاضر عنده.
ألا ترى لو قتل آخر الغلام وهو على ذلك الفرس استحق الفرس بقتله ؟ فعرفنا أن الاول إنما قتل راجلا لا فارسا.
ولان الامام خص الفرس من بين سائر الاشياء الذى يعلم أن الحربى حمله مع نفسه، ولا فائدة في هذا التخصص سوى أن يكون مراده الفرس الذى بقاتل عليه، وأنه كان قصده التحريض على قتل فرسانهم لتنكسر به
شوكتهم.
1333 - وإن كان قد نزل عن فرسه وهو معه يقوده في القتال فله فرسه.
لانه فارس بما معه من الفرس.
فإنه يتمكن من القتال عليه في الحال.
وإنما كان نزوله لزيادة جد في الحرب، أو لضيق الطريق، أو كثرة الزحام.
فلا يخرج به من أن يكون فارسا حين قتل.
__________
(1) ه " الاعراب " ص " العرب ".
*(2/759)
1334 - ولو قتل رجلا على برذون أو برذونة فله ذلك.
لانه فارس، سوآء كان على برذون أو فرس أو عربي.
ألا ترى أن مثله من المسلمين يستحق سهم الفرسان ؟ فإن قيل: هذا فيما إذا كان الفرس مع غلامه في المعسكر موجودا.
قلنا: لا كذلك، فإن في حق المسلمين، غلامه بهذا الفرس، لا يستحق سهم الفرسان، فيتمكن أن يجعل هو فارسا به.
وهنا في حكم التنفيل غلامه فارس بهذا الفرس فلا يكون هو فارسا به.
1335 - ولو قتل رجلا على بغل أو حمار أو بعير لم يكن له.
لانه غير فارس بهذا المركوب، ولان اسم الفرس لا يتناوله بحال.
1336 - ولو قال: من قتل قتيلا فله فرسه.
فقتل راجلا أو فارسا فله من الغنيمة فرس عربي وسط، أو قيمته.
ولا يكون له برذون.
لانه أطلق اسم الفرس فيما أوجبه نفلا له.
ومطلقه يتناول العربي خاصة، وبمطلق التسمية يستحق الوسط عن عين المسمى، أو قيمته.
بخلاف ما سبق.
فقد أضاف الفرس هنا إلى القتيل بحرف الهاء، وبه يتبين أن مراده ما يكون القتيل فارسا به، وذلك يعم البرذون والفرس العربي.
1337 - وعلى هذا لو قال: من دخل من باب المدينة على فرسه
أو من قاتل على فرسه فله مئة درهم.
فهذا على العراب (1) والبراذين جميعا.
__________
(1) ق " العربي " وفى الهامش " العراب.
نسخة حصر ".
*(2/760)
ولو قال: على فرس فهو على العراب خاصة.
وكذلك لو قال: من نزل عن فرسه فقاتل راجلا فله مئة.
فهذا على العراب والبراذين.
ولو قال: على فرس، ففى القياس لا يستحق النفل إلا من نزل عن فرس عربي.
لانه أطلق اسم الفرس فلا يتناول إلا العربي، كما في الفصول المتقدمة وفى الاستحسان كل من نزل عن برذون أو فرس عربي فقاتل راجلا فله نفله.
لان مقصود الامير هنا التحريص على مباشرة القتال راجلا.
ألا ترى أن من نزل عن فرس عربي ولم يقاتل (ص 256) لا يستحق النفل ؟ وفيما هو المقصود لا فرق بين أن ينزل عن برذون أو عن فرس عربي.
ولانه وإن أطلق الفرس فقد علمنا أن المراد فرسه، إذ الانسان ينزل عن فرسه لا عن فرس غيره.
فكان هذا وقوله: عن فرسه، سواء.
واسم البرذون في التنفيل يتناول الذكر والانثى، ولا يتناول الفرس العربي بحال.
لان هذا اسم نوع خاص من الخيل، فلا يتناول نوعا آخر.
بمنزلة ما لو قال: من قتل رجلا على فرس عربي.
فإن ذلك على الذكر والانثى من ذلك النوع خاصة، دون البراذين.
بخلاف الفرس، فإنه يستعمل في البراذين وفرس العرب جميعا كالخيل.
وإن كان الاسم حقيقة في العربي فعند الاطلاق يحمل على الحقيقة،(2/761)
وعند الاضافة يعتبر عرف الاستعمال.
والفرس الشهري (1) من نوع البراذين دون العراب.
1338 - ولو قال: من قتل قتيلا فله دابته.
فاسم الدابة يتناول الخيل والبغال والحمير كما قال تعالى (لتركبوها وزينة) (2).
ولهذا لو حلف لا يركب دابة يتناول الاسم هذه الاشياء الثلاثة.
1339 - وإن قتل رجلا على بعير أو ثور لم يكن له ذلك، إلا أن يكونوا قوما دوابهم الابل والثيران.
فباعتبار الحال يصير معلوما أن مراد الامام ذلك.
والكلام يتقيد بدلالة الحال.
واسم البغل في التنفيل يتناول الذكر والانثى، وكذلك اسم البغلة.
لان الهاء تستعمل فيه لعلامة الوحدان لا لعلامة التأنيث، كاسم البقرة، يتناول الذكر والانثى.
واسم الحمار والبعير يتناول الذكر والانثى جميعا.
فأما اسم الاتان فلا يتناول إلا الانثى، وكذلك اسم حمارة، لانه لا تستعمل الهاء هنا إلا لعلامة التأنيث.
واسم الجمل والبعير يتناول الذكر والانثى أيضا.
فأما اسم الناقة فلا يتناول إلا الانثى خاصة.
وقد بينا هذا في الجامع.
1340 - ولو قال: من قتل فارسا فله دابته.
فقتل رجلا على حمار أو بغل أو بعير لم يكن له شئ.
__________
(1) في هامش ق " والشهرية (بكسر الشين) البراذين.
وجمعها الشهارى.
مغرب ".
(2) سورة النحل، 16، الآية 8.
وفي ه " كما قال تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ".
*(2/762)
لانه ما كان فارسا بدابته، وإنما شرط الاستحقاق أن يقتل فارسا.
1341 - ولو قتل رجلا على برذون ذكر أو أنثى، استحق دابته.
لانه فارس بدابته.(2/763)
85 باب من يكون له النفل ومن لا يكون 1342 - وإذا قال: من قتل قتيلا فله سلبه.
فالقياس أن يكون السلب للقاتل، واحدا كان أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك.
لان " من " من أسماء العموم، فيتناول المخاطبين (1) على سبيل الاجتماع والانفراد جميعا.
1343 - ولكن الاخذ بالقياس في هذا قبيح.
إذ يؤدى إلى القول بأن العسكر كلهم لو اجتمعوا على قتل رجل واحد استحقوا سلبه.
وقد علمنا أن الامام لم يرد ذلك بالتنفيل.
لان معنى التحريض يفوت به.
ولكن للاستحسان فيه وجوه.
أحدها أنه إن قتله رجل أو رجلان فلهما السلب.
وإن قتله ثلاثة لم يكن لهم سلبه.
لان الثلاثة أدنى الجمع المتفق عليه.
فإن الكلام وحدان وتثنية وجمع.
فبه يبين أن الجمع غير التثنية.
ثم أدنى الجمع المتفق عليه كأعلى الجمع.
ومراد الامام بهذا تحريض الآحاد على القتال لا تحريض الجماعة.
ولانه يجوز للمسلم
__________
(1) في هامش ق " المخاطب.
نسخة حصر ".
*(2/764)
أن يفر من الثلاثة ولا يحل له أن يفر من الواحد ولا من الاثنين.
قال تعالى (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) (1) فبه تبين الفرق بين الاثنين والثلاثة، وأن حكم الاثنين كحكم الواحد.
ولكن هذا إذا كان معه السلاح، وهو يطمع (ص 257) في أن ينتصف من اثنين.
فأما إذا لم يكن معه سلاح ولا يطمع في أن ينتصف منهما فلا بأس بأن ينحاز (2) إلى فئة ولا يلقى بيده إلى التهلكة.
والوجه الثاني للاستحسان أنه إن قتله قوم لا منعة لهم من المسلمين فلهم السلب.
وإن قتله قوم لهم منعة لم يكن لهم السلب.
لان الذين لا منعة لهم حكمهم حكم الواحد.
ألا ترى أنهم لو دخلوا دار الحرب على وجه التلصص لم يخمس ما أصابوا، بخلاف ما إذا كانوا أهل منعة في حكم التنفيل، لانه بصحة التنفيل فيه يبطل حق أرباب الخمس عنه.
والوجه الثالث أنه إن قتله قوم يرى الامام والمسلمون أن ذلك القتيل كان ينتصف منهم لو خلى بينه وبينهم فلهم سلبه، وإن كان لا ينتصف منهم لم يكن لهم سلبه.
لان المقصود التحريض وإنما يتحقق معنى التحريض على قتل من ينتصف منهم دون من لا ينتصف.
قال: وكل هذا واسع إن أمضاه الامام ورآه عدلا.
وليس مراده أن كل هذا حق، وإنما مراده أن كل هذا طريق الاجتهاد.
__________
(1) سورة الانفال، 8، الآية 66.
(2) في حاشية ه " من الحوز كما في القرآن " أو متحيزا إلى فئة " أي مائلا إلى جماعة مسلمين سوى التى فر منها.
المغرب ".
*(2/765)
وهو نظير قول ابن مسعود رضى الله عنه، فيما صنع مسروق وجندب: " كلا كما أصاب "، يعنى طريق الاجتهاد.
قال: وأحسن الوجوه عندي وأقربها من الحق الوجه الاخير.
لان فيه تحقيق ما هو المقصود بالتنفيل وهو التحريض.
ألا ترى أنهم لو انتهوا إلى مطمورة (1) فقال الامير: من ناهضها أي قام بأخذها فله ما فيها بعد الخمس.
ففعل ذلك جماعة منهم فإن كان ينتصف منهم أهل المطمورة استحقوا النفل، وإن اجتمع على المطمورة من العسكر من يعلم أن أهل المطمورة لا ينتصفون منهم لم يكن لهم النفل.
لمراعاة التحريض.
1344 - ولو قتل رجل قتيلين أو أكثر بضربة واحدة فله سلبهم جميعا، كما لو قتلهم بضربات مختلفة.
لان كلمة " من " عامة، فيتعمم به المقتولون أيضا.
1345 - وإذا دخل الامير مع العسكر أرض الحرب فقال لهم قبل أن يلقوا قتالا: من قتل منكم قتيلا فله سلبه.
فهذا جائز.
ويبقى حكم هذا التنفيل إلى أن يخرجوا من دار الحرب.
__________
(1) في هامش ق " وعن ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى دارا في الارض أو بيتا.
" وهذا الذى أراده محمد رحمه الله في السير.
مغرب ".
*(2/766)
لان المقصود (1) تحريضهم على الامعان والطلب، فيتقيد مطلق كلامه بهذا المقصود.
1346 - حتى إذا انتهى مسلم إلى مشرك نائم أو غافل في عمله فقتله، فله سلبه.
بمنزلة مالو لقوا العدو فقتله في الصف أو بعد ما انهزموا.
لان تنفيل الامام عم المقتولين على أي حال كانوا بعد أن يكونوا بحيث يحل قتلهم.
1347 - وكذلك عم القاتلين ممن يكون لهم سهم في الغنيمة أو رضخ، كالنساء والصبيان والعبيد.
فأما إذا قال الامير هذه المقالة بعد ما اصطفوا للقتال فهذا على ذلك القتال حتى ينقضى.
لان الحال دليل عليه.
وهذا لانه لما أخر الكلام إلى أن حضر القتال، فقد علمنا أن مقصوده التحريض على ذلك القتال بخلاف الاول، فهناك إنما تكلم به حين دخلوا دار الحرب، فعرفنا أن مراده التحريض على الجد في الدخول والطلب.
ثم إن بقوا في ذلك القتال أياما فحكم ذلك التنفيل باق.
1348 - وكذلك إن دخل المنهزمون حصنهم فتحصنوا فيه وأقام المسلمون يقاتلونهم فقتل رجل قتيلا فله سلبه.
__________
(1) في هامش ق " مقصوده.
نسخة ".
*(2/767)
لان ذلك القتال باق إذا لم يتركوه حينا، ولا حصل مقصودهم به، وهو تمام القهر.
1349 - وإن لم يتبعهم (ص 258) المسلمون بعد ما انهزموا حتى لحقوا بحصونهم، ثم مروا بعد ذلك بحصونهم فقتل مسلم رجلا
ممن كان انهزم منهم أو من غيرهم لم يكن له سلبه.
لانهم حين تركوا أتباعهم فقد انقضت تلك الحرب حقيقة وحكما، والتنفيل كان مقيدا بها.
1350 - ولو كانوا على إثرهم فمروا بحصن آخر، فقتل رجل منهم قتيلا، لم يكن له سلبه.
1350 - لان النفل كان على الحرب الاولى (1)، وهى ما كان بينهم وبين أهل هذا الحصن.
إنما كانت بينهم وبين الذين حضروا.
فهذا إنشاء حرب أخرى (2) لم يكن التنفيل متناولا لها.
1351 - ولو أن أصحاب الحرب الاولى انهزموا، فدخلوا حصنا آخر، والمسلمون في إثرهم.
فإن كان الغالب في هذا الحصن غير المنهزمين، والمنعة منعتهم، ثم قتل مسلم قتيلا، لم يستحق سلبه.
سوآء كان المقتول من المنهزمين أو من غيرهم.
لان هذه حرب سوى الاولى.
__________
(1) ه الاول " خطأ.
(2) ه " آخر " خطأ.
*(2/768)
1352 - وإن كان عظم (1) القوم الذين انهزموا من المسلمين، والمنعة لهم، فحكم ذلك التنفيل باق، وأهل الحصن الثاني بمنزلة مدد لحقهم.
فتبقى الحرب الاولى.
ومن قتل من المنهزمين أو من غيرهم فله سلبه.
وهذا لما بينا أن الحكم للمنعة والغلبة.
1353 - ولو جاء ملكهم الاعظم بجنده فانحاز إليه الذين كانوا
يقاتلون المسلمين ثم قتل مسلم منهم قتيلا لم يكن له سلبه.
لان هذه منعة أخرى، والتنفيل كان مقيدا بالحرب الاولى، فبعد ما حدث لهم منعة أخرى تكون الحرب غير الاولى.
1354 - فإذا لم يجدد الامام تنفيلا لم يستحق القاتل السلب.
وإن جدد الامام التنفيل فسمعه بعض الناس دون البعض، فكل من قتل قتيلا استحق سلبه.
الذى سمع والذي لم يسمع فيه سوآء.
لان هذا محض منفعة في حق القاتلين.
ولان كلام الامام لما اشتهر في الناس فذلك بمنزلة الواصل إلى جماعتهم في الحكم (2).
__________
(1) أي معظمهم.
وفى ه، ب " عظيم " خطأ.
(2) ب، ه " والله الموفق " ق " والله أعلم ".
ولا شئ في الاصل.
*(2/769)
86 - باب من النفل (1) على الدلالة من المسلمين وأهل الحرب الاسراء (2) 1355 - وإذا قال الامير: من دلنا من المسلمين على عشرة من الرقيق فله رأس.
فدلهم رجل بكلام ولم يذهب معهم.
فذهبوا إلى ذلك الموضع وجاءوا بالرقيق كما قال.
فلا شى ء له من النفل.
وكان ينبغى في القياس أن يستحق النفل.
لانه شرط عليه الدلالة وقد فعل.
ألا ترى أن الدلالة على الصيد من المحرم بهذه الصفة يلزمه الجزاء ؟ ولكنه استحسن فقال: 1356 - استحقاق النفل يكون بالعمل لا بمجرد الكلام.
والمقصود به التحريض.
وإنما يكون التحريض على عمل هو من جنس
الجهاد والقتال.
وبمجرد وصف الموضع بكلامه لا يحصل ذلك العمل إذا لم يذهب معهم، فلا يستحق النفل.
__________
(1) ق " التنفيل ".
(2) ب " المسلم ".
*(2/770)
ولو آمنوا حربيا على أن يدلهم على مثله، فدلهم بكلامه فهو دال.
(1) أرأيت لو كان المسلم في منزلة بالكوفة أو الشام فقال: إن دللتكم على عشرة أرؤس في موضع من دار الحرب قد مررت بهم أتجعلون لى رأسا ؟ فقالوا: نعم.
فدلهم ولم يذهب معهم، أكان يستحق النفل ؟ فكذلك إذا دلهم وهو في دار الحرب، فهو شريكهم بسهم في الغنيمة، إلا أنه إذا ذهب معهم في دار الحرب فهو شريكهم بسهمة في الغنيمة، بمنزلة ما لو لم تسبق الدلالة والتنفيل.
ولو ذهب معهم حتى دلهم على عشرة أرؤس فله منهم رأس.
لانه باشر عملا يجوز أن يستحق النفل به وهو الذهاب.
وإنما يعطيه رأسا وسطا.
1357 - وكذلك لو دل على مئة رأس بهذه الصفة فله من كل عشرة رأس وسط.
ولو دلهم على خمسة كان له نصف واحد من أوساطهم.
لانه أوجب له ذلك بمقابلة عمل فيه منفعة للمسلمين، فيكون هذا بمنزلة قوله: من جاء بعشرة أرؤس (ص 259) فله رأس.
وقد تقدم بيان هذا الفصل.
1358 - ولو أسر الامير أسراء من أهل الحرب فقال: من
__________
(1) الزيادة من ه، ق ولا توجد في أصلنا، ولا في ب.
*(2/771)
دلنا منكم على عشرة أرؤس فهو حر.
فدلهم رجل بكلام ولم يذهب معهم، فوجدوا الامر كما وصف لهم، فهو حر.
لان هذا تعليق عتقه بالشرط، فيراعى وجود الشرط فيه حقيقة.
وبالدلالة بالوصف يتم الشرط (1) حقيقة.
وهذا لان الامام ما أوجب له هنا شيئا لا يستحق إلا بعمل، فلا حاجة بنا إلى ترك حقيقة الدلالة هنا، بخلاف الاول فقد أوجب له هناك نفلا لا يستحق إلا بالعمل، فلاجله تركنا حقيقة لفظ الدلالة، وحملناه على نوع من المجاز.
1359 - ثم لا يترك هذا الاسير يرجع إلى داره، ولكنه يخرج إلى دارنا ليكون ذمة لنا.
لانه بالاسر قد احتبس عندنا.
وإنما أوجب له بالدلالة الحرية، وليس من ضرورته التمكن من الرجوع إلى داره.
1360 - ويستوي في هذا الحكم إن ذهب معهم أو لم يذهب.
إلا أن يقول: إن دللتكم فأنا حر وتدعوني أرجع إلى بلادي.
فحينئذ يوفى له بالشرط، ويمكن من الرجوع إلى بلده إن أحب.
لان هذه بمنزلة صلح جرى بين الامام وبينه، وفى الصلح يجب الوفاء بالشرط (2).
1361 - إلا أنه لا ينبغى للامير أن يفعل هذا إلا أن يكون فيه حظ للمسلمين.
__________
(1) ه " المشروط ".
(2) ه، ب " بالمشروط ".
(3) في هامش ق " نفع.
نسخة ".
*(2/772)
لانه نصب ناظرا، فلا يدع الاسير ليعود حربا لنا إلا بمنفعة عظيمة للمسلمين.
نحو أن يقول: أدلكم على مئة من بطارقتهم، فذروني أرجع إلى بلادي.
فيعلم أن حظ المسلمين فيما يدل عليه أكثر من حظهم في أسره.
فحينئذ لا بأس بإجابته إلى ذلك.
وإن دلهم الاسير على تسعة وذهب معهم أو لم يذهب لم يكن له شئ من رقبته.
لان عتقه هنا باعتبار الشرط، والشرط يقابل المشروط جملة.
فما لم يأت بكمال الشرط لا يستحق العتق.
أو هذا صلح من رقبته على شرط التزمه، فما لم يأت بذلك الشرط بكماله لم يتم الصلح ولا يستحق شيئا مما وقع الصلح عليه.
بخلاف المسلم.
فإن استحقاقه للنفل كان باعتبار عمل فيه منفعة للمسلمين.
فيقدر ما يحصل من المنفعة بعمله يستحق النفل.
1362 - وكذلك لو كان الامير قال للاسير: إن دللتنا على عشرة فأنت آمن من أن نقتلك.
فدل على تسعة، كان له أن يقتله.
لانه علق الامان له بالشرط، فما لم يتم الشرط لا يستفيد الامن.
1363 - وكذلك لو أن أهل حصن نزل عليهم المسلمون قالوا: إن دللناكم على عشرة من البطارقة أتؤمنوننا وترجعون عنا ؟ فقالوا: نعم.
فدلوهم على خمسة أو على تسعة، فليسوا بآمنين.
وليس على المسلمين أن يرجعوا عنهم.
لان الشرط لم يتم، فلا (1) ينزل شئ من الجزاء.
__________
(1) ص " فلم ".
*(2/773)
1364 - ولو قالوا للمسلمين: نعطيكم مئة من الرؤس، أو ألف دينار على أن تؤمنونا وترجعوا عنا عامكم هذا.
ثم أعطوا بعض المال، فللمسلمين أن يقاتلوهم.
لان الامان تعلق بأداء جميع المال، فلا يثبت بأداء بعض المال.
ولكن إن أرادوا قتالهم فليردوا عليهم ما أخذوا، ثم ينابذوهم للتحرز عن الغدر ودفع الضرر عنهم.
فإنهم إنما أعطوا مالهم على سبيل الدفع عن نفوسهم.
وهذا بخلاف ما سبق من الدلالة على عشرة من البطارقة.
فإنه هناك إن دلوا على بعضهم فلنا أن نقاتلهم من غير رد شئ عليهم.
لانا ما تملكنا عليهم شيئا من المال بمقابلة ما وعدنا لهم من الامان.
ولو قاتلناهم من غير رد شئ لا يؤدى إلى الاضرار بهم بطريق إهدار ملكهم.
وهاهنا تملكنا المال بمقابلة ما شرطنا لهم، فيجب الرد عليهم إذا لم يحصل لهم منفعة الامان به.
1365 - وإن أبى الامام أن يرد عليهم (ص 260) فليرجع عنهم ولا يقاتلهم، إظهار للمسامحة وإتماما للوفاء بالشرط.
وإن هلك بعض السبى المأخوذ منهم ثم أردنا قتالهم فلا بد من رد ما بقى من السبى وقيمة من هلك منهم.
لان المقصود بالرد دفع الضرر والخسران عنهم، والتحرز عن الغدر.
وذلك يحصل برد القيمة عند تعذر رد العين، كما يحصل برد العين.(2/774)
1366 - ولو صالحوهم على مئة رأس على أن يؤمنوهم سنتهم هذه وينصرفوا عنهم، ثم رأوا أن النظر لهم في قتالهم فليردوا المال ثم ينبذوا
إليهم وهم في منعتهم.
لانه مع بقائهم حربا لنا لا يحرم قتالهم لاعزاز الدين، وإنما يحرم الغدر.
وبالنبذ إليهم، وهم في منعتهم، ينتفى معنى الغدر.
ولكن المال مأخوذ منهم بطريق الجعل.
فإذا لم يسلم لهم المشروط وجب رده عليهم.
بمنزلة العوض يجب رده إذا لم يسلم المعوض.
1367 - فإن كان أسلم السبى فليرد عليهم قيمتهم لانه تعذر رد عينهم بعد ما أسلموا.
لان تمليك المسلم من الحربى لا يحل، فصار كما لو تعذر ردهم بالهلاك.
1368 - ولو كانوا لم يقبضوا منهم المال حتى بدا لهم أن ينبذوا إليهم فلا بأس بذلك.
لانهم يختارون ما فيه النظر للمسلمين، والحال فيما يرجع إلى النظر يتبدل ساعة فساعة.
فكما أنه لو كان النظر في الابتداء في القتال لم يميلوا إلى الصلح فكذلك إذا صار النظر في القتال كان لهم أن ينقضوا الصلح.
ألا ترى أنه لو وادعهم على أن يؤدوا إليه كل سنة مئة رأس من رقيقهم، ثم بداله بعد مضي سنة أو سنتين أن يقاتلهم لانه رأى بالمسلمين قوة فلا بأس بأن ينبذ إليهم.
1369 - ولو وادعهم على أن يعطوهم مئة من أسراء المسلمين(2/775)
ليرجعوا عنهم عامهم هذا فأعطوهم تسعين، فلا بأس بالنبذ إليهم وقتالهم، لانعدام تمام الشرط الذى علق الامان به، ولا يرد عليهم شئ من المأخوذ.
لان الاحرار من الاسراء ما كانوا في ملكهم قط، ولا تملكناهم عليهم
بطريق الجعل، فلا يكون في الامتناع من الرد معنى الاضرار بهم، وإنما فيه كف عن الظلم.
1370 - وكذلك إن أعطوا ذلك من مدبرين، أو مكاتبين، أو أمهات، أو أولاد كانوا للمسلمين أسرى في أيديهم.
لانهم لم يتملكوا شيئا من ذلك فإن ثبوت حق العتق في المحل، كثبوت حقيقة العتق في إخراجه من أن يكون محلا للتملك بالقهر.
ولكنا نردهم على مواليهم بغير شئ.
1371 - وإن أعطوا ذلك من عبيد مسلمين كانوا أسرى في أيديهم رد عليهم قيمتهم.
لانهم كانوا تملكوا العبيد بالاحراز، ثم تملكنا عليهم بطريق الجعل، فيجب ردهم إذا لم يسلم لهم المشروط.
ولكن يتعذر رد عينهم لاسلامهم فيجب رد قيمتهم.
1372 - وإن ردوا المئة كما شرطوا ممن لا يملكونهم من الاسراء فللامام أن يقاتلهم بعد النبذ إليهم من غير رد شئ عليهم.
لانهم لم نتملك عليهم شيئا كانوا يملكونه(2/776)
ولكن الافضل له أن يفى لهم (1).
كما وفوا له بالمشروط، ليطمئنوا إليه فيما يستقبل.
فإنه إن لم يفعل لم يركنوا إلى مثل ذلك في المستقبل، بناء على ما عندهم أن هذا غدر في تخليص الاسارى من أيديهم، وإن لم يكن غدرا في الحقيقة.
1373 - وإن انصرف عنهم بعد ما أخذ المشروط منهم، فإن كانوا أحرارا خلى سبيلهم، وإن كانوا مدبرين ردهم على الموالى بغير قيمة، وإن كان عبيدا فإن وجدهم الموالى قبل (ص 261) القسمة
والبيع أخذوهم بغير شئ، وإن وجدوهم بعد القسمة أو البيع أخذوهم بالقيمة أو الثمن إن أحبوا.
لان التمليك عليهم بطريق الجعل بمنزلة التملك بطريق القهر، ألا ترى أن المأخوذ فئ يجب قسمته بينهم في الوجهين.
1374 - ولو قال الامير للاسراء: من دلنا على عشرة من المقاتلة فهو حر.
فدلهم أسير على عشرة ممتنعين في قلعة لا يقدر عليهم، لم يكن حرا.
لانا علمنا أنه لم يكن هذا مقصود الامام، وإنما كان مقصوده دلالة فيها منفعة للمسلمين، ولم يحصل.
فإن قيل: إنما يعتبر ظاهر كلامه وهو قوله عشرة من المقاتلة، والمقاتل من يكون ممتنعا.
قلنا: نعم.
ولكن مقصوده دلالة يستفيد بها علما لم يكن حاصلا له
__________
(1) ه " يفئ ذلك لهم " *(2/777)
قبل الدلالة، وذلك لا يحصل بهذه الدلالة، فكم من عشرة مقاتلة لا يقدر عليهم يعلمهم (1) الامير والمسلمون في دار الحرب.
فعرفنا بهذا أن مراده الدلالة على عشرة يتمكنون من أخذهم.
1375 - فإن دلهم على عشرة غير ممتنعين إلا أنهم دروا بهم فهربوا، فإن كانوا هربوا قبل وصول المسلمين إلى موضع يقدرون على أخذهم فليست هذه أيضا بدلالة.
لان ما هو المقصود وهو التمكن من الاخذ لم يحصل بها.
1376 - وإن كانوا قد قدروا على أخذهم ففرطوا في ذلك حتى هربوا فالاسير حر.
لانه قد أتى بالمشروط عليه من الدلالة وهو التمكن (2) من أخذ العشرة.
فالتفريط الذى يكون منا بعد ذلك لا يكون محسوبا عليه.
1377 - وإن دل على العشرة في موضع فقاتلوا حتى نجوا فليست هذه بدلالة.
لانه إنما دل على قوم ممتنعين، إذ لا فرق بين أن يكون امتناعهم بقوة أنفسهم أو بحصن كانوا فيه.
إلا أن يكونوا إنما نجوا لتفريط من المسلمين في أخذهم بعد القدرة عليهم، فحينئذ يكون للدال ما شرط له.
__________
(1) ه " بعلمهم ".
(2) ه " التمكين " وفى هامش ق " التمكين.
نسخة ".
*(2/778)
1378 - وإن قاتل العشرة التى دل عليهم المسلمون فقتلوا بعضهم ثم ظفر المسلمون بهم فالاسير حر.
لانهم إنما تمكنوا من أخذهم وأسرهم بدلالته.
1379 - وإن لم يتمكن المسلمون من أسرهم ولكن قاتلوهم حتى قتلوا فليست هذه بدلالة.
لان ما هو المقصود وهو التمكن من الاسر لم يحصل بهذه الدلالة.
وهذا لان مثل هذه العشرة كانوا يجدونهم قبل دلالته.
فعرفنا أن المقصود بالدلالة غير هذا.
1380 - ولو قتل المسلمون منهم واحدا وظفروا بالبقية، فإن كانوا قتلوا ذلك الواحد وهم ممتنعون لم يكن الاسير حرا.
لان التمكن إنما حدث بعد قتله، والباقون بعد قتله تسعة.
فكأنه دلهم ابتداء على تسعة نفر.
وإن كانوا قتلوه بعد ما ظفروا بالعشرة فهو حر.
لانهم تمكنوا بدلالته من أخذ العشرة.
1381 - وكذلك إن كانوا قتلوا بعض المسلمين ثم ظفروا بهم أحياء.
لانهم تمكنوا من أسر العشرة بدلالته، وإن كان ذلك بعد جهد وقتال.(2/779)
1382 - فإن انتهى إليهم المسلمون ولا سلاح، ففرطوا في أخذهم حتى تسلحوا أو امتنعوا فالاسير حر.
لانه مكنهم بالدلالة من أخذ العشرة، وإنما جاء التقصير من المسلمين.
1383 - ولو كان الاسير قال: أدلكم على عشرة على أنى إن دللتكم عليهم فامتنعوا أو لم يمتنعوا فأنا حر.
فرضى المسلمون بذلك فهو حر، إذا دل عليهم وإن امتنعوا (1).
لانه أتى بما التزمه بالشرط نصا.
وإنما تعتبر دلالة الحال والمقصود بالكلام إذا لم يوجد التنصيص بخلافه.
1384 - ولو قال الامير للاسراء: من دلنا على حصن كذا أو على عسكر فلان البطريق، أو على عسكر الملك فهو حر.
فدلهم رجل ثم لم يظفروا بهم فالاسير حر (ص 262).
لانه أتى بما شرط عليه من الدلالة.
والمشروط عليه الدلالة على قوم
ممتنعين هنا، وقد أتى به، بخلاف ما تقدم.
والغالب أن المراد هناك الدلالة على عشرة غير ممتنعين.
ألا ترى أنه لو قال: من دلنا على عشرة من السبى من نساء أو صبيان فهو حر، فدلهم رجل على ذلك بين يدى جند يمنعونهم أنه لا يعتق ؟ لان الغالب أن المراد الدلالة عليهم في غير منعة، وإنما يحمل مطلق الكلام في كل موضع على ما هو الغالب.
1385 - ولو تحير الامير في رجوعه إلى دار الاسلام فقال للمسلمين: من دلنا منكم على الطريق فله رأس، أو قال: فله مئة درهم.
__________
(1) ه " وإن كان امتنعوا ".(2/780)
فدلهم رجل بوصف ذكره، فمضوا على دلالته حتى أصابوا الطريق.
ولم يذهب هو معهم، فلا شئ له.
لان ما أوجب كان على سبيل الاجرة لا على سبيل التنفيل.
إذ التنفيل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز.
وإرشاد المتحير إلى الطريق ليس من الجهاد ليستحق عليه النفل.
فعرفنا أنه إجارة.
واستحقاق الاجر بعمل لا بقول.
فلهذا لا يستحق شيئا إذا لم يذهب معهم.
1386 - وإن ذهب معهم حتى دلهم على الطريق فله أجر مثله في ذهابه معهم.
لانه أتى بالعمل بحكم إجارة فاسدة.
فإن المقصود عليه من العمل لم يكن معلوما حين لم يتبين إلى أي موضع يذهب معهم.
وربما يوصلهم إلى الطريق بعشرة خطى (1)، وربما لا يوصلهم إلا بمسيرة عشرة أيام.
وجهالة المعقود عليه تفسد العقد.
1387 - ثم إن كان المشروط له مئة درهم فإنه يستحق به أجر المثل لا يجاوز به مئة، كما هو الحكم في الاجارة الفاسدة إذا كان المسمى معلوما.
وإن كان المشروط له رأسا من السبى فله أجر مثله بالغا ما بلغ.
لان تسمية الرأس مطلقا في باب الاجارة لا يكون تسمية صحيحة.
وهذا لانه إنما لا يجاوزه المسمى لتمام الرضا به، وذلك يتحقق في المئة ولا يتحقق في الرأس، لان الرؤوس تتفاضل في المالية.
__________
(1) ه " خطوات ".
*(2/781)
1388 - ولو قال: من دلنا على الطريق حتى يبلغ بنا موضع كذا فله مئة درهم، أو فله هذا الرأس بعينه.
فذهب رجل معهم إلى ذلك المكان فله المسمى.
لان المعقود عليه معلوم هنا، والبدل معلوم.
فإن قيل: المخاطب بالعقد مجهول فكيف ينعقد العقد صحيحا ؟ قلنا: إنما ينعقد العقد حين يأخذ في الذهاب معهم، ويستوجب الاجر بحسب ما يأتي به من العمل، وعند ذلك لا جهالة فيه.
1389 - ولو يتحير الامام ولكن قال: من ساق هذه الارماك (1) منكم حتى يبلغ الطريق فله مئة درهم.
ففعل ذلك قوم، استحقوا أجر المثل لا يجاوز به المئة.
لان المعقود عليه من العمل مجهول لجهالة المسافة.
1390 - ولو كان قال: إلى موضع كذا.
فلهم المسمى.
لان المعقود عليه معلوم والبدل معلوم.
1391 - وإن خاطب قوما بأعيانهم فسمع قوم آخرون فساقوها إلى ذلك المكان فلا شئ لهم.
لان العقد إنما كان بينه وبين من خاطبهم به، فغيرهم يكون متبرعا في إقامة العمل.
__________
(1) جمع رمكة (محركة)، وهى الفرس والبرذونة تتخذ للنسل (القاموس).
*(2/782)
1392 - ولو نادى بذلك في جميع أهل العسكر فساقها قوم سمعوا النداء فلهم الاجر.
لانهم أقاموا العمل على وجه الاجارة.
1393 - ولو ساقها قوم لم يسمعوا النداء فلا شئ لهم.
لانهم أقاموا العمل متطوعين لا على وجه الاجارة حين لم يسمعوا النداء، وبهذا تبين أن الاستحقاق هنا ليس على وجه التنفيل.
1394 - ولو أن الامير أخطأ الطريق فتحير.
فقال لاسير في يده: إن دللتنا على الطريق (ص 263) فلك أهلك وولدك.
فدلهم بصفة أو بذهاب معهم حتى أوقفهم على الطريق، كان على حاله فيئا للمسلمين مع أهله وولده.
لان الامير لم يذكر نفسه بشئ في الجزاء، فيبقى هو أسيرا على حاله.
وإذا كان هو عبدا للمسلمين فما يكون له يكون للمسلمين أيضا، أهله وولده وغيرهم في ذلك سواء.
1395 - ولو كان قال: لك نفس وأهلك وولدك.
والمسألة
بحالها فهو حر لا سبيل عليه.
لانه جعل له نفسه جزاء على دلالته.
وقد أتى بها فكان حرا، وله أهله وولده أيضا، لانه شرط له ذلك.
إلا أنه لا يدخل في اسم الاهل هنا إلا زوجته.(2/783)
بخلاف ما تقدم في فصول الامان.
لانهم هنا قد صاروا مملوكين بالاسر، فلا يزول الملك عنهم إلا بيقين، وهذا اليقين في زوجته خاصة.
1396 - وكذلك في اسم الولد لا يدخل هنا إلا ولد لصلبه.
وأما ولد ولده فهم فئ.
لان اليقين في ولد الصلب خاصة.
وهذا الاستحقاق له يبتنى على.
المتيقن به.
1397 - وإن لم يكن في الاسراء ولد لصلبه فله أولاد بنيه.
لانهم قائمون مقام أبيهم في هذا الاسم، فيتناولهم عند عدم آبائهم.
1398 - ولا يكون ولد بناته من ذلك في شئ، إلا أن يسميهم.
لانهم ليسوا من أولاده.
1399 - ثم لا يترك يرجع إلى دار الحرب ولكنه يخرجهم إلى دار الاسلام ليكونوا ذمة للمسلمين.
لانه بعد تقرر الاسر لا يجوز تمكينهم من الرجوع إلى دار الحرب.
1400 - ويستوى إذا كان دلهم بكلام أو ذهب معهم.
بخلاف ما تقدم من دلالة المسلمين.
فإن ذلك على وجه الاجارة، فلا يثبت بالكلام.
وهذا على وجه الصلح والامان.
فيعتبر فيه وجود الشرط حقيقة.
1401 - فإن كان الامير قسم السبي في دار الحرب أو باعهم ثم(2/784)
تحير فقال للاسراء: من دلنا على الطريق فهو حر.
أو قال: فله مئة درهم، ففعل ذلك بعضهم، فإن كان شرط له مئة فله أجر لا يجاوز به المئة ويكون ذلك لمولاه.
لان الملك قد تعين فيهم هنا.
فما أوجبه يكون على وجه الاجارة دون الصلح والامان.
1402 - ولهذا لو دلهم بمجرد كلام ولم يذهب معهم لم يستحق شيئا.
وإن كان قال: فهو حر، فهذا باطل.
لان الامير لا يملك أن يعتق أرقاء الملاك بعد ما تعين ملكهم فيهم.
1403 - ولو تحير قبل قسمتهم فقال: من دلنا منكم على الطريق فهو حر.
فدلهم أسير على طريق بين، إلا أنه طريق يأخذ إلى دار الحرب لا إلى دار الاسلام.
فإن كانوا تحيروا في الدخول فهده دلالة والاسير حر.
وإن كانوا تحيروا في الانصراف فليست هذه بدلالة.
وإن دلهم على طريق يأخذ إلى دار الاسلام لا إلى الحرب فالتقسيم فيه على عكس هذا.
لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال، وقد علمنا أن مراده في حالة الدخول الدلالة على طريق يوصله إلى مقصده (1) من دار الحرب.
وفى الانصراف مقصوده الدلالة على طريق يوصله إلى مفصده من دار الاسلام.
__________
(1) ه " مقصوده ".
*(2/785)
1404 - وإن قال: إن دللتنا على طريق حصن كذا فأنت حر، ولذلك الحصن من ذلك المكان طريق، فدلهم على طريق آخر هو أبعد من الطريق المعهود، فله شرطه.
لان كل واحد من الطريقين طريق ذلك الحصن إذا كان بحيث يعتاد الناس الذهاب إلى ذلك الحصن من ذلك الطريق.
والامير أطلق الفظ، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل.
وليس في كلامه ذلك.
1405 - وإن دلهم على طريق ليس بطريق إلى ذلك الحصن ولكنه طريق إلى غيره، إلا أنهم يقدرون على أن يدوروا من ذلك المكان حتى يأتوه، فليست هذه بدلالة.
لان الانسان قد يتمكن من أن يأتي (ص 264) من هذا الموضع كاشغر ثم يدور حتى يأتي بخارى.
ثم لا يعد أحد الطريق من هنا إلى كاشغر طريق بخارى.
فعرفنا أنه ما أتى بالمشروط عليه، فلا يكون حرا.
1406 - وإن قال: إن دللتنا على طريق حصن كذا، وهو الطريق الذى كان يقال له كذا.
فدلهم على طريق غيره حتى أقامهم على الحصن.
فإن كانت لهم منفعة في الطريق الذى عينوا له من حيث قرب الطريق أو أمنه أو كثرة العلف أو كثرة القرى أو كثرة ما يجدون من السبي فهو فئ على حاله.
لانه ما وفى بالشرط.
فانهم عينوا له طريقا وكانت لهم فيه منفعة، والتعيين متى كان مفيدا يجب اعتباره.(2/786)
1407 - وإن كان الذى دلهم عليه أكثر منفعة من الذى عينوا له فهو فئ في القياس أيضا.
لانه ما أتى بالمشروط.
وفي إيجاب العباد يعتبر اللفظ دون المعنى لجوازه أن يخلو كلامهم عن حكمة وفائدة حميدة.
وفى الاستحسان هو حر.
لانه أتى بمقصودهم وزيادة.
وإنما يعتبر التعيين إذا كان مفيدا.
فإذا علم أن فائدتهم فيما أتى به أظهر، سقط اعتبار التعيين لكونه غير مفيد.
وإن لم يعلم أيهما أنفع فهو فئ على حاله.
لان التعيين كلام من عاقل.
فيكون معتبرا في الاصل، ما لم يعلم بخلوه عن الفائدة.
ولم يعلم بذلك.
1408 - وعلى هذا لو قال: من دلنا على طريق درب الحدث (1) فهو حر.
فدلهم رجل على طريق المصيصة أو على طريق ملطية.
فإن كان ذلك أقرب وأكثر منفعة فهو حر.
وإن كان ليس كذلك، أو لا يدرى أهو كذلك أم لا فهو فئ.
__________
(1) ه، ب " الحارث " وهو خطأ.
وفى حاشية ه " بلدة بناها سيف الدولة " وفى هامش ق " الدرب المضيق من مضايق الروم.
وعن الخليل الدرب الباب الواسع على السكة.
وعلى كل مدخل من مداخل الروم درب من دروبها.
والمراد به في قوله زقاق أو درب غير نافذ السكة الواسعة نفعها.
مغرب ".
" والحدث الحادث.
وبه سمى الحدث من قلاع الروم لحدوثه أو لكونه عدة لاحداث الزمان وصروفه.
مغرب ".
*(2/787)
لانه ما أتى بالمشروط عليه.
أرأيت لو ذهب بهم إلى طريق غير ما ذكروا له، فكان فيه الملك
وجنده.
فقاتلهم وقتل منهم، أو ذهب بهم في طريق لا علف فيه فهلكت دوابهم، أو ماتوا جوعا، أكان يوفى له بشرطه ؟ وإنما قصد (1) بهذا بيان أن التقييد متى ما كان مفيدا (2) يجب اعتباره.
__________
(1) ه " فصل " خطأ.
(2) ه " مقيدا " خطأ.
*(2/788)
87 باب ما يجوز من النفل في السلاح وغيره 1409 - وإذا رأى أمير العسكر دروع المسلمين قليلة عند دخولهم دار الحرب فقال: من دخل بدرع فله من النفل كذا، أو فله به سهم كسهمه في (1) الغنيمة.
فهذا جائز لا بأس به.
لان هذا التنفيل يقع منه على وجه النظر، فالمسلم في حمل الدروع إلى دار الحرب يحتاج إلى مؤنة، ويحصل به إرهاب العدو، فيجوز أن ينفل على ذلك لتحريضهم على تحمل هذه المؤنة لارهاب العدو.
ألا ترى أن الشرع أوجب للغازي السهم لفرسه لهذا المعنى ؟ وهو أنه يحتمل (2) المؤنة فيما يحصل به إرهاب العدو، فللامام أن يوجب ذلك بطريق النفل اعتبارا بما أوجبه الشرع.
1410 - وكذلك لو قال: من دخل بدرعين فله كذا.
لان المبارز قد يظاهر بين درعين (2) إذا أراد القتال، على ما روى أن النبي عليه السلام ظاهر بين درعين (3) يوم أحد.
فكان هذا منه على وجه النظر والاجتهاد.
__________
(1) ه، ب " من ".
(2) ه " يلتزم ".
(3) ق، ه، ب " الدرعين ".
*(2/789)
1411 - وإن قال: من دخل بدرع ومن دخل بدرعين فله مئتان.
ومن دخل بثلاثة دروع فله ثلاث مئة.
وساق الكلام هكذا: فليس ينبغى له أن ينفل هكذا، ولا يجوز منه هذا التنفيل في أكثر من درعين.
لان هذا لا يقع على وجه الاجتهاد والنظر، والمقاتل لا يمكنه أن يلبس أكثر من درعين عند القتال.
لان ذلك يثقل (1) عليه، ولا يمكنه أن يقاتل معه.
فعرفنا أنه ليس في التنفيل على أكثر من درعين منفعة.
فان قيل: معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يتحقق في الثالث والرابع والخامس.
قلنا: ليس كذلك.
فان الارهاب بالدارع لا بالدرع.
يقال انفصل (ص 265) كذا وكذا دارع، وكذا وكذا حارس.
فيحصل به الارهاب.
والدارع هو وحده، لانه ما حمل الدروع مع نفسه ليعطيها غيره، وإنما حمل للبس عند القتال.
وذلك لا يتأتى منه في أكثر من درعين.
1412 - وعلى هذا لو قال لاصحاب الخيل بتجاف (2) فله كذا.
فان معنى التزام المؤنة وإرهاب العدو يحصل بالتجفاف للخيل كما يحصل بالدروع للفارس.
فيجوز أن ينفل على تجفاف وتجفافين.
ولا يجوز أكثر من ذلك.
__________
(1) ه " ثقيل ".
(2) في هامش ق " تفعال بالكسر.
مصباح " وهو شئ من سلاح يترك على الفرس يقيه الاذى.
وقد يلبسه الانسان.
نهاية.
*(2/790)
لان التجفاف للفرس، فالتنفيل عليه بمنزلة التنفيل على الفرس.
1413 - ولو كان الامير ممن لا يرى أن يسهم إلا لفرس واحد فقال: من دخل بفرسين فله كذا، كان ذلك تنفيلا صحيحا.
ولا يجوز أن ينفل على أكثر من فرسين.
لان المبارز قد يقاتل بفرسين ولا يقاتل بأكثر منهما.
فانما يجوز من تنفيله ما يكون فيه منفعة دون ما لا منفعة فيه.
إلا أن يكون أمرا معروفا قد يحتاج الرجل فيه إلى ثلاثة أفراس.
فحينئذ يجوز تنفيله لثلاثة أفراس في ذلك، وكذلك لثلاثة تجافيف.
لانه يكون على كل فرس تجفاف، ومتى علم أن تنفيله كان على وجه النظر يجب تنفيذه مما أصاب من الغنائم بعد التنفيل.
1414 - ولو لم يقل شيئا لهم حتى حاصروا حصنا فقال: من تقدم إلى الباب دارعا فله كذا.
أو قال: من تقدم متجففا فله كذا، أو قال: من تقدم مظاهرا درعين فله كذا، فذلك تنفيل صحيح.
لان فيه منفعة للمسلمين من حيث إظهار الجلادة والقوة وإيقاع الرعب في قلوب المشركين.
والتنفيل على مثله يكون.
1415 - ولو لم يقل ذلك حتى فتحوا الحصن ثم أراد أن ينفل منه للدارع والمتجفف على قدر العناء فليس له أن ينفله.(2/791)
لان التنفيل ما يكون قبل الاحراز، فأما بعد الاحراز فيكون صلة لا تنفيلا، وليس للامام أن يخص بعض الغانمين بالصلة من الغنيمة بعد ما ثبت حقهم فيها.
1416 - فإن نفل الامام بعد الاحراز على قدر العناء والجزاء فكان ذلك من رأيه فهو نافذ.
لانه أمضى باجتهاده فصال مختلفا فيه، فليس لاحد من القضاة أن يبطل ذلك 1417 - ويحل للمنفل أن يأخذ ذلك وإن كان هو ممن لا يرى التنفيل بعد الاصابة.
لان الرأى يسقط اعتباره إذا جاء الحكم بخلافه.
فإن قضاء القاضى ملزم غيره، ومجرد الاجتهاد غير ملزم غيره.
وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنت طالق البتة.
ومن رأيه أن ذلك تطليقة بائنة.
فقضى القاضى بأنها تطليقة رجعية كما هو قول عمر وابن مسعود رضى الله عنهما، فإنه ينفذ قضاؤه، ويسعه أن يقيم عليها.
ولكن هذا على قول محمد.
وأما على قول أبى يوسف فالمجتهد لا يدع رأيه إذا كان ذلك أشد عليه بقضاء القاضى بخلافه.
وقد بينا ذلك في شرح المختصر في آخر الاستحسان والله أعلم.(2/792)
88 باب ما يجوز من النفل بعد إصابة الغنيمة ومن يجوز ذلك منه (1) 1418 - قال: ولو أن سرية في دار الحرب أصابوا غنائم فعجزوا عن حملها إلى دار الاسلام، وأراد الامير إحراقها أو تركها، ثم بداله فقال للمسلمين: من أخذ منها شيئا فهو له.
فهذا جائز.
ومن تكلف منهم فأخرج شيئا فهو له، ولا خمس فيه.
لان هذا تنفيل وقع على وجه النظر، وإنما كرهنا التنفيل بعد الاصابة لما فيه من إبطال حق بعض الغانمين بعد ما ثبت حقهم في المصاب.
والابطال إنما يكون عند التمكن من الحفظ وتأكيد (2) حقهم بالاخراج.
فأما بعد تحقق العجز عن ذلك فهذا لا يكون إبطالا لحق أحد.
يوضحه أن له إحراق الجمادات (ص 266) منها، وذبح الحيوانات، ثم الاحراق أو تركها في مضيعة.
وفى ذلك إبطال حق الكل.
فمن ضرورة جواز ذلك جواز إبطال حق البعض بتخصيص البعض بطريق التنفيل.
ولان في الاحراق إبطال حق لا منفعة فيه لاحد من المسلمين، وفى التنفيل توفير المنفعة على بعضهم.
فكان الميل إلى هذا الجانب أولى.
1419 - فأما إذا كان قادرا على الاخراج أو البيع أو القسمة
__________
(1) ه " وما لا يجوز ذلك فيه ".
(2) ب " تأكيد ".
*(2/793)
فهو متمكن من إيصال المنفعة إلى جماعتهم.
فلا ينبغى له أن يبطل حق بعضهم.
وكذلك لو قال عند العجز: من أخذ شيئا فهو له بعد الخمس.
أو قال: فله نصف ما أخذ قبل الخمس أو بعده.
فذلك كله صحيح.
ينبغى له أن يفعل من ذلك ما يكون أقرب إلى النظر، ثم القسمة بعد الاخراج، على ما أوجبه الامير بالتنفيل.
وإن أحد وجد منهم شيئا كان المسلمون يقدرون على إخراجه، ولم يكن للامام علم به من جوهر أو غير ذلك، فإن هذا يخمس، والباقى بينهم على سهام الغنيمة.
لان صحة هذا التنفيل لضرورة العجز عن الاحراز.
والثابت بالضرورة لا يعدو مواضعها، فلا يتناول هذا التنفيل ما لم يتحقق فيه الضرورة.
1420 - وإذا ثبت هذا الحكم فيما أخذوا من أموالهم ثبت فيما لم يأخذوه بطريق الاولى، حتى إذا مروا ببناء من بنائهم فيه السلاح والرخام وماء الذهب ولم يقدروا على أخذه وإخراجه فقال الامير: من أخذ منه شيئا فهو له، فذلك صحيح.
ومن خرب شيئا من ذلك وأخرجه اختص به.
لانهم وإن كانوا قادرين على هدمه فقد كانوا عاجزين عن إخراجه.(2/794)
ولهم أن يتركوه فيصح تنفيل أميرهم في ذلك أيضا، ويستوى إن كان ذلك مما يقدر على حمله بعد الهدم أو لا يقدر عليه.
لان التنفيل من الامير قبل الهدم، وإنما صار بحيث يقدر على حمله بما أحدث فيه من الهدم بعد تنفيل الامام.
1421 - إلا أن يكون شيئا من ذلك موضوعا نائيا عن البناء يقدرون على إخراجه حين نفل الامام ولم يعلم به، فإن ذلك يقسم بين الجماعة، وإن أخرجه واحد منهم.
لان التنفيل لم يتناوله.
1422 - ولو أن الامير لم ينفل أحدا ولكنه أمرهم بإحراق ذلك، فتكلف بعضهم إخراجها على دوابهم إلى دار الاسلام، فذلك يخمس ويقسم بين جميع السرية.
لان تخصيص البعض بتنفيل الامام، ولم يوجد، إنما الموجود الامر بالاحراق، ولا تأثير له في تخصيص بعضهم بشئ، وأدنى الدرجات أن
الذى أخرج أحيا بفعله ما كان مشرفا على الهلاك مما كان مشتركا بينه وبين غيره، فلا يكون ذلك سببا لقطع الشركة وتخصيصه به.
1423 - ولو قسم ما أصاب في أرض الحرب، أو باعه من التجار، أو أخرجه إلى دار الاسلام، فلحقهم العدو، وابتلوا بالهرب، فينبغي أن يحرقوا ذلك بالنار لينقطع منفعة العدو عنه.
فإن في ذلك(2/795)
معنى الكبت لهم.
وإن كان يجوز للغزاة أن يفعلوا ذلك بما ثقل عليهم من متاعهم وسلاحهم في دار الحرب، لئلا ينتفع به العدو، كما فعله جعفر (1) فإنه حين أيس من نفسه عقر فرسه.
فلان يجوز ذلك فيما أخذوا من أمتعة أهل الحرب كان أولى.
1424 - فإن نبذوا ذلك ليحرقوه فقال الامير، من أخذ شيئا فهو له، فأخذ ذلك قوم وأخرجوه من المهلكة، فذلك كله مردود إلى أهله.
لانه بالقسمة والبيع قد تعين الملك فيه.
1425 - وليس للامام ولاية التنفيل في أملك الناس بحال، وكذلك بالاخراج إلى دار الاسلام، وقد تأكد الحق فيه لهم على وجه يورث عنهم، فلا يبقى للامام فيه ولاية التنفيل أصلا.
بخلاف ما قبل الاحراز.
فالثابت هناك حق ضعيف (ص 267) ثبت بالاحراز باليد، وذلك ينعدم بالالقاء للاحراق، فليلتحق هذا التنفيل بالتنفيل قبل الاحراز.
فأما بعد الاحراز بالدار فالحق قد يتأكد بتمام السبب بالاحراز بالدار، فلا يبطل ذلك بالالقاء للاحراق.
فلا يكون للامام فيه ولاية التنفيل.
وهذا بعد القسمة.
والبيع أظهر.
لان الملك قد تعين فيه.
__________
(1) أي جعفر بن أبى طالب.
وفى حاشية ه " يعنى في غزوة مؤتة التى استشهد فيها ".
*(2/796)
ألا ترى أنهم لو طرحوا ذلك في دار الحرب فلم يفطن بها أهل الحرب حتى دخلت سرية أخرى فأخرجوها، وأخذها أهل الحرب، ثم دخلت سرية أخرى فأخذوها منهم، لم يكن للسرية الاولى حق، بمنزلة سائر أموال أهل الحرب التى لم تؤخذ منهم.
ولو طرحوها للاحراق بعد القسمة والبيع ثم تركوها مخافة العدو، ولم يعلم بها المشركون حتى جاءت سرية أخرى فأخذوها وأخرجوها فهى مردودة على الملاك لبقاء ملكهم فيها.
1426 - وإن أخذها المشركون ثم استنقذها من أيديهم سرية أخرى، فإن وجدها الملاك قبل القسمة أخذوها بغير شئ، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة، بمنزلة سائر أموالهم إذا أصابها أهل الحرب وأحرزوها.
وكذلك بعد الاحراز بدار الاسلام.
وإن طرحوها ثم جاءت سرية أخرى فأخذوها ولم يعلم بها أهل الحرب فهى مردودة على السرية الاولى، لتأكد حقهم فيها.
وإن أحرزها أهل الحرب ثم أخذها منهم سرية أخرى فإن وجدها السرية الاولى قبل القسمة أخذوها بغير شئ.
وإن وجدوها بعد القسمة فلا سبيل لهم عليها.
وهذه هي الرواية الثانية (1) التى بينا أنها أصح في هذه المسألة.
لانهم لو أخذوها أخذوها بالقيمة، وحقهم قبل القسمة في المالية،
__________
(1) ه " الثابتة ".
*(2/797)
إذ لا ملك لاحد في العين، ولهذا كان للامام أن يبيعها ويقسم الثمن، فلا يكون الاخذ بالقيمة مفيدا لهم شيئا، وإنما يثبت حق الاخذ إذا كان مفيدا.
1427 - ولو أن المشترين، أو الذين وقع ذلك في سهامهم، أو الذين رموا بمتاعهم قالوا حين رموا به: من أخذ شيئا فهو له.
فأخذ ذلك قوم من المسلمين فهو لهم، أخرجوه أو لم يخرجوه.
لان هذا هبة من الملاك للآخذين.
وقد تمت الهبة بقبضهم.
فإن أرادوا الرجوع فيه فلهم ذلك قبل أن يخرجه الآخذون إلى دار الاسلام كما هو الحكم في الهبة.
1428 - وإن أخرجوه أو بلغوه موضعا يقدر فيه على حمله لم يكن لهم أن يرجعوا فيه.
لانه حدث (1) فيه زيادة بصنع الموهوب له.
فإنه كان مشرفا على الهلاك في مضيعة، وقد أحياه بالاخراج من ذلك الموضع، فالزيادة في عين الموهوب تمنع الواهب من الرجوع، ولكن هذا الحكم فيما إذا أخذه من سمع مقالة المالك منه، أو ممن بلغه، فأما من لم يسمع ذلك أصلا إذا أخذ شيئا فأخرجه كان عليه أن يرده إلى مالكه.
لان من علم بمقالته فإنما أخذه على وجه الهبة.
فيكون ذلك قبضا متمما للهبة، ومن لم يعلم ذلك فهو إنما أخذه لا على وجه الهبة بل على وجه الاعانة لمالكه في الرد عليه، فلا يثبت الملك له بهذا الاخذ.
فإن قيل: هذا إيجاب لمجهول، فكيف يصح بطريق الهبة ؟ قلنا: لان هذه جهالة لا تفضى إلى المنازعة.
فالملك إنما يثبت عند
__________
(1) ب " حصل ".
*(2/798)
الاخذ، وعند ذلك، الاخذ متعين معلوم.
وكان المالك بهذا اللفظ أباح
أخذه على وجه الهبة منه، وهذه الاباحة تثبت مع الجهالة.
أصله: ما رواه عبدالله بن قرط الثمالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الايام يوم النحر، ثم يوم القر.
يعنى الثاني من أيام النحر - لان الحاج يقرون فيه بمعنى.
قال: وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمسا أو ستا، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ.
فلما وجبت جنوبها قال كلمة لا أفهمها.
فسألت بعض من يليه: ماذا قال رسول الله ؟ فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء اقتطع.
فهذه إباحة الآخذ على (ص 268) وجه التمليك، والانتفاع بالمأخوذ، أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجهالة.
فما يكون من هذا الجنس يتعدى إليه حكم هذا النص.
يقرره أن مجرد الالقاء بغير كلام يفيد هذا الحكم.
فإن الانسان ينثر السكر والدراهم في العرس وغيره، وكل من أخذ شيئا من ذلك يصير مملوكا له، ويجوز له أن ينتفع به من غير أن يتكلم الناثر بشئ.
وقيل: بأن الحال دليل على الاذن في الاخذ.
فإذا وجد التصريح بالاذن في الاخذ، فلان يثبت هذا الحكم كان أولى.
وعلى هذا لو وضع الانسان الماء والحمد (1) على باب داره فإنه يباح
__________
(1) ص، ق " الجمد " وفى حاشية ه " هو نوع من الاشربة وأنه محمود عندهم.
المغرب ".
*(2/799)
الشرب منه لكل من مر به من غنى أو فقير لوجود الاذن دلالة.
وإذا غرس شجرة في موضع لا ملك فيه لاحد وأباح للناس الاصابة من ثمارها فإنه يجوز لكل من مر بها أن يأخذ من ثمارها فيتناوله.
وكل ذلك
مأخوذ من الحديث الذى روينا.
1429 - ولو أن الامير بعد انهزام المشركين نظر إلى قتلى منهم، عليهم أسلابهم، وهو لا يدرى من قتلهم، فقال: من أخذ سلب قتيل فهو له.
فأخذها قوم، فذلك لهم نفل (1).
لان المسلمين لم يأخذوها، فيكون هذا في معنى التنفيل قبل الاصابة.
والاصح أن تقول: هذا تنفيل بعد الاصابة.
ولكن الامام أمضاه باجتهاده والمختلف فيه بامضاء الامام باجتهاده يصير كالمتفق عليه، حتى إذا مات أو عزل وولى غيره لم يسترد من الآخرين شيئا من ذلك.
1430 - وإن لم يأخذوا حتى عزل الاول وجاء أمير آخر ثم أخذوا ذلك قبل أن يعلموا بعزله أو بعد ذلك فإن الثاني يأخذ كله منهم فيرده في الغنيمة.
لان التنفيل الاول قد بطل بعزله قبل حصول المقصود.
فالمقصود هو الاخذ، فإذا بطل تنفيله قبل حصول هذا المقصود صار كأن لم يكن.
وقد تقدم نظيره فيما إذا نفل قبل الاحراز ثم مات أو عزل قبل الاصابة واستعمل غيره، فإنه يبطل حكم ذلك التنفيل.
ففى التنفيل بعد الاصابة هذا أولى.
وهو بمنزلة قضاء لم ينفذه قاض حتى عزل واستقضى غيره ممن يرى خلاف ذلك.
__________
(1) ه " قيل ".
*(2/800)
ثم فرع على الاصل الذى بينا أن التنفيل عند حضرة القتال يكون على ذلك القتال خاصة، وعند دخول دار الحرب قبل أن يلقوا قتالا يكون باقيا إلى أن يخرجوا إلى دار الاسلام.
يقول: 1431 - فإن خرجوا إلى دار الاسلام ثم قفلوا إلى دار الحرب فقتل رجل قتيلا من المشركين فلا سلب له.
لان حكم ذلك التنفيل قد انتهى بخروجهم إلى دار الاسلام.
وهذه دخلة أخرى، فإن لم يجدد الامام تنفيلا غيرها (1) لم يكن للقاتل السلب.
ألا ترى أنهم لو أقاموا سنة ثم رجعوا لم يكن للقاتل السلب بالتنفيل الاول ؟ 1432 - ولو بلغهم أن العدو دخلوا دار الاسلام فخرجوا يريدونهم، فقال الامير: من قتل قتيلا فله سلبه.
فهذا على ما أصابوا في وجههم ذلك، في دار الاسلام ودار الحرب، إلى أن يرجعوا إلى منازلهم.
وإن لقوا العدو في دار الاسلام ثم قال الامير ذلك فهذا على ذلك القتال خاصة.
لما بينا أن المطلق من الكلام يتقيد بما هو الغالب من دلالة الحال في كل فصل.
__________
(1) ق، ه " عندها " وفى هامش ق " غيرها.
نسخة ".
*(2/801)
1433 - ولو أن الامير بعث في دار الحرب سرية إلى حصن وقال: ما أصبتم منه فلكم الربع من ذلك.
فأقاموا عليه أياما يقاتلون، ثم لحقهم العسكر فقاتلوا معهم حتى فتحوا الحصن فلا نفل للاولين.
لانه إنما أوجب لهم النفل فيما يصيبون من قتالهم دون من بقى من العسكر.
والمقصود كان تحريضهم (ص 269) على فتح الحصن والاصابة، ولم يحصل ذلك بهم.
ألا ترى أن العسكر لو فتحوا الحصن دون أهل السرية لم يكن لاهل السرية من النفل شئ، وإن كان الفتح بمحضر منهم، فكذلك إذا كان الفتح بقتال جميع أهل العسكر.
1434 - قال: ولو بعث الامام سرية من دار الاسلام وعليهم أمير ثم عزل أميرهم وبعث أميرا آخر.
وقد نفل الاول قوما نفلا فأخذوه.
فإن كانوا أخذوا ذلك قبل علمه بعزله فذلك سالم لهم.
وكذلك إن كان ابتداء التنفيل منه قبل أن يعلم بالعزل.
لانه أمير ما لم يعلم بعزله أو يأتيه من هو صارفه ويخبره بعزله.
1435 - فأما إذا نفل الاول بعدما جاء الثاني وأخبره بعزله فتنفيله باطل.
لانه التحق بسائر الرعايا.
1436 - وإن جاءه الكتاب بأن الامام قد بعث فلانا أميرا على السرية، فما لم يقدم عليه فلان فهو أمير على حاله يجوز تنفيله.(2/802)
ألا ترى أنه لو كان أمير مصر كان له أن يصلى الجمعة إلى أن يقدم صارفه.
وهذا لانه لا يجوز ترك المسلمين سدى ليس عليهم من يدبر أمورهم في دار الاسلام ولا في دار الحرب.
فما لم يقدم الثاني كان التدبير إلى الاول، فيصح منه التنفيل.
إلا أن يكون الامام كتب إليه: إنا قد عزلناك واستعملنا فلانا، أو لم يذكر هذه الزيادة، فحينئذ يصير هو معزولا لا يجوز تنفيله بعد ذلك.
لانه صار أميرا بخطاب الامير إياه، عند التقليد.
فيصير معزولا
بخطابه إياه بالعزل.
والخطاب ممن نأى كالخطاب ممن دنا.
1437 - ولو كان الامير الاول حين استعمل أمر بأن يدخل بالقوم أرض الحرب فلم يدخل بهم حتى جاءه كتاب الامام: إنا قد أمرنا فلانا، فلا يبرح حتى يأتيك.
فعجل فدخل بهم أرض الحرب ونفل لهم نفلا، فذلك باطل.
لان نهى الامام إياه عن دخول أرض الحرب قد وصل إليه بكتابه، فصار كما لو واجهه به.
1438 - ولو واجهه بذلك فدخل بهم دار الحرب بغير أمره، ولم يكن أميرا، فلا يجوز تنفيله.
ولو كان الكتاب أتاه: إنك الامير فادخل بهم.
فإذا أدركك(2/803)
فلان فهو الامير دونك، فجميع ما صنع الاول من النفل جائز حتى يلقاه الامير الآخر.
لانه علق عزله بالتقائه مع الثاني، فما لم يلتقيا فهو الامير على حاله.
وبعد ما التقيا صار الامير هو الثاني، إن نفل جاز تنفيله دون الاول.
1439 - ولو كتب إليه: أنت الامير حتى يلقاك فلان.
فهذا والاول سوآء.
لانه جعل لولايته غاية، ومن حكم الغاية أن يكون ما بعده بخلاف ما قبله.
ويستوى إن كان قلده قبل هذا مطلقا أو لم يقلده.
لان بعد التقليد مطلقا له ولاية العزل، فله ولاية التوقيت في ذلك التقليد أيضا.
وإذا ثبت التوقيت بهذا الكتاب صار كأنه هو صرح بقوله: فإذا أتاك فلان فهو الامير دونك.
1440 - ولو أن قوما من المسلمين لهم منعة أمروا أميرا ودخلوا دار الحرب مغيرين بغير إذن الامام فأصابوا غنائم خمس ما أصابوا وكان ما بقى بينهم على سهام الغنيمة.
لانه باعتبار منعتهم يكون المال مأخوذا على وجه اعزاز الدين فيكون حكمه حكم الغنيمة.
1441 - فإن نفل أميرهم فذلك جائز منه، على الوجه الذى كان يجوز من أمير سرية قلده الامام وبعثه.(2/804)
لانهم رضوا به أميرا عليهم ورضاهم معتبر في حقهم، فصار أميرهم باتفاقهم عليه.
ألا ترى أن الامامة العظمى، كما تثبت باستخلاف الامام الاعظم تثبت باجتماع المسلمين على واحد ؟ والاصل فيه إمامة الصديق رضى الله عنه (ص 270) فكذلك الامارة على أهل السرية تثبت باتفاقهم كما تثبت بتقليد الامام.
ألا ترى أن أهل البغى لو أمروا عليهم أميرا ودخلوا دار الحرب فنفل أميرهم شيئا ثم تابوا جاز ما نفله أميرهم ؟ باعتبار المعنى الذى ذكرنا.
1442 - ولو أن الخليفة غزا بجند فمات في دار الحرب أو قتل، فقالت طائفة من الجند: نؤمر فلانا.
فأمروه واعتزلوا.
وقالت طائفة أخرى: نؤمر فلانا فأمروه واعتزلوا.
فأخذت كل طائفة وجها في أرض العدو، فأصابوا غنائم، ونفل كل أمير نفلا لقومه قبل الخمس أو بعد الخمس، ثم التقوا في أرض الحرب واصطلحوا، فالخليفة الذى
قام مقام الاول ينفذ تنفيل كل أمير.
باعتبار أن قومه قد رضوا به أميرا عليهم، وهم الذين أصابوا ما أصابوا من الغنيمة.
فيجوز تنفيل كل أمير سواء التقوا في دار الحرب أو بعد ما خرجوا إلى دار الاسلام.
إلا أنهم إذا التقوا في دار الحرب فما بقى بعد النفل يقسم بين الفريقين على سهام الغنيمة.(2/805)
لانهم اشتركوا في الاحراز.
1443 - ولو بعث الخليفة عاملا على الثغور ولم يذكر له النفل بشئ، فله أن ينفل قبل الخمس وبعد الخمس.
لانه إنما استعمل على الثغور ليحفظها ويغزو أهل الحرب حتى ينقطع طمعهم عنها.
والنفل من أمر الحرب، فإنه تحريض على القتال.
فمن ضرورة تفويض أمر الحرب إليه، وجعل التدبير في ذلك إلى رأيه، أن يكون أمر التنفيل مفوضا إليه.
1444 - إلا أن ينهاه الخليفة عن النفل، فحينئذ لا يجوز له أن ينفل.
لان الدلالة يسقط اعتبارها إذا جاء التصريح بخلافها.
بمنزلة تقديم المائدة بين يدى الانسان، فإنه أذن في التناول دلالة، إلا أن ينهاه عن ذلك.
1445 - فإن استعمل هذه العامل عاملا آخر فنفل الثاني فإن كان الخليفة لم ينه الاول عن التنفيل جاز التنفيل من الثاني.
وإن كان نهى الاول عن ذلك لم يجز التنفيل من الثاني.
لانه عامل للعامل الاول فيقوم مقام الاول.
ألا ترى أن القاضى إذا استخلف وقد نهى عن القضاء في الحدود
لم يكن لخليفته (1) أن يقضى فيها، وإن لم ينه عن ذلك كان لخليفته أن يقضى فيها فكذلك فيما سبق.
__________
(1) ه " للخليفة " وفى حاشية ه " أي خليفة القاضى ".
*(2/806)
1446 - ولو أن هذا العامل بعث سرية من الثغور وأمر عليهم أميرا فنفل أميرهم في دار الحرب للسرية سلب القتلى، فذلك جائز منه، كما يجوز من العامل لو غزا بنفسه.
لانه فوض إليه أمر الحرب وجعله نافذ الامر على أهل السرية.
وإنما بعثهم من دار الاسلام.
فكان أميرهم كأمير العسكر، وتنفيل أمير العسكر جائز، وإن لم يؤمر به نصا.
لان الحق في المصاب لمن تجب ولايته خاصة، فكذلك تنفيل أمير السرية.
1447 - ولو نهاه العامل أن ينفل أحدا شيئا فنفل لم يجز تنفيله.
لان من قلده صرح بالنهي عن التنفيل، فيكون حاله في التنفيل كحال العامل إذا نهاه الخليفة عن التنفيل.
ولانه ليس بأمير عليهم فيما لم يوله العامل، فكان تنفيله كتنفيل سائر الرعايا.
1448 - ويستوي إن رضي الجند بذلك أو لم يرضوا.
وكان ينبغي أن يجوز تنفيله إذا رضوا به، كما تثبت الامارة له عليهم بعد موت أميرهم إذا رضوا به.
ولكن الفرق بينهما أن هناك رضاهم لم يحصل على مخالفة أمر العامل، بل حصل فيما لم يأمر العامل فيه بشئ، فكان معتبرا.
وهاهنا حصل رضاهم على مخالفة ما أمر به العامل فلا يكون معتبرا.
كما لو أرادوا عزل أميرهم وتقليد غيره.
1449 - فإن نفل أميرهم ثم لم يقسموا الغنائم حتى أخرجوها،(2/807)
(ص 271) وأخبر أميرهم العامل بما نفل فرأى أن يجيز دلك فليس ينبغى له أن يفعله.
لان إجازته بمنزلة تنفيله بعد الاصابة.
1450 - فإن أجاز ذلك جاز النفل وحل لمن أصابه أن يأخذ ما أصاب.
لان هذا حكم من جهته في فصل مجتهد فيه، وهو التنفيل بعد الاصابة، فيكون نافذا.
فإن قيل: أصل التنفيل كان باطلا، وإجازة ما كان باطلا يلغو، وإن حصل ممن يملك الانشاء.
كما لو طلق رجل امرأة الصبى، ثم بلغ الصبى فأجاز ذلك كانت إجازته لغوا.
وإن كان هو يملك إنشاء الطلاق الآن.
وعن هذا الكلام جوابان.
أحدهما: أن هناك أصل الايقاع لم يكن موقوفا، لانه لا (1) مجيز له عند ذلك وهاهنا أصل التنفيل حين وقع كان موقوفا، حتى لو أجازه العامل قبل أن يصيبوا الغنايم كان صحيحا.
فان أراد أن يجيزه بعد الاصابة قلنا بأنه يجوز أيضا.
والثانى: أن إجازته هاهنا إنما تتم بالتسليم إلى من نفل له الامير، فيجعل هذا التسليم بمنزلة الانشاء، لا قوله أجزت.
ووزانه من الطلاق أن لو قال الصبى بعد البلوغ: جعلت ذلك تطليقة واقعة، فإنه يجعل ذلك إنشاء للطلاق منه.
وأوضح هذا لمن اشترى شيئا إلى العطاء.
فان الشراء فاسد.
فإن رأى القاضى أن يجيز هذا البيع حين خوصم فيه إليه نفذ البيع بإجازته وحل للمشترى إمساكه، وإن كان أصل البيع فاسدا عندنا.
1451 - ولو كان العامل دخل دار الحربى مع العسكر ثم بعث
__________
(1) ساقطة من ه.
*(2/808)
سرية ولم يأمر أميرهم بالتنفيل ولم ينهه عن ذلك، فنفل أصحاب السرية نفلا، ثم جاءوا بالغنيمة إلى العسكر، فإن تنفيل أمير السرية يجوز في نصيب أصحاب السرية خاصة.
لان الجيش شركاء أصحاب السرية في المصاب هنا، وليس لامير السرية ولاية على الجيش، إنما ولايته على أهل السرية خاصة، فيجوز تنفيله في نصيبهم خاصة.
1452 - وإن كان العامل حين بعثهم نفل لهم نفلا، ثم نفل أميرهم أيضا نفلا، فجاؤا بالغنائم، فما نفل لهم العامل يرفع يرفع من رأس الغنيمة، ويقسم ما بقى حين تبين حصة أصحاب السرية، ثم ينفذ ما نفل أمير السرية من حصتهم من الغنيمة ومما نفل لهم العامل.
لان ذلك كله لهم خاصة، ولاميرهم ولاية عليهم.
فينفذ تنفيله فيما لهم خاصة.
بخلاف الاول فهناك السرية مبعوثة من دار الاسلام ولا شركة لغيرهم معهم في المصاب، حتى لو أن هذه السرية لم ترجع إلى العسكر ولكنهم خرجوا إلى دار الاسلام من جانب آخر فإنه يكون الحكم كالحكم في السرية المبعوثة من دار الاسلام.
لانه لا شريك لهم في المصاب.
وفى الوجهين لو أصابوا طعاما كان لهم أن يأكلوا من ذلك ما أحبوا.(2/809)
ألا ترى أنهم بعدما رجعوا إلى العسكر يباح لهم التناول من الطعام كما يباح لاهل العسكر ؟ وفى إباحة تناول الطعام المصاب كالباقي على أصل الاباحة بخلاف حكم التنفيل.
1453 - ولو أنهم أصابوا غنما أو بقرا أو رمكا، فاستأجر الامير من يسوقها إلى العسكر فذلك جائز في حق أصحاب السرية وحق أهل العسكر.
لانه نظر لهم فيما صنع.
ومنفعة فعله يرجع إليهم جميعا، بخلاف النفل فالمنفعة فيه للمنفلين خاصة.
فلهذا لا يجوز تنفيله في حصة أهل العسكر.
1454 - ولو أن العامل كان نفلهم الربع، ثم نفلهم أميرهم حين لقوا العدو على وجه الاجتهاد منه، ثم لم يرجعوا إلى العسكر حتى رجعوا إلى دار الاسلام، فإن نفل العامل لهم (ص 272) باطل، ونفل أميرهم لهم جائز.
لانهم حين خرجوا إلى دار الاسلام قبل أن يلقوا العسكر منهم في المصاب بمنزلة السرية المبعوثة من دار الاسلام.
وإنما نفل العامل لجماعتهم بالسرية.
وهذا التنفيل باطل على ما ورد به الاثر.
ولا نفل للسرية الاولى.
فأما نفل أميرهم لهم فحصل على وجه الاجتهاد لبعض الخواص، فيكون ذلك صحيحا لاختصاصهم بالحق في المصاب.
1455 - وإن رجعوا إلى العسكر جاز نفل العامل لهم.
لان العسكر شركاؤهم في المصاب.
فكان في هذا التنفيل إبطال شركة العسكر معهم، فيصح، وإن كان يتعدى إلى إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل.(2/810)
وأما نفل أميرهم فإنما يجوز فيما هو حقهم خاصة دون ما يكون حصة أهل العسكر على ما بينا.
1456 - وإن كان العامل نهى أمير السرية عن التنفيل فنفله باطل لنهي العامل إياه عن ذلك.
ونفل الامام لهم جائز إن رجعوا لى العسكر.
وإن خرجوا من جانب آخر إلى دار السلام، فذلك أيضا باطل.
ويخمس جميع ما أصابوا، والباقى بينهم على سهام الغنيمة.
لان الحق في المصاب لهم خاصة، فليس في هذا التنفيل إلا إبطال الخمس وتفضيل الفارس على الراجل وذلك باطل.
والله أعلم.(2/811)
89 باب من النفل الذى يكون للرجل في الشئ الخاص ولا يدرى ما هو 1457 - وإذا قال الامير من جاء بعشرة أثواب فله ثوب.
فجاء رجل بعشرة أثواب مختلفة الاجناس فله عشر كل ثوب منها.
لانه أوجب له بالتنفيل عشر ما يأتي به.
فإن معنى كلامه فله ثوب منها.
وإن لم ينص عليه.
وهذا لانه لا وجه لتصحيح كلامه إلا هذا.
فإن إيجاب الثوب مطلقا لا يصح في شئ من العقود لاختلاف أجناس الثياب.
ثم ليس بعض الاثواب بأن يجعل له نفلا بأولى من البعض.
والثياب إذا كانت مختلفة الاجناس لا تقسم قسمة واحدة.
فلهذا كان له عشر كل ثوب منها.
1458 - وكذلك لو قال: من جاء بثلاثة من الدواب فله دابة.
لان هذا الاسم يتناول الاجناس المختلفة كالثياب.
1459 - ولو جاء بالكل من جنس واحد فله واحد منها وسط.
لان الجنس الواحد محتمل للقسمة.
وعلى الامير أن يراعى النظر للغانمين
ولمن جاء به.
وتمام النظر في أن يعطيه الوسط مما جاء به.(2/812)
1460 - ولو قال: من جاء بدابة فله ثلثها.
فجاء ببقرة أو جاموس أو بعير، لم يكن من ذلك شئ.
لان اسم الدابة لا يتناول إلا الحمار والفرس والبغل استحسانا.
ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة لا يتناول يمينه غير هذه الانواع الثلاثة ؟ وحقيقة اللفظ هاهنا غير معتبر بلا شبهة.
فإن أحدا لا يقول لوجاء بجارية يستحق النفل منها.
واسم الدابة يتناولها في قوله (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها) (1) فعرفنا أنه إنما يبنى هذا على معاني كلام الناس.
1461 - فإن كان القوم في موضع دوابهم الجواميس أو البقر، إياها يركبون وإياها يسمون الدواب فهو على ما يتعارفونه.
فأما في ديارنا فالدواب هي الخيل والبغال والحمير.
1462 - ولو قال الامير: من أصاب جزورة فهى له.
فجاء رجل بجزور أو بقرة لم يكن له من ذلك شئ.
وإن جاء بشاة ماعز أو ضأن فهى له.
لان هذا الاسم وإن كان حقيقة في كل ما يجزر، لكن الناس اعتادوا استعماله في الغنم خاصة.
فان الواحد منهم إذا قال لغيره: " اجزرني من نعمك " فإنما يفهم منه سؤال الشاة دون الابل والبقر.
1463 - ولو قال: من جاء بجزور فهو له، لم يستحق بهذا اللفظ البقر والغنم، وإنما يستحق الابل خاصة.
وإن كان كل ذلك مما يجزر ولكن اسم الجزور لا يستعمل إلا في لابل.
__________
(1) سورة هود، 11، الآية 6 *(2/813)
ثم في القياس إذا جاء ببعير قد ركب أو ناقة قد ركبت لم
يستحق منها شيئا.
لان الجزور اسم لما يكون معدا من هذا النوع للكردون الركوب.
وإنما ذلك قبل أن يركب.
فأما ما ركب فهو لا ينحر للاكل عادة بعد ذلك.
وفى الاستحسان له النفل إذا جاء بذلك كله.
لان الاسم يطلق استعمالا على ذلك كله في العرف.
1464 - ولو قال: من جاء ببعير أو جمل فهو له، فجاء ببختى فهو له.
لان الاسم يتناول الكل.
بخلاف ما لو قال: من جاء ببختى أو بختية، فجاء بجمل عربي أو ناقة.
لان البختى اسم خاص لجمال العجم فلا يتناول العربي.
كما أن اسم العجمي في التنفيل لا يتناول العربي، واسم البختى يتناول الذكر والانثى.
كما أن اسم الجمل يتناول الذكر والانثى من الابل العربي.
واسم البقر في التنفيل لا يتناول الجاموس.
فكان ينبقى على هذا القياس أن يتناوله لانه اسم جنس.
ألا ترى أنه يكمل نصاب البقر به في الزكاة، وأنه يتناول قوله عليه الصلاة والسلام " في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعه ".
لكنه اعتبر العرف.
وفى العرف ينفى عن الجاموس اسم البقر، ولا يطلق عليه هذا الاسم إلا مقيدا كما يقال بالفارسية كاؤميش (1) بخلاف اسم البعير والجمل فإنه يطلق على البختى في كل لسان.
__________
(1) هي انثى الجاموس.
أفادني ذلك صديقى الدكتور يحيى الخشاب.
*(2/814)
1465 - ولو قال من جاء بشاة فهى له.
فذلك يتناول الذكر والانثى معزا كان أو ضأنا.
وكان ينبغى على هذا القياس أن لا يدخل
فيه الماعز.
لانه يختص باسم آخر.
وينفى عنه اسم الشاة كما في الجاموس.
ولكن اعتبر فيه معنى آخر وهو أنه يخلط البعض بالبعض عادة.
ويعد الكل شيئا واحدا، فيطلق اسم الشاة والغنم على الكل.
وهذا الوجه بخلاف الجواميس.
واسم الكبش والتيس لا يتناول النعجة لانه اسم نوع خاص.
واسم الدجاج يتناول الديك والدجاجة جميعا.
ألا ترى إلى قول لبيد: باكرت حاجتها الدجاج بسحرة لاعل منها حين هب نيامها وقال آخر: لما مررت بدير الهند أرقني صوت الدجاج وضرب بالنواقيس (1) فأما اسم الدجاجة فلا يتناول الديك.
واسم الديك لا يتناول الدجاجة أيضا وقد بينا هذا في أيمان الجامع (2) فيما إذا قال: لا آكل لحم دجاج.
فأكل لحم ديك حنث (3) ولو عقد اليمين باسم الدجاجة لم يحنث.
ولو عقد اليمين باسم الديك لم يحنث إذا أكل دجاجة.
فحكم التنفيل في ذلك حكم قياس اليمين.
والله أعلم.
__________
(1) البيت لجرير.
وقد ورد عند ياقوت في مادة " دير الوليد " برواية ثانية هي: لما تذكرت بالديرين أرقني (2) في حاشية ه " أي الجامع الصغير ".
(3) ه " يحنث ".
*(2/815)
90 باب من التنفيل في العسكرين يلتقيان 1466 - وإذا دخل العسكران من المسلمين أرض الحرب من طريقين، فبعث أمير كل عسكر سرية ونفل لهم الثلث أو الربع.
فالتقت السريتان عند حصن وأصابوا الغنائم، ثم أرادوا أن يتفرقوا حتى ترجع كل سرية إلى عسكرهم.
فإن الغنيمة تقسم بينهم على سهام الغنيمة.
كأنه لا نفل فيها ولا مستحق لها سواهم.
لان كل أمير إنما نفل سريته مما أصابت، ولا يتبين مصاب كل سرية إلا بالقسمة.
فلهذا يقسم بين السريتين على سهام الخيل والرجالة من غير أن يرفع الخمس أولا.
إذ ليست إحدى السريتين بأن تذهب بالخمس بأولى من الاخرى، ثم ترجع كل سرية بما أصابها من القسمة إلى العسكر، فيعطيهم أميرهم النفل من ذلك ويضم ما بقى إلى غنائمهم، فيخرج الخمس منها ويقسم ما بقى بين السرية وأهل العسكر.
حتى إذا كانت إحدى السريتين ثمان مئة: أربع مئة فرسان وأربع مئة رجالة، والسرية الاخرى أربع مئة: مئة فرسان وثلاث مئة (ص 274) رجالة.
فإنما يقسم المصاب في الابتداء على خمس مئة فرسان وسبع مئة رجالة.(2/816)
ثم ما أصاب الفرسان يقسم أخماسا: خمس ذلك للسرية التى هي قليلة العدد وأربعة أخماسه للسرية الاخرى.
وما أصاب الرجالة يقسم أسباعا: ثلاثة أسباعه للقليلة وأربعة أسباعه للاخرى.
فبهذا الطريق يتبين حصة كل سرية من المصاب.
1470 - ويستوى في هذا الحكم إن كان الاميران كل واحد
فالتقت السريتان عند حصن وأصابوا الغنائم، ثم أرادوا أن يتفرقوا حتى ترجع كل سرية إلى عسكرهم.
فإن الغنيمة تقسم بينهم على سهام الغنيمة.
كأنه لا نفل فيها ولا مستحق لها سواهم.
لان كل أمير إنما نفل سريته مما أصابت، ولا يتبين مصاب كل سرية إلا بالقسمة.
فلهذا يقسم بين السريتين على سهام الخيل والرجالة من غير أن يرفع الخمس أولا.
إذ ليست إحدى السريتين بأن تذهب بالخمس بأولى من الاخرى، ثم ترجع كل سرية بما أصابها من القسمة إلى العسكر، فيعطيهم أميرهم النفل من ذلك ويضم ما بقى إلى غنائمهم، فيخرج الخمس منها ويقسم ما بقى بين السرية وأهل العسكر.
حتى إذا كانت إحدى السريتين ثمان مئة: أربع مئة فرسان وأربع مئة رجالة، والسرية الاخرى أربع مئة: مئة فرسان وثلاث مئة (ص 274) رجالة.
فإنما يقسم المصاب في الابتداء على خمس مئة فرسان وسبع مئة رجالة.(2/817)
ثم ما أصاب الفرسان يقسم أخماسا: خمس ذلك للسرية التى هي قليلة العدد وأربعة أخماسه للسرية الاخرى.
وما أصاب الرجالة يقسم أسباعا: ثلاثة أسباعه للقليلة وأربعة أسباعه للاخرى.
فبهذا الطريق يتبين حصة كل سرية من المصاب.
1470 - ويستوى في هذا الحكم إن كان الاميران كل واحد منهما نفل السرية أو لم ينفل واحد منهما أو نفل أحدهما دون الآخر.
لان تنفيل كل أمير لا يجوز فيما هو حصة السرية الاخرى.
فإنهم من أهل العسكر لا ولاية له عليهم.
والله أعلم(2/817)
السير الكبير - الشيبانى ج 3
السير الكبير
الشيبانى ج 3(3/)
شرح كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني املاء محمد بن احمد السرخسي الجزء الثالث تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية 1960.(3/829)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا هو الجزء الثالث من شرح " السير الكبير " مضينا فيه على النهج الذى سلكناه في الجزءين الماضيين جاهدين ان نقدم نصا اقرب ما يكون إلى الصحه غير مثقل بالشروح والآراء الخاصه وقد اعتمدنا على المخطوطات التي اتخذناها اساسا في الجزء الثاني وجعلنا مخطوطة الجامعه الامريكية في بيروت أما.
والله المسئول ان ينفع به لاتمامه.
القاهره * صلاح الدين المنجد(3/831)
شرح كتاب السير الكبير
لمحمد بن الحسن الشيباني(3/833)
91.
با ب النفل لمن يجب إذا جعله الامير (1) جملة 1471 - وإذا قال الامير: من خرج من اهل العسكر فأصاب شيئا فله من ذلك الربع.
فهذا اللفظ يتناول كل من له في الغنيمة سهم أو رضخ من مسلم أو ذمى، رجل أو امرأه، حر أو عبد، صغير أو بالغ، تاجر أو مقاتل، قاتل قبل هذا أو لم يقاتل.
لان المقصود التحريض على القتال والاصابه، وكل هؤلاء يتحقق فيهم معنى التحريض.
ألا ترى أنهم يستحقون السهم أو الرضخ من الغنيمة للتحريض ؟ والتاجر وإن لم يقاتل قبل هذا فقد قاتل الآن حين أصاب شيئا وجاء به.
فلهذا استحق النفل من ذلك كله.
1472 - فأما المستأمن فإن كان خرج بغير إذن الامام فلا شئ له من ذلك.
لانه لا حق له في الغنيمة رضخا ولا سهما وإن كان خرج بإذن الامام فهو بمنزلة الذمي في ذلك 1473 - ولو أن أسيرا من أهل الحرب سمع هذه المقالة من الامير فخرج وأصاب شيئا فذلك كله للمسلمين * هامش * (1) ق " الامام " وفى الهامش " الامير.
نسخة "(3/835)
لان الاسير فئ لهم، وما أصابه فهو كسبه، وكسب العبد لمولاه
فلهذا كان هو مع ما جاء به فيئا للمسلمين 1474 - ولو كانوا مستأمنين في عسكر المسلمين من أهل تلك تلك الدار، فلما سمعوا هذه المقالة خرجوا فأصابوا غنائم، فأتوا بها العسكر.
فإن كانوا وصلوا إلى موضع قد أمنوا فيه من المسلمين ثم أصابوا هذا المال فعادوا واستأمنوا عليها أمانا مستقبلا فذلك كله لهم، لا خمس فيها.
لانه بوصولهم إلى ذلك الموضع قد انتهى حكم الامان بيننا وبينهم.
فهم أهل حرب أغاروا على أموال أهل الحرب فملكوها ثم استأمنوا عليها.
1475 - وإن كانوا أصابوا ذلك في موضع قريب من المسلمين لم يبلغوا فيه مأمنهم فذلك كله للمسلمين إن كانوا خرجوا بغير إذن الامام، وإن كانوا خرجوا بإذنه فلهم النفل من ذلك.
لان الامان بيننا وبينهم باق ما لم يبلغوا إلى مأمنهم، فحكمهم في هذا كحكم المستأمنين في عسكرنا من أهل دار أخرى.
والذى يوضح الفرق بين الذين خرجوا بإذن الامير والذين خرجوا بغير إذنه أنه يجب على الامير والمسلمين نصرة الخارجين بإذنه من المستأمنين إذا بلغهم أن العدو أحاطوا بهم، كما يجب نصرة أهل الذمه.
ولا يجب عليهم نصرة الخارجين بغير إذنه.
فكذلك في حكم التنفيل الذين خرجوا بإذنه، بمنزلة أهل الذمه دون الذين خرجوا بغير إذنه.
والله أعلم بالصواب (1).
* هامش * (1) ق " والله الموفق للصواب " ولا شئ في ب.(3/836)
92.
باب النفل في دخول المطمو ره (1).
1476 - وإذا وقف المسلمون على باب مطموره فيها العدو
.
يقاتلون.
فقال الامير: من دخل من باب هذه المطمورة فله نفل مئه درهم.
فاقتحم الباب قوم من المسلمين.
فإذا للمطمورة باب آخر دون ذلك الباب (ص 275) مغلق.
وإذا ليس بين البابين أحد.
فقاتل عامة المسلمين على الباب الثاني حتى اقتحموا (2)، فللذين اقتحموا (3) الباب الاول نفلهم لكل إنسان مئة درهم.
لان الامام أوجب لهم ذلك.
فإن كلمة (من) توجب العموم على أن يتناول كل واحد على سبيل الانفراد.
فإن قال جماعة المسلمين: لا نعطيهم النفل فإنه لم يكن بين البابين أحد، وقد إجتمعنا على القتال على باب المطمورة.
قيل لهم: إن الامير حرض الداخلين على دخول الباب الاول بما أوجب لهم، فكانت الحاجة إلى التنفيل ماسة يومئذ.
فإنكم كنتم لا تدرون أن وراء الباب بابا آخر، وأنه ليس بين البابين أحد.
فإن قيل: هذا لو قال الامام من دخل من هذا الباب.
وهو ما صمد * هامش * (1) ق " وعن ابن دريد: بنى فلان مطمورة إذا بنى دارا في الارض أو بيتا.
وهذا الذى أراده محمد رحمه الله في السير.
مغرب ".
(2) ب، ه، ق " إقتحموها " وفى هامش ق " حتى افتتحوها.
نسخة ".
(3) في هامش ق " افتتحوا الباب الاول.
نسخة ".(3/837)
لباب بعينه، وإنما قال: من دخل من باب المطمورة.
وباب المطمورة الباب الاقصى.
قلنا: لاكذلك، فإن باب المطمورة عند الأمير والمسلمين حين نفل كان الباب الاول، وكانوا لا يتجاسرون على الدخول فيه، فالذين دخلوه
بعد التنفيل خاطروا بأنفسهم وأتوا بما أوجب لهم الامام النفل عليه فإن قيل: ينبغى أن يعطى جماعتهم مئه درهم، فإنه إنما أوجب الامام ذلك للداخلين.
قلنا: مطلق الكلام محمول على ما يتسارع إلى (1) الافهام، وهو أن يكون لكل رجل منهم المئه نفلا.
فإنه نكر المئه، وذلك دليل على أن المستحق لكل واحد منهم غير المستحق لصاحبه.
1477 - وكذلك (2) لو قال: من دخل فله رأس - بخلاف مالو قال: من دخل فله الربع من الغنيمة - فدخل عشره، فلهم الربع بينهم.
لان هناك عرف ما أوجب للداخلين بالاضافة إلى الغنيمة، والغالب أن مراده الاشراك بين الداخلين في الجزء المسمى.
ألا ترى أن الداخلين يزيدون على الاربعة عاده، ولا تكون الغنيمة الا أربعه أرباع ؟ فبهذا يتبين أن مراده الاشراك بينهم في الربع وإن كثروا.
1478 - وإن دخل واحد ثم واحد هكذا (ص 191) حتى كملوا عشره.
فالربع بينهم، بمنزله مالو دخلوا معا.
لانه أوجب النفل على الدخول من غير أن يتعرض بجمع أو ترتيب.
* هامش * (1) ب، ق " إليه ".
* هامش * (2) ب " وكذى ".(3/838)
- 1479 ولكن هذا لكل من دخل قبل أن يتنحى العدو من الباب.
فإذا تنحوا أو علم أنه ليس بين البابين أحد فلا نفل لمن يدخل بعد ذلك.
لان المقصود هو التحريض على الدخول، وذلك يختص بحال بقاء الخوف.
1480 - وكذلك إن فتح (1) المسلمون الباب وهابوا أن يدخلوا مخافه كمين خلف الباب، فهذا والاول سواء.
لان المقصود التحريض على الدخول فيتقيد بحال بقاء الخوف.
1481 - وكذلك لو قال: من دخل فله بطريق المطمورة.
فدخل العشرة معا أو على الترتيب حال قيام الخوف.
لانه عرف البطريق بالاضافة.
فعرفنا أن مراده الاشراك بين الداخلين فيه.
1482 - ولو قال: فله بطريق من بطارقتهم.
فلكل داخل بطريق.
لان ما أوجبه هناك منكر.
إلا أنه إذا لم يكن في المطمورة إلا بطريقان أو ثلاثة فذلك بينهم بالسوية لا يعطون شيئا آخر.
لان صحة الايجاب باعتبار المحل، فلا يصح إلا في مقدار الموجود في المحل.
* هامش * (1) ص " فتحوا ".(3/839)
1483 - وعلى هذا لو قال: فله جارية من جواريهم.
ثم لم يوجد فيهم إلا ثلاث جوار، فذلك بينهم بالسوية.
لانه ليس بعضهم بأولى من البعض.
ولا يعطون شيئا آخر.
لان التنفيل لم يوجد فيما سوى الجوارى الموجودات (1) فيها.
1484 - بخلاف ما لو قال: فله جارية.
ولم يقل من جواريهم.
فإن هناك يعطى، كل داخل جارية أو قيمة جارية وسط من المال الموجود فيها.
لانه سمى لكل داخل جارية (2) مطلقا.
وهذه التسمية توجب الحق
في مالية جارية إما عينها أو قيمتها.
ولكن يتقيد بالمال الموجود في المطمورة.
لان المقصود إيصال المنفعة إلى المسلمين.
وإنما يتحقق ذلك إذا تقيد النفل بالمال الموجود فيها.
حتى إذا لم في المطمورة شيئا فلا شئ للداخلين.
لانعدام المحل الذى أوجب الامام حقهم فيه.
وأوضح هذا الفرق بالوصية: * هامش * (1) ب " الموجودة.
(2) من قوله: " أو قيمة جارية إلى هنا ساقط من ص.
وفى ه لانه سمى نفل داخل جارية مطلقا ".
نقلنا عبارة ق.(3/840)
فإن من قال أوصيت لفلان بجارية من جواري، فمات وليس له جوار، لم يكن للموصى له شئ.
ولو قال بجارية.
أعطى قيمة جارية من ماله.
فإن مات ولا مال له فلا شئ للموصى له.
فكذلك حكم التنفيل.
إن لم يوجد في المطمورة شئ وأصابوا غنائم من موضع آخر لم يكن لهم النفل.
لان ما يقيد من الكلام بمقصود المتكلم بمنزلة ما يتقيد بتنصيص المتكلم عليه.
1485 - فإن دخل واحد (1) من المسلمين (ص 191) ونادى أنه ليس خلف هذا الباب أحد.
ثم دخل (2) جماعة فالنفل لاول خاصة.
لانه تقيد بحال بقاء الخوف، وقد زال ذلك حين سمعوا النداء من الاول.
بخلاف ما إذا كانت المطمورة مظلمة ولم يسمعوا من الاول كلاما حتى دخلوا على إثره قبل أن يستبين لهم شئ
لانهم دخلوا في حال بقاء الخوف، فهم كالداخل أولا في استحقاق النفل.
1486 - ولو دخل قوم من بابها، وتدلى قوم من فوقها.
دلاهم غيرهم بإذنهم، حتى د خلوا وسطها، فلكل واحد منهم النفل إذا كان الامير قال: من دخلها.
* هامش * (1) ب " داخل ".
* هامش * (2) ب " دخلت ".(3/841)
لانه شرط الدخول مطلقا.
وقد وجد ذلك من كل واحد منهم، بخلاف قوله من دخل من باب المطمورة، لان هناك قيد الكلام باشراط الدخول من الباب.
ألا ترى أن من قال لزوجته: إن خرجت من هذا الباب.
فخرجت من جانب السطح، لم يقع عليها شئ.
بخلاف ما إذا قال: إن خرجت من الدار.
1487 - فإن كان الذين تدلوا جعلوا أنفسهم في قدور من حديد ثم أمروا أصحابهم فدلوهم، وكانوا معلقين بين السماء والارض، يقاتلون أهل المطمورة، حتى فتح المسلمون الحصن، فلهم النفل.
لانهم انتهوا إلى الموضع الذى كان مقصود الامير، وهوموضع القتال والموضع الذى يتحقق معنى الجرأة بالوصول إليه، وينتفع به المسلمون.
وإنما تمكن المسلمون من الفتح باشتغال العدو بالقتال مع الذين تدلوا.
1488 - فإن كانوا دلوهم ذراعا أو ذراعين ثم أخرجوا لم يكن هذا دخولا.
لانهم ما وصلوا إلى موضع القتال وما انتفع المسلمون بما صنعوا فلا شئ
لهم من النفل.
1489 - ولو انقطعت الحبال حين دلوهم، فوقعوا في الحصن، أخذوا النفل.
لانهم دلوهم بأمرهم.
فكأنهم طرحوا أنفسهم فيها، فيستحقون النفل لاتيانهم بما شرط عليهم.(3/842)
1490 - فإن كان الذين دلوهم قطعوا الحبال بغير أمرهم، فوقعوا في المطمورة فقاتلوا حتى فتحوا، لم يكن لهم من النفل شئ.
لانهم ما دخلوها، وإنما ألقوا فيها.
فإن القطع إذا كان بغير أمرهم لا يكون فعل القاطع مضافا إليهم، بخلاف ما إذا كان بأمرهم.
ألا ترى أنهم لو عطبوا في هذا الفصل من وقعتهم ضمن القاطعون دياتهم.
وفى الاول لا يضمنون شيئا.
بمنزلة مالو ألقوا أنفسهم فيها.
فكيف يستقيم أن يجمع لهم بين النفل والديات.
1491 - ولو زلقت رجل أحد من الواقفين (1) فوق المطمورة وهو يقاتل فوقع فيها فله النفل.
لانه هو الذى وضع قدمه في ذلك الموضع، وما طرأ على فعله فعل آخر معتبر.
فيكون حصوله فيها مضافا إلى فعله، كأنه دخلها قصدا.
1492 - ولو دفعه إنسان فيها لم يكن له من النفل شئ.
لانه طرأ على فعله فعل معتبر، فيكون هو ملقى فيها لا داخلا.
إلا أن يكون أمر بعض أصحابه بأن يرمى به فيها.
فإن فعل الغير بأمره كفعله بنفسه.
وهذا لان المقصود إظهار الجرأة وذلك يحصل فيما فعل به غيره (ص 277) بأمره، ولا يحصل إذا فعل به بغير أمره.
1493 - ولو أن أصحابه دلوه فيها، فقطع أهل الحرب الحبال بالسيوف، فوقع فيها وقاتل حتى فتحت المطمورة فله النفل.
لانه قد بلغ موضع القتال حيث وصلت السيوف إلى الحبال فقطعوها، أو إلى القدور فكسروها.
* هامش * (1) ق " الواقعين " خطأ.(3/843)
1494 - فإن كان في موضع من الهواء أعلى من أن يصل سلاح العدو إليه فتوهقه أهل الحرب بوهق (1) حتى رموا به في المطمورة لم يكن له من النفل شئ.
لانه ملقى في المطمورة بفعل فاعل معتبر، وليس بداخل فيها على وجه يكون فيه إظهار الجرأة.
فلا يستحق النفل.
1495 - ولو أن أهل المطمورة طلبوا الصلح على أن يؤمنوا الرجال ويأخذوا الاموال والذرية، وأدخلوا الناس (2) من المسلمين.
فنظروا فإذا عدة الرجال خمسون.
فأجابوهم إلى ما التمسوا من الصلح.
ثم لما دخلوا وجدوا فيها ألف رجل.
فإذا المطمورة أميال (3) في الارض إلا أن بابها الذى يخرج أهلها منه إلى الارض واحد.
فهذه مطمورة واحدة، وجميع من فيها من الرجال آمن لا سبيل عليهم لان باب المطمورة على وجه الارض واحد.
فتكون مطمورة واحدة بمنزلة دار على وجه الارض، فيها حجر ومقاصير، ولكن بابها إلى السكة واحد.
فإنها تكون بمنزلة دار واحدة.
ثم قد آمنوا الرجال الذين هم في المطمورة، وإنما ظنوا قلة عددهم.
ولا يبنى الحكم على الظن، وإنما يبنى على ما صرحوا به.
فكانوا جميعا آمنين.
* هامش * (1) الوهق محركة: الحبل يرمى في أنشوطة فتؤخذ الدابة والانسان (القاموس).
(2) ب " ناسا ".
(3) ه " أمثال أبواب في الارض " ق " فإذا للمطمورة أبواب في الارض ولعل هذه الرواية هي الاصح ".(3/844)
1496 - وإن كان لاقصى المطمورة من الجانب الآخر باب يخرج إلى أعلى الارض فهاتان مطمورتان، باختلاف (1) المدخل.
بمنزلة دار على وجه الارض عظيمة، لكل جانب منها باب، فإنها تجعل في حكم دارين.
1497 - ثم الامان أيضا وقع على المطمورة التى تلى المسلمين، فمن وجد فيها من الرجال فهو آمن، ومن وجد في المطمورة الاخرى من الرجال فهو فئ.
1498 - فإن قالوا: نحن من المطمورة الاولى لم يلتفت إلى كلامهم.
لانهم وجدوا في غير موضع الامان، فلا يقبل قولهم فيما يدعون من الامان.
إلا أن يعرفوا بأعيانهم.
بمنزلة أهل الذمة إذا دخلوا قرية من قرى أهل الحرب ثم ظفر المسلمون بها فهم فئ أجمعون إلا من عرف أنه ذمى.
1499 ومن وجد في المطمورة الاولى، فهو آمن.
لانه وجد في موضع الامن.
إلا من عرف أنه من أهل المطمورة الاخرى.
بمنزلة قوم من أهل الحرب دخلوا قرية من قرى أهل الذمة فلا سبيل
* هامش * (1) ه " لاختلاف ".(3/845)
للمسلمين على استرقاق واحدا منهم، إلامن عرف بعينه أنه من أهل الحرب.
1500 - ثم إن كان بين المطمورتين حائط وعليه باب يصل.
بعضهم إلى بعض من ذلك الباب، فالحائط هو المفرق بين المطمورتين.
وإن لم يكن هناك حائط فإنما ينظر إلى موضع ينقطع منه وصول بعضهم إلى بعض، فمن ذلك الموضع تفترق المطمورتان.
وإن لم يكن بينهما حاجز ينقطع منه وصول بعضهم إلى بعض.
فهذه كلها مطمورة واحدة.
بمنزلة مدينة على وجه الارض لها أبواب.
فإن باختلاف الابواب لا يخرج.
من أن يكون الكل مدينة واحدة.
والمطامير تحت الارض بمنزلة الابنية فوقها يدخل في الامان جميع.
من فيها من الرجال.
والله الموفق.(3/846)
93.
باب من النفل يفضل فيه (1) بعضهم على بعض بالتقدم 1501 - وإذا وقف المسلمون على باب حصن.
فقال الامير: من دخل منكم أولا فله ثلاثة أرؤس، وللثاني رأسان، للثالث رأس.
فهذا تنفيل صحيح حصل من الامام على وجه النظر، بحسب الجزاء والعناء.
فعناء الداخل أولا (ص 278) أكثر من عناء الثاني، وعناء الثاني أكثر من عناء الثالث.
1502 فإذا دخل ثلاثة تباعا كان للاول ثلاثة أرؤس،
وللثاني رأسان، وللثالث رأس.
1503 وكذلك لو قال: من دخل منكم فله ثلاثة أرؤس، وللثاني رأسان، وللثالث رأس.
لان بالعطف بلفظ الثاني والثالث عرفنا أن مراده من أول كلامه من دخل منكم أول، فكأنه صرح بذلك.
1504 - وكذلك لو قال: أيكم دخل.
لان أي كلمة جمع تتناول كل واحد من المخاطبين على سبيل الانفراد.
بمنزلة كلمة من.
* هامش * (1) ق " باب النفل الذى يفصل.."(3/847)
1505 - وإنما يستحق الثاني والثالث النفل إذا دخلوا في الفصلين في حال بقاء الخوف.
فأما من دخل بعد زوال الخوف فلا شئ له.
1506 - وإن دخل في هذه الفصول الثلاثة (1) جميعا معابطل نفل الاول والثانى.
وإنما لهم نفل الثالث وهو رأس بينهم أثلاثا.
لان الاول اسم لفرد سابق، والثانى اسم لفرد هو تال للسابق، والثالث اسم لفرد هو تال للسابق والثانى.
هذا هو الحقيقة.
ولكن مقصود الامام التنفيل.
بحسب إظهار الجلادة والقوة، وما كان من الجلادة التى تحصل بدخول أول القوم لا تحصل إذا دخل معه اثنان.
فلهذا يبطل نفل الاول.
وكذلك ما يحصل من الجلادة بدخوله بعد واحد لا يحصل بدخوله مع اثنين.
فأما ما يحصل بدخوله بعد اثنين يحصل بدخوله معهما بيقين أو أكثر من ذلك.
فلهذا يجب نفل الثالث
1507 - ثم ليس أحدهم بأن يجعل ثالثا بأولى من صاحبيه، فلهذا كان نفل الثالث بينهم بالسوية أثلاثا.
فأن قيل: لماذا لا يعطى لكل واحد منهم رأس على أنه ثالث ؟ قلنا: لان الامام أوجب للثالث رأسا واحدا.
وقد بينا أن اسم الثالث لا يتناول إلا الفرد، فلا يمكن أن يجعل الايجاب بهذا اللفظ عاما أو متناولا لهم جميعا.
وإنما يتناول أحدهم بغير عينه.
ثم المشاركة بينهم في المستحق باعتبار المعارضة (2) والمساواة في سبب الاستحقاق.
* هامش * (1) ق " ثلاثة ".
(2) ه " المعاوضة "(3/848)
1508 - ولو دخل اثنان معا ثم ثالث بعدهما بطل نفل الاول.
لانه لا أول بينهما.
ويكون لهما نفل الثاني.
وذلك رأسان.
لان الثاني فيهما يتعين (1)، فجزاء كل واحد منهما في الدخول مع صاحبه أظهر من جزائه في الدخول بعد صاحبه.
وللثالث رأس.
لانه دخل بعد اثنين فهو الثالث بعينه.
1509 - ولو دخل اثنان معا، ثم اثنان معا، فللاولين نفل الثاني.
لما قلنا.
ولا شئ للآخرين.
لانه دخل مع الثالث رابع.
والثالث اسم لفرد يدخل بعد اثنين، ولم يكن واحد منهما بهذه الصفة، لكون صاحبه معه.
1510 - ولو دخل أربعة من القوم معا لم يكن لهم شئ.
لانه ليس فيهم أول ولا ثان ولا ثالث، فإن الرابع مزاحم لهم.
أرأيت لو دخل عشرون معا، أو دخل العسكر جميعا معا أكانوا يستحقون شيئا ؟ * هامش * (1) غير منقوطة في الاصل، ب، ه " بيقين "، أثبتنا رواية ق.
م - 2 السير الكبير(3/849)
1511 - ولو دخل أول مرة واحد، ثم اثنان، فالداخل أولا يستحق نفل الاول.
لانه فرد سبق بالدخول.
وبطل نفل الثاني.
لانه لا يأتي في الآخرين.
ولكن لهما نفل الثالث.
لانا تيقنا أن الثالث فيهما.
1512 - ولو دخل واحد ثم اثنان فلا شئ للآخرين.
لانه لا ثالث فيهما.
فكل واحد منهما رابع مع صاحبه.
والامام ما أوجب للرابع شيئا.
1513 - ولو صمد الامير لرجل بعينه فقال: لست أطمع في أن تدخل أولا، ولكن إن دخلت ثانيا فلك رأسان.
فدخل أول القوم.
فلا شئ له في القياس.
لان الامام ما أوجب للاول شيئا، وإنما أوجب له التنفيل بشرط أن يدخل ثانيا.
ولم يوجد ذلك الشرط.
وفى الاستحسان له رأسان.
لانا نتيقن أنه صنع ما طلب الامام منه وزيادة في إظهار القوة والجلادة، فإن ما تقدم من قول الامام:(3/850)
لست أطمع في أن تدخل أولا.
يتبين أنه لم يكن مراده أن يشترط عليه الدخول ثانيا.
وإنما مراده التحريض على إظهار الجد في القتال.
وقد أتى به على أكمل الوجوه.
1514 - وهذا بخلاف ما إذا لم يذكر هذه المقدمة، ولكن قال: إن دخلت ثانيا فلك رأسان فدخل أولا فإنه لا يستحق شيئا.
لان مقصود الامام هاهنا أن يمنعه من أن يدخل أولا إبقاء على نفسه.
فإنه علم أنه يقتحم المهالك، فأراد أن لا يدخل وحده حتى يدخل غيره قبله أو معه، ليكون أقوى له.
فإذا لم يدخل بتلك الصفة لا يستحق النفل ثم هذا المعنى الذى قلنا محتمل، والمعنى الاول الذى ذكرنا في وجه الاستحسان محتمل أيضا.
ولكن لا يتعين أحد المحتملين إلا بالدليل.
وقد وجد الدليل في الفصل الاول.
وهو المقدمة التى جرت، ولم يوجد الدليل في الفصل الثاني فيبقى الاحتمال، ومع الاحتمال لا يثبت الاستحقاق.
1515 - ولو دخل مع آخر فله رأسان.
لانه دخل ثانيا كما شرط عليه الامير.
1516 - ولو دخل ثلاثة هو أحدهم لم يستحق شيئا بإيجاب النفل له إذا دخل ثانيا، فإن أوجب له نفلا إن دخل ثالثا استحق ذلك.
لانه ثالث في الدخول إذا دخل مع اثنين، كما هو ثالث إذا دخل بعدهما.
1517 - ولو قال للقوم: من دخل منكم ثانيا فله رأس.
فدخل واحد أولا، لم يستحق شيئا.(3/851)
لانه أوجب النفل للثاني دون الاول.
فإن قيل: فأين ذهب قولكم (1) إن معنى العناء والقوة في الدخول أولا أكثر.
فإن هذا الرجل قد أتى بأفضل مما كان شرط.
قلنا: نعم، ولكن هذا إنما يعتبر فيما إذا كان الايجاب لشخص بعينه، فأما إذا كان لغير معين فلا بد من اعتبار الوصف الذى رتب الايجاب عليه.
أرأيت لو استحق هذا النفل لانه صنع خيرا مما طلب منه، ثم دخل الثاني بعد ذلك، هل يستحق شيئا ؟ فلا يجوز القول بأنه لا يستحق، لانه أتى بالوصف الذى أوجب الامام النفل به.
وإذا ثبت الاستحقاق له عرفنا أنه لا شئ للاول، ومثل هذا لا يتحقق فيما إذا كان التنفيل لمعين.
1518 - ولو قال لثلاثة نفر بأعيانهم: من دخل منكم أولا فله ثلاثة أرؤس.
فدخل رجل منهم مع رجل من المسلمين من غير الثلاثة، فللداخل من الثلاثة ثلاثة أرؤس.
لانه أوجب له النفل على أن يكون أول الثلاثة دخولا، لا على أن يكون أول الناس دخولا.
وهو أول الثلاثة حين لم يدخل معه صاحباه.
فلا يبطل نفله بدخول قوم معه من غير الثلاثة.
1519 - ولو كان قال: من دخل منكم قبل الناس فله ثلاثة أرؤس، والمسألة بحالها، لم يكن له شئ.
لانه شرط أن يكون منفردا بالدخول، سابقا على الناس كلهم.
ولم يوجد حين دخل معه غيره.
وفى الاول شرط أن يكون سابقا على صاحبه.
وقد وجد ذلك.
* هامش * (1) ق " قولهم "، وفى الهامش " قولكم، نسخة ".(3/852)
1520 وكذلك لو دخل اثنان من الثلاثة معا في هذا الفصل لم يكن لهما شئ.
لانه أوجب النفل لفرد يسبق الناس كلهم بالدخول ولم يوجد.
1521 ولو قال: من دخل من الشبان أولا فله رأسان، وللثاني رأس.
ومن دخل من الشيوخ أولا فله ثلاثة أرؤس، وللثاني رأسان.
فدخل شاب وشيخ معا كان للشاب رأسان.
لانه أول شاب دخل.
فإن الذى معه ليس بشاب، فعرفناه أنه أول الشبان دخولا.
وللشيخ ثلاثة أرؤس.
لانه أول الشيوخ دخولا، والذى معه ليس بشيخ.
1522 ولو دخل شابان وشيح فللشيخ ثلاثة أرؤس.
لانه أول شيخ دخل.
وبطل نفل الشاب الاول، (ص 280).
لانه لا أول فيهما.
فصاحب كل واحد منهما يزاحمه.
ولكن لهما نفل الثاني رأس بينهما نصفان.
لان فيهما الثاني.(3/853)
وعلى هذا لو دخل شابان وشيخان معا فللشيخين أيضا نفل الثاني من الشيوخ.
لان كل واحد منهما مزاحم لصاحبه، فلا يكون فيهما أول شيخ (1) دخولا.
1523 ولو قال: من دخل من أهل الشام أولا فله كذا.
فدخل رجل من غير أهل الشام، ثم دخل شامى فله النفل.
لانه أول شامى دخل، وهو الذى شرطه الامام.
إلا أن يكون قال في كلامه أول الناس.
فحينئذ لا يستحق شيئا.
لانه ليس بأول الناس دخولا.
1524 وعلى هذا لو قال: من دخل من الاحرار أولا، أو قال: من أول الناس.
أو قال: من دخل من المسلمين أولا، أو قال: أول الناس، فهو على ما ذكرنا من الفرق.
ألا ترى أنه لو قال: أول عبد مسلم أشتريه فهو حر، فأشترى نصرانيا، ثم أشترى مسلما، عتق المسلم.
ولو قال أول عبد مسلم أشتريه أول العبيد، والمسألة بحالها، لم يعتق.
وكذلك لو قال: من دخل من عبيد الاتراك أولا الدار فهو حر، فدخل هندي ثم دخل تركي، عتق التركي.
ولو قال: أول عبيدى لم يعتق.
وكان الفرق ما ذكرنا.
* هامش * (1) ب (الشيوخ).(3/854)
1525 - ولو قال: أي فارس دخل أولا فله رأس.
فدخل راجل ثم فارس، كان له النفل.
لانه أوجب لاول فارس يدخل.
وهذا أول فارس.
وإن قال: أول الناس، لم يكن له شئ.
لانه ليس بأول داخل من الناس، فالراجل الذى دخل قبله من الناس.
1526 - وكذلك لو قال: أي حاسر (1) دخل أول.
فدخل دارع (2)
ثم حاسر فله النفل.
لانه أراد أن يجرى الحسر بالتنفيل.
وهو أول.
حاسر دخل.
بخلاف ما إذا قال: أول الناس.
فكذلك لو قال: أي دارع دخل أولا.
لانه أراد بهذا القوة في القتال.
فإن الدارع يعمل ما لا يعمل الحاسر، فسواء دخل دارع أو حاسر معا، أو دخل الدارع بعد الحاسر، فللدارع النفل.
إلا أن يكون قال: أول الناس.
1527 - وكذلك لو قال: أي ناشب رمى أول، فرمى نابل ثم ناشب (3).
* هامش * (1) ق " حسرة فانحمر أي كشفه فانكشف من باب ضرب.
ومنه الحاسر بخلاف الدارع.
مغرب ".
(2) في هامش ق " درع الحديد مؤنث.
والدارع ذو الدارع.
مغرب ".
(3) في هامش ق " النبل السهام العربية.
اسم مفرد اللفظ مجموع المعنى.
وجمعه نبال.
والنشاب التركية الواحد نشابة.
ورجل نابل وناشب، ذو نبل ونشاب.
مغرب ".(3/855)
لان هذا أول ناشب رمى.
إلا أن يكون قال: أول الناس فحينئذ لا شئ لواحد منهما.
1528 - ولو قال: أي فارس دخل أول فله رأس، وأى راجل دخل أول فله رأس.
فدخل فارس وراجل، فلكل واحد منهما رأس، سواء دخلا معا أو أحدهما قبل صاحبه.
لان أحدهما أول فارس دخل، والآخر أول راجل دخل في الوجهين جميعا.
1529 - فلو دخل فارسان وراجلان معا لم يكن لهم شئ.
لان الاول اسم لفرد سابق، وليس في الفارسين فرد سابق من الفرسان ولا في الراجلين من الرجالة.
1530 ولو قال: أي فارس أو راجل دخل أولا، فدخل فارس وراجل معا، لم يكن لواحد منهما شئ.
لانه ليس فيهما فرد سابق مطلق.
وقوله: أي فارس أو راجل، إنما يتناول فردا سابقا مطلقا.
بخلاف ما تقدم، فأحد الكلامين هناك يتناول فردا سابقا مقيدا بالفرسان خاصة، والآخر مقيدا بالرجالة خاصة.
وعلى هذا مثله الشامي والخراساني.
1531 ولو قال: لكل من دخل منكم هذا الحصن أول فله رأس، فدخل خمسة معا.
فلكل واحد منهم رأس.(3/856)
لان كلمة كل تجمع الاسماء على أن يتناول كل واحد منهم على الانفراد فعند ذكره يجعل كل واحد من الداخلين، كأن اللفظ تناوله خاصة، وكأنه ليس معه غيره.
فلكل واحد منهم رأس.
1532 ولو دخلوا متواترين كان للاول النفل خاصة.
لان كل الداخل أولا هو.
فإن من دخل بعده ليس بأول حين سبقه غيره بالدخول، وفى الفصل الاول لم يسبق كل واحد منهم غيره بالدخول، وعلى اعتبار إفراد كل واحد منهم كما هو موجب كلمة كل يكون كل واحد منهم أول داخل.
وهذا بخلاف قوله: من دخل منكم أول.
فإن هناك إذا دخل الخمسة معا لم يكن لهم شئ.
لان كلمة من توجب عموم الجنس، ولا توجب أفراد كل واحد
(ص 281) من الداخلين.
كأنه ليس معه غيره.
وعلى اعتبار معنى العموم ليس فيهم أول.
فأما كلمة كل فتوجب تناول كل واحد على الانفراد، كأنه ليس معه غيره.
ألا ترى أنه لو قال: كل رجل دخل أول.
فدخل خمسة معا، كان لكل واحد منهم رأس.
وكلمة كل قد توجب العموم أيضا.
ولكن لو حملناها على معنى العموم لم يبق لها فائدة.
لان ذلك ثابت بقوله: من دخل.
ولا بد من أن يكون لها زيادة فائدة.
وليس ذلك إلا ما قلنا.
وهو أنها توجب الجمع في كل داخل لم يسبقه غيره، على أن يتناول كل واحد على الانفراد.
وهذا بخلاف كلمة(3/857)
أي.
فإنها لا توجب الجمع، وإنما توجب العموم.
فيكون قوله: أي رجل دخل أول، وقوله: من دخل أولا سواء، حتى إذا دخل خمسة معا لم يكن لاحد منهم شئ.
1533 - ولو قال: جميع من دخل أول.
فدخل خمسة معا.
فلهم رأس واحد بينهم على السوية.
لان ما إلحق بكلمة من هاهنا يدل على الجمع دون الافراد، فيصير باعتباره جميع الداخلين كشخص واحد، فإنهم أول.
فلهم رأس واحد فكلمة كل تقتضي الجمع على سبيل الافراد، فيجعل باعتبارها كأن كل واحد من الداخلين تناوله الايجاب خاصة.
1534 - ولو قال: من دخل منكم خامسا فله رأس.
فدخل خمسة معا.
فلهم رأس بينهم أخماسا.
لان الخامس فيهم بيقين، وليس بعضهم بالنفل الذى أوجبه للخامس بأولى من البعض.
1535 - وإن دخلوا متواترين فالرأس للخامس خاصة.
لانه مختص بالاسم الذى أوجب النفل له لا مزاحمة معه فيه لمن سبقه بالدخول.
1536 - وإن دخل ثلاثة ثم اثنان فالرأس بين الاثنين.
لان الخامس فيهما دون الثلاثة.
1537 - وإن دخل ثلاثة ثم ثلاثة لم يكن لاحد منهم شئ.(3/858)
لان كل واحد منهم سادس، داخل بإنضمام صاحبيه إليه، وما أوجب النفل للسادس.
1538 ولو قال: كل من دخل منكم خامسا.
فدخل خمسة متواترين.
كان النفل للخامس.
لانه مختص باسم الخامس حين سبقه أربعة بالدخول.
1539 وإن دخل الخمسة معا فلكل واحد منهم رأس.
لان كلمة كل توجب الجمع على وجه الافراد، فيكون كل واحد منهم خامسا لوجود الاربعة معه، كما يكون خامسا إن لو دخلوا قبله.
1540 ولو قال: جميع من دخل منكم خامسا.
فدخل خمسة معا.
كان لهم رأس واحد.
لانه ليس في لفظه ما يوجب إفراد كل واحد منهم.
فإنما يتناولهم الايجاب جملة وذلك رأس واحد بينهم، بخلاف كلمة كل.
1541 ولو قال: كل من دخل منكم خامسا فله رأس.
فدخل خمسة معا، ثم خمسة معا، والخوف قائم على حاله، فلكل واحد منهم رأس حتى يأخذوا عشرة أرؤس.
لان معنى هذا الكلام: كل من دخل منكم خامس خمسة، وكل واحد من الفريق الاول خامس خمسة.
وكذلك كل واحد من الفريق الثاني خامس
خمسة.
وإنما جعلنا تقدير كلامه هذا لانه أوجب للخامس، ونحن نعلم أنه لا يكون إلا في خمسة.(3/859)
1542 - ولو دخل أربعة ثم دخل اثنان معا لم يكن لاحدهم شئ.
لان كل واحد من الآخرين سادس ستة.
1543 - فإن دخل اثنان بعد ذلك معا، ثم دخل واحد فلهذا الآخر النفل.
لان الاربعة الاولى لا يحتسب لهم إذ لم يوجد بعدهم خامس فيسقط اعتبار دخولهم، بقى اثنان ثم واحد، فهذا الواحد خامس خمسة، فله النفل.
1544 - ولو دخل أربعة معا في الابتداء ثم خمسة معا، كان لكل واحد من الخمسة رأس.
لانه لا يحتسب بالاربعة لما بينا.
فإذا (1) سقط اعتبار دخولهم صار كأن (2) الخمسة دخلوا ابتداء، فكل واحد منهم خامس خمسة.
1545 - ولو قال: كل من دخل منكم عاشرا.
فدخل تسعة معا، أو متواترين.
ثم دخل بعدهم اثنان، لم يكن لواحد منهم شئ.
لانه لا عاشر فيهم.
فكل واحد من الآخرين مع أصحابه واحد من أحد عشر، لا من عشرة.
فإن قيل: هذا يستقيم فيما إذا دخل تسعة معا، فأما إذا دخلوا متواترين (ص 282) فينبغي أن يسقط اعتبار الاول حتى يكون كل واحد من الاثنين عاشر عشرة كما فعلتم في الاربعة.
* هامش * (1) ب " ولو ".
(2) ه " كان "(3/860)
قلنا: فعلنا في الاربعة ذلك لان الذى تأخر دخوله وحده فيكون خامس خمسة.
فأما هاهنا فإنما دخل اثنان معا آخرا، وكما يمكن إثبات عاشر العشرة منهم بإلغاء (1) الاول يمكن إثباته بإلغاء (1) أحدهما، وليس أحد الجانبين بأولى من الآخر.
1546 - فإن دخل بعد الاثنين ثمانية، فلكل واحد من الثمانية رأس.
لان التسعة يسقط اعتبارهم حين لم يجئ بعدهم العاشر.
بقى اثنان ثم ثمانية فكل واحد من الثمانية عاشر عشرة.
1547 - ولو دخل بعد الاثنين عشرة معا كان لكل واحد من العشرة رأس.
لانه يسقط أعتبار الاثنين هاهنا كما يسقط اعتبار تسعة، يبقى دخول العشرة معا، فيكون كل واحد منهم عاشر عشرة.
فيستحق النفل.
والله أعلم بالصواب (2).
* هامش * (1) ه " بإبقاء ".
(2) في هامش الاصل " بلغت القراءة عليه أبقاء الله تعالى ".(3/861)
94.
باب من الاستئجار (1) في أرض الحرب والنفل فيه 1548 - ولو أقام المسلمون على مطمورة في أرض الحرب، فقال الامير: كل رجل يحفظ المطمورة الليلة حتى لا يخرج منها العدو فله.
دينار.
وأقام عليها مئة رجل حتى أصبحوا.
فإن كان الدينار جعله لكل رجل منهم مما يصيبون من المطمورة فهو نفل صحيح.
لان أهل المطمورة ممتنعون، والحاجة إلى التحريض على حفظهم بالتنفيل ماسة، وحفظهم حتى لا يهربوا من الجهاد.
فلهذا صح التنفيل.
1549 - وإن كان الامير جعل لهم ذلك من الغنائم التى أصابها المسلمون فذلك باطل.
لانه لا يمكن تصحيح ذلك لهم بطريق التنفيل.
فإن التنفيل بعد الاصابة لا يجوز ولا بطريق الاجرة.
لان هذا العمل من الجهاد، واستئجار المسلم على الجهاد باطل.
وهذا لانهم على عمل الجهاد يستحقون السهم من الغنيمة فكيف يستحقون الاجر مع ذلك ؟ ولان الجهاد وإن كان فرضا على الكفاية، فكل من باشره يكون مؤديا فرضا.
والاستئجار على أداء الفرض باطل كالاستئجار على الصلاة.
* هامش * (1) ق " باب الاستئجار في..".(3/862)
1550 - وإن لم يبين الامير من أي موضع يعطيهم (1) ذلك فهذا تنفيل صحيح من المطمورة.
لان مطلق كلام العاقل محمول على الوجه الذى يصح شرعا لا على الوجه الذى يكون باطلا شرعا.
1551 - وإن لم يكن في المطمورة مقاتلة، وإنما فيها الذرارى والاموال، والمسألة بحالها، فلكل واحد منهم دينار في الغنيمة هاهنا.
لان حفظهم ليس بجهاد هاهنا، وإنما هذا استئجار على عمل معلوم، ببدل معلوم.
فكل من سمع مقالة الامير وأقام العمل فله الاجر، ومن لم يسمع.
مقالته فلا أجر له.
لانه ما أقام العمل على وجه الاجارة، ولكن على وجه التبرع حين لم يسمع بمقالة الامير.
وإنما هذا نظير قوله: كل من ساق هذه الارماك (2) إلى موضع كذا فله دينار.
فساقها قوم سمعوا مقالته.
فلكل رجل منهم أجرة دينار، يبدأ به من الغنيمة قبل كل نفل وقسمة.
وإن ذهبت الغنائم كلها لم يكن للاجراء على الامام شئ، لانه استأجرهم على وجه الحكم منه لمنفعة الغانمين، فإنما أجرهم في الغنيمة، ولم يبق بيده شئ من الغنيمة.
والامام فيما يحكم به على
وجه النظر لا يكون ملتزما للعهد، فلا يلزمه إذا شئ من مال نفسه، * هامش * (1) ب " يؤتيهم ".
(2) ق " الاموال " وفى هامشها " الارماك.
نسخة ".
والارماك جمع الجمع للفظ رمكة (محركة) وهى الفرس والبرذونة تتخذ للنسل (القاموس).(3/863)
ولا يرجع على الغنيمة بشئ لان ولايته عليهم مقيدة بتوفير المنفعة دون الاضرار بهم، ولانهم لم يملكوا الغنيمة بعد.
ألا ترى أن للامام أن يقتل الاسارى، وإنما يجب البدل عليهم بالعقد إذا سلم العمل إليهم.
ولم يوجد ذلك حقيقة ولا حكما بالتسليم (ص 283) إلى ملكهم.
1552 ولو قال الامير من نصب رماح المسلمين حول العسكر فله دينار.
ففعل ذلك رجل استحق الدينار.
لان هذا ليس من الحرب، ولا مما يجب على ذلك الرجل أن يفعله.
فيجوز استئجار الامام إياه على ذلك بأجر معلوم.
1553 ولو قال: من نصب رمحه فله دينار أجرا له، لم يجز ذلك.
لان ما يفعله في ملك نفسه لا يكون فيه أجيرا لغيره، ولان نصب رمحه من عمل الحرب كالطعن به، فلا يستحق الاجر عليه.
لخلاف نصب رماح غيره من المسلمين.
1554 ولو قال: من قتل قتيلا وجاء برأسه فله دينار.
فهذا تنفيل صحيح، ويعطى الدينار من فعل ذلك من الغنائم التى تصاب بعد هذا، أو من بيت المال إن رأى الامام ذلك.
فأما مما أحرز من الغنائم
قبل هذا فلا.
لانه لا تنفيل بعد الاصابة.
فلا يمكنه أن يعطيه الدينار من ذلك نفلا ولا أجرة، لان قتل أهل الحرب من الجهاد، فلا يستحق المسلم عليه الاجر.(3/864)
1555 وكما يثبت (1) هذا الحكم في حق المقاتلة من المسلمين فكذلك في حق التجار والعبيد من المسلمين.
لان فعلهم ذلك من الجهاد أيضا، ولهذا يستحق التاجر إذا فعل ذلك السهم من الغنيمة والعبد الرضخ.
1556 وأما أهل الذمة إذا فعلوا ذلك، وقد استعان بهم الامام وأوجب لهم مالا معلوما، على عمل من ذلك معلوم فلهم الاجر.
لان فعلهم ليس بجهاد، فإن الجهاد ينال به الثواب، والكافر ليس بأهل لذلك.
والجهاد ما يتقرب العبد به إلى ربه، وهم لا يتقربون بذلك.
بخلاف المسلم.
قال: ألا ترى أن رجلا لو خرج بآخر يجاهد في سبيل الله بديلا عن إنسان لم يكن له أجر.
لانه يتقرب إلى الله تعالى.
والمتقرب إلى الله تعالى عامل لنفسه، فكيف يكون له الاجر على غيره.
وعند إصابة الغنيمة السهم يكون له دون من استأجره.
فعرفنا أنه عامل لنفسه.
ثم بين أن: الاستئجار على الجهاد بمنزلة الاستئجار على الحج، وعلى الاذان، والاقامة.
وقد بينا الكلام في الاستئجار على الطاعات في شرح المختصر.
* هامش * (1) ب.
ق " ثبت ".
م - 3 السير الكبير(3/865)
1557 - ولو حاصر المسلمون حصنا، ولاهل الحصن ملاعب وكنائس خارج منه وليس فيها أحد.
فاستأجر الامام على تخريبها قوما من المسلمين بأجرة معلومة فذلك جائز.
لان تخريب ذلك ليس من عمل الجهاد، وقد حصل في أيدى المسلمين، ولا تحتاج في التخريب إلى قتال.
1558 - بخلاف ما إذا استأجرهم على تخريب حصن أهله ممتنعون فيه أو كسر باب.
لان ذلك من عمل الجهاد يحتاج في إقامته إلى القتال.
1559 - ولو أن قوما من أهل الحرب أقبلوا في سفنهم يريدون المسلمين، فاستأجر الامام قوما من المسلمين من أحرارهم، أو عبيدا للمسلمين كفارا أو مسلمين، يرمونهم بالمحرقات فلا أجر لهم.
لان هذا من عمل الجهاد، وإنما يعتبر فيه دين المولى لا دين العبد، لان المسلم يكون مجاهدا بعبيده كما يكون مجاهدا بفرسه.
وإن جعل ذلك نفلا لهم مما يصيبون فهو جائز للحاجة إلى التحريض.
1560 وكذلك لو استأجر قوما في البر يرمون بالمجانيق الحصون، وإن استأجر قوما من أهل الذمة على ذلك جاز.
لان عملهم ليس بجهاد لانعدام الاهلية فيهم.(3/866)
1561 ولو استأجر قوما من المسلمين يجذفون (1) بهم في البحر
فهذا جائز.
لان هذا ليس من عمل الجهاد، وهو عمل معلوم يجوز الاستئجار عليه.
ألا ترى أنهم يفعلون ذلك إذا لقوا العدو أو لم يلقوهم، وأن الملاحين يأخذون الاجر على ذلك وهو حلال لهم.
1562 ولو ظفر المسلمون بغنائم متفرقة وليس معها من يمنعها.
فقال الامير: من جمعها (1) فله دينار.
فهذا جائز.
لانه ليس من عمل الجهاد، وهو معلوم في نفسه.
فيجوز الاستئجار عليه ببدل معلوم.
1563 ولو استأجر مسلما بعد إحراز الغنيمة ليبيعها، فهذه إجارة فاسدة (ص 284)، إلا أن يبين المدة فيقول: استأجرتك عشرة أيام بكذا لتبيع الغنائم.
لان عند بيان المدة، العقد يتناول منافعه.
ولهذا استحق الاجر بتسليم النفس، باع أولم يبع.
وذا لم يبين المدة فالمعقود عليه البيع، وهو مجهول، وقد يتم البيع بكلمة واحدة وقد لا يتم بعشر كلمات.
فكذلك لا يتهيأ منه البيع بدون مساعدة المشترى، فلهذا كان الاستئجار على البيع فاسدا.
وليس هذا فيمن يبيع الغنائم خاصة، ولكن في جميع الباعة الحكم هكذا.
* هامش * (1) في هامش ق " جذف السفينة من باب ضرب حركها بالمجذاف جذفا.
مغرب ".
وفى ه " يحذفون ".
(2) ب " يجمعها ".(3/867)
1564 وكذلك (1) لو استأجر من يقسم الغنائم بين الغانمين بأجر معلوم فذلك جائز.
لان القسمة عمل معلوم يتم بالقسام (2)، ويجوز أخذ الاجر عليه.
على ما روى أنه كان لعلى رضى الله عنه قاسم يقسم بالاجر.
ويستوى أن يبين المدة هاهنا أو لم يبين.
لان العمل معلوم بنفسه.
ثم يبدأ بأجره قبل النفل والغنيمة.
لان هذا دين، وقسمة الغنيمة كقسمة الميراث.
والنفل فيه كالوصية، والدين مقدم عليهما.
1565 فإن كان استأجره بأكثر من أجر مثله نظر.
فإن كانت الزيادة يسيرة فذلك جائز.
وإلا لم يكن له إلا مقدار أجر مثله.
لان الامير في هذا التصرف ناضر.
فتتقيد ولايته بشرط النظر، كولاية الاب والوصى في الاستئجار لليتيم.
1566 فإن استرد منه الفضل على أجر مثله، فقال الاجير: أنا أرجع بذلك على من إستأجرني لم يكن له ذلك.
لان الذى استأجره ما عقد العقد لنفسه، وإنما عقد للمسلمين على وجه الحكم منه.
إلا أنه أخطأ في ذلك، فلا يلزمه شئ من العهدة بخلاف الوكيل * هامش * (1) ق " ولو استأجره.
".
(2) ه " بالانقسام ".(3/868)
بالاستئجار، فإنه إذا باشر العقد بأكثر من أجر المثل فذلك كله لازم عليه، ليس على الامير منه شئ.
لانه صار مخالفا بالمحاباة الفاحشة في الاستئجار فينفذ العقد عليه خاصة بمنزلة الشراء، وأما الامير فالعقد لا ينفذ عليه لانه لا تلحقه العهدة فيما يحكم به، ونما يشبه الامير هاهنا القاضى إذا استأجر رجلا يعمل لليتيم عملا بأجر معلوم، فإذا فيه غبن فاحش، فإنه يعطى الاجير أجر مثله
ويرد ما بقى على اليتيم، ولا شئ على القاضى، لان استئجاره منه كان على وجه الحكم منه.
1567 ولو قال الامير والقاضى: فعلنا ذلك ونحن نعلم أنه لا ينبغى لنا أن نفعله.
فجميع الاجر عليهما في ماليهما.
قال: لانهما تعمدوا الجور فصارا فيه غير حاكمين.
وبهذا اللفظ يستدل من يزعم أن الحاكم ينعزل بالجور.
وليس هذا بمذهب لنا، وقد بينا ذلك فيما أملينا من " شرح الزيادات " في باب التحكيم.
وإنما تأويل ما ذكر هاهنا أن حكمه إنما ينفذ إذا صدر عن دليل شرعى.
وهذا الحكم خلا عن ذلك، فهو بمنزلة القاضى إذا قضى بغير حجة، أو قضى برأيه مخالفا للنص.
لا ينفذ قضاؤه، وهو قاض على حاله.
فإذا لم ينفذ قضاؤه بهذا الطريق نفذ عقده عليه، على ما هو الاصل أن العقد متى وجد نفاذا على العاقد ينفذ عليه.
وقد ذكرنا في آداب القاضى أن القاضى إذا أخطأ في قضائه فإن كان ذلك في حقوق العباد، فغرم ذلك على من قضى له، وإن كان ذلك في حدود الله فخطأه على بيت المال.
وإن قال: تعمدت ذلك كان الغرم عليه في ماله.
فكذا ما صنعه الامير يكون الحكم فيه ذلك.
1568 ولو استأجر الامير قوما يسوقون الارماك، فساقوها فعطب منها شئ من سياقهم، أو هلكت في أيديهم.
فإن كان(3/869)
ذلك وهم في دار الحرب قبل أن ينتهوا إلى دار الاسلام فلا ضمان عليهم في شئ من ذلك، سواء تلفت بعملهم أو بغير عملهم.
لانهم لو استهلكوا الغنائم في دار الحرب (ص 285) لم يضمنوها، باعتبار أن الحق لم يتأكد فيها للغانمين بعد.
وإن كان ذلك بعد ما وصلوا إلى دار الاسلام فحالهم كحال الاجير المشترك.
وقد بينا في " شرح المختصر (1) " أن ما تلف في يد الاجير المشترك بغير صنعه لم يكن عليه ضمانه في قول أبى حنيفة رحمه الله، سواء تلف بسبب يتأتى الاحتراز عنه أو لا يتأتى.
وعندهما هو ضامن له، إلا أن يتلف بسبب لا يمكن الاحتراز عنه.
وما تلف بجناية يده فهو ضامن له في قول علمائنا الثلاثة، بمنزلة ما لو استهلكه، فهاهنا أيضا ما عطب بسياقهم أو بتناطحها (2) فذلك من جناية يد الاجراء، فعليهم ضمان قيمة ذلك.
ولكن إنما يضمنون قيمته في المكان الذى تلف فيه، ويكون لهم الاجر إلى ذلك الموضع.
بخلاف القصار وغيره، فهناك لصاحب المتاع الخيار إن شاء ضمنه قيمة متاعه غير معمول، ولا أجر له، لان هناك فسخ العقد باعتبار تفرق الصفقة على العاقد ممكن.
فإن إيجاب الضمان على الاجير من وقت القبض بهذا الطريق يتأتى، لانه لو استهلكه عند ذلك كان ضامنا.
فأما هنا لا يمكن بإيجاب الضمان عليهم باعتبار وقت التسليم إليهم، لانهم لو استهلكوا عند ذلك، وهم في دار الحرب، لم يضمنوا * هامش * (1) في ق " شرح الكافي ".
(2) ص، ب، ه " بتناطحهم "(3/870)
شيئا فلابد من إبقاء العقد بقدر ما أوفوا من العمل، ليتأتى إيجاب الضمان عليهم.
فلهذا كان الاجر إلى ذلك الموضع.
وكذلك هذا الفرق لهما فيما يتلف بغير صنعهم فيما يتأتى الاحتراز عنه ولو تلف شئ من ذلك في دار الحرب فلا ضمان عليهم لما قلنا، ولكن على قول أبى حنيفة إن تلف بغير صنعهم فلهم الاجر بقدر ما أتلفوا من العمل.
لانهم ما صاروا مستردين لما سلموا حين هلك بغير صنعهم.
وإن هلك بصنعهم فلا أجر لهم لانهم صاروا كالمستردين للعمل.
ولانه لم يسلم للغانمين بعملهم شئ حين لم يجب الضمان عليهم، فلا يجب الاجر أيضا لهم.
بخلاف ما إذا أعطب من فعلهم في دار الاسلام، والضمان قد وجب عليهم هاهنا، فعرفنا أن العمل قد سلم للغانمين بهذا الطريق.
وأما على قولهما فلا أجر لهم فيما يتلف في دار الحرب بغير صنعهم أيضا، لانه فيما يمكن الاحتراز عنه يكون التلف مضافا إليهم حكما، ولهذا لو كان في دار الاسلام ضمنوا قيمته.
فبهذا الطريق يثبت استرداد ما أقاموا من العمل حكما، فلا يكون لهم الاجر على ذلك.
وشبه هذا بمن استأجر رجلا في دار الاسلام يحمل له جلود ميتة يدبغها.
فحملها، فعثر في الطريق فسقطت فاحترقت، أو أحرقها الذى حملها بالنار، لم يكن عليه ضمان.
لانه ليس بمال متقوم، ولا أجر له، لانه صار مستردا لعمله بما فعله من الاتلاف، فلا يستوجب الاجر.
فكذلك حكم الغنائم فيما وصفنا إذا تلف في دار الحرب شئ منها (1)، بصنعه أو بغير صنعه.
1569 - وإن كان أخذ العدو ذلك منهم مجاهرة فلهم الاجر إلى ذلك المكان * هامش (1) كذا في ق، وفى هامشها " تلف شئ من ذلك في دار الحرب " نسخة ".(3/871)
لان التلف هاهنا حصل بما لا يتأتى لهم الاحتراز عنه.
فلا يكونوا به مستردين لما أقاموا، إلا أنهم إذا دعوا ذلك فعلى قول أبى حنيفة القول قولهم مع اليمين.
لان أصل قبضهم كان على وجه الامانة عنده، فكان القول قول الامين مع اليمين.
وعندما لا يصدقون على ذلك إلا ببينة.
لان قبضهم (ص 286) قبض ضمان (1) (1) عندهما.
ولهذا لو تلف بعد الخروج إلى دار الاسلام كانوا ضامنين، والضامن لا يقبل قوله إلا بحجة، بمنزلة الغاصب.
1570 ولو إستأجر أمير العسكر رجلا يحمل رقيقا وسبيا من الغنيمة، صغارا أو كبارا، على دوابه، إلى مكان معلوم، فحملهم.
فعطبوا في دار الحرب من سياقه أو لا من سياقه، بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن التحرز عنه، فلا ضمان عليه.
1571 وكذلك إن هلكوا في دار الاسلام إذا لم يعلم من جهته استهلاك أو تضييع أو عنف في سوق الدابة.
بخلاف ما إذا كان المحمول متاعا سوى بنى آدم، فهناك يضمن ما عطب من سياقه في دار الاسلام.
وهذا لان الضمان الواجب في الآدمى ضمان جناية، وهو ليس من جنس ضمان العقد.
ووجوب الضمان على الاجير المشترك باعتبار العقد، ولا يمكن اعتبار العقد في ضمان ليس من جنس ضمان العقد.
بخلاف ضمان الامتعة.
ولان المعقود عليه يصير مسلما إلى الراكب إذا كان من بنى آدم فيخرج من ضمان الاجير، بخلاف الامتعة.
ثم يكون له الاجر إلى الموضع الذى حملهم إليه.
هامش (1) " الضمان "(3/872)
لان المعقود عليه صار مسلما إلى من أمر المستأجر بالتسليم إليه، ولانه لما لم يجب الضمان على الاجير عرفنا أنه لم يصر مستردا شيئا.
1572 - وأما إذا عنف في السوق، أو استهلكهم، فإن فعله في الحرب فلا ضمان عليه.
لعدم تأكد الحق للغانمين.
ولا أجر له.
لانه صار مستردا لما سلم بما أحدث من فعل الاستهلاك.
والامير يؤدبه فيما صنع.
لانه معتد بأتلاف ما ثبت حق الغانمين فيه.
فإن فعل ذلك في دار الاسلام فهو ضامن قيمة ما استهلك.
لتأكد الحق فيه بالاحراز.
وله الاجر إلى الموضع الذى حملهم إليه.
لانه إنما يضمن القيمة في هذا المكان وذلك يقرر تسليمه لا أن يجعله مستردا.
إلا الرجال من الاسراء فإنه لا ضمان عليه فيهم.
لان الحق فيهم لا يتأكد بالاحراز.
ألا ترى أن للامام أن يقتلهم ؟ فكان فعله ذلك في دار الاسلام وفى دار الحرب سواء، ولا أجر له في حملانهم، لانه صار مستردا لعمله في حملهم حتى لم يجب عليه الضمان فيهم.(3/873)
1573 - ولو أن الامير استأجر قوما مياومة أو مشاهرة لسوق الارماك فهو جائز.
لانه عقد العقد على منفعة معلومة ببدل معلوم.
ثم لا ضمان على الاجير هاهنا فيما يعطب من سياقه أو لا من
سياقه في دار الحرب أو في دار الاسلام.
لانه أجير الواحد (1)، وأجير الوحد لا يضمن ما جنت يده إذا كان فعله حاصلا على الوجه المعتاد، لان المعقود عليه منافعه.
ألا ترى أنه لو سلم النفس في المدة استوجب الاجر ومنافعه في حكم العين ؟ فلا يعتبر فيه صفة سلامة العمل عن العيب.
بخلاف الاجير المشترك.
1574 - فإن (2) عنفوا في في السوق أو استهلكوا في دار الاسلام كانوا ضامنين.
لوجود التعدي منهم بعد تأكد الحق.
ولهم أجورهم لما مضى.
لانه تقرر الاجر بتسليم النفس في المدة، فلا يبطل حقهم بوجود التعدي منهم.
وأوضح هذا الفرق فقال: ألا ترى أن للامير هنا أن نريد عليهم أرماكا بعد أرماك بقدر هامش (1) في حاشية ه " أجير الوحد، على الاضافة، خلاف الاجير المشترك فيه.
من الوحد، بمعنى الوحيد.
ومعناه المستأجر الواحد.
المغرب ".
(2) ق " ولو ".(3/874)
ما يطيقون، ولو مات بعضها كان له أن يخلف مكانها مثلها، وفى الاجير المشترك ليس له أن يفعل شيئا من ذلك.
فبه يتبين أن العقد هناك يتناول العمل، وبقضية المفاوضة (ص 278) تثبت صفة السلامة عن العيب.
وهاهنا العقد يتناول المنفعة دون العمل.
1575 - ولو قال الامير لمسلم حراأو عبدا: إن قتلت ذلك الفارس من المشركين فلك على أجر مئة دينار.
فقتله، لم يكن له أجر.
لانه لما صرح بالاجر لا يمكن أن يحمل كلامه على التنفيل.
والفعل الذى حرضه عليه جهاد.
والاستئجار على الجهاد لا يجوز.
1576 - وإن قال ذلك لرجل من أهل الذمة فكذلك الجواب.
في قول أبى حنيفة رضى الله عنه، وأبى يوسف رحمه الله، وفى قول
محمد رحمه الله للذمي الاجر المسمى.
وأصل هذه المسألة أن الاستئجار على القتل لا يجوز عند أبى حنيفة وأبى يوسف، سواء كان بحق أو بغير حق.
حتى لو استأجر ولى الدم رجلا ليستوفى القصاص في النفس لم يكن له أجر عندهما.
وفى قول محمد يجوز الاستئجار على القتل، لانه عمل معلوم بقدر الاجير على إقامته.
فيجوز الاستئجار عليه كذبح الشاة، وقطع بعض الاعضاء.
فإن الامام لو استأجر رجلا ليقطع يد السارق أو من له القصاص في الطرف إذا استأجر رجلا ليستوفى ذلك جاز بالاتفاق.
وبيان ذلك الوصف أن القتل يكون بجز الرقبة، وفى قدرة الاجير على ذلك لا فرق بين إبانة الرأس من البدن وبين إبانة الطرف من الجملة.
وجه قولهما أن القتل ليس من عمله، لان القتل إنما يحصل بزهوق الروح،(3/875)
وذلك مصان عن محل قدرته، فلا يكون من عمله، بمنزلة حصول الولد، ونبات الزرع، والاضافة إليه باعتبار أنه يحصل بكسبه لا باعتبار أنه من عمله.
ألا ترى أن فعله الضرب بالسيف، وقد يفعل ذلك ولا يحصل القتل به ؟ وإنما يجوز الاستئجار على منافعه، أو على ما يكون من عمله.
وهذا بخلاف الذبح.
لان الاستئجار هناك على ما يحصل به الزكاة، وهو يميز الطاهر من النجس، وذلك قطع الحلقوم والاوداج، وذلك من عمله.
وكذلك قطع الاطراف، فإنه ليس في ذلك من إزهاق الروح شئ، ولكنه فصل الجزء من الجملة.
وهذا من عمله بمنزلة قطع الحبل والخشبة.
1577 ولو كان الاسراء قتلى، فقال الامير: من قطع رؤوسهم فله أجر عشرة دراهم.
ففعل ذلك مسلم أو ذمى كان له الاجر.
لان هذا ليس من عمل الجهاد وهو عمل معلوم في محل قدرة الاجير، فيجوز استئجاره عليه كقطع الخشبة أو الحبل.
1578 ولو نظر الامير إلى فارس من أهل الحرب فقال لمسلم حر أو عبد: إن جئتني بسلبه فلك أجر عشرة دنانير، فقتله وجاء بسلبه.
وأفلت (1) منه، فلا شئ له.
لانه استأجره على عمل الجهاد.
1579 وإن قال ذلك لذمى فله الاجر منه.
لان فعله ليس بجهاد.
1580 وكذلك لو قال إن قطعت يده فلك كذا.
هامش (1) في هامش ق " أفلت يعنى نجى الرجل الفارس منه.
حصري ".(3/876)
لان قطع يد الممتنع المقاتل من الجهاد، فلا يستوجب المسلم عليه أجرا، ويكون عليه للذمي الاجر، لان فعله ليس بجهاد.
1581 ولو أراد قتل الاسارى فاستأجر على ذلك مسلما أو ذميا فهو على الخلاف الذى ذكرنا في الاستئجار على قتل المقضى عليه بالقصاص.
1582 ولو قال الامير لقوم من أهل العسكر: احفروا هذا الموضع من هذا النهر إلى موضع كذا حتى ينبثق (1) الماء فيغرق أهل هذه المدينة، ولكم أجر مئة دينار.
ففعلوا ذلك.
فإن كان على ذلك الموضع قوم من أهل الحرب يقاتلون ويمنعون من ذلك فلا شئ للاجراء إذا كانوا مسلمين.
لان ما استؤجروا (2) عليه من عمل الجهاد.
وإن كانوا عشرين نفرا: عشرة مسلمين، وعشرة ذميين فلاهل الذمة نصف الاجر.
لانه يجعل في حق كل فريق كان الفريق الثاني مثلهم.
هامش (1) في هامش ق " بثق الماء بثقا فتحه بأن خرق الشط أو السكر.
وانبثق هو إذا جرى بنفسه من غير مجر.
مغرب ".
" وفى القاموس: السكر سد النهر.
وبالكسر الاسم منه، وما سد نه به النهر والمسناة.
جمعه سكور ".
(2) في هامش ق " استأجروا.
نسخة ".(3/877)
1583 وإن لم يكن في ذلك الموضع من يقاتل من أهل الحرب فلهم الاجر المسمى.
لان حفر الارض (ص 288) ليس من عمل الجهاد، فيستوجب المسلم الاجر عليه كما يستوجب الذمي.
وهو نظير ما تقدم من تخريب الملاعب والكنائس الخارجة عن الحصن بعد ما صارت في أيدى المسلمين.
1584 وكذلك إن استأجرهم لقطع الاشجار فهو على هذا التقسيم.
لان ما استؤجروا عليه عينه ليس بجهاد، وإنما يصير في معنى الجهاد إذا كان هناك من يمنعك عنه حتى يحتاج إلى أن تجاهده في إتمام ذلك العمل، فإذا لم يكن هناك من ينابذك لم يكن من الجهاد في شئ.
1585 ولو استأجر قوما يرمون بالمنجنيق.
فإن كانوا من أهل الذمة فلهم الاجر، وإن كانوا مسلمين أحرارا أو عبيدا فلا أجر لهم.
لان هذا من عمل الجهاد.
فالرمي بالمنجنيق لتحريب الحصن الذى هم فيه ممتنعون، على الدفع عنه يقاتلون، بمنزلة الرمى بالسهم لاصابة النفوس.
ولا يقال إنهم يرمون في منعة المسلمين، فلا يكون فعلهم جهادا، لانهم وإن
كانوا في منعة المسلمين، فالرمية وقعت في منعة المشركين، وهو المقصود.
فإن قيل: ففى حفر النهر إذا لم يكن هناك من يمنع، يوجد هذا المعنى.
لان الماء يسيل في ذلك الموضع حتى يغرقهم في منعتهم، كما أن ما يرمى من المنجنيق يذهب حتى يخرب ويقتل في منعتهم.
قلنا: نعم.
ولكن المنجنيق والسهم عمل القوم بأيديهم، على معنى أن ما يحصل يكون مضافا إليهم بالمباشرة.
وأما الغرق فلا يصير مضافا إلى.(3/878)
حافر النهر بالمباشرة، وإنما عملهم هناك الحفر فقط.
وتبين هذا الفرق في فعل هو جناية.
فإن من وقف في ملك نفسه ورمى سهما إلى إنسان فقتله كان قاتلا له مباشرة مستوجبا للقصاص.
وبمثله من حفر نهرا في ملكه فغلبه الماء وانبثق على أرض جار له فغرق إلزرع، لم يكن على الحافر في ذلك ضمان.
فبهذا تبين الفرق.
والله أعلم بالصواب.(3/879)
95.
باب الانفال بالاثمان والهبات 1586 - وإذا قال الامير: من جاء برمكة فهى له بيعا بعشرة دراهم.
فذهب المسلمون وجاؤا بذلك.
فإن البيع باطل، لنهى النبي عليه السلام عن البيع (1) الغرر، وعن بيع ما ليس عند الانسان.
فإن المراد (2) بيع ما ليس في ملكه، والامير هاهنا باع ما ليس في ملكه ولا يده (3)، وهو على خطر الحصول في يد المسلمين مجهول في نفسه.
ولو كان معلوما لم يجز البيع فيه، إذا لم يكن عنده، فكيف إذا كان مجهولا ؟
1587 - ولكن إن رغب الذى جاء به أن يأخذه بذلك الثمن فعلى الامام أن يستقبل بيعا منه بذلك الثمن لانه ذكر ذلك على وجه التنفيل، والقصد تحريض المسلمين على المجئ بها.
فليس له أن يرجع عن التنفيل، بعد ما أتوا بما شرط عليهم.
ولكن يحصل مقصودهم بطريق صحيح شرعا وهو البيع ابتداء.
هامش (1) ص، ب، ه " بيع الغرر ".
هامش (2) في هامش ق " فالمراد.
نسخة ".
(3) ق " باع ما ليس في يده ولا في ملكه " وفى الهامش أثبتت الجملة كما هي أعلاه مع " نسخة حصر ".(3/880)
1588 وإن لم يرغب فيه الذى جاء به أخذه الامير منه فجعله في الغنيمة وليس على الرجل شئ من ثمنه.
لان التنفيل لمراعاة حقه، وذلك ينعدم إذا لم يرض به.
وأصل الثمن لم يكن واجبا عليه بما تقدم من السبب.
ولو كان واجبا كان له الخيار في رده.
لانه اشترى ما لم يره، فكيف إذا لم يكن البيع صحيحا أصلا.
ثم لا نفل له.
لان التنفيل كان في ضمن البيع فيبطل ببطلانه.
بمنزلة الوصية بالمحاباة.
فإنه لما ثبت في ضمن البيع بطل ببطلان البيع بالرد.
1589 وعلى هذا لو قال من جاء برمكة بعناها إياه بعشرة.
فهذا والاول سواء.
لانه وعد البيع هاهنا.
ولكن فيه معنى التنفيل.
فعليه أن يفى به إذا
رغب فيه الذى جاء بها.
1590 - ألا ترى أنه لو قال: وهبناها له أو وهبنا له نصفها، فإنه يلزمه أن يفى لمن جاء بذلك بما وعد له، إلا أنه لا يصير (ص 289) مالكا لذلك ما لم يجعلها الامير له، بخلاف ما لو قال: فهى له.
لانه إذا قال فهى له فهذا تنفيل منفذ، فبنفس الاصابة يصير له.
م 4 السير الكبير(3/881)
1591 وإذا قال: وهبناها له.
فهذا تنفيل موعود فعليه الوفاء بما وعد.
ولكن لا يثبت المال قبل أن يهبها منه، حتى لو كانت جارية وأعتقها لم يجز عتقه، وإن قال: فهى له هبة، أو فهى عليه صدقة، فذلك لمن جاء بها من غير تمليك جديد من الامير.
لان قوله: فهى له، تنفيل تام.
وقوله هبة يكون تأكيدا لقوله فهى له، فلا يتغير حكمه.
1592 وإن قال: من جاء بسيف وهبناه له، أو بعناه منه بعشرة دراهم.
فجاء رجل بذلك، ثم رأى الامام أن لا يسلمه له لشدة حاجة (1) المسلمين إليه، فلا بأس بأن يمنعه منه.
ولكن بشرط أن يعطيه قيمته إذا كان الموعود هبة، وإذا كان بيعا يعطيه قيمته، لكن يرفع من ذلك الثمن المشروط عليه.
لان التمليك موعود هاهنا غير منفذ.
والامام ناظر للكل.
فإذا رأى بالمسلمين حاجة إلى ذلك.
فلو أعطاه المشروط تضرر به المسلمون، ولو أعطاه القيمة توفر عليه مقصوده وارتفعت حاجة المسلمين من ذلك (2) العين،
فيعتدل النظر من الجانبين بهذا الطريق.
1593 وإن لم يكن بالمسلمين حاجة فليسلمه له على ما شرط.
هامش (1) ق " لا يسلمه له لحاجة المسلمين " وفى الهامش " لشدة حاجة المسلمين.
نسخة حصري ".
(2) ق " تلك ".(3/882)
لان ذلك الشرط كان على وجه التنفيل منه، فعليه الوفاء بذلك، لقوله عليه السلام " المسلمون عند شروطهم ".
1594 ولو جمعت الغنائم فقال الامير: من أخذ جبنة فعليه ثمنها درهم، ومن أخذ شاة فعليه خمسة دراهم، ومن أخذ جارية فهى له بمئة درهم.
فأخذ رجل شاة فذبحها وأكلها، وأخذ آخر جبنة فأكلها، وأخذ آخر جارية فأعتقها.
فعلى كل واحد (1) قيمة ما أخذه.
لان هذا الكلام من الامير ليس على وجه التنفيل، فإن التنفيل بعد الاصابة لا يجوز، ولكنه على وجه البيع، وهو فاسد لجهالة المبيع عند العقد.
فكل من أخذ شيئا ولم يستهلكه فللامام أن يسترده منه، لفساد البيع، أو يسلمه له بذلك الثمن بيعا مستقبلا إن رضى به المشترى.
لانه بأخذه قد تعين، فيجوز بيعه منه ابتداء، ولكن ابتداء البيع يعتمد التراضي من الجانبين، وإن استهلكها فعليه ضمان القيمة، كما هو الحكم في المشترى.
شراء فاسدا إذا استهلكه المشترى بعد القبض.
ولهذا نفذ العتق في الجارية لانه قبضها بحكم بيع فاسد فتملكها، حتى لو باعها جاز البيع وغرم قيمتها.
فكذلك إ ذا أعتقها.
فإن قيل: كيف يضمن القيمة وهو لو أكل الجبنة أو ذبح الشاة فأكلها قبل هذا كان مباحا له ؟ ولم يكن عليه ضمان في ذلك.
وكذلك لو أتلف الجارية في دار الحرب لم يكن ضامنا شيئا.
قلنا: لان قبل هذا الكلام لم يتأكد حق الغانمين فيها.
فأما بعد هذا القول فقد تأكد حق الغانمين فيها، لان البيع الفاسد معتبر بالجائز.
وبيع الامام الغنائم في دار الحرب بمنرلة الاحراز في تأكد حق الغانمين فيها.
يوضحه أنه قد تملك المأخوذ هاهنا بالاخذ بجهة العقد، ولهذا لو باعه جاز بيعه فيه.
والتمليك بعقد المعاوضة لا يكون إلا بعوض، وذلك بالقيمة هامش (1) ق " كل واحد منهم "، ب " كل واحد أخذ ".(3/883)
إذا لم يجب المسمى لفساد البيع، فأما قبل هذا القول فهو لا يتملكه بالاخذ، حتى لو باعه لا يجوز بيعه فيه.
فإذا أتلفه لم يجب عليه ضمان (1)، لان حق الغانمين لم يتأكد قبل الاحراز (ص 290).
1595 - ولو كان الآخذ لم يسمع مقالة الامير حتى أكل الشاة لم يضمن شيئا، ولو باعها لم يجز بيعه.
لانه ما أخذها على وجه البيع حين لم يسمع مقالة الامير، فكان هو بمنزلة ما لو أخذها قبل مقالة الامير.
فأما السامع فإنما أخذها على جهة البيع والملك.
1596 - وهذا بخلاف ما لو قال قبل إحراز الغنيمة: من جاء بجارية فهى له بيعا بألف درهم.
فجاء رجل بجارية فأعتقها، لم يجز عتقه.
لان ذلك البيع لم يكن منعقدا أصلا، لان البيع بدون المحل لا ينعقد لا جائزا ولا فاسدا.
وهاهنا المحل كان موجودا، ولكنه كان مجهولا حين أوجب البيع، فينعقد البيع بصفة الفساد ويثبت الملك بالقبض.
1597 - ولو قال: من جاء بشاة فهى له بيعا بدرهم.
فجاء رجل بشاة فذبحها وأكلها، لم يكن عليه فيها ضمان.
لان البيع لم يكن منعقدا هاهنا.
فكأنه أخذها قبل مقالة الامير وأكلها، فلهذا لا يضمن شيئا.
هامش (1) ب، ق " ضمانة ".(3/884)
96.
أبواب (1) سهمان الخيل والرجالة 1598 - وإذا أصاب المسلمون الغنائم فأحرزوها وأرادوا قسمتها فعلى قولى أبى حنيفة رضى الله عنه يعطى الفارس سهمين: سهما له وسهما لفرسه، والراجل سهما.
وقال: لا أجعل سهم الفرس أفضل من سهم الرجل المسلم، وهو قول أهل الكوفة والبصرة.
لان تفضيل البهيمة على الآدمى فيما يستحق بطريق الكرامة لا وجه له.
والاستحقاق باعتبار إرهاب العدو، وذلك بالرجل أظهر منه بالفرس.
ألا ترى أن الفرس لا يقاتل بدون الرجل، والرجل يقاتل بدون الفرس ؟ وكذلك مؤنة الرجل قد تزداد على مؤنة الفرس.
فالفرس يجترى (2) بالحشيش وما قيمة له.
ومطعوم الآدمى لا يوجد إلا بثمن مع أنه لا يعتبر بالمؤنة.
فإن السهم لا يستحق بالبغل والبعير والحمار.
وصاحبه يلتزم مؤنة مثل مؤنة الفرس أو أكثر، من مؤنة الفرس.
وبهذا تبين (3) أن استحقاق السهم بالفرس ثابت، بخلاف القياس بالنص.
لان الفرس آلة للحرب، وبالآلة لا يستحق السهم.
ومجرد حصول إرهاب العدو به لا يوجب استحقاق السهم به كالفيل.
ولكن تركنا القياس هامش (1) ه، ق.
ب " باب ".
(2) وكذا في ص، ق.
وفى ه، ب " يتغذى ".
(3) ق " يتبين ".(3/885)
في الفرس بالسنة، وإنما اتفقت الاخبار على استحقاق سهم واحد بالفرس، فيترك القياس فيه لكونه متيقنا.
وفيما تعارض فيه الاثر يؤخذ بأصل القياس.
وعلى قول أبى يوسف ومحمد، رحمهما الله، للفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه.
وهو قول أهل الحجاز وأهل الشام.
قال محمد: وليس في هذا تفضيل البهيمة على الآدمى.
فإن السهمين لا يعطيان (1) للفرس، وإنما يعطيان للفارس.
فيكون في هذا تفضيل الفارس على الراجل.
وذلك ثابت بالاجماع.
ثم هو يستحق أحد السهمين بالتزام مؤنة فرسه والقيام بتعاهده، والسهم الآخر لقتاله على فرسه، والسهم الثالث لقتاله ببدنه.
وقال: أرجح هذا القول.
لانه اجتمع عليه فريقان، وقد بينا أنه يرجح بهذا في مسائل الكتاب، وعلل فيه فقال: لانه أقوى مما تفرد به فريق واحد.
يعنى طمأنينة القلب إلى اجتمع عليه فريقان أظهر.
وهو نظير ما قال في الاستحقاق إذا أخبر مخبر بنجاسة الماء، وأخبر اثنان بطهارته، فإنه يؤخذ بقول الاثنين، لان طمأنينة القلب في خبر الاثنين أظهر.
ثم بين أن الآثار جاءت صحيحة مشهورة لكل قول.
وروى هامش (1) ص، ب، ه " يعطى ".
أثبتنا رواية ق: وفى هامش ق: " يعطى.
نسخة ".(3/886)
الاخبار بالاسانيد في الكتاب فالحاجة إلى التوفيق والترجيح لكل واحد من الفريقين.
فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال: أوفق بين الاخبار فأحمل ما روى أنه أعطى الفرس سهمين على أن أحد السهمين للفارس لفرسه والآخر كان من الخمس لحاجته، أو كان نفل له ذلك قبل الاصابة، أو المراد
بذكر الفرس الفارس لعلمنا أنه إنما أعطى الفارس، وعليه حمل حديث خيبر في قوله " وكانت الرجال ألفا وأربع مئة، والخيل مئتى فرس " فقال: المراد بالرجال الرجالة وبالخيل الفرسان.
قال الله تعالى: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) (1) أي بفرسانك ورجالتك.
ووجه الترجيح أن السهمين للفارس متيقن به لاتفاق الآثار عليه.
وفيما يكون مستحقا.
بخلاف القياس لا يثبت إلا المتيقن به، وهما قالا: المثبت للزيادة من الاخبار أولى من النافي.
ووجه التوفيق أن المراد بما يروى أنه أعطى الفارس سهمين بيان ما فضل الفارس به على الراجل، لا بيان جملة ما أعطاه.
ثم ذكر حديث قسمة غنائم خيبر أنها كانت على ثمانية عشر، وقال في آخر ذلك الحديث: ولم يكن قسمها النبي، إنما كانت فوضى، وكان الذى قسمها وأرفها عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه.
هامش (1) سورة الاسراء، الآية 64.(3/887)
ومعنى قوله فوضى أي متساوية.
ومنه اشتقاق المفاوضة.
قال القائل: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا (1) ومعنى قوله أرفها (2) عمر بن الخطاب أي أخرج القرعة ووضعها على كل سهم.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا سهم للرجل إلا لفرس واحد.
وإن حضر بأفراس.
وبه أخذ محمد.
لانه اجتمع (3) على هذا القول أهل العراق وأهل الحجاز.
فأما أهل الشام فيقولون بسهم لفرسين ويجعل ما وراء ذلك جنيبة.
وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله، لان المبارز قد يحتاج إلى فرسين ليقاتل عليهما ولا
يحتاج إلى أكثر من ذلك.
وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: لا يقاتل عادة إلا على فرس واحد فكأن الثاني والثالث غير محتاج إليه عادة.
وهذا نظير اختلافهم في نفقة الخادم أيضا، فإن على قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضى: لا يفرض النفقة إلا لخادم واحد من خدم المرأة.
وعند أبى يوسف يفرض لها نفقة خادمين.
وقد بينا ذلك في كتاب النكاح من " شرح المختصر ".
ثم جاءت الآثار بما يشهد لكل قول على ما رواها في الكتاب بالاسانيد والتوفيق والترجيح من كل جانب.
هامش (1) البيت للافوه الاودى العقد الفريد 1 / 308.
(2) في هامش ق " أرفها أي حددها وأعملها.
من الارفة.
وهى الحد والعلامة.
مغرب ".
(3) ب " أجمع ".(3/888)
على نحو ما ذكرنا في المسألة الاولى.
وذكر عن مالك بن عبدالله الخثعمي قال: كنت بالمدينة، فقام عثمان بن عفان رضى الله عنه فقال: هل هاهنا من أهل الشام أحد ؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين.
قال: فإذا أتيت معاوية فأمره إن فتح الله عليه أن يأخذ خمسة أسهم، ثم يكتب في أحدها الله، ثم يقرع (1)، فحيث ما وقع فليأخذه.
وفى هذا بيان أنه لا ينبغى للامير أن يتخير إذا ميز الخمس من الاربعة الاخماس، ولكنه يميز بالقرعة.
وقد دل عليه بحديث ابن عمر رضى الله عنهما قال: كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء، ثم يسهم عليها،
فما كان للنبى فهو له، ولا يتخير.
فكأن المعنى فيه أن كل أمير مندوب إلى مراعاة قلوب الرعية، وإلى نفى تهمة الميل والاثرة عن نفسه.
وذلك إنما يحصل باستعمال القرعة عند القسمة.
ولهذا تستعمل القرعة (2) في قسمة الاربعة الاخماس بين العرفاء، ثم يستعمل كل عريف القرعة في القسمة بين من تحت رايته.
فكذلك يستعمل القرعة في تمييز الخمس من الاربعة الاخماس.
هامش (1) ق " يقترع " وفى الهامش " يقرع.
نسخة ".
(2) ق " استعمل القرعة " وفى الهامش " تستعمل القرعة.
نسخة ".(3/889)
والاصل فيه ما روى (ص 292) أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه.
وقد كان له أن يسافر بمن شاء منهن بغير إقراع فإنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج.
ومع هذا كان يقرع تطييبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه.
فكذا ينبغى للامير أن يفعل في القسمة أيضا.(3/890)
97.
باب سهمان البراذين 1599 قال علماؤنا رحمهم الله البرذون في استقاق السهم به كالفرس.
وكذا الهجين والمقرف (1) وهو قول أهل العراق وأهل الحجاز.
فالفرس اسم للفرس العربي.
والبرذون للفرس العجمي (2).
والهجين ما يكون الفحل عربيا والام من أفراس العجم.
والمقترف على عكس هذا.
ثم في استحقاق السهم من الغنيمة العربي والعجمي سواء.
فكذلك في الاستحقاق بالخيل.
وهذا لان الاستحقاق بالخيل لارهاب العدو به.
قال الله تعالى (ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم) (3) واسم الخيل يتناول البراذين على ما روى أنه سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال: أو في الخيل صدقة ؟ وقال ابن عباس رضى الله عنه: الفرس والبرذون سواء.
هامش (1) في هامش ق " المقرف وبفتح الراء أيضا.
كذا بخط الحصرى ".
وفى حديث عمر رضى الله عنه في الكوادن: فما قارف منها العتاق أي قاربها في السرعة.
وأقرف الفرس أوتى الهجنة، فهو مقرف.
مغرب ".
(2) ق، ب " فرس العجم ".
(3) سورة الانفال الآية 60.(3/891)
إذا الاستحقاق بالقتال على الفرس، وأهل العلم بالحرب يقولون: البرذون أفضل في القتال عند اللقاء من الفرس.
فإنه ألين عطفا وأشد متابعة لصاحبه على ما يريد، وأصبر في القتال.
فما يفضلها العراب إلا للطلب والهرب.
ففى كل واحد منهما نوع زيادة فيما هو من أمر القتال، فيستويان، إذ الاستحقاق بالتزام مؤنة الفرس ومؤنة البرذون لا تكون دون مؤنة الفرس.
1600 - فأما أهل الشام فيقولون: لا سهم للبرذون إلا أن يكون مقاربا للفرس ويستدلون في ذلك بما روى أن أبا موسى الاشعري (1) كتب إلى عمر رضى الله عنه: أما بعد، فإنا أصبنا من خيل القوم خيلا دكا عراضا (2)، فما
يرى أمير المؤمنين في إسهامها ؟ فكتب إليه: إن ذلك يسمى البراذين.
فانظر، فما كان منها مقاربا للخيل فأسهمها سهما، وألغ ما سواها.
وهكذا روى عن عمر بن عبد العزيز فإنه قال لعامله: فإن كان برذونا رائع الجرى والمنظر فأسهم له، ولا تسهم لما سوى ذلك.
وأتى خالد بن الوليد رضى الله عنه بهجين.
فقال: لئن أستف التراب أحب إلى من أن أقسم له.
هامش (1) في ه زيادة " رضى الله تعالى عنه "، وكذا في ب " رضى الله عنه ".
(2) في هامش ق " وفى حديث الاشعري: خيلا عراضا دكا، جمع أدك، وهو العريض الظهر القصير.
مغرب " وتحتها: وفى هامش الاصل " الدك تقارب القوائم، والعراض واسعة الظهر.
حواشى ".(3/892)
وعن كلثوم بن الاقمر قال: أغارت الخيل بالشام فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكودان ضحى الغد وعليهم المنذر بن أبى حمصة الوادعى.
فقال: لا أجعل ما أدرك سابقا كما لم يدرك.
فكتب بذلك إلى عمر رضى الله عنه، فكتب إليه عمر رضى الله عنه: هبلت الوادعى أمه (1) ! لقد أذكت به، أي أتت به ذكيا.
وفى رواية: لقد أذكرته.
أي أتت به ذكرا.
فامضوها على ما قال.
إلا أنا نقول: هذه الآثار تحمل على ما لا يكون صالحا للقتال مما يعد لحمل الامتعة عليه دون القتال به.
وقد نقل ذلك مفسرا عن عمر بن عبد العزيز قال: ما كان من فرس ضرع أو بغل فاجعلوا صاحبه بمنزلة الرجالة.
ثم في حديث المنذر ما يدل على أئ الاسهام للبراذين كان معروفا بينهم.
فإن عمر تعجب من صيغة، وما تعجب إلا لانه لم يكن صنع ذلك قبل هذا.
ثم المنذر كان عاملا فحكم فيما هو مجتهد فيه، وأمضى عمر حكمه لهذا لا لان رأيه كان موافقا لذلك.
ونحن هكذا نقول: إن الحاكم إذا قضى في المجتهد بشئ فليس لمن بعده من الحكام أن يبطل ذلك.
1601 ثم قال: بعض أهل الشام: يسهم للبرذون سهما وللفرس سهمين.
وهكذا ذكر قبل ذلك (293) مفسرا في حديث المنذر.
هامش (1) في هامش ق " يقال: فلان هبلته أمه إذا مات.
ثم قالوا في دعاء السوء: هبلتك أمك.
ثم استعمل في التعجب كقاتله الله، وتربت يداك.
فقول عمر رضى الله عنه: هبلت الوادعى أمه مدح له وتعجب منه.
ألا يرى إلى قوله: لقد أذكرت به.
أي جاءت به ذكرا شهما داهية.
مغرب ".(3/893)
وقال بعضهم: لا يسهم للبرذون أصلا.
كما ذكره في حديث خالد بن الوليد.
وقال: صاحب البرذون بمنزلة صاحب الحمار والبغلة.
1602 وذكر عن عمر رضى الله عنه قال: إذا جاوز الفرس الدرب ثم نفق أسهم له.
وبه أخذ علماؤنا فقالوا: معنى إرهاب العدو يحصل بمجاوزة الدرب فارسا، فإن الدواوين إنما تدون، والاسامى إنما تكتب عند مجاوزة الدرب.
ثم ينتشر الخبر في دار الحرب بأنه جاوز كذا كذا فارس وكذا كذا راجل.
فلحصول معنى الارهاب به يستحق السهم.
ولا يعارض هذا ما روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
لان عندنا من نفق فرسه بعد مجاوزة الدرب فإنما يأخذ الغنيمة إذا شهد الوقعة.
على أن دخول دار الحرب فارسا بمنزلة شهود الوقعة فارسا، ولذلك جعلنا للمدد شركة مع الجيش في المصاب وإن لم يشهدوا الوقعة.
وهذا لان إعزاز الدين يحصل بدخول دار الحرب على قصد الجهاد.
قال على رضى الله عنه: ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا (1) هامش في هامش ق " وعقر الدار، بالفتح والضم أصل المقام الذى عليه معول القوم.
ومنه حديث على رضى الله عنه: ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
مغرب ".(3/894)
1603 ولا يسهم عندنا لصبى ولا لامرأة ولا لعبد ولا لذمى وإنما يسهم للمقاتلة من أحرار المسلمين، أو لم يقاتلوا.
ويرضخ لمن سواهم إذا قاتلوا، وللنساء إذا خرجن لمداوة الجرحى والطبخ والخبز للغزاة.
وأهل الشام يقولون يسهم للمرأة والصبى العبد.
واستدلوا فيه بحديث مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم حنين للنساء والصبيان.
وفى صحة هذا الخبر نظر والمشهور أن القسمة يمئذ كانت على ألف وثمانماية سهم، فكان الرجال ألفا وأربع مئة، والخيل مئتى فرس، لم يذكر في ذلك امرأة ولا صبى.
ولو كانوا لكان ينبغى أن يقال: كانت الرجال كذا وكذا، والصبيان كذا، والنساء كذا، لاستحالة أن يقال ذكرت الخيل ولم تذكر النساء والصبيان.
والدليل على ضعف الحديث ما اشتهر من قول الكبار من الصحابة، فإن عمر رضى الله عنه كان يقول: ليس للعبد في المغنم نصيب.
1604 وقال ابن عباس: لا يسهم للنساء ولكن يخدين (1)
من الغنائم أي يعطى لهن رضخا.
هكذا رواه سعيد بن المسيب عن رسول الله عليه السلام.
وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يسهم للعبيد والصبيان.
هامش (1) في هامش ق " الخديا العطية.
وأخذيته لغة مغرب ".(3/895)
وعن فضالة بن عبيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسهم للمملوكين.
وروى أن شقران غلام النبي عليه السلام شهد بدرا معه فلم يسهم له، واستعمله على الاسارى فجزاه (1) كل رجل من الاسارى، حتى كان حظه كحظ رجل من الثمانية من بنى هاشم، وقد سماهم في الكتاب.
وعن عمير مولى أبى اللحم قال: شهدت خيبر وأنا مملوك، فلم يسهم لى رسول الله عليه وسلم وأعطاني من خرثى (2) المتاع.
فبهذا تبين أن المراد بالحديث أنه رضخ لهولاء يوم خيبر.
وبه نقول أنه يرضخ لهم.
وهذا لانهم أتباع، ولا يسوى بين التبع والمتبوع في الاستحقاق، بخلاف الخيل فإنه لا يستحق شيئا، وانما المستحق صاحبه، فلا يتحقق فيه معنى المساواة بين التبع والمتبوع.
وكذلك (ص 294) أهل الذمة أتباع، فإن فعلهم لا يكون جهادا فيرضخ لهم ولا يسهم، إلا أن عطاء كان يقول: إن خرج الامام بهم كرها فلهم أجر مثلهم.
وابن سيرين كان يقول: يضع عنهم الجزية.
ومرادهم من ذلك بيان الرضخ أنه يكون بحسب العناء والقتال.
وكان الزهري يقول: يسهم لهم كما يسهم للمسلمين.
وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزى بأناس من اليهود فجعل سهمانا مثل سهمان المسلمين.
ولاجل هذا الاختلاف قال محمد رحمه الله: هامش (1) في ب " فخذاه " وفى هامش ق " فخداه.
نسخة ".
(2) في هامش ق " الخرثى متاع البيت.
وعند الفقهاء سقط متاعه.
ومنه حديث عمر: أعطاه من خرثى المتاع، يعنى الشفق منه.
هكذا جاء موصولا وهو الردئ من كل شئ.
يقال ثوب شفق أي ردئ رقيق.
مغرب ".(3/896)
1605 ولو واليا جعل لهؤلاء السهم كما للمسلمين نفذ حكمه، حتى لو رفع إلى وال آخر يرى خلافه فعليه أن يمضى ذلك الحكم، وليس له أن يبطله.
لانه أمضى الحكم في فصل مجتهد به والحكم في المجتهدات نافذ بالاجماع ففى إبطاله مخالفة الاجماع وذلك لا يجوز.
1606 ولا يسهم للاجير الذى يستأجره غاز فيخدمه لانه أخذ على خروجه مالا فلا يستوجب لهذا الخروج شيئا من الغنيمة.
والاصل فيه ما روى أن عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه استأجر أجيرا بثلاثة دنانير، فلما طلب سهمه من الغنيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه الدنانير حظك في الدنيا والآخرة.
وعن عكرمة أن أجيرا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة.
فلم يسهم له شيئا.
وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه يسهم للاجير.
وتأويل هذا أنه إذا قاتل وترك العمل الذى استأجره فإنه لا يستحق الاجر في ذلك الوقت، فيستحق السهم، وإذا لم يفعل ذلك فهو يستحق الاجر فلا يستحق (1) السهم، وحاله كحال التاجر في العسكر: إن قاتل استحق
السهم، وإن لم يقاتل لا يستحق السهم.
والله أعلم.
هامش (1) في هامش الاصل "..قراءة عليه حفظه الله تعالى ".
م 5 السير الكبير(3/897)
98.
باب سهمان الخيل في دار الحرب قد بينا أن من نفق فرسه بعد مجاوزة الدرب فهو يستحق سهم الفرسان.
1607 قال: ألا ترى أنه لو عقر فرسه في القتال أو قتل استحق سهم الفرسان.
وإن كانت إصابة الغنائم بعد ذلك في حال ما كان هو راجلا.
وكذلك لو أخذ العدو فرسه وأحرزوه.
إذ لو قلنا يحرم سهم الفرس بهذا امتنع الناس من القتال على الخيل مخافة أن تبطل سهامهم بها.
وإنما ينبغى للامام أن يفعل ما فيه زيادة تحريض للمسلمين.
ثم الاستحقاق بالتزام مؤنة الفرس في دار الحرب على قصد القتال لا بمباشرة القتال فارسا.
ألا ترى أن قتالهم لو كانت في المغائض (1) أو على أبواب الحصون أو في السفن، فإن من كان فارسا منهم استحق سهم الفرسان ؟ وقد هامش (1) ه، ب، ق " المضايق " وفى هامش ق " المغائض، نسخة حصيرى ".(3/898)
أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين للفرسان وكانت (1) حصونا افتتحوها بالقتال رجالة.
فعرفنا أن المعتبر التزام مؤنة الفرس في دار الحرب لا القتال عليه.
1608 ولو ضن بفرسه فربطه في المعسكر على آرى (2) فقاتل راجلا استحق سهم الفرسان.
فإذا أصيب فرسه في القتال لان يستحق سهم الفرسان كان أولى.
1609 ولو دخل دار الحرب راجلا ثم اشترى فرسا فقاتل فارسا لم يستحق سهم الرجالة.
وفى رواية ابن المبارك رحمه الله يستحق سهم الفرسان.
لانه التزم مؤنة الفرس في دار الحرب للقتال عليه.
ولان مجاوزة الدرب بمنزلة القتال حكما.
فإذا كان يستحق به سهم الفرسان فلان يستحق بحقيقة القتال فارسا كان أولى.
ووجه ظاهر الرواية أن انعقاد (ص 295) سبب الاستحقاق يكون مجاوزة الدرب، وقد انعقد له سبب استحقاق سهم الراجل، فلا يتغير بعد ذلك.
وهذا لانه يشق على الامام مراعاة حال كل واحد من الغزاة في كل وقت، فيجب اعتبار حال مجاوزة الدرب تيسيرا، لان العادة أن عرض الجيش عند ذلك يكون في حال الدخول والخروج.
فمن أثبت فارسا في الديوان هامش (1) ق " كان " وفى هامشها " كانت.
نسخة ".
(2) ق " أرية ".
والآرى المعلف.
كما في المغرب.
وفى هامش ق " الآرية الاخية.
وهى عروة حبل تشد إليها الدابة في محبسها، (فاعول) من تأرى المكان إذا أقام فيه.
مغرب ".(3/899)
عند ذلك سهم الفرسان وإن تغير حاله.
ومن أثبت في ديوان الرجالة لا يستحق إلا سهم راجل وإن تغير حاله.
1610 فإن دخل بفرس لا يستطاع القتال عليه لضعف كبر،
أو مهر لم يركب، لم يضرب له بسهم فارس.
لان ما دخل به ليس بصالح للقتال عليه.
فعرفنا أنه دخل راجلا، وحال دون حال من دخل ببغلة أو حمار أو بعير.
وقد بينا أنه لا يسهم له إلا سهم راجل.
1611 فإن كان الفرس مريضا لا يستطاع القتال عليه حين قتل به فلم يغنم المسلمون غنيمة حتى صح الفرس، ففى القياس له سهم راجل.
لانه عند مجاوزة الدرب لم يكن معه فرس صالح للقتال عليه، وإنما صار بعد ذلك حين صح، فيجعل كما لو اشترى فرسا في هذه الحالة، أو دخل بمهر ثم طال مقامهم (2) حتى صار بحال يركب.
ولكنه استحسن فقال: 1612 يضرب له بسهم فارس في كل غنيمة أصابوها قبل برئه أو بعد برئه.
لانه ما دخل بهذا الفرس إلا للقتال عليه، وما التزم مؤنته إلا ذلك.
فإنه كان صالحا للقتال عليه، إلا تعذر ذلك بعارض على شرف الزوال.
فإذا زال صار كأن لم يكن.
بخلاف المهر، فإنه ما كان صالحا للقتال عليه، هامش (1) ق لا يستطيع " وفى هامشها " لا يستطاع.
نسخة ".
(2) في هامش ق " وطال المقام.
نسخة ".(3/900)
وإنما صار صالحا لذلك ابتداء في دار الحرب، فيكون حاله كحال من اشترى فرسا في دار الحرب.
والذى يوضح هذا (1) الفرق أن الصغيرة لا تستوجب النفقة على (2) زوجها، لانها لا تصلح لخدمة الزوج، والمريضة التى لا يجامع مثلها لا تستوجب
النفقة عليه، لانها كانت صالحة لخدمته، وإنما تعذر ذلك بعارض على شرف الزوال.
فكذلك الفرس إذا ضلع (3) أو مرض عند مجاوزة الدرب، بخلاف ما إذا كان ضعفه لكبر، فإن ذلك ليس على شرف الزوال.
1613 ولو أن مسلما دخل دار الحرب فارسا فقتل فرسه وأخذ أسيرا قبل أن تصاب الغنائم، ثم أصاب الجيش الغنائم فلم يخرجوها حتى انفلت فلحق بهم، فله سهم الفرسان.
لانه انعقد له بسبب الاستحقاق معهم عند مجاوزة الدرب، وشاركهم في إحراز الغنائم بدار 0 الاسلام فيجعل في الحكم.
كأنه لم يفارقهم.
لانه ابتلى بمفارقتهم بعارض على شرف الزوال فإذا زال صار كأن لم يكن.
1614 - ولو كان خرج ذلك الجيش ودخل جيش آخر فانفلت إليهم راجلا، ثم أصابوا غنائم بعد ما لحق بهم، فله في ذلك سهم راجل، ولا يشركهم فيما أصابوا قبل أن يلتحق بهم.
هامش (1) هذا ساقطة من ق.
(2) ق " في زوجها ".
(3) في هامش ق " الضلع بفتحتين الاعوجاج.
مغرب ".(3/901)
لانه ما انعقد له سبب الاستحقاق معهم، وقد تم ذلك السبب الذى انعقد له بخروج ذلك الجيش إلى دار الاسلام، ولم يكن هو معهم، فبطل ذلك الاستحقاق.
ثم قد انعقد له باللحوق بالجيش الثاني سبب الاستحقاق الآن ابتداء، فيعتبر حاله في هذا الوقت.
1615 - فإن لحق بهم راجلا استحق سهم الفرسان.
بمنزلة من أسلم في دار الحرب والتحق بالجيش، أو كان تاجرا مستأمنا في دار الحرب فالتحق بالجيش.
ولهذا لا شركة له فيما أصيب قبل ذلك.
لان سبب الاستحقاق ما كان منعقدا له حين أصيب ذلك.
1616 - إلا أن يبتلى المسلمون بقتال فيقاتل (1) معهم عن ذلك، (ص 296) فحينذ يستحق الشركة فيهم بسهم راجل إن التحق بهم راجلا، وبسهم فارس إن التحق بهم فارسا على فرس اشتراه من أهل الحرب أو وهبوه له.
لان ذلك الفرس له على الخلوص (2) فيكون به فارسا.
1617 - وإن كان أخذ ذلك الفرس من أهل الحرب بغير طيب أنفسهم فهو راجل، وذلك الفرس يكون فيئا.
لانه أحرزه بمنعة الجيش، فكان من جملة الغنيمة، ويشاركه فيه الجيش، وهو لا يكون فارسا بفرس هو من الغنيمة.
هامش (1) ه، ب " فقاتل ".
(2) ه " على سبيل الخصوص "، ق " على سبيل الخلوص " ووافقت ب الاصل.(3/902)
ألا ترى أنه لا يكون له أن يقاتل على ذلك الفرس ؟ 1618 - ولو كان ارتد (1) ولحق بالعدو، ثم أسلم ولحق بالعسكر، فهو بمنزلة الاسير، والذى أسلم في دار الحرب في جميع ما ذكرنا.
1619 - فإن لم ينتهوا إلى العسكر حتى نفقت (2) خيولهم فهم رجالة.
لان حالة اللحوق بالعسكر في حقهم بمنزلة مجاوزه الدرب في حق من دخل دار الاسلام.
إلا أن يكونوا قد قربوا من العسكر بحيث يكون العسكر ردءا
لهم يغيثونهم إن طلبوا الغياث، ثم نفق الفرس فحينئذ يستحقون سهم الفرسان.
لانهم وصلوا إلى العسكر فرسانا، فكأنهم خالطوهم.
ثم نفقت أفراسهم بعد ذلك.
1620 - ولو دخل مسلم دار الحرب بأمر (3) الامام فارسا على إثر العسكر فنفق فرسه ثم أدركهم راجلا يضرب له بسهم فارس.
لانه دخل دار الحرب غازيا على فرس، فذلك بمنزلة لحوقه بالجيش في استحقاق أصل الشركة، على مابينا أن المدد بمنزلة من شهد الوقعة في استحقاق السهم، فكذلك في صفة الاستحقاق.
وهذا مدد حين دخل بإذن الامام.
هامش (1) ق، ه " ارتد والعياذ بالله ".
(2) نفق الرجل والدابة نفوقا ماتا (القاموس).
(3) ه، ب " بإذن ".(3/903)
1621 - فإن كان الامام نهى الناس أن يدخلوا بعد العسكر والمسألة بحالها فإنما ينظر الآن إلى حاله يوم لحوقهم (1).
لانه دخل لصا مغيرا، وما دخل غازيا حين دخل بغير إذن الامام.
ألا ترى أنه لو أصاب وحده شيئا لم يخمس ذلك، بخلاف من دخل بإذن الامام.
وأن هذا لا يشارك الجيش فيما أصابوه قبل أن يلتحق بهم، بخلاف الاول، فيكون حال هذا كحال الاسير، والذى أسلم في دار الحرب، في أنه يعتبر حاله وقت اللحوق لانه صار غازيا حينئذ.
1622 ولو أن التجار في عسكر من المسلمين أو من أهل الذمة
كانوا فرسانا فقاتلوا مع المسلمين فإنما ينظر إلى حالهم حين قاتلوا.
لان سبب الاستحقاق ينعقد لهم ابتداء في هذا الوقت.
فإنهم كانوا تجارا قبل ه 0 ذا لا غزاة.
فمن كان من المسلمين في هذه الحالة فارسا استحق سهم الفرسان، ومن كان من أهل الذمة فارسا استحق الرضخ بحسب ذلك، ومن كان منهم راجلا استحق الرضخ بسبب ذلك.
1623 ولو أسلموا ثم قاتلوا معهم فإنما يعتبر حالهم في صفة استحقاق السهم حين قاتلوا معهم.
لان حالهم كحال الاسراء والذين أسلموا من أهل الحرب من حيث أن سبب الاستحقاق ينعقد لهم الآن.
1624 ولو لحقوا بالعسكر وهم على دينهم، فجعلوا يقاتلون هامش (1) ق، ب " يوم لحقهم ".(3/904)
معهم، ثم أسلموا، فمن كان منهم فارسا حين لحقوا بالمسلمين فله سهم الفرسان، ومن كان منهم راجلا فله سهم الرجالة.
وكذلك لو دخلوا من دار الاسلام مع الجيش للقتال فرسانا أو رجالة، ثم أسلموا قبل إصابة الغنائم أو بعدها، فمن كان منهم راجلا حين دخل استحق سهم الرجالة، ومن كان منهم فارسا استحق سهم الفرسان.
وقد طعنوا في هذين الفصلين وقالوا: قبل الاسلام ما انعقد لهم سبب استحقاق السهم، لانهم ليسوا بأهل لذلك.
وانعقاد السبب بدون أهلية المستحق لا يكون، فينبغي أن يعتبر حالهم بعد الاسلام لا حال مجاورة الدرب وحال اللحوق بالجيش (ص 297) إذا كانوا في دار الحرب.
ولكن ما ذكره في الكتاب أصح.
لانهم من أهل أن يستحقوا شيئا من الغنيمة.
ألا ترى أن قبل الاسلام يستحقون الرضخ، وذلك شئ من الغنيمة.
فيه يتبين انعقاد سبب الاستحقاق لهم عند اللحوق بالجيش أو مجاوزة الدرب على قصد القتال.
ثم إذا أسلموا قبل تمام الاستحقاق بإحراز الغنائم بدار الاسلام، يجعل بمنزلة مالو كانوا مسلمين عند ابتداء السبب في صفة الاستحقاق، لان الصفة تتبع الاصل فيبنى عليه.
وعلى هذا ل 0 ودخلوا مددا للجيش بأذن الامام ثم أسلموا قبل أن يلحقوا الجيش أو بعد ما لحقوهم، قبل الاحراز.
1625 - ولو أن عبدا دخل دار الحرب مع مولاه فارسا يريد القتال بإذن مولاه، فغنموا غنائم، ثم أعتقه مولاه، ووهب له ذلك(3/905)
الفرس، غنائم بعد ذلك، فإنه يرضخ لمولاه مما غنم المسلمون قبل أن يعتق العبد، ولا يبلغ بذلك الرضخ سهم فارس، ولا بأس بأن يزاد على سهم الراجل.
لان العبد في حكم الرضخ كالذمي، ولا يبلغ برضخ الذمي إذا كان فارسا سهم فارس من المسلمين.
لانه لا يوجد في أهل الذمة مقاتل إلا وفى المسلمين من هو أقوى منه.
فكذلك حال العبد.
إلا أنهما يفترقان من حيث إن المستحق للعبد، وهو الرضخ، لا يتغير بعنقه فيما أصيب قبل ذلك والمستحق للذمي يتغير حين يستحق السهم في جميع ذلك، لان بإسلام الذمي لا يتبدل المستحق، فهو المستحق للسهم والرضخ جميعا، فيمكن أن يجعل إسلامه كالموجود عند ابتداء السبب.
وبعتق العبد يتبدل المستحق، لان الرضخ يكون لمولاه مستحقا بالعبد، كما يكون السهم مستحقا له بالفرس.
وبعد العتق الاستحقاق للعبد.
فلا يمكن
أن يجعل العتق كالموجود عند ابتداء السبب، لان ذلك يبطل استحقاق المولى أصلا.
ولهذا المعنى قلنا يبقى حكم الرضخ فيما أصيب قبل عتقه، وفيما يصاب بعد العتق يكون للعبد سهم الفرسان، لانه كان فارسا عند انعقاد أصل السبب، وإن كان الفرس لغيره، بمنزلة من دخل فارسا على فرس عارية، أو هو بعد العتق حين وهب له المولى الفرس، بمنزلة من التحق بالعسكر فارسا من أسير أو تاجر فيستحق سهم الفرسان.
1626 - قال: وكذلك الذمي والمكاتب يدخلان فارسين.
ثم يصيب المسلمون غنائم، ثم يعتق المكاتب ويسلم الذمي، ثم يصيبون غنائم بعد ذلك، فإنه يرضخ لهما في الغنيمة الاولى رضخ فارسين ويعطيان بعد العتق والاسلام سهمي فارسي 0 ن.(3/906)
وهذا الجواب غير صحيح في الذمي.
فقد أجاب قبل هذا أن له السهم في جميع ذلك، وهذا مخالف وهو تناءقض بين.
وإنما يقع مثل هذا الغلط من الكتاب.
ولصحيح في حق الذمي الجواب الاول لما بينا من المعنى.
فأما في حق المكاتب: فمنهم من يقول: الجواب أيضا غير صحيح.
لان المكاتب هو المستحق.
لكسبه دون مولاه، فبعتقه لا يتبدل المستحق بل يكون حاله كحال الذمي وقد نص عليه بعد هذا في الباب في الموضعين بخلاف العبد.
ومنهم من يقول: بل هو صحيح لان كسب المكاتب دائر بينه وبين مولاه، لكل واحد منهما فيه حق الملك.
ألا ترى أنه ينقلب حقيقة ملك المولى بعجز المكاتب فيثبت معنى تبدل
المستحق بعتقه من هذا الوجه ؟ فلهذا يعتبر الرضخ فيما كان قبل العتق.
وأما بعد العتق فله سهم الفارس (ص 298)، وإن لم يكن الفرس ملكا له حقيقة حين دخل دار الحرب، لان له ملك اليد في مكاسبه، فلا يكون فرسه دون الفرس المستعار.
1627 ولو جعل راجلا بعد العتق أدى (1) إلى أن يكون استحقاقه بعد العتق دون استحقاقه قبله.
لان رضخ الفارس قد يزداد على سهم الرجل.
ومعلوم أن العتق يزيده خيرا لا شرا.
فعرفنا أنه يستحق سهم الفارس بعد العتق.
1628 ولو كان العبد غير مأذون في القتال، وإنما دخل للخدمة مع مولاه فقاتل، فلا شئ له في القياس.
لانه ليس من أهل القتال، وإنما يصير أهلا له عند إذن المولى، فيكون حاله كحال الحربى المستأمن إن قاتل بإذن الامام استحق الرضخ، وإلا فلا هامش (1) ه، ب " ادعى ".(3/907)
1629 وفى الاستحسان يرضخ له.
لانه غير محجور عن الاكتساب، وعما يتمحص منفعته، واستحقاق الرضخ بهذه الصفة.
فيكون هو كالمأذون فيه من جهة المولى دلالة.
وهو نظير القياس والاست 0 حسان في العبد المحجور إذا أجر نفسه وسلم من العمل.
ثم بين أن: 1630 - المكاتب لا ينبغى له أن يغزو إلا بإذن مولاه كالقن.
لانه في الغز يعرض نفسه للخطر، وهو مملوك للمولى، فلا يجوز له أن يخاطر بنفسه بغير إذنه كالعبد، بخلاف الخروج للتجارة إلى دار الحرب، فإن ذلك من باب الاكتساب، فيلتحق هو بالحر.
وإن شرط عليه مولاه في الكتابة أن لا يخرج إلى دار الحرب فإن شرطه لغو.
وقد بيناه في كتاب
المكاتب.
1631 - فإن قاتل بغير إذن مولاه وأبلى بلاء فإنه يرضخ له على قدر بلائه، إن كان فارسا أو راجلا.
لان هذا كان اكتسابا للمال، وعند الكتابة يطلق ذلك له.
فإذا ثبت في حق المكاتب فهو كذلك في حق العبد إذا قاتل بغير إذن مولاه.
1632 - ولو أن عبدا دخل دار الحرب مع مولاه فأعتقه ووهب له فرسا، ثم لحق بالجند، فإنما يعتبر حاله حين لحق بهم.
فإن كان فارسا فله سهم الفرسان، وإن كان راجلا فله سهم الرجالة فيما يصيبون بعد ما يلحق بهم، ولا شركة له فيما أصابوا قبل ذلك إلا أن يقاتل معهم.(3/908)
لان سبب الاستحقاق ما انعقد له حين دخل لا على قصد القتال، وإنما ينعقد له السبب حين يلتحق بالجيش، فيكون حاله كحال التاجر والذى أسلم في دار الحرب.
1633 - ولو كان مكاتبا حين دخل فأعتقه المولى، أو أدى بدل الكتابة قبل أن يخرجوا إلى دار الاسلام، فإنما ينظر إلى حاله حين دخل.
فإن كان فارسا استحق سهم الفرسان فيما أصابوا قبل عتقه وبعده.
لان دخوله كان على قصد القتال، سواء أذن له المولى في الغزو أو لم يأذن.
إذ لا خدمة للمولى عليه.
وقصده إلى القتال يكون معتبرافى حقه، فانعقد له السبب بالدخول.
وقد كمل حاله قبل تمام الاحراز، فيلتحق بما لو كان كامل الحال عند الدخول.
وبهذا تبين أن ما ذكر من الجواب قبل هذا في المكاتب غلط من المكاتب.
1634 - فإن لم يعتق حتى قسمت الغنائم أو بيعت، فليس له في تلك الغنائم إلا الرضخ.
لان الحق تأكد فيها قبل كمال حاله، فإن القسمة والبيع في تأكد الحق في الغنيمة كالاحراز.
ولهذا ينقطع بها شركة المدد.
فيكون هذا وما لو عتق بعد (1) الاحراز بدار الاسلام سواء.
والرضخ الواجب يكون له لانه كسب المكاتب، فيسلم له بعد العتق.
1635 - وإن خاصمه مولاه في دار الحرب في المكاتبة (ص 299) يفسخ القاضى الكتابة.
لانه أخل ببعض النجوم.
هامش (1) ق " قبل الاحراز ".(3/909)
وفى القياس لا يستحق شيئا إن كان دخل بغير إذن مولاه.
لان الكتابة لما انفسخت صارت كأن حاله كحال العبد الداخل بغير إذن مولاه على قصد القتال.
وقد بينا أن هناك في القياس لا يستحق الرضخ، وفى الاستحسان يستحق ويكون ذلك لمولاه فهذا مثله.
1636 - ولو مات عاجزا أو عن وفاء، فأن كان ذلك قبل قسمة الغنائم أو الاخراج (1) لم يكن له ولا لمولاه من ذلك شئ، وإن أذيت كتابته.
لان استحقاق الرضخ لا يكون أقوى من السهم، وموت الغازى قبل الاحراز والقسمة يبطل سهمه من الغنيمة.
فموت المكاتب أولى.
وإن كان ذلك بعد القسمة أو البيع والاخراج (1) فله نصيبه منها.
كما لو مات الحر في هذه الحالة، إلا أنه إذا مات عاجزا كان ذلك لمولاه،
إلا أن يكون وفاء بالمكاتبة، فيقبضه المولى من مكاتبه ويحكم بحريته.
وإن كان مات عن وفاء فذلك لورثته.
فإن قيل: عتقه يستند إلى حال حياته، فعلى هذا ينبغى أن يستحق السهم.
بمنزلة ما لو عتق قبل الاحراز في حياته.
قلنا: على إحدى (2) الطريقين لا يستند عتقه، وإنما يجعل هو حيا حكما إلى وقت أداء بدل الكتابة.
وعلى الطريق الاخرى (3) هذا الاسناد لاجل هامش (1) ق، ه " الاحراز " وفى هامش ق " الاخراج.
نسخة حصيرى ".
(2) ق، ب، ه " احد ".
(3) ق، ب، ه " الآخر ".(3/910)
الضرورة.
فلا يظهر فيما وراء ما تحققت فيه الضرورة وهو حكم الكتابة.
فأما استحقاق السهم فليس من ذلك في شئ.
1637 ولو كان عبدا مأذونا له في القتال أو غير مأذون فمات قبل الاحراز والقسمة فلا شئ لمولاه من ذلك، اعتبارا بموت من له سهم.
فإن قيل: استحقاق الرضخ هاهنا للمولى بسبب عبده كاستحقاق السهم للفارس بفرسه.
ثم بموت الفرس في دار الحرب لا يبطل سهم الفارس فكذلك بموت العبد ينبغى أن لا يبطل حق المولى في الرضخ.
قلنا: لا كذلك، ولكن الاستحقاق للعبد هاهنا، ثم يخلفه المولى في ملك المستحق كما يخلفه في سائر أكسابه.
وهذا لان العبد آدمى مخاطب، وهو من أهل أن ينعقد له سبب الاستحقاق على أن يخلفه مولاه في ملك المستحق.
ألا ترى أنه لو مات العبد بعد مجاوزة الدرب قبل القتال لم يستحق مولاه
الرضخ ؟ بخلاف الفرس، وإن كان موته بعد الاحراز والقسمة فرضخه يكون لمولاه.
لان سبب استحقاقه قد تأكد، فلا يبطل بموته، ولكن يخلفه مولاه فيه كما يخلف الوارث المورث.
1638 وإن باعه مولاه قبل الاحراز فإنه لا يبطل رضخه.
لانه لم يخرج من أن يكون أهلا للاستحقاق، وإن تحول الملك فيه من شخص إلى شخص فيكون رضخه لمولاه الاول.
أما إذا باعه بعد الاحراز فظاهر، وأما قبله فلان سبب الاستحقاق انعقد له في ملك المولى الاول.
ويثبت أصل الاستحقاق بالاصابة، فلا يبطل حق المولى فيه ببيعه كما في سائر أكسابه.
ألا ترى أن المأذون إذا اشترى شيئا بشرط الخيار، ثم باعه مولاه فإن المشترى يكون للبائع دون المشترى.(3/911)
1639 فإن غنموا غنيمة أخرى بعد ما باعه مولاه فنصيبه من الغنيمة الثانية للمشترى.
لان الاستحقاق إنما يثبت له عند الاصابة (1) وعند ذلك هو ملك المشترى فيخلفه المشترى في الملك المستحق.
1640 ولو كان حرا دخل دار الحرب عاقلا ثم صار معتوها قبل الاحراز فإنه لا يمنع نصيبه من الغنيمة.
لانها أحرزت (ص 300) وهو حى من أهل الاستحقاق، وإن كان معتوها.
بخلاف ما إذا مات قبل الاحراز.
1641 ولو لم يصر معتوها ولكنه ارتد (2) وخرج مع المسلمين، فإن أبى أن يسلم حتى قتل فإن نصيبه لورثته المسلمين، يرضخ
له من ذلك رضخا كما يصنع بالذمي.
لان المرتد بمنزلة الكافر الاصلى.
وإنما أحرزت الغنائم وهو أهل لاستحقاق الرضخ دون السهم، لكونه من أهل دارنا.
قال: وهذا يدلك على أن الذمي إذا أسلم، أو عتق المكاتب قبل إحراز الغنائم أنه يضرب لهما بسهم كامل.
لانه إنما ينظر إلى حالهما يوم تحرز الغنائم بالدار أو تقسم أو تباع.
وبهذا تبين أيضا أن جوابه الاول في الذمي والمكاتب جميعا غلط كما بينا.
هامش ق " عند إصابته " وفى الهامش " عند الاصابة.
نسخة ".
(2) في ق " ارتد والعياذ بالله ".(3/912)
1642 ولو لحق بدار الحرب مرتدا بعد إصابة الغنيمة ثم رجع مسلما قبل الاحراز أو بعده فليس له من ذلك شئ.
لانه التحق بحربى الاصل (1)، والحربي إذا أسلم ولحق بالجيش بعد الاحراز أو قبله ولكن لم يلقوا قتالا بعد ذلك، لم يكن له شركة في المصاب، فالمرتد مثله.
وكيف يستحق الشركة في غنائم المسلمين وقد صار بحال لو أصيب ماله كان فيئا، ولو أخذ من الغنيمة شيئا فأحرزه ثم أسلم كان له.
فعرفنا أنه صار كحربي الاصل.
1643 ولو لم يلتحق بدار الحرب بعد الردة حتى أحرزت الغنائم أو قسمت أو بيعت فنصيبه منها ميراث لورثته.
لان حقه قد تأكد فيها، فهو كسائر أمواله.
ولحاقه في هذه الحالة بدار الحرب مرتدا كموته.
1644 - ولو لم يرتد ولكن المشركين أسروه قبل الاحراز ولم
يقتلوه فإنه ينبغى للمسلمين أن يعزلوا نصيبه فيما غنموا قبل أن يؤسر.
لان حقه ثبت فيه، وبالاسر لم يخرج من أن يكون أهلا لتقرر حقه بالاحراز.
ولا شئ له فيما غنموا (2) بعد ما أسر.
لان المأسور في يد أهل الحرب لا يكون مع الجيش حقيقة، ولا حكما.
فهو لم يشاركهم في إصابة هذا ولا في إحرازه بالدار.
هامش (1) ق، ه " بالحربي الاصل ".
واتفقت ص وب.
(2) في هامش ق " مما غنموا.
نسخة ".
م - 6 السير الكبير(3/913)
1645 - فإن لم يدر ما فعلوا به حين أسر قسمت الغنائم ولم يوقف له منها قليل ولا كثير.
لان تمام الاستحقاق إنما يكون بالاخراج (1).
والمفقود كالميت فيما يستحقه ابتداء، حتى إذا مات قريب له لم يرثه، ولم يوقف لاجله شئ.
فهذا مثله.
1646 - وإن قسمت الغنائم ثم جاء بعد ذلك حيا مسلما لم يكن له شئ.
لان حق الذين قسم بينهم قد تأكد بالقسمة وثبت ملكهم فيها.
ومن ضرورته إبطال الحق الضعيف.
1647 - وإن بيعت الغنائم أو أخرجت وتخلف هو في دار الحرب لحاجة بعض المسلمين فأسر، فإنه يوقف نصيبه حتى يجئ فيأخذه، أو يظهر موته فيكون لورثته.
لان حقه قد تأكد في المصاب بالاحراز في البيع، فيكون الحكم فيه ما هو الحكم في مال المفقود.
هامش ه " بالاحراز " وجميع النسخ " بالاخراج ".(3/914)
99.
باب سهمان الخيل في دار الاسلام والشركة في الغنيمة 1648 - ولو أن جيشا من دار الحرب دخلوا دار الاسلام، فقاتلهم المسلمون حتى ظفروا بهم، فإنما الغنيمة لمن شهد الوقعة.
هكذا روى عن عمر رضى الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
وهذا لان الاستحقاق بالجهاد، والمجاهد في دار الاسلام من شهد الوقعة خاصة.
بخلاف ما إذا دخل المسلمون دار الحرب، فهناك للمدد شركة في المصاب وإن لم يشهدوا الوقعة.
لانهم دخلوا دار الحرب على قصد الجهاد وكانوا مجاهدين بذلك.
ولان دار الحرب موضع القتال (ص 301) فكل من حصل في دار الحرب على قصد القتال يجعل في الحكم كمن شهد الوقعة.
ودار الاسلام ليس بموضع القتال، فانما المقاتل فيها من شهد الوقعة خاصة.
وهو بمنزلة ما لو وقف في المسجد بالبعد من الامام واقتدى به، فانه يصح الاقتداء، لان المسجد مكان الصلاة، فيجعل هو كالواقف خلف الامام، بخلاف ما إذا كان في الصحراء.
1649 ولو أن عسكرا من المسلمين افتتحوا بلدة وصيروها دار الاسلام ثم لحق بهم (1) مدد قبل قسمة الغنائم فلا شركة لهم في المصاب.
هامش (1) كذا في ق.
وفى هامشها " لحقهم.
نسخة ".(3/915)
لان الغنائم بما صنعوا صارت محرزة بدار الاسلام.
فكأنهم أخرجوها، ثم لحقهم مدد.
وهذا لان استحقاق الشركة للمدد باعتبار أنهم شاركوهم في الاحراز، وذلك غير موجود هنا.
1650 وكذلك لو قسموا الغنائم في دار الحرب أو باعوها ثم أصابهم مدد.
لان بالقسمة والبيع يتأكد الحق كما في الاحراز.
وإنما الشركة للمدد فيما إذا لحقوا بهم في دار الحرب قبل أن يتأكد حقهم فيها، استدلالا بالاثر المروى عن الصديق رضى الله عنه في أهل النجير (1) باليمن.
وقد بينا ذلك في " السير الصغير ".
1651 ولو أن عسكرا من أهل الحرب دخلوا دار الاسلام فانتهوا إلى مدينة مثل المصيصة أو الملطية، فخرج قوم من أهلها وقاتلوهم حتى ظفروا بهم، فالغنيمة لهم دون أهل المدينة.
وإن قال أهل المدينة: قد كنا ردءا لكم، لم يلتفت إلى ذلك.
لانهم ما كانوا مجاهدين، إنما كانوا مستوطنين في مساكنهم.
والشركة في المصاب لمن كان مجاهدا.
ولانهم لم يشاركوهم في الاصابة ولا في الاحراز.
1652 فإن كانوا تسلحوا وركبوا الخيل وأتوا باب المدينة فتضايق الناس على الباب، فخرج بعضهم في المدينة فهم شركاء في المصاب هاهنا.
هامش (1) في حاشية ه " النجير أحد حصون حضر موت.
ومنه يوم النجير من أيام أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
المغرب ".(3/916)
لانهم قد شهدوا الوقعة، وكانوا مجاهدين حين تسلحوا وأتوا باب
المدينة على قصد القتال.
ألا ترى أن القوم يلقون العدو محصرين (1) فلا يلى القتال منهم إلا قوم قليل، ثم تكون الغنيمة مشتركة بين جماعتهم.
لانهم جميعا شهدوا الوقعة فهذا مثله.
1653 - وإن كان المسلمون بلغوا باب رجل من المسلمين قد خرج من داره متسلحا فمنعه ذلك الزحام من المضى إلى باب المدينة، فهو شريكهم في المصاب.
لانه مجاهد فيما (2) صنع، شاهد للوقعة.
1654 وإن كان واقفا على باب داره، أو في جوف داره فارسا أو راجلا إذا لم يمنعه من المضى الا الزحام.
فإن كان باب داره مفتوحا كان له سهم من الغنيمة.
وإن كان باب داره مغلقا عليه لم يكن له من الغنيمة نصيب.
لان هذا متحصن بمنزله ليس بمتوجه إلى موضع القتال على قصد القتال، بخلاف ما إذا كان باب داره مفتوحا.
1655 قال: ولو كان لهذا سهم لكان لغيره ممن هو مع إمرأتته هامش (1) كذا في الاصل وفى هامشه " مصحرين.
نسخة " وفى ب، ه " مضحرين "، وفى ق " مصحرين "، وفى هامشها " أصحر خرج إلى الصحراء.
مغرب ".
(2) ب " بما ".(3/917)
في جوف بيته يجامعها.
وبعض هذا قريب من البعض.
ولكن إنما يؤخذ فيه بالاستحسان وما يقع عليه أمور الناس.
1656 وإن كانوا على سور المدينة يرمون أو يصيحون بما فيه تحريض للمسلمين وإرهاب للمشركين كانوا شركاؤهم في الغنيمة.
لانهم من جملة من شهد الوقعة وجاهد نوعا من الجهاد.
1657 وإن كان الامير أمرهم بالكينونة على سورها ليمنعوا العدو من دخول المدينة إن هزموا المسلمين، ونهاهم أن يعينوا المسلمين بشئ فهم شركاء (1) في الغنيمة أيضا.
لانهم ممن شهدوا الوقعة واشتغلوا بما فيه قوة المسلمين، وهو فراغ قلوبهم من أن يضفر العدو بمدينتهم.
والاصل فيه ما روى عن النبي عليه السلام (ص 303) أنه أمر الرماة يوم أحد أن لا يبرحوا مراكزهم.
ولا شك أنهم كانوا من جملة من شهد الوقعة، شركاء في المصاب أن لو أصابوا الغنائم.
1658 ولو خرج المسلمون إلى باب المدينة وقاتلوهم رجالة، وقد سرحوا خيولهم في منازلهم، لم يضرب لهم إلا بسهم (3) الرجالة.
هامش (1) ه، ق " شركاؤهم ".
(2) ه " ما روى أن النبي صلى الله عليه وآله أمر ".
(3) ق " إلا سهام الرجالة " وفى هامشها " بسهم الرجالة.
نسخة ".(3/918)
لانهم ما قاتلوا على الافراس حقيقة ولا حكما، فإسراج الفرس ليس من عمل القتال في شئ.
1659 - وإن كانوا خرجوا من منازلهم على الخيل ثم نزلوا في المعركة وقاتلوا رجالة استحقوا سهم الفرسان.
لانهم شهدوا الوقعة فرسانا، وإنما ترجلوا لضيق المكان أو لزيادة جد منهم (1) في القتال، فلا يحرمون به سهم الفرسان.
1660 - وكذلك من حضر المعركة راجلا ومعه غلام يقود من
فرسه إلى جنبه فإنه يستحق سهم الفرسان.
لانه مقاتل بفرسه حكما لتمكنه من أخذه من يد الغلام، والقتال عليه.
1661 - ولو حضر فارسا ثم أمر غلامه أن يرد فرسه إلى منزله، فرده وقاتل راجلا، فله سهم الراجل فقط.
لان الغلام حين رد فرسه فكأنه ما أحضره موضع القتال أصلا.
ألا ترى أنه لو احتاج إلى القتال عليه لم يتمكن منه.
1662 - ولو أن أهل الحرب لم يدنوا من المدينة ولكنهم عسكروا على أميال منها، فخرج المسلمون إليهم رجالة وفرسانا حتى هزموا وأصابوا الغنائم، فمن كان منهم فارسا يستحق سهم الفرسان سواء قاتل راجلا أو فارسا.
هامش (1) ق " خدمتهم " وفى هامشها " جد منهم.
نسخة " حصيرى ".(3/919)
لانه لما أحضر فرسه العسكر فقد صار مقاتلا بفرسه حكما.
1663 - وإن باشر القتال راجلا بخلاف الاول فهناك الفرس في منزلة على آرية، فلا يكون هو مجاهدا به.
لا حقيقة ولا حكما.
1664 - وإن كان المسلمون حين عسكروا بحذائهم تنحى المشركون عن معسكرهم، فأتبعهم المسلمون حتى لخقوهم فقاتلوهم رجالة، وخيولهم في المعسكر، فإن كانوا لقوهم في موضع يقدر من في المعسكر على أن يعينهم، وإن أرادوا أن يبعثوا إلى خيلهم بعثوا إليهم، فهم شركاء في المصاب، للفارس منهم سهم الفارس.
لانهم جميعا في الحكم قد شهدوا الوقعة لقرب المعسكر من موضع الوقعة.
1665 - وإن كانوا قد تباعدوا من المعسكر فليس لمن في المعسكر معهم شركة، وليس لاحد منهم سهم الفرسان إلا لمن حضر المعركة على فرسه.
لانهم ما كانوا متمكنين من القتال على الفرس.
ألا ترى أنهم لو ركبوا الابل في آثارهم حتى ساروا أياما كانوا رجالة ولم ينظر إلى ما كان لهم من الخيل في المعسكر ؟ لان في دار الاسلام الاستحقاق بشهود الوقعة، فيعتبر في حق من يستحق.
وما يستحق به شهود الوقعة بالحضور حقيقة، أو بأن كانوا بالقرب.(3/920)
منه حكما على وجه لو استغاثوا (1) بهم أمكنهم أن يغيثوهم (2).
فيكونون كالردء لهم.
فأما إذا انعدم ذلك لم يكونوا من جملة من شهد الوقعة 1666 - ولو خرجوا إلى عسكرهم فرسانا فنفق فرس بعضهم كان لهم سهم الفارس.
لانه حضر المعسكر فارسا فيصير به مجاهدا بفرسه، إذا كان القتال في ذلك الموضع أو بالقرب منه.
وهذا في حق هؤلاء بمنزلة مجاوزة الدرب فارسا أن لو كان القتال في دار الحرب.
وإن كان خرج إلى العسكر راجلا فلم يلق قتالا حتى أتى بفرسه (ص 303) أو اشترى فرسا فله سهم الفارس أيضا.
وكذلك لو اصطف الفريقان للقتال وهو راجل ثم أتى بفرسه أو اشترى فرسا فله سهم الفرسان.
لان المعتبر هنا شهود الوقعة.
وحقيقة شهود الوقعة إنما تكون عند القتال.
فحضور المعسكر وإن أقيم مقامه حكما لا يسقط به اعت