مضبوط الوصف مقدور التسليم إذ هو غير منقطع "ولا يجوز السلم فيه عددا" للتفاوت.
قال: "ولا خير في السلم في السمك الطري إلا في حينه وزنا معلوما وضربا معلوما" لأنه ينقطع في زمان الشتاء، حتى لو كان في بلد لا ينقطع يجوز مطلقا، وإنما يجوز وزنا لا عددا لما ذكرنا. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز في لحم الكبار منها وهي التي تقطع اعتبارا بالسلم في اللحم عنده.
قال: "ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز" لأنه موزون مضبوط الوصف ولهذا يضمن بالمثل. ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه ربا الفضل، بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه. وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة. وفي مخلوع العظم لا يجوز على الوجه الثاني وهو الأصح، والتضمين بالمثل ممنوع. وكذا الاستقراض، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة، ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته، أما الوصف فلا يكتفى به.
قال: "ولا يجوز السلم إلا مؤجلا" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز حالا لإطلاق الحديث ورخص في السلم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم" فيما روينا، ولأنه شرع رخصة دفعا لحاجة المفاليس فلا بد من الأجل ليقدر على التحصيل فيه فيسلم، ولو كان قادرا على التسليم لم يوجد المرخص فبقي على النافي.
قال: "ولا يجوز إلا بأجل معلوم" لما روينا، ولأن الجهالة فيه مفضية إلى المنازعة كما في البيع، والأجل أدناه شهر وقيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر من نصف يوم. والأول أصح "ولا يجوز السلم بمكيال رجل بعينه ولا بذراع رجل بعينه" معناه إذا لم يعرف مقداره لأنه تأخر فيه التسليم فربما يضيع فيؤدي إلى المنازعة وقد مر من قبل، ولا بد أن يكون المكيال مما لا ينقبض ولا ينبسط كالقصاع مثلا، فإن كان مما ينكبس بالكبس كالزنبيل والجراب لا يجوز للمنازعة إلا في قرب الماء للتعامل فيه، كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله.
قال: "ولا في طعام قرية بعينها" أو ثمرة نخلة بعينها لأنه قد يعتريه آفة فلا يقدر على التسليم وإليه أشار عليه الصلاة والسلام حيث قال "أرأيت لو أذهب الله تعالى الثمر بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " ولو كانت النسبة إلى قرية لبيان الصفة لا بأس به على ما قالوا كالخشمراني ببخارى والبساخي بفرغانة.(3/72)
قال: "ولا يصح السلم عند أبي حنيفة رحمه الله إلا بسبع شرائط: جنس معلوم" كقولنا حنطة أو شعير "ونوع معلوم" كقولنا سقية أو بخسية "وصفة معلومة" كقولنا جيد أو رديء "ومقدار معلوم" كقولنا كذا كيلا بمكيال معروف وكذا وزنا "وأجل معلوم" والأصل فيه ما روينا والفقه فيه ما بينا "ومعرفة مقدار رأس المال إذا كان يتعلق العقد على مقداره" كالمكيل والموزون والمعدود "وتسمية المكان الذي يوفيه فيه إذا كان له حمل ومؤنة" وقالا: لا يحتاج إلى تسمية رأس المال إذا كان معينا ولا إلى مكان التسليم ويسلمه في موضع العقد، فهاتان مسألتان. ولهما في الأولى أن المقصود يحصل بالإشارة فأشبه الثمن والأجرة وصار كالثوب. ولأبي حنيفة أنه ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في المجلس، فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي أو ربما لا يقدر على تحصيل المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال، والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافي، بخلاف ما إذا كان رأس المال ثوبا لأن الذرع وصف فيه لا يتعلق العقد على مقداره. ومن فروعه إذا أسلم في جنسين ولم يبين رأس مال كل واحد منهما، أو أسلم جنسين ولم يبين مقدار أحدهما. ولهما في الثانية أن مكان العقد يتعين لوجود العقد الموجب للتسليم، ولأنه لا يزاحمه مكان آخر فيه فيصير نظير أول أوقات الإمكان في الأوامر فصار كالقرض والغصب. ولأبي حنيفة رحمه الله أن التسليم غير واجب في الحال فلا يتعين، بخلاف القرض والغصب، وإذا لم يتعين فالجهالة فيه تفضي إلى المنازعة، لأن قيم الأشياء تختلف باختلاف المكان فلا بد من البيان، وصار كجهالة الصفة، وعن هذا قال من قال من المشايخ رحمهم الله إن الاختلاف فيه عنده يوجب التخالف كما في الصفة. وقيل على عكسه لأن تعين المكان قضية العقد عندهما، وعلى هذا الخلاف الثمن والأجرة والقسمة.
وصورتها: إذا اقتسما دارا وجعلا مع نصيب أحدهما شيئا له حمل ومؤنة. وقيل لا يشترط ذلك في الثمن. والصحيح أنه يشترط إذا كان مؤجلا، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعندهما يتعين مكان الدار ومكان تسليم الدابة للإيفاء.
قال: "وما لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء بالإجماع" لأنه لا تختلف قيمته "ويوفيه في المكان الذي أسلم فيه" قال رضي الله عنه: وهذه رواية الجامع الصغير والبيوع. وذكر في الإجارات أنه يوفيه في أي مكان شاء، وهو الأصح لأن الأماكن كلها سواء، ولا وجوب في الحال. ولو عينا مكانا، قيل لا يتعين لأنه لا يفيد، وقيل يتعين لأنه يفيد سقوط خطر الطريق، ولو عين المصر فيما له حمل ومؤنة يكتفى به لأنه مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فيما ذكرنا.(3/73)
قال: "ولا يصح السلم حتى يقبض رأس المال قبل أن يفارقه فيه" أما إذا كان من النقود فلأنه افتراق عن دين بدين، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ وإن كان عينا"، فلأن السلم أخذ عاجل بآجل، إذ الإسلام والإسلاف ينبئان عن التعجيل فلا بد من قبض أحد العوضين ليتحقق معنى الاسم، ولأنه لا بد من تسليم رأس المال ليتقلب المسلم إليه فيه فيقدر على التسليم، ولهذا قلنا: لا يصح السلم إذا كان فيه خيار الشرط لهما أو لأحدهما لأنه يمنع تمام القبض لكونه مانعا من الانعقاد في حق الحكم، وكذا لا يثبت فيه خيار الرؤية لأنه غير مفيد، بخلاف خيار العيب لأنه لا يمنع تمام القبض
ولو أسقط خيار الشرط قبل الافتراق ورأس المال قائم جاز خلافا لزفر، وقد مر نظيره "وجملة الشروط جمعوها في قولهم إعلام رأس المال وتعجيله وإعلام المسلم فيه وتأجيله وبيان مكان الإيفاء والقدرة على تحصيله، فإن أسلم مائتي درهم في كر حنطة مائة منها دين على المسلم إليه ومائة نقد فالسلم في حصة الدين باطل" لفوات القبض "ويجوز في حصة النقد" لاستجماع شرائطه ولا يشيع الفساد لأن الفساد طارئ، إذ السلم وقع صحيحا، ولهذا لو نقد رأس المال قبل الافتراق صح إلا أنه يبطل بالافتراق لما بينا، وهذا لأن الدين لا يتعين في البيع، ألا ترى أنهما لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل البيع فينعقد صحيحا.
قال: "ولا يجوز التصرف في رأس مال السلم والمسلم فيه قبل القبض" أما الأول فلما فيه من تفويت القبض المستحق بالعقد. وأما الثاني فلأن المسلم فيه مبيع والتصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز.
قال: "ولا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه" لأنه تصرف فيه "فإن تقايلا السلم لم يكن له أن يشتري من المسلم إليه برأس المال شيئا حتى يقبضه كله" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك" أي عند الفسخ، ولأنه أخذ شبها بالمبيع فلا يحل التصرف فيه قبل قبضه، وهذا لأن الإقالة بيع جديد في حق ثالث، ولا يمكن جعل المسلم فيه مبيعا لسقوطه فجعل رأس المال مبيعا لأنه دين مثله، إلا أنه لا يجب قبضه في المجلس لأنه ليس في حكم الابتداء من كل وجه، وفيه خلاف زفر رحمه الله، والحجة عليه ما ذكرناه.
قال: "ومن أسلم في كر حنطة فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز" لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي(3/74)
عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان، وهذا هو محمل الحديث على ما مر والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه لاحق وأنه بمنزلة ابتداء البيع لأن العين غير الدين حقيقة. وإن جعل عينه في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء، وإن لم يكن سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز لأن القرض إعارة ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة فكان المردود عين المأخوذ مطلقا حكما فلا تجتمع الصفقتان.
قال: "ومن أسلم في كر فأمر رب السلم أن يكيله المسلم إليه في غرائر رب السلم ففعل وهو غائب لم يكن قضاء" لأن الأمر بالكيل لم يصح لأنه لم يصادف ملك الآمر، [لأن] حقه في الدين دون العين فصار المسلم إليه مستعيرا للغرائر منه وقد جعل ملك نفسه فيها فصار كما لو كان عليه دراهم دين فدفع إليه كيسا ليزنها المديون فيه لم يصر قابضا. ولو كانت الحنطة مشتراة والمسألة بحالها صار قابضا لأن الأمر قد صح حيث صادف ملكه لأنه ملك العين بالبيع، ألا ترى أنه لو أمره بالطحن كان الطحين في السلم للمسلم إليه وفي الشراء للمشتري لصحة الأمر، وكذا إذا أمره أن يصبه في البحر في السلم يهلك من مال المسلم إليه وفي الشراء من مال المشتري، ويتقرر الثمن عليه لما قلنا، ولهذا يكتفى بذلك الكيل في الشراء في الصحيح لأنه نائب عنه في الكيل والقبض بالوقوع في غرائر المشتري، ولو أمره في الشراء أن يكيله في غرائر البائع ففعل لم يصر قابضا لأنه استعار غرائره ولم يقبضها فلا تصير الغرائر في يده، فكذا ما يقع فيها، وصار كما لو أمره أن يكيله ويعزله في ناحية من بيت البائع لأن البيت بنواحيه في يده فلم يصر المشتري قابضا. ولو اجتمع الدين والعين والغرائر للمشتري، إن بدأ بالعين صار قابضا، أما العين فلصحة الأمر فيه، وأما الدين فلاتصاله بملكه وبمثله يصير قابضا، كمن استقرض حنطة وأمره أن يزرعها في أرضه، وكمن دفع إلى صائغ خاتما وأمره أن يزيده من عنده نصف دينار، وإن بدأ بالدين لم يصر قابضا، أما الدين فلعدم صحة الأمر، وأما العين فلأنه خلطه بملكه قبل التسليم فصار مستهلكا عند أبي حنيفة رحمه الله فينتقض البيع، وهذا الخلط غير مرضي به من جهته لجواز أن يكون مراده البداءة بالعين وعندهما هو بالخيار إن شاء نقض البيع وإن شاء شاركه في المخلوط لأن الخلط ليس باستهلاك عندهما.
قال: "ومن أسلم جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا فماتت في يد المشتري فعليه قيمتها يوم قبضها، ولو تقايلا بعد هلاك الجارية جاز" لأن صحة الإقالة تعتمد بقاء العقد وذلك بقيام المعقود عليه، وفي السلم المعقود عليه إنما هو المسلم فيه فصحت الإقالة حال بقائه، وإذا جاز ابتداء فأولى أن يبقى انتهاء، لأن البقاء أسهل، وإذا انفسخ العقد(3/75)
في المسلم فيه انفسخ في الجارية تبعا فيجب عليه ردها وقد عجز فيجب عليه رد قيمتها "ولو اشترى جارية بألف درهم ثم تقايلا فماتت في يد المشتري بطلت الإقالة، ولو تقايلا بعد موتها فالإقالة باطلة" لأن المعقود عليه في البيع إنما هو الجارية فلا يبقى العقد بعد هلاكها فلا تصح الإقالة ابتداء ولا تبقى انتهاء لانعدام محله، وهذا بخلاف بيع المقايضة حيث تصح الإقالة وتبقى بعد هلاك أحد العوضين لأن كل واحد منهما مبيع فيه.
قال: "ومن أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة فقال المسلم إليه شرطت رديئا وقال رب السلم لم تشترط شيئا فالقول قول المسلم إليه" لأن رب السلم متعنت في إنكاره الصحة لأن المسلم فيه يربو على رأس المال في العادة، وفي عكسه قالوا: يجب أن يكون القول لرب السلم عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يدعي الصحة وإن كان صاحبه منكرا. وعندهما القول للمسلم إليه لأنه منكر وإن أنكر الصحة، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى "ولو قال المسلم إليه لم يكن له أجل وقال رب السلم بل كان له أجل فالقول قول رب السلم" لأن المسلم إليه متعنت في إنكاره حقا له وهو الأجل، والفساد لعدم الأجل غير متيقن لمكان الاجتهاد فلا يعتبر النفع في رد رأس المال، بخلاف عدم الوصف، وفي عكسه القول لرب السلم عندهما لأنه ينكر حقا له عليه فيكون القول قوله وإن أنكر الصحة كرب المال إذا قال للمضارب شرطت لك نصف الربح إلا عشرة وقال المضارب لا بل شرطت لي نصف الربح فالقول لرب المال لأنه ينكر استحقاق الربح وإن أنكر الصحة. وعند أبي حنيفة رحمه الله القول للمسلم إليه لأنه يدعي الصحة وقد اتفقا على عقد واحد فكانا متفقين على الصحة ظاهرا، بخلاف مسألة المضاربة لأنه ليس بلازم فلا يعتبر الاختلاف فيه فيبقى مجرد دعوى استحقاق الربح، أما السلم فلازم فصار الأصل أن من خرج كلامه تعنتا فالقول لصاحبه بالاتفاق، وإن خرج خصومة ووقع الاتفاق على عقد واحد فالقول لمدعي الصحة عنده، وعندهما للمنكر وإن أنكر الصحة.
قال: "ويجوز السلم في الثياب إذا بين طولا وعرضا ورقعة" لأنه أسلم في معلوم مقدور التسليم على ما ذكرنا، وإن كان ثوب حرير لا بد من بيان وزنه أيضا لأنه مقصود فيه. "ولا يجوز السلم في الجواهر ولا في الخرز" لأن آحادها متفاوتة تفاوتا فاحشا وفي صغار اللؤلؤ التي تباع وزنا يجوز السلم لأنه مما يعلم بالوزن "ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا سمى ملبنا معلوما" لأنه عددي متقارب لا سيما إذا سمي الملبن.
قال: "وكل ما أمكن ضبط صفته ومعرفة مقداره جاز السلم فيه" لأنه لا يفضي إلى المنازعة "وما لا يضبط صفته ولا يعرف مقداره لا يجوز السلم فيه" لأنه دين، وبدون الوصف(3/76)
يبقى مجهولا جهالة تفضي إلى المنازعة "ولا بأس بالسلم في طست أو قمقمة أو خفين أو نحو ذلك إذا كان يعرف" لاستجماع شرائط السلم "وإن كان لا يعرف فلا خير فيه" لأنه دين مجهول.
قال: "وإن استصنع شيئا من ذلك بغير أجل جاز استحسانا" للإجماع الثابت بالتعامل. وفي القياس لا يجوز لأنه بيع المعدوم، والصحيح أنه يجوز بيعا لا عدة، والمعدوم قد يعتبر موجودا حكما، والمعقود عليه العين دون العمل، حتى لو جاء به مفروغا لا من صنعته أو من صنعته قبل العقد فأخذه جاز، ولا يتعين إلا بالاختيار، حتى لو باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع جاز، وهذا كله هو الصحيح.
قال: "وهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه" لأنه اشترى شيئا لم يره ولا خيار للصانع، كذا ذكره في المبسوط وهو الأصح، لأنه باع ما لم يره. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن له الخيار أيضا لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر وهو قطع الصرم وغيره. وعن أبي يوسف أنه لا خيار لهما. أما الصانع فلما ذكرنا. وأما المستصنع فلأن في إثبات الخيار له إضرارا بالصانع لأنه ربما لا يشتريه غيره بمثله ولا يجوز فيما لا تعامل فيه للناس كالثياب لعدم المجوز وفيما فيه تعامل إنما يجوز إذا أمكن إعلامه بالوصف ليمكن التسليم، وإنما قال بغير أجل لأنه لو ضرب الأجل فيما فيه تعامل يصير سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما، ولو ضربه فيما لا تعامل فيه يصير سلما بالاتفاق. لهما أن اللفظ حقيقة للاستصناع فيحافظ على قضيته ويحمل الأجل على التعجيل، بخلاف ما لا تعامل فيه لأنه استصناع فاسد فيحمل على السلم الصحيح. ولأبي حنيفة أنه دين يحتمل السلم، وجواز السلم بإجماع لا شبهة فيه وفي تعاملهم الاستصناع نوع شبهة فكان الحمل على السلم أولى، والله أعلم.(3/77)
مسائل منثورة
قال: "ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء" وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب" ولأنه نجس العين والنجاسة تشعر بهوان المحل وجواز البيع يشعر بإعزازه فكان منتفيا. ولنا "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية" ولأنه منتفع به حراسة واصطيادا فكان ما لا يجوز بيعه، بخلاف الهوام المؤذية؛ لأنه لا ينتفع بها، والحديث محمول(3/77)
على الابتداء قلعا لهم عن الاقتناء ولا نسلم نجاسة العين، ولو سلم فيحرم التناول دون البيع.
وقال: "ولا يجوز بيع الخمر والخنزير" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" ولأنه ليس بمال في حقنا، وقد ذكرناه.
قال: "وأهل الذمة في البياعات كالمسلمين" لقوله عليه الصلاة والسلام في ذلك الحديث: "فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" ولأنهم مكلفون محتاجون كالمسلمين.
قال: "إلا في الخمر والخنزير خاصة" فإن عقدهم على الخمر كعقد المسلم على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقد المسلم على الشاة؛ لأنها أموال في اعتقادهم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يعتقدون. دل عليه قول عمر: ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها.
قال: "ومن قال لغيره بع عبدك من فلان بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف ففعل فهو جائز ويأخذ الألف من المشتري والخمسمائة من الضامن، وإن كان لم يقل من الثمن جاز البيع بألف ولا شيء على الضمين" وأصله أن الزيادة في الثمن والمثمن جائز عندنا، وتلتحق بأصل العقد خلافا لزفر والشافعي لأنه تغيير للعقد من وصف مشروع إلى وصف مشروع وهو كونه عدلا أو خاسرا أو رابحا، ثم قد لا يستفيد المشتري بها شيئا بأن زاد في الثمن وهو يساوي المبيع بدونها فيصح اشتراطها على الأجنبي كبدل الخلع لكن من شرطها المقابلة تسمية وصورة، فإذا قال من الثمن وجد شرطها فيصح، وإذا لم يقل لم يوجد فلم يصح.
قال: "ومن اشترى جارية ولم يقبضها حتى زوجها فوطئها الزوج فالنكاح جائز" لوجود سبب الولاية، وهو الملك في الرقبة على الكمال وعليه المهر. "وهذا قبض" لأن وطء الزوج حصل بتسليط من جهته فصار فعله كفعله "إن لم يطأها فليس بقبض" والقياس أن يصير قابضا؛ لأنه تعييب حكمي فيعتبر بالتعييب الحقيقي. وجه الاستحسان أن في الحقيقي استيلاء على المحل وبه يصير قابضا ولا كذلك الحكمي فافترقا.
قال: "ومن اشترى عبدا فغاب فأقام البائع البينة أنه باعها إياه، فإن كانت غيبته معروفة لم يبع في دين البائع" لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع، وفيه إبطال حق المشتري "وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن" لأن ملك المشتري ظهر بإقراره(3/78)
فيظهر على الوجه الذي أقر به مشغولا بحقه، وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري يبيعه القاضي فيه كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع لم يقبض، بخلاف ما بعد القبض؛ لأن حقه لم يبق متعلقا به، ثم إن فضل شيء يمسك للمشتري؛ لأنه بدل حقه وإن نقص يتبع هو أيضا.
قال: "فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه، وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن كله وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه" لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه. ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن؛ لأن البيع صفقة واحدة، وله حق الحبس ما بقي شيء منه، والمضطر يرجع كمعير الرهن، وإذا كان له أن يرجع عليه كان له حق الحبس عنه إلى أن يستوفي حقه كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن من مال نفسه.
قال: "ومن اشترى جارية بألف مثقال ذهب وفضة فهما نصفان" لأنه أضاف المثقال إليهما على السواء فيجب من كل واحد منهما خمسمائة مثقال لعدم الأولوية، وبمثله لو اشترى جارية بألف من الذهب والفضة يجب من الذهب مثاقيل ومن الفضة دراهم وزن سبعة لأنه أضاف الألف إليهما فينصرف إلى الوزن المعهود في كل واحد منهما.
قال: "ومن له على آخر عشرة دراهم جياد فقضاه زيوفا وهو لا يعلم فأنفقها أو هلكت فهو قضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: يرد مثل زيوفه ويرجع بدراهمه" لأن حقه في الوصف مرعي كهو في الأصل، ولا يمكن رعايته بإيجاب ضمان الوصف لأنه لا قيمة له عند المقابلة بجنسه فوجب المصير إلى ما قلنا. ولهما أنه من جنس حقه. حتى لو تجوز به فيما لا يجوز الاستبدال جاز فيقع به الاستيفاء ولا يبقى حقه إلا في الجودة، ولا يمكن تداركها بإيجاب ضمانها لما ذكرنا، وكذا بإيجاب ضمان الأصل لأنه إيجاب له عليه ولا نظير له.
قال: "وإذا أفرخ طير في أرض رجل فهو لمن أخذه" وكذا إذا باض فيها "وكذا إذا تكنس فيها ظبي" لأنه مباح سبقت يده إليه ولأنه صيد وإن كان يؤخذ بغير حيلة والصيد لمن أخذه، وكذا البيض؛ لأنه أصل الصيد ولهذا يجب الجزاء على المحرم بكسره أو شيه، وصاحب الأرض لم يعد أرضه فصار كنصب شبكة للجفاف وكذا إذا دخل الصيد داره(3/79)
أو وقع ما نثر من السكر والدراهم في ثيابه ما لم يكفه أو كان مستعدا له، بخلاف ما إذا عسل النحل في أرضه لأنه عد من أنزاله فيملكه تبعا لأرضه كالشجر النابت فيها والتراب المجتمع في أرضه بجريان الماء، والله أعلم.(3/80)
كتاب الصرف
تعريفه
...
كتاب الصرف
قال: "الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان" سمي به للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد. والصرف هو النقل والرد لغة، أو لأنه لا يطلب منه إلا الزيادة إذ لا ينتفع بعينه، والصرف هو الزيادة لغة كذا قاله الخليل ومنه سميت العبادة النافلة صرفا.
قال: "فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل وإن اختلفا في الجودة والصياغة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا" الحديث. وقال عليه الصلاة والسلام: "جيدها ورديئها سواء" وقد ذكرناه في البيوع.
قال: "ولا بد من قبض العوضين قبل الافتراق" لما روينا، ولقول عمر رضي الله عنه: وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنظره، ولأنه لا بد من قبض أحدهما ليخرج العقد عن الكالئ بالكالئ ثم لا بد من قبض الآخر تحقيقا للمساواة فلا يتحقق الربا، ولأن أحدهما ليس بأولى من الآخر فوجب قبضهما سواء كانا يتعينان كالمصوغ أو لا يتعينان كالمضروب أو يتعين أحدهما ولا يتعين الآخر لإطلاق ما روينا، ولأنه إن كان يتعين ففيه شبهة عدم التعيين لكونه ثمنا خلقة فيشترط قبضه اعتبارا للشبهة في الربا، والمراد منه الافتراق بالأبدان، حتى لو ذهبا عن المجلس يمشيان معا في جهة واحدة أو ناما في المجلس أو أغمي عليهما لا يبطل الصرف لقول ابن عمر رضي الله عنه وإن وثب من سطح فثب معه، وكذا المعتبر ما ذكرناه في قبض رأس مال السلم، بخلاف خيار المخيرة لأنه يبطل بالإعراض فيه. "وإن باع الذهب بالفضة جاز التفاضل" لعدم المجانسة "ووجب التقابض" لقوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" "فإن افترقا في الصرف قبل قبض العوضين أو أحدهما بطل العقد" لفوات الشرط وهو القبض ولهذا لا يصح شرط الخيار فيه ولا الأجل لأن بأحدهما لا يبقى القبض مستحقا وبالثاني يفوت القبض المستحق، إلا إذا أسقط الخيار في المجلس فيعود إلى الجواز لارتفاعه قبل تقرره وفيه خلاف زفر رحمه الله.(3/81)
قال: "ولا يجوز التصرف في ثمن الصرف قبل قبضه، حتى لو باع دينارا بعشرة دراهم ولم يقبض العشرة حتى اشترى بها ثوبا فالبيع في الثوب فاسد" لأن القبض مستحق بالعقد حقا لله تعالى، وفي تجويزه فواته، وكان ينبغي أن يجوز العقد في الثوب كما نقل عن زفر، لأن الدراهم لا تتعين فينصرف العقد إلى مطلقها، ولكنا نقول: الثمن في باب الصرف مبيع لأن البيع لا بد له منه ولا شيء سوى الثمنين فيجعل كل واحد منهما مبيعا لعدم الأولوية وبيع المبيع قبل القبض لا يجوز، وليس من ضرورة كونه مبيعا أن يكون متعينا كما في المسلم فيه.
قال: "ويجوز بيع الذهب بالفضة مجازفة" لأن المساواة غير مشروطة فيه ولكن يشترط القبض في المجلس لما ذكرنا، بخلاف بيعه بجنسه مجازفة لما فيه من احتمال الربا.
قال: "ومن باع جارية قيمتها ألف مثقال فضة وفي عنقها طوق فضة قيمته ألف مثقال بألفي مثقال فضة ونقد من الثمن ألف مثقال ثم افترقا فالذي نقد ثمن الفضة" لأن قبض حصة الطوق واجب في المجلس لكونه بدل الصرف، والظاهر منه الإتيان بالواجب "وكذا لو اشتراها بألفي مثقال ألف نسيئة وألف نقدا فالنقد ثمن الطوق" لأن الأجل باطل في الصرف جائز في بيع الجارية، والمباشرة على وجه الجواز وهو الظاهر منهما "وكذلك إن باع سيفا محلى بمائة درهم وحليته خمسون فدفع من الثمن خمسين جاز البيع وكان المقبوض حصة الفضة وإن لم يبين ذلك لما بينا، وكذلك إن قال: خذ هذه الخمسين من ثمنهما" لأن الاثنين قد يراد بذكرهما الواحد، قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد أحدهما فيحمل عليه لظاهر حاله "فإن لم يتقابضا حتى افترقا بطل العقد في الحلية" لأنه صرف فيها "وكذا في السيف إن كان لا يتخلص إلا بضرر" لأنه لا يمكن تسليمه بدون الضرر ولهذا لا يجوز إفراده بالبيع كالجذع في السقف "وإن كان يتخلص بغير ضرر جاز البيع في السيف وبطل في الحلية" لأنه أمكن إفراده بالبيع فصار كالطوق والجارية، وهذا إذا كانت الفضة المفردة أزيد مما فيه، فإن كانت مثله أو أقل منه أو لا يدري لا يجوز البيع للربا أو لاحتماله، وجهة الصحة من وجه وجهة الفساد من وجهين فترجحت.
قال: "ومن باع إناء فضة ثم افترقا وقد قبض بعض ثمنه بطل البيع فيما لم يقبض وصح فيما قبض وكان الإناء مشتركا بينهما" لأنه صرف كله فصح فيما وجد شرطه وبطل فيما لم يوجد والفساد طارئ لأنه يصح ثم يبطل بالافتراق فلا يشيع.
قال: "ولو استحق بعض الإناء فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بحصته وإن شاء(3/82)
رده" لأن الشركة عيب في الإناء. "ومن باع قطعة نقرة ثم استحق بعضها أخذ ما بقي بحصتها ولا خيار له" لأنه لا يضره التبعيض.
قال: "ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس بخلافه" وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة: ولهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه لأنه قابل الجملة بالجملة، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين، والتغيير لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف، كما إذا اشترى قلبا بعشرة وثوبا بعشرة ثم باعهما مرابحة لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب، وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز في المشترى بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه. وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده. وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين ولا يصرف الدرهم إلى الثوب لما ذكرنا. ولنا أن المقابلة المطلقة تحتمل مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس، وأنه طريق متعين لتصحيحه فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه، وفيه تغيير وصفه لا أصله لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل، وصار هذا كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه بخلاف ما عد من المسائل.
أما مسألة المرابحة فلأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب. والطريق في المسألة الثانية غير متعين لأنه يمكن صرف الزيادة على الألف إلى المشتري. وفي الثالثة أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده. وفي الأخيرة العقد انعقد صحيحا والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء.
قال: "ومن باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز البيع وتكون العشرة بمثلها والدينار بدرهم" لأن شرط البيع في الدراهم التماثل على ما روينا، فالظاهر أنه أراد به ذلك فبقي الدرهم بالدينار وهما جنسان ولا يعتبر التساوي فيهما. "ولو تبايعا فضة بفضة أو ذهبا بذهب وأحدهما أقل ومع أقلهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الفضة جاز البيع من غير كراهية، وإن لم تبلغ فمع الكراهة، وإن لم يكن له قيمة كالتراب لا يجوز البيع" لتحقق الربا إذ الزيادة لا يقابلها عوض فيكون ربا.
قال: "ومن كان له على آخر عشرة دراهم فباعه الذي عليه العشرة دينارا بعشرة دراهم(3/83)
ودفع الدينار وتقاصا العشرة بالعشرة فهو جائز" ومعنى المسألة إذا باع بعشرة مطلقة. ووجهه أنه يجب بهذا العقد ثمن يجب عليه تعيينه بالقبض لما ذكرنا، والدين ليس بهذه الصفة فلا تقع المقاصة بنفس المبيع لعدم المجانسة، فإذا تقاصا يتضمن ذلك فسخ الأول والإضافة إلى الدين، إذ لولا ذلك يكون استبدالا ببدل الصرف، وفي الإضافة إلى الدين تقع المقاصة بنفس العقد على ما نبينه، والفسخ قد يثبت بطريق الاقتضاء كما إذا تبايعا بألف ثم بألف وخمسمائة، وزفر يخالفنا فيه لأنه لا يقول بالاقتضاء، وهذا إذا كان الدين سابقا. فإن كان لاحقا فكذلك في أصح الروايتين لتضمنه انفساخ الأول والإضافة إلى دين قائم وقت تحويل العقد فكفى ذلك للجواز.
قال: "ويجوز بيع درهم صحيح ودرهمي غلة بدرهمين صحيحين ودرهم غلة" والغلة ما يرده بيت المال ويأخذه التجار. ووجهه تحقق المساواة في الوزن وما عرف من سقوط اعتبار الجودة.
قال: "وإذا كان الغالب على الدراهم الفضة فهي فضة، وإذا كان الغالب على الدنانير الذهب فهي ذهب، ويعتبر فيهما من تحريم التفاضل ما يعتبر في الجياد حتى لا يجوز بيع الخالصة بها ولا بيع بعضها ببعض إلا متساويا في الوزن. وكذا لا يجوز الاستقراض بها إلا وزنا" لأن النقود لا تخلو عن قليل غش عادة لأنها لا تنطبع إلا مع الغش، وقد يكون الغش خلقيا كما في الرديء منه فيلحق القليل بالرداءة، والجيد والرديء سواء "وإن كان الغالب عليهما الغش فليسا في حكم الدراهم والدنانير" اعتبارا للغالب، فإن اشترى بها فضة خالصة فهو على الوجوه التي ذكرناها في حلية السيف. "وإن بيعت بجنسها متفاضلا جاز صرفا للجنس إلى خلاف الجنس" فهي في حكم شيئين فضة وصفر ولكنه صرف حتى يشترط القبض في المجلس لوجود الفضة من الجانبين، فإذا شرط القبض في الفضة يشترط في الصفر لأنه لا يتميز عنه إلا بضرر.
قال رضي الله عنه: ومشايخنا رحمهم الله لم يفتوا بجواز ذلك في العدالى والغطارفة لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا، ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد، وإن كانت تروج بهما فبكل واحد منهما لأن المعتبر هو المعتاد فيهما إذا لم يكن فيهما نص، ثم هي ما دامت تروج تكون أثمانا لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها بل بجنسها زيوفا إن كان البائع يعلم بحالها لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد إن كان لا يعلم لعدم الرضا منه.(3/84)
"وإذا اشترى بها سلعة فكسدت وترك الناس المعاملة بها بطل البيع عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف رحمهما الله: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد رحمه الله: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها" لهما أن العقد قد صح إلا أنه تعذر التسليم بالكساد وأنه لا يوجب الفساد، كما إذا اشترى بالرطب فانقطع أوانه. وإذا بقي العقد وجبت القيمة، لكن عند أبي يوسف رحمه الله وقت البيع لأنه مضمون به، وعند محمد رحمه الله يوم الانقطاع لأنه أوان الانتقال إلى القيمة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الثمنية بالاصطلاح وما بقي فيبقى بيعا بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع يجب رد المبيع إن كان قائما وقيمته إن كان هالكا كما في البيع الفاسد.
قال: "ويجوز البيع بالفلوس" لأنها مال معلوم، فإن كانت نافقة جاز البيع بها وإن لم تتعين لأنها أثمان بالاصطلاح، وإن كانت كاسدة لم يجز البيع بها حتى يعينها لأنها سلع فلا بد من تعيينها "وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" وهو نظير الاختلاف الذي بيناه. "ولو استقرض فلوسا نافقة فكسدت عند أبي حنيفة رحمه الله يجب عليه مثلها" لأنه إعارة، وموجبه رد العين معنى والثمنية فضل فيه إذ القرض لا يختص به. وعندهما تجب قيمتها لأنه لما بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها، كما إذا استقرض مثليا فانقطع، لكن عند أبي يوسف رحمه الله يوم القبض، وعند محمد رحمه الله يوم الكساد على ما مر من قبل، وأصل الاختلاف فيمن غصب مثليا فانقطع، وقول محمد رحمه الله أنظر للجانبين، وقول أبي يوسف أيسر.
قال: "ومن اشترى شيئا بنصف درهم فلوس جاز وعليه ما يباع بنصف درهم من الفلوس وكذا إذا قال بدانق فلوس أو بقيراط فلوس جاز". وقال زفر: لا يجوز في جميع ذلك لأنه اشترى بالفلوس وأنها تقدر بالعدد لا بالدانق والدرهم فلا بد من بيان عددها، ونحن نقول: ما يباع بالدانق ونصف الدرهم من الفلوس معلوم عند الناس والكلام فيه فأغنى عن بيان العدد. ولو قال بدرهم فلوس أو بدرهمي فلوس فكذا عند أبي يوسف رحمه الله لأن ما يباع بالدرهم من الفلوس معلوم وهو المراد لا وزن الدرهم من الفلوس. وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز بالدرهم ويجوز فيما دون الدرهم، لأن في العادة المبايعة بالفلوس فيما دون الدرهم فصار معلوما بحكم العادة، ولا كذلك الدرهم قالوا: وقول أبي يوسف رحمه الله أصح لا سيما في ديارنا.
قال: "ومن أعطى صيرفيا درهما وقال أعطني بنصفه فلوسا وبنصفه نصفا إلا حبة جاز البيع في الفلوس وبطل فيما بقي عندهما" لأن بيع نصف درهم بالفلوس جائز وبيع النصف(3/85)
بنصف إلا حبة ربا فلا يجوز "وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بطل في الكل" لأن الصفقة متحدة والفساد قوي فيشيع وقد مر نظيره، ولو كرر لفظ الإعطاء كان جوابه كجوابهما هو الصحيح لأنهما بيعان "ولو قال أعطني نصف درهم فلوسا ونصفا إلا حبة جاز" لأنه قابل الدرهم بما يباع من الفلوس بنصف درهم وبنصف درهم إلا حبة فيكون نصف درهم إلا حبة بمثله وما وراءه بإزاء الفلوس. قال رضي الله عنه: وفي أكثر نسخ المختصر ذكر المسألة الثانية، والله تعالى أعلم بالصواب.(3/86)
كتاب الكفالة
ضروب الكفالة
مدخل
...
كتاب الكفالة
الكفالة: هي الضم لغة، قال الله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] ثم قيل: هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين، والأول أصح.
قال: "الكفالة ضربان: كفالة بالنفس، وكفالة بالمال. فالكفالة بالنفس جائزة والمضمون بها إحضار المكفول به" وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز لأنه كفل بما لا يقدر على تسليمه، إذ لا قدرة له على نفس المكفول به، بخلاف الكفالة بالمال لأن له ولاية على مال نفسه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الزعيم غارم" وهذا يفيد مشروعية الكفالة بنوعيه، ولأنه يقدر على تسليمه بطريقه بأن يعلم الطالب مكانه فيخلي بينه وبينه أو يستعين بأعوان القاضي في ذلك والحاجة ماسة إليه، وقد أمكن تحقق معنى الكفالة وهو الضم في المطالبة فيه.
قال: "وتنعقد إذا قال تكفلت بنفس فلان أو برقبته أو بروحه أو بجسده أو برأسه وكذا ببدنه وبوجهه" لأن هذه الألفاظ يعبر بها عن البدن إما حقيقة أو عرفا على ما مر في الطلاق، كذا إذا قال بنصفه أو بثلثه أو بجزء منه لأن النفس الواحدة في حق الكفالة لا تتجزأ فكان ذكر بعضها شائعا كذكر كلها، بخلاف ما إذا قال تكفلت بيد فلان أو برجله لأنه لا يعبر بهما عن البدن حتى لا تصح إضافة الطلاق إليهما وفيما تقدم تصح "وكذا إذا قال ضمنته" لأنه تصريح بموجبه "أو قال" هو "علي" لأنه صيغة الالتزام "أو قال إلي" لأنه في معنى علي في هذا المقام. قال عليه الصلاة والسلام: "ومن ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فإلي" "وكذا إذا قال أنا زعيم به أو قبيل به" لأن الزعامة هي الكفالة وقد روينا فيه. والقبيل هو الكفيل، ولهذا سمي الصك قبالة، بخلاف ما إذا قال أنا ضامن لمعرفته لأنه التزم المعرفة دون المطالبة.
قال: "فإن شرط في الكفالة بالنفس تسليم المكفول به في وقت بعينه لزمه إحضاره إذا طالبه في ذلك الوقت" وفاء بما التزمه، "فإن أحضره وإلا حبسه الحاكم", لامتناعه عن إيفاء حق مستحق عليه، ولكن لا يحبسه أول مرة لعله ما درى لماذا يدعي. ولو غاب المكفول(3/87)
بنفسه أمهله الحاكم مدة ذهابه ومجيئه، فإن مضت ولم يحضره يحبسه لتحقق امتناعه عن إيفاء الحق.
قال: "وكذا إذا ارتد والعياذ بالله ولحق بدار الحرب" وهذا لأنه عاجز في المدة فينظر كالذي أعسر، ولو سلمه قبل ذلك برئ لأن الأجل حقه فيملك إسقاطه كما في الدين المؤجل.
قال: "وإذا أحضره وسلمه في مكان يقدر المكفول له أن يخاصمه فيه مثل أن يكون في مصر برئ الكفيل من الكفالة" لأنه أتى بما التزمه وحصل المقصود به، وهذا لأنه ما التزم التسليم إلا مرة.
قال: "وإذا كفل على أن يسلمه في مجلس القاضي فسلمه في السوق برئ" لحصول المقصود، وقيل في زماننا: لا يبرأ لأن الظاهر المعاونة على الامتناع لا على الإحضار فكان التقييد مفيدا "وإن سلمه في برية لم يبرأ" لأنه لا يقدر على المخاصمة فيها فلم يحصل المقصود، وكذا إذا سلمه في سواد لعدم قاض يفصل الحكم فيه، ولو سلم في مصر آخر غير المصر الذي كفل فيه برئ عند أبي حنيفة للقدرة على المخاصمة فيه. وعندهما لا يبرأ لأنه قد تكون شهوده فيما عينه. ولو سلمه في السجن وقد حبسه غير الطالب لا يبرأ لأنه لا يقدر على المخاصمة فيه.
قال: "وإذا مات المكفول به برئ الكفيل بالنفس من الكفالة" لأنه عجز عن إحضاره، ولأنه سقط الحضور عن الأصيل فيسقط الإحضار عن الكفيل، وكذا إذا مات الكفيل لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب بخلاف الكفيل بالمال. ولو مات المكفول له فللوصي أن يطالب الكفيل، فإن لم يكن فلوارثه لقيامه مقام الميت.
قال: "ومن كفل بنفس آخر ولم يقل إذا دفعت إليك فأنا بريء فدفعه إليه فهو بريء" لأنه موجب التصرف فيثبت بدون التنصيص عليه، ولا يشترط قبول الطالب التسليم كما في قضاء الدين، ولو سلم المكفول به نفسه من كفالته صح لأنه مطالب بالخصومة فكان له ولاية الدفع، وكذا إذا سلمه إليه وكيل الكفيل أو رسوله لقيامهما مقامه.
قال: "فإن تكفل بنفسه على أنه إن لم يواف به إلى وقت كذا فهو ضامن لما عليه وهو ألف فلم يحضره إلى ذلك الوقت لزمه ضمان المال" لأن الكفالة بالمال معلقة بشرط عدم الموافاة، وهذا التعليق صحيح، فإذا وجد الشرط لزمه المال "ولا يبرأ عن الكفالة بالنفس" لأن(3/88)
وجوب المال عليه بالكفالة لا ينافي الكفالة بنفسه إذ كل واحد منهما للتوثق. وقال الشافعي: لا تصح هذه الكفالة لأنه تعليق سبب وجوب المال بالخطر فأشبه البيع. ولنا أنه يشبه البيع ويشبه النذر من حيث إنه التزام. فقلنا: لا يصح تعليقه بمطلق الشرط كهبوب الريح ونحوه. ويصح بشرط متعارف عملا بالشبهين والتعليق بعدم الموافاة متعارف.
قال: "ومن كفل بنفس رجل وقال إن لم يواف به غدا فعليه المال، فإن مات المكفول عنه ضمن المال" لتحقق الشرط وهو عدم الموافاة.
قال: "ومن ادعى على آخر مائة دينار بينها أو لم يبينها حتى تكفل بنفسه رجل على أنه إن لم يواف به غدا فعليه المائة فلم يواف به غدا فعليه المائة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: إن لم يبينها حتى تكفل به رجل ثم ادعى بعد ذلك لم يلتفت إلى دعواه" لأنه علق مالا مطلقا بخطر؛ ألا يرى أنه لم ينسبه إلى ما عليه، ولا تصح الكفالة على هذا الوجه وإن بينها ولأنه لم تصح الدعوى من غير بيان فلا يجب إحضار النفس، وإذا لم يجب لا تصح الكفالة بالنفس فلا تصح بالمال لأنه بناء عليه، بخلاف ما إذا بين. ولهما أن المال ذكر معرفا فينصرف إلى ما عليه، والعادة جرت بالإجمال في الدعاوى فتصح الدعوى على اعتبار البيان، فإذا بين التحق البيان بأصل الدعوى فتبين صحة الكفالة الأولى فيترتب عليها الثانية.
قال: "ولا تجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة رحمه الله" معناه: لا يجبر عليها عنده، وقالا: يجبر في حد القذف لأن فيه حق العبد وفي القصاص لأنه خالص حق العبد فيليق بهما الاستيثاق كما في التعزير، بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "لا كفالة في حد من غير فصل" ولأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق، بخلاف سائر الحقوق لأنها لا تندرئ بالشبهات فيليق بها الاستيثاق كما في التعزير "ولو سمحت نفسه به يصح بالإجماع" لأنه أمكن ترتيب موجبه عليه لأن تسليم النفس فيها واجب فيطالب به الكفيل فيتحقق الضم.
قال: "ولا يحبس فيها حتى يشهد شاهدان مستوران أو شاهد عدل يعرفه القاضي" لأن الحبس للتهمة هاهنا، والتهمة تثبت بأحد شطري الشهادة: إما العدد أو العدالة، بخلاف الحبس في باب الأموال لأنه أقصى عقوبة فيه فلا يثبت إلا بحجة كاملة. وذكر في كتاب(3/89)
أدب القاضي أن على قولهما لا يحبس في الحدود والقصاص بشهادة الواحد لحصول الاستيثاق بالكفالة.
قال: "والرهن والكفالة جائزان في الخراج" لأنه دين مطالب به ممكن الاستيفاء فيمكن ترتيب موجب العقد عليه فيهما.
قال: "ومن أخذ من رجل كفيلا بنفسه ثم ذهب فأخذ منه كفيلا آخر فهما كفيلان" لأن موجبه التزام المطالبة وهي متعددة والمقصود التوثق، وبالثانية يزداد التوثق فلا يتنافيان "وأما الكفالة بالمال فجائزة معلوما كان المكفول به أو مجهولا إذا كان دينا صحيحا مثل أن يقول تكفلت عنه بألف أو بما لك عليه أو بما يدركك في هذا البيع" لأن مبنى الكفالة على التوسع فيتحمل فيها الجهالة، وعلى الكفالة بالدرك إجماع وكفى به حجة، وصار كما إذا كفل لشجة صحت الكفالة وإن احتملت السراية والاقتصار، وشرط أن يكون دينا صحيحا ومراده أن لا يكون بدل الكتابة، وسيأتيك في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال: "والمكفول له بالخيار إن شاء طالب الذي عليه الأصل وإن شاء طالب كفيله" لأن الكفالة ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة وذلك يقتضي قيام الأول لا البراءة عنه، إلا إذا شرط فيه البراءة فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا للمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ بها المحيل تكون كفالة "ولو طالب أحدهما له أن يطالب الآخر وله أن يطالبهما" لأن مقتضاه الضم، بخلاف المالك إذا اختار تضمين أحد الغاصبين لأن اختياره أحدهما يتضمن التمليك منه فلا يمكنه التمليك من الثاني، أما المطالبة بالكفالة لا تتضمن التمليك فوضح الفرق.
قال: "ويجوز تعليق الكفالة بالشروط" مثل أن يقول ما بايعت فلانا فعلي أو ما ذاب لك عليه فعلي أو ما غصبك فعلي. والأصل فيه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] والإجماع منعقد على صحة ضمان الدرك، ثم الأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم لها مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله إذا استحق المبيع، أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله إذا قدم زيد وهو مكفول عنه، أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله إذا غاب عن البلدة، وما ذكر من الشروط في معنى ما ذكرناه، فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله إن هبت الريح أو جاء المطر وكذا إذا جعل واحد منهما أجلا، إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة كالطلاق والعتاق. "فإن قال تكفلت بما لك عليه فقامت البينة بألف عليه ضمنه الكفيل" لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيتحقق ما عليه فيصح الضمان به "وإن لم تقم البينة فالقول قول(3/90)
الكفيل مع يمينه في مقدار ما يعترف به" لأنه منكر للزيادة "فإن اعترف المكفول عنه بأكثر من ذلك لم يصدق على كفيله" لأنه إقرار على الغير ولا ولاية له عليه "ويصدق في حق نفسه" لولايته عليها.
قال: "وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره" لإطلاق ما روينا ولأنه التزام المطالبة وهو تصرف في حق نفسه وفيه نفع للطالب ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إذ هو عند أمره وقد رضي به "فإن كفل بأمره رجع بما أدى عليه" لأنه قضى دينه بأمره "وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه" لأنه متبرع بأدائه، وقوله رجع بما أدى معناه إذا أدى ما ضمنه، أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن لأنه ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب، كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث، وكما إذا ملكه المحتال عليه بما ذكرنا في الحوالة، بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى؛ لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء، وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة لأنه إسقاط فصار كما إذا أبرأ الكفيل.
قال: "وليس للكفيل أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن يؤدي عنه" لأنه لا يملكه قبل الأداء، بخلاف الوكيل بالشراء حيث يرجع قبل الأداء لأنه انعقد بينهما مبادلة حكمية.
قال: "فإن لوزم بالمال كان له أن يلازم المكفول عنه حتى يخلصه" وكذا إذا حبس كان له أن يحبسه لأنه لحقه ما لحقه من جهته فيعامله بمثله "وإذا أبرأ الطالب المكفول عنه أو استوفى منه برئ الكفيل" لأن براءة الأصيل توجب براءة الكفيل لأن الدين عليه في الصحيح "وإن أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل عنه" لأنه تبع، ولأن عليه المطالبة وبقاء الدين على الأصيل بدونه جائز "وكذا إذا أخر الطالب عن الأصيل فهو تأخير عن الكفيل، ولو أخر عن الكفيل لم يكن تأخيرا عن الذي عليه الأصل" لأن التأخير إبراء موقت فيعتبر بالإبراء المؤبد، بخلاف ما إذا كفل بالمال الحال مؤجلا إلى شهر فإنه يتأجل عن الأصيل لأنه لا حق له إلا الدين حال وجود الكفالة فصار الأجل داخلا فيه، أما هاهنا فبخلافه.
قال: "فإن صالح الكفيل رب المال عن الألف على خمسمائة فقد برئ الكفيل والذي عليه الأصل" لأنه أضاف الصلح إلى الألف الدين وهي على الأصيل فبرئ عن خمسمائة لأنه إسقاط وبراءته توجب براءة الكفيل، ثم برئا جميعا عن خمسمائة بأداء الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بخمسمائة إن كانت الكفالة بأمره، بخلاف ما إذا صالح على جنس آخر لأنه مبادلة حكمية فملكه فيرجع بجميع الألف، ولو كان صالحه عما استوجب بالكفالة(3/91)
لا يبرأ الأصيل؛ لأن هذا إبراء الكفيل عن المطالبة.
قال: "ومن قال لكفيل ضمن له مالا قد برئت إلي من المال رجع الكفيل على المكفول عنه" معناه بما ضمن له بأمره لأن البراءة التي ابتداؤها من المطلوب وانتهاؤها إلى الطالب لا تكون إلا بالإيفاء، فيكون هذا إقرارا بالأداء فيرجع "وإن قال أبرأتك لم يرجع الكفيل على المكفول عنه" لأنه براءة لا تنتهي إلى غيره وذلك بالإسقاط فلم يكن إقرارا بالإيفاء. ولو قال برئت قال محمد رحمه الله هو مثل الثاني لأنه يحتمل البراءة بالأداء إليه والإبراء فيثبت الأدنى إذ لا يرجع الكفيل بالشك. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو مثل الأول لأنه أقر ببراءة ابتداؤها من المطلوب وإليه الإيفاء دون الإبراء. وقيل في جميع ما ذكرنا إذا كان الطالب حاضرا يرجع في البيان إليه لأنه هو المجمل.
قال: "ولا يجوز تعليق البراءة من الكفالة بالشرط" لما فيه من معنى التمليك كما في سائر البراءات. ويروى أنه يصح لأن عليه المطالبة دون الدين في الصحيح فكان إسقاطا محضا كالطلاق، ولهذا لا يرتد الإبراء عن الكفيل بالرد بخلاف إبراء الأصيل.
قال: "وكل حق لا يمكن استيفاؤه من الكفيل لا تصح الكفالة به كالحدود والقصاص" معناه بنفس الحد لا بنفس من عليه الحد لأنه يتعذر إيجابه عليه، وهذا لأن العقوبة لا تجري فيها النيابة.
قال: "وإذا تكفل عن المشتري بالثمن جاز" لأنه دين كسائر الديون "وإن تكفل عن البائع بالمبيع لم تصح" لأنه عين مضمون بغيره وهو الثمن والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها كالمبيع بيعا فاسدا والمقبوض على سوم الشراء والمغصوب، لا بما كان مضمونا بغيره كالمبيع والمرهون، ولا بما كان أمانة كالوديعة والمستعار والمستأجر ومال المضاربة والشركة. ولو كفل بتسليم المبيع قبل القبض أو بتسليم الرهن بعد القبض إلى الراهن أو بتسليم المستأجر إلى المستأجر جاز لأنه التزم فعلا واجبا.
قال: "ومن استأجر دابة للحمل عليها، فإن كانت بعينها لا تصح الكفالة بالحمل" لأنه عاجز عنه "وإن كانت بغير عينها جازت الكفالة" لأنه يمكنه الحمل على دابة نفسه والحمل هو المستحق "وكذا من استأجر عبدا للخدمة فكفل له رجل بخدمته فهو باطل" لما بينا.
قال: "ولا تصح الكفالة إلا بقبول المكفول له في المجلس" وهذا عند أبي حنيفة(3/92)
ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا: يجوز إذا بلغه أجاز، ولم يشترط في بعض النسخ الإجازة، والخلاف في الكفالة بالنفس والمال جميعا. له أنه تصرف التزام فيستبد به الملتزم، وهذا وجه هذه الرواية عنه. ووجه التوقف ما ذكرناه في الفضولي في النكاح. ولهما أن فيه معنى التمليك وهو تمليك المطالبة منه فيقوم بهما جميعا والموجود شطره فلا يتوقف على ما وراء المجلس "إلا في مسألة واحدة وهي أن يقول المريض لوارثه تكفل عني بما علي من الدين فكفل به مع غيبة الغرماء جاز" لأن ذلك وصية في الحقيقة ولهذا تصح وإن لم يسم المكفول لهم، ولهذا قالوا: إنما تصح إذا كان له مال أو يقال إنه قائم مقام الطالب لحاجته إليه تفريغا لذمته وفيه نفع الطالب فصار كما إذا حضر بنفسه، وإنما يصح بهذا اللفظ، ولا يشترط القبول لأنه يراد به التحقيق دون المساومة ظاهرا في هذه الحالة فصار كالأمر بالنكاح، ولو قال المريض ذلك لأجنبي اختلف المشايخ فيه.
قال: "وإذا مات الرجل وعليه ديون ولم يترك شيئا فتكفل عنه رجل للغرماء لم تصح عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: تصح" لأنه كفل بدين ثابت لأنه وجب لحق الطالب، ولم يوجد المسقط ولهذا يبقى في حق أحكام الآخرة، ولو تبرع به إنسان يصح، وكذا يبقى إذا كان به كفيل أو مال. وله أنه كفل بدين ساقط لأن الدين هو الفعل حقيقة ولهذا يوصف بالوجوب. لكنه في الحكم مال لأنه يئول إليه في المآل وقد عجز بنفسه وبخلفه ففات عاقبة الاستيفاء فيسقط ضرورة، والتبرع لا يعتمد قيام الدين، وإذا كان به كفيل أو له مال فخلفه أو الإفضاء إلى الأداء باق.
قال: "ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها" لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين فلا يجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر، بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة لأنه تمحض أمانة في يده "وإن ربح الكفيل فيه فهو لا يتصدق به" لأنه ملكه حين قبضه، أما إذا قضى الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه وثبت له حق الاسترداد لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء فنزل منزلة الدين المؤجل، ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه إلا أن فيه نوع خبث نبينه فلا يعمل مع الملك فيما لا يتعين وقد قررناه في البيوع "ولو كانت الكفالة بكر حنطة فقبضها الكفيل فباعها وربح فيها فالربح له في الحكم" لما بينا أنه ملكه.
"وأحب إلي أن يرده على الذي قضاه الكر ولا يجب عليه في الحكم" وهذا عند(3/93)
أبي حنيفة رحمه الله في رواية الجامع الصغير، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: هو له ولا يرده على الذي قضاه وهو رواية عنه، وعنه أنه يتصدق به. لهما أنه ربح في ملكه على الوجه الذي بيناه فيسلم له. وله أنه تمكن الخبث مع الملك، إما لأنه بسبيل من الاسترداد بأن يقضيه بنفسه، أو لأنه رضي به على اعتبار قضاء الكفيل، فإذا قضاه بنفسه لم يكن راضيا به وهذا الخبث يعمل فيما يتعين فيكون سبيله التصدق في رواية، ويرده عليه في رواية لأن الخبث لحقه، وهذا أصح لكنه استحباب لا جبر لأن الحق له.
قال: "ومن كفل عن رجل بألف عليه بأمره فأمره الأصيل أن يتعين عليه حريرا ففعل فالشراء للكفيل والربح الذي ربحه البائع فهو عليه" ومعناه الأمر ببيع العينة مثل أن يستقرض من تاجر عشرة فيتأبى عليه ويبيع منه ثوبا يساوي عشرة بخمسة عشر مثلا رغبة في نيل الزيادة ليبيعه المستقرض بعشرة ويتحمل عليه خمسة؛ سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين، وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل. ثم قيل: هذا ضمان لما يخسر المشتري نظرا إلى قوله علي وهو فاسد وليس بتوكيل وقيل هو توكيل فاسد؛ لأن الحرير غير متعين، وكذا الثمن غير متعين لجهالة ما زاد على الدين، وكيفما كان فالشراء للمشتري وهو الكفيل والربح: أي الزيادة عليه لأنه العاقد.
قال: "ومن كفل عن رجل بما ذاب له عليه أو بما قضى له عليه فغاب المكفول عنه فأقام المدعي البينة على الكفيل بأن له على المكفول عنه ألف درهم لم تقبل بينته" لأن المكفول به مال مقضي به وهذا في لفظة القضاء ظاهر، وكذا في الأخرى لأن معنى ذاب تقرر وهو بالقضاء أو مال يقضى به وهذا ماض أريد به المستأنف كقوله: أطال الله بقاءك فالدعوى مطلق عن ذلك فلا تصح. "ومن أقام البينة أن له على فلان كذا وأن هذا كفيل عنه بأمره فإنه يقضى به على الكفيل وعلى المكفول عنه، وإن كانت الكفالة بغير أمره يقضى على الكفيل خاصة" وإنما تقبل لأن المكفول به مال مطلق، بخلاف ما تقدم، وإنما يختلف بالأمر وعدمه لأنهما يتغايران، لأن الكفالة بأمر تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء، وبغير أمر تبرع ابتداء وانتهاء، فبدعواه أحدهما لا يقضى له بالآخر، وإذا قضي بها بالأمر ثبت أمره، وهو يتضمن الإقرار بالمال فيصير مقضيا عليه، والكفالة بغير أمره لا تمس جانبه لأنه تعتمد صحتها قيام الدين في زعم الكفيل فلا يتعدى إليه، وفي الكفالة بأمره يرجع الكفيل بما أدى على الآمر. وقال زفر رحمه الله: لا يرجع؛ لأنه لما أنكر فقد ظلم في زعمه فلا يظلم غيره ونحن نقول صار مكذبا شرعا فبطل ما زعمه.
قال: "ومن باع دارا وكفل رجل عنه بالدرك فهو تسليم" لأن الكفالة لو كانت مشروطة(3/94)
في البيع فتمامه بقبوله، ثم بالدعوى يسعى في نقض ما تم من جهته، وإن لم تكن مشروطة فيه فالمراد بها أحكام البيع وترغيب المشتري فيه إذ لا يرغب فيه دون الكفالة فنزل منزلة الإقرار بملك البائع.
قال: "ولو شهد وختم ولم يكفل لم يكن تسليما وهو على دعواه" لأن الشهادة لا تكون مشروطة في البيع ولا هي بإقرار بالملك لأن البيع مرة يوجد من المالك وتارة من غيره، ولعله كتب الشهادة ليحفظ الحادثة بخلاف ما تقدم، قالوا: إذا كتب في الصك باع وهو يملكه أو بيعا باتا نافذا وهو كتب شهد بذلك فهو تسليم، إلا إذا كتب الشهادة على إقرار المتعاقدين.(3/95)
فصل: في الضمان
قال: "ومن باع لرجل ثوبا وضمن له الثمن أو مضارب ضمن ثمن متاع رب المال فالضمان باطل" لأن الكفالة التزام المطالبة وهي إليهما فيصير كل واحد منهما ضامنا لنفسه، ولأن المال أمانة في أيديهما والضمان تغيير لحكم الشرع فيرد عليه كاشتراطه على المودع والمستعير "وكذا رجلان باعا عبدا صفقة واحدة وضمن أحدهما لصاحبه حصته من الثمن" لأنه لو صح الضمان مع الشركة يصير ضامنا لنفسه، ولو صح في نصيب صاحبه خاصة يؤدي إلى قسمة الدين قبل قبضه ولا يجوز ذلك، بخلاف ما إذا باعا بصفقتين لأنه لا شركة؛ ألا ترى أن للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما ويقبض إذا نقد ثمن حصته وإن قبل الكل.
قال: "ومن ضمن عن آخر خراجه ونوائبه وقسمته فهو جائز. أما الخراج فقد ذكرناه وهو" يخالف الزكاة، لأنها مجرد فعل ولهذا لا تؤدى بعد موته من تركته إلا بوصية. وأما النوائب، فإن أريد بها ما يكون بحق ككري النهر المشترك وأجر الحارس والموظف لتجهيز الجيش وفداء الأسارى وغيرها جازت الكفالة بها على الاتفاق، وإن أريد بها ما ليس بحق كالجبايات في زماننا ففيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وممن يميل إلى الصحة الإمام علي البزدوي، وأما القسمة فقد قيل: هي النوائب بعينها أو حصة منها والرواية بأو، وقيل هي النائبة الموظفة الراتبة، والمراد بالنوائب ما ينوبه غير راتب والحكم ما بيناه.
"ومن قال لآخر لك علي مائة إلى شهر وقال المقر له هي حالة"، فالقول قول المدعي، ومن قال ضمنت لك عن فلان مائة إلى شهر وقال المقر له هي حالة فالقول قول الضامن". ووجه الفرق أن المقر أقر بالدين. ثم ادعى حقا لنفسه وهو تأخير المطالبة إلى أجل وفي الكفالة ما أقر(3/95)
بالدين لأنه لا دين عليه في الصحيح، وإنما أقر بمجرد المطالبة بعد الشهر، ولأن الأجل في الديون عارض حتى لا يثبت إلا بشرط فكان القول قول من أنكر الشرط كما في الخيار، أما الأجل في الكفالة فنوع منها حتى يثبت من غير شرط بأن كان مؤجلا على الأصيل، والشافعي رحمه الله ألحق الثاني بالأول، وأبو يوسف رحمه الله فيما يروى عنه ألحق الأول بالثاني والفرق قد أوضحناه.
قال: "ومن اشترى جارية فكفل له رجل بالدرك فاستحقت لم يأخذ الكفيل حتى يقضى له بالثمن على البائع" لأن بمجرد الاستحقاق لا ينتقض البيع على ظاهر الرواية ما لم يقض له بالثمن على البائع فلم يجب له على الأصيل رد الثمن فلا يجب على الكفيل، بخلاف القضاء بالحرية لأن البيع يبطل بها لعدم المحلية فيرجع على البائع والكفيل. وعن أبي يوسف أنه يبطل البيع بالاستحقاق، فعلى قياس قوله يرجع بمجرد الاستحقاق وموضعه أوائل الزيادات في ترتيب الأصل. "ومن اشترى عبدا فضمن له رجل بالعهدة فالضمان باطل" لأن هذه اللفظة مشتبهة قد تقع على الصك القديم وهو ملك البائع فلا يصح ضمانه، وقد تقع على العقد وعلى حقوقه وعلى الدرك وعلى الخيار، ولكل ذلك وجه فتعذر العمل بها، بخلاف الدرك لأنه استعمل في ضمان الاستحقاق عرفا، ولو ضمن الخلاص لا يصح عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه عبارة عن تخليص المبيع وتسليمه لا محالة وهو غير قادر عليه، وعندهما هو بمنزلة الدرك وهو تسليم البيع أو قيمته فصح.(3/96)
باب كفالة الرجلين
"وإذا كان الدين على اثنين وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه كما إذا اشتريا عبدا بألف درهم وكفل كل واحد منهما عن صاحبه فما أدى أحدهما لم يرجع على شريكه حتى يزيد ما يؤديه على النصف فيرجع بالزيادة" لأن كل واحد منهما في النصف أصيل وفي النصف الآخر كفيل، ولا معارضة بين ما عليه بحق الأصالة وبحق الكفالة، لأن الأول دين والثاني مطالبة، ثم هو تابع للأول فيقع عن الأول، وفي الزيادة لا معارضة فيقع عن الكفالة، ولأنه لو وقع في النصف عن صاحبه فيرجع عليه فلصاحبه أن يرجع لأن أداء نائبه كأدائه فيؤدي إلى الدور "وإذا كفل رجلان عن رجل بمال على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على شريكه بنصفه قليلا كان أو كثيرا" ومعنى المسألة في الصحيح أن تكون الكفالة بالكل عن الأصيل وبالكل عن الشريك والمطالبة متعددة فتجتمع الكفالتان على ما مر وموجبها التزام المطالبة فتصح الكفالة عن الكفيل كما تصح(3/96)
الكفالة عن الأصيل وكما تصح الحوالة من المحتال عليه. وإذا عرف هذا فما أداه أحدهما وقع شائعا عنهما إذ الكل كفالة فلا ترجيح للبعض على البعض بخلاف ما تقدم فيرجع على شريكه بنصفه ولا يؤدي إلى الدور لأن قضيته الاستواء، وقد حصل برجوع أحدهما بنصف ما أدى فلا ينتقض برجوع الآخر عليه، بخلاف ما تقدم، ثم يرجعان على الأصيل لأنهما أديا عنه أحدهما بنفسه والآخر بنائبه "وإن شاء رجع بالجميع على المكفول عنه" لأنه كفل بجميع المال عنه بأمره.
قال: "وإذا أبرأ رب المال أحدهما أخذ الآخر بالجميع لأن إبراء الكفيل لا يوجب" براءة الأصيل فبقي المال كله على الأصيل والآخر كفيل عنه بكله على ما بيناه ولهذا يأخذه به.
قال: "وإذا افترق المتفاوضان فلأصحاب الديون أن يأخذوا أيهما شاءوا بجميع الدين" لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه على ما عرف في الشركة "ولا يرجع أحدهما على صاحبه حتى يؤدي أكثر من النصف" لما مر من الوجهين في كفالة الرجلين.
قال: "وإذا كوتب العبدان كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فكل شيء أداه أحدهما رجع على صاحبه بنصفه" ووجهه أن هذا العقد جائز استحسانا، وطريقه أن يجعل كل واحد منهما أصيلا في حق وجوب الألف عليه فيكون عتقهما معلقا بأدائه ويجعل كفيلا بالألف في حق صاحبه، وسنذكره في المكاتب إن شاء الله تعالى، وإذا عرف ذلك فما أداه أحدهما رجع بنصفه على صاحبه لاستوائهما، ولو رجع بالكل لا تتحقق المساواة.
قال: "ولو لم يؤديا شيئا حتى أعتق المولى أحدهما جاز العتق" لمصادفته ملكه وبرئ عن النصف لأنه ما رضي بالتزام المال إلا ليكون المال وسيلة إلى العتق وما بقي وسيلة فيسقط ويبقى النصف على الآخر؛ لأن المال في الحقيقة مقابل برقبتهما. وإنما جعل على كل واحد منهما احتيالا لتصحيح الضمان، وإذا جاء العتق استغنى عنه فاعتبر مقابلا برقبتهما فلهذا يتنصف، وللمولى أن يأخذ بحصة الذي لم يعتق أيهما شاء المعتق بالكفالة وصاحبه بالأصالة، وإن أخذ الذي أعتق رجع على صاحبه بما يؤدي لأنه مؤد عنه بأمره، وإن أخذ الآخر لم يرجع على المعتق بشيء لأنه أدى عن نفسه والله أعلم.(3/97)
باب كفالة العبد وعنه
"ومن ضمن عن عبد مالا لا يجب عليه حتى يعتق ولم يسم حالا ولا غيره فهو حال"(3/97)
لأن المال حال عليه لوجود السبب وقبول الذمة، إلا أنه لا يطالب لعسرته، إذ جميع ما في يده ملك المولى ولم يرض بتعلقه به والكفيل غير معسر، فصار كما إذا كفل عن غائب أو مفلس، بخلاف الدين المؤجل لأنه متأخر بمؤخر، ثم إذا أدى رجع على العبد بعد العتق لأن الطالب لا يرجع عليه إلا بعد العتق، فكذا الكفيل لقيامه مقامه. "ومن ادعى على عبد مالا وكفل له رجل بنفسه فمات العبد برئ الكفيل" لبراءة الأصيل كما إذا كان المكفول عنه بنفسه حرا.
قال: "فإن ادعى رقبة العبد فكفل به رجل فمات العبد فأقام المدعي البينة أنه كان له ضمن الكفيل قيمته" لأن على المولى ردها على وجه يخلفها قيمتها، وقد التزم الكفيل ذلك وبعد الموت تبقى القيمة واجبة على الأصيل فكذا على الكفيل، بخلاف الأول.
قال: "وإذا كفل العبد عن مولاه بأمره فعتق فأداه أو كان المولى كفل عنه فأداه بعد العتق لم يرجع واحد منهما على صاحبه" وقال زفر: يرجع، ومعنى الوجه الأول أن لا يكون على العبد دين حتى تصح كفالته بالمال عن المولى إذا كان بأمره، أما كفالته عن العبد فتصح على كل حال. له أنه تحقق الموجب للرجوع وهو الكفالة بأمره والمانع وهو الرق قد زال. ولنا أنها وقعت غير موجبة للرجوع لأن المولى لا يستوجب على عبده دينا وكذا العبد على مولاه، فلا تنقلب موجبة أبدا كمن كفل عن غيره بغير أمره فأجازه. "ولا تجوز الكفالة بمال الكتابة حر تكفل به أو عبد" لأنه دين ثبت مع المنافي فلا يظهر في حق صحة الكفالة، ولأنه لو عجز نفسه سقط، ولا يمكن إثباته على هذا الوجه في ذمة الكفيل، وإثباته مطلقا ينافي معنى الضم لأن من شرطه الاتحاد، وبدل السعاية كمال الكتابة في قول أبي حنيفة لأنه كالمكاتب عنده.(3/98)
كتاب الحوالة
حكمها وشروطها
...
كتاب الحوالة
قال: "وهي جائزة بالديون" قال عليه الصلاة والسلام: "من أحيل على مليء فليتبع" ولأنه التزم ما يقدر على تسليمه فتصح كالكفالة، وإنما اختصت بالديون لأنها تنبئ عن النقل والتحويل، والتحويل في الدين لا في العين.
قال: "وتصح الحوالة برضا المحيل والمحتال والمحتال عليه" أما المحتال فلأن الدين حقه وهو الذي ينتقل بها والذمم متفاوتة فلا بد من رضاه، وأما المحتال عليه فلأنه يلزمه الدين ولا لزوم بدون التزامه، وأما المحيل فالحوالة تصح بدون رضاه ذكره في الزيادات لأن التزام الدين من المحتال عليه تصرف في حق نفسه وهو لا يتضرر به بل فيه نفعه لأنه لا يرجع عليه إذا لم يكن بأمره.
قال: "وإذا تمت الحوالة برئ المحيل من الدين بالقبول" وقال زفر: لا يبرأ اعتبارا بالكفالة، إذ كل واحد منهما عقد توثق، ولنا أن الحوالة للنقل لغة، ومنه حوالة الغراس والدين متى انتقل عن الذمة لا يبقى فيها. أما الكفالة فللضم والأحكام الشرعية على وفاق المعاني اللغوية والتوثق باختيار الأملإ والأحسن في القضاء، وإنما يجبر على القبول إذا نقد المحيل لأنه يحتمل عود المطالبة إليه بالتوى فلم يكن متبرعا.
قال: "ولا يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوى حقه" وقال الشافعي رحمه الله: لا يرجع وإن توي لأن البراءة حصلت مطلقة فلا تعود إلا بسبب جديد. ولنا أنها مقيدة بسلامة حقه له إذ هو المقصود، أو تنفسخ الحوالة لفواته لأنه قابل للفسخ فصار كوصف السلامة في المبيع.
قال: "والتوى عند أبي حنيفة رحمه الله أحد الأمرين: إما أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة له عليه، أو يموت مفلسا" لأن العجز عن الوصول يتحقق بكل واحد منهما وهو التوى في الحقيقة "وقالا هذان الوجهان. ووجه ثالث وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه حال حياته"(3/99)
وهذا بناء على أن الإفلاس لا يتحقق بحكم القاضي عنده خلافا لهما، لأن مال الله غاد ورائح.
قال: "وإذا طالب المحتال عليه المحيل بمثل مال الحوالة فقال المحيل أحلت بدين لي عليك لك يقبل قوله وكان عليه مثل الدين" لأن سبب الرجوع قد تحقق وهو قضاء دينه بأمره إلا أن المحيل يدعي عليه دينا وهو ينكر والقول للمنكر، ولا تكون الحوالة إقرارا منه بالدين عليه لأنها قد تكون بدونه.
قال: "وإذا طالب المحيل المحتال بما أحاله به فقال إنما أحلتك لتقبضه لي وقال المحتال لا بل أحلتني بدين كان لي عليك فالقول قول المحيل" لأن المحتال يدعي عليه الدين وهو ينكر ولفظة الحوالة مستعملة في الوكالة فيكون القول قوله مع يمينه.
قال: "ومن أودع رجلا ألف درهم وأحال بها عليه آخر فهو جائز لأنه أقدر على القضاء، فإن هلكت برئ" لتقيدها بها، فإنه ما التزم الأداء إلا منها، بخلاف ما إذا كانت مقيدة بالمغصوب لأن الفوات إلى خلف كلا فوات، وقد تكون الحوالة مقيدة بالدين أيضا، وحكم المقيدة في هذه الجملة أن لا يملك المحيل مطالبة المحتال عليه لأنه تعلق به حق المحتال على مثال الرهن وإن كان أسوة للغرماء بعد موت المحيل، وهذا لأنه لو بقي له مطالبته فيأخذه منه لبطلت الحوالة وهي حق المحتال. بخلاف المطلقة لأنه لا تعلق لحقه به بل بذمته فلا تبطل الحوالة بأخذ ما عليه أو عنده.
قال: "ويكره السفاتج وهي قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق" وهذا نوع نفع استفيد به وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعا.(3/100)
كتاب أدب القاضي
شروط صحة ولاية القاضي
مدخل
...
كتاب أدب القاضي
قال: "ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد" أما الأول فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة لأن كل واحد منهما من باب الولاية، فكل من كان أهلا للشهادة يكون أهلا للقضاء وما يشترط لأهلية الشهادة يشترط لأهلية القضاء. والفاسق أهل للقضاء حتى لو قلد يصح، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد كما في حكم الشهادة فإنه لا ينبغي أن يقبل القاضي شهادته، ولو قبل جاز عندنا. ولو كان القاضي عدلا ففسق بأخذ الرشوة أو غيره لا ينعزل ويستحق العزل، وهذا هو ظاهر المذهب وعليه مشايخنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: الفاسق لا يجوز قضاؤه كما لا تقبل شهادته عنده، وعن علمائنا الثلاثة رحمهم الله في النوادر أنه لا يجوز قضاؤه. وقال بعض المشايخ رحمهم الله: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح، ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا بتقليده دونها. وهل يصلح الفاسق مفتيا؟ قيل لا لأنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات، وقيل يصلح لأنه يجتهد كل الجهد في إصابة الحق حذار النسبة إلى الخطإ، وأما الثاني فالصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية. فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافا للشافعي رحمه الله، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره، ومقصود القضاء يحصل به وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وينبغي للمقلد أن يختار من هو الأقدر والأولى لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين". وفي حد الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه.
وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس لأن من الأحكام ما يبتني عليها.
قال: "ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة، ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف.(3/101)
قال: "ويكره الدخول فيه لمن يخاف العجز عنه ولا بأس على نفسه الحيف فيه" كي لا يصير شرطا لمباشرته القبيح، وكره بعضهم الدخول فيه مختارا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من جعل على القضاء فكأنما ذبح بغير سكين" والصحيح أن الدخول فيه رخصة طمعا في إقامة العدل والترك عزيمة فلعله يخطئ ظنه ولا يوفق له أو لا يعينه عليه غيره، ولا بد من الإعانة إلا إذا كان هو أهلا للقضاء دون غيره فحينئذ يفترض عليه التقلد صيانة لحقوق العباد وإخلاء للعالم عن الفساد.
قال: "وينبغي أن لا يطلب الولاية ولا يسألها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده" ولأن من طلبه يعتمد على نفسه فيحرم، ومن أجبر عليه يتوكل على ربه فيلهم. "ثم يجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل" لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه من معاوية رضي الله عنه والحق كان بيد علي رضي الله عنه في نوبته، والتابعين تقلدوه من الحجاج وكان جائزا إلا إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق لأن المقصود لا يحصل بالتقلد، بخلاف ما إذا كان يمكنه.
قال: "ومن قلد القضاء يسلم إليه ديوان القاضي الذي كان قبله" وهو الخرائط التي فيها السجلات وغيرها، لأنها وضعت فيها لتكون حجة عند الحاجة فتجعل في يد من له ولاية القضاء. ثم إن كان البياض من بيت المال فظاهر، وكذا إذا كان من مال الخصوم في الصحيح لأنهم وضعوها في يده لعمله وقد انتقل إلى المولى، وكذا إذا كان من مال القاضي هو الصحيح لأنه اتخذه تدينا لا تمولا، ويبعث أمينين ليقبضاها بحضرة المعزول أو أمينه ويسألانه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع منها في خريطة كي لا يشتبه على المولى، وهذا السؤال لكشف الحال لا للإلزام.
قال: "وينظر في حال المحبوسين" لأنه نصب ناظرا "فمن اعترف بحق ألزمه إياه" لأن الإقرار ملزم "ومن أنكر لم يقبل قول المعزول عليه إلا ببينة" لأنه بالعزل التحق بالرعايا، وشهادة الفرد ليست بحجة لا سيما إذا كانت على فعل نفسه "فإن لم تقم بينة لم يعجل بتخليته حتى ينادى عليه وينظر في أمره" لأن فعل القاضي المعزول حق ظاهر فلا يعجل كي لا يؤدي إلى إبطال حق الغير. "وينظر في الودائع وارتفاع الوقوف فيعمل فيه على ما تقوم به البينة أو يعترف به من هو في يده" لأن كل ذلك حجة. "ولا يقبل قول المعزول" لما بينا "إلا أن يعترف الذي هو في يده أن المعزول سلمها إليه فيقبل قوله فيها" لأنه ثبت بإقراره أن اليد كانت للقاضي فيصح إقرار القاضي كأنه في يده في الحال، إلا إذا بدأ بالإقرار لغيره ثم(3/102)
أقر بتسليم القاضي فيسلم ما في يده إلى المقر له الأول لسبق حقه ويضمن قيمته للقاضي بإقراره الثاني ويسلم إلى المقر له من جهة القاضي.
قال: "ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد" كي لا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين، والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر. وقال الشافعي رحمه الله: يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الخصومة في معتكفه وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات، ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة. ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره فلا يمنع من دخوله، والحائض تخبر بحالها فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها كما إذا كانت الخصومة في الدابة. ولو جلس في داره لا بأس به ويأذن للناس بالدخول فيها، ويجلس معه من كان يجلس قبل ذلك لأن في جلوسه وحده تهمة.
قال: "ولا يقبل هدية إلا من ذي رحم محرم أو ممن جرت عادته قبل القضاء بمهاداته" لأن الأول صلة الرحم والثاني ليس للقضاء بل جرى على العادة، وفيما وراء ذلك يصير آكلا بقضائه، حتى لو كانت للقريب خصومة لا يقبل هديته، وكذا إذا زاد المهدي على المعتاد أو كانت له خصومة لأنه لأجل القضاء فيتحاماه. ولا يحضر دعوة إلا أن تكون عامة لأن الخاصة لأجل القضاء فيتهم بالإجابة، بخلاف العامة، ويدخل في هذا الجواب قريبه وهو قولهما. وعن محمد رحمه الله أنه يجيبه وإن كانت خاصة كالهدية، والخاصة ما لو علم المضيف أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها.
قال: "ويشهد الجنازة ويعود المريض" لأن ذلك من حقوق المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: "للمسلم على المسلم ستة حقوق" وعد منها هذين. "ولا يضيف أحد الخصمين دون خصمه" لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولأن فيه تهمة.
قال: "وإذا حضرا سوى بينهما في الجلوس والإقبال" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة والنظر" "ولا يسار أحدهما ولا يشير إليه ولا يلقنه حجة" للتهمة ولأن فيه مكسرة لقلب الآخر فيترك حقه "ولا يضحك في وجه أحدهما" لأنه يجترئ على خصمه "ولا يمازحهم ولا واحدا منهم" لأنه يذهب بمهابة القضاء.(3/103)
قال: "ويكره تلقين الشاهد" ومعناه أن يقول له أتشهد بكذا وكذا، وهذا لأنه إعانة لأحد الخصمين فيكره كتلقين الخصم. واستحسنه أبو يوسف رحمه الله في غير موضع التهمة لأن الشاهد قد يحصر لمهابة المجلس فكان تلقينه إحياء للحق بمنزلة الإشخاص والتكفيل.(3/104)
فصل: في الحبس
قال: "وإذا ثبت الحق عند القاضي وطلب صاحب الحق حبس غريمه لم يعجل بحبسه وأمره بدفع ما عليه" لأن الحبس جزاء المماطلة فلا بد من ظهورها، وهذا إذا ثبت الحق بإقراره لأنه لم يعرف كونه مماطلا في أول الوهلة فلعله طمع في الإمهال فلم يستصحب المال، فإذا امتنع بعد ذلك حبسه لظهور مطله، أما إذا ثبت بالبينة حبسه كما ثبت لظهور المطل بإنكاره.
قال: "فإن امتنع حبسه في كل دين لزمه بدلا عن مال حصل في يده كثمن المبيع أو التزمه بعقد كالمهر والكفالة" لأنه إذا حصل المال في يده ثبت غناه به، وإقدامه على التزامه باختياره دليل يساره إذ هو لا يلتزم إلا ما يقدر على أدائه، والمراد بالمهر معجله دون مؤجله.
قال: "ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا قال إني فقير إلا أن يثبت غريمه أن له مالا فيحبسه" لأنه لم توجد دلالة اليسار فيكون القول قول من عليه الدين، وعلى المدعي إثبات غناه، ويروى أن القول لمن عليه الدين في جميع ذلك لأن الأصل هو العسرة. ويروى أن القول له إلا فيما بدله مال. وفي النفقة القول قول الزوج إنه معسر، وفي إعتاق العبد المشترك القول للمعتق، والمسألتان تؤديان القولين الأخيرين، والتخريج على ما قال في الكتاب أنه ليس بدين مطلق بل هو صلة حتى تسقط النفقة بالموت على الاتفاق، وكذا عند أبي حنيفة رحمه الله ضمان الإعتاق، ثم فيما كان القول قول المدعي إن له مالا، أو ثبت ذلك بالبينة فيما كان القول قول من عليه يحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه فالحبس لظهور ظلمه في الحال، وإنما يحبسه مدة ليظهر ماله لو كان يخفيه فلا بد من أن تمتد المدة ليفيد هذه الفائدة فقدره بما ذكره، ويروى غير ذلك من التقدير بشهر أو أربعة إلى ستة أشهر. والصحيح أن التقدير مفوض إلى رأي القاضي لاختلاف أحوال الأشخاص فيه.
قال: "فإن لم يظهر له مال خلي سبيله" يعني بعد مضي المدة لأنه استحق النظرة إلى الميسرة فيكون حبسه بعد ذلك ظلما ; ولو قامت البينة على إفلاسه قبل المدة تقبل في رواية، ولا تقبل في رواية، وعلى الثانية عامة المشايخ رحمهم الله. قال في الكتاب خلي سبيله ولا يحول(3/104)
بينه وبين غرمائه، وهذا كلام في الملازمة وسنذكره في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى.
وفي الجامع الصغير: رجل أقر عند القاضي بدين فإنه يحبسه ثم يسأل عنه، فإن كان موسرا أبد حبسه، وإن كان معسرا خلى سبيله، ومراده إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة وظهرت مماطلته والحبس أولا ومدته قد بيناه فلا نعيده.
قال: "ويحبس الرجل في نفقة زوجته" لأنه ظالم بالامتناع "ولا يحبس والد في دين ولده" لأنه نوع عقوبة فلا يستحقه الولد على الوالد كالحدود والقصاص "إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه" لأن فيه إحياء لولده، ولأنه لا يتدارك لسقوطها بمضي الزمان، والله أعلم الصواب.(3/105)
باب كتاب القاضي إلى القاضي
مدخل
...
باب كتاب القاضي إلى القاضي
قال: "ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحقوق إذا شهد به عنده" للحاجة على ما نبين "فإن شهدوا على خصم حاضر حكم بالشهادة" لوجود الحجة "وكتب بحكمه" وهو المدعو سجلا "وإن شهدوا به بغير حضرة الخصم لم يحكم" لأن القضاء على الغائب لا يجوز "وكتب بالشهادة" ليحكم المكتوب إليه بها وهذا هو الكتاب الحكمي، وهو نقل الشهادة في الحقيقة، ويختص بشرائط نذكرها إن شاء الله تعالى، وجوازه لمساس الحاجة لأن المدعي قد يتعذر عليه الجمع بين شهوده وخصمه فأشبه الشهادة على الشهادة. وقوله في الحقوق يندرج تحته الدين والنكاح والنسب والمغصوب والأمانة المجحودة والمضاربة المجحودة لأن كل ذلك بمنزلة الدين، وهو يعرف بالوصف لا يحتاج فيه إلى الإشارة، ويقبل في العقار أيضا لأن التعريف فيه بالتحديد. ولا يقبل في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقبل في العبد دون الأمة لغلبة الإباق فيه دونها. وعنه أنه يقبل فيهما بشرائط تعرف في موضعها. وعن محمد رحمه الله أنه يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه المتأخرون رحمهم الله.
قال: "ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" لأن الكتاب يشبه الكتاب فلا يثبت إلا بحجة تامة وهذا لأنه ملزم فلا بد من الحجة، بخلاف كتاب الاستئمان من أهل الحرب لأنه ليس بملزم، وبخلاف رسول القاضي إلى المزكى ورسوله إلى القاضي لأن الإلزام بالشهادة لا بالتزكية.
قال: "ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ليعرفوا ما فيه أو يعلمهم به" لأنه لا شهادة بدون العلم "ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم" كي لا يتوهم التغيير، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد(3/105)
رحمهما الله، لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط، وكذا حفظ ما في الكتاب عندهما ولهذا يدفع إليهم كتاب آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم. وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا: شيء من ذلك ليس بشرط، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه وعن أبي يوسف أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة. واختار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله.
قال: "وإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم" لأنه بمنزلة أداء الشهادة فلا بد من حضوره، بخلاف سماع القاضي الكاتب لأنه للنقل لا للحكم.
قال: "فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه فتحه القاضي وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم، وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء، حتى لو مات أو عزل أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب لا يقبله لأنه التحق بواحد من الرعايا، ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله أو في غير عملهما، وكذا لو مات المكتوب إليه إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلدة كذا وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن غيره صار تبعا له وهو معرف، بخلاف ما إذا كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه على ما عليه مشايخنا رحمهم الله لأنه غير معرف، ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه. "ولا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص" لأن فيه شبهة البدلية فصار كالشهادة على الشهادة، ولأن مبناهما على الإسقاط وفي قبوله سعي في إثباتهما.(3/106)
فصل: ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص
...
فصل آخر: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص"
اعتبارا بشهادتها. وقد مر الوجه. "وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض إليه ذلك" لأنه قلد القضاء دون التقليد به فصار كتوكيل الوكيل، بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث يستخلف لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان الأمر به إذنا بالاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء. ولو قضى الثاني بمحضر من الأول أو قضى الثاني فأجاز الأول جاز كما في الوكالة، وهذا(3/106)
لأنه حضره رأي الأول وهو الشرط، وإذا فوض إليه يملكه فيصير الثاني نائبا عن الأصيل حتى لا يملك الأول عزله إلا إذا فوض إليه العزل هو الصحيح.
قال: "وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولا لا دليل عليه. وفي الجامع الصغير: وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه" والأصل أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه ينفذه ولا يرده غيره، لأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، وقد يرجح الأول باتصال القضاء به فلا ينقض بما هو دونه. "ولو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه ناسيا لمذهبه نفذ عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان عامدا ففيه روايتان" ووجه النفاذ أنه ليس بخطأ بيقين، وعندهما لا ينفذ في الوجهين لأنه قضى بما هو خطأ عنده وعليه الفتوى، ثم المجتهد فيه أن لا يكون مخالفا لما ذكرنا. والمراد بالسنة المشهورة منها وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض وذلك خلاف وليس باختلاف والمعتبر الاختلاف في الصدر الأول.
قال: "وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر بتحريم فهو في الباطن كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله" وكذا إذا قضى بإحلال، وهذا إذا كانت الدعوى بسبب معين وهي مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور وقد مرت في النكاح.
قال: "ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه" وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لوجود الحجة وهي البينة فظهر الحق. ولنا أن العمل بالشهادة لقطع المنازعة، ولا منازعة دون الإنكار ولم يوجد، ولأنه يحتمل الإقرار والإنكار من الخصم فيشتبه وجه القضاء لأن أحكامهما مختلفة، ولو أنكر ثم غاب فكذلك لأن الشرط قيام الإنكار وقت القضاء، وفيه خلاف أبي يوسف رحمه الله، ومن يقوم مقامه قد يكون نائبا بإنابته كالوكيل أو بإنابة الشرع كالوصي من جهة القاضي، وقد يكون حكما بأن كان ما يدعي على الغائب سببا لما يدعيه على الحاضر وهذا في غير صورة في الكتب، أما إذا كان شرطا لحقه فلا معتبر به في جعله خصما عن الغائب وقد عرف تمامه في الجامع. قال: "ويقرض القاضي أموال اليتامى ويكتب ذكر الحق" لأن في الإقراض مصلحتهم لبقاء الأموال محفوظة مضمونة، والقاضي يقدر على الاستخراج والكتابة ليحفظه
"وإن أقرض الوصي ضمن" لأنه لا يقدر على الاستخراج، والأب بمنزلة الوصي في أصح الروايتين لعجزه عن الاستخراج.(3/107)
باب التحكيم
مدخل
...
باب التحكيم
"وإذا حكم رجلان رجلا فحكم بينهما ورضيا بحكمه جاز" لأن لهما ولاية على أنفسهما فصح تحكيمهما وينفذ حكمه عليهما، وهذا إذا كان المحكم بصفة الحاكم لأنه بمنزلة القاضي فيما بينهما فيشترط أهلية القضاء، ولا يجوز تحكيم الكافر والعبد والذمي والمحدود في القذف والفاسق والصبي لانعدام أهلية القضاء اعتبارا بأهلية الشهادة والفاسق إذا حكم يجب أن يجوز عندنا كما مر في المولى "ولكل واحد من المحكمين أن يرجع ما لم يحكم عليهما" لأنه مقلد من جهتهما فلا يحكم إلا برضاهما جميعا "وإذا حكم لزمهما" لصدور حكمه عن ولاية عليهما "وإذا رفع حكمه إلى القاضي فوافق مذهبه أمضاه" لأنه لا فائدة في نقضه ثم في إبرامه على ذلك الوجه "وإن خالفه أبطله" لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم منه.
"ولا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص" لأنه لا ولاية لهما على دمهما ولهذا لا يملكان الإباحة فلا يستباح برضاهما قالوا: وتخصيص الحدود والقصاص يدل على جواز التحكيم في سائر المجتهدات كالطلاق والنكاح وغيرهما، وهو صحيح إلا أنه لا يفتى به، ويقال يحتاج إلى حكم المولى دفعا لتجاسر العوام وإن حكماه في دم خطإ فقضى بالدية على العاقلة لم ينفذ حكمه لأنه لا ولاية له عليهم إذ لا تحكيم من جهتهم. ولو حكم على القاتل بالدية في ماله رده القاضي ويقضي بالدية على العاقلة لأنه مخالف لرأيه ومخالف للنص أيضا إلا إذا ثبت القتل بإقراره لأن العاقلة لا تعقله.
"ويجوز أن يسمع البينة ويقضي بالنكول وكذا بالإقرار" لأنه حكم موافق للشرع، ولو أخبر بإقرار أحد الخصمين أو بعدالة الشهود وهما على تحكيمهما يقبل قوله لأن الولاية قائمة ولو أخبر بالحكم لا يقبل قوله لانقضاء الولاية كقول المولى بعد العزل.
"وحكم الحاكم لأبويه وزوجته وولده باطل والمولى والمحكم فيه سواء" وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة فكذلك لا يصح القضاء لهم، بخلاف ما إذا حكم عليهم لأنه تقبل شهادته عليهم لانتفاء التهمة فكذا القضاء، ولو حكما رجلين لا بد من اجتماعهما لأنه أمر يحتاج فيه إلى الرأي، والله أعلم بالصواب.(3/108)
مسائل شتى من كتاب القضاء
قال: "وإذا كان علو لرجل وسفل لآخر فليس لصاحب السفل أن يتد فيه وتدا(3/108)
ولا ينقب فيه كوة عند أبي حنيفة رحمه الله" معناه بغير رضا صاحب العلو "وقالا: يصنع ما لا يضر بالعلو" وعلى هذا الخلاف إذا أراد صاحب العلو أن يبني على علوه. قيل ما حكي عنهما تفسير لقول أبي حنيفة رحمه الله فلا خلاف. وقيل الأصل عندهما الإباحة لأنه تصرف في ملكه والملك يقتضي الإطلاق والحرمة بعارض الضرر فإذا أشكل لم يجز المنع والأصل عنده الحظر لأنه تصرف في محل تعلق به حق محترم للغير كحق المرتهن والمستأجر والإطلاق بعارض فإذا أشكل لا يزول المنع على أنه لا يعرى عن نوع ضرر بالعلو من توهين بناء أو نقضه فيمنع عنه.
قال: "وإذا كانت زائغة مستطيلة تنشعب منها زائعة مستطيلة وهي غير نافذة فليس لأهل الزائغة الأولى أن يفتحوا بابا في الزائغة القصوى" لأن فتحه للمرور ولا حق لهم في المرور إذ هو لأهلها خصوصا حتى لا يكون لأهل الأولى فيما بيع فيها حق الشفعة، بخلاف النافذة لأن المرور فيها حق العامة. قيل المنع من المرور لا من فتح الباب لأنه رفع بعض جداره. والأصح أن المنع من الفتح لأن بعد الفتح لا يمكنه المنع من المرور في كل ساعة. ولأنه عساه يدعي الحق في القصوى بتركيب الباب "وإن كانت مستديرة قد لزق طرفاها فلهم أن يفتحوا" بابا لأن لكل واحد منهم حق المرور في كلها إذ هي ساحة مشتركة ولهذا يشتركون في الشفعة إذا بيعت دار منها.
قال: "ومن ادعى في دار دعوى وأنكرها الذي هي في يده ثم صالحه منها فهو جائز وهي مسألة الصلح على الإنكار" وسنذكرها في الصلح إن شاء الله تعالى، والمدعي وإن كان مجهولا فالصلح على معلوم عن مجهول جائز عندنا لأنه جهالة في الساقط فلا تفضي إلى المنازعة على ما عرف.
قال: "ومن ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له في وقت كذا فسئل البينة فقال جحدني الهبة فاشتريتها منه وأقام المدعي البينة على الشراء قبل الوقت الذي يدعي فيه الهبة لا تقبل بينته" لظهور التناقض إذ هو يدعي الشراء بعد الهبة وهم يشهدون به قبلها، ولو شهدوا به بعدها تقبل لوضوح التوفيق، ولو كان ادعى الهبة ثم أقام البينة على الشراء قبلها ولم يقل جحدني الهبة فاشتريتها لم تقبل أيضا ذكره في بعض النسخ لأن دعوى الهبة إقرار منه بالملك للواهب عندها، ودعوى الشراء رجوع عنه فعد مناقضا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء بعد الهبة لأنه تقرر ملكه عندها.
"ومن قال لآخر: اشتريت مني هذه الجارية فأنكر الآخر إن أجمع البائع على ترك(3/109)
الخصومة وسعه أن يطأها" لأن المشتري لما جحده كان فسخا من جهته، إذ الفسخ يثبت به كما إذا تجاحدا فإذا عزم البائع على ترك الخصومة ثم الفسخ، وبمجرد العزم إن كان لا يثبت الفسخ فقد اقترن بالفعل وهو إمساك الجارية ونقلها وما يضاهيه، ولأنه لما تعذر استيفاء الثمن من المشتري فات رضا البائع فيستبد بفسخه.
قال: "ومن أقر أنه قبض من فلان عشرة دراهم ثم ادعى أنها زيوف صدق" وفي بعض النسخ اقتضى، وهو عبارة عن القبض أيضا. ووجهه أن الزيوف من جنس الدراهم إلا أنها معيبة، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم جاز، والقبض لا يختص بالجياد فيصدق لأنه أنكر قبض حقه، بخلاف ما إذا أقر أنه قبض الجياد أو حقه أو الثمن أو استوفى لإقراره بقبض الجياد صريحا أو دلالة فلا يصدق والنبهرجة كالزيوف وفي الستوقة لا يصدق لأنه ليس من جنس الدراهم، حتى لو تجوز به فيما ذكرنا لا يجوز. والزيف ما زيفه بيت المال، والنبهرجة ما يرده التجار، والستوقة ما يغلب عليه الغش.
قال: "ومن قال لآخر لك علي ألف درهم فقال ليس لي عليك شيء ثم قال في مكانه بل لي عليك ألف درهم فليس عليه شيء" لأن إقراره هو الأول وقد ارتد برد المقر له، والثاني دعوى فلا بد من الحجة أو تصديق خصمه، بخلاف ما إذا قال لغيره اشتريت وأنكر الآخر له أن يصدقه، لأن أحد المتعاقدين لا يتفرد بالفسخ كما لا يتفرد بالعقد، والمعنى أنه حقهما فبقي العقد فعمل التصديق، أما المقر له يتفرد برد الإقرار فافترقا.
قال: "ومن ادعى على آخر مالا فقال ما كان لك علي شيء قط فأقام المدعي البينة على ألف وأقام هو البينة على القضاء قبلت بينته" وكذلك على الإبراء. وقال زفر رحمه الله: لا تقبل لأن القضاء يتلو الوجوب وقد أنكره فيكون مناقضا. ولنا أن التوفيق ممكن لأن غير الحق قد يقضى ويبرأ منه دفعا للخصومة والشغب؛ ألا ترى أنه يقال قضى بباطل وقد يصالح على شيء فيثبت ثم يقضى، وكذا إذا قال ليس لك علي شيء قط لأن التوفيق أظهر "ولو قال ما كان لك علي شيء قط ولا أعرفك لم تقبل بينته على القضاء" وكذا على الإبراء لتعذر التوفيق لأنه لا يكون بين اثنين، أخذ وإعطاء وقضاء واقتضاء ومعاملة بدون المعرفة. وذكر القدوري رحمه الله أنه تقبل أيضا لأن المحتجب أو المخدرة قد يؤذى بالشغب على بابه فيأمر بعض وكلائه بإرضائه ولا يعرفه ثم يعرفه بعد ذلك فأمكن التوفيق.
قال: "ومن ادعى على آخر أنه باعه جاريته فقال لم أبعها منك قط فأقام المشتري البينة على الشراء فوجد بها أصبعا زائدة فأقام البائع البينة أنه برئ إليه من كل عيب لم تقبل(3/110)
بينة البائع" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل اعتبارا بما ذكرنا. ووجه الظاهر أن شرط البراءة تغيير للعقد من اقتضاء وصف السلامة إلى غيره فيستدعي وجود البيع وقد أنكره فكان مناقضا، بخلاف الدين لأنه قد يقضى وإن كان باطلا على ما مر.
قال: "ذكر حق كتب في أسفله ومن قام بهذا الذكر الحق فهو ولي ما فيه إن شاء الله تعالى، أو كتب في شراء فعلى فلان خلاص ذلك وتسليمه إن شاء الله تعالى بطل الذكر كله، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: إن شاء الله تعالى هو على الخلاص وعلى من قام بذكر الحق، وقولهما استحسان ذكره في الإقرار" لأن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه لأن الذكر للاستيثاق، وكذا الأصل في الكلام الاستبداد وله أن الكل كشيء واحد بحكم العطف فيصرف إلى الكل كما في الكلمات المعطوفة مثل قوله عبده حر وامرأته طالق وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن شاء الله تعالى؛ ولو ترك فرجة قالوا: لا يلتحق به ويصير كفاصل السكوت، والله أعلم بالصواب.(3/111)
فصل: في القضاء بالمواريث
قال: "وإذا مات نصراني فجاءت امرأته مسلمة وقالت أسلمت بعد موته وقالت الورثة أسلمت قبل موته فالقول قول الورثة" وقال زفر رحمه الله: القول قولها لأن الإسلام حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات. ولنا أن سبب الحرمان ثابت في الحال فيثبت فيما مضى تحكيما للحال كما في جريان ماء الطاحونة؛ وهذا ظاهر نعتبره للدفع؛ وما ذكره يعتبره للاستحقاق؛ "ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل موته وقالت الورثة أسلمت بعد موته فالقول قولهم أيضا"، ولا يحكم الحال لأن الظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق وهي محتاجة إليه، أما الورثة فهم الدافعون ويشهد لهم ظاهر الحدوث أيضا.
قال: "ومن مات وله في يد رجل أربعة آلاف درهم وديعة فقال المستودع هذا ابن الميت لا وارث له غيره فإنه يدفع المال إليه" لأنه أقر أن ما في يده حق الوارث خلافة فصار كما إذا أقر أنه حق المورث وهو حي أصالة، بخلاف ما إذا أقر لرجل أنه وكيل المودع بالقبض أو أنه اشتراه منه حيث لا يؤمر بالدفع إليه لأنه أقر بقيام حق المودع إذ هو حي فيكون إقرارا على مال الغير، ولا كذلك بعد موته، بخلاف المديون إذا أقر بتوكيل غيره بالقبض لأن الديون تقضى بأمثالها فيكون إقرارا على نفسه فيؤمر بالدفع إليه "فلو قال المودع لآخر هذا ابنه أيضا وقال الأول ليس له ابن غيري قضى بالمال للأول" لأنه لما صح(3/111)
إقراره للأول انقطع يده عن المال فيكون هذا إقرارا على الأول فلا يصح إقراره للثاني، كما إذا كان الأول ابنا معروفا، ولأنه حين أقر للأول لا مكذب له فصح، وحين أقر للثاني له مكذب فلم يصح.
قال: "وإذا قسم الميراث بين الغرماء والورثة فإنه لا يؤخذ منهم كفيل ولا من وارث وهذا شيء احتاط به بعض القضاة وهو ظلم" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يؤخذ الكفيل، والمسألة فيما إذا ثبت الدين والإرث بالشهادة ولم يقل الشهود لا نعلم له وارثا غيره. لهما أن القاضي ناظر للغيب، والظاهر أن في التركة وارثا غائبا أو غريما غائبا، لأن الموت قد يقع بغتة فيحتاط بالكفالة. كما إذا دفع الآبق واللقطة إلى صاحبه وأعطى امرأة الغائب النفقة من ماله. ولأبي حنيفة رحمه الله أن حق الحاضر ثابت قطعا، أو ظاهرا فلا يؤخر لحق موهوم إلى زمان التكفيل كمن أثبت الشراء ممن في يده أو أثبت الدين على العبد حتى بيع في دينه لا يكفل، ولأن المكفول له مجهول فصار كما إذا كفل لأحد الغرماء بخلاف النفقة لأن حق الزوج ثابت وهو معلوم. وأما الآبق واللقطة ففيه روايتان، والأصح أنه على الخلاف. وقيل إن دفع بعلامة اللقطة أو إقرار العبد يكفل بالإجماع لأن الحق غير ثابت، ولهذا كان له أن يمنع. وقوله ظلم: أي ميل عن سواء السبيل، وهذا يكشف عن مذهبه رحمه الله أن المجتهد يخطئ ويصيب لا كما ظنه البعض.
قال: "وإذا كانت الدار في يد رجل وأقام الآخر البينة أن أبوه مات وتركها ميراثا بينه وبين أخوه فلان الغائب قضي له بالنصف وترك النصف الآخر في يد الذي هي في يده ولا يستوثق منه بكفيل، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: إن كان الذي هي في يده جاحدا أخذ منه وجعل في يد أمين، وإن لم يجحد ترك في يده" لهما أن الجاحد خائن فلا يترك المال في يده، بخلاف المقر لأنه أمين. وله أن القضاء وقع للميت مقصودا واحتمال كونه مختار الميت ثابت فلا تنقض يده كما إذا كان مقرا وجحوده قد ارتفع بقضاء القاضي، والظاهر عدم الجحود في المستقبل لصيرورة الحادثة معلومة له وللقاضي، ولو كانت الدعوى في منقول فقد قيل يؤخذ منه بالاتفاق لأنه يحتاج فيه إلى الحفظ والنزع أبلغ فيه، بخلاف العقار لأنها محصنة بنفسها ولهذا يملك الوصي بيع المنقول على الكبير الغائب دون العقار، وكذا حكم وصي الأم والأخ والعم على الصغير. وقيل المنقول على الخلاف أيضا، وقول أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لحاجته إلى الحفظ، وإنما لا يؤخذ الكفيل لأنه إنشاء خصومة والقاضي إنما نصب لقطعها لا لإنشائها، وإذا حضر الغائب لا يحتاج إلى إعادة البينة ويسلم النصف إليه بذلك القضاء لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فيما(3/112)
يستحق له وعليه دينا كان أو عينا لأن المقضي له وعليه إنما هو الميت في الحقيقة وواحد من الورثة يصلح خليفة عنه في ذلك، بخلاف الاستيفاء لنفسه لأنه عامل فيه لنفسه فلا يصلح نائبا عن غيره، ولهذا لا يستوفي إلا نصيبه وصار كما إذا قامت البينة بدين الميت، إلا أنه إنما يثبت استحقاق، الكل على أحد الورثة إذا كان الكل في يده. ذكره في الجامع لأنه لا يكون خصما بدون اليد فيقتصر القضاء على ما في يده.
قال: "ومن قال مالي في المساكين صدقة فهو على ما فيه الزكاة، وإن أوصى بثلث ماله فهو على كل شيء" والقياس أن يلزمه التصدق بالكل، وبه قال زفر رحمه الله لعموم اسم المال كما في الوصية.
وجه الاستحسان أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى فينصرف إيجابه إلى ما أوجب الشارع فيه الصدقة من المال. أما الوصية فأخت الميراث لأنها خلافة كهي فلا يختص بمال دون مال، ولأن الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكاة، أما الوصية تقع في حال الاستغناء فينصرف إلى الكل وتدخل فيه الأرض العشرية عند أبي يوسف رحمه الله لأنها سبب الصدقة، إذ جهة الصدقة في العشرية راجحة عنده، وعند محمد رحمه الله لا تدخل لأنها سبب المؤنة، إذ جهة المؤنة راجحة عنده، ولا تدخل أرض الخراج بالإجماع لأنه يتمحض مؤنة. ولو قال ما أملكه صدقة في المساكين فقد قيل يتناول كل مال لأنه أعم من لفظ المال. والمقيد إيجاب الشرع وهو مختص بلفظ المال فلا مخصص في لفظ الملك فبقي على العموم، والصحيح أنهما سواء لأن الملتزم باللفظين الفاضل عن الحاجة على ما مر، "ثم إذا لم يكن له مال سوى ما دخل تحت الإيجاب يمسك من ذلك قوته، ثم إذا أصاب شيئا تصدق بمثل ما أمسك" لأن حاجته هذه مقدمة ولم يقدر محمد بشيء لاختلاف أحوال الناس فيه. وقيل المحترف يمسك قوته ليوم وصاحب الغلة لشهر وصاحب الضياع لسنة على حسب التفاوت في مدة وصولهم إلى المال، وعلى هذا صاحب التجارة يمسك بقدر ما يرجع إليه ماله.
قال: "ومن أوصى إليه ولم يعلم الوصية حتى باع شيئا من التركة فهو وصي والبيع جائز، ولا يجوز بيع الوكيل حتى يعلم". وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز في الفصل الأول أيضا لأن الوصاية إنابة بعد الموت فتعتبر بالإنابة قبله وهي الوكالة. ووجه الفرق على الظاهر أن الوصاية خلافة لإضافتها إلى زمان بطلان الإنابة فلا يتوقف على العلم كما في تصرف الوارث. أما الوكالة فإنابة لقيام ولاية المنوب عنه فيتوقف على العلم، وهذا لأنه لو توقف لا يفوت النظر لقدرة الموكل، وفي الأول يفوت لعجز الموصي "ومن(3/113)
أعلمه من الناس بالوكالة يجوز تصرفه" لأنه إثبات حق لا إلزام أمر.
قال: "ولا يكون النهي عن الوكالة حتى يشهد عنده شاهدان أو رجل عدل" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: هو والأول سواء لأنه من المعاملات وبالواحد فيها كفاية. وله أنه خبر ملزم فيكون شهادة من وجه فيشترط أحد شطريها وهو العدد أو العدالة، بخلاف الأول، وبخلاف رسول الموكل لأن عبارته كعبارة المرسل للحاجة إلى الإرسال، وعلى هذا الخلاف إذا أخبر المولى بجناية عبده والشفيع والبكر والمسلم الذي لم يهاجر إلينا.
قال: "وإذا باع القاضي أو أمينه عبدا للغرماء وأخذ المال فضاع واستحق العبد لم يضمن" لأن أمين القاضي قائم مقام القاضي والقاضي مقام الإمام وكل واحد منهم لا يلحقه ضمان كي لا يتقاعد عن قبول هذه الأمانة فيضيع الحقوق ويرجع المشتري على الغرماء، لأن البيع واقع لهم فيرجع عليهم عند تعذر الرجوع على العاقد، كما إذا كان العاقد محجورا عليه ولهذا يباع بطلبهم "وإن أمر القاضي الوصي ببيعه للغرماء ثم استحق أو مات قبل القبض وضاع المال رجع المشتري على الوصي" لأنه عاقد نيابة عن الميت وإن كان بإقامة القاضي عنه فصار كما إذا باعه بنفسه.
قال: "ورجع الوصي على الغرماء" لأنه عامل لهم، وإن ظهر للميت مال يرجع الغريم فيه بدينه. قالوا: ويجوز أن يقال يرجع بالمائة التي غرمها أيضا لأنه لحقه في أمر الميت، والوارث إذا بيع له بمنزلة الغريم لأنه إذا لم يكن في التركة دين كان العاقد عاملا له.(3/114)
فصل: وإذا قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه الخ
...
فصل آخر: "وإذا قال القاضي قد قضيت على هذا بالرجم فارجمه أو بالقطع فاقطعه أو بالضرب فاضربه وسعك أن تفعل"
وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا وقال: لا تأخذ بقوله حتى تعاين الحجة، لأن قوله يحتمل الغلط والخطأ والتدارك غير ممكن، وعلى هذه الرواية لا يقبل كتابه. واستحسن المشايخ هذه الرواية لفساد حال أكثر القضاة في زماننا إلا في كتاب القاضي للحاجة إليه. وجه ظاهر الرواية أنه أخبر عن أمر يملك إنشاءه فيقبل لخلوه عن التهمة، ولأن طاعة أولي الأمر واجبة، وفي تصديقه طاعة. وقال الإمام أبو منصور رحمه الله: إن كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطإ والخيانة، وإن كان عدلا جاهلا يستفسر، فإن أحسن التفسير وجب تصديقه وإلا فلا، وإن كان جاهلا فاسقا أو عالما فاسقا لا يقبل إلا أن يعاين سبب الحكم لتهمة الخطإ والخيانة.
قال: "وإذا عزل القاضي فقال لرجل أخذت منك ألفا ودفعتها إلى فلان قضيت بها(3/114)
عليك فقال الرجل أخذتها ظلما فالقول قول القاضي، وكذا لو قال قضيت بقطع يدك في حق، هذا إذا كان الذي قطعت يده والذي أخذ منه المال مقرين أنه فعل ذلك وهو قاض" ووجهه أنهما لما توافقا أنه فعل ذلك في قضائه كان الظاهر شاهدا له. إذ القاضي لا يقضي بالجور ظاهرا "ولا يمين عليه" لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق ولا يمين على القاضي.
"ولو أقر القاطع والآخذ بما أقر به القاضي لا يضمن أيضا" لأنه فعله في حال القضاء ودفع القاضي صحيح كما إذا كان معاينا.
"ولو زعم المقطوع يده أو المأخوذ ماله أنه فعل قبل التقليد أو بعد العزل فالقول للقاضي أيضا" هو الصحيح لأنه أسند فعله إلى حالة معهودة منافية للضمان فصار كما إذا قال طلقت أو أعتقت وأنا مجنون والجنون منه كان معهودا.
"ولو أقر القاطع أو الآخذ في هذا الفصل بما أقر به القاضي بضمان" لأنهما أقرا بسبب الضمان، وقول القاضي مقبول في دفع الضمان عن نفسه لا في إبطال سبب الضمان على غيره، بخلاف الأول لأنه ثبت فعله في قضائه بالتصادق "ولو كان المال في يد الآخذ قائما وقد أقر بما أقر به القاضي والمأخوذ منه المال صدق القاضي في أنه فعله في قضائه أو ادعى أنه فعله في غير قضائه يؤخذ منه" لأنه أقر أن اليد كانت له فلا يصدق في دعوى تملكه إلا بحجة، وقول المعزول فيه ليس بحجة.(3/115)
كتاب الشهادات
مراتب الشهادات
مدخل
...
كتاب الشهادات
قال: "الشهادة فرض تلزم الشهود ولا يسعهم كتمانها إذا طالبهم المدعي" لقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282] وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وإنما يشترط طلب المدعي لأنها حقه فيتوقف على طلبه كسائر الحقوق.
"والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار" لأنه بين حسبتين إقامة الحد والتوقي عن الهتك "والستر أفضل" لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وقال عليه الصلاة والسلام "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم دلالة ظاهرة على أفضلية الستر "إلا أنه يجب أن يشهد بالمال في السرقة فيقول: أخذ" إحياء لحق المسروق منه "ولا يقول سرق" محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه.
"والشهادة على مراتب: منها الشهادة في الزنا يعتبر فيها أربعة من الرجال" لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لحديث الزهري رضي الله عنه: مضت السنة من لدن رسول الله عليه الصلاة والسلام والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود والقصاص، ولأن فيها شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات "ومنها الشهادة ببقية الحدود والقصاص تقبل فيها شهادة رجلين" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] "ولا تقبل فيها شهادة النساء" لما ذكرنا.
قال: "وما سوى ذلك من الحقوق يقبل فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان الحق مالا أو غير مال" مثل: النكاح والطلاق والعتاق والعدة والحوالة والوقف والصلح "والوكالة والوصية" والهبة والإقرار والإبراء والولد والولاد والنسب(3/116)
ونحو ذلك. وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها لأن الأصل فيها عدم القبول لنقصان العقل واختلال الضبط وقصور الولاية فإنها لا تصلح للإمارة ولهذا لا تقبل في الحدود، ولا تقبل شهادة الأربع منهن وحدهن إلا أنها قبلت في الأموال ضرورة، والنكاح أعظم خطرا وأقل وقوعا فلا يلحق بما هو أدنى خطرا وأكثر وجودا. ولنا أن الأصل فيها القبول لوجود ما يبتنى عليه أهلية الشهادة وهو المشاهدة والضبط والأداء، إذ بالأول يحصل العلم للشاهد، وبالثاني يبقى، وبالثالث يحصل العلم للقاضي ولهذا يقبل إخبارها في الأخبار، ونقصان الضبط بزيادة النسيان انجبر بضم الأخرى إليها فلم يبق بعد ذلك إلا الشبهة فلهذا لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات، وهذه الحقوق تثبت مع الشبهات وعدم قبول الأربع على خلاف القياس كي لا يكثر خروجهن.
قال: "وتقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال شهادة امرأة واحدة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه" والجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس فيتناول الأقل. وهو حجة على الشافعي رحمه الله في اشتراط الأربع، ولأنه إنما سقطت الذكورة ليخف النظر لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف فكذا يسقط اعتبار العدد إلا أن المثنى والثلاث أحوط لما فيه من معنى الإلزام "ثم حكمها في الولادة شرحناه في الطلاق"
وأما حكم البكارة فإن شهدن أنها بكر يؤجل في العنين سنة ويفرق بعدها لأنها تأيدت بمؤيد إذ البكارة أصل، وكذا في رد المبيعة إذا اشتراها بشرط البكارة، فإن قلن إنها ثيب يحلف البائع لينضم نكوله إلى قولهن والعيب يثبت بقولهن فيحلف البائع، وأما شهادتهن على استهلال الصبي لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله في حق الإرث لأنه مما يطلع عليه الرجال إلا في حق الصلاة لأنها من أمور الدين. وعندهما تقبل في حق الإرث أيضا لأنه صوت عند الولادة ولا يحضرها الرجال عادة فصار كشهادتهن على نفس الولادة.
قال: "ولا بد في ذلك كله من العدالة ولفظة الشهادة، فإن لم يذكر الشاهد لفظة الشهادة وقال أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته" أما العدالة فلقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولأن العدالة هي المعينة للصدق، لأن من يتعاطى غير الكذب قد يتعاطاه. وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لأنه لا يستأجر لوجاهته ويمتنع عن الكذب لمروءته، والأول أصح، إلا أن القاضي لو قضى بشهادة الفاسق يصح عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح، والمسألة معروفة.(3/117)
وأما لفظة الشهادة فلأن النصوص نطقت باشتراطها إذ الأمر فيها بهذه اللفظة، ولأن فيها زيادة توحيد، فإن قوله أشهد من ألفاظ اليمين كقوله أشهد بالله فكان الامتناع عن الكذب بهذه اللفظة أشد. وقوله في ذلك كله إشارة إلى جميع ما تقدم حتى يشترط العدالة، ولفظة الشهادة في شهادة النساء في الولادة وغيرها هو الصحيح لأنها شهادة لما فيه من معنى الإلزام حتى اختص بمجلس القضاء ولهذا يشترط فيه الحرية والإسلام.
"قال أبو حنيفة رحمه الله: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم" لقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف" ومثل ذلك مروي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الظاهر هو الانزجار عما هو محرم دينه، وبالظاهر كفاية إذ لا وصول إلى القطع. "إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود" لأنه يحتال لإسقاطها فيشترط الاستقصاء فيها، ولأن الشبهة فيها دارئة، وإن طعن الخصم فيهم سأل عنهم لأنه تقابل الظاهران فيسأل طلبا للترجيح "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا بد أن يسأل عنهم في السر والعلانية في سائر الحقوق" لأن القضاء مبناه على الحجة وهي شهادة العدول فيتعرف عن العدالة، وفيه صون قضائه عن البطلان. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان والفتوى على قولهما في هذا الزمان.
قال: "ثم التزكية في السر أن يبعث المستورة إلى المعدل فيها النسب والحلي والمصلى ويردها المعدل" كل ذلك في السر كي لا يظهر فيخدع أو يقصد "وفي العلانية لا بد أن يجمع بين المعدل والشاهد" لتنتفي شبهة تعديل غيره، وقد كانت العلانية وحدها في الصدر الأول، ووقع الاكتفاء بالسر في زماننا تحرزا عن الفتنة. ويروى عن محمد رحمه الله: تزكية العلانية بلاء وفتنة. ثم قيل: لا بد أن يقول المعدل هو عدل جائز الشهادة لأن العبد قد يعدل، وقيل يكتفي بقوله هو عدل لأن الحرية ثابتة بالدار وهذا أصح.
قال: "وفي قول من رأى أن يسأل عن الشهود لم يقبل قول الخصم إنه عدل" معناه قول المدعى عليه وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يجوز تزكيته، لكن عند محمد يضم تزكية الآخر إلى تزكيته لأن العدد عنده شرط. ووجه الظاهر أن في زعم المدعي وشهوده أن الخصم كاذب في إنكاره مبطل في إصراره فلا يصلح معدلا، وموضوع المسألة إذا قال هم عدول إلا أنهم أخطئوا أو نسوا، أما إذا قال صدقوا أو هم عدول صدقة فقد اعترف بالحق.(3/118)
قال: "وإذا كان رسول القاضي الذي يسأل عن الشهود واحدا جاز والاثنان أفضل" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز إلا اثنان، والمراد منه المزكي، وعلى هذا الخلاف رسول القاضي إلى المزكي والمترجم عن الشاهد له أن التزكية في معنى الشهادة لأن ولاية القضاء تنبني على ظهور العدالة وهو بالتزكية فيشترط فيه العدد كما تشترط العدالة فيه، وتشترط الذكورة في المزكي والحدود والقصاص. ولهما أنه ليس في معنى الشهادة ولهذا لا يشترط فيه لفظة الشهادة ومجلس القضاء، واشتراط العدد أمر حكمي في الشهادة فلا يتعداها "ولا يشترط أهلية الشهادة في المزكي في تزكية السر" حتى صلح العبد مزكيا، فأما في تزكية العلانية فهو شرط، وكذا العدد بالإجماع على ما قاله الخصاف رحمه الله لاختصاصها بمجلس القضاء. قالوا: يشترط الأربعة في تزكية شهود الزنا عند محمد رحمه الله.(3/119)
فصل: وما يتحمله الشاهد على ضربين الخ
...
فصل: وما يتحمله الشاهد على ضربين:
أحدهما: ما يثبت حكمه بنفسه مثل البيع والإقرار والغصب والقتل وحكم الحاكم، فإذا سمع ذلك الشاهد أو رآه وسعه أن يشهد به وإن لم يشهد عليه" لأنه علم ما هو الموجب بنفسه وهو الركن في إطلاق الأداء. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع"
قال: "ويقول أشهد أنه باع ولا يقول أشهدني" لأنه كذب، "ولو سمع من وراء الحجاب لا يجوز له أن يشهد، ولو فسر للقاضي لا يقبله" لأن النغمة تشبه النغمة فلم يحصل العلم "إلا إذا كان دخل البيت وعلم أنه ليس فيه أحد سواه ثم جلس على الباب وليس في البيت مسلك غيره فسمع إقرار الداخل ولا يراه له أن يشهد" لأنه حصل العلم في هذه الصورة. "ومنه ما لا يثبت الحكم فيه بنفسه مثل الشهادة على الشهادة، فإذا سمع شاهدا يشهد بشيء لم يجز له أن يشهد على شهادته إلا أن يشهد عليها" لأن الشهادة غير موجبة بنفسها، وإنما تصير موجبة بالنقل إلى مجلس القضاء فلا بد من الإنابة والتحميل ولم يوجد "وكذا لو سمعه يشهد الشاهد على شهادته لم يسع للسامع أن يشهد" لأنه ما حمله وإنما حمل غيره.
"ولا يحل للشاهد إذا رأى خطه أن يشهد إلا أن يتذكر الشهادة" لأن الخط يشبه الخط فلم يحصل العلم. قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله. وعندهما يحل له أن يشهد. وقيل هذا بالاتفاق، وإنما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادته في ديوانه أو قضيته، لأن ما يكون(3/119)
في قمطره فهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان فحصل له العلم بذلك ولا كذلك الشهادة في الصك لأنه في يد غيره، وعلى هذا إذا تذكر المجلس الذي كان فيه الشهادة أو أخبره قوم ممن يثق به أنا شهدنا نحن وأنت.
قال: "ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به" وهذا استحسان. والقياس أن لا تجوز لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة وذلك بالعلم ولم يحصل فصار كالبيع. وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون، فلو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام، بخلاف البيع لأنه يسمعه كل أحد، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به كما قال في الكتاب. ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم. وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحد أو واحدة لأنه قلما يشاهد غير الواحد إذ الإنسان يهابه ويكرهه فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج، ولا كذلك النسب والنكاح، وينبغي أن يطلق أداء الشهادة. أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته كما أن معاينة اليد في الأملاك تطلق الشهادة، ثم إذا فسر لا تقبل كذا هذا. ولو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم حل له أن يشهد على كونه قاضيا وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره. ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته فهو معاينة، حتى لو فسر للقاضي قبله ثم قصر الاستثناء في الكتاب على هذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف. وعن أبي يوسف رحمه الله آخرا أنه يجوز في الولاء لأنه بمنزلة النسب لقوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب". وعن محمد رحمه الله أنه يجوز في الوقف لأنه يبقى على مر الأعصار، إلا أنا نقول الولاء يبتنى على زوال الملك ولا بد فيه من المعاينة فكذا فيما يبتنى عليه. وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه، لأن أصله هو الذي يشتهر.
قال: "ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له" لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفي بها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له. قالوا: ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد رحمه الله في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق.(3/120)
وقال الشافعي رحمه الله: دليل الملك اليد مع التصرف، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله لأن اليد متنوعة إلى إنابة وملك. قلنا: والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة. ثم المسألة على وجوه: إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد، وكذا إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا لأن النسب يثبت بالتسامع فيحصل معرفته، وإن لم يعاينها أو عاين المالك دون الملك لا يحل له.
وأما العبد والأمة، فإن كان يعرف أنهما رقيقان فكذلك لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، وإن كان لا يعرف أنهما رقيقان إلا أنهما صغيران لا يعبران عن أنفسهما فكذلك لأنه لا يد لهما، وإن كانا كبيرين فذلك مصرف الاستثناء لأن لهما يدا على أنفسهما فيدفع يد الغير عنهما فانعدم دليل الملك. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يحل له أن يشهد فيهما أيضا اعتبارا بالثياب، والفرق ما بيناه، والله أعلم بالصواب.(3/121)
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
قال: "ولا تقبل شهادة الأعمى". وقال زفر رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله: تقبل فيما يجري فيه التسامع لأن الحاجة فيه إلى السماع ولا خلل فيه. وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يجوز إذا كان بصيرا وقت التحمل لحصول العلم بالمعاينة، والأداء يختص بالقول ولسانه غير موف والتعريف يحصل بالنسبة كما في الشهادة على الميت. ولنا أن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، ولا يميز الأعمى إلا بالنغمة، وفيه شبهة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود والنسبة لتعريف الغائب دون الحاضر فصار كالحدود والقصاص. ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن قيام أهلية الشهادة شرط وقت القضاء لصيرورتها حجة عنده وقد بطلت وصار كما إذا خرس أو جن أو فسق، بخلاف ما إذا ماتوا أو غابوا، لأن الأهلية بالموت قد انتهت وبالغيبة ما بطلت.
قال: "ولا المملوك" لأن الشهادة من باب الولاية وهو لا يلي نفسه فأولى أن لا تثبت له الولاية على غيره "ولا المحدود في قذف وإن تاب" لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا فيبقى بعد التوبة كأصله، بخلاف المحدود في غير القذف لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة. وقال الشافعي رحمه الله تقبل إذا تاب لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] استثنى التائب.
قلنا: الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(3/121)
[النور:4] أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن. "ولو حد الكافر في قذف ثم أسلم تقبل شهادته" لأن للكافر شهادة فكان ردها من تمام الحد، وبالإسلام حدثت له شهادة أخرى، بخلاف العبد إذا حد ثم أعتق لأنه لا شهادة للعبد أصلا فتمام حده يرد شهادته بعد العتق.
قال: "ولا شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته ولا العبد لسيده ولا المولى لعبده ولا الأجير لمن استأجره" ولأن المنافع بين الأولاد والآباء متصلة ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
قال العبد الضعيف: والمراد بالأجير على ما قالوا التلميذ الخاص الذي يعد ضرر أستاذه ضرر نفسه ونفعه نفع نفسه، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا شهادة للقانع بأهل البيت" وقيل المراد الأجير مسانهة أو مشاهرة أو مياومة فيستوجب الأجر بمنافعه عند أداء الشهادة فيصير كالمستأجر عليها.
قال: "ولا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر" وقال الشافعي رحمه الله: تقبل لأن الأملاك بينهما متميزة والأيدي متحيزة ولهذا يجري القصاص والحبس بالدين بينهما، ولا معتبر بما فيه من النفع لثبوته ضمنا كما في الغريم إذا شهد لمديونه المفلس. ولنا ما روينا، ولأن الانتفاع متصل عادة وهو المقصود فيصير شاهدا لنفسه من وجه أو يصير متهما، بخلاف شهادة الغريم لأنه لا ولاية على المشهود به. "ولا شهادة المولى لعبده" لأنه شهادة لنفسه من كل جهة إذا لم يكن على العبد دين أو من وجه إن كان عليه دين لأن الحال موقوف مراعى "ولا لمكاتبه" لما قلنا. "ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو من شركتهما" لأنه شهادة لنفسه من وجه لاشتراكهما، ولو شهد بما ليس من شركتهما تقبل لانتفاء التهمة. "وتقبل شهادة الأخ لأخيه وعمه" لانعدام التهمة لأن الأملاك ومنافعها متباينة ولا بسوطة لبعضهم في مال البعض.
قال: "ولا تقبل شهادة المخنث" ومراده المخنث في الرديء من الأفعال لأنه فاسق، فأما الذي في كلامه لين وفي أعضائه تكسر فهو مقبول الشهادة. "ولا نائحة ولا مغنية" لأنهما يرتكبان محرما فإنه عليه الصلاة والسلام "نهى عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية".
قال: "ولا مدمن الشرب على اللهو" لأنه ارتكب محرم دينه. "ولا من يلعب بالطيور" لأنه يورث غفلة ولأنه قد يقف على عورات النساء بصعوده على سطحه ليطير طيره وفي(3/122)
بعض النسخ: ولا من يلعب بالطنبور وهو المغني.
قال: "ولا من يغني للناس" لأنه يجمع الناس على ارتكاب كبيرة.
قال: "ولا من يأتي بابا من الكبائر التي يتعلق بها الحد" للفسق.
قال: "ولا من يدخل الحمام من غير مئزر" لأن كشف العورة حرام. "أو يأكل الربا أو يقامر بالنرد والشطرنج". لأن كل ذلك من الكبائر، وكذلك من تفوته الصلاة للاشتغال بهما، فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة، لأن للاجتهاد فيه مساغا. وشرط في الأصل أن يكون آكل الربا مشهورا به لأن الإنسان قلما ينجو عن مباشرة العقود الفاسدة وكل ذلك ربا.
قال: "ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق" لأنه تارك للمروءة، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم. "ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف" لظهور فسقه بخلاف من يكتمه. "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية" وقال الشافعي رحمه الله: لا تقبل لأنه أغلظ وجوه الفسق. ولنا أنه فسق من حيث الاعتقاد وما أوقعه فيه إلا تدينه به وصار كمن يشرب المثلث أو يأكل متروك التسمية عامدا مستبيحا لذلك، بخلاف الفسق من حيث التعاطي.
أما الخطابية فهم من غلاة الروافض يعتقدون الشهادة لكل من حلف عندهم. وقيل يرون الشهادة لشيعتهم واجبة فتمكنت التهمة في شهادتهم لظهور فسقهم.
قال: "وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم". وقال مالك والشافعي رحمهما الله: لا تقبل لأنه فاسق، قال الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فيجب التوقف في خبره، ولهذا لا تقبل شهادته على المسلم فصار كالمرتد. ولنا ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض، ولأنه من أهل الولاية على نفسه وأولاده الصغار فيكون من أهل الشهادة على جنسه، والفسق من حيث الاعتقاد غير مانع لأنه يجتنب ما يعتقده محرم دينه، والكذب محظور الأديان، بخلاف المرتد لأنه لا ولاية له، وبخلاف شهادة الذمي على المسلم لأنه لا ولاية له بالإضافة إليه، ولأنه يتقول عليه لأنه يغيظه قهره إياه، وملل الكفر وإن اختلفت فلا قهر فلا يحملهم الغيظ على التقول.
قال: "ولا تقبل شهادة الحربي على الذمي" أراد به والله أعلم المستأمن لأنه لا ولاية له عليه لأن الذمي من أهل دارنا وهو أعلى حالا منه، وتقبل شهادة الذمي عليه(3/123)
كشهادة المسلم عليه وعلى الذمي "وتقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة، فإن كانوا من دارين كالروم والترك لا تقبل" لأن اختلاف الدارين يقطع الولاية ولهذا يمنع التوارث، بخلاف الذمي لأنه من أهل دارنا، ولا كذلك المستأمن. "وإن كانت الحسنات أغلب من السيئات والرجل ممن يجتنب الكبائر قبلت شهادته وإن ألم بمعصية" هذا هو الصحيح في حد العدالة المعتبرة، إذ لا بد من توقي الكبائر كلها وبعد ذلك يعتبر الغالب كما ذكرنا، فأما الإلمام بمعصية لا تنقدح به العدالة المشروطة فلا ترد به الشهادة المشروعة لأن في اعتبار اجتنابه الكل سد بابه وهو مفتوح إحياء للحقوق.
قال: "وتقبل شهادة الأقلف" لأنه لا يخل بالعدالة إلا إذا تركه استخفافا بالدين لأنه لم يبق بهذا الصنيع عدلا "والخصي" لأن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي، ولأنه قطع عضو منه ظلما فصار كما إذا قطعت يده. "وولد الزنا" لأن فسق الأبوين لا يوجب فسق الولد ككفرهما وهو مسلم.
وقال مالك رحمه الله: لا تقبل في الزنا لأنه يجب أن يكون غيره كمثله فيتهم. قلنا: العدل لا يختار ذلك ولا يستحبه، والكلام في العدل.
قال: "وشهادة الخنثى جائزة" لأنه رجل أو امرأة وشهادة الجنسين مقبولة بالنص. "وشهادة العمال جائزة" والمراد عمال السلطان عند عامة المشايخ، لأن نفس العمل ليس بفسق إلا إذا كانوا أعوانا على الظلم. وقيل العامل إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة لا يجازف في كلامه تقبل شهادته كما مر عن أبي يوسف رحمه الله في الفاسق، لأنه لوجاهته لا يقدم على الكذب حفظا للمروءة ولمهابته لا يستأجر على الشهادة الكاذبة.
قال: "وإذا شهد الرجلان أن أباهما أوصى إلى فلان والوصي يدعي ذلك فهو جائز استحسانا، وإن أنكر الوصي لم يجز" وفي القياس: لا يجوز إن ادعى، وعلى هذا إذا شهد الموصي لهما بذلك أو غريمان لهما على الميت دين أو للميت عليهما دين أو شهد الوصيان أنه أوصى إلى هذا الرجل معهما. وجه القياس أنها شهادة للشاهد لعود المنفعة إليه. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان طالبا والموت معروف، فيكفي القاضي بهذه الشهادة مؤنة التعيين لا أن يثبت بها شيء فصار كالقرعة والوصيان إذا أقرا أن معهما ثالثا يملك القاضي نصب ثالث معهما لعجزهما عن التصرف باعترافهما، بخلاف ما إذا أنكرا ولم يعرف الموت لأنه ليس له ولاية نصب الوصي فتكون الشهادة هي الموجبة، وفي الغريمين للميت عليهما دين تقبل الشهادة وإن لم يكن الموت معروفا لأنهما يقران على(3/124)
أنفسهما فيثبت الموت باعترافهما في حقهما "وإن شهدا أن أباهما الغائب وكله بقبض ديونه بالكوفة فادعى الوكيل أو أنكره لا تقبل شهادتهما" لأن القاضي لا يملك نصب الوكيل عن الغائب، فلو ثبت إنما يثبت بشهادتهما وهي غير موجبة لمكان التهمة.
قال: "ولا يسمع القاضي الشهادة على جرح ولا يحكم بذلك" لأن الفسق مما لا يدخل تحت الحكم لأن له الدفع بالتوبة فلا يتحقق الإلزام، ولأنه هتك السر والستر واجب والإشاعة حرام، وإنما يرخص ضرورة إحياء الحقوق وذلك فيما يدخل تحت الحكم "إلا إذا شهدوا على إقرار المدعي بذلك تقبل" لأن الإقرار مما يدخل تحت الحكم.
قال: "ولو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود لم تقبل" لأنه شهادة على جرح مجرد، والاستئجار وإن كان أمرا زائدا عليه فلا خصم في إثباته لأن المدعى عليه في ذلك أجنبي عنه، حتى لو أقام المدعى عليه البينة أن المدعي استأجر الشهود بعشرة دراهم ليؤدوا الشهادة وأعطاهم العشرة من مالي الذي كان في يده تقبل لأنه خصم في ذلك ثم يثبت الجرح بناء عليه، وكذا إذا أقامها على أني صالحت الشهود على كذا من المال. ودفعته إليهم على أن لا يشهدوا علي بهذا الباطل وقد شهدوا وطالبهم برد ذلك المال، ولهذا قلنا إنه لو أقام البينة أن الشاهد عبد أو محدود في قذف أو شارب خمر أو قاذف أو شريك المدعي تقبل.
قال: "ومن شهد ولم يبرح حتى قال أوهمت بعض شهادتي، فإن كان عدلا جازت شهادته" ومعنى قوله أوهمت أي أخطأت بنسيان ما كان يحق علي ذكره أو بزيادة كانت باطلة. ووجهه أن الشاهد قد يبتلى بمثله لمهابة مجلس القضاء فكان العذر واضحا فتقبل إذا تداركه في أوانه وهو عدل، بخلاف ما إذا قام عن المجلس ثم عاد وقال أوهمت، لأنه يوهم الزيادة من المدعي بتلبيس وخيانة فوجب الاحتياط، ولأن المجلس إذا اتحد لحق الملحق بأصل الشهادة فصار ككلام واحد، ولا كذلك إذا اختلف. وعلى هذا إذا وقع الغلط في بعض الحدود أو في بعض النسب وهذا إذا كان موضع شبهة، فأما إذا لم يكن فلا بأس بإعادة الكلام أصلا مثل أن يدع لفظة الشهادة وما يجري مجرى ذلك وإن قام عن المجلس بعد أن يكون عدلا. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يقبل قوله في غير المجلس إذا كان عدلا، والظاهر ما ذكرناه والله أعلم.(3/125)
باب الاختلاف في الشهادة
مدخل
...
باب الاختلاف في الشهادة
قال: "الشهادة إذا وافقت الدعوى قبلت، وإن خالفتها لم تقبل" لأن تقدم الدعوى في(3/125)
حقوق العباد شرط قبول الشهادة، وقد وجدت فيما يوافقها وانعدمت فيما يخالفها.
قال: "ويعتبر اتفاق الشاهدين في اللفظ والمعنى عند أبي حنيفة، فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين لم تقبل الشهادة عنده وعندهما تقبل على الألف إذا كان المدعي يدعي الألفين". وعلى هذا المائة والمائتان والطلقة والطلقتان والطلقة والثلاث. لهما أنهما اتفقا على الألف أو الطلقة وتفرد أحدهما بالزيادة فيثبت ما اجتمعا عليه دون ما تفرد به أحدهما فصار كالألف والألف والخمسمائة. ولأبي حنيفة رحمه الله أنهما اختلفا لفظا، وذلك يدل على اختلاف المعنى لأنه يستفاد باللفظ، وهذا لأن الألف لا يعبر به عن الألفين بل هما جملتان متباينتان فحصل على كل واحد منهما شاهد واحد فصار كما إذا اختلف جنس المال.
قال: "وإذا شهد أحدهما بالألف والآخر بألف وخمسمائة والمدعي يدعي ألفا وخمسمائة قبلت الشهادة على الألف" لاتفاق الشاهدين عليها لفظا ومعنى، لأن الألف والخمسمائة جملتان عطف إحداهما على الأخرى والعطف يقرر الأول ونظيره الطلقة والطلقة والنصف والمائة والمائة والخمسون، بخلاف العشرة والخمسة عشر لأنه ليس بينهما حرف العطف فهو نظير الألف والألفين "وإن قال المدعي لم يكن لي عليه إلا الألف فشهادة الذي شهد بالألف وخمسمائة باطلة" لأنه كذبه المدعي في المشهود به، وكذا إذا سكت إلا عن دعوى الألف لأن التكذيب ظاهر فلا بد من التوفيق، ولو قال كان أصل حقي ألف وخمسمائة ولكني استوفيت خمسمائة أو أبرأته عنها قبلت لتوفيقه.
قال: "وإذا شهدا بألف وقال أحدهما قضاه منها خمسمائة قبلت شهادتهما بالألف" لاتفاقهما عليه "ولم يسمع قوله إنه قضاه" لأنه شهادة فرد "إلا أن يشهد معه آخر" وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضي بخمسمائة، لأن شاهد القضاء مضمون شهادته أن لا دين إلا خمسمائة. وجوابه ما قلنا.
قال: "وينبغي للشاهد" إذا علم بذلك "أن لا يشهد بألف حتى يقر المدعي أنه قبض خمسمائة" كي لا يصير معينا على الظلم. "وفي الجامع الصغير: رجلان شهدا على رجل بقرض ألف درهم فشهد أحدهما أنه قد قضاها، فالشهادة جائزة على القرض" لاتفاقهما عليه، وتفرد أحدهما بالقضاء على ما بينا. وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا تقبل، وهو قول زفر رحمه الله لأن المدعي أكذب شاهد القضاء. قلنا: هذا إكذاب في غير المشهود به الأول وهو القرض ومثله لا يمنع القبول.(3/126)
قال: "وإذا شهد شاهدان أنه قتل زيدا يوم النحر بمكة وشهد آخران أنه قتله يوم النحر بالكوفة واجتمعوا عند الحاكم لم يقبل الشهادتين" لأن إحداهما كاذبة بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى "فإن سبقت إحداهما وقضى بها ثم حضرت الأخرى لم تقبل" لأن الأولى ترجحت باتصال القضاء بها فلا تنتقض بالثانية.
"وإذا شهدا على رجل أنه سرق بقرة واختلفا في لونها قطع، وإن قال أحدهما بقرة وقال الآخر ثورا لم يقطع" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا: لا يقطع في الوجهين" جميعا، وقيل الاختلاف في لونين يتشابهان كالسواد والحمرة لا في السواد والبياض، وقيل هو في جميع الألوان. لهما أن السرقة في السوداء غيرها في البيضاء فلم يتم على كل فعل نصاب الشهادة وصار كالغصب بل أولى، لأن أمر الحد أهم وصار كالذكورة والأنوثة. وله أن التوفيق ممكن لأن التحمل في الليالي من بعيد واللونان يتشابهان أو يجتمعان في واحد فيكون السواد من جانب وهذا يبصره والبياض من جانب آخر وهذا الآخر يشاهده، بخلاف الغصب لأن التحمل فيه بالنهار على قرب منه، والذكورة والأنوثة لا يجتمعان في واحدة، وكذا الوقوف على ذلك بالقرب منه فلا يشتبه.
قال: "ومن شهد لرجل أنه اشترى عبدا من فلان بألف وشهد آخر أنه اشتراه بألف وخمسمائة فالشهادة باطلة" لأن المقصود إثبات السبب وهو العقد ويختلف باختلاف الثمن فاختلف المشهود به ولم يتم العدد على كل واحد، ولأن المدعي يكذب أحد شاهديه وكذلك إذا كان المدعي هو البائع ولا فرق بين أن يدعي المدعي أقل المالين أو أكثرهما لما بينا "وكذلك الكتابة" لأن المقصود هو العقد إن كان المدعي هو العبد فظاهر، وكذا إذا كان هو المولى لأن العتق لا يثبت قبل الأداء فكان المقصود إثبات السبب "وكذا الخلع والإعتاق على مال والصلح عن دم العمد إذا كان المدعي هو المرأة أو العبد أو القاتل" لأن المقصود إثبات العقد والحاجة ماسة إليه، وإن كانت الدعوى من جانب آخر فهو بمنزلة دعوى الدين فيما ذكرنا من الوجوه لأنه ثبت العفو والعتق والطلاق باعتراف صاحب الحق فبقي الدعوى في الدين وفي الرهن، إن كان المدعى هو الرهن لا يقبل لأنه لا حظ له في الرهن فعريت الشهادة عن الدعوى، وإن كان المرتهن فهو بمنزلة دعوى الدين. وفي الإجارة إن كان ذلك في أول المدة فهو نظير البيع، وإن كان بعد مضي المدة والمدعي هو الآجر فهو دعوى الدين.
قال: "فأما النكاح فإنه يجوز بألف استحسانا، وقالا: هذا باطل في النكاح أيضا" وذكر(3/127)
في الأمالي قول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة رحمهما الله. لهما أن هذا اختلاف في العقد، لأن المقصود من الجانبين السبب فأشبه البيع. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المال في النكاح تابع، والأصل فيه الحل والازدواج والملك ولا اختلاف في ما هو الأصل فيثبت، ثم إذا وقع الاختلاف في التبع يقضي بالأقل لاتفاقهما عليه، ويستوي دعوى أقل المالين أو أكثرهما في الصحيح. ثم قيل: لاختلاف فيما إذا كانت المرأة هي المدعية وفيما إذا كان المدعي هو الزوج إجماع على أنه لا تقبل، لأن مقصودها قد يكون المال ومقصوده ليس إلا العقد. وقيل الاختلاف في الفصلين وهذا أصح والوجه ما ذكرنا، والله أعلم.(3/128)
فصل: في الشهادة على الإرث
قال: "ومن أقام بينة على دار أنها كانت لأبيه أعارها أو أودعها الذي هي في يده فإنه يأخذها ولا يكلف البينة أنه مات وتركها ميراثا له" وأصله أنه متى ثبت ملك المورث لا يقضي به للوارث حتى يشهد الشهود أنه مات وتركها ميراثا له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافا لأبي يوسف رحمه الله. هو يقول: إن ملك الوارث ملك المورث فصارت الشهادة بالملك للمورث شهادة به للوارث، وهما يقولان: إن ملك الوارث متجدد في حق العين حتى يجب عليه الاستبراء في الجارية الموروثة، ويحل للوارث الغني ما كان صدقة على المورث الفقير فلا بد من النقل، إلا أنه يكتفي بالشهادة على قيام ملك المورث وقت الموت لثبوت الانتقال ضرورة، وكذا على قيام يده على ما نذكره، وقد وجدت الشهادة على اليد في مسألة الكتاب لأن يد المستعير والمودع والمستأجر قائمة مقام يده فأغنى ذلك عن الجر والنقل "وإن شهدوا أنها كانت في يد فلان مات وهي في يده جازت الشهادة" لأن الأيدي عند الموت تنقلب يد ملك بواسطة الضمان والأمانة تصير مضمونة بالتجهيل فصار بمنزلة الشهادة على قيام ملكه وقت الموت. "وإن قالوا لرجل حي نشهد أنها كانت في يد المدعي منذ شهر لم تقبل" وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تقبل لأن اليد مقصودة كالملك؛ ولو شهدوا أنها كانت ملكه تقبل فكذا هذا صار كما إذا شهدوا بالأخذ من المدعي. وجه الظاهر وهو قولهما أن الشهادة قامت بمجهول لأن اليد منقضية وهي متنوعة إلى ملك وأمانة وضمان فتعذر القضاء بإعادة المجهول، بخلاف الملك لأنه معلوم غير مختلف، وبخلاف الآخذ لأنه معلوم وحكمه معلوم وهو وجوب الرد، ولأن يد ذي اليد معاين ويد المدعي مشهود به، وليس الخبر كالمعاينة. "وإن أقر بذلك المدعى عليه دفعت إلى المدعي" لأن الجهالة في المقر به لا تمنع صحة الإقرار "وإن شهد شاهدان أنه أقر أنها كانت في يد المدعي دفعت إليه" لأن المشهود به هاهنا الإقرار وهو معلوم.(3/128)
باب الشهادة على الشهادة
مدخل
...
باب الشهادة على الشهادة
قال: "الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق لا يسقط بالشبهة" وهذا استحسان لشدة الحاجة إليها، إذ شاهد الأصل قد يعجز عن أداء الشهادة لبعض العوارض، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة أدى إلى إتواء الحقوق، ولهذا جوزنا الشهادة على الشهادة وإن كثرت، إلا أن فيها شبهة من حيث البدلية أو من حيث إن فيها زيادة احتمال، وقد أمكن الاحتراز عنه بجنس الشهود فلا تقبل فيما تندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص.
"وتجوز شهادة شاهدين على شهادة شاهدين". وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز إلا الأربع على كل أصل اثنان لأن كل شاهدين قائمان مقام شاهد واحد فصارا كالمرأتين.
ولنا قول علي رضي الله عنه: لا يجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين، ولأن نقل شهادة الأصل من الحقوق فهما شهدا بحق ثم شهدا بحق آخر فتقبل. "ولا تقبل شهادة واحد على شهادة واحد" لما روينا، وهو حجة على مالك رحمه الله، ولأنه حق من الحقوق فلا بد من نصاب الشهادة.
"وصفة الإشهاد أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان أقر عندي بكذا وأشهدني على نفسه" لأن الفرع كالنائب عنه فلا بد من التحميل والتوكيل على ما مر، ولا بد أن يشهد كما يشهد عند القاضي لينقله إلى مجلس القضاء "وإن لم يقل أشهدني على نفسه جاز" لأن من سمع إقرار غيره حل له الشهادة وإن لم يقل له اشهد "ويقول شاهد الفرع عند الأداء أشهد أن فلانا أشهدني على شهادته أن فلانا أقر عنده بكذا وقال لي اشهد على شهادتي بذلك" لأنه لا بد من شهادته، وذكر شهادة الأصل وذكر التحميل، ولها لفظ أطول من هذا وأقصر منه، وخير الأمور أوسطها. "ومن قال أشهدني: فلان على نفسه لم يشهد السامع على شهادته حتى يقول له اشهد على شهادتي" لأنه لا بد من التحميل، وهذا ظاهر عند محمد رحمه الله لأن القضاء عنده بشهادة الفروع والأصول جميعا حتى اشتركوا في الضمان عند الرجوع، وكذا عندهما لأنه لا بد من نقل شهادة الأصول ليصير حجة فيظهر تحميل ما هو حجة.
قال: "ولا تقبل شهادة شهود الفرع إلا أن يموت شهود الأصل أو يغيبوا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا أو يمرضوا مرضا لا يستطيعون معه حضور مجلس الحاكم" لأن جوازها للحاجة، وإنما تمس عند عجز الأصل وبهذه الأشياء يتحقق العجز. وإنما اعتبرنا السفر لأن المعجز بعد المسافة ومدة السفر بعيدة حكما حتى أدير عليها عدة من الأحكام فكذا سبيل(3/129)
هذا الحكم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إن كان في مكان لو غدا لأداء الشهادة لا يستطيع أن يبيت في أهله صح الإشهاد إحياء لحقوق الناس، قالوا: الأول أحسن والثاني أرفق وبه أخذ الفقيه أبو الليث.
قال: "فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع جاز" لأنهم من أهل التزكية "وكذا إذا شهد شاهدان فعدل أحدهما الآخر صح" لما قلنا، غاية الأمر أن فيه منفعة من حيث القضاء بشهادته لكن العدل لا يتهم بمثله كما لا يتهم في شهادة نفسه، كيف وأن قوله في حق نفسه وإن ردت شهادة صاحبه فلا تهمة.
قال: "وإن سكتوا عن تعديلهم جاز ونظر القاضي في حالهم" وهذا عند أبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: لا تقبل لأنه لا شهادة إلا بالعدالة، فإذا لم يعرفوها لم ينقلوا الشهادة فلا يقبل. ولأبي يوسف رحمه الله أن المأخوذ عليهم النقل دون التعديل، لأنه قد يخفى عليهم، وإذا نقلوا يتعرف القاضي العدالة كما إذا حضروا بأنفسهم وشهدوا.
قال: "وإن أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الشهود الفرع" لأن التحميل لم يثبت للتعارض بين الخبرين وهو شرط. "وإذا شهد رجلان على شهادة رجلين على فلانة بنت فلان الفلانية بألف درهم، وقالا أخبرانا أنهما يعرفانها فجاء بامرأة وقالا: لا ندري أهي هذه أم لا فإنه يقال للمدعي هات شاهدين يشهدان أنها فلانة" لأن الشهادة على المعرفة بالنسبة قد تحققت والمدعي يدعي الحق على الحاضرة ولعلها غيرها فلا بد من تعريفها بتلك النسبة، ونظير هذا إذا تحملوا الشهادة ببيع محدودة بذكر حدودها وشهدوا على المشتري لا بد من آخرين يشهدان على أن المحدود بها في يد المدعى عليه، وكذا إذا أنكر المدعى عليه أن الحدود المذكورة في الشهادة حدود ما في يده.
قال: "وكذا كتاب القاضي إلى القاضي" لأنه في معنى الشهادة على الشهادة إلا أن القاضي لكمال ديانته ووفور ولايته ينفرد بالنقل "ولو قالوا في هذين البابين التميمية لم يجز حتى ينسبوها إلى فخذها" وهي القبيلة الخاصة، وهذا لأن التعريف لا بد منه في هذا، ولا يحصل بالنسبة إلى العامة وهي عامة إلى بني تميم لأنهم قوم لا يحصون، ويحصل بالنسبة إلى الفخذ لأنها خاصة. وقيل الفرغانية نسبة عامة والأوزجندية خاصة، "وقيل السمرقندية والبخارية عامة" وقيل إلى السكة الصغيرة خاصة، وإلى المحلة الكبيرة والمصر عامة. ثم التعريف وإن كان يتم بذكر الجد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله(3/130)
خلافا لأبي يوسف رحمه الله على ظاهر الروايات، فذكر الفخذ يقوم مقام الجد لأنه اسم الجد الأعلى فنزل منزلة الجد الأدنى، والله أعلم.(3/131)
فصل: "قال أبو حنيفة رحمه الله: شاهد الزور أشهره في السوق ولا أعزره.
وقالا: نوجعه ضربا ونحبسه" وهو قول الشافعي رحمه الله. لهما ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب شاهد الزور أربعين سوطا وسخم وجهه، ولأن هذه كبيرة يتعدى ضررها إلى العباد وليس فيها حد مقدر فيعزر. وله أن شريحا كان يشهر ولا يضرب، ولأن الانزجار يحصل بالتشهير فيكتفي به، والضرب وإن كان مبالغة في الزجر ولكنه يقع مانعا عن الرجوع فوجب التخفيف نظرا إلى هذا الوجه. وحديث عمر رضي الله عنه محمول على السياسة بدلالة التبليغ إلى الأربعين والتسخيم ثم تفسير التشهير منقول عن شريح رحمه الله فإنه كان يبعثه إلى سوقه إن كان سوقيا، وإلى قومه إن كان غير سوقي بعد العصر أجمع ما كانوا، ويقول: إن شريحا يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروا الناس منه. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه يشهر عندهما أيضا. والتعزير والحبس على قدر ما يراه القاضي عندهما، وكيفية التعزير ذكرناه في الحدود.
"وفي الجامع الصغير: شاهدان أقرا أنهما شهدا بزور لم يضربا وقالا يعزران" وفائدته أن شاهد الزور في حق ما ذكرنا من الحكم هو المقر على نفسه بذلك، فأما لا طريق إلى إثبات ذلك بالبينة لأنه نفي للشهادة والبينات للإثبات، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(3/131)
كتاب الرجوع عن الشهادة
شروط صحة الرجوع
...
كتاب الرجوع عن الشهادة
قال: "إذا رجع الشهود عن شهادتهم قبل الحكم بها سقطت" لأن الحق إنما يثبت بالقضاء والقاضي لا يقضي بكلام متناقض ولا ضمان عليهما لأنهما ما أتلفا شيئا لا على المدعي ولا على المشهود عليه "فإن حكم بشهادتهم ثم رجعوا لم يفسخ الحكم" لأن آخر كلامهم يناقض أوله فلا ينقض الحكم بالتناقض ولأنه في الدلالة على الصدق مثل الأول، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به "وعليهم ضمان ما أتلفوه بشهادتهم" لإقرارهم على أنفسهم بسبب الضمان، والتناقض لا يمنع صحة الإقرار، وسنقرره من بعد إن شاء الله تعالى.
"ولا يصح الرجوع إلا بحضرة الحاكم" لأنه فسخ للشهادة فيختص بما تختص به الشهادة من المجلس وهو مجلس القاضي أي قاض كان، ولأن الرجوع توبة والتوبة على حسب الجناية، فالسر بالسر والإعلان بالإعلان. وإذا لم يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، فلو ادعى المشهود عليه رجوعهما وأراد يمينهما لا يحلفان، وكذا لا تقبل بينته عليهما لأنه ادعى رجوعا باطلا، حتى لو أقام البينة أنه رجع عند قاضي كذا وضمنه المال تقبل لأن السبب صحيح. "وإذا شهد شاهدان بمال فحكم الحاكم به ثم رجعا ضمنا المال المشهود عليه" لأن التسبيب على وجه التعدي سبب الضمان كحافر البئر وقد سببا للإتلاف تعديا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يضمنان لأنه لا عبرة للتسبيب عند وجود المباشرة. قلنا: تعذر إيجاب الضمان على المباشر وهو القاضي لأنه كالملجإ إلى القضاء، وفي إيجابه صرف الناس عن تقلده وتعذر استيفائه من المدعي لأن الحكم ماض فاعتبر التسبيب، وإنما يضمنان إذا قبض المدعي المال دينا كان أو عينا، لأن الإتلاف به يتحقق، ولأنه لا مماثلة بين أخذ العين وإلزام الدين.
قال: "فإن رجع أحدهما ضمن النصف" والأصل أن المعتبر في هذا بقاء من بقي لا رجوع من رجع وقد بقي من يبقى بشهادته نصف الحق "وإن شهدا بالمال ثلاثة فرجع أحدهم فلا ضمان عليه" لأنه بقي من بقي بشهادته كل الحق، وهذا لأن الاستحقاق باق(3/132)
بالحجة، والمتلف متى استحق سقط الضمان فأولى أن يمتنع "فإن رجع الآخر ضمن الراجعان نصف الحق" لأن ببقاء أحدهم يبقى نصف الحق "وإن شهد رجل وامرأتان فرجعت امرأة ضمنت ربع الحق" لبقاء ثلاثة الأرباع ببقاء من بقي "وإن رجعتا ضمنتا نصف الحق" لأن بشهادة الرجل بقي نصف الحق "وإن شهد رجل وعشرة نسوة ثم رجع ثمان فلا ضمان عليهن" لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق "فإن رجعت أخرى كان عليهن ربع الحق" لأنه بقي النصف بشهادة الرجل والربع بشهادة الباقية فبقي ثلاثة الأرباع "وإن رجع الرجل والنساء فعلى الرجل سدس الحق وعلى النسوة خمسة أسداسه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما على الرجل النصف وعلى النسوة النصف" لأنهن وإن كثرن يقمن مقام رجل واحد ولهذا لا تقبل شهادتهن إلا بانضمام رجل واحد.
ولأبي حنيفة رحمه الله أن كل امرأتين قامتا مقام رجل واحد، قال عليه الصلاة والسلام في نقصان عقلهن: "عدلت شهادة اثنتين منهن بشهادة رجل واحد" فصار كما إذا شهد بذلك ستة رجال ثم رجعوا "وإن رجع النسوة العشرة دون الرجل كان عليهن نصف الحق على القولين" لما قلنا.
"ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا فالضمان عليهما دون المرأة" لأن الواحدة ليست بشاهدة بل هي بعض الشاهد فلا يضاف إليه الحكم.
قال: "وإن شهد شاهدان على امرأة بالنكاح بمقدار مهر مثلها ثم رجعا فلا ضمان عليهما، وكذلك إذا شهدا بأقل من مهر مثلها" لأن منافع البضع غير متقومة عند الإتلاف لأن التضمين يستدعي المماثلة على ما عرف، وإنما تضمن وتتقوم بالتملك لأنها تصير متقومة ضرورة الملك إبانة لخطر المحل "وكذا إذا شهدا على رجل يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها" لأنه إتلاف بعوض لما أن البضع متقوم حال الدخول في الملك والإتلاف بعوض كلا إتلاف، وهذا لأن مبنى الضمان على المماثلة ولا مماثلة بين الإتلاف بعوض وبينه بغير عوض "وإن شهدا بأكثر من مهر المثل ثم رجعا ضمنا الزيادة" لأنهما أتلفاها من غير عوض.
قال: "وإن شهدا ببيع شيء بمثل القيمة أو أكثر ثم رجعا لم يضمنا" لأنه ليس بإتلاف معنى. نظرا إلى العوض "وإن كان بأقل من القيمة ضمنا النقصان" لأنهما أتلفا هذا الجزء بلا عوض. ولا فرق بين أن يكون البيع باتا أو فيه خيار البائع، لأن السبب هو البيع السابق فيضاف الحكم عند سقوط الخيار إليه فيضاف التلف إليهم "وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول بها ثم رجعا ضمنا نصف المهر" لأنهما أكدا ضمانا على شرف السقوط،(3/133)
ألا ترى أنها لو طاوعت ابن الزوج أو ارتدت سقط المهر أصلا ولأن الفرقة قبل الدخول في معنى الفسخ فيوجب سقوط جميع المهر كما مر في النكاح، ثم يجب نصف المهر ابتداء بطريق المتعة فكان واجبا بشهادتهما.
قال: "وإن شهدا أنه أعتق عبده ثم رجعا ضمنا قيمته" لأنهما أتلفا مالية العبد عليه من غير عوض والولاء للمعتق لأن العتق لا يتحول إليهما بهذا الضمان فلا يتحول الولاء "وإن شهدوا بقصاص ثم رجعوا بعد القتل ضمنوا الدية ولا يقتص منهم" وقال الشافعي رحمه الله: يقتص منهم لوجود القتل منهم تسبيبا فأشبه المكره بل أولى، لأن الولي يعان والمكره يمنع. ولنا أن القتل مباشرة لم يوجد، وكذا تسبيبا لأن التسبيب ما يفضي إليه غالبا، وهاهنا لا يفضي لأن العفو مندوب، بخلاف المكره لأنه يؤثر حياته ظاهرا، ولأن الفعل الاختياري مما يقطع النسبة، ثم لا أقل من الشبهة وهي دارئة للقصاص، بخلاف المال لأنه يثبت مع الشبهات والباقي يعرف في المختلف.
قال: "وإذا رجع شهود الفرع ضمنوا" لأن الشهادة في مجلس القضاء صدرت منهم فكان التلف مضافا إليهم "ولو رجع شهود الأصل وقالوا لم نشهد شهود الفرع على شهادتنا فلا ضمان عليهم" لأنهم أنكروا السبب وهو الإشهاد فلا يبطل القضاء لأنه خبر محتمل فصار كرجوع الشاهد، بخلاف ما قبل القضاء "وإن قالوا أشهدناهم وغلطنا ضمنوا وهذا عند محمد رحمه الله. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا ضمان عليهم" لأن القضاء وقع بشهادة الفروع لأن القاضي يقضي بما يعاين من الحجة وهي شهادتهم. وله أن الفروع نقلوا شهادة الأصول فصار كأنهم حضروا "ولو رجع الأصول والفروع جميعا يجب الضمان عندهما على الفروع لا غير" لأن القضاء وقع بشهادتهم: وعند محمد رحمه الله المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن شاء ضمن الفروع، لأن القضاء وقع بشهادة الفروع من الوجه الذي ذكرا وبشهادة الأصول من الوجه الذي ذكر فيتخير بينهما، والجهتان متغايرتان فلا يجمع بينهما في التضمين "وإن قال شهود الفرع كذب شهود الأصل أو غلطوا في شهادتهم لم يلتفت إلى ذلك" لأن ما أمضي من القضاء لا ينتقض بقولهم، ولا يجب الضمان عليهم لأنهم ما رجعوا عن شهادتهم إنما شهدوا على غيرهم بالرجوع.
قال: "وإن رجع المزكون عن التزكية ضمنوا وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يضمنون" لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصاروا كشهود الإحصان. وله أن التزكية إعمال للشهادة، إذ القاضي لا يعمل بها إلا بالتزكية فصارت بمعنى علة العلة، بخلاف شهود الإحصان لأنه شرط محض "وإذا شهد شاهدان باليمين وشاهدان بوجود الشرط ثم رجعوا(3/134)
فالضمان على شهود اليمين خاصة" لأنه هو السبب، والتلف يضاف إلى مثبتي السبب دون الشرط المحض: ألا ترى أن القاضي يقضي بشهادة اليمين دون شهود الشرط، ولو رجع شهود الشرط وحدهم اختلف المشايخ فيه. ومعنى المسألة يمين العتاق والطلاق قبل الدخول.(3/135)
كتاب الوكالة
مدخل
...
كتاب الوكالة
قال: "كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره" لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال فيحتاج إلى أن يوكل غيره فيكون بسبيل منه دفعا للحاجة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل بالشراء حكيم بن حزام وبالتزويج عمر بن أم سلمة رضي الله عنهما.
قال: "وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق" لما قدمنا من الحاجة إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات. وقد صح أن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا، وبعدما أسن وكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه "وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس" لأنها تندرئ بالشبهات وشبهة العفو ثابتة حال غيبة الموكل، بل هو الظاهر للندب الشرعي، بخلاف غيبة الشاهد لأن الظاهر عدم الرجوع، وبخلاف حالة الحضرة لانتفاء هذه الشبهة، وليس كل أحد يحسن الاستيفاء. فلو منع عنه ينسد باب الاستيفاء أصلا، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله.
"وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا" ومحمد مع أبي حنيفة، وقيل مع أبي يوسف رحمهم الله، وقيل هذا الاختلاف في غيبته دون حضرته لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره فصار كأنه متكلم بنفسه. له أن التوكيل إنابة وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب "كما في الشهادة على الشهادة وكما في الاستيفاء" ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخصومة شرط محض لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق، وعلى هذا الخلاف التوكيل بالجواب من جانب من عليه الحد والقصاص. وكلام أبي حنيفة رحمه الله فيه أظهر لأن الشبهة لا تمنع الدفع، غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه لما فيه من شبهة عدم الأمر به.
"وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا من غير رضا الخصم إلا أن(3/136)
يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا. وقالا: يجوز التوكيل بغير رضا الخصم" وهو قول الشافعي رحمه الله. ولا خلاف في الجواز إنما الخلاف في اللزوم. لهما أن التوكيل تصرف في خالص حقه فلا يتوقف على رضا غيره كالتوكيل بتقاضي الديون. وله أن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يستحضره، والناس متفاوتون في الخصومة، فلو قلنا بلزومه يتضرر به فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر، بخلاف المريض والمسافر لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك، ثم كما يلزم التوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة، ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي رحمه الله: يلزم التوكيل لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها. قال: وهذا شيء استحسنه المتأخرون.
قال: "ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام" لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل فلا بد أن يكون الموكل مالكا ليملكه من غيره. "و" يشترط أن يكون "الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده" لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة فيشترط أن يكون من أهل العبارة حتى لو كان صبيا لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلا. "وإذا وكل الحر العاقل البالغ أو المأذون مثلهما جاز" لأن الموكل مالك للتصرف والوكيل من أهل العبارة "وإن وكلا صبيا محجورا يعقل البيع والشراء أو عبدا محجورا جاز، ولا يتعلق بهما الحقوق ويتعلق بموكلهما" لأن الصبي من أهل العبارة؛ ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه، والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له وإنما لا يملكه في حق المولى، والتوكيل ليس تصرفا في حقه إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة. أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده فتلزم الموكل. وعن أبي يوسف رحمه الله أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون له خيار الفسخ لأنه دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد، فإذا ظهر خلافه يتخير كما إذا عثر على عيب.
قال: "والعقد الذي يعقده الوكلاء على ضربين: كل عقد يضيفه الوكيل إلى نفسه كالبيع والإجارة فحقوقه تتعلق بالوكيل دون الموكل". وقال الشافعي رحمه الله: تتعلق بالموكل؛ لأن الحقوق تابعة لحكم التصرف، والحكم وهو الملك يتعلق بالموكل، فكذا توابعه وصار كالرسول والوكيل بالنكاح. ولنا أن الوكيل هو العاقد حقيقة؛ لأن العقد يقوم بالكلام، وصحة عبارته لكونه آدميا وكذا حكما؛ لأنه يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو كان سفيرا عنه لما استغنى عن ذلك كالرسول، وإذا كان كذلك كان أصيلا في الحقوق فتتعلق به(3/137)
ولهذا قال في الكتاب "يسلم المبيع ويقبض الثمن ويطالب بالثمن إذا اشترى، ويقبض المبيع ويخاصم في العيب ويخاصم فيه"؛ لأن كل ذلك من الحقوق والملك يثبت للموكل خلافة عنه، اعتبارا للتوكيل السابق كالعبد يتهب ويصطاد هو الصحيح. قال العبد الضعيف: وفي مسألة العيب تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "وكل عقد يضيفه إلى موكله كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد فإن حقوقه تتعلق بالموكل دون الوكيل فلا يطالب وكيل الزوج بالمهر ولا يلزم وكيل المرأة تسليمها"؛ لأن الوكيل فيها سفير محض؛ ألا يرى أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إلى الموكل، ولو أضافه إلى نفسه كان النكاح له فصار كالرسول، وهذا؛ لأن الحكم فيها لا يقبل الفصل عن السبب؛ لأنه إسقاط فيتلاشى فلا يتصور صدوره من شخص وثبوت حكمه لغيره فكان سفيرا. والضرب الثاني من أخواته العتق على مال والكتابة والصلح على الإنكار. فأما الصلح الذي هو جار مجرى البيع فهو من الضرب الأول، والوكيل بالهبة والتصدق والإعارة والإيداع والرهن والإقراض سفير أيضا؛ لأن الحكم فيما يثبت بالقبض، وأنه يلاقي محلا مملوكا للغير فلا يجعل أصيلا، وكذا إذا كان الوكيل من جانب الملتمس، وكذا الشركة والمضاربة، إلا أن التوكيل بالاستقراض باطل حتى لا يثبت الملك للموكل بخلاف الرسالة فيه.
قال: "وإذا طالب الموكل المشتري بالثمن" "فله أن يمنعه إياه"؛ لأنه أجنبي عن العقد وحقوقه لما أن الحقوق إلى العاقد "فإن دفعه إليه جاز ولم يكن للوكيل أن يطالبه به ثانيا"؛ لأن نفس الثمن المقبوض حقه وقد وصل إليه، ولا فائدة في الأخذ منه ثم الدفع إليه، ولهذا لو كان للمشتري على الموكل دين يقع المقاصة، ولو كان له عليهما دين يقع المقاصة بدين الموكل أيضا دون دين الوكيل وبدين الوكيل إذا كان وحده إن كان يقع المقاصة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لما أنه يملك الإبراء عنه عندهما ولكنه يضمنه للموكل في الفصلين.(3/138)
باب الوكالة في البيع والشراء
فصل: في الشراء
قال: "ومن وكل رجلا بشراء شيء فلا بد من تسمية جنسه وصفته أو جنسه ومبلغ ثمنه" ليصير الفعل الموكل به معلوما فيمكنه الائتمار، "إلا أن يوكله وكالة عامة فيقول: ابتع لي ما رأيت"؛ لأنه فوض الأمر إلى رأيه، فأي شيء يشتريه يكون ممتثلا. والأصل فيه أن الجهالة(3/138)
اليسيرة تتحمل في الوكالة كجهالة الوصف استحسانا، لأن مبنى التوكيل على التوسعة؛ لأنه استعانة. وفي اعتبار هذا الشرط بعض الحرج وهو مدفوع "ثم إن كان اللفظ يجمع أجناسا أو ما هو في معنى الأجناس لا يصح التوكيل وإن بين الثمن"؛ لأن بذلك الثمن يوجد من كل جنس فلا يدرى مراد الآمر لتفاحش الجهالة "وإن كان جنسا يجمع أنواعا لا يصح إلا ببيان الثمن أو النوع"؛ لأنه بتقدير الثمن يصير النوع معلوما، وبذكر النوع تقل الجهالة فلا تمنع الامتثال.
مثاله: إذا وكله بشراء عبد أو جارية لا يصح؛ لأنه يشمل أنواعا فإن بين النوع كالتركي والحبشي أو الهندي أو السندي أو المولد جاز، وكذا إذا بين الثمن لما ذكرناه، ولو بين النوع أو الثمن ولم يبين الصفة والجودة والرداءة والسطة جاز؛ لأنه جهالة مستدركة، ومراده من الصفة المذكورة في الكتاب النوع.
"وفي الجامع الصغير: ومن قال لآخر اشتر لي ثوبا أو دابة أو دارا فالوكالة باطلة" للجهالة الفاحشة، فإن الدابة في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض. وفي العرف يطلق على الخيل والحمار والبغل فقد جمع أجناسا، وكذا الثوب؛ لأنه يتناول الملبوس من الأطلس إلى الكساء ولهذا لا يصح تسميته مهرا وكذا الدار تشمل ما هو في معنى الأجناس؛ لأنها تختلف اختلافا فاحشا باختلاف الأغراض والجيران والمرافق والمحال والبلدان فيتعذر الامتثال.
قال: "وإن سمى ثمن الدار ووصف جنس الدار والثوب جاز" معناه نوعه، وكذا إذا سمى نوع الدابة بأن قال حمارا أو نحوه.
قال: "ومن دفع إلى آخر دراهم وقال اشتر لي بها طعاما فهو على الحنطة ودقيقها" استحسانا. والقياس أن يكون على كل مطعوم اعتبارا للحقيقة كما في اليمين على الأكل إذ الطعام اسم لما يطعم. وجه الاستحسان أن العرف أملك وهو على ما ذكرناه إذا ذكر مقرونا بالبيع والشراء ولا عرف في الأكل فبقي على الوضع، وقيل إن كثرت الدراهم فعلى الحنطة، وإن قلت فعلى الخبز، وإن كان فيما بين ذلك فعلى الدقيق. قال: "وإذا اشترى الوكيل وقبض ثم اطلع على عيب فله أن يرده بالعيب ما دام المبيع في يده"؛ لأنه من حقوق العقد وهي كلها إليه "فإن سلمه إلى الموكل لم يرده إلا بإذنه"؛ لأنه انتهى حكم الوكالة، ولأن فيه إبطال يده الحقيقية فلا يتمكن منه إلا بإذنه، ولهذا كان خصما لمن يدعي في المشتري دعوى كالشفيع وغيره قبل التسليم إلى الموكل لا بعده.(3/139)
قال: "ويجوز التوكيل بعقد الصرف والسلم"؛ لأنه عقد يملكه بنفسه فيملك التوكيل به على ما مر، ومراده التوكيل بالإسلام دون قبول السلم؛ لأن ذلك لا يجوز، فإن الوكيل يبيع طعاما في ذمته على أن يكون الثمن لغيره، وهذا لا يجوز. "فإن فارق الوكيل صاحبه قبل القبض بطل العقد" لوجود الافتراق من غير قبض "ولا يعتبر مفارقة الموكل"؛ لأنه ليس بعاقد والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل فيصح قبضه وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه، بخلاف الرسول؛ لأن الرسالة في العقد لا في القبض، وينتقل كلامه إلى المرسل فصار قبض الرسول قبض غير العاقد فلم يصح.
قال: "وإذا دفع الوكيل بالشراء الثمن من ماله وقبض المبيع فله أن يرجع به على الموكل"؛ لأنه انعقدت بينهما مبادلة حكمية ولهذا إذا اختلفا في الثمن يتحالفان ويرد الموكل بالعيب على الوكيل وقد سلم المشتري للموكل من جهة الوكيل فيرجع عليه ولأن الحقوق لما كانت راجعة إليه وقد علمه الموكل يكون راضيا بدفعه من ماله "فإن هلك المبيع في يده قبل حبسه هلك من مال الموكل ولم يسقط الثمن"؛ لأن يده كيد الموكل، فإذا لم يحبسه يصير الموكل قابضا بيده.
"وله أن يحبسه حتى يستوفي الثمن" لما بينا أنه بمنزلة البائع من الموكل. وقال زفر: ليس له ذلك؛ لأن الموكل صار قابضا بيده فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس. قلنا: هذا لا يمكن التحرز عنه فلا يكون راضيا بسقوط حقه في الحبس، على أن قبضه موقوف فيقع للموكل إن لم يحبسه ولنفسه عند حبسه "فإن حبسه فهلك كان مضمونا ضمان الرهن عند أبي يوسف وضمان المبيع عند محمد" وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وضمان الغصب عند زفر رحمه الله؛ لأنه منع بغير حق، لهما أنه بمنزلة البائع منه فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط بهلاكه ولأبي يوسف أنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن وهو الرهن بعينه بخلاف المبيع؛ لأن البيع ينفسخ بهلاكه وها هنا لا ينفسخ أصل العقد. قلنا: ينفسخ في حق الموكل والوكيل، كما إذا رده الموكل بعيب ورضي الوكيل به.
قال: "وإذا وكله بشراء عشرة أرطال لحم بدرهم فاشترى عشرين رطلا بدرهم من لحم يباع منه عشرة أرطال بدرهم لزم الموكل منه عشرة بنصف درهم عند أبي حنيفة، وقالا: يلزمه العشرون بدرهم" وذكر في بعض النسخ قول محمد مع قول أبي حنيفة ومحمد لم يذكر الخلاف في الأصل. لأبي يوسف أنه أمره بصرف الدرهم في(3/140)
اللحم وظن أن سعره عشرة أرطال، فإذا اشترى به عشرين فقد زاده خيرا وصار كما إذا وكله ببيع عبده بألف فباعه بألفين. ولأبي حنيفة أنه أمره بشراء عشرة أرطال ولم يأمره بشراء الزيادة فينفذ شراؤها عليه وشراء العشرة على الموكل بخلاف ما استشهد به؛ لأن الزيادة هناك بدل ملك الموكل فيكون له، بخلاف ما إذا اشترى ما يساوي عشرين رطلا بدرهم حيث يصير مشتريا لنفسه بالإجماع؛ لأن الآمر يتناول السمين وهذا مهزول فلم يحصل مقصود الآمر.
قال: "ولو وكله بشراء شيء بعينه فليس له أن يشتريه لنفسه" لأنه يؤدي إلى تغرير الآمر حيث اعتمد عليه ولأن فيه عزل نفسه ولا يملكه على ما قيل إلا بمحضر من الموكل، فلو كان الثمن مسمى فاشترى بخلاف جنسه أو لم يكن مسمى فاشترى بغير النقود أو وكل وكيلا بشرائه فاشترى الثاني وهو غائب يثبت الملك للوكيل الأول في هذه الوجوه؛ لأنه خالف أمر الآمر فينفذ عليه. ولو اشترى الثاني بحضرة الوكيل الأول نفذ على الموكل الأول؛ لأنه حضره رأيه فلم يكن مخالفا.
قال: "وإن وكله بشراء عبد بغير عينه: فاشترى عبدا فهو للوكيل إلا أن يقول نويت الشراء للموكل أو يشتريه بمال الموكل".
قال: هذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر كان للآمر وهو المراد عندي بقوله أو يشتريه بمال الموكل دون النقد من ماله؛ لأن فيه تفصيلا وخلافا، وهذا بالإجماع وهو مطلق. وإن أضافه إلى دراهم نفسه كان لنفسه حملا لحاله على ما يحل له شرعا أو يفعله عادة إذ الشراء لنفسه بإضافة العقد إلى دراهم غيره مستنكر شرعا وعرفا. وإن أضافه إلى دراهم مطلقة، فإن نواها للآمر فهو للآمر، وإن نواها لنفسه فلنفسه؛ لأن له أن يعمل لنفسه ويعمل للآمر في هذا التوكيل، وإن تكاذبا في النية يحكم النقد بالإجماع؛ لأنه دلالة ظاهرة على ما ذكرنا، وإن توافقا على أنه لم تحضره النية قال محمد رحمه الله: هو للعاقد؛ لأن الأصل أن كل أحد يعمل لنفسه إلا إذا ثبت جعله لغيره ولم يثبت. وعند أبي يوسف رحمه الله: يحكم النقد؛ لأن ما أوقعه مطلقا يحتمل الوجهين فيبقى موقوفا، فمن أي المالين نقد فقد فعل ذلك المحتمل لصاحبه ولأن مع تصادقهما يحتمل النية للآمر، وفيما قلنا حمل حاله على الصلاح كما في حالة التكاذب. والتوكيل بالإسلام في الطعام على هذه الوجوه.
قال: "ومن أمر رجلا بشراء عبد بألف فقال قد فعلت ومات عندي وقال الآمر(3/141)
اشتريته لنفسك فالقول قول الآمر، فإن كان دفع إليه الألف فالقول قول المأمور"؛ لأن في الوجه الأول أخبر عما لا يملك استئنافه وهو الرجوع بالثمن على الآمر وهو ينكر والقول للمنكر. وفي الوجه الثاني هو أمين يريد الخروج عن عهدة الأمانة فيقبل قوله. ولو كان العبد حيا حين اختلفا، إن كان الثمن منقودا فالقول للمأمور؛ لأنه أمين، وإن لم يكن منقودا فكذلك عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأنه يملك استئناف الشراء فلا يتهم في الإخبار عنه. وعن أبي حنيفة رحمه الله: القول للأمر؛ لأنه موضع تهمة بأن اشتراه لنفسه، فإذا رأى الصفقة خاسرة ألزمها الآمر، بخلاف ما إذا كان الثمن منقودا؛ لأنه أمين فيه فيقبل قوله تبعا لذلك ولا ثمن في يده هاهنا، وإن كان أمره بشراء عبد بعينه ثم اختلفا والعبد حي فالقول للمأمور سواء كان الثمن منقودا أو غير منقود، وهذا بالإجماع؛ لأنه أخبر عما يملك استئنافه، ولا تهمة فيه؛ لأن الوكيل بشراء شيء بعينه لا يملك شراءه لنفسه بمثل ذلك الثمن في حال غيبته على ما مر، بخلاف غير المعين على ما ذكرناه لأبي حنيفة رحمه الله.
"ومن قال لآخر بعني هذا العبد لفلان فباعه ثم أنكر أن يكون فلان أمره ثم جاء فلان وقال أنا أمرته بذلك فإن فلانا يأخذه"؛ لأن قوله السابق إقرار منه بالوكالة عنه فلا ينفعه الإنكار اللاحق. "فإن قال فلان لم آمره لم يكن له"؛ لأن الإقرار يرتد برده "إلا أن يسلمه المشترى له فيكون بيعا عنه وعليه العهدة"؛ لأنه صار مشتريا بالتعاطي، كمن اشترى لغيره بغير أمره حتى لزمه ثم سلمه المشترى له، ودلت المسألة على أن التسليم على وجه البيع يكفي للتعاطي وإن لم يوجد نقد الثمن، وهو يتحقق في النفيس والخسيس لاستتمام التراضي وهو المعتبر في الباب.
قال: "ومن أمر رجلا أن يشتري له عبدين بأعيانهما ولم يسم له ثمنا فاشترى له أحدهما جاز"؛ لأن التوكيل مطلق، وقد لا يتفق الجمع بينهما في البيع "إلا فيما لا يتغابن الناس فيه"؛ لأنه توكيل بالشراء، وهذا كله بالإجماع "ولو أمره بأن يشتريهما بألف وقيمتهما سواء، فعند أبي حنيفة رحمه الله إن اشترى أحدهما بخمسمائة أو أقل جاز، وإن اشترى بأكثر لم يلزم الآمر"؛ لأنه قابل الألف بهما وقيمتهما سواء فيقسم بينهما نصفين دلالة، فكان آمرا بشراء كل واحد منهما بخمسمائة ثم الشراء بها موافقة وبأقل منها مخالفة إلى خير والزيادة إلى شر قلت الزيادة أو كثرت فلا يجوز "إلا أن يشتري الباقي ببقية الألف قبل أن يختصما استحسانا"؛ لأن شراء الأول قائم وقد حصل غرضه المصرح به وهو تحصيل العبدين بالألف وما ثبت الانقسام إلا دلالة والصريح يفوقها "وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن اشترى أحدهما بأكثر من نصف الألف بما يتغابن الناس فيه وقد بقي من(3/142)
الألف ما يشترى بمثله الباقي جاز"؛ لأن التوكيل مطلق لكنه يتقيد بالمتعارف وهو فيما قلنا، ولكن لا بد أن يبقى من الألف باقية يشترى بمثلها الباقي ليمكنه تحصيل غرض الآمر.
قال: "ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه جاز"؛ لأن في تعيين المبيع تعيين البائع؛ ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "وإن أمره أن يشتري بها عبدا بغير عينه فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري، وإن قبضه الآمر فهو له" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله "وقالا: هو لازم للآمر إذا قبضه المأمور" وعلى هذا إذا أمره أن يسلم ما عليه أو يصرف ما عليه. لهما أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في المعاوضات دينا كانت أو عينا، ألا يرى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد فصار الإطلاق والتقييد فيه سواء فيصح التوكيل ويلزم الآمر؛ لأن يد الوكيل كيده. ولأبي حنيفة رحمه الله أنها تتعين في الوكالات؛ ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين منها أو بالدين منها ثم استهلك العين أو أسقط الدين بطلت الوكالة، وإذا تعينت كان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين من دون أن يوكله بقبضه وذلك لا يجوز، كما إذا اشترى بدين على غير المشتري أو يكون أمرا بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله وذلك باطل كما إذا قال أعط مالي عليك من شئت، بخلاف ما إذا عين البائع؛ لأنه يصير وكيلا عنه في القبض ثم يتملكه، وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق؛ لأنه جعل المال لله وهو معلوم. وإذا لم يصح التوكيل نفذ الشراء على المأمور فيهلك من ماله إلا إذا قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيا.
قال: "ومن دفع إلى آخر ألفا وأمره أن يشتري بها جارية فاشتراها فقال الآمر اشتريتها بخمسمائة. وقال المأمور اشتريتها بألف فالقول قول المأمور" ومراده إذا كانت تساوي ألفا؛ لأنه أمين فيه وقد ادعى الخروج عن عهدة الأمانة والآمر يدعي عليه ضمان خمسمائة وهو ينكر، فإن كانت تساوي خمسمائة فالقول قول الآمر؛ لأنه خالف حيث اشترى جارية تساوي خمسمائة والأمر تناول ما يساوي ألفا فيضمن.
قال: "وإن لم يكن دفع إليه الألف فالقول قول الآمر" أما إذا كانت قيمتها خمسمائة فللمخالفة وإن كانت قيمتها ألفا فمعناه أنهما يتحالفان؛ لأن الموكل والوكيل في هذا ينزلان منزلة البائع والمشتري وقد وقع الاختلاف في الثمن وموجبه التحالف. ثم يفسخ العقد الذي جرى بينهما فتلزم الجارية المأمور.
قال: "ولو أمره أن يشتري له هذا العبد ولم يسم له ثمنا فاشتراه فقال الآمر اشتريته(3/143)
بخمسمائة وقال المأمور بألف وصدق البائع المأمور فالقول قول المأمور مع يمينه" قيل لا تحالف هاهنا؛ لأنه ارتفع الخلاف بتصديق البائع، إذ هو حاضر وفي المسألة الأولى هو غائب، فاعتبر الاختلاف، وقيل يتحالفان كما ذكرنا، وقد ذكر معظم يمين التحالف وهو يمين البائع والبائع بعد استيفاء الثمن أجنبي عنهما وقبله أجنبي عن الموكل إذ لم يجر بينهما بيع فلا يصدق عليه فيبقى الخلاف، وهذا قول الإمام أبي منصور رحمه الله وهو أظهر. والله أعلم بالصواب.(3/144)
فصل: في التوكيل بشراء نفس العبد
قال: "وإذا قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من المولى بألف ودفعها إليه، فإن قال الرجل للمولى: اشتريته لنفسه فباعه على هذا فهو حر والولاء للمولى"؛ لأن بيع نفس العبد منه إعتاق وشراء العبد نفسه قبول الإعتاق ببدل والمأمور سفير عنه إذ لا يرجع عليه الحقوق فصار كأنه اشترى بنفسه، وإذا كان إعتاقا أعقب الولاء "وإن لم يعين للمولى فهو عبد للمشتري" لأن اللفظ حقيقة للمعاوضة وأمكن العمل بها إذا لم يعين فيحافظ عليها. بخلاف شراء العبد نفسه؛ لأن المجاز فيه متعين، وإذا كان معاوضة يثبت الملك له "والألف للمولى"؛ لأنه كسب عبده "وعلى المشتري ألف مثله" ثمنا للعبد فإنه في ذمته حيث لم يصح الأداء، بخلاف الوكيل بشراء العبد من غيره حيث لا يشترط بيانه؛ لأن العقدين هناك على نمط واحد، وفي الحالين المطالبة تتوجه نحو العاقد، أما هاهنا فأحدهما إعتاق معقب للولاء ولا مطالبة على الوكيل والمولى عساه لا يرضاه ويرغب في المعارضة المحضة فلا بد من البيان.
"ومن قال لعبد اشتر لي نفسك من مولاك فقال لمولاه بعني نفسي لفلان بكذا ففعل فهو للآمر"؛ لأن العبد يصلح وكيلا عن غيره في شراء نفسه؛ لأنه أجنبي عن ماليته، والبيع يرد عليه من حيث إنه مال إلا أن ماليته في يده حتى لا يملك البائع الحبس بعد البيع فإذا أضافه إلى الآمر صلح فعله امتثالا فيقع. العقد للآمر. "وإن عقد لنفسه فهو حر"؛ لأنه إعتاق وقد رضي به المولى دون المعاوضة، والعبد وإن كان وكيلا بشراء شيء معين ولكنه أتى بجنس تصرف آخر وفي مثله ينفذ على الوكيل "وكذا لو قال بعني نفسي ولم يقل لفلان فهو حر"؛ لأن المطلق يحتمل الوجهين فلا يقع امتثالا بالشك فيبقى التصرف واقعا لنفسه.(3/144)
فصل: في البيع
قال: "والوكيل بالبيع والشراء لا يجوز له أن يعقد مع أبيه وجده ومن لا تقبل شهادته له عند أبي حنيفة. وقالا: يجوز بيعه منهم بمثل القيمة إلا من عبده أو مكاتبه" لأن التوكيل مطلق ولا تهمة إذ الأملاك متباينة والمنافع منقطعة، بخلاف العبد؛ لأنه بيع من نفسه؛ لأن ما في يد العبد للمولى وكذا للمولى حق في كسب المكاتب وينقلب حقيقة بالعجز. وله أن مواضع التهمة مستثناة عن الوكالات، وهذا موضع التهمة بدليل عدم قبول الشهادة ولأن المنافع بينهم متصلة فصار بيعا من نفسه من وجه، والإجارة والصرف على هذا الخلاف.
قال: "والوكيل بالبيع يجوز بيعه بالقليل والكثير والعرض عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يجوز بيعه بنقصان لا يتغابن الناس فيه، ولا يجوز إلا بالدراهم والدنانير"؛ لأن مطلق الأمر يتقيد بالمتعارف؛ لأن التصرفات لدفع الحاجات فتتقيد بمواقعها، والمتعارف البيع بثمن المثل وبالنقود ولهذا يتقيد التوكيل بشراء الفحم والجمد والأضحية بزمان الحاجة، ولأن البيع بغبن فاحش بيع من وجه هبة من وجه، وكذا المقايضة بيع من وجه شراء من وجه فلا يتناوله مطلق اسم البيع ولهذا لا يملكه الأب والوصي. وله أن التوكيل بالبيع مطلق فيجري على إطلاقه في غير موضع التهمة، والبيع بالغبن أو بالعين متعارف عند شدة الحاجة إلى الثمن والتبرم من العين، والمسائل ممنوعة على قول أبي حنيفة رحمه الله على ما هو المروي عنه وأنه بيع من كل وجه، حتى أن من حلف لا يبيع يحنث به، غير أن الأب والوصي لا يملكانه مع أنه بيع؛ لأن ولايتهما نظرية ولا نظر فيه، والمقايضة شراء من كل وجه وبيع من كل وجه لوجود حد كل واحد منهما.
قال: "والوكيل بالشراء يجوز عقده بمثل القيمة وزيادة يتغابن الناس في مثلها، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس في مثله" لأن التهمة فيه متحققة فلعله اشتراه لنفسه، فإذا لم يوافقه ألحقه بغيره على ما مر، حتى لو كان وكيلا بشراء شيء بعينه قالوا ينفذ على الآمر؛ لأنه لا يملك شراءه لنفسه، وكذا الوكيل بالنكاح إذا زوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها جاز عنده؛ لأنه لا بد من الإضافة إلى الموكل في العقد فلا تتمكن هذه التهمة، ولا كذلك الوكيل بالشراء؛ لأنه يطلق العقد.
قال: "والذي لا يتغابن الناس فيه ما لا يدخل تحت تقويم المقومين، وقيل في العروض الإل نيم وفي الحيوانات الإل يازده وفي العقارات الإل دوازده" لأن التصرف يكثر وجوده(3/145)
في الأول ويقل في الأخير ويتوسط في الأوسط وكثرة الغبن لقلة التصرف.
قال: "وإذا وكله ببيع عبد فباع نصفه جاز عند أبي حنيفة رحمه الله"؛ لأن اللفظ مطلق عن قيد الافتراق والاجتماع؛ ألا ترى أنه لو باع الكل بثمن النصف يجوز عنده فإذا باع النصف به أولى "وقالا: لا يجوز"؛ لأنه غير متعارف لما فيه من ضرر الشركة "إلا أن يبيع النصف الآخر قبل أن يختصما"؛ لأن بيع النصف قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن لا يجد من يشتريه جملة فيحتاج إلى أن يفرق، فإذا باع الباقي قبل نقض البيع الأول تبين أنه وقع وسيلة، وإذا لم يبع ظهر أنه لم يقع وسيلة فلا يجوز، وهذا استحسان عندهما. "وإن وكله بشراء عبد فاشترى نصفه فالشراء موقوف، فإن اشترى باقيه لزم الموكل"؛ لأن شراء البعض قد يقع وسيلة إلى الامتثال بأن كان موروثا بين جماعة فيحتاج إلى شرائه شقصا شقصا، فإذا اشترى الباقي قبل رد الآمر البيع تبين أنه وقع وسيلة فينفذ على الآمر، وهذا بالاتفاق. والفرق لأبي حنيفة أن في الشراء تتحقق التهمة على ما مر. وآخر أن الأمر بالبيع يصادف ملكه فيصح فيعتبر فيه إطلاقه والأمر بالشراء صادف ملك الغير فلم يصح فلا يعتبر فيه التقييد والإطلاق.
قال: "ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وقبض الثمن أو لم يقبض فرده المشتري عليه بعيب لا يحدث مثله بقضاء القاضي ببينة أو بإباء يمين أو بإقرار فإنه يرده على الآمر" لأن القاضي تيقن بحدوث العيب في يد البائع فلم يكن قضاؤه مستندا إلى هذه الحجج. وتأويل اشتراطها في الكتاب أن القاضي يعلم أنه لا يحدث مثله في مدة شهر مثلا لكنه اشتبه عليه تاريخ البيع فيحتاج إلى هذه الحجج لظهور التاريخ، أو كان عيبا لا يعرفه إلا النساء أو الأطباء، وقولهن وقول الطبيب حجة في توجه الخصومة لا في الرد فيفتقر إليها في الرد، حتى لو كان القاضي عاين البيع والعيب ظاهر لا يحتاج إلى شيء منها وهو رد على الموكل فلا يحتاج الوكيل إلى رد وخصومة.
قال: "وكذلك إن رده عليه بعيب يحدث مثله ببينة أو بإباء يمين"؛ لأن البينة حجة مطلقة، والوكيل مضطر في النكول لبعد العيب عن علمه باعتبار عدم ممارسته المبيع فلزم الآمر.
قال: "فإن كان ذلك بإقراره لزم المأمور"؛ لأن الإقرار حجة قاصرة وهو غير مضطر إليه لإمكانه السكوت والنكول، إلا أن له أن يخاصم الموكل فيلزمه ببينة أو بنكوله، بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء والعيب يحدث مثله حيث لا يكون له أن يخاصم بائعه؛ لأنه بيع(3/146)
جديد في حق ثالث والبائع ثالثهما، والرد بالقضاء فسخ لعموم ولاية القاضي، غير أن الحجة قاصرة وهي الإقرار، فمن حيث الفسخ كان له أن يخاصمه، ومن حيث القصور لا يلزم الموكل إلا بحجة، ولو كان العيب لا يحدث مثله والرد بغير قضاء بإقراره يلزم الموكل من غير خصومة في رواية؛ لأن الرد متعين وفي عامة الروايات ليس له أن يخاصمه لما ذكرنا والحق في وصف السلامة ثم ينتقل إلى الرد ثم إلى الرجوع بالنقصان فلم يتعين الرد، وقد بيناه في الكفاية بأطول من هذا.
قال: "ومن قال لآخر أمرتك ببيع عبدي بنقد فبعته بنسيئة وقال المأمور أمرتني ببيعه ولم تقل شيئا فالقول قول الآمر"؛ لأن الآمر يستفاد من جهته ولا دلالة على الإطلاق.
قال: "وإن اختلف في ذلك المضارب ورب المال فالقول قول المضارب" لأن الأصل في المضاربة العموم، ألا ترى أنه يملك التصرف بذكر لفظ المضاربة فقامت دلالة الإطلاق، بخلاف ما إذا ادعى رب المال المضاربة في نوع والمضارب في نوع آخر حيث يكون القول لرب المال؛ لأنه سقط الإطلاق بتصادقهما فنزل إلى الوكالة المحضة ثم مطلق الأمر بالبيع ينتظمه نقدا ونسيئة إلى أي أجل كان عند أبي حنيفة، وعندهما يتقيد بأجل متعارف والوجه قد تقدم.
قال: "ومن أمر رجلا ببيع عبده فباعه وأخذ بالثمن رهنا فضاع في يده أو أخذ به كفيلا فتوي المال عليه فلا ضمان عليه" لأن الوكيل أصيل في الحقوق وقبض الثمن منها والكفالة توثق به، والارتهان وثيقة لجانب الاستيفاء فيملكهما بخلاف الوكيل بقبض الدين؛ لأنه يفعل نيابة وقد أنابه في قبض الدين دون الكفالة وأخذ الرهن والوكيل بالبيع يقبض أصالة ولهذا لا يملك الموكل حجره عنه.(3/147)
فصل: "وإذا وكل وكيلين فليس لأحدهما أن يتصرف فيما وكلا به دون الآخر"
وهذا في تصرف يحتاج فيه إلى الرأي كالبيع والخلع وغير ذلك، لأن الموكل رضي برأيهما لا برأي أحدهما، والبدل وإن كان مقدرا ولكن التقدير لا يمنع استعمال الرأي في الزيادة واختيار المشتري.
قال: "إلا أن يوكلهما بالخصومة" لأن الاجتماع فيها متعذر للإفضاء إلى الشغب في مجلس القضاء والرأي يحتاج إليه سابقا لتقويم الخصومة.
قال: "أو بطلاق زوجته بغير عوض أو بعتق عبده بغير عوض أو برد وديعة عنده أو(3/147)
قضاء دين عليه" لأن هذه الأشياء لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو تعبير محض، وعبارة المثنى والواحد سواء. وهذا بخلاف ما إذا قال لهما طلقاها إن شئتما أو قال أمرها بأيديكما لأنه تفويض إلى رأيهما؛ ألا ترى أنه تمليك مقتصر على المجلس، ولأنه علق الطلاق بفعلهما فاعتبره بدخولهما.
قال: "وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل به" لأنه فوض إليه التصرف دون التوكيل به، وهذا لأنه رضي برأيه والناس متفاوتون في الآراء.
قال: "إلا أن يأذن له الموكل" لوجود الرضا "أو يقول له اعمل برأيك" لإطلاق التفويض إلى رأيه، وإذا جاز في هذا الوجه يكون الثاني وكيلا عن الموكل حتى لا يملك الأول عزله ولا ينعزل بموته وينعزلان بموت الأول، وقد مر نظيره في أدب القاضي.
قال: "فإن وكل بغير إذن موكله فعقد وكيله بحضرته جاز" لأن المقصود حضور رأي الأول وقد حضر، وتكلموا في حقوقه. "وإن عقد في حال غيبته لم يجز" لأنه فات رأيه إلا أن يبلغه فيجيزه "وكذا لو باع غير الوكيل فبلغه فأجازه" لأنه حضر رأيه "ولو قدر الأول الثمن للثاني فعقد بغيبته يجوز" لأن الرأي فيه يحتاج إليه لتقدير الثمن ظاهرا وقد حصل، وهذا بخلاف ما إذا وكل وكيلين وقدر الثمن، لأنه لما فوض إليهما مع تقدير الثمن ظهر أن غرضه اجتماع رأيهما في الزيادة واختيار المشتري على ما بيناه، أما إذا لم يقدر الثمن وفوض إلى الأول كان غرضه رأيه في معظم الأمر وهو التقدير في الثمن.
قال: "وإذا زوج المكاتب أو العبد أو الذمي ابنته وهي صغيرة حرة مسلمة أو باع أو اشترى لها لم يجز" معناه التصرف في مالها لأن الرق والكفر يقطعان الولاية؛ ألا يرى أن المرقوق لا يملك إنكاح نفسه فكيف يملك إنكاح غيره، وكذا الكافر لا ولاية له على المسلم حتى لا تقبل شهادته عليه، ولأن هذه ولاية نظرية فلا بد من التفويض إلى القادر المشفق ليتحقق معنى النظر، والرق يزيل القدرة والكفر يقطع الشفقة على المسلم فلا تفوض إليهما.
"قال أبو يوسف ومحمد: والمرتد إذا قتل على ردته والحربي كذلك" لأن الحربي أبعد من الذمي فأولى بسلب الولاية، وأما المرتد فتصرفه في ماله وإن كان نافذا عندهما لكنه موقوف على ولده ومال ولده بالإجماع لأنها ولاية نظرية وذلك باتفاق الملة وهي مترددة، ثم تستقر جهة الانقطاع إذا قتل على الردة فيبطل وبالإسلام يجعل كأنه لم يزل مسلما فيصح.(3/148)
باب الوكالة بالخصومة والقبض
قال: "الوكيل بالخصومة وكيل بالقبض" عندنا خلافا لزفر. هو يقول رضي بخصومته والقبض غير الخصومة ولم يرض به. ولنا أن من ملك شيئا ملك إتمامه وإتمام الخصومة وانتهاؤها بالقبض، والفتوى اليوم على قول زفر رحمه الله لظهور الخيانة في الوكلاء، وقد يؤتمن على الخصومة من لا يؤتمن على المال، ونظيره الوكيل بالتقاضي يملك القبض على أصل الرواية لأنه في معناه وضعا، إلا أن العرف بخلافه وهو قاض على الوضع والفتوى على أن لا يملك.
قال: "فإن كانا وكيلين بالخصومة لا يقبضان إلا معا" لأنه رضي بأمانتهما لا بأمانة أحدهما، واجتماعهما ممكن بخلاف الخصومة على ما مر.
قال: "والوكيل بقبض الدين يكون وكيلا بالخصومة عند أبي حنيفة رحمه الله" حتى لو أقيمت عليه البينة على استيفاء الموكل أو إبرائه تقبل عنده، وقالا: لا يكون خصما وهو، رواية الحسن عن أبي حنيفة لأن القبض غير الخصومة، وليس كل من يؤتمن على المال يهتدي في الخصومات فلم يكن الرضا بالقبض رضا بها. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وكله بالتملك لأن الديون تقضى بأمثالها، إذ قبض الدين نفسه لا يتصور إلا أنه جعل استيفاء العين حقه من وجه، فأشبه الوكيل بأخذ الشفعة والرجوع في الهبة والوكيل بالشراء والقسمة والرد بالعيب، وهذه أشبه بأخذ الشفعة حتى يكون خصما قبل القبض كما يكون خصما قبل الأخذ هنالك. والوكيل بالشراء لا يكون خصما قبل مباشرة الشراء، وهذا لأن المبادلة تقتضي حقوقا وهو أصيل فيها فيكون خصما فيها.
قال: "والوكيل بقبض العين لا يكون وكيلا بالخصومة" بالاتفاق لأنه أمين محض، والقبض ليس بمبادلة فأشبه الرسول "حتى أن من وكل وكيلا بقبض عبد له فأقام الذي هو في يده البينة أن الموكل باعه إياه وقف الأمر حتى يحضر الغائب" وهذا استحسان، والقياس أن يدفع إلى الوكيل لأن البينة قامت لأعلى خصم فلم تعتبر. وجه الاستحسان أنه خصم في قصر يده لقيامه مقام الموكل في القبض فتقصر يده حتى لو حضر البائع تعاد البينة على البيع، فصار كما إذا أقام البينة على أن الموكل عزله عن ذلك فإنها تقبل في قصر يده كذا هذا.
قال: "وكذلك العتاق والطلاق وغير ذلك" ومعناه إذا أقامت المرأة البينة على الطلاق(3/149)
والعبد والأمة على العتاق على الوكيل بنقلهم تقبل في قصر يده حتى يحضر الغائب استحسانا دون العتق والطلاق.
قال: "وإذا أقر الوكيل بالخصومة على موكله عند القاضي جاز إقراره عليه، ولا يجوز عند غير القاضي" عند أبي حنيفة ومحمد استحسانا إلا أنه يخرج عن الوكالة.
وقال أبو يوسف: يجوز إقراره عليه وإن أقر في غير مجلس القضاء. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا يجوز في الوجهين وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولا، وهو القياس لأنه مأمور بالخصومة وهي منازعة والإقرار يضاده لأنه مسالمة، والأمر بالشيء لا يتناول ضده ولهذا لا يملك الصلح والإبراء ويصح إذا استثنى الإقرار، وكذا لو وكله بالجواب مطلقا يتقيد بجواب هو خصومة لجريان العادة بذلك ولهذا يختار فيها الأهدى فالأهدى. وجه الاستحسان أن التوكيل صحيح قطعا وصحته بتناوله ما يملكه قطعا وذلك مطلق الجواب دون أحدهما عينا. وطريق المجاز موجود على ما نبينه إن شاء الله تعالى فيصرف إليه تحريا للصحة قطعا؛ ولو استثنى الإقرار، فعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يصح لأنه لا يملكه. وعن محمد رحمه الله أنه يصح لأن للتنصيص زيادة دلالة على ملكه إياه؛ وعند الإطلاق يحمل على الأولى. وعنه أنه فصل بين الطالب والمطلوب ولم يصححه في الثاني لكونه مجبورا عليه ويخير الطالب فيه؛ فبعد ذلك يقول أبو يوسف رحمه الله: إن الوكيل قائم مقام الموكل، وإقراره لا يختص بمجلس القضاء فكذا إقرار نائبه. وهما يقولان: إن التوكيل يتناول جواب يسمى خصومة حقيقة أو مجازا، والإقرار في مجلس القضاء خصومة مجازا، إما لأنه خرج في مقابلة الخصومة، أو لأنه سبب له لأن الظاهر إتيانه بالمستحق وهو الجواب في مجلس القضاء فيختص به، لكن إذا أقيمت البينة على إقراره في غير مجلس القضاء يخرج من الوكالة حتى لا يؤمر بدفع المال إليه لأنه صار مناقضا وصار كالأب أو الوصي إذا أقر في مجلس القضاء لا يصح ولا يدفع المال إليهما.
قال: "ومن كفل بمال عن رجل فوكله صاحب المال بقبضه عن الغريم لم يكن وكيلا في ذلك أبدا" لأن الوكيل من يعمل لغيره، ولو صححناها صار عاملا لنفسه في إبراء ذمته فانعدم الركن، ولأن قبول قوله ملازم للوكالة لكونه أمينا، ولو صححناها لا يقبل لكونه مبرئا نفسه فينعدم بانعدام لازمه، وهو نظير عبد مديون أعتقه مولاه حتى ضمن قيمته للغرماء ويطالب العبد بجميع الدين، فلو وكله الطالب بقبض المال عن العبد كان باطلا لما بيناه.
قال: "ومن ادعى أنه وكيل الغائب في قبض دينه فصدقه الغريم أمر بتسليم الدين إليه"(3/150)
لأنه إقرار على نفسه لأن ما يقضيه خالص ماله "فإن حضر الغائب فصدقه وإلا دفع إليه الغريم الدين ثانيا" لأنه لم يثبت الاستيفاء حيث أنكر الوكالة، والقول في ذلك قوله مع يمينه فيفسد الأداء "ويرجع به على الوكيل إن كان باقيا في يده" لأن غرضه من الدفع براءة ذمته ولم تحصل فله أن ينقض قبضه "وإن كان" ضاع "في يده لم يرجع عليه" لأنه بتصديقه اعترف أنه محق في القبض وهو مظلوم في هذا الأخذ، والمظلوم لا يظلم غيره.
قال: "إلا أن يكون ضمنه عند الدفع" لأن المأخوذ ثانيا مضمون عليه في زعمهما، وهذه كفالة أضيفت إلى حالة القبض فتصح بمنزلة الكفالة بما ذاب له على فلان، ولو كان الغريم لم يصدقه على الوكالة ودفعه إليه على ادعائه، فإن رجع صاحب المال على الغريم رجع الغريم على الوكيل لأنه لم يصدقه على الوكالة، وإنما دفعه إليه على رجاء الإجازة، فإذا انقطع رجاؤه رجع عليه، وكذا إذا دفعه إليه على تكذيبه إياه في الوكالة. وهذا أظهر لما قلنا، وفي الوجوه كلها ليس له أن يسترد المدفوع حتى يحضر الغائب لأن المؤدى صار حقا للغائب، إما ظاهرا أو محتملا فصار كما إذا دفعه إلى فضولي على رجاء الإجازة لم يملك الاسترداد لاحتمال الإجازة، ولأن من باشر التصرف لغرض ليس له أن ينقضه ما لم يقع اليأس عن غرضه. "ومن قال إني وكيل بقبض الوديعة فصدقه المودع" لم يؤمر بالتسليم إليه لأنه أقر له بمال الغير، بخلاف الدين. ولو ادعى أنه مات أبوه وترك الوديعة ميراثا له ولا وارث له غيره، وصدقه المودع أمر بالدفع إليه لأنه لا يبقى ماله بعد موته، فقد اتفقا على أنه مال الوارث. ولو ادعى أنه اشترى الوديعة من صاحبها فصدقه المودع لم يؤمر بالدفع إليه لأنه ما دام حيا كان إقرارا بملك الغير لأنه من أهله فلا يصدقان في دعوى البيع عليه.
قال: "فإن وكل وكيلا يقبض ماله فادعى الغريم أن صاحب المال قد استوفاه فإنه يدفع المال إليه" لأن الوكالة قد ثبتت والاستيفاء لم يثبت بمجرد دعواه فلا يؤخر الحق.
قال: "ويتبع رب المال فيستحلفه" رعاية لجانبه، ولا يستحلف الوكيل لأنه نائب.
قال: "وإن وكله بعيب في جارية فادعى البائع رضا المشتري لم يرد عليه حتى يحلف المشتري بخلاف مسألة الدين" لأن التدارك ممكن هنالك باسترداد ما قبضه الوكيل إذا ظهر الخطأ عند نكوله، وهاهنا غير ممكن لأن القضاء بالفسخ ماض على الصحة وإن ظهر الخطأ عند أبي حنيفة رحمه الله كما هو مذهبه، ولا يستحلف المشتري عنده بعد ذلك لأنه لا يفيد، وأما عندهما قالوا: يجب أن يتحد الجواب على هذا في الفصلين ولا يؤخر، لأن التدارك ممكن عندهما لبطلان القضاء. وقيل الأصح عند أبي يوسف رحمه الله أن يؤخر في الفصلين(3/151)
لأنه يعتبر النظر حتى يستحلف المشتري لو كان حاضرا من غير دعوى البائع فينتظر للنظر.
قال: "ومن دفع إلى رجل عشرة دراهم ينفقها على أهله فأنفق عليهم عشرة من عنده فالعشرة بالعشرة" لأن الوكيل بالإنفاق وكيل بالشراء والحكم فيه ما ذكرناه وقد قررناه فهذا كذلك. وقيل هذا استحسان وفي القياس ليس له ذلك ويصير متبرعا. وقيل القياس والاستحسان في قضاء الدين لأنه ليس بشراء، فأما الإنفاق يتضمن الشراء فلا يدخلانه، والله أعلم بالصواب.(3/152)
باب عزل الوكيل
قال: "وللموكل أن يعزل الوكيل عن الوكالة" لأن الوكالة حقه فله أن يبطله، إلا إذا تعلق به حق الغير بأن كان وكيلا بالخصومة يطلب من جهة الطالب لما فيه من إبطال حق الغير، وصار كالوكالة التي تضمنها عقد الرهن.
قال: "فإن لم يبلغه العزل فهو على وكالته وتصرفه جائز حتى يعلم" لأن في العزل إضرارا به من حيث إبطال ولايته أو من حيث رجوع الحقوق إليه فينقد من مال الموكل ويسلم المبيع فيضمنه فيتضرر به، ويستوي الوكيل بالنكاح وغيره للوجه الأول، وقد ذكرنا اشتراط العدد أو العدالة في المخبر فلا نعيده.
قال: "وتبطل الوكالة بموت الموكل وجنونه جنونا مطبقا ولحاقه بدار الحرب مرتدا" لأن التوكيل تصرف غير لازم فيكون لدوامه حكم ابتدائه فلا بد من قيام الأمر وقد بطل بهذه العوارض، وشرط أن يكون الجنون مطبقا لأن قليله بمنزلة الإغماء، وحد المطبق شهر عند أبي يوسف اعتبارا بما يسقط به الصوم. وعنه أكثر من يوم وليلة لأنه تسقط به الصلوات الخمس فصار كالميت. وقال محمد: حول كامل لأنه يسقط به جميع العبادات فقدر به احتياطا.
قالوا: الحكم المذكور في اللحاق قول أبي حنيفة لأن تصرفات المرتد موقوفة عنده فكذا وكالته، فإن أسلم نفذ، وإن قتل أو لحق بدار الحرب بطلت الوكالة، فأما عندهما تصرفاته نافذة فلا تبطل وكالته إلا أن يموت أو يقتل على ردته أو يحكم بلحاقه وقد مر في السير وإن كان الموكل امرأة فارتدت فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب لأن ردتها لا تؤثر في عقودها على ما عرف.
قال: "وإذا وكل المكاتب ثم عجز أو المأذون له ثم حجر عليه أو الشريكان فافترقا، فهذه الوجوه تبطل الوكالة على الوكيل، علم أو لم يعلم" لما ذكرنا أن بقاء الوكالة يعتمد قيام الأمر(3/152)
وقد بطل بالحجر والعجز والافتراق، ولا فرق بين العلم وعدمه لأن هذا عزل حكمي فلا يتوقف على العلم كالوكيل بالبيع إذا باعه الموكل.
قال: "وإذا مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا بطلت الوكالة" لأنه لا يصح أمره بعد جنونه وموته "وإن لحق بدار الحرب مرتدا لم يجز له التصرف إلا أن يعود مسلما".
قال رضي الله عنه: وهذا عند محمد، فأما عند أبي يوسف لا تعود الوكالة. لمحمد أن الوكالة إطلاق لأنه رفع المانع. أما الوكيل يتصرف بمعان قائمة به وإنما عجز بعارض اللحاق لتباين الدارين، فإذا زال العجز والإطلاق باق عاد وكيلا. ولأبي يوسف أنه إثبات ولاية التنفيذ، لأن ولاية أصل التصرف بأهليته وولاية التنفيذ بالملك وباللحاق لحق بالأموات وبطلت الولاية فلا تعود كملكه في أم الولد والمدبر. ولو عاد الموكل مسلما وقد لحق بدار الحرب مرتدا لا تعود الوكالة في الظاهر. وعن محمد أنها تعود كما قال في الوكيل. والفرق له على الظاهر أن مبنى الوكالة في حق الموكل على الملك وقد زال وفي حق الوكيل على معنى قائم به ولم يزل باللحاق.
قال: "ومن وكل آخر بشيء ثم تصرف بنفسه فيما وكل به بطلت الوكالة" وهذا اللفظ ينتظم وجوها: مثل أن يوكله بإعتاق عبده أو بكتابته فأعتقه أو كاتبه الموكل بنفسه أو يوكله بتزويج امرأة أو بشراء شيء ففعله بنفسه أو يوكله بطلاق امرأته فطلقها الزوج ثلاثا أو واحدة وانقضت عدتها أو بالخلع فخالعها، بنفسه لأنه لما تصرف بنفسه تعذر على الوكيل التصرف فبطلت الوكالة، حتى لو تزوجها بنفسه وأبانها لم يكن للوكيل أن يزوجها منه لأن الحاجة قد انقضت، بخلاف ما إذا تزوجها الوكيل وأبانها له أن يزوج الموكل لبقاء الحاجة، وكذا لو وكله ببيع عبده فباعه بنفسه، فلو رد عليه بعيب بقضاء قاض؛ فعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس للوكيل أن يبيعه مرة أخرى لأن بيعه بنفسه منع له من التصرف فصار كالعزل. وقال محمد رحمه الله: له أن يبيعه مرة أخرى لأن الوكالة باقية لأنه إطلاق والعجز قد زال، بخلاف ما إذا وكله بالهبة فوهب بنفسه ثم رجع لم يكن للوكيل أن يهب لأنه مختار في الرجوع فكان ذلك دليل عدم الحاجة. أما الرد بقضاء بغير اختياره فلم يكن دليل زوال الحاجة، فإذا عاد إليه قديم ملكه كان له أن يبيعه، والله أعلم.(3/153)
كتاب الدعوى
شروط قبول الدعوى
...
كتاب الدعوى
قال: "المدعي من لا يجبر على الخصومة إذا تركها والمدعى عليه من يجبر على الخصومة" ومعرفة الفرق بينهما من أهم ما يبتنى عليه مسائل الدعوى، وقد اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله فيه، فمنها ما قال في الكتاب وهو حد عام صحيح. وقيل المدعي من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، والمدعى عليه من يكون مستحقا بقوله من غير حجة كذي اليد، وقيل المدعي من يتمسك بغير الظاهر والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر. وقال محمد رحمه الله في الأصل: المدعى عليه هو المنكر، وهذا صحيح لكن الشأن في معرفته والترجيح بالفقه عند الحذاق من أصحابنا رحمهم الله لأن الاعتبار للمعاني دون الصور، فإن المودع إذا قال رددت الوديعة فالقول له مع اليمين وإن كان مدعيا للرد صورة لأنه ينكر الضمان معنى.
قال: "ولا تقبل الدعوى حتى يذكر شيئا معلوما في جنسه وقدره" لأن فائدة الدعوى الإلزام بواسطة إقامة الحجة، والإلزام في المجهول لا يتحقق.
"فإن كان عينا في يد المدعى عليه كلف إحضارها ليشير إليها بالدعوى"، وكذا في الشهادة والاستحلاف، لأن الإعلام بأقصى ما يمكن شرط وذلك بالإشارة في المنقول لأن النقل ممكن والإشارة أبلغ في التعريف، ويتعلق بالدعوى وجوب الحضور، وعلى هذا القضاة من آخرهم في كل عصر، ووجوب الجواب إذا حضر ليفيد حضوره ولزوم إحضار العين المدعاة لما قلنا واليمين إذا أنكره، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "وإن لم تكن حاضرة ذكر قيمتها ليصير المدعى معلوما" لأن العين لا تعرف بالوصف، والقيمة تعرف به وقد تعذر مشاهدة العين. وقال الفقيه أبو الليث: يشترط مع بيان القيمة ذكر الذكورة والأنوثة.
قال: "وإن ادعى عقارا حدده وذكر أنه في يد المدعى عليه وأنه يطالبه به" لأنه تعذر التعريف بالإشارة لتعذر النقل فيصار إلى التجديد فإن العقار يعرف به، ويذكر الحدود(3/154)
الأربعة، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم، ولا بد من ذكر الجد لأن تمام التعريف به عند أبي حنيفة على ما عرف هو الصحيح، ولو كان الرجل مشهورا يكتفي بذكره، فإن ذكر ثلاثة من الحدود يكتفى بها عندنا خلافا لزفر لوجود الأكثر، بخلاف ما إذا غلط في الرابعة لأنه يختلف به المدعى ولا كذلك بتركها، وكما يشترط التحديد في الدعوى يشترط في الشهادة. وقوله في الكتاب وذكر أنه في يد المدعى عليه لا بد منه لأنه إنما ينتصب خصما إذا كان في يده، وفي العقار لا يكتفى بذكر المدعي وتصديق المدعى عليه أنه في يده بل لا تثبت اليد فيه إلا بالبينة، أو علم القاضي هو الصحيح نفيا لتهمة المواضعة إذ العقار عساه في يد غيرهما، بخلاف المنقول لأن اليد فيه مشاهدة. وقوله وأنه يطالبه به لأن المطالبة حقه فلا بد من طلبه، ولأنه يحتمل أن يكون مرهونا في يده أو محبوسا بالثمن في يده، وبالمطالبة يزول هذا الاحتمال، وعن هذا قالوا في المنقول يجب أن يقول في يده بغير حق.
قال: "وإن كان حقا في الذمة ذكر أنه يطالبه به" لما قلنا، وهذا لأن صاحب الذمة قد حضر فلم يبق إلا المطالبة لكن لا بد من تعريفه بالوصف لأنه يعرف به
قال: "وإذا صحت الدعوى سأل المدعى عليه عنها" لينكشف له وجه الحكم "فإن اعترف قضي عليه بها" لأن الإقرار موجب بنفسه فيأمره بالخروج عنه "وإن أنكر سأل المدعي البينة" لقوله عليه الصلاة والسلام: " ألك بينة؟ " فقال لا، فقال: "لك يمينه" سأل ورتب اليمين على فقد البينة فلا بد من السؤال ليمكنه الاستحلاف.
قال: "فإن أحضرها قضي بها" لانتفاء التهمة عنها "وإن عجز عن ذلك وطلب يمين خصمه استحلفه عليها" لما روينا، ولا بد من طلبه لأن اليمين حقه؛ ألا يرى أنه كيف أضيف إليه بحرف اللام فلا بد من طلبه.(3/155)
باب اليمين
مدخل
...
باب اليمين
"وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف" عند أبي حنيفة رحمه الله، معناه حاضرة في المصر وقال أبو يوسف: يستحلف لأن اليمين حقه بالحديث المعروف، فإذا طالبه به يجيبه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن ثبوت الحق في العين مرتب على العجز عن إقامة البينة لما روينا فلا يكون حقه دونه، كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس. ومحمد مع أبي يوسف رحمهما الله فيما ذكره الخصاف، ومع أبي حنيفة فيما ذكره الطحاوي رحمه الله.
قال: "ولا ترد اليمين على المدعي" لقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي(3/155)
واليمين على من أنكر" قسم والقسمة تنافي الشركة، وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء، وفيه خلاف الشافعي رحمه الله.
قال: "ولا تقبل بينة صاحب اليد في الملك المطلق، وبينة الخارج أولى". وقال الشافعي: يقضى ببينة ذي اليد لاعتضادها باليد فيتقوى الظهور وصار كالنتاج والنكاح ودعوى الملك مع الإعتاق والاستيلاد والتدبير. ولنا أن بينة الخارج أكثر إثباتا أو إظهارا لأن قدر ما أثبته اليد لا يثبته بينة ذي اليد، إذ اليد دليل مطلق الملك، بخلاف النتاج لأن اليد لا تدل عليه، وكذا على الإعتاق وأختيه وعلى الولاء الثابت بها.
قال: "وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين قضي عليه بالنكول وألزمه ما ادعى عليه" وقال الشافعي: لا يقضى به بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف يقضي به لأن النكول يحتمل التورع عن اليمين الكاذبة والترفع عن الصادقة واشتباه الحال فلا ينتصب حجة مع الاحتمال، ويمين المدعي دليل الظهور فيصار إليه. ولنا أن النكول دل على كونه باذلا أو مقرا، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب ودفعا للضرر عن نفسه فترجح هذا الجانب، ولا وجه لرد اليمين على المدعي لما قدمناه.
قال: "وينبغي للقاضي أن يقول له إني أعرض عليك اليمين ثلاثا، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه" وهذا الإنذار لإعلامه بالحكم إذ هو موضع الخفاء.
قال: "فإذا كرر العرض عليه ثلاث مرات قضي عليه بالنكول" وهذا التكرار ذكره الخصاف رحمه الله لزيادة الاحتياط والمبالغة في إبلاء العذر، فأما المذهب أنه لو قضي بالنكول بعد العرض مرة جاز لما قدمناه هو الصحيح والأول أولى، ثم النكول قد يكون حقيقيا كقوله لا أحلف، وقد يكون حكميا بأن يسكت، وحكمه حكم الأول إذا علم أنه لا آفة به من طرش أو خرس هو الصحيح.
قال: "وإن كانت الدعوى نكاحا لم يستحلف المنكر" عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يستحلف عنده في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود واللعان. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يستحلف في ذلك كله إلا في الحدود واللعان.
وصورة الاستيلاد: أن تقول الجارية أنا أم ولد لمولاي وهذا ابني منه وأنكر المولى، لأنه لو ادعى المولى ثبت الاستيلاد بإقراره ولا يلتفت إلى إنكارها. لهما أن النكول إقرار لأنه يدل على كونه كاذبا في الإنكار على ما قدمناه، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين الصادقة(3/156)
إقامة للواجب فكان إقرارا أو بدلا عنه، والإقرار يجري في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات، واللعان في معنى الحد. ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بذل لأن معه لا تبقى اليمين واجبة لحصول المقصود وإنزاله باذلا أولى كي لا يصير كاذبا في الإنكار، والبذل لا يجري في هذه الأشياء. وفائدة الاستحلاف القضاء بالنكول فلا يستحلف، إلا أن هذا بذل لدفع الخصومة فيملكه المكاتب والعبد المأذون بمنزلة الضيافة اليسيرة، وصحته في الدين بناء على زعم المدعي وهو ما يقبضه حقا لنفسه، والبذل معناه هاهنا ترك المنع وأمر المال هين.
قال: "ويستحلف السارق، فإن نكل ضمن ولم يقطع" لأن المنوط بفعله شيئان: الضمان ويعمل فيه النكول. والقطع ولا يثبت به فصار كما إذا شهد عليها رجل وامرأتان.
قال: "وإذا ادعت المرأة طلاقا قبل الدخول استحلف الزوج، فإن نكل ضمن نصف المهر في قولهم جميعا" لأن الاستحلاف يجري في الطلاق عندهم لا سيما إذا كان المقصود هو المال، وكذا في النكاح إذا ادعت هي الصداق لأن ذلك دعوى المال، ثم يثبت المال بنكوله ولا يثبت النكاح، وكذا في النسب إذا ادعى حقا كالإرث والحجر في اللقيط، والنفقة وامتناع الرجوع في الهبة، لأن المقصود هذه الحقوق، وإنما يستحلف في النسب المجرد عندهما إذا كان يثبت بإقراره كالأب والابن في حق الرجل والأب في حق المرأة، لأن في دعواها الابن تحميل النسب على الغير والمولى والزوج في حقهما.
قال: "ومن ادعى قصاصا على غيره فجحده استحلف" بالإجماع "ثم إن نكل عن اليمين فيما دون النفس يلزمه القصاص، وإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر" وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: لزمه الأرش فيهما لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما فلا يثبت به القصاص ويجب به المال، خصوصا إذا كان امتناع القصاص لمعنى من جهة من عليه، كما إذا أقر بالخطأ والولي يدعي العمد. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فيجري فيها البذل، بخلاف الأنفس فإنه لو قال اقطع يدي فقطعها لا يجب الضمان، وهذا إعمال للبذل إلا أنه لا يباح لعدم الفائدة، وهذا البذل مفيد لاندفاع الخصومة به فصار كقطع اليد للآكلة وقلع السن للوجع، وإذا امتنع القصاص في النفس واليمين حق مستحق يحبس به كما في القسامة.
قال: "وإذا قال المدعي لي بينة حاضرة قيل، لخصمه أعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام" كي لا يغيب نفسه فيضيع حقه والكفالة بالنفس جائزة عندنا وقد مر من قبل، وأخذ الكفيل(3/157)
بمجرد الدعوى استحسان عندنا لأن فيه نظرا للمدعي وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه وهذا لأن الحضور مستحق عليه بمجرد الدعوى حتى يعدى عليه ويحال بينه وبين أشغاله فصح التكفيل بإحضاره والتقدير بثلاثة أيام مروي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو الصحيح، ولا فرق في الظاهر بين الخامل والوجيه والحقير من المال والخطير، ثم لا بد من قوله لي بينة حاضرة للتكفيل ومعناه في المصر، حتى لو قال المدعي لا بينة لي أو شهودي غيب لا يكفل لعدم الفائدة.
قال: "فإن فعل وإلا أمر بملازمته" كي لا يذهب حقه "إلا أن يكون غريبا فيلازم مقدار مجلس القاضي" وكذا لا يكفل إلا إلى آخر المجلس، فالاستثناء منصرف إليهما لأن في أخذ الكفيل والملازمة زيادة على ذلك إضرارا به بمنعه عن السفر ولا ضرر في هذا المقدار ظاهرا، وكيفية الملازمة نذكرها في كتاب الحجر إن شاء الله تعالى.(3/158)
فصل: في كيفية اليمين والاستحلاف
قال: "واليمين بالله عز وجل دون غيره" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر" وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف بغير الله فقد أشرك" "وقد تؤكد بذكر أوصافه" وهو التغليظ، وذلك مثل قوله: قل والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا ولا شيء منه. وله أن يزيد في التغليظ على هذا وله أن ينقص منه، إلا أنه يحتاط فيه كي لا يتكرر عليه اليمين، لأن المستحق يمين واحدة، والقاضي بالخيار إن شاء غلظ وإن شاء لم يغلظ فيقول: قل بالله أو والله، وقيل: لا يغلظ على المعروف بالصلاح ويغلظ على غيره، وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير.
قال: "ولا يستحلف بالطلاق ولا بالعتاق" لما روينا، وقيل في زماننا إذا ألح الخصم ساغ للقاضي أن يحلف بذلك لقلة المبالاة باليمين بالله وكثرة الامتناع بسبب الحلف بالطلاق.
قال: "ويستحلف اليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، والنصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام" لقوله عليه الصلاة والسلام لابن صوريا الأعور: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أن حكم الزنا في كتابكم هذا" ولأن اليهودي يعتقد نبوة موسى والنصراني نبوة عيسى عليهما السلام فيغلظ على كل واحد منهما بذكر المنزل على نبيه(3/158)
يستحلف "المجوسي بالله الذي خلق النار" وهكذا ذكر محمد رحمه الله في الأصل. يروى عن أبي حنيفة رحمه الله في النوادر أنه لا يستحلف أحدا إلا بالله خالصا. وذكر الخصاف رحمه الله أنه لا يستحلف غير اليهودي والنصراني إلا بالله، وهو اختيار بعض مشايخنا لأن في ذكر النار مع اسم الله تعالى تعظيما وما ينبغي أن تعظم، بخلاف الكتابين لأن كتب الله معظمة "والوثني لا يحلف إلا بالله" لأن الكفرة بأسرهم يعتقدون الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] .
قال: "ولا يحلفون في بيوت عبادتهم" لأن القاضي لا يحضرها بل هو ممنوع عن ذلك.
قال: "ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا مكان" لأن المقصود تعظيم المقسم به وهو حاصل بدون ذلك، وفي إيجاب ذلك حرج على القاضي حيث يكلف حضورها وهو مدفوع.
قال: "ومن ادعى أنه ابتاع من هذا عبده بألف فجحد استحلف بالله ما بينكما بيع قائم فيه ولا يستحلف بالله ما بعت" لأنه قد يباع العين ثم يقال فيه "ويستحلف في الغصب بالله ما يستحق عليك رده ولا يحلف بالله ما غصبت" لأنه قد يغصب ثم يفسخ بالهبة والبيع "وفي النكاح بالله ما بينكما نكاح قائم في الحال" لأنه قد يطرأ عليه الخلع "وفي دعوى الطلاق بالله ما هي بائن منك الساعة بما ذكرت ولا يستحلف بالله ما طلقها" لأن النكاح قد يجدد بعد الإبانة فيحلف على الحاصل في هذه الوجوه، لأنه لو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
أما على قول أبي يوسف رحمه الله يحلف في جميع ذلك على السبب إلا إذا عرض بما ذكرنا فحينئذ يحلف على الحاصل. وقيل: ينظر إلى إنكار المدعى عليه إن أنكر السبب يحلف عليه، وإن أنكر الحكم يحلف على الحاصل. فالحاصل هو الأصل عندهما إذا كان سببا يرتفع إلا إذا كان فيه ترك النظر في جانب المدعي فحينئذ يحلف على السبب بالإجماع، وذلك أن تدعي مبتوتة نفقة العدة والزوج ممن لا يراها، أو ادعى شفعة بالجوار والمشتري لا يراها، لأنه لو حلف على الحاصل يصدق في يمينه في معتقده فيفوت النظر في حق المدعي، وإن كان سببا لا يرتفع برافع فالتحليف على السبب بالإجماع "كالعبد المسلم إذا ادعى العتق على مولاه، بخلاف الأمة والعبد الكافر" لأنه يكرر الرق عليها بالردة واللحاق وعليه بنقض العهد واللحاق، ولا يكرر على العبد المسلم.(3/159)
قال: "ومن ورث عبدا وادعاه آخر يستحلف على علمه" لأنه لا علم له بما صنع المورث فلا يحلف على البتات "وإن وهب له أو اشتراه يحلف على البتات" لوجود المطلق لليمين إذ الشراء سبب لثبوت الملك وضعا وكذا الهبة.
قال: "ومن ادعى على آخر مالا فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة فهو جائز" وهو مأثور عن عثمان رضي الله عنه. "وليس له أن يستحلفه على تلك اليمين أبدا" لأنه أسقط حقه، والله أعلم بالصواب.(3/160)
باب التحالف
مدخل
...
باب التحالف
قال: "وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنا وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع وادعى المشتري أكثر منه فأقام أحدهما البينة قضى له بها" لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى والبينة أقوى منها "وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى" لأن البينات للإثبات ولا تعارض في الزيادة "ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا فبينة البائع أولى في الثمن وبينة المشتري أولى في المبيع" نظرا إلى زيادة الإثبات. "وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل للمشتري إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع، وقيل للبائع إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع" لأن المقصود قطع المنازعة، وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ فإذا علما به يتراضيان به "فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر" وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس، لأن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره، فكل واحد منهما منكر فيحلف؛ فأما بعد القبض فمخالف للقياس لأن المشتري لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفى بحلفه، لكنا عرفناه بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا".
قال: "ويبتدئ بيمين المشتري" وهذا قول محمد وأبي يوسف آخرا، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وهو الصحيح لأن المشتري أشدهما إنكارا لأنه يطالب أولا بالثمن ولأنه يتعجل فائدة النكول وهو إلزام الثمن، ولو بدئ بيمين البائع تتأخر المطالبة بتسليم المبيع إلى زمان استيفاء الثمن. وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا: يبدأ بيمين البائع لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع" خصه(3/160)
بالذكر، وأقل فائدته التقديم. "وإن كان بيع عين بعين أو ثمن بثمن بدأ القاضي بيمين أيهما شاء" لاستوائهما "وصفة اليمين أن يحلف البائع بالله ما باعه بألف ويحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين" وقال في الزيادات: يحلف بالله ما باعه بألف ولقد باعه بألفين، يحلف المشتري بالله ما اشتراه بألفين ولقد اشتراه بألف يضمن الإثبات إلى النفي تأكيدا، والأصح الاقتصار على النفي لأن الأيمان على ذلك وضعت، دل عليه حديث القسامة "بالله ما قتلتم ولا علمتم له قاتلا".
قال: "فإن حلفا فسخ القاضي البيع بينهما" وهذا يدل على أنه لا ينفسخ بنفس التحالف لأنه لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيبقى بيع مجهول فيفسخه القاضي قطعا للمنازعة. أو يقال إذا لم يثبت البدل يبقى بيعا بلا بدل وهو فاسد ولا بد من الفسخ في البيع الفاسد.
قال: "وإن نكل أحدهما عن اليمين لزمه دعوى الآخر" لأنه جعل باذلا فلم يبق دعواه معارضا لدعوى الآخر فلزم القول بثبوته.
قال: "وإن اختلفا في الأجل أو في شرط الخيار أو في استيفاء بعض الثمن فلا تحالف بينهما" لأن هذا اختلاف في غير المعقود عليه والمعقود به، فأشبه الاختلاف في الحط والإبراء، وهذا لأن بانعدامه لا يختل ما به قوام العقد، بخلاف الاختلاف في وصف الثمن وجنسه حيث يكون بمنزلة الاختلاف في القدر في جريان التحالف لأن ذلك يرجع إلى نفس الثمن فإن الثمن دين وهو يعرف بالوصف، ولا كذلك الأجل لأنه ليس بوصف؛ ألا ترى أن الثمن موجود بعد مضيه.
قال: "والقول قول من ينكر الخيار والأجل مع يمينه" لأنهما يثبتان بعارض الشرط والقول لمنكر العوارض.
قال: "فإن هلك المبيع ثم اختلفا لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله والقول قول المشتري. وقال محمد رحمه الله: يتحالفان ويفسخ البيع على قيمة الهالك" وهو قول الشافعي رحمه الله، وعلى هذا إذا خرج المبيع عن ملكه أو صار بحال لا يقدر على رده بالعيب. لهما أن كل واحد منهما يدعي غير العقد الذي يدعيه صاحبه والآخر ينكره وأنه يفيد دفع زيادة الثمن فيتحالفان؛ كما إذا اختلفا في جنس الثمن بعد هلاك السلعة، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن التحالف بعد القبض على خلاف القياس لأنه سلم للمشتري ما يدعيه وقد ورد الشرع به في حال قيام السلعة، والتحالف فيه يفضي إلى(3/161)
الفسخ، ولا كذلك بعد هلاكها لارتفاع العقد فلم يكن في معناه ولأنه لا يبالي بالاختلاف في السبب بعد حصول المقصود، وإنما يراعى من الفائدة ما يوجبه العقد، وفائدة دفع زيادة الثمن ليست من موجباته وهذا إذا كان الثمن دينا، فإن كان عينا يتحالفان لأن المبيع في أحد الجانبين قائم فتوفر فائدة الفسخ ثم يرد مثل الهالك إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل.
قال: "وإن هلك أحد العبدين ثم اختلفا في الثمن لم يتحالفا عند أبي حنيفة إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك من الثمن. وفي الجامع الصغير: القول قول المشتري مع يمينه عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد الحي ولا شيء له. وقال أبو يوسف: يتحالفان في الحي ويفسخ العقد في الحي، والقول قول المشتري في قيمة الهالك. وقال محمد: يتحالفان عليهما ويرد الحي وقيمة الهالك" لأن هلاك كل السلعة لا يمنع التحالف عنده فهلاك البعض أولى. ولأبي يوسف أن امتناع التحالف للهلاك فيتقدر بقدره. ولأبي حنيفة أن التحالف على خلاف القياس في حال قيام السلعة وهي اسم لجميع أجزائها فلا تبقى السلعة بفوات بعضها، ولأنه لا يمكن التحالف في القائم إلا على اعتبار حصته من الثمن فلا بد من القسمة وهي تعرف بالحذر والظن فيؤدي إلى التحالف مع الجهل وذلك لا يجوز إلا أن يرضى البائع أن يترك حصة الهالك أصلا لأنه حينئذ يكون الثمن كله بمقابلة القائم ويخرج الهالك عن العقد فيتحالفان. هذا تخريج بعض المشايخ ويصرف الاستثناء عندهم إلى التحالف كما ذكرنا وقالوا: إن المراد من قوله في الجامع الصغير يأخذ الحي ولا شيء له، معناه: لا يأخذ من ثمن الهالك شيئا أصلا. وقال بعض المشايخ: يأخذ من ثمن الهالك بقدر ما أقر به المشتري، وإنما لا يأخذ الزيادة. وعلى قول هؤلاء ينصرف الاستثناء إلى يمين المشتري لا إلى التحالف، لأنه لما أخذ البائع بقول المشتري فقد صدقه فلا يحلف المشتري، ثم تفسير التحالف على قول محمد ما بيناه في القائم. وإذا حلفا ولم يتفقا على شيء فادعى أحدهما الفسخ أو كلاهما يفسخ العقد بينهما ويأمر القاضي المشتري برد الباقي وقيمة الهالك.
واختلفوا في تفسيره على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، والصحيح أنه يحلف المشتري بالله ما اشتريتهما بما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه دعوى البائع، وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بالثمن الذي يدعيه المشتري، فإن نكل لزمه دعوى المشتري، وإن حلف يفسخان(3/162)
العقد في القائم وتسقط حصته من الثمن ويلزم المشتري حصة الهالك ويعتبر قيمتهما في الانقسام يوم القبض.
"وإن اختلفا في قيمة الهالك يوم القبض فالقول قول البائع، وأيهما أقام البينة تقبل بينته. وإن أقاماها فبينة البائع أولى" وهو قياس ما ذكر في بيوع الأصل "اشترى عبدين وقبضهما ثم رد أحدهما بالعيب وهلك الآخر عنده يجب عليه ثمن ما هلك عنده ويسقط عنه ثمن ما رده وينقسم الثمن على قيمتهما. فإن اختلفا في قيمة الهالك فالقول قول البائع" لأن الثمن قد وجب باتفاقهما ثم المشتري يدعي زيادة السقوط بنقصان قيمة الهالك والبائع ينكره والقول للمنكر "وإن أقاما البينة فبينة البائع أولى" لأنها أكثر إثباتا ظاهرا لإثباتها الزيادة في قيمة الهالك وهذا لفقه. وهو أن في الأيمان تعتبر الحقيقة لأنها تتوجه على أحد العاقدين وهما يعرفان حقيقة الحال فبني الأمر عليها والبائع منكر حقيقة فلذا كان القول قوله، وفي البينات يعتبر الظاهر لأن الشاهدين لا يعلمان حقيقة الحال فاعتبر الظاهر في حقهما والبائع مدع ظاهرا فلهذا تقبل بينته أيضا وتترجح بالزيادة الظاهرة على ما مر، وهذا يبين لك معنى ما ذكرناه من قول أبي يوسف رحمه الله.
قال: "ومن اشترى جارية وقبضها ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن فإنهما يتحالفان ويعود البيع الأول" ونحن ما أثبتنا التحالف فيه بالنص لأنه ورد في البيع المطلق والإقالة فسخ في حق المتعاقدين، وإنما أثبتناه بالقياس لأن المسألة مفروضة قبل القبض والقياس يوافقه على ما مر ولهذا نقيس الإجارة على البيع قبل القبض والوارث على العاقد والقيمة على العين فيما إذا استهلكه في يد البائع غير المشتري.
قال: "ولو قبض البائع المبيع بعد الإقالة فلا تحالف عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد" لأنه يرى النص معلولا بعد القبض أيضا.
قال: "ومن أسلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم تقايلا ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المسلم إليه ولا يعود السلم" لأن الإقالة في باب السلم لا تحتمل النقض لأنه إسقاط فلا يعود السلم، بخلاف الإقالة في البيع؛ ألا ترى أن رأس مال السلم لو كان عرضا فرده بالعيب وهلك قبل التسليم إلى رب السلم لا يعود السلم ولو كان ذلك في بيع العين يعود البيع دل على الفرق بينهما.
قال: "وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت تزوجني بألفين فأيهما أقام البينة تقبل بينته" لأنه نور دعواه بالحجة. "وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة"(3/163)
لأنها تثبت الزيادة، معناه إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته "وإن لم يكن لهما بينة تحالفا عند أبي حنيفة ولا يفسخ النكاح" لأن أثر التحالف في انعدام التسمية، وأنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه، بخلاف البيع لأن عدم التسمية يفسده على ما مر فيفسخ، "ولكن يحكم مهر المثل، فإن كان مثل ما اعترف به الزوج أو أقل قضى بما قال الزوج" لأن الظاهر شاهد له "وإن كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر قضى بما ادعته المرأة، وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لها بمهر المثل" لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ولا الحط عنه.
قال رضي الله عنه: ذكر التحالف أولا ثم التحكيم، وهذا قول الكرخي رحمه الله لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية وسقوط اعتبارها بالتحالف ولهذا يقدم في الوجوه كلها، ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد تعجيلا لفائدة النكول كما في المشتري، وتخريج الرازي بخلافه وقد استقصيناه في النكاح وذكرنا خلاف أبي يوسف فلا نعيده.
"ولو ادعى الزوج النكاح على هذا العبد والمرأة تدعيه على هذه الجارية فهو كالمسألة المتقدمة، إلا أن قيمة الجارية إذا كانت مثل مهر المثل يكون لها قيمتها دون عينها" لأن تملكها لا يكون إلا بالتراضي ولم يوجد فوجبت القيمة "وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا" معناه اختلفا في البدل أو في المبدل لأن التحالف في البيع قبل القبض على وفاق القياس على ما مر، والإجارة قبل القبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع وكلامنا قبل استيفاء المنفعة "فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر" لأنه منكر لوجوب الأجرة "وإن وقع في المنفعة يبدأ بيمين المؤجر، وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه، وأيهما أقام البينة قبلت، ولو أقاماها فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة، وإن كان في المنافع فبينة المستأجر أولى، وإن كان فيهما قبلت بينة كل واحد منهما فيما يدعيه من الفضل" نحو أن يدعي هذا شهرا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشرة.
قال: "وإن اختلفا بعد الاستيفاء لم يتحالفا وكان القول قول المستأجر" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ظاهر، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما، وكذا على أصل محمد لأن الهلاك إنما لا يمنع عنده في المبيع لما أن له قيمة تقوم مقامه فيتحالفان عليها، ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد فلا قيمة لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد وتبين أنه لا عقد. وإذا امتنع فالقول للمستأجر مع يمينه لأنه هو(3/164)
المستحق عليه "وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر" لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في كل جزء من المنفعة كأن ابتداء العقد عليها، بخلاف البيع لأن العقد فيه دفعة واحدة، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل.
قال: "وإذا اختلف المولى والمكاتب في مال الكتابة لم يتحالفا عند أبي حنيفة. وقالا: يتحالفان وتفسخ الكتابة" وهو قول الشافعي لأنه عقد معاوضة يقبل الفسخ فأشبه البيع، والجامع أن المولى يدعي بدلا زائدا ينكره العبد والعبد يدعي استحقاق العتق عليه عند أداء القدر الذي يدعيه والمولى ينكره فيتحالفان كما إذا اختلفا في الثمن. ولأبي حنيفة أن البدل مقابل بفك الحجر في حق اليد والتصرف للحال وهو سالم للعبد وإنما ينقلب مقابلا بالعتق عند الأداء فقبله لا مقابلة فبقي اختلافا في قدر البدل لا غير فلا يتحالفان.
قال: "وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت فما يصلح للرجال فهو للرجل كالعمامة" لأن الظاهر شاهد له "وما يصلح للنساء فهو للمرأة كالوقاية" لشهادة الظاهر لها "وما يصلح لهما كالآنية فهو للرجل" لأن المرأة وما في يدها في يد الزوج والقول في الدعاوى لصاحب اليد، بخلاف ما يختص بها لأنه يعارضه ظاهر أقوى منه، ولا فرق بين ما إذا كان الاختلاف في حال قيام النكاح أو بعدما وقعت الفرقة. "فإن مات أحدهما واختلفت ورثته مع الآخر فما يصلح للرجال والنساء فهو للباقي منهما" لأن اليد للحي دون الميت، وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله: يدفع إلى المرأة ما يجهز به مثلها، والباقي للزوج مع يمينه لأن الظاهر أن المرأة تأتي بالجهاز وهذا أقوى فيبطل به ظاهر يد الزوج، ثم في الباقي لا معارض لظاهر فيعتبر "والطلاق والموت سواء" لقيام الورثة مقام مورثهم "وقال محمد: وما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما يكون لهما فهو للرجل أو لورثته" لما قلنا لأبي حنيفة "والطلاق والموت سواء" لقيام الوارث مقام المورث "وإن كان أحدهما مملوكا فالمتاع للحر في حالة الحياة" لأن يد الحر أقوى "وللحي بعد الممات" لأنه لا يد للميت فخلت يد الحي عن المعارض "وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: العبد المأذون له في التجارة والمكاتب بمنزلة الحر" لأن لهما يدا معتبرة في الخصومات.(3/165)
فصل: فيمن لا يكون خصما
"وإن قال المدعى عليه هذا الشيء أودعنيه فلان الغائب أو رهنه عندي أو غصبته منه وأقام بينة على ذلك فلا خصومة بينه وبين المدعي" وكذا إذا قال: آجرنيه وأقام البينة لأنه أثبت ببينته أن يده ليست بيد خصومة. وقال ابن شبرمة: لا تندفع الخصومة لأنه تعذر إثبات الملك للغائب لعدم الخصم عنه ودفع الخصومة بناء عليه.
قلنا: مقتضى البينة شيئان ثبوت الملك للغائب ولا خصم فيه فلم يثبت، ودفع خصومة المدعي وهو خصم فيه فيثبت وهو كالوكيل بنقل المرأة وإقامتها البينة على الطلاق كما بيناه من قبل، ولا تندفع بدون إقامة البينة كما قاله ابن أبي ليلى لأنه صار خصما بظاهر يده، فهو بإقراره يريد أن يحول حقا مستحقا على نفسه فلا يصدق إلا بالحجة، كما إذا ادعى تحول الدين من ذمته إلى ذمة غيره.
"وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان الرجل صالحا فالجواب كما قلناه، وإن كان معروفا بالحيل لا تندفع عنه الخصومة" لأن المحتال من الناس قد يدفع ماله إلى مسافر يودعه إياه ويشهد عليه الشهود فيحتال لإبطال حق غيره، فإذا اتهمه القاضي به لا يقبله.
"ولو قال الشهود: أودعه رجل لا نعرفه لا تندفع عنه الخصومة" لاحتمال أن يكون المودع هو هذا المدعي، ولأنه ما أحاله إلى معين يمكن للمدعي اتباعه، فلو اندفعت لتضرر به المدعي، ولو قالوا نعرفه بوجهه ولا نعرفه باسمه ونسبه فكذلك الجواب عند محمد للوجه الثاني، وعند أبي حنيفة تندفع لأنه أثبت ببينته أن العين وصل إليه من جهة غيره حيث عرفه الشهود بوجهه، بخلاف الفصل الأول فلم تكن يده يد خصومة وهو المقصود، والمدعي هو الذي أضر بنفسه حيث نسي خصمه أو أضره شهوده، وهذه المسألة مخمسة كتاب الدعوى وقد ذكرنا الأقوال الخمسة. "وإن قال: ابتعته من الغائب فهو خصم" لأنه لما زعم أن يده يد ملك اعترف بكونه خصما "وإن قال المدعي: غصبته مني أو سرقته مني لا تندفع الخصومة وإن أقام ذو اليد البينة على الوديعة" لأنه إنما صار خصما بدعوى الفعل عليه لا بيده، بخلاف دعوى الملك المطلق لأنه خصم فيه باعتبار يده حتى لا يصح دعواه على غير ذي اليد ويصح دعوى الفعل. "وإن قال المدعي: سرق مني وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان وأقام البينة لم تندفع الخصومة" وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو استحسان، وقال محمد: تندفع لأنه لم يدع الفعل عليه فصار كما إذا قال: غصب مني على ما لم يسم فاعله. ولهما أن ذكر الفعل يستدعي الفاعل(3/166)
لا محالة، والظاهر أنه هو الذي في يده إلا أنه لم يعينه درءا للحد شفقة عليه وإقامة لحسبة السر فصار كما إذا قال: سرقت، بخلاف الغصب لأنه لا حد فيه فلا يحترز عن كشفه "وإن قال المدعي: ابتعته من فلان وقال صاحب اليد: أودعنيه فلان ذلك أسقطت الخصومة بغير بينة" لأنهما توافقا على أن أصل الملك فيه لغيره فيكون وصولها إلى يد ذي اليد من جهته فلم تكن يده يد خصومة إلا أن يقيم البينة أن فلانا وكله بقبضه لأنه أثبت ببينته كونه أحق بإمساكها، والله أعلم.(3/167)
باب ما يدعيه الرجلان
مدخل
...
باب ما يدعيه الرجلان
قال: "وإذا ادعى اثنان عينا في يد آخر كل واحد منهما يزعم أنها له وأقاما البينة بها بينهما" وقال الشافعي في قول: تهاترتا، وفي قول يقرع بينهما؛ لأن إحدى البينتين كاذبة بيقين لاستحالة اجتماع الملكين في الكل في حالة واحدة وقد تعذر التمييز فيتهاتران أو يصار إلى القرعة لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقرع فيه وقال: "اللهم أنت الحكم بينهما" ولنا حديث تميم بن طرفة: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام في ناقة وأقام كل واحد منهما البينة فقضى بها بينهما نصفين". وحديث القرعة كان في الابتداء ثم نسخ، ولأن المطلق للشهادة في حق كل واحد منهما محتمل الوجود بل يعتمد أحدهما سبب الملك والآخر اليد فصحت الشهادتان فيجب العمل بهما ما أمكن، وقد أمكن بالتنصيف إذ المحل يقبله، وإنما ينصف لاستوائهما في سبب الاستحقاق.
قال: "فإن ادعى كل واحد منهما نكاح امرأة وأقاما بينة لم يقض بواحدة من البينتين" لتعذر العمل بهما؛ لأن المحل لا يقبل الاشتراك.
قال: "ويرجع إلى تصديق المرأة لأحدهما" لأن النكاح مما يحكم به بتصادق الزوجين، وهذا إذا لم تؤقت البينتان، فأما إذا وقتا فصاحب الوقت الأول أولى " وإن أقرت لأحدهما قبل إقامة البينة فهي امرأته" لتصادقهما "وإن أقام الآخر البينة قضي بها" لأن البينة أقوى من الإقرار "ولو تفرد أحدهما بالدعوى والمرأة تجحد فأقام البينة وقضى بها القاضي له ثم ادعى الآخر وأقام البينة على مثل ذلك لا يحكم بها" لأن القضاء الأول قد صح فلا ينقض بما هو مثله بل هو دونه "إلا أن يؤقت شهود الثاني سابقا" لأنه ظهر الخطأ في الأول بيقين. وكذا إذا كانت المرأة في يد الزوج ونكاحه ظاهر لا تقبل بينة الخارج إلا على وجه السبق.
قال: "ولو ادعى اثنان كل واحد منهما أنه اشترى منه هذا العبد" معناه من صاحب اليد "وأقاما بينة فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد بنصف الثمن وإن شاء ترك"(3/167)
لأن القاضي يقضي بينهما نصفين لاستوائهما في السبب فصار كالفضوليين إذا باع كل واحد منهما من رجل وأجاز المالك البيعين يخير كل واحد منهما لأنه تغير عليه شرط عقده، فلعل رغبته في تملك الكل فيرده ويأخذ كل الثمن. "فإن قضى القاضي به بينهما فقال أحدهما: لا أختار لم يكن للآخر أن يأخذ جميعه" لأنه صار مقضيا عليه في النصف فانفسخ البيع فيه، وهذا لأنه خصم فيه لظهور استحقاقه بالبينة لولا بينة صاحبه بخلاف ما لو قال ذلك قبل تخيير القاضي حيث يكون له أن يأخذ الجميع لأنه يدعي الكل ولم يفسخ سببه، والعود إلى النصف للمزاحمة ولم توجد، ونظيره تسليم أحد الشفيعين قبل القضاء، ونظير الأول تسليمه بعد القضاء ولو ذكر كل واحد منهما تاريخا فهو للأول منهما" لأنه أثبت الشراء في زمان لا ينازعه فيه أحد فاندفع الآخر به "ولو وقتت إحداهما ولم تؤقت الأخرى فهو لصاحب الوقت" لثبوت ملكه في ذلك الوقت واحتمل الآخر أن يكون قبله أو بعده فلا يقضي له بالشك "وإن لم يذكرا تاريخا ومع أحدهما قبض فهو أولى" ومعناه أنه في يده لأن تمكنه من قبضه يدل على سبق شرائه، ولأنهما استويا في الإثبات فلا تنقض اليد الثابتة بالشك، وكذا لو ذكر الآخر وقتا لما بينا. إلا أن يشهدوا أن شراءه كان قبل شراء صاحب اليد لأن الصريح يفوق الدلالة.
قال: "وإن ادعى أحدهما شراء والآخر هبة وقبضا" معناه من واحد "وأقاما بينة ولا تاريخ معهما فالشراء أولى" لأن الشراء أقوى لكونه معاوضة من الجانبين، ولأنه يثبت الملك بنفسه والملك في الهبة يتوقف على القبض، وكذا الشراء والصدقة مع القبض لما بينا
"والهبة والقبض والصدقة مع القبض سواء حتى يقضي بينهما" لاستوائهما في وجه التبرع، ولا ترجيح باللزوم لأنه يرجع إلى المآل والترجيح بمعنى قائم في الحال، وهذا فيما لا يحتمل القسمة صحيح، وكذا فيما يحتملها عند البعض لأن الشيوع طارئ. وعند البعض لا يصح لأنه تنفيذ الهبة في الشائع وصار كإقامة البينتين على الارتهان وهذا أصح.
قال: "وإذا ادعى أحدهما الشراء وادعت امرأته أنه تزوجها عليه فهما سواء" لاستوائهما في القوة فإن كل واحد منهما عقد معاوضة يثبت الملك بنفسه وهذا عند أبي يوسف. وقال محمد: الشراء أولى ولها على الزوج القيمة لأنه أمكن العمل بالبينتين بتقديم الشراء، إذ التزوج على عين مملوكة للغير صحيح وتجب قيمته عند تعذر تسليمه "وإن ادعى أحدهما رهنا وقبضا والآخر هبة وقبضا وأقاما بينة فالرهن أولى" وهذا استحسان، وفي القياس الهبة أولى لأنها تثبت الملك والرهن لا يثبته. وجه الاستحسان أن(3/168)
المقبوض بحكم الرهن مضمون وبحكم الهبة غير مضمون وعقد الضمان أقوى. بخلاف الهبة بشرط العوض لأنه بيع انتهاء والبيع أولى من الرهن لأنه عقد ضمان يثبت الملك صورة ومعنى، والرهن لا يثبته إلا عند الهلاك معنى لا صورة فكذا الهبة بشرط العوض "وإن أقام الخارجان البينة على الملك والتاريخ فصاحب التاريخ الأقدم أولى" لأنه أثبت أنه أول المالكين فلا يتلقى الملك إلا من جهته ولم يتلق الآخر منه.
قال: "ولو ادعيا الشراء من واحد" معناه من غير صاحب اليد "وأقاما البينة على تاريخين فالأول أولى" لما بينا أنه أثبته في وقت لا منازع له فيه "وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من آخر وذكرا تاريخا فهما سواء" لأنهما يثبتان الملك لبائعيهما فيصير كأنهما حضرا ثم يخير كل واحد منهما كما ذكرنا من قبل "ولو وقتت إحدى البينتين وقتا ولم تؤقت الأخرى قضى بينهما نصفين" لأن توقيت إحداهما لا يدل على تقدم الملك لجواز أن يكون الآخر أقدم، بخلاف ما إذا كان البائع واحدا لأنهما اتفقا على أن الملك لا يتلقى إلا من جهته، فإذا أثبت أحدهما تاريخا يحكم به حتى يتبين أنه تقدم شراء غيره. "ولو ادعى أحدهما الشراء من رجل والآخر الهبة والقبض من غيره والثالث الميراث من أبيه والرابع الصدقة والقبض من آخر قضى بينهم أرباعا" لأنهم يتلقون الملك من باعتهم فيجعل كأنهم حضروا وأقاموا البينة على الملك المطلق.
قال: "وإن أقام الخارج البينة على ملك مؤرخ وصاحب اليد بينة على ملك أقدم تاريخا كان أولى" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو رواية عن محمد. وعنه أنه لا تقبل بينة ذي اليد رجع إليه لأن البينتين قامتا على مطلق الملك ولم يتعرضا لجهة الملك فكان التقدم والتأخر سواء.
ولهما أن البينة مع التاريخ متضمنة معنى الدفع، فإن الملك إذا ثبت لشخص في وقت فثبوته لغيره بعده لا يكون إلا بالتلقي من جهته وبينة ذي اليد على الدفع مقبولة، وعلى هذا الخلاف لو كانت الدار في أيديهما والمعنى ما بينا، ولو أقام الخارج وذو اليد البينة على ملك مطلق ووقتت إحداهما دون الأخرى فعلى قول أبي حنيفة ومحمد الخارج أولى.
وقال أبو يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة: صاحب الوقت أولى لأنه أقدم وصار كما في دعوى الشراء إذا أرخت إحداهما كان صاحب التاريخ أولى. ولهما أن بينة ذي اليد إنما تقبل لتضمنها معنى الدفع، ولا دفع هاهنا حيث وقع الشك في التلقي من جهته،(3/169)
وعلى هذا إذا كانت الدار في أيديهما ولو كانت في يد ثالث، المسألة بحالها فهما سواء عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: الذي وقت أولى. وقال محمد: الذي أطلق أولى لأنه ادعى أولية الملك بدليل استحقاق الزوائد ورجوع الباعة بعضهم على البعض. ولأبي يوسف أن التاريخ يوجب الملك في ذلك الوقت بيقين. والإطلاق يحتمل غير الأولية، والترجيح بالتيقن؛ كما لو ادعيا الشراء. ولأبي حنيفة أن التاريخ يضامه احتمال عدم التقدم فسقط اعتباره فصار كما لو أقاما البينة على ملك مطلق، بخلاف الشراء لأنه أمر حادث فيضاف إلى أقرب الأوقات فيترجح جانب صاحب التاريخ.
قال: "وإن أقام الخارج وصاحب اليد كل واحد منهما بينة على النتاج فصاحب اليد أولى" لأن البينة قامت على ما لا تدل عليه فاستويا، وترجحت بينة ذي اليد باليد فيقضي له وهذا هو الصحيح خلافا لما يقوله عيسى بن أبان إنه تتهاتر البينتان ويترك في يده لا على طريق القضاء, ولو تلقى كل واحد منهما الملك من رجل أقام البينة على النتاج عنده فهو بمنزلة إقامتها على النتاج في يد نفسه "ولو أقام أحدهما البينة على الملك والآخر على النتاج فصاحب النتاج أولى أيهما كان" لأن بينته قامت على أولية الملك فلا يثبت للآخر إلا بالتلقي من جهته، وكذلك إذا كانت الدعوى بين خارجين فبينة النتاج أولى لما ذكرنا "ولو قضى بالنتاج لصاحب اليد ثم أقام ثالث البينة على النتاج يقضي له إلا أن يعيدها ذو اليد" لأن الثالث لم يصر مقضيا عليه بتلك القضية، وكذا المقضي عليه بالملك المطلق إذا أقام البينة على النتاج تقبل وينقض القضاء لأنه بمنزلة النص والأول بمنزلة الاجتهاد.
قال: "وكذلك النسج في الثياب التي لا تنسج إلا مرة" كغزل القطن "وكذلك كل سبب في الملك لا يتكرر" لأنه في معنى النتاج كحلب اللبن واتخاذ الجبن واللبد والمرعزى وجز الصوف، وإن كان يتكرر قضي به للخارج بمنزلة الملك المطلق وهو مثل الخز والبناء والغرس وزراعة الحنطة والحبوب، فإن أشكل يرجع إلى أهل الخبرة لأنهم أعرف به، فإن أشكل عليهم قضي به للخارج لأن القضاء ببينته هو الأصل والعدول عنه بخبر النتاج، فإذا لم يعلم يرجع إلى الأصل.
قال: "وإن أقام الخارج البينة على الملك المطلق وصاحب اليد البينة على الشراء منه كان صاحب اليد أولى" لأن الأول إن كان يدعي أولية الملك فهذا تلقى منه، وفي هذا لا تنافي فصار كما إذا أقر بالملك له ثم ادعى الشراء منه.(3/170)
قال: "وإن أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من الآخر ولا تاريخ معهما تهاترت البينتان وتترك الدار في يد ذي اليد" قال: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعلى قول محمد يقضي بالبينتين ويكون للخارج لأن العمل بهما ممكن فيجعل كأنه اشترى ذو اليد من الآخر وقبض ثم باع الدار لأن القبض دلالة السبق على ما مر، ولا يعكس الأمر لأن البيع قبل القبض لا يجوز وإن كان في العقار عنده. ولهما أن الإقدام على الشراء إقرار منه بالملك للبائع فصار كأنهما قامتا على الإقرارين وفيه التهاتر بالإجماع، كذا هاهنا، ولأن السبب يراد لحكمه وهو الملك ولا يمكن القضاء لذي اليد إلا بملك مستحق فبقي القضاء له بمجرد السبب وأنه لا يفيده. ثم لو شهدت البينتان على نقد الثمن فالألف بالألف قصاص عندهما إذا استويا لوجود قبض مضمون من كل جانب، وإن لم يشهدوا على نقد الثمن فالقصاص مذهب محمد للوجوب عنده. ولو شهد الفريقان بالبيع والقبض تهاترتا بالإجماع، لأن الجمع غير ممكن عند محمد لجواز كل واحد من البيعين بخلاف الأول. وإن وقتت البينتان في العقار ولم تثبتا قبضا ووقت الخارج أسبق يقضى لصاحب اليد عندهما فيجعل كأن الخارج اشترى أولا ثم باع قبل القبض من صاحب اليد، وهو جائز في العقار عندهما. وعند محمد يقضي للخارج لأنه لا يصح له بيعه قبل القبض فبقي على ملكه، وإن أثبتا قبضا يقضي لصاحب اليد لأن البيعين جائزان على القولين، وإن كان وقت صاحب اليد أسبق يقضى للخارج في الوجهين فيجعل كأنه اشتراها ذو اليد وقبض ثم باع ولم يسلم أو سلم ثم وصل إليه بسبب آخر.
قال: "وإن أقام أحد المدعيين شاهدين والآخر أربعة فهما سواء" لأن شهادة كل الشاهدين علة تامة كما في حالة الانفراد، والترجيح لا يقع بكثرة العلل بل بقوة فيها على ما عرف.
قال: "وإذا كانت دار في يد رجل ادعاها اثنان أحدهما جميعها والآخر نصفها وأقاما البينة فلصاحب الجميع ثلاثة أرباعها ولصاحب النصف ربعها عند أبي حنيفة" اعتبارا بطريق المنازعة، فإن صاحب النصف لا ينازع الآخر في النصف فسلم له بلا منازع واستوت منازعتهما في النصف الآخر فينصف بينهما "وقالا: هي بينهما أثلاثا" فاعتبرا طريق العول والمضاربة، فصاحب الجميع يضرب بكل حقه سهمين وصاحب النصف بسهم واحد فتقسم أثلاثا، ولهذه المسألة نظائر وأضداد لا يحتملها هذا المختصر وقد ذكرنا في الزيادات.(3/171)
قال: "ولو كانت في أيديهما سلم لصاحب الجميع نصفها على وجه القضاء ونصفها لا على وجه القضاء" لأنه خارج في النصف فيقضي ببينته، والنصف الذي في يديه صاحبه لا يدعيه لأن مدعاه النصف وهو في يده سالم له، ولو لم ينصرف إليه دعواه كان ظالما بإمساكه ولا قضاء بدون الدعوى فيترك في يده.
قال: "وإذا تنازعا في دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها نتجت عنده، وذكرا تاريخا وسن الدابة يوافق أحد التاريخين فهو أولى" لأن الحال يشهد له فيترجح "وإن أشكل ذلك كانت بينهما" لأنه سقط التوقيت فصار كأنهما لم يذكرا تاريخا. وإن خالف سن الدابة الوقتين بطلت البينتان، كذا ذكره الحاكم رحمه الله لأنه ظهر كذب الفريقين فيترك في يد من كانت في يده.
قال: "وإذا كان عبد في يد رجل أقام رجلان عليه البينة أحدهما بغصب والآخر بوديعة فهو بينهما" لاستوائهما في الاستحقاق.(3/172)
فصل: في التنازع بالأيدي
قال: "وإذا تنازعا في دابة أحدهما راكبها والآخر متعلق بلجامها فالراكب أولى" لأن تصرفه أظهر فإنه يختص بالملك "وكذلك إذا كان أحدهما راكبا في السرج والآخر رديفه فالراكب أولى" بخلاف ما إذا كانا راكبين حيث تكون بينهما لاستوائهما في التصرف "وكذا إذا تنازعا في بعير وعليه حمل لأحدهما فصاحب الحمل أولى" لأنه هو المتصرف "وكذا إذا تنازعا في قميص أحدهما لابسه والآخر متعلق بكمه فاللابس أولى" لأنه أظهرهما تصرفا "ولو تنازعا في بساط أحدهما جالس عليه والآخر متعلق به فهو بينهما" معناه لا على طريق القضاء لأن القعود ليس بيد عليه فاستويا.
قال: "وإذا كان ثوب في يد رجل وطرف منه في يد آخر فهو بينهما نصفان" لأن الزيادة من جنس الحجة فلا توجب زيادة في الاستحقاق.
قال: "وإذا كان صبي في يد رجل وهو يعبر عن نفسه فقال: أنا حر فالقول قوله" لأنه في يد نفسه "ولو قال أنا عبد لفلان فهو عبد للذي هو في يده" لأنه أقر بأنه لا يد له حيث أقر بالرق "وإن كان لا يعبر عن نفسه فهو عبد للذي هو في يده" لأنه لا يد له على نفسه لما كان لا يعبر عنها وهو بمنزلة المتاع، بخلاف ما إذا كان يعبر، فلو كبر وادعى الحرية لا يكون القول قوله لأنه ظهر الرق عليه في حال صغره.
قال: "وإذا كان الحائط لرجل عليه جذوع أو متصل ببنائه ولآخر عليه هرادي فهو(3/172)
لصاحب الجذوع والاتصال، والهرادي ليست بشيء" لأن صاحب الجذوع صاحب استعمال والآخر صاحب تعلق فصار كدابة تنازعا فيها ولأحدهما حمل عليها وللآخر كوز معلق بها، والمراد بالاتصال مداخلة لبن جداره فيه ولبن هذا في جداره وقد يسمى اتصال تربيع، وهذا شاهد ظاهر لصاحبه لأن بعض بنائه على بعض بناء هذا الحائط. وقوله الهرادي ليست بشيء يدل على أنه لا اعتبار للهرادي أصلا، وكذا البواري لأن الحائط لا تبنى لها أصلا حتى لو تنازعا في حائط ولأحدهما عليه هرادي وليس للآخر عليه شيء فهو بينهما "ولو كان لكل واحد منهما عليه جذوع ثلاثة فهو بينهما" لاستوائهما ولا معتبر بالأكثر منها بعد الثلاثة "وإن كان جذوع أحدهما أقل من ثلاثة فهو لصاحب الثلاثة وللآخر موضع جذعه" في رواية، وفي رواية لكل واحد منهما ما تحت خشبته، ثم قيل ما بين الخشب بينهما، وقيل على قدر خشبهما، والقياس أن يكون بينهما نصفين لأنه لا معتبر بالكثرة في نفس الحجة. وجه الثاني أن الاستعمال من كل واحد بقدر خشبته. ووجه الأول أن الحائط يبنى لوضع كثير الجذوع دون الواحد والمثنى فكان الظاهر شاهدا لصاحب الكثير، إلا أنه يبقى له حق الوضع لأن الظاهر ليس بحجة في استحقاق يده "ولو كان لأحدهما جذوع وللآخر اتصال فالأول أولى" ويروى الثاني أولى. وجه الأول أن لصاحب الجذوع التصرف ولصاحب الاتصال اليد والتصرف أقوى. وجه الثاني أن الحائطين بالاتصال يصيران كبناء واحد من ضرورة القضاء له ببعضه القضاء بكله ثم يبقى للآخر حق وضع جذوعه لما قلنا، وهذه رواية الطحاوي وصححها الجرجاني.
قال: "وإذا كانت دار منها في يد رجل عشرة أبيات وفي يد آخر بيت فالساحة بينهما نصفان" لاستوائهما في استعمالها وهو المرور فيها.
قال: "وإذا ادعى رجلان أرضا" يعني يدعي كل واحد منهما "أنها في يده لم يقض أنها في يد واحد منهما حتى يقيما البينة أنها في أيديهما" لأن اليد فيها غير مشاهدة لتعذر إحضارها وما غاب عن علم القاضي فالبينة تثبته "وإن أقام أحدهما البينة جعلت في يده" لقيام الحجة لأن اليد حق مقصود "وإن أقاما البينة جعلت في أيديهما" لما بينا فلا يستحق لأحدهما من غير حجة "وإن كان أحدهما قد لبن في الأرض أو بني أو حفر فهي في يده" لوجود التصرف والاستعمال فيها.(3/173)
باب دعوى النسب
قال: "وإذا باع جارية فجاءت بولد فادعاه البائع فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من(3/173)
يوم باع فهو ابن البائع وأمه أم ولد له" وفي القياس هو قول زفر والشافعي رحمهما الله دعوته باطلة" لأن البيع اعتراف منه بأنه عبد فكان في دعواه مناقضا ولا نسب بدون الدعوى. وجه الاستحسان أن اتصال العلوق بملكه شهادة ظاهرة على كونه منه لأن الظاهر عدم الزنا. ومبنى النسب على الخفاء فيعفى فيه التناقض، وإذا صحت الدعوى استندت إلى وقت العلوق فتبين أنه باع أم ولده فيفسخ البيع لأن بيع أم الولد لا يجوز "ويرد الثمن" لأنه قبضه بغير حق "وإن ادعاه المشتري مع دعوة البائع أو بعده فدعوة البائع أولى" لأنها أسبق لاستنادها إلى وقت العلوق وهذه دعوة استيلاد "وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوة البائع" لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه تيقنا وهو الشاهد والحجة "إلا إذا صدقه المشتري" فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح، ولا يبطل البيع لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق ولا حقه، وهذه دعوة تحرير وغير المالك ليس من أهله. "وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوة البائع فيه إلا أن يصدقه المشتري" لأنه احتمل أن لا يكون العلوق في ملكه فلم توجد الحجة فلا بد من تصديقه، وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر والأم أم ولد له كما في المسألة الأولى لتصادقهما واحتمال العلوق في ملكه.
قال: "فإن مات الولد فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت الاستيلاد في الأم" لأنها تابعة للولد ولم يثبت نسبه بعد الموت لعدم حاجته إلى ذلك فلا يتبعه استيلاد الأم "وإن ماتت الأم فادعاه البائع وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر يثبت النسب في الولد وأخذه البائع"؛ لأن الولد هو الأصل في النسب فلا يضره فوات التبع، وإنما كان الولد أصلا لأنها تضاف إليه يقال أم الولد، وتستفيد الحرية من جهته لقوله عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" والثابت لها حق الحرية وله حقيقتها، والأدنى يتبع الأعلى "ويرد الثمن كله في قول أبي حنيفة. وقالا: يرد حصة الولد ولا يرد حصة الأم" لأنه تبين أنه باع أم ولده، وماليتها غير متقومة عنده في العقد والغصب فلا يضمنها المشتري، وعندهما متقومة فيضمنها.
وفي الجامع الصغير: وإذا حملت الجارية في ملك رجل فباعها فولدت في يد المشتري فادعى البائع الولد وقد أعتق المشتري الأم فهو ابنه يرد عليه بحصته من الثمن. ولو كان المشتري إنما أعتق الولد فدعواه باطلة. ووجه الفرق أن الأصل في هذا الباب الولد، والأم تابعة له على ما مر. وفي الفصل الأول قام المانع من الدعوة والاستيلاد وهو العتق في التبع وهو الأم فلا يمتنع ثبوته في الأصل وهو الولد، وليس من ضروراته. كما في ولد(3/174)
المغرور فإنه حر وأمه أمة لمولاها، وكما في المستولدة بالنكاح. وفي الفصل الثاني قام المانع بالأصل وهو الولد فيمتنع ثبوته فيه وفي التبع، وإنما كان الإعتاق مانعا لأنه لا يحتمل النقض كحق استلحاق النسب وحق الاستيلاد فاستويا من هذا الوجه، ثم الثابت من المشتري حقيقة الإعتاق والثابت في الأم حق الحرية، وفي الولد للبائع حق الدعوة والحق لا يعارض الحقيقة، والتدبير بمنزلة الإعتاق لأنه لا يحتمل النقض وقد ثبت به بعض آثار الحرية. وقوله في الفصل الأول يرد عليه بحصته من الثمن قولهما وعنده يرد بكل الثمن هو الصحيح كما ذكرنا في فصل الموت.
قال: "ومن باع عبدا ولد عنده وباعه المشتري من آخر ثم ادعاه البائع الأول فهو ابنه ويبطل البيع" لأن البيع يحتمل النقض، وما له من حق الدعوة لا يحتمله فينقض البيع لأجله، وكذا إذا كاتب الولد أو رهنه أو أجره أو كاتب الأم أو رهنها أو زوجها ثم كانت الدعوة لأن هذه العوارض تحتمل النقض فينقض ذلك كله وتصح الدعوة، بخلاف الإعتاق والتدبير على ما مر، وبخلاف ما إذا ادعاه المشتري أولا ثم ادعاه البائع حيث لا يثبت النسب من البائع لأن النسب الثابت من المشتري لا يحتمل النقض فصار كإعتاقه.
قال: "ومن ادعى نسب أحد التوأمين ثبت نسبهما منه" لأنهما من ماء واحد، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر، وهذا لأن التوأمين ولدان بين ولادتهما أقل من ستة أشهر فلا يتصور علوق الثاني حادثا لأنه لا حبل لأقل من ستة أشهر.
وفي الجامع الصغير: إذا كان في يده غلامان توأمان ولدا عنده فباع أحدهما وأعتقه المشتري ثم ادعى البائع الذي في يده فهما ابناه وبطل عتق المشتري؛ لأنه لما ثبت نسب الولد الذي عنده لمصادفة العلوق والدعوة ملكه إذ المسألة مفروضة فيه ثبت به حرية الأصل فيه فيثبت نسب الآخر، وحرية الأصل فيه ضرورة لأنهما توأمان، فتبين أن عتق المشتري وشراءه لاقى حرية الأصل فبطل، بخلاف ما إذا كان الولد واحدا لأن هناك يبطل العتق فيه مقصودا لحق دعوة البائع وهنا ثبت تبعا لحريته فيه حرية الأصل فافترقا "ولو لم يكن أصل العلوق في ملكه ثبت نسب الولد الذي عنده، ولا ينقض البيع فيما باع" لأن هذه دعوة تحرير لانعدام شاهد الاتصال فيقتصر على محل ولايته.
قال: "وإن كان الصبي في يد رجل فقال: هو ابن عبدي فلان الغائب ثم قال: هو ابني لم يكن ابنه أبدا وإن جحد العبد أن يكون ابنه" وهذا عند أبي حنيفة "وقالا: إذا جحد العبد فهو ابن المولى" وعلى هذا الخلاف إذا قال: هو ابن فلان ولد على فراشه ثم ادعاه لنفسه.(3/175)
لهما أن الإقرار ارتد برد العبد فصار كأن لم يكن الإقرار، والإقرار بالنسب يرتد بالرد وإن كان لا يحتمل النقض؛ ألا يرى أنه يعمل فيه الإكراه والهزل فصار كما إذا أقر المشتري على البائع بإعتاق المشترى فكذبه البائع ثم قال أنا أعتقته يتحول الولاء إليه، بخلاف ما إذا صدقه لأنه يدعي بعد ذلك نسبا ثابتا من الغير، وبخلاف ما إذا لم يصدقه ولم يكذبه لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه فيصير كولد الملاعنة فإنه لا يثبت نسبه من غير الملاعن؛ لأن له أن يكذب نفسه. ولأبي حنيفة أن النسب مما لا يحتمل النقض بعد ثبوته والإقرار بمثله لا يرتد بالرد فبقي فتمتنع دعوته، كمن شهد على رجل بنسب صغير فردت شهادته لتهمة ثم ادعاه لنفسه، وهذا لأنه تعلق به حق المقر له على اعتبار تصديقه، حتى لو صدقه بعد التكذيب يثبت النسب منه، وكذا تعلق به حق الولد فلا يرتد برد المقر له. ومسألة الولاء على هذا الخلاف، ولو سلم فالولاء قد يبطل باعتراض الأقوى كجر الولاء من جانب الأم إلى قوم الأب. وقد اعترض على الولاء الموقوف ما هو أقوى وهو دعوى المشتري فيبطل به، بخلاف النسب على ما مر. وهذا يصلح مخرجا على أصله فيمن يبيع الولد ويخاف عليه الدعوة بعد ذلك فيقطع دعواه إقراره بالنسب لغيره.
قال: "وإذا كان الصبي في يد مسلم ونصراني فقال النصراني: هو ابني وقال المسلم هو عبدي فهو ابن النصراني وهو حر" لأن الإسلام مرجح فيستدعي تعارضا، ولا تعارض لأن نظر الصبي في هذا أوفر لأنه ينال شرف الحرية حالا وشرف الإسلام مآلا، إذ دلائل الوحدانية ظاهرة، وفي عكسه الحكم بالإسلام تبعا وحرمانه عن الحرية لأنه ليس في وسعه اكتسابها "ولو كانت دعوتهما دعوة البنوة فالمسلم أولى" ترجيحا للإسلام وهو أوفر النظرين.
قال: "وإذا ادعت امرأة صبيا أنه ابنها لم تجز دعواها حتى تشهد امرأة على الولادة" ومعنى المسألة أن تكون المرأة ذات زوج لأنها تدعي تحميل النسب على الغير فلا تصدق إلا بحجة، بخلاف الرجل لأنه يحمل نفسه النسب، ثم شهادة القابلة كافية فيها لأن الحاجة إلى تعيين الولد.
أما النسب فيثبت بالفراش القائم، وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام قبل شهادة القابلة على الولادة "ولو كانت معتدة فلا بد من حجة تامة" عند أبي حنيفة وقد مر في الطلاق، وإن لم تكن منكوحة ولا معتدة قالوا: يثبت النسب منها بقولها لأن فيه إلزاما على نفسها دون غيرها. "وإن كان لها زوج وزعمت أنه ابنهما منه وصدقها فهو ابنهما وإن لم تشهد امرأة" لأنه التزم نسبه فأغنى ذلك عن الحجة. "وإن كان الصبي في أيديهما وزعم(3/176)
الزوج أنه ابنه من غيرها وزعمت أنه ابنها من غيره فهو ابنهما" لأن الظاهر أن الولد منهما لقيام أيديهما أو لقيام الفراش بينهما، ثم كل واحد منهما يريد إبطال حق صاحبه فلا يصدق عليه، وهو نظير ثوب في يد رجلين يقول كل واحد منهما هو بيني وبين رجل آخر غير صاحبه يكون الثوب بينهما إلا أن هناك يدخل المقر له في نصيب المقر لأن المحل يحتمل الشركة، وهاهنا لا يدخل لأن النسب لا يحتملها.
قال: "ومن اشترى جارية فولدت ولدا عنده فاستحقها رجل غرم الأب قيمة الولد يوم يخاصم" لأنه ولد المغرور فإن المغرور من يطأ امرأة معتمدا على ملك يمين أو نكاح فتلد منه ثم تستحق، وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النظر من الجانبين واجب فيجعل الولد حر الأصل في حق أبيه رقيقا في حق مدعيه نظرا لهما، ثم الولد حاصل في يده من غير صنعه فلا يضمنه إلا بالمنع كما في ولد المغصوبة، فلهذا تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة لأنه يوم المنع.
"ولو مات الولد لا شيء على الأب" لانعدام المنع، وكذا لو ترك مالا لأن الإرث ليس ببدل عنه، والمال لأبيه لأنه حر الأصل في حقه فيرثه "ولو قتله الأب يغرم قيمته" لوجود المنع وكذا لو قتله غيره فأخذ ديته، لأن سلامة بدله له كسلامته، ومنع بدله كمنعه فيغرم قيمته كما إذا كان حيا "ويرجع بقيمة الولد على بائعه" لأنه ضمن له سلامته كما يرجع بثمنه، بخلاف العقر لأنه لزمه لاستيفاء منافعها فلا يرجع به على البائع، والله أعلم بالصواب.(3/177)
كتاب الإقرار
كيفية الإقرار
مدخل
...
كتاب الإقرار
قال: "وإذا أقر الحر البالغ العاقل بحق لزمه إقراره مجهولا كان ما أقر به أو معلوما".
اعلم أن الإقرار إخبار عن ثبوت الحق، وأنه ملزم لوقوعه دلالة؛ ألا ترى كيف ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا رضي الله عنه الرجم بإقراره وتلك المرأة باعترافها. وهو حجة قاصرة لقصور ولاية المقر عن غيره فيقتصر عليه. وشرط الحرية ليصح إقراره مطلقا، فإن العبد المأذون له وإن كان ملحقا بالحر في حق الإقرار، لكن المحجور عليه لا يصح إقراره بالمال ويصح بالحدود والقصاص لأن إقراره عهد موجبا لتعلق الدين برقبته وهي مال المولى فلا يصدق عليه، بخلاف المأذون لأنه مسلط عليه من جهته، وبخلاف الحد والدم لأنه مبقى على أصل الحرية في ذلك، حتى لا يصح إقرار المولى على العبد فيه، ولا بد من البلوغ والعقل لأن إقرار الصبي والمجنون غير لازم لانعدام أهلية الالتزام، إلا إذا كان الصبي مأذونا له لأنه ملحق بالبالغ بحكم الإذن، وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الحق قد يلزم مجهولا بأن أتلف مالا لا يدري قيمته أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها أو تبقى عليه باقية حساب لا يحيط به علمه، والإقرار إخبار عن ثبوت الحق فيصح به، بخلاف الجهالة في المقر له لأن المجهول لا يصلح مستحقا، "ويقال له: بين المجهول" لأن التجهيل من جهته فصار كما إذا أعتق أحد عبديه "فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان" لأنه لزمه الخروج عما لزمه بصحيح إقراره وذلك بالبيان.
قال: "فإن قال: لفلان علي شيء لزمه أن يبين ما له قيمة لأنه أخبر عن الوجوب في ذمته، وما لا قيمة له لا يجب فيها"، فإذا بين غير ذلك يكون رجوعا.
قال: "والقول قوله مع يمينه إن ادعى المقر له أكثر من ذلك" لأنه هو المنكر فيه "وكذا إذا قال لفلان علي حق" لما بينا، وكذا لو قال: غصبت منه شيئا ويجب أن يبين ما هو مال يجري فيه التمانع تعويلا على العادة. "ولو قال: لفلان علي مال فالمرجع إليه في بيانه لأنه المجمل ويقبل قوله في القليل والكثير" لأن كل ذلك مال فإنه اسم لما يتمول به "إلا أنه لا يصدق في أقل من درهم" لأنه لا يعد مالا عرفا "ولو قال: مال عظيم لم يصدق في أقل من(3/178)
مائتي درهم" لأنه أقر بمال موصوف فلا يجوز إلغاء الوصف والنصاب عظيم حتى اعتبر صاحبه غنيا به، والغني عظيم عند الناس. وعن أبي حنيفة أنه لا يصدق في أقل من عشرة دراهم وهي نصاب السرقة لأنه عظيم حيث تقطع به اليد المحترمة، وعنه مثل جواب الكتاب، وهذا إذا قال من الدراهم.
أما إذا قال من الدنانير فالتقدير فيها بالعشرين، وفي الإبل بخمس وعشرين لأنه أدنى نصاب يجب فيه من جنسه وفي غير مال الزكاة بقيمة النصاب "ولو قال: أموال عظام فالتقدير بثلاثة نصب من أي فن سماه" اعتبارا لأدنى الجمع "ولو قال: دراهم كثيرة لم يصدق في أقل من عشرة" وهذا عند أبي حنيفة "وعندهما لم يصدق في أقل من مائتين" لأن صاحب النصاب مكثر حتى وجب عليه مواساة غيره، بخلاف ما دونه. وله أن العشرة أقصى ما ينتهي إليه اسم الجمع، يقال عشرة دراهم ثم يقال أحد عشر درهما فيكون هو الأكثر من حيث اللفظ فينصرف إليه "ولو قال دراهم فهي ثلاثة" لأنها أقل الجمع الصحيح "إلا أن يبين أكثر منها" لأن اللفظ يحتمله وينصرف إلى الوزن المعتاد "ولو قال: كذا كذا درهما لم يصدق في أقل من أحد عشر درهما" لأنه ذكر عددين مبهمين ليس بينهما حرف العطف وأقل ذلك من المفسر أحد عشر "ولو قال: كذا وكذا درهما لم يصدق في أقل من أحد وعشرين" لأنه ذكر عددين مبهمين بينهما حرف العطف، وأقل ذلك من المفسر أحد وعشرون فيحمل كل وجه على نظيره "ولو قال كذا درهما فهو درهم" لأنه تفسير للمبهم "ولو ثلث كذا بغير واو فأحد عشر" لأنه لا نظير له سواه "وإن ثلث بالواو فمائة وأحد وعشرون، وإن ربع يزاد عليها ألف" لأن ذلك نظيره.
قال: "وإن قال: له علي أو قبلي فقد أقر بالدين" لأن " علي " صيغة إيجاب، وقبلي ينبئ عن الضمان على ما مر في الكفالة. "ولو قال المقر هو وديعة ووصل صدق" لأن اللفظ يحتمله مجازا حيث يكون المضمون عليه حفظه والمال محله فيصدق موصولا لا مفصولا.
قال رضي الله تعالى عنه: وفي نسخ المختصر في قوله قبلي إنه إقرار بالأمانة لأن اللفظ ينتظمهما حتى صار قوله: لا حق لي قبل فلان إبراء عن الدين والأمانة جميعا، والأمانة أقلهما والأول أصح. "ولو قال عندي أو معي أو في بيتي أو في كيسي أو في صندوقي فهو إقرار بأمانة في يده" لأن كل ذلك إقرار بكون الشيء في يده وذلك يتنوع إلى مضمون وأمانة فيثبت وأقلها وهو الأمانة. "ولو قال له رجل: لي عليك ألف فقال اتزنها أو انتقدها أو أجلني بها أو قد قضيتكها فهو إقرار" لأن الهاء في الأول والثاني كناية عن المذكور في الدعوى، فكأنه قال: اتزن الألف التي لك علي، حتى لو لم يذكر حرف الكناية لا يكون(3/179)
إقرارا لعدم انصرافه إلى المذكور، والتأجيل إنما يكون في حق واجب، والقضاء يتلو الوجوب ودعوى الإبراء كالقضاء لما بينا، وكذا دعوى الصدقة والهبة لأن التمليك يقتضي سابقة الوجوب، وكذا لو قال أحلتك بها على فلان لأنه تحويل الدين.
قال: "ومن أقر بدين مؤجل فصدقه المقر له في الدين وكذبه في التأجيل لزمه الدين حالا" لأنه أقر على نفسه بمال وادعى حقا لنفسه فيه فصار كما إذا أقر بعبد في يده وادعى الإجارة، بخلاف الإقرار بالدراهم السود لأنه صفة فيه وقد مرت المسألة في الكفالة.
قال: "ويستحلف المقر له على الأجل" لأنه منكر حقا عليه واليمين على المنكر. "وإن قال: له علي مائة ودرهم لزمه كلها دراهم. ولو قال: مائة وثوب لزمه ثوب واحد، والمرجع في تفسير المائة إليه" وهو القياس في الأول، وبه قال الشافعي لأن المائة مبهمة والدرهم معطوف عليها بالواو العاطفة لا تفسيرا لها فبقيت المائة على إبهامها كما في الفصل الثاني.
وجه الاستحسان وهو الفرق أنهم استثقلوا تكرار الدرهم في كل عدد واكتفوا بذكره عقيب العددين. وهذا فيما يكثر استعماله وذلك عند كثرة الوجوب بكثرة أسبابه وذلك في الدراهم والدنانير والمكيل والموزون، أما الثياب وما لا يكال ولا يوزن فلا يكثر وجوبها فبقي على الحقيقة. "وكذا إذا قال: مائة وثوبان" لما بينا "بخلاف ما إذا قال: مائة وثلاثة أثواب" لأنه ذكر عددين مبهمين وأعقبها تفسيرا إذ الأثواب لم تذكر بحرف العطف فانصرف إليهما لاستوائهما في الحاجة إلى التفسير فكانت كلها ثيابا.
قال: "ومن أقر بتمر في قوصرة لزمه التمر والقوصرة" وفسره في الأصل بقوله: غصبت تمرا في قوصرة. ووجهه أن القوصرة وعاء له وظرف له، وغصب الشيء وهو مظروف لا يتحقق بدون الظرف فيلزمانه وكذا الطعام في السفينة والحنطة في الجوالق، بخلاف ما إذا قال: غصبت تمرا من قوصرة لأن كلمة من للانتزاع فيكون الإقرار بغصب المنزوع.
قال: "ومن أقر بدابة في إصطبل لزمه الدابة خاصة" لأن الإصطبل غير مضمون بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعلى قياس قول محمد يضمنهما ومثله الطعام في البيت.
قال: "ومن أقر لغيره بخاتم لزمه الحلقة والفص" لأن اسم الخاتم يشمل الكل. "ومن أقر له بسيف فله النصل والجفن والحمائل" لأن الاسم ينطوي على الكل. "ومن أقر بحجلة فله العيدان والكسوة" لانطلاق الاسم على الكل عرفا. "وإن قال غصبت ثوبا في منديل لزماه(3/180)
جميعا" لأنه ظرف لأن الثوب يلف فيه. "وكذا لو قال علي ثوب في ثوب" لأنه ظرف. بخلاف قوله: درهم في درهم حيث يلزمه واحد لأنه ضرب لا ظرف "وإن قال: ثوب في عشرة أثواب لم يلزمه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف. وقال محمد: لزمه أحد عشر ثوبا" لأن النفيس من الثياب قد يلف في عشرة أثواب فأمكن حمله على الظرف. ولأبي يوسف أن حرف " في " يستعمل في البين والوسط أيضا، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] أي بين عبادي، فوقع الشك والأصل براءة الذمم، على أن كل ثوب موعى وليس بوعاء فتعذر حمله على الظرف فتعين الأول محملا.
"ولو قال: لفلان علي خمسة في خمسة يريد الضرب والحساب لزمه خمسة" لأن الضرب لا يكثر المال. وقال الحسن: يلزمه خمسة وعشرون وقد ذكرناه في الطلاق "ولو قال أردت خمسة مع خمسة لزمه عشرة" لأن اللفظ يحتمله. "ولو قال له علي من درهم إلى عشرة أو قال ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة عند أبي حنيفة فيلزمه الابتداء وما بعده وتسقط الغاية، وقالا: يلزمه العشرة كلها" فتدخل الغايتان. وقال زفر: يلزمه ثمانية ولا تدخل الغايتان. "ولو قال له من داري ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط فله ما بينهما وليس له من الحائطين شيء" وقد مرت الدلائل في الطلاق.(3/181)
فصل: ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم الخ
...
فصل: "ومن قال: لحمل فلانة علي ألف درهم، فإن قال أوصى له فلان أو مات أبوه فورثه فالإقرار صحيح"
لأنه أقر بسبب صالح لثبوت الملك له "ثم إذا جاءت به في مدة يعلم أنه كان قائما وقت الإقرار لزمه، فإن جاءت به ميتا فالمال للموصي والمورث حتى يقسم بين ورثته" لأنه إقرار في الحقيقة لهما، وإنما ينتقل إلى الجنين بعد الولادة ولم ينتقل "ولو جاءت بولدين حيين فالمال بينهما، ولو قال المقر باعني أو أقرضني لم يلزمه شيء" لأنه بين مستحيلا.
قال: "وإن أبهم الإقرار لم يصح عند أبي يوسف، وقال محمد: يصح" لأن الإقرار من الحجج فيجب إعماله وقد أمكن بالحمل على السبب الصالح. ولأبي يوسف أن الإقرار مطلقه ينصرف إلى الإقرار بسبب التجارة، ولهذا حمل إقرار العبد المأذون له وأحد المتفاوضين عليه فيصير كما إذا صرح به.
قال: "ومن أقر بحمل جارية أو حمل شاة لرجل صح إقراره ولزمه" لأن له وجها صحيحا وهو الوصية به من جهة غيره فحمل عليه.(3/181)
قال: "ومن أقر بشرط الخيار بطل الشرط" لأن الخيار للفسخ والإخبار لا يحتمله "ولزمه المال" لوجود الصيغة الملزمة ولم تنعدم بهذا الشرط الباطل، والله أعلم.(3/182)
باب الاستثناء وما في معناه
قال: "ومن استثنى متصلا بإقراره صح الاستثناء ولزمه الباقي" لأن الاستثناء مع الجملة عبارة عن الباقي ولكن لا بد من الاتصال، "وسواء استثنى الأقل أو الأكثر، فإن استثنى الجميع لزمه الإقرار وبطل الاستثناء" لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل بعده فيكون رجوعا، وقد مر الوجه في الطلاق.
"ولو قال: له علي مائة درهم إلا دينارا أو إلا قفيز حنطة لزمه مائة درهم إلا قيمة الدينار أو القفيز" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف "ولو قال له علي مائة درهم إلا ثوبا لم يصح الاستثناء وقال محمد: لا يصح فيهما" وقال الشافعي: يصح فيهما. ولمحمد أن الاستثناء ما لولاه لدخل تحت اللفظ، وهذا لا يتحقق في خلاف الجنس. وللشافعي أنهما اتحدا جنسا من حيث المالية. ولهما أن المجانسة في الأول ثابتة من حيث الثمنية، وهذا في الدينار ظاهر. والمكيل والموزون أوصافها أثمان.
أما الثوب فليس بثمن أصلا ولهذا لا يجب بمطلق عقد المعاوضة وما يكون ثمنا صلح مقدرا بالدراهم فصار مستثنى من الدراهم، وما لا يكون ثمنا لا يصلح مقدرا فبقي المستثنى من الدراهم مجهولا فلا يصح.
قال: "ومن أقر بحق وقال إن شاء الله متصلا" بإقراره "لم يلزمه الإقرار" لأن الاستثناء بمشيئة الله إما إبطال أو تعليق؛ فإن كان الأول فقد بطل، وإن كان الثاني فكذلك، إما لأن الإقرار لا يحتمل التعليق بالشرط، أو لأنه شرط لا يوقف عليه كما ذكرنا في الطلاق، بخلاف ما إذا قال لفلان علي مائة درهم إذا مت أو إذا جاء رأس الشهر أو إذا أفطر الناس لأنه في معنى بيان المدة فيكون تأجيلا لا تعليقا، حتى لو كذبه المقر له في الأجل يكون المال حالا.
قال: "ومن أقر بدار واستثنى بناءها لنفسه فللمقر له الدار والبناء" لأن البناء داخل في هذا الإقرار معنى لا لفظا، والاستثناء تصرف في الملفوظ، والفص في الخاتم والنخلة في البستان نظير البناء في الدار لأنه يدخل فيه تبعا لا لفظا، بخلاف ما إذا قال إلا ثلثها أو إلا بيتا منها لأنه داخل فيه لفظا "ولو قال بناء هذا الدار لي والعرصة لفلان فهو كما قال" لأن العرصة عبارة عن البقعة دون البناء، فكأنه قال بياض هذه الأرض دون البناء لفلان، بخلاف ما إذا قال مكان العرصة أرضا حيث يكون البناء للمقر له لأن الإقرار بالأرض إقرار بالبناء كالإقرار(3/182)
بالدار. "ولو قال له علي ألف درهم من ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه قيل للمقر له إن شئت فسلم العبد وخذ الألف وإلا فلا شيء لك" قال: وهذا على وجوه:
أحدها: هذا وهو أن يصدقه ويسلم العبد، وجوابه ما ذكر، لأن الثابت بتصادقهما كالثابت معاينة. والثاني: أن يقول المقر له: العبد عبدك ما بعتكه وإنما بعتك عبدا غير هذا وفيه المال لازم على المقر لإقراره به عند سلامة العبد له وقد سلم فلا يبالى باختلاف السبب بعد حصول المقصود.
والثالث: أن يقول العبد عبدي ما بعتك. وحكمه أن لا يلزم المقر شيء لأنه ما أقر بالمال إلا عوضا عن العبد فلا يلزمه دونه، ولو قال مع ذلك إنما بعتك غيره يتحالفان لأن المقر يدعي تسليم من عينه والآخر ينكر والمقر له يدعي عليه الألف ببيع غيره والآخر ينكره، وإذا تحالفا بطل المال، هذا إذا ذكر عبدا بعينه "وإن قال من ثمن عبد اشتريته ولم يعينه لزمه الألف ولا يصدق في قوله ما قبضت عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع فإنه أقر بوجوب المال رجوعا إلى كلمة علي، وإنكاره القبض في غير المعين ينافي الوجوب أصلا لأن الجهالة مقارنة كانت أو طارئة بأن اشترى عبدا ثم نسياه عند الاختلاط بأمثاله توجب هلاك المبيع فيمتنع وجوب نقد الثمن، وإذا كان كذلك كان رجوعا فلا يصح وإن كان موصولا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن وصل صدق ولم يلزمه شيء، وإن فصل لم يصدق إذا أنكر المقر له أن يكون ذلك من ثمن عبد، وإن أقر أنه باعه متاعا فالقول قول المقر. ووجه ذلك أنه أقر بوجوب المال عليه وبين سببا وهو البيع، فإن وافقه الطالب في السبب وبه لا يتأكد الوجوب إلا بالقبض، والمقر ينكره فيكون القول له، وإن كذبه في السبب كان هذا من المقر بيانا مغيرا لأن صدر كلامه للوجوب مطلقا وآخره يحتمل انتفاءه على اعتبار عدم القبض والمغير يصح موصولا لا مفصولا. "ولو قال ابتعت منه بيعا إلا أني لم أقبضه فالقول قوله" بالإجماع لأنه ليس من ضرورة البيع القبض، بخلاف الإقرار بوجوب الثمن.
قال: "وكذا لو قال من ثمن خمر أو خنزير" ومعنى المسألة إذا قال لفلان علي ألف من ثمن خمر أو خنزير "لزمه الألف ولم يقبل تفسيره عند أبي حنيفة وصل أم فصل" لأنه رجوع لأن ثمن الخمر والخنزير لا يكون واجبا وأول كلامه للوجوب "وقالا: إذا وصل لا يلزمه شيء" لأنه بين بآخر كلامه أنه ما أراد به الإيجاب وصار كما إذا قال في آخره إن شاء الله. قلنا: ذاك تعليق وهذا إبطال.(3/183)
"ولو قال له علي ألف من ثمن متاع أو أقرضني ألفا وبين أنها زيوف أو نبهرجة وقال المقر له هي جياد لزمه الجياد عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إن قال ذلك موصولا يصدق وإن قال مفصولا لا يصدق" وعلى هذا الخلاف إذا قال هي ستوقة أو رصاص وعلى هذا إذا قال، إلا أنها زيوف، وعلى هذا إذا قال لفلان علي ألف درهم زيوف من ثمن متاع. لهما أنه بيان مغير فيصح بشرط الوصل كالشرط والاستثناء، وهذا لأن اسم الدراهم يحتمل الزيوف بحقيقته، والستوقة بمجازه إلا أن مطلقه ينصرف إلى الجياد فكان بيان مغيرا من هذاالوجه وصار كما إذا قال إلا أنها وزن خمسة ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذا رجوع لأن مطلق العقد يقتضي السلامة عن العيب والزيافة عيب، ودعوى العيب رجوع عن بعض موجبه، وصار كما إذا قال بعتك معيبا وقال المشتري بعتنيه سليما فالقول للمشتري لما بينا والستوقة ليست من جنس الأثمان والبيع يرد على الثمن فكان رجوعا وقوله إلا أنها وزن خمسة يصح استثناء، لأنه مقدار بخلاف الجودة لأن استثناء الوصف لا يجوز كاستثناء البناء في الدار بخلاف ما إذا قال له علي كر حنطة من ثمن عبد إلا أنها رديئة لأن الرداءة نوع لا عيب. فمطلق العقد لا يقتضي السلامة عنها، وعن أبي حنيفة في غير رواية الأصول في القرض أنه يصدق في الزيوف إذا وصل، لأن القرض يوجب رد مثل المقبوض، وقد يكون زيفا كما في الغصب. وجه الظاهر أن التعامل بالجياد
فانصرف مطلقه إلها "ولو قال لفلان علي ألف درهم زيوف ولم يذكر البيع والقرض قيل يصدق" بالإجماع لأن اسم الدراهم يتناولها "وقيل لا يصدق" لأن مطلق الإقرار ينصرف إلى العقود لتعينها مشروعة، لا إلى الاستهلاك المحرم "ولو قال اغتصبت منه ألفا أو قال أودعني ثم قال هي زيوف أو نبهرجة صدق وصل أم فصل" لأن الإنسان يغصب ما يجد ويودع ما يملك فلا مقتضى له في الجياد ولا تعامل، فيكون بيان النوع فيصح وإن فصل ولهذا لو جاء زاد المغصوب، والوديعة بالمعيب كان القول له، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يصدق فيه مفصولا اعتبارا بالقرض إذ القبض فهيما هو الموجب للضمان ولو قال: هي ستوقة أو رصاص بعد ما أقر بالغصب والوديعة ووصل صدق وإن فصل لم يصدق لأن ستوقة ليست من جنس الدراهم لكن الاسم يتناولها مجازا فكان بيانا مغيرا فلا بد من الوصل.
"ولو قال في هذا كله ألفا إلا أنه ينقص كذا لم يصدق وإن وصل صدق" لأن هذا استثناء المقدار والاستثناء يصح موصولا بخلاف الزيافة لأنها وصف واستثناء الأوصاف لا يصح واللفظ يتناول المقدار دون الوصف، وهو تصرف لفظي كما بينا ولو كان الفصل ضرورة انقطاع الكلام بانقطاع نفسه فهو واصل لعدم إمكانية الاحتراز عنه "ومن أقر بغصب(3/184)
ثوب ثم جاء بثوب معيب فالقول له" لأن الغصب لا يختص بالسليم. "ومن قال لآخر: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت فقال لا بل أخذتها غصبا فهو ضامن، وإن قال أعطيتنيها وديعة فقال لا بل غصبتنيها لم يضمن" والفرق أن في الفصل الأول أقر بسبب الضمان وهو الأخذ ثم ادعى ما يبرئه وهو الإذن والآخر ينكره فيكون القول له مع اليمين. وفي الثاني أضاف الفعل إلى غيره وذاك يدعي عليه سبب الضمان وهو الغصب فكان القول لمنكره مع اليمين والقبض في هذا كالأخذ والدفع كالإعطاء.
فإن قال قائل: إعطاؤه والدفع إليه لا يكون إلا بقبضه.
فنقول: قد يكون بالتخلية والوضع بين يديه، ولو اقتضى ذلك فالمقتضى ثابت ضرورة فلا يظهر في انعقاده سبب الضمان، وهذا بخلاف ما إذا قال: أخذتها منك وديعة وقال الآخر لا بل قرضا حيث يكون القول للمقر وإن أقر بالأخذ لأنهما توافقا هنالك على أن الأخذ كان بالإذن إلا أن المقر له يدعي سبب الضمان وهو القرض والآخر ينكر فافترقا. "وإن قال هذه الألف كانت وديعة لي عند فلان فأخذتها فقال فلان هي لي فإنه يأخذها" لأنه أقر باليد له وادعى استحقاقها عليه وهو ينكر والقول للمنكر. "ولو قال: آجرت دابتي هذه فلانا فركبها وردها، أو قال: آجرت ثوبي هذا فلانا فلبسه ورده وقال فلان كذبت وهما لي فالقول قوله" وهذا عند أبي حنيفة "وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الذي أخذ منه الدابة والثوب" وهو القياس وعلى هذا الخلاف الإعارة والإسكان. "ولو قال خاط فلان ثوبي هذا بنصف درهم ثم قبضته وقال فلان الثوب ثوبي فهو على هذا الخلاف في الصحيح" وجه القياس ما بيناه في الوديعة.
وجه الاستحسان وهو الفرق أن اليد في الإجارة والإعارة ضرورية تثبت ضرورة استيفاء المعقود عليه وهو المنافع فيكون عدما فيما وراء الضرورة فلا يكون إقرارا له باليد مطلقا، بخلاف الوديعة لأن اليد فيها مقصودة والإيداع إثبات اليد قصدا فيكون الإقرار به اعترافا باليد للمودع.
ووجه آخر: أن في الإجارة والإعارة والإسكان أقر بيد ثابتة من جهته فيكون القول قوله في كيفيته. ولا كذلك في مسألة الوديعة لأنه قال فيها كانت وديعة، وقد تكون من غير صنعه، حتى لو قال أودعتها كان على هذا الخلاف، وليس مدار الفرق على ذكر الأخذ في طرف الوديعة وعدمه في الطرف الآخر وهو الإجارة وأختاه؛ لأنه ذكر الأخذ في وضع الطرف الآخر في كتاب الإقرار أيضا، وهذا بخلاف ما إذا قال اقتضيت من(3/185)
فلان ألف درهم كانت لي عليه أو أقرضته ألفا ثم أخذتها منه وأنكر المقر له حيث يكون القول قوله لأن الديون تقضى بأمثالها، وذلك إنما يكون بقبض مضمون، فإذا أقر بالاقتضاء فقد أقر بسبب الضمان ثم ادعى تملكه عليه بما يدعيه من الدين مقاصة والآخر ينكره.
أما هاهنا المقبوض عين ما ادعى فيه الإجارة وما أشبهها فافترقا، لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم وذلك كله في يد المقر فادعاها فلان وقال المقر لا بل ذلك كله لي استعنت بك ففعلت أو فعلته بأجر فالقول للمقر لأنه ما أقر له باليد وإنما أقر بمجرد فعل منه، وقد يكون ذلك في ملك في يد المقر وصار كما إذا قال خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه لم يكن إقرارا باليد ويكون القول للمقر لما أنه أقر بفعل منه وقد يخيط ثوبا في يد المقر كذا هذا.(3/186)
باب إقرار المريض
مدخل
...
باب إقرار المريض
قال: "وإذا أقر الرجل في مرض موته بديون وعليه ديون في صحته وديون لزمته في مرضه بأسباب معلومة فدين الصحة والدين المعروف الأسباب مقدم" وقال الشافعي رحمه الله: دين المرض ودين الصحة يستويان لاستواء سببهما وهو الإقرار الصادر عن عقل ودين، ومحل الوجوب الذمة القابلة للحقوق فصار كإنشاء التصرف مبايعة ومناكحة. ولنا أن الإقرار لا يعتبر دليلا إذا كان فيه إبطال حق الغير، وفي إقرار المريض ذلك لأن حق غرماء الصحة تعلق بهذا المال استيفاء، ولهذا منع من التبرع والمحاباة إلا بقدر الثلث. بخلاف النكاح لأنه من الحوائج الأصلية وهو بمهر المثل، وبخلاف المبايعة بمثل القيمة لأن حق الغرماء تعلق بالمالية لا بالصورة، وفي حالة الصحة لم يتعلق بالمال لقدرته على الاكتساب فيتحقق التثمير، وهذه حالة العجز وحالتا المرض حالة واحدة لأنه حالة الحجر، بخلاف حالتي الصحة والمرض؛ لأن الأولى حالة إطلاق وهذه حالة عجز فافترقا، وإنما تقدم الديون المعروفة الأسباب لأنه لا تهمة في ثبوتها إذ المعاين لا مرد له، وذلك مثل بدل مال ملكه أو استهلكه وعلم وجوبه بغير إقراره أو تزوج امرأة بمهر مثلها، وهذا الدين مثل دين الصحة لا يقدم أحدهما على الآخر لما بينا، ولو أقر بعين في يده لآخر لم يصح في حق غرماء الصحة لتعلق حقهم به، ولا يجوز للمريض أن يقضي دين بعض الغرماء دون البعض؛ لأن في إيثار البعض إبطال حق الباقين، وغرماء الصحة والمرض في ذلك سواء، إلا إذا قضى ما استقرض في مرضه أو نقد ثمن ما اشترى في مرضه وقد علم بالبينة.(3/186)
قال: "فإذا قضيت" يعني الديون المقدمة "وفضل شيء يصرف إلى ما أقر به في حالة المرض" لأن الإقرار في ذاته صحيح، وإنما رد في حق غرماء الصحة فإذا لم يبق حقهم ظهرت صحته.
قال: "وإن لم يكن عليه ديون في صحته جاز إقراره" لأنه لم يتضمن إبطال حق الغير وكان المقر له أولى من الورثة لقول عمر رضي الله عنه: إذا أقر المريض بدين جاز ذلك عليه في جميع تركته ولأن قضاء الدين من الحوائج الأصلية وحق الورثة يتعلق بالتركة بشرط الفراغ ولهذا تقدم حاجته في التكفين.
قال: "ولو أقر المريض لوارثه لا يصح إلا أن يصدقه فيه بقية الورثة" وقال الشافعي في أحد قوليه: يصح لأنه إظهار حق ثابت لترجح جانب الصدق فيه، وصار كالإقرار لأجنبي وبوارث آخر وبوديعة مستهلكة للوارث. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث ولا إقرار له بالدين" ولأنه تعلق حق الورثة بماله في مرضه ولهذا يمنع من التبرع على الوارث أصلا، ففي تخصيص البعض به إبطال حق الباقين، ولأن حالة المرض حالة الاستغناء والقرابة سبب التعلق، إلا أن هذا التعلق لم يظهر في حق الأجنبي لحاجته إلى المعاملة في الصحة؛ لأنه لو انحجر عن الإقرار بالمرض يمتنع الناس عن المعاملة معه، وقلما تقع المعاملة مع الوارث ولم يظهر في حق الإقرار بوارث آخر لحاجته أيضا، ثم هذا التعلق حق بقية الورثة، فإذا صدقوه فقد أبطلوه فيصح إقراره.
قال: "وإذا أقر لأجنبي جاز وإن أحاط بماله" لما بينا، والقياس أن لا يجوز إلا في الثلث لأن الشرع قصر تصرفه عليه. إلا أنا نقول: لما صح إقراره في الثلث كان له التصرف في ثلث الباقي لأنه الثلث بعد الدين ثم وثم حتى يأتي على الكل.
قال: "ومن أقر لأجنبي ثم قال: هو ابني ثبت نسبه منه وبطل إقراره، فإن أقر لأجنبية ثم تزوجها لم يبطل إقراره لها" ووجه الفرق أن دعوة النسب تستند إلى وقت العلوق فتبين أنه أقر لابنه فلا يصح ولا كذلك الزوجية لأنها تقتصر على زمان التزوج فبقي إقراره لأجنبية.
قال: "ومن طلق زوجته في مرضه ثلاثا ثم أقر لها بدين فلها الأقل من الدين ومن ميراثها منه" لأنهما متهمان فيه لقيام العدة، وباب الإقرار مسدود للوارث فلعله أقدم على هذا الطلاق ليصح إقراره لها زيادة على ميراثها ولا تهمة في أقل الأمرين فيثبت والله أعلم بالصواب.(3/187)
فصل: ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف الخ
...
فصل: "ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا"
لأن النسب مما يلزمه خاصة فيصح إقراره به وشرط أن يولد مثله لمثله كي لا يكون مكذبا في الظاهر، وشرط أن لا يكون له نسب معروف لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه لأنه في يد نفسه إذ المسألة في غلام يعبر عن نفسه، بخلاف الصغير على ما مر من قبل، ولا يمتنع بالمرض لأن النسب من الحوائج الأصلية "ويشارك الورثة في الميراث" لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته.
قال: "ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى" لأنه أقر بما يلزمه وليس فيه تحميل النسب على الغير. "ويقبل إقرار المرأة بالوالدين والزوج والمولى" لما بينا "ولا يقبل بالولد" لأن فيه تحميل النسب على الغير وهو الزوج لأن النسب منه "إلا أن يصدقها الزوج" لأن الحق له "أو تشهد بولادته قابلة" لأن قول القابلة في هذا مقبول وقد مر في الطلاق، وقد ذكرنا في إقرار المرأة تفصيلا في كتاب الدعوى، ولا بد من تصديق هؤلاء، ويصح التصديق في النسب بعد موت المقر لأن النسب يبقى بعد الموت، وكذا تصديق الزوجة لأن حكم النكاح باق، وكذا تصديق الزوج بعد موتها لأن الإرث من أحكامه. وعند أبي حنيفة لا يصح لأن النكاح انقطع بالموت ولهذا لا يحل له غسلها عندنا، ولا يصح التصديق على اعتبار الإرث لأنه معدوم حالة الإقرار، وإنما يثبت بعد الموت والتصديق يستند إلى أول الإقرار.
قال: "ومن أقر بنسب من غير الوالدين والولد نحو الأخ والعم لا يقبل إقراره في النسب" لأن فيه حمل النسب على الغير "فإن كان له وارث معروف قريب أو بعيد فهو أولى بالميراث من المقر له" لأنه لما لم يثبت نسبه منه لا يزاحم الوارث المعروف "وإن لم يكن له وارث استحق المقر له ميراثه" لأن له ولاية التصرف في مال نفسه عند عدم الوارث؛ ألا يرى أن له أن يوصي بجميعه فيستحق جميع المال وإن لم يثبت نسبه منه لما فيه من حمل النسب على الغير، وليست هذه وصية حقيقة حتى أن من أقر بأخ ثم أوصى لآخر بجميع ماله كان للموصى له ثلث جميع المال خاصة ولو كان الأول وصية لاشتركا نصفين لكنه بمنزلته، حتى لو أقر في مرضه بأخ وصدقه المقر له ثم أنكر المقر وراثته ثم أوصى بماله كله لإنسان كان ماله للموصى له؛ ولو لم يوص لأحد كان لبيت المال، لأن رجوعه صحيح لأن النسب لم يثبت فبطل إقراره.(3/188)
قال: "ومن مات أبوه فأقر بأخ لم يثبت نسب أخيه" لما بينا "ويشاركه في الإرث" لأن إقراره تضمن شيئين: حمل النسب على الغير ولا ولاية له عليه، والاشتراك في المال وله فيه ولاية فيثبت كالمشتري وإذا أقر على البائع بالعتق لم يقبل إقراره حتى لا يرجع عليه بالثمن ولكنه يقبل في حق العتق.
قال: "ومن مات وترك ابنين وله على آخر مائة درهم فأقر أحدهما أن أبوه قبض منها خمسين لا شيء للمقر وللآخر خمسون" لأن هذا إقرار بالدين على الميت لأن الاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون، فإذا كذبه أخوه استغرق الدين نصيبه كما هو المذهب عندنا، غاية الأمر أنهما تصادقا على كون المقبوض مشتركا بينهما، لكن المقر لو رجع على القابض بشيء لرجع القابض على الغريم ورجع الغريم على المقر فيؤدي إلى الدور، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(3/189)
كتاب الصلح
أضرب الصلح
مدخل
...
كتاب الصلح
قال: "الصلح على ثلاثة أضرب: صلح مع إقرار، وصلح مع سكوت، وهو أن لا يقر المدعى عليه ولا ينكر وصلح مع إنكار وكل ذلك جائز" لإطلاق قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] ولقوله عليه الصلاة والسلام: "كل صلح جائز فيما بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" وقال الشافعي: لا يجوز مع إنكار أو سكوت لما روينا، وهذا بهذه الصفة لأن البدل كان حلالا على الدافع حراما على الآخذ فينقلب الأمر، ولأن المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا رشوة. ولنا ما تلونا وأول ما روينا وتأويل آخره أحل حراما لعينه كالخمر أو حرم حلالا لعينه كالصلح على أن لا يطأ الضرة ولأن هذا صلح بعد دعوى صحيحة فيقضى بجوازه لأن المدعي يأخذه عوضا عن حقه في زعمه وهذا مشروع، والمدعى عليه يدفعه لدفع الخصومة عن نفسه وهذا مشروع أيضا إذ المال وقاية الأنفس ودفع الرشوة لدفع الظلم أمر جائز.
قال: "فإن وقع الصلح عن إقرار اعتبر فيه ما يعتبر في البياعات إن وقع عن مال بمال" لوجود معنى البيع وهو مبادلة المال بالمال بتراضيهما في حق المتعاقدين بتراضهما "فتجري فيه الشفعة إذا كان عقارا ويرد بالعيب ويثبت فيه خيار الشرط والرؤية، ويفسده جهالة البدل" لأنها المفضية إلى المنازعة دون جهالة المصالح عنه لأنه يسقط، ويشترط القدرة على تسليم البدل "وإن كان عن مال بمنافع يعتبر بالإجارات" لوجود معنى الإجارة وهو تمليك المنافع بمال والاعتبار في العقود لمعانيها فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما في المدة لأنه إجارة.
قال: "الصلح عن السكوت والإنكار في حق المدعى عليه لافتداء اليمين وقطع الخصومة وفي حق المدعي لمعنى المعاوضة" لما بينا.
"ويجوز أن يختلف حكم العقد في حقهما كما يختلف حكم الإقالة في حق المتعاقدين وغيرهما" وهذا في الإنكار ظاهر، وكذا في السكوت فلأنه يحتمل الإقرار والجحود فلا يثبت كونه عرضا في حقه بالشك.(3/190)
قال: "وإذا صالح عن دار لم يجب فيها الشفعة" معناه إذا كان عن إنكار أو سكوت لأنه يأخذها على أصل حقه ويدفع المال دفعا لخصومة المدعي وزعم المدعي لا يلزمه، بخلاف ما إذا صالح على دار حيث يجب فيها الشفعة لأن المدعي يأخذها عوضا عن المال فكان معاوضة في حقه فتلزمه الشفعة بإقراره وإن كان المدعى عليه يكذبه.
قال: "وإذا كان الصلح عن إقرار واستحق بعض المصالح عنه رجع المدعى عليه بحصة ذلك من العوض" لأنه معاوضة مطلقة كالبيع وحكم الاستحقاق في البيع هذا "وإن وقع الصلح عن سكوت أو إنكار فاستحق المتنازع فيه رجع المدعي بالخصومة ورد العوض" لأن المدعى عليه ما بذل العوض إلا ليدفع خصومته عن نفسه، فإذا ظهر الاستحقاق تبين أن لا خصومة له فيبقى العوض في يده غير مشتمل على غرضه فيسترده، وإن استحق بعض ذلك رد حصته ورجع بالخصومة فيه لأنه خلا العوض في هذا القدر عن الغرض. ولو استحق المصالح عليه عن إقرار رجع بكل المصالح عنه لأنه مبادلة، وإن استحق بعضه رجع بحصته. وإن كان الصلح عن إنكار أو سكوت رجع إلى الدعوى في كله أو بقدر المستحق إذا استحق بعضه لأن المبدل فيه هو الدعوى، وهذا بخلاف ما إذا باع منه على الإنكار شيئا حيث يرجع بالمدعى لأن الإقدام على البيع إقرار منه بالحق له، ولا كذلك الصلح لأنه قد يقع لدفع الخصومة، ولو هلك بدل الصلح قبل التسليم فالجواب فيه كالجواب في الاستحقاق في الفصلين.
قال: "وإن ادعى حقا في دار ولم يبينه فصولح من ذلك ثم استحق بعض الدار لم يرد شيئا من العوض لأن دعواه يجوز أن يكون فيما بقي" بخلاف ما إذا استحق كله لأنه يعرى العوض عند ذلك عن شيء يقابله فيرجع بكله على ما قدمناه في البيوع. ولو ادعى دارا فصالحه على قطعة منها لم يصح الصلح لأن ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه في الباقي. والوجه فيه أحد أمرين: إما أن يزيد درهما في بدل الصلح فيصير ذلك عوضا عن حقه فيما بقي، أو يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي.(3/191)
فصل: والصلح جائز عن دعوى الأموال والمنافع
...
فصل: "والصلح جائز عن دعوى الأموال"
لأنه في معنى البيع على ما مر.
قال: "والمنافع" لأنها تملك بعقد الإجارة فكذا بالصلح، والأصل فيه أن الصلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به احتيالا لتصحيح تصرف العاقد ما أمكن.
قال: "ويصح عن جناية العمد والخطأ" أما الأول فلقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ(3/191)
أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} [البقرة:178] الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها نزلت في الصلح عن دم العمد وهو بمنزلة النكاح، حتى أن ما صلح مسمى فيه صلح هاهنا إذ كل واحد منهما مبادلة المال بغير المال إلا أن عند فساد التسمية هنا يصار إلى الدية لأنها موجب الدم. ولو صالح على خمر لا يجب شيء لأنه لا يجب بمطلق العفو. وفي النكاح يجب مهر المثل في الفصلين لأنه الموجب الأصلي، ويجب مع السكوت عنه حكما، ويدخل في إطلاق جواب الكتاب الجناية في النفس وما دونها، وهذا بخلاف الصلح عن حق الشفعة على مال حيث لا يصح لأنه حق التملك، ولا حق في المحل قبل التملك. وأما القصاص فملك المحل في حق الفعل فيصح الاعتياض عنه وإذا لم يصح الصلح تبطل الشفعة لأنها تبطل بالإعراض والسكوت، والكفالة بالنفس بمنزلة حق الشفعة حتى لا يجب المال بالصلح عنه، غير أن في بطلان الكفالة روايتين على ما عرف في موضعه. وأما الثاني وهو جناية الخطأ فلأن موجبها المال فيصير بمنزلة البيع، إلا أنه لا تصح الزيادة على قدر الدية لأنه مقدر شرعا فلا يجوز إبطاله فترد الزيادة، بخلاف الصلح عن القصاص حيث تجوز الزيادة على قدر الدية لأن القصاص ليس بمال وإنما يتقوم بالعقد، وهذا إذا صالح على أحد مقادير الدية، أما إذا صالح على غير ذلك جاز لأنه مبادلة بها، إلا أنه يشترط القبض في المجلس كي لا يكون افتراقا عن دين بدين. ولو قضى القاضي بأحد مقاديرها فصالح على جنس آخر منها بالزيادة جاز لأنه تعين الحق بالقضاء فكان مبادلة بخلاف الصلح ابتداء لأن تراضيهما على بعض المقادير بمنزلة القضاء في حق التعيين فلا تجوز الزيادة على ما تعين.
قال: "ولا يجوز عن دعوى حد" لأنه حق الله تعالى لا حقه، ولا يجوز الاعتياض عن حق غيره، ولهذا لا يجوز الاعتياض إذا ادعت المرأة نسب ولدها لأنه حق الولد لا حقها، وكذا لا يجوز الصلح عما أشرعه إلى طريق العامة لأنه حق العامة فلا يجوز أن يصالح واحد على الانفراد عنه؛ ويدخل في إطلاق الجواب حد القذف لأن المغلب فيه حق الشرع.
قال: "وإذا ادعى رجل على امرأة نكاحا وهي تجحد فصالحته على مال بذلته حتى يترك الدعوى جاز وكان في معنى الخلع" لأنه أمكن تصحيحه خلعا في جانبه بناء على زعمه وفي جانبها بدلا للمال لدفع الخصومة. قالوا: ولا يحل له أن يأخذ فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان مبطلا في دعواه.
قال: "وإذا ادعت امرأة على رجل نكاحا فصالحها على مال بذله لها جاز" قال رضي الله عنه: هكذا ذكر في بعض نسخ المختصر، وفي بعضها قال: لم يجز. وجه الأول أن(3/192)
يجعل زيادة في مهرها. وجه الثاني أنه بذل لها المال لتترك الدعوى فإن جعل ترك الدعوى منها فرقة فالزوج لا يعطي العوض في الفرقة، وإن لم يجعل فالحال على ما كان عليه قبل الدعوى فلا شيء يقابله العوض فلم يصح. قال: "وإن ادعى على رجل أنه عبده فصالحه على مال أعطاه جاز وكان في حق المدعي بمنزلة الإعتاق على مال" لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه في حقه لزعمه ولهذا يصح على حيوان في الذمة إلى أجل وفي حق المدعى عليه يكون لدفع الخصومة؛ لأنه يزعم أنه حر فجاز إلا أنه لا ولاء له لإنكار العبد إلا أن يقيم البينة فتقبل ويثبت الولاء.
قال: "وإذا قتل العبد المأذون له رجلا عمدا لم يجز له أن يصالح عن نفسه، وإن قتل عبد له رجلا عمدا فصالحه جاز" ووجه الفرق أن رقبته ليست من تجارته ولهذا لا يملك التصرف فيه بيعا فكذا استخلاصا بمال المولى وصار كالأجنبي، أما عبده فمن تجارته وتصرفه فيه نافذ بيعا فكذا استخلاصا، وهذا لأن المستحق كالزائل عن ملكه وهذا شراؤه فيملكه.
قال: "ومن غصب ثوبا يهوديا قيمته دون المائة فاستهلكه فصالحه منها على مائة درهم جاز عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الفضل على قيمته بما لا يتغابن الناس فيه" لأن الواجب هي القيمة وهي مقدرة فالزيادة عليها تكون ربا، بخلاف ما إذا صالح على عرض لأن الزيادة لا تظهر عند اختلاف الجنس، وبخلاف ما يتغابن الناس فيه لأنه يدخل تحت تقويم المقومين فلا تظهر الزيادة. ولأبي حنيفة أن حقه في الهالك باق حتى لو كان عبدا وترك أخذ القيمة يكون الكفن عليه أو حقه في مثله صورة ومعنى، لأن ضمان العدوان بالمثل، وإنما ينتقل إلى القيمة بالقضاء فقبله إذا تراضيا على الأكثر كان اعتياضا فلا يكون ربا، بخلاف الصلح بعد القضاء لأن الحق قد انتقل إلى القيمة.
قال: "وإذا كان العبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر فصالحه الآخر على أكثر من نصف قيمته فالفضل باطل" وهذا بالاتفاق، وأما عندهما فلما بينا. والفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن القيمة في العتق منصوص عليها وتقدير الشرع لا يكون دون تقدير القاضي فلا يجوز الزيادة عليه، وبخلاف ما تقدم لأنها غير منصوص عليها "وإن صالحه على عروض جاز" لما بينا أنه لا يظهر الفضل، والله أعلم بالصواب.(3/193)
باب التبرع بالصلح والتوكيل به
قال: "ومن وكل رجلا بالصلح عنه فصالح لم يلزم الوكيل ما صالح عنه إلا أن يضمنه(3/193)
والمال لازم للموكل" وتأويل هذه المسألة إذا كان الصلح عن دم العمد أو كان الصلح عن بعض ما يدعيه من الدين لأنه إسقاط محض فكان الوكيل فيه سفيرا ومعبرا فلا ضمان عليه كالوكيل بالنكاح إلا أن يضمنه لأنه حينئذ هو مؤاخذ بعقد الضمان لا بعقد الصلح، أما إذا كان الصلح عن مال بمال فهو بمنزلة البيع فترجع الحقوق إلى الوكيل فيكون المطالب بالمال هو الوكيل دون الموكل.
قال: "وإن صالح رجل عنه بغير أمره فهو على أربعة أوجه: إن صالح بمال وضمنه تم الصلح" لأن الحاصل للمدعى عليه ليس إلا البراءة وفي حقها هو والأجنبي سواء فصلح أصيلا فيه إذا ضمنه، كالفضولي بالخلع إذا ضمن البدل ويكون متبرعا على المدعى عليه كما لو تبرع بقضاء الدين بخلاف ما إذا كان بأمره ولا يكون لهذا المصالح شيء من المدعى، وإنما ذلك للذي في يده لأن تصحيحه بطريق الإسقاط، ولا فرق في هذا بين ما إذا كان مقرا أو منكرا "وكذلك إن قال صالحتك على ألفي هذه أو على عبدي هذا صح الصلح ولزمه تسليمها" لأنه لما أضافه إلى مال نفسه فقد التزم تسليمه فصح الصلح "وكذلك لو قال علي ألف وسلمها" لأن التسليم إليه يوجب سلامة العوض له فيتم العقد لحصول مقصوده "ولو قال صالحتك على ألف فالعقد موقوف، فإن أجازه المدعى عليه جاز ولزمه الألف، وإن لم يجزه بطل" لأن الأصل في العقد إنما هو المدعى عليه لأن دفع الخصومة حاصل له، إلا أن الفضولي يصير أصيلا بواسطة إضافة الضمان إلى نفسه، فإذا لم يضفه بقي عاقدا من جهة المطلوب فيتوقف على إجازته.
قال رضي الله عنه: ووجه آخر وهو أن يقول صالحتك على هذه الألف أو على هذا العبد ولم ينسبه إلى نفسه لأنه لما عينه للتسليم صار شارطا سلامته له فيتم بقوله. ولو استحق العبد أو وجد به عيبا فرده فلا سبيل له على المصالح لأنه التزم الإيفاء من محل بعينه ولم يلتزم شيئا سواه، فإن سلم المحل له تم الصلح، وإن لم يسلم له لم يرجع عليه بشيء. بخلاف ما إذا صالح على دراهم مسماة وضمنها ودفعها ثم استحقت أو وجدها زيوفا حيث يرجع عليه لأنه جعل نفسه أصيلا في حق الضمان ولهذا يجبر على التسليم، فإذا لم يسلم له ما سلمه يرجع عليه ببدله، والله أعلم بالصواب.(3/194)
باب الصلح في الدين
مدخل
...
باب الصلح في الدين
قال: "وكل شيء وقع عليه الصلح وهو مستحق بعقد المداينة لم يحمل على المعاوضة، وإنما يحمل على أنه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه، كمن له على آخر ألف(3/194)
درهم فصالحه على خمسمائة، وكمن له على آخر ألف جياد فصالحه على خمسمائة زيوف جاز وكأنه أبرأه عن بعض حقه" وهذا لأن تصرف العاقل يتحرى تصحيحه ما أمكن، ولا وجه لتصحيحه معاوضة لإفضائه إلى الربا فجعل إسقاطا للبعض في المسألة الأولى وللبعض والصفة في الثانية "ولو صالح على ألف مؤجلة جاز وكأنه أجل نفس الحق" لأنه لا يمكن جعله معاوضة لأن بيع الدراهم بمثلها نسيئة لا يجوز فحملناه على التأخير "ولو صالحه على دنانير إلى شهر لم يجز" لأن الدنانير غير مستحقة بعقد المداينة فلا يمكن حمله على التأخير، ولا وجه له سوى المعاوضة، وبيع الدراهم بالدنانير نسيئة لا يجوز فلم يصح الصلح.
قال: "ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم يجز" لأن المعجل خير من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حطه عنه، وذلك اعتياض عن الأجل وهو حرام "وإن كان له ألف سود فصالحه على خمسمائة بيض لم يجز" لأن البيض غير مستحقة بعقد المداينة وهي زائدة وصفا فيكون معاوضة الألف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربا، بخلاف ما إذا صالح عن الألف البيض على خمسمائة سود حيث يجوز لأنه إسقاط كله قدرا ووصفا، وبخلاف ما إذا صالح على قدر الدين وهو أجود لأنه معاوضة المثل بالمثل، ولا معتبر بالصفة إلا أنه يشترط القبض في المجلس، ولو كان عليه ألف درهم ومائة دينار فصالحه على مائة درهم حالة أو إلى شهر صح الصلح لأنه أمكن أن يجعل إسقاطا للدنانير كلها والدراهم إلا مائة وتأجيلا للباقي فلا يجعل معاوضة تصحيحا للعقد أو لأن معنى الإسقاط فيه ألزم.
قال: "ومن له على آخر ألف درهم فقال أد إلي غدا منها خمسمائة على أنك بريء من الفضل ففعل فهو بريء، فإن لم يدفع إليه الخمسمائة غدا عاد عليه الألف وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يعود عليه" لأنه إبراء مطلق؛ ألا ترى أنه جعل أداء الخمسمائة عوضا حيث ذكره بكلمة على وهي للمعاوضة، والأداء لا يصح عوضا لكونه مستحقا عليه فجرى وجوده مجرى عدمه فبقي الإبراء مطلقا فلا يعود كما إذا بدأ بالإبراء. ولهما أن هذا إبراء مقيد بالشرط فيفوت بفواته لأنه بدأ بأداء الخمسمائة في الغد وأنه يصلح غرضا حذار إفلاسه وتوسلا إلى تجارة أربح منه، وكلمة على إن كانت للمعاوضة فهي محتملة للشرط لوجود معنى المقابلة فيه فيحمل عليه عند تعذر الحمل على المعاوضة تصحيحا لتصرفه أو لأنه متعارف، والإبراء مما يتقيد بالشرط وإن كان لا يتعلق به كما في الحوالة، وستخرج البداءة بالإبراء إن شاء الله تعالى.
قال رضي الله عنه: وهذه المسألة على وجوه: أحدها ما ذكرناه.(3/195)
والثاني: إذا قال صالحتك من الألف على خمسمائة تدفعها إلي غدا وأنت بريء من الفضل على أنك إن لم تدفعها إلي غدا فالألف عليك على حاله. وجوابه أن الأمر على ما قال لأنه أتى بصريح التقييد فيعمل به.
والثالث: إذا قال أبرأتك من خمسمائة من الألف على أن تعطيني الخمسمائة غدا والإبراء فيه واقع أعطى الخمسمائة أو لم يعط لأنه أطلق الإبراء أولا، وأداء الخمسمائة لا يصلح عوضا مطلقا ولكنه يصلح شرطا فوقع الشك في تقييده بالشرط فلا يتقيد به، بخلاف ما إذا بدأ بأداء خمسمائة لأن الإبراء حصل مقرونا به، فمن حيث إنه لا يصلح عوضا يقع مطلقا، ومن حيث إنه يصلح شرطا لا يقع مطلقا فلا يثبت الإطلاق بالشك فافترقا.
والرابع: إذا قال أد إلي خمسمائة على أنك بريء من الفضل ولم يؤقت للأداء وقتا. وجوابه أنه يصح الإبراء ولا يعود الدين لأن هذا إبراء مطلق، لأنه لما لم يؤقت للأداء وقتا لا يكون الأداء غرضا صحيحا لأنه واجب عليه في مطلق الأزمان فلم يتقيد بل يحمل على المعاوضة ولا يصلح عوضا، بخلاف ما تقدم لأن الأداء في الغد غرض صحيح.
والخامس: إذا قال إن أديت إلي خمسمائة أو قال إذا أديت أو متى أديت. فالجواب فيه أنه لا يصح الإبراء لأنه علقه بالشرط صريحا، وتعليق البراءات بالشروط باطل لما فيها من معنى التمليك حتى يرتد بالرد، بخلاف ما تقدم لأنه ما أتى بصريح الشرط فحمل على التقييد به.
قال: "ومن قال لآخر لا أقر لك بمالك حتى تؤخره عني أو تحط عني ففعل جاز عليه" لأنه ليس بمكره، ومعنى المسألة إذا قال ذلك سرا، أما إذا قال علانية يؤخذ به.(3/196)
فصل: في الدين المشترك
قال: "وإذا كان الدين بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على ثوب فشريكه بالخيار، إن شاء اتبع الذي عليه الدين بصفة، وإن شاء أخذ نصف الثوب إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين" وأصل هذا أن الدين المشترك بين اثنين إذا قبض أحدهما شيئا منه فلصاحبه أن يشاركه في المقبوض لأنه ازداد بالقبض، إذ مالية الدين باعتبار عاقبة القبض، وهذه الزيادة راجعة إلى أصل الحق فتصير كزيادة الولد والثمرة وله حق المشاركة، ولكنه قبل المشاركة باق على مالك القابض، لأن العين غير الدين حقيقة وقد قبضه بدلا عن حقه،(3/196)
فيملكه حتى ينفذ تصرفه فيه ويضمن لشريكه حصته، والدين المشترك يكون واجبا بسبب متحد كثمن المبيع إذا كان صفقة واحدة وثمن المال المشترك والموروث بينهما وقيمة المستهلك المشترك. إذا عرفنا هذا فنقول في مسألة الكتاب: له أن يتبع الذي عليه الأصل لأن نصيبه باق في ذمته لأن القابض قبض نصيبه لكن له حق المشاركة، وإن شاء أخذ نصف الثوب لأن له حق المشاركة إلا أن يضمن له شريكه ربع الدين لأن حقه في ذلك.
قال: "ولو استوفى نصف نصيبه من الدين كان لشريكه أن يشاركه فيما قبض" لما قلنا "ثم يرجعان على الغريم بالباقي" لأنهما لما اشتركا في المقبوض لا بد أن يبقى الباقي على الشركة.
قال: "ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدين سلعة كان لشريكه أن يضمنه ربع الدين" لأنه صار قابضا حقه بالمقاصة كاملا، لأن مبنى البيع على المماكسة بخلاف الصلح لأن مبناه على الإغماض والحطيطة، فلو ألزمناه دفع ربع الدين يتضرر به فيتخير القابض كما ذكرنا، ولا سبيل للشريك على الثوب في البيع لأنه ملكه بعقده والاستيفاء بالمقاصة بين ثمنه وبين الدين. وللشريك أن يتبع الغريم في جميع ما ذكرنا لأن حقه في ذمته باق لأن القابض استوفى نصيبه حقيقة لكن له حق المشاركة فله أن لا يشاركه، فلو سلم له ما قبض ثم توى ما على الغريم له أن يشارك القابض لأنه رضي بالتسليم ليسلم له ما في ذمة الغريم ولم يسلم، ولو وقعت المقاصة بدين كان عليه من قبل لم يرجع عليه الشريك لأنه قاض بنصيبه لا مقتض، ولو أبرأه عن نصيبه فكذلك لأنه إتلاف وليس بقبض، ولو أبرأه عن البعض كانت قسمة الباقي على ما بقي من السهام، ولو أخر أحدهما عن نصيبه صح عند أبي يوسف اعتبارا بالإبراء المطلق، ولا يصح عندهما لأنه يؤدي إلى قسمة الدين قبل القبض، ولو غصب أحدهما عينا منه أو اشتراها شراء فاسدا وهلك في يده فهو قبض والاستئجار بنصيبه قبض، وكذا الإحراق عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف رحمه الله والتزوج به إتلاف في ظاهر الرواية، وكذا الصلح عليه من جناية العمد.
قال: "وإذا كان السلم بين شريكين فصالح أحدهما من نصيبه على رأس المال لم يجز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله يجوز الصلح" اعتبارا بسائر الديون، وبما إذا اشتريا عبدا فأقال أحدهما في نصيبه. ولهما أنه لو جاز في نصيبه خاصة يكون قسمة الدين في الذمة، ولو جاز في نصيبهما لا بد من إجازة الآخر بخلاف شراء العين، وهذا لأن المسلم فيه صار واجبا بالعقد والعقد قام بهما فلا ينفرد أحدهما برفعه، ولأنه لو جاز لشاركه في المقبوض، فإذا شاركه فيه رجع المصالح على من عليه بذلك فيؤدي(3/197)
إلى عود السلم بعد سقوطه. قالوا: هذا إذا خلطا رأس المال، فإن لم يكونا قد خلطاه فعلى الوجه الأول هو على الخلاف، وعلى الوجه الثاني هو على الاتفاق.(3/198)
فصل: في التخارج
قال: "وإذا كانت الشركة بين ورثة فأخرجوا أحدهم منها بمال أعطوه إياه والتركة عقار أو عروض جاز قليلا كان ما أعطوه إياه أو كثيرا" لأنه أمكن تصحيحه بيعا. وفيه أثر عثمان، فإنه صالح تماضر الأشجعية امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن ربع ثمنها على ثمانين ألف دينار.
قال: "وإن كانت التركة فضة فأعطوه ذهبا أو كان ذهبا فأعطوه فضة فهو كذلك" لأنه بيع الجنس بخلاف الجنس فلا يعتبر التساوي ويعتبر التقابض في المجلس لأنه صرف غير أن الذي في يده بقية التركة إن كان جاحدا يكتفي بذلك القبض لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح وإن كان مقرا لا بد من تجديد القبض لأنه قبض أمانة فلا ينوب عن قبض الصلح "وإن كانت التركة ذهبا وفضة وغير ذلك فصالحوه على ذهب أو فضة فلا بد أن يكون ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس حتى يكون نصيبه بمثله والزيادة بحقه من بقية التركة" احترازا عن الربا، ولا بد من التقابض فيما يقابل نصيبه من الذهب والفضة لأنه صرف في هذا القدر، ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا لعدم الربا، ولو كان في التركة دراهم ودنانير وبدل الصلح دراهم ودنانير أيضا جاز الصلح كيفما كان صرفا للجنس إلى خلاف الجنس كما في البيع لكن يشترط التقابض للصرف.
قال: "وإذا كان في التركة دين على الناس فأدخلوه في الصلح على أن يخرجوا المصالح عنه ويكون الدين له فالصلح باطل" لأن فيه تمليك الدين من غير من عليه وهو حصة المصالح "وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه ولا يرجع عليهم بنصيب المصالح فالصلح جائز" لأنه إسقاط وهو تمليك الدين ممن عليه الدين وهو جائز، وهذه حيلة الجواز، وأخرى أن يعجلوا قضاء نصيبه متبرعين، وفي الوجهين ضرر ببقية الورثة. والأوجه أن يقرضوا المصالح مقدار نصيبه ويصالحوا عما وراء الدين. ويجيلهم على استيفاء نصيبه من الغرماء، ولو لم يكن في التركة دين وأعيانها غير معلومة والصلح على المكيل والموزون، قيل لا يجوز لاحتمال الربا، وقيل يجوز لأنه شبهة الشبهة، ولو كانت التركة غير المكيل والموزون لكنها أعيان غير معلومة قيل لا يجوز لكونه بيعا إذ المصالح عنه عين والأصح أنه يجوز لأنها لا تفضي إلى المنازعة لقيام المصالح عنه في يد البقية من الورثة،(3/198)
وإن كان على الميت دين مستغرق لا يجوز الصلح ولا القسمة لأن التركة لم يتملكها الوارث، وإن لم يكن مستغرقا لا ينبغي أن يصالحوا ما لم يقضوا دينه فتقدم حاجة الميت، ولو فعلوا قالوا يجوز. وذكر الكرخي رحمه الله في القسمة أنها لا تجوز استحسانا وتجوز قياسا.(3/199)
كتاب المضاربة
تعريفها وشروطها
...
كتاب المضاربة
المضاربة: مشتقة من الضرب في الأرض؛ سمي بها لأن المضارب يستحق الربح بسعيه وعمله، وهي مشروعة للحاجة إليها، فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه، وبين مهتد في التصرف صفر اليد عنه، فمست الحاجة إلى شرع هذا النوع من التصرف لينتظم مصلحة الغبي والذكي والفقير والغني. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس يباشرونه فقررهم عليه وتعاملت به الصحابة، ثم المدفوع إلى المضارب أمانة في يده لأنه قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل والوثيقة، وهو وكيل فيه لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه، وإذا ربح فهو شريك فيه لتملكه جزءا من المال بعمله، فإذا فسدت ظهرت الإجارة حتى استوجب العامل أجر مثله، وإذا خالف كان غاصبا لوجود التعدي منه على مال غيره.
قال: "المضاربة عقد على الشركة بمال من أحد الجانبين" ومراده الشركة في الربح وهو يستحق بالمال من أحد الجانبين "والعمل من الجانب الآخر" ولا مضاربة بدونها؛ ألا ترى أن الربح لو شرط كله لرب المال كان بضاعة، ولو شرط جميعه للمضارب كان قرضا.
قال: "ولا تصح إلا بالمال الذي تصح به الشركة" وقد تقدم بيانه من قبل، ولو دفع إليه عرضا وقال بعه واعمل مضاربة في ثمنه جاز له لأنه يقبل الإضافة من حيث إنه توكيل وإجارة فلا مانع من الصحة، وكذا إذا قال له اقبض ما لي على فلان واعمل به مضاربة جاز لما قلنا، بخلاف ما إذا قال له اعمل بالدين الذي في ذمتك حيث لا تصح المضاربة، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح هذا التوكيل على ما مر في البيوع. وعندهما يصح لكن يقع الملك في المشترى للآمر فيصير مضاربة بالعرض.
قال: "ومن شرطها أن يكون الربح بينهما مشاعا لا يستحق أحدهما دراهم مسماة" من الربح لأن شرط ذلك يقطع الشركة بينهما ولا بد منها كما في عقد الشركة.
قال: "فإن شرط زيادة عشرة فله أجر مثله" لفساده فلعله لا يربح إلا هذا القدر فتنقطع الشركة في الربح، وهذا لأنه ابتغى عن منافعه عوضا ولم ينل لفساده، والربح لرب المال لأنه(3/200)
نماء ملكه، وهذا هو الحكم في كل موضع لم تصح المضاربة ولا تجاوز بالأجر القدر المشروط عند أبي يوسف خلافا لمحمد كما بينا في الشركة، ويجب الأجر وإن لم يربح في رواية الأصل لأن أجر الأجير يجب بتسليم المنافع أو العمل وقد وجد. وعن أبي يوسف أنه لا يجب اعتبارا بالمضاربة الصحيحة مع أنها فوقها، والمال في المضاربة الفاسدة غير مضمون بالهلاك اعتبارا بالصحيحة، ولأنه عين مستأجرة في يده، وكل شرط يوجب جهالة في الربح يفسده لاختلال مقصوده، وغير ذلك من الشروط الفاسدة لا يفسدها، ويبطل الشرط كاشتراط الوضيعة على المضارب.
قال: "ولا بد أن يكون المال مسلما إلى المضارب ولا يد لرب المال فيه" لأن المال أمانة في يده فلا بد من التسليم إليه، وهذا بخلاف الشركة لأن المال في المضاربة من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر، فلا بد من أن يخلص المال للعامل ليتمكن من التصرف فيه.
أما العمل في الشركة من الجانبين فلو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة، وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد لأنه يمنع خلوص يد المضارب فلا يتمكن من التصرف فلا يتحقق المقصود سواء كان المالك عاقدا أو غير عاقد كالصغير لأن يد المالك ثابتة له، وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب، وكذا أحد المتفاوضين وأحد شريكي العنان إذا دفع المال مضاربة وشرط عمل صاحبه لقيام الملك له وإن لم يكن عاقدا، واشتراط العمل على العاقد مع المضارب وهو غير مالك يفسده إن لم يكن من أهل المضاربة فيه كالمأذون، بخلاف الأب والوصي لأنهما من أهل أن يأخذا مال الصغير مضاربة بأنفسهما فكذا اشتراطه عليهما بجزء من المال.
قال: "وإذا صحت المضاربة مطلقة جاز للمضارب أن يبيع ويشتري ويوكل ويسافر ويبضع ويودع" لإطلاق العقد والمقصود منه الاسترباح ولا يتحصل إلا بالتجارة، فينتظم العقد صنوف التجارة وما هو من صنيع التجار، والتوكيل من صنيعهم، وكذا الإبضاع والإيداع والمسافرة؛ ألا ترى أن المودع له أن يسافر فالمضارب أولى، كيف وأن اللفظ دليل عليه لأنها مشتقة من الضرب في الأرض وهو السير. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ليس له أن يسافر. وعنه وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إن دفع في بلده ليس له أن يسافر لأنه تعريض على الهلاك من غير ضرورة وإن دفع في غير بلده له أن يسافر إلى بلده لأنه هو المراد في الغالب، والظاهر ما ذكر في الكتاب.(3/201)
قال: "ولا يضارب إلا أن يأذن له رب المال أو يقول له اعمل برأيك" لأن الشيء لا يتضمن مثله لتساويهما في القوة فلا بد من التنصيص عليه أو التفويض المطلق إليه وكان كالتوكيل، فإن الوكيل لا يملك أن يوكل غيره إلا إذا قيل له اعمل برأيك، بخلاف الإيداع والإبضاع لأنه دونه فيتضمنه، وبخلاف الإقراض حيث لا يملكه. وإن قيل له اعمل برأيك لأن المراد منه التعميم فيما هو من صنيع التجار وليس الإقرار منه وهو تبرع كالهبة والصدقة فلا يحصل به الغرض وهو الربح لأنه لا تجوز الزيادة عليه، أما الدفع مضاربة فمن صنيعهم، وكذا الشركة والخلط بمال نفسه فيدخل تحت هذا القول.
قال: "وإن خص له رب المال التصرف في بلد بعينه أو في سلعة بعينها لم يجز له أن يتجاوزها" لأنه توكيل. وفي التخصيص فائدة فيتخصص، وكذا ليس له أن يدفعه بضاعة إلى من يخرجها من تلك البلدة لأنه لا يملك الإخراج بنفسه فلا يملك تفويضه إلى غيره.
قال: "فإن خرج إلى غير ذلك البلد فاشترى ضمن" وكان ذلك له، وله ربحه لأنه تصرف بغير أمره وإن لم يشتر حتى رده إلى الكوفة وهي التي عينها برئ من الضمان كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم ترك ورجع المال مضاربة على حاله لبقائه في يده بالعقد السابق، وكذا إذا رد بعضه واشترى ببعضه في المصر كان المردود والمشترى في المصر على المضاربة لما قلنا، ثم شرط الشراء بها هاهنا وهو رواية الجامع الصغير، وفي كتاب المضاربة ضمنه بنفس الإخراج. والصحيح أن بالشراء يتقرر الضمان لزوال احتمال الرد إلى المصر الذي عينه.
أما الضمان فوجوبه بنفس الإخراج، وإنما شرط الشراء للتقرر لا لأصل الوجوب، وهذا بخلاف ما إذا قال على أن يشتري في سوق الكوفة حيث لا يصح التقييد لأن المصر مع تباين أطرافه كبقعة واحدة فلا يفيد التقييد، إلا إذا صرح بالنهي بأن قال اعمل في السوق ولا تعمل في غير السوق لأنه صرح بالحجر والولاية إليه ومعنى التخصيص أن يقول له على أن تعمل كذا أو في مكان كذا، وكذا إذا قال خذ هذا المال تعمل به في الكوفة لأنه تفسير له، أو قال فاعمل به في الكوفة لأن الفاء للوصل أو قال خذه بالنصف بالكوفة لأن الباء للإلصاق.
أما إذا قال خذ هذا المال واعمل به بالكوفة فله أن يعمل فيها وفي غيرها لأن الواو للعطف فيصير بمنزلة المشورة، ولو قال على أن تشتري من فلان وتبيع منه صح التقييد لأنه مفيد لزيادة الثقة به في المعاملة، بخلاف ما إذا قال على أن تشتري بها من أهل الكوفة(3/202)
أو دفع في الصرف على أن يشتري به من الصيارفة ويبيع منهم فباع بالكوفة من غير أهلها أو من غير الصيارفة جاز؛ لأن فائدة الأول التقييد بالمكان، وفائدة الثاني التقييد بالنوع، وهذا هو المراد عرفا لا فيما وراء ذلك.
قال: "وكذلك إن وقت للمضاربة وقتا بعينه يبطل العقد بمضيه" لأنه توكيل فيتوقت بما وقته والتوقيت مفيد وأنه تقييد بالزمان فصار كالتقييد بالنوع والمكان.
قال: "وليس للمضارب أن يشتري من يعتق على رب المال لقرابة أو غيرها" لأن العقد وضع لتحصيل الربح وذلك بالتصرف مرة بعد أخرى، ولا يتحقق فيه لعتقه ولهذا لا يدخل في المضاربة شراء ما لا يملك بالقبض كشراء الخمر والشراء بالميتة. بخلاف البيع الفاسد لأنه يمكنه بيعه بعد قبضه فيتحقق المقصود.
قال: "ولو فعل صار مشتريا لنفسه دون المضاربة" لأن الشراء متى وجد نفاذا على المشتري نفذ عليه كالوكيل بالشراء إذا خالف.
قال: "فإن كان في المال ربح لم يجز له أن يشتري من يعتق عليه" لأنه يعتق عليه نصيبه ويفسد نصيب رب المال أو يعتق على الاختلاف المعروف فيمتنع التصرف فلا يحصل المقصود "وإن اشتراهم ضمن مال المضاربة" لأنه يصير مشتريا العبد لنفسه فيضمن بالنقد من مال المضاربة وإن لم يكن في المال ربح جاز أن يشتريهم لأنه لا مانع من التصرف، إذ لا شركة له فيه ليعتق عليه "فإن زادت قيمتهم بعد الشراء عتق نصيبه منهم" لملكه بعض قريبه "ولم يضمن لرب المال شيئا" لأنه لا صنع من جهته في زيادة القيمة ولا في ملكه الزيادة، لأن هذا شيء يثبت من طريق الحكم فصار كما إذا ورثه مع غيره "ويسعى العبد في قيمة نصيبه منه" لأنه احتسبت ماليته عنده فيسعى فيه كما في الورثة.
قال: "فإن كان مع المضارب ألف بالنصف فاشترى بها جارية قيمتها ألف فوطئها فجاءت بولد يساوي ألفا فادعاه ثم بلغت قيمة الغلام ألفا وخمسمائة والمدعي موسر، فإن شاء رب المال استسعى الغلام في ألف ومائتين وخمسين، وإن شاء أعتق" ووجه ذلك أن الدعوة صحيحة في الظاهر حملا على فراش النكاح، لكنه لم ينفذ لفقد شرطه وهو الملك لعدم ظهور الربح لأن كل واحد منهما: أعني الأم والولد مستحق برأس المال، كمال المضاربة إذا صار أعيانا كل عين منها يساوي رأس المال لا يظهر الربح كذا هذا، فإذا زادت قيمة الغلام الآن ظهر الربح فنفذت الدعوة السابقة، بخلاف ما إذا أعتق الولد ثم ازدادت القيمة. لأن ذلك إنشاء العتق، فإذا بطل لعدم الملك لا ينفذ بعد ذلك بحدوث الملك، أما هذا(3/203)
فإخبار فجاز أن ينفذ عند حدوث الملك كما إذا أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه، وإذا صحت الدعوة وثبت النسب عتق الولد لقيام ملكه في بعضه، ولا يضمن لرب المال شيئا من قيمة الولد لأن عتقه ثبت بالنسب والملك والملك آخرهما فيضاف إليه ولا صنع له فيه، وهذا ضمان إعتاق فلا بد من التعدي ولم يوجد "وله أن يستسعي الغلام" لأنه احتبست ماليته عنده، وله أن يعتق لأن المستسعى كالمكاتب عند أبي حنيفة، ويستسعيه في ألف ومائتين وخمسين، لأن الألف مستحق برأس المال والخمسمائة ربح والربح بينهما فلهذا يسعى له في هذا المقدار. ثم إذا قبض رب المال الألف له أن يضمن المدعي نصف قيمة الأم لأن الألف المأخوذ لما استحق برأس المال لكونه مقدما في الاستيفاء ظهر أن الجارية كلها ربح فيكون بينهما، وقد تقدمت دعوة صحيحة لاحتمال الفراش الثابت بالنكاح وتوقف نفاذها لفقد الملك، فإذا ظهر الملك نفذت تلك الدعوة وصارت الجارية أم ولد له ويضمن نصيب رب المال لأن هذا ضمان تملك وضمان التملك لا يستدعي صنعا كما إذا استولد جارية بالنكاح ثم ملكها هو وغيره وراثة يضمن نصيب شريكه كذا هذا؛ بخلاف ضمان الولد على ما مر.(3/204)
باب المضارب يضارب
مدخل
...
باب المضارب يضارب
قال: "وإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال لم يضمن بالدفع ولا يتصرف المضارب الثاني حتى يربح، فإذا ربح ضمن الأول لرب المال" وهذا رواية الحسن عن أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عمل به ضمن ربح أو لم يربح، وهذا ظاهر الرواية. وقال زفر رحمه الله: يضمن بالدفع عمل أو لم يعمل، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله لأن المملوك له الدفع على وجه الإيداع، وهذا الدفع على وجه المضاربة. ولهما أن الدفع إيداع حقيقة، وإنما يتقرر كونه للمضاربة بالعمل فكان الحال مراعى قبله. ولأبي حنيفة أن الدفع قبل العمل إيداع وبعده إبضاع، والفعلان يملكهما المضارب فلا يضمن بهما، إلا أنه إذا ربح فقد أثبت له شركة في المال فيضمن كما لو خلطه بغيره، وهذا إذا كانت المضاربة صحيحة، فإن كانت فاسدة لا يضمنه الأول، وإن عمل الثاني لأنه أجير فيه وله أجر مثله فلا تثبت الشركة به. ثم ذكر في الكتاب يضمن الأول ولم يذكر الثاني. وقيل ينبغي أن لا يضمن الثاني عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يضمن بناء على اختلافهم في مودع المودع. وقيل رب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع وهو المشهور، وهذا عندهما ظاهر وكذا عنده، ووجه الفرق له بين هذه وبين مودع المودع أن المودع الثاني يقبضه لمنفعة الأول فلا يكون ضامنا.(3/204)
أما المضارب الثاني يعمل فيه لنفع نفسه فجاز أن يكون ضامنا. ثم إن ضمن الأول صحت المضاربة بين الأول وبين الثاني وكان الربح بينهما على ما شرطا لأنه ظهر أنه ملكه بالضمان من حين خالف بالدفع إلى غيره لا على الوجه الذي رضي به فصار كما إذا دفع مال نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول بالعقد لأنه عامل له كما في المودع ولأنه مغرور من جهته في ضمن العقد. وتصح المضاربة والربح بينهما على ما شرطا لأن قرار الضمان على الأول فكأنه ضمنه ابتداء، ويطيب الربح للثاني ولا يطيب للأعلى لأن الأسفل يستحقه بعمله ولا خبث في العمل، والأعلى يستحقه بملكه المستند بأداء الضمان ولا يعرى عن نوع خبث.
قال: "فإذا دفع رب المال مضاربة بالنصف وأذن له بأن يدفعه إلى غيره فدفعه بالثلث وقد تصرف الثاني وربح، فإن كان رب المال قال له على أن ما رزق الله فهو بيننا نصفان فلرب المال النصف وللمضارب الثاني الثلث وللمضارب الأول السدس" لأن الدفع إلى الثاني مضاربة قد صح لوجود الأمر به من جهة المالك ورب المال شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى فلم يبق للأول إلا النصف فيتصرف تصرفه إلى نصيبه وقد جعل من ذلك بقدر ثلث الجميع للثاني فيكون له فلم يبق إلا السدس، ويطيب لهما ذلك لأن فعل الثاني واقع للأول كمن استؤجر على خياطة ثوب بدرهم واستأجر غيره عليه بنصف درهم "وإن كان قال له على أن ما رزقك الله فهو بيننا نصفان فللمضارب الثاني الثلث والباقي بين المضارب الأول ورب المال نصفان" لأنه فوض إليه التصرف وجعل لنفسه نصف ما رزق الأول وقد رزق الثلثين فيكون بينهما، بخلاف الأول لأنه جعل لنفسه نصف جميع الربح فافترقا "ولو كان قال له فما ربحت من شيء فبيني وبينك نصفان وقد دفع إلى غيره بالنصف فللثاني النصف والباقي بين الأول ورب المال" لأن الأول شرط للثاني نصف الربح وذلك مفوض إليه من جهة رب المال فيستحقه. وقد جعل رب المال لنفسه نصف ما ربح الأول ولم يربح إلا النصف فيكون بينهما "ولو كان قال له على أن ما رزق الله تعالى فلي نصفه أو قال فما كان من فضل فبيني وبينك نصفان وقد دفع إلى آخر مضاربة بالنصف فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ولا شيء للمضارب الأول" لأنه جعل لنفسه نصف مطلق الفضل فينصرف شرط الأول النصف للثاني إلى جميع نصيبه فيكون للثاني بالشرط ويخرج الأول بغير شيء، كمن استؤجر ليخيط ثوبا بدرهم فاستأجر غيره ليخيطه بمثله "وإن شرط للمضارب الثاني ثلثي الربح فلرب المال النصف وللمضارب الثاني النصف ويضمن المضارب الأول للثاني سدس الربح في ماله" لأنه شرط للثاني شيئا هو مستحق لرب المال(3/205)
فلم ينفذ في حقه لما فيه من الإبطال، لكن التسمية في نفسها صحيحة لكون المسمى معلوما في عقد يملكه وقد ضمن له السلامة فيلزمه الوفاء به، ولأنه غره في ضمن العقد وهو سبب الرجوع فلهذا يرجع عليه، وهو نظير من استؤجر لخياطة ثوب بدرهم فدفعه إلى من يخيطه بدرهم ونصف.(3/206)
فصل: وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح الخ
...
فصل: قال: "وإذا شرط المضارب لرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على أن يعمل معه ولنفسه ثلث الربح فهو جائز"
لأن للعبد يدا معتبرة خصوصا إذا كان مأذونا له واشتراط العمل إذن له، ولهذا لا يكون للمولى ولاية أخذ ما أودعه العبد وإن كان محجورا عليه، ولهذا يجوز بيع المولى من عبده المأذون له، وإذا كان كذلك لم يكن مانعا من التسليم والتخلية بين المال والمضارب، بخلاف اشتراط العمل على رب المال لأنه مانع من التسليم على ما مر، وإذا صحت المضاربة يكون الثلث للمضارب بالشرط والثلثان للمولى، لأن كسب العبد للمولى إذا لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين فهو للغرماء. هذا إذا كان العاقد هو المولى، "ولو عقد العبد المأذون عقد المضاربة مع أجنبي وشرط العمل على المولى لا يصح إن لم يكن عليه دين" لأن هذا اشتراط العمل على المالك، "وإن كان على العبد دين صح عند أبي حنيفة" لأن المولى بمنزلة الأجنبي عنده على ما عرف، والله أعلم.(3/206)
فصل: في العزل والقسمة
قال: "وإذا مات رب المال أو المضارب بطلت المضاربة" لأنه توكيل على ما تقدم، وموت الموكل يبطل الوكالة، وكذا موت الوكيل ولا تورث الوكالة وقد مر من قبل. "وإن ارتد رب المال عن الإسلام" والعياذ بالله "ولحق بدار الحرب بطلت المضاربة" لأن اللحوق بمنزلة الموت؛ ألا ترى أنه يقسم ماله بين ورثته وقبل لحوقه يتوقف تصرف مضاربه عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه يتصرف له فصار كتصرفه بنفسه "ولو كان المضارب هو المرتد فالمضاربة على حالها" لأن له عبارة صحيحة، ولا توقف في ملك رب المال فبقيت المضاربة.
قال: "فإن عزل رب المال المضارب ولم يعلم بعزله حتى اشترى وباع فتصرفه جائز" لأنه وكيل من جهته وعزل الوكيل قصدا يتوقف على علمه "وإن علم بعزله والمال عروض فله أن يبيعها ولا يمنعه العزل من ذلك" لأن حقه قد ثبت في الربح، وإنما يظهر بالقسمة وهي تبتنى على رأس المال، وإنما ينقض بالبيع.(3/206)
قال: "ثم لا يجوز أن يشتري بثمنها شيئا آخر" لأن العزل إنما لم يعمل ضرورة معرفة رأس المال وقد اندفعت حيث صار نقدا فيعمل العزل "فإن عزله ورأس المال دراهم أو دنانير وقد نضت لم يجز له أن يتصرف فيها" لأنه ليس في إعمال عزله إبطال حقه في الربح فلا ضرورة.
قال: وهذا الذي ذكره إذا كان من جنس رأس المال، فإن لم يكن بأن كان دراهم ورأس المال دنانير أو على القلب له أن يبيعها بجنس رأس المال استحسانا لأن الربح لا يظهر إلا به وصار كالعروض، وعلى هذا موت رب المال ولحوقه بعد الردة في بيع العروض ونحوها.
قال: "وإذا افترقا وفي المال ديون وقد ربح المضارب فيه أجبره الحاكم على اقتضاء الديون" لأنه بمنزلة الأجير والربح كالأجر له "وإن لم يكن له ربح لم يلزمه الاقتضاء" لأنه وكيل محض والمتبرع لا يجبر على إيفاء ما تبرع به، "ويقال له وكل رب المال في الاقتضاء" لأن حقوق العقد ترجع إلى العاقد، فلا بد من توكيله وتوكله كي لا يضيع حقه. وقال في الجامع الصغير: يقال له أجل مكان قوله وكل، والمراد منه الوكالة وعلى هذا سائر الوكالات والبياع والسمسار يجبران على التقاضي لأنهما يعملان بأجر عادة.
قال: "وما هلك من مال المضاربة فهو من الربح دون رأس المال" لأن الربح تابع وصرف الهلاك إلى ما هو التبع أولى كما يصرف الهلاك إلى العفو في الزكاة "فإن زاد الهالك على الربح فلا ضمان على المضارب" لأنه أمين "وإن كانا يقتسمان الربح والمضاربة بحالها ثم هلك المال بعضه أو كله ترادا الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال" لأن قسمة الربح لا تصح قبل استيفاء رأس المال لأنه هو الأصل وهذا بناء عليه وتبع له، فإذا هلك ما في يد المضارب أمانة تبين أن ما استوفياه من رأس المال، فيضمن المضارب ما استوفاه لأنه أخذه لنفسه وما أخذه رب المال محسوب من رأس ماله "وإذا استوفى رأس المال، فإن فضل شيء كان بينهما لأنه ربح وإن نقص فلا ضمان على المضارب" لما بينا "ولو اقتسما الربح وفسخا المضاربة ثم عقداها فهلك المال لم يترادا الربح الأول" لأن المضاربة الأولى قد انتهت والثانية عقد جديد، وهلاك المال في الثاني لا يوجب انتقاض الأول كما إذا دفع إليه مالا آخر.(3/207)
فصل: فيما يفعله المضارب
قال: "ويجوز للمضارب أن يبيع بالنقد والنسيئة" لأن كل ذلك من صنيع(3/207)
التجار فينتظمه إطلاق العقد إلا إذا باع إلى أجل لا يبيع التجار إليه لأن له الأمر العام المعروف بين الناس، ولهذا كان له أن يشتري دابة للركوب، وليس له أن يشتري سفينة للركوب، وله أن يستكريها اعتبارا لعادة التجار، وله أن يأذن لعبد المضاربة في التجارة في الرواية المشهورة لأنه من صنيع التجار. ولو باع بالنقد ثم أخر الثمن جاز بالإجماع، أما عندهما فلأن الوكيل يملك ذلك فالمضارب أولى، إلا أن المضارب لا يضمن لأن له أن يقايل ثم يبيع نسيئة، ولا كذلك الوكيل لأنه لا يملك ذلك. وأما عند أبي يوسف فلأنه يملك الإقالة ثم البيع بالنساء. بخلاف الوكيل لأنه لا يملك الإقالة.
"ولو احتال بالثمن على الأيسر أو الأعسر جاز" لأن الحوالة من عادة التجار، بخلاف الوصي يحتال بمال اليتيم حيث يعتبر فيه الأنظر، لأن تصرفه مقيد بشرط النظر، والأصل أن ما يفعله المضارب ثلاثة أنواع:
نوع يملكه بمطلق المضاربة وهو ما يكون من باب المضاربة وتوابعها وهو ما ذكرنا، ومن جملته التوكيل بالبيع والشراء للحاجة إليه والرهن والارتهان لأنه إيفاء واستيفاء والإجارة والاستئجار والإيداع والإبضاع والمسافرة على ما ذكرناه من قبل.
ونوع لا يملكه بمطلق العقد ويملكه إذا قيل له اعمل برأيك، وهو ما يحتمل أن يلحق به فيلحق عند وجود الدلالة، وذلك مثل دفع المال مضاربة أو شركة إلى غيره وخلط مال المضاربة بماله أو بمال غيره لأن رب المال رضي بشركته لا بشركة غيره، وهو أمر عارض لا يتوقف عليه التجارة فلا يدخل تحت مطلق العقد ولكنه جهة في التثمير، فمن هذا الوجه يوافقه فيدخل فيه عند وجود الدلالة وقوله اعمل برأيك دلالة على ذلك.
ونوع لا يملكه بمطلق العقد ولا بقوله اعمل برأيك إلا أن ينص عليه رب المال وهو الاستدانة، وهو أن يشتري بالدراهم والدنانير بعدما اشترى برأس المال السلعة وما أشبه ذلك لأنه يصير المال زائدا على ما انعقد عليه المضاربة ولا يرضى به ولا يشغل ذمته بالدين، ولو أذن له رب المال بالاستدانة صار المشترى بينهما نصفين بمنزلة شركة الوجوه وأخذ السفاتج لأنه نوع من الاستدانة، وكذا إعطاؤها لأنه إقراض والعتق بمال وبغير مال والكتابة لأنه ليس بتجارة والإقراض والهبة والصدقة لأنه تبرع محض.
قال: "ولا يزوج عبدا ولا أمة من مال المضاربة" وعن أبي يوسف أنه يزوج الأمة لأنه من باب الاكتساب؛ ألا ترى أنه يستفيد به المهر وسقوط النفقة. ولهما أنه ليس بتجارة والعقد لا يتضمن إلا التوكيل بالتجارة وصار كالكتابة والإعتاق على مال لأنه(3/208)
اكتساب، ولكن لما لم يكن تجارة لا يدخل تحت المضاربة فكذا هذا.
قال: "فإن دفع شيئا من مال المضاربة إلى رب المال بضاعة فاشترى رب المال وباع فهو على المضاربة" وقال زفر: تفسد المضاربة لأن رب المال متصرف في مال نفسه فلا يصلح وكيلا فيه فيصير مستردا ولهذا لا تصح إذا شرط العمل عليه ابتداء. ولنا أن التخلية فيه قد تمت وصار التصرف حقا للمضارب فيصلح رب المال وكيلا عنه في التصرف والإبضاع توكيل منه فلا يكون استردادا، بخلاف شرط العمل عليه في الابتداء لأنه يمنع التخلية، وبخلاف ما إذا دفع المال إلى رب المال مضاربة حيث لا يصح لأن المضاربة تنعقد شركة على مال رب المال وعمل المضارب ولا مال هاهنا، فلو جوزناه يؤدي إلى قلب الموضوع، وإذا لم تصح بقي عمل رب المال بأمر المضارب فلا تبطل به المضاربة الأولى.
قال: "وإذا عمل المضارب في المصر فليست نفقته في المال، وإن سافر فطعامه وشرابه وكسوته وركوبه" ومعناه شراء وكراء في المال. ووجه الفرق أن النفقة تجب بإزاء الاحتباس كنفقة القاضي ونفقة المرأة، والمضارب في المصر ساكن بالسكنى الأصلي، وإذا سافر صار محبوسا بالمضاربة فيستحق النفقة فيه، وهذا بخلاف الأجير لأنه يستحق البدل لا محالة فلا يتضرر بالإنفاق من ماله، أما المضارب فليس له إلا الربح وهو في حيز التردد، فلو أنفق من ماله يتضرر به، وبخلاف المضاربة الفاسدة لأنه أجير، وبخلاف البضاعة لأنه متبرع.
قال: "فإن بقي شيء في يده بعدما قدم مصره رده في المضاربة" لانتهاء الاستحقاق، ولو كان خروجه دون السفر فإن كان بحيث يغدو ثم يروح فيبيت بأهله فهو بمنزلة السوقي في المصر، وإن كان بحيث لا يبيت بأهله فنفقته في مال المضاربة لأن خروجه للمضاربة، والنفقة هي ما يصرف إلى الحاجة الراتبة وهو ما ذكرنا، ومن ذلك غسل ثيابه وأجرة أجير يخدمه وعلف دابة يركبها والدهن في موضع يحتاج إليه عادة كالحجاز، وإنما يطلق في جميع ذلك بالمعروف حتى يضمن الفضل إن جاوزه اعتبارا للمتعارف بين التجار.
قال: "وأما الدواء ففي ماله" في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدخل في النفقة لأنه لإصلاح بدنه ولا يتمكن من التجارة إلا به فصار كالنفقة، وجه الظاهر أن الحاجة إلى النفقة معلومة الوقوع وإلى الدواء بعارض المرض، ولهذا كانت نفقة المرأة على الزوج ودواؤها في مالها.(3/209)
قال: "وإذا ربح أخذ رب المال ما أنفق من رأس المال، فإن باع المتاع مرابحة حسب ما أنفق على المتاع من الحملان ونحوه، ولا يحتسب ما أنفق على نفسه" لأن العرف جار بإلحاق الأول دون الثاني، ولأن الأول يوجب زيادة في المالية بزيادة القيمة والثاني لا يوجبها.
قال: "فإن كان معه ألف فاشترى بها ثيابا فقصرها أو حملها بمائة من عنده وقد قيل له اعمل برأيك فهو متطوع" لأنه استدانة على رب المال فلا ينتظمه هذا المقال على ما مر "وإن صبغها أحمر فهو شريك بما زاد الصبغ فيه ولا يضمن" لأنه عين مال قائم به حتى إذا بيع كان له حصة الصبغ وحصة الثوب الأبيض على المضاربة بخلاف القصارة والحمل لأنه ليس بعين مال قائم به، ولهذا إذا فعله الغاصب ضاع ولا يضيع إذا صبغ المغصوب، وإذا صار شريكا بالصبغ انتظمه قوله اعمل برأيك انتظامه الخلطة فلا يضمنه.(3/210)
فصل: فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها بزا فباعه بألفين الخ
...
فصل آخر: قال "فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها بزا فباعه بألفين ثم اشترى بالألفين عبدا فلم ينقدهما حتى ضاعا يغرم رب المال ألفا وخمسمائة والمضارب خمسمائة ويكون ربع العبد للمضارب وثلاثة أرباعه على المضاربة".
قال رحمه الله: هذا الذي ذكره حاصل الجواب، لأن الثمن كله على المضارب إذ هو العاقد، إلا أن له حق الرجوع على رب المال بألف وخمسمائة على ما نبين فيكون عليه في الأجرة. ووجهه أنه لما نض المال ظهر الربح وله منه وهو خمسمائة، فإذا اشترى بالألفين عبدا صار مشتريا ربعه لنفسه وثلاثة أرباعه للمضاربة على حسب انقسام الألفين، وإذا ضاعت الألفان وجب عليه الثمن لما بيناه، وله الرجوع بثلاثة أرباع الثمن على رب المال لأنه وكيل من جهته فيه ويخرج نصيب المضارب وهو الربع من المضاربة لأنه مضمون عليه ومال المضاربة أمانة وبينهما منافاة ويبقى ثلاثة أرباع العبد على المضاربة لأنه ليس فيه ما ينافي المضاربة "ويكون رأس المال ألفين وخمسمائة" لأنه دفع مرة ألفا ومرة ألفا وخمسمائة "ولا يبيعه مرابحة إلا على ألفين" لأنه اشتراه بألفين، ويظهر ذلك فيما إذا بيع العبد بأربعة آلاف فحصة المضاربة ثلاثة آلاف يرفع رأس المال ويبقى خمسمائة ربح بينهما.
قال: "وإن كان معه ألف فاشترى رب المال عبدا بخمسمائة وباعه إياه بألف فإنه يبيعه مرابحة على خمسمائة" لأن هذا البيع مقضي بجوازه لتغاير المقاصد دفعا للحاجة وإن كان بيع ملكه بملكه إلا أن فيه شبهة العدم، ومبنى المرابحة على الأمانة والاحتراز عن شبهة(3/210)
الخيانة فاعتبر أقل الثمنين، ولو اشترى المضارب عبدا بألف وباعه من رب المال بألف ومائتين باعه مرابحة بألف ومائة لأنه اعتبر عدما في حق نصف الربح وهو نصيب رب المال وقد مر في البيوع.
قال: "فإن كان معه ألف بالنصف فاشترى بها عبدا قيمته ألفان فقتل العبد رجلا خطأ فثلاثة أرباع الفداء على رب المال وربعه على المضارب" لأن الفداء مؤنة الملك فيتقدر بقدر الملك وقد كان الملك بينهما أرباعا، لأنه لما صار المال عينا واحدا ظهر الربح وهو ألف بينهما وألف لرب المال برأس ماله لأن قيمته ألفان، وإذا فديا خرج العبد عن المضاربة، أما نصيب المضارب فلما بيناه، وأما نصيب رب المال فلقضاء القاضي بانقسام الفداء عليهما لما أنه يتضمن قسمة العبد بينهما والمضاربة تنتهي بالقسمة، بخلاف ما تقدم لأن جميع الثمن فيه على المضارب وإن كان له حق الرجوع فلا حاجة إلى القسمة، ولأن العبد كالزائل عن ملكهما بالجناية، ودفع الفداء كابتداء الشراء فيكون العبد بينهما أرباعا لا على المضاربة يخدم المضارب يوما ورب المال ثلاثة أيام، بخلاف ما تقدم.
قال: "فإن كان معه ألف فاشترى بها عبدا فلم ينقدها حتى هلكت يدفع رب المال ذلك الثمن ورأس المال جميع ما يدفع إليه رب المال" لأن المال أمانة في يده ولا يصير مستوفيا، والاستيفاء إنما يكون بقبض مضمون وحكم الأمانة ينافيه فيرجع مرة بعد أخرى، بخلاف الوكيل إذا كان الثمن مدفوعا إليه قبل الشراء وهلك بعد الشراء حيث لا يرجع إلا مرة لأنه أمكن جعله مستوفيا، لأن الوكالة تجامع الضمان كالغاصب إذا توكل ببيع المغصوب، ثم في الوكالة في هذه الصورة يرجع مرة، وفيما إذا اشترى ثم دفع الموكل إليه المال فهلك لا يرجع لأنه ثبت له حق الرجوع بنفس الشراء فجعل مستوفيا بالقبض بعده، أما المدفوع إليه قبل الشراء أمانة في يده وهو قائم على الأمانة بعده فلم يصر مستوفيا، فإذا هلك رجع عليه مرة ثم لا يرجع لوقوع الاستيفاء على ما مر.(3/211)
فصل: في الاختلاف
قال: "وإن كان مع المضارب ألفان فقال دفعت إلي ألفا وربحت ألفا وقال رب المال لا بل دفعت إليك ألفين فالقول قول المضارب" وكان أبو حنيفة يقول أولا القول قول رب المال وهو قول زفر، لأن المضارب يدعي عليه الشركة في الربح وهو ينكر والقول قول المنكر، ثم رجع إلى ما ذكر في الكتاب لأن الاختلاف في الحقيقة في مقدار المقبوض وفي مثله القول قول القابض ضمينا كان أو أمينا لأنه أعرف بمقدار المقبوض؛(3/211)
ولو اختلفا مع ذلك في مقدار الربح فالقول فيه لرب المال لأن الربح يستحق بالشرط وهو يستفاد من جهته، وأيهما أقام البينة على ما ادعى من فضل قبلت لأن البينات للإثبات.
قال: "ومن كان معه ألف درهم فقال هي مضاربة لفلان بالنصف وقد ربح ألفا وقال فلان هي بضاعة فالقول قول رب المال" لأن المضارب يدعي عليه تقويم عمله أو شرطا من جهته أو يدعي الشركة وهو ينكر، "ولو قال المضارب أقرضتني وقال رب المال هو بضاعة أو وديعة فالقول لرب المال والبينة بينة المضارب"، لأن المضارب يدعي عليه التملك وهو ينكر. "ولو ادعى رب المال المضاربة في نوع وقال الآخر ما سميت لي تجارة بعينها فالقول للمضارب" لأن الأصل فيه العموم والإطلاق، والتخصيص يعارض الشرط، بخلاف الوكالة لأن الأصل فيه الخصوص. "ولو ادعى كل واحد منهما نوعا فالقول لرب المال" لأنهما اتفقا على التخصيص، والإذن يستفاد من جهته، والبينة بينة المضارب لحاجته إلى نفي الضمان وعدم حاجة الآخر إلى البينة، ولو وقتت البينتان وقتا فصاحب الوقت الأخير أولى لأن آخر الشرطين ينقض الأول.(3/212)
كتاب الوديعة
تعريفها وحالاتها
...
كتاب الوديعة
قال: "الوديعة أمانة في يد المودع إذا هلكت لم يضمنها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" ولأن بالناس حاجة إلى الاستيداع، فلو ضمناه يمتنع الناس عن قبول الودائع فتتعطل مصالحهم.
قال: "وللمودع أن يحفظها بنفسه وبمن في عياله" لأن الظاهر أنه يلتزم حفظ مال غيره على الوجه الذي يحفظ مال نفسه، ولأنه لا يجد بدا من الدفع إلى عياله لأنه لا يمكنه ملازمة بيته ولا استصحاب الوديعة في خروجه فكان المالك راضيا به "فإن حفظها بغيرهم أو أودعها غيرهم ضمن" لأن المالك رضي بيده لا بيد غيره، والأيدي تختلف في الأمانة، ولأن الشيء لا يتضمن مثله كالوكيل لا يوكل غيره، والوضع في حرز غيره إيداع، إلا إذا استأجر الحرز فيكون حافظا بحرز نفسه.
قال: "إلا أن يقع في داره حريق فيسلمها إلى جاره أو يكون في سفينة فخاف الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى" لأنه تعين طريقا للحفظ في هذه الحالة فيرتضيه المالك، ولا يصدق على ذلك إلا ببينة لأنه يدعي ضرورة مسقطة للضمان بعد تحقق السبب فصار كما إذا ادعى الإذن في الإيداع.
قال: "فإن طلبها صاحبها فحبسها وهو يقدر على تسليمها ضمنها" لأنه متعد بالمنع، وهذا لأنه لما طالبه لم يكن راضيا بإمساكه بعده فيضمنه بحبسه عنه.
قال: "وإن خلطها المودع بماله حتى لا تتميز ضمنها ثم لا سبيل للمودع عليها عند أبي حنيفة وقالا: إذا خلطها بجنسها شركه إن شاء" مثل أن يخلط الدراهم البيض بالبيض والسود بالسود والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير. لهما أنه لا يمكنه الوصول إلى عين حقه صورة وأمكنه معنى بالقسمة فكان استهلاكا من وجه دون وجه فيميل إلى أيهما شاء. وله أنه استهلاك من كل وجه لأنه فعل يتعذر معه الوصول إلى عين حقه، ولا معتبر بالقسمة لأنها من موجبات الشركة فلا تصلح موجبة لها، ولو أبرأ الخالط لا سبيل له على المخلوط عند أبي حنيفة لأنه لا حق له إلا في الدين وقد سقط، وعندهما بالإبراء تسقط خيرة الضمان فيتعين الشركة في المخلوط، وخلط الخل بالزيت وكل مائع بغير جنسه(3/213)
يوجب انقطاع حق المالك إلى الضمان، وهذا بالإجماع لأنه استهلاك صورة وكذا معنى لتعذر القسمة باعتبار اختلاف الجنس، ومن هذا القبيل خلط الحنطة بالشعير في الصحيح لأن أحدهما لا يخلو عن حبات الآخر فتعذر التمييز والقسمة. ولو خلط المائع بجنسه فعند أبي حنيفة ينقطع حق المالك إلى ضمان لما ذكرنا، وعند أبي يوسف يجعل الأقل تابعا للأكثر اعتبارا للغالب أجزاء، وعند محمد شركه بكل حال لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما مر في الرضاع، ونظيره خلط الدراهم بمثلها إذابة لأنه يصير مائعا بالإذابة.
قال: "وإن اختلطت بماله من غير فعله فهو شريك لصاحبها" كما إذا انشق الكيسان فاختلطا لأنه لا يضمنها لعدم الصنع منه فيشتركان وهذا بالاتفاق.
قال: "فإن أنفق المودع بعضها ثم رد مثله فخلطها بالباقي ضمن الجميع" لأنه خلط مال غيره بماله فيكون استهلاكا على الوجه الذي تقدم. قال: "وإذا تعدى المودع في الوديعة بأن كانت دابة فركبها أو ثوبا فلبسه أو عبدا فاستخدمه أو أودعها غيره ثم أزال التعدي فردها إلى يده زال الضمان" وقال الشافعي: لا يبرأ عن الضمان لأن عقد الوديعة ارتفع حين صار ضامنا للمنافاة فلا يبرأ إلا بالرد على المالك ولنا أن الأمر باق لإطلاقه، وارتفاع حكم العقد ضرورة ثبوت نقيضه، فإذا ارتفع عاد حكم العقد، كما إذا استأجره للحفظ شهرا فترك الحفظ في بعضه ثم حفظ في الباقي فحصل الرد إلى نائب المالك.
قال: "فإن طلبها صاحبها فجحدها ضمنها" لأنه لما طالبه بالرد فقد عزله عن الحفظ فبعد ذلك هو بالإمساك غاصب مانع فيضمنها، فإن عاد إلى الاعتراف لم يبرأ عن الضمان لارتفاع العقد، إذ المطالبة بالرد رفع من جهته والجحود فسخ من جهة المودع كجحود الوكيل الوكالة وجحود أحد المتعاقدين البيع فتم الرفع، أو لأن المودع ينفرد بعزل نفسه بمحضر من المستودع كالوكيل يملك عزل نفسه بحضرة الموكل، وإذا ارتفع لا يعود إلا بالتجديد فلم يوجد الرد إلى نائب المالك، بخلاف الخلاف ثم العود إلى الوفاق، ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند أبي يوسف خلافا لزفر لأن الجحود عند غيره من باب الحفظ لأن فيه قطع طمع الطامعين، ولأنه لا يملك عزل نفسه بغير محضر منه أو طلبه فبقي الأمر بخلاف ما إذا كان بحضرته.
قال: "وللمودع أن يسافر الوديعة وإن كان لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة وقالا: ليس له ذلك إذا كان لها حمل ومؤنة" وقال الشافعي: ليس له ذلك في(3/214)
الوجهين، لأبي حنيفة رحمه الله إطلاق الأمر، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنا ولهذا يملك الأب والوصي في مال الصبي. ولهما أنه تلزمه مؤنة الرد فيما له حمل ومؤنة، والظاهر أنه لا يرضى به فيتقيد، والشافعي يقيده بالحفظ المتعارف وهو الحفظ في الأمصار وصار كالاستحفاظ بأجر.
قلنا: مؤنة الرد تلزمه في ملكه ضرورة امتثال أمره فلا يبالي به والمعتاد كونهم في المصر لا حفظهم، ومن يكون في المفازة يحفظ ماله فيها، بخلاف الاستحفاظ بأجر لأنه عقد معاوضة فيقتضي التسليم في مكان العقد "وإذا نهاه المودع أن يخرج الوديعة فخرج بها ضمن" لأن التقييد مفيد إذ الحفظ في المصر أبلغ فكان صحيحا.
قال: "وإذا أودع رجلان عند رجل وديعة فحضر أحدهما وطلب نصيبه منها لم يدفع إليه حتى يحضر الآخر عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع إليه نصيبه" وفي الجامع الصغير: ثلاثة استودعوا رجلا ألفا فغاب اثنان فليس للحاضر أن يأخذ نصيبه عنده، وقالا: له ذلك، والخلاف في المكيل والموزون، وهو المراد بالمذكور في المختصر. لهما أنه طالبه بدفع نصيبه فيؤمر بالدفع إليه كما في الدين المشترك، وهذا لأنه يطالبه بتسليم ما سلم إليه وهو النصف، وهذا كان له أن يأخذه فكذا يؤمر هو بالدفع إليه. ولأبي حنيفة أنه طالبه بدفع نصيب الغائب لأنه يطالبه بالمفرز وحقه في المشاع، والمفرز المعين يشتمل على الحقين، ولا يتميز حقه إلا بالقسمة، وليس للمودع ولاية القسمة ولهذا لا يقع دفعه قسمة بالإجماع، بخلاف الدين المشترك لأنه يطالبه بتسليم حقه لأن الديون تقضى بأمثالها. قوله له أن يأخذه.
قلنا: ليس من ضرورته أن يجبر المودع على الدفع كما إذا كان له ألف درهم وديعة عند إنسان وعليه ألف لغيره فلغريمه أن يأخذه إذا ظفر به، وليس للمودع أن يدفعه إليه.
قال: "وإن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظ أحدهما بإذن الآخر" وهذا عند أبي حنيفة، وكذلك الجواب عنده في المرتهنين والوكيلين بالشراء إذا سلم أحدهما إلى الآخر. وقالا: لأحدهما أن يحفظ بإذن الآخر في الوجهين. لهما أنه رضي بأمانتهما فكان لكل واحد منهما أن يسلم إلى الآخر ولا يضمنه كما فيما لا يقسم. وله أنه رضي بحفظهما ولم يرض بحفظ أحدهما كله لأن الفعل متى أضيف إلى ما يقبل الوصف بالتجزي تناول البعض دون الكل فوقع التسليم إلى الآخر من غير رضا(3/215)
المالك فيضمن الدافع ولا يضمن القابض لأن مودع المودع عنده لا يضمن، وهذا بخلاف ما لا يقسم لأنه لما أودعهما ولا يمكنهما الاجتماع عليه آناء الليل والنهار وأمكنهما المهايأة كان المالك راضيا بدفع الكل إلى أحدهما في بعض الأحوال.
قال: "وإذا قال صاحب الوديعة للمودع لا تسلمه إلى زوجتك فسلمها إليها لا يضمن. وفي الجامع الصغير: إذا نهاه أن يدفعها إلى أحد من عياله فدفعها إلى من لا بد له منه لا يضمن" كما إذا كانت الوديعة دابة فنهاه عن الدفع إلى غلامه، وكما إذا كانت شيئا يحفظ في يد النساء فنهاه عن الدفع إلى امرأته وهو محمل الأول لأنه لا يمكن إقامة العمل مع مراعاة هذا الشرط، وإن كان مفيدا فيلغو "وإن كان له منه بد ضمن" لأن الشرط مفيد لأن من العيال من لا يؤتمن على المال وقد أمكن العمل به مع مراعاة هذا الشرط فاعتبر "وإن قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر من الدار لم يضمن" لأن الشرط غير مفيد، فإن البيتين في دار واحدة لا يتفاوتان في الحرز "وإن حفظها في دار أخرى ضمن" لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فكان مفيدا فيصح التقييد، ولو كان التفاوت بين البيتين ظاهرا بأن كانت الدار التي فيها البيتان عظيمة والبيت الذي نهاه عن الحفظ فيه عورة ظاهرة صح الشرط.
قال: "ومن أودع رجلا وديعة فأودعها آخر فهلكت فله أن يضمن الأول وليس له أن يضمن الثاني، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الآخر رجع على الأول" لهما أنه قبض المال من يد ضمين فيضمنه كمودع الغاصب، وهذا لأن المالك لم يرض بأمانة غيره، فيكون الأول متعديا بالتسليم والثاني بالقبض فيخير بينهما، غير أنه إن ضمن الأول لم يرجع على الثاني لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه أودع ملك نفسه، وإن ضمن الثاني رجع على الأول لأنه عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة، وله أنه قبض المال من يد أمين لأنه بالدفع لا يضمن ما لم يفارقه لحضور رأيه فلا تعدي منهما فإذا فارقه فقد ترك الحفظ الملتزم فيضمنه بذلك، وأما الثاني فمستمر على الحالة الأولى ولم يوجد منه صنع فلا يضمنه كالريح إذا ألقت في حجره ثوب غيره.
قال: "ومن كان في يده ألف فادعاه رجلان كل واحد منهما أنها له أودعها إياه وأبى أن يحلف لهما فالألف بينهما وعليه ألف أخرى بينهما" وشرح ذلك أن دعوى كل واحد صحيحة لاحتمالها الصدق فيستحق الحلف على المنكر بالحديث ويحلف لكل واحد منهما على الانفراد لتغاير الحقين، وبأيهما بدأ القاضي جاز لتعذر الجمع بينهما وعدم الأولوية. ولو تشاحا أقرع بينهما تطييبا لقلبهما ونفيا لتهمة الميل، ثم إن حلف لأحدهما يحلف(3/216)
للثاني، فإن حلف فلا شيء لهما لعدم الحجة، وإن نكل أعني للثاني يقضي له لوجود الحجة، وإن نكل للأول يحلف للثاني ولا يقضي بالنكول، بخلاف ما إذا أقر لأحدهما لأن الإقرار حجة موجبة بنفسه فيقضي به.
أما النكول إنما يصير حجة عند القضاء فجاز أن يؤخره ليحلف للثاني فينكشف وجه القضاء، ولو نكل للثاني أيضا يقضي بها بينهما نصفين على ما ذكر في الكتاب لاستوائهما في الحجة كما إذا أقاما البينة ويغرم ألفا أخرى بينهما لأنه أوجب الحق لكل واحد منهما ببذله أو بإقراره وذلك حجة في حقه، وبالصرف إليهما صار قاضيا نصف حق كل واحد بنصف حق الآخر فيغرمه، فلو قضى القاضي للأول حين نكل ذكر الإمام علي البزدوي في شرح الجامع الصغير أنه يحلف للثاني وإذا نكل يقضي بها بينهما لأن القضاء للأول لا يبطل حق الثاني لأنه يقدمه إما بنفسه أو بالقرعة وكل ذلك لا يبطل حق الثاني. وذكر الخصاف أنه ينفذ قضاؤه للأول، ووضع المسألة في العبد وإنما نفذ لمصادفته محل الاجتهاد لأن من العلماء من قال يقضي للأول ولا ينتظر لكونه إقرار دلالة ثم لا يحلف للثاني ما هذا العبد لي لأن نكوله لا يفيد بعدما صار للأول، وهل يحلفه بالله ما لهذا عليك هذا العبد ولا قيمته وهو كذا وكذا ولا أقل منه. قال: ينبغي أن يحلفه عند محمد رحمه الله خلافا لأبي يوسف بناء على أن المودع إذا أقر الوديعة ودفع بالقضاء إلى غيره يضمنه عند محمد خلافا له وهذه فريعة تلك المسألة وقد وقع فيه بعض الإطناب والله أعلم بالصواب.(3/217)
كتاب العارية
حكمها وصحتها
...
كتاب العارية
قال: "العارية جائزة"؛ لأنها نوع إحسان "وقد استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعا من صفوان", "وهي تمليك المنافع بغير عوض" وكان الكرخي رحمه الله يقول: هو إباحة الانتفاع بملك الغير، لأنها تنعقد بلفظة الإباحة، ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك ولذلك يعمل فيها النهي، ولا يملك الإجارة من غيره، ونحن نقول: إنه ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية ولهذا تنعقد بلفظ التمليك، والمنافع قابلة للملك كالأعيان.
والتمليك نوعان: بعوض، وبغير عوض. ثم الأعيان تقبل النوعين، فكذا المنافع، والجامع دفع الحاجة، ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك، كما في الإجارة، فإنها تنعقد بلفظة الإباحة، وهي تمليك. والجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة. ولأن الملك يثبت بالقبض وهو الانتفاع. وعند ذلك لا جهالة، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه. ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "وتصح بقوله أعرتك"؛ لأنه صريح فيه "وأطعمتك هذه الأرض"؛ لأنه مستعمل فيه "ومنحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة"؛ لأنهما لتمليك العين، وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا.
قال: "وأخدمتك هذا العبد"؛ لأنه أذن له في استخدامه "وداري لك سكنى"؛ لأن معناه سكناها لك "وداري لك عمرى سكنى"؛ لأنه جعل سكناها له مدة عمره. وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك؛ لأنه يحتمل تمليك المنافع فحمل عليه بدلالة آخره.
قال: "وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء" لقوله عليه الصلاة والسلام: "المنحة مردودة والعارية مؤداة" ولأن المنافع تملك شيئا فشيئا على حسب حدوثها فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض فيصح الرجوع عنه.
قال: "والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن" وقال الشافعي رحمه الله: يضمن(3/218)
لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه، والإذن ثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه، ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء. ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان؛ لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها، والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه، والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار فإنها على المستعير لا لنقض القبض. والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه.
قال: "وليس للمستعير أن يؤاجر ما استعاره؛ فإن آجره فعطب ضمن"؛ لأن الإعارة دون الإجارة والشيء لا يتضمن ما هو فوقه، ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازما؛ لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة فأبطلناه، وضمنه حين سلمه؛ لأنه إذا لم تتناوله العارية كان غصبا، وإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك لنفسه، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه آجر ملك نفسه، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤاجر إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور، بخلاف ما إذا علم.
قال: "وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل" وقال الشافعي: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل، والمباح له لا يملك الإباحة، وهذا؛ لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة. وقد اندفعت بالإباحة هاهنا. ونحن نقول: هو تمليك المنافع على ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة، والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة، وإنما لا تجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره.
قال رضي الله عنه: وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة. وهي على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا بالإطلاق.
والثاني: أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا بالتقييد إلا إذا(3/219)
كان خلافا إلى مثل ذلك أو إلى خير منه والحنطة مثل الحنطة، والشعير خير من الحنطة إذا كان كيلا. والثالث: أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع.
والرابع: عكسه وليس له أن يتعدى ما سماه، فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت. وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفا؛ لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه، ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمنه؛ لأنه تعين الإركاب.
قال: "وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض"؛ لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها فاقتضى تمليك العين ضرورة وذلك بالهبة أو بالقرض والقرض أدناهما فيثبت. أو؛ لأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد العين فأقيم رد المثل مقامه. قالوا: هذا إذا أطلق الإعارة.
وأما إذا عين الجهة بأن استعار دراهم ليعاير بها ميزانا أو يزين بها دكانا لم يكن قرضا ولم يكن له إلا المنفعة المسماة، وصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها أو سيفا محلى يتقلده.
قال: " وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس فيها جاز وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس" أما الرجوع فلما بينا، وأما الجواز فلأنها منفعة معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة. وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير فيكلف تفريغها، ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرناه ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد "وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع"؛ لأنه مغرور من جهته حيث وقت له، والظاهر هو الوفاء بالعهد ويرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه. كذا ذكره القدوري في المختصر. وذكر الحاكم الشهيد أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه وبنائه ويكونان له، إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما فيكون له ذلك؛ لأنه ملكه. قالوا: إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل والمستعير صاحب تبع والترجيح بالأصل، "ولو استعارها ليزرعها لم تؤخذ منه حتى يحصد الزرع وقت أو لم يوقت"؛ لأن له نهاية معلومة، وفي الترك مراعاة الحقين، بخلاف الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك.
قال: "وأجرة رد العارية على المستعير"؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة(3/220)
نفسه والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه "وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر" لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة للمؤجر معنى فلا يكون عليه مؤنة رده "وأجرة رد العين المغصوبة على الغاصب"؛ لأن الواجب عليه الرد والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه فتكون مؤنته عليه.
قال: "وإذا استعار دابة فردها إلى إصطبل مالكها فهلكت لم يضمن" وهذا استحسان، وفي القياس يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها. وجه الاستحسان أنه أتي بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار الملاك معتاد كآلة البيت، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى المربط. فصح رده "وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن" لما بينا "ولو رد المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن"؛ لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك بالرد إلى المالك دون غيره، الوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه، بخلاف العواري؛ لأن فيها عرفا، حتى لو كانت العارية عقد جوهر لم يردها إلا إلى المعير؛ لعدم ما ذكرناه من العرف فيه.
قال: "ومن استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره لم يضمن" والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة، وله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة، بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس في عياله. "وكذا إذا ردها مع عبد رب الدابة أو أجيره"؛ لأن المالك يرضى به؛ ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده إلى عبده، وقيل هذا في العبد الذي يقوم على الدواب، وقيل فيه وفي غيره وهو الأصح؛ لأنه إن كان لا يدفع إليه دائما يدفع إليه أحيانا "وإن ردها مع أجنبي ضمن" ودلت المسألة على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا كما قاله بعض المشايخ، وقال بعضهم: يملكه لأنه دون الإعارة، وأولوا هذه المسألة بإنهاء الإعارة لانقضاء المدة.
قال: "ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يكتب إنك أعرتني"؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له والكتابة بالموضوع له أولى كما في إعارة الدار. وله أن لفظة الإطعام أدل على المراد؛ لأنها تخص الزراعة والإعارة تنتظمها وغيرها كالبناء ونحوه فكانت الكتابة بها أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب.(3/221)
كتاب الهبة
حكمها وكيفية انعقادها
...
كتاب الهبة
الهبة عقد مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: "تهادوا تحابوا" وعلى ذلك انعقد الإجماع "وتصح بالإيجاب والقبول والقبض" أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد، والعقد ينعقد بالإيجاب، والقبول، والقبض لا بد منه لثبوت الملك. وقال مالك: يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع، وعلى هذا الخلاف الصدقة. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" والمراد نفي الملك، لأن الجواز بدونه ثابت، ولأنه عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به، وهو التسليم فلا يصح، بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت ولا إلزام على المتبرع؛ لعدم أهلية اللزوم، وحق الوارث متأخر عن الوصية فلم يملكها.
قال: "فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز" استحسانا "وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض" والقياس أن لا يجوز في الوجهين وهو قول الشافعي؛ لأن القبض تصرف في ملك الواهب، إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح بدون إذنه، ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك، والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق؛ لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس؛ لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح.
قال: "وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت"؛ لأن الأول صريح فيه والثاني مستعمل فيه. قال عليه الصلاة والسلام: "أكل أولادك نحلت مثل هذا؟ " وكذلك الثالث، يقال: أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد "وكذا تنعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحملان الهبة" أما الأول فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، بخلاف ما إذا قال: أطعمتك هذه الأرض حيث تكون عارية؛ لأن عينها لا تطعم فيكون المراد أكل غلتها؛ وأما(3/222)
الثاني فلأن حرف اللام للتمليك. وأما الثالث فلقوله عليه الصلاة والسلام "فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده" وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمرى لما قلنا. وأما الرابع فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل الهبة، يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته.
"ولو قال كسوتك هذا الثوب يكون هبة"؛ لأنه يراد به التمليك، قال الله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا: أي ملكه منه "ولو قال منحتك هذه الجارية كانت عارية" لما روينا من قبل."ولو قال داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية"؛ لأن العارية محكم في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم، وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلي سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة لما قدمناه. "ولو قال هبة تسكنها فهي هبة"؛ لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود، بخلاف قوله هبة سكنى؛ لأنه تفسير له.
قال: "ولا تجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة، وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة" وقال الشافعي: تجوز في الوجهين؛ لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه، وهذا؛ لأن المشاع قابل لحكمه، وهو الملك فيكون محلا له، وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع كالقرض والوصية. ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه، وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة، ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزمه التسليم، بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به؛ ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة. والمهايأة تلزمه فيما لم يتبرع به وهو المنفعة، والهبة لاقت العين، والوصية ليس من شرطها القبض، وكذا البيع الصحيح، وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها غير منصوص عليه، ولأنها عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة، والقرض تبرع من وجه وعقد ضمان من وجه، فشرطنا القبض القاصر فيه دون القسمة عملا بالشبهين، على أن القبض غير منصوص عليه فيه. "ولو وهب من شريكه لا يجوز"؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع.
قال: "ومن وهب شقصا مشاعا فالهبة فاسدة" لما ذكرنا "فإن قسمه وسلمه جاز"؛ لأن تمامه بالقبض وعنده لا شيوع.
قال: "ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة، فإن طحن وسلم لم يجز" وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم، ولهذا لو استخرجه الغاصب يملكه(3/223)
والمعدوم ليس بمحل للملك فوقع العقد باطلا، فلا ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما تقدم؛ لأن المشاع محل للتمليك، وهبة اللبن في الضرع والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض والتمر في النخيل بمنزلة المشاع؛ لأن امتناع الجواز للاتصال وذلك يمنع القبض كالشائع.
قال: "وإذا كانت العين في يد الموهوب له ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيها قبضا"؛ لأن العين في قبضه والقبض هو الشرط، بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون فينوب عنه.
قال: "وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد"؛ لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة، ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده، بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا؛ لأنه في يد غيره أو في ملك غيره، والصدقة في هذا مثل الهبة، وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له، وكذلك كل من يعوله. "وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب"؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر فأولى أن يملك المنافع. "وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز"؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب "وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز"؛ لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله. وهذا من بابه؛ لأنه لا يبقى إلا بالمال فلا بد من ولاية التحصيل "وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه"؛ لأن له عليه يدا معتبرة. ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعا في حقه "وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز" معناه إذا كان عاقلا؛ لأنه نافع في حقه وهو من أهله. وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة، بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب، بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح؛ لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة.
قال: "وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز"؛ لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع "وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة، وقالا يصح"؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع كما إذا رهن من رجلين. وله أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما، ولهذا لو كانت فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح، ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف فيكون التمليك كذلك؛ لأنه حكمه، وعلى هذا الاعتبار يتحقق الشيوع، بخلاف الرهن؛ لأن حكمه الحبس، ويثبت لكل واحد منهما كاملا(3/224)
إذ لا تضايف فيه فلا شيوع ولهذا لو قضى دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن.
"وفي الجامع الصغير: إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز، ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز، وقالا: يجوز للغنيين أيضا" جعل كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن كل واحد منهما تمليك بغير بدل، وفرق بين الصدقة والهبة في الحكم. وفي الأصل سوى بينهما فقال: وكذلك الصدقة؛ لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما على القبض. ووجه الفرق على هذه الرواية أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد، والهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان. وقيل هذا هو الصحيح، والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين. ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز. ولو قال لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف فيه روايتان، فأبو حنيفة مر على أصله، وكذا محمد. والفرق لأبي يوسف أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع، ولهذا لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض.(3/225)
باب الرجوع في الهبة
مدخل
...
باب الرجوع في الهبة
قال: "وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها" وقال الشافعي: لا رجوع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده" ولأن الرجوع يضاد التمليك، والعقد لا يقتضي ما يضاده، بخلاف هبة الوالد لولده على أصله؛ لأنه لم يتم التمليك؛ لكونه جزءا له. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها" أي ما لم يعوض؛ ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة، فتثبت له ولاية الفسخ عند فواته، إذ العقد يقبله، والمراد بما روي نفي استبداد والرجوع وإثباته للوالد؛ لأنه يتملكه للحاجة وذلك يسمى رجوعا. وقوله في الكتاب فله الرجوع لبيان الحكم، أما الكراهة فلازمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" وهذا لاستقباحه. ثم للرجوع موانع ذكر بعضها فقال: "إلا أن يعوضه عنها" لحصول المقصود "أو تزيد زيادة متصلة"؛ لأنه لا وجه إلى الرجوع فيها دون الزيادة؛ لعدم الإمكان ولا مع الزيادة؛ لعدم دخولها تحت العقد.
قال: "أو يموت أحد المتعاقدين"؛ لأن بموت الموهوب له ينتقل الملك إلى الورثة(3/225)
فصار كما إذا انتقل في حال حياته، وإذا مات الواهب فوارثه أجنبي عن العقد إذ هو ما أوجبه.
قال: "أو تخرج الهبة عن ملك الموهوب له"؛ لأنه حصل بتسليطه فلا ينقضه، ولأنه تجدد الملك بتجدد سببه.
قال: "فإن وهب لآخر أرضا بيضاء فأنبت في ناحية منها نخلا أو بنى بيتا أو دكانا أو آريا وكان ذلك زيادة فيها فليس له أن يرجع في شيء منها"؛ لأن هذه زيادة متصلة. وقوله وكان ذلك زيادة فيها؛ لأن الدكان قد يكون صغيرا حقيرا لا يعد زيادة أصلا، وقد تكون الأرض عظيمة يعد ذلك زيادة في قطعة منها فلا يمتنع الرجوع في غيرها.
قال: "فإن باع نصفها غير مقسوم رجع في الباقي"؛ لأن الامتناع بقدر المانع "وإن لم يبع شيئا منها له أن يرجع في نصفها"؛ لأن له أن يرجع في كلها فكذا في نصفها بالطريق الأولى.
قال: "وإن وهب هبة لذي رحم محرم منه فلا رجوع فيها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم منه لم يرجع فيها"؛ ولأن المقصود فيها صلة الرحم وقد حصل "وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر"؛ لأن المقصود فيها الصلة كما في القرابة، وإنما ينظر إلى هذا المقصود وقت العقد، حتى لو تزوجها بعدما وهب لها فله الرجوع، ولو أبانها بعدما وهب فلا رجوع.
قال: "وإذا قال الموهوب له للواهب خذ هذا عوضا عن هبتك أو بدلا عنها أو في مقابلتها فقبضه الواهب سقط الرجوع" لحصول المقصود، وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا "وإن عوضه أجنبي عن الموهوب له متبرعا فقبض الواهب العوض بطل الرجوع"؛ لأن العوض لإسقاط الحق فيصح من الأجنبي كبدل الخلع والصلح.
قال: "وإذا استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض"؛ لأنه لم يسلم له ما يقابل نصفه "وإن استحق نصف العوض لم يرجع في الهبة إلا أن يرد ما بقي ثم يرجع" وقال زفر: يرجع بالنصف اعتبارا بالعوض الآخر. ولنا أنه يصلح عوضا للكل من الابتداء، وبالاستحقاق ظهر أنه لا عوض إلا هو، إلا أنه يتخير؛ لأنه ما أسقط حقه في الرجوع إلا ليسلم له كل العوض ولم يسلم فله أن يرده.
قال: "وإن وهب دارا فعوضه من نصفها رجع الواهب في النصف الذي لم يعوض"؛ لأن المانع خص النصف.(3/226)
قال: "ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم"؛ لأنه مختلف بين العلماء، وفي أصله وهاء وفي حصول المقصود وعدمه خفاء، فلا بد من الفصل بالرضا أو بالقضاء، حتى لو كانت الهبة عبدا فأعتقه قبل القضاء نفذ، ولو منعه فهلك لم يضمن؛ لقيام ملكه فيه، وكذا إذا هلك في يده بعد القضاء؛ لأن أول القبض غير مضمون، وهذا دوام عليه إلا أن يمنعه بعد طلبه؛ لأنه تعدى، وإذا رجع بالقضاء أو بالتراضي يكون فسخا من الأصل حتى لا يشترط قبض الواهب ويصح في الشائع؛ لأن العقد وقع جائزا موجبا حق الفسخ، فكان بالفسخ مستوفيا حقا ثابتا له فيظهر على الإطلاق، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض؛ لأن الحق هناك في وصف السلامة لا في الفسخ فافترقا.
قال: "وإذا تلفت العين الموهوبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له لم يرجع على الواهب بشيء"؛ لأنه عقد تبرع فلا يستحق فيه السلامة، وهو غير عامل له، والغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب الرجوع لا في غيره.
قال: "وإذا وهب بشرط العوض اعتبر التقابض في العوضين، وتبطل بالشيوع"؛ لأنه هبة ابتداء "فإن تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع يرد بالعيب وخيار الرؤية وتستحق فيه الشفعة"؛ لأنه بيع انتهاء. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: هو بيع ابتداء وانتهاء؛ لأن فيه معنى البيع وهو التمليك بعوض، والعبرة في العقود للمعاني، ولهذا كان بيع العبد من نفسه إعتاقا. ولنا أنه اشتمل على جهتين فيجمع بينهما ما أمكن عملا بالشبهين، وقد أمكن؛ لأن الهبة من حكمها تأخر الملك إلى القبض، وقد يتراخى عن البيع الفاسد والبيع من حكمه اللزوم، وقد تنقلب الهبة لازمة بالتعويض فجمعنا بينهما، بخلاف بيع نفس العبد من نفسه؛ لأنه لا يمكن اعتبار البيع فيه، إذ هو لا يصلح مالكا لنفسه.(3/227)
فصل: ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء
...
فصل: قال: "ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء"؛
لأن الاستثناء لا يعمل إلا في محل يعمل فيه العقد، والهبة لا تعمل في الحمل لكونه وصفا على ما بيناه في البيوع فانقلب شرطا فاسدا، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وهذا هو الحكم في النكاح والخلع والصلح عن دم العمد؛ لأنها لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع والإجارة والرهن؛ لأنها تبطل بها. "ولو أعتق ما في بطنها ثم وهبها جاز"؛ لأنه لم يبق الجنين على ملكه فأشبه الاستثناء، "ولو دبر ما في بطنها ثم وهبها لم يجز"؛ لأن الحمل بقي على ملكه فلم يكن(3/227)
شبيه الاستثناء، ولا يمكن تنفيذ الهبة فيه لمكان التدبير فبقي هبة المشاع أو هبة شيء هو مشغول بملك المالك.
قال: "فإن وهبها له على أن يردها عليه أو على أن يعتقها أو أن يتخذها أم ولد أو وهب دارا أو تصدق عليه بدار على أن يرد عليه شيئا منها أو يعوضه شيئا منها فالهبة جائزة والشرط باطل". لأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد فكانت فاسدة، والهبة لا تبطل بها، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر بخلاف البيع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط ولأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات. قال: "ومن له على آخر ألف درهم فقال إذا جاء الغد فهي لك أو أنت منها بريء. أو قال: إذا أديت إلي النصف فلك نصفه أو أنت بريء من النصف الباقي فهو باطل"؛ لأن الإبراء تمليك من وجه إسقاط من وجه، وهبة الدين ممن عليه إبراء، وهذا؛ لأن الدين مال من وجه ومن هذا الوجه كان تمليكا، ووصف من وجه ومن هذا الوجه كان إسقاطا، ولهذا قلنا: إنه يرتد بالرد، ولا يتوقف على القبول. والتعليق بالشروط يختص بالإسقاطات المحضة التي يحلف بها كالطلاق والعتاق فلا يتعداها.
قال: "والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده" لما روينا. ومعناه أن يجعل داره له عمره. وإذا مات ترد عليه فيصح التمليك، ويبطل الشرط لما روينا وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة "والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: جائزة"؛ لأن قوله داري لك تمليك. وقوله رقبى شرط فاسد كالعمرى. ولهما أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى ورد الرقبى ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك، واللفظ من المراقبة كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل. وإذا لم تصح تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به.(3/228)
فصل: في الصدقة
قال: "والصدقة كالهبة لا تصح إلا بالقبض"؛ لأنه تبرع كالهبة "فلا تجوز في مشاع يحتمل القسمة" لما بينا في الهبة "ولا رجوع في الصدقة"؛ لأن المقصود هو الثواب وقد حصل. وكذا إذا تصدق على غني استحسانا؛ لأنه قد يقصد بالصدقة على الغني الثواب. وكذا إذا وهب الفقير؛ لأن المقصود الثواب وقد حصل.
قال: "ومن نذر أن يتصدق بماله يتصدق بجنس ما يجب فيه الزكاة، ومن نذر أن(3/228)
يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع" ويروى أنه والأول سواء، وقد ذكرنا الفرق. ووجه الروايتين في مسائل القضاء "ويقال له أمسك ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب، فإذا اكتسب مالا يتصدق بمثل ما أنفق" وقد ذكرناه من قبل.(3/229)
كتاب الإجارات
تعريفها
...
كتاب الإجارات
"الإجارة: عقد على المنافع بعوض" لأن الإجارة في اللغة بيع المنافع، والقياس يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة وهي معدومة، وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه، وقد شهدت بصحتها الآثار وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" وقوله عليه الصلاة والسلام: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره" وتنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، والدار أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها ليرتبط الإيجاب بالقبول، ثم عمله يظهر في حق المنفعة ملكا واستحقاقا حال وجود المنفعة. "ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة، والأجرة معلومة" لما روينا، ولأن الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع "وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة"؛ لأن الأجرة ثمن المنفعة، فتعتبر بثمن المبيع. وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان. فهذا اللفظ لا ينفي صلاحية غيره؛ ل أنه عوض مالي "والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار الدور، للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد على مدة معلومة أي مدة كانت"؛ لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت. وقوله أي مدة كانت إشارة إلى أنه يجوز طالت المدة أو قصرت لكونها معلومة ولتحقق الحاجة إليها عسى، إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين هو المختار.
قال: "وتارة تصير معلومة بنفسه كمن استأجر رجلا على صبغ ثوبه أو خياطته أو استأجر دابة؛ ليحمل عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها"؛ لأنه إذا بين الثوب ولون الصبغ وقدره وجنس الخياطة والقدر المحمول وجنسه والمسافة صارت المنفعة معلومة فيصح العقد، وربما يقال: الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار القصار والخياط، ولا بد أن يكون العمل معلوما وذلك في الأجير المشترك، وقد تكون عقدا على المنفعة كما في أجير الوحد، ولا بد من بيان الوقت.
قال: "وتارة تصير المنفعة معلومة بالتعيين والإشارة كمن استأجر رجلا، لينقل له هذا(3/230)
الطعام إلى موضع معلوم"؛ لأنه إذا آراه ما ينقله والموضع الذي يحمل إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد.(3/231)
باب الأجر متى يستحق
مدخل
...
باب الأجر متى يستحق
قال: "الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بأحد معان ثلاثة: إما بشرط التعجيل، أو بالتعجيل من غير شرط، أو باستيفاء المعقود عليه".
وقال الشافعي: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل. ولنا أن العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع على ما بينا، والعقد معاوضة، ومن قضيتها المساواة، فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة التراخي في البدل الآخر. وإذا استوفى المنفعة يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية. وكذا إذا شرط التعجيل أو عجل؛ لأن المساواة تثبت حقا له وقد أبطله. "وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر وإن لم يسكنها"؛ لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فأقمنا تسليم المحل مقامه إذ التمكن من الانتفاع يثبت به.
قال: "فإن غصبها غاصب من يده سقطت الأجرة"؛ لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات التسليم، وانفسخ العقد فسقط الأجر، "وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره". إذ الانفساخ في بعضها.
قال: "ومن استأجر دارا فللمؤجر أن يطالبه بأجرة كل يوم"؛ لأنه استوفى منفعة مقصودة "إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد"؛ لأنه بمنزلة التأجيل "وكذلك إجارة الأراضي" لما بينا. "ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه بأجرة كل مرحلة"؛ لأن سير كل مرحلة مقصود. وكان أبو حنيفة يقول أولا: لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر وهو قول زفر؛ لأن المعقود عليه جملة المنافع في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها، كما إذا كان المعقود عليه العمل. ووجه القول المرجوع إليه أن القياس يقتضي استحقاق الأجر ساعة فساعة لتحقق المساواة، إلا أن المطالبة في كل ساعة تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر به، فقدرنا بما ذكرنا.
قال: "وليس للقصار والخياط أن يطالب بأجره حتى يفرغ من العمل"؛ لأن العمل في البعض غير منتفع به فلا يستوجب به الأجر، وكذا إذا عمل في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل الفراغ لما بينا. قال: "إلا أن يشترط التعجيل" لما مر أن الشرط فيه لازم.
قال: "ومن استأجر خبازا ليخبز له في بيته قفيزا من دقيق بدرهم لم يستحق الأجر(3/231)
حتى يخرج الخبز من التنور"؛ لأن تمام العمل بالإخراج. فلو احترق أو سقط من يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل التسليم، "فإن أخرجه ثم احترق من غير فعله فله الأجر"؛ لأنه صار مسلما إليه بالوضع في بيته، ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه الجناية. قال: وهذا عند أبي حنيفة؛ لأنه أمانة في يده، وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له؛ لأنه مضمون عليه فلا يبرأ إلا بعد حقيقة التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز، وأعطاه الأجر.
قال: "ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة فالعرف عليه" اعتبارا للعرف.
قال: "ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا استحق الأجر إذا أقامها عند أبي حنيفة، وقالا: لا يستحقها حتى يشرجها"؛ لأن التشريج من تمام عمله، إذ لا يؤمن من الفساد قبله فصار كإخراج الخبز من التنور؛ ولأن الأجير هو الذي يتولاه عرفا وهو المعتبر فيما لم ينص عليه. ولأبي حنيفة أن العمل قد تم بالإقامة، والتشريج عمل زائد كالنقل، ألا ترى أنه ينتفع به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف الخبز؛ لأنه غير منتفع به قبل الإخراج.
قال: "وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ فله أن يحبس العين حتى يستوفي الأجر"؛ لأن المعقود عليه وصف قائم في الثوب فله حق الحبس؛ لاستيفاء البدل كما في المبيع، ولو حبسه فضاع لا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه غير متعد في الحبس فبقي أمانة كما كان عنده، ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: العين كانت مضمونة قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له، وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر، وسيبين من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن يحبس العين للأجر كالحمال والملاح"؛ لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس وغسل الثوب نظير الحمل، وهذا بخلاف الآبق حيث يكون للراد حق حبسه لاستيفاء الجعل، ولا أثر لعمله؛ لأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه فكأنه باعه منه فله حق الحبس، وهذا الذي ذكرنا مذهب علمائنا الثلاثة. وقال زفر: ليس له حق الحبس في الوجهين؛ لأنه وقع التسليم باتصال المبيع بملكه فيسقط حق الحبس. ولنا أن الاتصال بالمحل ضرورة إقامة تسليم العمل فلم يكن هو راضيا به من حيث أنه تسليم فلا يسقط حق الحبس كما إذا قبض المشتري بغير رضا البائع.(3/232)
قال: "وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه ليس له أن يستعمل غيره"؛ لأن المعقود عليه العمل في محل بعينه فيستحق عينه كالمنفعة في محل بعينه "وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من يعمله"؛ لأن المستحق عمل في ذمته، ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره بمنزلة إيفاء الدين.(3/233)
فصل: ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله الخ
...
فصل: "ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء بعياله فذهب فوجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي فله الأجر بحسابه"؛
لأنه أوفى بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره، ومراده إذا كانوا معلومين "وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له" هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: له الأجر في الذهاب؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه، وهو قطع المسافة، وهذا لأن الأجر مقابل به لما فيه من المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته. ولهما أن المعقود عليه نقل الكتاب؛ لأنه هو المقصود أو وسيلة إليه وهو العلم بما في الكتاب ولكن الحكم معلق به وقد نقضه فيسقط الأجر كما في الطعام وهي المسألة التي تلي هذه المسألة "وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق الأجر بالذهاب بالإجماع"؛ لأن الحمل لم ينتقض. "وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في قولهم جميعا"؛ لأنه نقض تسليم المعقود عليه، وهو حمل الطعام، بخلاف مسألة الكتاب على قول محمد؛ لأن المعقود عليه هناك قطع المسافة على ما مر. والله أعلم بالصواب.(3/233)
باب ما يجوز من الإجارة ومايكون خلافا فيها
قال: "ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها"؛ لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه، وأنه لا يتفاوت فصح العقد "وله أن يعمل كل شيء" للإطلاق "إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا؛ لأن فيه ضررا ظاهرا"؛ لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة.
قال: "ويجوز استئجار الأراضي للزراعة"؛ لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها "وللمستأجر الشرب والطريق، وإن لم يشترط" لأن الإجارة تعقد للانتفاع، ولا انتفاع في الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد، بخلاف البيع؛ لأن المقصود منه ملك الرقبة لا الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش والأرض السبخة دون الإجارة فلا يدخلان فيه(3/233)
من غير ذكر الحقوق وقد مر في البيوع "ولا يصح العقد حتى يسمي ما يزرع فيها"؛ لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها وما يزرع فيها متفاوت فلا بد من التعيين كي لا تقع المنازعة "أو يقول على أن يزرع فيها ما شاء"؛ لأنه لما فوض الخيرة إليه ارتفعت الجهالة المفضية إلى المنازعة. قال: "ويجوز أن يستأجر الساحة؛ ليبني فيها أو؛ ليغرس فيها نخلا أو شجرا"؛ لأنها منفعة تقصد بالأراضي "ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه أن يقلع البناء والغرس ويسلمها إليه فارغة"؛ لأنه لا نهاية لهما وفي إبقائهما إضرارا بصاحب الأرض، بخلاف ما إذا انقضت المدة والزرع بقل حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن له نهاية معلومة فأمكن رعاية الجانبين.
قال: "إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعا ويتملكه فله ذلك" وهذا برضا صاحب الغرس والشجر، إلا أن تنقص الأرض بقلعهما فحينئذ يتملكهما بغير رضاه.
قال: "أو يرضى بتركه على حاله فيكون البناء لهذا والأرض لهذا"؛ لأن الحق له فله أن لا يستوفيه.
قال: "وفي الجامع الصغير: إذا انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض رطبة فإنها تقلع"؛ لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر.
قال: "ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل"؛ لأنه منفعة معلومة معهودة "فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء" عملا بالإطلاق. ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادا من الأصل، والناس يتفاوتون في الركوب فصار كأنه نص على ركوبه "وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما ذكرنا" لإطلاق اللفظ وتفاوت الناس في اللبس "وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان ضامنا"؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فصح التعيين، وليس له أن يتعداه، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل لما ذكرنا. فأما العقار وما لا يختلف باختلاف المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛ لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت الذي يضر بالبناء، والذي يضر بالبناء خارج على ما ذكرناه.
قال: "وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير والسمسم"؛ لأنه دخل تحت الإذن لعدم التفاوت، أو لكونه خيرا من الأول "وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة كالملح والحديد" لانعدام الرضا فيه "وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه فليس له أن يحمل عليها(3/234)
مثل وزنه حديدا"؛ لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع في موضع من ظهرها والقطن ينبسط على ظهرها.
قال: "وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت ضمن نصف قيمتها ولا معتبر بالثقل"؛ لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف ويخف عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية، ولأن الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن فاعتبر عدد الراكب كعدد الجناة في الجنايات.
قال: "وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة فحمل عليها أكثر منه فعطبت ضمن ما زاد الثقل"؛ لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون فيه والسبب الثقل فانقسم عليهما "إلا إذا كان حملا لا يطيقه مثل تلك الدابة فحينئذ يضمن كل قيمتها" لعدم الإذن فيها أصلا لخروجه عن العادة.
قال: "وإن كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت ضمن عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا فعل فعلا متعارفا"؛ لأن المتعارف مما يدخل تحت مطلق العقد فكان حاصلا بإذنه فلا يضمنه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإذن مقيد بشرط السلامة إذ يتحقق السوق بدونه، وإنما هما للمبالغة فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في الطريق.
قال: "وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى القادسية ثم ردها إلى الحيرة ثم نفقت فهو ضامن، وكذلك العارية" وقيل تأويل هذه المسألة إذا استأجرها ذاهبا لا جائيا؛ لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة فلا يصير بالعود مردودا إلى يد المالك معنى. وأما إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. وقيل لا، بل الجواب مجرى على الإطلاق. والفرق أن المودع بأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب المالك، وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائبا فلا يبرأ بالعود وهذا أصح.
قال: "ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه"؛ لأنه إذا كان يماثل الأول تناوله إذن المالك، إذ لا فائدة في التقييد بغيره إلا إذا كان زائدا عليه في الوزن فحينئذ يضمن الزيادة "وإن كان لا يسرج بمثله الحمر ضمن"؛ لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا "وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر يضمن" لما قلنا في السرج، وهذا أولى "وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر يضمن عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن بحسابه"؛ لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان هو والسرج(3/235)
سواء فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على السرج في الوزن فيضمن الزيادة؛ لأنه لم يرض بالزيادة فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا كان من جنسه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإكاف ليس من جنس السرج؛ لأنه للحمل، والسرج للركوب، وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط عليه الآخر فكان مخالفا كما إذا حمل الحديد وقد شرط له الحنطة.
قال: "وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس فهلك المتاع فلا ضمان عليه، وإن بلغ فله الأجر" وهذا إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت؛ لأن عند ذلك التقييد غير مفيد، أما إذا كان تفاوت يضمن لصحة التقييد فإن التقييد مفيد إلا أن الظاهر عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم يفصل "وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن"؛ لأنه صح التقييد فصار مخالفا "وإن بلغ فله الأجر"؛ لأنه ارتفع الخلاف معنى، وإن بقي صورة.
قال: "وإن حمله في البحر فيما يحمله الناس في البر ضمن" لفحش التفاوت بين البر والبحر "وإن بلغ فله الأجر" لحصول المقصود وارتفاع الخلاف معنى.
قال: "ومن استأجر أرضا؛ ليزرعها حنطة فزرعها رطبة ضمن ما نقصها" لأن الرطاب أضر بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة الحاجة إلى سقيها فكان خلافا إلى شر فيضمن ما نقصها "ولا أجر له"؛ لأنه غاصب للأرض على ما قررناه. قال: "ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم فخاطه قباء، فإن شاء ضمنه قيمة الثوب، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به درهما" قيل: معناه القرطف الذي هو ذو طاق واحد؛ لأنه يستعمل استعمال القميص، وقيل هو مجرى على إطلاقه؛ لأنهما يتقاربان في المنفعة. وعن أبي حنيفة أنه يضمنه من غير خيار؛ لأن القباء خلاف جنس القميص. ووجه الظاهر أنه قميص من وجه؛ لأنه يشد وسطه، فمن هذا الوجه يكون مخالفا؛ لأن القميص لا يشد وينتفع به انتفاع القميص فجاءت الموافقة والمخالفة فيميل إلى أي الجهتين شاء، إلا أنه يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة، ولا يجاوز به الدرهم المسمى كما هو الحكم في سائر الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء قيل يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة، والأصح أنه يخير للاتحاد في أصل المنفعة، وصار كما إذا أمر بضرب طست من شبة فضرب منه كوزا، فإنه يخير كذا هذا، والله أعلم.(3/236)
باب الإجارة الفاسدة
قال: "الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع"؛ لأنه بمنزلته، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ "والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى" وقال زفر والشافعي: يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع الأعيان. ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد لحاجة الناس فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد تبع له، ويعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة، لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة، وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية، بخلاف البيع؛ لأن العين متقومة في نفسها وهي الموجب الأصلي، فإن صحت التسمية انتقل عنه وإلا فلا.
قال: "ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور، إلا أن يسمي جملة شهور معلومة"؛ لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم فكان الشهر الواحد معلوما فصح العقد فيه، وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح "ولو سمى جملة شهور معلومة جاز"؛ لأن المدة صارت معلومة.
قال: "وإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه ولم يكن للمؤجر أن يخرجه إلى أن ينقضي، وكذلك كل شهر سكن في أوله ساعة"؛ لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو القياس، وقد مال إليه بعض المشايخ، وظاهر الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها؛ لأن في اعتبار الأول بعض الحرج.
قال: "وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز وإن لم يبين قسط كل شهر من الأجرة"؛ لأن المدة معلومة بدون التقسيم فصار كإجارة شهر واحد فإنه جائز وإن لم يبين قسط كل يوم، ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى وإن لم يسم شيئا فهو من الوقت الذي استأجره؛ لأن الأوقات كلها في حق الإجارة على السواء فأشبه اليمين، بخلاف الصوم؛ لأن الليالي ليست بمحل له "ثم إن كان العقد حين يهل الهلال فشهور السنة كلها بالأهلة"؛ لأنها هي الأصل "وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام" عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وعند محمد وهو رواية عن أبي يوسف الأول بالأيام والباقي بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها ضرورة، والضرورة في الأول منها. وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة، ونظيره العدة وقد مر في الطلاق.(3/237)
قال: "ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام" أما الحمام فلتعارف الناس ولم تعتبر الجهالة لإجماع المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وأما الحجام فلما روي "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام الأجرة" ولأنه استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا.
قال: "ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس" وهو أن يؤجر فحلا لينزو على الإناث لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن من السحت عسب التيس" والمراد أخذ الأجرة عليه.
قال: "ولا الاستئجار على الأذان والحج، وكذا الإمامة وتعليم القرآن والفقه" والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا. وعند الشافعي رحمه الله يصح في كل ما لا يتعين على الأجير؛ لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به" وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص: "وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا" ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا تعتبر أهليته فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح. وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم؛ لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية. ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى.
قال: "ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح، وكذا سائر الملاهي"؛ لأنه استئجار على المعصية والمعصية لا تستحق بالعقد.
قال: "ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة إلا من الشريك، وقالا: إجارة المشاع جائزة" وصورته أن يؤاجر نصيبا من داره أو نصيبه من دار مشتركة من غير الشريك. لهما أن للمشاع منفعة ولهذا يجب أجر المثل، والتسليم ممكن بالتخلية أو بالتهايؤ فصار كما إذا آجر من شريكه أو من رجلين وصار كالبيع. ولأبي حنيفة أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز، وهذا؛ لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور، والتخلية اعتبرت تسليما لوقوعه تمكينا وهو الفعل الذي يحصل به التمكن ولا تمكن في المشاع، بخلاف البيع لحصول التمكن فيه، وأما التهايؤ فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك، وحكم العقد يعقبه والقدرة على التسليم شرط العقد وشرط الشيء يسبقه، ولا يعتبر المتراخي سابقا، وبخلاف ما إذا آجر من شريكه فالكل يحدث على ملكه فلا شيوع، والاختلاف في(3/238)
النسبة لا يضره، على أنه لا يصح في رواية الحسن عنه، وبخلاف الشيوع الطارئ؛ لأن القدرة على التسليم ليست بشرط للبقاء، وبخلاف ما إذا آجر من رجلين؛ لأن التسليم يقع جملة ثم الشيوع بتفرق الملك فيما بينهما طارئ.
قال: "ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة" لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ولأن التعامل به كان جاريا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وأقرهم عليه. ثم قيل: إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به واللبن يستحق على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب. وقيل إن العقد يقع على اللبن، والخدمة تابعة، ولهذا لو أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجر. والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودا، كما إذا استأجر بقرة؛ ليشرب لبنها. وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت ما ذكرنا يصح إذا كانت الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة.
قال: "ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: لا يجوز"؛ لأن الأجرة مجهولة فصار كما إذا استأجرها للخبز والطبخ. وله أن الجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر شفقة على الأولاد فصار كبيع قفيز من صبرة، بخلاف الخبز والطبخ؛ لأن الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة "وفي الجامع الصغير: فإن سمى الطعام دراهم ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز" يعني بالإجماع. ومعنى تسمية الطعام دراهم أن يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانه، وهذا لا جهالة فيه "ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا" لما قلنا، ولا يشترط تأجيله؛ لأن أوصافها أثمان. "ويشترط بيان مكان الإيفاء" عند أبي حنيفة خلافا لهما، وقد ذكرناه في البيوع "وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان القدر والجنس"؛ لأنه إنما يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير مبيعا عند الأجل كما في السلم.
قال: "وليس للمستأجر أن يمنع زوجها من وطئها"؛ لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن من إبطال حقه؛ ألا ترى أن له أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به صيانة لحقه، إلا أن المستأجر يمنعه عن غشيانها في منزله؛ لأن المنزل حقه "فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا خافوا على الصبي من لبنها"؛ لأن لبن الحامل يفسد الصبي ولهذا كان لهم الفسخ إذا مرضت أيضا "وعليها أن تصلح طعام الصبي"؛ لأن العمل عليها. والحاصل أنه يعتبر فيما لا نص عليه العرف في مثل هذا الباب، فما جرى به العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير ذلك فهو على الظئر أما الطعام فعلى والد الولد، وما ذكر محمد رحمه الله أن الدهن(3/239)
والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة. "وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها"؛ لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها، وهو الإرضاع، فإن هذا إيجار وليس بإرضاع، وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل.
قال: "ومن دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف فله أجر مثله. وكذا إذا استأجر حمارا يحمل طعاما بقفيز منه فالإجارة فاسدة"؛ لأنه جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وهو أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة بقفيز من دقيقه. وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات، لا سيما في ديارنا، والمعنى فيه أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض المنسوج أو المحمول. إذ حصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرا بقدرة غيره، وهذا بخلاف ما إذا استأجره ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب له الأجر؛ لأن المستأجر ملك الأجير في الحال بالتعجيل فصار مشتركا بينهما. ومن استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه. قال: "ولا يجاوز بالأجر قفيزا"؛ لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب الأقل ما سمى ومن أجر المثل؛ لأنه رضي بحط الزيادة، وهذا بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب الأجر بالغا ما بلغ عند محمد؛ لأن المسمى هناك غير معلوم فلم يصح الحط.
قال: "ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة المخاتيم من الدقيق اليوم بدرهم فهو فاسد، وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد في الإجارات: هو جائز"؛ لأنه يجعل المعقود عليه عملا ويجعل ذكر الوقت للاستعجال تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة. وله أن المعقود عليه مجهول لأن ذكر الوقت يوجب كون المنفعة معقودا عليها وذكر العمل يوجب كونه معقودا عليه ولا ترجيح، ونفع المستأجر في الثاني ونفع الأجير في الأول فيفضي إلى المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه يصح الإجارة إذا قال: في اليوم، وقد سمى عملا؛ لأنه للظرف فكان المعقود عليه العمل، بخلاف قوله اليوم وقد مر مثله في الطلاق.
قال: "ومن استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها أو يسقيها ويزرعها فهو جائز"؛ لأن الزراعة مستحقة بالعقد، ولا تتأتى الزراعة إلا بالسقي والكراب. فكان كل واحد منهما مستحقا. وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات العقد فذكره لا يوجب الفساد "فإن اشترط أن يثنيها أو يكري أنهارها أو يسرقنها فهو فاسد"؛ لأنه يبقى أثره بعد انقضاء المدة، وأنه ليس من مقتضيات العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين. وما هذا حاله يوجب الفساد؛ لأن مؤجر(3/240)
الأرض يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد المدة فيصير صفقتان في صفقة واحدة وهي منهي عنه. ثم قيل: المراد بالتثنية أن يردها مكروبة ولا شبهة في فساده. وقيل أن يكريها مرتين، وهذا في موضع تخرج الأرض الريع بالكراب مرة واحدة والمدة سنة واحدة، وإن كانت ثلاث سنين لا تبقى منفعته، وليس المراد بكري الأنهار الجداول بل المراد منها الأنهار العظام هو الصحيح؛ لأنه تبقى منفعته في العام القابل.
قال: "وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا خير فيه" وقال الشافعي: هو جائز، وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى واللبس باللبس والركوب بالركوب. أن المنافع بمنزلة الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين ولا يصير دينا بدين، ولنا أن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة وإلى هذا أشار محمد، ولأن الإجارة جوزت بخلاف القياس للحاجة ولا حاجة عند اتحاد الجنس، بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة.
قال: "وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له" وقال الشافعي: له المسمى؛ لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائعا جائز، وصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع، بخلاف البيع؛ لأنه تصرف حكمي، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر، ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم، بخلاف الدار المشتركة؛ لأن المعقود عليه هنالك المنافع ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام، وبخلاف العبد؛ لأن المعقود عليه إنما هو ملك نصيب صاحبه وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع.
"ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة"؛ لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها، وكذا ما يزرع فيها مختلف، فمنه ما يضر بالأرض ما لا يضر بها غيره، فلم يكن المعقود عليه معلوما.
"فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى" وهذا استحسان. وفي القياس: لا يجوز وهو قول زفر؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا. وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا، كما إذا ارتفعت في حالة العقد، وصار كما إذا أسقط الأجل المجهول قبل مضيه والخيار الزائد في المدة.(3/241)
قال: "ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في نصف الطريق فلا ضمان عليه"؛ لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، وإن كانت الأجرة فاسدة.
قال: "فإن بلغ بغداد فله الأجر المسمى استحسانا" على ما ذكرنا في المسألة الأولى.
قال: "وإن اختصما قبل أن يحمل عليه" وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع "نقضت الإجارة" دفعا للفساد إذ الفساد قائم بعد.(3/242)
باب ضمان الأجير
قال: "الأجراء على ضربين: أجير مشترك، وأجير خاص. فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل كالصباغ والقصار"؛ لأن المعقود عليه إذا كان هو العمل أو أثره كان له أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة لواحد، فمن هذا الوجه يسمى مشتركا.
قال: "والمتاع أمانة في يده إن هلك لم يضمن شيئا عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، ويضمنه عندهما إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو المكابر" لهما ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يضمنان الأجير المشترك؛ ولأن الحفظ مستحق عليه إذ لا يمكنه العمل إلا به، فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر، بخلاف ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق الغالب وغيره؛ لأنه لا تقصير من جهته. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العين أمانة في يده؛ لأن القبض حصل بإذنه، ولهذا لو هلك بسبب لا يمكن التحرز عنه لم يضمنه، ولو كان مضمونا لضمنه كما في المغصوب، والحفظ مستحق عليه تبعا لا مقصودا ولهذا لا يقابله الأجر، بخلاف المودع بأجر؛ لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا حتى يقابله الأجر.
قال: "وما تلف بعمله، فتخريق الثوب من دقه وزلق الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري الحمل وغرق السفينة من مده مضمون عليه". وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا ضمان عليه؛ لأنه أمره بالفعل مطلقا فينتظمه بنوعيه المعيب والسليم وصار كأجير الوحد ومعين القصار. ولنا أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد وهو العمل المصلح؛ لأنه هو الوسيلة إلى الأثر وهو المعقود عليه حقيقة، حتى لو حصل بفعل الغير يجب الأجر فلم يكن المفسد مأذونا فيه، بخلاف المعين؛ لأنه متبرع فلا يمكن تقييده بالمصلح؛ لأنه يمتنع عن التبرع، وفيما نحن فيه يعمل بالأجر فأمكن تقييده. وبخلاف أجير الوحد على ما نذكره(3/242)
إن شاء الله تعالى وانقطاع الحبل من قلة اهتمامه فكان من صنيعه.
قال: "إلا أنه لا يضمن به بني آدم ممن غرق في السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه وقوده"؛ لأن الواجب ضمان الآدمي. وأنه لا يجب بالعقد. وإنما يجب بالجناية ولهذا يجب على العاقلة، وضمان العقود لا تتحمله العاقلة.
قال: "وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع في بعض الطريق فانكسر، فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه الأجر بحسابه" أما الضمان فلما قلنا، والسقوط بالعثار أو بانقطاع الحبل وكل ذلك من صنيعه، وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في الطريق، والحمل شيء واحد تبين أنه وقع تعديا من الابتداء من هذا الوجه. وله وجه آخر وهو أن ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن تعديا، وإنما صار تعديا عند الكسر فيميل إلى أي الوجهين شاء، وفي الوجه الثاني له الأجر بقدر ما استوفى، وفي الوجه الأول لا أجر له؛ لأنه ما استوفى أصلا.
قال: "وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من ذلك. وفي الجامع الصغير: بيطار بزغ دابة بدانق فنفقت أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا ضمان عليه" وفي كل واحد من العبارتين نوع بيان. ووجهه أنه لا يمكنه التحرز عن السراية لأنه يبتنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد بالمصلح من العمل، ولا كذلك دق الثوب ونحوه مما قدمناه؛ لأن قوة الثوب ورقته تعرف بالاجتهاد فأمكن القول بالتقييد.
قال: "والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل كمن استؤجر شهرا للخدمة أو لرعي الغنم" وإنما سمي أجير وحد؛ لأنه لا يمكنه أن يعمل لغيره؛ لأن منافعه في المدة صارت مستحقة له والأجر مقابل بالمنافع، ولهذا يبقى الأجر مستحقا، وإن نقض العمل.
قال: "ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده ولا ما تلف من عمله" أما الأول فلأن العين أمانة في يده؛ لأنه قبض بإذنه، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة، وكذا عندهما؛ لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما لصيانة أموال الناس، والأجير الوحد لا يتقبل الأعمال فتكون السلامة غالبة فيؤخذ فيه القياس، وأما الثاني فلأن المنافع متى صارت مملوكة للمستأجر فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح ويصير نائبا منابه فيصير فعله منقولا إليه كأنه فعل بنفسه فلهذا لا يضمنه، والله أعلم بالصواب.(3/243)
باب الإجارة على أحد الشرطين
قال: "وإذا قال للخياط إن خطت هذا الثوب فارسيا فبدرهم، وإن خطته روميا فبدرهمين جاز، وأي عمل من هذين العملين عمل استحق الأجر به" وكذا إذا قال للصباغ إن صبغته بعصفر فبدرهم، وإن صبغته بزعفران فبدرهمين، وكذا إذا خيره بين شيئين بأن قال: آجرتك هذه الدار شهرا بخمسة أو هذه الدار الأخرى بعشرة، وكذا إذا خيره بين مسافتين مختلفتين بأن قال: آجرتك هذه الدابة إلى الكوفة بكذا أو إلى واسط بكذا، وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء، وإن خيره بين أربعة أشياء لم يجز، والمعتبر في جميع ذلك البيع والجامع دفع الحاجة، غير أنه لا بد من اشتراط الخيار في البيع، وفي الإجارة لا يشترط ذلك؛ لأن الأجر إنما يجب بالعمل، وعند ذلك يصير المعقود عليه معلوما، وفي البيع يجب الثمن بنفس العقد فتتحقق الجهالة على وجه لا ترتفع المنازعة إلا بإثبات الخيار "ولو قال: إن خطته اليوم فبدرهم، وإن خطته غدا فبنصف درهم، فإن خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غدا فله أجر مثله عند أبي حنيفة لا يجاوز به نصف درهم. وفي الجامع الصغير: لا ينقص من نصف درهم ولا يزاد على درهم. وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان".
قال زفر: الشرطان فاسدان؛ لأن الخياطة شيء واحد، وقد ذكر بمقابلته بدلان على البدل فيكون مجهولا، وهذا؛ لأن ذكر اليوم للتعجيل، وذكر الغد للترفيه فيجتمع في كل يوم تسميتان. ولهما أن ذكر اليوم للتأقيت. وذكر الغد للتعليق فلا يجتمع في كل يوم تسميتان؛ ولأن التعجيل والتأخير مقصود فنزل منزلة اختلاف النوعين. ولأبي حنيفة أن ذكر الغد للتعليق حقيقة. ولا يمكن حمل اليوم على التأقيت؛ لأن فيه فساد العقد لاجتماع الوقت والعمل، وإذا كان كذلك يجتمع في الغد تسميتان دون اليوم، فيصح اليوم الأول ويجب المسمى، ويفسد الثاني ويجب أجر المثل لا يجاوز به نصف درهم؛ لأنه هو المسمى في اليوم الثاني. وفي الجامع الصغير لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم؛ لأن التسمية الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني فتعتبر لمنع الزيادة وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان، فإن خاطه في اليوم الثالث لا يجاوز به نصف درهم عند أبي حنيفة رحمه الله هو الصحيح؛ لأنه إذا لم يرض بالتأخير إلى الغد فبالزيادة عليه إلى ما بعد الغد أولى.
"ولو قال: إن سكنت في هذا الدكان عطارا فبدرهم في الشهر، وإن سكنته حدادا فبدرهمين جاز، وأي الأمرين فعل استحق الأجر المسمى فيه عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: الإجارة فاسدة، وكذا إذا استأجر بيتا على أنه إن سكن فيه عطارا فبدرهم وإن سكن فيه حدادا(3/244)
فبدرهمين فهو جائز عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: لا يجوز، ومن استأجر دابة إلى الحيرة بدرهم وإن جاوز بها إلى القادسية فبدرهمين فهو جائز" ويحتمل الخلاف "وإن استأجرها إلى الحيرة على أنه إن حمل عليها كر شعير فبنصف درهم، وإن حمل عليها كر حنطة فبدرهم فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يجوز" وجه قولهما أن المعقود عليه مجهول، وكذا الأجر أحد الشيئين، وهو مجهول والجهالة توجب الفساد، بخلاف الخياطة الرومية والفارسية؛ لأن الأجر يجب بالعمل وعنده ترتفع الجهالة.
أما في هذه المسائل يجب الأجر بالتخلية والتسليم فتبقى الجهالة، وهذا الحرف هو الأصل عندهما. ولأبي حنيفة أنه خيره بين عقدين صحيحين مختلفين فيصح كما في مسألة الرومية والفارسية، وهذا؛ لأن سكناه بنفسه يخالف إسكانه الحداد؛ ألا ترى أنه لا يدخل ذلك في مطلق العقد وكذا في أخواتها، والإجارة تعقد للانتفاع وعنده ترتفع الجهالة، ولو احتيج إلى الإيجاب بمجرد التسليم يجب أقل الأجرين للتيقن به، والله أعلم بالصواب.(3/245)
باب إجارة العبد
قال: "ومن استأجر عبدا للخدمة فليس له أن يسافر به إلا أن يشترط ذلك"؛ لأن خدمة السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمها الإطلاق، ولهذا جعل السفر عذرا فلا بد من اشتراطه كإسكان الحداد والقصار في الدار، ولأن التفاوت بين الخدمتين ظاهر، فإذا تعين الخدمة في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب "ومن استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه الأجر فليس للمستأجر أن يأخذ منه الأجر" وأصله أن الإجارة صحيحة استحسانا إذا فرغ من العمل. والقياس أن لا يجوز لانعدام إذن المولى وقيام الحجر فصار كما إذا هلك العبد. وجه الاستحسان أن التصرف نافع على اعتبار الفراغ سالما ضار على اعتبار هلاك العبد، والنافع مأذون فيه كقبول الهبة، وإذا جاز ذلك لم يكن للمستأجر أن يأخذ منه. "ومن غصب عبدا فآجر العبد نفسه فأخذ الغاصب الأجر فأكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقالا: هو ضامن"؛ لأنه أكل مال المالك بغير إذنه، إذ الإجارة قد صحت على ما مر. وله أن الضمان إنما يجب بإتلاف مال محرز؛ لأن التقوم به، وهذا غير محرز في حق الغاصب؛ لأن العبد لا يحرز نفسه عنه فكيف يحرز ما في يده. "وإن وجد المولى الأجر قائما بعينه أخذه"؛ لأنه وجد عين ماله "ويجوز قبض العبد الأجر في قولهم جميعا"؛ لأنه مأذون له في التصرف على اعتبار الفراغ على ما مر. "ومن استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا(3/245)
بأربعة وشهرا بخمسة فهو جائز، والأول منهما بأربعة"؛ لأن الشهر المذكور أولا ينصرف إلى ما يلي العقد تحريا للجواز أو نظرا إلى تنجز الحاجة فينصرف الثاني إلى ما يلي الأول ضرورة. "ومن استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه في أول الشهر ثم جاء آخر الشهر، وهو آبق أو مريض فقال المستأجر أبق أو مرض حين أخذته وقال المولى لم يكن ذلك إلا قبل أن تأتيني بساعة فالقول قول المستأجر، وإن جاء به، وهو صحيح فالقول قول المؤجر"؛ لأنهما اختلفا في أمر محتمل فيترجح بحكم الحال، إذ هو دليل على قيامه من قبل وهو يصلح مرجحا إن لم يصلح حجة في نفسه. أصله الاختلاف في جريان ماء الطاحونة وانقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/246)
باب الاختلاف في الإجارة
قال: "وإذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب أمرتك أن تعمله قباء وقال الخياط بل قميصا أو قال: صاحب الثوب للصباغ أمرتك أن تصبغه أحمر فصبغته أصفر وقال الصباغ لا بل أمرتني أصفر فالقول لصاحب الثوب"؛ لأن الإذن يستفاد من جهته؛ ألا ترى أنه لو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فكذا إذا أنكر صفته، لكن يحلف؛ لأنه أنكر شيئا لو أقر به لزمه.
قال: "وإذا حلف فالخياط ضامن" ومعناه ما مر من قبل أنه بالخيار إن شاء ضمنه، وإن شاء أخذه، وأعطاه أجر مثله، وكذا يخير في مسألة الصبغ إذا حلف إن شاء ضمنه قيمة الثوب أبيض، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به المسمى. وذكر في بعض النسخ: يضمنه ما زاد الصبغ فيه؛ لأنه بمنزلة الغصب. "وإن قال: صاحب الثوب عملته لي بغير أجر وقال الصانع بأجر فالقول قول صاحب الثوب" عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله إذ هو يتقوم بالعقد وينكر الضمان والصانع يدعيه والقول قول المنكر "وقال أبو يوسف: إن كان الرجل حريفا له" أي خليطا له "فله الأجر وإلا فلا"؛ لأن سبق ما بينهما يعين جهة الطلب بأجر جريا على معتادهما "وقال محمد: إن كان الصانع معروفا بهذه الصنعة بالأجر فالقول قوله"؛ لأنه لما فتح الحانوت لأجله جرى ذلك مجرى التنصيص على الأجر اعتبارا للظاهر، والقياس ما قاله أبو حنيفة؛ لأنه منكر. والجواب عن استحسانهما أن الظاهر للدفع، والحاجة هاهنا إلى الاستحقاق والله أعلم.(3/246)
باب فسخ الإجارة
قال: "ومن استأجر دارا فوجد بها عيبا يضر بالسكنى فله الفسخ"؛ لأن المعقود عليه(3/246)
المنافع، وأنها توجد شيئا فشيئا فكان هذا عيبا حادثا قبل القبض فيوجب الخيار كما في البيع، ثم المستأجر إذا استوفى المنفعة فقد رضي بالعيب فيلزمه جميع البدل كما في البيع، وإن فعل المؤجر ما أزال به العيب فلا خيار للمستأجر لزوال سببه.
قال: "وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة أو انقطع الماء عن الرحى انفسخت الإجارة"؛ لأن المعقود عليه قد فات، وهي المنافع المخصوصة قبل القبض فشابه فوت المبيع قبل القبض وموت العبد المستأجر. ومن أصحابنا من قال: إن العقد لا ينفسخ؛ لأن المنافع قد فاتت على وجه يتصور عودها فأشبه الإباق في البيع قبل القبض. وعن محمد أن الآجر لو بناها ليس للمستأجر أن يمتنع ولا للآجر، وهذا تنصيص منه على أنه لم ينفسخ لكنه يفسخ. "ولو انقطع ماء الرحى، والبيت مما ينتفع به لغير الطحن فعليه عن الأجر بحصته"؛ لأنه جزء من المعقود عليه.
قال: "وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة لنفسه انفسخت"؛ لأنه لو بقي العقد تصير المنفعة المملوكة به أو الأجرة المملوكة لغير العاقد مستحقة بالعقد؛ لأنه ينتقل بالموت إلى الوارث وذلك لا يجوز "وإن عقدها لغيره لم تنفسخ" مثل الوكيل والوصي والمتولي في الوقف لانعدام ما أشرنا إليه من المعنى.
قال: "ويصح شرط الخيار في الإجارة" وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح؛ لأن المستأجر لا يمكنه رد المعقود عليه بكماله لو كان الخيار له لفوات بعضه، ولو كان للمؤجر فلا يمكنه التسليم أيضا على الكمال، وكل ذلك يمنع الخيار. ولنا أنه عقد معاملة لا يستحق القبض فيه في المجلس فجاز اشتراط الخيار فيه كالبيع والجامع بينهما دفع الحاجة، وفوات بعض المعقود عليه في الإجارة لا يمنع الرد بخيار العيب، فكذا بخيار الشرط، بخلاف البيع، وهذا؛ لأن رد الكل ممكن في البيع دون الإجارة فيشترط فيه دونها ولهذا يجبر المستأجر على القبض إذا سلم المؤجر بعد مضي بعض المدة.
قال: "وتفسخ الإجارة بالأعذار" عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا تفسخ إلا بالعيب؛ لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى يجوز العقد عليها فأشبه البيع. ولنا أن المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها فصار العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع فتنفسخ به، إذ المعنى يجمعهما وهو عجز العاقد عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم يستحق به، وهذا هو معنى العذر عندنا "وهو كمن استأجر حدادا ليقلع ضرسه لوجع به فسكن الوجع أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام الوليمة فاختلعت منه تفسخ الإجارة"؛ لأن في المضي عليه(3/247)
إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد "وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه فذهب ماله، وكذا من أجر دكانا أو دارا ثم أفلس، ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في الديون"؛ لأن في الجري على موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد وهو الحبس؛ لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر. ثم قوله فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر إلى قضاء القاضي في النقض، وهكذا ذكر في الزيادات في عذر الدين، وقال في الجامع الصغير: وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه تنتقض، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي. ووجهه أن هذا بمنزلة العيب قبل القبض في المبيع على ما مر فينفرد العاقد بالفسخ. ووجه الأول أنه فصل مجتهد فيه فلا بد من إلزام القاضي، ومنهم من وفق فقال: إذا كان العذر ظاهرا لا يحتاج إلى القضاء لظهور العذر، وإن كان غير ظاهر كالدين يحتاج إلى القضاء لظهور العذر.
"ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من السفر فهو عذر"؛ لأنه لو مضى على موجب العقد يلزمه ضرر زائد؛ لأنه ربما يذهب للحج فذهب وقته أو لطلب غريمه فحضر أو للتجارة فافتقر "وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر"؛ لأنه يمكنه أن يقعد ويبعث الدواب على يد تلميذه أو أجيره "ولو مرض المؤاجر فقعد فكذا الجواب" على رواية الأصل. وروى الكرخي عن أبي حنيفة أنه عذر؛ لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند الضرورة دون الاختيار "ومن آجر عبده ثم باعه فليس بعذر"؛ لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب عقد، وإنما يفوته الاسترباح وأنه أمر زائد.
قال: "وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل فهو العذر"؛ لأنه يلزمه الضرر بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده وهو رأس ماله، وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه، أما الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط والمقراض فلا يتحقق الإفلاس فيه. "وإن أراد ترك الخياطة، وأن يعمل في الصرف فليس بعذر"؛ لأنه يمكنه أن يقعد الغلام للخياطة في ناحية، وهو يعمل في الصرف في ناحية، وهذا بخلاف ما إذا استأجر دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل آخر حيث جعله عذرا ذكره في الأصل؛ لأن الواحد لا يمكنه الجمع بين العملين، أما هاهنا العامل شخصان فأمكنهما.
"ومن استأجر غلاما يخدمه في المصر ثم سافر فهو عذر"؛ لأنه لا يعرى عن إلزام ضرر زائد؛ لأن خدمة السفر أشق، وفي المنع من السفر ضرر، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون عذرا "وكذا إذا أطلق" لما مر أنه يتقيد بالحضر، بخلاف ما إذا آجر عقارا ثم سافر؛ لأنه لا ضرر إذ المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته، حتى لو أراد(3/248)
المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر.(3/249)
مسائل منثورة
قال: "ومن استأجر أرضا أو استعارها فأحرق الحصائد فاحترق شيء من أرض أخرى فلا ضمان عليه"؛ لأنه غير متعد في هذا التسبيب فأشبه حافر البئر في دار نفسه. وقيل هذا إذا كانت الرياح هادئة ثم تغيرت، أما إذا كانت مضطربة يضمن؛ لأن موقد النار يعلم أنها لا تستقر في أرضه.
قال: "وإذا أقعد الخياط أو الصباغ في حانوته من يطرح عليه العمل بالنصف فهو جائز" لأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، فهذا بوجاهته يقبل وهذا بحذاقته يعمل فينتظم بذلك المصلحة فلا تضره الجهالة فيما يحصل.
قال: "ومن استأجر جملا ليحمل عليه محملا وراكبين إلى مكة جاز وله المحمل المعتاد" وفي القياس لا يجوز؛ وهو قول الشافعي للجهالة وقد يفضي ذلك إلى المنازعة. وجه الاستحسان أن المقصود هو الراكب وهو معلوم والمحمل تابع، وما فيه من الجهالة يرتفع بالصرف إلى المتعارف فلا يفضي ذلك إلى المنازعة وكذا إذا لم ير الوطاء والدثر.
قال: "وإن شاهد الجمال الحمل فهو أجود"؛ لأنه أنفى للجهالة وأقرب إلى تحقق الرضا.
قال: "وإن استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد فأكل منه في الطريق جاز له أن يرد عوض ما أكل"؛ لأنه استحق عليه حملا مسمى في جميع الطريق فله أن يستوفيه "وكذا غير الزاد من المكيل والموزون" ورد الزاد معتاد عند البعض كرد الماء فلا مانع من العمل بالإطلاق والله أعلم.(3/249)
كتاب المكاتب
كيفية المكاتبة
مدخل
...
كتاب المكاتب
قال: "وإذا كاتب المولى عبده أو أمته على مال شرطه عليه وقبل العبد ذلك صار مكاتبا" أما الجواز فلقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] وهذا ليس أمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء، وإنما هو أمر ندب هو الصحيح. وفي الحمل على الإباحة إلغاء الشرط إذ هو مباح بدونه، أما الندبية معلقة به، والمراد بالخير المذكور على ما قيل أن لا يضر بالمسلمين بعد العتق، فإن كان يضر بهم فالأفضل أن لا يكاتبه وإن كان يصح لو فعله. وأما اشتراط قبول العبد فلأنه مال يلزمه فلا بد من التزامه ولا يعتق إلا بأداء كل البدل لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيما عبد كوتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد" وقال عليه الصلاة والسلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" وفيه اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، وما اخترناه قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ويعتق بأدائه وإن لم يقل المولى إذا أديتها فأنت حر لأن موجب العقد يثبت من غير التصريح به كما في البيع، ولا يجب حط شيء من البدل اعتبارا بالبيع.
قال: "ويجوز أن يشترط المال حالا ويجوز مؤجلا ومنجما" وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز حالا ولا بد من نجمين، لأنه عاجز عن التسليم في زمان قليل لعدم الأهلية قبله للرق، بخلاف السلم على أصله لأنه أهل للملك فكان احتمال القدرة ثابتا، وقد دل الإقدام على العقد عليها فيثبت. ولنا ظاهر ما تلونا من غير شرط التنجيم، ولأنه عقد معاوضة والبدل معقود به فأشبه الثمن في البيع في عدم اشتراط القدرة عليه، بخلاف السلم على أصلنا لأن المسلم فيه معقود عليه فلا بد من القدرة عليه، ولأن مبنى الكتابة على المساهلة فيمهله المولى ظاهرا، بخلاف السلم لأن مبناه على المضايقة وفي الحال كما امتنع من الأداء يرد إلى الرق.
قال: "وتجوز كتابة العبد الصغير إذا كان يعقل الشراء والبيع" لتحقق الإيجاب والقبول، إذ العاقل من أهل القبول والتصرف نافع في حقه. والشافعي يخالفنا فيه وهو بناء على مسألة إذن الصبي في التجارة، وهذا بخلاف ما إذا كان لا يعقل البيع(3/250)
والشراء لأن القبول لا يتحقق منه فلا ينعقد العقد، حتى لو أدى عنه غيره لا يعتق ويسترد ما دفع.
قال: "ومن قال لعبده: جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نجوما أول النجم كذا وآخره كذا فإذا أديتها فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق فإن هذه مكاتبة" لأنه أتى بتفسير الكتابة، ولو قال: إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة فأنت حر فهذه مكاتبة في رواية أبي سليمان. لأن التنجيم يدل على الوجوب وذلك بالكتابة. وفي نسخ أبي حفص لا تكون مكاتبة اعتبارا بالتعليق بالأداء مرة.
قال: "وإذا صحت الكتابة خرج المكاتب عن يد المولى ولم يخرج عن ملكه" أما الخروج من يده فلتحقيق معنى الكتابة وهو الضم فيضم مالكية يده إلى مالكية نفسه أو لتحقيق مقصود الكتابة وهو أداء البدل فيملك البيع والشراء والخروج إلى السفر وإن نهاه المولى، وأما عدم الخروج عن ملكه فلما روينا، ولأنه عقد معاوضة ومبناه على المساواة، وينعدم ذلك بتنجز العتق ويتحقق بتأخره لأنه يثبت له نوع مالكية ويثبت له في الذمة حق من وجه "فإن أعتقه عتق بعتقه" لأنه مالك لرقبته "وسقط عنه بدل الكتابة" لأنه ما التزمه إلا مقابلا بحصول العتق به وقد حصل دونه.
قال: "وإذا وطئ المولى مكاتبته لزمه العقر" لأنها صارت أخص بأجزائها توسلا إلى المقصود بالكتابة وهو الوصول إلى البدل من جانبه وإلى الحرية من جانبها بناء عليه، ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان "وإن جنى عليها أو على ولدها لزمته الجناية" لما بينا "وإن أتلف مالا لها غرم" لأن المولى كالأجنبي في حق أكسابها ونفسها، إذ لو لم يجعل كذلك لأتلفه المولى فيمتنع حصول الغرض المبتغى بالعقد، والله أعلم بالصواب.(3/251)
فصل: في الكتابة الفاسدة
قال: "وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير أو على قيمة نفسه فالكتابة فاسدة" أما الأول فلأن الخمر والخنزير لا يستحقه المسلم لأنه ليس بمال في حقه فلا يصلح بدلا فيفسد العقد. وأما الثاني فلأن القيمة مجهولة قدرا وجنسا ووصفا فتفاحشت الجهالة وصار كما إذا كاتب على ثوب أو دابة، ولأنه تنصيص على ما هو موجب العقد الفاسد لأنه موجب للقيمة.
قال: "فإن أدى الخمر عتق" وقال زفر: لا يعتق إلا بأداء قيمة نفسه، لأن البدل هو القيمة. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يعتق بأداء الخمر لأنه بدل صورة، ويعتق بأداء القيمة(3/251)
أيضا لأنه هو البدل معنى. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه إنما يعتق بأداء عين الخمر إذا قال إن أديتها فأنت حر لأنه حينئذ يكون العتق بالشرط لا بعقد الكتابة، وصار كما إذا كاتب على ميتة أو دم ولا فصل في ظاهر الرواية. ووجه الفرق بينهما وبين الميتة أن الخمر والخنزير مال في الجملة فأمكن اعتبار معنى العقد فيه، وموجبه العتق عند أداء العوض المشروط. وأما الميتة فليست بمال أصلا فلا يمكن اعتبار معنى العقد فيه فاعتبر فيه معنى الشرط وذلك بالتنصيص عليه "وإذا عتق بأداء عين الخمر لزمه أن يسعى في قيمته" لأنه وجب عليه رد رقبته لفساد العقد وقد تعذر بالعتق فيجب رد قيمته كما في البيع الفاسد إذا تلف المبيع.
قال: "ولا ينقص عن المسمى ويزاد عليه" لأنه عقد فاسد فتجب القيمة عند هلاك المبدل بالغة ما بلغت كما في البيع الفاسد، وهذا لأن المولى ما رضي بالنقصان والعبد رضي بالزيادة كي لا يبطل حقه في العتق أصلا فتجب قيمته بالغة ما بلغت، وفيما إذا كاتبه على قيمته يعتق بأداء القيمة لأنه هو البدل. وأمكن اعتبار معنى العقد فيه وأثر الجهالة في الفساد، بخلاف ما إذا كاتبه على ثوب حيث لا يعتق بأداء ثوب لأنه لا يوقف فيه على مراد العاقد لاختلاف أجناس الثوب فلا يثبت العتق بدون إرادته.
قال: "وكذلك إن كاتبه على شيء بعينه لغيره لم يجز" لأنه لا يقدر على تسليمه. ومراده شيء يتعين بالتعيين، حتى لو قال كاتبتك على هذه الألف الدراهم وهي لغيره جاز لأنها لا تتعين في المعاوضات فيتعلق بدراهم دين في الذمة فيجوز. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في رواية الحسن أنه يجوز، حتى إذا ملكه وسلمه يعتق، وإن عجز يرد في الرق لأن المسمى مال والقدرة على التسليم موهوم فأشبه الصداق. قلنا: إن العين في المعاوضات معقود عليه والقدرة على المعقود عليه شرط للصحة إذا كان العقد يحتمل الفسخ كما في البيع، بخلاف الصداق في النكاح لأن القدرة على ما هو المقصود بالنكاح ليس بشرط، فعلى ما هو تابع فيه أولى. فلو أجاز صاحب العين ذلك فعن محمد أنه يجوز لأنه يجوز البيع عند الإجازة فالكتابة أولى. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز اعتبارا بحال عدم الإجازة على ما قال في الكتاب، والجامع أنه لا يفيد ملك المكاسب وهو المقصود لأنها تثبت للحاجة إلى الأداء منها ولا حاجة فيما إذا كان البدل عينا معينا، والمسألة فيه على ما بيناه. وعن أبي يوسف أنه يجوز أجاز ذلك أو لم يجز، غير أنه عند الإجازة يجب تسليم عينه، وعند عدمها يجب تسليم قيمته كما في النكاح، والجامع بينهما صحة التسمية لكونه مالا، ولو ملك المكاتب ذلك العين، فعن أبي حنيفة رواه أبو يوسف أنه إذا أداه لا يعتق، وعلى هذه الرواية لم ينعقد(3/252)
العقد إلا إذا قال له إذا أديت إلي فأنت حر فحينئذ يعتق بحكم الشرط، وهكذا عن أبي يوسف رحمه الله. وعنه أنه يعتق قال ذلك أو لم يقل، لأن العقد ينعقد مع الفساد لكون المسمى مالا فيعتق بأداء المشروط. ولو كاتبه على عين في يد المكاتب ففيه روايتان، وهي مسألة الكتابة على الأعيان، وقد عرف ذلك في الأصل، وقد ذكرنا وجه الروايتين في كفاية المنتهى.
قال: "وإذا كاتبه على مائة دينار على أن يرد المولى عليه عبدا بغير عينه فالكتابة فاسدة عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: هي جائزة، ويقسم المائة الدينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فيبطل منها حصة العبد فيكون مكاتبا بما بقي" لأن العبد المطلق يصلح بدل الكتابة وينصرف إلى الوسط، فكذا يصلح مستثنى منه وهو الأصل في أبدال العقود. ولهما أنه لا يستثنى العبد من الدنانير، وإنما تستثنى قيمته والقيمة لا تصلح بدلا فكذلك مستثنى.
قال: "وإذا كاتبه على حيوان غير موصوف فالكتابة جائزة" معناه أن يبين الجنس ولا يبين النوع والصفة "وينصرف إلى الوسط ويجبر على قبول القيمة" وقد مر في النكاح.
أما إذا لم يبين الجنس مثل أن يقول دابة لا يجوز لأنه يشمل أجناسا مختلفة فتتفاحش الجهالة، وإذا بين الجنس كالعبد والوصيف فالجهالة يسيرة ومثلها يتحمل في الكتابة فتعتبر جهالة البدل بجهالة الأجل فيه. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو القياس لأنه معاوضة فأشبه البيع. ولنا أنه معاوضة مال بغير مال أو بمال لكن على وجه يسقط الملك فيه فأشبه النكاح، والجامع أنه يبتنى على المسامحة، بخلاف البيع لأنه مبني على المماكسة.
قال: "وإذا كاتب النصراني عبده على خمر فهو جائز" معناه إذا كان مقدارا معلوما والعبد كافرا لأنها مال في حقهم بمنزلة الخل في حقنا "وأيهما أسلم فللمولى قيمة الخمر" لأن المسلم ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها، وفي التسليم ذلك إذ الخمر غير معين فيعجز عن تسليم البدل فيجب عليه قيمتها، وهذا بخلاف ما إذا تبايع الذميان خمرا ثم أسلم أحدهما حيث يفسد البيع على ما قاله البعض، لأن القيمة تصلح بدلا في الكتابة في الجملة، فإنه لو كاتب على وصيف وأتى بالقيمة يجبر على القبول فجاز أن يبقى العقد على القيمة، فأما البيع فلا ينعقد صحيحا على القيمة فافترقا.
قال: "وإذا قبضها عتق" لأن في الكتابة معنى المعاوضة. فإذا وصل أحد العوضين(3/253)
إلى المولى سلم العوض الآخر للعبد وذلك بالعتق، بخلاف ما إذا كان العبد مسلما حيث لم تجز الكتابة لأن المسلم ليس من أهل التزام الخمر، ولو أداها عتق وقد بيناه من قبل. والله أعلم بالصواب.(3/254)
باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله
مدخل
...
باب ما يجوز للمكاتب أن يفعله
قال: "ويجوز للمكاتب البيع والشراء والسفر" لأن موجب الكتابة أن يصير حرا يدا، وذلك بمالكية التصرف مستبدا به تصرفا يوصله إلى مقصوده وهو نيل الحرية بأداء البدل، والبيع والشراء من هذا القبيل، وكذا السفر لأن التجارة ربما لا تتفق في الحضر فتحتاج إلى المسافرة، ويملك البيع بالمحاباة لأنه من صنيع التجار، فإن التاجر قد يحابي في صفقة ليربح في أخرى.
قال: "فإن شرط عليه أن لا يخرج من الكوفة فله أن يخرج استحسانا" لأن هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد وهو مالكية اليد من جهة الاستبداد وثبوت الاختصاص فبطل الشرط وصح العقد لأنه شرط لم يتمكن في صلب العقد، وبمثله لا تفسد الكتابة، وهذا لأن الكتابة تشبه البيع وتشبه النكاح فألحقناه بالبيع في شرط تمكن في صلب العقد، كما إذا شرط خدمة مجهولة لأنه في البدل وبالنكاح في شرط لم يتمكن في صلبه هذا هو الأصل. أو نقول: إن الكتابة في جانب العبد إعتاق لأنه إسقاط الملك، وهذا الشرط يخص العبد فاعتبر إعتاقا في حق هذا الشرط، والإعتاق لا يبطل بالشروط الفاسدة.
قال: "ولا يتزوج إلا بإذن المولى" لأن الكتابة فك الحجر مع قيام الملك ضرورة التوسل إلى المقصود، والتزوج ليس وسيلة إليه، ويجوز بإذن المولى لأن الملك له "ولا يهب ولا يتصدق إلا بالشيء اليسير" لأن الهبة والصدقة تبرع وهو غير مالك ليملكه، إلا أن الشيء اليسير من ضرورات التجارة لأنه لا يجد بدا من ضيافة وإعارة ليجتمع عليه المجاهزون. ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته وتوابعه "ولا يتكفل" لأنه تبرع محض، فليس من ضرورات التجارة والاكتساب ولا يملكه بنوعيه نفسا ومالا لأن كل ذلك تبرع "ولا يقرض" لأنه تبرع ليس من توابع الاكتساب "فإن وهب على عوض لم يصح" لأنه تبرع ابتداء "وإن زوج أمته جاز" لأنه اكتساب للمال فإنه يتملك به المهر فدخل تحت العقد.
قال: "وكذلك إن كاتب عبده" والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر والشافعي، لأن مآله العتق والمكاتب ليس من أهله كالإعتاق على مال. وجه الاستحسان أنه عقد اكتساب للمال فيملكه كتزويج الأمة وكالبيع وقد يكون هو أنفع له(3/254)
من البيع لأنه لا يزيل الملك إلا بعد وصول البدل إليه والبيع يزيله قبله ولهذا يملكه الأب والوصي ثم هو يوجب للمملوك مثل ما هو ثابت له. بخلاف الإعتاق على مال لأنه يوجب فوق ما هو ثابت له.
قال: "فإن أدى الثاني قبل أن يعتق الأول فولاؤه للمولى" لأن له فيه نوع ملك. وتصح إضافة الإعتاق إليه في الجملة، فإذا تعذر إضافته إلى مباشر العقد لعدم الأهلية أضيف إليه كما في العبد إذا اشترى شيئا يثبت الملك للمولى.
قال: "فلو أدى الأول بعد ذلك وعتق لا ينتقل الولاء إليه" لأن المولى جعل معتقا والولاء لا ينتقل عن المعتق "وإن أدى الثاني بعد عتق الأول فولاؤه له" لأن العاقد من أهل ثبوت الولاء وهو الأصل فيثبت له.
قال: "وإن أعتق عبده على مال أو باعه من نفسه أو زوج عبده لم يجز" لأن هذه الأشياء ليست من الكسب ولا من توابعه. أما الأول فلأنه إسقاط الملك عن رقبته وإثبات الدين في ذمه المفلس فأشبه الزوال بغير عوض، وكذا الثاني لأنه إعتاق على مال في الحقيقة. وأما الثالث فلأنه تنقيص للعبد وتعييب له وشغل رقبته بالمهر والنفقة، بخلاف تزويج الأمة لأنه اكتساب لاستفادته المهر على ما مر.
قال: "وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب" لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب، ولأن في تزويج الأمة والكتابة نظرا له، ولا نظر فيما سواهما والولاية نظرية.
قال: "فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: له أن يزوج أمته" وعلى هذا الخلاف المضارب والمفاوض والشريك شركة عنان هو قاسه على المكاتب واعتبره بالإجارة. ولهما أن المأذون له يملك التجارة وهذا ليس بتجارة، فأما المكاتب يتملك الاكتساب وهذا اكتساب، ولأنه مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة دون الإجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال ولهذا لا يملك هؤلاء كلهم تزويج العبد، والله أعلم بالصواب.(3/255)
فصل: وإذا اشترى المكاتب أباه أو ابنه دخل في كتابته
...
فصل: قال: "وإذا اشترى المكاتب أباه أو ابنه دخل في كتابته"
لأنه من أهل أن يكاتب وإن لم يكن من أهل الإعتاق فيجعل مكاتبا تحقيقا للصلة بقدر الإمكان، ألا ترى أن الحر متى كان يملك الإعتاق يعتق عليه "وإن اشترى ذا رحم محرم منه لأولاد له لم يدخل في كتابته عند(3/255)
أبي حنيفة. وقالا: يدخل" اعتبارا بقرابة الولاد إذ وجوب الصلة ينتظمهما ولهذا لا يفترقان في الحر في حق الحرية. وله أن للمكاتب كسبا لا ملكا، غير أن الكسب يكفي الصلة في الولاد حتى أن القادر على الكسب يخاطب بنفقة الوالد والولد ولا يكفي في غيرهما حتى لا تجب نفقة الأخ إلا على الموسر، ولأن هذه قرابة توسطت بين بني الأعمام وقرابة الولاد فألحقناها بالثاني في العتق، وبالأول في الكتابة وهذا أولى لأن العتق أسرع نفوذا من الكتابة، حتى أن أحد الشريكين إذا كاتب كان للآخر فسخه، وإذا أعتق لا يكون له فسخه.
قال: "وإذا اشترى أم ولده دخل ولدها في الكتابة ولم يجز بيعها" ومعناه إذا كان معها ولدها، أما دخول الولد في الكتابة فلما ذكرناه. وأما امتناع بيعها فلأنها تبع للولد في هذا الحكم، قال عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها" وإن لم يكن معها ولدها فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد لأنها أم ولد خلافا لأبي حنيفة. وله أن القياس أن يجوز بيعها وإن كان معها ولد لأن كسب المكاتب موقوف فلا يتعلق به ما لا يحتمل الفسخ، إلا أنه يثبت به هذا الحق فيما إذا كان معها ولد تبعا لثبوته في الولد بناء عليه، وبدون الولد لو ثبت ثبت ابتداء والقياس ينفيه "وإن ولد له ولد من أمة له دخل في كتابته" لما بينا في المشترى "فكان حكمه كحكمه وكسبه له" لأن كسب الولد كسب كسبه ويكون كذلك قبل الدعوة فلا ينقطع بالدعوة اختصاصه، "وكذلك إن ولدت المكاتبة ولدا" لأن حق امتناع البيع ثابت فيها مؤكدا فيسري إلى الولد كالتدبير والاستيلاد.
قال: "ومن زوج أمته من عبده ثم كاتبهما فولدت منه ولدا دخل في كتابتها وكان كسبه لها" لأن تبعية الأم أرجح ولهذا يتبعها في الرق والحرية.
قال: "وإن تزوج المكاتب بإذن مولاه امرأة زعمت أنها حرة فولدت منه ثم استحقت فأولادها عبيد ولا يأخذهم بالقيمة، وكذلك العبد يأذن له المولى بالتزويج، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: أولادها أحرار بالقيمة" لأنه شارك الحر في سبب ثبوت هذا الحق وهو الغرور، وهذا لأنه ما رغب في نكاحها إلا لينال حرية الأولاد، ولهما أنه مولود بين رقيقين فيكون رقيقا، وهذا لأن الأصل أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، وخالفنا هذا الأصل في الحر بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ليس في معناه لأن حق المولى هناك مجبور بقيمة ناجزة وهاهنا بقيمة متأخرة إلى ما بعد العتق فيبقى على الأصل ولا يلحق به.(3/256)
قال: "وإن وطئ المكاتب أمة على وجه الملك بغير إذن المولى ثم استحقها رجل فعليه العقر يؤخذ به في الكتابة، وإن وطئها على وجه النكاح لم يؤخذ به حتى يعتق وكذلك المأذون له" ووجه الفرق أن في الفصل الأول ظهر الدين في حق المولى لأن التجارة وتوابعها داخلة تحت الكتابة، وهذا العقر من توابعها، لأنه لولا الشراء لما سقط الحد وما لم يسقط الحد لا يجب العقر. أما لم يظهر في الفصل الثاني لأن النكاح ليس من الاكتساب في شيء فلا تنتظمه الكتابة كالكفالة.
قال: "وإذا اشترى المكاتب جارية شراء فاسدا ثم وطئها فردها أخذ بالعقر في المكاتبة، وكذلك العبد المأذون له" لأنه من باب التجارة، فإن التصرف تارة يقع صحيحا ومرة يقع فاسدا، والكتابة والإذن ينتظمانه بنوعيه كالتوكيل فكان ظاهرا في حق المولى.(3/257)
فصل: وإذا ولدت المكاتبة من المولى فهي بالخيار الخ
...
فصل: قال: "وإذا ولدت المكاتبة من المولى فهي بالخيار إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها، وصارت أم ولد له"
لأنها تلقتها جهتا حرية عاجلة ببدل وآجلة بغير بدل فتخير بينهما، "ونسب ولدها ثابت من المولى وهو حر", لأن المولى يملك الإعتاق في ولدها وما له من الملك يكفي لصحة الاستيلاد بالدعوة. وإذا مضت على الكتابة أخذت العقر من مولاها لاختصاصها بنفسها وبمنافعها على ما قدمنا. ثم إن مات المولى عتقت بالاستيلاد وسقط عنها بدل الكتابة، وإن ماتت هي وتركت مالا تؤدى منه مكاتبتها وما بقي ميراث لابنها جريا على موجب الكتابة، وإن لم تترك مالا فلا سعاية على الولد لأنه حر، ولو ولدت ولدا آخر لم يلزم المولى إلا أن يدعي لحرمة وطئها عليه، فلو لم يدع وماتت من غير وفاء سعى هذا الولد لأنه مكاتب تبعا لها، فلو مات المولى بعد ذلك عتق وبطل عنه السعاية لأنه بمنزلة أم الولد إذ هو ولدها فيتبعها.
قال: "وإذا كاتب المولى أم ولده جاز" لحاجتها إلى استفادة الحرية قبل موت المولى وذلك بالكتابة، ولا تنافي بينهما لأنه تلقتها جهتا حرية "فإن مات المولى عتقت بالاستيلاد" لتعلق عتقها بموت السيد "وسقط عنها بدل الكتابة" لأن الغرض من إيجاب البدل العتق عند الأداء، فإذا عتقت قبله لم يمكن توفير الغرض عليه فسقط وبطلت الكتابة لامتناع إبقائها بغير فائدة، غير أنه تسلم لها الأكساب والأولاد لأن الكتابة انفسخت في حق البدل وبقيت في حق الأكساب والأولاد، لأن الفسخ لنظرها والنظر فيما ذكرناه. ولو أدت المكاتبة قبل موت المولى عتقت بالكتابة لأنها باقية.(3/257)
قال: "وإن كاتب مدبرته جاز" لما ذكرنا من الحاجة ولا تنافي، إذ الحرية غير ثابتة، وإنما الثابت مجرد الاستحقاق "وإن مات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار بين أن تسعى في ثلثي قيمتها أو جميع مال الكتابة" وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: تسعى في أقل منهما. وقال محمد: تسعى في الأقل من ثلثي قيمتها وثلثي بدل الكتابة، فالخلاف في الخيار والمقدار، فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المقدار، ومع محمد في نفي الخيار. أما الخيار ففرع تجزؤ الإعتاق عنده لما تجزأ بقي الثلثان رقيقا وقد تلقاها جهتا حرية ببدلين معجل بالتدبير ومؤجل بالكتابة فتخير. وعندهما لما عتق كلها بعتق بعضها فهي حرة وجب عليها أحد المالين فتختار الأقل لا محالة فلا معنى للتخيير. وأما المقدار فلمحمد رحمه الله أنه قابل البدل بالكل وقد سلم لها الثلث بالتدبير فمن المحال أن يجب البدل بمقابلته، ألا ترى أنه لو سلم لها الكل بأن خرجت من الثلث يسقط كل بدل الكتابة فهنا يسقط الثلث وصار كما إذا تأخر التدبير عن الكتابة. ولهما أن جميع البدل مقابل بثلثي رقبتها فلا يسقط منه شيء، وهذا لأن البدل وإن قوبل بالكل صورة وصيغة لكنه مقيد بما ذكرنا معنى وإرادة لأنها استحقت حرية الثلث ظاهرا، والظاهر أن الإنسان لا يلتزم المال بمقابلة ما يستحق حريته وصار كما إذا طلق امرأته ثنتين ثم طلقها ثلاثا على ألف كان جميع الألف بمقابلة الواحدة الباقية لدلالة الإرادة، كذا هاهنا، بخلاف ما إذا تقدمت الكتابة وهي المسألة التي تليه لأن البدل مقابل بالكل إذ لا استحقاق عنده في شيء فافترقا.
قال: "وإن دبر مكاتبته صح التدبير" لما بينا. "ولها الخيار، إن شاءت مضت على الكتابة، وإن شاءت عجزت نفسها وصارت مدبرة" لأن الكتابة ليست بلازمة في جانب المملوك، فإن مضت على كتابتها فمات المولى ولا مال له غيرها فهي بالخيار إن شاءت سعت في ثلثي مال الكتابة أو ثلثي قيمتها عند أبي حنيفة. وقالا: تسعى في الأقل منهما، فالخلاف في هذا الفصل في الخيار بناء على ما ذكرنا. أما المقدار فمتفق عليه، ووجهه ما بينا.
قال: "وإذا أعتق المولى مكاتبه عتق بإعتاقه" لقيام ملكه فيه "وسقط بدل الكتابة" لأنه ما التزمه إلا مقابلا بالعتق وقد حصل له دونه فلا يلزمه، والكتابة وإن كانت لازمة في جانب المولى ولكنه يفسخ برضا العبد والظاهر رضاه توسلا إلى عتقه بغير بدل مع سلامة الأكساب له لأنا نبقي الكتابة في حقه.
قال: "وإن كاتبه على ألف درهم إلى سنة فصالحه على خمسمائة معجلة فهو جائز"(3/258)
استحسانا. وفي القياس لا يجوز لأنه اعتياض عن الأجل وهو ليس بمال والدين مال فكان ربا، ولهذا لا يجوز مثله في الحر ومكاتب الغير. وجه الاستحسان أن الأجل في حق المكاتب مال من وجه لأنه لا يقدر على الأداء إلا به فأعطي له حكم المال، وبدل الكتابة مال من وجه حتى لا تصح الكفالة به فاعتدلا فلا يكون ربا، ولأن عقد الكتابة عقد من وجه دون وجه والأجل ربا من وجه فيكون شبهة الشبهة، بخلاف العقد بين الحرين لأنه عقد من كل وجه فكان ربا والأجل فيه شبهة.
قال: "وإذا كاتب المريض عبده على ألفي درهم إلى سنة وقيمته ألف ثم مات ولا مال له غيره ولم تجز الورثة فإنه يؤدي ثلثي الألفين حالا والباقي إلى أجله أو يرد رقيقا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يؤدي ثلثي الألف حالا والباقي إلى أجله" لأن له أن يترك الزيادة بأن يكاتبه على قيمته فله أن يؤخرها وصار كما إذا خالع المريض امرأته على ألف إلى سنة جاز، لأن له أن يطلقها بغير بدل، ولهما أن جميع المسمى بدل الرقبة حتى أجري عليها أحكام الأبدال وحق الورثة متعلق بالمبدل فكذا بالبدل، والتأجيل إسقاط معنى فيعتبر من ثلث الجميع، بخلاف الخلع لأن البدل فيه لا يقابل المال فلم يتعلق حق الورثة بالمبدل فلا يتعلق بالبدل، ونظير هذا إذا باع المريض داره بثلاثة آلاف إلى سنة وقيمتها ألف ثم مات ولم تجز الورثة فعندهما يقال للمشتري أد ثلثي جميع الثمن حالا والثلث إلى أجله وإلا فانقض البيع، وعنده يعتبر الثلث بقدر القيمة لا فيما زاد عليه لما بينا من المعنى.
قال: "وإن كاتبه على ألف إلى سنة وقيمته ألفان ولم تجز الورثة يقال له أد ثلثي القيمة حالا أو ترد رقيقا في قولهم جميعا" لأن المحاباة هاهنا في القدر والتأخير فاعتبر الثلث فيهما.(3/259)
باب من يكاتب عن العبد
قال: "وإذا كاتب الحر عن عبد بألف درهم، فإن أدى عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل فهو مكاتب" وصورة المسألة أن يقول الحر لمولى العبد كاتب عبدك على ألف درهم على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فكاتبه المولى على هذا يعتق بأدائه بحكم الشرط، وإذا قبل العبد صار مكاتبا، لأن الكتابة كانت موقوفة على إجارته وقبوله إجازة، ولو لم يقل على أني إن أديت إليك ألفا فهو حر فأدى لا يعتق قياسا لأنه لا شرط والعقد موقوف على إجازة العبد. وفي الاستحسان يعتق لأنه لا ضرر للعبد الغائب في تعليق العتق بأداء القائل فيصح في حق(3/259)
هذا الحكم ويتوقف في حق لزوم الألف على العبد. وقيل هذه هي صورة مسألة الكتاب "ولو أدى الحر البدل لا يرجع على العبد" لأنه متبرع.
قال: "وإذا كاتب العبد عن نفسه وعن عبد آخر لمولاه وهو غائب، فإن أدى الشاهد أو الغائب عتقا" ومعنى المسألة أن يقول العبد كاتبني بألف درهم على نفسي وعلى فلان الغائب، وهذه كتابة جائزة استحسانا. وفي القياس: يصح على نفسه لولايته عليها ويتوقف في حق الغائب لعدم الولاية عليه. وجه الاستحسان أن الحاضر بإضافة العقد إلى نفسه ابتداء جعل نفسه فيه أصلا والغائب تبعا، والكتابة على هذا الوجه مشروعة كالأمة إذا كوتبت دخل أولادها في كتابتها تبعا حتى عتقوا بأدائها وليس عليهم من البدل شيء وإذا أمكن تصحيحه على هذا الوجه ينفرد به الحاضر فله أن يأخذه بكل البدل لأن البدل عليه لكونه أصلا فيه، ولا يكون على الغائب من البدل شيء لأنه تبع فيه.
قال: "وأيهما أدى عتقا ويجبر المولى على القبول" أما الحاضر فلأن البدل عليه. وأما الغائب فلأنه ينال به شرف الحرية، وإن لم يكن البدل عليه وصار كمعير الرهن إذا أدى الدين يجبر المرتهن على القبول لحاجته إلى استخلاص عينه وإن لم يكن الدين عليه.
قال: "وأيهما أدى لا يرجع على صاحبه" لأن الحاضر قضى دينا عليه والغائب متبرع به غير مضطر إليه.
قال: "وليس للمولى أن يأخذ الغائب بشيء" لما بينا "فإن قبل العبد الغائب أو لم يقبل فليس ذلك منه بشيء، والكتابة لازمة للشاهد" لأن الكتابة نافذة عليه من غير قبول الغائب فلا تتغير بقبوله، كمن كفل عن غيره بغير أمره فبلغه فأجازه لا يتغير حكمه، حتى لو أدى لا يرجع عليه، كذا هذا.
قال: "وإذا كاتبت الأمة عن نفسها وعن ابنين لها صغيرين فهو جائز، وأيهم أدى لم يرجع على صاحبه ويجبر المولى على القبول ويعتقون" لأنها جعلت نفسها أصلا في الكتابة وأولادها تبعا على ما بينا في المسألة الأولى وهي أولى بذلك من الأجنبي، والله أعلم بالصواب.(3/260)
باب كتاب العبد المشترك
قال: "وإذا كان العبد بين رجلين أذن أحدهما لصاحبه أن يكاتب نصيبه بألف درهم ويقبض بدل الكتابة فكاتب وقبض بعض الألف ثم عجز فالمال للذي قبض عند أبي حنيفة، وقالا: هو مكاتب بينهما وما أدى فهو بينهما" وأصله أن الكتابة تتجزأ(3/260)
عنده خلافا لهما بمنزلة الإعتاق، لأنها تفيد الحرية من وجه فتقتصر على نصيبه عنده للتجزؤ، وفائدة الإذن أن لا يكون له حق الفسخ كما يكون له إذا لم يأذن، وإذنه له بقبض البدل إذن للعبد بالأداء فيكون متبرعا بنصيبه عليه فلهذا كان كل المقبوض له. وعندهما الإذن بكتابة نصيبه إذن بكتابة الكل لعدم التجزؤ، فهو أصيل في النصف وكيل في النصف فهو بينهما والمقبوض مشترك بينهما فيبقى كذلك بعد العجز.
قال: "وإذا كانت جارية بين رجلين كاتباها فوطئها أحدهما فجاءت بولد فادعاه ثم وطئها الآخر فجاءت بولد فادعاه ثم عجزت فهي أم ولد للأول" لأنه لما ادعى أحدهما الولد صحت دعوته لقيام الملك له فيها وصار نصيبه أم ولد له، لأن المكاتبة لا تقبل النقل من ملك إلى ملك فتقتصر أمومية الولد على نصيبه كما في المدبرة المشتركة، وإذا ادعى الثاني ولدها الأخير صحت دعوته لقيام ملكه ظاهرا، ثم إذا عجزت بعد ذلك جعلت الكتابة كأن لم تكن وتبين أن الجارية كلها أم ولد للأول لأنه زال المانع من الانتقال ووطؤه سابق.
قال: "ويضمن نصف قيمتها" لأنه تملك نصيبه لما استكمل الاستيلاد.
قال: "ونصف عقرها" لوطئه جارية مشتركة.
قال: "ويضمن شريكه كمال عقرها وقيمة الولد ويكون ابنه" لأنه بمنزلة المغرور، لأنه حين وطئها كان ملكه قائما ظاهرا. وولد المغرور ثابت النسب منه حر بالقيمة على ما عرف لكنه وطئ أم ولد الغير حقيقة فيلزمه كمال العقر.
قال: "وأيهما دفع العقر إلى المكاتبة جاز" لأن الكتابة ما دامت باقية فحق القبض لها لاختصاصها بمنافعها وأبدالها، وإذا عجزت ترد العقر إلى المولى لظهور اختصاصه "وهذا" الذي ذكرنا "كله قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: هي أم ولد للأول ولا يجوز وطء الآخر" لأنه لما ادعى الأول الولد صارت كلها أم ولد له لأن أمومية الولد يجب تكميلها بالإجماع ما أمكن، وقد أمكن بفسخ الكتابة لأنها قابلة للفسخ فتفسخ فيما لا تتضرر به المكاتبة وتبقى الكتابة فيما وراءه، بخلاف التدبير لأنه لا يقبل الفسخ، وبخلاف بيع المكاتب لأن في تجويزه إبطال الكتابة إذ المشتري لا يرضى ببقائه مكاتبا. وإذا صارت كلها أم ولد له فالثاني وطئ أم ولد الغير.
قال:"فلا يثبت نسب الولد منه ولا يكون حرا عليه بالقيمة" غير أنه لا يجب الحد عليه للشبهة.
قال: "ويلزمه جميع العقر" لأن الوطء لا يعرى عن إحدى الغرامتين، وإذا بقيت(3/261)
الكتابة وصارت كلها مكاتبة له، قيل يجب عليها نصف بدل الكتابة لأن الكتابة انفسخت فيما لا تتضرر به المكاتبة ولا تتضرر بسقوط نصف البدل. وقيل يجب كل البدل لأن الكتابة لم تنفسخ إلا في حق التملك ضرورة فلا يظهر في حق سقوط نصف البدل وفي إبقائه في حقه نظر للمولى وإن كان لا تتضرر المكاتبة بسقوطه، والمكاتبة هي التي تعطي العقر لاختصاصها بأبدال منافعها. ولو عجزت وردت في الرق ترد إلى المولى لظهور اختصاصه على ما بينا.
قال: "ويضمن الأول لشريكه في قياس قول أبي يوسف رحمه الله نصف قيمتها مكاتبة" لأنه تملك نصيب شريكه وهي مكاتبة فيضمنه موسرا كان أو معسرا لأنه ضمان التملك.
قال: "وفي قول محمد: يضمن الأقل من نصف قيمتها ومن نصف ما بقي من بدل الكتابة" لأن حق شريكه في نصف الرقبة على اعتبار العجز، وفي نصف البدل على اعتبار الأداء فلتردد بينهما يجب أقلهما.
قال: "وإذا كان الثاني لم يطأها ولكن دبرها ثم عجزت بطل التدبير" لأنه لم يصادف الملك. أما عندهما فظاهر لأن المستولد تملكها قبل العجز. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالعجز تبين أنه تملك نصيبه من وقت الوطء فتبين أنه مصادف ملك غيره والتدبير يعتمد الملك، بخلاف النسب لأنه يعتمد الغرور على ما مر.
قال: "وهي أم ولد للأول" لأنه تملك نصيب شريكه وكمل الاستيلاد على ما بينا.
قال: "ويضمن لشريكه نصف عقرها" لوطئه جارية مشتركة.
قال: "ونصف قيمتها" لأنه تملك نصفها بالاستيلاد وهو تملك بالقيمة.
قال: "والولد ولد الأول" لأنه صحت دعوته لقيام المصحح، وهذا قولهم جميعا. ووجهه ما بينا.
قال: "وإن كانا كاتباها ثم أعتقها أحدهما وهو موسر ثم عجزت يضمن المعتق لشريكه نصف قيمتها ويرجع بذلك عليها عند أبي حنيفة، وقالا: لا يرجع عليها" لأنها لما عجزت وردت في الرق تصير كأنها لم تزل قنة، والجواب فيه على الخلاف في الرجوع وفي الخيارات وغيرها كما هو مسألة تجزؤ الإعتاق وقد قررناه في الإعتاق، فأما قبل العجز ليس له أن يضمن المعتق عند أبي حنيفة لأن الإعتاق لما كان يتجزأ عنده كان أثره أن يجعل نصيب غير المعتق كالمكاتب فلا يتغير به نصيب صاحبه لأنها مكاتبة قبل ذلك وعندهما لما كان لا يتجزأ بعتق الكل فله أن يضمنه قيمة نصيبه مكاتبا إن كان(3/262)
موسرا، ويستسعى العبد إن كان معسرا لأنه ضمان إعتاق فيختلف باليسار والإعسار.
قال: "وإذا كان العبد بين رجلين دبره أحدهما ثم أعتقه الآخر وهو موسر، فإن شاء الذي دبره ضمن المعتق نصف قيمته مدبرا، وإن شاء استسعى العبد، وإن شاء أعتق، وإن أعتقه أحدهما ثم دبره الآخر لم يكن له أن يضمن المعتق ويستسعى أو يعتق، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله" ووجهه أن التدبير يتجزأ عنده فتدبير أحدهما يقتصر على نصيبه لكن يفسد به نصيب الآخر فيثبت له خيرة الإعتاق والتضمين والاستسعاء كما هو مذهبه، فإذا أعتق لم يبق له خيار التضمين والاستسعاء، وإعتاقه يقتصر على نصيبه لأنه يتجزأ عنده، ولكن يفسد به نصيب شريكه فله أن يضمنه قيمة نصيبه، وله خيار العتق والاستسعاء أيضا كما هو مذهبه ويضمنه قيمة نصيبه مدبرا لأن الإعتاق صادف المدبر. ثم قيل: قيمة المدبر تعرف بتقويم المقومين، وقيل يجب ثلثا قيمته زهو قن لأن المنافع أنواع ثلاثة: البيع وأشباهه، والاستخدام وأمثاله، والإعتاق وتوابعه، والفائت البيع فيسقط الثلث. وإذا ضمنه لا يتملكه بالضمان لأنه لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك، كما إذا غصب مدبرا فأبق. وإن أعتقه أحدهما أولا كان للآخر الخيارات الثلاث عنده، فإذا دبره لم يبق له خيار التضمين وبقي خيار الإعتاق والاستسعاء لأن المدبر يعتق ويستسعى "وقال أبو يوسف ومحمد: إذا دبره أحدهما فعتق الآخر باطل" لأنه لا يتجزأ عندهما فيتملك نصيب صاحبه بالتدبير
قال: "ويضمن نصف قيمته موسرا كان أو معسرا" لأنه ضمان تملك فلا يختلف باليسار والإعسار، ويضمن نصف قيمته قنا لأنه صادفه التدبير وهو قن.
قال: "وإن أعتقه أحدهما فتدبير الآخر باطل" لأن الإعتاق لا يتجزأ فعتق كله فلم يصادف التدبير الملك وهو يعتمده.
قال: "ويضمن نصف قيمته إن كان موسرا" ويسعى العبد في ذلك إن كان معسرا لأن هذا ضمان الإعتاق فيختلف ذلك باليسار والإعسار عندهما، والله أعلم.(3/263)
باب موت المكاتب وعجزه وموت المولى
قال: "وإذا عجز المكاتب عن نجم نظر الحاكم في حاله، فإن كان له دين يقبضه أو مال يقدم عليه لم يعجل بتعجيزه وانتظر عليه اليومين أو الثلاثة" نظرا للجانبين، والثلاث هي المدة التي ضربت لإبلاء الأعذار كإمهال الخصم للدفع والمديون للقضاء فلا يزاد عليه.
قال: "فإن لم يكن له وجه وطلب المولى تعجيزه عجزه وفسخ الكتابة، وهذا عند(3/263)
أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يعجزه حتى يتوالى عليه نجمان" لقول علي رضي الله عنه: إذا توالى على المكاتب نجمان رد في الرق علقه بهذا الشرط، ولأنه عقد إرفاق حتى كان أحسنه مؤجله وحالة الوجوب بعد حلول نجم فلا بد من إمهال مدة استيسارا، وأولى المدد ما توافق عليه العاقدان. ولهما أن سبب الفسخ قد تحقق وهو العجز، لأن من عجز عن أداء نجم واحد يكون أعجز عن أداء نجمين، وهذا لأن مقصود المولى الوصول إلى المال عند حلول نجم وقد فات فيفسخ إذا لم يكن راضيا بدونه، بخلاف اليومين والثلاثة لأنه لا بد منها لإمكان الأداء فلم يكن تأخيرا، والآثار متعارضة، فإن المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن مكاتبة له عجزت عن أداء نجم واحد فردها فسقط الاحتجاج بها.
قال: "فإن أخل بنجم عند غير السلطان فعجز فرده مولاه برضاه فهو جائز" لأن الكتابة تفسخ بالتراضي من غير عذر فبالعذر أولى.
قال: "ولو لم يرض به العبد لا بد من القضاء بالفسخ" لأنه عقد لازم تام فلا بد من القضاء أو الرضا كالرد بالعيب بعد القبض.
قال: "وإذا عجز المكاتب عاد إلى أحكام الرق" لانفساخ الكتابة "وما كان في يده من الأكساب فهو لمولاه" لأنه ظهر أنه كسب عبده، وهذا لأنه كان موقوفا عليه أو على مولاه وقد زال التوقف.
قال: "فإن مات المكاتب وله مال لم تنفسخ الكتابة وقضى ما عليه من ماله وحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته وما بقي فهو ميراث لورثته ويعتق أولاده" وهذا قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: تبطل الكتابة ويموت عبدا وما تركه لمولاه، وإمامه في ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأن المقصود من الكتابة عتقه وقد تعذر إثباته فتبطل، وهذا لأنه لا يخلو إما أن يثبت بعد الممات مقصودا أو يثبت قبله أو بعده مستندا، لا وجه إلى الأول لعدم المحلية، ولا إلى الثاني لفقد الشرط وهو الأداء، ولا إلى الثالث لتعذر الثبوت في الحال والشيء يثبت ثم يستند. ولنا أنه عقد معاوضة، ولا يبطل بموت أحد المتعاقدين وهو المولى فكذا بموت الآخر، والجامع بينهما الحاجة إلى إبقاء العقد لإحياء الحق، بل أولى لأن حقه آكد من حق المولى حتى لزم العقد في جانبه، والموت أنفى للمالكية منه للمملوكية فينزل حيا تقديرا، أو(3/264)
تستند الحرية باستناد سبب الأداء إلى ما قبل الموت ويكون أداء خلفه كأدائه، وكل ذلك ممكن على ما عرف تمامه في الخلافيات.
قال: "وإن لم يترك وفاء وترك ولدا مولودا في الكتابة سعى في كتابة أبيه على نجومه فإذا أدى حكمنا بعتق أبيه قبل موته وعتق الولد" لأن الولد داخل في كتابته وكسبه ككسبه فيخلفه في الأداء وصار كما إذا ترك وفاء "وإن ترك ولدا مشترى في الكتابة قيل له إما أن تؤدي الكتابة حالة أو ترد رقيقا" وهذا عند أبي حنيفة. وأما عندهما يؤديه إلى أجله اعتبارا بالولد المولود في الكتابة، والجامع أنه يكاتب عليه تبعا له ولهذا يملك المولى إعتاقه بخلاف سائر أكسابه. ولأبي حنيفة وهو الفرق بين الفصلين أن الأجل يثبت شرطا في العقد فيثبت في حق من دخل تحت العقد والمشترى لم يدخل لأنه لم يضف إليه العقد ولا يسري حكمه إليه لانفصاله، بخلاف المولود في الكتابة لأنه متصل وقت الكتابة فيسري الحكم إليه وحيث دخل في حكمه سعى في نجومه "فإن اشترى ابنه ثم مات وترك وفاء ورثه ابنه" لأنه لما حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته يحكم بحرية ابنه في ذلك الوقت، لأنه تبع لأبيه في الكتابة فيكون هذا حرا يرث عن حر "وكذلكم إن كان هو وابنه مكاتبين كتابة واحدة" لأن الولد إن كان صغيرا فهو تبع لأبيه وإن كان كبيرا جعلا كشخص واحد، فإذا حكم بحرية الأب يحكم بحريته في تلك الحالة على مامر.
قال: "وإن مات المكاتب وله ولد من حرة وترك دينا وفاء بمكاتبته فجنى الولد فقضي به على عاقلة الأم لم يكن ذلك قضاء بعجز المكاتب" لأن هذا القضاء يقرر حكم الكتابة، لأن من قضيتها إلحاق الولد بموالي الأم وإيجاب العقل عليهم، لكن على وجه يحتمل أن يعتق فينجر الولاء إلى موالي الأب، والقضاء بما يقرر حكمه لا يكون تعجيزا "وإن اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولائه فقضى به لموالي الأم فهو قضاء بالعجز" لأن هذا اختلاف في الولاء مقصودا، وذلك يبتني على بقاء الكتابة وانتقاضها، فإنها إذا فسخت مات عبدا واستقر الولاء على موالي الأم، وإذا بقيت واتصل بها الأداء مات حرا وانتقل الولاء إلى موالي الأب، وهذا فصل مجتهد فيه فينفذ ما يلاقيه من القضاء فلهذا كان تعجيزا.
قال: "وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى لتبدل الملك" فإن العبد يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق، وإليه وقعت الإشارة النبوية في حديث بريرة رضي الله تعالى عنها "هي لها صدقة ولنا هدية" وهذا بخلاف ما إذا أباح للغني والهاشمي، لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح، ونظيره المشتري شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملكه يطيب، ولو عجز قبل الأداء(3/265)
إلى المولى فكذلك الجواب، وهذا عند محمد ظاهر لأن بالعجز يتبدل الملك عنده، وكذا عند أبي يوسف، وإن كان بالعجز يتقرر ملك المولى عنده لأنه لا خبث في نفس الصدقة، وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا به. ولا يجوز ذلك للغني من غير حاجة وللهاشمي لزيادة حرمته والأخذ لم يوجد من المولى فصار كابن السبيل إذا وصل إلى وطنه والفقير إذا استغنى وقد بقي في أيديهما ما أخذا من الصدقة فإنه يطيب لهما، وعلى هذا إذا أعتق المكاتب واستغنى يطيب له ما بقي من الصدقة في يده.
قال: "وإذا جنى العبد فكاتبه مولاه ولم يعلم بالجناية ثم عجز فإنه يدفع أو يفدي" لأن هذا موجب جناية العبد في الأصل ولم يكن عالما بالجناية عند الكتابة حتى يصير مختارا للفداء إلا أن الكتابة مانعة من الدفع، فإذا زال عاد الحكم الأصلي "وكذلك إذا جنى المكاتب ولم يقض به حتى عجز" لما بينا من زوال المانع "وإن قضى به عليه في كتابته ثم عجز فهو دين يباع فيه" لانتقال الحق من الرقبة إلى قيمته بالقضاء، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقد رجع أبو يوسف إليه، وكان يقول أولا يباع فيه وإن عجز قبل القضاء، وهو قول زفر لأن المانع من الدفع وهو الكتابة قائم وقت الجناية، فكما وقعت انعقدت موجبة للقيمة كما في جناية المدبر وأم الولد. ولنا أن المانع قابل للزوال للتردد ولم يثبت الانتقال في الحال فيتوقف على القضاء أو الرضا وصار كالعبد المبيع إذا أبق قبل القبض يتوقف الفسخ على القضاء لتردده واحتمال عوده، كذا هذا، بخلاف التدبير والاستيلاد لأنهما لا يقبلان الزوال بحال.
قال: "وإذا مات المولى المكاتب لم تنفسخ الكتابة" كي لا يؤدي إلى إبطال حق المكاتب، إذ الكتابة سبب الحرية وسبب حق المرء حقه "وقيل له أد المال إلى ورثة المولى على نجومه" لأنه استحقاق الحرية على هذا الوجه والسبب انعقد كذلك فيبقى بهذه الصفة ولا يتغير، إلا أن الورثة يخلفونه في الاستيفاء.
"فإن أعتقه أحد الورثة لم ينفذ عتقه" لأنه لم يملكه، وهذا لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك فكذا بسبب الوراثة. وإن أعتقوه جميعا عتق وسقط عنه بدل الكتابة لأنه يصير إبراء عن بدل الكتابة فإنه حقهم وقد جرى فيه الإرث، وإذا برئ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق كما إذا أبرأه المولى، إلا أنه إذا أعتقه أحد الورثة لا يصير إبراء عن نصيبه، لأنا نجعله إبراء اقتضاء تصحيحا لعتقه. والعتق لا يثبت بإبراء البعض أو أدائه في المكاتب لا في بعضه ولا في كله، ولا وجه إلى إبراء الكل لحق بقية الورثة، والله أعلم.(3/266)
كتاب الولاء
أنواعه
مدخل
...
كتاب الولاء
الولاء نوعان: ولاء عتاقة ويسمى ولاء نعمة وسببه العتق على ملكه في الصحيح، حتى لو عتق قريبه عليه بالوراثة كان الولاء له. وولاء موالاة، وسببه العقد ولهذا يقال ولاء العتاقة وولاء الموالاة، والحكم يضاف إلى سببه، والمعنى فيهما التناصر، وكانت العرب تتناصر بأشياء، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم تناصرهم بالولاء بنوعيه فقال: "إن مولى القوم منهم وحليفهم منهم" والمراد بالحليف مولى الموالاة لأنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف.
قال: "وإذا أعتق المولى مملوكه فولاؤه له" لقول عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق"، ولأن التناصر به فيعقله وقد أحياه معنى بإزالة الرق عنه فيرثه ويصير الولاء كالولاد، ولأن الغنم بالغرم، وكذا المرأة تعتق لما روينا، "ومات معتق لابنة حمزة رضي الله عنهما عنها وعن بنت فجعل النبي عليه الصلاة والسلام المال بينهما نصفين". ويستوى فيه الإعتاق بمال وبغيره لإطلاق ما ذكرناه.
قال: "فإن شرط أنه سائبة فالشرط باطل والولاء لمن أعتق" لأن الشرط مخالف للنص فلا يصح.
قال: "وإذا أدى المكاتب عتق وولاؤه للمولى وإن عتق بعد موت المولى" لأنه عتق عليه بما باشر من السبب وهو الكتابة وقد قررناه في المكاتب "وكذا العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وعتقه بعد موته" لأن فعل الوصي بعد موته كفعله والتركة على حكم ملكه "وإن مات المولى عتق مدبروه وأمهات أولاده" لما بينا في العتاق "وولاؤهم له" لأنه أعتقهم بالتدبير والاستيلاد.
"ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه" لما بينا في العتاق "وولاؤه له" لوجود السبب وهو العتق عليه
"وإذا تزوج عبد رجل أمة لآخر فأعتق مولى الأمة الأمة وهي حامل من العبد عتقت وعتق حملها، وولاء الحمل لمولى الأم لا ينتقل عنه أبدا" لأنه عتق على معتق الأم(3/267)
مقصودا إذ هو جزء منها يقبل الإعتاق مقصودا فلا ينتقل ولاؤه عنه عملا بما روينا "وكذلك إذا ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر" للتيقن بقيام الحمل وقت الإعتاق "أو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر" لأنهما توأمان يتعلقان معا. وهذا بخلاف ما إذا والت رجلا وهي حبلى والزوج والى غيره حيث يكون ولاء الولد لمولى الأب لأن الجنين غير قابل لهذا الولاء مقصودا، لأن تمامه بالإيجاب والقبول وهو ليس بمحل له.
قال: "فإن ولدت بعد عتقها لأكثر من ستة أشهر ولدا فولاؤه لموالي الأم" لأنه عتق تبعا للأم لاتصاله بها بعد عتقها فيتبعها في الولاء ولم يتيقن بقيامه وقت الإعتاق حتى يعتق مقصودا "فإن أعتق الأب جر ولاء ابنه وانتقل عن موالي الأم إلى موالي الأب" لأن العتق هاهنا في الولد يثبت تبعا للأم، بخلاف الأول، وهذا لأن الولاء بمنزلة النسب قال عليه الصلاة والسلام: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث" ثم النسب إلى الآباء فكذلك الولاء والنسبة إلى موالي الأم كانت لعدم أهلية الأب ضرورة، فإذا صار أهلا عاد الولاء إليه؛ كولد الملاعنة ينسب إلى قوم الأم ضرورة، فإذا أكذب الملاعن نفسه ينسب إليه، بخلاف ما إذا أعتقت المعتدة عن موت أو طلاق فجاءت بولد لأقل من سنتين من وقت الموت أو الطلاق حيث يكون الولد مولى لموالي الأم وإن أعتق الأب لتعذر إضافة العلوق إلى ما بعد الموت والطلاق البائن لحرمة الوطء وبعد الطلاق الرجعي لما أنه يصير مراجعا بالشك فأسند إلى حالة النكاح فكان الولد موجودا عند الإعتاق فعتق مقصودا.
"وفي الجامع الصغير وإذا تزوجت معتقة بعبد فولدت أولادا فجنى الأولاد فعقلهم على موالي الأم" لأنهم عتقوا تبعا لأمهم ولا عاقلة لأبيهم ولا مولى، فألحقوا بموالي الأم ضرورة كما في ولد الملاعنة على ما ذكرنا "فإن أعتق الأب جر ولاء الأولاد إلى نفسه" لما بينا "ولا يرجعون على عاقلة الأب بما عقلوا" لأنهم حين عقلوه كان الولاء ثابتا لهم، وإنما يثبت للأب مقصودا لأن سببه مقصود وهو العتق، بخلاف ولد الملاعنة إذا عقل عنه قوم الأم ثم أكذب الملاعن نفسه حيث يرجعون عليه، لأن النسب هنالك يثبت مستندا إلى وقت العلوق وكانوا مجبورين على ذلك فيرجعون.
قال: "ومن تزوج من العجم بمعتقة من العرب فولدت له أولادا فولاء أولادها لمواليها عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول محمد رحمه الله". وقال أبو يوسف: حكمه حكم أبيه، لأن النسب إلى الأب كما إذا كان الأب عربيا، بخلاف ما إذا كان الأب عبدا لأنه هالك معنى. ولهما أن ولاء العتاقة قوي معتبر في حق الأحكام حتى اعتبرت الكفاءة فيه، والنسب في حق العجم ضعيف فإنهم ضيعوا أنسابهم ولهذا لم تعتبر الكفاءة فيما بينهم(3/268)
بالنسب، والقوي لا يعارضه الضعيف، بخلاف ما إذا كان الأب عريبا لأن أنساب العرب قوية معتبرة في حكم الكفاءة والعقل، كما أن تناصرهم بها فأغنت عن الولاء. قال رضي الله عنه: الخلاف في مطلق المعتقة والوضع في معتقة العرب وقع اتفاقا.
"وفي الجامع الصغير: نبطي كافر تزوج بمعتقة كافرة ثم أسلم النبطي ووالى رجلا ثم ولدت أولادا. قال أبو حنيفة ومحمد: مواليهم موالي أمهم. وقال أبو يوسف: مواليهم موالي أبيهم" لأن الولاء وإن كان أضعف فهو من جانب الأب فصار كالمولود بين واحد من الموالي وبين العربية. ولهما أن ولاء الموالاة أضعف حتى يقبل الفسخ، وولاء العتاقة لا يقبله، والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي، وإن كان الأبوان معتقين فالنسبة إلى قوم الأب لأنهما استويا، والترجيح لجانبه لشبهه بالنسب أو لأن النصرة به أكثر.
قال: "وولاء العتاقة تعصيب وهو أحق بالميراث من العمة والخالة" لقوله عليه الصلاة والسلام للذي اشترى عبدا فأعتقه: "هو أخوك ومولاك، إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو خير لك وشر له، ولو مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته" وورث ابنة حمزة رضي الله عنهما على سبيل العصوبة مع قيام وارث وإذ كان عصبة تقدم على ذوي الأرحام وهو المروي عن علي رضي الله عنه: "فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى من المعتق"، لأن المعتق آخر العصبات، وهذا لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "ولم يترك وارثا" قالوا: المراد منه وارث هو عصبة بدليل الحديث الثاني فتأخر عن العصبة دون ذوي الأرحام.
قال: "فإن كان للمعتق عصبة من النسب فهو أولى" لما ذكرنا "وإن لم يكن له عصبة من النسب فميراثه للمعتق".
تأويله إذا لم يكن هناك صاحب فرض ذو حال، أما إذا كان فله الباقي بعد فرض لأنه عصبة على ما روينا، وهذا لأن العصبة من يكون التناصر به لبيت النسبة وبالموالي الانتصار على ما مر والعصبة تأخذ ما بقي "فإن مات المولى ثم مات المعتق فميراثه لبني المولى دون بناته، وليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن" أو كاتب من كاتبن بهذا اللفظ ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره "أو جر ولاء معتقهن" وصورة الجر قدمناها، ولأن ثبوت المالكية والقوة في العتق من جهتها فينسب بالولاء إليها وينسب إليها من ينسب إلى مولاها، بخلاف النسب لأن سبب النسبة فيه الفراش، وصاحب الفراش إنما هو الزوج، والمرأة مملوكة لا مالكة، وليس حكم ميراث المعتق مقصورا على بني المولى بل(3/269)
هو لعصبته الأقرب فالأقرب، لأن الولاء لا يورث ويخلفه فيه من تكون النصرة به، حتى لو ترك المولى أبا وابنا فالولاء للابن عند أبي حنيفة ومحمد لأنه أقربهما عصوبة، وكذلك الولاء للجد دون الأخ عند أبي حنيفة لأنه أقرب في العصوبة عنده. وكذا الولاء لابن المعتقة حتى يرثه دون أخيها لما ذكرنا، إلا أن عقل جناية المعتق على أخيها لأنه من قوم أبيها وجنايته كجنايتها "ولو ترك المولى ابنا وأولاد ابن آخر" معناه بني ابن آخر "فميراث المعتق للابن دون بني الابن لأن الولاء للكبر" هو المروي عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ومعناه القرب على ما قالوا، والصلبي أقرب.(3/270)
فصل: في ولاء الموالاة
قال: "وإذا أسلم رجل على يد رجل ووالاه على أن يرثه ويعقل عنه أو أسلم على يد غيره ووالاه فالولاء صحيح وعقله على مولاه، فإن مات ولا وارث له غيره فميراثه للمولى" وقال الشافعي رحمه الله: الموالاة ليس بشيء لأن فيه إبطال حق بيت المال ولهذا لا يصح في حق وارث آخر ولهذا لا يصح عنده الوصية بجميع المال وإن لم يكن للموصي وارث لحق بيت المال وإنما يصح في الثلث. ولنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] والآية في الموالاة. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أسلم على يد رجل آخر ووالاه فقال: "هو أحق الناس به محياه ومماته" وهذا يشير إلى العقل والإرث في الحالتين هاتين، ولأن ماله حقه فيصرفه إلى حيث شاء، والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق لا أنه مستحق.
قال: "وإن كان له وارث فهو أولى منه، وإن كانت عمة أو خالة أو غيرهما من ذوي الأرحام" لأن الموالاة عقدهما فلا يلزم غيرهما، وذو الرحم وارث، ولا بد من شرط الإرث والعقل كما ذكر في الكتاب لأنه بالالتزام وهو بالشرط، ومن شرطه أن لا يكون المولى من العرب لأن تناصرهم بالقبائل فأغنى عن الموالاة.
قال: "وللمولى أن ينتقل عنه بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه" لأنه عقد غير لازم بمنزلة الوصية، وكذا للأعلى أن يتبرأ عن ولائه لعدم اللزوم، إلا أنه يشترط في هذا أن يكون بمحضر من الآخر كما في عزل الوكيل قصدا، بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول لأنه فسخ حكمي بمنزلة العزل الحكمي في الوكالة.(3/270)
قال: "وإذا عقل عنه لم يكن له أن يتحول بولائه إلى غيره" لأنه تعلق به حق الغير، ولأنه قضى به القاضي، ولأنه بمنزلة عوض ناله كالعوض في الهبة، وكذا لا يتحول ولده، وكذا إذا عقل عن ولده لم يكن لكل واحد منهما أن يتحول لأنهم في حق الولاء كشخص واحد.
قال: "وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحدا" لأنه لازم، ومع بقائه لا يظهر الأدنى.(3/271)
كتاب الإكراه
كيف يثبت حكمه
مدخل
...
كتاب الاكراه
قال: "الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا" لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء أهليته، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق ما توعد به، وذلك إنما يكون من القادر والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة، والذي قاله أبو حنيفة إن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق بدون المنعة. فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان، ولم تكن القدرة في زمنه إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله، ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط خوف المكره وقوع ما يهدد به، وذلك بأن يغلب على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي إليه من الفعل.
قال: "وإذا أكره الرجل على بيع ما له أو على شراء سلعة أو على أن يقر لرجل بألف أو يؤاجر داره فأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو بالحبس فباع أو اشترى فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع" لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي، قال الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضا فيفسد، بخلاف ما إذا أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم لأنه لا يبالي به بالنظر إلى العادة فلا يتحقق به الإكراه إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يستضر به لفوات الرضا، وكذا الإقرار حجة لترجح جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب، وعند الإكراه يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة، ثم إذا باع مكرها وسلم مكرها يثبت به الملك عندنا، وعند زفر لا يثبت لأنه بيع موقوف على الإجازة؛ ألا ترى أنه لو أجاز جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد الملك، ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى محله والفساد لفقد شرطه وهو التراضي فصار كسائر الشروط المفسدة فيثبت الملك عند القبض، حتى لو قبضه وأعتقه أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن نقضه جاز، ويلزمه القيمة كما في سائر البياعات الفاسدة وبإجازة المالك يرتفع المفسد وهو الإكراه وعدم الرضا فيجوز إلا أنه لا ينقطع به حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي ولم يرض البائع بذلك بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن الفساد فيها لحق الشرع وقد تعلق بالبيع الثاني حق(3/272)
العبد وحقه مقدم لحاجته، أما هاهنا الرد لحق العبد وهما سواء فلا يبطل حق الأول لحق الثاني.
قال رضي الله تعالى عنه: ومن جعل البيع الجائز المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره حتى ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات الرضا، ومنهم من جعله رهنا لقصد المتعاقدين، ومنهم من جعله باطلا اعتبارا بالهازل ومشايخ سمرقند رحمهم الله جعلوه بيعا جائزا مفيدا بعض الأحكام على ما هو المعتاد للحاجة إليه
قال: "فإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع" لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف وكذا إذا سلم طائعا، بأن كان الإكراه على البيع لا على الدفع لأنه دليل الإجازة، بخلاف ما إذا أكرهه على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع حيث يكون باطلا، لأن مقصود المكره الاستحقاق لا مجرد اللفظ، وذلك في الهبة بالدفع وفي البيع بالعقد على ما هو الأصل، فدخل الدفع في الإكراه على الهبة دون البيع.
قال: "وإن قبضه مكرها فليس ذلك بإجازة وعليه رده إن كان قائما في يده" لفساد العقد.
قال: "وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره ضمن قيمته للبائع" معناه والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد "وللمكره أن يضمن المكره إن شاء" لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف، فكأنه دفع مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على المشتري بالقيمة لقيامه مقام البائع، وإن ضمن المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته العقود لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه، ولا ينفذ ما كان له قبله لأن الاستناد إلى وقت قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا منها حيث يجوز ما قبله وما بعده لأنه أسقط حقه وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم.(3/273)
فصل: وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر الخ
...
فصل: "وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر، إن أكره على ذلك بحبس أو ضرب أو قيد لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه"
وكذا على هذا الدم ولحم الخنزير، لأن تناول هذه المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها، ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو خيف على ذلك بالضرب(3/273)
الشديد، وغلب على ظنه يباح له ذلك "ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم" لأنه لما أبيح كان بالامتناع عنه معاونا لغيره على هلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة. وعن أبي يوسف أنه لا يأثم لأنه رخصة إذ الحرمة قائمة فكان آخذا بالعزيمة.
قلنا: حالة الاضطرار مستثناة بالنص وهو تكلم بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم فكان إباحة لا رخصة إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة، لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو في دار الحرب.
قال: "وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ بالله أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه" لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر، ففي الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى.
قال: "وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه" لحديث عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث ابتلي به، وقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام: "كيف وجدت قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: "فإن عادوا فعد"، وفيه نزل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] . ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه.
قال: "فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا" لأن خبيبا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، وقال في مثله "هو رفيقي في الجنة" ولأن الحرمة باقية، والامتناع لإعزاز الدين عزيمة، بخلاف ما تقدم للاستثناء.
قال: "وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك" لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة المخمصة وقد تحققت "ولصاحب المال أن يضمن المكره" لأن المكره آلة للمكره فيما يصلح آلة له والإتلاف من هذا القبيل "وإن أكرهه بقتله على قتل غيره لم يسعه أن يقدم عليه ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما" لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما فكذا بهذه الضرورة.
قال: "والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا" قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال زفر: يجب على المكره. وقال(3/274)
أبو يوسف: لا يجب عليهما. وقال الشافعي: يجب عليهما. لزفر أن الفعل من المكره حقيقة وحسا، وقرر الشرع حكمه عليه وهو الإثم، بخلاف الإكراه على إتلاف مال الغير لأنه سقط حكمه وهو الإثم فأضيف إلى غيره، وبهذا يتمسك الشافعي في جانب المكره، ويوجبه على المكره أيضا لوجود التسبيب إلى القتل منه، وللتسبيب في هذا حكم المباشرة عنده كما في شهود القصاص، ولأبي يوسف أن القتل بقي مقصورا على المكره من وجه نظرا إلى التأثيم، وأضيف إلى المكره من وجه نظرا إلى الحمل فدخلت الشبهة في كل جانب. ولهما أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا لحياته فيصير آلة للمكره فيما يصلح آلة له وهو القتل بأن يلقيه عليه ولا يصلح آلة له في الجناية على دينه فيبقى الفعل مقصورا عليه في حق الإثم كما نقول في الإكراه على الإعتاق، وفي إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير ينتقل الفعل إلى المكره في الإتلاف دون الذكاة حتى يحرم كذا هذا.
قال: "وإن أكرهه على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه عندنا" خلافا للشافعي وقد مر في الطلاق.
قال: "ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد" لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف إليه، فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا، ولا سعاية على العبد لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير ولم يوجد واحد منهما، ولا يرجع المكره على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه.
قال: "ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول، وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما لزمه من المتعة" لأن ما عليه كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها، وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف. بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق. "ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل الوكيل جاز استحسانا" لأن الإكراه مؤثر في فساد العقد، والوكالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، ويرجع على المكره استحسانا لأن مقصود المكره زوال ملكه إذا باشر الوكيل، والنذر لا يعمل فيه الإكراه لأنه لا يحتمل الفسخ، ولا رجوع على المكره بما لزمه لأنه لا مطالب له في الدنيا فلا يطالب به فيها، وكذا اليمين، والظهار لا يعمل فيهما الإكراه لعدم احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة والإيلاء والفيء فيه باللسان لأنها تصح مع الهزل، والخلع من جانبه طلاق أو يمين لا يعمل فيه الإكراه، فلو كان هو مكرها على الخلع دونها لزمها البدل لرضاها بالالتزام.(3/275)
قال: "وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي حنيفة، إلا أن يكرهه السلطان، وقال أبو يوسف ومحمد لا يلزمه الحد" وقد ذكرناه في الحدود.
قال: "وإذا أكرهه على الردة لم تبن امرأته منه" لأن الردة تتعلق بالاعتقاد، ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة قد بنت منك وقال هو قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان فالقول قوله استحسانا، لأن اللفظ غير موضوع للفرقة وهي بتبدل الاعتقاد ومع الإكراه لا يدل على التبدل فكان القول قوله، بخلاف الإكراه على الإسلام حيث يصير به مسلما، لأنه لما احتمل واحتمل رجحنا الإسلام في الحالين لأنه يعلو ولا يعلى، وهذا بيان الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعتقده فليس بمسلم، ولو أكره على الإسلام حتى حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة وهي دارئة للقتل. ولو قال الذي أكره على إجراء كلمة الكفر أخبرت عن أمر ماض ولم أكن فعلت بانت منه حكما لا ديانة. لأنه أقر أنه طائع بإتيان ما لم يكره عليه، وحكم هذا الطائع ما ذكرناه. ولو قال أردت ما طلب مني وقد خطر ببالي الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء، لأنه أقر أنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه مخلصا غيره. وعلى هذا إذا أكره على الصلاة للصليب وسب محمد النبي عليه الصلاة والسلام ففعل وقال نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا آخر غير النبي عليه الصلاة والسلام بانت منه قضاء لا ديانة، ولو صلى للصليب وسب محمدا النبي عليه الصلاة والسلام وقد خطر بباله الصلاة لله تعالى وسب غير النبي عليه الصلاة والسلام بانت منه ديانة وقضاء لما مر، وقد قررناه زيادة على هذا في كفاية المنتهى، والله أعلم.(3/276)
كتاب الحجر
الأسباب الموجبة للحجر
...
كتاب الحجر
قال: "الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر، والرق، والجنون، فلا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه، ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده، ولا تصرف المجنون المغلوب بحال". أما الصغير فلنقصان عقله، غير أن إذن الولي آية أهليته، والرق لرعاية حق المولى كي لا يتعطل منافع عبده. ولا يملك رقبته بتعلق الدين به، غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه، والجنون لا تجامعه الأهلية فلا يجوز تصرفه بحال، أما العبد فأهل في نفسه والصبي ترتقب أهليته فلهذا وقع الفرق.
قال: "ومن باع من هؤلاء شيئا وهو يعقل البيع ويقصده فالولي بالخيار، إن شاء أجازه إذا كان فيه مصلحة، وإن شاء فسخه" لأن التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه، وفي الصبي والمجنون نظرا لهما فيتحرى مصلحتهما فيه، ولا بد أن يعقلا البيع ليوجد ركن العقد فينعقد موقوفا على الإجازة، والمجنون قد يعقل البيع ويقصده وإن كان لا يرجح المصلحة على المفسدة وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره كما بينا في الوكالة. فإن قيل: التوقف عندكم في البيع. أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على المباشر. قلنا: نعم إذا وجد نفاذا عليه كما في شراء الفضولي، وهاهنا لم نجد نفاذا لعدم الأهلية أو لضرر المولى فوقفناه.
قال: "وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال دون الأفعال" لأنه لا مرد لها لوجودها حسا ومشاهدة، بخلاف الأقوال، لأن اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه "إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص" فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي والمجنون.
قال: "والصبي والمجنون لا تصح عقودهما ولا إقرارهما" لما بينا "ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما" لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه" والإعتاق يتمحض مضرة، ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال لعدم الشهوة، ولا وقوف للولي على عدم التوافق على اعتبار بلوغه حد الشهوة، فلهذا لا يتوقفان على إجازته ولا ينفذان بمباشرته، بخلاف سائر العقود.
قال: "وإن أتلفا شيئا لزمهما ضمانه" إحياء لحق المتلف عليه، وهذا لأن كون الإتلاف(3/277)
موجبا لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم عليه والحائط المائل بعد الإشهاد، بخلاف القول على ما بيناه.
قال: "فأما العبد فإقراره نافذ في حق نفسه" لقيام أهليته "غير نافذ في حق مولاه" رعاية لجانبه، لأن نفاذه لا يعرى عن تعلق الدين برقبته أو كسبه، وكل ذلك إتلاف ماله.
قال: "فإن أقر بمال لزمه بعد الحرية" لوجود الأهلية وزوال المانع ولم يلزمه في الحال لقيام المانع "وإن أقر بحد أو قصاص لزمه في الحال" لأنه مبقى على أصل الحرية في حق الدم حتى لا يصح إقرار المولى عليه بذلك "وينفذ طلاقه" لما روينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يملك العبد والمكاتب شيئا إلا الطلاق" ولأنه عارف بوجه المصلحة فيه فكان أهلا، وليس فيه إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه فينفذ، والله أعلم بالصواب.(3/278)
باب الحجر للفساد
مدخل
...
باب الحجر للفساد
"قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحجر على الحر البالغ العاقل السفيه، وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي رحمه الله: يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله" لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته ولهذا منع عنه المال، ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد، وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس جاز فيما يروى عنه، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى، ولا يصح القياس على منع المال لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة، ولا على الصبي لأنه عاجز عن النظر لنفسه، وهذا قادر عليه نظر له الشرع مرة بإعطاء آلة القدرة والجري على خلافه لسوء اختياره، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والصدقات وذلك يقف على اليد.
قال: "وإذا حجر القاضي عليه ثم رفع إلى قاض آخر فأبطل حجره وأطلق عنه جاز" لأن الحجر منه فتوى وليس بقضاء؛ ألا يرى أنه لم يوجد المقضي له والمقضي عليه، ولو كان قضاء فنفس القضاء مختلف فيه فلا بد من الإمضاء، حتى لو رفع تصرفه بعد الحجر إلى(3/278)
القاضي الحاجر أو إلى غيره فقضى ببطلان تصرفه ثم رفع إلى قاض آخر نفذ إبطاله لاتصال الإمضاء به فلا يقبل النقض بعد ذلك "ثم عند أبي حنيفة إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد. وقالا: لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس منه رشده، ولا يجوز تصرفه فيه" لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقي العلة وصار كالصبا. ولأبي حنيفة رحمه الله أن منع المال عنه بطريق التأديب، ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا؛ ألا يرى أنه قد يصير جدا في هذا السن فلا فائدة في المنع فلزم الدفع، ولأن المنع باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ ويتقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع، ولهذا قال أبو حنيفة: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا، ثم لا يتأتى التفريع على قوله وإنما التفريع على قول من يرى الحجر. فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه، وإن كان فيه مصلحة أجازه الحاكم لأن ركن التصرف قد وجد والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى المصلحة فيه، كما في الصبي الذي يعقل البيع والشراء ويقصده. ولو باع قبل حجر القاضي جاز عند أبي يوسف لأنه لا بد من حجر القاضي عنده، لأن الحجر دائر بين الضرر والنظر والحجر لنظره فلا بد من فعل القاضي. وعند محمد لا يجوز لأنه يبلغ محجورا عنده، إذ العلة هي السفه بمنزلة الصبا، وعلى هذا الخلاف إذا بلغ رشيدا ثم صار سفيها "وإن أعتق عبدا نفذ عتقه عندهما". وعند الشافعي لا ينفذ. والأصل عندهما أن كل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه إلخ وما لا فلا، لأن السفيه في معنى الهازل من حيث إن الهازل يخرج كلامه لا على نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله، فكذلك السفيه والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح منه.
والأصل عنده: أن الحجر بسبب السفه بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعده شيء من تصرفاته إلا الطلاق كالمرقوق، والإعتاق لا يصح من الرقيق فكذا من السفيه "و" إذا صح عندهما "كان على العبد أن يسعى في قيمته" لأن الحجر لمعنى النظر وذلك في رد العتق إلا أنه متعذر فيجب رده برد القيمة كما في الحجر على المريض. وعن محمد أنه لا تجب السعاية لأنها لو وجبت إنما تجب حقا لمعتقه والسعاية ما عهد وجوبها في الشرع إلا لحق غير المعتق "ولو دبر عبده جاز" لأنه يوجب حق العتق فيعتبر بحقيقته إلا أنه لا تجب السعاية ما دام المولى حيا لأنه باق على ملكه وإذا مات ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته مدبرا لأنه عتق بموته وهو مدبر، فصار كما إذا أعتقه بعد التدبير(3/279)
"ولو جاءت جاريته بولد فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولد حرا والجارية أم ولد له" لأنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله فألحق بالمصلح في حقه "وإن لم يكن معها ولد وقال هذه أم ولدي كانت بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها، وإن مات سعت في جميع قيمتها" لأنه كالإقرار بالحرية إذ ليس له شهادة الولد، بخلاف الفصل الأول لأن الولد شاهد لها. ونظيره المريض إذا ادعى ولد جاريته فهو على هذا التفصيل.
قال: "وإن تزوج امرأة جاز نكاحها" لأنه لا يؤثر فيه الهزل، ولأنه من حوائجه الأصلية "وإن سمى لها مهرا جاز منه مقدار مهر مثلها" لأنه من ضرورات النكاح "وبطل الفضل" لأنه لا ضرورة فيه، وهذا التزام بالتسمية ولا نظر له فيه فلم تصح الزيادة وصار كالمريض مرض الموت "ولو طلقها قبل الدخول بها وجب لها النصف في ماله" لأن التسمية صحيحة إلى مقدار مهر المثل "وكذا إذا تزوج بأربع نسوة أو كل يوم واحدة" لما بينا.
قال: "وتخرج الزكاة من مال السفيه" لأنها واجبة عليه "وينفق على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته من ذوي أرحامه" لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه، والإنفاق على ذي الرحم واجب عليه لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الناس، إلا أن القاضي يدفع الزكاة إليه ليصرفها إلى مصرفها، لأنه لا بد من نيته لكونها عبادة، لكن يبعث أمينا معه كي لا يصرفه في غير وجهه. وفي النفقة يدفع إلى أمينه ليصرفه لأنه ليس بعبادة فلا يحتاج إلى نيته، وهذا بخلاف ما إذا حلف أو نذر أو ظاهر حيث لا يلزمه المال بل يكفر يمينه وظهاره بالصوم لأنه مما يجب بفعله، فلو فتحنا هذا الباب يبذر أمواله بهذا الطريق، ولا كذلك ما يجب ابتداء بغير فعله.
قال: "فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها" لأنها واجبة عليه بإيجاب الله تعالى من غير صنعة "ولا يسلم القاضي النفقة إليه ويسلمها إلى ثقة من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج" كي لا يتلفها في غير هذا الوجه "ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها" استحسانا لاختلاف العلماء في وجوبها، بخلاف ما زاد على مرة واحدة من الحج "ولا يمنع من القران" لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحد منهما فلا يمنع من الجمع بينهما "ولا يمنع من أن يسوق بدنة" تحرزا عن موضع الخلاف، إذ عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يجزئه غيرها وهي جزور أو بقرة.
قال: "فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك في ثلثه" لأن(3/280)
نظره فيه إذ هي حالة انقطاعه عن أمواله والوصية تخلف ثناء أو ثوابا، وقد ذكرنا من التفريعات أكثر من هذا في كفاية المنتهى.
قال: "ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله عندنا والفسق الأصلي والطارئ سواء" وقال الشافعي: يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه كما في السفيه ولهذا لم يجعل أهلا للولاية والشهادة عنده. ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] . وقد أونس منه نوع رشد فتتناوله النكرة المطلقة، ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف، وقد قررناه فيما تقدم، ويحجر القاضي عندهما أيضا وهو قول الشافعي بسبب الغفلة وهو أن يغبن في التجارات ولا يصبر عنها لسلامة قلبه لما في الحجر من النظر له.(3/281)
فصل: في حد البلوغ
قال: "بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة، وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إذا تم الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا"، وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة. وقيل المراد أن يطعن في التاسع عشرة سنة ويتم له ثماني عشرة سنة فلا اختلاف. وقيل فيه اختلاف الرواية لأنه ذكر في بعض النسخ حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
أما العلامة فلأن البلوغ بالإنزال حقيقة والحبل والإحبال لا يكون إلا مع الإنزال، وكذا الحيض في أوان الحبل، فجعل كل ذلك علامة البلوغ، وأدنى المدة لذلك في حق الغلام اثنتا عشرة سنة، وفي حق الجارية تسع سنين.
وأما السن فلهم العادة الفاشية أن البلوغ لا يتأخر فيهما عن هذه المدة. وله قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152] وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به، غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.
قال: "وإذا راهق الغلام أو الجارية الحلم وأشكل أمره في البلوغ فقال قد بلغت، فالقول قوله وأحكامه أحكام البالغين" لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتهما ظاهرا، فإذا أخبرا به(3/281)
ولم يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه، كما يقبل قول المرأة في الحيض.(3/282)
باب الحجر بسبب الدين
"قال أبو حنيفة: لا أحجر في الدين، وإذا وجبت ديون على رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر عليه" لأن في الحجر إهدار أهليته فلا يجوز لدفع ضرر خاص. "فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم" لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون باطلا بالنص "ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه" إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه "وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر القاضي عليه، ومنعه من البيع والتصرف والإقرار حتى لا يضر بالغرماء" لأن الحجر على السفيه إنما جوزاه نظرا له، وفي هذا الحجر نظر للغرماء لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت حقهم، ومعنى قولهما ومنعه من البيع أن يكون بأقل من ثمن المثل، أما البيع بثمن المثل لا يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه.
قال: "وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين غرمائه بالحصص عندهما" لأن البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله، فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب والعنة.
قلنا: التلجئة موهومة، والمستحق قضاء الدين، والبيع ليس بطريق متعين لذلك، بخلاف الجب والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من الطريق، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون فلا يكون مشروعا.
قال: "وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي بغير أمره" وهذا بالإجماع، لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن يعينه "وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على ضد ذلك باعها القاضي في دينه" وهذا عند أبي حنيفة استحسان. والقياس أن لا يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه جبرا. وجه الاستحسان أنهما متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين، بخلاف العروض لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها، أما النقوذ فوسائل فافترقا "ويباع في الدين النقود ثم العروض ثم العقار يبدأ بالأيسر فالأيسر" لما فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة جانب المديون "ويترك عليه دست من ثياب بدنه ويباع الباقي" لأن به كفاية وقيل دستان وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، لأنه إذا غسل ثيابه لا بد له من ملبس.
قال: "فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد قضاء الديون"، لأنه تعلق بهذا(3/282)
المال حق الأولين فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار لغيرهم، بخلاف الاستهلاك لأنه مشاهد لا مرد له "ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه" لأن حقهم لم يتعلق به لعدمه وقت الحجر.
قال: "وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وولده الصغار وذوي أرحامه ممن يجب نفقته عليه" لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء، ولأنه حق ثابت لغيره فلا يبطله الحجر، ولهذا لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة للغرماء.
قال: "فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو يقول لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة" وقد ذكرنا هذا الفصل بوجوهه في كتاب أدب القاضي من هذا الكتاب فلا نعيدها, إلى أن قال: وكذلك إن أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله لوجوب النظرة إلى الميسرة، ولو مرض في الحبس يبقى فيه إن كان له خادم يقوم بمعالجته، وإن لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه، والمحترف فيه لا يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح ليضجر قلبه فينبعث على قضاء دينه، بخلاف ما إذا كانت له جارية وفيه موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه لأنه قضاء إحدى الشهوتين فيعتبر بقضاء الأخرى.
قال: "ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لصاحب الحق يد ولسان" أراد باليد الملازمة وباللسان التقاضي.
قال: "ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص" لاستواء حقوقهم في القوة "وقالا: إذا فلسه الحاكم حال بين الغرماء وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا" لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فتثبت العسرة ويستحق النظرة إلى الميسرة. وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يتحقق القضاء بالإفلاس، لأن مال الله تعالى غاد ورائح، ولأن وقوف الشهود على عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا فيصلح للدفع لا لإبطال حق الملازمة. وقوله إلا أن يقيموا البينة إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على بينة الإعسار لأنها أكثر إثباتا، إذ الأصل هو العسرة. وقوله في الملازمة لا يمنعونه من التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس "ولو دخل داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على باب داره إلى أن يخرج" لأن الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة، ولو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار إلى الطالب لأنه أبلغ في حصول المقصود لاختياره الأضيق عليه إلا إذا(3/283)
علم القاضي أن يدخل عليه بالملازمة ضرر بين بأن لا يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر عنه "ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها" لما فيها من الخلوة بالأجنبية ولكن يبعث امرأة أمينة تلازمها.
قال: "ومن أفلس وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه" وقال الشافعي رحمه الله: يحجر القاضي على المشتري بطلبه. ثم للبائع خيار الفسخ لأنه عجز المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ كعجز البائع عن تسليم المبيع وهذا لأنه عقد معاوضة، ومن قضيته المساواة وصار كالسلم. ولنا أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين وهو غير مستحق بالعقد فلا يثبت حق الفسخ باعتباره وإنما المستحق وصف في الذمة: أعني الدين، وبقبض العين تتحقق بينهما مبادلة، هذا هو الحقيقة فيجب اعتبارها، إلا في موضع التعذر كالسلم لأن الاستبدال ممتنع فأعطى للعين حكم الدين، والله أعلم بالصواب.
تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع
وأوله
كتاب المأذون(3/284)
المجلد الرابع
كتاب المأذون
تعريف الإذن
مدخل
...
من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
"حديث شريف"
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب المأذون
الإذن: الإعلام لغة، وفي الشرع: فك الحجر وإسقاط الحق عندنا، والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته؛ لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز وانحجاره عن التصرف لحق المولى؛ لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا تعلق الدين برقبته وبكسبه، وذلك مال المولى فلا بد من إذنه كي لا يبطل حقه من غير رضاه، ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى، ولهذا لا يقبل التأقيت، حتى لو أذن لعبده يوما أو شهرا كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه؛ لأن الإسقاطات لا تتوقت ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة، كما إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله. ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا؛ لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له، ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم.
قال: "وإذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما جاز تصرفه في سائر التجارات" ومعنى هذه المسألة أن يقول له أذنت لك في التجارة ولا يقيده. ووجهه أن التجارة اسم عام يتناول الجنس فيبيع ويشتري ما بدا له من أنواع الأعيان؛ لأنه أصل التجارة. "ولو باع أو اشترى بالغبن اليسير فهو جائز" لتعذر الاحتراز عنه "وكذا بالفاحش عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" هما يقولان إن البيع بالفاحش منه بمنزلة التبرع، حتى اعتبر من المريض من ثلث ماله فلا ينتظمه الإذن كالهبة. وله أنه تجارة والعبد متصرف بأهلية نفسه فصار كالحر، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون. "ولو حابى في مرض موته يعتبر من جميع ماله إذا لم يكن عليه دين وإن كان فمن جميع ما بقي"؛ لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد، وإن كان الدين محيطا بما في يده يقال للمشتري أدّ جميع المحاباة(4/287)
وإلا فاردد البيع كما في الحر. "وله أن يسلم ويقبل السلم"؛ لأنه تجارة. "وله أن يوكل بالبيع والشراء"؛ لأنه قد لا يتفرغ بنفسه.
قال: "ويرهن ويرتهن"؛ لأنهما من توابع التجارة فإنه إيفاء واستيفاء. "ويملك أن يتقبل الأرض ويستأجر الأجراء والبيوت"؛ لأن كل ذلك من صنيع التجار "ويأخذ الأرض مزارعة"؛ لأن فيه تحصيل الربح "ويشتري طعاما فيزرعه في أرضه"؛ لأنه يقصد به الربح قال عليه الصلاة والسلام: "الزارع يتاجر ربه".
"وله أن يشارك شركة عنان ويدفع المال مضاربة ويأخذها"؛ لأنه من عادة التجار "وله أن يؤاجر نفسه عندنا" خلافا للشافعي وهو يقول: لا يملك العقد على نفسه فكذا على منافعها؛ لأنها تابعة لها. ولنا أن نفسه رأس ماله فيملك التصرف فيه، إلا إذا كان يتضمن إبطال الإذن كالبيع؛ لأنه ينحجر به، والرهن؛ لأنه يحبس به فلا يحصل مقصود المولى. أما الإجارة فلا ينحجر به ويحصل به المقصود وهو الربح فيملكه.
قال: "فإن أذن له في نوع منها دون غيره فهو مأذون في جميعها" وقال زفر والشافعي: لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر. لهما أن الإذن توكيل وإنابة من المولى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو الملك له دون العبد، ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه به كالمضارب. ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه، وعند ذلك تظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع، بخلاف الوكيل؛ لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته، وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة، وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه.
قال: "وإن أذن له في شيء بعينه فليس بمأذون"؛ لأنه استخدام، ومعناه أن يأمره بشراء ثوب معين للكسوة أو طعام رزقا لأهله، وهذا؛ لأنه لو صار مأذونا ينسد عليه باب الاستخدام، بخلاف ما إذا قال: أد إلي الغلة كل شهر كذا، أو قال أد إلي ألفا وأنت حر؛ لأنه طلب منه المال ولا يحصل إلا بالكسب، أو قال له اقعد صباغا أو قصارا؛ لأنه أذن بشراء ما لا بد له منه وهو نوع فيصير مأذونا في الأنواع.
قال: "وإقرار المأذون بالديون والغصوب جائز وكذا بالودائع"؛ لأن الإقرار من توابع التجارة، إذ لو لم يصح لاجتنب الناس مبايعته ومعاملته، ولا فرق بين ما إذا كان عليه دين أو لم يكن إذا كان الإقرار في صحته، فإن كان في مرضه يقدم دين الصحة كما في الحر،(4/288)
بخلاف الإقرار بما يجب من المال لا بسبب التجارة؛ لأنه كالمحجور في حقه.
قال: "وليس له أن يتزوج"؛ لأنه ليس بتجارة.
قال: "ولا يزوج مماليكه" وقال أبو يوسف: يزوج الأمة؛ لأنه تحصيل المال بمنافعها فأشبه إجارتها. ولهما أن الإذن يتضمن التجارة وهذا ليس بتجارة، ولهذا لا يملك تزويج العبد، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون والمضارب والشريك شركة عنان والأب والوصي.
قال: "ولا يكاتب"؛ لأنه ليس بتجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال، والبدل فيه مقابل بفك الحجر فلم يكن تجارة "إلا أن يجيزه المولى ولا دين عليه"؛ لأن المولى قد ملكه ويصير العبد نائبا عنه وترجع الحقوق إلى المولى؛ لأن الوكيل في الكتابة سفير.
قال: "ولا يعتق على مال"؛ لأنه لا يملك الكتابة فالإعتاق أولى "ولا يقرض"؛ لأنه تبرع محض كالهبة. "ولا يهب بعوض ولا بغير عوض، وكذا لا يتصدق"؛ لأن كل ذلك تبرع بصريحه ابتداء وانتهاء أو ابتداء فلا يدخل تحت الإذن بالتجارة.
قال: "إلا أن يهدي اليسير من الطعام أو يضيف من يطعمه"؛ لأنه من ضرورات التجارة استجلابا لقلوب المجاهزين، بخلاف المحجور عليه؛ لأنه لا إذن له أصلا فكيف يثبت ما هو من ضروراته. وعن أبي يوسف أن المحجور عليه إذا أعطاه المولى قوت يومه فدعا بعض رفقائه على ذلك الطعام فلا بأس به، بخلاف ما إذا أعطاه قوت شهر؛ لأنهم لو أكلوه قبل الشهر يتضرر به المولى. قالوا: ولا بأس للمرأة أن تتصدق من منزل زوجها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه؛ لأن ذلك غير ممنوع عنه في العادة.
قال: "وله أن يحط من الثمن بالعيب مثل ما يحط التجار"؛ لأنه من صنيعهم، وربما يكون الحط أنظر له من قبول المعيب ابتداء، بخلاف ما إذا حط من غير عيب؛ لأنه تبرع محض بعد تمام العقد فليس من صنيع التجار، ولا كذلك المحاباة في الابتداء؛ لأنه قد يحتاج إليها على ما بيناه "وله أن يؤجل في دين وجب له"؛ لأنه من عادة التجار.
قال: "وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء إلا أن يفديه المولى" وقال زفر والشافعي: لا يباع ويباع كسبه في دينه بالإجماع. لهما أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له، وذلك في تعليق الدين بكسبه، حتى إذا فضل شيء منه عن الدين يحصل له لا بالرقبة، بخلاف دين الاستهلاك؛ لأنه نوع جناية، واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن. ولنا أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى،(4/289)
فيتعلق برقبته استيفاء كدين الاستهلاك، والجامع دفع الضرر عن الناس، وهذا؛ لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن، وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة، فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى، وينعدم الضرر في حقه بدخول المبيع في ملكه، وتعلقه بالكسب لا ينافي تعلقه بالرقبة فيتعلق بهما، غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى، وعند انعدامه يستوفى من الرقبة. وقوله في الكتاب ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة أو بما هو في معناها كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار وضمان الغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها، وما يجب من العقر بوطء المشتراة بعد الاستحقاق لاستناده إلى الشراء فيلحق به.
قال: "ويقسم ثمنه بينهم بالحصص" لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة "فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية" لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به "ولا يباع ثانيا" كي لا يمتنع البيع أو دفعا للضرر عن المشتري "ويتعلق دينه بكسبه سواء حصل قبل لحوق الدين أو بعده ويتعلق بما يقبل من الهبة"؛ لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ "ولا يتعلق بما انتزعه المولى من يده قبل الدين" لوجود شرط الخلوص له "وله أن يأخذ غلة مثله بعد الدين"؛ لأنه لو لم يكن منه يحجر عليه فلا يحصل الكسب، والزيادة على غلة المثل يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها وتقدم حقهم.
قال: "فإن حجر عليه لم ينحجر حتى يظهر حجره بين أهل سوقه"؛ لأنه لو انحجر لتضرر الناس به لتأخر حقهم إلى ما بعد العتق لما لم يتعلق برقبته وكسبه وقد بايعوه على رجاء ذلك، ويشترط علم أكثر أهل سوقه، حتى لو حجر عليه في السوق وليس فيه إلا رجل أو رجلان لم ينحجر، ولو بايعوه جاز، وإن بايعه الذي علم بحجره ولو حجر عليه في بيته بمحضر من أكثر أهل سوقه ينحجر، والمعتبر شيوع الحجر واشتهاره فيقام ذلك مقام الظهور عند الكل كما في تبليغ الرسالة من الرسل عليهم السلام، ويبقى العبد مأذونا إلى أن يعلم بالحجر كالوكيل إلى أن يعلم بالعزل، وهذا؛ لأنه يتضرر به حيث يلزمه قضاء الدين من خالص ماله بعد العتق وما رضي به، وإنما يشترط الشيوع في الحجر إذا كان الإذن شائعا. أما إذا لم يعلم به إلا العبد ثم حجر عليه بعلم منه ينحجر؛ لأنه لا ضرر فيه.
قال: "ولو مات المولى أو جن أو لحق بدار الحرب مرتدا صار المأذون محجورا عليه"؛ لأن الإذن غير لازم، وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء، هذا هو الأصل فلا بد من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء وهي تنعدم بالموت والجنون، وكذا(4/290)
باللحوق لأنه موت حكما حتى يقسم ماله بين ورثته.
قال: "وإذا أبق العبد صار محجورا عليه" وقال الشافعي: يبقى مأذونا؛ لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن، فكذا لا ينافي البقاء وصار كالغصب. ولنا أن الإباق حجر دلالة؛ لأنه إنما يرضى بكونه مأذونا على وجه يتمكن من تقضية دينه بكسبه، بخلاف ابتداء الإذن؛ لأن الدلالة لا معتبر بها عند وجود التصريح بخلافها، وبخلاف الغصب؛ لأن الانتزاع من يد الغاصب متيسر.
قال: "وإذا ولدت المأذون لها من مولاها" فذلك حجر عليها خلافا لزفر، وهو يعتبر حالة البقاء بالابتداء. ولنا أن الظاهر أنه يحصنها بعد الولادة فيكون دلالة الحجر عادة، بخلاف الابتداء؛ لأن الصريح قاض على الدلالة. "ويضمن المولى قيمتها إن ركبتها ديون" لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء، إذ به يمتنع البيع وبه يقضى حقهم.
قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها فدبرها المولى فهي مأذون لها على حالها" لانعدام دلالة الحجر، إذ العادة ما جرت بتحصين المدبرة، ولا منافاة بين حكميها أيضا، والمولى ضامن لقيمتها لما قررناه في أم الولد.
قال: "وإذا حجر على المأذون له فإقراره جائز فيما في يده من المال عند أبي حنيفة" ومعناه أن يقر بما في يده أنه أمانة لغيره أو غصب منه أو يقر بدين عليه فيقضى مما في يده. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إقراره. لهما أن المصحح لإقراره إن كان الإذن فقد زال بالحجر، وإن كان اليد فالحجر أبطلها؛ لأن يد المحجور غير معتبرة وصار كما إذا أخذ المولى كسبه من يده قبل إقراره أو ثبت حجره بالبيع من غيره، ولهذا لا يصح إقراره في حق الرقبة بعد الحجر، وله أن المصحح هو اليد، ولهذا لا يصح إقرار المأذون فيما أخذه المولى من يده واليد باقية حقيقة.
وشرط بطلانها بالحجر حكما فراغها عن حاجته، وإقراره دليل تحققها، بخلاف ما إذا انتزعه المولى من يده قبل الإقرار؛ لأن يد المولى ثابتة حقيقة وحكما فلا تبطل بإقراره، وكذا ملكه ثابت في رقبته فلا يبطل بإقراره من غير رضاه، وهذا بخلاف ما إذا باعه؛ لأن العبد قد تبدل بتبدل الملك على ما عرف فلا يبقى ما ثبت بحكم الملك، ولهذا لم يكن خصما فيما باشره قبل البيع.
قال: "وإذا لزمته ديون تحيط بماله ورقبته لم يملك المولى ما في يده. ولو أعتق من كسبه عبدا لم يعتق عند أبي حنيفة. وقالا: يملك ما في يده ويعتق وعليه قيمته" لأنه(4/291)
وجد سبب الملك في كسبه وهو ملك رقبته ولهذا يملك إعتاقها، ووطء الجارية المأذون لها، وهذا آية كماله، بخلاف الوارث؛ لأنه يثبت الملك له نظرا للمورث والنظر في ضده عند إحاطة الدين بتركته.
أما ملك المولى فما ثبت نظرا للعبد. وله أن ملك المولى إنما يثبت خلافه عن العبد عند فراغه عن حاجته كملك الوارث على ما قررناه والمحيط به الدين مشغول بها فلا يخلفه فيه، وإذا عرف ثبوت الملك وعدمه فالعتق فريعته، وإذا نفذ عندهما يضمن قيمته للغرماء لتعلق حقهم به.
قال: "وإن لم يكن الدين محيطا بماله جاز عتقه في قولهم جميعا" أما عندهما فظاهر، وكذا عنده؛ لأنه لا يعرى عن قليله، فلو جعل مانعا لانسد باب الانتفاع بكسبه فيختل ما هو المقصود من الإذن ولهذا لا يمنع ملك الوارث والمستغرق يمنعه.
قال: "وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز"؛ لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين يحيط بكسبه "وإن باعه بنقصان لم يجز مطلقا"؛ لأنه متهم في حقه، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة؛ لأنه لا تهمة فيه، وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه حتى كان لأحدهم الاستخلاص بأداء قيمته. أما حق الغرماء تعلق بالمالية لا غير فافترقا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن باعه بنقصان يجوز البيع، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة، وإن شاء نقض البيع، وعلى المذهبين اليسير من المحاباة والفاحش سواء.
ووجه ذلك: أن الامتناع لدفع الضرر عن الغرماء وبهذا يندفع الضرر عنهم، وهذا بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة، والمولى يؤمر به؛ لأن البيع باليسير منهما متردد بين التبرع والبيع لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع في حق الأجنبي لانعدامها، وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز أصلا عندهما، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة؛ لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى، ولا إذن في البيع مع الأجنبي وهو إذن بمباشرته بنفسه، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء، وهذان الفرقان على أصلهما.
قال: "وإن باعه المولى شيئا بمثل القيمة أو أقل جاز البيع"؛ لأن المولى أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على ما بيناه ولا تهمة في هذا البيع؛ ولأنه مفيد فإنه يدخل في(4/292)
كسب العبد ما لم يكن فيه ويتمكن المولى من أخذ الثمن بعد أن لم يكن له هذا التمكن وصحة التصرف تتبع الفائدة "فإن سلم المبيع إليه قبل قبض الثمن بطل الثمن"؛ لأن حق المولى في العين من حيث الحبس، فلو بقي بعد سقوطه يبقى في الدين ولا يستوجبه المولى على عبده، بخلاف ما إذا كان الثمن عرضا؛ لأنه يتعين وجاز أن يبقى حقه متعلقا بالعين.
قال: "وإن أمسكه في يده حتى يستوفي الثمن جاز"؛ لأن البائع له حق الحبس في المبيع ولهذا كان أخص به من الغرماء، وجاز أن يكون للمولى حق في الدين إذا كان يتعلق بالعين "ولو باعه بأكثر من قيمته يؤمر بإزالة المحاباة أو بنقض البيع" كما بينا في جانب العبد؛ لأن الزيادة تعلق بها حق الغرماء.
قال: "وإذا أعتق المولى المأذون وعليه ديون فعتقه جائز"؛ لأن ملكه فيه باق والمولى ضامن لقيمته للغرماء؛ لأنه أتلف ما تعلق به حقهم بيعا واستيفاء من ثمنه "وما بقي من الديون يطالب به بعد العتق"؛ لأن الدين في ذمته وما لزم المولى إلا بقدر ما أتلف ضمانا فبقي الباقي عليه كما كان "فإن كان أقل من قيمته ضمن الدين لا غير"؛ لأن حقهم بقدره بخلاف ما إذا أعتق المدبر وأم الولد المأذون لهما وقد ركبتهما ديون لأن حق الغرماء لم يتعلق برقبتهما استيفاء بالبيع فلم يكن المولى متلفا حقهم فلم يتضمن شيئا.
قال: "وإن باعه المولى وعليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه، فإن شاء الغرماء ضمنوا البائع قيمته، وإن شاءوا ضمنوا المشتري"؛ لأن العبد تعلق به حقهم حتى كان لهم أن يبيعوه، إلا أن يقضي المولى دينهم والبائع متلف حقهم بالبيع والتسليم والمشتري بالقبض والتغييب فيخيرون في التضمين "وإن شاءوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن"؛ لأن الحق لهم والإجازة اللاحقة كالإذن السابق كما في المرهون "فإن ضمنوا البائع قيمته ثم رد على المولى بعيب للمولى أن يرجع بالقيمة ويكون حق الغرماء في العبد"؛ لأن سبب الضمان قد زال وهو البيع والتسليم، وصار كالغاصب إذا باع وسلم وضمن القيمة ثم رد عليه بالعيب كان له أن يرد على المالك ويسترد القيمة كذا هذا.
قال: "ولو كان المولى باعه من رجل وأعلمه بالدين فللغرماء أن يردوا البيع" لتعلق حقهم وهو حق الاستسعاء والاستيفاء من رقبته، وفي كل واحد منهما فائدة، فالأول تام مؤخر والثاني ناقص معجل، وبالبيع تفوت هذه الخيرة فلهذا كان لهم أن يردوه. قالوا: تأويله إذا لم يصل إليهم الثمن، فإن وصل ولا محاباة في البيع ليس لهم أن يردوه لوصول حقهم إليهم.(4/293)
قال: "فإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري" معناه إذا أنكر الدين وهذا "عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: المشتري خصمهم ويقضي لهم بدينهم" وعلى هذا الخلاف إذا اشترى دارا ووهبها وسلمها وغاب ثم حضر الشفيع فالموهوب له ليس بخصم عندهما خلافا له. وعنهما مثل قوله في مسألة الشفعة. لأبي يوسف أنه يدعي الملك لنفسه فيكون خصما لكل من ينازعه. ولهما أن الدعوى تتضمن فسخ العقد وقد قام بهما فيكون الفسخ قضاء على الغائب.
قال: "ومن قدم مصرا وقال أنا عبد لفلان فاشترى وباع لزمه كل شيء من التجارة"؛ لأنه إن أخبر بالإذن فالإخبار دليل عليه، وإن لم يخبر فتصرفه دليل عليه، إذ الظاهر أن المحجور يجري على موجب حجره والعمل بالظاهر هو الأصل في المعاملات كي لا يضيق الأمر على الناس، "إلا أنه لا يباع حتى يحضر مولاه"؛ لأنه لا يقبل قوله في الرقبة؛ لأنها خالص حق المولى، بخلاف الكسب؛ لأنه حق العبد على ما بينا "فإن حضر فقال هو مأذون بيع في الدين"؛ لأنه ظهر الدين في حق المولى "وإن قال هو محجور فالقول قوله"؛ لأنه متمسك بالأصل.(4/294)
فصل: وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء الخ
...
فصل: "وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه"
وقال الشافعي: لا ينفذ؛ لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه، ولأنه مولى عليه حتى يملك الولي التصرف عليه ويملك حجره فلا يكون واليا للمنافاة وصار كالطلاق والعتاق، بخلاف الصوم والصلاة؛ لأنه لا يقام بالولي، وكذا الوصية على أصله فتحققت الضرورة إلى تنفيذه منه.
أما بالبيع والشراء فيتولاه الولي فلا ضرورة هاهنا. ولنا أن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه على ما عرف تقريره في الخلافيات. والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته، وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي، وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال، بخلاف الطلاق والعتاق؛ لأنه ضار محض فلم يؤهل له. والنافع المحض كقبول الهبة والصدقة يؤهل له قبل الإذن، والبيع والشراء دائر بين النفع والضرر فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله، لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه على إجازة الولي لاحتمال وقوعه نظرا، وصحة التصرف في نفسه، وذكر الولي في الكتاب ينتظم الأب والجد عند عدمه والوصي والقاضي والوالي، بخلاف صاحب(4/294)
الشرط؛ لأنه ليس إليه تقليد القضاة، والشرط أن يعقل كون البيع سالبا للملك جالبا للربح، والتشبيه بالعبد المأذون له يفيد أن ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه؛ لأن الإذن فك الحجر والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع. ويصير مأذونا بالسكوت كما في العبد. ويصح إقراره بما في يده من كسبه وكذا بموروثه في ظاهر الرواية، كما يصح إقرار العبد
ولا يملك تزويج عبده ولا كتابته كما في العبد والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي يصير مأذونا بإذن الأب والجد والوصي دون غيرهم على ما بيناه، وحكمه حكم الصبي، والله أعلم.(4/295)
كتاب الغصب
تعريفه وعلى الغاصب رد العين
مدخل
...
كتاب الغصب
الغصب في اللغة: أخذ الشيء من الغير على سبيل التغلب للاستعمال فيه. وفي الشريعة: أخذ مال متقوم محترم بغير إذن المالك على وجه يزيل يده. حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبا دون الجلوس على البساط، ثم إن كان مع العلم فحكمه المأثم والمغرم، وإن كان بدونه فالضمان؛ لأنه حق العبد فلا يتوقف على قصده ولا إثم؛ لأن الخطأ موضوع.
قال: "ومن غصب شيئا له مثل كالمكيل والموزون فهلك في يده فعليه مثله" وفي بعض النسخ: فعليه ضمان مثله، ولا تفاوت بينهما، وهذا لأن الواجب هو المثل لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ولأن المثل أعدل لما فيه من مراعاة الجنس والمالية فكان أدفع للضرر.
قال: "فإن لم يقدر على مثله فعليه قيمته يوم يختصمون" وهذا "عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يوم الغصب. وقال محمد: يوم الانقطاع" لأبي يوسف أنه لما انقطع التحق بما لا مثل له فتعتبر قيمته يوم انعقاد السبب إذ هو الموجب. ولمحمد أن الواجب المثل في الذمة. وإنما ينتقل إلى القيمة بالانقطاع فتعتبر قيمته يوم الانقطاع. ولأبي حنيفة أن النقل لا يثبت بمجرد الانقطاع، ولهذا لو صبر إلى أن يوجد جنسه له ذلك، وإنما ينتقل بقضاء القاضي فتعتبر قيمته يوم الخصومة والقضاء بخلاف ما لا مثل له؛ لأنه مطالب بالقيمة بأصل السبب كما وجد فتعتبر قيمته عند ذلك.
قال: "وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه" معناه العدديات المتفاوتة، لأنه لما تعذر مراعاة الحق في الجنس فيراعى في المالية وحدها دفعا للضرر بقدر الإمكان. أما العددي المتقارب فهو كالمكيل حتى يجب مثله لقلة التفاوت. وفي البر المخلوط بالشعير القيمة؛ لأنه لا مثل له.
قال: "وعلى الغاصب رد العين المغصوبة" معناه ما دام قائما لقوله عليه الصلاة والسلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبا ولا جادا، فإن أخذه فليرده عليه" ولأن اليد حق مقصود وقد فوتها عليه(4/296)
فيجب إعادتها بالرد إليه، وهو الموجب الأصلي على ما قالوا، ورد القيمة مخلص خلفا؛ لأنه قاصر، إذ الكمال في رد العين والمالية. وقيل الموجب الأصلي القيمة ورد العين مخلص، ويظهر ذلك في بعض الأحكام.
قال: "والواجب الرد في المكان الذي غصبه" لتفاوت القيم بتفاوت الأماكن "فإن ادعى هلاكها حبسه الحاكم حتى يعلم أنها لو كانت باقية لأظهرها ثم قضى عليه ببدلها"؛ لأن الواجب رد العين والهلاك بعارض، فهو يدعي أمرا عارضا خلاف الظاهر فلا يقبل قوله كما إذا ادعى الإفلاس وعليه ثمن متاع فيحبس إلى أن يعلم ما يدعيه، فإذا علم الهلاك سقط عنه رده فيلزمه رد بدله وهو القيمة.
قال: "والغصب فيما ينقل ويحول"؛ لأن الغصب بحقيقته يتحقق فيه دون غيره؛ لأن إزالة اليد بالنقل.
"وإذا غصب عقارا فهلك في يده لم يضمنه" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يضمنه، وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال الشافعي لتحقق إثبات اليد، ومن ضرورته زوال يد المالك لاستحالة اجتماع اليدين على محل واحد في حالة واحدة فيتحقق الوصفان وهو الغصب على ما بيناه فصار كالمنقول وجحود الوديعة. ولهما أن الغصب إثبات اليد بإزالة يد المالك بفعل في العين، وهذا لا يتصور في العقار؛ لأن يد المالك لا تزول إلا بإخراجه عنها، وهو فعل فيه لا في العقار فصار كما إذا بعد المالك عن المواشي. وفي المنقول: النقل فعل فيه وهو الغصب. ومسألة الجحود ممنوعة، ولو سلم فالضمان هناك بترك الحفظ الملتزم وبالجحود تارك لذلك.
قال: "وما نقصه منه بفعله أو سكناه ضمنه في قولهم جميعا"؛ لأنه إتلاف والعقار يضمن به كما إذا نقل ترابه؛ لأنه فعل في العين ويدخل فيما قاله إذا انهدمت الدار بسكناه وعمله، فلو غصب دارا وباعها وسلمها وأقر بذلك والمشتري ينكر غصب البائع ولا بينة لصاحب الدار فهو على الاختلاف في الغصب هو الصحيح.
قال: "وإذا انتقص بالزراعة يغرم النقصان"؛ لأنه أتلف البعض فيأخذ رأس ماله ويتصدق بالفضل.
قال: "وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يتصدق بالفضل" وسنذكر الوجه من الجانبين.
قال: "وإذا هلك النقلي في يد الغاصب بفعله أو بغير فعله ضمنه" وفي أكثر نسخ(4/297)
المختصر: وإذا هلك الغصب والمنقول هو المراد لما سبق أن الغصب فيما ينقل، وهذا؛ لأن العين دخل في ضمانه بالغصب السابق إذ هو السبب. وعند العجز عن رده يجب القيمة أو يتقرر بذلك السبب ولهذا تعتبر قيمته يوم الغصب. "وإن نقص في يده ضمن النقصان"؛ لأنه يدخل جميع أجزائه في ضمانه بالغصب، فما تعذر رد عينه يجب رد قيمته، بخلاف تراجع السعر إذا رد في مكان الغصب؛ لأنه عبارة عن فتور الرغبات دون فوت الجزء، وبخلاف المبيع؛ لأنه ضمان عقد. أما الغصب فقبض والأوصاف تضمن بالفعل لا بالعقد على ما عرف. قال رضي الله عنه: ومراده غير الربوي، أما في الربويات لا يمكنه تضمين النقصان مع استرداد الأصل؛ لأنه يؤدي إلى الربا.
قال: "ومن غصب عبدا فاستغله فنقصته الغلة فعليه النقصان"؛ لما بينا "ويتصدق بالغلة" قال رضي الله عنه: وهذا عندهما أيضا. وعنده لا يتصدق بالغلة، وعلى هذا الخلاف إذا أجر المستعير المستعار. لأبي يوسف أنه حصل في ضمانه وملكه. أما الضمان فظاهر، وكذا الملك؛ لأن المضمونات تملك بأداء الضمان مستندا عندنا. ولهما أنه حصل بسبب خبيث وهو التصرف في ملك الغير، وما هذا حاله فسبيله التصدق، إذ الفرع يحصل على وصف الأصل والملك المستند ناقص فلا ينعدم به الخبث.
"فلو هلك العبد في يد الغاصب حتى ضمنه له أن يستعين بالغلة في أداء الضمان"؛ لأن الخبث لأجل المالك، ولهذا لو أدى إليه يباح له التناول فيزول الخبث بالأداء إليه، بخلاف ما إذا باعه فهلك في يد المشتري ثم استحق وغرمه ليس له أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إليه؛ لأن الخبث ما كان لحق المشتري إلا إذا كان لا يجد غيره؛ لأنه محتاج إليه، وله أن يصرفه إلى حاجة نفسه، فلو أصاب مالا تصدق بمثله إن كان غنيا وقت الاستعمال، وإن كان فقيرا فلا شيء عليه لما ذكرنا.
قال: "ومن غصب ألفا فاشترى بها جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم فإنه يتصدق بجميع الربح، وهذا عندهما" وأصله أن الغاصب أو المودع إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح لا يطيب له الربح عندهما، خلافا لأبي يوسف، وقد مرت الدلائل وجوابهما في الوديعة أظهر؛ لأنه لا يستند الملك إلى ما قبل التصرف لانعدام سبب الضمان فلم يكن التصرف في ملكه ثم هذا ظاهر فيما يتعين بالإشارة، أما فيما لا يتعين كالثمنين فقوله في الكتاب اشترى بها إشارة إلى أن التصدق إنما يجب إذا اشترى بها ونقد منها الثمن. أما إذا أشار إليها ونقد من غيرها أو نقد(4/298)
منها وأشار إلى غيرها أو أطلق إطلاقا ونقد منها يطيب له، وهكذا قال الكرخي؛ لأن الإشارة إذا كانت لا تفيد التعيين لا بد أن يتأكد بالنقد ليتحقق الخبث. وقال بعض مشايخنا رحمهم الله: لا يطيب له قبل أن يضمن، وكذا بعد الضمان بكل حال، وهو المختار لإطلاق الجواب في الجامعين والمبسوط.
قال: "وإن اشترى بالألف جارية تساوي ألفين فوهبها أو طعاما فأكله لم يتصدق بشيء"، وهذا قولهم جميعا؛ لأن الربح إنما يتبين عند اتحاد الجنس. والله سبحانه تعالى أعلم.(4/299)
فصل: فيما يتغير بفعل الغاصب
قال: "وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها، كمن غصب شاة وذبحها وشواها أو طبخها أو حنطة فطحنها أو حديدا فاتخذه سيفا أو صفرا فعمله آنية" وهذا كله عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله، غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وعند الشافعي يضمنه، وعن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته. للشافعي أن العين باق فيبقى على ملكه وتتبعه الصنعة كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة فطحنت. ولا معتبر بفعله؛ لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك على ما عرف، فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها. ولنا أنه أحدث صنعة متقومة صير حق المالك هالكا من وجه، ألا ترى أنه تبدل الاسم وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه، ولا نجعله سببا للملك من حيث إنه محظور، بل من حيث إنه إحداث الصنعة، بخلاف الشاة؛ لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ، وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ويتفرع عليه غيرها فاحفظه.
وقوله ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسان والقياس أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر، وهكذا عن أبي حنيفة رحمه الله رواه الفقيه أبو الليث. ووجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف؛ ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز. وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضاء صاحبها(4/299)
"أطعموها الأسارى" أفاد الأمر بالتصدق زوال ملك المالك وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء، ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد. وإذا أدى البدل يباح له؛ لأن حق المالك صار موفى بالبدل فحصلت مبادلة بالتراضي، وكذلك إذا أبرأه لسقوط حقه به، وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضا منه؛ لأنه لا يقضي إلا بطلبه، وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها غير أنه عند أبي يوسف يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من وجه. وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما، وأصله ما تقدم.
قال: "وإن غصب فضة أو ذهبا فضربها دراهم أو دنانير أو آنية لم يزل ملك مالكها عنها عند أبي حنيفة فيأخذها ولا شيء للغاصب، وقالا: يملكها الغاصب وعليه مثلها"؛ لأنه أحدث صنعة معتبرة صير حق المالك هالكا من وجه؛ ألا ترى أنه كسره وفات بعض المقاصد والتبر لا يصلح رأس المال في المضاربات والشركات والمضروب يصلح لذلك. وله أن العين باق من كل وجه؛ ألا ترى أن الاسم باق ومعناه الأصلي الثمنية وكونه موزونا وأنه باق حتى يجري فيه الربا باعتباره وصلاحيته لرأس المال من أحكام الصنعة دون العين، وكذا الصنعة فيها غير متقومة مطلقا؛ لأنه لا قيمة لها عند المقابلة بجنسها.
قال: "ومن غصب ساجة فبنى عليها زال ملك مالكها عنها ولزم الغاصب قيمتها" وقال الشافعي: للمالك أخذها، والوجه من الجانبين قدمناه. ووجه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه إضرارا بالغاصب بنقض بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة فصار كما إذا خاط بالخيط المغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في سفينته. ثم قال الكرخي والفقيه أبو جعفر: إنما لا ينقض إذا بنى في حوالي الساجة، ما إذا بنى على نفس الساجة ينقض؛ لأنه متعد فيه. وجواب الكتاب يرد ذلك وهو الأصح.
قال: "ومن ذبح شاة غيره فمالكها بالخيار، إن شاء ضمنه قيمتها وسلمها إليه، وإن شاء ضمنه نقصانها، وكذا الجزور، وكذا إذا قطع يدهما" هذا هو ظاهر الرواية. وجهه أنه إتلاف من وجه باعتبار فوت بعض الأغراض من الحمل والدر والنسل وبقاء بعضها وهو اللحم فصار كالخرق الفاحش في الثوب، ولو كانت الدابة غير مأكول اللحم فقطع الغاصب طرفها للمالك أن يضمنه جميع قيمتها لوجود الاستهلاك من كل وجه، بخلاف قطع طرف العبد(4/300)
المملوك حيث يأخذه مع أرش المقطوع؛ لأن الآدمي يبقى منتفعا به بعد قطع الطرف.
قال: "ومن خرق ثوب غيره خرقا يسيرا ضمن نقصانه والثوب لمالكه"؛ لأن العين قائم من كل وجه، وإنما دخله عيب فيضمنه.
قال: "وإن خرق خرقا كبيرا يبطل عامة منافعه فلمالكه أن يضمنه جميع قيمته"؛ لأنه استهلاك من هذا الوجه فكأنه أحرقه.
قال رضي الله عنه: معناه يترك الثوب عليه: وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان؛ لأنه تعييب من وجه من حيث إن العين باق، وكذا بعض المنافع قائم، ثم إشارة الكتاب إلى أن الفاحش ما يبطل به عامة المنافع، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وجنس المنفعة ويبقى بعض العين وبعض المنفعة، واليسير ما لا يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يدخل فيه النقصان؛ لأن محمدا جعل في الأصل قطع الثوب نقصانا فاحشا والفائت به بعض المنافع.
قال: "ومن غصب أرضا فغرس فيها أو بنى قيل له اقلع البناء والغرس وردها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس لعرق ظالم حق" ولأن ملك صاحب الأرض باق، فإن الأرض لم تصر مستهلكة والغصب لا يتحقق فيها، ولا بد للملك من سبب فيؤمر الشاغل بتفريغها، كما إذا شغل ظرف غيره بطعامه.
قال: "فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعا ويكونان له"؛ لأن فيه نظرا لهما ودفع الضرر عنهما. وقوله قيمته مقلوعا معناه قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه؛ لأن حقه فيه، إذ لا قرار له فيه فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء وتقوم وبها شجر أو بناء، لصاحب الأرض أن يأمره بقلعه فيضمن فضل ما بينهما.
قال: "ومن غصب ثوبا فصبغه أحمر أو سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ومثل السويق وسلمه للغاصب، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصبغ والسمن فيهما" وقال الشافعي في الثوب: لصاحبه أن يمسكه ويأمر الغاصب بقلع الصبغ بالقدر الممكن اعتبارا بفصل الساحة بنى فيها؛ لأن التمييز ممكن، بخلاف السمن في السويق؛ لأن التمييز متعذر. ولنا ما بينا أن فيه رعاية الجانبين والخيرة لصاحب الثوب لكونه صاحب الأصل، بخلاف الساحة بنى فيها؛ لأن النقض له بعد النقض؛ أما الصبغ(4/301)
فيتلاشى، وبخلاف ما إذا انصبغ بهبوب الريح؛ لأنه لا جناية من صاحب الصبغ ليضمن الثوب فيتملك صاحب الأصل الصبغ.
قال أبو عصمة في أصل المسألة: وإن شاء رب الثوب باعه ويضرب بقيمته أبيض وصاحب الصبغ بما زاد الصبغ فيه؛ لأن له أن لا يتملك الصبغ بالقيمة، وعند امتناعه تعين رعاية الجانبين في البيع ويتأتى، هذا فيما إذا انصبغ الثوب بنفسه، وقد ظهر بما ذكرنا لوجه في السويق، غير أن السويق من ذوات الأمثال فيضمن مثله والثوب من ذوات القيم فيضمن قيمته.
وقال في الأصل: يضمن قيمة السويق؛ لأن السويق يتفاوت بالقلي فلم يبق مثليا. وقيل المراد منه المثل سماه به لقيامه مقامه، والصفرة كالحمرة. ولو صبغه أسود فهو نقصان عند أبي حنيفة، وعندهما زيادة. وقيل هذا اختلاف عصر وزمان. وقيل إن كان ثوبا ينقصه السواد فهو نقصان، وإن كان ثوبا يزيد فيه السواد فهو كالحمرة وقد عرف في غير هذا الموضع. ولو كان ثوبا تنقصه الحمرة بأن كانت قيمته ثلاثين درهما فتراجعت بالصبغ إلى عشرين، فعن محمد أنه ينظر إلى ثوب تزيد فيه الحمرة، فإن كانت الزيادة خمسة يأخذ ثوبه وخمسة دراهم؛ لأن إحدى الخمستين جبرت بالصبغ.(4/302)
فصل: "ومن غصب عينا فغيبها فضمنه المالك قيمتها ملكها"
وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا يملكها لأن الغصب عدوان محض فلا يصلح سببا للملك كما في المدبر. ولنا أنه ملك البدل بكماله، والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك فيملكه دفعا للضرر عنه، بخلاف المدبر لأنه غير قابل للنقل لحق المدبر، نعم قد يفسخ التدبير بالقضاء لكن البيع بعده يصادف القن.
قال: "والقول في القيمة قول الغاصب مع يمينه" لأن المالك يدعي الزيادة وهو ينكر، والقول قول المنكر مع يمينه "إلا أن يقيم المالك البينة بأكثر من ذلك" لأنه أثبته بالحجة الملزمة.
قال: "فإن ظهرت العين وقيمتها أكثر مما ضمن وقد ضمنها بقول المالك أو ببينة أقامها أو بنكول الغاصب عن اليمين فلا خيار للمالك وهو الغاصب"؛ لأنه تم له الملك بسبب اتصل به رضا المالك حيث ادعى هذا المقدار.
قال: "فإن كان ضمنه بقول الغاصب مع يمينه فهو بالخيار، إن شاء أمضى الضمان، وإن شاء أخذ(4/302)
العين ورد العوض" لأنه لم يتم رضاه بهذا المقدار حيث يدعي الزيادة وأخذه دونها لعدم الحجة. ولو ظهرت العين وقيمتها مثل ما ضمنه أو دونه في هذا الفصل الأخير فكذلك الجواب في ظاهر الرواية وهو الأصح خلافا لما قاله الكرخي رحمه الله أنه لا خيار له؛ لأنه لم يتم رضاه حيث لم يعط له ما يدعيه والخيار لفوات الرضا.
قال: "ومن غصب عبدا فباعه فضمنه المالك قيمته فقد جاز بيعه، وإن أعتقه ثم ضمن القيمة لم يجز عتقه" لأن ملكه الثابت فيه ناقص لثبوته مستندا أو ضرورة، ولهذا يظهر في حق الأكساب دون الأولاد، والناقص يكفي لنقود البيع دون العتق كملك المكاتب.
قال: "وولد المغصوبة ونماؤها، وثمرة البستان المغصوب أمانة في يد الغاصب إن هلك فلا ضمان عليه، إلا أن يتعدى فيها أو يطلبها مالكها فيمنعها إياه". وقال الشافعي: زوائد المغصوب مضمونة متصلة كانت أو منفصلة لوجود الغصب، وهو إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه، كما في الظبية المخرجة من الحرم إذا ولدت في يده يكون مضمونا عليه. ولنا أن الغصب إثبات اليد على مال الغير على وجه يزيل يد المالك على ما ذكرنا، ويد المالك ما كانت ثابتة على هذه الزيادة حتى يزيلها الغاصب، ولو اعتبرت ثابتة على الولد لا يزيلها، إذ الظاهر عدم المنع، حتى لو منع الولد بعد طلبه يضمنه، وكذا إذا تعدى فيه كما قال في الكتاب: وذلك بأن أتلفه أو ذبحه وأكله أو باعه وسلمه، وفي الظبية المخرجة لا يضمن ولدها إذا هلك قبل التمكن من الإرسال لعدم المنع، وإنما يضمنه إذا هلك بعده لوجود المنع بعد طلب صاحب الحق وهو الشرع، على هذا أكثر مشايخنا. ولو أطلق الجواب فهو ضمان جناية، ولهذا يتكرر بتكررها، ويجب بالإعانة والإشارة، فلأن يجب بما هو فوقها وهو إثبات اليد على مستحق الأمن أولى وأحرى.
قال: "وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب، فإن كان في قيمة الولد وفاء به انجبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب". وقال زفر والشافعي: لا ينجبر النقصان بالولد؛ لأن الولد ملكه فلا يصلح جابرا لملكه كما في ولد الظبية، وكما إذا هلك الولد قبل الرد أو ماتت الأم وبالولد وفاء، وصار كما إذا جز صوف شاة غيره أو قطع قوائم شجر غيره أو خصى عبد غيره أو علمه الحرفة فأضناه التعليم. ولنا أن سبب الزيادة والنقصان واحد، وهو الولادة أو العلوق على ما عرف، وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا، وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت أو قطعت يد المغصوب في يده وأخذ أرشها وأداه مع العبد يحتسب عن نقصان القطع، وولد الظبية ممنوع، وكذا إذا ماتت الأم. وتخريج الثانية: أن الولادة ليست بسبب لموت الأم(4/303)
إذ الولادة لا تفضي إليه غالبا، وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد؛ لأنه لا بد من رد أصله للبراءة، فكذا لا بد من رد خلفه، والخصاء لا يعد زيادة؛ لأنه غرض بعض الفسقة، ولا اتحاد في السبب فيما وراء ذلك من المسائل؛ لأن سبب النقصان القطع والجز، وسبب الزيادة النمو، وسبب النقصان التعليم، والزيادة سببها الفهم.
قال: "ومن غصب جارية فزنى بها فحبلت ثم ردها وماتت في نفاسها يضمن قيمتها يوم علقت، ولا ضمان عليه في الحرة، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن في الأمة أيضا" لهما أن الرد قد صح، والهلاك بعده بسبب حدث في يد المالك وهو الولادة فلا يضمن الغاصب. كما إذا حمت في يد الغاصب ثم ردها فهلكت. أو زنت في يده ثم ردها فجلدت فهلكت منه، وكمن اشترى جارية قد حبلت عند البائع فولدت عند المشتري وماتت في نفاسها لا يرجع على البائع بالثمن. وله أنه غصبها وما انعقد فيها سبب التلف وردت وفيها ذلك فلم يوجد الرد على الوجه الذي أخذ فلم يصح الرد، وصار كما إذا جنت في يد الغاصب جناية فقتلت بها في يد المالك، أو دفعت بها بأن كانت الجناية خطأ يرجع على الغاصب بكل القيمة. كذا هذا. بخلاف الحرة؛ لأنها لا تضمن بالغصب ليبقى ضمان الغصب بعد فساد الرد. وفي فصل الشراء الواجب ابتداء التسليم. ما ذكرنا شرط صحة الرد والزنا سبب لجلد مؤلم لا جارح ولا متلف فلم يوجد السبب في يد الغاصب.
قال: "ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان" وقال الشافعي: يضمنها، فيجب أجر المثل، ولا فرق في المذهبين بين ما إذا عطلها أو سكنها.
وقال مالك: إن سكنها يجب أجر المثل، وإن عطلها لا شيء عليه. له أن المنافع أموال متقومة حتى تضمن بالعقود فكذا بالغصوب. ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك؛ لأنها أعراض لا تبقى فيملكها دفعا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه، كيف وأنه لا يتحقق غصبها وإتلافها؛ لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف، ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها، بل تقوم ضرورة عند ورود العقد ولم يوجد العقد، إلا أن ما انتقص باستعماله مضمون عليه لاستهلاكه بعض أجزاء العين.(4/304)
فصل: في غصب ما لا يتقوم
قال: "وإذا أتلف المسلم خمر الذمي أو خنزيره ضمن قيمتهما، فإن أتلفهما لمسلم لم(4/304)
يضمن" وقال الشافعي: لا يضمنها للذمي أيضا وعلى هذا الخلاف إذا أتلفهما ذمي على ذمي أو باعهما الذمي من الذمي. له أنه سقط تقومهما في حق المسلم فكذا في حق الذمي؛ لأنهم أتباع لنا في الأحكام فلا يجب بإتلافهما مال متقوم وهو الضمان. ولنا أن التقويم باق في حقهم، إذ الخمر لهم كالخل لنا والخنزير لهم كالشاة لنا. ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون والسيف موضوع فيتعذر الإلزام، وإذا بقي التقوم فقد وجد إتلاف مال مملوك متقوم فيضمنه. بخلاف الميتة والدم؛ لأن أحدا من أهل الأديان لا يدين تمولهما، إلا أنه تجب قيمة الخمر وإن كان من ذوات الأمثال؛ لأن المسلم ممنوع عن تمليكه لكونه إعزازا له، بخلاف ما إذا جرت المبايعة بين الذميين؛ لأن الذمي غير ممنوع عن تمليك الخمر وتملكها. وهذا بخلاف الربا؛ لأنه مستثنى عن عقودهم، وبخلاف العبد المرتد يكون للذمي؛ لأنا ما ضمنا لهم ترك التعرض له لما فيه من الاستخفاف بالدين، وبخلاف متروك التسمية عامدا إذا كان لمن يبيحه؛ لأن ولاية المحاجة ثابتة.
قال: "فإن غصب من مسلم خمرا فخللها أو جلد ميتة فدبغه فلصاحب الخمر أن يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ جلد الميتة ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه"، والمراد بالفصل الأول إذا خللها بالنقل من الشمس إلى الظل ومنه إلى الشمس، وبالفصل الثاني إذا دبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص ونحو ذلك. والفرق أن هذا التخليل تطهير له بمنزلة غسل الثوب النجس فيبقى على ملكه إذ لا تثبت المالية به وبهذا الدباغ اتصل بالجلد مال متقوم للغاصب كالصبغ في الثوب فكان بمنزلته فلهذا يأخذ الخل بغير شيء ويأخذ الجلد ويعطي ما زاد الدباغ فيه. وبيانه أنه ينظر إلى قيمته ذكيا غير مدبوغ، وإلى قيمته مدبوغا فيضمن فضل ما بينهما، وللغاصب أن يحبسه حتى يستوفي حقه كحق الحبس في البيع.
قال: "وإن استهلكهما ضمن الخل ولم يضمن الجلد عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن الجلد مدبوغا ويعطي ما زاد الدباغ فيه" ولو هلك في يده لا يضمنه بالإجماع.
أما الخل: فلأنه لما بقي على ملك مالكه وهو مال متقوم ضمنه بالإتلاف، يجب مثله؛ لأن الخل من ذوات الأمثال. وأما الجلد فلهما أنه باق على ملك المالك حتى كان له أن يأخذه وهو مال متقوم فيضمنه مدبوغا بالاستهلاك ويعطيه المالك ما زاد الدباغ فيه كما إذا غصب ثوبا فصبغه ثم استهلكه ويضمنه ويعطيه المالك ما زاد الصبغ فيه، ولأنه واجب الرد، فإذا فوته عليه خلفه قيمته كما في المستعار. وبهذا فارق الهلاك بنفسه. وقولهما يعطي ما زاد الدباغ فيه محمول على اختلاف الجنس.(4/305)
أما عند اتحاده فيطرح عنه ذلك القدر ويؤخذ منه الباقي لعدم الفائدة في الأخذ منه ثم في الرد عليه. وله أن التقوم حصل بصنع الغاصب وصنعته متقومة لاستعماله مالا متقوما فيه، ولهذا كان له أن يحبسه حتى يستوفي ما زاد الدباغ فيه فكان حقا له والجلد تبع له في حق التقوم، ثم الأصل وهو الصنعة غير مضمون عليه فكذا التابع، كما إذا هلك من غير صنعة، بخلاف وجوب الرد حال قيامه؛ لأنه يتبع الملك، والجلد غير تابع للصنعة في حق الملك لثبوته قبلها وإن لم يكن متقوما، بخلاف الذكي والثوب؛ لأن التقوم فيهما كان ثابتا قبل الدبغ والصبغ فلم يكن تابعا للصنعة، ولو كان قائما فأراد المالك أن يتركه على الغاصب في هذا الوجه ويضمنه قيمته قيل: ليس له ذلك؛ لأن الجلد لا قيمة له، بخلاف صبغ الثوب؛ لأن له قيمة. وقيل ليس له ذلك عند أبي حنيفة، وعندهما له ذلك؛ لأنه إذا تركه عليه وضمنه عجز الغاصب عن رده فصار كالاستهلاك، وهو على هذا الخلاف على ما بيناه. ثم قيل: يضمنه قيمة جلد مدبوغ ويعطيه ما زاد الدباغ فيه كما في الاستهلاك. وقيل يضمنه قيمة جلد ذكي غير مدبوغ، ولو دبغه بما لا قيمة له كالتراب والشمس فهو لمالكه بلا شيء؛ لأنه بمنزلة غسل الثوب. ولو استهلكه الغاصب يضمن قيمته مدبوغا. وقيل طاهرا غير مدبوغ؛ لأن وصف الدباغة هو الذي حصله فلا يضمنه.
وجه الأول وعليه الأكثرون أن صفة الدباغة تابعة للجلد فلا تفرد عنه، وإذا صار الأصل مضمونا عليه فكذا صفته، ولو خلل الخمر بإلقاء الملح فيه قالوا عند أبي حنيفة: صار ملكا للغاصب ولا شيء له عليه. وعندهما أخذه المالك وأعطى ما زاد الملح فيه بمنزلة دبغ الجلد، ومعناه هاهنا أن يعطي مثل وزن الملح من الخل، وإن أراد المالك تركه عليه وتضمينه فهو على ما قيل. وقيل في دبغ الجلد ولو استهلكها لا يضمنها عند أبي حنيفة خلافا لهما كما في دبغ الجلد.
ولو خللها بإلقاء الخل فيهما، فعن محمد أنه إن صار خلا من ساعته يصير ملكا للغاصب ولا شيء عليه؛ لأنه استهلاك له وهو غير متقوم، وإن لم تصر خلا إلا بعد زمان بأن كان الملقى فيه خلا قليلا فهو بينهما على قدر كليهما؛ لأن خلط الخل بالخل في التقدير وهو على أصله ليس باستهلاك وعند أبي حنيفة هو للغاصب في الوجهين، ولا شيء عليه؛ لأن نفس الخلط استهلاك عنده، ولا ضمان في الاستهلاك؛ لأنه أتلف ملك نفسه. وعند محمد لا يضمن بالاستهلاك في الوجه الأول لما بينا. ويضمن في الوجه الثاني؛ لأنه أتلف ملك غيره. وبعض المشايخ أجروا جواب الكتاب على إطلاقه أن للمالك أن يأخذ الخل في الوجوه كلها بغير شيء؛ لأن الملقى فيه يصير مستهلكا(4/306)
في الخمر فلم يبق متقوما. وقد كثرت فيه أقوال المشايخ وقد أثبتناها في كفاية المنتهى.
قال: "ومن كسر لمسلم بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا أو أراق له سكرا أو منصفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز" وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يضمن ولا يجوز بيعها. وقيل الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو. فأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس يضمن بالإتلاف من غير خلاف. وقيل الفتوى في الضمان على قولهما. والسكر اسم للنيء من ماء الرطب إذا اشتد. والمنصف ما ذهب نصفه بالطبخ. وفي المطبوخ أدنى طبخة وهو الباذق عن أبي حنيفة روايتان في التضمين والبيع. لهما أن هذه الأشياء أعدت للمعصية فبطل تقومها كالخمر، ولأنه فعل ما فعل آمرا بالمعروف وهو بأمر الشرع فلا يضمنه كما إذا فعل بإذن الإمام. ولأبي حنيفة أنها أموال لصلاحيتها لما يحل من وجوه الانتفاع وإن صلحت لما لا يحل فصار كالأمة المغنية. وهذا؛ لأن الفساد بفعل فاعل مختار فلا يوجب سقوط التقوم، وجواز البيع والتضمين مرتبان على المالية والتقوم والأمر بالمعروف باليد إلى الأمراء لقدرتهم وباللسان إلى غيرهم، وتجب قيمتها غير صالحة للهو كما في الجارية المغنية والكبش النطوح والحمامة الطيارة والديك المقاتل والعبد الخصي تجب القيمة غير صالحة لهذه الأمور، كذا هذا، وفي السكر والمنصف تجب قيمتهما، ولا يجب المثل؛ لأن المسلم ممنوع عن تملك عينه وإن كان لو فعل جاز، وهذا بخلاف ما إذا أتلف على نصراني صليبا حيث يضمن قيمته صليبا؛ لأنه مقر على ذلك.
قال: "ومن غصب أم ولد أو مدبرة فماتت في يده ضمن قيمة المدبرة ولا يضمن قيمة أم الولد" عند أبي حنيفة، وقالا: يضمن قيمتهما؛ لأن مالية المدبرة متقومة بالاتفاق، ومالية أم الولد غير متقومة عنده، وعندهما متقومة، والدلائل ذكرناها في كتاب العتاق من هذا الكتاب والله أعلم بالصواب.(4/307)
كتاب الشفعة
تعريف الشفعة وحكمها
...
كتاب الشفعة
الشفعة: مشتقة من الشفع وهو الضم، سميت بها لما فيها من ضم المشتراة إلى عقار الشفيع.
قال: "الشفعة واجبة للخليط في نفس المبيع ثم للخليط في حق المبيع كالشرب والطريق ثم للجار" أفاد هذا اللفظ ثبوت حق الشفعة لكل واحد من هؤلاء وأفاد الترتيب، أما الثبوت فلقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة لشريك لم يقاسم" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "جار الدار أحق بالدار والأرض، ينتظر له وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الجار أحق بسقبه، قيل يا رسول الله ما سقبه؟ قال شفعته" ويروى: "الجار أحق بشفعته". وقال الشافعي لا شفعة بالجوار لقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطريق فلا شفعة" ولأن حق الشفعة معدول به عن سنن القياس لما فيه من تملك المال على الغير من غير رضاه، وقد ورد الشرع به فيما لم يقسم، وهذا ليس في معناه؛ لأن مؤنة القسمة تلزمه في الأصل دون الفرع، ولنا ما روينا، ولأن ملكه متصل بملك الدخيل اتصال تأبيد وقرار فيثبت له حق الشفعة عند وجود المعاوضة بالمال اعتبارا بمورد الشرع، وهذا لأن الاتصال على هذه الصفة إنما انتصب سببا فيه لدفع ضرر الجوار، إذ هو مادة المضار على ما عرف، وقطع هذه المادة بتملك الأصل أولى؛ لأن الضرر في حقه بإزعاجه عن خطة آبائه أقوى، وضرر القسمة مشروع لا يصلح علة لتحقيق ضرر غيره.
وأما الترتيب فلقوله عليه الصلاة والسلام: "الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع" فالشريك في نفس المبيع والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار. ولأن الاتصال بالشركة في المبيع أقوى؛ لأنه في كل جزء، وبعده الاتصال في الحقوق؛ لأنه شركة في مرافق الملك، والترجيح يتحقق بقوة السبب، ولأن ضرر القسمة إن لم يصلح علة صلح مرجحا.
قال: "وليس للشريك في الطريق والشرب والجار شفعة مع الخليط في الرقبة" لما ذكرنا أنه مقدم.(4/308)
قال: "فإن سلم فالشفعة للشريك في الطريق، فإن سلم أخذها الجار" لما بينا من الترتيب، والمراد بهذا الجار الملاصق، وهو الذي على ظهر الدار المشفوعة وبابه في سكة أخرى. عن أبي يوسف أن مع وجود الشريك في الرقبة لا شفعة لغيره سلم أو استوفى؛ لأنهم محجوبون به. ووجه الظاهر أن السبب تقرر في حق الكل، إلا أن للشريك حق التقدم، فإذا سلم كان لمن يليه بمنزلة دين الصحة مع دين المرض، والشريك في المبيع قد يكون في بعض منها كما في منزل معين من الدار أو جدار معين منها وهو مقدم على الجار في منزل، وكذا على الجار في بقية الدار في أصح الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن اتصاله أقوى والبقعة واحدة. ثم لا بد أن يكون الطريق أو الشرب خاصا حتى تستحق الشفعة بالشركة فيه فالطريق الخاص أن لا يكون نافذا، والشرب الخاص أن يكون نهرا لا تجري فيه السفن وما تجري فيه فهو عام. وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وعن أبي يوسف أن الخاص أن يكون نهرا يسقى منه قراحان أو ثلاثة، وما زاد على ذلك فهو عام، وإن كانت سكة غير نافذة يتشعب منها سكة غير نافذة وهي مستطيلة فبيعت دار في السفلى فلأهلها الشفعة خاصة دون أهل العليا، وإن بيعت للعليا فلأهل السكتين، والمعنى ما ذكرنا في كتاب أدب القاضي. ولو كان نهر صغير يأخذ منه نهر أصغر منه فهو على قياس الطريق فيما بيناه.
قال: "ولا يكون الرجل بالجذوع على الحائط شفيع شركة ولكنه شفيع جوار"؛ لأن العلة هي الشركة في العقار وبوضع الجذوع لا يصير شريكا في الدار إلا أنه جار ملازق. قال: "والشريك في الخشبة تكون على حائط الدار جار" لما بينا.
قال: "وإذا اجتمع الشفعاء فالشفعة بينهم على عدد رءوسهم ولا يعتبر اختلاف الأملاك" وقال الشافعي: هي على مقادير الأنصباء؛ لأن الشفعة من مرافق الملك؛ ألا يرى أنها لتكميل منفعته فأشبه الربح والغلة والولد والثمرة. ولنا أنهم استووا في سبب الاستحقاق وهو الاتصال فيستوون في الاستحقاق؛ ألا يرى أنه لو انفرد واحد منهم استحق كل الشفعة. وهذا آية كمال السبب وكثرة الاتصال تؤذن بكثرة العلة، والترجيح بقوة الدليل لا بكثرته، ولا قوة هاهنا لظهور الأخرى بمقابلته وتملك ملك غيره لا يجعل ثمرة من ثمرات ملكه، بخلاف الثمرة وأشباهها، ولو أسقط بعضهم حقه فهي للباقين في الكل على عددهم؛ لأن الانتقاص للمزاحمة مع كمال السبب في حق كل واحد منهم وقد(4/309)
انقطعت. ولو كان البعض غيبا يقضي بها بين الحضور على عددهم؛ لأن الغائب لعله لا يطلب، وإن قضى لحاضر بالجميع ثم حضر آخر يقضي له بالنصف، ولو حضر ثالث فبثلث ما في يد كل واحد تحقيقا للتسوية، فلو سلم الحاضر بعدما قضى له بالجميع لا يأخذ القادم إلا النصف؛ لأن قضاء القاضي بالكل للحاضر يقطع حق الغائب عن النصف بخلاف ما قبل القضاء.
قال: "والشفعة تجب بعقد البيع" ومعناه بعده لا أنه هو السبب؛ لأن سببها الاتصال على ما بيناه، والوجه فيه أن الشفعة إنما تجب إذا رغب البائع عن ملك الدار، والبيع يعرفها ولهذا يكتفى بثبوت البيع في حقه حتى يأخذها الشفيع إذا أقر البائع بالبيع وإن كان المشتري يكذبه.
قال: "وتستقر بالإشهاد، ولا بد من طلب المواثبة" لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض، فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراضه عنه، ولأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد.
قال: "وتملك بالأخذ إذا سلمها المشتري أو حكم بها الحاكم"؛ لأن الملك للمشتري قد تم فلا ينتقل إلى الشفيع إلا بالتراضي أو قضاء القاضي كما في الرجوع والهبة. وتظهر فائدة هذا فيما إذا مات الشفيع بعد الطلبين وباع داره المستحق بها الشفعة أو بيعت دار بجنب الدار المشفوعة قبل حكم الحاكم أو تسليم المخاصم لا تورث عنه في الصورة الأولى وتبطل شفعته في الثانية ولا يستحقها في الثالثة لانعدام الملك له. ثم قوله تجب بعقد البيع بيان أنه لا يجب إلا عند معارضة المال بالمال على ما نبينه إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(4/310)
باب طلب الشفعة والخصومة فيها
مدخل
...
باب طلب الشفعة والخصومة فيها
قال: "وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة" اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه: طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم، حتى لو بلغ الشفيع البيع ولم يطلب شفعة بطلت الشفعة لما ذكرنا، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة لمن واثبها" ولو أخبر بكتاب والشفعة في أوله أو في وسطه فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته وعلى هذا عامة المشايخ، وهو رواية عن محمد. وعنه أن له مجلس العلم، والروايتان في النوادر. وبالثانية أخذ الكرخي؛ لأنه لما ثبت له خيار التملك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة، ولو قال بعدما بلغه البيع الحمد لله أو لا حول(4/310)
ولا قوة إلا بالله " أو قال " سبحان الله " لا تبطل شفعته؛ لأن الأول حمد على الخلاص من جواره والثاني تعجب منه لقصد إضراره، والثالث لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض، وكذا إذا قال من ابتاعها وبكم بيعت؛ لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض، والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم، إنما هو لنفي التجاحد والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي. ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة كما لو قال: طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها؛ لأن الاعتبار للمعنى، وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة، وقالا: يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا. وأصل الاختلاف في عزل الوكيل وقد ذكرناه بدلائله وأخواته فيما تقدم، وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت عنده؛ لأنه ليس فيه إلزام حكم، وبخلاف ما إذا أخبره المشتري؛ لأنه خصم فيه والعدالة غير معتبرة في الخصوم. والثاني طلب التقرير والإشهاد؛ لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي على ما ذكرنا، ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة؛ لأنه على فور العلم بالشراء فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير وبيانه ما قال في الكتاب "ثم ينهض منه" يعني من المجلس "ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده" معناه لم يسلم إلى المشتري "أو على المبتاع أو عند العقار، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته" وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه؛ لأن للأول اليد وللثاني الملك، وكذا يصح الإشهاد عند المبيع؛ لأن الحق متعلق به، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما، إذ لا يد له ولا ملك فصار كالأجنبي.
وصورة هذا الطلب أن يقول: إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك. وعن أبي يوسف أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده؛ لأن المطالبة لا تصح إلا في معلوم. والثالث طلب الخصومة والتملك، وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا تسقط الشفعة بتأخير هذا الطلب عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وقال محمد: إن تركها شهرا بعد الإشهاد بطلت" وهو قول زفر، معناه: إذا تركها من غير عذر. وعن أبي يوسف أنه إذا ترك المخاصمة في مجلس من مجالس القاضي تبطل شفعته؛ لأنه إذا مضى مجلس من مجالسه ولم يخاصم فيه اختيارا دل ذلك على إعراضه وتسليمه. وجه قول محمد أنه لو لم يسقط بتأخير الخصومة منه أبدا(4/311)
يتضرر به المشتري؛ لأنه لا يمكنه التصرف حذار نقضه من جهة الشفيع فقدرناه بشهر؛ لأنه آجل وما دونه عاجل على ما مر في الأيمان. ووجه قول أبي حنيفة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى أن الحق متى ثبت واستقر لا يسقط إلا بإسقاطه وهو التصريح بلسانه كما في سائر الحقوق، وما ذكر من الضرر يشكل بما إذا كان غائبا، ولا فرق في حق المشتري بين الحضر والسفر، ولو علم أنه لم يكن في البلد قاض لا تبطل شفعته بالتأخير بالاتفاق؛ لأنه لا يتمكن من الخصومة إلا عند القاضي فكان عذرا.
قال: "وإذا تقدم الشفيع إلى القاضي فادعى الشراء وطلب الشفعة سأل القاضي المدعى عليه، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به وإلا كلفه بإقامة البينة" لأن اليد ظاهر محتمل فلا تكفي لإثبات الاستحقاق.
قال رحمه الله: يسأل القاضي المدعي قبل أن يقبل على المدعى عليه عن موضع الدار وحدودها؛ لأنه ادعى حقا فيها فصار كما إذا ادعى رقبتها، وإذا بين ذلك يسأله عن سبب شفعته لاختلاف أسبابها، فإن قال: أنا شفيعها بدار لي تلاصقها الآن تم دعواه على ما قاله الخصاف. وذكر في الفتاوى تحديد هذه الدار التي يشفع بها أيضا، وقد بيناه في الكتاب الموسوم بالتجنيس والمزيد.
قال: "فإن عجز عن البينة استحلف المشتري بالله ما يعلم أنه مالك للذي ذكره مما يشفع به" معناه بطلب الشفيع؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، ثم هو استحلاف على ما في يده فيحلف على العلم "فإن نكل أو قامت للشفيع بينة ثبت ملكه في الدار التي يشفع بها وثبت الجوار فبعد ذلك سأله القاضي" يعني المدعى عليه "هل ابتاع أم لا، فإن أنكر الابتياع قيل للشفيع أقم البينة"؛ لأن الشفعة لا تجب إلا بعد ثبوت البيع وثبوته بالحجة.
قال: "فإن عجز عنها استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو بالله ما استحق عليه في هذه الدار شفعة من الوجه الذي ذكره" فهذا على الحاصل، والأول على السبب وقد استوفينا الكلام فيه في الدعوى، وذكرنا الاختلاف بتوفيق الله، وإنما يحلفه على البتات؛ لأنه استحلاف فعل نفسه وعلى ما في يده أصالة، وفي مثله يحلف على البتات.
قال: "وتجوز المنازعة في الشفعة وإن لم يحضر الشفيع الثمن إلى مجلس القاضي، فإذا قضى القاضي بالشفعة لزمه إحضار الثمن" وهذا ظاهر رواية الأصل. وعن محمد أنه لا يقضي حتى يحضر الشفيع الثمن، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن الشفيع عساه يكون مفلسا فيتوقف القضاء على إحضاره حتى لا يتوي مال المشتري، وجه(4/312)
الظاهر أنه لا ثمن له عليه قبل القضاء ولهذا لا يشترط تسليمه، فكذا لا يشترط إحضاره "وإذا قضى له بالدار فللمشتري أن يحبسه حتى يستوفي الثمن" وينفذ القضاء عند محمد أيضا؛ لأنه فصل مجتهد فيه ووجب عليه الثمن فيحبس فيه، فلو أخر أداء الثمن بعدما قال له ادفع الثمن إليه لا تبطل شفعته؛ لأنها تأكدت بالخصومة عند القاضي.
قال: "وإن أحضر الشفيع البائع، والمبيع في يده فله أن يخاصمه في الشفعة؛ لأن اليد له وهي يد مستحقة" ولا يسمع القاضي البينة حتى يحضر المشتري فيفسخ البيع بمشهد منه ويقضي بالشفعة على البائع ويجعل العهدة عليه؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع، والقاضي يقضي بهما للشفيع فلا بد من حضورهما، بخلاف ما إذا كانت الدار قد قبضت حيث لا يعتبر حضور البائع؛ لأنه صار أجنبيا إذ لا يبقى له يد ولا ملك. وقوله فيفسخ البيع بمشهد منه إشارة إلى علة أخرى وهي أن البيع في حق المشتري إذا كان ينفسخ لا بد من حضوره ليقضي بالفسخ عليه، ثم وجه هذا الفسخ المذكور أن ينفسخ في حق الإضافة لامتناع قبض المشتري بالأخذ بالشفعة وهو يوجب الفسخ، إلا أنه يبقى أصل البيع لتعذر انفساخه؛ لأن الشفعة بناء عليه، ولكنه تتحول الصفقة إليه ويصير كأنه هو المشتري منه فلهذا يرجع بالعهدة على البائع، بخلاف ما إذا قبضه المشتري فأخذه من يده حيث تكون العهدة عليه؛ لأنه ملكه بالقبض. وفي الوجه الأول امتنع قبض المشتري وأنه يوجب الفسخ، وقد طولنا الكلام فيه في كفاية المنتهى بتوفيق الله تعالى.
قال: "ومن اشترى دارا لغيره فهو الخصم للشفيع"؛ لأنه هو العاقد، والأخذ بالشفعة من حقوق العقد فيتوجه عليه.
قال: "إلا أن يسلمها إلى الموكل" لأنه لم يبق له يد ولا ملك فيكون الخصم هو الموكل، وهذا؛ لأن الوكيل كالبائع من الموكل على ما عرف فتسليمه إليه كتسليم البائع إلى المشتري فتصير الخصومة معه، إلا أنه مع ذلك قائم مقام الموكل فيكتفي بحضوره في الخصومة قبل التسليم، وكذا إذا كان البائع وكيل الغائب فللشفيع أن يأخذها منه إذا كانت في يده؛ لأنه عاقد وكذا إذا كان البائع وصيا لميت فيما يجوز بيعه لما ذكرنا.
قال: "وإذا قضى القاضي للشفيع بالدار ولم يكن رآها فله خيار الرؤية، وإن وجد بها عيبا فله أن يردها وإن كان المشتري شرط البراءة منه" لأن الأخذ بالشفعة بمنزلة الشراء؛ ألا يرى أنه مبادلة المال بالمال فيثبت فيه الخياران كما في الشراء، ولا يسقط بشرط البراءة من المشتري ولا برؤيته؛ لأنه ليس بنائب عنه فلا يملك إسقاطه. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/313)
فصل: في الاختلاف
قال: "وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فالقول قول المشتري"؛ لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عليه عند نقد الأقل وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه، ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع إن كان يدعي عليه استحقاق الدار فالمشتري لا يدعي عليه شيئا لتخيره بين الترك والأخذ ولا نص هاهنا، فلا يتحالفان.
قال: "ولو أقاما البينة فالبينة للشفيع عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري؛ لأنها أكثر إثباتا" فصار كبينة البائع والوكيل والمشتري من العدو. ولهما أنه لا تنافي بينهما فيجعل كأن الموجود بيعان، وللشفيع أن يأخذ بأيهما شاء وهذا بخلاف البائع مع المشتري؛ لأنه لا يتوالى بينهما عقدان إلا بانفساخ الأول وهاهنا الفسخ لا يظهر في حق الشفيع وهو التخريج لبينة الوكيل؛ لأنه كالبائع والموكل كالمشتري منه، كيف وأنها ممنوعة على ما روي عن محمد رحمه الله.
وأما المشتري من العدو فقلنا ذكر في السير الكبير أن البينة بينة المالك القديم. فلنا أن نمنع وبعد التسليم نقول: لا يصح الثاني هنالك إلا بفسخ الأول، أما هاهنا فبخلافه، ولأن بينة الشفيع ملزمة وبينة المشتري غير ملزمة والبينات للإلزام.
قال: "وإذا ادعى المشتري ثمنا وادعى البائع أقل منه ولم يقبض الثمن أخذها الشفيع بما قاله البائع وكان ذلك حطا عن المشتري"؛ وهذا لأن الأمر إن كان على ما قال البائع فقد وجبت الشفعة به، وإن كان على ما قال المشتري فقد حط البائع بعض الثمن، وهذا الحط يظهر في حق الشفيع على ما نبين إن شاء الله تعالى، ولأن التملك على البائع بإيجابه فكان القول قوله في مقدار الثمن ما بقيت مطالبته فيأخذ الشفيع بقوله.
قال: "ولو ادعى البائع الأكثر يتحالفان ويترادان، وأيهما نكل ظهر أن الثمن ما يقوله الآخر فيأخذها الشفيع بذلك، وإن حلفا يفسخ القاضي البيع على ما عرف ويأخذها الشفيع بقول البائع"؛ لأن فسخ البيع لا يوجب بطلان حق الشفيع.
قال: "وإن كان قبض الثمن أخذ بما قال المشتري إن شاء ولم يلتفت إلى قول البائع"؛ لأنه لما استوفى الثمن انتهى حكم العقد، وخرج هو من البين وصار هو كالأجنبي وبقي الاختلاف بين المشتري والشفيع، وقد بيناه. ولو كان نقد الثمن غير ظاهر فقال البائع بعت الدار بألف وقبضت الثمن يأخذها الشفيع بألف؛ لأنه لما بدأ بالإقرار بالبيع تعلقت الشفعة به، فبقوله بعد ذلك قبضت الثمن يريد إسقاط حق الشفيع فيرد عليه. ولو قال قبضت الثمن(4/314)
وهو ألف لم يلتفت إلى قوله؛ لأن بالأول وهو الإقرار بقبض الثمن خرج من البين وسقط اعتبار قوله في مقدار الثمن.(4/315)
فصل: فيما يؤخذ به المشفوع
قال: "وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن يسقط ذلك عن الشفيع، وإن حط جميع الثمن لم يسقط عن الشفيع" لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد فيظهر في حق الشفيع؛ لأن الثمن ما بقي، وكذا إذا حط بعدما أخذها الشفيع بالثمن يحط عن الشفيع حتى يرجع عليه بذلك القدر، بخلاف حط الكل؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بحال وقد بيناه في البيوع. "وإن زاد المشتري للبائع لم تلزم الزيادة في حق الشفيع"؛ لأن في اعتبار الزيادة ضررا بالشفيع لاستحقاقه الأخذ بما دونها. بخلاف الحط؛ لأن فيه منفعة له، ونظير الزيادة إذا جدد العقد بأكثر من الثمن الأول لم يلزم الشفيع حتى كان له أن يأخذها بالثمن الأول لما بينا كذا هذا.
قال: "ومن اشترى دارا بعرض أخذها الشفيع بقيمته"؛ لأنه من ذوات القيم "وإن اشتراها بمكيل أو موزون أخذها بمثله"؛ لأنهما من ذوات الأمثال. وهذا لأن الشرع أثبت للشفيع ولاية التملك على المشتري بمثل ما تملكه فيراعى بالقدر الممكن كما في الإتلاف والعددي المتقارب من ذوات الأمثال.
"وإن باع عقارا بعقار أخذ الشفيع كل واحد منهما بقيمة الآخر"؛ لأنه بدله وهو ذوات القيم فيأخذه بقيمته.
قال: "وإذا باع بثمن مؤجل فللشفيع الخيار، إن شاء أخذها بثمن حال، وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل ثم يأخذها، وليس له أن يأخذها في الحال بثمن مؤجل" وقال زفر: له ذلك، وهو قول الشافعي في القديم؛ لأن كونه مؤجلا وصف في الثمن كالزيافة والأخذ بالشفعة به فيأخذ بأصله ووصفه كما في الزيوف. ولنا أن الأجل إنما يثبت بالشرط، ولا شرط فيما بين الشفيع والبائع أو المبتاع، وليس الرضا به في حق المشتري رضا به في حق الشفيع لتفاوت الناس في الملاءة، وليس الأجل وصف الثمن؛ لأنه حق المشتري؛ ولو كان وصفا له لتبعه فيكون حقا للبائع كالثمن وصار كما إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل ثم ولاه غيره لا يثبت الأجل إلا بالذكر كذا هذا، ثم إن أخذها بثمن حال من البائع سقط الثمن عن المشتري لما بينا من قبل، وإن أخذها من المشتري رجع البائع على المشتري بثمن مؤجل كما كان؛ لأن الشرط الذي جرى بينهما لم يبطل بأخذ الشفيع فبقي موجبه فصار كما إذا باعه بثمن حال وقد اشتراه مؤجلا، وإن اختار الانتظار له ذلك؛ لأن له أن لا يلتزم زيادة الضرر من(4/315)
حيث النقدية. وقوله في الكتاب وإن شاء صبر حتى ينقضي الأجل مراده الصبر عن الأخذ، أما الطلب عليه في الحال حتى لو سكت عنه بطلت شفعته عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لقول أبي يوسف الآخر؛ لأن حق الشفعة إنما يثبت بالبيع، والأخذ يتراخى عن الطلب، وهو متمكن من الأخذ في الحال بأن يؤدي الثمن حالا فيشترط الطلب عند العلم بالبيع.
قال: "وإن اشترى ذمي بخمر أو خنزير دارا وشفيعها ذمي أخذها بمثل الخمر وقيمة الخنزير" لأن هذا البيع مقضي بالصحة فيما بينهم، وحق الشفعة يعم المسلم والذمي، والخمر لهم كالخل لنا والخنزير كالشاة، فيأخذ في الأول بالمثل والثاني بالقيمة.
قال: "وإن كان شفيعها مسلما أخذها بقيمة الخمر والخنزير" أما الخنزير فظاهر، وكذا الخمر لامتناع التسلم والتسليم في حق المسلم فالتحق بغير المثلي، وإن كان شفيعها مسلما وذميا أخذ المسلم نصفها بنصف قيمة الخمر والذمي نصفها بنصف مثل الخمر اعتبارا للبعض بالكل، فلو أسلم الذمي أخذها بنصف قيمة الخمر لعجزه عن تمليك الخمر وبالإسلام يتأكد حقه لا أن يبطل، فصار كما إذا اشتراها بكر من رطب فحضر الشفيع بعد انقطاعه يأخذ بقيمة الرطب كذا هذا.(4/316)
فصل: وإذا بنى المشتري فيها أو غرس الخ
...
فصل: قال: "وإذا بنى المشتري فيها أو غرس ثم قضي للشفيع بالشفعة فهو بالخيار، إن شاء أخذها بالثمن وقيمة البناء والغرس، وإن شاء كلف المشتري قلعه"
وعن أبي يوسف أنه لا يكلف القلع ويخير بين أن يأخذ بالثمن وقيمة البناء والغرس وبين أن يترك، وبه قال الشافعي، إلا أن عنده له أن يقلع ويعطي قيمة البناء لأبي يوسف أنه محق في البناء لأنه بناه على أن الدار ملكه، والتكليف بالقلع من أحكام العدوان وصار كالموهوب له والمشتري شراء فاسدا، وكما إذا زرع المشتري فإنه لا يكلف القلع، وهذا لأن في إيجاب الأخذ بالقيمة دفع أعلى الضررين بتحمل الأدنى فيصار إليه.
ووجه ظاهر الرواية أنه بنى في محل تعلق به حق متأكد للغير من غير تسليط من جهة من له الحق فينقض كالراهن إذا بنى في المرهون، وهذا لأن حقه أقوى من حق المشتري لأنه يتقدم عليه وهذا ينقض بيعه وهبته وغيره من تصرفاته، بخلاف الهبة والشراء الفاسد عند أبي حنيفة، لأنه حصل بتسليط من جهة من له الحق، ولأن حق الاسترداد فيهما ضعيف ولهذا لا يبقى بعد البناء، وهذا الحق يبقى فلا معنى لإيجاب القيمة كما في(4/316)
الاستحقاق، والزرع يقلع قياسا. وإنما لا يقلع استحسانا لأن له نهاية معلومة ويبقى بالأجر وليس فيه كثير ضرر، وإن أخذ بالقيمة يعتبر قيمته مقلوعا كما بيناه في الغصب.
"ولو أخذها الشفيع فبنى فيها أو غرس ثم استحقت رجع بالثمن" لأنه تبين أنه أخذه بغير حق ولا يرجع بقيمة البناء والغرس، لا على البائع إن أخذها منه، ولا على المشتري إن أخذها منه وعن أبي يوسف أنه يرجع لأنه متملك عليه فنزلا منزلة البائع والمشتري، والفرق على ما هو المشهور أن المشتري مغرور من جهة البائع ومسلط عليه من جهته، ولا غرور ولا تسليط في حق الشفيع من المشتري لأنه مجبور عليه.
قال: "وإذا انهدمت الدار أو احترق بناؤها أو جف شجر البستان بغير فعل أحد فالشفيع بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن" لأن البناء والغرس تابع حتى دخلا في البيع من غير ذكر فلا يقابلهما شيء من الثمن ما لم يصر مقصودا ولهذا جاز بيعها مرابحة بكل الثمن في هذه الصورة، بخلاف ما إذا غرق نصف الأرض حيث يأخذ الباقي بحصته لأن الفائت بعض الأصل قال: "وإن شاء ترك" لأن له أن يمتنع عن تملك الدار بماله.
قال: "وإن نقض المشتري البناء قيل للشفيع إن شئت فخذ العرصة بحصتها، وإن شئت فدع" لأنه صار مقصودا بالإتلاف فيقابله شيء من الثمن، بخلاف الأول لأن الهلاك بآفة سماوية "وليس للشفيع أن يأخذ النقض" لأنه صار مفصولا فلم يبق تبعا.
قال: "ومن ابتاع أرضا وعلى نخلها ثمر أخذها الشفيع بثمرها" ومعناه إذا ذكر الثمر في البيع لأنه لا يدخل من غير ذكر، وهذا الذي ذكره استحسان وفي القياس لا يأخذه لأنه ليس بتبع؛ ألا يرى أنه لا يدخل في البيع من غير ذكر فأشبه المتاع في الدار. وجه الاستحسان أنه باعتبار الاتصال صار تبعا للعقار كالبناء في الدار، وما كان مركبا فيه فيأخذه الشفيع.
قال: "وكذلك إن ابتاعها وليس في النخيل ثمر فأثمر في يد المشتري" يعني يأخذه الشفيع لأنه مبيع تبعا لأن البيع سرى إليه على ما عرف في ولد المبيع.
قال: "فإن جده المشتري ثم جاء الشفيع لا يأخذ الثمر في الفصلين جميعا" لأنه لم يبق تبعا للعقار وقت الأخذ حيث صار مفصولا عنه فلا يأخذه.
قال في الكتاب "وإن جده المشتري سقط عن الشفيع حصته" قال رضي الله عنه "وهذا جواب الفصل الأول" لأنه دخل في البيع مقصودا فيقابله شيء من الثمن "أما في الفصل الثاني يأخذ ما سوى الثمر بجميع الثمن" لأن الثمر لم يكن موجودا عند العقد فلا يكون(4/317)
مبيعا إلا تبعا فلا يقابله شيء من الثمن والله أعلم(4/318)
باب ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب
قال: "الشفعة واجبة في العقار وإن كان مما لا يقسم" وقال الشافعي: لا شفعة فيما لا يقسم، لأن الشفعة إنما وجبت دفعا لمؤنة القسمة، وهذا لا يتحقق فيما لا يقسم ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الشفعة في كل شيء عقار أو ربع" إلى غير ذلك من العمومات، ولأن الشفعة سببها الاتصال في الملك والحكمة دفع ضرر سوء الجوار على ما مر، وأنه ينتظم القسمين ما يقسم وما لا يقسم وهو الحمام والرحى والبئر والطريق.
قال: "ولا شفعة في العروض والسفن" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا شفعة إلا في ربع أو حائط" وهو حجة على مالك في إيجابها في السفن، ولأن الشفعة إنما وجبت لدفع ضرر سوء الجوار على الدوام، والملك في المنقول لا يدوم حسب دوامه في العقار فلا يلحق به وفي بعض نسخ المختصر ولا شفعة في البناء والنخل إذا بيعت دون العرصة وهو صحيح مذكور في الأصل، لأنه لا قرار له فكان نقليا، وهذا بخلاف العلو حيث يستحق بالشفعة ويستحق به الشفعة في السفل إذا لم يكن طريق العلو فيه، لأنه بما له من حق القرار التحق بالعقار.
قال: "والمسلم والذمي في الشفعة سواء" للعمومات ولأنهما يستويان في السبب والحكمة فيستويان في الاستحقاق، ولهذا يستوي فيه الذكر والأنثى والصغير والكبير والباغي والعادل والحر والعبد إذا كان مأذونا أو مكاتبا.
قال: "وإذا ملك العقار بعوض هو مال وجبت فيه الشفعة" لأنه أمكن مراعاة شرط الشرع فيه وهو التملك بمثل ما تملك به المشتري صورة أو قيمة على ما مر.
قال: "ولا شفعة في الدار التي يتزوج الرجل عليها أو يخالع المرأة بها أو يستأجر بها دارا أو غيرها أو يصالح بها عن دم عمد أو يعتق عليها عبدا" لأن الشفعة عندنا إنما تجب في مبادلة المال بالمال لما بينا، وهذه الأعواض ليست بأموال، فإيجاب الشفعة فيها خلاف المشروع وقلب الموضوع وعند الشافعي تجب فيها الشفعة لأن هذه الأعواض متقومة عنده فأمكن الأخذ بقيمتها إن تعذر بمثلها كما في البيع بالعرض، بخلاف الهبة لأنه لا عوض فيها رأسا وقوله يتأتى فيما إذا جعل شقصا من دار مهرا أو ما يضاهيه لأنه لا شفعة عنده إلا فيه ونحن نقول: إن تقوم منافع البضع في النكاح وغيرها بعقد الإجارة ضروري فلا يظهر في حق الشفعة، وكذا الدم والعتق غير متقوم لأن القيمة ما يقوم مقام(4/318)
غيره في المعنى الخاص المطلوب ولا يتحقق فيهما، وعلى هذا إذا تزوجها بغير مهر ثم فرض لها الدار مهرا لأنه بمنزلة المفروض في العقد في كونه مقابلا بالبضع، بخلاف ما إذا باعها بمهر المثل أو بالمسمى لأنه مبادلة مال بمال، ولو تزوجها على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في جميع الدار عند أبي حنيفة وقالا: تجب في حصة الألف لأنه مبادلة مالية في حقه. وهو يقول معنى البيع فيه تابع ولهذا ينعقد بلفظ النكاح ولا يفسد بشرط النكاح فيه، ولا شفعة في الأصل فكذا في التبع، ولأن الشفعة شرعت في المبادلة المالية المقصودة حتى أن المضارب إذا باع دارا وفيها ربح لا يستحق رب المال الشفعة في حصة الربح لكونه تابعا فيه.
قال: "أو يصالح عليها بإنكار، فإن صالح عليها بإقرار وجبت الشفعة" قال رضي الله عنه: هكذا ذكر في أكثر نسخ المختصر، والصحيح أو يصالح عنها بإنكار مكان قوله أو يصالح عليها، لأنه إذا صالح عنها بإنكار بقي الدار في يده فهو يزعم أنها لم تزل عن ملكه، وكذا إذا صالح عنها بسكوت لأنه يحتمل أنه بذل المال افتداء ليمينه وقطعا لشغب خصمه، كما إذا أنكر صريحا، بخلاف ما إذا صالح عنها بإقرار لأنه معترف بالملك للمدعي، وإنما استفاده بالصلح فكان مبادلة مالية. أما إذا صالح عليها بإقرار أو سكوت أو إنكار وجبت الشفعة في جميع ذلك لأنه أخذها عوضا عن حقه في زعمه إذا لم يكن من جنسه فيعامل بزعمه.
قال: "ولا شفعة في هبة لما ذكرنا، إلا أن تكون بعوض مشروط" لأنه بيع انتهاء، ولا بد من القبض وأن لا يكون الموهوب ولا عوضه شائعا لأنه هبة ابتداء وقد قررناه في كتاب الهبة، بخلاف ما إذا لم يكن العوض مشروطا في العقد لأن كل واحد منهما هبة مطلقة، إلا أنه أثيب منها فامتنع الرجوع.
قال: "ومن باع بشرط الخيار فلا شفعة للشفيع" لأنه يمنع زوال الملك عن البائع "فإن أسقط الخيار وجبت الشفعة" لأنه زال المانع عن الزوال ويشترط الطلب عند سقوط الخيار في الصحيح لأن البيع يصير سببا لزوال الملك عند ذلك.
قال: "وإن اشترى بشرط الخيار وجب الشفعة" لأنه لا يمنع زوال الملك عن البائع بالاتفاق، والشفعة تبتنى عليه على ما مر، وإذا أخذها في الثلث وجب البيع لعجز المشتري عن الرد، ولا خيار للشفيع لأنه يثبت بالشرط، وهو للمشتري دون الشفيع، وإن بيعت دار إلى جنبها والخيار لأحدهما فله الأخذ بالشفعة أما للبائع فظاهر لبقاء ملكه في التي يشفع بها(4/319)
وكذا إذا كان للمشتري وفيه إشكال أوضحناه في البيوع فلا نعيده، وإذا أخذها كان إجازة منه للبيع، بخلاف ما إذا اشتراها ولم يرها حيث لا يبطل خياره بأخذ ما بيع بجنبها بالشفعة، لأن خيار الرؤية لا يبطل بصريح الإبطال فكيف بدلالته، ثم إذا حضر شفيع الدار الأولى له أن يأخذها دون الثانية لانعدام ملكه في الأولى حين بيعت الثانية.
قال: "ومن ابتاع دارا شراء فاسدا فلا شفعة فيها" أما قبل القبض فلعدم زوال ملك البائع، وبعد القبض لاحتمال الفسخ، وحق الفسخ ثابت بالشرع لدفع الفساد، وفي إثبات حق الشفعة تقرير الفساد فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري في البيع الصحيح لأنه صار أخص به تصرفا وفي البيع الفاسد ممنوع عنه.
قال: "فإن سقط حق الفسخ وجبت الشفعة لزوال المانع، وإن بيعت دار بجنبها وهي في يد البائع بعد فله الشفعة لبقاء ملكه، وإن سلمها إلى المشتري فهو شفيعها لأن الملك له" ثم إن سلم البائع قبل الحكم بالشفعة له بطلت شفعته كما إذا باع، بخلاف ما إذا سلم بعده لأن بقاء ملكه في الدار التي يشفع بها بعد الحكم بالشفعة ليس بشرط فبقيت المأخوذة بالشفعة على ملكه، وإن استردها البائع من المشتري قبل الحكم بالشفعة له بطلت لانقطاع ملكه عن التي يشفع بها قبل الحكم بالشفعة، وإن استردها بعد الحكم بقيت الثانية على ملكه لما بينا.
قال: "وإذا اقتسم الشركاء العقار فلا شفعة لجارهم بالقسمة" لأن القسمة فيها معنى الإفراز ولهذا يجري فيها الجبر؛ والشفعة ما شرعت إلا في المبادلة المطلقة.
قال: "وإذا اشترى دارا فسلم الشفيع الشفعة ثم ردها المشتري بخيار رؤية أو شرط أو بعيب بقضاء قاض فلا شفعة للشفيع" لأنه فسخ من كل وجه فعاد إلى قديم ملكه والشفعة في إنشاء العقد، ولا فرق في هذا بين القبض وعدمه.
قال: "وإن ردها بعيب بغير قضاء أو تقايلا البيع فللشفيع الشفعة" لأنه فسخ في حقهما لولايتهما على أنفسهما وقد قصدا الفسخ وهو بيع جديد في حق ثالث لوجود حد البيع وهو مبادلة المال بالمال بالتراضي والشفيع ثالث، ومراده الرد بالعيب بعد القبض لأن قبله فسخ من الأصل وإن كان بغير قضاء على ما عرف؛ وفي الجامع الصغير: ولا شفعة في قسمة ولا خيار رؤية، وهو بكسر الراء، ومعناه: لا شفعة بسبب الرد بخيار الرؤية لما بيناه، ولا تصح الرواية بالفتح عطفا على الشفعة لأن الرواية محفوظة في كتاب القسمة أنه يثبت في القسمة خيار الرؤية وخيار الشرط لأنهما يثبتان لخلل في الرضا فيما يتعلق لزومه(4/320)
بالرضا، وهذا المعنى موجود في القسمة، والله سبحانه أعلم.(4/321)
باب ما يبطل به الشفعة
مدخل
...
باب ما يبطل به الشفعة
قال: "وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته" لإعراضه عن الطلب وهذا لأن الإعراض إنما يتحقق حالة الاختيار وهي عند القدرة.
قال: "وكذلك إن أشهد في المجلس ولم يشهد على أحد المتبايعين ولا عند العقار" وقد أوضحناه فيما تقدم.
قال: "وإن صالح من شفعته على عوض بطلت شفعته ورد العوض" لأن حق الشفعة ليس بحق متقرر في المحل، بل هو مجرد حق التملك فلا يصح الاعتياض عنه، ولا يتعلق إسقاطه بالجائز من الشرط فبالفاسد أولى فيبطل الشرط ويصح الإسقاط وكذا لو باع شفعته بمال لما بينا، بخلاف القصاص لأنه حق متقرر، وبخلاف الطلاق والعتاق لأنه اعتياض عن ملك في المحل ونظيره إذا قال للمخيرة اختاريني بألف أو قال العنين لامرأته اختاري ترك الفسخ بألف فاختارت سقط الخيار ولا يثبت العوض، والكفالة بالنفس في هذا بمنزلة الشفعة في رواية، وفي أخرى: لا تبطل الكفالة ولا يجب المال وقيل هذه رواية في الشفعة، وقيل هي في الكفالة خاصة وقد عرف في موضعه قال: "وإذا مات الشفيع بطلت شفعته" وقال الشافعي: تورث عنه.
قال رضي الله عنه: معناه إذا مات بعد البيع قبل القضاء بالشفعة، أما إذا مات بعد قضاء القاضي قبل نقد الثمن وقبضه فالبيع لازم لورثته، وهذا نظير الاختلاف في خيار الشرط وقد مر في البيوع، ولأنه بالموت يزول ملكه عن داره ويثبت الملك للوارث بعد البيع وقيامه وقت البيع وبقاؤه للشفيع إلى وقت القضاء شرطا فلا يستوجب الشفعة بدونه "وإن مات المشتري لم تبطل" لأن المستحق باق ولم يتغير سبب حقه، ولا يباع في دين المشتري ووصيته، ولو باعه القاضي أو الوصي أو أوصى المشتري فيها بوصية فللشفيع أن يبطله ويأخذ الدار لتقدم حقه ولهذا ينقض تصرفه في حياته.
قال: "وإذا باع الشفيع ما يشفع به قبل أن يقضى له بالشفعة بطلت شفعته" لزوال سبب الاستحقاق قبل التملك وهو الاتصال بملكه ولهذا يزول به وإن لم يعلم بشراء المشفوعة كما إذا سلم صريحا أو إبراء عن الدين وهو لا يعلم به، وهذا بخلاف ما إذا باع الشفيع داره بشرط الخيار له لأنه يمنع الزوال فبقي الاتصال.
قال: "ووكيل البائع إذا باع وهو الشفيع فلا شفعة له، ووكيل المشتري إذا ابتاع فله(4/321)
الشفعة" والأصل أن من باع أو بيع لا شفعة له، ومن اشترى أو ابتيع له فله الشفعة، لأن الأول بأخذ المشفوعة يسعى في نقض ما تم من جهته وهو البيع، والمشتري لا ينقض شراؤه بالأخذ بالشفعة لأنه مثل الشراء "وكذلك لو ضمن الدرك عن البائع وهو الشفيع فلا شفعة له" وكذلك إذا باع وشرط الخيار لغيره فأمضى المشروط له الخيار البيع وهو الشفيع فلا شفعة له، لأن البيع تم بإمضائه، بخلاف جانب المشروط له الخيار من جانب المشتري.
قال: "وإذا بلغ الشفيع أنها بيعت بألف درهم فسلم ثم علم أنها بيعت بأقل أو بحنطة أو شعير قيمتها ألف أو أكثر فتسليمه باطل وله الشفعة" لأنه إنما سلم لاستكثار الثمن في الأول ولتعذر الجنس الذي بلغه وتيسر ما بيع به في الثاني إذ الجنس مختلف، وكذا كل مكيل أو موزون أو عددي متقارب، بخلاف ما إذا علم أنها بيعت بعرض، قيمته ألف أو أكثر، لأن الواجب فيه القيمة وهي دراهم أو دنانير، وإن بان أنها بيعت بدنانير قيمتها ألف فلا شفعة له، وكذا إذا كانت أكثر. وقال زفر: له الشفعة لاختلاف الجنس ولنا أن الجنس متحد في حق الثمنية.
قال: "وإذا قيل له إن المشتري فلان فسلم الشفعة ثم علم أنه غيره فله الشفعة" لتفاوت الجوار "ولو علم أن المشتري هو مع غيره فله أن يأخذ نصيب غيره" لأن التسليم لم يوجد في حقه "ولو بلغه شراء النصف فسلم ثم ظهر شراء الجميع فله الشفعة" لأن التسليم لضرر الشركة ولا شركة، وفي عكسه لا شفعة في ظاهر الرواية لأن التسليم في الكل تسليم في أبعاضه، والله أعلم.(4/322)
فصل: وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له
...
فصل: قال: "وإذا باع دارا إلا مقدار ذراع منها في طول الحد الذي يلي الشفيع فلا شفعة له"
لانقطاع الجوار، وهذه حيلة، وكذا إذا وهب منه هذا المقدار وسلمه إليه لما بينا.
قال: "وإذا ابتاع منها سهما بثمن ثم ابتاع بقيتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني" لأن الشفيع جار فيهما، إلا أن المشتري في الثاني شريك فيتقدم عليه، فإن أراد الحيلة ابتاع السهم بالثمن إلا درهما مثلا والباقي بالباقي، وإن ابتاعها بثمن ثم دفع إليه ثوبا عوضا عنه فالشفعة بالثمن دون الثوب لأنه عقد آخر، والثمن هو العوض عن الدار.
قال رضي الله عنه: وهذه حيلة أخرى تعم الجوار والشركة فيباع بأضعاف قيمته ويعطى بها ثوب بقدر قيمته، إلا أنه لو استحقت المشفوعة يبقى كل الثمن على مشتري(4/322)
الثوب لقيام البيع الثاني فيتضرر به والأوجه أن يباع بالدراهم الثمن دينار حتى إذا استحق المشفوع يبطل الصرف فيجب رد الدينار لا غير.
قال: "ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف وتكره عند محمد" لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه ولأبي يوسف أنه منع عن إثبات الحق فلا يعد ضررا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة.(4/323)
مسائل متفرقة
قال: "وإذا اشترى خمسة نفر دارا من رجل فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم، وإن اشتراها رجل من خمسة أخذها كلها أو تركها" والفرق أن في الوجه الثاني بأخذ البعض تتفرق الصفقة على المشتري فيتضرر به زيادة الضرر، وفي الوجه الأول يقوم الشفيع مقام أحدهم فلا تتفرق الصفقة، ولا فرق في هذا بين ما إذا كان قبل القبض أو بعده هو الصحيح، إلا أن قبل القبض لا يمكنه أخذ نصيب أحدهم إذا نقد ما عليه ما لم ينقد الآخر حصته كي لا يؤدي إلى تفريق اليد على البائع بمنزلة أحد المشتريين، بخلاف ما بعد القبض لأنه سقطت يد البائع، وسواء سمى لكل بعض ثمنا أو كان الثمن جملة، لأن العبرة في هذا لتفريق الصفقة لا للثمن، وهاهنا تفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى.
قال: "ومن اشترى نصف دار غير مقسوم فقاسمه البائع أخذ الشفيع النصف الذي صار للمشتري أو يدع" لأن القسمة من تمام القبض لما فيه من تكميل الانتفاع ولهذا يتم القبض بالقسمة في الهبة، والشفيع لا ينقض القبض وإن كان له نفع فيه بعود العهدة على البائع، فكذا لا ينقض ما هو من تمامه، بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين نصيبه من الدار المشتركة وقاسم المشتري الذي لم يبع حيث يكون للشفيع نقضه، لأن العقد ما وقع مع الذي قاسم فلم تكن القسمة من تمام القبض الذي هو حكم العقد بل هو تصرف بحكم الملك فينقضه الشفيع كما ينقض بيعه وهبته، ثم إطلاق الجواب في الكتاب يدل على أن الشفيع يأخذ النصف الذي صار للمشتري في أي جانب كان وهو المروي عن أبي يوسف، لأن المشتري لا يملك إبطال حقه بالقسمة وعن أبي حنيفة أنه إنما يأخذه إذا وقع في جانب الدار التي يشفع بها لأنه لا يبقى جارا فيما يقع في الجانب الآخر.
قال: "ومن باع دارا وله عبد مأذون عليه دين فله الشفعة، وكذا إذا كان العبد هو البائع فلمولاه الشفعة" لأن الأخذ بالشفعة تملك بالثمن فينزل منزلة الشراء، وهذا لأنه مفيد لأنه(4/323)
يتصرف للغرماء، بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين لأنه يبيعه لمولاه، ولا شفعة لمن يبيع له.
قال: "وتسليم الأب والوصي الشفعة على الصغير جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو على شفعته إذا بلغ" قالوا: وعلى هذا الخلاف إذا بلغهما شراء دار بجوار دار الصبي فلم يطلبا الشفعة، وعلى هذا الخلاف تسليم الوكيل بطلب الشفعة في رواية كتاب الوكالة وهو الصحيح لمحمد وزفر أنه حق ثابت للصغير فلا يملكان إبطاله كديته وقوده، ولأنه شرع لدفع الضرر فكان إبطاله إضرارا به ولهما أنه في معنى التجارة فيملكان تركه؛ ألا ترى أن من أوجب بيعا للصبي صح رده من الأب والوصي، ولأنه دائر بين النفع والضرر، وقد يكون النظر في تركه ليبقى الثمن على ملكه والولاية نظرية فيملكانه وسكوتهما كإبطالهما لكونه دليل الإعراض، وهذا إذا بيعت بمثل قيمتها، فإن بيعت بأكثر من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه قيل جاز التسليم بالإجماع لأنه تمحض نظرا وقيل لا يصح بالاتفاق لأنه لا يملك الأخذ فلا يملك التسليم كالأجنبي، وإن بيعت بأقل من قيمتها محاباة كثيرة، فعن أبي حنيفة أنه لا يصح التسليم منهما أيضا ولا رواية عن أبي يوسف، والله أعلم.(4/324)
كتاب القسمة
ينبغي للقاضي أن ينصب قاسما
مدخل
...
كتاب القسمة
القسمة في الأعيان المشتركة مشروعة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام باشرها في المغانم والمواريث، وجرى التوارث بها من غير نكير، ثم هي لا تعرى عن معنى المبادلة، لأن ما يجتمع لأحدهما بعضه كان له وبعضه كان لصاحبه فهو يأخذه عوضا عما بقي من حقه في نصيب صاحبه فكان مبادلة وإفرازا، والإفراز هو الظاهر في المكيلات والموزونات لعدم التفاوت، حتى كان لأحدهما أن يأخذ نصيبه حال غيبة صاحبه، ولو اشترياه فاقتسماه يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بنصف الثمن.
ومعنى المبادلة هو الظاهر في الحيوانات والعروض للتفاوت حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه عند غيبة الآخر. ولو اشترياه فاقتسماه لا يبيع أحدهما نصيبه مرابحة بعد القسمة، إلا أنها إذا كانت من جنس واحد أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء لأن فيه معنى الإفراز لتقارب المقاصد والمبادلة مما يجري فيه الجبر كما في قضاء الدين، وهذا لأن أحدهم بطلب القسمة يسأل القاضي أن يخصه بالانتفاع بنصيبه ويمنع الغير عن الانتفاع بملكه، فيجب على القاضي إجابته وإن كانت أجناسا مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد، ولو تراضوا عليها جاز لأن الحق لهم.
قال: "وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما يرزقه من بيت المال ليقسم بين الناس بغير أجر" لأن القسمة من جنس عمل القضاء من حيث إنه يتم به قطع المنازعة فأشبه رزق القاضي، ولأن منفعة نصب القاسم تعم العامة فتكون كفايته في مالهم غرما بالغنم.
قال: "فإن لم يفعل نصب قاسما يقسم بالأجر" معناه بأجر على المتقاسمين، لأن النفع لهم على الخصوص، وبقدر أجر مثله كي لا يتحكم بالزيادة، والأفضل أن يرزقه من بيت المال لأنه أرفق بالناس وأبعد عن التهمة. "ويجب أن يكون عدلا مأمونا عالما بالقسمة" لأنه من جنس عمل القضاء، ولأنه لا بد من القدرة وهي بالعلم، ومن الاعتماد على قوله وهو بالأمانة "ولا يجبر القاضي الناس على قاسم واحد" معناه لا يجبرهم على أن يستأجروه لأنه لا جبر على العقود، ولأنه لو تعين لتحكم بالزيادة على أجر مثله "ولو اصطلحوا فاقتسموا جاز(4/325)
إلا إذا كان فيهم صغير فيحتاج إلى أمر القاضي" لأنه لا ولاية لهم عليه.
قال: "ولا يترك القسام يشتركون" كي لا تصير الأجرة غالية بتواكلهم، وعند عدم الشركة يتبادر كل منهم إليه خيفة الفوت فيرخص الأجر.
قال: "وأجرة القسمة على عدد الرءوس عند أبي حنيفة، وقالا على قدر الأنصباء" لأنه مؤنة الملك فيتقدر بقدره كأجرة الكيال والوزان وحفر البئر المشتركة ونفقة المملوك المشترك ولأبي حنيفة أن الأجر مقابل بالتمييز، وأنه لا يتفاوت، وربما يصعب الحساب بالنظر إلى القليل، وقد ينعكس الأمر فيتعذر اعتباره فيتعلق الحكم بأصل التمييز، بخلاف حفر البئر لأن الأجر مقابل بنقل التراب وهو يتفاوت، والكيل والوزن إن كان للقسمة قيل هو على الخلاف، وإن لم يكن للقسمة فالأجر مقابل بعمل الكيل والوزن وهو يتفاوت وهو العذر لو أطلق ولا يفصل وعنه أنه على الطالب دون الممتنع لنفعه ومضرة الممتنع.
قال: "وإذا حضر الشركاء عند القاضي وفي أيديهم دار أو ضيعة وادعوا أنهم ورثوها عن فلان لم يقسمها القاضي عند أبي حنيفة حتى يقيموا البينة على موته وعدد ورثته وقال صاحباه: يقسمها باعترافهم، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بقولهم وإن كان المال المشترك ما سوى العقار وادعوا أنه ميراث قسمه في قولهم جميعا، ولو ادعوا في العقار أنهم اشتروه قسمه بينهم" لهما أن اليد دليل الملك والإقرار أمارة الصدق ولا منازع لهم فيقسمه بينهم كما في المنقول الموروث والعقار المشترى، وهذا لأنه لا منكر ولا بينة إلا على المنكر فلا يفيد، إلا أنه يذكر في كتاب القسمة أنه قسمها بإقرارهم ليقتصر عليهم ولا يتعداهم وله أن يقسم قضاء على الميت إذ التركة مبقاة على ملكه قبل القسمة، حتى لو حدثت الزيادة قبلها تنفذ وصاياه فيها وتقضى ديونه منها، بخلاف ما بعد القسمة، وإذا كانت قضاء على الميت فالإقرار ليس بحجة عليه فلا بد من البينة وهو مفيد، لأن بعض الورثة ينتصب خصما عن المورث. ولا يمتنع ذلك بإقراره كما في الوارث أو الوصي المقر بالدين فإنه يقبل البينة عليه مع إقراره، بخلاف المنقول لأن في القسمة نظرا للحاجة إلى الحفظ أما العقار فمحصن بنفسه، ولأن المنقول مضمون على من وقع في يده، ولا كذلك العقار عنده، وبخلاف المشترى لأن المبيع لا يبقى على ملك البائع وإن لم يقسم فلم تكن القسمة قضاء على الغير.
قال: "وإن ادعوا الملك ولم يذكروا كيف انتقل إليهم قسمه بينهم" لأنه ليس في(4/326)
القسمة قضاء على الغير، فإنهم ما أقروا بالملك لغيرهم قال رضي الله عنه: هذه رواية كتاب القسمة. "وفي الجامع الصغير: أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما" لاحتمال أن يكون لغيرهما ثم قيل هو قول أبي حنيفة وقيل قول الكل، وهو الأصح لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه، وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك فامتنع الجواز.
قال: "وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارث غائب قسمها القاضي بطلب الحاضرين وينصب وكيلا يقبض نصيب الغائب، وكذا لو كان مكان الغائب صبي يقسم وينصب وصيا يقبض نصيبه" لأن فيه نظرا للغائب والصغير، ولا بد من إقامة البينة في هذه الصورة عنده أيضا خلافا لهما كما ذكرنا من قبل "ولو كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم" والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتراه المورث أو باع ويصير مغرورا بشراء المورث فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين.
أما الملك الثابت بالشراء ملك مبتدأ ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب فوضح الفرق "وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم، وكذا إذا كان في يد مودعه، وكذا إذا كان في يد الصغير" لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه، والقضاء من غير الخصم لا يجوز. ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها هو الصحيح كما أطلق في الكتاب.
قال: "وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة" لأنه لا بد من حضور خصمين، لأن الواحد لا يصلح مخاصما ومخاصما، وكذا مقاسما ومقاسما، بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا "ولو كان الحاضر كبيرا وصغيرا نصب القاضي عن الصغير وصيا وقسم إذا أقيمت البينة، وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية يقسمه" لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه، وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه.(4/327)
فصل: فيما يقسم وما لا يقسم
قال: "وإذا كان كل واحد من الشركاء ينتفع بنصيبه قسم بطلب أحدهم" لأن القسمة(4/327)
حق لازم فيما يحتملها عند طلب أحدهم على ما بيناه من قبل "وإن كان ينتفع أحدهم ويستضر به الآخر لقلة نصيبه، فإن طلب صاحب الكثير قسم، وإن طلب صاحب القليل لم يقسم" لأن الأول ينتفع به فيعتبر طلبه، والثاني متعنت في طلبه فلم يعتبر وذكر الجصاص على قلب هذا لأن صاحب الكثير يريد الإضرار بغيره والآخر يرضى بضرر نفسه وذكر الحاكم الشهيد في مختصره أن أيهما طلب القسمة يقسم القاضي، والوجه اندرج فيما ذكرناه والأصح المذكور في الكتاب وهو الأول "وإن كان كل واحد منهما يستضر لصغره لم يقسمها إلا بتراضيهما" لأن الجبر على القسمة لتكميل المنفعة، وفي هذا تفويتها، وتجوز بتراضيهما لأن الحق لهما وهما أعرف بشأنهما. أما القاضي فيعتمد الظاهر.
قال: "ويقسم العروض إذا كانت من صنف واحد" لأن عند اتحاد الجنس يتحد المقصود فيحصل التعديل في القسمة والتكميل في المنفعة "ولا يقسم الجنسين بعضهما في بعض" لأنه لا اختلاط بين الجنسين فلا تقع القسمة تمييزا بل تقع معاوضة، وسبيلها التراضي دون جبر القاضي "ويقسم كل مكيل وموزون كثير أو قليل والمعدود المتقارب وتبر الذهب والفضة والحديد والنحاس والإبل بانفرادها والبقر والغنم ولا يقسم شاة وبعيرا وبرذونا وحمارا ولا يقسم الأواني" لأنها باختلاف الصنعة التحقت بالأجناس المختلفة "ويقسم الثياب الهروية" لاتحاد الصنف "ولا يقسم ثوبا واحدا" لاشتمال القسمة على الضرر إذ هي لا تتحقق إلا بالقطع "ولا ثوبين إذا اختلفت قيمتهما" لما بينا، بخلاف ثلاثة أثواب إذا جعل ثوب بثوبين أو ثوب وربع ثوب بثوب وثلاثة أرباع ثوب لأنه قسمة البعض دون البعض وذلك جائز.
"وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق والجواهر" لتفاوتهما "وقالا: يقسم الرقيق" لاتحاد الجنس كما في الإبل والغنم ورقيق المغنم وله أن التفاوت في الآدمي فاحش لتفاوت المعاني الباطنة فصار كالجنس المختلف بخلاف الحيوانات لأن التفاوت فيها يقل عند اتحاد الجنس؛ ألا ترى أن الذكر والأنثى من بني آدم جنسان ومن الحيوانات جنس واحد، بخلاف المغانم لأن حق الغانمين في المالية حتى كان للإمام بيعها وقسمة ثمنها وهنا يتعلق بالعين والمالية جميعا فافترقا.
وأما الجواهر فقد قيل إذا اختلف الجنس لا يقسم كاللآلئ واليواقيت وقيل لا يقسم الكبار منها لكثرة التفاوت، ويقسم الصغار لقلة التفاوت. وقيل يجري الجواب على إطلاقه لأن جهالة الجواهر أفحش من جهالة الرقيق؛ ألا ترى أنه لو تزوج على لؤلؤة أو ياقوتة أو خالع عليها لا تصح التسمية، ويصح ذلك على عبد فأولى أن لا يجبر على القسمة.(4/328)
قال: "ولا يقسم حمام ولا بئر، ولا رحى إلا بتراضي الشركاء، وكذا الحائط بين الدارين" لأنها تشتمل على الضرر في الطرفين، إذ لا يبقى كل نصيب منتفعا به انتفاعا مقصودا فلا يقسم القاضي بخلاف التراضي لما بينا.
قال: "وإذا كانت دور مشتركة في مصر واحد قسم كل دار على حدتها في قول أبي حنيفة وقالا: إن كان الأصلح لهم قسمة بعضها في بعض قسمها" وعلى هذا الخلاف الأقرحة المتفرقة المشتركة لهما أنها جنس واحد اسما وصورة، ونظرا إلى أصل السكنى أجناس معنى نظرا إلى اختلاف المقاصد، ووجوه السكنى فيفوض الترجيح إلى القاضي وله أن الاعتبار للمعنى وهو المقصود، ويختلف ذلك باختلاف البلدان والمحال والجيران والقرب إلى المسجد والماء اختلافا فاحشا فلا يمكن التعديل في القسمة ولهذا لا يجوز التوكيل بشراء دار، وكذا لو تزوج على دار لا تصح التسمية كما هو الحكم فيهما في الثوب بخلاف الدار الواحدة إذا اختلفت بيوتها، لأن في قسمة كل بيت على حدة ضررا فقسمت الدار قسمة واحدة.
قال رضي الله عنه: تقييد الوضع في الكتاب إشارة إلى أن الدارين إذا كانتا في مصرين لا تجتمعان في القسمة عندهما، وهو رواية هلال عنهما وعن محمد أنه يقسم إحداهما في الأخرى والبيوت في محلة أو محال تقسم قسمة واحدة لأن التفاوت فيما بينها يسير، والمنازل المتلازقة كالبيوت والمتباينة كالدور لأنه بين الدار والبيت على ما مر من قبل فأخذ شبيها من كل واحد.
قال: "وإن كانت دار وضيعة أو دار وحانوت قسم كل واحد منهما على حدة" لاختلاف الجنس.
قال رضي الله عنه: جعل الدار والحانوت جنسين، وكذا ذكر الخصاف وقال في إجارات الأصل: إن إجارة منافع الدار بالحانوت لا تجوز، وهذا يدل على أنهما جنس واحد، فيجعل في المسألة روايتان أو تبنى حرمة الربا هنالك على شبهة المجانسة.(4/329)
فصل: في كيفية القسمة
قال: "وينبغي للقاسم أن يصور ما يقسمه" ليمكنه حفظه "ويعدله" يعني يسويه على سهام القسمة ويروى يعزله: أي يقطعه بالقسمة عن غيره "ويذرعه" ليعرف قدره "ويقوم البناء" لحاجته إليه في الآخرة "ويفرز كل نصيب عن الباقي بطريقه وشربه حتى لا يكون لنصيب بعضهم بنصيب الآخر تعلق" فتنقطع المنازعة ويتحقق معنى القسمة على التمام "ثم(4/329)
يلقب نصيبا بالأول، والذي يليه بالثاني والثالث على هذا ثم يخرج القرعة، فمن خرج اسمه أولا فله السهم الأول، ومن خرج ثانيا فله السهم الثاني".
والأصل أن ينظر في ذلك إلى أقل الأنصباء، حتى إذا كان الأقل ثلثا جعلها أثلاثا، وإن كان سدسا جعلها أسداسا لتمكن القسمة، وقد شرحناه مشبعا في كفاية المنتهى بتوفيق الله تعالى وقوله في الكتاب: ويفرز كل نصيب بطريقه وشربه بيان الأفضل، فإن لم يفعل أو لم يمكن جاز على ما نذكره بتفصيله إن شاء الله تعالى. والقرعة لتطييب القلوب وإزاحة تهمة الميل، حتى لو عين لكل منهم نصيبا من غير إقراع جاز لأنه في معنى القضاء فيملك الإلزام.
قال: "ولا يدخل في القسمة الدراهم والدنانير إلا بتراضيهم" لأنه لا شركة في الدراهم والقسمة من حقوق الاشتراك، ولأنه يفوت به التعديل في القسمة لأن أحدهما يصل إلى عين العقار ودراهم الآخر في ذمته ولعلها لا تسلم له "وإذا كان أرض وبناء؛ فعن أبي يوسف أنه يقسم كل ذلك على اعتبار القيمة" لأنه لا يمكن اعتبار المعادلة إلا بالتقويم.
وعن أبي حنيفة أنه يقسم الأرض بالمساحة لأنه هو الأصل في الممسوحات، ثم يرد من وقع البناء في نصيبه أو من كان نصيبه أجود دراهم على الآخر حتى يساويه فتدخل الدراهم في القسمة ضرورة كالأخ لا ولاية له في المال، ثم يملك تسمية الصداق ضرورة التزويج وعن محمد أنه يرد على شريكه بمقابلة البناء ما يساويه من العرصة، وإذا بقي فضل ولم يمكن تحقيق التسوية بأن كان لا تفي العرصة بقيمة البناء فحينئذ يرد للفضل دراهم، لأن الضرورة في هذا القدر فلا يترك الأصل إلا بها. وهذا يوافق رواية الأصل.
قال: "فإن قسم بينهم ولأحدهم مسيل في نصيب الآخر أو طريق لم يشترط في القسمة، فإن أمكن صرف الطريق والمسيل عنه ليس له أن يستطرق في نصيب الآخر" لأنه أمكن تحقيق معنى القسمة من غير ضرر "وإن لم يمكن فسخت القسمة" لأن القسمة مختلة لبقاء الاختلاط فتستأنف بخلاف البيع حيث لا يفسد في هذه الصورة، لأن المقصود منه تملك العين، وأنه يجامع تعذر الانتفاع في الحال، أما القسمة لتكميل المنفعة ولا يتم ذلك إلا بالطريق، ولو ذكر الحقوق في الوجه الأول كذلك الجواب، لأن معنى القسمة الإفراز والتمييز، وتمام ذلك بأن لا يبقى لكل واحد تعلق بنصيب الآخر وقد أمكن تحقيقه بصرف الطريق والمسيل إلى غيره من غير ضرر فيصار إليه، بخلاف البيع إذا ذكر فيه الحقوق حيث يدخل فيه ما كان له من الطريق والمسيل، لأنه أمكن تحقيق معنى البيع وهو التمليك مع بقاء هذا التعلق بملك غيره وفي الوجه الثاني يدخل فيها لأن القسمة لتكميل المنفعة،(4/330)
وذلك بالطريق والمسيل فيدخل عند التنصيص باعتباره، وفيها معنى الإفراز وذلك بانقطاع التعلق على ما ذكرنا، فباعتباره لا يدخل من غير تنصيص، بخلاف الإجارة حيث يدخل فيها بدون التنصيص، لأن كل المقصود الانتفاع وذلك لا يحصل إلا بإدخال الشرب والطريق فيدخل من غير ذكر.
"ولو اختلفوا في رفع الطريق بينهم في القسمة، إن كان يستقيم لكل واحد طريق يفتحه في نصيبه قسم الحاكم من غير طريق يرفع لجماعتهم" لتحقق الإفراز بالكلية دونه. "وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقا بين جماعتهم" ليتحقق تكميل المنفعة فيما وراء الطريق "ولو اختلفوا في مقداره جعل على عرض باب الدار وطوله" لأن الحاجة تندفع به "والطريق على سهامهم كما كان قبل القسمة" لأن القسمة فيما وراء الطريق لا فيه "ولو شرطوا أن يكون الطريق بينهما أثلاثا جاز وإن كان أصل الدار نصفين" لأن القسمة على التفاضل جائزة بالتراضي.
قال: "وإذا كان سفل لا علو عليه وعلو لا سفل له وسفل له علو قوم كل واحد على حدته وقسم بالقيمة ولا معتبر بغير ذلك" قال رضي الله عنه: هذا عند محمد رحمه الله.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: يقسم بالذرع؛ لمحمد أن السفل يصلح لما لا يصلح له العلو من اتخاذه بئر ماء أو سردابا أو إصطبلا أو غير ذلك فلا يتحقق التعديل إلا بالقيمة، وهما يقولان إن القسمة بالذرع هي الأصل، لأن الشركة في المذروع لا في القيمة فيصار إليه ما أمكن، والمراعى التسوية في السكنى لا في المرافق ثم اختلفا فيما بينهما في كيفية القسمة بالذرع فقال أبو حنيفة رحمه الله: ذراع من سفل بذراعين من علو وقال أبو يوسف رحمه الله: ذراع بذراع.
قيل: أجاب كل واحد منهم على عادة أهل عصره أو أهل بلده في تفضيل السفل على العلو واستوائهما وتفضيل السفل مرة والعلو أخرى. وقيل هو اختلاف معنى ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن منفعة السفل تربو على منفعة العلو بضعفه لأنها تبقى بعد فوات العلو، ومنفعة العلو لا تبقى بعد فناء السفل، وكذا السفل فيه منفعة البناء والسكنى، وفي العلو السكنى لا غير إذ لا يمكنه البناء على علوه إلا برضا صاحب السفل، فيعتبر ذراعان منه بذراع من السفل ولأبي يوسف أن المقصود أصل السكنى وهما يتساويان فيه، والمنفعتان متماثلتان لأن لكل واحد منهما أن يفعل ما لا يضر بالآخر على أصله ولمحمد أن المنفعة تختلف باختلاف الحر والبرد بالإضافة إليهما فلا يمكن التعديل إلا بالقيمة، والفتوى اليوم(4/331)
على قول محمد رحمه الله وقوله لا يفتقر إلى التفسير.
وتفسير قول أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الكتاب أن يجعل بمقابلة مائة ذراع من العلو المجرد ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من البيت الكامل لأن العلو مثل نصف السفل فثلاثة وثلاثون وثلث من السفل ستة وستون وثلثان من العلو المجرد ومعه ثلاثة وثلاثون وثلث ذراع من العلو فبلغت مائة ذراع تساوي مائة من العلو المجرد، ويجعل بمقابلة مائة ذراع من السفل المجرد من البيت الكامل ستة وستون وثلثا ذراع، لأن علوه مثل نصف سفله فبلغت مائة ذراع كما ذكرنا، والسفل المجرد ستة وستون وثلثان لأنه ضعف العلو فيجعل بمقابلة مثله وتفسير قول أبي يوسف أن يجعل بإزاء خمسين ذراعا من البيت الكامل مائة ذراع من السفل المجرد، ومائة ذراع من العلو المجرد، لأن السفل والعلو عنده سواء، فخمسون ذراعا من البيت الكامل بمنزلة مائة ذراع خمسون منها سفل وخمسون منها علو.
قال: "وإذا اختلف المتقاسمون وشهد القاسمان قبلت شهادتهما" قال رضي الله عنه: هذا الذي ذكره قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا تقبل، وهو قول أبي يوسف أولا، وبه قال الشافعي. وذكر الخصاف قول محمد مع قولهما وقاسما القاضي وغيرهما سواء، لمحمد أنهما شهدا على فعل أنفسهما فلا تقبل، كمن علق عتق عبده بفعل غيره فشهد ذلك الغير على فعله ولهما أنهما شهدا على فعل غيرهما وهو الاستيفاء والقبض لا على فعل أنفسهما، لأن فعلهما التمييز ولا حاجة إلى الشهادة عليه، أو لأنه لا يصلح مشهودا به لما أنه غير لازم، وإنما يلزمه بالقبض والاستيفاء وهو فعل الغير فتقبل الشهادة عليه وقال الطحاوي: إذا قسما بأجر لا تقبل الشهادة بالإجماع، وإليه مال بعض المشايخ لأنهما يدعيان إيفاء عمل استؤجرا عليه فكانت شهادة صورة ودعوى معنى فلا تقبل إلا أنا نقول: هما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما مغنما لاتفاق الخصوم على إيفائهما العمل المستأجر عليه وهو التمييز، وإنما الاختلاف في الاستيفاء فانتفت التهمة "ولو شهد قاسم واحد لا تقبل" لأن شهادة الفرد غير مقبولة على الغير، ولو أمر القاضي أمينه بدفع المال إلى آخر يقبل قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه ولا يقبل في إلزام الآخر إذا كان منكرا، والله أعلم.(4/332)
باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها
مدخل
...
باب دعوى الغلط في القسمة والاستحقاق فيها
قال: "وإذا ادعى أحدهم الغلط وزعم أن مما أصابه شيئا في يد صاحبه وقد أشهد على نفسه بالاستيفاء لم يصدق على ذلك إلا ببينة" لأنه يدعي فسخ القسمة بعد وقوعها،(4/332)
فلا يصدق إلا بحجة "فإن لم يكن له بينة استحلف الشركاء فمن نكل منهم جمع بين نصيب الناكل والمدعي فيقسم بينهما على قدر أنصبائهما"، لأن النكول حجة في حقه خاصة فيعاملان على زعمهما.
قال رضي الله عنه: ينبغي أن لا تقبل دعواه أصلا لتناقضه، وإليه أشار من بعد "وإن قال قد استوفيت حقي وأخذت بعضه فالقول قول خصمه مع يمينه" لأنه يدعي عليه الغصب وهو منكر "وإن قال أصابني إلى موضع كذا فلم يسلمه إلي ولم يشهد على نفسه بالاستيفاء وكذبه شريكه تحالفا وفسخت القسمة" لأن الاختلاف في مقدار ما حصل له بالقسمة فصار نظير الاختلاف في مقدار المبيع على ما ذكرنا من أحكام التحالف فيما تقدم "ولو اختلفا في التقويم لم يلتفت إليه" لأنه دعوى الغبن ولا معتبر به في البيع فكذا في القسمة لوجود التراضي، "إلا إذا كانت القسمة بقضاء القاضي والغبن فاحش" لأن تصرفه مقيد بالعدل "ولو اقتسما دارا وأصاب كل واحد طائفة فادعى أحدهم بيتا في يد الآخر أنه مما أصابه بالقسمة وأنكر الآخر فعليه إقامة البينة" لما قلنا "وإن أقاما البينة يؤخذ ببينة المدعي" لأنه خارج، وبينة الخارج تترجح على بينة ذي اليد "وإن كان قبل الإشهاد على القبض تحالفا وترادا، وكذا إذا اختلفا في الحدود وأقاما البينة يقضى لكل واحد بالجزء الذي هو في يد صاحبه" لما بينا "وإن قامت لأحدهما بينة قضي له، وإن لم تقم لواحد منهما تحالفا" كما في البيع.(4/333)
فصل: وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه الخ
...
فصل: قال: "وإذا استحق بعض نصيب أحدهما بعينه لم تفسخ القسمة عند أبي حنيفة ورجع بحصة ذلك في نصيب صاحبه. وقال أبو يوسف: تفسخ القسمة".
قال رضي الله عنه: ذكر الاختلاف في استحقاق بعض بعينه، وهكذا ذكر في الأسرار. والصحيح أن الاختلاف في استحقاق بعض شائع من نصيب أحدهما، فأما في استحقاق بعض معين لا تفسخ القسمة بالإجماع، ولو استحق بعض شائع في الكل تفسخ بالاتفاق، فهذه ثلاثة أوجه. ولم يذكر قول محمد، وذكره أبو سليمان مع أبي يوسف وأبو حفص مع أبي حنيفة وهو الأصح. لأبي يوسف أن باستحقاق بعض شائع ظهر شريك ثالث لهما، والقسمة بدون رضاه باطلة، كما إذا استحق بعض شائع في النصيبين، وهذا لأن باستحقاق جزء شائع ينعدم معنى القسمة وهو الإفراز لأنه يوجب الرجوع بحصته في نصيب الآخر شائعا، بخلاف المعين. ولهما أن معنى الإفراز لا ينعدم باستحقاق جزء(4/333)
شائع في نصيب أحدهما ولهذا جازت القسمة على هذا الوجه في الابتداء بأن كان النصف المقدم مشتركا بينهما وبين ثالث والنصف المؤخر بينهما لا شركة لغيرهما فيه فاقتسما على أن لأحدهما ما لهما من المقدم وربع المؤخر يجوز فكذا في الانتهاء وصار كاستحقاق شيء معين، بخلاف الشائع في النصيبين لأنه لو بقيت القسمة لتضرر الثالث بتفرق نصيبه في النصيبين، أما هاهنا لا ضرر بالمستحق فافترقا، وصور المسألة: إذا أخذ أحدهما الثلث المقدم من الدار والآخر الثلثين من المؤخر وقيمتهما سواء ثم استحق نصف المقدم، فعندهما إن شاء نقض القسمة دفعا لعيب التشقيص، وإن شاء رجع على صاحبه بربع ما في يده من المؤخر، لأنه لو استحق كل المقدم رجع بنصف ما في يده، فإذا استحق النصف رجع بنصف النصف وهو الربع اعتبارا للجزء بالكل، ولو باع صاحب المقدم نصفه ثم استحق النصف الباقي شائعا رجع بربع ما في يد الآخر عندهما لما ذكرنا وسقط خياره ببيع البعض وعند أبي يوسف: ما في يد صاحبه بينهما نصفان ويضمن قيمة نصف ما باع لصاحبه لأن القسمة تنقلب فاسدة عنده، والمقبوض بالعقد الفاسد مملوك فنفذ البيع فيه وهو مضمون بالقيمة فيضمن نصف نصيب صاحبه.
قال: "ولو وقعت القسمة ثم ظهر في التركة دين محيط ردت القسمة" لأنه يمنع وقوع الملك للوارث، وكذا إذا كان غير محيط لتعلق حق الغرماء بالتركة، إلا إذا بقي من التركة ما يفي بالدين وراء ما قسم لأنه لا حاجة إلى نقض القسمة في إيفاء حقهم، "ولو أبرأه الغرماء بعد القسمة أو أداه الورثة من مالهم والدين محيط أو غير محيط جازت القسمة" لأن المانع قد زال. ولو ادعى أحد المتقاسمين دينا في التركة صح دعواه لأنه لا تناقض، إذ الدين يتعلق بالمعنى والقسمة تصادف الصورة، ولو ادعى عينا بأي سبب كان لم يسمع للتناقض، إذ الإقدام على القسمة اعتراف بكون المقسوم مشتركا.(4/334)
فصل: في المهايأة
المهايأة جائزة استحسانا للحاجة إليه، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع فأشبه القسمة. ولهذا يجري فيه جبر القاضي كما يجري في القسمة، إلا أن القسمة أقوى منه في استكمال المنفعة لأنه جمع المنافع في زمان واحد، والتهايؤ جمع على التعاقب، ولهذا لو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ في التكميل. ولو وقعت فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم وتبطل المهايأة لأنه أبلغ(4/334)
ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما لأنه لو انتقض لاستأنفه الحاكم فلا فائدة في النقض ثم الاستئناف.
"ولو تهايأ في دار واحدة على أن يسكن هذا طائفة وهذا طائفة أو هذا علوها وهذا سفلها جاز" لأن القسمة على هذا الوجه جائزة فكذا المهايأة، والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ولهذه لا يشترط فيه التأقيت "ولكل واحد أن يستغل ما أصابه بالمهايأة شرط ذلك في العقد أو لم يشترط" لحدوث المنافع على ملكه.
"ولو تهايئا في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما جاز"، وكذا هذا في البيت الصغير "لأن المهايأة قد تكون في الزمان، وقد تكون من حيث المكان" والأول متعين هاهنا "ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان في محل يحتملهما يأمرهما القاضي بأن يتفقا" لأن التهايؤ في المكان أعدل وفي الزمان أكمل، فلما اختلفت الجهة لا بد من الاتفاق "فإن اختاراه من حيث الزمان يقرع في البداية" نفيا للتهمة "ولو تهايئا في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبد والآخر الآخر جاز عندهما" لأن القسمة على هذا الوجه جائزة عندهما جبرا من القاضي وبالتراضي فكذا المهايأة. وقيل عند أبي حنيفة لا يقسم القاضي. وهكذا روي عنه لأنه لا يجري فيه الجبر عنده. والأصح أنه يقسم القاضي عنده أيضا، لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت، بخلاف أعيان الرقيق لأنها تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما تقدم "ولو تهايئا فيهما على أن نفقة كل عبد على من يأخذه جاز" استحسانا للمسامحة في إطعام المماليك بخلاف شرط الكسوة لا يسامح فيها.
"ولو تهايئا في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز ويجبر القاضي عليه" وهذا عندهما ظاهر، لأن الدارين عندهما كدار واحدة. وقد قيل لا يجبر عنده اعتبارا بالقسمة. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز التهايؤ فيهما أصلا بالجبر لما قلنا، وبالتراضي لأنه بيع السكنى بالسكنى، بخلاف قسمة رقبتهما لأن بيع بعض أحدهما ببعض الآخر جائز. وجه الظاهر أن التفاوت يقل في المنافع فيجوز بالتراضي ويجري فيه جبر القاضي ويعتبر إفرازا أما يكثر التفاوت في أعيانهما فاعتبر مبادلة "وفي الدابتين لا يجوز التهايؤ على الركوب عند أبي حنيفة وعندهما يجوز" اعتبارا بقسمة الأعيان. وله أن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين فإنهم بين حاذق وأخرق. والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة على هذا الخلاف لما قلنا، بخلاف العبد لأنه يخدم باختياره فلا يتحمل زيادة على طاقته والدابة تحملها. وأما التهايؤ في الاستغلال يجوز في الدار الواحدة في ظاهر الرواية وفي العبد الواحد والدابة الواحدة لا يجوز. ووجه الفرق هو أن النصيبين، يتعاقبان في الاستيفاء، والاعتدال ثابت(4/335)
في الحال. والظاهر بقاؤه في العقار وتغيره في الحيوان لتوالي أسباب التغير عليه فتفوت المعادلة. ولو زادت الغلة في نوبة أحدهما عليها في نوبة الآخر يشتركان في الزيادة ليتحقق التعديل، بخلاف ما إذا كان التهايؤ على المنافع فاستغل أحدهما في نوبته زيادة، لأن التعديل فيما وقع عليه التهايؤ حاصل وهو المنافع فلا تضره زيادة الاستغلال من بعد "والتهايؤ على الاستغلال في الدارين جائز" أيضا في ظاهر الرواية لما بينا، ولو فضل غلة أحدهما لا يشتركان فيه بخلاف الدار الواحدة. والفرق أن في الدارين معنى التمييز، والإفراز راجح لاتحاد زمان الاستيفاء، وفي الدار الواحدة يتعاقب الوصول فاعتبر قرضا وجعل كل واحد في نوبته كالوكيل عن صاحبه فلهذا يرد عليه حصته من الفضل، وكذا يجوز في العبدين عندهما اعتبارا بالتهايؤ في المنافع، ولا يجوز عنده لأن التفاوت في أعيان الرقيق أكثر منه من حيث الزمان في العبد الواحد فأولى أن يمتنع الجواز، والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة، ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا، ولأن الظاهر هو التسامح في الخدمة والاستقصاء في الاستغلال فلا ينقسمان "ولا يجوز في الدابتين عنده خلافا لهما" والوجه ما بيناه في الركوب.
"ولو كان نخل أو شجر أو غنم بين اثنين فتهايئا على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها أو يرعاها ويشرب ألبانها لا يجوز" لأن المهايأة في المنافع ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها، وهذه أعيان باقية ترد عليها القسمة عند حصولها. والحيلة أن يبيع حصته من الآخر ثم يشتري كلها بعد مضي نوبته أو ينتفع باللبن بمقدار معلوم استقراضا لنصيب صاحبه، إذ قرض المشاع جائز والله أعلم بالصواب.(4/336)
كتاب المزارعة
شروطها
...
كتاب المزارعة
"قال أبو حنيفة رحمه الله: المزارعة بالثلث والربع باطلة"
اعلم أن المزارعة لغة: مفاعلة من الزرع. وفي الشريعة: هي عقد على الزرع ببعض الخارج. وهي فاسدة عند أبي حنيفة، وقال: هي جائزة لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج من ثمر أو زرع" ولأنه عقد شركة بين المال والعمل فيجوز اعتبارا بالمضاربة والجامع دفع الحاجة، فإن ذا المال قد لا يهتدي إلى العمل والقوي عليه لا يجد المال، فمست الحاجة إلى انعقاد هذا العقد بينهما بخلاف دفع الغنم والدجاج ودود القز معاملة بنصف الزوائد لأنه لا أثر هناك للعمل في تحصيلها فلم تتحقق شركة. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المخابرة وهي المزارعة" ولأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان، ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي عليه الصلاة والسلام أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز "وإذا فسدت عنده فإن سقى الأرض وكربها ولم يخرج شيء منه فله أجر مثله" لأنه في معنى إجارة فاسدة، وهذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض. وإذا كان البذر من قبله فعليه أجر مثل الأرض والخارج في الوجهين لصاحب البذر لأنه نماء ملكه وللآخر الأجر كما فصلنا، إلا أن الفتوى على قولهما لحاجة الناس إليها ولظهور تعامل الأمة بها. والقياس يترك بالتعامل كما في الاستصناع.
"ثم المزارعة لصحتها على قول من يجيزها شروط: أحدها كون الأرض صالحة للزراعة" لأن المقصود لا يحصل بدونه.
"والثاني: أن يكون رب الأرض والمزارع من أهل العقد وهو لا يختص به" لأنه عقد ما لا يصح إلا من الأهل.
"والثالث: بيان المدة" لأنه عقد على منافع الأرض أو منافع العامل والمدة هي المعيار لها ليعلم بها.(4/337)
"والرابع: بيان من عليه البذر" قطعا للمنازعة وإعلاما للمعقود عليه وهو منافع الأرض أو منافع العمل.
"والخامس: بيان نصيب من لا بذر من قبله" لأنه يستحقه عوضا بالشرط فلا بد أن يكون معلوما، وما لا يعلم لا يستحق شرطا بالعقد.
"والسادس: أن يخلي رب الأرض بينها وبين العامل، حتى لو شرط عمل رب الأرض يفسد العقد" لفوات التخلية.
"والسابع: الشركة في الخارج بعد حصوله" لأنه ينعقد شركة في الانتهاء، فما يقطع هذه الشركة كان مفسدا للعقد.
"والثامن: بيان جنس البذر" ليصير الأجر معلوما.
قال: "وهي عندهما على أربعة أوجه: إن كانت الأرض والبذر لواحد والبقر والعمل لواحد جازت المزارعة" لأن البقر آلة العمل فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط بإبرة الخياط، "وإن كان الأرض لواحد والعمل والبقر والبذر لواحد جازت" لأنه استئجار الأرض ببعض معلوم من الخارج فيجوز كما إذا استأجرها بدراهم معلومة "وإن كانت الأرض والبذر والبقر لواحد والعمل من آخر جازت" لأنه استأجره للعمل بآلة المستأجر فصار كما إذا استأجر خياطا ليخيط ثوبه بإبرته أو طيانا ليطين بمره "وإن كانت الأرض والبقر لواحد والبذر والعمل لآخر فهي باطلة" وهذا الذي ذكره ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه يجوز أيضا، لأنه لو شرط البذر والبقر عليه يجوز فكذا إذا شرط وحده وصار كجانب العامل. وجه الظاهر أن منفعة البقر ليست من جنس منفعة الأرض. لأن منفعة الأرض قوة في طبعها يحصل بها النماء، ومنفعة البقر صلاحية يقام بها العمل كل ذلك بخلق الله تعالى فلم يتجانسا فتعذر أن تجعل تابعة لها، بخلاف جانب العامل لأنه تجانست المنفعتان فجعلت تابعة لمنفعة العامل. وهاهنا وجهان آخران لم يذكرهما.
أحدهما: أن يكون البذر لأحدهما والأرض والبقر والعمل لآخر فإنه لا يجوز لأنه يتم شركة بين البذر والعمل ولم يرد به الشرع.
والثاني: أن يجمع بين البذر والبقر. وأنه لا يجوز أيضا لأنه لا يجوز عند الانفراد فكذا عند الاجتماع، والخارج في الوجهين لصاحب البذر في رواية اعتبارا بسائر المزارعات الفاسدة، وفي رواية لصاحب الأرض ويصير مستقرضا للبذر قابضا له لاتصاله بأرضه.
قال: "ولا تصح المزارعة إلا على مدة معلومة" لما بينا "وأن يكون الخارج شائعا(4/338)
بينهما" تحقيقا لمعنى الشركة "فإن شرطا لأحدهما قفزانا مسماة فهي باطلة" لأن به تنقطع الشركة لأن الأرض عساها لا تخرج إلا هذا القدر، فصار كاشتراط دراهم معدودة لأحدهما في المضاربة، "وكذا إذا شرطا أن يرفع صاحب البذر بذره ويكون الباقي بينهما نصفين"، لأنه يؤدي إلى قطع الشركة في بعض معين أو في جميعه بأن لم يخرج إلا قدر البذر فصار كما إذا شرطا رفع الخراج، والأرض خراجية وأن يكون الباقي بينهما لأنه معين، بخلاف ما إذا شرط صاحب البذر عشر الخارج لنفسه أو للآخر والباقي بينهما لأنه معين مشاع فلا يؤدي إلى قطع الشركة، كما إذا شرطا رفع العشر، وقسمة الباقي بينهما والأرض عشرية.
قال: "وكذا إذا شرطا ما على الماذيانات والسواقي" معناه لأحدهما، لأنه إذا شرط لأحدهما زرع موضع معين أفضى ذلك إلى قطع الشركة، لأنه لعله لا يخرج إلا من ذلك الموضع، وعلى هذا إذا شرط لأحدهما ما يخرج من ناحية معينة ولآخر ما يخرج من ناحية أخرى "وكذا إذا شرط لأحدهما التبن وللآخر الحب" لأنه عسى أن يصيبه آفة فلا ينعقد الحب ولا يخرج إلا التبن "وكذا إذا شرطا التبن نصفين والحب لأحدهما بعينه" لأنه يؤدي إلى قطع الشركة فيما هو المقصود وهو الحب "ولو شرط الحب نصفين ولم يتعرضا للتبن صحت" لاشتراطهما الشركة فيما هو المقصود، "ثم التبن يكون لصاحب البذر" لأنه نماء بذره وفي حقه لا يحتاج إلى الشرط. والمفسد هو الشرط، وهذا سكوت عنه. وقال مشايخ بلخي رحمهم الله: التبن بينهما أيضا اعتبارا للعرف فيما لم ينص عليه المتعاقدان، ولأنه تبع للحب والتبع يقوم بشرط الأصل. "ولو شرطا الحب نصفين والتبن لصاحب البذر صحت" لأنه حكم العقد "وإن شرطا التبن للآخر فسدت" لأنه شرط يؤدي إلى قطع الشركة بأن لا يخرج إلا التبن واستحقاق غير صاحب البذر بالشرط.
قال: "وإذا صحت المزارعة فالخارج على الشرط" لصحة الالتزام "وإن لم تخرج الأرض شيئا فلا شيء للعامل" لأنه يستحقه شركة، ولا شركة في غير الخارج، وإن كانت إجارة فالأجر مسمى فلا يستحق غيره، بخلاف ما إذا فسدت لأن أجر المثل في الذمة ولا تفوت الذمة بعدم الخارج.
قال: "وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر" لأنه نماء ملكه، واستحقاق الأجر بالتسمية وقد فسدت فبقي النماء كله لصاحب البذر.
قال: "ولو كان البذر من قبل رب الأرض فللعامل أجر مثله لا يزاد على مقدار ما شرط له من الخارج" لأنه رضي بسقوط الزيادة، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف(4/339)
رحمهما الله "وقال محمد: له أجر مثله بالغا ما بلغ، لأنه استوفى منافعه بعقد فاسد فتجب عليه قيمتها إذ لا مثل لها" وقد مر في الإجارات "وإن كان البذر من قبل العامل فلصاحب الأرض أجر مثل أرضه" لأنه استوفى منافع الأرض بعقد فاسد فيجب ردها وقد تعذر. ولا مثل لها فيجب رد قيمتها. وهل يزاد على ما شرط له من الخارج؟ فهو على الخلاف الذي ذكرناه "ولو جمع بين الأرض والبقر حتى فسدت المزارعة فعلى العامل أجر مثل الأرض والبقر" هو الصحيح، لأن له مدخلا في الإجارة وهي إجارة معنى "وإذا استحق رب الأرض الخارج لبذره في المزارعة الفاسدة طاب له جميعه" لأن النماء حصل في أرض مملوكة له "وإن استحقه العامل أخذ قدر بذره وقدر أجر الأرض وتصدق بالفضل" لأن النماء يحصل من البذر ويخرج من الأرض، وفساد الملك في منافع الأرض أوجب خبثا فيه. فما سلم له بعوض طاب له وما لا عوض له تصدق به.
قال: "وإذا عقدت المزارعة فامتنع صاحب البذر من العمل لم يجبر عليه" لأنه لا يمكنه المضي في العقد إلا بضرر يلزمه. فصار كما إذا استأجر أجيرا ليهدم داره "وإن امتنع الذي ليس من قبله البذر أجبره الحاكم على العمل" لأنه لا يلحقه بالوفاء بالعقد ضرر والعقد لازم بمنزلة الإجارة، إلا إذا كان عذر يفسخ به الإجارة فيفسخ به المزارعة.
قال: "ولو امتنع رب الأرض والبذر من قبله وقد كرب المزارع الأرض فلا شيء له في عمل الكراب " قيل هذا في الحكم، فأما فيما بينه وبين الله تعالى يلزمه استرضاء العامل لأنه غره في ذلك.
قال: "وإذا مات أحد المتعاقدين بطلت المزارعة" اعتبارا بالإجارة، وقد مر الوجه في الإجارات، فلو كان دفعها في ثلاث سنين فلما نبت الزرع في السنة الأولى ولم يستحصد الزرع حتى مات رب الأرض ترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد الزرع ويقسم على الشرط، وتنتقض المزارعة فيما بقي من السنتين لأن في إبقاء العقد في السنة الأولى مراعاة للحقين، بخلاف السنة الثانية والثالثة لأنه ليس فيه ضرر بالعامل فيحافظ فيهما على القياس "ولو مات رب الأرض قبل الزراعة بعد ما كرب الأرض وحفر الأنهار انتقضت المزارعة" لأنه ليس فيه إبطال مال على المزارع "ولا شيء للعامل بمقابلة ما عمل" لما نبينه إن شاء الله تعالى. "وإذا فسخت المزارعة بدين فادح لحق صاحب الأرض فاحتاج إلى بيعها جاز" كما في الإجارة "وليس للعامل أن يطالبه بما كرب الأرض وحفر الأنهار بشيء" لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد وهو إنما قوم بالخارج فإذا انعدم الخارج لم يجب شيء "ولو نبت الزرع ولم يستحصد لم تبع الأرض في الدين حتى يستحصد الزرع" لأن في البيع إبطال حق(4/340)
المزارع، والتأخير أهون من الإبطال "ويخرجه القاضي من الحبس إن كان حبسه بالدين" لأنه لما امتنع بيع الأرض لم يكن هو ظالما والحبس جزاء الظلم.
قال: "وإذا انقضت مدة المزارعة والزرع لم يدرك كان على المزارع أجر مثل نصيبه من الأرض إلى أن يستحصد والنفقة على الزرع عليهما على مقدار حقوقهما" معناه حتى يستحصد، لأن في تبقية الزرع بأجر المثل تعديل النظر من الجانبين فيصار إليه، وإنما كان العمل عليهما لأن العقد قد انتهى بانتهاء المدة وهذا عمل في المال المشترك، وهذا بخلاف ما إذا مات رب الأرض والزرع بقل حيث يكون العمل فيه على العامل، لأن هناك أبقينا العقد في مدته والعقد يستدعي العمل على العامل، أما هاهنا العقد قد انتهى فلم يكن هذا إبقاء ذلك العقد فلم يختص العامل بوجوب العمل عليه "فإن أنفق أحدهما بغير إذن صاحبه وأمر القاضي فهو متطوع" لأنه لا ولاية له عليه "ولو أراد رب الأرض أن يأخذ الزرع بقلا لم يكن له ذلك" لأن فيه إضرارا بالمزارع، "ولو أراد المزارع" أن يأخذه بقلا قيل لصاحب الأرض اقلع الزرع فيكون بينكما أو أعطه قيمة نصيبه أو أنفق أنت على الزرع وارجع بما تنفقه في حصته، لأن المزارع لما امتنع من العمل لا يجبر عليه، لأن إبقاء العقد بعد وجود المنهي نظر له وقد ترك النظر لنفسه. ورب الأرض مخير بين هذه الخيارات لأن بكل ذلك يستدفع الضرر "ولو مات المزارع بعد نبات الزرع فقالت ورثته نحن نعمل إلى أن يستحصد الزرع وأبى رب الأرض فلهم ذلك" لأنه لا ضرر على رب الأرض "ولا أجر لهم بما عملوا" لأنا أبقينا العقد نظرا لهم، فإن أرادوا قلع الزرع لم يجبروا على العمل لما بينا، والمالك على الخيارات الثلاث لما بينا.
قال: "وكذلك أجرة الحصاد والرفاع والدياس والتذرية عليهما بالحصص. فإن شرطاه في المزارعة على العامل فسدت" وهذا الحكم ليس بمختص بما ذكر من الصورة وهو انقضاء المدة والزرع لم يدرك بل هو عام في جميع المزارعات. ووجه ذلك أن العقد يتناهى بتناهي الزرع لحصول المقصود فيبقى مال مشترك بينهما ولا عقد فيجب مؤنته عليهما. وإذا شرط في العقد ذلك ولا يقتضيه وفيه منفعة لأحدهما يفسد العقد كشرط الحمل أو الضمن على العامل. وعن أبي يوسف أنه يجوز إذا شرط ذلك على العامل للتعامل اعتبارا بالاستصناع وهو اختيار مشايخ بلخي. قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح في ديارنا.
فالحاصل: أن ما كان من عمل قبل الإدراك كالسقي والحفظ فهو على العامل، وما كان منه بعد الإدراك قبل القسمة فهو عليهما في ظاهر الرواية كالحصاد والدياس(4/341)
وأشباههما على ما بيناه، وما كان بعد القسمة فهو عليهما. والمعاملة على قياس هذا ما كان قبل إدراك الثمر من السقي والتلقيح والحفظ فهو على العامل، وما كان بعد الإدراك كالجداد والحفظ فهو عليهما؛ ولو شرط الجداد على العامل لا يجوز بالاتفاق لأنه لا عرف فيه. وما كان بعد القسمة فهو عليهما لأنه مال مشترك ولا عقد، ولو شرط الحصاد في الزرع على رب الأرض لا يجوز بالإجماع لعدم العرف فيه، ولو أرادا فصل القصيل أو جد التمر بسرا أو التقاط الرطب فذلك عليهما لأنهما أنهيا العقد لما عزما على الفصل والجداد بسرا فصار كما بعد الإدراك، والله أعلم.(4/342)
كتاب المساقاة
يشترط تسمية الجزء مشاعا
...
كتاب المساقاة
"قال أبو حنيفة: المساقاة بجزء من الثمر باطلة، وقالا: جائزة إذا ذكر مدة معلومة وسمى جزءا من الثمر مشاعا" والمساقاة: هي المعاملة والكلام فيها كالكلام في المزارعة. وقال الشافعي رحمه الله: المعاملة جائزة، ولا تجوز المزارعة إلا تبعا للمعاملة لأن الأصل في هذا المضاربة، والمعاملة أشبه بها لأن فيه شركة في الزيادة دون الأصل. وفي المزارعة لو شرطا الشركة في الربح دون البذر بأن شرطا رفعه من رأس الخارج تفسد، فجعلنا المعاملة أصلا، وجوزنا المزارعة تبعا لها كالشرب في بيع الأرض والمنقول في وقف العقار، وشرط المدة قياس فيها لأنها إجارة معنى كما في المزارعة. وفي الاستحسان: إذا لم يبين المدة يجوز ويقع على أول ثمر يخرج، لأن الثمر لإدراكها وقت معلوم وقلما يتفاوت ويدخل فيما ما هو المتيقن، وإدراك البذر في أصول الرطبة في هذا بمنزلة إدراك الثمار، لأن له نهاية معلومة فلا يشترط بيان المدة، بخلاف الزرع لأن ابتداءه يختلف كثيرا خريفا وصيفا وربيعا، والانتهاء بناء عليه فتدخله الجهالة، وبخلاف ما إذا دفع إليه غرسا قد علق ولم يبلغ الثمر معاملة حيث لا يجوز إلا ببيان المدة لأنه يتفاوت بقوة الأراضي وضعفها تفاوتا فاحشا، وبخلاف ما إذا دفع نخيلا أو أصول رطبة على أن يقوم عليها أو أطلق في الرطبة تفسد المعاملة، لأنه ليس لذلك نهاية معلومة، لأنها تنمو ما تركت في الأرض فجهلت المدة.
قال: "ويشترط تسمية الجزء مشاعا" لما بينا في المزارعة إذ شرط جزء معين يقطع الشركة.
قال: "فإن سميا في المعاملة وقتا يعلم أنه لا يخرج الثمر فيها فسدت المعاملة" لفوات المقصود وهو الشركة في الخارج.
قال: "ولو سميا مدة قد يبلغ الثمر فيها وقد يتأخر عنها جازت" لأنا لا نتيقن بفوات المقصود.(4/343)
قال: "ثم لو خرج في الوقت المسمى فهو على الشركة" لصحة العقد.
قال: "وإن تأخر فللعامل أجر المثل" لفساد العقد لأنه تبين الخطأ في المدة المسماة فصار كما إذا علم ذلك في الابتداء، بخلاف ما إذا لم يخرج أصلا لأن الذهاب بآفة فلا يتبين فساد المدة فيبقى العقد صحيحا، ولا شيء لكل واحد منهما على صاحبه.
قال: "وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان" وقال الشافعي في الجديد: لا تجوز إلا في الكرم والنخل، لأن جوازها بالأثر وقد خصهما وهو حديث خيبر. ولنا أن الجواز للحاجة وقد عمت، وأثر خيبر لا يخصهما لأن أهلها كانوا يعملون في الأشجار والرطاب أيضا، ولو كان كما زعم فالأصل في النصوص أن تكون معلولة سيما على أصله.
قال: "وليس لصاحب الكرم أن يخرج العامل من غير عذر" لأنه لا ضرر عليه في الوفاء بالعقد.
قال: "وكذا ليس للعامل أن يترك العمل بغير عذر" بخلاف المزارعة بالإضافة إلى صاحب البذر على ما قدمناه.
قال: "فإن دفع نخلا فيه تمر مساقاة والتمر يزيد بالعمل جاز وإن كانت قد انتهت لم يجز" وكذا على هذا إذا دفع الزرع وهو بقل جاز، ولو استحصد وأدرك لم يجز، لأن العامل إنما يستحق بالعمل، ولا أثر للعمل بعد التناهي والإدراك، فلو جوزناه لكان استحقاقا بغير عمل ولم يرد به الشرع، بخلاف ما قبل ذلك لتحقق الحاجة إلى العمل.
قال: "وإذا فسدت المساقاة فللعامل أجر مثله" لأنه في معنى الإجارة الفاسدة، وصار كالمزارعة إذا فسدت.
قال: "وتبطل المساقاة بالموت" لأنها في معنى الإجارة وقد بيناه فيها، فإن مات رب الأرض والخارج بسر فللعامل أن يقوم عليه كما كان يقوم قبل ذلك إلى أن يدرك الثمر، وإن كره ذلك ورثة رب الأرض استحسانا فيبقى العقد دفعا للضرر عنه، ولا ضرر فيه على الآخر.
قال: "ولو التزم العامل الضرر يتخير ورثة الآخر بين أن يقسموا البسر على الشرط وبين أن يعطوه قيمة نصيبه من البسر وبين أن ينفقوا على البسر حتى يبلغ فيرجعوا بذلك في حصة العامل من الثمر" لأنه ليس له إلحاق الضرر بهم، وقد بينا نظيره في المزارعة.(4/344)
قال: "ولو مات العامل فلورثته أن يقوموا عليه وإن كره رب الأرض" لأن فيه النظر من الجانبين.
قال: "فإن أرادوا أن يصرموه بسرا كان صاحب الأرض بين الخيارات الثلاثة" التي بيناها.
قال: "وإن ماتا جميعا فالخيار لورثة العامل" لقيامهم مقامه، وهذا خلافة في حق مالي وهو ترك الثمار على الأشجار إلى وقت الإدراك لا أن يكون وارثه في الخيار قال: "فإن أبى ورثة العامل أن يقوموا عليه كان الخيار في ذلك لورثة رب الأرض" على ما وصفنا.
قال: "وإذا انقضت مدة المعاملة والخارج بسر أخضر فهذا والأول سواء، وللعامل أن يقوم عليها إلى أن يدرك لكن بغير أجر" لأن الشجر لا يجوز استئجاره، بخلاف المزارعة في هذا لأن الأرض يجوز استئجارها، وكذلك العمل كله على العامل هاهنا وفي المزارعة في هذا عليهما، لأنه لما وجب أجر مثل الأرض بعد انتهاء المدة على العامل لا يستحق عليه العمل وهاهنا لا أجر فجاز أن يستحق العمل كما يستحق قبل انتهائها.
قال: "وتفسخ بالأعذار" لما بينا في الإجارات، وقد بينا وجوه العذر فيها. ومن جملتها أن يكون العامل سارقا يخاف عليه سرقة السعف والثمر قبل الإدراك لأنه يلزم صاحب الأرض ضررا لم يلتزمه فتفسخ به. ومنها مرض العامل إذا كان يضعفه عن العمل، لأن في إلزامه استئجار الأجراء زيادة ضرر عليه ولم يلتزمه فيجعل ذلك عذرا، ولو أراد العامل ترك ذلك العمل هل يكون عذرا؟ فيه روايتان. وتأويل إحداهما أن يشترط العمل بيده فيكون عذرا من جهته.
قال: "ومن دفع أرضا بيضاء إلى رجل سنين معلومة يغرس فيها شجرا على أن تكون الأرض والشجر بين رب الأرض والغارس نصفين لم يجز ذلك" لاشتراط الشركة فيما كان حاصلا قبل الشركة لا بعمله.
قال: "وجميع الثمر والغرس لرب الأرض وللغارس قيمة غرسه وأجر مثله فيما عمل" لأنه في معنى قفيز الطحان: إذ هو استئجار ببعض ما يخرج من عمله وهو نصف البستان فيفسد وتعذر رد الغراس لاتصالها بالأرض فيجب قيمتها وأجر مثله لأنه لا يدخل في قيمة الغراس لتقومها بنفسها وفي تخريجها طريق آخر بيناه في كفاية المنتهى، وهذا أصحهما، والله أعلم.(4/345)
كتاب الذبائح
من تحل ذبيحته ومن لا تحل
مدخل
...
كتاب الذبائح
قال: "الذكاة شرط حل الذبيحة" لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر. وكما يثبت به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره، فإنها تنبئ عنها. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الأرض يبسها" وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين، واضطرارية وهي الجرح في أي موضع كان من البدن. والثاني كالبدل عن الأول لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن الأول. وهذا آية البدلية، وهذا لأن الأول أعمل في إخراج الدم والثاني أقصر فيه، فاكتفى به عند العجز عن الأول، إذ التكليف بحسب الوسع. ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد إما اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي، وأن يكون حلالا خارج الحرم على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
قال: "وذبيحة المسلم والكتابي حلال" لما تلونا. ولقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد. وصحة القصد بما ذكرنا. والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا، وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي، لأن الشرط قيام الملة على ما مر.
قال: "ولا تؤكل ذبيحة المجوسي" لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولأنه لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى.
قال: "والمرتد" لأنه لا ملة له. فإنه لا يقر على ما انتقل إليه، بخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله.
قال: "والوثني" لأنه لا يعتقد الملة.
قال: "والمحرم" يعني من الصيد "وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد"(4/346)
والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم، والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم فلم تكن ذكاة، بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع، إذ الحرم لا يؤمن الشاة، وكذا لا يحرم ذبحه على المحرم.
قال: "وإن ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل وإن تركها ناسيا أكل" وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء، وعلى هذا الخلاف إذا ترك التسمية عند إرسال البازي والكلب، وعند الرمي، وهذا القول من الشافعي مخالف للإجماع فإنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا. فمن مذهب ابن عمر رضي الله عنهما أنه يحرم، ومن مذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم أنه يحل، بخلاف متروك التسمية عامدا، ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد، ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للإجماع، له قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم" ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطاهرة في باب الصلاة، ولو كانت شرطا فالملة أقيمت مقامها كما في الناسي، ولنا الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] الآية، نهي وهو للتحريم. والإجماع وهو ما بينا. والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام قال في آخره "فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" علل الحرمة بترك التسمية. ومالك يحتج بظاهر ما ذكرنا، إذ لا فصل فيه ولكنا نقول: في اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى، لأن الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة وظهر الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول. والإقامة في حق الناسي وهو معذور لا يدل عليها في حق العامد ولا عذر، وما رواه محمول على حالة النسيان ثم التسمية في ذكاة الاختيار تشترط عند الذبح وهي على المذبوح. وفي الصيد تشترط عند الإرسال والرمي وهي على الآلة، لأن المقدور له في الأول الذبح وفي الثاني الرمي والإرسال دون الإصابة فتشترط عند فعل يقدر عليه، حتى إذا أضجع شاة وسمى فذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز. ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب غيره حل، وكذا في الإرسال، ولو أضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بالأخرى أكل، ولو سمى على سهم ثم رمى بغيره صيدا لا يؤكل.(4/347)
قال: "ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره. وأن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان" وهذه ثلاث مسائل:
إحداها: أن يذكر موصولا لا معطوفا فيكره ولا تحرم الذبيحة. وهو المراد بما قال. ونظيره أن يقول: باسم الله محمد رسول الله. لأن الشركة لم توجد فلم يكن الذبح واقعا له. إلا أنه يكره لوجود القرآن صورة فيتصور بصورة المحرم.
والثانية: أن يذكر موصولا على وجه العطف والشركة بأن يقول: باسم الله واسم فلان، أو يقول: باسم الله وفلان. أو باسم الله ومحمد رسول الله بكسر الدال فتحرم الذبيحة لأنه أهل به لغير الله.
والثالثة: أن يقول مفصولا عنه صورة ومعنى بأن يقول قبل التسمية وقبل أن يضجع الذبيحة أو بعده، وهذا لا بأس به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد الذبح: "اللهم تقبل هذه عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ" والشرط هو الذكر الخالص المجرد على ما قال ابن مسعود رضي الله عنه جردوا التسمية حتى لو قال عند الذبح اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء وسؤال، ولو قال الحمد لله أو سبحان الله يريد التسمية حل، ولو عطس عند الذبح فقال الحمد لله لا يحل في أصح الروايتين. لأنه يريد به الحمد على نعمه دون التسمية. وما تداولته الألسن عند الذبح وهو قوله باسم الله والله أكبر منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] .
قال: "والذبح بين الحلق واللبة" وفي الجامع الصغير: لا بأس بالذبح في الحلق كله وسطه وأعلاه وأسفله، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين"، ولأنه مجمع المجرى والعروق فيحصل بالفعل فيه إنهار الدم على أبلغ الوجوه فكان حكم الكل سواء.
قال: "والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجان" لقوله عليه الصلاة والسلام: "أفر الأوداج بما شئت". وهي اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء والودجين، وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء بالحلقوم والمريء، إلا أنه لا يمكن قطع هذه الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم باقتضائه، وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك ولا يجوز الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها "وعندنا إن قطعها حل الأكل، وإن قطع أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله" وقالا: لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. قال(4/348)
رضي الله عنه: هكذا ذكر القدوري الاختلاف في مختصره. والمشهور في كتب مشايخنا رحمهم الله أن هذا قول أبي يوسف وحده.
وقال في الجامع الصغير: إن قطع نصف الحلقوم ونصف الأوداج لم يؤكل. وإن قطع أكثر الأوداج والحلقوم قبل أن يموت أكل. ولم يحك خلافا فاختلفت الرواية فيه.
والحاصل: أن عند أبي حنيفة إذا قطع الثلاث: أي ثلاث كان يحل، وبه كان يقول أبو يوسف أولا ثم رجع إلى ما ذكرنا. وعن محمد أنه يعتبر أكثر كل فرد وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، لأن كل فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره ولورود الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل فرد منها. ولأبي يوسف أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم فينوب أحدهما عن الآخر، إذ كل واحد منهما مجرى الدم.
أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه مجرى العلف والماء، والمريء مجرى النفس فلا بد من قطعهما. ولأبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام، وأي ثلاث قطعها فقد قطع الأكثر منها وما هو المقصود يحصل بها هو إنهار الدم المسفوح والتوحية في إخراج الروح، لأنه لا يحيا بعد قطع مجرى النفس أو الطعام، ويخرج الدم بقطع أحد الودجين فيكتفى به تحرزا عن زيادة التعذيب، بخلاف ما إذا قطع النصف لأن الأكثر باق فكأنه لم يقطع شيئا احتياطا لجانب الحرمة.
قال: "ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعا حتى لا يكون بأكله بأس، إلا أنه يكره هذا الذبح" وقال الشافعي: المذبوح ميتة لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا الظفر والسن فإنهما مدى الحبشة" ولأنه فعل غير مشروع فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "أنهر الدم بما شئت" ويروى "أفر الأوداج بما شئت" وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك، ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود وهو إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع لأنه يقتل بالثقل فيكون في معنى المنخنقة، وإنما يكره لأن فيه استعمال جزء الآدمي ولأن فيه إعسارا على الحيوان وقد أمرنا فيه بالإحسان.
قال: "ويجوز الذبح بالليطة والمروة وكل شيء أنهر الدم إلا السن القائم والظفر القائم" فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا، ونص محمد رحمه الله في الجامع الصغير على أنها ميتة(4/349)
لأنه وجد فيه نصا. وما لم يجد فيه نصا يحتاط في ذلك، فيقول في الحل لا بأس به وفي الحرمة يقول يكره أو لم يؤكل.
قال: "ويستحب أن يحد الذابح شفرته" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه رأى رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: لقد أردت أن تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها"
قال: "ومن بلغ بالسكين النخاع أو قطع الرأس كره له ذلك وتؤكل ذبيحته" وفي بعض النسخ: قطع مكان بلغ. والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة، أما الكراهة فلما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت" وتفسيره ما ذكرناه، وقيل معناه: أن يمد رأسه حتى يظهر مذبحه، وقيل أن يكسر عنقه قبل أن يسكن من الاضطراب، وكل ذلك مكروه، وهذا لأن في جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان بلا فائدة وهو منهي عنه.
والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه في الذكاة مكروه. ويكره أن يجر ما يريد ذبحه برجله إلى المذبح، وأن تنخع الشاة قبل أن تبرد: يعني تسكن من الاضطراب، وبعده لا ألم فلا يكره النخع والسلخ، إلا أن الكراهة لمعنى زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا يوجب التحريم فلهذا قال: تؤكل ذبيحته.
قال: "فإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع العروق حل" لتحقق الموت بما هو ذكاة، ويكره لأن فيه زيادة الألم من غير حاجة فصار كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج "وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل" لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها.
قال: "وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش من النعم فذكاته العقر والجرح" لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليه عند العجز عن ذكاة الاختيار على ما مر، والعجز متحقق في الوجه الثاني دون الأول "وكذا ما تردى من النعم في بئر ووقع العجز عن ذكاة الاختيار" لما بينا. وقال مالك: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين لأن ذلك نادر. ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وإنا لا نسلم الندرة بل هو غالب. وفي الكتاب أطلق فيما توحش من النعم. وعن محمد أن الشاة إذا ندت في الصحراء فذكاتها العقر، وإن ندت في المصر لا تحل بالعقر لأنها لا تدفع عن(4/350)
نفسها فيمكن أخذها في المصر فلا عجز، والمصر وغيره سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن أنفسهما فلا يقدر على أخذهما، وإن ندا في المصر فيتحقق العجز، والصيال كالند إذا كان لا يقدر على أخذه، حتى لو قتله المصول عليه وهو يريد الذكاة حل أكله.
قال: "والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز ويكره. والمستحب في البقر والغنم الذبح فإن نحرهما جاز ويكره" أما الاستحباب فلموافقة السنة المتوارثة ولاجتماع العروق فيها في المنحر وفيهما في المذبح، والكراهة لمخالفة السنة وهي لمعنى في غيره فلا تمنع الجواز والحل خلافا لما يقوله مالك إنه لا يحل.
قال: "ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر" وهذا عند أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا تم خلقه أكل وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولأنه جزء من الأم حقيقة لأنه متصل بها حتى يفصل بالمقراض ويتغذى بغذائها ويتنفس بتنفسها، وكذا حكما حتى يدخل في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها. وإذا كان جزءا منها فالجرح في الأم ذكاة له عند العجز عن ذكاته كما في الصيد. وله أنه أصل في الحياة حتى تتصور حياته بعد موتها وعند ذلك يفرد بالذكاة، ولهذا يفرد بإيجاب الغرة ويعتق بإعتاق مضاف إليه، وتصح الوصية له وبه، وهو حيوان دموي، وما هو المقصود من الذكاة وهو الميز بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم، إذ هو ليس بسبب لخروج الدم عنه فلا يجعل تبعا في حقه، بخلاف الجرح في الصيد لأنه سبب لخروجه ناقصا فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر. وإنما يدخل في البيع تحريا لجوازه كي لا يفسد باستثنائه، ويعتق بإعتاقها كي لا ينفصل من الحرة ولد رقيق.(4/351)
فصل: فيما يحل أكله وما لا يحل
قال: "ولا يجوز أكل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب من الطيور" لأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع". وقوله من السباع ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما فيتناول سباع الطيور والبهائم لأكل ما له مخلب أو ناب. والسبع كل مختطف منتهب جارح قاتل عاد عادة. ومعنى التحريم والله أعلم كرامة بني آدم كي لا يعدو شيء من هذه الأوصاف الذميمة إليهم بالأكل، ويدخل فيه الضبع والثعلب، فيكون الحديث حجة على الشافعي رحمه الله في إباحتهما، والفيل ذو ناب فيكره، واليربوع وابن عرس من السباع الهوام وكرهوا أكل الرخم والبغاث لأنهما يأكلان الجيف.(4/351)
قال: "ولا بأس بغراب الزرع" لأنه يأكل الحب ولا يأكل الجيف وليس من سباع الطير.
قال: "ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف، وكذا الغداف" "وقال أبو حنيفة: لا بأس بأكل العقعق" لأنه يخلط فأشبه الدجاجة. وعن أبي يوسف أنه يكره لأن غالب أكله الجيف.
قال: "ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور والحشرات كلها" أما الضبع فلما ذكرنا، وأما الضب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام "نهى عائشة رضي الله عنها حين سألته عن أكله". وهي حجة على الشافعي في إباحته، والزنبور من المؤذيات. والسلحفاة من خبائث الحشرات ولهذا لا يجب على المحرم بقتله شيء، وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا بالضب لأنه منها.
قال: "ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال " لما روى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير" وعن علي رضي الله عنه: "أن النبي عليه الصلاة والسلام أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"
قال: "ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة" وهو قول مالك. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: لا بأس بأكله لحديث جابر رضي الله عنه أنه قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر" ولأبي حنيفة قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها، والحكم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها، ولأنه آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له ولهذا يضرب له بسهم في الغنيمة، ولأن في إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث. جابر معارض بحديث خالد رضي الله عنه، والترجيح للمحرم. ثم قيل: الكراهة عنده كراهة تحريم. وقيل كراهة تنزيه. والأول أصح. وأما لبنه فقد قيل: لا بأس به لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد
قال: "ولا بأس بأكل الأرنب" لأن النبي عليه الصلاة والسلام أكل منه حين أهدي إليه مشويا وأمر أصحابه رضي الله عنهم بالأكل منه، ولأنه ليس من السباع ولا من أكلة الجيف فأشبه الظبي.
قال: "وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده ولحمه إلا الآدمي والخنزير" فإن الذكاة لا تعمل فيهما، أما الآدمي فلحرمته وكرامته والخنزير لنجاسته كما في الدباغ. وقال(4/352)
الشافعي: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك لأنه لا يؤثر في إباحة اللحم أصلا. وفي طهارته وطهارة الجلد تبعا ولا تبع بدون الأصل وصار كذبح المجوسي. ولنا أن الذكاة مؤثرة في إزالة الرطوبات والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات الجلد واللحم، فإذا زالت طهر كما في الدباغ. وهذا الحكم مقصود في الجلد كالتناول في اللحم وفعل المجوسي إماتة في الشرع فلا بد من الدباغ، وكما يطهر لحمه يطهر شحمه، حتى لو وقع في الماء القليل لا يفسده خلافا له. وهل يجوز الانتفاع به في غير الأكل؟ قيل: لا يجوز اعتبارا بالأكل. وقيل يجوز كالزيت إذا خالطه ودك الميتة. والزيت غالب لا يؤكل وينتفع به في غير الأكل.
قال: "ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك" وقال مالك وجماعة من أهل العلم بإطلاق جميع ما في البحر. واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان. وعن الشافعي أنه أطلق ذاك كله، والخلاف في الأكل والبيع واحد لهم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" ولأنه لا دم في هذه الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء والمحرم هو الدم فأشبه السمك. قلنا: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وما سوى السمك خبيث. "ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن دواء يتخذ فيه الضفدع"، ونهى عن بيع السرطان والصيد المذكور فيما تلا محمول على الاصطياد وهو مباح فيما لا يحل، والميتة المذكورة فيما روى محمولة على السمك وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال".
قال: "ويكره أكل الطافي منه" وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا بأس به لإطلاق ما روينا، ولأن ميتة البحر موصوفة بالحل بالحديث. ولنا ما روى جابر رضي الله عنه عن. النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا" وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا، وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة.
قال: "ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك والجراد بلا ذكاة" وقال مالك: لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه أو يشويه لأنه صيد البر، ولهذا يجب على المحرم بقتله جزاء يليق به فلا يحل إلا بالقتل كما في سائره. والحجة عليه ما روينا. وسئل علي رضي الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيها الميت وغيره، فقال:(4/353)
كله كله. وهذا عد من فصاحته، ودل على إباحته وإن مات حتف أنفه، بخلاف السمك إذا مات من غير آفة لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي، ثم الأصل في السمك عندنا أنه إذا مات بآفة يحل كالمأخوذ، وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا يحل كالطافي، وتنسحب عليه فروع كثيرة بيناها في كفاية المنتهى. وعند التأمل يقف المبرز عليها: منها إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما أبين وما بقي. لأن موته بآفة وما أبين من الحي وإن كان ميتا فميتته حلال. وفي الموت بالحر والبرد روايتان. والله أعلم بالصواب.(4/354)
كتاب الأضحية
على من تجب الأضحية
...
كتاب الأضحية
قال: "الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه وعن ولده الصغار" أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله. وعنه أنها سنة، ذكره في الجوامع وهو قول الشافعي. وذكر الطحاوي أن على قول أبي حنيفة واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد سنة مؤكدة، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف. وجه السنة قوله عليه الصلاة والسلام: "من أراد أن يضحي منكم فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئا" والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب، ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة وصار كالعتيرة. ووجه الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، ولأنها قربة يضاف إليها وقتها. يقال يوم الأضحى، وذلك يؤذن بالوجوب لأن الإضافة للاختصاص وهو بالوجود، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس، غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها ويفوت بمضي الوقت فلا تجب عليه بمنزلة الجمعة، والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم ما هو ضد السهو لا التخيير. والعتيرة منسوخة، وهي شاة تقام في رجب على ما قيل، وإنما اختص الوجوب بالحرية لأنها وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك، والمالك هو الحر؛ وبالإسلام لكونها قربة، وبالإقامة لما بينا، واليسار لما روينا من اشتراط السعة؛ ومقداره ما يجب به صدقة الفطر وقد مر في الصوم، وبالوقت وهو يوم الأضحى لأنها مختصة به، وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى. وتجب عن نفسه لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه، وعن ولده الصغير لأنه في معنى نفسه فيلحق به كما في صدقة الفطر. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله. وروي عنه أنه لا تجب عن ولده وهو ظاهر الرواية، بخلاف صدقة الفطر لأن السبب هناك رأس يمونه ويلي عليه وهما موجودان في الصغير وهذه قربة محضة. والأصل في القرب أن لا تجب على الغير بسبب الغير ولهذا لا تجب عن عبده وإن كان(4/355)
يجب عنه صدقة فطره، وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله: يضحي من مال نفسه لا من مال الصغير، فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر. وقيل لا تجوز التضحية من مال الصغير، في قولهم جميعا، لأن هذه القربة تتأدى بالإراقة والصدقة بعدها تطوع، ولا يجوز ذلك من مال الصغير، ولا يمكنه أن يأكل كله. والأصح أن يضحي من ماله ويأكل منه ما أمكنه ويبتاع بما بقي ما ينتفع بعينه.
قال: "ويذبح عن كل واحد منهم شاة أو يذبح بقرة أو بدنة عن سبعة" والقياس أن لا تجوز إلا عن واحد، لأن الإراقة واحدة وهي القربة، إلا أنا تركناه بالأثر وهو ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة". ولا نص في الشاة، فبقي على أصل القياس. وتجوز عن ستة أو خمسة أو ثلاثة، ذكره محمد رحمه الله في الأصل، لأنه لما جاز عن السبعة فعمن دونهم أولى، ولا تجوز عن ثمانية أخذا بالقياس فيما لا نص فيه وكذا إذا كان نصيب أحدهم أقل من السبع، ولا تجوز عن الكل لانعدام وصف القربة في البعض، وسنبينه إن شاء الله تعالى. وقال مالك: تجوز عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة، ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة" قلنا: المراد منه والله أعلم قيم أهل البيت لأن اليسار له يؤيده ما يروى "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة" ولو كانت البدنة بين اثنين نصفين تجوز في الأصح، لأنه لما جاز ثلاثة الأسباع جاز نصف السبع تبعا، وإذا جاز على الشركة فقسمة اللحم بالوزن لأنه موزون، ولو اقتسموا جزافا لا يجوز إلا إذا كان معه شيء من الأكارع والجلد اعتبارا بالبيع.
قال: "ولو اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه ثم اشترك فيها ستة معه جاز استحسانا" وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر لأنه أعدها للقربة فيمنع عن بيعها تمولا والاشتراك هذه صفته. وجه الاستحسان أنه قد يجد بقرة سمينة يشتريها ولا يظفر بالشركاء وقت البيع، وإنما يطلبهم بعده فكانت الحاجة إليه ماسة فجوزناه دفعا للحرج، وقد أمكن لأن بالشراء للتضحية لا يمتنع البيع، والأحسن أن يفعل ذلك قبل الشراء ليكون أبعد عن(4/356)
الخلاف، وعن صورة الرجوع في القربة. وعن أبي حنيفة أنه يكره الاشتراك بعد الشراء لما بينا.
قال: "وليس على الفقير والمسافر أضحية" لما بينا. وأبو بكر وعمر كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين، وعن علي: وليس على المسافر جمعة ولا أضحية.
قال: "ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر". والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "من ذبح شاة قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة ثم الأضحية" غير أن هذا الشرط في حق من عليه الصلاة وهو المصري دون أهل السواد، لأن التأخير لاحتمال التشاغل به عن الصلاة، ولا معنى للتأخير في حق القروي ولا صلاة عليه، وما رويناه حجة على مالك والشافعي رحمهما الله في نفيهما الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام، ثم المعتبر في ذلك مكان الأضحية، حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر يجوز كما انشق الفجر، ولو كان على العكس لا يجوز إلا بعد الصلاة. وحيلة المصري إذا أراد التعجيل أن يبعث بها إلى خارج المصر فيضحي بها كما طلع الفجر، لأنها تشبه الزكاة من حيث أنها تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة بهلاك النصاب فيعتبر في الصرف مكان المحل لا مكان الفاعل اعتبارا بها، بخلاف صدقة الفطر لأنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر
ولو ضحى بعدما صلى أهل المسجد ولم يصل أهل الجبانة أجزأه استحسانا لأنها صلاة معتبرة، حتى لو اكتفوا بها أجزأتهم وكذا على عكسه. وقيل هو جائز قياسا واستحسانا.
قال: "وهي جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده" وقال الشافعي: ثلاثة أيام بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيام التشريق كلها أيام ذبح" ولنا ما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وأفضلها أولها كما قالوا ولأن فيه مسارعة إلى أداء القربة وهو الأصل إلا لمعارض. ويجوز الذبح في لياليها إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل، وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير وآخرها تشريق لا غير، والمتوسطان نحر وتشريق، والتضحية فيها أفضل من التصدق بثمن الأضحية لأنها تقع واجبة أو سنة(4/357)
والتصدق تطوع محض فتفضل عليه، لأنها تفوت بفوات وقتها، والصدقة يؤتى بها في الأوقات كلها فنزلت منزلة الطواف والصلاة في حق الآفاقي "ولو لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه أو كان فقيرا وقد اشترى الأضحية تصدق بها حية وإن كان غنيا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر" لأنها واجبة على الغني. وتجب على الفقير بالشراء بنية التضحية عندنا، فإذا فات الوقت وجب عليه التصدق إخراجا له عن العهدة، كالجمعة تقضى بعد فواتها ظهرا، والصوم بعد العجز فدية.
قال: "ولا يضحي بالعمياء والعوراء والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك ولا العجفاء" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجزئ في الضحايا أربعة: العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي"
قال: "ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب". أما الأذن فلقوله عليه الصلاة والسلام: "استشرفوا العين والأذن" أي اطلبوا سلامتهما. وأما الذنب فلأنه عضو كامل مقصود فصار كالأذن.
قال: "ولا التي ذهب أكثر أذنها وذنبها، وإن بقي أكثر الأذن والذنب جاز" لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا.
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في مقدار الأكثر. ففي الجامع الصغير عنه: وإن قطع من الذنب أو الأذن أو العين أو الألية الثلث أو أقل أجزأه، وإن كان أكثر لم يجزه لأن الثلث تنفذ فيه الوصية من غير رضا الورثة فاعتبر قليلا، وفيما زاد لا تنفذ إلا برضاهم فاعتبر كثيرا، ويروى عنه الربع لأنه يحكي حكاية الكمال على ما مر في الصلاة، ويروى الثلث لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الوصية "الثلث والثلث كثير" وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه اعتبارا للحقيقة على ما تقدم في الصلاة وهو اختيار الفقيه أبي الليث. وقال أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة، فقال قولي هو قولك. قيل هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف، وقيل معناه قولي قريب من قولك. وفي كون النصف مانعا روايتان عنهما كما في انكشاف العضو عن أبي يوسف، ثم معرفة المقدار في غير العين متيسر، وفي العين قالوا: تشد العين المعيبة بعد أن لا تعتلف الشاة يوما أو يومين ثم يقرب العلف إليها قليلا قليلا، فإذا رأته من موضع أعلم على ذلك المكان ثم تشد عينها الصحيحة وقرب إليها العلف قليلا قليلا حتى إذا رأته من مكان أعلم عليه. ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما، فإن كان ثلثا فالذاهب الثلث، وإن كان نصفا فالنصف.(4/358)
قال: "ويجوز أن يضحي بالجماء" وهي التي لا قرن لها لأن القرن لا يتعلق به مقصود، وكذا مكسورة القرن لما قلنا "والخصي" لأن لحمها أطيب وقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوءين" "والثولاء" وهي المجنونة، وقيل هذا إذا كانت تعتلف لأنه لا يخل بالمقصود، أما إذا كانت لا تعتلف فلا تجزئه. "والجرباء" إن كانت سمينة جاز لأن الجرب في الجلد ولا نقصان في اللحم، وإن كانت مهزولة لا يجوز لأن الجرب في اللحم فانتقص. وأما الهتماء وهي التي لا أسنان لها؛ فعن أبي يوسف أنه يعتبر في الأسنان الكثرة والقلة، وعنه إن بقي ما يمكنه الاعتلاف به أجزأه لحصول المقصود. "والسكاء" وهي التي لا أذن لها خلقة لا تجوز، لأن مقطوع أكثر الأذن إذا كان لا يجوز فعديم الأذن أولى
"وهذا" الذي ذكرنا "إذا كانت هذه العيوب قائمة وقت الشراء، ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع إن كان غنيا عليه غيرها، وإن فقيرا تجزئه هذه" لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداء لا بالشراء فلم تتعين به، وعلى الفقير بشرائه بنية الأضحية فتعينت، ولا يجب عليه ضمان نقصانه كما في نصاب الزكاة، وعن هذا الأصل قالوا: إذا ماتت المشتراة للتضحية؛ على الموسر مكانها أخرى ولا شيء على الفقير، ولو ضلت أو سرقت فاشترى أخرى ثم ظهرت الأولى في أيام النحر على الموسر ذبح إحداهما وعلى الفقير ذبحهما "ولو أضجعها فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحها أجزأه استحسانا" عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله، لأن حالة الذبح ومقدماته ملحقة بالذبح فكأنه حصل به اعتبارا وحكما "وكذا لو تعيبت في هذه الحالة فانفلتت ثم أخذت من فوره، وكذا بعد فوره عند محمد خلافا لأبي يوسف" لأنه حصل بمقدمات الذبح.
قال: "والأضحية من الإبل والبقر والغنم" لأنها عرفت شرعا ولم تنقل التضحية بغيرها من النبي عليه الصلاة والسلام ولا من الصحابة رضي الله عنهم.
قال: "ويجزئ من ذلك كله الثني فصاعدا. إلا الضأن فإن الجذع منه يجزئ" لقوله عليه الصلاة والسلام: "ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر على أحدكم فليذبح الجذع من الضأن". وقال عليه الصلاة والسلام: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن".
قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة بحيث لو خلطت بالثنيان يشتبه على الناظر من بعيد. والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر في مذهب الفقهاء، وذكر الزعفراني أنه ابن سبعة أشهر. والثني منها ومن المعز سنة، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإبل ابن خمس سنين، ويدخل في البقر الجاموس لأنه من جنسه، والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم(4/359)
لأنها هي الأصل في التبعية، حتى إذا نزا الذئب على الشاة يضحى بالولد.
قال: "وإذا اشترى سبعة بقرة ليضحوا بها فمات أحدهم قبل النحر وقالت الورثة اذبحوها عنه وعنكم أجزأهم، وإن كان شريك الستة نصرانيا أو رجلا يريد اللحم لم يجز عن واحد منهم" ووجهه أن البقرة تجوز عن سبعة، ولكن من شرطه أن يكون قصد الكل القربة وإن اختلفت جهاتها كالأضحية والقران والمتعة عندنا لاتحاد المقصود وهو القربة، وقد وجد هذا الشرط في الوجه الأول لأن الضحية عن الغير عرفت قربة؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته على ما روينا من قبل، ولم يوجد في الوجه الثاني لأن النصراني ليس من أهلها، وكذا قصد اللحم ينافيها. وإذا لم يقع البعض قربة والإراقة لا تتجزأ في حق القربة لم يقع الكل أيضا فامتنع الجواز، وهذا الذي ذكره استحسان. والقياس أن لا يجوز وهو رواية عن أبي يوسف، لأنه تبرع بالإتلاف فلا يجوز عن غيره كالإعتاق عن الميت، لكنا نقول: القربة قد تقع عن الميت كالتصدق، بخلاف الإعتاق لأن فيه إلزام الولاء على الميت "فلو ذبحوها عن صغير في الورثة أو أم ولد جاز" لما بينا أنه قربة "ولو مات واحد منهم فذبحها الباقون بغير إذن الورثة لا تجزيهم" لأنه لم يقع بعضها قربة، وفيما تقدم وجد الإذن من الورثة فكان قربة.
قال: "ويأكل من لحم الأضحية ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر" لقوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا" ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا.
قال: "ويستحب أن لا ينقص الصدقة عن الثلث" لأن الجهات ثلاثة: الأكل والادخار لما روينا، والإطعام لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فانقسم عليهم أثلاثا.
قال: "ويتصدق بجلدها" لأنه جزء منها "أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت" كالنطع والجراب والغربال ونحوها، لأن الانتفاع به غير محرم "ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع بعينه في البيت مع بقائه" استحسانا، وذلك مثل ما ذكرنا لأن للبدل حكم المبدل، "ولا يشتري به ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه كالخل والأبازير" اعتبارا بالبيع بالدراهم. والمعنى فيه أنه تصرف على قصد التمول، واللحم بمنزلة الجلد في الصحيح، فلو باع الجلد أو اللحم بالدراهم أو بما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه تصدق بثمنه، لأن القربة انتقلت إلى بدله، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من باع جلد أضحيته فلا أضحية له" يفيد كراهة البيع.(4/360)
أما البيع جائز لقيام الملك والقدرة على التسليم.
قال: "ولا يعطي أجرة الجزار من الأضحية" لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: "تصدق بجلالها وخطامها ولا تعط أجر الجزار منها شيئا" والنهي عنه نهي عن البيع أيضا لأنه في معنى البيع.
قال: "ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها" لأنه التزم إقامة القربة بجميع أجزائها، بخلاف ما بعد الذبح لأنه أقيمت القربة بها كما في الهدي، ويكره أن يحلب لبنها فينتفع به كما في الصوف.
قال: "والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح" وإن كان لا يحسنه فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة رضي الله عنها: "قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب".
قال: "ويكره أن يذبحها الكتابي" لأنه عمل هو قربة وهو ليس من أهلها، فلو أمره فذبح جاز لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته، بخلاف ما إذا أمر المجوسي لأنه ليس من أهل الذكاة فكان إفسادا.
قال: "وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما ولا ضمان عليهما" وهذا استحسان، وأصل هذا أن من ذبح أضحية غيره بغير إذنه لا يحل له ذلك وهو ضامن لقيمتها، ولا يجزئه عن الأضحية في القياس وهو قول زفر وفي الاستحسان يجوز ولا ضمان على الذابح، وهو قولنا. وجه القياس أنه ذبح شاة غيره بغير أمره فيضمن، كما إذا ذبح شاة اشتراها القصاب. وجه الاستحسان أنها تعينت للذبح لتعينها للأضحية حتى وجب عليه أن يضحي بها بعينها في أيام النحر. ويكره أن يبدل بها غيرها فصار المال مستعينا بكل من يكون أهلا للذبح آذنا له دلالة لأنها تفوت بمضي هذه الأيام، وعساه يعجز عن إقامتها بعوارض فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها.
فإن قيل: يفوته أمر مستحب وهو أن يذبحها بنفسه أو يشهد الذبح فلا يرضى به.
قلنا: يحصل له به مستحبان آخران، صيرورته مضحيا لما عينه، وكونه معجلا به فيرتضيه.
ولعلمائنا رحمهم الله من هذا الجنس مسائل استحسانية، وهي أن من طبخ لحم غيره أو طحن حنطته أو رفع جرته فانكسرت أو حمل على دابته فعطبت كل ذلك بغير أمر المالك(4/361)
يكون ضامنا، ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون والحطب تحته، أو جعل الحنطة في الدورق وربط الدابة عليه، أو رفع الجرة وأمالها إلى نفسه أو حمل على دابته فسقط في الطريق، فأوقد هو النار فيه وطبخه، أو ساق الدابة فطحنها، أو أعانه على رفع الجرة فانكسرت فيما بينهما، أو حمل على دابته ما سقط فعطبت لا يكون ضامنا في هذه الصور كلها استحسانا لوجود الإذن دلالة.
إذا ثبت هذا فنقول في مسألة الكتاب: ذبح كل واحد منهما أضحية غيره بغير إذنه صريحا فهي خلافية زفر بعينها ويتأتى فيها القياس والاستحسان كما ذكرنا، فيأخذ كل واحد منهما مسلوخة من صاحبه، ولا يضمنه لأنه وكيله فيما فعل دلالة، فإذا كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزيهما، لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز، وإن كان غنيا فكذا له أن يحلله في الانتهاء وإن، تشاحا فلكل واحد منهما أن يضمن صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة لأنها بدل عن اللحم فصار كما لو باع أضحيته، وهذا لأن التضحية لما وقعت عن صاحبه كان اللحم له ومن أتلف لحم أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه "ومن غصب شاة فضحى بها ضمن قيمتها وجاز عن أضحيته" لأنه ملكها بسابق الغصب، بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها لأنه يضمنه بالذبح فلم يثبت الملك له إلا بعد الذبح، والله أعلم بالصواب.(4/362)
كتاب الكراهية
فصل: في الأكل والشرب
...
كتاب الكراهية
قال رضي الله عنه: تكلموا في معنى المكروه. والمروي عن محمد نصا أن كل مكروه حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب، وهو يشتمل على فصول منها:
فصل: في الأكل والشرب
"قال أبو حنيفة رحمه الله: يكره لحوم الأتن وألبانها وأبوال الإبل. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بأبوال الإبل" وتأويل قول أبي يوسف أنه لا بأس بها للتداوي، وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة والذبائح فلا نعيدها، واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه.
قال: "ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء" لقوله عليه الصلاة والسلام في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة: "إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وأتي أبو هريرة رضي الله عنه بشراب في إناء فضة فلم يقبله وقال: "نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وإذا ثبت هذا في الشرب فكذا في الادهان ونحوه؛ لأنه في معناه ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بنعم المترفين والمسرفين، وقال في الجامع الصغير: يكره ومراده التحريم ويستوي فيه الرجال والنساء لعموم النهي، وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة والاكتحال بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا.
قال: "ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبلور والعقيق" وقال الشافعي: يكره لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به. قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة.
قال: "ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة والركوب على السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة" ومعناه: يتقي موضع الفم، وقيل هذا وموضع اليد في الأخذ وفي السرير والسرج موضع(4/363)
الجلوس. وقال أبو يوسف: يكره ذلك، وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف، وعلى هذا الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرأة، أو جعل المصحف مذهبا أو مفضضا، وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضا، وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا، وهذا الاختلاف فيما يخلص، فأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع. لهما أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره، كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن ذلك تابع ولا معتبر بالتوابع فلا يكره. كالجبة المكفوفة بالحرير والعلم في الثوب ومسمار الذهب في الفص.
قال: "ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم وسعه أكله"؛ لأن قول الكافر مقبول في المعاملات؛ لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات.
قال: "وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه" معناه: إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة.
قال: " ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي"؛ لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في السوق، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج. وفي الجامع الصغير: إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسه لما قلنا.
قال: "ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل". ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد فيها عدلا كان أو فاسقا كافرا أو مسلما عبدا أو حرا ذكرا أو أنثى دفعا للحرج. أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات فجاز أن يشترط فيها زيادة شرط، فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم، بخلاف المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة. ولا يتهيأ له المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها فكان فيه ضرورة، ولا يقبل فيها قول المستور في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة أنه يقبل قوله فيها(4/364)
جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به، وفي ظاهر الرواية هو والفاسق فيه سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي.
قال: "ويقبل فيها قول العبد والحر والأمة إذا كانوا عدولا"؛ لأن عند العدالة الصدق راجح والقبول لرجحانه. فمن المعاملات ما ذكرناه، ومنها التوكيل. ومن الديانات الإخبار بنجاسة الماء حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم، ولو كان المخبر فاسقا أو مستورا تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط، ومع العدالة يسقط احتمال الكذب فلا معنى للاحتياط بالإراقة، أما التحري فمجرد ظن. ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري، وهذا جواب الحكم. فأما في الاحتياط فيتيمم بعد الوضوء لما قلنا. ومنها الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك، وفيها تفاصيل وتفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى.
قال: "ومن دعي إلى وليمة أو طعام فوجد ثمة لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل" قال أبو حنيفة رحمه الله: ابتليت بهذا مرة فصبرت. وهذا لأن إجابة الدعوة سنة. قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" فلا يتركها لما اقترن بها من البدعة من غيره، كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة، فإن قدر على المنع منعهم، وإن لم يقدر يصبر، وهذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين، والمحكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي أن يقعد، وإن لم يكن مقتدى لقوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] وهذا كله بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة، بخلاف ما إذا هجم عليه؛ لأنه قد لزمه، ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب. وكذا قول أبي حنيفة رحمه الله ابتليت، لأن الابتلاء بالمحرم يكون.(4/365)
فصل: في اللبس
قال: "لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء"؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس الحرير والديباج وقال: "إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة" وإنما حل للنساء بحديث آخر، وهو ما رواه عدة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي رضي الله عنه: "أن(4/365)
النبي صلى الله عليه وسلم خرج وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب وقال: "هذان محرمان على ذكور أمتي حلال لإناثهم" ويروى "حل لإناثهم".
قال: "إلا أن القليل عفو وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة كالأعلام والمكفوف بالحرير" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" أراد الأعلام. وعنه عليه الصلاة والسلام: "أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير".
قال: "ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة، وقالا: يكره" وفي الجامع الصغير ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ، وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب. لهما العمومات، ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام. وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وزي الأعاجم. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام جلس على مرفقة حرير"، وقد كان على بساط عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفقة حرير، ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام فكذا القليل من اللبس والاستعمال، والجامع كونه نموذجا على ما عرف.
قال: "ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما" لما روى الشعبي رحمه الله: "أنه عليه الصلاة والسلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب" ولأن فيه ضرورة فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح وأهيب في عين العدو لبريقه.
قال: "ويكره عند أبي حنيفة رحمه الله" لأنه لا فصل فيما رويناه والضرورة إندفعت بالخلوط وهو الذي لحمته حرير وسداه غير ذلك والمحظور لا بستباح إلا لضرورة، وما رواه محمول على المخلوط.
قال: "ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره" لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يلبسون الخز مسدى بالحرير ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدى؛ وقال: أبو يوسف رحمه الله: أكره ثوب القز يكون بين الفرو والظهارة، ولا أرى بحشو الفز بأسا لأن الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس. قال: "وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير لا بأس به في الحرب" للضرورة.
قال: "ويكره في غيره" لانعدامها والاعتبار للحمة على ما بينا.
قال "ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب" لما روينا.(4/366)
قال: "ولا بالفضة" لأنها في معناه.
قال: "إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة" تحقيقا لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب إذ هما من جنس واحد، كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار. وفي الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة، وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام. ورأى رسول الله عليه الصلاة والسلام على رجل خاتم صفر فقال: "مالي أجد منك رائحة الأصنام". ورأى على آخر خاتم حديد فقال: "مالي أرى عليك حلية أهل النار" ومن الناس من أطلق الحجر الذي يقال له يشب؛ لأنه ليس بحجر، إذ ليس له ثقل الحجر، وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه.
قال: "والتختم بالذهب على الرجال حرام" لما روينا. وعن علي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن التختم بالذهب" ولأن الأصل فيه التحريم، والإباحة ضرورة الختم أو النموذج، وقد اندفعت بالأدنى وهو الفضة، والحلقة هي المعتبرة؛ لأن قوام الخاتم بها، ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر ويجعل الفص إلى باطن كفه بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن، وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم، وأما غيرهما فالأفضل أن يتركه لعدم الحاجة إليه.
قال: "ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص" أي في ثقبه؛ لأنه تابع كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له.
قال: "ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة" وهذا عند أبي حنيفة. وقال محمد: لا بأس بالذهب أيضا. وعن أبي يوسف مثل قول كل منهما. لهما أن عرفجة بن أسعد الكناني أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن. فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يتخذ أنفا من ذهب ولأبي حنيفة أن الأصل فيه التحريم والإباحة للضرورة، وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى فبقي الذهب على التحريم. والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن.
قال: "ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير"؛ لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها.
قال: "وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق"؛ لأنه نوع تجبر وتكبر
قال: "وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يمتخط بها" وقيل إذا كان عن حاجة لا يكره وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس.(4/367)
قال: "ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة" ويسمى ذلك الرتم والرتيمة. وكان ذلك من عادة العرب. قال قائلهم:
لا ينفعنك اليوم إن همت بهم
...
كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعض أصحابه بذلك، ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح وهو التذكر عند النسيان.(4/368)
فصل: في الوطء والنظر واللمس
قال: "ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا وجهها وكفيها" لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ ما ظهر منها الكحل والخاتم، والمراد موضعهما وهو الوجه والكف، كما أن المراد بالزينة المذكورة موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك، وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها. وعن أبي حنيفة أنه يباح؛ لأن فيه بعض الضرورة. وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة.
قال: "فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة" فإذا خاف الشهوة لم ينظر من غير حاجة تحرزا عن المحرم. وقوله لا يأمن يدل على أنه لا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان أكبر رأيه ذلك "ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة" لقيام المحرم وانعدام الضرورة والبلوى، بخلاف النظر لأن فيه بلوى. والمحرم قوله عليه الصلاة والسلام: "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة" وهذا إذا كانت شابة تشتهى، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة. وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم وكان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزا لتمرضه، وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه، وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها لما قلنا، فإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة. والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة.
"والصغيرة إذا كانت لاتشتهي يباح مسها والنظر إليها" لعدم خوف الفتنة.
قال: "ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها وللشاهد إذا أراد أداء الشهادة عليها(4/368)
النظر إلى وجهها وإن خاف أن يشتهي" للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه وهو قصد القبيح. وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى قيل يباح. والأصح أنه لا يباح؛ لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة، بخلاف حالة الأداء.
"ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه: "أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة. "ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها" للضرورة "وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها" لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل "فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض" ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وصار كنظر الخافضة والختان. "وكذا يجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل" لأنه مداواة ويجوز للمرض وكذا للهزال الفاحش على ما روي عن أبي يوسف؛ لأنه أمارة المرض.
قال: "وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا ما بين سرته إلى ركبته" لقوله عليه الصلاة والسلام: "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" ويروى: "ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه" وبهذا ثبت أن السرة ليست بعورة خلافا لما يقوله أبو عصمة والشافعي، والركبة عورة خلافا لما قاله الشافعي، والفخذ عورة خلافا لأصحاب الظواهر، وما دون السرة إلى منبت الشعر عورة خلافا لما يقوله الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الكماري معتمدا فيه العادة؛ لأنه لا معتبر بها مع النص بخلافه، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الركبة من العورة" وأبدى الحسن بن علي رضي الله عنه سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه وقال لجرهد: "وار فخذك، أما علمت أن الفخذ عورة؟ " ولأن الركبة ملتقى عظم الفخذ والساق فاجتمع المحرم والمبيح وفي مثله يغلب المحرم، وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، وفي الفخذ أخف منه في السوأة، حتى أن كاشف الركبة ينكر عليه برفق وكاشف الفخذ يعنف عليه وكاشف السوءة يؤدب إن لج "وما يباح النظر إليه للرجل من الرجل يباح المس" لأنهما فيما ليس بعورة سواء.
قال: "ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه إذا أمنت الشهوة" لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة كالثياب والدواب. وفي كتاب الخنثى من الأصل: أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه؛ لأن النظر إلى(4/369)
خلاف الجنس أغلظ، فإن كان في قلبها شهوة أو أكبر رأيها أنها تشتهي أو شكت في ذلك يستحب لها أن تغض بصرها، ولو كان الناظر هو الرجل إليها وهو بهذه الصفة لم ينظر، وهذا إشارة إلى التحريم. ووجه الفرق أن الشهوة عليهن غالبة وهو كالمتحقق اعتبارا، فإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين، ولا كذلك إذا اشتهت المرأة؛ لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارا فكانت من جانب واحد، والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق في جانب واحد.
قال: "وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل" لوجود المجانسة، وانعدام الشهوة غالبا كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه، بخلاف نظرها إلى الرجل؛ لأن الرجال يحتاجون إلى زيادة الانكشاف للاشتغال بالأعمال. والأول أصح.
قال: "وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها" وهذا إطلاق في النظر إلى سائر بدنها عن شهوة وغير شهوة. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك" ولأن ما فوق ذلك من المس والغشيان مباح فالنظر أولى، إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير" ولأن ذلك يورث النسيان لورود الأثر. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة.
قال: "وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين. ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها". والأصل فيه قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] الآية، والمراد والله أعلم مواضع الزينة وهي ما ذكر في الكتاب، ويدخل في ذلك الساعد والأذن والعنق والقدم؛ لأن كل ذلك موضع الزينة، بخلاف الظهر والبطن والفخذ؛ لأنها ليست من مواضع الزينة، ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان واحتشام والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج، وكذا الرغبة تقل للحرمة المؤبدة فقلما تشتهى، بخلاف ما وراءها، لأنها لا تنكشف عادة. والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه، وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح في الأصح لما بينا.(4/370)
قال: "ولا بأس بأن يمس ما جاز أن ينظر إليه منها" لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة وقلة الشهوة للمحرمية، بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس وإن أبيح النظر؛ لأن الشهوة متكاملة "إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة" فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله عليه الصلاة والسلام: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش"، وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب. "ولا بأس بالخلوة والمسافرة بهن" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" والمراد إذا لم يكن محرما، فإن احتاج إلى الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها من وراء ثيابها ويأخذ ظهرها وبطنها دون ما تحتهما إذا أمنا الشهوة، فإن خافها على نفسه أو عليها تيقنا أو ظنا أو شكا فليجتنب ذلك بجهده، ثم إن أمكنها الركوب بنفسها يمتنع عن ذلك أصلا، وإن لم يمكنها يتكلف بالثياب كي لا تصيبه حرارة عضوها، وإن لم يجد الثياب يدفع الشهوة عن قلبه بقدر الإمكان.
قال: "وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز أن ينظر إليه من ذوات محارمه" لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه وهي في ثياب مهنتها، فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخله في حق محارمه الأقارب. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها خلافا لما يقوله محمد بن مقاتل أنه يباح إلا إلى ما دون السرة إلى الركبة؛ لأنه لا ضرورة كما في المحارم، بل أولى لقلة الشهوة فيهن وكمالها في الإماء. ولفظة المملوكة تنتظم المدبرة والمكاتبة وأم الولد لتحقق الحاجة، والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة على ما عرف، وأما الخلوة بها والمسافرة معها فقد قيل يباح كما في المحارم، وقد قيل لا يباح لعدم الضرورة فيهن، وفي الإركاب والإنزال اعتبر محمد في الأصل الضرورة فيهن وفي ذوات المحارم مجرد الحاجة.
قال: "ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي" كذا ذكره في المختصر، وأطلق أيضا في الجامع الصغير ولم يفصل. قال مشايخنا رحمهم الله: يباح النظر في هذه الحالة وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنه نوع استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة.
قال: "وإذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد" ومعناه بلغت، وهذا موافق لما بينا(4/371)
أن الظهر والبطن منها عورة. وعن محمد أنها إذا كانت تشتهى ويجامع مثلها فهي كالبالغة لا تعرض في إزار واحد لوجود الاشتهاء.
قال: "والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل" لقول عائشة رضي الله عنها: الخصاء مثله فلا يبيح ما كان حراما قبله ولأنه فحل يجامع. وكذا المجبوب؛ لأنه يسحق وينزل، وكذا المخنث في الرديء من الأفعال؛ لأنه فحل فاسق.
والحاصل: أنه يؤخذ فيه بمحكم كتاب الله المنزل فيه، والطفل الصغير مستثنى بالنص.
قال: "ولا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها". وقال مالك: هو كالمحرم، وهو أحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] ولأن الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استئذان. ولنا أنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت. والمراد بالنص الإماء، قال سعيد والحسن وغيرهما: لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور.
قال: "ويعزل عن أمته بغير إذنها ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها" لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وقال لمولى أمة: "اعزل عنها إن شئت"، ولأن الوطء حق الحرة قضاء للشهوة وتحصيلا للولد ولهذا تخير في الجب والعنة، ولا حق للأمة في الوطء فلهذا لا ينقص حق الحرة بغير إذنها ويستبد به المولى ولو كان تحته أمة غيره فقد ذكرناه في النكاح.(4/372)
فصل: في الاستبراء وغيره
قال: "ومن اشترى جارية فإنه لا يقربها ولا يلمسها ولا يقبلها ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يستبرئها" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" أفاد وجوب الاستبراء على المولى، ودل على السبب في المسبية وهو استحداث الملك واليد؛ لأنه هو الموجود في مورد النص، وهذا لأن الحكمة فيه التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط والأنساب عن الاشتباه، وذلك عند حقيقة الشغل أو توهم الشغل بماء محترم، وهو أن يكون الولد ثابت النسب، ويجب على المشتري لا على البائع؛ لأن العلة الحقيقية إرادة الوطء، والمشتري هو الذي يريده دون البائع فيجب عليه، غير أن الإرادة أمر مبطن(4/372)
فيدار الحكم على دليلها، وهو التمكن من الوطء والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا وأدير الحكم عليه تيسيرا، فكان السبب استحداث ملك الرقبة المؤكد باليد وتعدي الحكم إلى سائر أسباب الملك كالشراء والهبة والوصية والميراث والخلع والكتابة وغير ذلك وكذا يجب على المشتري من مال الصبي ومن المرأة والمملوك وممن لا يحل له وطؤها، وكذا إذا كانت المشتراة بكرا لم توطأ لتحقق السبب وإدارة الأحكام على الأسباب دون الحكم لبطونها فيعتبر تحقق السبب عند توهم الشغل. وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي اشتراها في أثنائها ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء أو غيره من أسباب الملك قبل القبض، ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض خلافا لأبي يوسف رحمه الله؛ لأن السبب استحداث الملك واليد، والحكم لا يسبق السبب، وكذا لا يجتزأ بالحاصل قبل الإجازة في بيع الفضولي وإن كانت في يد المشتري، ولا بالحاصل بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراء صحيحا لما قلنا.
"ويجب في جارية للمشتري فيها شقص فاشترى الباقي"؛ لأن السبب قد تم الآن، والحكم يضاف إلى تمام العلة، ويجتزأ بالحيضة التي حاضتها بعد القبض وهي مجوسية أو مكاتبة بأن كاتبها بعد الشراء ثم أسلمت المجوسية أو عجزت المكاتبة لوجودها بعد السبب وهو استحداث الملك واليد إذ هو مقتض للحل والحرمة لمانع كما في حالة الحيض "ولا يجب الاستبراء إذا رجعت الآبقة أو ردت المغصوبة أو المؤاجرة" أو فكت المرهونة لانعدام السبب وهو استحداث الملك واليد وهو سبب متعين فأدير الحكم عليه وجودا وعدما، ولها نظائر كثيرة كتبناها في كفاية المنتهى. وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرمة الوطء حرم الدواعي لإفضائها إليه. أو لاحتمال وقوعها في غير الملك على اعتبار ظهور الحبل ودعوة البائع. بخلاف الحائض حيث لا تحرم الدواعي فيها لأنه لا يحتمل الوقوع في غير الملك، ولأنه زمان نفرة فالإطلاق في الدواعي لا يفضي إلى الوطء والرغبة في المشتراة قبل الدخول أصدق الرغبات فتفضي إليه، ولم يذكر الدواعي في المسبية. وعن محمد أنها لا تحرم؛ لأنها لا يحتمل وقوعها في غير الملك لأنه لو ظهر بها حبل لا تصح دعوة الحربي، بخلاف المشتراة على ما بينا.
"والاستبراء في الحامل بوضع الحمل" لما روينا "وفي ذوات الأشهر بالشهر"؛ لأنه أقيم في حقهن مقام الحيض كما في المعتدة، " وإذا حاضت في أثنائه بطل الاستبراء بالأيام للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل كما في المعتدة. فإن ارتفع حيضها تركها، حتى إذا تبين أن ليست بحامل وقع عليها وليس فيه تقدير في ظاهر الرواية. وقيل يتبين بشهرين أو(4/373)
ثلاثة. وعن محمد أربعة أشهر وعشرة أيام، وعنه شهران وخمسة أيام اعتبارا بعدة الحرة والأمة في الوفاة. وعن زفر سنتان وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله".
قال: "ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء عند أبي يوسف خلافا لمحمد" وقد ذكرنا الوجهين في الشفعة. والمأخوذ قول أبي يوسف فيما إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها ذلك، وقول محمد فيما إذا قربها. والحيلة إذا لم يكن تحت المشتري حرة أن يتزوجها قبل الشراء ثم يشتريها. ولو كانت فالحيلة أن يزوجها البائع قبل الشراء أو المشتري قبل القبض ممن يوثق به ثم يشتريها ويقبضها ثم يطلق الزوج؛ لأن عند وجود السبب وهو استحداث الملك المؤكد بالقبض إذا لم يكن فرجها حلالا له لا يجب الاستبراء. وإن حل بعد ذلك؛ لأن المعتبر أوان وجود السبب كما إذا كانت معتدة الغير.
قال: "ولا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يكفر"؛ لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفر حرم الدواعي للإفضاء إليه. لأن الأصل أن سبب الحرام حرام كما في الاعتكاف والإحرام وفي المنكوحة إذا وطئت بشبهة، بخلاف حالة الحيض والصوم؛ لأن الحيض يمتد شطر عمرها والصوم يمتد شهرا فرضا وأكثر العمر نفلا، ففي المنع عنها بعض الحرج، ولا كذلك ما عددناها لقصور مددها. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم ويضاجع نساءه وهن حيض".
قال: "ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها"، وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ولا يعارض بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ؛ لأن الترجيح للمحرم، وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص، ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل، فإذا قبلهما فكأنه وطئهما، ولو وطئهما فليس له أن يجامع إحداهما ولا أن يأتي بالدواعي فيهما، فكذا إذا قبلهما وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما بشهوة لما بينا إلا أن يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها؛ لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا. وقوله بملك أراد به ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره، وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل؛ لأن الوطء يحرم به، وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها، وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله، وبرهن إحداهما وإجارتها(4/374)
وتدبيرها لا تحل الأخرى؛ ألا يرى أنها لا تخرج بها عن ملكه، وقوله أو نكاح أراد به النكاح الصحيح. أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه؛ لأنه يجب العدة عليها، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم. ولو وطئ إحداهما حل له وطء الموطوءة دون الأخرى؛ لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة. وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فيما ذكرناه بمنزلة الأختين.
قال: "ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه أو يعانقه" وذكر الطحاوي أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام عانق جعفرا رضي الله عنه حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه" ولهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المكاعمة وهي التقبيل". وما رواه محمول على ما قبل التحريم. قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد، أما إذا كان عليه قميص أو جبة فلا بأس بها بالإجماع وهو الصحيح.
قال: "ولا بأس بالمصافحة"؛ لأنه هو المتوارث. وقال عليه الصلاة والسلام: "من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه".(4/375)
فصل: في البيع
قال: "ولا بأس ببيع السرقين، ويكره بيع العذرة" وقال الشافعي: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ. ولنا أنه منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع. بخلاف العذرة؛ لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطا. ويجوز بيع المخلوط هو المروي عن محمد وهو الصحيح. وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح، والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة.
قال: "ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها وقال وكلني صاحبها ببيعها فإنه يسعه أنه يبتاعها ويطؤها"؛ لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له، وقول الواحد في المعاملات مقبول على أي وصف كان لما مر من قبل. وكذا إذا قال اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا. وهذا إذا كان ثقة. وكذا إذا كان غير ثقة، وأكبر رأيه أنه صادق؛ لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له(4/375)
أن يتعرض لشيء من ذلك؛ لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين، وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان، ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان، وأنه وكله ببيعها أو اشتراها منه، والمخبر ثقة قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر رأيه؛ لأن إخباره حجة في حقه، وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء. فإن كان عرفها للأول لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني؛ لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك له أن يشتريها وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل ولم يعارضه معارض، ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك، فحينئذ يستحب له أن يتنزه، ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك لاعتماده الدليل الشرعي. وإن كان الذي أتاه بها عبدا أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له فيعلم أن الملك فيها لغيره، فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي، وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل.
قال: "ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق، ولا تدري أنه كتابه أم لا. إلا أن أكبر رأيها أنه حق" يعني بعد التحري "فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج"؛ لأن القاطع طارئ ولا منازع، وكذا لو قالت لرجل طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس أن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر، ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول، وكذا لو قالت جارية كنت أمة فلان فأعتقني؛ لأن القاطع طارئ. ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان. وكذا إذا أخبره مخبر أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ، والإقدام الأول لا يدل على انعدامه فلم يثبت المنازع فافترقا، وعلى هذا الحرف يدور الفرق. ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له فلما كبرت لقيها رجل في بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد بخلاف ما تقدم.
قال: "وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به" والفرق أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر(4/376)
ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع. وفي الوجه الثاني صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي فملكه البائع فيحل الأخذ منه.
قال: "ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله وكذلك التلقي. فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" ولأنه تعلق به حق العامة، وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره، وكذلك التلقي على هذا التفصيل لأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن تلقي الجلب وعن تلقي الركبان". قالوا هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة. فإن لبس فهو مكروه في الوجهين؛ لأنه غادر بهم. وتخصيص الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا احتكار في الثياب؛ فأبو يوسف اعتبر حقيقة الضرر إذ هو المؤثر في الكراهة، وأبو حنيفة اعتبر الضرر المعهود المتعارف. ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر. ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقوله عليه الصلاة والسلام: "من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وقيل بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير آجل، وقد مر في غير موضع، ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العزة وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله، وقيل المدة للمعاقبة في الدنيا إما يأثم وإن قلت المدة. والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة.
قال: "ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر" أما الأول فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة؛ ألا ترى أن له أن لا يزرع فكذلك له أن لا يبيع. وأما الثاني فالمذكور قول أبي حنيفة؛ لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها. وقال أبو يوسف: يكره لإطلاق ما روينا. وقال محمد: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب فهو بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار فيه لتعلق حق العامة به، بخلاف ما إذا كان البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة.
قال: "ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق" ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره(4/377)
فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما نبين. وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة، فإذا فعل ذلك وتعدى رجل عن ذلك وباع بأكثر منه أجازه القاضي، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وكذا عندهما، إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع، هل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه. قيل هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون، وقيل يبيع بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع ضرر عام، وهذا كذلك.
قال: "ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة" معناه ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبيب إلى المعصية وقد بيناه في السير، وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك؛ لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك.
قال: "ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا"؛ لأن المعصية لا تقام بعينه بل بعد تغييره، بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة لأن المعصية تقوم بعينه.
قال: "ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر بالسواد فلا بأس به" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك؛ لأنه إعانة على المعصية. وله أن الإجارة ترد على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه، وإنما قيده بالسواد لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار لظهور شعائر الإسلام فيها. بخلاف السواد. قالوا: هذا كان في سواد الكوفة، لأن غالب أهلها أهل الذمة. فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيها ظاهرة فلا يمكنون فيها أيضا، وهو الأصح.
قال: "ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يكره له ذلك"؛ لأنه إعانة على المعصية، وقد صح " أن النبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرا حاملها والمحمول إليه " له أن المعصية في(4/378)
شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به، والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية.
قال: "ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة، ويكره بيع أرضها" وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا. وهذا رواية عن أبي حنيفة؛ لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث" ولأنها حرة محترمة لأنها فناء الكعبة. وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها حتى لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها، فكذا في حق البيع، بخلاف البناء؛ لأنه خالص ملك الباني. ويكره إجارتها أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من آجر أرض مكة فكأنما أكل الربا" ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره " ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما شاء يكره له ذلك"؛ لأنه ملكه قرضا جر به نفعا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا. "ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن قرض جر نفعا"، وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض، حتى لو هلك لا شيء على الآخذ، والله أعلم.(4/379)
مسائل متفرقة
قال: " ويكره التعشير والنقط في المصحف" لقول ابن مسعود رضي الله عنه: جردوا القرآن. ويروى: جردوا المصاحف. وفي التعشير والنقط ترك التجريد. ولأن التعشير يخل بحفظ الآي والنقط بحفظ الإعراب اتكالا عليه فيكره. قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالة. فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران للقرآن فيكون حسنا.
قال: "ولا بأس بتحلية المصحف" لما فيه من تعظيمه. وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب وقد ذكرناه من قبل.
قال: "ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام" وقال الشافعي: يكره ذلك: وقال مالك: يكره في كل مسجد. للشافعي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة؛ لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها، والجنب يجنب المسجد، وبهذا يحتج مالك، والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها. ولنا ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار" ولأن الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى(4/379)
تلويث المسجد. والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية.
قال: "ويكره استخدام الخصيان"؛ لأن الرغبة في استخدامهم حث الناس على هذا الصنيع وهو مثلة محرمة.
قال: "ولا بأس بخصاء البهائم وإنزاء الحمير على الخيل"؛ لأن في الأول منفعة للبهيمة والناس. وقد صح "أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب البغلة" فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبها لما فيه من فتح بابه.
قال: "ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني"؛ لأنه نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك، وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام عاد يهوديا مرض بجواره.
قال: "ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك" وللمسألة عبارتان: هذه، ومقعد العز، ولا ريب في كراهة الثانية؛ لأنه من القعود، وكذا الأولى؛ لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث والله تعالى بجميع صفاته قديم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا بأس به. وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله لأنه مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام. روي أنه كان من دعائه "اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك؛ ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة" ولكنا نقول: هذا خبر واحد فكان الاحتياط في الامتناع "ويكره أن يقول الرجل في دعائه بحق فلان أو بحق أنبياؤك ورسلك"؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.
قال: "ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو"؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر فهو عبث ولهو. وقال عليه الصلاة والسلام: "لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله" وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي رحمه الله. لنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير" ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر" ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط؛ لأنه متأول فيه. وكره أبو يوسف ومحمد التسليم عليهم تحذيرا لهم، ولم ير أبو حنيفة رحمه الله به بأسا ليشغلهم عما هم فيه.(4/380)
قال: "ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته. وتكره كسوته الثوب وهديته الدراهم والدنانير" وهذا استحسان. وفي القياس: كل ذلك باطل؛ لأنه تبرع والعبد ليس من أهله. وجه الاستحسان "أنه عليه الصلاة والسلام قبل هدية سلمان رضي الله عنه حين كان عبدا"، " وقبل هدية بريرة رضي الله عنها وكانت مكاتبة" "وأجاب رهط من الصحابة رضي الله عنهم دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا"، ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها، ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته، ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس.
قال: "ومن كان في يده لقيط لا أب له فإنه يجوز قبضه الهبة والصدقة له" وأصل هذا أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة: نوع هو من باب الولاية لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية؛ لأن الولي هو الذي قام مقامه بإنابة الشرع، ونوع آخر ما كان من ضرورة حال الصغار وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه وإجارة الأظآر. وذلك جائز ممن يعوله وينفق عليه كالأخ والعم والأم والملتقط إذا كان في حجرهم. وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي في حجره، ونوع ثالث ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة والقبض، فهذا يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل، لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي فيملك بالعقل والولاية والحجر وصار بمنزلة الإنفاق.
قال: "ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها ولا يجوز للعم"؛ لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدام، ولا كذلك الملتقط والعم "ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز"؛ لأنه مشوب بالضرر "إلا إذا فرغ من العمل"؛ لأن عند ذلك تمحض نفعا فيجب المسمى وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه وقد ذكرناه.
قال: "ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية" ويروون الداية، وهو طوق الحديد الذي يمنعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار فيكره كالإحراق بالنار "ولا يكره أن يقيده" لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الدعارة فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه وصيانة لماله.
قال: "ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي" لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث. ولا فرق بين الرجال والنساء إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام.
قال: "ولا بأس برزق القاضي"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام(4/381)
بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له، وبعث عليا إلى اليمن وفرض له ولأنه محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم وهو مال بيت المال، وهذا لأن الحبس من أسباب النفقة كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا فيما يكون كفاية، فإن كان شرطا فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة، إذ القضاء طاعة بل هو أفضلها، ثم القاضي إذا كان فقيرا: فالأفضل بل الواجب الأخذ؛ لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته، وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع على ما قيل رفقا ببيت المال. وقيل الأخذ وهو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين؛ لأنه إذا انقطع زمانا يتعذر إعادته ثم تسميته رزقا يدل على أنه بقدر الكفاية، وقد جرى الرسم بإعطائه في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ في أول السنة وهو يعطى منه، وفي زماننا الخراج يؤخذ في آخر السنة والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية هو الصحيح، ولو استوفى رزق سنة وعزل قبل استكمالها، قيل هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت في السنة بعد استعجال نفقة السنة، والأصح أنه يجب الرد.
قال: "ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم"؛ لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها وإن امتنع بيعها والله أعلم بالصواب.(4/382)
كتاب إحياء الموات
تعريف الموات من يملكه
مدخل
...
كتاب إحياء الموات
قال: "الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة" سمي بذلك لبطلان الانتفاع به.
قال: "فما كان منها عاديا لا مالك له أو كان مملوكا في الإسلام لا يعرف له مالك بعينه وهو بعيد من القرية بحيث إذا وقف إنسان من أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه فهو موات" قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري، ومعنى العادي ما قدم خرابه. والمروي عن محمد رحمه الله أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها ليكون ميتة مطلقا.
فأما التي هي مملوكة لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا، وإذا لم يعرف مالكه تكون لجماعة المسلمين، ولو ظهر له مالك يرد عليه، ويضمن الزارع نقصانها، والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه فيدار الحكم عليه. ومحمد رحمه الله اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة، وإن كان قريبا من القرية، كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله اعتمد على ما اختاره أبو يوسف رحمه الله "ثم من أحياه بإذن الإمام ملكه، وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يملكه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه كما في الحطب والصيد. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به" وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع، ولأنه مغنوم لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام كما في سائر الغنائم. ويجب فيه العشر؛ لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج؛ لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء. فلو أحياها، ثم تركها فزرعها غيره فقد قيل الثاني أحق بها؛ لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها، فإذا تركها كان الثاني أحق بها. والأصح أن الأول ينزعها من الثاني؛ لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث، إذ الإضافة(4/383)
فيه فاللام التمليك وملكه لا يزول بالترك. ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب؛ فعن محمد أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها لتطرقه وقصد الرابع إبطال حقه.
قال: "ويملك الذمي بالإحياء كما يملكه المسلم"؛ لأن الإحياء سبب الملك، إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله إذن الإمام من شرطه فيستويان فيه كما في سائر أسباب الملك حتى الاستيلاء على أصلنا.
قال: "ومن حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره" لأن الدفع إلى الأول كان ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين من حيث العشر أو الخراج. فإذا لم تحصل يدفع إلى غيره تحصيلا للمقصود، ولأن التحجير ليس بإحياء ليملكه به؛ لأن الإحياء إنما هو العمارة والتحجير الإعلام، سمي به لأنهم كانوا يعلمونه بوضع الأحجار حوله أو يعلمونه لحجر غيرهم عن إحيائه فبقي غير مملوك كما كان هو الصحيح. وإنما شرط ترك ثلاث سنين لقول عمر رضي الله عنه: ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق. ولأنه إذا أعلمه لا بد من زمان يرجع فيه إلى وطنه وزمان يهيئ أموره فيه، ثم زمان يرجع فيه إلى ما يحجره فقدرناه بثلاث سنين؛ لأن ما دونها من الساعات والأيام والشهور لا يفي بذلك، وإذا لم يحضر بعد انقضائها فالظاهر أنه تركها.
قالوا: هذا كله ديانة، فأما إذا أحياها غيره قبل مضي هذه المدة ملكها لتحقق الإحياء منه دون الأول وصار كالاستيام فإنه يكره، ولو فعل يجوز العقد. ثم التحجير قد يكون بغير الحجر بأن غرز حولها أغصانا يابسة أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من الشوك أو خضد ما فيها من الحشيش أو الشوك، وجعلها حولها وجعل التراب عليها من غير أن يتم المسناة ليمنع الناس من الدخول، أو حفر من بئر ذراعا أو ذراعين، وفي الأخير ورد الخبر. ولو كربها وسقاها فعن محمد أنه إحياء، ولو فعل أحدهما يكون تحجيرا، ولو حفر أنهارها ولم يسقها يكون تحجيرا، وإن سقاها مع حفر الأنهار كان إحياء لوجود الفعلين، ولو حوطها أو سنمها بحيث يعصم الماء يكون إحياء؛ لأنه من جملة البناء، وكذا إذا بذرها.
قال: "ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحا لحصائدهم" لتحقق حاجتهم إليها حقيقة أو دلالة على ما بيناه، فلا يكون مواتا لتعلق حقهم بها بمنزلة الطريق والنهر. على هذا قالوا: لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها لما ذكرنا.(4/384)
قال: "ومن حفر بئرا في برية فله حريمها" ومعناه إذا حفر في أرض موات بإذن الإمام عنده أو بإذنه وبغير إذنه عندهما؛ لأن حفر البئر إحياء.
قال: "فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعا" لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته" ثم قيل: الأربعون من كل الجوانب. والصحيح أنه من كل جانب؛ لأن في الأراضي رخوة ويتحول الماء إلى ما حفر دونها "وإن كانت للناضح فحريمها ستون ذراعا، وهذا عندهما. وعند أبي حنيفة أربعون ذراعا" لهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حريم العين خمسمائة ذراع. وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا" ولأنه قد يحتاج فيه إلى أن يسير دابته للاستقاء، وقد يطول الرشاء وبئر العطن للاستقاء منه بيده فقلت الحاجة فلا بد من التفاوت. وله ما روينا من غير فصل، والعام المتفق على قبوله والعمل به أولى عنده من الخاص المختلف في قبوله والعمل به، ولأن القياس يأبى استحقاق الحريم؛ لأن عمله في موضع الحفر، والاستحقاق به، ففيما اتفق عليه الحديثان تركناه وفيما تعارضا فيه حفظناه؛ ولأنه قد يستقى من العطن بالناضح ومن بئر الناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما، ويمكنه أن يدبر البعير حول البئر فلا يحتاج فيه إلى زيادة مسافة.
قال: "وإن كانت عينا فحريمها خمسمائة ذراع" لما روينا، ولأن الحاجة فيه إلى زيادة مسافة؛ لأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من موضع يجري فيه الماء ومن حوض يجتمع فيه الماء. ومن موضع يجرى فيه إلى المزرعة فلهذا يقدر بالزيادة، والتقدير بخمسمائة بالتوقيف. والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب كما ذكرنا في العطن، والذراع هي المكسرة وقد بيناه من قبل. وقيل إن التقدير في العين والبئر بما ذكرناه في أراضيهم لصلابة بها وفي أراضينا رخاوة فيزاد كي لا يتحول الماء إلى الثاني فيتعطل الأول.
قال: "فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه" كي لا يؤدي إلى تفويت حقه والإخلال به، وهذا لأنه بالحفر ملك الحريم ضرورة تمكنه من الانتفاع به فليس لغيره أن يتصرف في ملكه؛ فإن احتفر آخر بئرا في حريم الأول للأول أن يصلحه ويكبسه تبرعا، ولو أراد أخذ الثاني فيه قيل: له أن يأخذه ويكبسه؛ لأن إزالة جناية حفره به كما في الكناسة يلقيها في دار غيره فإنه يؤخذ برفعها، وقيل يضمنه النقصان ثم يكبسه بنفسه كما إذا هدم جدار غيره، وهذا هو الصحيح ذكره في أدب القاضي للخصاف. وذكر طريق معرفة النقصان، وما عطب في الأول فلا ضمان فيه؛ لأنه غير متعد، إن كان بإذن الإمام فظاهر، وكذا إن كان بغير إذنه(4/385)
عندهما. والعذر لأبي حنيفة أنه جعل في الحفر تحجيرا وهو بسبيل منه بغير إذن الإمام، وإن كان لا يملكه بدونه، وما عطب في الثانية ففيه الضمان؛ لأنه متعد فيه حيث حفر في ملك غيره، وإن حفر الثاني بئرا وراء حريم الأول فذهب ماء البئر الأول فلا شيء عليه؛ لأنه غير متعد في حفرها، وللثاني الحريم من الجوانب الثلاثة دون الجانب الأول لسبق ملك الحافر الأول فيه "والقناة لها حريم بقدر ما يصلحها" وعن محمد أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم. وقيل هو عندهما. وعنده لا حريم لها ما لم يظهر الماء على الأرض؛ لأنه نهر في التحقيق فيعتبر بالنهر الظاهر.
قالوا: وعند ظهور الماء على الأرض هو بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمه بخمسمائة ذراع "والشجرة تغرس في أرض موات لها حريم أيضا حتى لم يكن لغيره أن يغرس شجرا في حريمها"؛ لأنه يحتاج إلى حريم له يجد فيه ثمره ويضعه فيه وهو مقدر بخمسة أذرع من كل جانب، به ورد الحديث.
قال: "وما ترك الفرات أو الدجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه" لحاجة العامة إلى كونه نهرا "وإن كان لا يجوز أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريما لعامر"؛ لأنه ليس في ملك أحد، لأن قهر الماء يدفع قهر غيره وهو اليوم في يد الإمام.
قال: "ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك، وقالا: له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه" قيل هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده. وعندهما يستحقه؛ لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر وإلى إلقاء الطين، ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر. وله أن القياس يأباه على ما ذكرناه، وفي البئر عرفناه بالأثر، والحاجة إلى الحريم فيه فوقها إليه في النهر؛ لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم، ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء ولا استقاء إلا بالحريم فتعذر الإلحاق.
ووجه البناء أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر، والقول لصاحب اليد، وبعدم استحقاقه تنعدم اليد، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن كانت مسألة مبتدأة فلهما أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به، ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه. وله أنه أشبه بالأرض صورة ومعنى، أما صورة فلاستوائهما، ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة، والظاهر شاهد لمن في يده(4/386)
ما هو أشبه به. كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه، والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك، ولا نزاع فيما به استمساك الماء إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس، على أنه إن كان مستمسكا به ماء نهره فالآخر دافع به الماء عن أرضه، والمانع من نقضه تعلق حق صاحب النهر لا ملكه. كالحائط لرجل ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه وإن كان ملكه.
"وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها، وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفةوقالا: هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك". وقوله وليست المسناة في يد أحدهما معناه: ليس لأحدهما عليه غرس ولا طين ملقى فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف.
أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك فصاحب الشغل أولى، لأنه صاحب يد. ولو كان عليه غرس لا يدرى من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا. وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده وعندهما لصاحب النهر. وأما إلقاء الطين فقد قيل إنه على الخلاف، وقيل إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش. وأما المرور فقد قيل يمنع صاحب النهر عنده، وقيل لا يمنع للضرورة.
قال الفقيه أبو جعفر: آخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين. ثم عن أبي يوسف أن حريمه مقدار نصف النهر من كل جانب، وعن محمد مقدار بطن النهر من كل جانب. وهذا أرفق بالناس.(4/387)
فصول في مسائل الشرب
فصل: في المياه
"وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة، والشفة الشرب لبني آدم والبهائم"
اعلم أن المياه أنواع منها: ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي، حتى إن من أراد أن يكري نهرا منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء.
والثاني: ماء الأودية العظام كجيحون وسيحون ودجلة والفرات للناس فيه حق الشفة على الإطلاق وحق سقي الأراضي، فإن أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منه نهرا ليسقيها. إن كان لا يضر بالعامة ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك؛ لأنها مباحة في الأصل إذ قهر(4/387)
الماء يدفع قهر غيره، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك في أن يميل الماء إلى هذا الجانب إذا انكسرت ضفته فيغرق القرى والأراضي، وعلى هذا نصب الرحى عليه؛ لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به.
والثالث: إذا دخل الماء في المقاسم فحق الشفة ثابت. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلإ، والنار" وأنه ينتظم الشرب، والشرب خص منه الأول وبقي الثاني وهو الشفة، ولأن البئر ونحوها ما وضع للإحراز. ولا يملك المباح بدونه كالظبي إذا تكنس في أرضه، ولأن في إبقاء الشفة ضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره؛ فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم، وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر؛ لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة. ولأنا لو أبحنا ذلك لانقطعت منفعة الشرب.
والرابع: الماء المحرز في الأواني وأنه صار مملوكا له بالإحراز، وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ، إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة نظرا إلى الدليل وهو ما روينا، حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده وهو يساوي نصابا لم تقطع يده. ولو كان البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر: إما أن تعطيه الشفة أو تتركه يأخذ بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته، وهذا مروي عن الطحاوي، وقيل ما قاله صحيح فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له.
أما إذا احتفرها في أرض موات فليس له أن يمنعه؛ لأن الموات كان مشتركا والحفر لإحياء حق مشترك فلا يقطع الشركة في الشفة، ولو منعه عن ذلك، وهو يخاف على نفسه أو ظهره العطش له أن يقاتله بالسلاح لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك، بخلاف الماء المحرز في الإناء حيث يقاتله بغير السلاح؛ لأنه قد ملكه، وكذا الطعام عند إصابة المخمصة، وقيل في البئر ونحوها الأولى أن يقاتله بغير السلاح بعصا؛ لأنه ارتكب معصية فقام ذلك مقام التعزير له؛ والشفة إذا كان يأتي على الماء كله بأن كان جدولا صغيرا. وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها قيل لا يمنع منه؛ لأن الإبل لا ترده في كل وقت وصار كالمياومة وهو سبيل في قسمة الشرب. وقيل له أن يمنع اعتبارا: بسقي المزارع والمشاجر والجامع تفويت حقه، ولهم أن يأخذوا الماء منه للوضوء وغسل الثياب في الصحيح،؛ لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه كما قيل يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع، وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره له ذلك في(4/388)
الأصح؛ لأن الناس يتوسعون فيه ويعدون المنع من الدناءة، وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل وبئره وقناته إلا بإذنه نصا، وله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه، ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه فلا يمكنه التسييل فيه ولا شق الضفة، فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه فتجرى فيه الإباحة كالماء المحرز في إنائه، والله سيحانه وتعالى أعلم بالصواب.(4/389)
فصل: في كري الأنهار
قال رضي الله عنه: الأنهار ثلاثة: نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه، ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام. ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص. والفاصل بينهما استحقاق الشفة به وعدمه. فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين؛ لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم، ويصرف إليه من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات؛ لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب، فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم، وفي مثله قال عمر رضي الله عنه:: لو تركتم لبعتم أولادكم، إلا أنه يخرج له من كان يطيقه ويجعل مؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأنفسهم.
وأما الثاني: فكريه على أهله على بيت المال؛ لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص والخلوص، ومن أبى منهم يجبر على كريه دفعا للضرر العام وهو ضرر بقية الشركاء وضرر الآبي خاص ويقابله عوض فلا يعارض به؛ ولو أرادوا أن يحصنوه خيفة الانبثاق وفيه ضرر عام كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي، وإلا فلا لأنه موهوم بخلاف الكري؛ لأنه معلوم.
وأما الثالث: وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا ثم قيل يجبر الآبي كما في الثاني. وقيل لا يجبر؛ لأن كل واحد من الضررين خاص. ويمكن دفعه عنهم بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي فاستوت الجهتان، بخلاف ما تقدم، ولا يجبر لحق الشفة كما إذا امتنعوا جميعا ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه، فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين؛ لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وله أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل(4/389)
لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره، وليس على صاحب السيل عمارته كما إذا كان له مسيل على سطح غيره، كيف وأنه يمكنه دفع الماء عن أرضه بسده من أعلاه، ثم إنما يرفع عنه إذا جاوز أرضه كما ذكرناه، وقيل إذا جاوز فوهة نهره، وهو مروي عن محمد رحمه الله. والأول أصح؛ لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله، فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته قيل له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه، وقيل ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه نفيا لاختصاصه، وليس على أهل الشفة من الكري شيء؛ لأنهم لا يحصون ولأنهم أتباع.(4/390)
فصل: في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه
قال: "وتصح دعوى الشرب بغير أرض استحسانا"؛ لأنه قد يملك بدون الأرض إرثا، وقد يبيع الأرض ويبقى الشرب له وهو مرغوب فيه فيصح فيه الدعوى.
قال: "وإذا كان نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجرى النهر في أرضه ترك على حاله"؛ لأنه مستعمل له بإجراء مائه. فعند الاختلاف يكون القول قوله، فإن لم يكن في يده، ولم يكن جاريا فعليه البينة أن هذا النهر له، أو أنه قد كان مجراه له في هذا النهر يسوقه إلى أرضه ليسقيها فيقضي له لإثباته بالحجة ملكا له أو حقا مستحقا فيه، وعلى هذا المصب في نهر أو على سطح أو الميزاب أو الممشى في دار غيره، فحكم الاختلاف فيها نظيره في الشرب.
قال: "وإذا كان نهر بين قوم واختصموا في الشرب كان الشرب بينهم على قدر أراضيهم"؛ لأن المقصود الانتفاع بسقيها فيتقدر بقدره، بخلاف الطريق؛ لأن المقصود التطرق وهو في الدار الواسعة والضيقة على نمط واحد، فإن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر لم يكن له ذلك لما فيه من إبطال حق الباقين، ولكنه يشرب بحصته، فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحق له، إلا أنه إذا تمكن من ذلك بلوح لا يسكر بما ينكبس به النهر من غير تراض لكونه إضرارا بهم، وليس لأحدهم أن يكري منه نهرا أو ينصب عليه رحى ماء إلا برضا أصحابه؛ لأن فيه كسر ضفة النهر وشغل موضع مشترك بالبناء، إلا أن يكون رحى لا يضر بالنهر ولا بالماء، ويكون موضعها في أرض صاحبها؛ لأنه تصرف في ملك نفسه ولا ضرر في حق غيره. ومعنى الضرر بالنهر ما بيناه من كسر ضفته، وبالماء أن يتغير عن سننه الذي كان يجري عليه، والدالية والسانية نظير الرحى، ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة بمنزلة طريق خاص(4/390)
بين قوم، بخلاف ما إذا كان لواحد نهر خاص يأخذ من نهر خاص بين قوم فأراد أن يقنطر عليه ويستوثق منه له ذلك، أو كان مقنطرا مستوثقا فأراد أن ينقض ذلك ولا يزيد ذلك في أخذ الماء حيث يكون له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه وضعا ورفعا. ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء، ويمنع من أن يوسع فم النهر؛ لأنه يكسر ضفة النهر، ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء، وكذا إذا كانت القسمة بالكوى، وكذا إذا أراد أن يؤخرها عن فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع منه لاحتباس الماء فيه فيزداد دخول الماء فيه. بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعها حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والترفع وهو العادة فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة، ولو كانت القسمة وقعت بالكوى فأراد أحدهم أن يقسم بالأيام ليس له ذلك؛ لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه. ولو كان لكل منهم كوى مسماة في نهر خاص ليس لواحد أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله؛ لأن الشركة خاصة، بخلاف ما إذا كانت الكوى في النهر الأعظم؛ لأن لكل منهم أن يشق نهرا منه ابتداء فكان له أن يزيد في الكوى بالطريق الأولى.
قال: "وليس لأحد الشركاء في النهر أن يسوق شربه إلى أرض له أخرى ليس لها في ذلك شرب"؛ لأنه إذا تقادم العهد يستدل به على أنه حقه.
قال: "وكذا إذا أراد أن يسوق شربه في أرضه الأولى حتى ينتهي إلى هذه الأرض الأخرى"؛ لأنه يستوفي زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تنشف بعض الماء قبل أن تسقى الأرض الأخرى، وهو نظير طريق مشترك أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى ساكنها غير ساكن هذه الدار التي يفتحها في هذا الطريق، ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوى بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه كي لا تنز ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالآخر، وكذا إذا أراد أن يقسم الشرب مناصفة بينهما؛ لأن القسمة بالكوى تقدمت إلا أن يتراضيا؛ لأن الحق لهما، وبعض التراضي لصاحب الأسفل أن ينقض ذلك. وكذا لورثته من بعده؛ لأنه إعارة الشرب، فإن مبادلة الشرب بالشرب باطلة، والشرب مما يورث ويوصى بالانتفاع بعينه، بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك حيث لا تجوز العقود إما للجهالة أو للغرر، أو لأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره، وإذا بطلت العقود فالوصية بالباطل باطلة، وكذا لا يصلح مسمى في النكاح حتى يجب مهر المثل، ولا في الخلع حتى يجب رد ما قبضت من الصداق لتفاحش الجهالة. ولا يصلح بدل الصلح عن الدعوى؛ لأنه لا يملك بشيء من العقود. ولا يباع الشرب في دين(4/391)
صاحبه بعد موته بدون أرض كما في حال حياته، وكيف يصنع الإمام؟ الأصح أن يضمه إلى أرض لا شرب لها فيبيعها بإذن صاحبها، ثم ينظر إلى قيمة الأرض مع الشرب وبدونه فيصرف التفاوت إلى قضاء الدين، وإن لم يجد ذلك اشترى على تركة الميت أرضا بغير شرب، ثم ضم الشرب إليها وباعهما فيصرف من الثمن إلى ثمن الأرض ويصرف الفاضل إلى قضاء الدين "وإذا سقى الرجل أرضه أو مخرها ماء" أي ملأها "فسال من مائها في أرض رجل فغرقها أو نزت أرض جاره من هذا الماء لم يكن عليه ضمانها"؛ لأنه غير متعد فيه، والله أعلم.(4/392)
كتاب الأشربة
أنواع الأشربة المحرمة
مدخل
...
كتاب الأشربة
سمي بها وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها.
قال: "الأشربة المحرمة أربعة: الخمر وهي عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه" وهو الطلاء المذكور في الجامع الصغير "ونقيع التمر وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى" أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع.
أحدها: في بيان مائيتها وهي النيء من ماء العنب إذا صار مسكرا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر خمر": وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين" وأشار إلى الكرمة والنخلة، ولأنه مشتق من مخامرة العقل وهو موجود في كل مسكر ولنا أنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه ولهذا اشتهر استعماله فيه وفي غيره غيره، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها ظنية، وإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل، على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه فإن النجم مشتق من النجوم وهو الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين رحمه الله.
والثاني: أريد به بيان الحكم؛ إذ هو اللائق بمنصب الرسالة والثاني في حق ثبوت هذا الاسم وهذا الذي ذكره في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به، وكذا المعنى المحرم وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الغليان بداية الشدة، وكمالها بقذف بالزبد وسكونه؛ إذ به يتميز الصافي من الكدر، وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار(4/393)
المستحل وحرمة البيع وقيل يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا.
والثالث: أن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه: ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: إن السكر منها حرام؛ لأن به يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله، وهذا كفر؛ لأنه جحود الكتاب فإنه تعالى سماه رجسا والرجس ما هو محرم العين، وقد جاءت السنة متواترة "أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم الخمر"؛ وعليه انعقد الإجماع، ولأن قليله يدعو إلى كثيره وهذا من خواص الخمر، ولهذا تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه، بخلاف سائر المطعومات ثم هو غير معلول عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد؛ لأنه خلاف السنة المشهورة وتعليله لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء.
والرابع: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا.
والخامس: أنه يكفر مستحلها لإنكاره الدليل القطعي.
والسادس: لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها وغاصبها ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" واختلفوا في سقوط ماليتها والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل إليها وتضن بها ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة ولو كان الدين على ذمي فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز.
والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب الاجتناب وفي الانتفاع به اقتراب.
والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه" إلا أن حكم.
القتل قد انتسخ فبقي الجلد مشروعا، وعليه انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وتقديره ذكرناه في الحدود.(4/394)
والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه على ما قالوا؛ لأن الحد بالقليل في النيء خاصة، لما ذكرنا وهذا قد طبخ.
والعاشر: جواز تخليلها وفيه خلاف الشافعي وسنذكره من بعد إن شاء الله تعالى، هذا هو الكلام في الخمر.
وأما العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فكل ذلك حرام عندنا إذا غلى واشتد وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف وقال الأوزاعي: إنه مباح، وهو قول بعض المعتزلة؛ لأنه مشروب طيب وليس بخمر ولنا أنه رقيق ملذ مطرب ولهذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به.
وأما نقيع التمر وهو السكر وهو النيء من ماء التمر: أي الرطب فهو حرام مكروه وقال شريك بن عبد الله: إنه مباح لقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] امتن علينا به، وهو بالمحرم لا يتحقق ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه ما روينا من قبل، والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها، وقيل أراد به التوبيخ، معناه والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا.
وأما نقيع الزبيب: وهو النيء من ماء الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلى ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي، وقد بينا المعنى من قبل، إلى أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها، ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية، وحرمة الخمر قطعية، ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ويجب بشرب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة، ويجوز بيعها، ويضمن متلفها عند أبي حنيفة خلافا لهما فيهما؛ لأنه مال متقوم، وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها، بخلاف الخمر، غير أن عنده يجب قيمتها لا مثلها على ما عرف، ولا ينتفع بها بوجه من الوجوه؛ لأنها محرمة وعن أبي يوسف أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين.
"وقال في الجامع الصغير: وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به" قالوا: هذا الجواب(4/395)
على هذا العموم والبيان لا يوجد في غيره، وهو نص على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم ومن ذهب عقله بالبنج ولبن الرماك وعن محمد أنه حرام ويحد شاربه ويقع طلاقه إذا سكر منه كما في سائر الأشربة المحرمة "وقال فيه أيضا: وكان أبو يوسف يقول: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فإني أكرهه، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة" وقوله الأول مثل قول محمد إن كل مسكر حرام، إلا أنه تفرد بهذا الشرط، ومعنى قوله: يبلغ: يغلي ويشتد، ومعنى قوله ولا يفسد: لا يحمض ووجهه أن بقاءه هذه المدة من غير أن يحمض دلالة قوته وشدته فكان آية حرمته، ومثل ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو حنيفة يعتبر حقيقة الشدة على الحد الذي ذكرناه فيما يحرم أصل شربه وفيما يحرم السكر منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأبو يوسف رجع إلى قول أبي حنيفة فلم يحرم كل مسكر، ورجع عن هذا الشرط أيضا.
"وقال في المختصر: ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال"، وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره من غير لهو ولا طرب وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام، والكلام فيه كالكلام في المثلث العنبي ونذكره إن شاء الله تعالى.
قال "ولا بأس بالخليطين" لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا؛ لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر" محمول على حالة الشدة، وكان ذلك في الابتداء.
قال: "ونبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إذا كان من غير لهو وطرب لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين"، وأشار إلى الكرمة والنخلة خص التحريم بهما والمراد بيان الحكم، ثم قيل يشترط الطبخ فيه لإباحته، وقيل لا يشترط وهو المذكور في الكتاب؛ لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل لا يحد وقد ذكرنا الوجه من قبل(4/396)
قالوا: والأصح أنه يحد، فإنه روي عن محمد فيمن سكر من الأشربة أنه يحد من غير تفصيل، وهذا؛ لأن الفساق يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم على سائر الأشربة، بل فوق ذلك، وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه؛ إذ هو متولد منه قالوا: والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه فلا يتعدى إلى لبنه.
قال: "وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد ومالك والشافعي: حرام، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق وعن محمد مثل قولهما، وعنه أنه كره ذلك، وعنه أنه توقف فيه لهم في إثبات الحرمة قوله عليه الصلاة والسلام: "كل مسكر خمر" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ويروى عنه عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام" ولأن المسكر يفسد العقل فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" ويروى "بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" خص السكر بالتحريم في غير الخمر؛ إذ العطف للمغايرة، ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير فأعطي حكمه، والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة: والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه، ثم هو محمول على القدح الأخير إذ هو المسكر حقيقة والذي يصب عليه الماء بعد ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث؛ لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل؛ لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة، وفي رواية عنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير فصار كما بعد العصر، ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه لأن التمر إن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه فيعتبر جانب العنب احتياطا، وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا.
ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة ثم أنقع فيه تمر أو زبيب، إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله(4/397)
لا بأس به، وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع والمعنى تغليب جهة الحرمة، ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط وهو للحد في درئه. ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت فلا ترتفع بالطبخ.
قال: "ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأوعية: "فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا المسكر" وقال ذلك بعد ما أخبر عن النهي عنه فكان ناسخا له، وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره، فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا فيطهر، وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد لتشرب الخمر فيه بخلاف العتيق وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر، وقيل عن أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته.
قال: "وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها" وقال الشافعي: يكره التخليل ولا يحل الخل الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا، وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله في الخل الحاصل به قولان له أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخل" من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام: "خير خلكم خل خمركم" ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة، والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة، والتخليل أولى لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به، وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء، فأما أعلاه وهو الذي نقص منه الخمر قيل يطهر تبعا وقيل لا يطهر؛ لأنه خمر يابس إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته فيطهر، وكذا إذا صب فيه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا.
قال: "ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به"؛ لأن فيه أجزاء الخمر، والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا أو دبرة دابة ولا أن يسقي ذميا ولا أن يسقي صبيا للتداوي، والوبال على من سقاه، وكذا لا يسقيها الدواب وقيل: لا تحمل الخمر(4/398)
إليها، أما إذا قيدت إلى الخمر فلا بأس به كما في الكلب والميتة ولو ألقي الدردي في الخل لا بأس به؛ لأنه يصير خلا لكن يباح حمل الخل إليه لا عكسه لما قلنا.
قال: "ولا يحد شاربه" أي شارب الدردي "إن لم يسكر" وقال الشافعي: يحد؛ لأنه شرب جزءا من الخمر ولنا أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة عنه فكان ناقصا فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج "ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل"؛ لأنه انتفاع بالمحرم ولا يجب الحد لعدم الشرب وهو السبب، ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها ولا حد ما لم يسكر منه؛ لأنه أصابه الطبخ "ويكره أكل خبز عجن عجينه بالخمر" لقيام أجزاء الخمر فيه.(4/399)
فصل: في طبخ العصير
والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي، بيانه عشرة دوارق من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلث فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا هو العصير أو ما يمازجه، وأيا ما كان جعل كأن العصير تسعة دوارق فيكون ثلثها ثلاثة وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ ثم طبخ بمائه، إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعد ما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه؛ لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير، وإن كانا يذهبان معا تغلى الجملة حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فيحل؛ لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا والثلث الباقي ماء وعصير فصار كما إذا صب الماء فيه بعد ما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه بيانه عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء ففي الوجه الأول يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير؛ وفي الوجه الثاني حتى يذهب ثلثا الجملة لما قلنا، والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل قبل أن يصير محرما ولو قطع عنه النار فغلى حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار وأصل آخر أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي بعد المنصب ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما يخرج بالقسمة فهو حلال بيانه عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل ثم أهريق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو(4/399)
ثلاثة وثلث وتضربه فيما بقي بعد المنصب هو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء وذلك تسعة، فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان، فعرفت أن الحلال فيما بقي منه رطلان وتسعان، وعلى هذا تخرج المسائل ولها طريق آخر، وفيما اكتفينا به كفاية وهداية إلى تخريج غيرها من المسائل والله أعلم بالصواب.(4/400)
كتاب الصيد
مدخل
تعريفه
...
كتاب الصيد
الصيد: الاصطياد، ويطلق على ما يصاد، والفعل مباح لغير المحرم في غير الحرم لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وقوله عز وجل {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه فلا تأكل؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" وعلى إباحته انعقد الإجماع ولأنه نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك، وفيه استبقاء المكلف وتمكينه من إقامة التكاليف فكان مباحا بمنزلة الاحتطاب ثم جملة ما يحويه الكتاب فصلان: أحدهما في الصيد بالجوارح والثاني في الاصطياد بالرمي.(4/401)
فصل: في الجوارح
قال: "ويجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة وفي الجامع الصغير: وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده، ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته" والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] والجوارح: الكواسب قال في تأويل المكلبين: المسلطين، فيتناول الكل بعمومه، دل عليه ما روينا من حديث عدي رضي الله عنه واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد وعن أبي يوسف أنه استثني من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته والدب لخساسته، وألحق بهما بعضهم الحدأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين فلا يجوز الانتفاع به ثم لا بد من التعليم؛ لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال، ولأنه إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له فيترسل بإرساله ويمسكه عليه.
قال: "تعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا(4/401)
دعوته" وهو مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأن بدن البازي لا يحتمل الضرب، وبدن الكلب يحتمله فيضرب ليتركه، ولأن آية التعليم ترك ما هو ألوف عادة، والبازي متوحش متنفر فكانت الإجابة آية تعليمه وأما الكلب فهو مألوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه وهو الأكل والاستلاب ثم شرط ترك الأكل ثلاثا وهذا عندهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فيما دونه مزيد الاحتمال فلعله تركه مرة أو مرتين شبعا، فإذا تركه ثلاثا دل على أنه صار عادة له، وهذا؛ لأن الثلاث مدة ضربت للاختبار وإبلاء الأعذار كما في مدة الخيار وفي بعض قصص الأخيار: ولأن الكثير هو الذي يقع أمارة على العلم دون القليل، والجمع هو الكثير وأدناه الثلاث فقدر بها وعند أبي حنيفة على ما ذكر في الأصل: لا يثبت التعليم ما لم يغلب على ظن الصائد أنه معلم، ولا يقدر بالثلاث؛ لأن المقادير لا تعرف اجتهادا بل نصا وسماعا ولا سمع فيفوض إلى رأي المبتلى به كما هو أصله في جنسها وعلى الرواية الأولى عنده يحل ما اصطاده ثالثا وعندهما لا يحل؛ لأنه إنما يصير معلما بعد تمام الثلاث وقبل التعليم غير معلم، فكان الثالث صيد كلب جاهل وصار كالتصرف المباشر في سكوت المولى وله أنه آية تعليمه عنده فكان هذا صيد جارحة معلمة، بخلاف تلك المسألة؛ لأن الإذن إعلام ولا يتحقق دون علم العبد وذلك بعد المباشرة.
قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم أو بازيه وذكر اسم الله تعالى عند إرساله فأخذ الصيد وجرحه فمات حل أكله" لما روينا من حديث عدي رضي الله عنه، ولأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة إلا بالاستعمال وذلك فيهما بالإرسال فنزل منزلة الرمي وإمرار السكين فلا بد من التسمية عنده ولو تركه ناسيا حل أيضا على ما بيناه، وحرمة متروك التسمية عامدا في الذبائح ولا بد من الجرح في ظاهر الرواية ليتحقق الذكاة الاضطراري وهو الجرح في أي موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال وفي ظاهر قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ما يشير إلى اشتراط الجرح؛ إذ هو من الجرح بمعنى الجراحة في تأويل فيحمل على الجارح الكاسب بنابه ومخلبه ولا تنافي، وفيه أخذ باليقين وعن أبي يوسف أنه لا يشترط رجوعا إلى التأويل الأول وجوابه ما قلنا.
قال: "فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل وإن أكل منه البازي أكل" والفرق ما بيناه في دلالة التعليم وهو مؤيد بما روينا من حديث عدي رضي الله عنه وهو حجة على مالك والشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه.
قال: "ولو أنه صاد صيودا ولم يأكل منها ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد" لأنه(4/402)
علامة الجهل، ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بأن لم يظفر صاحبه بعد تثبت الحرمة فيه بالاتفاق، وما هو محرز في بيته يحرم عنده خلافا لهما هما يقولان: إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم؛ لأن الحرفة قد تنسى، ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه الاجتهاد فلا ينقض باجتهاد مثله؛ لأن المقصود قد حصل بالأول، بخلاف غير المحرز؛ لأنه ما حصل المقصود من كل وجه لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز فحرمناه احتياطا وله أنه آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها، فإذا أكل تبين أنه كان ترك الأكل للشبع لا للعلم، وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود؛ لأنه بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء.
قال: "ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم صاد لا يؤكل صيده"؛ لأنه ترك ما صار به عالما فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد.
قال: "ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه أكل"؛ لأنه ممسك للصيد عليه، وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه وأمسك عليه ما يصلح له.
قال: "ولو أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها يؤكل ما بقي"؛ لأنه لم يبق صيدا فصار كما إذا ألقى إليه طعاما غيره، وكذا إذا وثب الكلب فأخذه منه وأكل منه؛ لأنه ما أكل من الصيد، والشرط ترك الأكل من الصيد فصار كما إذا افترس شاته، بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك؛ لأنه بقيت فيه جهة الصيدية.
قال: "ولو نهس الصيد فقطع منه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل"؛ لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد.
قال: "ولو ألقى ما نهسه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه وأخذه صاحبه ثم مر بتلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد"؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لم يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى، بخلاف الوجه الأول؛ لأنه أكل في حالة الاصطياد فكان جاهلا ممسكا لنفسه، ولأن نهس البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حيلة في الاصطياد ليضعف بقطع القطعة منه فيدركه، فالأكل قبل الأخذ يدل على الوجه الأول، وبعده على الوجه الثاني فلا يدل على جهله.
قال: "وإن أدرك المرسل الصيد حيا وجب عليه أن يذكيه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل، وكذا البازي والسهم"؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود(4/403)
هو الإباحة ولم تثبت قبل موته فبطل حكم البدل، وهذا إذا تمكن من ذبحه أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح لم يؤكل في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يحل وهو قول الشافعي؛ لأنه لم يقدر على الأصل فصار كما إذا رأى الماء ولم يقدر على الاستعمال ووجه الظاهر أنه قدر اعتبارا؛ لأنه ثبت يده على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح فأدير الحكم على ما ذكرنا، بخلاف ما إذا بقي فيه من الحياة مثل ما يبقى في المذبوح؛ لأنه ميت حكما، ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لم يحرم كما إذا وقع وهو ميت والميت ليس بمذبح وفصل بعضهم فيها تفصيلا وهو أنه إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل، وإن لم يتمكن بضيق الوقت لم يؤكل عندنا خلافا للشافعي؛ لأنه إذا وقع في يده لم يبق صيدا فبطل حكم ذكاة الاضطرار، وهذا إذا كان يتوهم بقاؤه، أما إذا شق بطنه وأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حل؛ لأن ما بقي اضطراب المذبوح فلا يعتبر كما إذا وقعت شاة في الماء بعدما ذبحت وقيل هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة فلا يؤكل أيضا؛ لأنه وقع في يده حيا فلا يحل إلا بذكاة الاختيار رد إلى المتردية على ما نذكره إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا إذا ترك التذكية، فلو أنه ذكاه حل أكله عند أبي حنيفة، وكذا المتردية والنطيحة والموقوذة، والذي يبقر الذئب بطنه وفيه حياة خفية أو بينة، وعليه الفتوى لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] استثناه مطلقا من غير فصل وعند أبي يوسف إذا كان بحال لا يعيش مثله لا يحل؛ لأنه لم يكن موته بالذبح وقال محمد: إن كان يعيش فوق ما يعيش المذبوح يحل وإلا فلا؛ لأنه لا معتبر بهذه الحياة على ما قررناه.
قال: "ولو أدركه ولم يأخذه، فإن كان في وقت لو أخذه أمكنه ذبحه لم يؤكل"؛ لأنه صار في حكم المقدور عليه.
قال: "وإن كان لا يمكنه ذبحه أكل"؛ لأن اليد لم تثبت به، والتمكن من الذبح لم يوجد.
قال: "وإن أدركه فذكاه حل له"؛ لأنه إن كان فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، وإن لم يكن فيه حياة مستقرة؛ فعند أبي حنيفة رحمه الله ذكاته الذبح على ما ذكرناه وقد وجد، وعندهما لا يحتاج إلى الذبح.(4/404)
قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره حل" وقال مالك: لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال؛ إذ الإرسال مختص بالمشار إليه ولنا أنه شرط غير مفيد؛ لأن مقصوده حصول الصيد إذ لا يقدر على الوفاء به؛ إذ لا يمكنه تعليمه على وجه يأخذ ما عينه فسقط اعتباره.
قال: "ولو أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال، فلو قتل الكل يحل بهذه التسمية الواحدة"؛ لأن الذبح يقع بالإرسال على ما بيناه، ولهذا تشترط التسمية عنده والفعل واحد فيكفيه تسمية واحدة، بخلاف ذبح الشاتين بتسمية واحدة؛ لأن الثانية تصير مذبوحة بفعل غير الأول فلا بد من تسمية أخرى، حتى لو أضجع إحداهما فوق الأخرى، وذبحهما بمرة واحدة تحلان بتسمية واحدة.
قال: "ومن أرسل فهدا فكمن حتى يستمكن ثم أخذ الصيد فقتله يؤكل"؛ لأن مكثه ذلك حيلة منه للصيد لا استراحة فلا يقطع الإرسال.
قال: "وكذا الكلب إذا اعتاد عادته" "ولو أخذ الكلب صيدا فقتله ثم أخذ آخر فقتله وقد أرسله صاحبه أكلا جميعا"؛ لأن الإرسال قائم لم ينقطع، وهو بمنزلة ما لو رمى سهما إلى صيد فأصابه وأصاب آخر.
قال: "ولو قتل الأول فجثم عليه طويلا من النهار ثم مر به صيد آخر فقتله لا يؤكل الثاني" لانقطاع الإرسال بمكثه إذ لم يكن ذلك حيلة منه للأخذ وإنما كان استراحة، بخلاف ما تقدم.
قال: "ولو أرسل بازيه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله فإنه يؤكل" وهذا إذا لم يمكث زمانا طويلا للاستراحة، وإنما مكث ساعة للتمكين لما بيناه في الكلب.
قال: "ولو أن بازيا معلما أخذ صيدا فقتله ولا يدرى أرسله إنسان أم لا لا يؤكل" لوقوع الشك في الإرسال، ولا تثبت الإباحة بدونه.
قال: "وإن خنقه الكلب ولم يجرحه لم يؤكل"؛ لأن الجرح شرط على ظاهر الرواية على ما ذكرناه، وهذا يدلك على أنه لا يحل بالكسر وعن أبي حنيفة أنه إذا كسر عضوا فقتله لا بأس بأكله؛ لأنه جراحة باطنة فهي كالجراحة الظاهرة وجه الأول أن المعتبر جرح ينتهض سببا لإنهار الدم ولا يحصل ذلك بالكسر فأشبه التخنيق.
قال: "وإن شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه(4/405)
يريد به عمدا لم يؤكل" لما روينا في حديث عدي رضي الله عنه، ولأنه اجتمع المبيح والمحرم فيغلب جهة الحرمة نصا أو احتياطا "ولو رده عليه الكلب الثاني ولم يجرحه معه ومات بجرح الأول يكره أكله" لوجود المشاركة في الأخذ وفقدها في الجرح، وهذا بخلاف ما إذا رده المجوسي بنفسه حيث لا يكره؛ لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تتحقق المشاركة وتتحقق بين فعلي الكلبين لوجود المجانسة "ولو لم يرده الكلب الثاني على الأول لكنه أشد على الأول حتى اشتد على الصيد فأخذه وقتله لا بأس بأكله"؛ لأن فعل الثاني أثر في الكلب المرسل دون الصيد حيث ازداد به طلبا فكان تبعا لفعله؛ لأنه بناء عليه فلا يضاف الأخذ إلى التبع، بخلاف ما إذا كان رده عليه؛ لأنه لم يصر تبعا فيضاف إليهما.
قال: "وإذا أرسل المسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر بزجره فلا بأس بصيده" والمراد بالزجر الإغراء بالصياح عليه، وبالانزجار إظهار زيادة الطلب ووجهه أن الفعل يرفع بما هو فوقه أو مثله كما في نسخ الآي، والزجر دون الإرسال لكونه بناء عليه.
قال: "ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر بزجره لم يؤكل"؛ لأن الزجر دون الإرسال ولهذا لم تثبت به شبهة الحرمة فأولى أن لا يثبت به الحل، وكل من لا تجوز ذكاته كالمرتد والمحرم وتارك التسمية عامدا في هذا بمنزلة المجوسي "وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر فأخذ الصيد فلا بأس بأكله"؛ لأن الزجر مثل الانفلات؛ لأنه إن كان دونه من حيث إنه بناء عليه فهو فوقه من حيث إنه فعل المكلف فاستويا فصلح ناسخا "ولو أرسل المسلم كلبه على صيد وسمى فأدركه فضربه ووقذه ثم ضربه فقتله أكل، وكذا إذا أرسل كلبين فوقذه أحدهما ثم قتله الآخر أكل"؛ لأن الامتناع عن الجرح بعد الجرح لا يدخل تحت التعليم فجعل عفوا "ولو أرسل رجلان كل واحد منهما كلبا فوقذه أحدهما وقتله الآخر أكل" لما بينا "والملك للأول"؛ لأن الأول أخرجه عن حد الصيدية إلا أن الإرسال من الثاني بعد الخروج عن الصيدية بجرح الكلب الأول.(4/406)
فصل: في الرمي
"ومن سمع حسا ظنه حس صيد فرماه أو أرسل كلبا أو بازيا عليه فأصاب صيدا، ثم تبين أنه حس صيد حل المصاب" أي صيد كان؛ لأنه قصد الاصطياد وعن أبي يوسف أنه خص من ذلك الخنزير لتغليظ التحريم؛ ألا ترى أنه لا تثبت الإباحة في شيء منه بخلاف السباع؛ لأنه يؤثر في جلدها وزفر خص منها ما لا يؤكل لحمه؛ لأن الإرسال فيه(4/406)
ليس للإباحة ووجه الظاهر أن اسم الاصطياد لا يختص بالمأكول فوقع الفعل اصطيادا وهو فعل مباح في نفسه، وإباحة التناول ترجع إلى المحل فتثبت بقدر ما يقبله لحما وجلدا، وقد لا تثبت إذا لم يقبله، وإذا وقع اصطيادا صار كأنه رمى إلى صيد فأصاب غيره "وإن تبين أنه حس آدمي أو حيوان أهلي لا يحل المصاب"؛ لأن الفعل ليس باصطياد "والطير الداجن الذي يأوي البيوت أهلي والظبي الموثق بمنزلته" لما بينا "ولو رمى إلى طائر فأصاب صيدا ومر الطائر ولا يدري وحشي هو أو غير وحشي حل الصيد"؛ لأن الظاهر فيه التوحش "ولو رمى إلى بعير فأصاب صيدا ولا يدري ناد هو أم لا لا يحل الصيد"؛ لأن الأصل فيه الاستئناس "ولو رمى إلى سمكة أو جرادة فأصاب صيدا يحل في رواية عن أبي يوسف"؛ لأنه صيد، وفي أخرى عنه لا يحل؛ لأنه لا ذكاة فيهما "ولو رمى فأصاب المسموع حسه وقد ظنه آدميا فإذا هو صيد يحل"؛ لأنه لا معتبر بظنه مع تعينه "فإذا سمى الرجل عند الرمي أكل ما أصاب إذا جرح السهم فمات"؛ لأنه ذابح بالرمي لكون السهم آلة له فتشترط التسمية عنده، وجميع البدن محل لهذا النوع من الذكاة، ولا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما بيناه.
قال: "وإذا أدركه حيا ذكاه" وقد بيناها بوجوهها، والاختلاف فيها في الفصل الأول فلا نعيده.
قال: "وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتا أكل، وإن قعد عن طلبه" ثم أصابه ميتا لم يؤكل، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال: "لعل هوام الأرض قتلته" ولأن احتمال الموت بسبب آخر قائم فما ينبغي أن يحل أكله؛ لأن الموهوم في هذا كالمتحقق لما روينا، إلا أنا أسقطنا اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه، ولا ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه لإمكان التحرز عن توار يكون بسبب عمله، والذي رويناه حجة على مالك في قوله إن ما توارى عنه إذا لم يبت يحل فإذا بات ليلة لم يحل "ولو وجد به جراحة سوى جراحة سهمه لا يحل"؛ لأنه موهوم يمكن الاحتراز عنه فاعتبر محرما، بخلاف وهم الهوام والجواب في إرسال الكلب في هذا كالجواب في الرمي في جميع ما ذكرناه.
قال: "وإذا رمى صيدا فوقع في الماء أو وقع على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض لم يؤكل"؛ لأنه المتردية وهي حرام بالنص، ولأنه احتمل الموت بغير الرمي؛ إذ الماء مهلك وكذا السقوط من عال، يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعدي رضي الله عنه: "وإن وقعت رميتك في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري أن الماء قتله أو سهمك" "وإن وقع على(4/407)
الأرض ابتداء أكل"؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وفي اعتباره سد باب الاصطياد بخلاف ما تقدم؛ لأنه يمكن التحرز عنه، فصار الأصل أن سبب الحرمة والحل إذا اجتمعا وأمكن التحرز عما هو سبب الحرمة ترجح جهة الحرمة احتياطا، وإن كان مما لا يمكن التحرز عنه جرى وجوده مجرى عدمه؛ لأن التكليف بحسب الوسع، فمما يمكن التحرز عنه إذا وقع على شجر أو حائط أو آجرة ثم وقع على الأرض أو رماه، وهو على جبل فتردى من موضع إلى موضع حتى تردى إلى الأرض، أو رماه فوقع على رمح منصوب أو على قصبة قائمة أو على حرف آجرة لاحتمال أن حد هذه الأشياء قتله، ومما لا يمكن الاحتراز عنه إذا وقع على الأرض كما ذكرناه، أو على ما هو معناه كجبل أو ظهر بيت أو لبنة موضوعة أو صخرة فاستقر عليها؛ لأن وقوعه عليه وعلى الأرض سواء وذكر في المنتفى: لو وقع على صخرة فانشق بطنه لم يؤكل لاحتمال الموت بسبب آخر وصححه الحاكم الشهيد وحمل مطلق المروي في الأصل على غير حالة الانشقاق، وحمله شمس الأئمة السرخسي رحمه الله على ما أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك، وحمل المروي في الأصل على أنه لم يصبه من الآجرة إلا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليها وذلك عفو وهذا أصح وإن كان الطير مائيا، فإن كانت الجراحة لا تنغمس في الماء أكل، وإن انغمست لا يؤكل كما إذا وقع في الماء.
قال: "وما أصابه المعراض بعرضه لم يؤكل، وإن جرحه يؤكل" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه: "ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل" ولأنه لا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما قدمناه.
قال: "ولا يؤكل ما أصابته البندقة فمات بها"؛ لأنها تدق وتكسر ولا تجرح فصار كالمعراض إذا لم يخزق، وكذلك إن رماه بحجر، وكذا إن جرحه قالوا: تأويله إذا كان ثقيلا وبه حدة لاحتمال أنه قتله بثقله، وإن كان الحجر خفيفا وبه حدة يحل لتعين الموت بالجرح، ولو كان الحجر خفيفا، وجعله طويلا كالسهم وبه حدة فإنه يحل؛ لأنه يقتله بجرحه، ولو رماه بمروة حديدة ولم تبضع بضعا لا يحل؛ لأنه قتله دقا، وكذا إذا رماه بها فأبان رأسه أو قطع أوداجه؛ لأن العروق تنقطع بثقل الحجر كما تنقطع بالقطع فوق الشك أو لعله مات قبل قطع الأوداج، ولو رماه بعصا أو بعود حتى قتله لا يحل؛ لأنه يقتله ثقلا لا جرحا، اللهم إلا إذا كان له حدة يبضع بضعا فحينئذ لا بأس به؛ لأنه بمنزلة السيف والرمح.
والأصل في هذه المسائل أن الموت إذا كان مضافا إلى الجرح بيقين كان الصيد حلالا، وإذا كان مضافا إلى الثقل بيقين كان حراما، وإن وقع الشك ولا يدري مات بالجرح(4/408)
أو بالثقل كان حراما احتياطا، وإن رماه بسيف أو بسكين فأصابه بحده فجرحه حل، وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السيف لا يحل؛ لأنه قتله دقا، والحديد وغيره فيه سواء ولو رماه فجرحه ومات بالجرح، إن كان الجرح مدميا يحل بالاتفاق، وإن لم يكن مدميا فكذلك عند بعض المتأخرين سواء كانت الجراحة صغيرة أو كبيرة؛ لأن الدم قد يحتبس بضيق المنفذ أو غلظ الدم وعند بعضهم يشترط الإدماء لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل" شرط الإنهار، وعند بعضهم إن كانت كبيرة حل بدون الإدماء، ولو ذبح شاة ولم يسل منه الدم قيل لا تحل وقيل تحل ووجه القولين دخل فيما ذكرناه وإذا أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه، فإن أدماه حل وإلا فلا، وهذا يؤيد بعض ما ذكرناه.
قال: "وإذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد" لما بيناه "ولا يؤكل العضو" وقال الشافعي رحمه الله: أكلا إن مات الصيد منه؛ لأنه مبان بذكاة الاضطرار فيحل المبان والمبان منه كما إذا أبين الرأس بذكاة الاختيار بخلاف ما إذا لم يمت؛ لأنه ما أبين بالذكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أبين من الحي فهو ميت" ذكر الحي مطلقا فينصرف إلى الحي حقيقة وحكما، والعضو المبان بهذه الصفة؛ لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه، وكذا حكما؛ لأنه تتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبره الشرع حيا، حتى لو وقع في الماء وفيه حياة بهذه الصفة يحرم وقوله أبين بالذكاة.
قلنا: حال وقوعه لم يقع ذكاة لبقاء الروح في الباقي، وعند زواله لا يظهر في المبان لعدم الحياة فيه، ولا تبعية لزوالها بالانفصال فصار هذا الحرف هو الأصل؛ لأن المبان من الحي حقيقة وحكما لا يحل، والمبان من الحي صورة لا حكما يحل وذلك بأن يبقى في المبان منه حياة بقدر ما يكون في المذبوح فإنه حياة صورة لا حكما، ولهذا لو وقع في الماء وبه هذا القدر من الحياة أو تردى من جبل أو سطح لا يحرم فتخرج عليه المسائل، فنقول: إذا قطع يدا أو رجلا أو فخذا أو ثلثه مما يلي القوائم أو أقل من نصف الرأس يحرم المبان ويحل المبان منه؛ لأنه يتوهم بقاء الحياة في الباقي "ولو قده بنصفين أو قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجز أو قطع نصف رأسه أو أكثر منه يحل المبان والمبان منه"؛ لأن المبان منه حي صورة لا حكما؛ إذ لا يتوهم بقاء الحياة بعد هذا الجرح، والحديث وإن تناول السمك وما أبين منه فهو ميت، إلا أن ميتته حلال بالحديث الذي رويناه "ولو ضرب عنق شاة فأبان رأسها يحل لقطع الأوداج" ويكره هذا الصنيع لإبلاغه النخاع، وإن ضربه من قبل القفا، إن مات قبل قطع الأوداج لا يحل، وإن لم يمت حتى قطع الأوداج حل "ولو ضرب صيدا(4/409)
فقطع يدا أو رجلا ولم يبنه؛ إن كان يتوهم الالتئام والاندمال فإذا مات حل أكله"؛ لأنه بمنزلة سائر أجزائه، وإن كان لا يتوهم بأن بقي متعلقا بجلده حل ما سواه لوجود الإبانة معنى والعبرة للمعاني.
قال: "ولا يؤكل صيد المجوسي والمرتد والوثني"؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة على ما بيناه في الذبائح، ولا بد منها في إباحة الصيد بخلاف النصراني واليهودي؛ لأنهما من أهل الذكاة اختيارا فكذا اضطرارا.
قال: "ومن رمى صيدا فأصابه ولم يثخنه ولم يخرجه عن حيز الامتناع فرماه آخر فقتله فهو للثاني ويؤكل"؛ لأنه هو الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الصيد لمن أخذ" "وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للأول ولم يؤكل" لاحتمال الموت بالثاني، وهو ليس بذكاة للقدرة على ذكاة الاختيار، بخلاف الوجه الأول، وهذا إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد؛ لأنه حينئذ يكون الموت مضافا إلى الرمي الثاني وأما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح، كما إذا أبان رأسه يحل؛ لأن الموت لا يضاف إلى الرمي الثاني؛ لأن وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان الرمي الأول بحال لا يعيش منه الصيد إلا أنه بقي فيه من الحياة أكثر مما يكون بعد الذبح بأن كان يعيش يوما أو دونه؛ فعلى قول أبي يوسف لا يحرم بالرمي الثاني؛ لأن هذا القدر من الحياة لا عبرة بها عنده وعند محمد يحرم؛ لأن هذا القدر من الحياة معتبر عنده على ما عرف من مذهبه فصار الجواب فيه والجواب فيما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد سواء فلا يحل.
قال: "والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته"؛ لأنه بالرمي أتلف صيدا مملوكا له؛ لأنه ملكه بالرمي المثخن وهو منقوص بجراحته، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف.
قال رضي الله عنه: تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني بأن كان الأول بحال يجوز أن يسلم الصيد منه والثاني بحال لا يسلم الصيد منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كملا، كما إذا قتل عبدا مريضا إن علم أن الموت يحصل من الجراحتين أو لا يدري قال في الزيادات: يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمنه نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمة لحمه أما الأول فلأنه جرح حيوانا مملوكا للغير وقد نقصه فيضمن ما نقصه أولا وأما الثاني:(4/410)
فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين؛ لأن الأولى ما كانت بصنعه، والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانيا وأما الثالث فلأن بالرمي الأول صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني، فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه، ولا يضمن النصف الآخر؛ لأنه ضمنه مرة فدخل ضمان اللحم فيه، وإن كان رماه الأول ثانيا فالجواب في حكم الإباحة كالجواب فيما إذا كان الرامي غيره، ويصير كما إذا رمى صيدا على قمة جبل فأثخنه ثم رماه ثانيا فأنزله لا يحل؛ لأن الثاني محرم، كذا هذا.
قال: "ويجوز اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان وما لا يؤكل" لإطلاق ما تلونا والصيد لا يختص بمأكول اللحم قال قائلهم:
صيد الملوك أرانب وثعالب ... وإذا ركبت فصيدي الأبطال
ولأن صيده سبب للانتفاع بجلده أو شعره أو ريشة أو لاستدفاع شره وكل ذلك مشروع والله أعلم بالصواب.(4/411)
كتاب الرهن
كيفية انعقاد الرهن
...
كتاب الرهن
الرهن لغة: حبس الشيء بأي سبب كان وفي الشريعة: جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون، وهو مشروع بقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] وبما روي: "أنه عليه الصلاة والسلام اشترى من يهودي طعاما ورهنه به درعه" وقد انعقد على ذلك الإجماع، ولأنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة.
قال: "الرهن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بالقبض" قالوا: الركن الإيجاب بمجرده؛ لأنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع كالهبة والصدقة والقبض شرط اللزوم على ما نبينه إن شاء الله تعالى وقال مالك: يلزم بنفس العقد؛ لأنه يختص بالمال من الجانبين فصار كالبيع، ولأنه عقد وثيقة فأشبه الكفالة ولنا ما تلونا، والمصدر المقرون بحرف الفاء في محل الجزاء يراد به الأمر، ولأنه عقد تبرع لما أن الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئا ولهذا لا يجبر عليه فلا بد من إمضائه كما في الوصية وذلك بالقبض، ثم يكتفي فيه بالتخلية في ظاهر الرواية؛ لأنه قبض بحكم عقد مشروع فأشبه قبض المبيع وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يثبت في المنقول إلا بالنقل؛ لأنه قبض موجب للضمان ابتداء بمنزلة الغصب، بخلاف الشراء؛ لأنه ناقل للضمان من البائع إلى المشتري وليس بموجب ابتداء والأول أصح.
قال: "وإذا قبضه المرتهن محوزا مفرغا متميزا تم العقد فيه" لوجود القبض بكماله فلزم العقد "وما لم يقبضه فالراهن بالخيار إن شاء سلمه وإن شاء رجع عن الرهن" لما ذكرنا أن اللزوم بالقبض إذ المقصود لا يحصل قبله.
قال: "وإذا سلمه إليه فقبضه دخل في ضمانه" وقال الشافعي رحمه الله: هو أمانة في يده، ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يغلق الرهن، قالها ثلاثة، لصاحبه غنمه وعليه غرمه" قال: ومعناه لا يصير مضمونا بالدين، ولأن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين اعتبارا بهلاك الصك، وهذا؛ لأن بعد الوثيقة يزداد معنى الصيانة، والسقوط بالهلاك يضاد ما اقتضاه العقد إذا لحق به يصير بعرض الهلاك وهو ضد الصيانة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعد ما نفق فرس الرهن عنده "ذهب حقك"(4/412)
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا غمى الرهن فهو بما فيه" معناه: على ما قالوا إذا اشتبهت قيمة الرهن بعد ما هلك وإجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على أن الراهن مضمون مع اختلافهم في كيفيته، والقول بالأمانة خرق له، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يغلق الرهن" على ما قالوا الاحتباس الكلي والتمكن بأن يصير مملوكا له كذا ذكر الكرخي عن السلف ولأن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس؛ لأن الرهن ينبئ عن الحبس الدائم، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] وقال قائلهم:
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
والأحكام الشرعية تنعطف على الألفاظ على وفق الأنباء، ولأن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن تكون موصلة إليه وذلك ثابت له بملك اليد والحبس ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون عاجزا عن الانتفاع به فيتسارع إلى قضاء الدين لحاجته أو لضجره، وإذا كان كذلك يثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك، فلو استوفاه ثانيا يؤدي إلى الربا، بخلاف حالة القيام؛ لأنه ينقض هذا الاستيفاء بالرد على الراهن فلا يتكرر، ولا وجه إلى استيفاء الباقي بدونه؛ لأنه لا يتصور، والاستيفاء يقع بالمالية أما العين فأمانة حتى كانت نفقة المرهون على الراهن في حياته وكفنه بعد مماته، وكذا قبض الرهن لا ينوب عن قبض الشراء إذا اشتراه المرتهن؛ لأن العين أمانة فلا تنوب عن قبض ضمان، وموجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وهذا يحقق الصيانة، وإن كان فراغ الذمة من ضروراته كما في الحوالة.
فالحاصل: أن عندنا حكم الرهن صيرورة الرهن محتبسا بدينه بإثبات يد الاستيفاء عليه وعنده تعلق الدين بالعين استيفاء منه عينا بالبيع، فيخرج على هذين الأصلين عدة من المسائل المختلف فيها بيننا وبينه عددناها في كفاية المنتهى جملة: منها أن الراهن ممنوع عن الاسترداد للانتفاع؛ لأنه يفوت موجبه وهو الاحتباس على الدوام، وعنده لا يمنع منه؛ لأنه لا ينافي موجبه وهو تعينه للبيع وسيأتيك البواقي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون"؛ لأن حكمه ثبوت يد الاستيفاء، والاستيفاء يتلو الوجوب قال رضي الله عنه: ويدخل على هذا اللفظ الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها، فإنه يصح الرهن بها ولا دين ويمكن أن يقال: إن الواجب الأصلي فيها هو القيمة ورد العين مخلص على ما عليه أكثر المشايخ وهو دين ولهذا تصح الكفالة بها، ولئن كان لا يجب إلا بعد الهلاك ولكنه يجب عند الهلاك بالقبض السابق، ولهذا تعتبر قيمته يوم(4/413)
القبض فيكون رهنا بعد وجود سبب وجوبه فيصح كما في الكفالة، ولهذا لا تبطل الحوالة المقيدة به بهلاكه، بخلاف الوديعة.
قال: "وهو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، فإذا هلك في يد المرتهن، وقيمته والدين سواء صار المرتهن مستوفيا لدينه، وإن كانت قيمة الرهن أكثر فالفضل أمانة في يده"؛ لأن المضمون بقدر ما يقع به الاستيفاء وذاك بقدر الدين "وإن كانت أقل سقط من الدين بقدره ورجع المرتهن بالفضل"؛ لأن الاستيفاء بقدر المالية.
وقال زفر رحمه الله: الرهن مضمون بالقيمة، حتى لو هلك الرهن، وقيمته يوم الرهن ألف وخمسمائة والدين ألف رجع الراهن على المرتهن بخمسمائة له حديث علي رضي الله عنه قال: " يترادان الفضل في الرهن " ولأن الزيادة على الدين مرهونة لكونها محبوسة به فتكون مضمونة اعتبارا بقدر الدين ومذهبنا مروي عن عمر وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهم، ولأن يد المرتهن يد الاستيفاء فلا توجب الضمان إلا بالقدر المستوفي كما في حقيقة الاستيفاء، والزيادة مرهونة به ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ولا ضرورة في حق الضمان والمراد بالتراد فيما يروى حالة البيع، فإنه روي عنه أنه قال: المرتهن أمين في الفضل.
قال: "وللمرتهن أن يطالب الراهن بدينه ويحبسه به"؛ لأن حقه باق بعد الرهن والرهن لزيادة الصيانة فلا تمتنع به المطالبة، والحبس جزاء الظلم، فإذا ظهر مطله عند القاضي يحبسه كما بيناه على التفصيل فيما تقدم "وإذا طلب المرتهن دينه يؤمر بإحضار الرهن"؛ لأن قبض الرهن قبض استيفاء فلا يجوز أن يقبض ماله مع قيام يد الاستيفاء؛ لأنه يتكرر الاستيفاء على اعتبار الهلاك في يد المرتهن وهو محتمل "وإذا أحضر أمر الراهن بتسليم الدين إليه أولا" ليتعين حقه كما تعين حق الراهن تحقيقا للتسوية كما في تسليم المبيع والثمن يحضر المبيع ثم يسلم الثمن أولا "وإن طالبه بالدين في غير البلد الذي وقع العقد فيه، إن كان الرهن مما لا حمل له ولا مؤنة، فكذلك الجواب"؛ لأن الأماكن كلها في حق التسليم كمكان واحد فيما ليس له حمل ومؤنة؛ ولهذا لا يشترط بيان مكان الإيفاء فيه في باب السلم بالإجماع "وإن كان له حمل ومؤنة يستوفي دينه ولا يكلف إحضار الرهن"؛ لأن هذا نقل، والواجب عليه التسليم بمعنى التخلية، لا النقل من مكان إلى مكان؛ لأنه يتضرر به زيادة الضرر ولم يلتزمه. "ولو سلط الراهن العدل على بيع المرهون فباعه بنقد أو نسيئة جاز" لإطلاق الأمر "فلو طالب المرتهن بالدين لا يكلف المرتهن إحضار الرهن"؛ لأنه لا قدرة له على الإحضار "وكذا إذا أمر المرتهن ببيعه فباعه ولم يقبض الثمن"؛ لأنه صار دينا بالبيع بأمر الراهن، فصار كأن(4/414)
الراهن رهنه وهو دين "ولو قبضه يكلف إحضاره لقيام البدل مقام المبدل"؛ لأن الذي يتولى قبض الثمن هو المرتهن؛ لأنه هو العاقد فترجع الحقوق إليه، وكما يكلف إحضار الرهن لاستيفاء كل الدين يكلف لاستيفاء نجم قد حل لاحتمال الهلاك، ثم إذا قبض الثمن يؤمر بإحضاره لاستيفاء الدين لقيامه مقام العين، وهذا بخلاف ما إذا قتل رجل العبد الرهن خطأ حتى قضى به بالقيمة على عاقلته في ثلاث سنين لم يجبر الراهن على قضاء الدين حتى يحضر كل القيمة؛ لأن القيمة خلف عن الرهن فلا بد من إحضار كلها كما لا بد من إحضار كل عين الرهن وما صارت قيمة بفعله، وفيما تقدم صار دينا بفعل الراهن فلهذا افترقا "ولو وضع الرهن على يد العدل وأمر أن يودعه غيره ففعل ثم جاء المرتهن يطلب دينه لا يكلف إحضار الرهن"؛ لأنه لم يؤتمن عليه حيث وضع على يد غيره فلم يكن تسليمه في قدرته "ولو وضعه العدل في يد من في عياله وغاب وطلب المرتهن دينه والذي في يده يقول أودعني فلان ولا أدري لمن هو يجبر الراهن على قضاء الدين"؛ لأن إحضار الرهن ليس على المرتهن؛ لأنه لم يقبض شيئا. "وكذلك إذا غاب العدل بالرهن ولا يدرى أين هو" لما قلنا "ولو أن الذي أودعه العدل جحد الرهن وقال هو مالي لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء حتى يثبت كونه رهنا"؛ لأنه لما جحد الرهن فقد توى المال والتوى على المرتهن فيتحقق استيفاء الدين ولا يملك المطالبة به.
قال: "وإن كان الرهن في يده ليس عليه أن يمكنه من البيع حتى يقضيه الدين"؛ لأن حكمه الحبس الدائم إلى أن يقضي الدين على ما بيناه "ولو قضاه البعض فله أن يحبس كل الرهن حتى يستوفي البقية" اعتبارا بحبس المبيع "فإذا قضاه الدين قيل له سلم الرهن إليه"؛ لأنه زال المانع من التسليم لوصول الحق إلى مستحقه "فلو هلك قبل التسليم استرد الراهن ما قضاه"؛ لأنه صار مستوفيا عند الهلاك بالقبض السابق، فكان الثاني استيفاء بعد استيفاء فيجب رده "وكذلك لو تفاسخا الرهن له حبسه ما لم يقبض الدين أو يبرئه، ولا يبطل الرهن إلا بالرد على الراهن على وجه الفسخ"؛ لأنه يبقى مضمونا ما بقي القبض والدين "ولو هلك في يده سقط الدين إذا كان به وفاء بالدين" لبقاء الرهن "وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام، ولا بسكنى ولا لبس، إلا أن يأذن له المالك"؛ لأن له حق الحبس دون الانتفاع "وليس له أن يبيع إلا بتسليط من الراهن، وليس له أن يؤاجر ويعير"؛ لأنه ليس له ولاية الانتفاع بنفسه فلا يملك تسليط غيره عليه، فإن فعل كان متعديا، ولا يبطل عقد الرهن بالتعدي.
قال: "وللمرتهن أن يحفظ الرهن بنفسه وزوجته وولده وخادمه الذي في عياله" قال رضي الله عنه: معناه أن يكون الولد في عياله أيضا، وهذا؛ لأن عينه أمانة في يده فصار(4/415)
كالوديعة "وإن حفظه بغير من في عياله أو أودعه ضمن" هل يضمن الثاني فهو على الخلاف، وقد بينا جميع ذلك بدلائله في الوديعة "وإذا تعدى المرتهن في الرهن ضمنه ضمان الغصب بجميع قيمته"؛ لأن الزيادة على مقدار الدين أمانة، والأمانات تضمن بالتعدي "ولو رهنه خاتما فجعله في خنصره فهو ضامن"؛ لأنه متعد بالاستعمال؛ لأنه غير مأذون فيه، وإنما الإذن بالحفظ واليمنى واليسرى في ذلك سواء؛ لأن العادة فيه مختلفة "ولو جعله في بقية الأصابع كان رهنا بما فيه"؛ لأنه لا يلبس كذلك عادة فكان من باب الحفظ، وكذا الطيلسان إن لبسه لبسا معتادا ضمن، وإن وضعه على عاتقه لم يضمن "ولو رهنه سيفين أو ثلاثة فتقلدها لم يضمن في الثلاثة وضمن في السيفين"؛ لأن العادة جرت بين الشجعان بتقلد السيفين في الحرب ولم تجر بتقلد الثلاثة، وإن لبس خاتما فوق خاتم، إن كان هو ممن يتجمل بلبس خاتمين ضمن، وإن كان لا يتجمل بذلك فهو حافظ فلا يضمن.
قال: "وأجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن على المرتهن وكذلك أجرة الحافظ وأجرة الراعي ونفقة الرهن على الراهن" والأصل أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن العين باق على ملكه، وكذلك منافعه مملوكة له فيكون إصلاحه وتبقيته عليه لما أنه مؤنة ملكه كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة في مأكله ومشربه، وأجرة الراعي في معناه؛ لأنه علف الحيوان، ومن هذا الجنس كسوة الرقيق وأجرة ظئر ولد الرهن، وسقي البستان، وكري النهر وتلقيح نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه، وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه فيكون بدله عليه، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ الرهن فيه، وهذا في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أن كراء المأوى على الراهن بمنزلة النفقة؛ لأنه سعى في تبقيته، ومن هذا القسم جعل الآبق فإنه على المرتهن؛ لأنه محتاج إلى إعادة الاستيفاء التي كانت له ليرده فكانت مؤنة الرد فيلزمه، وهذا إذا كانت قيمة الرهن والدين سواء، وإن كانت قيمة الرهن أكثر فعليه بقدر المضمون وعلى الراهن بقدر الزيادة عليه؛ لأنه أمانة في يده والرد لإعادة اليد، ويده في الزيادة يد المالك إذ هو كالمودع فيها فلهذا يكون على المالك، وهذا بخلاف أجرة البيت الذي ذكرناه فإن كلها تجب على المرتهن، وإن كان في قيمة الرهن فضل؛ لأن وجوب ذلك بسبب الحبس، وحق الحبس في الكل ثابت له فأما الجعل إنما يلزمه لأجل الضمان فيتقدر بقدر المضمون.
قال: "ومداواة الجراحة والقروح ومعالجة الأمراض والفداء من الجناية تنقسم(4/416)
على المضمون والأمانة، والخراج على الراهن خاصة" لأنه من مؤن الملك.
قال: "والعشر فيما يخرج مقدم على حق المرتهن" لتعلقه بالعين ولا يبطل الرهن في الباقي؛ لأن وجوبه لا ينافي ملكه، بخلاف الاستحقاق.
قال: "وما أداه أحدهما مما وجب على صاحبه فهو متطوع، وما أنفق أحدهما مما يجب على الآخر بأمر القاضي رجع عليه" كأن صاحبه أمره به؛ لأن ولاية القاضي عامة وعن أبي حنيفة أنه لا يرجع إذا كان صاحبه حاضرا وإن كان بأمر القاضي وقال أبو يوسف إنه يرجع في الوجهين، وهي فرع مسألة الحجر، والله أعلم.(4/417)
باب ما يجوز ارتهانه والارتهان به وما لا يجوز
قال: "ولا يجوز رهن المشاع" وقال الشافعي: يجوز، ولنا فيه وجهان: أحدهما يبتني على حكم الرهن، فإنه عندنا ثبوت يد الاستيفاء، وهذا لا يتصور فيما يتناوله العقد وهو المشاع وعنده المشاع يقبل ما هو الحكم عنده وهو تعينه للبيع والثاني أن موجب الرهن هو الحبس الدائم؛ لأنه لم يشرع إلا مقبوضا بالنص، أو بالنظر إلى المقصود منه وهو الاستيثاق من الوجه الذي بيناه، وكل ذلك يتعلق بالدوام، ولا يفضي إليه إلا استحقاق الحبس، ولو جوزناه في المشاع يفوت الدوام؛ لأنه لا بد من المهايأة فيصير كما إذا قال رهنتك يوما ويوما لا، ولهذا لا يجوز فيما يحتمل القسمة وما لا يحتملها، بخلاف الهبة حيث يجوز فيما لا يحتمل القسمة؛ لأن المانع في الهبة غرامة القسمة وهو فيما يقسم، أما حكم الهبة الملك والمشاع يقبله، وها هنا الحكم ثبوت يد الاستيفاء والمشاع لا يقبله وإن كان لا يحتمل القسمة، ولا يجوز من شريكه؛ لأنه لا يقبل حكمه على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يسكن يوما بحكم الملك ويوما بحكم الرهن فيصير كأنه رهن يوما ويوما لا والشيوع الطارئ يمنع بقاء الرهن في رواية الأصل، وعن أبي يوسف أنه لا يمنع؛ لأن حكم البقاء أسهل من حكم الابتداء فأشبه الهبة وجه الأول أن الامتناع لعدم المحلية وما يرجع إليه، فالابتداء والبقاء سواء كالمحرمية في باب النكاح، بخلاف الهبة؛ لأن المشاع يقبل حكمها وهو الملك، واعتبار القبض في الابتداء لنفي الغرامة على ما بيناه، ولا حاجة إلى اعتباره في حالة البقاء ولهذا يصح الرجوع في بعض الهبة، ولا يجوز فسخ العقد في بعض الرهن.
قال: "ولا رهن ثمرة على رءوس النخيل، ولا زرع الأرض دون الأرض(4/417)
ولا رهن النخيل في الأرض دونها"؛ لأن المرهون متصل بما ليس بمرهون خلقة فكان في معنى الشائع.
قال: "وكذا إذا رهن الأرض دون النخيل أو دون الزرع أو النخيل دون الثمر"؛ لأن الاتصال يقوم بالطرفين، فصار الأصل أن المرهون إذا كان متصلا بما ليس بمرهون لم يجز؛ لأنه لا يمكن قبض المرهون وحده وعن أبي حنيفة أن رهن الأرض بدون الشجر جائز؛ لأن الشجر اسم للنابت فيكون استثناء الأشجار بمواضعها، بخلاف ما إذا رهن الدار دون البناء؛ لأن البناء اسم للمبنى فيصير راهنا جميع الأرض وهي مشغولة بملك الراهن.
قال: "ولو رهن النخيل بمواضعها جاز"؛ لأن هذه مجاورة وهي لا تمنع الصحة.
قال: "ولو كان فيه ثمر يدخل في الرهن"؛ لأنه تابع لاتصاله به فيدخل تبعا تصحيحا للعقد، بخلاف البيع؛ لأن بيع النخيل بدون الثمر جائز، ولا ضرورة إلى إدخاله من غير ذكر، وبخلاف المتاع في الدار حيث لا يدخل في رهن الدار من غير ذكره؛ لأنه ليس بتابع بوجه ما، وكذا يدخل الزرع والرطبة في رهن الأرض ولا يدخل في البيع لما ذكرنا في الثمرة "ويدخل البناء والغرس في رهن الأرض والدار والقرية" لما ذكرنا
قال: "ولو رهن الدار بما فيها جاز ولو استحق بعضه، إن كان الباقي يجوز ابتداء الرهن عليه وحده بقي رهنا بحصته وإلا بطل كله"؛ لأن الرهن جعل كأنه ما ورد إلا على الباقي، ويمنع التسليم كون الراهن أو متاعه في الدار المرهونة، وكذا متاعه في الوعاء المرهون، ويمنع تسليم الدابة المرهونة الحمل عليها فلا يتم حتى يلقي الحمل؛ لأنه شاغل لها، بخلاف ما إذا رهن الحمل دونها حيث يكون رهنا تاما إذا دفعها إليه؛ لأن الدابة مشغولة به فصار كما إذا رهن متاعا في دار أو في وعاء دون الدار والوعاء، بخلاف ما إذا رهن سرجا على دابة أو لجاما في رأسها ودفع الدابة مع السرج واللجام حيث لا يكون رهنا حتى ينزعه منها ثم يسلمه إليه؛ لأنه من توابع الدابة بمنزلة الثمرة للنخيل حتى قالوا يدخل فيه من غير ذكر.
قال: "ولا يصح الرهن بالأمانات" كالودائع والعواري والمضاربات.
قال: "ومال الشركة"؛ لأن القبض في باب الرهن قبض مضمون فلا بد من ضمان ثابت ليقع القبض مضمونا ويتحقق استيفاء الدين منه.
قال: "وكذلك لا يصح بالأعيان المضمونة بغيرها كالمبيع في يد البائع"؛ لأن الضمان ليس بواجب، فإنه إذا هلك العين لم يضمن البائع شيئا لكنه يسقط الثمن وهو حق البائع(4/418)
فلا يصح الرهن فأما الأعيان المضمونة بعينها وهو أن يكون مضمونا بالمثل أو بالقيمة عند هلاكه مثل المغصوب وبدل الخلع والمهر وبدل الصلح عن دم العمد يصح الرهن بها؛ لأن الضمان متقرر، فإنه إن كان قائما وجب تسليمه، وإن كان هالكا تجب قيمته فكان رهنا بما هو مضمون فيصح.
قال: "والرهن بالدرك باطل والكفالة بالدرك جائزة" والفرق أن الرهن للاستيفاء ولا استيفاء قبل الوجوب، وإضافة التمليك إلى زمان في المستقبل لا تجوز أما الكفالة فلالتزام المطالبة، والتزام الأفعال يصح مضافا إلى المآل كما في الصوم والصلاة، ولهذا تصح الكفالة بما ذاب له على فلان ولا يصح الرهن، فلو قبضه قبل الوجوب فهلك عنده يهلك أمانة؛ لأنه لا عقد حيث وقع باطلا، بخلاف الرهن بالدين الموعود وهو أن يقول رهنتك هذا لتقرضني ألف درهم وهلك في يد المرتهن حيث يهلك بما سمى من المال بمقابلته؛ لأن الموعود جعل كالموجود باعتبار الحاجة، ولأنه مقبوض بجهة الرهن الذي يصح على اعتبار وجوده فيعطى له حكمه كالمقبوض على سوم الشراء فيضمنه.
قال: "ويصح الرهن برأس مال السلم وبثمن الصرف والمسلم فيه" وقال زفر: لا يجوز؛ لأن حكمه الاستيفاء، وهذا استبدال لعدم المجانسة، وباب الاستبدال فيها مسدود ولنا أن المجانسة ثابتة في المالية فيتحقق الاستيفاء من حيث المال وهو المضمون على ما مر.
قال: "والرهن بالمبيع باطل" لما بينا أنه غير مضمون بنفسه.
قال: "فإن هلك ذهب بغير شيء"؛ لأنه لا اعتبار للباطل فبقي قبضا بإذنه.
قال: "وإن هلك الرهن بثمن الصرف ورأس مال السلم في مجلس العقد تم الصرف والسلم وصار المرتهن مستوفيا لدينه حكما" لتحقق القبض حكما.
قال: "وإن افترقا قبل هلاك الرهن بطلا" لفوات القبض حقيقة وحكما.
قال: "وإن هلك الرهن بالمسلم فيه بطل السلم بهلاكه" ومعناه: أنه يصير مستوفيا للمسلم فيه فلم يبق السلم.
قال: "ولو تفاسخا السلم وبالمسلم فيه رهن يكون ذلك رهنا برأس المال حتى يحبسه"؛ لأنه بدله فصار كالمغصوب إذا هلك وبه رهن يكون رهنا بقيمته.
قال: "ولو هلك الرهن بعد التفاسخ يهلك بالطعام المسلم فيه"؛ لأنه رهنه به، وإن كان محبوسا بغيره كمن باع عبدا وسلم المبيع وأخذ بالثمن رهنا ثم تقايلا البيع له أن يحبسه(4/419)
لأخذ المبيع؛ لأن الثمن بدله، ولو هلك المرهون يهلك بالثمن لما بينا؛ وكذا لو اشترى عبدا شراء فاسدا وأدى ثمنه له أن يحبسه ليستوفي الثمن، ثم لو هلك المشترى في يد المشتري يهلك بقيمته فكذا هذا.
قال: "ولا يجوز رهن الحر والمدبر والمكاتب وأم الولد"؛ لأن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء، ولا يتحقق الاستيفاء من هؤلاء لعدم المالية في الحر وقيام المانع في الباقين، ولا يجوز الرهن بالكفالة بالنفس، وكذا بالقصاص في النفس وما دونها لتعذر الاستيفاء، بخلاف ما إذا كانت الجناية خطأ لأن استيفاء الأرش من الرهن ممكن.
قال: "ولا يجوز الرهن بالشفعة"؛ لأن المبيع غير مضمون على المشتري.
قال: "ولا بالعبد الجاني والعبد المأذون والمديون"؛ لأنه غير مضمون على المولى، فإنه لو هلك لا يجب عليه شيء.
قال: "ولا بأجرة النائحة والمغنية، حتى لو ضاع لم يكن مضمونا"؛ لأنه لا يقابله شيء مضمون.
قال: "ولا يجوز للمسلم أن يرهن خمرا أو يرتهنه من مسلم أو ذمي" لتعذر الإيفاء والاستيفاء في حق المسلم، ثم الراهن إذا كان ذميا فالخمر مضمون عليه للذمي كما إذا غصبه، وإن كان المرتهن ذميا لم يضمنها للمسلم كما لا يضمنها بالغصب منه، بخلاف ما إذا جرى ذلك فيما بينهم؛ لأنها مال في حقهم، أما الميتة فليست بمال عندهم فلا يجوز رهنها وارتهانها فيما بينهم، كما لا يجوز فيما بين المسلمين بحال.
"ولو اشترى عبدا ورهن بثمنه عبدا أو خلا أو شاة مذبوحة ثم ظهر العبد حرا أو الخل خمرا أو الشاة ميتة فالرهن مضمون"؛ لأنه رهنه بدين واجب ظاهرا "وكذا إذا قتل عبدا ورهن بقيمته رهنا ثم ظهر أنه حر" وهذا كله على ظاهر الرواية "وكذا إذا صالح على إنكار ورهن بما صالح عليه رهنا ثم تصادقا أن لا دين فالرهن مضمون" وعن أبي يوسف خلافه، وكذا قياسه فيما تقدم من جنسه.
قال: "ويجوز للأب أن يرهن بدين عليه عبدا لابنه الصغير"؛ لأنه يملك الإيداع، وهذا أنظر في حق الصبي منه؛ لأن قيام المرتهن بحفظه أبلغ خيفة الغرامة "ولو هلك يهلك مضمونا، الوديعة تهلك أمانة والوصي بمنزلة الأب" في هذا الباب لما بينا وعن أبي يوسف وزفر أنه لا يجوز ذلك منهما، وهو القياس اعتبارا بحقيقة الإيفاء، ووجه الفرق على الظاهر وهو الاستحسان أن في حقيقة الإيفاء إزالة ملك الصغير من غير عوض يقابله في(4/420)
الحال، وفي هذا نصب حافظ لماله ناجزا مع بقاء ملكه فوضح الفرق "وإذا جاز الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه لو هلك في يده ويصير الأب" أو الوصي "موفيا له ويضمنه للصبي"؛ لأنه قضى دينه بماله، وكذا لو سلطا المرتهن على بيعه؛ لأنه توكيل بالبيع وهما يملكانه قالوا: أصل هذه المسألة البيع، فإن الأب أو الوصي إذا باع مال الصبي من غريم نفسه جاز وتقع المقاصة ويضمنه للصبي عندهما، وعند أبي يوسف لا تقع المقاصة، وكذا وكيل البائع بالبيع، والرهن نظير البيع نظرا إلى عاقبته من حيث وجوب الضمان.
"وإذا رهن الأب متاع الصغير من نفسه أو من ابن له صغير أو عبد له تاجر لا دين عليه جاز"؛ لأن الأب لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين وأقيمت عبارته مقام عبارتين في هذا العقد كما في بيعه مال الصغير من نفسه فتولى طرفي العقد "ولو ارتهنه الوصي من نفسه أو من هذين أو رهنا عينا له من اليتيم بحق لليتيم عليه لم يجز"؛ لأنه وكيل محض، والواحد لا يتولى طرفي العقد في الرهن كما لا يتولاهما في البيع، وهو قاصر الشفقة فلا يعدل عن الحقيقة في حقه إلحاقا له بالأب، والرهن من ابنه الصغير وعبده التاجر الذي ليس عليه دين بمنزلة الرهن من نفسه، بخلاف ابنه الكبير وأبيه وعبده الذي عليه دين؛ لأنه لا ولاية له عليهم، بخلاف الوكيل بالبيع إذا باع من هؤلاء؛ لأنه متهم فيه ولا تهمة في الرهن؛ لأن له حكما واحدا. "وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته وطعامه فرهن به متاعا لليتيم جاز"؛ لأن الاستدانة جائزة للحاجة والرهن يقع إيفاء للحق فيجوز "وكذلك لو اتجر لليتيم فارتهن أو رهن"؛ لأن الأولى له التجارة تثميرا لمال اليتيم فلا يجد بدا من الارتهان والرهن؛ لأنه إيفاء واستيفاء "وإذا رهن الأب متاع الصغير فأدرك الابن ومات الأب ليس للابن أن يرده حتى يقضي الدين" لوقوعه لازما من جانبه؛ إذ تصرف الأب بمنزلة تصرفه بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه "ولو كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن رجع به في مال الأب"؛ لأنه مضطر فيه لحاجته إلى إحياء ملكه فأشبه معير الرهن "وكذا إذا هلك قبل أن يفتكه"؛ لأن الأب يصير قاضيا دينه بماله فله أن يرجع عليه "ولو رهنه بدين على نفسه وبدين على الصغير جاز" لاشتماله على أمرين جائزين "فإن هلك ضمن الأب حصته من ذلك للولد" لإيفائه دينه من ماله بهذا المقدار، وكذلك الوصي، وكذلك الجد أب الأب إذا لم يكن الأب أو وصي الأب.
"ولو رهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه عليه وقبض المرتهن ثم استعاره الوصي لحاجة اليتيم فضاع في يد الوصي فإنه خرج من الرهن وهلك من مال اليتيم"؛ لأن فعل الوصي كفعله بنفسه بعد البلوغ؛ لأنه استعاره لحاجة الصبي والحكم فيه هذا على ما نبينه إن شاء الله تعالى "والمال دين على الوصي" معناه هو المطالب به "ثم يرجع بذلك على(4/421)
الصبي"؛ لأنه غير متعد في هذه الاستعارة؛ إذ هي لحاجة الصبي "ولو استعاره لحاجة نفسه ضمنه للصبي"؛ لأنه متعد؛ إذ ليس له ولاية الاستعمال في حاجة نفسه "ولو غصبه الوصي بعد ما رهنه فاستعمله لحاجة نفسه حتى هلك عنده فالوصي ضامن لقيمته"؛ لأنه متعد في حق المرتهن بالغصب والاستعمال، وفي حق الصبي بالاستعمال في حاجة نفسه، فيقضى به الدين إن كان قد حل "فإن كان قيمته مثل الدين أداه إلى المرتهن ولا يرجع على اليتيم"؛ لأنه وجب لليتيم عليه مثل ما وجب له على اليتيم فالتقيا قصاصا "وإن كانت قيمته أقل" من الدين "أدى قدر القيمة إلى المرتهن وأدى الزيادة من مال اليتيم"؛ لأن المضمون عليه قدر القيمة لا غير "وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين أدى قدر الدين من القيمة إلى المرتهن، والفضل لليتيم، وإن كان لم يحل الدين فالقيمة رهن"؛ لأنه ضامن للمرتهن بتفويت حقه المحترم فتكون رهنا عنده، ثم إذا حل الأجل كان الجواب على التفصيل الذي فصلناه.
"ولو أنه غصبه واستعمله لحاجة الصغير حتى هلك في يده يضمنه لحق المرتهن، ولا يضمنه لحق الصغير"؛ لأن استعماله لحاجة الصغير ليس بتعد، وكذا الأخذ؛ لأن له ولاية أخذ مال اليتيم، ولهذا قال في كتاب الإقرار: إذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا يلزمه شيء؛ لأنه لا يتصور غصبه لما أن له ولاية الأخذ، فإذا هلك في يده يضمنه للمرتهن يأخذه بدينه إن كان قد حل، ويرجع الوصي على الصغير؛ لأنه ليس بمتعد بل هو عامل له، وإن كان لم يحل يكون رهنا عند المرتهن، ثم إذا حل الدين يأخذ دينه منه ويرجع الوصي على الصبي بذلك لما ذكرنا.
قال: "ويجوز رهن الدراهم والدنانير والمكيل والموزون"؛ لأنه يتحقق الاستيفاء منه فكان محلا للرهن "فإن رهنت بجنسها فهلكت هلكت بمثلها من الدين وإن اختلفا في الجودة"؛ لأنه لا معتبر بالجودة عند المقابلة بجنسها، وهذا عند أبي حنيفة؛ لأن عنده يصير مستوفيا باعتبار الوزن دون القيمة، وعندهما يضمن القيمة من خلاف جنسه ويكون رهنا مكانه.
"وفي الجامع الصغير: فإن رهن إبريق فضة وزنه عشرة بعشرة فضاع فهو بما فيه" قال رضي الله عنه: معناه أن تكون قيمته مثل وزنه أو أكثر هذا الجواب في الوجهين بالاتفاق؛ لأن الاستيفاء عنده باعتبار الوزن وعندهما باعتبار القيمة، وهي مثل الدين في الأول وزيادة عليه في الثاني فيصير بقدر الدين مستوفيا " فإن كان قيمته أقل من الدين فهو على الخلاف" المذكور لهما أنه لا وجه إلى الاستيفاء بالوزن لما فيه من الضرر بالمرتهن، ولا إلى اعتبار القيمة؛ لأنه يؤدي إلى الربا فصرنا إلى التضمين، بخلاف الجنس لينتقض القبض(4/422)
ويجعل مكانه ثم يتملكه وله أن الجودة ساقطة العبرة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها، واستيفاء الجيد بالرديء جائز كما إذا تجوز به وقد حصل الاستيفاء بالإجماع ولهذا يحتاج إلى نقضه، ولا يمكن نقضه بإيجاب الضمان؛ لأنه لا يد له من مطالب ومطالب، وكذا الإنسان لا يضمن ملك نفسه وبتعذر التضمين يتعذر النقض، وقيل: هذه فريعة ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد فهلكت ثم علم بالزيافة يمنع الاستيفاء وهو معروف، غير أن البناء لا يصح ما هو المشهور؛ لأن محمدا فيها مع أبي حنيفة وفي هذا مع أبي يوسف والفرق لمحمد أنه قبض الزيوف ليستوفي من عينها، والزيافة لا تمنع الاستيفاء، وقد تم بالهلاك وقبض الرهن ليستوفي من محل آخر فلا بد من نقض القبض، وقد أمكن عنده بالتضمين، ولو انكسر الإبريق ففي الوجه الأول وهو ما إذا كانت قيمته مثل وزنه عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجبر على الفكاك؛ لأنه لا وجه إلى أن يذهب شيء من الدين؛ لأنه يصير قاضيا دينه بالجودة على الانفراد، ولا إلى أن يفتكه مع النقصان لما فيه من الضرر فخيرناه، إن شاء افتكه بما فيه وإن شاء ضمنه قيمته من جنسه أو خلاف جنسه، وتكون رهنا عند المرتهن، والمكسور للمرتهن بالضمان وعند محمد إن شاء افتكه ناقصا، وإن شاء جعله بالدين اعتبارا لحالة الانكسار بحالة الهلاك، وهذا؛ لأنه لما تعذر الفكاك مجانا صار بمنزلة الهلاك، وفي الهلاك الحقيقي مضمون بالدين بالإجماع فكذا فيما هو في معناه.
قلنا: الاستيفاء عند الهلاك بالمالية، وطريقه أن يكون مضمونا بالقيمة ثم تقع المقاصة، وفي جعله بالدين إغلاق الرهن وهو حكم جاهلي فكان التضمين بالقيمة أولى وفي الوجه الثالث وهو ما إذا كانت قيمته أقل من وزنه ثمانية يضمن قيمته جيدا من خلاف جنسه أو رديئا من جنسه وتكون رهنا عنده، وهذا بالاتفاق أما عندهما فظاهر وكذلك عند محمد؛ لأنه يعتبر حالة الانكسار بحالة الهلاك، والهلاك عنده بالقيمة وفي الوجه الثاني وهو ما إذا كانت قيمته أكثر من وزنه اثني عشر عند أبي حنيفة يضمن جميع قيمته وتكون رهنا عنده؛ لأن العبرة للوزن عنده لا للجودة والرداءة فإن كان باعتبار الوزن كله مضمونا يجعل كله مضمونا، وإن كان بعضه فبعضه، وهذا لأن الجودة تابعة للذات، ومتى صار الأصل مضمونا استحال أن يكون التابع أمانة وعند أبي يوسف يضمن خمسة أسداس قيمته، ويكون خمسة أسداس الإبريق له بالضمان وسدسه يفرز حتى لا يبقى الرهن شائعا، ويكون مع قيمته خمسة أسداس المكسور رهنا؛ فعنده تعتبر الجودة والرداءة، وتجعل زيادة القيمة كزيادة الوزن كأن وزنه اثنا عشر، وهذا لأن الجودة متقومة(4/423)
في ذاتها حتى تعتبر عند المقابلة، بخلاف جنسها، وفي تصرف المريض، وإن كانت لا تعتبر عند المقابلة بجنسها سمعا فأمكن اعتبارها، وفي بيان قول محمد نوع طول يعرف في موضعه من المبسوط والزيادات مع جميع شعبها.
قال: "ومن باع عبدا على أن يرهنه المشتري شيئا بعينه جاز استحسانا" والقياس أن لا يجوز، وعلى هذا القياس والاستحسان إذا باع شيئا على أن يعطيه كفيلا معينا حاضرا في المجلس فقبل وجه القياس أنه صفقة في صفقة وهو منهي عنه، ولأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحدهما، ومثله يفسد البيع وجه الاستحسان أنه شرط ملائم للعقد؛ لأن الكفالة والرهن للاستيثاق وأنه يلائم الوجوب، فإذا كان الكفيل حاضرا في المجلس والرهن معينا اعتبرنا فيه المعنى وهو ملائم فصح العقد، وإذا لم يكن الرهن ولا الكفيل معينا أو كان الكفيل غائبا حتى افترقا لم يبق معنى الكفالة والرهن للجهالة فبقي الاعتبار لعينه فيفسد، ولو كان غائبا فحضر في المجلس وقبل صح "ولو امتنع المشتري عن تسليم الرهن لم يجبر عليه" وقال زفر: يجبر؛ لأن الرهن إذا شرط في البيع صار حقا من حقوقه كالوكالة المشروطة في الرهن فيلزمه بلزومه ونحن نقول: الرهن عقد تبرع من جانب الراهن على ما بيناه ولا جبر على التبرعات "ولكن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن وإن شاء فسخ البيع"؛ لأنه وصف مرغوب فيه وما رضي إلا به فيتخير بفواته "إلا أن يدفع المشتري الثمن حالا" لحصول المقصود "أو يدفع قيمة الرهن رهنا"؛ لأن يد الاستيفاء تثبت على المعنى وهو القيمة.
قال: "ومن اشترى ثوبا بدراهم فقال للبائع أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن فالثوب رهن"؛ لأنه أتى بما ينبئ عن معنى الرهن وهو الحبس إلى وقت الإعطاء، والعبرة في العقود للمعاني حتى كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة في ضد ذلك كفالة وقال زفر: لا يكون رهنا، ومثله عن أبي يوسف؛ لأن قوله: أمسك يحتمل الرهن ويحتمل الإيداع، والثاني أقلهما فيقضي بثبوته بخلاف ما إذا قال: أمسكه بدينك أو بمالك؛ لأنه لما قابله بالدين فقد عين جهة الرهن قلنا: لما مده إلى الإعطاء علم أن مراده الرهن.(4/424)
فصل: "ومن رهن عبدين بألف فقضى حصة أحدهما لم يكن له أن يقبضه حتى يؤدي باقي الدين"
وحصة كل واحد منهما ما يخصه إذا قسم الدين على قيمتهما، وهذا؛ لأن الرهن(4/424)
محبوس بكل الدين فيكون محبوسا بكل جزء من أجزائه مبالغة في حمله على قضاء الدين وصار كالمبيع في يد البائع، فإن سمى لكل واحد من أعيان الرهن شيئا من المال الذي رهنه به، فكذا الجواب في رواية الأصل: وفي الزيادات: له أن يقبضه إذا أدى ما سمى له وجه الأول أن العقد متحد لا يتفرق بتفرق التسمية كما في المبيع وجه الثاني أنه لا حاجة إلى الاتحاد؛ لأن أحد العقدين لا يصير مشروطا في الآخر؛ ألا يرى أنه لو قبل الرهن في أحدهما جاز.
قال: "فإن رهن عينا واحدة عند رجلين بدين لكل واحد منهما عليه جاز، وجميعها رهن عند كل واحد منهما"؛ لأن الرهن أضيف إلى جميع العين في صفقة واحدة ولا شيوع فيه، وموجبه صيرورته محتبسا بالدين، وهذا مما لا يقبل الوصف بالتجزي فصار محبوسا بكل واحد منها، وهذا بخلاف الهبة من رجلين حيث لا تجوز عند أبي حنيفة "فإن تهايآ فكل واحد منهما في نوبته كالعدل في حق الآخر والمضمون على كل واحد منهما حصته من الدين"؛ لأن عند الهلاك يصير كل واحد منهما مستوفيا حصته؛ إذ الاستيفاء مما يتجزأ.
قال: "فإن أعطى أحدهما دينه كان كله رهنا في يد الآخر"؛ لأن جميع العين رهن في يد كل واحد منهما من غير تفرق وعلى هذا حبس المبيع إذا أدى أحد المشتريين حصته من الثمن.
قال: "وإن رهن رجلان بدين عليهما رجلا رهنا واحدا فهو جائز والرهن رهن بكل الدين، وللمرتهن أن يمسكه حتى يستوفي جميع الدين"؛ لأن قبض الرهن يحصل في الكل من غير شيوع "فإن أقام الرجلان كل واحد منهما البينة على رجل أنه رهنه عبده الذي في يده وقبضه فهو باطل"؛ لأن كل واحد منهما أثبت ببينته أنه رهنه كل العبد، ولا وجه إلى القضاء لكل واحد منهما بالكل؛ لأن العبد الواحد يستحيل أن يكون كله رهنا لهذا وكله رهنا لذلك في حالة واحدة، ولا إلى القضاء بكله لواحد بعينه لعدم الأولوية، ولا إلى القضاء لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنه يؤدي إلى الشيوع فتعذر العمل بهما وتعين التهاتر ولا يقال: إنه يكون رهنا لهما كأنهما ارتهناه معا إذا جهل التاريخ بينهما، وجعل في كتاب الشهادات هذا وجه الاستحسان لأنا نقول: هذا عمل على خلاف ما اقتضته الحجة؛ لأن كلا منهما أثبت ببينته حبسا يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء، وبهذا القضاء يثبت حبس يكون وسيلة إلى شطره في الاستيفاء، وليس هذا عملا على وفق الحجة، وما ذكرناه وإن كان قياسا لكن محمدا أخذ به لقوته، وإذا وقع باطلا فلو هلك يهلك أمانة؛ لأن الباطل لا حكم له.(4/425)
قال: "ولو مات الراهن والعبد في أيديهما فأقام كل واحد منهما البينة على ما وصفناه كان في يد كل واحد منهما نصفه رهنا يبيعه بحقه استحسانا" وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وفي القياس: هذا باطل، وهو قول أبي يوسف؛ لأن الحبس للاستيفاء حكم أصلي لعقد الرهن فيكون القضاء به قضاء بعقد الرهن وأنه باطل للشيوع كما في حالة الحياة وجه الاستحسان أن العقد لا يراد لذاته، وإنما يراد لحكمه، وحكمه في حالة الحياة الحبس والشيوع يضره، وبعد الممات الاستيفاء بالبيع في الدين والشيوع لا يضره، وصار كإذا ادعى الرجلان نكاح امرأة أو ادعت أختان النكاح على رجل وأقاموا البينة تهاترت في حالة الحياة ويقضى بالميراث بينهم بعد الممات؛ لأنه يقبل الانقسام، والله أعلم.(4/426)
باب الرهن يوضع على يد العدل
قال: "وإذا اتفقا على وضع الرهن على يد العدل جاز وقال مالك: لا يجوز" ذكر قوله في بعض النسخ؛ لأن يد العدل يد المالك ولهذا يرجع العدل عليه عند الاستحقاق فانعدم القبض ولنا أن يده على الصورة يد المالك في الحفظ؛ إذ العين أمانة، وفي حق المالية يد المرتهن؛ لأن يده يد ضمان والمضمون هو المالية فنزل منزلة الشخصين تحقيقا لما قصداه من الرهن، وإنما يرجع العدل على المالك في الاستحقاق؛ لأنه نائب عنه في حفظ العين كالمودع.
قال: "وليس للمرتهن ولا للراهن أن يأخذه منه" لتعلق حق الراهن في الحفظ بيده وأمانته وتعلق حق المرتهن به استيفاء فلا يملك أحدهما إبطال حق الآخر "فلو هلك في يده هلك في ضمان المرتهن"؛ لأن يده في حق المالية يد المرتهن وهي المضمونة "ولو دفع العدل إلى الراهن أو المرتهن ضمن"؛ لأنه مودع الراهن في حق العين ومودع المرتهن في حق المالية وأحدهما أجنبي عن الآخر، والمودع يضمن بالدفع إلى الأجنبي "وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بعد ما دفع إلى أحدهما وقد استهلكه المدفوع عليه أو هلك في يده لا يقدر أن يجعل القيمة رهنا في يده"؛ لأنه يصير قاضيا ومقتضيا وبينهما تناف، لكن يتفقان على أن يأخذاها منه ويجعلاها رهنا عنده أو عند غيره ولو تعذر اجتماعهما يرفع أحدهما إلى القاضي ليفعل كذلك، ولو فعل ذلك ثم قضى الراهن الدين وقد ضمن العدل القيمة بالدفع إلى الراهن فالقيمة سالمة له لوصول المرهون إلى الراهن ووصول الدين إلى المرتهن ولا يجتمع البدل والمبدل في ملك واحد "وإن كان ضمنها بالدفع إلى المرتهن فالراهن يأخذ(4/426)
القيمة منه"؛ لأن العين لو كانت قائمة في يده يأخذها إذا أدى الدين، فكذلك يأخذ ما قام مقامها، ولا جمع فيه بين البدل والمبدل.
قال: "وإذا وكل الراهن المرتهن أو العدل أو غيرهما ببيع الرهن عند حلول الدين فالوكالة جائزة"؛ لأنه توكيل ببيع ماله "وإن شرطت في عقد الرهن فليس للراهن أن يعزل الوكيل، وإن عزله لم ينعزل"؛ لأنها لما شرطت في ضمن عقد الرهن صار وصفا من أوصافه وحقا من حقوقه؛ ألا ترى أنه لزيادة الوثيقة فيلزم بلزوم أصله، ولأنه تعلق به حق المرتهن وفي العزل إتواء حقه وصار كالوكيل بالخصومة بطلب المدعي "ولو وكله بالبيع مطلقا حتى ملك البيع بالنقد والنسيئة ثم نهاه عن البيع نسيئة لم يعمل نهيه"؛ لأنه لازم بأصله، فكذا بوصفه لما ذكرنا، "وكذا إذا عزله المرتهن لا ينعزل؛ لأنه لم يوكله وإنما وكله غيره وإن مات الراهن لم ينعزل"؛ لأن الرهن لا يبطل بموته ولأنه لو بطل إنما يبطل لحق الورثة وحق المرتهن مقدم.
قال: "وللوكيل أن يبيعه بغير محضر من الورثة كما يبيعه في حال حياته بغير محضر منه، وإن مات المرتهن فالوكيل على وكالته"؛ لأن العقد لا يبطل بموتهما ولا بموت أحدهما فيبقى بحقوقه وأوصافه "وإن مات الوكيل انتقضت الوكالة ولا يقوم وارثه ولا وصيه مقامه"؛ لأن الوكالة لا يجري فيها الإرث، ولأن الموكل رضي برأيه لا برأي غيره وعن أبي يوسف إن وصي الوكيل يملك بيعه؛ لأن الوكالة لازمة فيملكه الوصي، كالمضارب إذا مات بعدما صار رأس المال أعيانا يملك وصي المضارب بيعها لما أنه لازم بعد ما صار أعيانا.
قلنا: التوكيل حق لازم لكن عليه، والإرث يجري فيما له بخلاف المضاربة؛ لأنها حق المضارب "وليس للمرتهن أن يبيعه إلا برضا الراهن"؛ لأنه ملكه وما رضي ببيعه "وليس للراهن أن يبيعه إلا برضا المرتهن"؛ لأن المرتهن أحق بماليته من الراهن فلا يقدر الراهن على تسليمه بالبيع.
قال: "فإن حل الأجل وأبى الوكيل الذي في يده الرهن أن يبيعه والراهن غائب أجبر على بيعه" لما ذكرنا من الوجهين في لزومه "وكذلك الرجل يوكل غيره بالخصومة وغاب الموكل فأبى أن يخاصم أجبر على الخصومة" للوجه الثاني وهو أن فيه إتواء الحق، بخلاف الوكيل بالبيع؛ لأن الموكل يبيع بنفسه فلا يتوي حقه.
أما المدعي لا يقدر على الدعوى والمرتهن لا يملك بيعه بنفسه، فلو لم يكن التوكيل(4/427)
مشروطا في عقد الرهن وإنما شرط بعده قيل لا يجبر اعتبارا بالوجه الأول، وقيل يجبر رجوعا إلى الوجه الثاني، وهذا أصح وعن أبي يوسف رحمه الله أن الجواب في الفصلين واحد، ويؤيده إطلاق الجواب في الجامع الصغير وفي الأصل.
"وإذا باع العدل الرهن فقد خرج من الرهن، والثمن قائم مقامه فكان رهنا، وإن لم يقبض بعد" لقيامه مقام ما كان مقبوضا، وإذا توى كان مال المرتهن لبقاء عقد الرهن في الثمن لقيامه مقام المبيع المرهون، وكذلك إذا قتل العبد الرهن وغرم القاتل قيمته؛ لأن المالك لا يستحقه من حيث المالية، وإن كان بدل الدم فأخذ حكم ضمان المال في حق المستحق فبقي عقد الرهن، وكذلك لو قتله عبد فدفع به؛ لأنه قائم مقام الأول لحما ودما.
قال: "وإن باع العدل الرهن فأوفى المرتهن الثمن ثم استحق الرهن فضمنه العدل كان بالخيار، إن شاء ضمن الراهن قيمته، وإن شاء ضمن المرتهن الثمن الذي أعطاه، وليس له أن يضمنه غيره" وكشف هذا أن المرهون المبيع إذا استحق إما أن يكون هالكا أو قائما ففي الوجه الأول المستحق بالخيار إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب في حقه، وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه بالبيع والتسليم فإن ضمن الراهن نفذ البيع وصح الاقتضاء؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه أمره ببيع ملك نفسه، وإن ضمن البائع ينفذ البيع أيضا؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه باع ملك نفسه وإذا ضمن العدل فالعدل بالخيار، إن شاء رجع على الراهن بالقيمة؛ لأنه وكيل من جهته عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة ونفذ البيع وصح الاقتضاء فلا يرجع المرتهن عليه بشيء من دينه، وإن شاء رجع على المرتهن بالثمن؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛ لأنه ملك العبد بأداء الضمان ونفذ بيعه عليه فصار الثمن له، وإنما أداه إليه على حسبان أنه ملك الراهن، فإذا تبين أنه ملكه لم يكن راضيا به فله أن يرجع به عليه، وإذا رجع بطل الاقتضاء فيرجع المرتهن على الراهن بدينه وفي الوجه الثاني وهو أن يكون قائما في يد المشتري فللمستحق أن يأخذه من يده؛ لأنه وجد عين ماله ثم للمشتري أن يرجع على العدل بالثمن؛ لأنه العاقد فتتعلق به حقوق العقد، وهذا من حقوقه حيث وجب بالبيع، وإنما أداه ليسلم له المبيع ولم يسلم ثم العدل بالخيار إن شاء رجع على الراهن بالقيمة؛ لأنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه وإذا رجع عليه صح قبض المرتهن؛ لأن المقبوض سلم له، وإن شاء رجع على المرتهن؛ لأنه إذا انتقض العقد بطل الثمن وقد قبضه ثمنا فيجب نقض قبضه ضرورة، وإذا رجع عليه وانتقض قبضه عاد حقه في الدين كما كان فيرجع به على الراهن ولو أن المشتري سلم الثمن إلى المرتهن لم يرجع على العدل؛ لأنه في البيع عامل للراهن، وإنما(4/428)
يرجع عليه إذا قبض ولم يقبض فبقي الضمان على الموكل، ولو كان التوكيل بعد عقد الرهن غير مشروط في العقد فما لحق العدل من العهدة يرجع به على الراهن قبض الثمن المرتهن أم لا؛ لأنه لم يتعلق بهذا التوكيل حق المرتهن فلا رجوع، كما في الوكالة المفردة عن الرهن إذا باع الوكيل ودفع الثمن إلى من أمره الموكل ثم لحقه عهدة لا يرجع به على المقتضى، بخلاف الوكالة المشروطة في العقد؛ لأنه تعلق به حق المرتهن فيكون البيع لحقه.
قال رضي الله عنه: هكذا ذكر الكرخي، وهذا يؤيد قول من لا يرى جبر هذا الوكيل على البيع
قال: "وإن مات العبد المرهون في يد المرتهن ثم استحقه رجل فله الخيار، إن شاء ضمن الراهن، وإن شاء ضمن المرتهن"؛ لأن كل واحد منهما متعد في حقه بالتسليم أو بالقبض "فإن ضمن الراهن فقد مات بالدين"؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فصح الإيفاء "وإن ضمن المرتهن يرجع على الراهن بما ضمن من القيمة وبدينه" أما بالقيمة فلأنه مغرور من جهة الراهن، وأما بالدين فلأنه انتقض اقتضاؤه فيعود حقه كما كان فإن قيل: لما كان قرار الضمان على الراهن برجوع المرتهن عليه، والملك في المضمون يثبت لمن عليه قرار الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه فصار كما إذا ضمن المستحق الراهن ابتداء.
قلنا: هذا طعن أبي خازم القاضي والجواب عنه أنه يرجع عليه بسبب الغرور والغرور بالتسليم كما ذكرناه، أو بالانتقال من المرتهن إليه كأنه وكيل عنه، والملك بكل ذلك متأخر عن عقد الرهن، بخلاف الوجه الأول؛ لأن المستحق يضمنه باعتبار القبض السابق على الرهن فيستند الملك إليه فتبين أنه رهن ملك نفسه وقد طولنا الكلام في كفاية المنتهى والله أعلم بالصواب.(4/429)
باب التصرف في الرهن والجناية عليه وجنايته على غيره
قال: "وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فالبيع موقوف" لتعلق حق الغير به وهو المرتهن فيتوقف على إجازته، وإن كان الراهن يتصرف في ملكه كمن أوصى بجميع ماله تقف على إجازة الورثة فيما زاد على الثلث لتعلق حقهم به "فإن أجاز المرتهن جاز"؛ لأن التوقف لحقه وقد رضي بسقوطه "وإن قضاه الراهن دينه جاز أيضا"؛ لأنه زال المانع من النفوذ والمقتضي موجود وهو التصرف الصادر من الأهل في المحل "وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن ينتقل حقه إلى بدله هو الصحيح"؛ لأن حقه تعلق بالمالية، والبدل له حكم المبدل فصار كالعبد المديون المأذون إذا بيع برضا الغرماء ينتقل حقهم إلى البدل؛ لأنهم رضوا(4/429)
بالانتقال دون السقوط رأسا فكذا هذا "وإن لم يجز المرتهن البيع وفسخه انفسخ في رواية، حتى لو افتك الراهن الرهن لا سبيل للمشتري عليه"؛ لأن الحق الثابت للمرتهن بمنزلة الملك فصار كالمالك له أن يجيز وله أن يفسخ "وفي أصح الروايتين لا ينفسخ بفسخه"؛ لأنه لو ثبت حق الفسخ له إنما يثبت ضرورة صيانة حقه، وحقه في الحبس لا يبطل بانعقاد هذا العقد فبقي موقوفا، فإن شاء المشتري صبر حتى يفتك الراهن الرهن؛ إذ العجز على شرف الزوال، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي، وللقاضي أن يفسخ لفوات القدرة على التسليم، وولاية الفسخ إلى القاضي لا إليه، وصار كما إذا أبق العبد المشترى قبل القبض فإنه يتخير المشتري لما ذكرنا كذلك هذا.
"ولو باعه الراهن من رجل ثم باعه بيعا ثانيا من غيره قبل أن يجيزه المرتهن فالثاني موقوف أيضا على إجازته"؛ لأن الأول لم ينفذ والموقوف لا يمنع توقف الثاني، فلو أجاز المرتهن البيع الثاني جاز الثاني
"ولو باع الراهن ثم أجر أو وهب أو رهن من غيره، وأجاز المرتهن هذه العقود جاز البيع الأول" والفرق أن المرتهن ذو حظ من البيع الثاني؛ لأنه يتعلق حقه ببدله فيصح تعيينه لتعلق فائدته به، أما لا حق له في هذه العقود؛ لأنه لا بدل في الهبة والرهن، والذي في الإجارة بدل المنفعة لا بدل العين، وحقه في مالية العين لا في المنفعة فكانت إجازته إسقاطا لحقه فزال المانع فنفذ البيع الأول فوضح الفرق.
قال: "ولو أعتق الراهن عبد الرهن نفذ عتقه" وفي بعض أقوال الشافعي لا ينفذ إذا كان المعتق معسرا؛ لأن في تنفيذه إبطال حق المرتهن فأشبه البيع، بخلاف ما إذا كان موسرا حيث ينفذ على بعض أقواله؛ لأنه لا يبطل حقه معنى بالتضمين، وبخلاف إعتاق المستأجر؛ لأن الإجارة تبقى مدتها؛ إذ الحر يقبلها، أما ما لا يقبل الرهن فلا يبقى ولنا أنه مخاطب أعتق ملك نفسه فلا يلغو بصرفه بعدم إذن المرتهن كما إذا أعتق العبد المشترى قبل القبض أو أعتق الآبق أو المغصوب، ولا خفاء في قيام ملك الرقبة لقيام المقتضي، وعارض الرهن لا ينبئ عن زواله ثم إذا زال ملكه في الرقبة بإعتاقه يزول ملك المرتهن في اليد بناء عليه كإعتاق العبد المشترك، بل أولى؛ لأن ملك الرقبة أقوى من ملك اليد، فلما لم يمنع الأعلى لا يمنع الأدنى بالطريق الأولى، وامتناع النفاذ في البيع والهبة لانعدام القدرة على التسليم، وإعتاق الوارث العبد الموصى برقبته لا يلغو بل يؤخر إلى أداء السعاية عند أبي حنيفة، وإذا نفذ الإعتاق بطل الرهن لفوات محله "ثم" بعد ذلك "إن كان الراهن موسرا، والدين حالا طولب بأداء الدين"؛ لأنه لو طولب بأداء القيمة تقع المقاصة بقدر الدين فلا فائدة فيه "وإن كان الدين مؤجلا أخذت منه قيمة العبد وجعلت رهنا مكانه حتى يحل(4/430)
الدين" لأن سبب الضمان متحقق، وفي التضمين فائدة فإذا حل الدين اقتضاه بحقه إذا كان من جنس حقه ورد الفضل "وإن كان معسرا سعى العبد في قيمته وقضى به الدين إلا إذا كان بخلاف جنس حقه"؛ لأنه لما تعذر الوصول إلى عين حقه من جهة المعتق يرجع إلى من ينتفع بعتقه وهو العبد؛ لأن الخراج بالضمان.
قال رضي الله عنه: وتأويله إذا كانت القيمة أقل من الدين، أما إذا كان الدين أقل نذكره إن شاء الله تعالى "ثم يرجع بما سعى على مولاه إذا أيسر"؛ لأنه قضى دينه وهو مضطر فيه بحكم الشرع فيرجع عليه بما تحمل عنه، بخلاف المستسعى في الإعتاق؛ لأنه يؤدي ضمانا عليه؛ لأنه إنما يسعى لتحصيل العتق عنده وعندهما لتكميله، وهنا يسعى في ضمان على غيره بعد تمام إعتاقه فصار كمعير الرهن ثم أبو حنيفة أوجب السعاية في المستسعى المشترك في حالتي اليسار والإعسار، وفي العبد المرهون شرط الإعسار؛ لأن الثابت للمرتهن حق الملك وأنه أدنى من حقيقته الثابتة للشريك الساكت فوجب السعاية هنا في حالة واحدة إظهار النقصان رتبته بخلاف المشترى قبل القبض إذا أعتقه المشتري حيث لا يسعى للبائع إلا رواية عن أبي يوسف والمرهون يسعى؛ لأن حق البائع في الحبس أضعف؛ لأن البائع لا يملكه في الآخرة ولا يستوفى من عينه، وكذلك يبطل حقه في الحبس بالإعارة من المشتري، والمرتهن ينقلب حقه ملكا، ولا يبطل حقه بالإعارة من الراهن حتى يمكنه الاسترداد، فلو أوجبنا السعاية فيهما لسوينا بين الحقين وذلك لا يجوز.
"ولو أقر المولى برهن عبده بأن قال له رهنتك عند فلان وكذبه العبد ثم أعتقه تجب السعاية" عندنا خلافا لزفر، وهو يعتبر، بإقراره بعد العتق ونحن نقول أقر بتعلق الحق في حال يملك التعليق فيه لقيام ملكه فيصح، بخلاف ما بعد العتق؛ لأنه حال انقطاع الولاية.
قال: "ولو دبره الراهن صح تدبيره بالاتفاق" أما عندنا فظاهر، وكذا عنده؛ لأن التدبير لا يمنع البيع على أصله "ولو كانت أمة فاستولدها الراهن صح الاستيلاد بالاتفاق"؛ لأنه يصح بأدنى الحقين وهو ما للأب في جارية الابن فيصح بالأعلى "وإذا صحا خرجا من الرهن" لبطلان المحلية؛ إذ لا يصح استيفاء الدين منهما "فإن كان الراهن موسرا ضمن قيمتهما" على التفصيل الذي ذكرناه في الإعتاق "وإن كان معسرا استسعى المرتهن المدبر وأم الولد في جميع الدين"؛ لأن كسبهما مال المولى، بخلاف المعتق حيث يسعى في الأقل من الدين ومن القيمة؛ لأن كسبه حقه، والمحتبس عنده ليس إلا قدر القيمة فلا يزاد عليه، وحق المرتهن بقدر الدين فلا تلزمه الزيادة ولا يرجعان بما يؤديان على المولى بعد يساره؛ لأنهما أدياه من مال(4/431)
المولى، والمعتق يرجع؛ لأنه أدى ملكه عنه وهو مضطر على ما مر وقيل الدين إذا كان مؤجلا يسعى المدبر في قيمته قنا؛ لأنه عوض الرهن حتى تحبس مكانه فيتقدر بقدر العوض، بخلاف ما إذا كان حالا؛ لأنه يقضي به الدين، ولو أعتق الراهن المدبر وقد قضى عليه بالسعاية أو لم يقض لم يسع إلا بقدر القيمة؛ لأن كسبه بعد العتق ملكه، وما أداه قبل العتق لا يرجع به على مولاه لأنه أداه من مال المولى.
قال: "وكذلك لو استهلك الراهن الرهن"؛ لأنه حق محترم مضمون عليه بالإتلاف، والضمان رهن في يد المرتهن لقيامه مقام العين "فإن استهلكه أجنبي فالمرتهن هو الخصم في تضمينه فيأخذ القيمة وتكون رهنا في يده"؛ لأنه أحق بعين الرهن حال قيامه فكذا في استرداد ما قام مقامه، والواجب على هذا المستهلك قيمته يوم هلك، فإن كانت قيمته يوم استهلكه خمسمائة ويوم رهن ألفا غرم خمسمائة وكانت رهنا وسقط من الدين خمسمائة فصار الحكم في الخمسمائة الزيادة كأنها هلكت بآفة سماوية، والمعتبر في ضمان الرهن القيمة يوم القبض لا يوم الفكاك؛ لأن القبض السابق مضمون عليه؛ لأنه قبض استيفاء، إلا أنه يتقرر عند الهلاك.
"ولو استهلكه المرتهن والدين مؤجل غرم القيمة"؛ لأنه أتلف ملك الغير "وكانت رهنا في يده حتى يحل الدين"؛ لأن الضمان بدل العين فأخذ حكمه "وإذا حل الدين وهو على صفة القيمة استوفى المرتهن منها قدر حقه"؛ لأنه جنس حقه "ثم إن كان فيه فضل يرده على الراهن"؛ لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن حق المرتهن "وإن نقصت عن الدين بتراجع السعر إلى خمسمائة وقد كانت قيمته يوم الرهن ألفا وجب بالاستهلاك خمسمائة وسقط من الدين خمسمائة"؛ لأن ما انتقص كالهالك وسقط الدين بقدره، وتعتبر قيمته يوم القبض فهو مضمون بالقبض السابق لا بتراجع السعر، ووجب عليه الباقي بالإتلاف وهو قيمته يوم أتلف.
قال: "وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملا فقبضه خرج من ضمان المرتهن" لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن "فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء" لفوات القبض المضمون "وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده"؛ لأن عقد الرهن باق إلا في حكم الضمان في الحال.
ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا؛ لأن يد العارية ليست بلازمة والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال؛ ألا ترى أن حكم الرهن ثابت في ولد الرهن وإن لم يكن مضمونا بالهلاك، وإذا بقي عقد(4/432)
الرهن فإذا أخذه عاد الضمان؛ لأنه عاد القبض في عقد الرهن فيعود بصفته "وكذلك لو أعاره أحدهما أجنبيا بإذن الآخر سقط حكم الضمان" لما قلنا "ولكل واحد منهما أن يرده رهنا كما كان"؛ لأن لكل واحد منهما حقا محترما فيه وهذا بخلاف الإجارة والبيع والهبة من أجنبي إذا باشرها أحدهما بإذن الآخر حيث يخرج عن الرهن فلا يعود إلا بعقد مبتدأ.
"ولو مات الراهن قبل الرد إلى المرتهن يكون المرتهن أسوة للغرماء"؛ لأنه تعلق بالرهن حق لازم بهذه التصرفات فيبطل به حكم الرهن، أما بالعارية لم يتعلق به حق لازم فافترقا.
"وإذا استعار المرتهن الرهن من الراهن ليعمل به فهلك قبل أن يأخذ في العمل هلك على ضمان الرهن" لبقاء يد الرهن "وكذا إذا هلك بعد الفراغ من العمل" لارتفاع يد العارية "ولو هلك في حالة العمل هلك بغير ضمان" لثبوت يد العارية بالاستعمال، وهي مخالفة ليد الراهن فانتفى الضمان "وكذا إذا أذن الراهن للمرتهن بالاستعمال" لما بيناه.
"ومن استعار من غيره ثوبا ليرهنه فما رهنه به من قليل أو كثير فهو جائز"؛ لأنه متبرع بإثبات ملك اليد فيعتبر بالتبرع بإثبات ملك العين واليد وهو قضاء الدين، ويجوز أن ينفصل ملك اليد عن ملك العين ثبوتا للمرتهن كما ينفصل زوالا في حق البائع، والإطلاق واجب الاعتبار خصوصا في الإعارة؛ لأن الجهالة فيها لا تفضي إلى المنازعة.
"ولو عين قدرا لا يجوز للمستعير أن يرهنه بأكثر منه، ولا بأقل منه"؛ لأن التقييد مفيد، وهو ينفي الزيادة؛ لأن غرضه الاحتباس بما تيسر أداؤه، وينفي النقصان أيضا؛ لأن غرضه أن يصير مستوفيا للأكثر بمقابلته عند الهلاك ليرجع به عليه "وكذلك التقييد بالجنس وبالمرتهن وبالبلد"؛ لأن كل ذلك مفيد لتيسر البعض بالإضافة إلى البعض وتفاوت الأشخاص في الأمانة والحفظ "فإذا خالف كان ضامنا، ثم إن شاء المعير ضمن المستعير ويتم عقد الرهن فيما بينه وبين المرتهن"؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه "وإن شاء ضمن المرتهن، ويرجع المرتهن بما ضمن وبالدين على الراهن" وقد بيناه في الاستحقاق "وإن وافق" بأن رهنه بمقدار ما أمره به "إن كانت قيمته مثل الدين أو أكثر فهلك عند المرتهن يبطل المال عن الراهن" لتمام الاستيفاء بالهلاك "ووجب مثله لرب الثوب على الراهن"؛ لأنه صار قاضيا دينه بماله بهذا القدر وهو الموجب للرجوع دون القبض بذاته؛ لأنه برضاه، وكذلك إن أصابه عيب ذهب من الدين بحسابه ووجب مثله لرب الثوب على الراهن على ما بيناه. "وإن كانت قيمته أقل من الدين ذهب بقدر القيمة وعلى الراهن بقية دينه للمرتهن"؛ لأنه لم يقع الاستيفاء بالزيادة على قيمته وعلى الراهن لصاحب الثوب ما صار به موفيا لما(4/433)
بيناه "ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى دينه أن يمتنع"؛ لأنه غير متبرع حيث يخلص ملكه ولهذا يرجع على الراهن بما أدى المعير فأجبر المرتهن على الدفع "بخلاف الأجنبي إذا قضى الدين"؛ لأنه متبرع؛ إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه ولا في تفريغ ذمته فكان للطالب أن لا يقبله.
"ولو هلك الثوب العارية عند الراهن قبل أن يرهنه أو بعد ما افتكه فلا ضمان عليه"؛ لأنه لا يصير قاضيا بهذا، وهو الموجب على ما بينا "ولو اختلفا في ذلك فالقول للراهن" لأنه ينكر الإيفاء بدعواه الهلاك في هاتين الحالتين. "كما لو اختلفا في مقدار ما أمره بالرهن به فالقول للمعير"؛ لأن القول قوله في إنكار أصله فكذا في إنكار وصفه "ولو رهنه المستعير بدين موعود وهو أن يرهنه به ليقرضه كذا فهلك في يد المرتهن قبل الإقراض والمسمى والقيمة سواء يضمن قدر الموعود المسمى" لما بينا أنه كالموجود ويرجع المعير على الراهن بمثله؛ لأن سلامة مالية الرهن باستيفائه من المرتهن كسلامته ببراءة ذمته عنه.
"ولو كانت العارية عبدا فأعتقه المعير جاز" لقيام ملك الرقبة "ثم المرتهن بالخيار إن شاء رجع بالدين على الراهن"؛ لأنه لم يستوفه "وإن شاء ضمن المعير قيمته"؛ لأن الحق قد تعلق برقبته برضاه وقد أتلفه بالإعتاق "وتكون رهنا عنده إلى أن يقبض دينه فيردها إلى المعير"؛ لأن استرداد القيمة كاسترداد العين
"ولو استعار عبدا أو دابة ليرهنه فاستخدم العبد أو ركب الدابة قبل أن يرهنهما ثم رهنهما بمال مثل قيمتهما ثم قضى المال فلم يقبضهما حتى هلكا عند المرتهن فلا ضمان على الراهن"؛ لأنه قد برئ من الضمان حين رهنهما، فإنه كان أمينا خالف ثم عاد إلى الوفاق "وكذا إذا افتك الرهن ثم ركب الدابة أو استخدم العبد فلم يعطب ثم عطب بعد ذلك من غير صنعه لا يضمن"؛ لأنه بعد الفكاك بمنزلة المودع لا بمنزلة المستعير لانتهاء حكم الاستعارة بالفكاك وقد عاد إلى الوفاق فيبرأ عن الضمان، وهذا بخلاف المستعير؛ لأن يده يد نفسه فلا بد من الوصول إلى يد المالك، أما المستعير في الرهن فيحصل مقصود الآمر وهو الرجوع عليه عند الهلاك وتحقق الاستيفاء.
قال: "وجناية الراهن على الرهن مضمونة"؛ لأنه تفويت حق لازم محترم، وتعلق مثله بالمال يجعل المالك كالأجنبي في حق الضمان كتعلق حق الورثة بمال المريض مرض الموت يمنع نفاذ تبرعه فيما وراء الثلث، والعبد الموصى بخدمته إذا أتلفه الورثة ضمنوا قيمته ليشترى بها عبد يقوم مقامه.
قال: "وجناية المرتهن عليه تسقط من دينه بقدرها" ومعناه أن يكون الضمان على(4/434)
صفة الدين، وهذا؛ لأن العين ملك المالك، وقد تعدى عليه المرتهن فيضمنه لمالكه.
قال: "وجناية الرهن على الراهن والمرتهن وعلى مالهما هدر" وهذا عند أبي حنيفة وقالا: جنايته على المرتهن معتبرة، والمراد بالجناية على النفس ما يوجب المال، أما الوفاقية فلأنها جناية المملوك على المالك؛ ألا ترى أنه لو مات كان الكفن عليه، بخلاف جناية المغصوب على المغصوب منه؛ لأن الملك عند أداء الضمان يثبت للغاصب مستندا حتى يكون الكفن عليه، فكانت جناية على غير المالك فاعتبرت ولهما في الخلافية أن الجناية حصلت على غير مالكه وفي الاعتبار فائدة وهو دفع العبد إليه بالجناية فتعتبر ثم إن شاء الراهن والمرتهن أبطلا الرهن ودفعاه بالجناية إلى المرتهن، وإن قال المرتهن لا أطلب الجناية فهو رهن على حاله وله أن هذه الجناية لو اعتبرنا للمرتهن كان عليه التطهير من الجناية؛ لأنها حصلت في ضمانه فلا يفيد وجوب الضمان له مع وجوب التخليص عليه، وجنايته على مال المرتهن لا تعتبر بالاتفاق إذا كانت قيمته والدين سواء؛ لأنه لا فائدة في اعتبارها؛ لأنه لا يتملك العبد وهو الفائدة، وإن كانت القيمة أكثر من الدين؛ فعن أبي حنيفة أنه يعتبر بقدر الأمانة؛ لأن الفضل ليس في ضمانه فأشبه جناية العبد الوديعة على المستودع وعنه أنها لا تعتبر؛ لأن حكم الرهن وهو الحبس فيه ثابت فصار كالمضمون، وهذا بخلاف جناية الرهن على ابن الراهن أو ابن المرتهن؛ لأن الأملاك حقيقة متباينة فصار كالجناية على الأجنبي.
قال: "ومن رهن عبدا يساوي ألفا بألف إلى أجل فنقص في السعر فرجعت قيمته إلى مائة ثم قتله رجل وغرم قيمته مائة ثم حل الأجل فإن المرتهن يقبض المائة قضاء عن حقه ولا يرجع على الراهن بشيء" وأصله أن النقصان من حيث السعر لا يوجب سقوط الدين عندنا خلافا لزفر، وهو يقول: إن المالية قد انتقصت فأشبه انتقاص العين ولنا أن نقصان السعر عبارة عن فتور رغبات الناس وذلك لا يعتبر في البيع حتى لا يثبت به الخيار ولا في الغصب حتى لا يجب الضمان، بخلاف نقصان العين؛ لأن بفوات جزء منه يتقرر الاستيفاء فيه؛ إذ اليد يد الاستيفاء، وإذا لم يسقط شيء من الدين بنقصان السعر بقي مرهونا بكل الدين، فإذا قتله حر غرم قيمته مائة؛ لأنه تعتبر قيمته يوم الإتلاف في ضمان الإتلاف؛ لأن الجابر بقدر الفائت، وأخذه المرتهن؛ لأنه بدل المالية في حق المستحق وإن كان مقابلا بالدم على أصلنا حتى لا يزاد على دية الحر؛ لأن المولى استحقه بسبب المالية وحق المرتهن متعلق بالمالية فكذا فيما قام مقامه، ثم لا يرجع على الراهن بشيء؛ لأن يد الرهن يد الاستيفاء من الابتداء وبالهلاك يتقرر، وقيمته كانت في الابتداء ألفا فيصير مستوفيا(4/435)
الكل من الابتداء. أو نقول: لا يمكن أن يجعل مستوفيا الألف بمائة؛ لأنه يؤدي إلى الربا فيصير مستوفيا المائة وبقي تسعمائة في العين، فإذا هلك يصير مستوفيا تسعمائة بالهلاك، بخلاف ما إذا مات من غير قتل أحد؛ لأنه يصير مستوفيا الكل بالعبد؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا.
قال: "وإن كان أمره الراهن أن يبيعه فباعه بمائة وقبض المائة قضاء من حقه فيرجع بتسعمائة"؛ لأنه لما باعه بإذن الراهن صار كأن الراهن استرده وباعه بنفسه، ولو كان كذلك يبطل الرهن ويبقى الدين إلا بقدر ما استوفى، وكذا هذا.
قال: "وإن قتله عبد قيمته مائة فدفع مكانه افتكه بجميع الدين" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: هو بالخيار إن شاء افتكه بجميع الدين، وإن شاء سلم العبد المدفوع إلى المرتهن بماله وقال زفر: يصير رهنا بمائة له أن يد الرهن يد استيفاء وقد تقرر بالهلاك، إلا أنه أخلف بدلا بقدر العشر فيبقى الدين بقدره ولأصحابنا على زفر أن العبد الثاني قائم مقام الأول لحما ودما، ولو كان الأول قائما وانتقض السعر لا يسقط شيء من الدين عندنا لما ذكرنا، فكذلك إذا قام المدفوع مكانه ولمحمد في الخيار أن المرهون تغير في ضمان المرتهن فيخير الراهن كالمبيع إذا قتل قبل القبض والمغصوب إذا قتل في يد الغاصب يخير المشتري، والمغصوب منه كذا هذا ولهما أن التغير لم يظهر في نفس العبد لقيام الثاني مقام الأول لحما ودما كما ذكرناه مع زفر، وعين الرهن أمانة عندنا فلا يجوز تمليكه منه بغير رضاه، ولأن جعل الرهن بالدين حكم جاهلي، وأنه منسوخ، بخلاف البيع؛ لأن الخيار فيه حكمه الفسخ وهو مشروع وبخلاف الغصب؛ لأن تملكه بأداء الضمان مشروع، ولو كان العبد تراجع سعره حتى صار يساوي مائة ثم قتله عبد يساوي مائة فدفع به فهو على هذا الخلاف "وإذا قتل العبد الرهن قتيلا خطأ فضمان الجناية على المرتهن وليس له أن يدفع"؛ لأنه لا يملك التمليك.
قال: "ولو فدي طهر المحل فبقي الدين على حاله ولا يرجع على الراهن بشيء من الفداء"؛ لأن الجناية حصلت في ضمانه فكان عليه إصلاحها.
قال: "ولو أبى المرتهن أن يفدي قيل للراهن ادفع العبد أو افده بالدية"؛ لأن الملك في الرقبة قائم له، وإنما إلى المرتهن الفداء لقيام حقه.
قال: "فإذا امتنع عن الفداء يطالب الراهن بحكم الجناية ومن حكمها التخيير" بين الدفع والفداء.(4/436)
قال: "فإن اختار الدفع سقط الدين"؛ لأنه استحق لمعنى في ضمان المرتهن فصار كالهلاك.
قال: "وكذلك إن فدى"؛ لأن العبد كالحاصل له بعوض كان على المرتهن، وهو الفداء، بخلاف ولد الرهن إذا قتل إنسانا أو استهلك مالا حيث يخاطب الراهن بالدفع أو الفداء في الابتداء؛ لأنه غير مضمون على المرتهن، فإن دفع خرج من الرهن ولم يسقط شيء من الدين كما لو هلك في الابتداء، وإن فدى فهو رهن مع أمه على حالهما.
قال: "ولو استهلك العبد المرهون مالا يستغرق رقبته، فإن أدى المرتهن الدين الذي لزم العبد فدينه على حاله كما في الفداء، وإن أبى قيل للراهن بعه في الدين إلا أن يختار أن يؤدي عنه، فإن أدى بطل دين المرتهن" كما ذكرنا في الفداء.
قال: "وإن لم يؤد وبيع العبد فيه يأخذ صاحب دين العبد دينه"؛ لأن دين العبد مقدم على دين المرتهن وحق ولي الجناية لتقدمه على حق المولى.
قال: "فإن فضل شيء ودين غريم العبد مثل دين المرتهن أو أكثر فالفضل للراهن وبطل دين المرتهن"؛ لأن الرقبة استحقت لمعنى هو في ضمان المرتهن فأشبه الهلاك.
قال: "وإن كان دين العبد أقل سقط من دين المرتهن بقدر دين العبد وما فضل من دين العبد يبقى رهنا كما كان، ثم إن كان دين المرتهن قد حل أخذه به"؛ لأنه من جنس حقه.
قال: "وإن كان لم يحل أمسكه حتى يحل، وإن كان ثمن العبد لا يفي بدين الغريم أخذ الثمن ولم يرجع بما بقي على أحد حتى يعتق العبد"؛ لأن الحق في دين الاستهلاك يتعلق برقبته وقد استوفيت فيتأخر إلى ما بعد العتق.
قال: "وإن كانت قيمة العبد ألفين وهو رهن بألف وقد جنى العبد يقال لهما افدياه"؛ لأن النصف منه مضمون، والنصف أمانة، والفداء في المضمون على المرتهن، وفي الأمانة على الراهن، فإن أجمعا على الدفع دفعاه وبطل دين المرتهن، والدفع لا يجوز في الحقيقة من المرتهن لما بينا، وإنما منه الرضا به.
قال: "فإن تشاحا فالقول لمن قال أنا أفدي راهنا كان أو مرتهنا" أما المرتهن فلأنه ليس في الفداء إبطال حق الراهن، وفي الدفع الذي يختاره الراهن إبطال المرتهن، وكذا في جناية الرهن إذا قال المرتهن أنا أفدي له ذلك وإن كان المالك يختار الدفع؛ لأنه إن لم يكن مضمونا فهو محبوس بدينه وله في الفداء غرض صحيح، ولا ضرر على الراهن، فكان له أن يفدي، وأما الراهن فلأنه ليس للمرتهن ولاية الدفع لما بينا فكيف يختاره.(4/437)
قال: "ويكون المرتهن في الفداء متطوعا في حصة الأمانة حتى لا يرجع على الراهن"؛ لأنه يمكنه أن لا يختاره فيخاطب الراهن، فلما التزمه، والحالة هذه كان متبرعا، وهذا على ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يرجع مع الحضور، وسنبين القولين إن شاء الله تعالى.
قال: "ولو أبى المرتهن أن يفدي وفداه الراهن فإنه يحتسب على المرتهن نصف الفداء من دينه"؛ لأن سقوط الدين أمر لازم فدى أو دفع فلم يجعل الراهن في الفداء متطوعا، ثم ينظر إن كان نصف الفداء مثل الدين أو أكثر بطل الدين، وإن كان أقل سقط من الدين بقدر نصف الفداء، وكان العبد رهنا بما بقي؛ لأن الفداء في نصف كان عليه، فإذا أداه الراهن، وهو ليس بمتطوع كان له الرجوع عليه فيصير قصاصا بدينه كأنه أوفى نصفه فيبقى العبد رهنا بما بقي.
قال: "ولو كان المرتهن فدى، والراهن حاضر فهو متطوع، وإن كان غائبا لم يكن متطوعا" وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد والحسن وزفر رحمهم الله: المرتهن متطوع في الوجهين؛ لأنه فدى ملك غيره بغير أمره فأشبه الأجنبي وله أنه إذا كان الراهن حاضرا أمكنه مخاطبته، فإذا فداه المرتهن فقد تبرع كالأجنبي، فأما إذا كان الراهن غائبا تعذر مخاطبته، والمرتهن يحتاج إلى إصلاح المضمون، ولا يمكنه ذلك إلا بإصلاح الأمانة فلا يكون متبرعا.
قال: "وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن وقضى الدين"؛ لأن الوصي قائم مقامه، ولو تولى الموصى حيا بنفسه كان له ولاية البيع بإذن المرتهن فكذا لوصيه.
قال: "وإن لم يكن له وصي نصب القاضي له وصيا وأمره ببيعه"؛ لأن القاضي نصب ناظرا لحقوق المسلمين إذا عجزوا عن النظر لأنفسهم، والنظر في نصب الوصي ليؤدي ما عليه لغيره ويستوفي ماله من غيره.
قال: "وإن كان على الميت دين فرهن الوصي بعض التركة عند غريم من غرمائه لم يجز وللآخرين أن يردوه"؛ لأنه آثر بعض الغرماء بالإيفاء الحكمي فأشبه الإيثار بالإيفاء الحقيقي.
قال: "فإن قضى دينهم قبل أن يردوه جاز" لزوال المانع بوصول حقهم إليهم.
قال: "ولو لم يكن للميت غريم آخر جاز الرهن" اعتبارا بالإيفاء الحقيقي.
قال: "وبيع في دينه"؛ لأنه يباع فيه قبل الرهن فكذا بعده.
قال: "وإذا ارتهن الوصي بدين للميت على رجل جاز"؛ لأنه استيفاء وهو يملكه.(4/438)
قال رضي الله عنه: وفي رهن الوصي تفصيلات نذكرها في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.(4/439)
فصل: ومن رهن عصيرا بعشرة قيمته عشرة فتخمر ثم صار خلا يساوي عشرة فهو رهن بعشرة
...
فصل: قال: "ومن رهن عصيرا بعشرة قيمته عشرة فتخمر ثم صار خلا يساوي عشرة فهو رهن بعشرة"؛
لأن ما يكون محلا للبيع يكون محلا للرهن، إذ المحلية بالمالية فيهما، والخمر وإن لم يكن محلا للبيع ابتداء فهو محل له بقاء حتى إن من اشترى عصيرا فتخمر قبل القبض يبقى العقد إلا أنه يتخير في البيع لتغير وصف المبيع بمنزلة ما إذا تعيب.
قال: "ولو رهن شاة قيمتها عشرة بعشرة فماتت فدبغ جلدها فصار يساوي درهما فهو رهن بدرهم"؛ لأن الرهن يتقرر بالهلاك، فإذا حيي بعض المحل يعود حكمه بقدره، بخلاف ما إذا ماتت الشاة المبيعة قبل القبض فدبغ جلدها حيث لا يعود البيع؛ لأن البيع ينتقض بالهلاك قبل القبض والمنتقض لا يعود، أما الرهن يتقرر بالهلاك على ما بيناه ومن مشايخنا من يمنع مسألة البيع ويقول: يعود البيع.
قال: "ونماء الرهن للراهن وهو مثل الولد والثمر واللبن والصوف"؛ لأنه متولد من ملكه ويكون رهنا مع الأصل؛ لأنه تبع له، والرهن حق لازم فيسري إليه.
قال: "فإن هلك يهلك بغير شيء"؛ لأن الأتباع لا قسط لها مما يقابل بالأصل؛ لأنها لم تدخل تحت العقد مقصودا؛ إذ اللفظ لا يتناولها.
قال: "وإن هلك الأصل وبقي النماء افتكه الراهن بحصته يقسم الدين على قيمة الرهن يوم القبض وقيمة النماء يوم الفكاك"؛ لأن الرهن يصير مضمونا بالقبض، والزيادة تصير مقصودة بالفكاك إذا بقي إلى وقته، والتبع يقابله شيء إذا صار مقصودا كولد المبيع، فما أصاب الأصل يسقط من الدين؛ لأنه يقابله الأصل مقصودا، وما أصاب النماء افتكه الراهن لما ذكرنا وصور المسائل على هذا الأصل تخرج، وقد ذكرنا بعضها في كفاية المنتهى، وتمامه في الجامع والزيادات.
قال: "ولو رهن شاة بعشرة وقيمتها عشرة وقال الراهن للمرتهن: احلب الشاة فما حلبت فهو لك حلال فحلب وشرب فلا ضمان عليه في شيء من ذلك" أما الإباحة فيصح تعليقها بالشرط والخطر؛ لأنها إطلاق وليس بتمليك فتصح مع الخطر.
قال: "ولا يسقط شيء من الدين"؛ لأنه أتلفه بإذن المالك.(4/439)
قال: "فإن لم يفتك الشاة حتى ماتت في يد المرتهن قسم الدين على قيمة اللبن الذي شرب وعلى قيمة الشاة، فما أصاب الشاة سقط، وما أصاب اللبن أخذه المرتهن من الراهن"؛ لأن اللبن تلف على ملك الراهن بفعل المرتهن والفعل حصل بتسليط من قبله فصار كأن الراهن أخذه وأتلفه فكان مضمونا عليه فيكون له حصته من الدين فبقي بحصته، وكذلك ولد الشاة إذا أذن له الراهن في أكله، وكذلك جميع النماء الذي يحدث على هذا القياس.
قال: "وتجوز الزيادة في الرهن ولا تجوز في الدين" عند أبي حنيفة ومحمد ولا يصير الرهن رهنا بها وقال أبو يوسف: تجوز الزيادة في الدين أيضا وقال زفر والشافعي: لا تجوز فيهما، والخلاف معهما في الرهن، والثمن والمثمن والمهر والمنكوحة سواء، وقد ذكرناه في البيوع ولأبي يوسف في الخلافية الأخرى أن الدين في باب الرهن كالثمن في البيع، والرهن كالمثمن فتجوز الزيادة فيهما كما في البيع، والجامع بينهما الالتحاق بأصل العقد للحاجة والإمكان ولهما وهو القياس أن الزيادة في الدين توجب الشيوع في الرهن، وهو غير مشروع عندنا، والزيادة في الرهن توجب الشيوع في الدين، وهو غير مانع من صحة الرهن؛ ألا ترى أنه لو رهن عبدا بخمسمائة من الدين جاز، وإن كان الدين ألفا وهذا شيوع في الدين، والالتحاق بأصل العقد غير ممكن في طرف الدين؛ لأنه غير معقود عليه ولا معقود به بل وجوبه سابق على الرهن، وكذا يبقى بعد انفساخه، والالتحاق بأصل العقد في بدلي العقد، بخلاف البيع؛ لأن الثمن بدل يجب بالعقد، ثم إذا صحت الزيادة في الرهن وتسمى هذه زيادة قصدية يقسم الدين على قيمة الأول يوم القبض، وعلى قيمة الزيادة يوم قبضت، حتى لو كانت قيمة الزيادة يوم قبضها خمسمائة، وقيمة الأول يوم القبض ألفا والدين ألفا يقسم الدين أثلاثا، في الزيادة ثلث الدين، وفي الأصل ثلثا الدين اعتبارا بقيمتهما في وقتي الاعتبار، وهذا؛ لأن الضمان في كل واحد منهما يثبت بالقبض فتعتبر قيمة كل واحد منهما وقت القبض "وإذا ولدت المرهونة ولدا ثم إن الراهن زاد مع الولد عبدا، وقيمة كل واحد ألف فالعبد رهن مع الولد خاصة يقسم ما في الولد عليه وعلى العبد الزيادة"؛ لأنه جعله زيادة مع الولد دون الأم "ولو كانت الزيادة مع الأم يقسم الدين على قيمة الأم يوم العقد وعلى قيمة الزيادة يوم القبض، فما أصاب الأم قسم عليها وعلى ولدها"؛ لأن الزيادة دخلت على الأم.
قال: "فإن رهن عبدا يساوي ألفا بألف ثم أعطاه عبدا آخر قيمته ألف رهنا مكان الأول، فالأول رهن حتى يرده إلى الراهن، والمرتهن في الآخر أمين حتى يجعله مكان الأول"؛ لأن الأول إنما دخل في ضمانه بالقبض والدين وهما باقيان فلا يخرج عن الضمان إلا بنقض(4/440)
القبض ما دام الدين باقيا، وإذا بقي الأول في ضمانه لا يدخل الثاني في ضمانه؛ لأنهما رضيا بدخول أحدهما فيه لا بدخولهما فإذا رد الأول دخل الثاني في ضمانه ثم قيل: يشترط تجديد القبض؛ لأن يد المرتهن على الثاني يد أمانة ويد الرهن بعد استيفاء وضمان فلا ينوب عنه، كمن له على آخر جياد فاستوفى زيوفا ظنها جيادا ثم علم بالزيافة وطالبه بالجياد وأخذها فإن الجياد أمانة في يده ما لم يرد الزيوف ويجدد القبض وقيل لا يشترط؛ لأن الرهن تبرع كالهبة على ما بيناه من قبل وقبض الأمانة ينوب عن قبض الهبة، ولأن الرهن عينه أمانة، والقبض يرد على العين فينوب قبض الأمانة عن قبض العين.
"ولو أبرأ المرتهن الراهن عن الدين أو وهبه منه ثم هلك الرهن في يد المرتهن يهلك بغير شيء استحسانا" خلافا لزفر،؛ لأن الرهن مضمون بالدين أو بجهته عند توهم الوجود كما في الدين الموعود ولم يبق الدين بالإبراء أو الهبة ولا جهته لسقوطه، إلا إذا أحدث منعا؛ لأنه يصير به غاصبا إذا لم تبق له ولاية المنع
"وكذا إذا ارتهنت المرأة رهنا بالصداق فأبرأته أو وهبته أو ارتدت والعياذ بالله قبل الدخول أو اختلعت منه على صداقها ثم هلك الرهن في يدها يهلك بغير شيء في هذا كله ولم تضمن شيئا" لسقوط الدين كما في الإبراء، "ولو استوفى المرتهن الدين بإيفاء الراهن أو بإيفاء متطوع ثم هلك الرهن في يده يهلك بالدين ويجب عليه رد ما استوفى إلى ما استوفى منه وهو من عليه أو المتطوع بخلاف الإبراء" ووجه الفرق أن بالإبراء يسقط الدين أصلا كما ذكرنا، وبالاستيفاء لا يسقط لقيام الموجب، إلا أنه يتعذر الاستيفاء لعدم الفائدة؛ لأنه يعقب مطالبة مثله، فأما هو في نفسه فقائم، فإذا هلك يتقرر الاستيفاء الأول فانتقض الاستيفاء الثاني. "وكذا إذا اشترى بالدين عينا أو صالح عنه على عين"؛ لأنه استيفاء "وكذلك إذا أحال الراهن المرتهن بالدين على غيره ثم هلك الرهن بطلت الحوالة ويهلك بالدين"؛ لأنه في معنى البراءة بطريق الأداء؛ لأنه يزول به عن ملك المحيل مثل ما كان له على المحتال عليه، أو ما يرجع عليه به إن لم يكن للمحيل على المحتال عليه دين؛ لأنه بمنزلة الوكيل "وكذا لو تصادقا على أن لا دين ثم هلك الرهن يهلك بالدين" لتوهم وجوب الدين بالتصادق على قيامه فتكون الجهة باقية بخلاف الإبراء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.(4/441)
كتاب الجنايات
أوجه القتل
...
كتاب الجنايات
قال: "القتل على خمسة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب" والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام.
قال: "فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروة المحددة والنار"؛ لأن العمد هو القصد، ولا يوقف عليه إلا بدليله وهو استعمال الآلة القاتلة فكان متعمدا فيه عند ذلك "وموجب ذلك المأثم" لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] الآية، وقد نطق به غير واحد من السنة، وعليه انعقد إجماع الأمة.
قال: "والقود" لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" أي موجبه، ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر، والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك.
قال: "إلا أن يعفو الأولياء أو يصالحوا"؛ لأن الحق لهم ثم هو واجب عينا، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل وهو أحد قولي الشافعي، إلا أن له حق العدول إلى المال من غير مرضاة القاتل؛ لأنه تعين مدفعا للهلاك فيجوز بدون رضاه، وفي قول الواجب أحدهما لا بعينه ويتعين باختياره؛ لأن حق العبد شرع جابرا وفي كل واحد نوع جبر فيتخير ولنا ما تلونا من الكتاب وروينا من السنة، ولأن المال لا يصلح موجبا لعدم المماثلة، والقصاص يصلح للتماثل، وفيه مصلحة الأحياء زجرا وجبرا فيتعين، وفي الخطإ وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار، ولا يتيقن بعدم قصد الولي بعد أخذ المال فلا يتعين مدفعا للهلاك، ولا كفارة فيه عندنا: وعند الشافعي رحمه الله تجب؛ لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في الخطأ فكان أدعى إلى إيجابها ولنا أنه كبيرة محضة، وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، ولأن الكفارة من المقادير، وتعينها في الشرع لدفع الأدنى لا يعينها لدفع الأعلى ومن حكمه حرمان الميراث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا ميراث لقاتل".(4/442)
قال: "وشبه العمد عند أبي حنيفة أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح" وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول الشافعي: إذا ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة فهو عمد وشبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا؛ لأنه يتقاصر معنى العمدية باستعمال آلة صغيرة لا يقتل بها غالبا لما أنه يقصد بها غيره كالتأديب ونحوه فكان شبه العمد، ولا يتقاصر باستعمال آلة لا تلبث؛ لأنه لا يقصد به إلا القتل كالسيف فكان عمدا موجبا للقود وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل" ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه؛ إذ لا يمكن استعمالها على غرة من المقصود قتله، وبه يحصل القتل غالبا فقصرت العمدية نظرا إلى الآلة، فكان شبه العمد كالقتل بالسوط والعصا الصغيرة.
قال: "وموجب ذلك على القولين الإثم"؛ لأنه قتل وهو قاصد في الضرب "والكفارة" لشبهه بالخطأ "والدية مغلظة على العاقلة" والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى يحدث من بعد فهي على العاقلة اعتبارا بالخطأ، وتجب في ثلاث سنين لقضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتجب مغلظة، وسنبين صفة التغليظ من بعد إن شاء الله تعالى "ويتعلق به حرمان الميراث"؛ لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في سقوط القصاص دون حرمان الميراث ومالك وإن أنكر معرفة شبه العمد فالحجة عليه ما أسلفناه.
قال: "والخطأ على نوعين: خطأ في القصد، وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا، فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم وخطأ في الفعل، وهو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا، وموجب ذلك الكفارة، والدية على العاقلة" لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] الآية، وهي على عاقلته في ثلاث سنين، لما بيناه.
قال: "ولا إثم فيه" يعني في الوجهين قالوا: المراد إثم القتل، فأما في نفسه فلا يعرى عن الإثم من حيث ترك العزيمة والمبالغة في التثبت في حال الرمي، إذ شرع الكفارة يؤذن باعتبار هذا المعنى "ويحرم عن الميراث"؛ لأن فيه إثما فيصح تعليق الحرمان به، بخلاف ما إذا تعمد الضرب موضعا من جسده فأخطأ فأصاب موضعا آخر فمات حيث يجب القصاص؛ لأن القتل قد وجد بالقصد إلى بعض بدنه، وجميع البدن كالمحل الواحد.
قال: "وما أجري مجرى الخطأ مثل النائم ينقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطأ في الشرع، وأما القتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر في غير ملكه، وموجبه إذا تلف فيه آدمي الدية على العاقلة"؛ لأنه سبب التلف وهو متعد فيه فأنزل موقعا دافعا فوجبت(4/443)
الدية "ولا كفارة فيه ولا يتعلق به حرمان الميراث" وقال الشافعي: يلحق بالخطإ في أحكامه؛ لأن الشرع أنزله قاتلا ولنا أن القتل معدوم منه حقيقة فألحق به في حق الضمان فبقي في حق غيره على الأصل، وهو إن كان يأثم بالحفر في غير ملكه لا يأثم بالموت على ما قالوا، وهذه كفارة ذنب القتل وكذا الحرمان بسببه "وما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما سواها"؛ لأن إتلاف النفس يختلف باختلاف الآلة، وما دونها لا يختص إتلافه بآلة دون آلة، والله أعلم.(4/444)
باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه
مدخل
...
باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه
قال: "القصاص واجب بقتل كل محقون الدم على التأبيد إذا قتل عمدا" أما العمدية فلما بيناه، وأما حقن الدم على التأبيد فلتنتفي شبهة الإباحة وتتحقق المساواة.
قال: "ويقتل الحر بالحر والحر بالعبد" للعمومات وقال الشافعي رحمه الله: لا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] ومن ضرورة هذه المقابلة أن لا يقتل حر بعبد، ولأن مبنى القصاص على المساواة وهي منتفية بين المالك والمملوك ولهذا لا يقطع طرف الحر بطرفه، بخلاف العبد بالعبد؛ لأنهما يستويان، وبخلاف العبد حيث يقتل بالحر؛ لأنه تفاوت إلى نقصان ولنا أن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين وبالدار ويستويان فيهما، وجريان القصاص بين العبدين يؤذن بانتفاء شبهة الإباحة، والنص تخصيص بالذكر فلا ينفي ما عداه.
قال: "والمسلم بالذمي" خلافا للشافعي له قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" ولأنه لا مساواة بينهما وقت الجناية، وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة ولنا ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي" ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى التكليف والدار والمبيح كفر المحارب دون المسالم، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء الشبهة، والمراد بما روى الحربي لسياقه "ولا ذو عهد في عهده" والعطف للمغايرة.
قال: "ولا يقتل بالمستأمن"؛ لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذلك كفره باعث على الحراب؛ لأنه على قصد الرجوع "ولا يقتل الذمي بالمستأمن" لما بينا "ويقتل المستأمن بالمستأمن" قياسا للمساواة، ولا يقتل استحسانا لقيام المبيح "ويقتل الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والصحيح بالأعمى والزمن وبناقص الأطراف وبالمجنون" للعمومات، ولأن في اعتبار التفاوت فيما وراء العصمة امتناع القصاص وظهور التقاتل والتفاني.
قال: "ولا يقتل الرجل بابنه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بولده" وهو(4/444)
بإطلاقه حجة على مالك رحمه الله في قوله يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ولهذا لا يجوز له قتله، وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال أو النساء، وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأب أو الأم قربت أو بعدت لما بينا، ويقتل الولد بالوالد لعدم المسقط.
قال: "ولا يقتل الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده"؛ لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه؛ لأن القصاص لا يتجزأ.
قال: "ومن ورث قصاصا على أبيه سقط" لحرمة الأبوة، قال: "ولا يستوفى القصاص إلا بالسيف" وقال الشافعي: يفعل به مثل ما فعل إن كان فعلا مشروعا، فإن مات وإلا تحز رقبته؛ لأن مبنى القصاص على المساواة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا قود إلا بالسيف" والمراد به السلاح، ولأن فيما ذهب إليه استيفاء الزيادة لو لم يحصل المقصود بمثل ما فعل فيحز فيجب التحرز عنه كما في كسر العظم.
قال: "وإذا قتل المكاتب عمدا وليس له وارث إلا المولى وترك وفاء فله القصاص عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا أرى في هذا قصاصا"؛ لأنه اشتبه سبب الاستيفاء فإنه الولاء إن مات حرا والملك إن مات عبدا، وصار كمن قال لغيره بعني هذه الجارية بكذا، وقال المولى زوجتها منك لا يحل له وطؤها لاختلاف السبب كذا هذا ولهما أن حق الاستيفاء للمولى بيقين على التقديرين وهو معلوم والحكم متحد، واختلاف السبب لا يفضي إلى المنازعة ولا إلى اختلاف حكم فلا يبالى به، بخلاف تلك المسألة؛ لأن حكم ملك اليمين يغاير حكم النكاح "ولو ترك وفاء وله وارث غير المولى فلا قصاص، وإن اجتمعوا مع المولى"؛ لأنه اشتبه من له الحق؛ لأنه المولى إن مات عبدا، والوارث إن مات حرا إذ ظهر الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في موته على نعت الحرية أو الرق، بخلاف الأولى؛ لأن المولى متعين فيها "وإن لم يترك وفاء وله ورثة أحرار وجب القصاص للمولى في قولهم جميعا"؛ لأنه مات عبدا بلا ريب لانفساخ الكتابة، بخلاف معتق البعض إذا مات ولم يترك وفاء؛ لأن العتق في البعض لا ينفسخ بالعجز "وإذا قتل عبد الرهن في يد المرتهن لم يجب القصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن"؛ لأن المرتهن لا ملك له فلا يليه، والراهن لو تولاه لبطل حق المرتهن في الدين فيشترط اجتماعهما ليسقط حق المرتهن برضاه.(4/445)
قال: "وإذا قتل ولي المعتوه فلأبيه أن يقتل"؛ لأنه من الولاية على النفس شرع لأمر راجع إليها وهو تشفي الصدر فيليه كالإنكاح "وله أن يصالح"؛ لأنه أنظر في حق المعتوه، وليس له أن يعفو؛ لأن فيه إبطال حقه "وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمدا" لما ذكرنا "والوصي بمنزلة الأب في جميع ذلك إلا أنه لا يقتل"؛ لأنه ليس له ولاية على نفسه وهذا من قبيله، ويندرج تحت هذا الإطلاق الصلح عن النفس واستيفاء القصاص في الطرف فإنه لم يستثن إلا القتل وفي كتاب الصلح أن الوصي لا يملك الصلح؛ لأنه تصرف في النفس بالاعتياض عنه فينزل منزلة الاستيفاء ووجه المذكور هاهنا أن المقصود من الصلح المال وأنه يجب بعقده كما يجب بعقد الأب بخلاف القصاص؛ لأن المقصود التشفي وهو مختص بالأب ولا يملك العفو؛ لأن الأب لا يملكه لما فيه من الإبطال فهو أولى وقالوا القياس ألا يملك الوصي الاستيفاء في الطرف كما لا يملكه في النفس؛ لأن المقصود متحد وهو التشفي وفي الاستحسان يملكه؛ لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فإنها خلقت وقاية للأنفس كالمال على ما عرف فكان استيفاؤه بمنزلة التصرف في المال، والصبي بمنزلة المعتوه في هذا، والقاضي بمنزلة الأب في الصحيح؛ ألا ترى أن من قتل ولا ولي له يستوفيه السلطان، والقاضي بمنزلته فيه.
قال: "ومن قتل وله أولياء صغار وكبار فللكبار أن يقتلوا القاتل عند أبي حنيفة وقالا ليس لهم ذلك حتى يدرك الصغار"؛ لأن القصاص مشترك بينهم ولا يمكن استيفاء البعض لعدم التجزي، وفي استيفائهم الكل إبطال حق الصغار فيؤخر إلى إدراكهم كما إذا كان بين الكبيرين وأحدهما غائب أو كان بين الموليين وله أنه حق لا يتجزأ لثبوته بسبب لا يتجزأ وهو القرابة، واحتمال العفو من الصغير منقطع فيثبت لكل واحد منهما كملا كما في ولاية الإنكاح، بخلاف الكبيرين؛ لأن احتمال العفو من الغائب ثابت ومسألة الموليين ممنوعة.
قال: "ومن ضرب رجلا بمر فقتله، فإن أصابه بالحديد قتل به وإن أصابه بالعود فعليه الدية" قال رضي الله عنه: وهذا إذا أصابه بحد الحديد لوجود الجرح فكمل السبب، وإن أصابه بظهر الحديد فعندهما يجب، وهو رواية عن أبي حنيفة اعتبارا منه للآلة، وهو الحديد وعنه إنما يجب إذا جرح، وهو الأصح على ما نبينه إن شاء الله تعالى، وعلى هذا الضرب بسنجات الميزان؛ وأما إذا ضربه بالعود فإنما تجب الدية لوجود قتل النفس المعصومة وامتناع القصاص حتى لا يهدر الدم، ثم قيل: هو بمنزلة العصا الكبيرة فيكون قتلا بالمثقل، وفيه خلاف أبي حنيفة على ما نبين، وقيل هو بمنزلة السوط، وفيه خلاف(4/446)
الشافعي وهي مسألة الموالاة له أن الموالاة في الضربات إلى أن مات دليل العمدية فيتحقق الموجب ولنا ما روينا: "ألا إن قتيل خطإ العمد" ويروى "شبه العمد" الحديث ولأن فيه شبهة عدم العمدية؛ لأن الموالاة قد تستعمل للتأديب أو لعله اعتراه القصد في خلال الضربات فيعرى أول الفعل عنه وعساه أصاب المقتل، والشبهة دارئة للقود فوجب الدية.
قال: "ومن غرق صبيا أو بالغا في البحر فلا قصاص" عند أبي حنيفة، وقال: يقتص منه وهو قول الشافعي، غير أن عندهما يستوفى حزا وعنده يغرق كما بيناه من قبل لهم قوله عليه الصلاة والسلام: "من غرق غرقناه" ولأن الآلة قاتلة فاستعمالها أمارة العمدية، ولا مراء في العصمة وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا" وفيه "وفي كل خطإ أرش"؛ لأن الآلة غير معدة للقتل، ولا مستعملة فيه لتعذر استعماله فتمكنت شبهة عدم العمدية ولأن القصاص ينبئ عن المماثلة، ومنه يقال: اقتص أثره، ومنه القصة للجلمين، ولا تماثل بين الجرح والدق لقصور الثاني عن تخريب الظاهر، وكذا لا يتماثلان في حكمة الزجر؛ لأن القتل بالسلاح غالب وبالمثقل نادر، وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة، وقد أومت إليه إضافته إلى نفسه فيه وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، وهي على العاقلة، وقد ذكرناه واختلاف الروايتين في الكفارة.
قال: "ومن جرح رجلا عمدا فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص" لوجود السبب وعدم ما يبطل حكمه في الظاهر فأضيف إليه.
قال: "وإذا التقى الصفان من المسلمين والمشركين فقتل مسلم مسلما ظن أنه مشرك فلا قود عليه وعليه الكفارة"؛ لأن هذا أحد نوعي الخطإ على ما بيناه، والخطأ بنوعيه لا يوجب القود ويوجب الكفارة، وكذا الدية على ما نطق به نص الكتاب ولما اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة قضى رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدية قالوا: إنما تجب الدية إذا كانوا مختلطين، فإن كان في صف المشركين لا تجب لسقوط عصمته بتكثير سوادهم قال عليه الصلاة والسلام: "من كثر سواد قوم فهو منهم".
قال: " ومن شج نفسه وشجه رجل وعقره أسد وأصابته حية فمات من ذلك كله فعلى الأجنبي ثلث الدية"؛ لأن فعل الأسد والحية جنس واحد لكونه هدرا في الدنيا والآخرة، وفعله بنفسه هدر في الدنيا معتبر في الآخرة حتى يأثم عليه وفي النوادر أن عند أبي حنيفة ومحمد يغسل ويصلى عليه وعند أبي يوسف يغسل ولا يصلى عليه، وفي(4/447)
شرح السير الكبير ذكر في الصلاة عليه اختلاف المشايخ على ما كتبناه في كتاب التجنيس والمزيد فلم يكن هدرا مطلقا وكان جنسا آخر، وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة فصارت ثلاثة أجناس فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال فيكون التالف بفعل كل واحد ثلثه فيجب عليه ثلث الدية، والله أعلم بالصواب.(4/448)
فصل: ومن شهر على المسلمين سيفا فعليهم أن يقتلوه
...
فصل: قال "ومن شهر على المسلمين سيفا فعليهم أن يقتلوه"
لقوله عليه الصلاة والسلام: "من شهر على المسلمين سيفا فقد أطل دمه" ولأنه باغ فتسقط عصمته ببغيه، ولأنه تعين طريقا لدفع القتل عن نفسه فله قتله وقوله فعليهم وقول محمد في الجامع الصغير فحق على المسلمين أن يقتلوه إشارة إلى الوجوب، والمعنى وجوب دفع الضرر وفي سرقة الجامع الصغير: ومن شهر على رجل سلاحا ليلا أو نهارا أو شهر عليه عصا ليلا في مصر أو نهارا في طريق في غير مصر فقتله المشهور عليه عمدا فلا شيء عليه لما بينا، وهذا؛ لأن السلاح لا يلبث فيحتاج إلى دفعه بالقتل والعصا الصغيرة، وإن كانت تلبث ولكن في الليل لا يلحقه الغوث فيضطر إلى دفعه بالقتل، وكذا في النهار في غير المصر في الطريق لا يلحقه الغوث فإذا قتله كان دمه هدرا قالوا: فإن كان عصا لا تلبث يحتمل أن تكون مثل السلاح عندهما.
قال: "وإن شهر المجنون على غيره سلاحا فقتله المشهور عليه عمدا فعليه الدية في ماله" وقال الشافعي: لا شيء عليه، وعلى هذا الخلاف الصبي والدابة وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان في الدابة ولا يجب في الصبي والمجنون للشافعي أنه قتله دافعا عن نفسه فيعتبر بالبالغ الشاهر، ولأنه يصير محمولا على قتله بفعله فأشبه المكره ولأبي يوسف أن فعل الدابة غير معتبر أصلا حتى لو تحقق لا يوجب الضمان أما فعلهما معتبر في الجملة حتى لو حققناه يجب عليهما الضمان، وكذا عصمتهما لحقهما وعصمة الدابة لحق مالكها فكان فعلهما مسقطا للعصمة دون فعل الدابة، ولنا أنه قتل شخصا معصوما أو أتلف مالا معصوما حقا للمالك وفعل الدابة لا يصلح مسقطا وكذا فعلهما، وإن كانت عصمتهما حقهما لعدم اختيار صحيح ولهذا لا يجب القصاص بتحقق الفعل منهما، بخلاف العاقل البالغ؛ لأن له اختيارا صحيحا، وإنما لا يجب القصاص لوجود المبيح وهو دفع الشر فتجب الدية.
قال: "ومن شهر على غيره سلاحا في المصر فضربه ثم قتله الآخر فعلى القاتل(4/448)
القصاص" معناه: إذا ضربه فانصرف؛ لأنه خرج من أن يكون محاربا بالانصراف فعادت عصمته.
قال: "ومن دخل عليه غيره ليلا وأخرج السرقة فاتبعه وقتله فلا شيء عليه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "قاتل دون مالك" ولأنه يباح له القتل دفعا في الابتداء فكذا استردادا في الانتهاء، وتأويل المسألة إذا كان لا يتمكن من الاسترداد إلا بالقتل، والله أعلم.(4/449)
باب القصاص فيما دون النفس
مدخل
...
باب القصاص فيما دون النفس
قال: "ومن قطع يد غيره عمدا من المفصل قطعت يده وإن كانت يده أكبر من اليد المقطوعة" لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] وهو ينبئ عن المماثلة، فكل ما أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص وما لا فلا، وقد أمكن في القطع من المفصل فاعتبر، ولا معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك، وكذلك الرجل ومارن الأنف والأذن لإمكان رعاية المماثلة. قال: "ومن ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه" لامتناع المماثلة في القلع، وإن كانت قائمة فذهب ضوءها فعليه القصاص لإمكان المماثلة على ما قال في الكتاب: تحمى له المرآة ويجعل على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة فيذهب ضوءها، وهو مأثور عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قال: "وفي السن القصاص" لقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] "وإن كان سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر" لأن منفعة السن لا تتفاوت بالصغر والكبر.
قال: "وفي كل شجة تتحقق فيها المماثلة القصاص" لما تلونا.
قال: "ولا قصاص في عظم إلا في السن" وهذا اللفظ مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا قصاص في العظم" والمراد غير السن، ولأن اعتبار المماثلة في غير السن متعذر لاحتمال الزيادة والنقصان، بخلاف السن لأنه يبرد بالمبرد، ولو قلع من أصله يقلع الثاني فيتماثلان.
قال: "وليس فيما دون النفس شبه عمد إنما هو عمد أو خطأ" لأن شبه العمد يعود إلى الآلة، والقتل هو الذي يختلف باختلافها دون ما دون النفس لأنه لا يختلف إتلافه باختلاف الآلة فلم يبق إلا العمد والخطأ. "ولا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس، ولا بين الحر والعبد، ولا بين العبدين" خلافا للشافعي في جميع ذلك إلا في الحر يقطع طرف العبد. ويعتبر الأطراف بالأنفس لكونها تابعة لها. ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة، وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره(4/449)
بخلاف التفاوت في البطش لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح ولا تفاوت فيه. "ويجب القصاص في الأطراف بين المسلم والكافر" للتساوي بينهما في الأرش.
قال: "ومن قطع يد رجل من نصف الساعد أو جرحه جائفة فبرأ منها فلا قصاص عليه" لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، إذ الأول كسر العظم ولا ضابط فيه، وكذا البرء نادر فيفضي الثاني إلى الهلاك ظاهرا.
قال: "وإذا كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء أو ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار إن شاء قطع اليد المعيبة ولا شيء له غيرها وإن شاء أخذ الأرش كاملا" لأن استيفاء الحق كاملا متعذر فله أن يتجوز بدون حقه وله أن يعدل إلى العوض كالمثلي إذا انصرم عن أيدي الناس بعد الإتلاف ثم إذا استوفاها ناقصا فقد رضي به فيسقط حقه كما إذا رضي بالرديء مكان الجيد "ولو سقطت المؤنة قبل اختيار المجني عليه أو قطعت ظلما فلا شيء له" عندنا لأن حقه متعين في القصاص، وإنما ينتقل إلى المال باختياره فيسقط بفواته، بخلاف ما إذا قطعت بحق عليه من قصاص أو سرقة حيث يجب عليه الأرش لأنه أوفى به حقا مستحقا فصارت سالمة له معنى.
قال: "ومن شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه وهي لا تستوعب ما بين قرني الشاج فالمشجوج بالخيار، إن شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ من أي الجانبين شاء، وإن شاء أخذ الأرش" لأن الشجة موجبة لكونها مشينة فقط فيزداد الشين بزيادتها، وفي استيفائه ما بين قرني الشاج زيادة على ما فعل، ولا يلحقه من الشين باستيفائه قدر حقه ما يلحق المشجوج فينتقص فيخير كما في الشلاء والصحيحة، وفي عكسه يخير أيضا لأنه يتعذر الاستيفاء كاملا للتعدي إلى غير. حقه، وكذا إذا كانت الشجة في طول الرأس وهي تأخذ من جبهته إلى قفاه ولا تبلغ إلى قفا الشاج فهو بالخيار لأن المعنى لا يختلف.
قال: "ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر" وعن أبي يوسف أنه إذا قطع من أصله يجب لأنه يمكن اعتبار المساواة. ولنا أنه ينقبض وينبسط فلا يمكن اعتبار المساواة "إلا أن تقطع الحشفة" لأن موضع القطع معلوم كالمفصل، ولو قطع بعض الحشفة أو بعض الذكر فلا قصاص فيه لأن البعض لا يعلم مقداره، بخلاف الأذن إذا قطع كله أو بعضه لأنه لا ينقبض ولا ينبسط وله حد يعرف فيمكن اعتبار المساواة، والشفة إذا استقصاها بالقطع يجب القصاص لإمكان اعتبار المساواة، بخلاف ما إذا قطع بعضها لأنه يتعذر اعتبارها.(4/450)
فصل: وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا
...
فصل: قال: "وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو كثيرا"
لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] الآية على ما قيل نزلت الآية في الصلح. وقوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل له قتيل" الحديث، والمراد والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصلح بعينه، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا فكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل فيجوز بالتراضي. والقليل والكثير فيه سواء لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره، وإن لم يذكروا حالا ولا مؤجلا فهو حال لأنه مال واجب بالعقد، والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن، بخلاف الدية لأنها ما وجبت بالعقد.
قال: "وإن كان القاتل حرا وعبدا فأمر الحر ومولى العبد رجلا بأن يصالح عن دمهما على ألف درهم ففعل فالألف على الحر والمولى نصفان" لأن عقد الصلح أضيف إليهما. "وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من نصيبه على عوض سقط حق الباقين عن القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية". وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة، وكذا الدية خلافا لمالك والشافعي في الزوجين. لهما أن الوراثة خلافة وهي بالنسب دون السبب لانقطاعه بالموت، ولنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم، ولأنه حق يجري فيه الإرث، حتى أن من قتل وله ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين الصلبي وابن الابن فيثبت لسائر الورثة، والزوجية تبقى بعد الموت حكما في حق الإرث أو يثبت بعد الموت مستندا إلى سببه وهو الجرح، وإذا ثبت للجميع فكل منهم يتمكن من الاستيفاء والإسقاط عفوا وصلحا ومن ضرورة سقوط حق البعض في القصاص سقوط حق الباقين فيه، لأنه لا يتجزأ، بخلاف ما إذا قتل رجلين وعفا أحد الوليين لأن الواجب هناك قصاصان من غير شبهة لاختلاف القتل والمقتول وهاهنا واحد لاتحادهما، وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب الباقين مالا لأنه امتنع لمعنى راجع إلى القاتل، وليس للعافي شيء من المال لأنه أسقط حقه بفعله ورضاه، ثم يجب ما يجب من المال في ثلاث سنين وقال زفر: يجب في سنتين فيما إذا كان بين الشريكين وعفا أحدهما، لأن الواجب نصف الدية فيعتبر بما إذا قطعت يده خطأ. ولنا أن هذا بعض بدل الدم وكله مؤجل إلى ثلاث سنين فكذلك بعضه، والواجب في اليد كل بدل الطرف وهو في سنتين في الشرع ويجب في ماله لأنه عمد.(4/451)
قال: "وإذا قتل جماعة واحدا عمدا اقتص من جميعهم" لقول عمر رضي الله عنه فيه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولأن القتل بطريق التغالب غالب، والقصاص مزجرة للسفهاء فيجب تحقيقا لحكمة الإحياء. "وإذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء المقتولين قتل لجماعتهم ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين" وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم ويجب للباقين المال، وإن اجتمعوا ولم يعرف الأول قتل لهم وقسمت الديات بينهم، وقيل يقرع بينهم فيقتل لمن خرجت قرعته. له أن الموجود من الواحد قتلات والذي تحقق في حقه قتل واحد فلا تماثل، وهو القياس في الفصل الأول، إلا أنه عرف بالشرع. ولنا أن كل واحد منهم قاتل بوصف الكمال فجاء التماثل أصله الفصل الأول، إذ لو لم يكن كذلك لما وجب القصاص، ولأنه وجد من كل واحد منهم جرح صالح للإزهاق فيضاف إلى كل منهم إذ هو لا يتجزأ، ولأن القصاص شرع مع المنافي لتحقيق الإحياء وقد حصل بقتله فاكتفى به.
قال: "ومن وجب عليه القصاص إذا مات سقط القصاص" لفوات محل الاستيفاء فأشبه موت العبد الجاني، ويتأتى فيه خلاف الشافعي إذ الواجب أحدهما عنده.
قال: "وإذا قطع رجلان يد رجل واحد فلا قصاص على واحد منهما وعليهما نصف الدية" وقال الشافعي: تقطع يداهما، والمفرض إذا أخذ سكينا وأمره على يده حتى انقطعت له الاعتبار بالأنفس، والأيدي تابعة لها فأخذت حكمها، أو يجمع بينهما بجامع الزجر. ولنا أن كل واحد منهما قاطع بعض اليد، لأن الانقطاع حصل باعتماديهما والمحل متجزئ فيضاف إلى كل واحد منهما البعض فلا مماثلة، بخلاف النفس لأن الانزهاق لا يتجزأ، ولأن القتل بطريق الاجتماع غالب حذار الغوث، والاجتماع على قطع اليد من المفصل في حيز الندرة لافتقاره إلى مقدمات بطيئة فيلحقه الغوث.
قال: "وعليهما نصف الدية" لأنه دية اليد الواحدة وهما قطعاها. "وإن قطع واحد يميني رجلين فحضرا فلهما أن يقطعا يده ويأخذا منه نصف الدية يقسمانه نصفين سواء قطعهما معا أو على التعاقب" وقال الشافعي: في التعاقب يقطع بالأول، وفي القران يقرع لأن اليد استحقها الأول فلا يثبت الاستحقاق فيها للثاني كالرهن بعد الرهن، وفي القران اليد الواحدة لا تفي بالحقين فترجح بالقرعة. ولنا أنهما استويا في سبب الاستحقاق فيستويان في حكمه كالغريمين في التركة، والقصاص ملك الفعل يثبت مع المنافي فلا يظهر إلا في حق الاستيفاء. أما المحل فخلو عنه فلا يمنع ثبوت الثاني، بخلاف الرهن لأن الحق ثابت في(4/452)
المحل. فصار كما إذا قطع العبد يمينيهما على التعاقب فتستحق رقبته لهما، وإن حضر واحد منهما فقطع يده فللآخر عليه نصف الدية، لأن للحاضر أن يستوفي لثبوت حقه وتردد حق الغائب، وإذا استوفى لم يبق محل الاستيفاء فيتعين حق الآخر في الدية لأنه أوفى به حقا مستحقا.
قال: "وإذا أقر العبد بقتل العمد لزمه القود" وقال زفر: لا يصح إقراره لأنه يلاقي حق المولى بالإبطال فصار كما إذا أقر بالمال. ولنا أنه غير متهم فيه لأنه مضر به فيقبل، ولأن العبد مبقى على أصل الحرية في حق الدم عملا بالآدمية حتى لا يصح إقرار المولى عليه بالحد والقصاص، وبطلان حق المولى بطريق الضمن فلا يبالى به. "ومن رمى رجلا عمدا فنفذ السهم منه إلى آخر فماتا فعليه القصاص للأول والدية للثاني على عاقلته" لأن الأول عمد والثاني أحد نوعي الخطأ، كأنه رمى إلى صيد فأصاب آدميا والفعل يتعدد بتعدد الأثر.(4/453)
فصل: ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده الخ
...
فصل: قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو قطع يده خطأ فبرئت يده ثم قتله خطأ أو قطع يده عمدا فبرأت ثم قتله عمدا فإنه يؤخذ بالأمرين جميعا"
والأصل فيه أن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميما للأول، لأن القتل في الأعم يقع بضربات متعاقبة، وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض الحرج، إلا أن لا يمكن الجمع فيعطى كل واحد حكم نفسه، وقد تعذر الجمع في هذه الفصول في الأولين لاختلاف حكم الفعلين، وفي الآخرين لتخلل البرء وهو قاطع للسراية، حتى لو لم يتخلل وقد تجانسا بأن كانا خطأين يجمع بالإجماع لإمكان الجمع واكتفى بدية واحدة "وإن كان قطع يده عمدا ثم قتله عمدا قبل أن تبرأ يده، فإن شاء الإمام قال: اقطعوه ثم اقتلوه، وإن شاء قال: اقتلوه" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يقتل ولا تقطع يده لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين وعدم تخلل البرء فيجمع بينهما. وله أن الجمع متعذر، إما للاختلاف بين الفعلين هذين لأن الموجب القود وهو يعتمد المساواة في الفعل وذلك بأن يكون القتل بالقتل والقطع بالقطع وهو متعذر، أو لأن الحز يقطع إضافة السراية إلى القطع، حتى لو صدر من شخصين يجب القود على الحاز فصار كتخلل البرء، بخلاف ما إذا قطع وسرى لأن الفعل واحد، وبخلاف ما إذا كانا خطأين لأن الموجب الدية وهي بدل النفس من غير اعتبار المساواة، ولأن أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل وذلك بالحز القاطع للسراية(4/453)
فيجتمع ضمان الكل وضمان الجزء في حالة واحدة ولا يجتمعان. أما القطع والقتل قصاصا يجتمعان.
قال: "ومن ضرب رجلا مائة سوط فبرأ من تسعين ومات من عشرة ففيه دية واحدة" لأنه لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش وإن بقيت معتبرة في حق التعزير فبقي الاعتبار للعشرة، وكذلك كل جراحة اندملت ولم يبق لها أثر على أصل أبي حنيفة. وعن أبي يوسف في مثله حكومة عدل. وعن محمد أنه تجب أجرة الطبيب "وإن ضرب رجلا مائة سوط وجرحته وبقي له أثر تجب حكومة العدل" لبقاء الأثر والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس.
قال: "ومن قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع ثم مات من ذلك فعلى القاطع الدية في ماله، وإن عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات من ذلك فهو عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمدا فهو من جميع المال" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إذا عفا عن القطع فهو عفو عن النفس أيضا، وعلى هذا الخلاف إذا عفا عن الشجة ثم سرى إلى النفس ومات، لهما أن العفو عن القطع عفو عن موجبه، وموجبه القطع لو اقتصر أو القتل إذا سرى، فكان العفو عنه عفوا عن أحد موجبيه أيهما كان، ولأن اسم القطع يتناول الساري والمقتصر فيكون العفو عن قطع عفوا عن نوعيه وصار كما إذا عفا عن الجناية فإنه يتناول الجناية السارية والمقتصرة. كذا هذا. وله أن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس معصومة متقومة والعفو لم يتناوله بصريحه لأنه عفا عن القطع وهو غير القتل، وبالسراية تبين أن الواقع قتل وحقه فيه ونحن نوجب ضمانه. وكان ينبغي أن يجب القصاص وهو القياس لأنه هو الموجب للعمد، إلا أن في الاستحسان تجب الدية، لأن صورة العفو أورثت شبهة وهي دارئة للقود. ولا نسلم أن الساري نوع من القطع، وأن السراية صفة له، بل الساري قتل من الابتداء، وكذا لا موجب له من حيث كونه قطعا فلا يتناوله العفو، بخلاف العفو عن الجناية لأنه اسم جنس، وبخلاف العفو عن الشجة وما يحدث منها لأنه صريح في العفو عن السراية والقتل، ولو كان القطع خطأ فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه وفاقا وخلافا، آذن بذلك إطلاقه، إلا أنه إن كان خطأ فهو من الثلث، وإن كان عمدا فهو من جميع المال، لأن موجب العمد القود ولم يتعلق به حق الورثة لما أنه ليس بمال فصار كما إذا أوصى بإعارة أرضه. أما الخطأ فموجبه المال، وحق الورثة يتعلق به فيعتبر من الثلث.
قال: "وإذا قطعت المرأة يد رجل فتزوجها على يده ثم مات فلها مهر مثلها، وعلى(4/454)
عاقلتها الدية إن كان خطأ، وإن كان عمدا ففي مالها" وهذا عند أبي حنيفة، لأن العفو عن اليد إذا لم يكن عفوا عما يحدث منه عنده فالتزوج على اليد لا يكون تزوجا على ما يحدث منه. ثم القطع إذا كان عمدا يكون هذا تزوجا على القصاص في الطرف وهو ليس بمال فلا يصلح مهرا، لا سيما على تقدير السقوط فيجب مهر المثل، وعليها الدية في مالها لأن التزوج وإن كان يتضمن العفو على ما نبين إن شاء الله تعالى لكن عن القصاص في الطرف في هذه الصورة، وإذا سرى تبين أنه قتل النفس ولم يتناوله العفو فتجب الدية وتجب في مالها لأنه عمد. والقياس أن يجب القصاص على ما بيناه. وإذا وجب لها مهر المثل وعليها الدية تقع المقاصة إن كانا على السواء، وإن كان في الدية فضل ترده على الورثة، وإن كان في المهر فضل يرده الورثة عليها، وإذا كان القطع خطأ يكون هذا تزوجا على أرش اليد، وإذا سرى إلى النفس تبين أنه لا أرش لليد وأن المسمى معدوم فيجب مهر المثل، كما إذا تزوجها على ما في اليد ولا شيء فيها. ولا يتقاصان لأن الدية تجب على العاقلة في الخطأ والمهر لها.
قال: "ولو تزوجها على اليد وما يحدث منها أو على الجناية ثم مات من ذلك والقطع عمد فلها مهر مثلها" لأن هذا تزوج على القصاص وهو لا يصلح مهرا فيجب مهر المثل على ما بيناه، وصار كما إذا تزوجها على خمر أو خنزير ولا شيء له عليها، لأنه لما جعل القصاص مهرا فقد رضي بسقوطه بجهة المهر فيسقط أصلا كما إذا أسقط القصاص بشرط أن يصير مالا فإنه يسقط أصلا "وإن كان خطأ يرفع عن العاقلة مهر مثلها، ولهم ثلث ما ترك وصية" لأن هذا تزوج على الدية وهي تصلح مهرا إلا أنه يعتبر بقدر مهر المثل من جميع المال لأنه مريض مرض الموت والتزوج من الحوائج الأصلية ولا يصح في حق الزيادة على مهر المثل لأنه محاباة فيكون وصية فيرفع عن العاقلة لأنهم يتحملون عنها، فمن المحال أن ترجع عليهم بموجب جنايتها، وهذه الزيادة وصية لهم لأنهم من أهل الوصية لما أنهم ليسوا بقتلة، فإن كانت تخرج من الثلث تسقط، وإن لم تخرج يسقط ثلثه. وقال أبو يوسف ومحمد: كذلك الجواب فيما إذا تزوجها على اليد، لأن العفو عن اليد عفو عما يحدث منه عندهما فاتفق جوابهما في الفصلين.
قال: "ومن قطعت يده فاقتص له من اليد ثم مات فإنه يقتل المقتص منه" لأنه تبين أن الجناية كانت قتل عمد وحق المقتص له القود، واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود كمن كان له القود إذا استوفى طرف من عليه القود. وعن أبي يوسف أنه يسقط حقه في القصاص، لأنه لما أقدم على القطع فقد أبرأه عما وراءه. ونحن نقول: إنما أقدم على القطع(4/455)
ظنا منه أن حقه فيه وبعد السراية تبين أنه في القود فلم يكن مبرئا عنه بدون العلم به.
قال: "ومن قتل وليه عمدا فقطع يد قاتله ثم عفا وقد قضي له بالقصاص أو لم يقض فعلى قاطع اليد دية اليد عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء عليه" لأنه استوفى حقه فلا يضمنه، وهذا لأنه استحق إتلاف النفس بجميع أجزائها، ولهذا لو لم يعف لا يضمنه، وكذا إذا سرى وما برأ أو ما عفا وما سرى، أو قطع ثم حز رقبته قبل البرء أو بعده وصار كما إذا كان له قصاص في الطرف فقطع أصابعه ثم عفا لا يضمن الأصابع. وله أنه استوفى غير حقه، لأن حقه في القتل. وهذا قطع وإبانة، وكان القياس أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فإن له أن يتلفه تبعا، وإذا سقط وجب المال، وإنما لا يجب في الحال لأنه يحتمل أن يصير قتلا بالسراية فيكون مستوفيا حقه، وملك القصاص في النفس ضروري لا يظهر إلا عند الاستيفاء أو العفو أو الاعتياض لما أنه تصرف فيه، فأما قبل ذلك لم يظهر لعدم الضرورة بخلاف ما إذا سرى لأنه استيفاء. وأما إذا لم يعف وما سرى، قلنا: إنما يتبين كونه قطعا بغير حق بالبرء حتى لو قطع وما عفا وبرأ الصحيح أنه على هذا الخلاف، وإذا قطع ثم حز رقبته قبل البرء فهو استيفاء ولو حز بعد البرء فهو على هذا الخلاف هو الصحيح، والأصابع وإن كانت تابعة قياما بالكف فالكف تابعة لها غرضا، بخلاف الطرف لأنها تابعة للنفس من كل وجه.
قال: "ومن له القصاص في الطرف إذا استوفاه ثم سرى إلى النفس ومات يضمن دية النفس عند أبي حنيفة وقالا: لا يضمن" لأنه استوفى حقه وهو القطع، ولا يمكن التقييد بوصف السلامة لما فيه من سد باب القصاص، إذ الاحتراز عن السراية ليس في وسعه فصار كالإمام والبزاغ والحجام والمأمور بقطع اليد. وله أنه قتل بغير حق لأن حقه في القطع وهذا وقع قتلا ولهذا لو وقع ظلما كان قتلا. ولأنه جرح أفضى إلى فوات الحياة في مجرى العادة وهو مسمى القتل، إلا أن القصاص سقط للشبهة فوجب المال بخلاف ما استشهدا به من المسائل إلا أنه مكلف فيها بالفعل، إما تقلدا كالإمام أو عقدا كما في غيره منها. والواجبات لا تتقيد بوصف السلامة كالرمي إلى الحربي، وفيما نحن فيه لا التزام ولا وجوب، إذ هو مندوب إلى العفو فيكون من باب الإطلاق فأشبه الاصطياد، والله أعلم بالصواب.(4/456)
باب الشهادة في القتل
قال: "ومن قتل وله ابنان حاضر وغائب فأقام الحاضر البينة على القتل ثم قدم(4/456)
الغائب فإنه يعيد البينة" عند أبي حنيفة، وقالا: لا يعيد "وإن كان خطأ لم يعدها بالإجماع" وكذلك الدين يكون لأبيهما على آخر. لهما في الخلافية أن القصاص طريقه طريق الوراثة كالدين، وهذا لأنه عوض عن نفسه فيكون الملك فيه لمن له الملك في المعوض كما في الدية، ولهذا لو انقلب مالا يكون للميت، ولهذا يسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت فينتصب أحد الورثة خصما عن الباقين. وله أن القصاص طريقه الخلافة دون الوراثة؛ ألا ترى أن ملك القصاص يثبت بعد الموت والميت ليس من أهله، بخلاف الدين والدية لأنه من أهل الملك في الأموال، كما إذا نصب شبكة فتعلق بها صيد بعد موته فإنه يملكه، وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا ينتصب أحدهم خصما عن الباقين فيعيد البينة بعد حضوره "فإن كان أقام القاتل البينة أن الغائب قد عفا فالشاهد خصم ويسقط القصاص" لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص إلى مال، ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات العفو من الغائب فينتصب الحاضر خصما عن الغائب "وكذلك عبد بين رجلين قتل عمدا وأحد الرجلين غائب فهو على هذا" لما بيناه.
قال: "فإن كان الأولياء ثلاثة فشهد أثنان منهم على الآخر أنه قد عفا فشهادتهما باطلة وهو عفو منهما" لأنهما يجران بشهادتهما إلى أنفسهما مغنما وهو انقلاب القود مالا "فإن صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثا" معناه: إذا صدقهما وحده، لأنه لما صدقهما فقد أقر بثلثي الدية لهما فصح إقراره، إلا أنه يدعي سقوط حق المشهود عليه وهو ينكر فلا يصدق ويغرم نصيبه "وإن كذبهما فلا شيء لهما وللآخر ثلث الدية" ومعناه: إذا كذبهما القاتل أيضا، وهذا لأنهما أقرا على أنفسهما بسقوط القصاص فقبل وادعيا انقلاب نصيبهما مالا فلا يقبل إلا بحجة، وينقلب نصيب المشهود عليه مالا لأن دعواهما العفو عليه وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو منهما في حق المشهود عليه، لأن سقوط القود مضاف إليهما، وإن صدقهما المشهود عليه وحده غرم القاتل ثلث الدية للمشهود عليه لإقراره له بذلك.
قال: "وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القود إذا كان عمدا" لأن الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وفي ذلك القصاص على ما بيناه، والشهادة على قتل العمد تتحقق على هذا الوجه، لأن الموت بسبب الضرب إنما يعرف إذا صار بالضرب صاحب فراش حتى مات، وتأويله إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح.
قال: " وإذا اختلف شاهدا القتل في الأيام أو في البلد أو في الذي كان به القتل فهو باطل" لأن القتل لا يعاد ولا يكرر، والقتل في زمان أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر، والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح لأن الثاني عمد والأول شبه العمد، ويختلف أحكامهما(4/457)
فكان على كل قتل شهادة فرد "وكذا إذا قال أحدهما: قتله بعصا وقال الآخر لا أدري بأي شيء قتله فهو باطل" لأن المطلق يغاير المقيد.
قال: "وإن شهدا أنه قتله وقالا: لا ندري بأي شيء قتله ففيه الدية استحسانا" والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل يختلف باختلاف الآلة فجهل المشهود به. وجه الاستحسان أنهم شهدوا بقتل مطلق والمطلق ليس بمجمل فيجب أقل موجبيه وهو الدية ولأنه يحمل إجمالهم في الشهادة على إجمالهم بالمشهود عليه سترا عليه. وأولوا كذبهم في نفي العلم بظاهر ما ورد بإطلاقه في إصلاح ذات البين وهذا في معناه، فلا يثبت الاختلاف بالشك، وتجب الدية في ماله لأن الأصل في الفعل العمد فلا يلزم العاقلة.
قال: "وإذا أقر رجلان كل واحد منهما أنه قتل فلانا فقال الولي: قتلتماه جميعا فله أن يقتلهما، وإن شهدوا على رجل أنه قتل فلانا وشهد آخرون على آخر بقتله وقال الولي: قتلتماه جميعا بطل ذلك كله" والفرق أن الإقرار والشهادة يتناول كل واحد منهما وجود كل القتل ووجوب القصاص، وقد حصل التكذيب في الأولى من المقر له وفي الثانية من المشهود له، غير أن تكذيب المقر له المقر في بعض ما أقر به لا يبطل إقراره في الباقي، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض ما شهد به يبطل شهادته أصلا، لأن التكذيب تفسيق وفسق الشاهد يمنع القبول، أما فسق المقر لا يمنع صحة الإقرار، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(4/458)
باب في اعتبار حالة القتل
قال: "ومن رمى مسلما فارتد المرمي إليه والعياذ بالله ثم وقع به السهم فعلى الرامي الدية عند أبي حنيفة. وقالا: لا شيء عليه" لأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه فيكون مبرئا للرامي عن موجبه كما إذا أبرأه بعد الجرح قبل الموت. وله أن الضمان يجب بفعله وهو الرمي إذ لا فعل منه بعد فتعتبر حالة الرمي والمرمي إليه فيها متقوم. ولهذا تعتبر حالة الرمي في حق الحل حتى لا يحرم بردة الرامي بعد الرمي، وكذا في حق التكفير حتى جاز بعد الجرح قبل الموت. والفعل وإن كان عمدا فالقود سقط للشبهة ووجبت الدية.
"ولو رمى إليه وهو مرتد فأسلم ثم وقع به السهم فلا شيء عليه في قولهم جميعا، وكذا إذا رمى حربيا فأسلم" لأن الرمي ما انعقد موجبا للضمان لعدم تقوم المحل فلا ينقلب موجبا لصيرورته متقوما بعد ذلك.
قال: "وإن رمى عبدا فأعتقه مولاه ثم وقع السهم به فعليه قيمته للمولى" عند(4/458)
أبي حنيفة. وقال محمد: عليه فضل ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمي، وقول أبي يوسف مع قول أبي حنيفة. له أن العتق قاطع للسراية، وإذا انقطعت بقي مجرد الرمي وهو جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه بالإضافة إلى ما قبل الرمي فيجب ذلك. ولهما أنه يصير قاتلا من وقت الرمي لأن فعله الرمي وهو مملوك في تلك الحالة فتجب قيمته، بخلاف القطع والجرح لأنه إتلاف بعض المحل، وأنه يوجب الضمان للمولى، وبعد السراية لو وجب شيء لوجب للعبد فتصير النهاية مخالفة للبداية.
أما الرمي قبل الإصابة ليس بإتلاف شيء منه لأنه لا أثر له في المحل. وإنما قلت الرغبات فيه فلا يجب به ضمان فلا تتخالف النهاية والبداية فتجب قيمته للمولى. وزفر وإن كان يخالفنا في وجوب القيمة نظرا إلى حالة الإصابة فالحجة عليه ما حققناه.
قال: "ومن قضي عليه بالرجم فرماه رجل ثم رجع أحد الشهود ثم وقع به الحجر فلا شيء على الرامي" لأن المعتبر حالة الرمي وهو مباح الدم فيها. "وإذا رمى المجوسي صيدا ثم أسلم ثم وقعت الرمية بالصيد لم يؤكل، وإن رماه وهو مسلم ثم تمجس والعياذ بالله أكل" لأن المعتبر حال الرمي في حق الحل والحرمة إذ الرمي هو الذكاة فتعتبر الأهلية وانسلابها عنده. "ولو رمى المحرم صيدا ثم حل فوقعت الرمية بالصيد فعليه الجزاء، وإن رمى حلال صيدا ثم أحرم فلا شيء عليه" لأن الضمان إنما يجب بالتعدي وهو رميه في حالة الإحرام، وفي الأول هو محرم وقت الرمي وفي الثاني حلال فلهذا افترقا، والله أعلم بالصواب.(4/459)
كتاب الديات
قتل الخطأ تجب به الدية
مدخل
...
كتاب الديات
قال: "وفي شبه العمد دية مغلظة على العاقلة وكفارة على القاتل" وقد بيناه في أول الجنايات.
قال: "وكفارته عتق رقبة مؤمنة" لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] الآية "فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" بهذا النص "ولا يجزئ فيه الإطعام" لأنه لم يرد به نص والمقادير تعرف بالتوقيف، ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء، أو لكونه كل المذكور على ما عرف "ويجزئه رضيع أحد أبويه مسلم" لأنه مسلم به والظاهر بسلامة أطرافه "ولا يجزئ ما في البطن" لأنه لا تعرف حياته ولا سلامته.
قال: "وهو الكفارة في الخطأ" لما تلوناه "وديته عند أبي حنيفة وأبي يوسف مائة من الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة" وقال محمد والشافعي أثلاثا: ثلاثون جذعة وثلاثون حقة، وأربعون ثنية، كلها خلفات في بطونها أولادها، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها" وعن عمر رضي الله عنه: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، ولأن دية شبه العمد أغلظ وذلك فيما قلنا. ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وما روياه غير ثابت لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة التغليظ، وابن مسعود رضي الله عنه قال بالتغليظ أرباعا كما ذكرنا وهو كالمرفوع فيعارض به.
قال: "ولا يثبت التغليظ إلا في الإبل خاصة" لأن التوقيف فيه، فإن قضى بالدية في غير الإبل لم تتغلظ لما قلنا.
قال: "وقتل الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل" لما بينا من قبل.
قال: "والدية في الخطأ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة" وهذا قول ابن مسعود رضي الله(4/460)
عنه، وأخذنا نحن والشافعي به لروايته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا" على نحو ما قال، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور، غير أن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض والحجة عليه ما رويناه.
قال: "ومن العين ألف دينار ومن الورق عشرة آلاف درهم" وقال الشافعي: من الورق اثنا عشر ألفا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك. ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه "أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم". وتأويل ما روي أنه قضى من دراهم كان وزنها وزن ستة وقد كانت كذلك.
قال: "ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة، وقالا منها ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان". لأن عمر رضي الله عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها. وله أن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية، وهذه الأشياء مجهولة المالية ولهذا لا يقدر بها ضمان، والتقدير بالإبل عرف بالآثار المشهورة وعدمناها في غيرها. وذكر في المعاقل أنه لو صالح على الزيادة على مائتي حلة أو مائتي بقرة لا يجوز، وهذا آية التقدير بذلك. ثم قيل: هو قول الكل فيرتفع الخلاف، وقيل هو قولهما خاصة.
قال: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل" وقد ورد هذا اللفظ موقوفا على علي رضي الله عنه ومرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وقال الشافعي: ما دون الثلث لا يتنصف، وإمامه فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه، والحجة عليه ما رويناه بعمومه، ولأن حالها أنقص من حال الرجل ومنفعتها أقل، وقد ظهر أثر النقصان بالتنصيف في النفس فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوقه.
قال: "ودية المسلم والذمي سواء" وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وقال مالك: دية اليهودي والنصراني ستة آلاف درهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "عقل الكافر نصف عقل المسلم" والكل عنده اثنا عشر ألفا. وللشافعي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار" وكذلك قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه ولم يذكر في كتب الحديث، وما رويناه أشهر مما رواه مالك فإنه ظهر به عمل الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم.(4/461)
فصل: فيما دون النفس
قال: "وفي النفس الدية" وقد ذكرناه.
قال: "وفي المارن الدية، وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية" والأصل فيه ما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية" وهكذا هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم رضي الله عنه. والأصل في الأطراف أنه إذا فوت جنس منفعة على الكمال أو أزال جمالا مقصودا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية لإتلافه النفس من وجه وهو ملحق بالإتلاف من كل وجه تعظيما للآدمي. أصله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية كلها في اللسان والأنف، وعلى هذا تنسحب فروع كثيرة.
فنقول: في الأنف الدية لأنه أزال الجمال على الكمال وهو مقصود، وكذا إذا قطع المارن أو الأرنبة لما ذكرنا، ولو قطع المارن مع القصبة لا يزاد على دية واحدة لأنه عضو واحد، وكذا اللسان لفوات منفعة مقصودة وهو النطق، وكذا في قطع بعضه إذا منع الكلام لتفويت منفعة مقصودة وإن كانت الآلة قائمة، ولو قدر على التكلم ببعض الحروف قيل: تقسم على عدد الحروف، وقيل: على عدد حروف تتعلق باللسان؛ فبقدر ما لا يقدر تجب، وقيل: إن قدر على أداء أكثرها تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الاختلال، وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية لأن الظاهر أنه لا تحصل منفعة الكلام، وكذا الذكر لأنه يفوت به منفعة الوطء والإيلاد واستمساك البول والرمي به ودفق الماء والإيلاج الذي هو طريق الإعلاق عادة، وكذا في الحشفة الدية كاملة، لأن الحشفة أصل في منفعة الإيلاج والدفق والقصبة كالتابع له.
قال: "وفي العقل إذا ذهب بالضرب الدية" لفوات منفعة الإدراك إذ به ينتفع بنفسه في معاشه ومعاده.
قال: "وكذا إذا ذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه" لأن كل واحد منها منفعة مقصودة، وقد روي: أن عمر رضي الله عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر.
قال: "وفي اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية" لأنه يفوت به منفعة الجمال.
قال: "وفي شعر الرأس الدية" لما قلنا. وقال مالك: وهو قول الشافعي تجب فيهما حكومة عدل، لأن ذلك زيادة في الآدمي، ولهذا يحلق شعر الرأس كله، واللحية بعضها(4/462)
في بعض البلاد وصار كشعر الصدر والساق ولهذا يجب في شعر العبد نقصان القيمة. ولنا أن اللحية في وقتها جمال وفي حلقها تفويته على الكمال فتجب الدية كما في الأذنين الشاخصتين، وكذا شعر الرأس جمال؛ ألا ترى أن من عدمه خلقة يتكلف في ستره، بخلاف شعر الصدر والساق لأنه لا يتعلق به جمال. وأما لحية العبد فعن أبي حنيفة أنه يجب فيها كمال القيمة، والتخريج على الظاهر أن المقصود بالعبد المنفعة بالاستعمال دون الجمال بخلاف الحر.
قال: "وفي الشارب حكومة عدل هو الأصح" لأنه تابع للحية فصار كبعض أطرافها.
قال: "ولحية الكوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة فلا شيء في حلقه" لأن وجوده يشينه ولا يزينه "وإن كان أكثر من ذلك وكان على الخد والذقن جميعا لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل" لأن فيه بعض الجمال "وإن كان متصلا ففيه كمال الدية" لأنه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال، وهذا كله إذا فسد المنبت، فإن نبتت حتى استوى كما كان لا يجب شيء لأنه لم يبق أثر الجناية ويؤدب على ارتكابه ما لا يحل، وإن نبتت بيضاء فعن أبي حنيفة أنه لا يجب شيء في الحر لأنه يزيد جمالا، وفي العبد تجب حكومة عدل لأنه ينقص قيمته، وعندهما تجب حكومة عدل لأنه في غير أوانه يشينه ولا يزينه، ويستوي العمد والخطأ على هذا الجمهور. "وفي الحاجبين الدية وفي إحداهما نصف الدية" وعند مالك والشافعي رحمهما الله تجب حكومة عدل، وقد مر الكلام فيه في اللحية.
قال: "وفي العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية" كذا روي في حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: "وفي كل واحد من هذه الأشياء نصف الدية" وفيما كتبه النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم: "وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية" ولأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء تفويت جنس المنفعة أو كمال الجمال فيجب كل الدية، وفي تفويت إحداهما تفويت النصف فيجب نصف الدية.
قال: "وفي ثديي المرأة الدية" لما فيه من تفويت جنس المنفعة "وفي إحداهما نصف دية المرأة" لما بينا.(4/463)
قال: "وفي أشفار العينين الدية وفي إحداها ربع الدية" قال رضي الله عنه: يحتمل أن مراده الأهداب مجازا كما ذكره محمد في الأصل للمجاورة كالراوية للقربة وهي حقيقة في البعير، وهذا لأنه يفوت الجمال على الكمال وجنس المنفعة وهي منفعة دفع الأذى والقذى عن العين إذ هو يندفع بالهدب، وإذا كان الواجب في الكل كل الدية وهي أربعة كان في أحدها ربع الدية وفي ثلاثة منها ثلاثة أرباعها، ويحتمل أن يكون مراده منبت الشعر والحكم فيه هكذا. "ولو قطع الجفون بأهدابها ففيه دية واحدة" لأن الكل كشيء واحد وصار كالمارن مع القصبة.
قال: "وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل أصبع عشر من الإبل" ولأن في قطع الكل تفويت جنس المنفعة وفيه دية كاملة وهي عشر فتنقسم الدية عليها.
قال: "والأصابع كلها سواء" لإطلاق الحديث، ولأنها سواء في أصل المنفعة فلا تعتبر الزيادة فيه كاليمين مع الشمال، وكذا أصابع الرجلين لأنه يفوت بقطع كلها منفعة المشي فتجب الدية كاملة، ثم فيهما عشر أصابع فتنقسم الدية عليها أعشارا.
قال: "وفي كل أصبع فيها ثلاثة مفاصل؛ ففي أحدها. ثلث دية الأصبع وما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف دية الأصبع" وهو نظير انقسام دية اليد على الأصابع.
قال: "وفي كل سن خمس من الإبل" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "وفي كل سن خمس من الإبل" والأسنان والأضراس كلها سواء لإطلاق ما روينا، ولما روي في بعض الروايات: والأسنان كلها سواء، ولأن كلها في أصل المنفعة سواء فلا يعتبر التفاضل كالأيدي والأصابع، وهذا إذا كان خطأ، فإن كان عمدا ففيه القصاص وقد مر في الجنايات.
قال: "ومن ضرب عضوا فأذهب منفعته ففيه دية كاملة كاليد إذا شلت والعين إذا ذهب ضوءها" لأن المتعلق تفويت جنس المنفعة لا فوات الصورة. "ومن ضرب صلب غيره فانقطع ماؤه تجب الدية" لتفويت جنس المنفعة "وكذا لو أحدبه" لأنه فوت جمالا على الكمال وهو استواء القامة "فلو زالت الحدوبة لا شيء عليه" لزوالها لا عن أثر.(4/464)
فصل: في الشجاج
قال: "الشجاج عشرة: الحارصة" وهي التي تحرص الجلد: أي تخدشه ولا تخرج الدم "والدامعة" وهي التي تظهر الدم ولا تسيله كالدمع من العين "والدامية" وهي التي تسيل(4/464)
الدم "والباضعة" وهي التي تبضع الجلد أي تقطعه "والمتلاحمة" وهي التي تأخذ في اللحم "والسمحاق" وهي التي تصل إلى السمحاق وهي جلدة رقيقة بين اللحم وعظم الرأس "والموضحة" وهي التي توضح العظم أي تبينه "والهاشمة" وهي التي تهشم العظم: أي تكسره "والمنقلة" وهي التي تنقل العظم بعد الكسر: أي تحوله "والآمة" وهي التي تصل إلى أم الرأس وهو الذي فيه الدماغ.
قال: "ففي الموضحة القصاص إن كانت عمدا" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالقصاص في الموضحة ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم فيتساويان فيتحقق القصاص. قال: "ولا قصاص في بقية الشجاج" لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيها لأنه لا حد ينتهي السكين إليه، ولأن فيما فوق الموضحة كسر العظم ولا قصاص فيه، وهذا رواية عن أبي حنيفة. وقال محمد في الأصل وهو ظاهر الرواية: يجب القصاص فيما قبل الموضحة لأنه يمكن اعتبار المساواة فيه، إذ ليس فيه كسر العظم ولا خوف هلاك غالب فيسبر غورها بمسبار ثم تتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع فيتحقق استيفاء القصاص.
قال: "وفيما دون الموضحة حكومة عدل" لأنه ليس فيها أرش مقدر ولا يمكن إهداره فوجب اعتباره بحكم العدل، وهو مأثور عن النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمه الله.
قال: "وفي الموضحة إن كانت خطأ نصف عشر الدية، وفي الهاشمة عشر الدية، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشر الدية، وفي الآمة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما ثلثا الدية" لما روي في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمسة عشر، وفي الآمة" ويروى: "المأمومة ثلث الدية" وقال عليه الصلاة والسلام: "في الجائفة ثلث الدية" وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية، ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة جائفتين إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر وفي كل جائفة ثلث الدية فلهذا وجب في النافذة ثلثا الدية.
وعن محمد رحمه الله أنه جعل المتلاحمة قبل الباضعة وقال: هي التي يتلاحم فيها الدم ويسود. وما ذكرناه بدءا مروي عن أبي يوسف وهذا اختلاف عبارة لا يعود إلى معنى وحكم وبعد هذا شجة أخرى تسمى الدامغة، وهي التي تصل إلى الدماغ، وإنما لم يذكرها لأنها تقع قتلا في الغالب لا جناية مقتصرة منفردة بحكم على حدة، ثم هذه الشجاج(4/465)
تختص بالوجه والرأس لغة، وما كان في غير الوجه والرأس يسمى جراحة، والحكم مرتب على الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق واليد لا يكون لها أرش مقدر، وإنما تجب حكومة العدل لأن التقدير بالتوقيف وهو إنما ورد فيما يختص بهما، ولأنه إنما ورد الحكم فيها لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة، والشين يختص بما يظهر منها في الغالب وهو العضوان هذان لا سواهما.
وأما اللحيان فقد قيل ليسا من الوجه وهو قول مالك، حتى لو وجد فيهما ما فيه أرش مقدر لا يجب المقدر. وهذا لأن الوجه مشتق من المواجهة، ولا مواجهة للناظر فيهما إلا أن عندنا هما من الوجه لاتصالهما به من غير فاصلة، وقد يتحقق فيه معنى المواجهة أيضا. وقالوا: الجائفة تختص بالجوف: جوف الرأس أو جوف البطن، وتفسير حكومة العدل على ما قاله الطحاوي أن يقوم مملوكا بدون هذا الأثر ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين، فإن كان نصف عشر القيمة يجب نصف عشر الدية، وإن كان ربع عشر فربع عشر. وقال الكرخي: ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية، لأن ما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه والله أعلم.(4/466)
فصل: وفي أصابع اليد نصف الدية
...
فصل: قال: "وفي أصابع اليد نصف الدية"
لأن في كل أصبع عشر الدية على ما روينا، فكان في الخمس نصف الدية ولأن في قطع الأصابع تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب على ما مر "فإن قطعها مع الكف ففيه أيضا نصف الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية" ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها "وإن قطعها مع نصف الساعد ففي الأصابع والكف نصف الدية، وفي الزيادة حكومة عدل" وهو رواية عن أبي يوسف، وعنه أن ما زاد على أصابع اليد والرجل فهو تبع للأصابع إلى المنكب وإلى الفخذ لأن الشرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدية، واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب فلا يزاد على تقدير الشرع ولهما أن اليد آلة باطشة والبطش يتعلق بالكف، والأصابع دون الذراع فلم يجعل الذراع تبعا في حق التضمين ولأنه لا وجه إلى أن يكون تبعا للأصابع لأن بينهما عضوا كاملا ولا إلى أن يكون تبعا للكف لأنه تابع ولا تبع للتبع.
قال: "وإن قطع الكف من المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية، وإن كان(4/466)
أصبعين فالخمس، ولا شيء في الكف" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: ينظر إلى أرش الكف والأصبع فيكون عليه الأكثر، ويدخل القليل في الكثير لأنه لا وجه إلى الجمع بين الأرشين لأن الكل شيء واحد، ولا إلى إهدار أحدهم لأن كل واحد منهما أصل من وجه فرجحنا بالكثرة. وله أن الأصابع أصل والكف تابع حقيقة وشرعا، لأن البطش يقوم بها، وأوجب الشرع في أصبع واحدة عشرا من الإبل، والترجيح من حيث الذات والحكم أولى من الترجيح من حيث مقدار الواجب "ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع ولا شيء في الكف بالإجماع" لأن الأصابع أصول في التقويم، وللأكثر حكم الكل فاستتبعت الكف، كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها.
قال: "وفي الأصبع الزائدة حكومة عدل" تشريفا للآدمي لأنه جزء من يده، ولكن لا منفعة فيه ولا زينة "وكذلك السن الشاغية" لما قلنا. "وفي عين الصبي وذكره ولسانه إذا لم تعلم صحته حكومة عدل" وقال الشافعي: تجب فيه دية كاملة، لأن الغالب فيه الصحة فأشبه قطع المارن والأذن. ولنا أن المقصود من هذه الأعضاء المنفعة، فإن لم يعلم صحتها لا يجب الأرش الكامل بالشك، والظاهر لا يصلح حجة للإلزام بخلاف المارن والأذن الشاخصة، لأن المقصود هو الجمال وقد فوته على الكمال "وكذا لو استهل الصبي" لأنه ليس بكلام وإنما هو مجرد صوت ومعرفة الصحة فيه بالكلام وفي الذكر بالحركة وفي العين بما يستدل به على النظر فيكون حكمه بعد ذلك حكم البالغ في العمد والخطإ.
قال: "ومن شج رجلا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل أرش الموضحة في الدية" لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا أوضحه فمات، وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر، حتى لو نبت يسقط، والدية بفوات كل الشعر وقد تعلقا بسبب واحد فدخل الجزء في الجملة كما إذا قطع أصبع رجل فشلت يده. وقال زفر: لا يدخل لأن كل واحد منهما جناية فيما دون النفس فلا يتداخلان كسائر الجنايات. وجوابه ما ذكرناه.
قال: "وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه فعليه أرش الموضحة مع الدية" قالوا: هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وعن أبي يوسف أن الشجة تدخل في دية السمع والكلام ولا تدخل في دية البصر. وجه الأول أن كلا منهما جناية فيما دون النفس والمنفعة مختصة به فأشبه الأعضاء المختلفة، بخلاف العقل لأن منفعته عائدة إلى جميع الأعضاء على ما بينا. ووجه الثاني أن السمع والكلام مبطن فيعتبر بالعقل، والبصر ظاهر فلا يلحق به.(4/467)
قال: "وفي الجامع الصغير: ومن شج رجلا موضحة فذهبت عيناه فلا قصاص في ذلك" عند أبي حنيفة. قالوا: وينبغي أن تجب الدية فيهما "وقالا: في الموضحة القصاص" قالوا: وينبغي أن تجب الدية في العينين.
قال: "وإن قطع أصبع رجل من المفصل الأعلى فشل ما بقي من الأصبع أو اليد كلها لا قصاص عليه في شيء من ذلك" وينبغي أن تجب الدية في المفصل الأعلى وفيما بقي حكومة عدل "وكذلك لو كسر سن رجل فاسود ما بقي" ولم يحك خلافا وينبغي أن تجب الدية في السن كله "ولو قال: اقطع المفصل واترك ما يبس أو اكسر القدر المكسور واترك الباقي لم يكن له ذلك" لأن الفعل في نفسه ما وقع موجبا للقود فصار كما لو شجه منقلة فقال: أشجه موضحة أترك الزيادة. لهما في الخلافية أن الفعل في محلين فيكون جنايتين مبتدأتين فالشبهة في إحداهما لا تتعدى إلى الأخرى، كمن رمى إلى رجل عمدا فأصابه ونفذ منه إلى غيره فقتله يجب القود في الأول والدية في الثاني. وله أن الجراحة الأولى سارية والجزاء بالمثل، وليس في وسعه الساري فيجب المال، ولأن الفعل واحد حقيقة وهو الحركة القائمة، وكذا المحل متحد من وجه لاتصال أحدهما بالآخر فأورثت نهايته شبهة الخطأ في البداية، بخلاف النفسين لأن أحدهما ليس من سراية صاحبه، وبخلاف ما إذا وقع السكين على الأصبع لأنه ليس فعلا مقصودا.
قال: "وإن قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى فلا قصاص في شيء من ذلك" عند أبي حنيفة. وقالا هما وزفر والحسن: يقتص من الأولى وفي الثانية أرشها. والوجه من الجانبين قد ذكرناه. وروى ابن سماعة عن محمد في المسألة الأولى وهو ما إذا شج موضحة فذهب بصره أنه يجب القصاص فيهما لأن الحاصل بالسراية مباشرة كما في النفس والبصر يجري فيه القصاص، بخلاف الخلافية الأخيرة لأن الشلل لا قصاص فيه، فصار الأصل عند محمد على هذه الرواية أن سراية ما يجب فيه القصاص إلى ما يمكن فيه القصاص يوجب الاقتصاص كما لو آلت إلى النفس وقد وقع الأول ظلما. ووجه المشهور أن ذهاب البصر بطريق التسبيب؛ ألا يرى أن الشجة بقيت موجبة في نفسها ولا قود في التسبيب، بخلاف السراية إلى النفس لأنه لا تبقى الأولى فانقلبت الثانية مباشرة.
قال: "ولو كسر بعض السن فسقطت فلا قصاص" إلا على رواية ابن سماعة "ولو أوضحه موضحتين فتآكلتا فهو على الروايتين هاتين".(4/468)
قال: "ولو قلع سن رجل فنبتت مكانها أخرى سقط الأرش في قول أبي حنيفة، وقال: عليه الأرش كاملا" لأن الجناية قد تحققت والحادث نعمة مبتدأة من الله تعالى. وله أن الجناية انعدمت معنى فصار كما إذا قلع سن صبي فنبتت لا يجب الأرش بالإجماع لأنه لم يفت عليه منفعة ولا زينة "وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة عدل" لمكان الألم الحاصل "ولو قلع سن غيره فردها صاحبها في مكانها ونبت عليه اللحم فعلى القالع الأرش بكماله" لأن هذا مما لا يعتد به إذ العروق لا تعود "وكذا إذا قطع أذنه فألصقها فالتحمت" لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه. "ومن نزع سن رجل فانتزع المنزوعة سنه سن النازع فنبتت سن الأول فعلى الأول لصاحبه خمسمائة درهم" لأنه تبين أنه استوفى بغير حق لأن الموجب فساد المنبت ولم يفسد حيث نبت مكانها أخرى فانعدمت الجناية، ولهذا يستأنى حولا بالإجماع، وكان ينبغي أن ينتظر اليأس في ذلك للقصاص، إلا أن في اعتبار ذلك تضييع الحقوق فاكتفينا بالحول لأنه تنبت فيه ظاهرا، فإذا مضى الحول ولم تنبت قضينا بالقصاص، وإذا نبتت تبين أنا أخطأنا فيه والاستيفاء كان بغير حق، إلا أنه لا يجب القصاص للشبهة فيجب المال.
قال: "ولو ضرب إنسان سن إنسان فتحركت يستأنى حولا" ليظهر أثر فعله "فلو أجله القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فاختلفا قبل السنة فيما سقط بضربه فالقول للمضروب" ليكون التأجيل مفيدا، وهذا بخلاف ما إذا شجه موضحة فجاء وقد صارت منقلة فاختلفا حيث يكون القول قول الضارب لأن الموضحة لا تورث المنقلة، أما التحريك فيؤثر في السقوط فافترقا "وإن اختلفا في ذلك بعد السنة فالقول للضارب" لأنه ينكر أثر فعله وقد مضى الأجل الذي وقته القاضي لظهور الأثر فكان القول للمنكر "ولو لم تسقط لا شيء على الضارب" وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة الألم، وسنبين الوجهين بعد هذا إن شاء الله تعالى "ولو لم تسقط ولكنها اسودت يجب الأرش في الخطإ على العاقلة وفي العمد في ماله، ولا يجب القصاص" لأنه لا يمكنه أن يضربه ضربا تسود منه "وكذا إذا كسر بعضه واسود الباقي" لا قصاص لما ذكرنا "وكذا لو احمر أو اخضر" ولو اصفر فيه روايتان.
قال: "ومن شج رجلا فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش" عند أبي حنيفة لزوال الشين الموجب. وقال أبو يوسف: يجب عليه أرش الألم وهو حكومة عدل، لأن الشين إن زال فالألم الحاصل ما زال فيجب تقويمه. وقال محمد: عليه أجرة الطبيب، لأنه إنما لزمه الطبيب وثمن الدواء بفعله فصار كأنه أخذ ذلك من(4/469)
ماله، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المنافع على أصلنا لا تتقوم إلا بعقد أو بشبهة، ولم يوجد في حق الجاني فلا يغرم شيئا.
قال: "ومن ضرب رجلا مائة سوط فجرحه فبرئ منها فعليه أرش الضرب" معناه: إذا بقي أثر الضرب، فأما إذا لم يبق أثره فهو على اختلاف قد مضى في الشجة الملتحمة.
قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله خطأ قبل البرء فعليه الدية وسقط عنه أرش اليد" لأن الجناية من جنس واحد والموجب واحد وهو الدية وإنها بدل النفس بجميع أجزائها فدخل الطرف في النفس كأنه قتله ابتداء.
قال: "ومن جرح رجلا جراحة لم يقتص منه حتى يبرأ" وقال الشافعي رحمه الله: يقتص منه في الحال اعتبارا بالقصاص في النفس، وهذا لأن الموجب قد قد تحقق فلا يعطل. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "يستأنى في الجراحات سنة" ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم فلعلها تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل وإنما يستقر الأمر بالبرء.
قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة فالدية في مال القاتل، وكل أرش وجب بالصلح فهو في مال القاتل" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تعقل العواقل عمدا" الحديث. وهذا عمد، غير أن الأول يجب في ثلاث سنين لأنه مال وجب بالقتل ابتداء فأشبه شبه العمد. والثاني يجب حالا لأنه مال وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع.
قال: "وإن قتل الأب ابنه عمدا فالدية في ماله في ثلاث سنين" وقال الشافعي رحمه الله: تجب حالة لأن الأصل أن ما يجب بالإتلاف يجب حالا، والتأجيل للتخفيف في الخاطئ وهذا عامد فلا يستحقه، ولأن المال وجب جبرا لحقه، وحقه في نفسه حال فلا ينجبر بالمؤجل. ولنا أنه مال واجب بالقتل فيكون مؤجلا كدية الخطإ وشبه العمد، وهذا لأن القياس يأبى تقوم الآدمي بالمال لعدم التماثل، والتقويم ثبت بالشرع وقد ورد به مؤجلا لا معجلا فلا يعدل عنه لا سيما إلى زيادة، ولما لم يجز التغليط باعتبار العمدية قدرا لا يجوز وصفا "وكل جناية اعترف بها الجاني فهي في ماله ولا يصدق على عاقلته" لما روينا، ولأن الإقرار لا يتعدى المقر لقصور ولايته عن غيره فلا يظهر في حق العاقلة.
قال: "وعمد الصبي والمجنون خطأ وفيه الدية" على العاقلة، وكذلك كل جناية موجبها خمسمائة فصاعدا والمعتوه كالمجنون "وقال الشافعي رحمه الله: عمده عمد حتى تجب الدية في ماله حالة" لأنه عمد حقيقة، إذ العمد هو القصد غير أنه تخلف عنه أحد حكميه وهو(4/470)
القصاص فينسحب عليه حكمه الآخر وهو الوجوب في ماله، ولهذا تجب الكفارة به، ويحرم عن الميراث على أصله لأنهما يتعلقان بالقتل. ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل عقل المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة المرحمة، والعاقل الخاطئ لما استحق التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة فالصبي وهو أعذر أولى بهذا التخفيف. ولا نسلم تحقق العمدية فإنها تترتب على العلم والعلم بالعقل، والمجنون عديم العقل والصبي قاصر العقل فأنى يتحقق منهما القصد وصار كالنائم. وحرمان الميراث عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة والكفارة كاسمها ستارة: ولا ذنب تستره لأنهما مرفوعا القلم والله أعلم.(4/471)
فصل: في الجنين
قال: "وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة وهي نصف عشر الدية" قال رضي الله عنه: معناه دية الرجل، وهذا في الذكر، وفي الأنثى عشر دية المرأة وكل منهما خمسمائة درهم. والقياس أن لا يجب شيء لأنه لم يتيقن بحياته، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق. وجه الاستحسان ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة" ويروى "أو خمسمائة" فتركنا القياس بالأثر، وهو حجة على من قدرها بستمائة نحو مالك والشافعي "وهي على العاقلة" عندنا إذا كانت خمسمائة درهم. وقال مالك: في ماله لأنه بدل الجزء. ولنا أنه عليه الصلاة والسلام: "قضى بالغرة على العاقلة"، ولأنه بدل النفس ولهذا سماه عليه الصلاة والسلام دية حيث قال: "دوه" وقالوا: "أندي من لا صاح ولا استهل" الحديث، إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة. "وتجب في سنة" وقال الشافعي رحمه الله: في ثلاث سنين لأنه بدل النفس ولهذا يكون موروثا بين ورثته. ولنا ما روي عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال: "بلغنا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام جعله على العاقلة في سنة" ولأنه إن كان بدل النفس من حيث إنه نفس على حدة فهو بدل العضو من حيث الاتصال بالأم فعملنا بالشبه الأول في حق التوريث، وبالثاني في حق التأجيل إلى سنة، لأن بدل العضو إذا كان ثلث الدية أو أقل أكثر من نصف العشر يجب في سنة، بخلاف أجزاء الدية لأن كل جزء منها على من وجب يجب في ثلاث سنين "ويستوي فيه الذكر والأنثى" لإطلاق ما روينا، ولأن في الحيين إنما ظهر التفاوت لتفاوت معاني الآدمية ولا تفاوت في الجنين فيقدر بمقدار واحد وهو خمسمائة. "فإن ألقته حيا ثم مات ففيه دية كاملة" لأنه أتلف حيا بالضرب السابق "وإن ألقته ميتا ثم ماتت الأم فعليه دية بقتل الأم وغرة بإلقائها" وقد صح "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في هذا بالدية والغرة" "وإن ماتت الأم من(4/471)
الضربة ثم خرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه دية في الأم ودية في الجنين" لأنه قاتل شخصين "وإن ماتت ثم ألقت ميتا فعليه دية في الأم ولا شيء في الجنين" وقال الشافعي: تجب الغرة في الجنين لأن الظاهر موته بالضرب فصار كما إذا ألقته ميتا وهي حية. ولنا أن موت الأم أحد سببي موته لأنه يختنق بموتها إذ تنفسه بتنفسها فلا يجب الضمان بالشك.
قال: "وما يجب في الجنين موروث عنه" لأنه بدل نفسه فيرثه ورثته "ولا يرثه الضارب، حتى لو ضرب بطن امرأته فألقت ابنه ميتا فعلى عاقلة الأب غرة ولا يرث منها" لأنه قاتل بغير حق مباشرة ولا ميراث للقاتل.
قال: "وفي جنين الأمة إذا كان ذكرا نصف عشر قيمته لو كان حيا وعشر قيمته لو كان أنثى" وقال الشافعي: فيه عشر قيمة الأم، لأنه جزء من وجه، وضمان الأجزاء يؤخذ مقدارها من الأصل. ولنا أنه بدل نفسه لأن ضمان الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان، ولا معتبر في ضمان الجنين فكان بدل نفسه فيقدر بها. وقال أبو يوسف: يجب ضمان النقصان لو انتقصت الأم اعتبارا بجنين البهائم، وهذا لأن الضمان في قتل الرقيق ضمان مال عنده على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فصح الاعتبار على أصله.
قال: "فإن ضربت فأعتق المولى ما في بطنها ثم ألقته حيا ثم مات ففيه قيمته حيا ولا تجب الدية وإن مات بعد العتق" لأنه قتله بالضرب السابق وقد كان في حالة الرق فلهذا تجب القيمة دون الدية، وتجب قيمته حيا لأنه بالضرب صار قاتلا إياه وهو حي فنظرنا إلى حالتي السبب والتلف. وقيل: هذا عندهما، وعند محمد تجب قيمته ما بين كونه مضروبا إلى كونه غير مضروب، لأن الإعتاق قاطع للسراية على ما يأتيك بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا كفارة في الجنين" وعند الشافعي تجب لأنه نفس من وجه فتجب الكفارة احتياطا. ولنا أن الكفارة فيها معنى العقوبة وقد عرفت في النفوس المطلقة فلا تتعداها ولهذا لم يجب كل البدل. قالوا: إلا أن يشاء ذلك لأنه ارتكب محظورا، فإذا تقرب إلى الله تعالى كان أفضل له ويستغفر مما صنع "والجنين الذي قد استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع هذه الأحكام" لإطلاق ما روينا، ولأنه ولد في حق أمومية الولد وانقضاء العدة والنفاس وغير ذلك، فكذا في حق هذا الحكم، ولأن بهذا القدر يتميز من العلقة والدم فكان نفسها، والله أعلم.(4/472)
باب ما يحدث الرجل في الطريق
مدخل
...
باب ما يحدث الرجل في الطريق
قال: "ومن أخرج إلى الطريق الأعظم كنيفا أو ميزابا أو جرصنا أو بنى دكانا فلرجل من عرض الناس أن ينزعه" لأن كل واحد صاحب حق بالمرور بنفسه وبدوابه فكان له حق النقض، كما في الملك المشترك فإن لكل واحد حق النقض لو أحدث غيرهم فيه شيئا فكذا في الحق المشترك.
قال: "ويسع للذي عمله أن ينتفع به ما لم يضر بالمسلمين" لأن له حق المرور ولا ضرر فيه فليلحق ما في معناه به، إذ المانع متعنت، فإذا أضر بالمسلمين كره له ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
قال: "وليس لأحد من أهل الدرب الذي ليس بنافذ أن يشرع كنيفا أو ميزابا إلا بإذنهم" لأنها مملوكة لهم ولهذا وجبت الشفعة لهم على كل حال، فلا يجوز التصرف أضر بهم أو لم يضر إلا بإذنهم. وفي الطريق النافذ له التصرف إلا إذا أضر لأنه يتعذر الوصول إلى إذن الكل، فجعل في حق كل واحد كأنه هو المالك وحده حكما كي لا يتعطل عليه طريق الانتفاع، ولا كذلك غير النافذ لأن الوصول إلى إرضائهم ممكن فبقي على الشركة حقيقة وحكما.
قال: "وإذا أشرع في الطريق روشنا أو ميزابا أو نحوه فسقط على إنسان فعطب فالدية على عاقلته" لأنه سبب لتلفه متعد بشغله هواء الطريق، وهذا من أسباب الضمان وهو الأصل، وكذلك إذا سقط شيء مما ذكرنا في أول الباب "وكذا إذا تعثر بنقضه إنسان أو عطبت به دابة، وإن عثر بذلك رجل فوقع على آخر فماتا فالضمان على الذي أحدثه فيهما" لأنه يصير كالدافع إياه عليه "وإن سقط الميزاب بطرفان أصاب ما كان منه في الحائط رجلا فقتله فلا ضمان عليه" لأنه غير متعد فيه لما أنه وضعه في ملكه "وإن أصابه ما كان خارجا من الحائط فالضمان على الذي وضعه فيه" لكونه متعديا فيه، ولا ضرورة لأنه يمكنه أن يركبه في الحائط ولا كفارة عليه، ولا يحرم عن الميراث لأنه ليس بقاتل حقيقة.
"ولو أصابه الطرفان جميعا وعلم ذلك وجب نصف الدية وهدر النصف كما إذا جرحه سبع وإنسان، ولو لم يعلم أي طرف أصابه يضمن النصف" اعتبارا للأحوال.
"ولو أشرع جناحا إلى الطريق ثم باع الدار فأصاب الجناح رجلا فقتله أو وضع خشبة في الطريق ثم باع الخشبة وبرئ إليه منها فتركها المشتري حتى عطب بها إنسان فالضمان(4/473)
على البائع" لأن فعله وهو الوضع لم ينفسخ بزوال ملكه وهو الموجب "ولو وضع في الطريق جمرا فأحرق شيئا يضمنه" لأنه متعد فيه.
"ولو حركته الريح إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا لا يضمنه" لنسخ الريح فعله، وقيل إذا كان اليوم ريحا يضمنه لأنه فعله مع علمه بعاقبته وقد أفضى إليها فجعل كمباشرته.
"ولو استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا قبل أن يفرغوا من العمل فالضمان عليهم" لأن التلف بفعلهم "وما لم يفرغوا لم يكن العمل مسلما إلى رب الدار" وهذا لأنه انقلب فعلهم قتلا حتى وجبت عليهم الكفارة، والقتل غير داخل في عقده فلم يتسلم فعلهم إليه فاقتصر عليهم "وإن سقط بعد فراغهم فالضمان على رب الدار استحسانا" لأنه صح الاستئجار حتى استحقوا الأجر ووقع فعلهم عمارة وإصلاحا فانتقل فعلهم إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا يضمنه "وكذا إذا صب الماء في الطريق فعطب به إنسان أو دابة، وكذا إذا رش الماء أو توضأ" لأنه متعد فيه بإلحاق الضرر بالمارة "بخلاف ما إذا فعل ذلك في سكة غير نافذة وهو من أهلها أو قعد أو وضع متاعه" لأن لكل واحد أن يفعل ذلك فيها لكونه من ضرورات السكنى كما في الدار المشتركة. قالوا: هذا إذا رش ماء كثيرا بحيث يزلق به عادة، أما إذا رش ماء قليلا كما هو المعتاد والظاهر أنه لا يزلق به عادة لا يضمن.
"ولو تعمد المرور في موضع صب الماء فسقط لا يضمن الراش" لأنه صاحب علة. وقيل: هذا إذا رش بعض الطريق لأنه يجد موضعا للمرور لا أثر للماء فيه، فإذا تعمد المرور على موضع صب الماء مع علمه بذلك لم يكن على الراش شيء، وإن رش جميع الطريق يضمن لأنه مضطر في المرور؛ وكذلك الحكم في الخشبة الموضوعة في الطريق في أخذها جميعه أو بعضه.
"ولو رش فناء حانوت بإذن صاحبه فضمان ما عطب على الآمر استحسانا. وإذا استأجر أجيرا ليبني له في فناء حانوته فتعقل به إنسان بعد فراغه فمات يجب الضمان على الآمر استحسانا، ولو كان أمره بالبناء في وسط الطريق فالضمان على الأجير" لفساد الأمر.
قال: "ومن حفر بئرا في طريق المسلمين أو وضع حجرا فتلف بذلك إنسان فديته على عاقلته، وإن تلفت به بهيمة فضمانها في ماله" لأنه متعد فيه فيضمن ما يتولد منه، غير أن العاقلة تتحمل النفس دون المال فكان ضمان البهيمة في ماله وإلقاء التراب واتخاذ الطين في الطريق بمنزلة إلقاء الحجر والخشبة لما ذكرنا، بخلاف ما إذا كنس الطريق فعطب بموضع كنسه إنسان حيث لم يضمن لأنه ليس بمتعد فإنه ما أحدث شيئا فيه إنما قصد دفع(4/474)
الأذى عن الطريق، حتى لو جمع الكناسة في الطريق وتعقل بها إنسان كان ضامنا لتعديه بشغله.
"ولو وضع حجرا فنحاه غيره عن موضعه فعطب به إنسان فالضمان على الذي نحاه" لأن حكم فعله قد انتسخ لفراغ ما شغله، وإنما اشتغل بالفعل الثاني موضع آخر.
"وفي الجامع الصغير في البالوعة يحفرها الرجل في الطريق، فإن أمره السلطان بذلك أو أجبره عليه لم يضمن" لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة "وإن كان بغير أمره فهو متعد" إما بالتصرف في حق غيره أو بالافتيات على رأي الإمام أو هو مباح مقيد بشرط السلامة، وكذا الجواب على هذا التفصيل في جميع ما فعل في طريق العامة مما ذكرناه وغيره لأن المعنى لا يختلف "وكذا إن حفره في ملكه لا يضمن" لأنه غير متعد "وكذا إذا حفره في فناء داره" لأن له ذلك لمصلحة داره والفناء في تصرفه. وقيل هذا إذا كان الفناء مملوكا له أو كان له حق الحفر فيه لأنه غير متعد، أما إذا كان لجماعة المسلمين أو مشتركا بأن كان في سكة غير نافذة فإنه يضمنه لأنه مسبب متعد وهذا صحيح.
"ولو حفر في الطريق ومات الواقع فيه جوعا أو غما لا ضمان على الحافر" عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مات لمعنى في نفسه فلا يضاف إلى الحفر، والضمان إنما يجب إذا مات من الوقوع. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن مات جوعا فكذلك، وإن مات غما فالحافر ضامن له لأنه لا سبب للغم سوى الوقوع، أما الجوع فلا يختص بالبئر. وقال محمد: هو ضامن في الوجوه كلها، لأنه إنما حدث بسبب الوقوع، إذ لولاه لكان الطعام قريبا منه.
قال: "وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير فنائه فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجراء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه" لأن الإجارة صحت ظاهرا إذا لم يعلموا فنقل فعلهم إليه لأنهم كانوا مغرورين، فصار كما إذا أمر آخر بذبح هذه الشاة فذبحها ثم ظهر أن الشاة لغيره، إلا أن هناك يضمن المأمور ويرجع على الآمر لأن الذابح مباشر والآمر مسبب والترجيح للمباشرة فيضمن المأمور ويرجع المغرور، وهنا يجب الضمان على المستأجر ابتداء لأن كل واحد منهما مسبب والأجير غير متعد والمستأجر متعد فيرجح جانبه "وإن علموا ذلك فالضمان على الأجراء" لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ولا غرور فبقي الفعل مضافا إليهم "وإن قال لهم: هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر فحفروا ومات فيه إنسان فالضمان على الأجراء قياسا" لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم "وفي الاستحسان الضمان(4/475)
على المستأجر" لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف فيه من إلقاء الطين والحطب وربط الدابة والركوب وبناء الدكان فكان الأمر بالحفر في ملكه ظاهرا بالنظر إلى ما ذكرنا فكفى ذلك لنقل الفعل إليه.
قال: "ومن جعل قنطرة بغير إذن الإمام فتعمد رجل المرور عليها فعطب فلا ضمان على الذي عمل القنطرة، وكذلك إذا وضع خشبة في الطريق فتعمد رجل المرور عليها" لأن الأول تعد هو تسبيب، والثاني تعد هو مباشرة فكانت الإضافة إلى المباشر أولى، ولأن تخلل فعل فاعل مختار يقطع النسبة كما في الحافر مع الملقي.
قال: "ومن حمل شيئا في الطريق فسقط على إنسان فعطب به إنسان فهو ضامن، وكذا إذا سقط فتعثر به إنسان وإن كان رداء قد لبسه فسقط عنه فعطب به إنسان لم يضمن" وهذا اللفظ يشمل الوجهين، والفرق أن حامل الشيء قاصد حفظه فلا حرج في التقييد بوصف السلامة، واللابس لا يقصد حفظ ما يلبسه فيخرج بالتقييد بما ذكرنا فجعلناه مباحا مطلقا. وعن محمد أنه إذا لبس ما لا يلبسه عادة فهو كالحامل لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.
قال: "وإذا كان المسجد للعشيرة فعلق رجل منهم فيه قنديلا أو جعل فيه بواري أو حصاة فعطب به رجل لم يضمن، وإن كان الذي فعل ذلك من غير العشيرة ضمن" قالوا: هذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن في الوجهين جميعا، لأن هذه من القرب وكل أحد مأذون في إقامتها فلا يتقيد بشرط السلامة، كما إذا فعله بإذن واحد من أهل المسجد. ولأبي حنيفة وهو الفرق أن التدبير فيما يتعلق بالمسجد لأهله دون غيرهم كنصب الإمام واختيار المتولي وفتح بابه وإغلاقه وتكرار الجماعة إذا سبقهم بها غير أهله فكان فعلهم مباحا مطلقا غير مقيد بشرط السلامة وفعل غيرهم تعديا أو مباحا مقيدا بشرط السلامة، وقصد القربة لا ينافي الغرامة إذا أخطأ الطريق كما إذا تفرد بالشهادة على الزنا والطريق فيما نحن فيه الاستئذان من أهله.
قال: "وإن جلس فيه رجل منهم فعطب به رجل لم يضمن إن كان في الصلاة، وإن كان في غير الصلاة ضمن" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن على كل حال. ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم أو للصلاة أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث فهو على هذا الاختلاف.
وأما المعتكف فقد قيل على هذا الاختلاف، وقيل لا يضمن بالاتفاق. لهما أن(4/476)
المسجد إنما بني للصلاة والذكر ولا يمكنه أداء الصلاة بالجماعة إلا بانتظارها فكان الجلوس فيه مباحا لأنه من ضرورات الصلاة، أو لأن المنتظر للصلاة في الصلاة حكما بالحديث فلا يضمن كما إذا كان في الصلاة. وله أن المسجد إنما بني للصلاة، وهذه الأشياء ملحقة بها فلا بد من إظهار التفاوت فجعلنا الجلوس للأصل مباحا مطلقا والجلوس لما يلحق به مباحا مقيدا بشرط السلامة ولا غرو أن يكون الفعل مباحا أو مندوبا إليه وهو مقيد بشرط السلامة كالرمي إلى الكافر أو إلى الصيد والمشي في الطريق والمشي في المسجد إذا وطئ غيره والنوم فيه إذا انقلب على غيره.
"وإن جلس رجل من غير العشيرة فيه للصلاة فتعقل به إنسان ينبغي أن لا يضمن" لأن المسجد بني للصلاة وأمر الصلاة بالجماعة إن كان مفوضا إلى أهل المسجد فلكل واحد من المسلمين أن يصلي فيه وحده، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/477)
فصل: في الحائط المائل
قال: "وإذا مال الحائط إلى طريق المسلمين فطولب صاحبه بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه في مدة يقدر على نقضه حتى سقط ضمن ما تلف به من نفس أو مال" والقياس أن لا يضمن لأنه لا صنع منه مباشرة، والمباشرة شرط هو متعد فيه، لأن أصل البناء كان في ملكه، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله فصار كما قبل الإشهاد. وجه الاستحسان أن الحائط لما مال إلى الطريق فقد اشتمل هواء طريق المسلمين بملكه ورفعه في يده، فإذا تقدم إليه وطولب بتفريغه يجب عليه فإذا امتنع صار متعديا بمنزلة ما لو وقع ثوب إنسان في حجره يصير متعديا بالامتناع عن التسليم إذا طولب به كذا هذا، بخلاف ما قبل الإشهاد لأنه بمنزلة هلاك الثوب قبل الطلب، ولأنا لو لم نوجب عليه الضمان يمتنع عن التفريغ فينقطع المارة حذرا على أنفسهم فيتضررون به، ودفع الضرر العام من الواجب وله تعلق بالحائط فيتعين لدفع هذا الضرر، وكم من ضرر خاص يتحمل لدفع العام منه، ثم فيما تلف به من النفوس تجب الدية وتتحملها العاقلة، لأنه في كونه جناية دون الخطأ فيستحق فيه التخفيف بالطريق الأولى كي لا يؤدي إلى استئصاله والإجحاف به، وما تلف به من الأموال كالدواب والعروض يجب ضمانها في ماله، لأن العواقل لا تعقل المال والشرط التقدم إليه وطلب النقض منه دون الإشهاد، وإنما ذكر الإشهاد ليتمكن من إثباته عند إنكاره فكان من باب الاحتياط. وصورة الإشهاد أن يقول الرجل: اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا، ولا يصح الإشهاد قبل أن يهي الحائط لانعدام التعدي.(4/477)
قال: "ولو بنى الحائط مائلا في الابتداء قالوا: يضمن ما تلف بسقوطه من غير إشهاد" لأن البناء تعد ابتداء كما في إشراع الجناح.
قال: "وتقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم" لأن هذه ليست بشهادة على القتل، وشرط الترك في مدة يقدر على نقضه فيها لأنه لا بد من إمكان النقض ليصير بتركه جانيا، ويستوي أن يطالبه بنقضه مسلم أو ذمي، لأن الناس كلهم شركاء في المرور فيصح التقدم إليه من كل واحد منهم رجلا كان أو امرأة حرا كان أو مكاتبا، ويصح التقدم إليه عند السلطان وغيره لأنه مطالبة بالتفريغ فيتفرد كل صاحب حق به.
قال: "وإن مال إلى دار رجل فالمطالبة إلى مالك الدار خاصة" لأن الحق له على الخصوص، وإن كان فيها سكان لهم أن يطالبوه لأن لهم المطالبة بإزالة ما شغل الدار فكذا بإزالة ما شغل هواءها، ولو أجله صاحب الدار أو أبرأه منها أو فعل ذلك ساكنوها فذلك جائز، ولا ضمان عليه فيما تلف بالحائط لأن الحق لهم، بخلاف ما إذا مال إلى الطريق فأجله القاضي أو من أشهد عليه حيث لا يصح، لأن الحق لجماعة المسلمين وليس إليهما إبطال حقهم. ولو باع الدار بعدما أشهد عليه وقبضها المشتري برئ من ضمانه لأن الجناية بترك الهدم مع تمكنه وقد زال تمكنه بالبيع، بخلاف إشراع الجناح لأنه كان جانيا بالوضع ولم ينفسخ بالبيع فلا يبرأ على ما ذكرنا، ولا ضمان على المشتري لأنه لم يشهد عليه، ولو أشهد عليه بعد شرائه فهو ضامن لتركه التفريغ مع تمكنه بعدما طولب به، والأصل أنه يصح التقدم إلى كل من يتمكن من نقض الحائط وتفريغ الهواء، ومن لا يتمكن منه لا يصح التقدم إليه كالمرتهن والمستأجر والمودع وساكن الدار، ويصح التقدم إلى الراهن لقدرته على ذلك بواسطة الفكاك وإلى الوصي وإلى أبي اليتيم أو أمه في حائط الصبي لقيام الولاية، وذكر الأم في الزيادات والضمان في مال اليتيم لأن فعل هؤلاء كفعله، وإلى المكاتب لأن الولاية له، وإلى العبد التاجر سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن ولاية النقض له، ثم التلف بالسقوط إن كان ما لا فهو في عتق العبد، وإن كان نفسا فهو على عاقلة المولى لأن الإشهاد من وجه على المولى وضمان المال أليق بالعبد وضمان النفس بالمولى، ويصح التقدم إلى أحد الورثة في نصيبه وإن كان لا يتمكن من نقض الحائط وحده لتمكنه من إصلاح نصيبه بطريقه وهو المرافعة إلى القاضي. "ولو سقط الحائط المائل على إنسان بعد الإشهاد فقتله فتعثر بالقتيل غيره فعطب لا يضمنه" لأن التفريغ عنه إلى الأولياء لا إليه.(4/478)
قال: "وإن عطب بالنقض ضمنه" لأن التفريغ إليه إذ النقض ملكه والإشهاد على الحائط إشهاد على النقض لأن المقصود امتناع الشغل.
قال: "ولو عطب بجرة كانت على الحائط فسقطت بسقوطه وهي ملكه ضمنه" لأن التفريغ إليه "وإن كان ملك غيره لا يضمنه" لأن التفريغ إلى مالكها.
قال: "وإن كان الحائط بين خمسة رجال أشهد على أحدهم فقتل إنسانا ضمن خمس الدية ويكون ذلك على عاقلته، وإن كانت دار بين ثلاثة نفر فحفر أحدهم فيها بئرا والحفر كان بغير رضا الشريكين الآخرين أو بنى حائطا فعطب به إنسان فعليه ثلثا الدية على عاقلته، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: عليه نصف الدية على عاقلته في الفصلين" لهما أن التلف بنصيب من أشهد عليه معتبر، وبنصيب من لم يشهد عليه هدر، فكانا قسمين فانقسم نصفين كما مر في عقر الأسد ونهش الحية وجرح الرجل. وله أن الموت حصل بعلة واحدة وهو الثقل المقدر والعمق المقدر، لأن أصل ذلك ليس بعلة وهو القليل حتى يعتبر كل جزء علة فتجتمع العلل، وإذا كان كذلك يضاف إلى العلة الواحدة ثم تقسم على أربابها بقدر الملك، بخلاف الجراحات فإن كل جراحة علة للتلف بنفسها صغرت أو كبرت على ما عرف، إلا أن عند المزاحمة أضيف إلى الكل لعدم الأولوية، والله أعلم.(4/479)
باب جناية البهيمة والجناية عليها
قال: "الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها" والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه لكونه مشتركا بين كل الناس فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه ولا يتقيد بها فيما لا يمكن التحرز عنه لما فيه من المنع عن التصرف وسد بابه وهو مفتوح، والاحتراز عن الإيطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التيسير فقيدناه بشرط السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به.
قال: "فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا" لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل الطريق به فيضمنه.
قال: "وإن أصابت بيدها أو برجلها حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن، وإن كان حجرا كبيرا ضمن" لأنه في الوجه الأول(4/479)
لا يمكن التحرز عنه، إذ سير الدواب لا يعرى عنه، وفي الثاني ممكن لأنه ينفك عن السير عادة، وإنما ذلك بتعنيف الراكب، والمرتدف فيما ذكرنا كالراكب لأن المعنى لا يختلف.
قال: "فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن" لأنه من ضرورات السير فلا يمكنه الاحتراز عنه.
قال: "وكذا إذا أوقفها لذلك" لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن لأنه متعد في هذا الإيقاف لأنه ليس من ضرورات السير، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير لما أنه أدوم منه فلا يلحق به.
قال: "والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها" والمراد النفحة. قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري في مختصره، وإليه مال بعض المشايخ. ووجهه أن النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه التحرز عنه. وقال أكثر المشايخ: إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها، إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها. وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح. وقال الشافعي: يضمنون النفحة كلهم لأن فعلها مضاف إليهم، والحجة عليه ما ذكرناه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الرجل جبار" ومعناه النفحة بالرجل، وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره وهذا تخويف بالضرب.
قال: "وفي الجامع الصغير وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد" لأنهما مسببان بمباشرتهما شرط التلف وهو تقريب الدابة إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب.
قال: "إلا أن على الراكب الكفارة" فيما أوطأته الدابة بيدها أو برجلها "ولا كفارة عليها" ولا على الراكب فيما وراء الإبطاء، لأن الراكب مباشر فيه لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له، لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له وهما مسببان لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء، وكذا الراكب في غير الإيطاء، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوصية دون السائق والقائد لأنه يختص بالمباشرة.
قال: "ولو كان راكب وسائق قيل: لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة" لأن الراكب(4/480)
مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب، والإضافة إلى المباشر أولى. وقيل: الضمان عليهما لأن كل ذلك سبب الضمان.
قال: "وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر" وقال زفر والشافعي: يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر لما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه، لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه، كما إذا كان الاصطدام عمدا، أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا. ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان، كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه، وفعل صاحبه وإن كان مباحا، لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان كالنائم إذا انقلب على غيره. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا، وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق. هذا الذي ذكرنا إذا كانا حرين في العمد والخطإ، ولو كانا عبدين يهدر الدم في الخطإ لأن الجناية تعلقت برقبته دفعا وفداء، وقد فاتت لا إلى خلف من غير فعل المولى فهدر ضرورة، وكذا في العمد لأن كل واحد منهما هلك بعدما جنى ولم يخلف بدلا، ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا ففي الخطإ تجب على عاقلة الحر المقتول قيمة العبد فيأخذها ورثة المقتول الحر، ويبطل حق الحر المقتول في الدية فيما زاد على القيمة؛ لأن أصل أبي حنيفة ومحمد تجب القيمة على العاقلة لأنه ضمان الآدمي فقد أخلف بدلا بهذا القدر فيأخذه ورثة الحر المقتول ويبطل ما زاد عليه لعدم الخلف، وفي العمد يجب على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن المضمون هو النصف في العمد، وهذا القدر يأخذه ولي المقتول، وما على العبد في رقبته وهو نصف دية الحر يسقط بموته إلا قدر ما أخلف من البدل وهو نصف القيمة.
قال: "ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه، وكذا ما يحمل عليها" لأنه متعد في هذا التسبيب، لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام فيه، بخلاف الرداء لأنه لا يشد في العادة، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل فيقيد بشرط السلامة.
قال: "ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ"، فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق وقد أمكنه ذلك وقد صار متعديا(4/481)
بالتقصير فيه، والتسبب بوصف التعدي سبب للضمان، إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه وضمان المال في ماله "وإن كان معه سائق فالضمان عليهما" لأن قائد الواحد قائد للكل، وكذا سائقه لاتصال الأزمة، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل.
أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه، ويضمنان ما تلف بما بين يديه لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام، والسائق يسوق ما يكون قدامه.
قال: "وإن ربط رجل بعيرا إلى القطار والقائد لا يعلم فوطئ المربوط إنسانا فقتله فعلى عاقلة القائد الدية" لأنه يمكنه صيانة القطار عن ربط غيره، فإذا ترك الصيانة صار متعديا، وفي التسبيب الدية على العاقلة كما في القتل الخطإ "ثم يرجعون بها على عاقلة الرابط" لأنه هو الذي أوقعهم في هذه العهدة، وإنما لا يجب الضمان عليهما في الابتداء وكل منهما مسبب لأن الربط من القود بمنزلة التسيب من المباشرة لاتصال التلف بالقود دون الربط. قالوا: هذا إذا ربط والقطار يسير لأنه أمر بالقود دلالة، فإذا لم يعلم به لا يمكنه التحفظ من ذلك فيكون قرار الضمان على الرابط.
أما إذا ربط والإبل قيام ثم قادها ضمنها القائد لأنه قاد بعير غيره بغير إذنه لا صريحا ولا دلالة فلا يرجع بما لحقه عليه.
قال: "ومن أرسل بهيمة وكان لها سائقا فأصابت في فورها يضمنه" لأن الفعل انتقل إليه بواسطة السوق.
قال: "ولو أرسل طيرا وساقه فأصاب في فوره لم يضمن" والفرق أن بدن البهيمة يحتمل السوق فاعتبر سوقه والطير لا يحتمل السوق فصار وجود السوق وعدمه بمنزلة، وكذا لو أرسل كلبا ولم يكن له سائقا لم يضمن، ولو أرسله إلى صيد ولم يكن له سائقا فأخذ الصيد وقتله حل. ووجه الفرق أن البهيمة مختارة في فعلها ولا تصلح نائبة عن المرسل فلا يضاف فعلها إلى غيرها، هذا هو الحقيقة، إلا أن الحاجة مست في الاصطياد فأضيف إلى المرسل لأن الاصطياد مشروع ولا طريق له سواه ولا حاجة في حق ضمان العدوان. وروي عن أبي يوسف أنه أوجب الضمان في هذا كله احتياطا صيانة لأموال الناس.
قال رضي الله عنه: وذكر في المبسوط إذا أرسل دابة في طريق المسلمين فأصابت في فورها فالمرسل ضامن؛ لأن سيرها مضاف إليه ما دامت تسير على سننها، ولو انعطفت(4/482)
يمنة أو يسرة انقطع حكم الإرسال إلا إذا لم يكن له طريق آخر سواه وكذا إذا وقفت ثم سارت بخلاف ما إذا وقفت بعد الإرسال في الاصطياد ثم سارت فأخذت الصيد، لأن تلك الوقفة تحقق مقصود المرسل لأنه لتمكنه من الصيد، وهذه تنافي مقصود المرسل وهو السير فينقطع حكم الإرسال، وبخلاف ما إذا أرسله إلى صيد فأصاب نفسا أو مالا في فوره لا يضمنه من أرسله، وفي الإرسال في الطريق يضمنه لأن شغل الطريق تعد فيضمن ما تولد منه، أما الإرسال للاصطياد فمباح ولا تسبيب إلا بوصف التعدي.
قال: "ولو أرسل بهيمة فأفسدت زرعا على فوره ضمن المرسل، وإن مالت يمينا أو شمالا" وله طريق آخر لا يضمن لما مر، ولو انفلتت الدابة فأصابت مالا أو آدميا ليلا أو نهارا "لا ضمان على صاحبها" لقوله عليه الصلاة والسلام: "جرح العجماء جبار" وقال محمد رحمه الله: هي المنفلتة، ولأن الفعل غير مضاف إليه لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال وأخواته.
قال: "شاة لقصاب فقئت عينها ففيها ما نقصها" لأن المقصود منها هو اللحم فلا يعتبر إلا النقصان "وفي عين بقرة الجزار وجزوره ربع القيمة، وكذا في عين الحمار والبغل والفرس" وقال الشافعي: فيه النقصان أيضا اعتبارا بالشاة. ولنا ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في عين الدابة بربع القيمة" وهكذا قضى عمر رضي الله عنه، ولأن فيها مقاصد سوى اللحم كالحمل والركوب والزينة والجمال والعمل، فمن هذا الوجه تشبه الآدمي وقد تمسك للأكل، فمن هذا الوجه تشبه المأكولات فعملنا بالشبهين بشبه الآدمي في إيجاب الربع وبالشبه الآخر في نفي النصف، ولأنه إنما يمكن إقامة العمل بها بأربعة أعين عيناها وعينا المستعمل فكأنها ذات أعين أربعة فيجب الربع بفوات إحداها.
قال: "ومن سار على دابة في الطريق فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" هو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولأن الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد فيترجح جانبه في التغريم للتعدي، حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا.
قال: "وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا" لأنه بمنزلة الجاني على نفسه "وإن ألقت الراكب فقتلته كان ديته على عاقلة الناخس" لأنه متعد في تسبيبه وفيه الدية على العاقلة.(4/483)
قال: "ولو وثبت بنخسه على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" لما بيناه، والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء. وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين، لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة، والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها، ولا ضمان عليه في نفحتها لأنه أمره بما يملكه، إذ النخس في معنى السوق فصح أمره به، وانتقل إليه لمعنى الأمر.
قال: "ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها الناخس بإذن الراكب فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في فورها الذي نخسها" لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما، والإذن يتناول فعله من حيث السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف، فمن هذا الوجه يقتصر عليه، والركوب وإن كان علة للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة بل هو شرط أو علة للسير والسير علة للوطء وبهذا لا يترجح صاحب العلة، كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق ومات فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا. ثم قيل: يرجع الناخس على الراكب بما ضمن في الإيطاء لأنه فعله بأمره. وقيل: لا يرجع وهو الأصح فيما أراه، لأنه لم يأمره بالإيطاء والنخس ينفصل عنه، وصار كما إذا أمر صبيا يستمسك على الدابة بتسييرها فوطئت إنسانا ومات حتى ضمن عاقلة الصبي فإنهم لا يرجعون على الآمر لأنه أمره بالتسيير والإيطاء ينفصل عنه، وكذا إذا ناوله سلاحا فقتل به آخر حتى ضمن لا يرجع على الآمر، ثم الناخس إنما يضمن إذا كان الإيطاء في فور النخس حتى يكون السوق مضافا إليه، وإذا لم يكن في فور ذلك فالضمان على الراكب لانقطاع أثر النخس فبقي السوق مضافا إلى الراكب على الكمال. "ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلتت من يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره" لأنه مضاف إليه، والناخس إذا كان عبدا فالضمان في رقبته، وإن كان صبيا ففي ماله لأنهما مؤاخذان بأفعالهما "ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته فالضمان على من نصب ذلك الشيء" لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله، والله أعلم.(4/484)
باب جناية المملوك والجناية عليه
مدخل
...
باب جناية المملوك والجناية عليه
قال: "وإذا جنى العبد جناية خطإ قيل لمولاه: إما أن تدفعه بها أو تفديه" وقال الشافعي: جنايته في رقبته يباع فيها إلا أن يقضي المولى الأرش، وفائدة الاختلاف(4/484)
في اتباع الجاني بعد العتق. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم. له أن الأصل في موجب الجناية أن يجب على المتلف لأنه هو الجاني، إلا أن العاقلة تتحمل عنه، ولا عاقلة للعبد لأن العقل عندي بالقرابة ولا قرابة بين العبد ومولاه فتجب في ذمته كما في الدين. ويتعلق برقبته يباع فيه كما في الجناية على المال. ولنا أن الأصل في الجناية على الآدمي حالة الخطإ أن تتباعد عن الجاني تحرزا عن استئصاله والإجحاف به، إذ هو معذور فيه حيث لم يتعمد الجناية، وتجب على عاقلة الجاني إذا كان له عاقلة، والمولى عاقلته لأن العبد يستنصر به.
والأصل في العاقلة عندنا النصرة حتى تجب على أهل الديوان. بخلاف الذمي لأنهم لا يتعاقلون فيما بينهم فلا عاقلة فتجب في ذمته صيانة للدم عن الهدر، وبخلاف الجناية على المال؛ لأن العواقل لا تعقل المال، إلا أنه يخير بين الدفع والفداء لأنه واحد، وفي إثبات الخيرة نوع تخفيف في حقه كي لا يستأصل، غير أن الواجب الأصلي هو الدفع في الصحيح، ولهذا يسقط الموجب بموت العبد لفوات محل الواجب وإن كان له حق النقل إلى الفداء كما في مال الزكاة، بخلاف موت الجاني الحر لأن الواجب لا يتعلق بالحر استيفاء فصار كالعبد في صدقة الفطر.
قال: "فإن دفعه ملكه ولي الجناية وإن فداه فداه بأرشها وكل ذلك يلزم حالا" أما الدفع فلأن التأجيل في الأعيان باطل وعند اختياره الواجب عين. وأما الفداء فلأنه جعل بدلا عن العبد في الشرع وإن كان مقدرا بالمتلف ولهذا سمي فداء فيقوم مقامه ويأخذ حكمه فلهذا وجب حالا كالمبدل "وأيهما اختاره وفعله لا شيء لولي الجناية غيره" أما الدفع فلأن حقه متعلق به، فإذا خلى بينه وبين الرقبة سقط. وأما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش، فإذا أوفاه حقه سلم العبد له، فإن لم يختر شيئا حتى مات العبد بطل حق المجني عليه لفوات محل حقه على ما بيناه، وإن مات بعدما اختار الفداء لم يبرأ لتحول الحق من رقبة العبد إلى ذمة المولى.
قال: "فإن عاد فجنى كان حكم الجناية الثانية كحكم الجناية الأولى" معناه بعد الفداء لأنه لما طهر عن الجناية بالفداء جعل كأن لم تكن، وهذا ابتداء جناية.
قال: "وإن جنى جنايتين قيل للمولى إما أن تدفعه إلى ولي الجنايتين يقتسمانه على قدر حقيهما وإما أن تفديه بأرش كل واحد واحد منهما" لأن تعلق الأول برقبته لا يمنع تعلق الثانية بها كالديون المتلاحقة؛ ألا ترى أن ملك المولى لم يمنع تعلق الجناية فحق المجني(4/485)
عليه الأول أولى أن لا يمنع، ومعنى قوله على قدر حقيهما على قدر أرش جنايتهما "وإن كانوا جماعة يقتسمون العبد المدفوع على قدر حصصهم وإن فداه فداه بجميع أروشهم" لما ذكرنا "ولو قتل واحدا وفقأ عين آخر" يقتسمانه أثلاثا "لأن أرش العين على النصف من أرش النفس"، وعلى هذا حكم الشجات "وللمولى أن يفدي من بعضهم ويدفع إلى بعضهم مقدار ما تعلق به حقه من العبد" لأن الحقوق مختلفة باختلاف أسبابها وهي الجنايات المختلفة، بخلاف مقتول العبد إذا كان له وليان لم يكن له أن يفدي من أحدهما ويدفع إلى الآخر لأن الحق متحد لاتحاد سببه وهي الجناية المتحدة، والحق يجب للمقتول ثم للوارث خلافة عنه فلا يملك التفريق في موجبها.
قال: "فإن أعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية ضمن الأقل من قيمته ومن أرشها، وإن أعتقه بعد العلم بالجناية وجب عليه الأرش" لأن في الأول فوت حقه فيضمنه وحقه في أقلهما، ولا يصير مختارا للفداء لأنه لا اختيار بدون العلم، وفي الثاني صار مختارا لأن الإعتاق يمنعه من الدفع فالإقدام عليه اختيار منه للآخر، وعلى هذين الوجهين البيع والهبة والتدبير والاستيلاد، لأن كل ذلك مما يمنع الدفع لزوال الملك به، بخلاف الإقرار على رواية الأصل لأنه لا يسقط به حق ولي الجناية، فإنه المقر له يخاطب بالدفع إليه. وليس فيه نقل الملك لجواز أن يكون الأمر كما قاله المقر وألحقه الكرخي بالبيع وأخواته لأنه ملكه في الظاهر فيستحقه المقر له بإقراره فأشبه البيع. وإطلاق الجواب في الكتاب ينتظم النفس وما دونها، وكذا المعنى لا يختلف وإطلاق البيع ينتظم البيع بشرط الخيار للمشتري لأنه يزيل الملك، بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع ونقضه، وبخلاف العرض على البيع لأن الملك ما زال، ولو باعه بيعا فاسدا لم يصر مختارا حتى يسلمه لأن الزوال به، بخلاف الكتابة الفاسدة لأن موجبه يثبت قبل قبض البدل فيصير بنفسه مختارا، ولو باعه مولاه من المجني عليه فهو مختار، بخلاف ما إذا وهبه منه؛ لأن المستحق له أخذه بغير عوض وهو متحقق في الهبة دون البيع، وإعتاق المجني عليه بأمر المولى بمنزلة إعتاق المولى فيما ذكرناه، لأن فعل المأمور مضاف إليه، ولو ضربه فنقصه فهو مختار إذا كان عالما بالجناية لأنه حبس جزءا منه وكذا إذا كانت بكرا فوطئها وإن لم يكن معلقا لما قلنا بخلاف التزويج لأنه عيب من حيث الحكم، وبخلاف وطء الثيب على ظاهر الرواية لأنه لا ينقص من غير إعلاق، وبخلاف الاستخدام لأنه لا يختص بالملك، ولهذا لا يسقط به خيار الشرط ولا يصير مختارا بالإجارة والرهن في الأظهر من الروايات، وكذا بالإذن في التجارة وإن ركبه دين، لأن الإذن لا يفوت الدفع ولا ينقص الرقبة، إلا أن لولي الجناية أن يمتنع من قبوله(4/486)
لأن الدين لحقه من جهة المولى فلزم المولى قيمته.
قال: "ومن قال لعبده إن قتلت فلانا أو رميته أو شججته فأنت حر فهو مختار للفداء إن فعل ذلك" وقال زفر: لا يصير مختارا للفداء لأن وقت تكلمه لا جناية ولا علم له بوجوده، وبعد الجناية لم يوجد منه فعل يصير به مختارا.
ألا ترى أنه لو علق الطلاق أو العتاق بالشرط ثم حلف أن لا يطلق أو لا يعتق وجد الشرط وثبت العتق والطلاق لا يحنث في يمينه تلك، كذا هذا. ولنا أنه علق الإعتاق بالجناية والمعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز فصار كما إذا أعتقه بعد الجناية.
ألا يرى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فوالله لا أقربك يصير ابتداء الإيلاء من وقت الدخول، وكذا إذا قال لها إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا فمرض حتى طلقت ومات من ذلك المرض يصير فارا لأنه يصير مطلقا بعد وجود المرض، بخلاف ما أورد لأن غرضه طلاق أو عتق يمكنه الامتناع عنه، إذ اليمين للمنع فلا يدخل تحته ما لا يمكنه الامتناع عنه، ولأنه حرضه على مباشرة الشرط بتعليق أقوى الدواعي إليه والظاهر أنه يفعله، فهذا دلالة الاختيار.
قال: "وإذا قطع العبد يد رجل عمدا فدفع إليه بقضاء أو بغير قضاء فأعتقه ثم مات من قطع اليد فالعبد صلح بالجناية، وإن لم يعتقه رد على المولى وقيل للأولياء اقتلوه أو اعفوا عنه" ووجه ذلك وهو أنه إذا لم يعتقه وسرى تبين أن الصلح وقع باطلا لأن الصلح كان عن المال؛ لأن أطراف العبد لا يجري القصاص بينها وبين أطراف الحر فإذا سرى تبين أن المال غير واجب، وإنما الواجب هو القود فكان الصلح واقعا بغير بدل فبطل والباطل لا يورث الشبهة، كما إذا وطئ المطلقة الثلاث في عدتها مع العلم بحرمتها عليه فوجب القصاص، بخلاف ما إذا أعتقه لأن إقدامه على الإعتاق يدل على قصده تصحيح الصلح لأن الظاهر أن من أقدم على تصرف يقصد تصحيحه ولا صحة له إلا وأن يجعل صلحا عن الجناية وما يحدث منها ولهذا لو نص عليه ورضي المولى به يصح وقد رضي المولى به لأنه لما رضي بكون العبد عوضا عن القليل يكون أرضى بكونه عوضا عن الكثير فإذا أعتق يصح الصلح في ضمن الإعتاق ابتداء وإذا لم يعتق لم يوجد الصلح ابتداء والصلح الأول وقع باطلا فيرد العبد إلى المولى والأولياء على خيرتهم في العفو والقتل. وذكر في بعض النسخ: رجل قطع يد رجل عمدا فصالح القاطع المقطوعة يده على عبد ودفعه إليه فأعتقه المقطوعة يده ثم مات من ذلك فالعبد صلح بالجناية إلى آخر ما ذكرنا من الرواية. وهذا الوضع يرد(4/487)
إشكالا فيما إذا عفا عن اليد ثم سرى إلى النفس ومات حيث لا يجب القصاص هنالك، وهاهنا قال يجب. قيل ما ذكر هاهنا جواب القياس فيكون الوضعان جميعا على القياس والاستحسان. وقيل بينهما فرق، ووجهه أن العفو عن اليد صح ظاهرا لأن الحق كان له في اليد من حيث الظاهر فيصح العفو ظاهرا، فبعد ذلك وإن بطل حكما يبقى موجودا حقيقة فكفى ذلك لمنع وجوب القصاص. أما هاهنا الصلح لا يبطل الجناية بل يقررها حيث صالح عنها على مال، فإذا لم يبطل الجناية لم تمتنع العقوبة، هذا إذا لم يعتقه، أما إذا أعتقه فالتخريج ما ذكرناه من قبل.
قال: "وإذا جنى العبد المأذون له جناية وعليه ألف درهم فأعتقه المولى ولم يعلم بالجناية فعليه قيمتان: قيمة لصاحب الدين، وقيمة لأولياء الجناية" لأنه أتلف حقين كل واحد منهما مضمون بكل القيمة على الانفراد: الدفع للأولياء، والبيع للغرماء، فكذا عند الاجتماع. ويمكن الجمع بين الحقين إيفاء من الرقبة الواحدة بأن يدفع إلى ولي الجناية ثم يباع للغرماء فيضمنها بالإتلاف بخلاف ما إذا أتلفه أجنبي حيث تجب قيمة واحدة للمولى ويدفعها المولى إلى الغرماء، لأن الأجنبي إنما يضمن للمولى بحكم الملك فلا يظهر في مقابلته الحق لأنه دونه، وهاهنا يجب لكل واحد منهما بإتلاف الحق فلا ترجيح فيظهران فيضمنهما.
قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها ثم ولدت فإنه يباع الولد معها في الدين، وإن جنت جناية لم يدفع الولد معها" والفرق أن الدين وصف حكمي فيها واجب في ذمتها متعلق برقبتها استيفاء فيسري إلى الولد كولد المرهونة، بخلاف الجناية لأن وجوب الدفع في ذمة المولى لا في ذمتها، وإنما يلاقيها أثر الفعل الحقيقي وهو الدفع والسراية في الأوصاف الشرعية دون الأوصاف الحقيقية.
قال: "وإذا كان العبد لرجل زعم رجل آخر أن مولاه أعتقه فقتل العبد وليا لذلك الرجل الزاعم خطأ فلا شيء له" لأنه لما زعم أن مولاه أعتقه فقد ادعى الدية على العاقلة وأبرأ العبد والمولى إلا أنه لا يصدق على العاقلة من غير حجة.
قال: "وإذا أعتق العبد فقال لرجل قتلت أخاك خطأ وأنا عبد وقال الآخر قتلته وأنت حر فالقول قول العبد" لأنه منكر للضمان لما أنه أسنده إلى حالة معهودة منافية للضمان، إذ الكلام فيما إذا عرف رقه، والوجوب في جناية العبد على المولى دفعا أو فداء، وصار كما إذا قال البالغ العاقل طلقت امرأتي وأنا صبي أو بعت داري وأنا صبي، أو قال طلقت امرأتي(4/488)
وأنا مجنون أو بعت داري وأنا مجنون وقد كان جنونه معروفا كان القول قوله لما ذكرنا.
قال: "ومن أعتق جارية ثم قال لها قطعت يدك وأنت أمتي وقالت قطعتها وأنا حرة فالقول قولها، وكذلك كل ما أخذ منها إلا الجماع والغلة استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: لا يضمن إلا شيئا قائما بعينه يؤمر برده عليها" لأنه منكر وجوب الضمان لإسناده الفعل إلى حالة معهودة منافية له كما في المسألة الأولى وكما في الوطء والغلة. وفي الشيء القائم أقر بيدها حيث اعترف بالأخذ منها ثم ادعى التملك عليها وهي منكرة والقول قول المنكر فلهذا يؤمر بالرد إليها، ولهما أنه أقر بسبب الضمان ثم ادعى ما يبرئه فلا يكون القول قوله كما إذا قال لغيره فقأت عينك اليمنى وعيني اليمنى صحيحة ثم فقئت وقال المقر له: لا بل فقأتها وعينك اليمنى مفقوءة فإن القول قول المقر له، وهذا لأنه ما أسنده إلى حالة منافية للضمان لأنه يضمن يدها لو قطعها وهي مديونة، وكذا يضمن مال الحربي إذا أخذه وهو مستأمن، بخلاف الوطء والغلة لأن وطء المولى أمته المديونة لا يوجب العقر، وكذا أخذه من غلتها، وإن كانت مديونة لا يوجب الضمان عليه فحصل الإسناد إلى حالة معهودة منافية للضمان.
قال: "وإذا أمر العبد المحجور عليه صبيا حرا بقتل رجل فقتله فعلى عاقلة الصبي الدية" لأنه هو القاتل حقيقة، وعمده وخطؤه سواء على ما بينا من قبل "ولا شيء على الآمر" وكذا إذا كان الآمر صبيا لأنهما لا يؤاخذان بأقوالهما؛ لأن المؤاخذة فيها باعتبار الشرع وما اعتبر قولهما، ولا رجوع لعاقلة الصبي على الصبي الآمر أبدا، ويرجعون على العبد الآمر بعد الإعتاق لأن عدم الاعتبار لحق المولى وقد زال لا لنقصان أهلية العبد، بخلاف الصبي لأنه قاصر الأهلية.
قال: "وكذلك إن أمر عبدا" معناه أن يكون الآمر عبدا والمأمور عبدا محجورا عليهما "يخاطب مولى القاتل بالدفع أو الفداء" ولا رجوع له على الأول في الحال، ويجب أن يرجع بعد العتق بأقل من الفداء وقيمة العبد لأنه غير مضطر في دفع الزيادة، وهذا إذا كان القتل خطأ، وكذا إذا كان عمدا والعبد القاتل صغيرا لأن عمده خطأ، أما إذا كان كبيرا يجب القصاص لجريانه بين الحر والعبد.
قال: "وإذا قتل العبد رجلين عمدا ولكل واحد منهما وليان فعفا أحد وليي كل واحد منهما فإن المولى يدفع نصفه إلى الآخرين أو يفديه بعشرة آلاف درهم" لأنه لما عفا أحد ولي كل واحد منهما سقط القصاص وانقلب مالا فصار كما لو وجب المال من الابتداء،(4/489)
وهذا لأن حقهم في الرقبة أو في عشرين ألفا وقد سقط نصيب العافيين وهو النصف وبقي النصف.
"فإن كان قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فعفا أحد وليي العمد فإن فداه المولى فداه بخمسة عشر ألفا خمسة آلاف للذي لم يعف من وليي العمد وعشرة آلاف لوليي الخطأ" لأنه لما انقلب العمد مالا كان حق وليي الخطإ في كل الدية عشرة آلاف، وحق أحد وليي العمد في نصفها خمسة آلاف، ولا تضايق في الفداء فيجب خمسة عشر ألفا "وإن دفعه دفعه إليهم أثلاثا: ثلثاه لوليي الخطإ، وثلثه لغير العافي من وليي العمد عند أبي حنيفة وقالا: يدفعه أرباعا: ثلاثة أرباعه لوليي الخطإ، وربعه لولي العمد" فالقسمة عندهما بطريق المنازعة، فيسلم النصف لوليي الخطإ بلا منازعة، واستوت منازعة الفريقين في النصف الآخر فيتنصف، فلهذا يقسم أرباعا. وعنده يقسم بطريق العول والمضاربة أثلاثا، لأن الحق تعلق بالرقبة أصله التركة المستغرقة بالديون فيضرب هذا بالكل وذلك بالنصف، ولهذه المسألة نظائر وأضداد ذكرناها في الزيادات.
قال: "وإذا كان عبد بين رجلين فقتل مولى لهما" أي قريبا لهما "فعفا أحدهما بطل الجميع عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع الذي عفا نصف نصيبه إلى الآخر أو يفديه بربع الدية" وذكر في بعض النسخ قتل وليا لهما، والمراد القريب أيضا، وذكر في بعض النسخ قول محمد مع أبي حنيفة، وذكر في الزيادات: عبد قتل مولاه وله ابنان فعفا أحد الابنين بطل ذلك كله عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف الجواب فيه كالجواب في مسألة الكتاب. ولم يذكر اختلاف الرواية. لأبي يوسف رحمه الله أن حق القصاص ثبت في العبد على سبيل الشيوع، لأن ملك المولى لا يمنع استحقاق القصاص له فإذا عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر وهو النصف مالا، غير أنه شائع في الكل فيكون نصفه في نصيبه والنصف في نصيب صاحبه، فما يكون في نصيبه سقط ضرورة أن المولى لا يستوجب على عبده مالا، وما كان في نصيب صاحبه بقي ونصف النصف هو الربع فلهذا يقال: ادفع نصف نصيبك أو افتداه بربع الدية. ولهما أن ما يجب من المال يكون حق المقتول لأنه بدل دمه، ولهذا تقضى منه ديونه وتنفذ به وصاياه، ثم الورثة يخلفونه فيه عند الفراغ من حاجته والمولى لا يستوجب على عبده دينا فلا تخلفه الورثة فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(4/490)
فصل: ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم الخ
...
فصل: "ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم،
فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر قضى له بعشرة آلاف إلا عشرة، وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية خمسة آلاف إلا عشرة"
وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: تجب قيمته بالغة ما بلغت، ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا فهلك في يده تجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع. لهما أن الضمان بدل المالية ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك العبد إلا من حيث المالية، ولو قتل العبد المبيع قبل القبض يبقى العقد وبقاؤه ببقاء المالية أصلا أو بدله وصار كقليل القيمة وكالغصب. ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] أوجبها مطلقا، وهي اسم للواجب بمقابلة الآدمية، ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا، وفيه معنى المالية، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما وضمان الغصب بمقابلة المالية، إذ الغصب لا يرد إلا على المال، وبقاء العقد يتبع الفائدة حتى يبقى بعد قتله عمدا وإن لم يكن القصاص بدلا عن المالية فكذلك أمر الدية، وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا، بخلاف كثير القيمة لأن قيمة الحر مقدرة بعشرة آلاف درهم ونقصنا منها في العبد إظهارا لانحطاط رتبته، وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: "وفي يد العبد نصف قيمته لا يزاد على خمسة آلاف إلا خمسة" لأن اليد من الآدمي نصفه فتعتبر بكله، وينقص هذا المقدار إظهارا لانحطاط رتبته، وكل ما يقدر من دية الحر فهو مقدر من قيمة العبد لأن القيمة في العبد كالدية في الحر إذ هو بدل الدم على ما قررناه، وإن غصب أمة قيمتها عشرون ألفا فماتت في يده فعليه تمام قيمتها لما بينا أن ضمان الغصب ضمان المالية.
قال: "ومن قطع يد عبد فأعتقه المولى ثم مات من ذلك، فإن كان له ورثة غير المولى فلا قصاص فيه وإلا اقتص منه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا قصاص في ذلك، وعلى القاطع أرش اليد، وما نقصه ذلك إلى أن يعتقه ويبطل الفضل" وإنما لم يجب القصاص في الوجه الأول لاشتباه من له الحق، لأن القصاص يجب عند الموت مستندا إلى وقت الجرح، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار الحالة الثانية يكون للورثة فتحقق الاشتباه وتعذر الاستيفاء فلا يجب على وجه(4/491)
يستوفى، وفيه الكلام، واجتماعهما لا يزيل الاشتباه لأن الملكين في الحالين، بخلاف العبد الموصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر إذا قتل، لأن ما لكل منهما من الحق ثابت من وقت الجرح إلى وقت الموت، فإذا اجتمعا زال الاشتباه. ولمحمد في الخلافية وهو ما إذا لم يكن للعبد ورثة سوى المولى أن سبب الولاية قد اختلف لأنه الملك على اعتبار إحدى الحالتين والوراثة بالولاء على اعتبار الأخرى، فنزل منزلة اختلاف المستحق فيما يحتاط فيه كما إذا قال لآخر بعتني هذه الجارية بكذا فقال المولى زوجتها منك لا يحل له وطؤها ولأن الإعتاق قاطع للسراية، وبانقطاعها يبقى الجرح بلا سراية، والسراية بلا قطع فيمتنع القصاص. ولهما أنا تيقنا بثبوت الولاية للمولى فيستوفيا وهذا لأن المقضي له معلوم والحكم متحد فوجب القول بالاستيفاء، بخلاف الفصل الأول، لأن المقضي له مجهول، ولا معتبر باختلاف السبب هاهنا لأن الحكم لا يختلف، بخلاف تلك المسألة لأن ملك اليمين يغاير ملك النكاح حكما، والإعتاق لا يقطع السراية لذاته بل لاشتباه من له الحق، وذلك في الخطإ دون العمد لأن العبد لا يصلح مالكا للمال، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار حالة الموت يكون للميت لحريته فيقضى منه ديونه وينفذ وصاياه فجاء الاشتباه.
أما العمد فموجبه القصاص والعبد مبقى على أصل الحرية فيه، وعلى اعتبار أن يكون الحق له فالمولى هو الذي يتولاه إذ لا وارث له سواه فلا اشتباه فيمن له الحق، وإذا امتنع القصاص في الفصلين عند محمد يجب أرش اليد، وما نقصه من وقت الجرح إلى وقت الإعتاق كما ذكرنا لأنه حصل على ملكه ويبطل الفضل، وعندهما الجواب في الفصل الأول كالجواب عند محمد في الثاني.
قال: "ومن قال لعبديه أحدكما حر ثم شجا فأوقع العتق على أحدهما فأرشهما للمولى" لأن العتق غير نازل في المعين والشجة تصادف المعين فبقيا مملوكين في حق الشجة "ولو قتلهما رجل تجب دية حر وقيمة عبد" والفرق أن البيان إنشاء من وجه وإظهار من وجه على ما عرف، وبعد الشجة بقي محلا للبيان فاعتبر إنشاء في حقهما، وبعد الموت لم يبق محلا للبيان فاعتبرناه إظهارا محضا، وأحدهما حر بيقين فتجب قيمة عبد ودية حر، بخلاف ما إذا قتل كل واحد منهما رجل حيث قيمة المملوكين، لأنا لم نتيقن بقتل كل واحد منهما حرا وكل منهما ينكر ذلك، ولأن القياس يأبى ثبوت العتق في المجهول لأنه لا يفيد فائدة، وإنما صححناه ضرورة صحة التصرف وأثبتنا له ولاية النقل من المجهول إلى المعلوم فيتقدر بقدر الضرورة وهي في النفس دون الأطراف فبقي مملوكا في حقها.(4/492)
قال: "ومن فقأ عيني عبد، فإن شاء المولى دفع عبده وأخذ قيمته وإن شاء أمسكه، ولا شيء له من النقصان عند أبي حنيفة، وقالا: إن شاء أمسك العبد وأخذ ما نقصه، وإن شاء دفع العبد وأخذ قيمته" وقال الشافعي: يضمنه كل القيمة ويمسك الجثة لأنه يجعل الضمان مقابلا بالفائت فبقي الباقي على ملكه، كما إذا قطع إحدى يديه أو فقأ إحدى عينيه. ونحن نقول: إن المالية قائمة في الذات وهي معتبرة في حق الأطراف لسقوط اعتبارها في حق الذات قصرا عليه. وإذا كانت معتبرة وقد وجد إتلاف النفس من وجه بتفويت جنس المنفعة والضمان يتقدر بقيمة الكل فوجب أن يتملك الجثة دفعا للضرر ورعاية للمماثلة، بخلاف ما إذا فقأ عيني حر لأنه ليس فيه معنى المالية، وبخلاف عيني المدبر لأنه لا يقبل الانتقال من الملك إلى ملك، وفي قطع إحدى اليدين وفقء إحدى العينين لم يوجد تفويت جنس المنفعة. ولهما أن معنى المالية لما كان معتبرا وجب أن يتخير المولى على الوجه الذي قلناه كما في سائر الأموال فإن من خرق ثوب غيره خرقا فاحشا إن شاء المالك دفع الثوب إليه وضمنه قيمته، وإن شاء أمسك الثوب وضمنه النقصان. وله أن المالية وإن كانت معتبرة في الذات فالآدمية غير مهدرة فيه وفي الأطراف أيضا، ألا ترى أن عبدا لو قطع يد عبد آخر يؤمر المولى بالدفع أو الفداء وهذا من أحكام الآدمية، لأن موجب الجناية على المال أن تباع رقبته فيها ثم من أحكام الأولى أن لا ينقسم على الأجزاء، ولا يتملك الجثة، ومن أحكام الثانية أن ينقسم ويتملك الجثة فوفرنا على الشبهين حظهما من الحكم.(4/493)
فصل: في جناية المدبر وأم الولد
قال: "وإذا جنى المدبر أو أم الولد جناية ضمن المولى الأقل من قيمته ومن أرشها" لما روي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه قضى بجناية المدبر على مولاه، ولأنه صار مانعا عن تسليمه في الجناية بالتدبير أو الاستيلاد من غير اختياره الفداء فصار كما إذا فعل ذلك بعد الجناية وهو لا يعلم. وإنما يجب الأقل من قيمته ومن الأرش؛ لأنه لا حق لولي الجناية في أكثر من الأرش، ولا منع من المولى في أكثر من القيمة، ولا تخيير بين الأقل والأكثر لأنه لا يفيد في جنس واحد لاختياره الأقل لا محالة، بخلاف القن لأن الرغبات صادقة في الأعيان فيفيد التخيير بين الدفع والفداء "وجنايات المدبر وإن توالت لا توجب إلا قيمة واحدة" لأنه لا منع منه إلا في رقبة واحدة، ولأن دفع القيمة كدفع العبد وذلك لا يتكرر فهذا(4/493)
كذلك ويتضاربون بالحصص فيها، وتعتبر قيمته لكل واحد في حال الجناية عليه لأن المنع في هذا الوقت يتحقق.
قال: "فإن جنى جناية أخرى وقد دفع المولى القيمة إلى ولي الأولى بقضاء فلا شيء عليه" لأنه مجبور على الدفع.
قال: "وإن كان المولى دفع القيمة بغير قضاء فالولي بالخيار، إن شاء اتبع المولى وإن شاء اتبع ولي الجناية، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء على المولى" لأنه حين دفع لم تكن الجناية الثانية موجودة فقد دفع كل الحق إلى مستحقة وصار كما إذا دفع القضاء. ولأبي حنيفة أن المولى جان بدفع حق ولي الجناية الثانية طوعا، وولي الأولى ضامن بقبض حقه ظلما فيتخير، وهذا لأن الثانية مقارنة حكما من وجه ولهذا يشارك ولي الجناية الأولى، ومتأخرة حكما من حيث إنه تعتبر قيمته يوم الجناية الثانية في حقها فجعلت كالمقارنة في حق التضمين لإبطاله ما تعلق به من حق ولي الثانية عملا بالشبهين. "وإذا أعتق المولى المدبر وقد جنى جنايات لم تلزمه إلا قيمة واحدة" لأن الضمان إنما وجب عليه بالمنع فصار وجود الإعتاق من بعد وعدمه بمنزلة "وأم الولد بمنزلة المدبر في جميع ما وصفنا" لأن الاستيلاد مانع من الدفع كالتدبير "وإذا أقر المدبر بجناية الخطإ لم يجز إقراره ولا يلزمه به شيء عتق أو لم يعتق" لأن موجب جناية الخطإ على سيده وإقراره به لا ينفذ على السيد، والله أعلم.(4/494)
باب غصب العبد والمدبر والصبي والجناية في ذلك
قال: "ومن قطع يد عبده ثم غصبه رجل ومات في يده من القطع فعليه قيمته أقطع، وإن كان المولى قطع يده في يد الغاصب فمات من ذلك في يد الغاصب لا شيء عليه" والفرق أن الغصب قاطع للسراية لأنه سبب الملك كالبيع فيصير كأنه هلك بآفة سماوية فتجب قيمته أقطع، ولم يوجد القاطع في الفصل الثاني فكانت السراية مضافة إلى البداية فصار المولى متلفا فيصير مستردا، كيف وأنه استولى عليه وهو استرداد فيبرأ الغاصب عن الضمان.
قال: "وإذا غصب العبد المحجور عليه عبدا محجورا عليه فمات في يده فهو ضامن" لأن المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله.
قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأن المولى بالتدبير السابق أعجز نفسه عن الدفع(4/494)
من غير أن يصير مختارا للفداء فيصير مبطلا حق أولياء الجناية إذ حقهم فيه ولم يمنع إلا رقبة واحدة فلا يزاد على قيمتها، ويكون بين ولي الجنايتين نصفين لاستوائهما في الموجب.
قال: "ويرجع المولى بنصف قيمته على الغاصب" لأنه استحق نصف البدل بسبب كان في يد الغاصب فصار كما إذا استحق نصف العبد بهذا السبب.
قال: "ويدفعه إلى ولي الجناية الأولى ثم يرجع بذلك على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف قيمته فيسلم له" لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب عوض ما سلم لولي الجناية الأولى فلا يدفعه إليه كي لا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد، وكيلا يتكرر الاستحقاق. ولهما أن حق الأول في جميع القيمة لأنه حين جنى في حقه لا يزاحمه أحد، وإنما انتقص باعتبار مزاحمة الثاني فإذا وجد شيئا من بدل العبد في يد المالك فارغا يأخذه ليتم حقه فإذا أخذه منه يرجع المولى بما أخذه على الغاصب لأنه استحق من يده بسبب كان في يد الغاصب.
قال: "وإن كان جنى عند المولى فغصبه رجل فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ويرجع بنصف القيمة على الغاصب" لما بينا في الفصل الأول، غير أن استحقاق النصف حصل بالجناية الثانية إذ كانت هي في يد الغاصب فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى ولا يرجع به على الغاصب وهذا بالإجماع.
ثم وضع المسألة في العبد فقال: "ومن غصب عبدا فجنى في يده ثم رده فجنى جناية أخرى فإن المولى يدفعه إلى ولي الجنايتين ثم يرجع على الغاصب بنصف القيمة فيدفعه إلى الأول ويرجع به على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف القيمة فيسلم له، وإن جنى عند المولى ثم غصبه فجنى في يده دفعه المولى نصفين ويرجع بنصف قيمته فيدفعه إلى الأول ولا يرجع به" والجواب في العبد كالجواب في المدبر في جميع ما ذكرنا، إلا أن في هذا الفصل يدفع المولى العبد وفي الأول يدفع القيمة.
قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى ثم غصبه ثم جنى عنده جناية فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأنه منع رقبة واحدة بالتدبير فيجب عليه قيمة واحدة "ثم يرجع بقيمته على الغاصب" لأن الجنايتين كانتا في يد الغاصب "فيدفع نصفها إلى(4/495)
الأول" لأنه استحق كل القيمة، لأن عند وجود الجناية عليه لا حق لغيره، وإنما انتقص بحكم المزاحمة من بعد.
قال: "ويرجع به على الغاصب" لأن الاستحقاق بسبب كان في يده ويسلم له، ولا يدفعه إلى ولي الجناية الأولى، ولا إلى ولي الجناية الثانية لأنه لا حق له إلا في النصف لسبق حق الأول وقد وصل ذلك إليه. ثم قيل: هذه المسألة على الاختلاف كالأولى، وقيل على الاتفاق. والفرق لمحمد أن في الأولى الذي يرجع به عوض عما سلم لولي الجناية الأولى لأن الجناية الثانية كانت في يد المالك، فلو دفع إليه ثانيا يتكرر الاستحقاق، فأما في هذه المسألة فيمكن أن يجعل عوضا عن الجناية الثانية لحصولها في يد الغاصب فلا يؤدي إلى ما ذكرناه.
قال: "ومن غصب صبيا حرا فمات في يده فجأة أو بحمى فليس عليه شيء، وإن مات من صاعقة أو نهسة حية فعلى عاقلة الغاصب الدية" وهذا استحسان. والقياس أن لا يضمن في الوجهين وهو قول زفر والشافعي، لأن الغصب في الحر لا يتحقق؛ ألا يرى أنه لو كان مكاتبا صغيرا لا يضمن مع أنه حر يدا، فإذا كان الصغير حرا رقبة ويدا أولى. وجه الاستحسان أنه لا يضمن بالغصب ولكن يضمن بالإتلاف، وهذا إتلاف تسببيا لأنه نقله إلى أرض مسبعة أو إلى مكان الصواعق، وهذا لأن الصواعق والحيات والسباع لا تكون في كل مكان، فإذا نقله إليه فهو متعد فيه وقد أزال حفظ الولي فيضاف إليه، لأن شرط العلة ينزل منزلة العلة إذا كان تعديا كالحفر في الطريق، بخلاف الموت فجأة أو بحمى، لأن ذلك لا يختلف باختلاف الأماكن، حتى لو نقله إلى موضع يغلب فيه الحمى والأمراض نقول بأنه يضمن فتجب الدية على العاقلة لكونه قتلا تسبيبا.
قال: "وإذا أودع صبي عبدا فقتله فعلى عاقلته الدية، وإن أودع طعاما فأكله لم يضمن" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا، وعلى هذا إذا أودع العبد المحجور عليه مالا فاستهلكه لا يؤاخذ بالضمان في الحال عند أبي حنيفة ومحمد، ويؤاخذ به بعد العتق. وعند أبي يوسف والشافعي يؤاخذ به في الحال. وعلى هذا الخلاف الإقراض والإعارة في العبد والصبي. وقال محمد في أصل الجامع الصغير: صبي قد عقل، وفي الجامع الكبير وضع المسألة في صبي ابن اثنتي عشرة سنة، وهذا يدل على أن غير العاقل يضمن بالاتفاق لأن التسليط غير معتبر وفعله معتبر لهما أنه أتلف مالا متقوما معصوما حقا لمالكه فيجب عليه الضمان كما إذا كانت الوديعة عبدا وكما إذا أتلفه غير
ش(4/496)
الصبي في يد الصبي المودع، ولأبي حنيفة ومحمد أنه أتلف مالا غير معصوم فلا يجب الضمان كما إذا أتلفه بإذنه ورضاه، وهذا لأن العصمة تثبت حقا له وقد فوتها على نفسه حيث وضع المال في يد مانعة فلا يبقى مستحقا للنظر إلا إذا أقام غيره مقام نفسه في الحفظ، ولا إقامة هاهنا لأنه لا ولاية له على الاستقلال على الصبي ولا للصبي على نفسه، بخلاف البالغ والمأذون له لأن لهما ولاية على أنفسهما وبخلاف ما إذا كانت الوديعة عبدا لأن عصمته لحقه إذ هو مبقى على أصل الحرية في حق الدم، وبخلاف ما إذا أتلفه غير الصبي في يد الصبي لأنه سقطت العصمة بالإضافة إلى الصبي الذي وضع في يده المال دون غيره.
قال: "وإن استهلك مالا ضمن" يريد به من غير إيداع؛ لأن الصبي يؤاخذ بأفعاله، وصحة القصد لا معتبر بها في حقوق العباد، والله أعلم بالصواب.(4/497)
باب القسامة
قال: "وإذا وجد القتيل في محلة ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلا منهم. يتخيرهم الولي بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا" وقال الشافعي: إذا كان هناك لوث استحلف الأولياء خمسين يمينا ويقضي لهم بالدية على المدعى عليه عمدا كانت الدعوى أو خطأ. وقال مالك: يقضي بالقود إذا كانت الدعوى في القتل العمد وهو أحد قولي الشافعي، والموت عندهما أن يكون هناك علامة القتل على واحد بعينه أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة أو شهادة عدل أو جماعة غير عدول أن أهل المحلة قتلوه، وإن لم يكن الظاهر شاهدا له فمذهبه مثل مذهبنا، غير أنه لا يكرر اليمين بل يردها على الولي، فإن حلفوا لا دية عليهم للشافعي في البداء بيمين الولي قوله عليه الصلاة والسلام للأولياء: "فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه" ولأن اليمين تجب على من يشهد له الظاهر ولهذا تجب على صاحب اليد، فإذا كان الظاهر شاهدا للولي يبدأ بيمينه ورد اليمين على المدعي أصل له كما في النكول، غير أن هذه دلالة فيها نوع شبهة والقصاص لا يجامعها والمال يجب معها فلهذا وجبت الدية. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وفي رواية: "على المدعى عليه" وروى سعيد بن المسيب "أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ باليهود بالقسامة وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم" ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى أن لا يستحق به النفس المحترمة. وقوله يتخيرهم الولي إشارة إلى(4/497)
أن خيار تعيين الخمسين إلى الولي لأن اليمين حقه، والظاهر أنه يختار من يتهمه بالقتل أو يختار صالحي أهل المحلة لما أن تحرزهم عن اليمين الكاذبة أبلغ التحرز فيظهر القاتل، وفائدة اليمين النكول، فإن كانوا لا يباشرون ويعلمون يفيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يفيد يمين الطالح، ولو اختاروا أعمى أو محدودا في قذف جاز لأنه يمين وليس بشهادة.
قال: "وإذا حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية ولا يستحلف الولي" وقال الشافعي لا تجب الدية لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن سهل رضي الله عنه: "تبرئكم اليهود بأيمانها" ولأن اليمين عهد في الشرع مبرئا للمدعى عليه لا ملزما كما في سائر الدعاوى. ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الدية والقسامة في حديث ابن سهل وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر رضي الله عنه بينهما على وادعة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "تبرئكم اليهود" محمول على الإبراء عن القصاص والحبس، وكذا اليمين مبرئة عما وجب له اليمين والقسامة ما شرعت لتجب الدية إذا نكلوا، بل شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم عن اليمين الكاذبة فيقروا بالقتل، فإذا حلفوا حصلت البراءة عن القصاص. ثم الدية تجب بالقتل الموجود منهم ظاهرا لوجود القتيل بين أظهرهم لا بنكولهم، أو وجبت بتقصيرهم في المحافظة كما في القتل الخطإ "ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف" لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الأموال لأن اليمين بدل عن أصل حقه ولهذا يسقط ببذل المدعي وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد أو الخطإ لأنهم لا يتميزون عن الباقي، ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ فكذلك الجواب، يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب، وهكذا الجواب في المبسوط. وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل أن في القياس تسقط القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي ألك بينة؟ فإن قال لا يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة. ووجهه أن القياس يأباه لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم(4/498)
تكن استحلفه يمينا واحدة لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس. ثم إن حلف برئ وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، وإن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى.
قال: "وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين" لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين ثم قضى بالدية. وعن شريح والنخعي رحمهما الله مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطلب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك، لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال.
قال: "ولا قسامة على صبي ولا مجنون" لأنهما ليسا من أهل القول الصحيح واليمين قول صحيح.
قال: "ولا امرأة ولا عبد" لأنهما ليسا من أهل النصرة واليمين على أهلها.
قال: "وإن وجد ميتا لا أثر به فلا قسامة ولا دية" لأنه ليس بقتيل، إذ القتيل في العرف من فاتت حياته بسبب يباشره حي وهذا ميت حتف أنفه، والغرامة تتبع فعل العبد والقسامة تتبع احتمال القتل ثم يجب عليهم القسم فلا بد من أن يكون به أثر يستدل به على كونه قتيلا، وذلك بأن يكون به جراحة أو أثر ضرب أو خنق، وكذا إذا كان خرج الدم من عينه أو أذنه لأنه لا يخرج منها إلا بفعل من جهة الحي عادة، بخلاف ما إذا خرج من فيه أو دبره أو ذكره لأن الدم يخرج من هذه المخارج عادة بغير فعل أحد، وقد ذكرناه في الشهيد.
"ولو وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو النصف ومعه الرأس في محلة فعلى أهلها القسامة والدية، وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجد يده أو رجله أو رأسه فلا شيء عليهم" لأن هذا حكم عرفناه بالنص وقد ورد به في البدن، إلا أن للأكثر حكم الكل تعظيما للآدمي، بخلاف الأقل لأنه ليس ببدن ولا ملحق به فلا تجري فيه القسامة، ولأنا لو اعتبرناه تتكرر القسامتان والديتان بمقابلة نفس واحدة ولا تتواليان، والأصل فيه أن الموجود الأول إن كان بحال لو وجد الباقي تجري فيه القسامة لا تجب فيه، وإن كان بحال لو وجد الباقي لا تجري فيه القسامة تجب، والمعنى ما أشرنا إليه، وصلاة الجنازة في هذا تنسحب على هذا الأصل لأنها لا تتكرر.(4/499)
"ولو وجد فيهم جنين أو سقط ليس به أثر الضرب فلا شيء على أهل المحلة" لأنه لا يفوق الكبير حالا "وإن كان به أثر الضرب وهو تام الخلق وجبت القسامة والدية عليهم" لأن الظاهر أن تام الخلق ينفصل حيا "وإن كان ناقص الخلق فلا شيء عليهم" لأنه ينفصل ميتا لا حيا.
قال: "وإذا وجد القتيل على دابة يسوقها رجل فالدية على عاقلته دون أهل المحلة" لأنه في يده فصار كما إذا كان في داره، وكذا إذا كان قائدها أو راكبها "فإن اجتمعوا فعليهم" لأن القتيل في أيديهم فصار كما إذا وجد في دارهم.
قال: "وإن مرت دابة بين القريتين وعليها قتيل فهو على أقربهما" لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بقتيل وجد بين قريتين فأمر أن يذرع". وعن عمر رضي الله عنه أنه لما كتب إليه في القتيل الذي وجد بين وداعة وأرحب كتب بأن يقيس بين قريتين، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فقضى عليهم بالقسامة. قيل هذا محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ أهله الصوت، لأنه إذا كان بهذه الصفة يلحقه الغوث فتمكنهم النصرة وقد قصروا.
قال: "وإذا وجد القتيل في دار إنسان فالقسامة عليه" لأن الدار في يده "والدية على عاقلته" لأن نصرته منهم وقوته بهم.
قال: "ولا تدخل السكان في القسامة مع الملاك عند أبي حنيفة" وهو قول محمد "وقال أبو يوسف هو عليهم جميعا" لأن ولاية التدبير كما تكون بالملك تكون بالسكنى ألا ترى "أنه عليه الصلاة والسلام جعل القسامة والدية على اليهود وإن كانوا سكانا بخيبر". ولهما أن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان لأن سكنى الملاك ألزم وقرارهم أدوم فكانت ولاية التدبير إليهم فيتحقق التقصير منهم. وأما أهل خيبر فالنبي عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم فكان يأخذ منهم على وجه الخراج.
قال: "وهي على أهل الخطة دون المشترين" وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون لأن الضمان إنما يجب بترك الحفظ ممن له ولاية الحفظ وبهذا الطريق يجعل جانبا مقصرا، والولاية باعتبار الملك وقد استووا فيه. ولهما أن صاحب الخطة هو المختص بنصرة البقعة هو المتعارف، ولأنه أصيل والمشتري دخيل وولاية التدبير إلى الأصيل، وقيل: أبو حنيفة بنى ذلك على ما شاهد بالكوفة.
قال: "وإن بقي واحد منهم بأن باعوا كلهم فهو على المشترين" لأن الولاية انتقلت(4/500)
إليهم أو خلصت لهم لزوال من يتقدمهم أو يزاحمهم. "وإذا وجد قتيل في دار فالقسامة على رب الدار وعلى قومه وتدخل العاقلة في القسامة إن كانوا حضورا، وإن كانوا غيبا فالقسامة على رب الدار يكرر عليه الأيمان" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا قسامة على العاقلة؛ لأن رب الدار أخص به من غيره فلا يشاركه غيره فيها كأهل المحلة لا يشاركهم فيها عواقلهم. ولهما أن الحضور لزمتهم نصرة البقعة كما تلزم صاحب الدار فيشاركونه في القسامة.
قال: "وإن وجد القتيل في دار مشتركة نصفها لرجل وعشرها لرجل ولآخر ما بقي فهو على رءوس الرجال" لأن صاحب القليل يزاحم صاحب الكثير في التدبير فكانوا سواء في الحفظ والتقصير فيكون على عدد الرءوس بمنزلة الشفعة.
قال: "ومن اشترى دارا ولم يقبضها حتى وجد فيها قتيل فهو على عاقلة البائع وإن كان في البيع خيار لأحدهما فهو على عاقلة الذي في يده" وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إن لم يكن فيه خيار فهو على عاقلة المشتري وإن كان فيه خيار فهو على عاقلة الذي تصير له، لأنه إنما أنزل قاتلا باعتبار التقصير في الحفظ ولا يجب إلا على من له ولاية الحفظ، والولاية تستفاد بالملك ولهذا كانت الدية على عاقلة صاحب الدار دون المودع، والملك للمشتري قبل القبض في البيع البات، وفي المشروط فيه الخيار يعتبر قرار الملك كما في صدقة الفطر. وله أن القدرة على الحفظ باليد لا بالملك؛ ألا يرى أنه يقتدر على الحفظ باليد دون الملك ولا يقتدر بالملك دون اليد، وفي البات اليد للبائع قبل القبض، وكذا فيما فيه الخيار لأحدهما قبل القبض؛ لأنه دون البات، ولو كان المبيع في يد المشتري والخيار له فهو أخص الناس به تصرفا، ولو كان الخيار للبائع فهو في يده مضمون عليه بالقيمة كالمغصوب فتعتبر يده إذ بها يقدر على الحفظ.
قال: "ومن كان في يده دار فوجد فيها قتيل لم تعقله العاقلة حتى تشهد الشهود أنها للذي في يده" لأنه لا بد من الملك لصاحب اليد حتى تعقل العواقل عنه، واليد وإن كانت دليلا على الملك لكنها محتملة فلا تكفي لإيجاب الدية على العاقلة كما لا تكفي لاستحقاق الشفعة به في الدار المشفوعة فلا بد من إقامة البينة.
قال: "وإن وجد قتيل في سفينة فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين" لأنها في أيديهم واللفظ يشمل أربابها حتى تجب على الأرباب الذين فيها وعلى السكان، وكذا على(4/501)
من يمدها والمالك في ذلك وغير المالك سواء، وكذا العجلة، وهذا على ما روي عن أبي يوسف ظاهر. والفرق لهما أن السفينة تنقل وتحول فيعتبر فيها اليد دون الملك كما في الدابة، بخلاف المحلة والدار لأنها لا تنقل.
قال: "وإن وجد في مسجد محلة فالقسامة على أهلها" لأن التدبير فيه إليهم "وإن وجد في المسجد الجامع أو الشارع الأعظم فلا قسامة فيه والدية على بيت المال" لأنه للعامة لا يختص به واحد منهم، وكذلك الجسور العامة ومال بيت المال مال عامة المسلمين. "ولو وجد في السوق إن كان مملوكا فعند أبي يوسف تجب على السكان وعندهما على المالك، وإن لم يكن مملوكا كالشوارع العامة التي بنيت فيها فعلى بيت المال" لأنه لجماعة المسلمين "ولو وجد في السجن فالدية على بيت المال، وعلى قول أبي يوسف الدية والقسامة على أهل السجن" لأنهم سكان وولاية التدبير إليهم، والظاهر أن القتل حصل منهم، وهما يقولان: إن أهل السجن مقهورون فلا يتناصرون فلا يتعلق بهم ما يجب لأجل النصرة، ولأنه بني لاستيفاء حقوق المسلمين، فإذا كان غنمه يعود إليهم فغرمه يرجع عليهم. قالوا: وهذه فريعة المالك والساكن وهي مختلف فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
قال: "وإن وجد في برية ليس بقربها عمارة فهو هدر" وتفسير القرب ما ذكرنا من استماع الصوت لأنه إذا كان بهذه الحالة لا يلحقه الغوث من غيره فلا يوصف أحد بالتقصير، وهذا إذا لم تكن مملوكة لأحد. أما إذا كانت فالدية والقسامة على عاقلته "وإن وجد بين قريتين كان على أقربهما" وقد بيناه. "وإن وجد في وسط الفرات يمر به الماء فهو هدر" لأنه ليس في يد أحد ولا في ملكه "وإن كان محتبسا بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان" على التفسير الذي تقدم لأنه اختص بنصرة هذا الموضع فهو كالموضوع على الشط والشط في يد من هو أقرب منه؛ ألا ترى أنهم يستقون منه الماء ويوردون بهائمهم فيها، بخلاف النهر الذي يستحق به الشفعة لاختصاص أهلها به لقيام يدهم عليه فتكون القسامة والدية عليهم.
قال: "وإن ادعى الولي على واحد من أهل المحلة بعينه لم تسقط القسامة عنهم" وقد ذكرناه وذكرنا فيه القياس والاستحسان.
قال: "وإن ادعى على واحد من غيرهم سقطت عنهم" وقد بيناه من قبل ووجه الفرق هو أن وجوب القسامة عليهم دليل على أن القاتل منهم فتعيينه واحدا منهم لا ينافي ابتداء(4/502)
الأمر لأنه منهم بخلاف ما إذا عين من غيرهم لأن ذلك بيان أن القاتل ليس منهم، وهم إنما يغرمون إذا كان القاتل منهم لكونهم قتلة تقديرا حيث لم يأخذوا على يد الظالم، ولأن أهل المحلة لا يقومون بمجرد ظهور القتيل بين أظهرهم إلا بدعوى الولي، فإذا ادعى القتل على غيرهم امتنع دعواه عليهم وسقط لفقد شرطه.
قال: "وإذا التقى قوم بالسيوف فأجلوا عن قتيل فهو على أهل المحلة" لأن القتيل بين أظهرهم والحفظ عليهم "إلا أن يدعي الأولياء على أولئك أو على رجل منهم بعينه فلم يكن على أهل المحلة شيء" لأن هذه الدعوى تضمنت براءة أهل المحلة عن القسامة.
قال: "ولا على أولئك حتى يقيموا البينة" لأن بمجرد الدعوى لا يثبت الحق للحديث الذي رويناه، أما يسقط به الحق عن أهل المحلة لأن قوله حجة على نفسه. "ولو وجد قتيل في معسكر أقاموه بفلاة من الأرض لا ملك لأحد فيها، فإن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكنها الدية والقسامة، وإن كان خارجا من الفسطاط فعلى أقرب الأخبية" اعتبارا لليد عند انعدام الملك "وإن كان القوم لقوا قتالا ووجد قتيل بين أظهرهم فلا قسامة ولا دية" لأن الظاهر أن العدو قتله فكان هدرا، وإن لم يلقوا عدوا فعلى ما بيناه "وإن كان للأرض مالك فالعسكر كالسكان فيجب على المالك عند أبي حنيفة" خلافا لأبي يوسف وقد ذكرناه.
قال: "وإذا قال المستحلف قتله فلان استحلف بالله ما قتلت ولا عرفت له قاتلا غير فلان" لأنه يريد إسقاط الخصومة عن نفسه بقوله فلا يقبل فيحلف على ما ذكرنا، لأنه لما أقر بالقتل على واحد صار مستثنى عن اليمين فبقي حكم من سواه فيحلف عليه.
قال: "وإذا شهد اثنان من أهل المحلة على رجل من غيرهم أنه قتل لم تقبل شهادتهما" وهكذا عند أبي حنيفة، وقالا: تقبل لأنهم كانوا بعرضية أن يصيروا خصماء وقد بطلت العرضية بدعوى الولي القتل على غيرهم فتقبل شهادتهم كالوكيل بالخصومة إذا عزل قبل الخصومة. وله أنهم خصماء بإنزالهم قاتلين للتقصير الصادر منهم فلا تقبل شهادتهم وإن خرجوا من جملة الخصوم كالوصي إذا خرج من الوصاية بعدما قبلها ثم شهد. قال رضي الله عنه: وعلى هذين الأصلين يتخرج كثير من المسائل من هذا الجنس.
قال: "ولو ادعى على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهلها عليه لم(4/503)
تقبل الشهادة" لأن الخصومة قائمة مع الكل على ما بيناه والشاهد يقطعها عن نفسه فكان متهما. وعن أبي يوسف أن الشهود يحلفون بالله ما قتلناه ولا يزدادون على ذلك لأنهم أخبروا أنهم عرفوا القاتل.
قال: "ومن جرح في قبيلة فنقل إلى أهله فمات من تلك الجراحة، فإن كان صاحب فراش حتى مات فالقسامة والدية على القبيلة، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لا قسامة ولا دية" لأن الذي حصل في القبيلة والمحلة ما دون النفس ولا قسامة فيه، فصار كما إذا لم يكن صاحب فراش. وله أن الجرح إذا اتصل به الموت صار قتلا ولهذا وجب القصاص، فإن كان صاحب فراش أضيف إليه، وإن لم يكن احتمل أن يكون الموت من غير الجرح فلا يلزم بالشك.
قال: "ولو أن رجلا معه جريح به رمق حمله إنسان إلى أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لم يضمن الذي حمله إلى أهله في قول أبي يوسف وفي قياس قول أبي حنيفة يضمن" لأن يده بمنزلة المحلة فوجوده جريحا في يده كوجوده فيها، وقد ذكرنا وجهي القولين فيما قبله من مسألة القبيلة.
قال: "ولو وجد رجل قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر لا شيء فيه" لأن الدار في يده حين وجد الجريح فيجعل كأنه قتل نفسه فيكون هدرا. وله أن القسامة إنما تجب بناء على ظهور القتل، ولهذا لا يدخل في الدية من مات قبل ذلك، وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم، بخلاف المكاتب إذا وجد قتيلا في دار نفسه لأن حال ظهور قتله بقيت الدار على حكم ملكه فيصير كأنه قتل نفسه فيهدر دمه.
"ولو أن رجلين كانا في بيت وليس معهما ثالث فوجد أحدهما مذبوحا، قال أبو يوسف: يضمن الآخر الدية، وقال محمد: لا يضمنه" لأنه يحتمل أنه قتل نفسه فكان التوهم. ويحتمل أنه قتله الآخر فلا يضمنه بالشك. ولأبي يوسف أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فكان التوهم ساقطا كما إذا وجد قتيل في محلة.
"ولو وجد قتيل في قرية لامرأة فعند أبي حنيفة ومحمد عليها القسامة تكرر عليها الأيمان، والدية على عاقلتها أقرب القبائل إليها في النسب. وقال أبو يوسف: على العاقلة أيضا" لأن القسامة إنما تجب على من كان من أهل النصرة والمرأة ليست من أهلها فأشبهت الصبي. ولهما أن القسامة لنفي التهمة وتهمة القتل من(4/504)
المرأة متحققة. قال المتأخرون: إن المرأة تدخل مع العاقلة في التحمل في هذه المسألة لأنا أنزلناها قاتلة والقاتل يشارك العاقلة. "ولو وجد رجل قتيلا في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهلها، قال: هو على صاحب الأرض" لأنه أحق بنصرة أرضه من أهل القرية، والله أعلم.(4/505)
كتاب المعاقل
والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان الخ
...
كتاب المعاقل
المعاقل جمع معقلة، وهي الدية، وتسمى الدية عقلا لأنها تعقل الدماء من أن تسفك: أي تمسك.
قال: "والدية في شبه العمد والخطإ، وكل دية تجب بنفس القتل على العاقلة، والعاقلة الذين يعقلون" يعني يؤدون العقل وهو الدية، وقد ذكرناه في الديات. والأصل في وجوبها على العاقلة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث حمل بن مالك رضي الله عنه للأولياء "قوموا فدوه" ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار والخاطئ معذور، وكذا الذي تولى شبه العمد نظرا إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه، وفي إيجاب مال عظيم إجحافه واستئصاله فيصير عقوبة فضم إليه العاقلة تحقيقا للتخفيف. وإنما خصوا بالضم لأنه إنما قصر لقوة فيه وتلك بأنصاره وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا به.
قال: "والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين" وأهل الديوان أهل الرايات وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان وهذا عندنا. وقال الشافعي: الدية على أهل العشيرة لأنه كان كذلك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نسخ بعده ولأنه صلة والأولى بها الأقارب.
ولنا قضية عمر رضي الله عنه فإنه لما دون الدواوين جعل العقل على أهل الديوان، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير منهم، وليس ذلك بنسخ بل هو تقرير معنى لأن العقل كان على أهل النصرة وقد كانت بأنواع: بالقرابة والحلف والولاء والعد. وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعا للمعنى ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله والدية صلة كما قال، لكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى منه في أصول أموالهم، والتقدير بثلاث سنين مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام ومحكي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف والعطاء يخرج في كل سنة مرة "فإن خرجت(4/506)
العطايا في أكثر من ثلاث سنين أو أقل أخذ منها" لحصول المقصود.
وتأويله: إذا كانت العطايا للسنين المستقبلة بعد القضاء، حتى لو اجتمعت في السنين الماضية قبل القضاء ثم خرجت بعد القضاء لا يؤخذ منها لأن الوجوب بالقضاء على ما نبين إن شاء الله تعالى. ولو خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة معناه في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لما ذكرنا، وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة، وإن كان الواجب بالعقل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة وما زاد على الثلث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية، وما زاد على ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة. وما وجب على العاقلة من الدية أو على القاتل بأن قتل الأب ابنه عمدا فهو في ماله في ثلاث سنين. وقال الشافعي رحمه الله: وما وجب على القاتل في ماله فهو حال، لأن التأجيل للتخفيف لتحمل العاقلة فلا يلحق به العمد المحض. ولنا أن القياس يأباه والشرع ورد به مؤجلا فلا يتعداه. ولو قتل عشرة رجلا خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتبارا للجزء بالكل إذ هو بدل النفس، وإنما يعتبر مدة ثلاث سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور.
قال: "ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته" لأن نصرته بهم وهي المعتبرة في التعاقل.
قال: "وتقسم عليهم في ثلاث سنين لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة وينقص منها" قال رضي الله عنه: كذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره، وهذا إشارة إلى أنه يزاد على أربعة من جميع الدية، وقد نص محمد رحمه الله على أنه لا يزاد على كل واحد من جميع الدية في ثلاث سنين على ثلاثة أو أربعة فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم أو درهم وثلث درهم وهو الأصح.
قال: "وإن لم يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل" معناه: نسبا كل ذلك لمعنى التخفيف ويضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات: الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم. وأما الآباء والأبناء فقيل يدخلون لقربهم، وقيل لا يدخلون لأن الضم لنفي الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة، وهذا المعنى إنما يتحقق عند الكثرة والآباء والأبناء لا يكثرون، وعلى هذا حكم الرايات إذا لم يتسع لذلك أهل راية ضم إليهم أقرب الرايات: يعني أقربهم نصرة إذا حزبهم أمر الأقرب فالأقرب، ويفوض ذلك إلى الإمام لأنه هو العالم به، ثم هذا كله عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجب على كل واحد نصف دينار فيسوى(4/507)
بين الكل لأنه صلة فيعتبر بالزكاة وأدناها ذلك إذ خمسة دراهم عندهم نصف دينار، ولكنا نقول: هي أحط رتبة منها؛ ألا ترى أنها لا تؤخذ من أصل المال فينتقص منها تحقيقا لزيادة التخفيف.
"ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث" لأن الرزق في حقهم بمنزلة العطاء قائم مقامه إذ كل منهما صلة من بيت المال، ثم ينظر إن كانت أرزاقهم تخرج في كل سنة، فكما يخرج رزق يؤخذ منه الثلث بمنزلة العطاء، وإن كان يخرج في كل ستة أشهر وخرج بعد القضاء يؤخذ منه سدس الدية وإن كان يخرج في كل شهر يؤخذ من كل رزق بحصته من الشهر حتى يكون المستوفي في كل سنة مقدار الثلث، وإن خرج بعد القضاء بيوم أو أكثر أخذ من رزق ذلك الشهر بحصة الشهر، وإن كانت لهم أرزاق في كل شهر وأعطية في كل سنة فرضت الدية في الأعطية دون الأرزاق لأنه أيسر، إما لأن الأعطية أكثر، أو لأن الرزق لكفاية الوقت فيتعسر الأداء منه والأعطيات ليكونوا في الديوان قائمين بالنصرة فيتيسر عليهم.
قال: "وأدخل القاتل مع العاقلة فيكون فيما يؤدي كأحدهم" لأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره. وقال الشافعي: لا يجب على القاتل شيء من الدية اعتبارا للجزء بالكل في النفي عنه والجامع كونه معذورا.
قلنا: إيجاب الكل إجحاف به ولا كذلك إيجاب الجزء، ولو كان الخاطئ معذورا فالبريء منه أولى، قال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [الأنعام:164]
"وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل" لقول عمر رضي الله عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة، ولأن العقل إنما يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته، والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء ولهذا لا يوضع عليهم ما هو خلف عن النصرة وهو الجزية، وعلى هذا لو كان القاتل صبيا أو امرأة لا شيء عليهما من الدية بخلاف الرجل، لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه أحد العواقل لأنه ينصر نفسه وهذا لا يوجد فيهما، والفرض لهما من العطاء للمعونة لا للنصرة كفرض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن. "ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر" يريد به أنه إذا كان لأهل كل مصر ديوان على حدة لأن التناصر بالديوان عند وجوده، ولو كان باعتبار القرب في السكنى فأهل مصره أقرب إليه من أهل مصر آخر "ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم" لأنهم أتباع لأهل المصر، فإنهم إذا حزبهم أمر استنصروا بهم فيعقلهم أهل المصر باعتبار معنى(4/508)
القرب في النصرة "ومن كان منزله بالبصرة وديوانه بالكوفة عقل عنه أهل الكوفة" لأنه يستنصر بأهل ديوانه لا بجيرانه.
والحاصل: أن الاستنصار بالديوان أظهر فلا يظهر معه حكم النصرة بالقرابة والنسب والولاء وقرب السكنى وغيره وبعد الديوان النصرة بالنسب على ما بيناه، وعلى هذا يخرج كثير من صور مسائل المعاقل "ومن جنى جناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء وأهل البادية أقرب إليه ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر" ولم يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة، قيل هو صحيح لأن الذين يذبون عن أهل المصر ويقومون بنصرتهم ويدفعون عنهم أهل الديوان من أهل المصر ولا يخصون به أهل العطاء. وقيل تأويله إذا كان قريبا لهم، وفي الكتاب إشارة إليه حيث قال: وأهل البادية أقرب إليه من أهل مصر، وهذا لأن الوجوب عليهم بحكم القرابة وأهل المصر أقرب منهم مكانا فكانت القدرة على النصرة لهم وصار نظير مسألة الغيبة المنقطعة "ولو كان البدوي نازلا في المصر لا مسكن له فيه لا يعقله أهل المصر" لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه، كما أن أهل البادية لا تعقل عن أهل المصر النازل فيهم لأنه لا يستنصر بهم "وإن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها فقتل أحدهم قتيلا فديته على عاقلته بمنزلة المسلم" لأنهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات لا سيما في المعاني العاصمة عن الإصرار، ومعنى التناصر موجود في حقهم "وإن لم تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى بها عليه" كما في حق المسلم لما بينا أن الوجوب على القاتل وإنما يتحول عنه إلى العاقلة أن لو وجدت، فإذا لم توجد بقيت عليه بمنزلة تاجرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما صاحبه يقضى بالدية عليه في ماله لأن أهل دار الإسلام لا يعقلون عنه، وتمكنه من هذا القتل ليس بنصرتهم. "ولا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر" لعدم التناصر والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم لأن الكفر كله ملة واحدة. قالوا: هذا إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة كاليهود والنصارى ينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض، وهكذا عن أبي يوسف لانقطاع التناصر. ولو كان القاتل من أهل الكوفة وله بها عطاء فحول ديوانه إلى البصرة ثم رفع إلى القاضي فإنه يقضى بالدية على عاقلته من أهل البصرة.
وقال زفر رحمه الله تعالى: يقضى على عاقلته من أهل الكوفة وهو رواية عن أبي يوسف، لأن الموجب هو الجناية وقد تحقق وعاقلته أهل الكوفة، وصار كما إذا حول بعد القضاء. ولنا أن المال إنما يجب عند القضاء لما ذكرنا أن الواجب هو المثل(4/509)
وبالقضاء ينتقل إلى المال، وكذا الوجوب على القاتل وتتحمل عنه عاقلته، وإذا كان كذلك يتحمل عنه من يكون عاقلته عند القضاء، بخلاف ما بعد القضاء لأن الواجب قد تقرر بالقضاء فلا ينتقل بعد ذلك، لكن حصة القاتل تؤخذ من عطائه بالبصرة لأنها تؤخذ من العطاء وعطاؤه بالبصرة، بخلاف ما إذا قلت العاقلة بعد القضاء عليهم حيث يضم إليهم أقرب القبائل في النسب، لأن في النقل إبطال حكم الأول فلا يجوز بحال، وفي الضم تكثير المتحملين لما قضي به عليهم فكان فيه تقرير الحكم الأول لا إبطاله، وعلى هذا لو كان القاتل مسكنه بالكوفة وليس له عطاء فلم يقض عليه حتى استوطن البصرة قضي بالدية على أهل البصرة، ولو كان قضى بها على أهل الكوفة لم ينتقل عنهم، وكذا البدوي إذا ألحق بالديوان بعد القتل قبل القضاء يقضى بالدية على أهل الديوان، وبعد القضاء على عاقلته بالبادية لا يتحول عنهم، وهذا بخلاف ما إذا كان قوم من أهل البادية قضي بالدية عليهم في أموالهم في ثلاث سنين ثم جعلهم الإمام في العطاء حيث تصير الدية في أعطياتهم وإن كان قضى بها أول مرة في أموالهم لأنه ليس فيه نقض القضاء الأول لأنه قضى بها في أموالهم وأعطياتهم أموالهم، غير أن الدية تقضى من أيسر الأموال أداء، والأداء من العطاء أيسر إذا صاروا من أهل العطاء إلا إذا لم يكن مال العطاء من جنس ما قضي به عليه بأن كان القضاء بالإبل والعطاء دراهم فحينئذ لا تتحول إلى الدراهم أبدا لما فيه من إبطال القضاء الأول، لكن يقضى ذلك من مال العطاء لأنه أيسر.
قال: "وعاقلة المعتق قبيلة مولاه" لأن النصرة بهم يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم منهم".
قال: "ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته" لأنه ولاء يتناصر به فأشبه ولاء العتاقة، وفيه خلاف الشافعي وقد مر في كتاب الولاء.
قال: "ولا تعقل العاقلة أقل من نصف عشر الدية وتتحمل نصف العشر فصاعدا" والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس، ولأن التحمل للتحرز عن الإجحاف ولا إجحاف في القليل وإنما هو في الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع.
قال: "وما نقص من ذلك يكون في مال الجاني" والقياس فيه التسوية بين القليل والكثير فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي، أو التسوية في أن لا يجب(4/510)
على العاقلة شيء، إلا أنا تركناه بما روينا، وبما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أوجب أرش الجنين على العاقلة" وهو نصف عشر بدل الرجل على ما مر في الديات، فما دونه يسلك به مسلك الأموال لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال بالتقويم فلهذا كان في مال الجاني أخذا بالقياس.
قال: "ولا تعقل العاقلة جناية العبد ولا ما لزم بالصلح أو باعتراف الجاني" لما روينا، ولأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور الولاية عنهم.
قال: "إلا أن يصدقوه" لأنه ثبت بتصادقهم والامتناع كان لحقهم ولهم ولاية على أنفسهم. "ومن أقر بقتل خطإ ولم يرفعوا إلى القاضي إلا بعد سنين قضي عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى" لأن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبينة ففي الثابت بالإقرار أولى "ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضي بلد كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبينة وكذبهما العاقلة فلا شيء على العاقلة" لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم "ولم يكن عليه شيء في ماله" لأن الدية بتصادقهما تقررت على العاقلة بالقضاء وتصادقهما حجة في حقهما، بخلاف الأول "إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته" لأنه في حق حصته مقر على نفسه وفي حق العاقلة مقر عليهم.
قال: "وإذا جنى الحر على العبد فقتله خطأ كان على عاقلته قيمته" لأنه بدل النفس على ما عرف من أصلنا. وفي أحد قولي الشافعي تجب في ماله لأنه بدل المال عنده ولهذا يوجب قيمته بالغة ما بلغت، وما دون النفس من العبد لا تتحمله العاقلة لأنه يسلك به مسلك الأموال عندنا على ما عرف، وفي أحد قوليه العاقلة تتحمله كما في الحر وقد مر من قبل.
قال أصحابنا: إن القاتل إذا لم يكن له عاقلة فالدية في بيت المال لأن جماعة المسلمين هم أهل نصرته وليس بعضهم أخص من بعض بذلك، ولهذا لو مات كان ميراثه لبيت المال فكذا ما يلزمه من الغرامة يلزم بيت المال. وعن أبي حنيفة رواية شاذة أن الدية في ماله، ووجهه أن الأصل أن تجب الدية على القاتل لأنه بدل متلف والإتلاف منه، إلا أن العاقلة تتحملها تحقيقا للتخفيف على ما مر. وإذا لم يكن له عاقلة عاد الحكم إلى الأصل. "وابن الملاعنة تعقله عاقلة أمه" لأن نسبه ثابت منها دون الأب "فإن عقلوا عنه ثم ادعاه الأب رجعت عاقلة الأم بما أدت على عاقلة الأب في ثلاث سنين من يوم يقضي القاضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب" لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم لأن عند الإكذاب ظهر أن النسب(4/511)
لم يزل كان ثابتا من الأب حيث بطل اللعان بالإكذاب، ومتى ظهر من الأصل فقوم الأم تحملوا ما كان واجبا على قوم الأب فيرجعون عليهم لأنهم مضطرون في ذلك، وكذلك إن مات المكاتب عن وفاء وله ولد حر فلم يؤد كتابته حتى جنى ابنه وعقل عنه قوم أمه ثم أديت الكتابة لأنه عند الأداء يتحول ولاؤه إلى قوم أبيه من وقت حرية الأب وهو آخر جزء من أجزاء حياته فيتبين أن قوم الأم عقلوا عنهم فيرجعون عليهم، وكذلك رجل أمر صبيا بقتل رجل فقتله فضمنت عاقلة الصبي الدية رجعت بها على عاقلة الآمر إن كان الأمر ثبت بالبينة، وفي مال الآمر إن كان ثبت بإقراره في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي على الآمر، أو على عاقلته لأن الديات تجب مؤجلة بطريق التيسير.
قال رضي الله عنه: هاهنا عدة مسائل ذكرها محمد متفرقة، والأصل الذي يخرج عليه أن يقال: حال القاتل إذا تبدل حكما فانتقل ولاؤه إلى ولاء بسبب أمر حادث لم تنتقل جنايته عن الأول قضى بها أو لم يقض، وإن ظهرت حالة خفية مثل دعوة ولد الملاعنة حولت الجناية إلى الأخرى وقع القضاء بها أو لم يقع، ولو لم يختلف حال الجاني ولكن العاقلة تبدلت كان الاعتبار في ذلك لوقت القضاء، فإن كان قضى بها على الأولى لم تنتقل إلى الثانية، وإن لم يكن قضى بها على الأولى فإنه يقضي بها على الثانية، وإن كانت العاقلة واحدة فلحقها زيادة أو نقصان اشتركوا في حكم الجناية قبل القضاء وبعده إلا فيما سبق أداؤه فمن أحكم هذا الأصل متأملا يمكنه التخريج فيما ورد عليه من النظائر والأضداد، والله أعلم بالصواب.(4/512)
كتاب الوصايا
باب في صفة الوصية ما يجوز من ذاك وما يستحب منه وما يكون رجوعا عنه
...
كتاب الوصايا
باب في صفة الوصية: ما يجوز من ذلك وما يستحب منه وما يكون رجوعا عنه
قال: "الوصية غير واجبة وهي مستحبة" والقياس يأبى جوازها لأنه تمليك مضاف إلى حال زوال مالكيته، ولو أضيف إلى حال قيامها بأن قيل ملكتك غدا كان باطلا فهذا أولى، إلا أنا استحسناه لحاجة الناس إليها، فإن الإنسان مغرور بأمله مقصر في عمله، فإذا عرض له المرض وخاف البيان يحتاج إلى تلافي بعض ما فرط منه من التفريط بماله على وجه لو مضى فيه يتحقق مقصده المآلي، ولو أنهضه البرء يصرفه إلى مطلبه الحالي، وفي شرع الوصية ذلك فشرعناه، ومثله في الإجارة بيناه، وقد تبقى المالكية بعد الموت باعتبار الحاجة كما في قدر التجهيز والدين، وقد نطق به الكتاب وهو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] والسنة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم تضعونها حيث شئتم" أو قال "حيث أحببتم" وعليه إجماع الأمة. ثم تصح للأجنبي في الثلث من غير إجازة الورثة لما روينا، وسنبين ما هو الأفضل فيه إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا تجوز بما زاد على الثلث" لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "الثلث والثلث كثير" بعد ما نفى وصيته بالكل والنصف، ولأنه حق الورثة، وهذا لأنه انعقد سبب الزوال إليهم وهو استغناؤه عن المال فأوجب تعلق حقهم به، إلا أن الشرع لم يظهره في حق الأجانب بقدر الثلث ليتدارك مصيره على ما بيناه، وأظهره في حق الورثة لأن الظاهر أنه لا يتصدق به عليهم تحرزا عما يتفق من الإيثار على ما نبينه، وقد جاء في الحديث "الحيف في الوصية من أكبر الكبائر" وفسروه بالزيادة على الثلث وبالوصية للوارث.
قال: "إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار" لأن الامتناع لحقهم وهم أسقطوه(4/513)
"ولا معتبر بإجازتهم في حال حياته" لأنها قبل ثبوت الحق إذ الحق يثبت عند الموت فكان لهم أن يردوه بعد وفاته، بخلاف ما بعد الموت لأنه بعد ثبوت الحق فليس لهم أن يرجعوا عنه، لأن الساقط متلاش. غاية الأمر أنه يستند عند الإجازة، لكن الاستناد يظهر في حق القائم وهذا قد مضى وتلاشى، ولأن الحقيقة تثبت عند الموت وقبله يثبت مجرد الحق، فلو استند من كل وجه ينقلب حقيقة قبله، والرضا ببطلان الحق لا يكون رضا ببطلان الحقيقة وكذا إن كانت الوصية للوارث وأجازه البقية فحكمه ما ذكرناه. "وكل ما جاز بإجازة الوارث يتملكه المجاز له من قبل الموصي" عندنا، وعند الشافعي من قبل الوارث، والصحيح قولنا لأن السبب صدر من الموصي، والإجازة رفع المانع وليس من شرطه القبض فصار كالمرتهن إذا أجاز بيع الراهن.
قال: "ولا يجوز للقاتل عامدا كان أو خاطئا بعد أن كان مباشرا" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية للقاتل" ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى فيحرم الوصية كما يحرم الميراث. وقال الشافعي: تجوز للقاتل وعلى هذا الخلاف إذا أوصى لرجل ثم إنه قتل الموصي تبطل الوصية عندنا، وعنده لا تبطل، والحجة عليه في الفصلين ما بيناه "ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا تجوز" لأن جنايته باقية والامتناع لأجلها. ولهما أن الامتناع لحق الورثة لأن نفع بطلانها يعود إليهم كنفع بطلان الميراث، ولأنهم لا يرضونها للقاتل كما لا يرضونها لأحدهم.
قال: "ولا تجوز لوارثه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث" ولأنه يتأذى البعض بإيثار البعض ففي تجويزه قطيعة الرحم ولأنه حيف بالحديث الذي رويناه، ويعتبر كونه وارثا أو غير وارث وقت الموت لا وقت الوصية لأنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، وحكمه يثبت بعد الموت. "والهبة من المريض للوارث في هذا نظير الوصية" لأنها وصية حكما حتى تنفذ من الثلث، وإقرار المريض للوارث على عكسه لأنه تصرف في الحال فيعتبر ذلك وقت الإقرار.
قال: "إلا أن تجيزها الورثة" ويروى هذا الاستثناء فيما رويناه، ولأن الامتناع لحقهم فتجوز بإجازتهم؛ ولو أجاز بعض ورد بعض تجوز على المجيز بقدر حصته لولايته عليه وبطل في حق الراد.
قال: "ويجوز أن يوصي المسلم للكافر والكافر للمسلم" فالأولى لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] الآية. والثاني لأنهم بعقد(4/514)
الذمة ساووا المسلمين في المعاملات ولهذا جاز التبرع من الجانبين في حالة الحياة فكذا بعد الممات "وفي الجامع الصغير الوصية لأهل الحرب باطلة" لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9] الآية.
قال: "وقبول الوصية بعد الموت فإن قبلها الموصى له حال الحياة أو ردها فذلك باطل" لأن أوان ثبوت حكمه بعد الموت لتعلقه به فلا يعتبر قبله كما لا يعتبر قبل العقد.
قال: "ويستحب أن يوصي الإنسان بدون الثلث" سواء كانت الورثة أغنياء أو فقراء، لأن في التنقيص صلة القريب بترك ما له عليهم، بخلاف استكمال الثلث، لأنه استيفاء تمام حقه فلا صلة ولا منة، ثم الوصية بأقل من الثلث أولى أم تركها؟ قالوا: إن كانت الورثة فقراء ولا يستغنون بما يرثون فالترك أولى لما فيه من الصدقة على القريب. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" ولأن فيه رعاية حق الفقراء والقرابة جميعا، وإن كانوا أغنياء أو يستغنون بنصيبهم فالوصية أولى لأنه يكون صدقة على الأجنبي، والترك هبة من القريب والأولى أولى لأنه يبتغي بها وجه الله تعالى. وقيل في هذا الوجه يخير لاشتمال كل منهما على فضيلة وهو الصدقة والصلة فيخير بين الخيرين.
قال: "والموصى به يملك بالقبول" خلافا لزفر، وهو أحد قولي الشافعي. هو يقول: الوصية أخت الميراث، إذ كل منهما خلافة لما أنه انتقال، ثم الإرث يثبت من غير قبول فكذلك الوصية. ولنا أن الوصية إثبات ملك جديد، ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب، ولا يرد عليه بالعيب، ولا يملك أحد إثبات الملك لغيره إلا بقبوله، أما الوراثة فخلافة حتى يثبت فيها هذه الأحكام فيثبت جبرا من الشرع من غير قبول.
قال: "إلا في مسألة واحدة وهي أن يموت الموصي ثم يموت الموصى له قبل القبول فيدخل الموصى به في ملك ورثته" استحسانا والقياس أن تبطل الوصية لما بينا أن الملك موقوف على القبول فصار كموت المشتري قبل قبوله بعد إيجاب البائع. وجه الاستحسان أن الوصية من جانب الموصي قد تمت بموته تماما لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقفت لحق الموصى له، فإذا مات دخل في ملكه كما في البيع المشروط فيه الخيار إذا مات قبل الإجازة.
قال: "ومن أوصى وعليه دين يحيط بماله لم تجز الوصية" لأن الدين يقدم على الوصية لأنه أهم الحاجتين فإنه فرض والوصية تبرع، وأبدا يبدأ بالأهم فالأهم. "إلا أن يبرئه الغرماء" لأنه لم يبق الدين فتنفذ الوصية على الحد المشروع لحاجته إليها.(4/515)
قال: "ولا تصح وصية الصبي" وقال الشافعي: تصح إذا كان في وجوه الخير لأن عمر رضي الله عنه أجاز وصية يفاع أو يافاع وهو الذي راهق الحلم، ولأنه نظر له بصرفه إلى نفسه في نيل الزلفى، ولو لم تنفذ يبقى على غيره. ولنا أنه تبرع والصبي ليس من أهله، ولأن قوله غير ملزوم وفي تصحيح وصيته قول بإلزام قوله والأثر محمول على أنه كان قريب العهد بالحلم مجازا أو كانت وصيته في تجهيزه وأمر دفنه، وذلك جائز عندنا، وهو يحرز الثواب بالترك على ورثته كما بيناه، والمعتبر في النفع والضرر النظر إلى أوضاع التصرفات لا إلى ما يتفق بحكم الحال اعتبره بالطلاق فإنه لا يملكه ولا وصيه وإن كان يتفق نافعا في بعض الأحوال، وكذا إذا أوصى ثم مات بعد الإدراك لعدم الأهلية وقت المباشرة وكذا إذا قال إذا أدركت فثلث مالي لفلان وصية لقصور أهليته فلا يملكه تنجيزا وتعليقا كما في الطلاق والعتاق، بخلاف العبد والمكاتب لأن أهليتهما مستتمة والمانع حق المولى فتصح إضافته إلى حال سقوطه.
قال: "ولا تصح وصية المكاتب وإن ترك وفاء" لأن ماله لا يقبل التبرع، وقيل على قول أبي حنيفة لا تصح، وعندهما تصح ردا لها إلى مكاتب يقول كل مملوك أملكه فيما أستقبل فهو حر ثم عتق فملك، والخلاف فيها معروف عرف في موضعه.
قال: "وتجوز الوصية للحمل وبالحمل إذا وضع لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية" أما الأول فلأن الوصية استخلاف من وجه لأنه يجعله خليفة في بعض ماله والجنين صلح خليفة في الإرث فكذا في الوصية إذ هي أخته، إلا أن يرتد بالرد لما فيه من معنى التمليك، بخلاف الهبة، لأنها تمليك محض ولا ولاية لأحد عليه ليملكه شيئا. وأما الثاني فلأنه بعرض الوجود، إذ الكلام فيما إذا علم وجوده وقت الوصية، وبابها أوسع لحاجة الميت وعجزه، ولهذا تصح في غير الموجود كالثمرة فلأن تصح في الموجود أولى.
قال: "ومن أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية والاستثناء" لأن اسم الجارية لا يتناول الحمل لفظا ولكنه يستحق بالإطلاق تبعا، فإذا أفرد الأم بالوصية صح إفرادها، ولأنه يصح إفراد الحمل بالوصية فجاز استثناؤه، وهذا هو الأصل أن ما يصح إفراده بالعقد يصح استثناؤه منه، إذ لا فرق بينهما، وما لا يصح إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه منه، وقد مر في البيوع.
قال: "ويجوز للموصي الرجوع عن الوصية" لأنه تبرع لم يتم فجاز الرجوع عنه كالهبة(4/516)
وقد حققناه في كتاب الهبة، ولأن القبول يتوقف على الموت والإيجاب يصح إبطاله قبل القبول كما في البيع.
قال: "وإذا صرح بالرجوع أو فعل ما يدل على الرجوع كان رجوعا" أما الصريح فظاهر، وكذا الدلالة لأنها تعمل عمل الصريح فقام مقام قوله قد أبطلت، وصار كالبيع بشرط الخيار فإنه يبطل الخيار فيه بالدلالة، ثم كل فعل لو فعله الإنسان في ملك الغير ينقطع به حق المالك، فإذا فعله الموصي كان رجوعا، وقد عددنا هذه الأفاعيل في كتاب الغصب. وكل فعل يوجب زيادة في الموصى به ولا يمكن تسليم العين إلا بها فهو رجوع إذا فعله، مثل السويق يلته بالسمن والدار يبني فيه الموصي والقطن يحشو به والبطانة يبطن بها والظهارة يظهر بها، لأنه لا يمكنه تسليمه بدون الزيادة، ولا يمكن نقضها لأنه حصل في ملك الموصي من جهته، بخلاف تخصيص الدار الموصى بها وهدم بنائها لأنه تصرف في التابع، وكل تصرف أوجب زوال ملك الموصي فهو رجوع، كما إذا باع العين الموصى به ثم اشتراه أو وهبه تم رجع فيه لأن الوصية لا تنفذ إلا في ملكه، فإذا أزاله كان رجوعا. وذبح الشاة الموصى بها رجوع لأنه للصرف إلى حاجته عادة، فصار هذا المعنى أصلا أيضا، وغسل الثوب الموصى به لا يكون رجوعا لأن من أراد أن يعطي ثوبه غيره يغسله عادة فكان تقريرا.
قال: "وإن جحد الوصية لم يكن رجوعا" كذا ذكره محمد. وقال أبو يوسف: يكون رجوعا، لأن الرجوع نفي في الحال والجحود نفي في الماضي والحال، فأولى أن يكون رجوعا، ولمحمد أن الجحود نفي في الماضي والانتفاء في الحال ضرورة ذلك، وإذا كان ثابتا في الحال كان الجحود لغوا، أو لأن الرجوع إثبات في الماضي ونفي في الحال والجحود نفي في الماضي والحال فلا يكون رجوعا حقيقة ولهذا لا يكون جحود النكاح فرقة "ولو قال كل وصية أوصيت بها لفلان فهو حرام وربا لا يكون رجوعا" لأن الوصف يستدعي بقاء الأصل "بخلاف ما إذا قال فهي باطلة" لأنه الذاهب المتلاشي "ولو قال أخرتها لا يكون رجوعا" لأن التأخير ليس للسقوط كتأخير الدين "بخلاف ما إذا قال تركت" لأنه إسقاط "ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان فهو لفلان كان رجوعا" لأن اللفظ يدل على قطع الشركة "بخلاف ما إذا أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر" لأن المحل يحتمل الشركة واللفظ صالح لها "وكذا إذا قال فهو لفلان وارثي يكون رجوعا عن الأول" لما بينا ويكون وصية للوارث. وقد ذكرنا حكمه "ولو كان فلان الآخر ميتا حين أوصى فالوصية الأولى على حالها" لأن الوصية الأولى إنما تبطل ضرورة كونها للثاني ولم يتحقق فبقي للأول "ولو كان فلان حين قال ذلك حيا ثم مات قبل موت الموصي فهي(4/517)
للورثة" لبطلان الوصيتين الأولى بالرجوع والثانية بالموت، والله أعلم بالصواب.(4/518)
باب الوصية بثلث المال
مدخل
...
باب الوصية بثلث المال
قال: "ومن أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بثلث ماله ولم تجز الورثة فالثلث بينهما" لأنه يضيق الثلث عن حقهما إذ لا يزاد عليه عند عدم الإجازة على ما تقدم وقد تساويا في سبب الاستحقاق فيستويان في الاستحقاق، والمحل يقبل الشركة فيكون بينهما "وإن أوصى لأحدهما بالثلث وللآخر بالسدس فالثلث بينهما أثلاثا" لأن كل واحد منها يدلي بسبب صحيح وضاق الثلث عن حقيهما فيقتسمانه على قدر حقيهما كما في أصحاب الديون فيجعل الأقل سهما والأكثر سهمين فصار ثلاثة أسهم: سهم لصاحب الأقل وسهمان لصاحب الأكثر "وإن أوصى لأحدهما بجميع ماله وللآخر بثلث ماله ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على أربعة أسهم عندهما. وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفان، ولا يضرب أبو حنيفة للموصى له بما زاد على الثلث إلا في المحاباة والسعاية والدراهم المرسلة" لهما في الخلافية أن الموصي قصد شيئين الاستحقاق والتفضيل، وامتنع الاستحقاق لحق الورثة ولا مانع من التفضيل فيثبت كما في المحاباة وأختيها. وله أن الوصية وقعت بغير المشروع عند عدم الإجازة من الورثة، إذ لا نفاذ لها بحال فيبطل أصلا، والتفضيل يثبت في ضمن الاستحقاق فبطل ببطلانه كالمحاباة الثابتة في ضمن البيع، بخلاف مواضع الإجماع لأن لها نفاذا في الجملة بدون إجازة الورثة بأن كان في المال سعة فتعتبر في التفاضل لكونه مشروعا في الجملة، بخلاف ما نحن فيه. وهذا بخلاف ما إذا أوصى بعين من تركته وقيمته تزيد على الثلث فإنه يضرب بالثلث وإن احتمل أن يزيد المال فيخرج من الثلث، لأن هناك الحق تعلق بعين التركة، بدليل أنه لو هلك واستفاد مالا آخر تبطل الوصية، وفي الألف المرسلة لو هلكت التركة تنفذ فيما يستفاد فلم يكن متعلقا بعين ما تعلق به حق الورثة.
قال: "وإذا أوصى بنصيب ابنه فالوصية باطلة. ولو أوصى بمثل نصيب ابنه جاز" لأن الأول وصية بمال الغير، لأن نصيب الابن ما يصيبه بعد الموت والثاني وصية بمثل نصيب الابن ومثل الشيء غيره وإن كان يتقدر به فيجوز، وقال زفر: يجوز في الأول أيضا فينظر إلى الحال والكل ماله فيه وجوابه ما قلنا.
قال: "ومن أوصى بسهم من ماله فله أخس سهام الورثة إلا أن ينقص عن السدس فيتم له السدس ولا يزاد عليه، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: له مثل نصيب أحد الورثة ولا يزاد على الثلث إلا أن يجيز الورثة" لأن السهم يراد به أحد سهام الورثة عرفا لا سيما في(4/518)
الوصية، والأقل متيقن به فيصرف إليه، إلا إذا زاد على الثلث فيرد عليه لأنه لا مزيد عليه عند عدم إجازة الورثة. وله أن السهم هو السدس هو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيما يروى، ولأنه يذكر ويراد به السدس، فإن إياسا قال: السهم في اللغة عبارة عن السدس، ويذكر ويراد به سهم من سهام الورثة فيعطى ما ذكرنا، قالوا: هذا كان في عرفهم، وفي عرفنا السهم كالجزء.
قال: "ولو أوصى بجزء من ماله قيل للورثة أعطوه ما شئتم" لأنه مجهول يتناول القليل والكثير، غير أن الجهالة لا تمنع صحة الوصية والورثة قائمون مقام الموصي فإليهم البيان.
قال: "ومن قال سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في مجلس آخر له ثلث مالي وأجازت الورثة فله ثلث المال ويدخل السدس فيه، ومن قال سدس مالي لفلان ثم قال في ذلك المجلس أو في غيره سدس مالي لفلان فله سدس واحد" لأن السدس ذكر معرفا بالإضافة إلى المال، والمعرفة إذا أعيدت يراد بالثاني عين الأول هو المعهود في اللغة.
قال: "ومن أوصى بثلث دراهمه أو بثلث غنمه فهلك ثلثا ذلك وبقي ثلثه وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله فله جميع ما بقي" وقال زفر: له ثلث ما بقي، لأن كل واحد منهما مشترك بينهم والمال المشترك يتوى ما توي منه على الشركة ويبقى ما بقي عليها وصار كما إذا كانت التركة أجناسا مختلفة. ولنا أن في الجنس الواحد يمكن جميع حق أحدهم في الواحد ولهذا يجري فيه الجبر على القسمة وفيه جمع والوصية مقدمة فجمعناها في الواحد الباقي وصارت الدراهم كالدرهم، بخلاف الأجناس المختلفة لأنه لا يمكن الجمع فيها جبرا فكذا تقديما.
قال: "ولو أوصى بثلث ثيابه فهلك ثلثاها وبقي ثلثها وهو يخرج من ثلث ما بقي من ماله لم يستحق إلا ثلث ما بقي من الثياب"، قالوا: هذا إذا كانت الثياب من أجناس مختلفة، ولو كانت من جنس واحد فهو بمنزلة الدراهم، وكذلك المكيل والموزون بمنزلتها لأنه يجري فيه الجمع جبرا بالقسمة "ولو أوصى بثلث ثلاثة من رقيقه فمات اثنان لم يكن له إلا ثلث الباقي، وكذا الدور المختلفة" وقيل هذا على قول أبي حنيفة وحده لأنه لا يرى الجبر على القسمة فيها. وقيل هو قول الكل لأن عندهما القاضي أن يجتهد ويجمع وبدون ذلك يتعذر الجمع، والأول أشبه للفقه المذكور.
قال: "ومن أوصى لرجل بألف درهم وله مال عين ودين فإن خرج الألف من ثلث(4/519)
العين دفع إلى الموصى له" لأنه أمكن إيفاء كل ذي حق حقه من غير بخس فيصار إليه، وإن لم يخرج دفع إليه ثلث العين، وكلما خرج شيء من الدين أخذ ثلثه حتى يستوفي الألف لأن الموصى له شريك الوارث، وفي تخصيصه بالعين بخس في حق الورثة لأن للعين فضلا عن الدين، ولأن الدين ليس بمال في مطلق الحال وإنما يصير مالا عند الاستيفاء فإنما يعتدل النظر بما ذكرناه.
قال: "ومن أوصى لزيد وعمرو بثلث ماله فإذا عمرو ميت فالثلث كله لزيد" لأن الميت ليس بأهل للوصية فلا يزاحم الحي الذي هو من أهلها، كما إذا أوصى لزيد وجدار. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا لم يعلم بموته فله نصف الثلث، لأن الوصية عنده صحيحة لعمرو فلم يرض للحي إلا نصف الثلث بخلاف ما إذا علم بموته لأن الوصية للميت لغو فكان راضيا بكل الثلث للحي، وإن قال ثلث مالي بين زيد وعمرو وزيد ميت كان لعمرو نصف الثلث، لأن قضية هذا اللفظ أن يكون لكل واحد منهما نصف الثلث بخلاف ما تقدم، ألا ترى أن من قال ثلث مالي لزيد وسكت كان له كل الثلث، ولو قال ثلث مالي بين فلان وسكت لم يستحق الثلث.
قال: "ومن أوصى بثلث ماله ولا مال له واكتسب مالا استحق الموصى له ثلث ما يملكه عند الموت" لأن الوصية عقد استخلاف مضاف إلى ما بعد الموت ويثبت حكمه بعد فيشترط وجود المال عند الموت لا قبله، وكذلك إذا كان له مال فهلك ثم اكتسب مالا لما بينا. ولو أوصى له بثلث غنمه فهلك الغنم قبل موته أو لم يكن له غنم في الأصل فالوصية باطلة لما ذكرنا أنه إيجاب بعد الموت فيعتبر قيامه حينئذ، وهذه الوصية تعلقت بالعين فتبطل بفواته عند الموت، وإن لم يكن له غنم فاستفاد ثم مات فالصحيح أن الوصية تصح، لأنها لو كانت بلفظ المال تصح، فكذا إذا كانت باسم نوعه، وهذا لأن وجوده قبل الموت فضل والمعتبر قيامه عند الموت؛ ولو قال له شاة من مالي وليس له غنم يعطي قيمة شاة لأنه لما أضافه إلى المال علمنا أن مراده الوصية بمالية الشاة إذ ماليتها توجد في مطلق المال، ولو أوصى بشاة ولم يضفه إلى ماله ولا غنم قيل لا يصح لأن المصحح إضافته إلى المال وبدونها تعتبر صورة الشاة ومعناها، وقيل تصح لأنه لما ذكر الشاة وليس في ملكه شاة علم أن مراده المالية؛ ولو قال شاة من غنمي ولا غنم له فالوصية باطلة، لأنه لما أضافه إلى الغنم علمنا أن مراده عين الشاة حيث جعلها جزءا من الغنم، بخلاف ما إذا أضافه إلى المال وعلى هذا يخرج كثير من المسائل.
قال: "ومن أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده وهن ثلاث وللفقراء والمساكين فلهن(4/520)
ثلاثة أسهم من خمسة أسهم" قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وعن محمد رحمه الله أنه يقسم على سبعة أسهم لهن ثلاثة ولكل فريق سهمان، وأصله أن الوصية لأمهات الأولاد جائزة والفقراء والمساكين جنسان، وفسرناهما في الزكاة لمحمد رحمه الله أن المذكور لفظ الجمع وأدناه في الميراث اثنان نجد ذلك في القرآن فكان من كل فريق اثنان وأمهات الأولاد ثلاث فلهذا يقسم على سبعة. ولهما أن الجمع المحلى بالألف واللام يراد به الجنس، وأنه بتناول الأدنى مع احتمال الكل، لا سيما عند تعذر صرفه إلى الكل فيعتبر من كل فريق واحد فبلغ الحساب خمسة والثلاثة للثلاث.
قال: "ولو أوصى بثلثه لفلان وللمساكين فنصفه لفلان ونصفه للمساكين عندهما" وعند محمد ثلثه لفلان وثلثاه للمساكين، ولو أوصى للمساكين له صرفه إلى مسكين واحد عندهما، وعنده لا يصرف إلا إلى مسكينين بناء على ما بيناه.
قال: "ومن أوصى لرجل بمائة درهم ولآخر بمائة ثم قال لآخر قد أشركتك معهما فله ثلث كل مائة" لأن الشركة للمساواة لغة، وقد أمكن إثباته بين الكل بما قلناه لاتحاد المال لأنه يصيب كل واحد منهم ثلثا مائة، بخلاف ما إذا أوصى لرجل بأربعمائة ولآخر بمائتين ثم كان الإشراك لأنه لا يمكن تحقيق المساواة بين الكل لتفاوت المالين فحملناه على مساواته كل واحد بتنصيف نصيبه عملا باللفظ بقدر الإمكان.
قال: "ومن قال لفلان علي دين فصدقوه" معناه قال ذلك لورثته "فإنه يصدق إلى الثلث" وهذا استحسان. وفي القياس لا يصدق لأن الإقرار بالمجهول وإن كان صحيحا لكنه لا يحكم به إلا بالبيان وقوله فصدقوه صدر مخالفا للشرع لأن المدعي لا يصدق إلا بحجة فتعذر إثباته إقرارا مطلقا فلا يعتبر، وجه الاستحسان أنا نعلم أن من قصده تقديمه على الورثة وقد أمكن تنفيذ قصده بطريق الوصية وقد يحتاج إليه من يعلم بأصل الحق عليه دون مقداره سعيا منه في تفريغ ذمته فبجعلها وصية جعل التقدير فيها إلى الموصى له كأنه قال إذا جاءكم فلان وادعى شيئا فأعطوه من مالي ما شاء، وهذه معتبرة من الثلث فلهذا يصدق على الثلث دون الزيادة.
قال: "وإن أوصى بوصايا غير ذلك يعزل الثلث لأصحاب الوصايا والثلثان للورثة" لأن ميراثهم معلوم. وكذا الوصايا معلومة وهذا مجهول فلا يزاحم المعلوم فيقدم عزل المعلوم، وفي الإفراز فائدة أخرى وهو أن أحد الفريقين قد يكون أعلم بمقدار هذا الحق وأبصر به، والآخر ألد خصاما، وعساهم يختلفون في الفضل إذا ادعاه الخصم وبعد الإفراز(4/521)
يصح إقرار كل واحد فيما في يده من غير منازعة "وإذا عزل يقال لأصحاب الوصايا صدقوه فيما شئتم ويقال للورثة صدقوه فيما شئتم" لأن هذا دين في حق المستحق وصية في حق التنفيذ، فإذا أقر كل فريق بشيء ظهر أن في التركة دينا شائعا في النصيبين "فيؤخذ أصحاب الثلث بثلث ما أقروا والورثة بثلثي ما أقروا" تنفيذا لإقرار كل فريق في قدر حقه وعلى كل فريق منهما اليمين على العلم إن ادعى المقر له زيادة على ذلك لأنه يحلف على ما جرى بينه وبين غيره.
قال: "ومن أوصى لأجنبي ولوارثه فللأجنبي نصف الوصية وتبطل وصية الوارث" لأنه أوصى بما يملك الإيصاء به وبما لا يملك فصح في الأول وبطل في الثاني، بخلاف ما إذا أوصى لحي وميت لأن الميت ليس بأهل للوصية فلا يصلح مزاحما فيكون الكل للحي والوارث من أهلها ولهذا تصح بإجازة الورثة فافترقا، وعلى هذا إذا أوصى للقاتل وللأجنبي، وهذا بخلاف ما إذا أقر بعين أو دين لوارثه وللأجنبي حيث لا يصح في حق الأجنبي أيضا، لأن الوصية إنشاء تصرف والشركة تثبت حكما له فتصح في حق من يستحقه منهما وأما الإقرار فإخبار عن كائن، وقد أخبر بوصف الشركة في الماضي، ولا وجه إلى إثباته بدون هذا الوصف لأنه خلاف ما أخبر به، ولها إلى إثبات الوصف لأنه يصير الوارث فيه شريكا ولأنه لو قبض الأجنبي شيئا كان للوارث أن يشاركه فيبطل في ذلك القدر ثم لا يزال يقبض ويشاركه الوارث حتى يبطل الكل فلا يكون مفيدا وفي الإنشاء حصة أحدهما ممتازة عن حصة الآخر بقاء وبطلانا.
قال: "ومن كان له ثلاثة أثواب جيد ووسط ورديء فأوصى بكل واحد لرجل فضاع ثوب ولا يدري أيها هو والورثة تجحد ذلك فالوصية باطلة" ومعنى جحودهم أن يقول الوارث لكل واحد منهم بعينه الثوب الذي هو حقك قد هلك فكان المستحق مجهولا وجهالته تمنع صحة القضاء وتحصيل المقصود فبطل.
قال: "إلا أن يسلم الورثة الثوبين الباقيين، فإن سلموا زال المانع وهو الجحود فيكون لصاحب الجيد ثلثا الثوب الأجود، ولصاحب الأوسط ثلث الجيد وثلث الأدون فثبت الأدون، ولصاحب الأدون ثلثا الثوب الأدون" لأن صاحب الجيد لا حق له في الرديء بيقين، لأنه إما أن يكون وسطا أو رديئا ولا حق له فيهما، وصاحب الرديء لا حق له في الجيد الباقي بيقين، لأنه إما أن يكون جيدا أو وسطا ولا حق له فيهما، ويحتمل أن يكون الرديء هو الرديء الأصلي فيعطى من محل الاحتمال، وإذا ذهب ثلثا الجيد وثلثا الأدون لم يبق إلا ثلث الجيد وثلث الرديء فيتعين حق صاحب الوسط فيه بعينه ضرورة.(4/522)
قال: "وإذا كانت الدار بين رجلين فأوصى أحدهما ببيت بعينه لرجل فإنها تقسم، فإن وقع البيت في نصيب الموصي فهو للموصى له" عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وعند محمد نصفه للموصى له، وإن وقع في نصيب الآخر فللوصي له مثل درع البيت، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: مثل ذرع نصف البيت له أنه أوصى بملكه وبملك غيره، لأن الدار بجميع أجزائها مشتركة فينفذ الأول ويوقف الثاني، وهو أن ملكه بعد ذلك بالقسمة التي هي مبادلة لا تنفذ الوصية السالفة، كما إذا أوصى بملك الغير ثم اشتراه، ثم إذا اقتسموها ووقع البيت في نصيب الموصي تنفذ الوصية في عين الموصى به وهو نصف البيت، وإن وقع في نصيب صاحبه له مثل ذرع نصف البيت تنفيذا للوصية في بدل الموصى به عند فواته كالجارية الموصى بها إذا قتلت خطأ تنفذ الوصية في بدلها، بخلاف ما إذا بيع العبد الموصى به حيث لا تتعلق الوصية بثمنه، لأن الوصية تبطل بالإقدام على البيع على ما بيناه ولا تبطل بالقسمة.
ولهما أنه أوصى بما يستقر ملكه فيه بالقسمة، لأن الظاهر أنه بقصد الإيصاء بملك منتفع به من كل وجه وذلك يكون بالقسمة، لأن الانتفاع بالمشاع قاصر وقد استقر ملكه في جميع البيت إذا وقع في نصيبه فتنفذ الوصية فيه، ومعنى المبادلة في هذه القسمة تابع، وإنما المقصود الإفراز تكميلا للمنفعة ولهذا يجبر على القسمة فيه، وعلى اعتبار الإفراز يصير كأن البيت ملكه من الابتداء. وإن وقع في نصيب الآخر تنفذ في قدر ذرعان جميعه مما وقع في نصيبه، إما لأنه عوضه كما ذكرناه، أو لأن مراد الموصي من ذكر البيت التقدير به تحصيلا لمقصوده ما أمكن، إلا أنه يتعين البيت إذا وقع في نصيبه جمعا بين الجهتين التقدير والتمليك، وإن وقع في نصيب الآخر عملنا بالتقدير، أو لأنه أراد التقدير على اعتبار أحد الوجهين والتمليك بعينه على اعتبار الوجه الآخر، كما إذا علق عتق الولد وطلاق المرأة بأول ولد تلده أمته، فالمراد في جزاء الطلاق مطلق الولد وفي العتق ولد حي ثم إذا وقع البيت في نصيب غير الموصي والدار مائة ذراع والبيت عشرة أذرع يقسم نصيبه بين الموصى له وبين الورثة على عشرة أسهم: تسعة منها للورثة وسهم للموصى له، وهذا عند محمد فيضرب الموصى له بخمسة أذرع نصف البيت وهم بنصف الدار سوى البيت وهو خمسة وأربعون فيجعل كل خمسة سهما فيصير عشرة، وعندهما يقسم على أحد عشر سهما لأن الموصى له يضرب بالعشرة وهم بخمسة وأربعين فتصير السهام أحد عشر للموصى له سهمان ولهم تسعة، ولو كان مكان الوصية إقرار قيل هو على الخلاف، وقيل لا خلاف فيه لمحمد. والفرق له أن الإقرار بملك الغير صحيح، حتى إن من أقر(4/523)
بملك الغير لغيره ثم ملكه يؤمر بالتسليم إلى المقر له، والوصية بملك الغير لا تصح، حتى لو ملكه بوجه من الوجوه ثم مات لا تصح وصيته ولا تنفذ.
قال: "ومن أوصى من مال رجل لآخر بألف بعينه فأجاز صاحب المال بعد موت الموصي فإن دفعه فهو جائز وله أن يمنع" لأن هذا تبرع بمال الغير فيتوقف على إجازته، وإذا أجاز يكون تبرعا منه أيضا فله أن يمتنع من التسليم، بخلاف ما إذا أوصى بالزيادة على الثلث وأجازت الورثة لأن الوصية في مخرجها صحيحة لمصادفتها ملك نفسه والامتناع لحق الورثة، فإذا أجازوها سقط حقهم فنفذ من جهة الموصي.
قال: "وإذا اقتسم الابنان تركة الأب ألفا ثم أقر أحدهما لرجل أن الأب أوصى له بثلث ماله فإن المقر يعطيه ثلث ما في يده" وهذا استحسان والقياس أن يعطيه نصف ما في يده وهو قول زفر رحمه الله، لأن إقراره بالثلث له تضمن إقراره بمساواته إياه، والتسوية في إعطاء النصف ليبقى له النصف. وجه الاستحسان أنه أقر له بثلث شائع في التركة وهي في أيديهما فيكون مقرا بثلث ما في يده، بخلاف ما إذا أقر أحدهما بدين لغيره لأن الدين مقدم على الميراث فيكون مقرا بتقديمه فيقدم عليه، أما الموصى له بالثلث شريك الوارث فلا يسلم له شيء إلا أن يسلم للورثة مثلاه، ولأنه لو أخذ منه نصف ما في يده فربما يقر الابن الآخر به أيضا فيأخذ نصف ما في يده فيصير نصف التركة فيزاد على الثلث.
قال: "ومن أوصى لرجل بجارية فولدت بعد موت الموصي ولدا وكلاهما يخرجان من الثلث فهما للموصى له" لأن الأم دخلت في الوصية أصالة والولد تبعا حين كان متصلا بالأم، فإذا ولدت قبل القسمة والتركة قبلها مبقاة على ملك الميت حتى يقضى بها ديونه دخل في الوصية فيكونان للموصي له "وإن لم يخرجا من الثلث ضرب بالثلث وأخذ ما يخصه منهما جميعا في قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يأخذ ذلك من الأم، فإن فضل شيء أخذه من الولد". وفي الجامع الصغير عين صورة وقال: رجل له ستمائة درهم وأمة تساوي ثلاثمائة درهم فأوصى بالجارية لرجل ثم مات فولدت ولدا يساوي ثلاثمائة درهم قبل القسمة فللموصى له الأم وثلث الولد عنده. وعندهما له ثلثا كل واحد منهما. لهما ما ذكرنا أن الولد دخل في الوصية تبعا حالة الاتصال فلا يخرج عنها بالانفصال كما في البيع والعتق فتنفذ الوصية فيهما على السواء من غير تقديم الأم. وله أن الأم أصل والولد تبع والتبع لا يزاحم الأصل، فلو نفذنا الوصية فيهما جميعا تنتقض الوصية في بعض الأصل وذلك لا يجوز بخلاف البيع لأن تنفيذ البيع في التبع لا يؤدي إلى نقضه في الأصل بل يبقى(4/524)
تاما صحيحا فيه، إلا أنه لا يقابله بعض الثمن ضرورة مقابلته بالولد إذا اتصل به القبض ولكن الثمن تابع في البيع حتى ينعقد البيع بدون ذكره وإن كان فاسدا "هذا إذا ولدت قبل القسمة، فإن ولدت بعد القسمة فهو للموصى له" لأنه نماء خالص ملكه لتقرر ملكه فيه بعد القسمة.(4/525)
فصل: في اعتبار حالة الوصية
قال: "وإذا أقر المريض لامرأة بدين أو أوصى لها بشيء أو وهب لها ثم تزوجها ثم مات جاز الإقرار وبطلت الوصية والهبة" لأن الإقرار ملزم بنفسه وهي أجنبية عند صدوره، ولهذا يعتبر من جميع المال، ولا يبطل بالدين إذا كان في حالة الصحة أو في حالة المرض، إلا أن الثاني يؤخر عنه، بخلاف الوصية لأنها إيجاب عند الموت وهي وارثة عند ذلك، ولا وصية للوارث، والهبة وإن كانت منجزة صورة فهي كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما لأن حكمها يتقرر عند الموت؛ ألا ترى أنها تبطل بالدين المستغرق وعند عدم الدين تعتبر من الثلث.
قال: "وإذا أقر المريض لابنه بدين وابنه نصراني أو وهب له أو أوصى له فأسلم الابن قبل موته بطل ذلك كله". أما الهبة والوصية فلما قلنا إنه وارث عند الموت وهما إيجابان عنده أو بعده، والإقرار وإن كان ملزما بنفسه ولكن سبب الإرث وهو البنوة قائم وقت الإقرار فيعتبر في إيراث تهمة الإيثار، بخلاف ما تقدم لأن سبب الإرث الزوجية وهي طارئة حتى لو كانت الزوجية قائمة وقت الإقرار وهي نصرانية ثم أسلمت قبل موته لا يصح الإقرار لقيام السبب حال صدوره، وكذا لو كان الابن عبدا أو مكاتبا فأعتق لما ذكرنا وذكر في كتاب الإقرار إن لم يكن عليه دين يصح لأنه أقر لمولاه وهو أجنبي، وإن كان عليه دين لا يصح لأنه إقرار له وهو ابنه، والوصية باطلة لما ذكرنا أن المعتبر فيها وقت الموت. وأما الهبة فيروى أنها تصح لأنها تمليك في الحال وهو رقيق، وفي عامة الروايات هي في مرض الموت بمنزلة الوصية فلا تصح.
قال: "والمقعد والمفلوج والأشل والمسلول إذا تطاول ذلك ولم يخف منه الموت فهبته من جميع المال" لأنه إذا تقادم العهد صار طبعا من طباعه ولهذا لا يشتغل بالتداوي، ولو صار صاحب فراش بعد ذلك فهو كمرض حادث "وإن وهب عند ما أصابه ذلك ومات من أيامه فهو من الثلث إذا صار صاحب فراش" لأنه يخاف منه الموت ولهذا يتداوى فيكون مرض الموت، والله أعلم بالصواب.(4/525)
باب العتق في مرض الموت
مدخل
...
باب العتق في مرض الموت
قال: "ومن أعتق في مرضه عبدا أو باع وحابى أو وهب فذلك كله جائز وهو معتبر من الثلث، ويضرب به مع أصحاب الوصايا". وفي بعض النسخ فهو وصية مكان قوله جائز، والمراد الاعتبار من الثلث والضرب مع أصحاب الوصايا لا حقيقة الوصية لأنها إيجاب بعد الموت وهذا منجز غير مضاف، واعتباره من الثلث لتعلق حق الورثة، وكذلك ما ابتدأ المريض إيجابه على نفسه كالضمان والكفالة في حكم الوصية لأنه يتهم فيه كما في الهبة، وكل ما أوجبه بعد الموت فهو من الثلث، وإن أوجبه في حال صحته اعتبارا بحالة الإضافة دون حالة العقد، وما نفذه من التصرف فالمعتبر فيه حالة العقد، فإن كان صحيحا فهو من جميع المال وإن كان مريضا فمن الثلث، وكل مرض صح منه فهو كحال الصحة لأن بالبرء تبين أنه لا حق في ماله.
قال: "وإن حابى ثم أعتق وضاق الثلث عنهما فالمحاباة أولى عند أبي حنيفة، وإن أعتق ثم حابى فهما سواء، وقالا: العتق أولى في المسألتين" والأصل فيه أن الوصايا إذا لم يكن فيها ما جاوز الثلث فكل من أصحابها يضرب بجميع وصيته في الثلث لا يقدم البعض على البعض إلا الموقع في المرض، والعتق المعلق بموت الموصي كالتدبير الصحيح والمحاباة في البيع إذا وقعت في المرض لأن الوصايا قد تساوت، والتساوي في سبب الاستحقاق يوجب التساوي في نفس الاستحقاق، وإنما قدم العتق الذي ذكرناه آنفا لأنه أقوى فإنه لا يلحقه الفسخ من جهة الموصي، وغيره يلحقه. وكذلك المحاباة لا يلحقها الفسخ من جهة الموصي، وإذا تقدم ذلك فما بقي من الثلث بعد ذلك يستوي فيه من سواهما من أهل الوصايا، ولا يقدم البعض على البعض. لهما في الخلافية أن العتق أقوى لأنه لا يلحقه الفسخ والمحاباة يلحقها، ولا معتبر بالتقديم الذكر لأنه لا يوجب التقدم في الثبوت. وله أن المحاباة أقوى، لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا بمعناه لا بصيغته، والإعتاق تبرع صيغة ومعنى، فإذا وجدت المحاباة أولا دفع الأضعف، وإذا وجد العتق أولا وثبت وهو لا يحتمل الدفع كان من ضرورته المزاحمة، وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حابى ثم أعتق ثم حابى قسم الثلث بين المحاباتين نصفين لتساويهما، ثم ما أصاب المحاباة الأخيرة قسم بينها وبين العتق لأن العتق مقدم عليها فيستويان، ولو أعتق ثم حابى ثم أعتق قسم الثلث بين العتق الأول والمحاباة نصفين، وما أصاب العتق قسم بينه وبين العتق الثاني، وعندهما العتق أولى بكل حال.
قال: "ومن أوصى بأن يعتق عنه بهذه المائة عبد فهلك منها درهم لم يعتق عنه بما بقي(4/526)
عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كانت وصيته بحجة يحج عنه بما بقي من حيث يبلغ، وإن لم يهلك منها وبقي شيء من الحجة يرد على الورثة. وقالا: يعتق عنه بما بقي" لأنه وصية بنوع قربة فيجب تنفيذها ما أمكن اعتبارا بالوصية بالحج. وله أنه وصية بالعتق لعبد يشتري بمائة وتنفيذها فيمن يشتري بأقل منه تنفيذ لغير الموصى له، وذلك لا يجوز، بخلاف الوصية بالحج لأنها قربة محضة وهي حق الله تعالى والمستحق لم يتبدل فصار كما إذا أوصى لرجل بمائة فهلك بعضها يدفع الباقي إليه.
وقيل هذه المسألة بناء على أصل آخر مختلف فيه وهو أن العتق حق الله تعالى عندهما حتى تقبل الشهادة عليه من غير دعوى فلم يتبدل المستحق، وعنده حق العبد حتى لا تقبل البينة عليه من غير دعوى، فاختلف المستحق وهذا أشبه.
قال: "ومن ترك ابنين ومائة درهم وعبدا قيمته مائة درهم وقد كان أعتقه في مرضه فأجاز الوارثان ذلك لم يسع في شيء" لأن العتق في مرض الموت وإن كان في حكم الوصية وقد وقعت بأكثر من الثلث إلا أنها تجوز بإجازة الورثة، لأن الامتناع لحقهم وقد أسقطوه.
قال: "ومن أوصى بعتق عبده ثم مات فجنى جناية ودفع بها بطلت الوصية" لأن الدفع قد صح لما أن حق ولي الجناية مقدم على حق الموصي، فكذلك على حق الموصى له لأنه يتلقى الملك من جهته إلا أن ملكه فيه باق، وإنما يزول بالدفع فإذا خرج به عن ملكه بطلت الوصية كما إذا باعه الموصي أو وارثه بعد موته، فإن فداه الورثة كان الفداء في مالهم لأنهم هم الذين التزموه، وجازت الوصية لأن العبد طهر عن الجناية بالفداء كأنه لم يجن فتنفذ الوصية.
قال: "ومن أوصى بثلث ماله لآخر فأقر الموصى له والوارث أن الميت أعتق هذا العبد فقال الموصى له أعتقه في الصحة وقال الوارث أعتقه في المرض فالقول قول الوارث، ولا شيء للموصى له إلا أن يفضل من الثلث شيء أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة" لأن الموصى له يدعي استحقاق ثلث ما بقي من التركة بعد العتق لأن العتق في الصحة ليس بوصية ولهذا ينفذ من جميع المال، والوارث ينكر لأن مدعاه العتق في المرض وهو وصية، والعتق في المرض مقدم على الوصية بثلث المال فكان منكرا، والقول قول المنكر مع اليمين؛ ولأن العتق حادث والحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات للتيقن بها فكان الظاهر شاهدا للوارث فيكون القول قوله مع اليمين، إلا أن يفضل شيء من الثلث على قيمة العبد لأنه لا مزاحم له فيه أو تقوم له البينة أن العتق في الصحة لأن الثابت بالبينة كالثابت معاينة وهو خصم في إقامتها لإثبات حقه.(4/527)
قال: "ومن ترك عبدا فقال للوارث أعتقني أبوك في الصحة وقال رجل لي على أبيك ألف درهم فقال صدقتما فإن العبد يسعى في قيمته عند أبي حنيفة وقالا: يعتق ولا يسعى في شيء"، لأن الدين والعتق في الصحة ظهرا معا بتصديق الوارث في كلام واحد فصارا كأنهما كانا معا، والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين. وله أن الإقرار بالدين أقوى لأنه يعتبر من جميع المال، والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من الثلث، والأقوى يدفع الأدنى، فقضيته أن يبطل العتق أصلا إلا أنه بعد وقوعه لا يحتمل البطلان فيدفع من حيث المعنى بإيجاب السعاية، ولأن الدين أسبق لأنه لا مانع له من الاستناد فيستند إلى حالة الصحة، ولا يمكن إسناد العتق إلى تلك الحالة لأن الدين يمنع العتق في حالة المرض مجانا فتجب السعاية، وعلى هذا الخلاف إذا مات الرجل وترك ألف درهم فقال رجل لي على الميت ألف درهم دين وقال الآخر كان لي عنده ألف درهم وديعة فعنده الوديعة أقوى وعندهما سواء، والله أعلم.(4/528)
فصل: ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض منها قدمها الموصي أو أخرها
...
فصل: قال: "ومن أوصى بوصايا من حقوق الله تعالى قدمت الفرائض منها قدمها الموصي أو أخرها مثل الحج والزكاة والكفارات"
لأن الفريضة أهم من النافلة، والظاهر منه البداءة بما هو الأهم "فإن تساوت في القوة بدئ بما قدمه الموصي إذا ضاق عنها الثلث" لأن الظاهر أنه يبتدئ بالأهم.
وذكر الطحاوي أنه يبتدئ بالزكاة ويقدمها على الحج وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية عنه أنه يقدم الحج وهو قول محمد. وجه الأولى أنهما وإن استويا في الفريضة فالزكاة تعلق بها حق العباد فكان أولى. وجه الأخرى أن الحج يقام بالمال والنفس والزكاة بالمال قصرا عليه فكان الحج أقوى، ثم تقدم الزكاة والحج على الكفارات لمزيتهما عليها في القوة، إذ قد جاء فيهما من الوعيد ما لم يأت في الكفارات، والكفارة في القتل والظهار واليمين مقدمة على صدقة الفطر لأنه عرف وجوبها دون صدقة الفطر، وصدقة الفطر مقدمة على الأضحية للاتفاق على وجوبها بالقرآن والاختلاف في الأضحية، وعلى هذا القياس يقدم بعض الواجبات على البعض.
قال: "وما ليس بواجب قدم منه ما قدمه الموصي" لما بينا وصار كما إذا صرح بذلك. قالوا: إن الثلث يقسم على جميع الوصايا ما كان لله تعالى وما كان للعبد، فما أصاب القرب صرف إليها على الترتيب الذي ذكرناه ويقسم على عدد القرب ولا يجعل الجميع كوصية(4/528)
واحدة، لأنه إن كان المقصود بجميعها رضا لله تعالى فكل واحدة في نفسها مقصود فتنفرد كما تنفرد وصايا الآدميين.
قال: "ومن أوصى بحجة الإسلام أحجوا عنه رجلا من بلده يحج راكبا" لأن الواجب لله تعالى الحج من بلده ولهذا يعتبر فيه من المال ما يكفيه من بلده والوصية لأداء ما هو الواجب عليه وإنما قال راكبا لأنه لا يلزمه أن يحج ماشيا فانصرف إليه على الوجه الذي وجب عليه.
قال: "فإن لم تبلغ الوصية النفقة أحجوا عنه من حيث تبلغ" وفي القياس لا يحج عنه، لأنه أمر بالحجة على صفة عدمناها فيه، غير أنا جوزناه لأنا نعلم أن الموصي قصد تنفيذ الوصية فيجب تنفيذها ما أمكن والممكن فيه ما ذكرناه، وهو أولى من إبطالها رأسا، وقد فرقنا بين هذا وبين الوصية بالعتق من قبل.
قال: "ومن خرج من بلده حاجا فمات في الطريق وأوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده" عند أبي حنيفة وهو قول زفر. وقال أبو يوسف ومحمد. يحج عنه من حيث بلغ استحسانا، وعلى هذا الخلاف إذا مات الحاج عن غيره في الطريق. لهما أن السفر بنية الحج وقع قربة وسقط فرض قطع المسافة بقدره وقد وقع أجره على الله فيبتدئ من ذلك المكان كأنه من أهله، بخلاف سفر التجارة لأنه لم يقع قربة فيحج عنه من بلده. وله أن الوصية تنصرف إلى الحج من بلده على ما قررناه أداء للواجب على الوجه الذي وجب، والله أعلم.(4/529)
باب الوصية للأقارب وغيرهم
قال: "ومن أوصى لجيرانه فهم الملاصقون عند أبي حنيفة، وقالا: هم الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلة الموصي ويجمعهم مسجد المحلة" وهذا استحسان. وقوله قياس لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة ولهذا يستحق الشفعة بهذا الجوار، ولأنه لما صرفه إلى الجميع يصرف إلى أخص الخصوص وهو الملاصق. وجه الاستحسان أن هؤلاء كلهم يسمون جيرانا عرفا، وقد تأيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وفسره بكل من سمع النداء، ولأن المقصد بر الجيران واستحبابه ينتظم الملاصق وغيره، إلا أنه لا بد من الاختلاط وذلك عند اتحاد المسجد، وما قاله الشافعي رحمه الله: الجوار إلى أربعين دارا بعيد، وما يروى فيه ضعيف. قالوا: ويستوي فيه الساكن والمالك والذكر والأنثى والمسلم الذمي لأن اسم الجار يتناولهم ويدخل فيه العبد(4/529)
الساكن عنده لإطلاقه، ولا يدخل عندهما لأن الوصية له وصية لمولاه وهو غير ساكن.
قال: "ومن أوصى لأصهاره فالوصية لكل ذي رحم محرم من امرأته" لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج صفية أعتق كل من ملك من ذي رحم محرم منها إكراما لها" وكانوا يسمون أصهار النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا التفسير اختيار محمد وأبي عبيدة، وكذا يدخل فيه كل ذي رحم محرم من زوجة أبيه وزوجة ابنه وزوجة كل ذي رحم محرم منه لأن الكل أصهار. ولو مات الموصي والمرأة في نكاحه أو في عدته من طلاق رجعي فالصهر يستحق الوصية وإن كانت في عدة من طلاق بائن لا يستحقها لأن بقاء الصهرية ببقاء النكاح وهو شرط عند الموت.
قال: "ومن أوصى لأختانه فالوصية لزوج كل ذات رحم محرم منه وكذا محارم الأزواج" لأن الكل يسمى ختنا. قيل هذا في عرفهم. وفي عرفنا لا يتناول الأزواج المحارم، ويستوي فيه الحر والعبد والأقرب والأبعد. لأن اللفظ يتناول الكل.
قال: "ومن أوصى لأقاربه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه، ولا يدخل فيه الوالدان والولد ويكون ذلك للاثنين فصاعدا، وهذا عند أبي حنيفة، وقال صاحباه: الوصية لكل من ينسب إلى أقصى أب له في الإسلام" وهو أول أب أسلم أو أول أب أدرك الإسلام وإن لم يسلم على حسب ما اختلف فيه المشايخ. وفائدة الاختلاف تظهر في أولاد أبي طالب فإنه أدرك الإسلام ولم يسلم. لهما أن القريب مشتق من القرابة فيكون اسما لمن قامت به فينتظم بحقيقة مواضع الخلاف. وله أن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث يعتبر الأقرب فالأقرب، والمراد بالجمع المذكور فيه اثنان فكذا في الوصية، والمقصد من هذه الوصية تلاقي ما فرط في إقامة واجب الصلة وهو يختص بذي الرحم المحرم منه، ولا يدخل فيه قرابة الولاد فإنهم لا يسمون أقرباء، ومن سمى والده قريبا كان منه عقوقا، وهذا لأن القريب في عرف اللسان من يتقرب إلى غيره بوسيلة غيره، وتقرب الوالد والولد بنفسه لا بغيره، ولا معتبر بظاهر اللفظ بعد انعقاد الإجماع على تركه، فعنده يقيد بما ذكرناه، وعندهما بأقصى الأب في الإسلام، وعند الشافعي بالأب الأدنى.
قال: "وإذا أوصى لأقاربه وله عمان وخالان فالوصية لعميه" عنده اعتبار للأقرب كما في الإرث، وعندهما بينهم أرباعا إذ هما لا يعتبران الأقرب "ولو ترك عما وخالين فللعم نصف الوصية والنصف للخالين" لأنه لا بد من اعتبار معنى الجميع وهو الاثنان في الوصية(4/530)
كما في الميراث بخلاف ما إذا أوصى لذي قرابته حيث يكون للعم كل الوصية، لأن اللفظ للفرد فيحرز الواحد كلها إذ هو الأقرب، ولو كان له عم واحد فله الثلث لما بيناه، ولو ترك عما وعمة وخالا وخالة فالوصية للعم والعمة بينهما بالسوية لاستواء قرابتهما وهي أقوى، والعمة وإن لم تكن وارثة فهي مستحقة للوصية كما لو كان القريب رقيقا أو كافرا، وكذا إذا أوصى لذوي قرابته أو لأقربائه أو لأنسبائه في جميع ما ذكرنا، لأن كل ذلك لفظ جمع، ولو انعدم المحرم بطلت الوصية لأنها مقيدة بهذا الوصف.
قال: "ومن أوصى لأهل فلان فهي على زوجته عند أبي حنيفة"، وقال: يتناول كل من يعولهم وتضمهم نفقته اعتبارا للعرف وهو مؤيد بالنص، قال الله تعالى: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:93] وله أن اسم الأهل حقيقة في الزوجة يشهد بذلك قوله تعالى: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] ومنه قولهم تأهل ببلدة كذا، والمطلق ينصرف إلى الحقيقة.
قال: "ولو أوصى لآل فلان فهو لأهل بيته" لأن الآل القبيلة التي ينسب إليها، ولو أوصى لأهل بيت فلان يدخل فيه أبوه وجده لأن الأب أصل البيت، ولو أوصى لأهل نسبه أو لجنسه فالنسب عبارة عمن ينسب إليه، والنسب يكون من جهة الآباء، وجنسه أهل بيت أبيه دون أمه لأن الإنسان يتجنس بأبيه، بخلاف قرابته حيث تكون من جانب الأم والأب، ولو أوصى لأيتام بني فلان أو لعميانهم أو لزمناهم أو لأراملهم إن كانوا قوما يحصون دخل في الوصية فقراؤهم وأغنياؤهم ذكورهم وإناثهم، لأنه أمكن تحقيق التمليك في حقهم والوصية تمليك. وإن كانوا لا يحصون فالوصية في الفقراء منهم، لأن المقصود من الوصية القربة وهي في سد الخلة ورد الجوعة. وهذه الأسامي تشعر بتحقق الحاجة فجاز حمله على الفقراء، بخلاف ما إذا أوصى لشبان بني فلان وهم لا يحصون أو لأيامى بني فلان وهم لا يحصون حيث تبطل الوصية، لأنه ليس في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة فلا يمكن صرفه إلى الفقراء، ولا يمكن تصحيحه تمليكا في حق الكل للجهالة المتفاحشة وتعذر الصرف إليهم، وفي الوصية للفقراء والمساكين يجب الصرف إلى اثنين منهم اعتبارا لمعنى الجمع، وأقله اثنان في الوصايا على ما مر. ولو أوصى لبني فلان يدخل فيهم الإناث في قول أبي حنيفة أول قوليه وهو قولهما لأن جمع الذكور يتناول الإناث، ثم رجع وقال: يتناول الذكور خاصة لأن حقيقة الاسم للذكور وانتظامه للإناث تجوز والكلام لحقيقته، بخلاف ما إذا كان بنو فلان اسم قبيلة أو فخذ حيث يتناول الذكور والإناث لأنه ليس يراد بها(4/531)
أعيانهم إذ هو مجرد الانتساب كبني آدم ولهذا يدخل فيه مولى العتاقة والموالاة وحلفاؤهم.
قال: "ومن أوصى لولد فلان فالوصية بينهم والذكر والأنثى فيه سواء" لأن اسم الولد ينتظم الكل انتظاما واحدا. "ومن أوصى لورثة فلان فالوصية بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين" لأنه لما نص على لفظ الورثة آذن ذلك بأن قصده التفضيل كما في الميراث. ومن أوصى لمواليه وله موال أعتقهم وموال أعتقوه فالوصية باطلة. وقال الشافعي في بعض كتبه: إن الوصية لهم جميعا، وذكر في موضع آخر أنه يوقف حتى يصالحوا. له أن الاسم يتناولهم لأن كلا منهم يسمى مولى فصار كالإخوة. ولنا أن الجهة مختلفة لأن أحدهما يسمى مولى النعمة والآخر منعم عليه فصار مشتركا فلا ينتظمهما لفظ واحد في موضع الإثبات، بخلاف ما إذا حلف لا يكلم موالي فلان حيث يتناول الأعلى والأسفل لأنه مقام النفي ولا تنافي فيه، ويدخل في هذه الوصية من أعتقه في الصحة والمرض، ولا يدخل مدبروه وأمهات أولاده لأن عتق هؤلاء يثبت بعد الموت والوصية تضاف إلى حالة الموت فلا بد من تحقق الاسم قبله. وعن أبي يوسف أنهم يدخلون لأن سبب الاستحقاق لازم، ويدخل فيه عبد قال له مولاه إن لم أضربك فأنت حر لأن العتق يثبت قبيل الموت عند تحقق عجزه، ولو كان له موال وأولاده موال وموالي موالاة يدخل فيها معتقوه وأولادهم دون موالي الموالاة وعن أبي يوسف أنهم يدخلون أيضا والكل شركاء لأن الاسم يتناولهم على السواء. ومحمد يقول: الجهة مختلفة، في المعتق الإنعام، وفي الموالي عقد الالتزام والإعتاق لازم فكان الاسم له أحق، ولا يدخل فيهم موالي الموالي لأنهم موالي غيره حقيقة، بخلاف مواليه وأولادهم لأنهم ينسبون إليه بإعتاق وجد منه، وبخلاف ما إذا لم يكن له موال ولا أولاد الموالي لأن اللفظ لهم مجاز فيصرف إليه عند تعذر اعتبار الحقيقة. ولو كان له معتق واحد وموالي الموالي فالنصف لمعتق والباقي للورثة لتعذر الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولا يدخل فيه موال أعتقهم ابنه أو أبوه لأنهم ليسوا بمواليه لا حقيقة ولا مجازا، وإنما يحرز ميراثهم بالعصوبة، بخلاف معتق البعض لأنه ينسب إليه بالولاء، والله أعلم بالصواب.(4/532)
باب الوصية بالسكنى والخدمة والثمرة
قال: "وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره سنين معلومة وتجوز بذلك أبدا" لأن المنافع يصح تمليكها في حالة الحياة ببدل وغير بدل، فكذا بعد الممات لحاجته كما في(4/532)
الأعيان، ويكون محبوسا على ملكه في حق المنفعة حتى يتملكها الموصى له على ملكه كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف على حكم ملك الواقف، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في العارية فإنها تمليك على أصلنا، بخلاف الميراث لأنه خلافه فيما يتملكه المورث وذلك في عين تبقى والمنفعة عرض لا يبقى، وكذا الوصية بغلة العبد والدار لأنه بدل المنفعة فأخذ حكمها والمعنى يشملهما.
قال: "فإن خرجت رقبة العبد من الثلث يسلم إليه ليخدمه" لأن حق الموصى له في الثلث لا يزاحمه الورثة "وإن كان لا مال له غيره خدم الورثة يومين والموصى له يوما" لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين كما في الوصية في العين ولا تمكن قسمة العبد أجزاء لأنه لا يتجزأ فصرنا إلى المهايأة إيفاء للحقين، بخلاف الوصية بسكنى الدار إذا كانت لا تخرج من الثلث حيث تقسم عين الدار ثلاثا للانتفاع لأنه يمكن القسمة بالأجزاء وهو أعدل للتسوية بينهما زمانا وذاتا، وفي المهايأة تقديم أحدهما زمانا.
ولو اقتسموا الدار مهايأة من حيث الزمان تجوز أيضا لأن الحق لهم، إلا أن الأول وهو الأعدل أولى، وليس للورثة أن يبيعوا ما في أيديهم من ثلثي الدار. وعن أبي يوسف رحمه الله أن لهم ذلك لأنه خالص ملكهم. وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى جميع الدار بأن ظهر للميت مال آخر وتخرج الدار من الثلث، وكذا له حق المزاحمة فيما في أيديهم إذا خرب ما في يده. والبيع يتضمن إبطال ذلك فمنعوا عنه.
قال: "فإن كان مات الموصى له عاد إلى الورثة" لأن الموصي أوجب الحق للموصى له ليستوفي المنافع على حكم ملكه، فلو انتقل إلى وارث الموصى له استحقها ابتداء من ملك الموصي من غير مرضاته وذلك لا يجوز.
"ولو مات الموصى له في حياة الموصي بطلت" لأن إيجابها تعلق بالموت على ما بيناه من قبل. ولو أوصى بغلة عبده أو داره فاستخدمه بنفسه أو سكنها بنفسه قيل يجوز ذلك لأن قيمة المنافع كعينها في تحصيل المقصود. والأصح أنه لا يجوز لأن الغلة دراهم أو دنانير وقد وجبت الوصية بها، وهذا استيفاء المنافع وهما متغايران ومتفاوتان في حق الورثة، فإنه لو ظهر دين يمكنهم أداؤه من الغلة بالاسترداد منه بعد استغلالها ولا يمكنهم من المنافع بعد استيفائها بعينها، وليس للموصى له بالخدمة والسكنى أن يؤاجر العبد أو الدار. وقال الشافعي: له ذلك لأنه بالوصية ملك المنفعة فيملك تمليكها من غيره ببدل أو غير بدل لأنها كالأعيان عنده، بخلاف العارية لأنها إباحة على أصله وليس بتمليك. ولنا أن(4/533)
الوصية تمليك بغير بدل مضاف إلى ما بعد الموت فلا يملك تمليكه ببدل اعتبارا بالإعارة فإنها تمليك بغير بدل في حالة الحياة على أصلنا، ولا يملك المستعير الإجارة لأنها تمليك ببدل، كذا هذا.
وتحقيقه أن التمليك ببدل لازم وبغير بدل غير لازم، ولا يملك الأقوى بالأضعف والأكثر بالأقل، والوصية تبرع غير لازم إلا أن الرجوع للمتبرع لا لغيره والمتبرع بعد الموت لا يمكنه الرجوع فلهذا انقطع، أما هو في وضعه فغير لازم، ولأن المنفعة ليست بمال على أصلنا وفي تمليكها بالمال إحداث صفة المالية فيها تحقيقا للمساواة في عقد المعاوضة، فإنما تثبت هذه الولاية لمن يملكها تبعا لملك الرقبة، أو لمن يملكها بعقد المعاوضة حتى يكون مملكا لها بالصفة التي تملكها، أما إذا تملكها مقصودة بغير عوض ثم ملكها بعوض كان مملكا أكثر مما تملكه معنى وهذا لا يجوز، وليس للموصى له أن يخرج العبد من الكوفة إلا أن يكون الموصى له وأهله في غير الكوفة فيخرجه إلى أهله للخدمة هنالك إذا كان يخرج من الثلث، لأن الوصية إنما تنفذ على ما يعرف من مقصود الموصي، فإذا كانوا في مصره فمقصوده أن يمكنه من خدمته فيه بدون أن يلزمه مشقة السفر، وإذا كانوا في غيره فمقصوده أن يحمل العبد إلى أهله ليخدمهم.
ولو أوصى بغلة عبده أو بغلة داره يجوز أيضا لأنه بدل المنفعة فأخذ حكم المنفعة في جواز الوصية به، كيف وأنه عين حقيقة لأنه دراهم أو دنانير فكان بالجواز أولى، ولو لم يكن له مال غيره كان له ثلث غلة تلك السنة لأنه عين مال يحتمل القسمة بالأجزاء، فلو أراد الموصى له قسمة الدار بينه وبين الورثة ليكون هو الذي يستغل ثلثها لم يكن له ذلك إلا في رواية عن أبي يوسف فإنه يقول: الموصى له شريك الوارث وللشريك ذلك، فكذلك للموصى له، إلا أنا نقول: المطالبة بالقسمة تبتنى على ثبوت الحق للموصى له فيما يلاقيه القسمة إذ هو المطالب، ولا حق له في عين الدار، وإنما حقه في الغلة فلا يملك المطالبة بقسمة الدار، ولو أوصى له بخدمة عبده ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فالرقبة لصاحب الرقبة والخدمة عليها لصاحب الخدمة، لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما عطفا منه لأحدهما على الآخر فتعتبر هذه الحالة بحالة الانفراد. ثم لما صحت الوصية لصاحب الخدمة، فلو لم يوص في الرقبة ميراثا للورثة مع كون الخدمة للموصى له، فكذا إذا أوصى بالرقبة لإنسان آخر، إذ الوصية أخت الميراث من حيث إن الملك يثبت فيهما بعد الموت.
ولها نظائر: وهو ما إذا أوصى بأمة لرجل وبما في بطنها لآخر وهي تخرج من الثلث(4/534)
أو أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصه، أو قال هذه القوصرة لفلان وما فيها من التمر لفلان كان كما أوصى، ولا شيء لصاحب الظرف في المظروف في هذه المسائل كلها، أما إذا فصل أحد الإيجابين عن الآخر فيها فكذلك الجواب عند أبي يوسف. وعلى قول محمد الأمة للموصى له بها والولد بينهما نصفان، وكذلك في أخواتها. لأبي يوسف أن بإيجابه في الكلام الثاني تبين أن مراده من الكلام الأول إيجاب الأمة للموصى له بها دون الولد، وهذا البيان منه صحيح وإن كان مفصولا لأن الوصية لا تلزم شيئا في حال حياة الموصي فكان البيان المفصول فيه والموصول سواء كما في وصية الرقبة والخدمة. ولمحمد أن اسم الخاتم يتناول الحلقة والفص. وكذلك اسم الجارية يتناولها وما في بطنها. واسم القوصرة كذلك، ومن أصلنا أن العام الذي موجبه ثبوت الحكم على سبيل الإحاطة بمنزلة الخاص فقد اجتمع في الفص وصيتان وكل منهما وصية بإيجاب على حدة فيجعل الفص بينهما نصفين، ولا يكون إيجاب الوصية فيه للثاني رجوعا عن الأول، كما إذا أوصى للثاني بالخاتم، بخلاف الخدمة مع الرقبة لأن اسم الرقبة لا يتناول الخدمة وإنما يستخدمه الموصى له بحكم أن المنفعة حصلت على ملكه، فإذا أوجب الخدمة لغيره لا يبقى للموصى له فيه حق، بخلاف ما إذا كان الكلام موصولا لأن ذلك دليل التخصيص والاستثناء، فتبين أنه أوجب لصاحب الخاتم الحلقة خاصة دون الفص.
قال: "ومن أوصى لآخر بثمرة بستانه ثم مات وفيه ثمرة فله هذه الثمرة وحدها، وإن قال له ثمرة بستاني أبدا فله هذه الثمرة وثمرته فيما يستقبل ما عاش، وإن أوصى له بغلة بستانه فله الغلة القائمة وغلته فيما يستقبل" والفرق أن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا يتناول المعدوم إلا بدلالة زائدة، مثل التنصيص على الأبد لأنه لا يتأبد إلا بتناول المعدوم والمعدوم مذكور وإن لم يكن شيئا، أما الغلة فتنتظم الموجود وما يكون بعرض الوجود مرة بعد أخرى عرفا، يقال فلان يأكل من غلة بستانه ومن غلة أرضه وداره، فإذا أطلقت يتناولهما عرفا غير موقوف على دلالة أخرى. أما الثمرة إذا أطلقت لا يراد بها إلا الموجود فلهذا يفتقر الانصراف إلى دليل زائد.
قال: "ومن أوصى لرجل بصوف غنمه أبدا أو بأولادها أو بلبنها ثم مات فله ما في بطونها من الولد وما في ضروعها من اللبن وما على ظهورها من الصوف يوم يموت الموصي سواء قال أبدا أو لم يقل" لأنه إيجاب عند الموت فيعتبر قيام هذه الأشياء يومئذ، وهذا بخلاف ما تقدم. والفرق أن القياس يأبى تمليك المعدوم لأنه لا يقبل الملك، إلا أن في الثمرة والغلة المعدومة جاء الشرع بورود العقد عليها كالمعاملة والإجارة، فاقتضى ذلك(4/535)
جوازه في الوصية بالطريق الأولى لأن بابها أوسع. أما الولد المعدوم وأختاه فلا يجوز إيراد العقد عليها أصلا، ولا تستحق بعقد ما، فكذلك لا يدخل تحت الوصية، بخلاف الموجود منها لأنه يجوز استحقاقها بعقد البيع تبعا وبعقد الخلع مقصودا، فكذا بالوصية، والله أعلم بالصواب.(4/536)
باب وصية الذمي
قال: "وإذا صنع يهودي أو نصراني بيعة أو كنيسة في صحته ثم مات فهو ميراث" لأن هذا بمنزلة الوقف عند أبي حنيفة، والوقف عنده يورث ولا يلزم فكذا هذا. وأما عندهما فلأن هذه معصية فلا تصح عندهما.
قال: "ولو أوصى بذلك لقوم مسمين فهو الثلث" معناه إذا أوصى أن تبنى داره بيعة أو كنيسة فهو جائز من الثلث لأن الوصية فيها معنى الاستخلاف ومعنى التمليك، وله ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين.
قال: "وإن أوصى بداره كنيسة لقوم غير مسمين جازت الوصية عند أبي حنيفة، وقالا: الوصية باطلة" لأن هذه معصية حقيقة وإن كان في معتقدهم قربة، والوصية بالمعصية باطلة لما في تنفيذها من تقرير المعصية. ولأبي حنيفة أن هذه قربة في معتقدهم ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون فتجوز بناء على اعتقادهم؛ ألا يرى أنه لو أوصى بما هو قربة حقيقة معصية في معتقدهم لا تجوز الوصية اعتبارا لاعتقادهم فكذا عكسه. ثم الفرق لأبي حنيفة بين بناء البيعة والكنيسة وبين الوصية به أن البناء نفسه ليس بسبب لزوال ملك الباني. وإنما يزول ملكه بأن يصير محررا خالصا لله تعالى كما في مساجد المسلمين، والكنيسة لم تصر محررة لله تعالى حقيقة فتبقى ملكا للباني فتورث عنه، ولأنهم يبنون فيها الحجرات ويسكنونها فلم يتحرر لتعلق حق العباد به، وفي هذه الصورة يورث المسجد أيضا لعدم تحرره، بخلاف الوصية لأنه وضع لإزالة الملك إلا أنه امتنع ثبوت مقتضاه في غير ما هو قربة عندهم فبقي فيما هو قربة على مقتضاه فيزول ملكه فلا يورث.
ثم الحاصل أن وصايا الذمي على أربعة أقسام:
منها: أن تكون قربة في معتقدهم ولا تكون قربة في حقنا وهو ما ذكرناه، وما إذا أوصى الذمي بأن تذبح خنازيره وتطعم المشركين، وهذه على الخلاف إذا كان لقوم غير مسمين كما ذكرناه والوجه ما بيناه.(4/536)
ومنها: إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا ولا يكون قربة في معتقدهم، كما إذا أوصى بالحج أو بأن يبنى مسجد للمسلمين أو بأن يسرج في مساجد المسلمين، فهذه الوصية باطلة بالإجماع اعتبارا لاعتقادهم، إلا إذا كان لقوم بأعيانهم لوقوعه تمليكا لأنهم معلومون والجهة مشورة.
ومنها: إذا أوصى بما يكون قربة في حقنا وفي حقهم، كما إذا أوصى بأن يسرج في بيت المقدس أو يغزى الترك وهو من الروم، وهذا جائز سواء كانت لقوم بأعيانهم أو بغير أعيانهم لأنه وصية بما هو قربة حقيقة وفي معتقدهم أيضا.
ومنها: إذا أوصى بما لا يكون قربة لا في حقنا ولا في حقهم، كما إذا أوصى للمغنيات والنائحات، فإن هذا غير جائز لأنه معصية في حقنا وفي حقهم، إلا أن يكون لقوم بأعيانهم فيصح تمليكا واستخلافا، وصاحب الهوى إن كان لا يكفر فهو في حق الوصية بمنزلة المسلم لأنا أمرنا ببناء الأحكام على الظاهر، وإن كان يكفر فهو بمنزلة المرتد فيكون على الخلاف المعروف في تصرفاته بين أبي حنيفة وصاحبيه.
وفي المرتدة الأصح أنه تصح وصاياها لأنها تبقى على الردة، بخلاف المرتد لأنه يقتل أو يسلم.
قال: "وإذا دخل الحربي دارنا بأمان فأوصى لمسلم أو ذمي بماله كله جاز" لأن امتناع الوصية بما زاد على الثلث لحق الورثة ولهذا تنفذ بإجازتهم، وليس لورثته حق مرعي لكونهم في دار الحرب إذ هم أموات في حقنا، ولأن حرمة ماله باعتبار الأمان، والأمان كان لحقه لا لحق ورثته، ولو كان أوصى بأقل من ذلك أخذت الوصية ويرد الباقي على ورثته وذلك من حق المستأمن أيضا. ولو أعتق عبده عند الموت أو دبر عبده في دار الإسلام فذلك صحيح منه من غير اعتبار الثلث لما بينا، وكذلك لو أوصى له مسلم أو ذمي بوصية جاز لأنه ما دام في دار الإسلام فهو في المعاملات بمنزلة الذمي، ولهذا تصح عقود التمليكات منه في حال حياته، ويصح تبرعه في حياته فكذا بعد مماته.
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز لأنه مستأمن من أهل الحرب إذ هو على قصد الرجوع ويمكن منه، ولا يمكن من زيادة المقام على السنة إلا بالجزية. ولو أوصى الذمي بأكثر من الثلث أو لبعض ورثته لا يجوز اعتبارا بالمسلمين لأنهم التزموا أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات. ولو أوصى لخلاف ملته جاز اعتبارا بالإرث إذ الكفر كله ملة واحدة، ولو أوصى لحربي. في دار الإسلام لا يجوز لأن الإرث ممتنع لتباين الدارين والوصية أخته، والله أعلم.(4/537)
باب الوصي وما يملكه
قال: "ومن أوصى إلى رجل فقبل الوصي في وجه الموصي وردها في غير وجهه فليس برد" لأن الميت مضى معتمدا عليه، فلو صح رده في غير وجهه في حياته أو بعد مماته صار مغرورا من جهته فرد رده، بخلاف الوكيل بشراء عبد بغير عينه أو ببيع ماله حيث يصح رده في غير وجهه لأنه لا ضرر هناك لأنه حي قادر على التصرف بنفسه "فإن ردها في وجهه فهو رد" لأنه ليس للموصي ولاية إلزامه التصرف، ولا غرور فيه لأنه يمكنه أن ينيب غيره "وإن لم يقبل ولم يرد حتى مات الموصي فهو بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل" لأن الموصي ليس له ولاية الإلزام فبقي مخيرا، فلو أنه باع شيئا من تركته فقد لزمته، لأن ذلك دلالة الالتزام والقبول وهو معتبر بعد الموت، وينفذ البيع لصدوره من الوصي، وسواء علم بالوصاية أو لم يعلم، بخلاف الوكيل إذا لم يعلم بالتوكيل فباع حيث لا ينفذ لأن الوصاية خلافة لأنه يختص بحال انقطاع ولاية الميت فتنتقل الولاية إليه، وإذا كانت خلافة لا تتوقف على العلم كالوراثة. أما التوكيل إنابة لثبوته في حال قيام ولاية المنيب فلا يصح من غير علمه كإثبات الملك بالبيع والشراء وقد بينا طريق العلم وشرط الإخبار فيما تقدم من الكتب.
"وإن لم يقبل حتى مات الموصي فقال لا أقبل ثم قال أقبل فله ذلك إن لم يكن القاضي أخرجه من الوصية حين قال لا أقبل" لأن بمجرد قوله لا أقبل لا يبطل الإيصاء، لأن في إبطاله ضررا بالميت وضرر الوصي في الإبقاء مجبور بالثواب، ودفع الأول وهو أعلى أولى، إلا أن القاضي إذا أخرجه عن الوصاية يصح ذلك لأنه مجتهد فيه، إذ للقاضي ولاية دفع الضرر، وربما يعجز عن ذلك فيتضرر ببقاء الوصاية فيدفع القاضي الضرر عنه وينصب حافظا لمال الميت متصرفا فيه فيندفع الضرر من الجانبين فلهذا ينفذ إخراجه، فلو قال بعد إخراج القاضي إياه أقبل لم يلتفت إليه لأنه قبل بعد بطلان الوصاية بإبطال القاضي.
"ومن أوصى إلى عبد أو كافر أو فاسق أخرجهم القاضي عن الوصاية ونصب غيرهم" وهذا اللفظ يشير إلى صحة الوصية، لأن الإخراج يكون بعدها. وذكر محمد في الأصل أن الوصية باطلة. قيل معناه في جميع هذه الصور أن الوصية ستبطل، وقيل معناه في العبد باطل حقيقة لعدم ولايته واستبداده، وفي غيره معناه ستبطل، وقيل في الكافر باطل أيضا لعدم ولايته على المسلم. ووجه الصحة ثم الإخراج أن الأصل النظر ثابت لقدرة العبد حقيقة، وولاية الفاسق على أصلنا وولاية الكافر في الجملة، إلا أنه لم يتم النظر لتوقف ولاية(4/538)
العبد على إجازة المولى وتمكنه من الحجر بعدها والمعاداة الدينية الباعثة للكافر على ترك النظر في حق المسلم واتهام الفاسق بالخيانة فيخرجه القاضي من الوصاية ويقيم غيره مقامه إتماما للنظر. وشرط في الأصل أن يكون الفاسق مخوفا عليه في المال، وهذا يصلح عذرا في إخراجه وتبديله بغيره.
قال: "ومن أوصى إلى عبد نفسه وفي الورثة كبار لم تصح الوصية" لأن للكبير أن يمنعه أو يبيع نصيبه فيمنعه المشتري فيعجز عن الوفاء بحق الوصاية فلا يفيد فائدته وإن كانوا صغارا كلهم فالوصية إليه جائزة عند أبي حنيفة، ولا تجوز عندهما وهو القياس. وقيل قول محمد مضطرب، يروي مرة مع أبي حنيفة، وتارة مع أبي يوسف.
وجه القياس: أن الولاية منعدمة لما أن الرق ينافيها، ولأن فيه إثبات الولاية للمملوك على المالك، وهذا قلب المشروع، ولأن الولاية الصادرة من الأب لا تتجزأ، وفي اعتبار هذه تجزئتها لأنه لا يملك بيع رقبته وهذا نقض الموضوع. وله أنه مخاطب مستبد بالتصرف فيكون أهلا للوصاية، وليس لأحد عليه ولاية، فإن الصغار وإن كانوا ملاكا ليس لهم ولاية المنع فلا منافاة، وإيصاء المولى إليه يؤذن بكونه ناظرا لهم وصار كالمكاتب، والوصاية قد تتجزأ على ما هو المروي عن أبي حنيفة، أو نقول: يصار إليه كي لا يؤدي إلى إبطال أصله، وتغيير الوصف لتصحيح الأصل أولى.
قال: "ومن يعجز عن القيام بالوصية ضم إليه القاضي غيره" رعاية لحق الموصي والورثة، وهذا لأن تكميل النظر يحصل بضم الآخر إليه لصيانته ونقص كفايته فيتم النظر بإعانة غيره، ولو شكا إليه الوصي ذلك لا يجيبه حتى يعرف ذلك حقيقة، لأن الشاكي قد يكون كاذبا تخفيفا على نفسه، وإذا ظهر عند القاضي عجزه أصلا استبدل به رعاية للنظر من الجانبين؛ ولو كان قادرا على التصرف أمينا فيه ليس للقاضي أن يخرجه، لأنه لو اختار غيره كان دونه لما أنه كان مختار الميت ومرضيه فإبقاؤه أولى ولهذا قدم على أبي الميت مع وفور شفقته فأولى أن يقدم على غيره، وكذا إذا شكا الورثة أو بعضهم الوصي إلى القاضي فإنه لا ينبغي له أن يعزله حتى يبدو له منه خيانة لأنه استفاد الولاية من الميت، غير أنه إذا ظهرت الخيانة فالميت إنما نصبه وصيا لأمانته وقد فاتت، ولو كان في الأحياء لأخرجه منها، فعند عجزه ينوب القاضي منابه كأنه لا وصي له.
قال: "ومن أوصى إلى اثنين لم يكن لأحدهما أن يتصرف عند أبي حنيفة ومحمد دون صاحبه" إلا في أشياء معدودة نبينها إن شاء الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله:(4/539)
ينفرد كل واحد منهما بالتصرف في جميع الأشياء لأن الوصاية سبيلها الولاية وهي وصف شرعي لا تتجزأ فيثبت لكل منهما كملا كولاية الإنكاح للأخوين، وهذا لأن الوصاية خلافة، وإنما تتحقق إذا انتقلت الولاية إليه على الوجه الذي كان ثابتا للموصي وقد كان بوصف الكمال، ولأن اختيار الأب إياهما يؤذن باختصاص كل واحد منهما بالشفقة فينزل ذلك منزلة قرابة كل واحد منهما. ولهما أن الولاية تثبت بالتفويض فيراعى وصف التفويض وهو وصف الاجتماع إذ هو شرط مقيد، وما رضي الموصي إلا بالمثنى وليس الواحد كالمثنى، بخلاف الأخوين في الإنكاح لأن السبب هنالك القرابة وقد قامت بكل منهما كملا، ولأن الإنكاح حق مستحق لها على الولي، حتى لو طالبته بإنكاحها من كفؤ يخطبها يجب عليه وهاهنا حق التصرف للوصي، ولهذا يبقى مخيرا في التصرف، ففي الأول أوفى حقا على صاحبه فصح، وفي الثاني استوفى حقا لصاحبه فلا يصح أصله الدين الذي عليهما ولهما، بخلاف الأشياء المعدودة لأنها من باب الضرورة لا من باب الولاية.
ومواضع الضرورة مستثناة أبدا، وهي ما استثناه في الكتاب وأخواتها. فقال: "إلا في شراء كفن الميت وتجهيزه" لأن في التأخير فساد الميت ولهذا يملكه الجيران عند ذلك "وطعام الصغار وكسوتهم" لأنه يخاف موتهم جوعا وعريا "ورد الوديعة بعينها ورد المغصوب والمشترى شراء فاسدا وحفظ الأموال وقضاء الديون" لأنها ليست من باب الولاية فإنه يملكه المالك، وصاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه وحفظ المال يملكه من يقع في يده فكان من باب الإعانة. ولأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي "وتنفيذ وصية بعينها وعتق عبد بعينه" لأنه لا يحتاج فيه إلى الرأي "والخصومة في حق الميت" لأن الاجتماع فيها متعذر ولهذا ينفرد بها أحد الوكيلين "وقبول الهبة" لأن في التأخير خيفة الفوات، ولأنه يملكه الأم والذي في حجره فلم يكن من باب الولاية "وبيع ما يخشى عليه التوى والتلف" لأن فيه ضرورة لا تخفى "وجمع الأموال الضائعة" لأن في التأخير خشية الفوات، ولأنه يملكه كل من وقع في يده فلم يكن من باب الولاية.
وفي الجامع الصغير: وليس لأحد الوصيين أن يبيع ويتقاضى، والمراد بالتقاضي الاقتضاء، كذا كان المراد منه في عرفهم، وهذا لأنه رضي بأمانتهما جميعا في القبض، ولأنه في معنى المبادلة لا سيما عند اختلاف الجنس على ما عرف فكان من باب الولاية ولو أوصى إلى كل واحد على الانفراد قيل ينفرد كل واحد منهما بالتصرف بمنزلة الوكيلين إذا وكل كل واحد على الانفراد، وهذا لأنه لما أفرد فقد رضي برأي الواحد. وقيل الخلاف في الفصلين واحد، وهو وهو الأصح لأن وجوب الوصية عند الموت بخلاف الوكيلين، لأن الوكالة(4/540)
تتعاقب، فإن مات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر، أما عندهما فلأن الباقي عاجز عن التفرد بالتصرف فيضم القاضي إليه وصيا آخر نظرا للميت عند عجزه. وعند أبي يوسف الحي منهما وإن كان يقدر على التصرف فالموصي قصد أن يخلفه متصرفا في حقوقه، وذلك ممكن التحقق بنصب وصي آخر مكان الميت. ولو أن الميت منهما أوصى إلى الحي فللحي أن يتصرف وحده في ظاهر الرواية بمنزلة ما إذا أوصى إلى شخص آخر. ولا يحتاج القاضي إلى نصب وصي آخر لأن رأي الميت باق حكما برأي من يخلفه. وعن أبي حنيفة أنه لا ينفرد بالتصرف لأن الموصي ما رضي بتصرفه وحده، بخلاف ما إذا أوصى إلى غيره لأنه ينفذ تصرفه برأي المثنى كما رضيه المتوفى. وإذا مات الوصي وأوصى إلى آخر فهو وصيه في تركته وتركة الميت الأول عندنا.
وقال الشافعي: لا يكون وصيا في تركة الميت الأول اعتبارا بالتوكيل في حالة الحياة، الجامع بينهما أنه رضي برأيه لا برأي غيره. ولنا أن الوصي يتصرف بولاية منتقلة إليه فيملك الإيصاء إلى غيره كالجد؛ ألا يرى أن الولاية التي كانت ثابتة للموصي تنتقل إلى الوصي في المال وإلى الجد في النفس، ثم الجد قائم مقام الأب فيما انتقل إليه فكذا الوصي، وهذا لأن الإيصاء إقامة غيره مقامه فيما له ولايته، وعند الموت كانت له ولاية في التركتين فينزل الثاني منزلته فيهما. ولأنه لما استعان به في ذلك مع علمه أنه قد تعتريه المنية قبل تتميم مقصوده بنفسه وهو تلافي ما فرط منه صار راضيا بإيصائه إلى غيره، بخلاف الوكيل لأن الموكل حي يمكنه أن يحصل مقصوده بنفسه فلا يرضى بتوكيل غيره والإيصاء إليه.
قال: "ومقاسمة الوصي الموصى له عن الورثة جائزة ومقاسمته الورثة عن الموصى له باطلة" لأن الوارث خليفة الميت حتى يرد بالعيب ويرد عليه به ويصير مغرورا بشراء المورث والوصي خليفة الميت أيضا فيكون خصما عن الوارث إذا كان غائبا فصحت قسمته عليه، حتى لو حضر وقد هلك ما في يد الوصي ليس له أن يشارك الموصى له.
أما الموصى له فليس بخليفة عن الميت من كل وجه لأنه ملكه بسبب جديد، ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه، ولا يصير مغرورا بشراء الموصي فلا يكون الوصي خليفة عنه عند غيبته، حتى لو هلك ما أفرز له عند الوصي كان له ثلث ما بقي لأن القسمة لم تنفذ عليه، غير أن الوصي لا يضمن لأنه أمين فيه، وله ولاية الحفظ في التركة فصار كما إذا هلك بعض التركة قبل القسمة فيكون له ثلث الباقي لأن الموصى له شريك الوارث فيتوى ما توي من المال المشترك على الشركة ويبقى ما بقي على الشركة.(4/541)
قال: "فإن قاسم الورثة وأخذ نصيب الموصى له فضاع رجع الموصى له بثلث ما بقي" لما بينا.
قال: "وإن كان الميت أوصى بحجة فقاسم في الورثة فهلك ما في يده حج عن الميت من ثلث ما بقي، وكذلك إن دفعه إلى رجل ليحج عنه فضاع في يده" وقال أبو يوسف: إن كان مستغرقا للثلث لم يرجع بشيء، وإلا يرجع بتمام الثلث. وقال محمد: لا يرجع بشيء لأن القسمة حق الموصي، ولو أفرز الموصي بنفسه مالا ليحج عنه فهلك لا يلزمه شيء وبطلت الوصية، فكذا إذا أفرزه وصيه الذي قام مقامه. ولأبي يوسف أن محل الوصية الثلث فيجب تنفيذها ما بقي محلها، وإذا لم يبق بطلت لفوات محلها. ولأبي حنيفة أن القسمة لا تراد لذاتها بل لمقصودها وهو تأدية الحج فلم تعتبر دونه وصار كما إذا هلك قبل القسمة فيحج بثلث ما بقي، ولأن تمامها بالتسليم إلى الجهة المسماة، إذ لا قابض لها، فإذا لم يصرف إلى ذلك الوجه لم يتم فصار كهلاكه قبلها.
قال: "ومن أوصى بثلث ألف درهم فدفعها الورثة إلى القاضي فقسمها والموصى له غائب فقسمته جائزة" لأن الوصية صحيحة، ولهذا لو مات الموصى له قبل القبول تصير الوصية ميراثا لورثته والقاضي نصب ناظرا لا سيما في حق الموتى والغيب، ومن النظر إفراز نصيب الغائب وقبضه فنفذ ذلك وصح، حتى لو حضر الغائب وقد هلك المقبوض لم يكن له على الورثة سبيل.
قال: "وإذا باع الوصي عبدا من التركة بغير محضر من الغرماء فهو جائز" لأن الوصي قائم مقام الموصي، ولو تولى حيا بنفسه يجوز بيعه بغير محضر من الغرماء وإن كان في مرض موته فكذا إذا تولاه من قام مقامه، وهذا لأن حق الغرماء متعلق بالمالية لا بالصورة والبيع لا يبطل المالية لفواتها إلى خلف وهو الثمن. بخلاف العبد المديون لأن للغرماء حق الاستسعاء وأما هاهنا فبخلافه.
قال: "ومن أوصى بأن يباع عبده ويتصدق بثمنه على المساكين فباعه الوصي وقبض الثمن فضاع في يده فاستحق العبد ضمن الوصي" لأنه هو العاقد فتكون العهدة عليه، وهذه عهدة لأن المشتري منه ما رضي ببذل الثمن إلا ليسلم له المبيع ولم يسلم فقد أخذ الوصي البائع مال الغير بغير رضاه فيجب عليه رده.
قال: "ويرجع فيما ترك الميت" لأنه عامل له فيرجع عليه كالوكيل، وكان(4/542)
أبو حنيفة يقول أولا: لا يرجع لأنه ضمن بقبضه، ثم رجع إلى ما ذكرنا ويرجع في جميع التركة. وعن محمد أنه يرجع في الثلث لأن الرجوع بحكم الوصية فأخذ حكمها، ومحل الوصية الثلث. وجه الظاهر أنه يرجع عليه بحكم الغرور وذلك دين عليه والدين يقضى من جميع التركة، بخلاف القاضي أو أمينه إذا تولى البيع حيث لا عهدة عليه، لأن في إلزامها القاضي تعطيل القضاء، إذ يتحامى عن تقلد هذه الأمانة حذرا عن لزوم الغرامة فتتعطل مصلحة العامة وأمينه سفير عنه كالرسول، ولا كذلك الوصي لأنه بمنزلة الوكيل وقد مر في كتاب القضاء، فإن كانت التركة قد هلكت أو لم يكن بها وفاء لم يرجع بشيء كما إذا كان على الميت دين آخر.
قال: "وإن قسم الوصي الميراث فأصاب صغيرا من الورثة عبد فباعه وقبض الثمن فهلك واستحق العبد رجع في مال الصغير" لأنه عامل له، ويرجع الصغير على الورثة بحصته لانتقاض القسمة باستحقاق ما أصابه.
قال: "وإذا احتال الوصي بمال اليتيم فإن كان خيرا لليتيم جاز" وهو أن يكون أملأ، إذ الولاية نظرية، وإن كان الأول أملأ لا يجوز لأن فيه تضييع مال اليتيم على بعض الوجوه.
قال: "ولا يجوز بيع الوصي ولا شراؤه إلا بما يتغابن الناس في مثله" لأنه لا نظر في الغبن الفاحش، بخلاف اليسير لأنه لا يمكن التحرز عنه، ففي اعتباره انسداد بابه. والصبي المأذون والعبد المأذون والمكاتب يجوز بيعهم وشراؤهم بالغبن الفاحش عند أبي حنيفة لأنهم يتصرفون بحكم المالكية، والإذن فك الحجر، بخلاف الوصي لأنه يتصرف بحكم النيابة الشرعية نظرا فيتقيد بموضع النظر. وعندهما لا يملكونه لأن التصرف بالفاحش منه تبرع لا ضرورة فيه وهم ليسوا من أهله "وإذا كتب كتاب الشراء على وصي كتب كتاب الوصية على حدة وكتاب الشراء على حدة" لأن ذلك أحوط، ولو كتب جملة عسى أن يكتب الشاهد شهادته في آخره من غير تفصيل فيصير ذلك حملا له على الكذب. ثم قيل: يكتب اشترى من فلان بن فلان ولا يكتب من فلان وصي فلان لما بينا. وقيل لا بأس بذلك لأن الوصاية تعلم ظاهرا.
قال: "وبيع الوصي على الكبير الغائب جائز في كل شيء إلا في العقار" لأن الأب يلي ما سواه ولا يليه، فكذا وصيه فيه. وكان القياس أن لا يملك الوصي غير العقار أيضا لأنه لا يملكه الأب على الكبير، إلا أنا استحسناه لما أنه حفظ لتسارع الفساد إليه، وحفظ الثمن أيسر وهو يملك الحفظ، أما العقار فمحصن بنفسه.(4/543)
قال: "ولا يتجر في المال" لأن المفوض إليه الحفظ دون التجارة. وقال أبو يوسف ومحمد: وصي الأخ في الصغير والكبير الغائب بمنزلة وصي الأب في الكبير الغائب، وكذا وصي الأم ووصي العم. وهذا الجواب في تركة هؤلاء لأن وصيهم قائم مقامهم وهم يملكون ما يكون من باب الحفظ فكذا وصيهم.
قال: "والوصي أحق بمال الصغير من الجد" وقال الشافعي: الجد أحق لأن الشرع أقامه مقام الأب حال عدمه حتى أحرز الميراث فيقدم على وصيه. ولنا أن بالإيصاء تنتقل ولاية الأب إليه فكانت ولايته قائمة معنى فيقدم عليه كالأب نفسه، وهذا لأن اختياره الوصي مع علمه بقيام الجد يدل على أن تصرفه أنظر لبنيه من تصرف أبيه "فإن لم يوص الأب فالجد بمنزلة الأب" لأنه أقرب الناس إليه وأشفقهم عليه حتى يملك الإنكاح دون وصي، غير أنه يقدم عليه وصي الأب في التصرف لما بيناه.(4/544)
فصل: في الشهادة
قال: "وإذا شهد الوصيان أن الميت أوصى إلى فلان معهما فالشهادة باطلة" لأنهما متهمان فيها لإثباتهما معينا لأنفسهما.
قال: "إلا أن يدعيها المشهود له" وهذا استحسان، وهو في القياس كالأول لما بينا من التهمة. وجه الاستحسان أن للقاضي ولاية نصب الوصي ابتداء أو ضم آخر إليهما برضاه بدون شهادتهما فيسقط بشهادتهما مؤنة التعيين عنه، أما الوصاية تثبت بنصب القاضي.
قال: "وكذلك الابنان" معناه إذا شهدا أن الميت أوصى إلى رجل وهو ينكر لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا بنصب حافظ للتركة. "ولو شهدا" يعني الوصيين "لوارث صغير بشيء من مال الميت أو غيره فشهادتهما باطلة" لأنهما يظهران ولاية التصرف لأنفسهما في المشهود به.
قال: "وإن شهد لوارث كبير في مال الميت لم يجز، وإن كان في غير مال الميت جاز" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إن شهدا لوارث كبير تجوز في الوجهين، لأنه لا يثبت لهما ولاية التصرف في التركة إذا كانت الورثة كبارا فعريت عن التهمة. وله أنه يثبت لهما ولاية الحفظ وولاية بيع المنقول عند غيبة الوارث فتحققت التهمة بخلاف شهادتها في غير التركة لانقطاع ولاية وصي الأب عنه، لأن الميت أقامه مقام نفسه في تركته لا في غيرها.
قال: "وإذا شهد رجلان لرجلين على ميت بدين ألف درهم وشهد الآخران للأولين بمثل ذلك جازت شهادتهما، فإن كانت شهادة كل فريق للآخر بوصية ألف درهم لم تجز"(4/544)
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا تقبل في الدين أيضا. وأبو حنيفة فيما ذكر الخصاف مع أبي يوسف. وعن أبي يوسف مثل قول محمد رحمه الله.
وجه القبول أن الدين يجب في الذمة وهي قابلة لحقوق شتى فلا شركة، ولهذا لو تبرع أجنبي بقضاء دين أحدهما ليس للآخر حق المشاركة. وجه الرد أن الدين بالموت يتعلق بالتركة إذ الذمة خربت بالموت، ولهذا لو استوفى أحدهما حقه من التركة يشاركه الآخر فيه فكانت الشهادة مثبتة حق الشركة فتحققت التهمة، بخلاف حال حياة المديون لأنه في الذمة لبقائها لا في المال فلا تتحقق الشركة.
قال: "ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بجاريته وشهد المشهود لهما أن الميت أوصى للشاهدين بعبده جازت الشهادة بالاتفاق" لأنه لا شركة فلا تهمة.
"ولو شهدا أنه أوصى لهذين الرجلين بثلث ماله وشهد المشهود لهما أنه أوصى للشاهدين بثلث ماله فالشهادة باطلة، وكذا إذا شهد الأولان أن الميت أوصى لهذين الرجلين بعبد وشهد المشهود لهما أنه أوصى للأولين بثلث ماله فهي باطلة" لأن الشهادة في هذه الصورة مثبتة للشركة.(4/545)
كتاب الخنثى
فصل: في بيانه
قال: "وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى، فإن كان يبول من الذكر فهو غلام، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى" لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عنه كيف يورث؟ فقال: "من حيث يبول" وعن علي رضي الله عنه مثله. ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح والآخر بمنزلة العيب "وإن بال منهما فالحكم للأسبق" لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي "وإن كانا في السبق على السواء فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة. وقالا: ينسب إلى أكثرهما بولا" لأنه علامة قوة ذلك العضو وكونه عضوا أصليا، ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة. وله أن كثرة الخروج ليس يدل على القوة، لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر، وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق لأنه لا مرجح.
قال: "وإذا بلغ الخنثى وخرجت له اللحية أو وصل إلى النساء فهو رجل" وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل أو كان له ثدي مستو، لأن هذه من علامات الذكران "ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة" لأن هذه من علامات النساء "وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل" وكذا إذا تعارضت هذه المعالم.(4/546)
فصل: في أحكامه
قال رضي الله عنه: الأصل في الخنثى المشكل أن يؤخذ فيه بالأحوط والأوثق في أمور الدين، وأن لا يحكم بثبوت حكم وقع الشك في ثبوته.
قال: "وإذا وقف خلف الإمام قام بين صف الرجال والنساء" لاحتمال أنه امرأة فلا يتخلل الرجال كي لا يفسد صلاتهم ولا النساء لاحتمال أنه رجل فتفسد صلاته. "فإن قام في صف النساء فأحب إلي أن يعيد صلاته" لاحتمال أنه رجل "وإن قام في صف الرجال(4/546)
فصلاته تامة ويعيد الذي عن يمينه وعن يساره والذي خلفه بحذائه صلاتهم احتياطا" لاحتمال أنه امرأة.
قال: "وأحب إلينا أن يصلي بقناع" لأنه يحتمل أنه امرأة "ويجلس في صلاته جلوس المرأة" لأنه إن كان رجلا فقد ترك سنة وهو جائز في الجملة، وإن كان امرأة فقد ارتكب مكروها لأن الستر على النساء واجب ما أمكن "وإن صلى بغير قناع أمرته أن يعيد" لاحتمال أنه امرأة وهو على الاستحباب وإن لم يعد أجزأه "وتبتاع له أمة تختنه إن كان له مال" لأنه يباح لمملوكته النظر إليه رجلا كان أو امرأة. ويكره أن يختنه رجل لأنه عساه أنثى أو تختنه امرأة لأنه لعله رجل فكان الاحتياط فيما قلنا "وإن لم يكن له مال ابتاع له الإمام أمة من بيت المال" لأنه أعد لنوائب المسلمين "فإذا ختنته باعها ورد ثمنها في بيت المال" لوقوع الاستغناء عنها. "ويكره له في حياته لبس الحلي والحرير، وأن يتكشف قدام الرجال أو قدام النساء. وأن يخلو به غير محرم من رجل أو امرأة، وأن يسافر من غير محرم من الرجال" توقيا عن احتمال المحرم "وإن أحرم وقد راهق قال أبو يوسف: لا علم لي في لباسه" لأنه إن كان ذكرا يكره له لبس المخيط، وإن كان أنثى يكره له تركه "وقال محمد: يلبس لباس المرأة" لأن ترك لبس المخيط وهو امرأة أفحش من لبسه وهو رجل، ولا شيء عليه لأنه لم يبلغ. "ومن حلف بطلاق أو عتاق إن كان أول ولد تلدينه غلاما فولدت خنثى لم يقع حتى يستبين أمر الخنثى" لأن الخنث لا يثبت بالشك "ولو قال كل عبد لي حر أو قال كل أمة لي حرة وله مملوك خنثى لم يعتق حتى يستبين أمره" لما قلنا "وإن قال القولين جميعا عتق" للتيقن بأحد الوصفين لأنه ليس بمهمل "وإن قال الخنثى أنا رجل أو أنا امرأة لم يقبل قوله إذا كان مشكلا" لأنه دعوى يخالف قضية الدليل "وإن لم يكن مشكلا ينبغي أن يقبل قوله" لأنه أعلم بحاله من غيره "وإن مات قبل أن يستبين أمره لم يغسله رجل ولا امرأة" لأن حل الغسل غير ثابت بين الرجال والنساء "فيتوقى لاحتمال الحرمة وييمم بالصعيد" لتعذر الغسل "ولا يحضر إن كان مراهقا غسل رجل ولا امرأة" لاحتمال أنه ذكر أو أنثى "وإن سجى قبره فهو أحب" لأنه إن كان أنثى يقيم واجبا، وإن كان ذكرا فالتسجية لا تضره.
"وإذا مات فصلي عليه وعلى رجل وامرأة وضع الرجل مما يلي الإمام والخنثى خلفه والمرأة خلف الخنثى فيؤخر عن الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويقدم على المرأة" لاحتمال أنه رجل. "ولو دفن مع رجل في قبر واحد من عذر جعل الخنثى خلف الرجل" لاحتمال أنه امرأة "ويجعل بينهما حاجز من صعيد، وإن كان مع امرأة قدم الخنثى" لاحتمال أنه رجل "وإن جعل على السرير نعش المرأة فهو أحب إلي" لاحتمال أنه عورة، "ويكفن كما تكفن الجارية(4/547)
وهو أحب إلي" يعني يكفن في خمس أثواب لأنه إذا كان أنثى فقد أقيمت سنة، وإن كان ذكرا فقد زادوا على الثلاث ولا بأس بذلك. "ولو مات أبوه وخلف ابنا فالمال بينهما عند أبي حنيفة أثلاثا للابن سهمان، وللخنثى سهم وهو أنثى عنده في الميراث إلا أن يتبين غير ذلك" وقالا: للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى وهو قول الشعبي رحمه الله.
واختلفا في قياس قوله قال محمد: المال بينهما على اثني عشر سهما للابن سبعة وللخنثى خمسة. وقال أبو يوسف: المال بينهما على سبعة للابن أربعة وللخنثى ثلاثة، لأن الابن يستحق كل الميراث عند الانفراد والخنثى ثلاثة الأرباع، فعند الاجتماع يقسم بينهما على قدر حقيهما هذا يضرب بثلاثة وذلك يضرب بأربعة فيكون سبعة. ولمحمد أن الخنثى لو كان ذكرا يكون المال بينهما نصفين، وإن كان أنثى يكون المال بينهما أثلاثا احتجنا إلى حساب له نصف وثلث، وأقل ذلك ستة، ففي حال يكون المال بينهما نصفين لكل واحد ثلاثة، وفي حال يكون أثلاثا للخنثى سهمان وللابن أربعة، فسهمان للخنثى ثابتان بيقين. ووقع الشك في السهم الزائد فيتنصف فيكون له سهمان ونصف فانكسر فيضعف ليزول الكسر فصار الحساب من اثني عشر للخنثى خمسة وللابن سبعة. ولأبي حنيفة أن الحاجة هاهنا إلى إثبات المال ابتداء، والأقل وهو ميراث الأنثى متيقن به، وفيما زاد عليه شك، فأثبتنا المتيقن قصرا عليه لأن المال لا يجب بالشك وصار كما إذا كان الشك في وجوب المال بسبب آخر فإنه يؤخذ فيه بالمتيقن، كذا هذا، إلا أن يكون نصيبه الأقل لو قدرناه ذكرا فحينئذ يعطى نصيب الابن في تلك الصورة لكونه متيقنا به وهو أن تكون الورثة زوجا، وأما وأختا لأب وأم هي خنثى أو امرأة وأخوين لأم وأختا لأب وأم هي خنثى. فعندنا في الأولى للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للخنثى، وفي الثانية للمرأة الربع وللأخوين لأم الثلث والباقي للخنثى لأنه أقل النصيبين فيهما، والله أعلم بالصواب.(4/548)
مسائل شتى
قال: "وإذا قرئ على الأخرس كتاب وصيته فقيل له أنشهد عليك بما في هذا الكتاب فأومأ برأسه: أي نعم أو كتب، فإذا جاء من ذلك ما يعرف أنه إقرار فهو جائز، ولا يجوز ذلك في الذي يعتقل لسانه" وقال الشافعي: يجوز في الوجهين لأن المجوز إنما هو العجز وقد شمل الفصلين، ولا فرق بين الأصلي والعارضي كالوحشي والمتوحش من الأهلي في حق الذكاة، والفرق لأصحابنا رحمهم الله أن الإشارة إنما تعتبر إذا صارت(4/548)
معهودة معلومة وذلك في الأخرس دون المعتقل لسانه. حتى لو امتد ذلك وصارت له إشارات معلومة قالوا هو بمنزلة الأخرس، ولأن التفريط جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت، أما الأخرس فلا تفريط منه، ولأن العارضي على شرف الزوال دون الأصلي فلا ينقاسان، وفي الآبدة عرفناه بالنص.
قال: "وإذا كان الأخرس يكتب كتابا أو يومئ إيماء يعرف به فإنه يجوز نكاحه وطلاقه وعتاقه وبيعه وشراؤه ويقتص له ومنه، ولا يحد ولا يحد له" أما الكتابة فلأنها ممن نأى بمنزلة الخطاب ممن دنا؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أدى واجب التبليغ مرة بالعبارة وتارة بالكتابة إلى الغيب، والمجوز في حق الغائب العجز وهو في حق الأخرس أظهر وألزم.
ثم الكتاب على ثلاث مراتب: مستبين مرسوم وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا. ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدار وأوراق الأشجار، وينوي فيه لأنه بمنزلة صريح الكتابة فلا بد من النية. وغير مستبين كالكتابة على الهواء والماء، وهو بمنزلة كلام غير مسموع فلا يثبت به الحكم. وأما الإشارة فجعلت حجة في حق الأخرس في حق هذه الأحكام للحاجة إلى ذلك لأنها من حقوق العباد ولا تختص بلفظ دون لفظ، وقد تثبت بدون اللفظ. والقصاص حق العبد أيضا، ولا حاجة إلى الحدود لأنها حق الله تعالى، ولأنها تندرئ بالشبهات، ولعله كان مصدقا للقاذف فلا يحد للشبهة، ولا يحد أيضا بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحا وهو الشرط. ثم الفرق بين الحدود والقصاص أن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة؛ ألا ترى أنهم لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر بالوطء الحرام لا يجب الحد، ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب القصاص وإن لم يوجد لفظ التعمد، وهذا لأن القصاص فيه معنى العوضية لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد.
أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة. وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه، ويحتمل أن يكون الجواب هنا كذلك فيكون فيهما روايتان، ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك لأنه يمكن الوصول إلى نطق الغائب في الجملة لقيام أهلية النطق، ولا كذلك الأخرس لتعذر الوصول إلى النطق للآفة المانعة، ودلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن(4/549)
كان قادرا على الكتابة، بخلاف ما توهمه بعض أصحابنا رحمهم الله أنه لا تعتبر الإشارة مع القدرة على الكتابة. لأنه حجة ضرورية، ولا ضرورة لأنه جمع هاهنا بينهما فقال: أشار أو كتب، وإنما استويا لأن كل واحد منهما حجة ضرورية، وفي الكتابة زيادة بيان لم يوجد في الإشارة، وفي الإشارة زيادة أثر لم يوجد في الكتاب لما أنه أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا "وكذلك الذي صمت يوما أو يومين لعارض" لما بينا في المعتقل لسانه أن آلة النطق قائمة، وقيل هذا تفسير لمعتقل اللسان.
قال: "وإذا كانت الغنم مذبوحة وفيها ميتة فإن كانت المذبوحة أكثر تحرى فيها وأكل، وإن كانت الميتة أكثر أو كانا نصفين لم يأكل" وهذا إذا كانت الحالة حالة الاختيار. أما في حالة الضرورة يحل له التناول في جميع ذلك. لأن الميتة المتيقنة تحل له في حالة الضرورة، فالتي تحتمل أن تكون ذكية أولى، غير أنه يتحرى لأنه طريق يوصله إلى الذكية في الجملة فلا يتركه من غير ضرورة. وقال الشافعي: لا يجوز الأكل في حالة الاختيار وإن كانت المذبوحة أكثر لأن التحري دليل ضروري فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولا ضرورة لأن الحالة حالة الاختيار. ولنا أن الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة؛ ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرم المسروق والمغصوب ومع ذلك يباح التناول اعتمادا على الغالب، وهذا لأن القليل لا يمكن الاحتراز عنه ولا يستطاع الامتناع منه فسقط اعتباره دفعا للحرج كقليل النجاسة وقليل الانكشاف، بخلاف ما إذا كانا نصفين أو كانت الميتة أغلب لأنه لا ضرورة فيه، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
بعون الله تعالى قد تم طبع كتاب
الهداية شرح بداية المبتدى(4/550)