فصل:
ويجوز في المختلفين، فيكون لأحدهما دنانير وللآخر دراهم، ولأحدهما صحاح، وللآخر مكسرة، أو لأحدهما مائة، والآخر مائتان؛ لأنهما أثمان، فصحت الشركة بهما كالمتفقين، ويرجع كل واحد منهما عند المفاضلة بمثل ماله، نص عليه؛ لأنها أثمان، فيجب الرجوع بمثلها كالمتفقين، وتجوز الشركة، وإن لم يخلطا المالين؛ لأنه يقصد بها كون الربح بالمالين، فلم يشترط خلط المال كالمضاربة.
فصل:
ومبناها على الوكالة والأمانة؛ لأن كل واحد منهما بتفويض المال إلى صاحبه أمنه، وبإذنه له في التصرف وكله، ولكل واحد منهما العمل في المالين بحكم الملك في حصته، والوكالة في حصة شريكه، وحكمها في جوازها وانفساخها حكم الوكالة، لتضمنها للوكالة، فإن عزل أحدهما صاحبه قبل أن ينض المال، فذكر القاضي: أن ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا ينعزل حتى ينض، كالمضارب إذا عزله رب المال، وقال أبو الخطاب: ينعزل؛ لأنها وكالة.
فإذا عزله فطلب أحدهما البيع، والآخر القسمة، أجيب طالب القسمة؛ لأنه يستدرك ما يحصل من الربح بالقسمة، فلم يجبر على البيع بخلاف المضارب، وهذا إنما يصح إذا كان الربح على قدر المالين، فإن زاد ربح أحدهما عن ماله، لم يستدرك ربحه بالقسمة، فيتعين البيع كالمضاربة.
فصل:
فإن مات أحدهما، فلوارثه إتمام الشركة، فيأذن للشريك، ويأذن له الشريك في التصرف؛ لأن هذا إتمام للشركة، وليس بابتداء لها، فلا تعتبر شروطها، وكذلك إن مات رب المال في المضاربة، فلوارثه إتمامها في ظاهر كلامه، ويحتمل أن لا يجوز إتمامها إلا أن يكون المال ناضاً؛ لأن العقد قد بطل بالموت، وهذا ابتداء عقد، فلا يجوز بالعروض، وإن مات عامل الضاربة، لم يجز إتمامها إلا على الوجه الذي يجوز ابتداءها؛ لأنه لم يخلف أصلاً يبنى عليه، ولو كان مال الشركة والمضاربة موصى به، والموصى له كالوارث في هذا، فإن كانت الوصية لغير معين، كالفقراء، فليس للموصي الإذن في التصرف؛ لأنه قد وجب دفعه إليهم.
فصل:
ولكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة، ويقبض المبيع والثمن، ويقبضهما ويطالب بالدين، ويخاصم فيه، ويرد بالعيب في العقد الذي وليه هو أو صاحبه، ويحيل ويحتال ويستأجر، ويفعل كل ما هو من مصلحة(2/147)
التجارة بمطلق الشركة؛ لأن هذا عادة التجار، وقد أذن له في التجارة، وهل لأحدهما أن يبيع نساء أو يبضع أو يودع أو يسافر بالمال؟ يخرج على روايتين: إحداهما: له ذلك؛ لأنه عادة التجار، ولأن المقصود الربح، وهو في هذه أكثر.
والأخرى: لا يجوز؛ لأن فيه تغريراً بالمال، وهل له التوكيل؟ يخرج على الروايتين في الوكيل؛ لأنه وكيل، وإذا وكل أحدهما، فللآخر عزله؛ لأنه وكيله، وهل له أن يرهن ويرتهن؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء، وهو يملكهما، فيملك ما يراد لهما.
والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه خطراً، وفي الإقالة وجهان.
أصحهما: أنه يملكها؛ لأنه إن كانت بيعاً فقد أذن فيه، وإن كانت فسخاً، ففسخ البيع المضر من مصلحة التجارة فملكه، كالرد بالعيب، والآخر لا يملكها؛ لأنها فسخ فلا تدخل في الإذن في التجارة.
فصل:
وليس له أن يكاتب رقيقه، ولا يزوجه، ولا يعتقه بمال، ولا يقرض ولا يحابي؛ لأن ذلك ليس بتجارة، وليس له المشاركة بمال الشركة، ولا المضاربة به، ولا خلطه بماله، ولا مال غيره؛ لأنه يثبت في المال حقوقاً، وليس هو من التجارة المأذون فيها، ولا يأخذ به سفتجة ولا يعطيها؛ لأن فيه خطراً، ولا يستدين على مال الشركة، ولا يشتري ما ليس عنده ثمنه؛ لأنه يؤدي إلى الزيادة في مال الشركة، ولم يؤذن فيه، فإن فعل، فعليه ثمن ما اشتراه ويختص بملكه وربحه وضمانه، وكذلك ما استدانه أو اقترضه، ويجوز أن يشتري نساء ما عنده ثمنه؛ لأنه لا يفضي إلى الزيادة فيها، وإن أقر على مال الشركة، قبل في حقه دون صاحبه، سواء أقر بعين أو دين؛ لأن الإقرار ليس من التجارة، وقال القاضي: يقبل إقراره على مال الشركة، ويقبل إقراره بعيب في عين باعها، كما يقبل إقرار الوكيل على موكله به، نص عليه؛ لأنه تولى بيعها، فقبل إقراره بالعيب، كمالكها.
فإن رد عليه المعيب فقبله، أو دفع أرشه، أو أخر ثمنه، أو حط بعضه لأجل العيب، جاز؛ لأن العيب يجوز الرد، وقد يكون ما يفعله من هذا أحظ من الرد، فأما إن حط بعض الثمن ابتداء، أو أسقط ديناً عن غريمهما، أو أخره عليه، لزم في حقه دون صاحبه؛ لأنه تبرع فجاز في حقه دون شريكه كالصدقة.
فإن قال له: اعمل برأيك فله عمل ما يقع في التجارة من الرهن والارتهان والبيع نساء، والإبضاع بالمال، والمضاربة به والشركة، وخلطه بماله، والسفر به وإيداعه، وأخذ السفتجة ودفعها(2/148)
ونحوه؛ لأنه فوض إليه الرأي في التصرف في التجارة، وقد يرى المصلحة في هذا، وليس له التبرع والحطيطة والقرض وكتابة الرقيق، وعتقه وتزويجه؛ لأنه ليس بتجارة، وإنما فوض إليه العمل برأيه في التجارة.
فصل:
الضرب الثاني: شركة الأبدان، وهو أن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما، كالصانعين يشتركان على أن يعملا في صناعتهما أو فيما يكتسبان من مباح كالحشيش والحطب والمعادن، والتلصص على دار الحرب، فما رزق الله فهو بينهما، فهو جائز، لما روى عبد الله بن مسعود قال: «اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فلم أجئ أنا وعمار بشيء، وجاء سعد بأسيرين» .
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، واحتج به أحمد، ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منها وكيل صاحبه، وما يتقبله كل واحد من الأعمال، فهو من ضمانهما، يطالب به كل واحد منهما، ويلزمه عمله.
قال القاضي: ويحتمل أن لا يلزم كل واحد منهما ما لزم صاحبه، كالوكيلين، ويصح مع اتفاق الصنائع واختلافها؛ لأنهما اتفقا في مكسب واحد، كما لو اتفقت الصنائع، وقال أبو الخطاب: لا تصح مع اختلافها؛ لأن الشركة تقتضي أن ما يتقبله أحدهما يلزم صاحبه، ولا يمكن أن يلزمه عمل صناعة لا يحسنها.
فصل:
والربح بينهما، على ما شرطاه من مساواة أو تفاضل؛ لأنهما يستحقان بالعمل، والعمل يتفاضل، فجاز أن يكون الربح متفاضلاً، وما لزم أحدهما من ضمان لتعديه وتفريطه، فهو عليه خاصة؛ لأن ذلك لا يدخل في الشركة، ولكل واحد منهما طلب الأجرة، وللمستأجر دفعها إلى أيهما شاء، وإن تلفت في يد أحدهما بغير تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه وكيل.
فصل:
وإن عمل أحدهما دون صاحبه، فالكسب بينهما، لحديث ابن مسعود حين جاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران، وإن ترك أحدهما العمل لعجز أو غيره، فللآخر مطالبته بالعمل، أو بإقامة من يعمل عنه أو يفسخ.
فصل:
إذا كان لرجلين دابتان، فاشتركا على أن يحملا عليهما، فما رزق الله تعالى من الأجرة، فهو بينهما صح. ثم إن تقبلا حمل شيء في ذمتهما فحملاه عليهما، صح، والأجرة على ما شرطاه؛ لأن تقبلهما الحمل أثبته في ذمتهما وضمانهما، والشركة تنعقد(2/149)
على الضمان كشركة الوجوه، وإن أجراهما على حمل شيء، اختص كل واحد منها بأجرة دابته، ولا شركة؛ لأنه لم يجب الحمل في ذمته، وإنما استحق المكتري منفعة هذه البهيمة التي استأجرها، ولهذا تنفسخ الإجارة بموتها، ولا يصح أن يكون كل واحد منهما وكيل صاحبه في إجارة دابة نفسه، ولهذا لو قال: أجر دابتك وأجرها بيني وبينك، لم يصح.
فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل، فله أجرة مثله؛ لأنها منافع وفاها بشبهة عقد.
فصل:
فإن دفع دابته إلى رجل يعمل عليها، أو عبده ليكتسب، ويكون ما يحصل بينهما نصفين، أو أثلاثاً، صح، نص عليه؛ لأنها عين تنمى بالعمل عليها، فجاز العقد عليها ببعض نمائها، كالشجر في المساقاة، ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي الفرس على نصف الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس، ووجهه ما ذكرناه، وإن دفع ثياباً إلى خياط ليخيطها ويبيعها، وله جزء من ربحها، أو غزلاً لينسجه ثوباً بثلث ثمنه، أو ربعه، جاز، وإن جعل معه دراهم، لم يجز، وعنه: الجواز، والأول المذهب؛ لأنه لا يجوز أن يشترط في المساقاة دراهم معلومة، وإنما أجاز أحمد ذلك تشبيهاً بالمساقاة، قال: نراه جائزاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى خيبر على الشطر.
فصل:
وإن دفع رجل بغلة، وآخر راوية إلى رجل، ليستقي وما رزقهم الله بينهم، فقياس المذهب صحته؛ لأن كل واحدة منها عين تنمى بالعمل عليها، فصح دفعها بجزء من النماء كالتي قبلها، وقال القاضي: لا يصح، لأن المشاركة بالعروض لا تصح، والأجرة للعامل؛ لأنه ملك الماء باغترافه في الإناء، ولصاحبيه أجرة المثل؛ لأنه استوفى منافع ملكهما بشبه عقد، ولو اشترك صانعان على أن يعملا بأداة أحدهما في بيت الآخر، والكسب بينهما، صح؛ لأن الأجرة على عملهما، وبه يستحق الربح، ولا يستحق بالآلة والبيت شيء، إنما يستعملانها في العمل، فصارا كالدابتين في الشركة، ولو اشترك صاحب بغل وراوية على أن يؤجراهما، والأجرة بينهما، لم يصح؛ لأن حاصله أن كل واحد منهما يؤجر ملكه، ويعطي الآخر من أجرته، وليس بصحيح، والأجرة كلها لمالك البهيمة؛ لأنه صاحب الأصل، والآخر أجرة مثله.
فصل:
الضرب الثالث: شركة الوجوه وهو: أن يشترك رجلان فيما يشتريان بجاههما، وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهما على ما(2/150)
اتفقا عليه من مساواة، أو تفاضل، ويبيعان فما رزق الله تعالى من الربح، فهو بينهما على ما اتفقا عليه، فهو جائز، سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه، أو قال: ما اشتريت من شيء فهو بيننا، نص عليه، والربح بينهما على ما اشترطاه، وقال القاضي: الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى، ولنا أنهما شريكان في المال فجاز تفاضلهما في الربح، مع تساويهما في الملك.
كشركي العنان، والوضيعة على قدر ملكيهما في المشترى؛ لأنه رأس المال، ومبناها على الوكالة؛ لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه فيما يشتريه ويبيعه، وحكمهما في جواز ما يجوز لكل واحد منهما، أو يمنع منه حكم شركة العنان.
فصل:
الضرب الرابع: شركة المفاوضة، وهو أن يشتركا في كل شيء يملكانه، وما يلزم كل واحد منهما من ضمان غصب، أو جناية أو تفريط، وفي ما يجدان من ركاز أو لقطة، فلا يصح؛ لأنه يكثر فيها الغرر، ولأنها لا تصح بين المسلم والكافر، فلا تصح بين المسلمين، كسائر العقود المنهي عنها، ولأنه يدخل فيها أكساب غير معتادة، وحصول ذلك وهم لا يتعلق به حكم.
[باب المضاربة]
وهو أن يدفع إنسان ماله إلى آخر يتجر فيه، والربح بينهما، وهي جائزة بالإجماع، يروى إباحتها عن عمر وعلي وابن مسعود وحكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في قصص مشتهرة، ولا مخالف لهم فيكون إجماعاً، وتسمى مضاربة وقراضاً، وتنعقد بلفظهما، وبكل ما يؤدي معناهما؛ لأن القصد المعنى، فجاز بما دل عليه كالوكالة، وحكمها حكم شركة العنان في جوازها وانفساخها، وفي ما يكون رأس المال فيها، وما لا يكون، وما يملكه العالم، وما يمنع منه، وكون الربح بينهما على ما شرطاه؛ لأنها شركة، فيثبت فيها ذلك، كشركة العنان.
فصل:
ويشترط تقدير نصيب العامل، ونصيب كل واحد من الشريكين في الشركة بجزء مشاع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها، والمضاربة في معناها.
فإن قال: خذه مضاربة والربح بيننا، صح وهو بينهما نصفين؛ لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة من غير ترجيح لأحدهما، فاقتضى التسوية، كقوله: هذه الدار بيني وبينك، وإن قال: على أن لك ثلث الربح، صح، والباقي لرب المال؛ لأنه يستحقه، لكونه نماء(2/151)
ماله، فلم يحتج إلى شرطه، وإن قال: على أن لي ثلث الربح، ولم يذكر نصيب العامل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولا شرط له.
والثاني: يصح، والباقي للعامل؛ لأنه يدل بخطابه على ذلك كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] دل على أن باقيه للأب، وإن قال: لي النصف ولك الثلث، وترك السدس، فهو لرب المال؛ لأنه يستحقه بماله، وإن قال: خذه مضاربة بالثلث، صح، وهو للعامل؛ لأن الشرط يراد من أجله، ورب المال يأخذه بماله لا بالشرط، ومتى اختلفا لمن الجزء المشروط، فهو للعامل لذلك، واليمين على مدعيه.
فصل:
وإن لم يذكر الربح، أو قال: لك جزء من الربح، أو شركة، لم تصح المضاربة؛ لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب، وإن قال: لك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمانه، صح، وإن جهلاه أو أحدهما، لم يصح، ولا يجوز أن يشرط لأحدهما دراهم معلومة؛ لأنه يحتمل أن لا يربحها، أو لا يربح غيرها.
فيختص أحدهما بجميع الربح، ولو شرط لأحدهما ربح أحد الألفين، أو أحد الكيسين، أو أحد العبدين، وللآخر ربح الآخر، أو جعل حقه في عبد يشتريه، أو أنه إذا اشترى عبداً، أخذه برأس المال، لم يصح، لإفضائه إلى اختصاص أحدهما بالربح.
فصل:
وإن قال: خذه مضاربة والربح كله لك، أو قال: لي، لم يصح؛ لأن موضوعها على الاشتراك في الربح، فشرطه كله له. ينافي مقتضى العقد، فبطل، وإن قال: خذه فاتجر به، والربح كله لك، فهو قرض؛ لأن اللفظ يصلح للقرض، وقد قرن به حكمه، فتعين له، وإن قال: والربح كله لي، فهو إبضاع؛ لأنه قرن به حكمه.
فصل:
فإن قال لغريمه: ضارب بالدين الذي عليك، لم يصح؛ لأن ما في يد الغريم، لنفسه لا يصير لغريمه إلا بقبضه.
فإن عزل شيئاً واشترى به، فالشراء له؛ لأنه اشترى بماله، ويحتمل أن تصح المضاربة؛ لأنه اشترى له بإذنه، ودفع المال إلى من أذن له، في دفعه إليه، فبرئت به ذمته، وإن كانت له وديعة، فقال للمودع: ضارب بها، صح؛ لأنه عين ماله، وإن كان عرضاً فقال: بعه وضارب بثمنه، صح؛ لأن الثمن عين مال رب(2/152)
المال، وإن قال: اقبض ما لي على فلان، فضارب به ففعل، صح لأنه وكيل في قبضه فيصير كالوديعة.
فصل:
ويصح أن يشرط على العامل أن لا يسافر بالمال، ولا يتجر به إلا في بلد بعينه، أو نوع بعينه أو لا يعامل إلا رجلاً بعينه؛ لأنه إذن في التصرف فجاز ذلك فيه كالوكالة، ويصح توقيتها، فيقول: ضاربتك بهذه الدراهم سنة لذلك، نص عليه، وعنه: لا يصح، اختارها أبو حفص؛ لأنه عقد يجوز مطلقاً، فلم يجز توقيته كالنكاح، ويصح أن يشرط نفقة نفسه حضراً وسفراً قياساً على الوكيل.
فصل:
ولا يصح أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، نحو أن يشرط لزوم المضاربة، أو لا يعزله مدة بعينها، أو لا يبيع إلا برأس المال، أو أقل، أو يوليه ما يختار من السلع؛ لأنه يفوت المقصود من العقد، وإن شرط أن يتجر له في مال آخر مضاربة، أو بضاعة أو خدمة في شيء، أو يرتفق بالسلع، أو شرط على العامل الضمان، أو الوضيعة أو سهماً منها، أو متى باع سلعة، فهو أحق بها بالثمن، فالشرط فاسد؛ لأنه ليس في مصلحة العقد ولا مقتضاه.
فصل:
وكل شرط يؤثر في جهالة الربح يبطل المضاربة؛ لأنه يمنع التسليم الواجب، وما لا يؤثر فيه، لا يبطلها في قياس قوله، لنصه فيما إذا شرط سهماً من الوضيعة أن المضاربة صحيحة؛ لأنه إذا حذف الشرط، بقي الإذن بحاله ويحتمل البطلان؛ لأنه إنما رضي بالعقد بهذا الشرط، فإذا فسد، فات الرضى به ففسد، كالمزارعة إذا شرط البذر من العامل، وكالشروط الفاسدة في البيع، ومتى فسدت، فالتصرف صحيح؛ لأنه بإذن رب المال والوضيعة عليه؛ لأن كل عقد لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسده، والربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله، وإنما يستحق بالشرط وهو فاسد ها هنا لا يستحق به شيء، وللعامل أجر مثله؛ لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له، وإن فسدت الشركة، قسم الربح على رؤوس أموالهما، ورجع كل واحد منهما على الآخر بأجر عمله، لما ذكرنا، وقال الشريف أبو جعفر: الربح بينهما على ما شرطاه؛ لأنه عقد يجوز أن يكون عوضه مجهولاً، فوجب المسمى في فاسده كالنكاح.
فصل:
وعلى العامل عمل ما جرت العادة بعمله له، من نشر وطي، وإيجاب وقبول(2/153)
وقبض ثمن، ووزن ما خف، كالنقود والمسك والعود؛ لأن إطلاق الإذن يحتمل على العرف، والعرف أن هذه الأمور يتولاها بنفسه، وإن استأجر من يفعلها، فعليه الأجرة في ماله؛ لأنه بذلها عوضاً عما يلزمه، وما جرت العادة أن يستنيب فيه، كحمل المتاع، ووزن ما يثقل والنداء، فله أن يستأجر من مال القراض من يفعله؛ لأنه العرف.
فإن فعله بنفسه ليأخذ أجرة لم يستحقها، نص عليه؛ لأنه تبرع بفعل ما لم يلزمه، فلم يكن له أجر كالمرأة التي تستحق على زوجها خادماً إذا خدمت نفسها، ويتخرج أن له الأجر؛ لأنه فعل ما يستحق الأجر فيه، فاستحقه كالأجنبي.
فصل:
وليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال؛ لأن الإذن لم يتناول غيره.
فإن كان ألفاً فاشترى عبداً بألف، فهو للمضاربة؛ لأنه مأذون فيه.
فإن اشترى آخر، لم يدخل في المضاربة؛ لأنه غير مأذون فيه، وحكمه حكم ما لو اشترى لغيره شيئاً بغير إذنه.
فإن تلف الألف قبل نقده في الأول، فعلى رب المال الثمن؛ لأن الشراء بإذنه، ويصير رأس المال الثمن الثاني؛ لأن الأول تلف قبل تصرفه فيه، وإن تلف قبل الشراء، لم يدخل المشتري في المضاربة؛ لأنها انفسخت قبل الشراء، لتلف رأس المال وزوال الإذن.
فصل:
وليس له التصرف إلا على الاحتياط، كالوكيل؛ لأنه وكيل رب المال إلا أن له شراء المعيب؛ لأن مقصودها الربح، وقد يربح في المعيب بخلاف الوكالة فإن الشراء فيها يراد للقنية.
فإن اشترى شيئاً فبان معيباً، فله رده، فإن اختلف هو ورب المال في رده، فعل ما فيه النظر؛ لأن مقصود الحظ لهما، فإذا اختلفا، قدم الأحظ.
فصل:
فإن اشترى من يعتق على رب المال، صح؛ لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه، كالذي نذر رب المال عتقه، ويعتق، وعلى العامل الضمان، علم أو لم يعلم؛ لأن مال المضاربة تلف بتفريطه، وفي قدر ما يضمن وجهان: أحدهما: ثمنه؛ لأنه فات فيه.
والثاني: قيمته؛ لأنها التالفة، وقال أبو بكر: إن لم يعلم، لم يضمن؛ لأنه معذور، فلم يضمن، كما لو اشترى معيباً لم يعلم عيبه، ويتخرج أن لا يصح شراؤه؛ لأن الإذن تقيد بالعرف لما يمكن بيعه والربح فيه، فلا يتناول غيره، ولأنه تقيد بما يظن الحظ فيه، وهذا لا حظ للتجارة فيه، ولهذا جعلناه مفرطاً، وألزمناه الضمان، وإن اشترى زوجة رب المال، أو زوج ربة المال، صح وانفسخ النكاح لملكه إياه فإن كان(2/154)
قبل الدخول، فعلى العامل نصف الصداق؛ لأنه أفسد نكاحه فأشبه من أفسده بالرضاع.
فصل:
فإن اشترى من يعتق على نفسه، ولا ربح في المال، لم يعتق، وإن ظهر فيه ربح، وقلنا: لا يملك العامل إلى بالقسمة، لم يعتق أيضاً، وإن قلنا: يملكه بالظهور، عتق عليه قدر حصته منه، وسرى إلى باقيه إن كان موسراً، وغرم قيمته، وإن كان معسراً، لم يعتق عليه إلى ما ملك، وقال أبو بكر: لا يعتق بحال؛ لأنه لم يتم ملكه في الربح، لكونه وقاية لرأس المال.
فصل:
وليس له وطء جارية من المال، فإن فعل، فعليه المهر؛ لأنها مملوكة غيره ويعزر، نص عليه، ولا حد عليه لشبهة حقه فيها، وقال القاضي: عليه الحد إن لم يظهر ربح؛ لأنه لا ملك له فيها، والأول أولى؛ لأن ظهور الربح ينبني على التقويم، وهو غير متحقق فيكون شبهة.
فإن ولدت منه، ولم يظهر ربح، فالولد مملوك، ولا تصير به الجارية أم ولد؛ لأنها علقت به في غير ملك، وإن ظهر ربح، فالولد حر، وأمه أم ولد، وعليه قيمتها، ويسقط من القيمة والمهر قدر حصة العامل منها، وإن أذن له رب المال في التسري فاشترى جارية، خرجت من المضاربة، وصار ثمنها قرضاً؛ لأن استباحة البضع لا تكون إلا بملك أو نكاح؛ لقول الله تعالى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] .
فصل:
وليس لرب المال وطء جارية من المضاربة؛ لأن لغيره فيها حقاً، فإن فعل، فلا حد عليه؛ لأنها ملكه.
وإن لم تعلق منه، فالمضاربة بحالها، وإن علقت منه، فالولد حر، وتصير أم ولد له، وتخرج من المضاربة، وتحسب عليه قيمتها، ويأخذ المضارب حصته من الربح مما بقي.
فصل:
وليس له دفع المال مضاربة؛ لأنه إنما دفع إليه المال ليضارب به، وبهذا يخرج عن كونه مضارباً، فإن فعل فهو مضمون على كل واحد منهما، على الأول لتعديه، وعلى الثاني لأخذه مال غيره بغير إذنه، فإن غرم الأول، ولم يعلم الثاني بالحال، لم يرجع عليه؛ لأنه دفعه إليه أمانة، وإن علم، رجع عليه، وإن غرم الثاني مع علمه، لم(2/155)
يرجع على أحد، وإن لم يعلم فهل يرجع على الأول؟ على وجهين، بناء على المشتري من الغاصب، وإن ربح، فالربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله ولا أجرة لواحد منهما؛ لأن الأول لم يعمل، والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه، فأشبه الغاصب، وعنه: له أجرة مثله؛ لأنه عمل في المال بشبهة المضارب، فأشبه المضاربة الفاسدة، ويحتمل أنه إن اشترى في الذمة، كان الربح له، فأما إن دفعه إلى غيره بإذن رب المال، صح، ويصير الثاني هو المضارب.
فإن شرط الدافع لنفسه شيئاً من الربح، لم يستحق شيئاً؛ لأن الربح يستحق بمال، أو عمل، وليس له واحد منهما، فإن قال له رب المال: اعمل برأيك، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جواز دفعه مضاربة كما ذكرنا في الشركة.
فصل:
إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له، فهو ضامن؛ لأنه تصرف بغير إذن المالك فضمن كالغاصب، والربح لرب المال ولا أجرة له؛ لأنه عمل بغير إذن، أشبه الغاضب، وعنه له أجرة مثله ما لم تحط بالربح، كالإجارة الفاسدة، وعنه: له أقل الأمرين من أجرته أو ما شرط له؛ لأنه رضي بما جعل له فلا يستحق أكثر منه، ولا يستحق أكثر من أجرة المثل؛ لأنه لم يفعل ما جعل له الربح فيه، وقال القاضي: إن اشترى في الذمة، ثم نقد المال، فكذلك، وإن اشترى بعين المال، فالشراء باطل في رواية، والنماء للبائع، وفي رواية يقف على إجازة المالك، فإن لم يجزه، فالبيع باطل أيضاً، وإن أجازه، صح والنماء له، وإن أخذ الربح، كان إجازة منه للعقد؛ لأنه دل على رضاه، وفي أجرة المضارب ما ذكرناه.
فصل:
ونفقة العامل على نفسه حضراً وسفراً؛ لأنها تختص به فكانت عليه كنفقة زوجته، ولأنه دخل على أن له جزءاً مسمى فلم يستحق غيره، كالمساقي، وإن اشترط نفقته، فله ذلك؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» ويستحب تقديرها؛ لأنه أبعد من الغرر، فإن أطلق، جاز؛ لأن لها عرفاً تنصرف إليه، فأشبه إطلاق الدينار في بلد له فيه عرف.
قال أحمد: ينفق على ما كان ينفق غير متعد بالنفقة، ولا مضر بالمال، وله نفقة من المأكول خاصة، إلا أن يكون سفره طويلاً يحتاج إلى تجديد كسوة، فله أن يكتسي، فإن كان معه مال آخر، فالنفقة على المالين بالحصص؛ لأن النفقة للسفر، والسفر لهما، وإن مات لم يجب تكفينه؛ لأنه لم يبق عاملاً، وإن لقيه رب المال في السفر، ففسخ المضاربة، فلا نفقة له لرجوعه لذلك.(2/156)
فصل:
وللمضارب أن يأخذ مضاربة أخرى، إذا لم يكن فيه ضرر على الأولى؛ لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها، فلم يملك عقدا آخر كالوكالة.
فإن كانت الثانية، تشغله عن الأولى، لم يجز؛ لأنه تصرف يضر به، فلم يجز كالبيع بغبن، فإن فعل ضم نصيبه من الربح في الثاني إلى ربح الأول، فاقتسماه؛ لأن ربحه الثاني حصل بالمنفعة التي اقتضاها العقد الأول، وإن فعل ذلك بإذن الأول، جاز؛ لأن الحق له فجاز بإذنه.
فإن أخذ مالين من رجلين، واشترى بكل مال عبداً فاشتبها عليه، ففيه وجهان: أحدهما: يكونان شريكين فيهما، كما لو اشتركا في عقد البيع.
والثاني: يأخذهما العامل، وعليه رأس المال؛ لأنه تعذر ردهما بتفريطه، فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما.
فصل:
وإذا دفع إليه ألفاً، ثم دفع إليه ألفاً آخر، لم يجز له ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأنه أفرد كل واحد بعقد له حكم، فلم يملك تغييره، فإن أمره بضمهما قبل التصرف فيهما، أو بعد أن نضا، جاز وصارا مضاربة واحدة، وإن كان بعد التصرف قبل أن ينضا، لم يجز؛ لأن حكم ما تصرف فيه قد استقر، فصار ربحه وخسرانه مختصاً به، فضم الآخر إليه يوجب جبر وضيعة أحدهما بربح الآخر، فلم يجز.
فصل:
وليس للمضارب ربح حتى يوفي رأس المال؛ لأن الربح هو الفاضل عن رأس المال.
فلو ربح في سلعة، وخسر في أخرى، أو في سفرة، وخسر في أخرى جبرت الوضيعة من الربح، وإن تلف بعض المال قبل التصرف، فتلفه من رأس المال؛ لأنه تلف قبل التصرف، أشبه التالف قبل القبض، وإن تلف بعد التصرف، حسب من الربح؛ لأنه دار في التجارة، فإن اشترى عبدين بمائة، فتلف أحدهما، وباع الآخر بخمسين، فأخذ منها رب المال خمسة وعشرين بقي رأس المال خمسين؛ لأن رب المال أخذ نصف المال الموجود، فسقط نصف الخسران، ولو لم يتلف العبد، وباعهما بمائة وعشرين، فأخذ رب المال ستين، ثم خسر العامل فيما معه عشرين، فله من الربح خمسة؛ لأن سدس ما أخذه رب المال ربح، للعامل نصفه، وقد انفسخت المضاربة فيه، فلا يجبر به خسران الباقي، وإن اقتسما العشرين الربح خاصة، ثم خسر عشرين، فعلى العامل رد ما أخذه، وبقي رأس المال تسعين؛ لأن العشرة الباقية مع رب المال تحسب من رأس المال، ومهما بقي العقد على رأس المال، وجب جبر خسرانه من ربحه وإن(2/157)
قسما الربح قال أحمد: إلا أن يقبض رأس المال صاحبه، ثم يرده إليه، أو يحتسبا حساباً كالقبض، وهو أن يظهر المال، ويجئ به فيحتسبان عليه، فإن شاء صاحبه قبضه، ولا يكون ذلك إلا في الناض، دون المتاع؛ لأن المتاع قد يتغير سعره، وأما قبل ذلك، فالوضيعة تجبر من الربح، ولذلك لو طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال، لم يلزم الآخر إجابته؛ لأنه لا يأمن الخسران في الثاني، وإن اتفقا على قسمه أو قسم بعضه، أو على أن يأخذ كل واحد منهما كل يوم قدراً معلوماً، جاز؛ لأن الحق لهما، ولو تبين للمضارب ربح، لم يجز له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال.
فصل:
ويملك العامل الربح بالظهور، وعنه: لا يملكه؛ لأنه لو ملكه اختص بربحه، والأول المذهب؛ لأنه يملك المطالبة بقسمه فملكه كالمشتري، وإنما لم يختص بربحه؛ لأنه وقاية لرأس المال.
فصل:
ولكل واحد منهما فسخ المضاربة؛ لأنها عقد جائز.
فإذا فسخ والمال عرض فاتفق على قسمه، أو بيعه، جاز، وإن طلب العامل البيع وأبى رب المال وفيه ربح، أجبر عليه؛ لأن حقه في الربح لا يظهر عليه إلا بالبيع، وإن لم يكن فيه ربح، لم يجبر؛ لأنه لا حق له فيه، وإن طلب رب المال البيع، وأبى العامل، أجبر في أحد الوجهين؛ لأنه يستحق عليه رد المال كما أخذه، والآخر لا يجبر؛ لأنه متصرف لغيره بحكم عقد جائز، فلم يلزمه التصرف كالوكيل، وإن كان ديناً، لزم العامل تقاضيه؛ لأن المضاربة تقتضي رد المال على صفته.
فصل:
ويجوز أن يدفع المال إلى اثنين مضاربة، فإن شرط لهما جزءاً من الربح، ولم يبين كيف هو بينهما، فهو بينهما نصفين؛ لأن إطلاق لفظ: لهما، يقتضي التسوية، وإن شرط لأحدهما ثلث الربح، وللآخر سدسه، صح لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان، وإن قارض اثنان واحداً بألف لهما، جاز، وكان بمنزلة عقدين، فإذا شرطا له جزءاً من الربح، والباقي لهما على قدر ملكيهما، فإن كان بينهما نصفين، فشرط أحدهما للمضارب نصف ربح نصيبه وشرط له الآخر الثلث، والباقي بينهما نصفين، لم يجز لأن كل وحد منهما يستحق ما بقي من الربح بعد شرطه، فإذا شرطا التسوية، فقد شرط أحدهما جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل، وإن دفع إليه ألفاً، وقال: أضف إليها ألفاً من مالك، والربح بيننا، لك ثلثاه ولي ثلثه، جاز، وكان شركة وقراضاً، وللعامل النصف(2/158)
بماله، والسدس بعمله، وإن قال: والربح بيننا نصفين نظرنا في لفظه، فإن قال: خذه مضاربة، فسد؛ لأنه جعل ربح ماله كله له، وذلك ينافي مقتضى المضاربة، وإن لم يقل مضاربة، صح، وكان إبضاعاً، وإن قال: ولي الثلثان، فسد؛ لأنه يشرط لنفسه جزءاً من ربح مال صاحبه بغير عمل.
فصل:
وإن أخرج ألفاً وقال: أتجر أنا وأنت فيها والربح بيننا، صح، نص عليه، وذكره الخرقي بقوله: أو بدنان بمال أحدهما، وقال ابن حامد والقاضي: لا يصح؛ لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل، وهذا الشرط ينفي ذلك، والأول أظهر؛ لأن العمل أحد ما تتم به المضاربة، فجاز انفراد أحدهما به، كالمال، ومقتضى المضاربة إطلاق التصرف في المال والمشاركة في الربح، وهذا لا ينفيه.
فإن شرط المضارب أن يعمل معه غلام رب المال، فهو أولى بالجواز؛ لأن عمل الغلام يصح أن يكون تابعاً لعمل العامل، كالحمل على بهيمته، وقال القاضي: لا يجوز؛ لأن يد العبد كيد سيده.
فصل:
والعامل أمين لا ضمان عليه فيما تلف بغير تعد؛ لأنه متصرف في المال بإذن المالك لا يختص بنفعه، فأشبه الوكيل، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، أو يدعي عليه من جناية لذلك.
إن قال: هذا اشتريته لنفسي، أو للمضاربة، أو اختلفا في نهي رب المال له عن شرائه، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم النهي، وهو أعلم بنيته في الشراء، وإن اختلفا في رد المال، فالقول قول المالك؛ لأنه قبض المال لنفع نفسه، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستعير، وإن اختلفا فيما شرط له من الربح، ففيه روايتان: إحداهما: القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم ما اختلفا فيه.
والثانية: إن ادعى العامل أجرة المثل، أو قدراً يتغابن الناس به، فالقول قوله؛ لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر، فالقول قول المالك؛ لأن الظاهر صدقه، فأشبها الزوجين إذا اختلفا في المهر.
فصل:
وإن أقر بربح ثم قال: خسرته، أو تلف، قبل قوله، وإن قال: غلطت أو نسيت، لم يقبل؛ لأنه مقر بحق لآدمي، فلم يقبل رجوعه، كالمقر بدين، ولو اقترض العامل شيئاً، تمم به رأس المال، ثم عرضه على رب المال فأخذه، لم يقبل رجوع العامل، ولم يملك المقرض مطالبة رب المال؛ لأن العامل ملكه بالقرض، وأقر به لرب المال، ويرجع المقرض على العامل.(2/159)
فصل:
فإن قال المالك: دفعت إليك المال قرضاً، قال: بل قراضاً، أو بالعكس، أو قال: غصبتنيه قال: بل أودعتنيه، أو بالعكس.
أو قال: أعرتكه قال: أجرتنيه، أو بالعكس، فالقول قول المالك؛ لأنه ملكه، فالقول قوله في صفة خروجه عن يده، وإن قال المضارب: شرطت لي النفقة فأنكره، فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل عدمه، وإن اتفقا على الشرط، فقال المضارب: إنما أنفقت من مالي، فالقول قوله؛ لأنه أمين فقبل قوله في الإنفاق، كالوصي، وله الرجوع سواء كان المال في يده أو لم يكن.
فصل:
وإن اشترى رب المال شيئاً من مال المضاربة، لم يصح في إحدى الروايتين؛ لأنه ملكه، فلم يجز له شراؤه، كماله الذي مع وكيله، والثانية: يصح؛ لأنه قد تعلق به حق غيره، فأشبه مال مكاتبه، ويصح أن يشتري المضارب من مال المضاربة لنفسه؛ لأنه ملك غيره، فصح شراؤه له، كشراء الوكيل من موكله، ولا يصح شراء السيد من عبده، المأذون؛ لأنه ماله، ويحتمل أن يصح إذا ركبته الديون، وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة، بطل في نصيبه، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة، ويحتمل أن يصح في الجميع، بناء على شراء رب المال من مال المضاربة، وإن استأجر أحد الشريكين من شريكه داراً ليحرز فيها مال الشركة، أو غرائر، صح، نص عليه، وإن استأجره أو غلامه أو دابته لنقل المتاع، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز قياساً على الدار.
والثانية: لا يجوز؛ لأن الحيوان لا تجب له الأجرة إلا بالعمل ولا يمكن إبقاؤه في المشترك لعدم تميز نصيب أحدهما من الآخر، بخلاف الدار، فإن الواجب موضع العين من الدار، فيمكن تسليم العقود عليه.
فصل:
ولا يجوز قسمة الدين في الذمم؛ لأنها لا تتكافأ، والقسمة بغير تعديل بيع، ولا يجوز بيع دين بدين وعنه: يجوز؛ لأن الاختلاف لا يمنع القسمة قياساً على اختلاف الأعيان، ولا يمكن قسمة الدين في ذمة واحدة؛ لأن معناها إفراز الحق، ولا يتصور في ذمة واحدة.
فصل:
إذا كان لاثنين دين في ذمة رجل بسبب واحد، فقبض أحدهما منه شيئاً فهو بينهما، إذ لا يجوز أن يكون المقبوض نصيب من قبضه، لما فيه من قسمة الدين في(2/160)
ذمة واحدة، وللشريك القابض مطالبته بنصيبه منه لذلك، وله مطالبة الغريم؛ لأنه لم يبرأ من حقه بتسليمه إلى غيره بغير إذنه، ومن أيهما أخذ، لم يرجع على الآخر؛ لأن حقه ثبت في أحد المحلين.
فإذا اختار أحدهما، سقط حقه من الآخر، وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه، ولم يضمنه للغريم؛ لأنه قدر حقه فما تعدى بالقبض، وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته مشتركاً، وإن أبرأ أحدهما الغريم، برئ من نصيبه، ولم يرجع عليه الآخر بشيء؛ لأنه كتلفه، وإن أبرأه من نصف حقه ثم قبضا شيئاً، اقتسماه أثلاثاً، وإن أخر أحدهما حقه، جاز؛ لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى، وإن اشترى بنصيبه شيئاً، فهو كما لو اشترى بعين مال مشترك بينهما، وإن كان الحق ثابتاً بسببين، كعقدين، أو إتلافين، فلا شركة بينهما، ولكل واحد استيفاء حقه مفرداً، فلا يشاركه الآخر فيه.
فصل:
إذا ملكا عبداً، فباعه أحدهما بأمر الآخر، فادعى المشتري أنه قبض ثمنه، فأنكر البائع وصدقه الآخر، برئ من نصف ثمنه لاعتراف صاحبه بقبض وكيله له، والقول قول البائع مع يمينه في أنه لم يقبض؛ لأن الأصل عدمه، ولا تقبل شهادة شريكه عليه؛ لأن له فيها نفعاً، فإذا حلف، قبض نصيبه من المشتري، ولم يشاركه شريكه فيه؛ لأنه يدعي أنه يأخذه ظلماً، وإن كان البائع ادعى أن شريكه قبض الثمن كله فأنكر، لم تبرأ ذمة المشتري؛ لأنه لم يوكله في القبض، وليس للبائع مطالبة المشتري بأكثر من نصيبه، لاعترافه بأن ذمته برئت من نصيب صاحبه.
فإذا قبض نصيبه، فلصاحبه مشاركته فيه؛ لأن دينهما واحد.
فإذا رجع عليه، لم يكن للمقبوض منه مطالبة المشتري بشيء آخر، لاعترافه بقبضه لجميع حقه، وأن ما يأخذه صاحبه منه ظلم، ويحتمل أنه ليس لصاحبه مشاركته؛ لأنه ملك لاثنين، وعقد الواحد مع الاثنين كعقدين.
[باب العبد المأذون]
لا يجوز للعبد التجارة بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مملوكة له، فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه، فإن رآه يتجر فسكت، لم يصر مأذوناً له؛ لأنه بيع يفتقر إلى الإذن، فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي، وإن اشترى في ذمته، لم يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فأشبه النكاح.
فإن قبض المبيع فتلف في يده، تعلقت برقبته، كجنايته؛ لأنه تلف، في يده على وجه يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفه.
فصل:
وإذا أذن له المولى، جاز؛ لأن الحجر لحقه فملك إزالته، ولا يملك التجارة إلا(2/161)
فيما أذن فيه؛ لأن تصرفه بالإذن فلم يملك إلا ما دخل فيه، كالوكيل.
فإن عين له نوعاً أو قدراً، لم يملك التجارة في غيره، وإن أذن له في التجارة مطلقاً، جاز ولم يكن له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل؛ لأنه عقد على نفسه فلم يملكه، كبيع نفسه وتزوجه، ولا ينصرف إلا على النظر والاحتياط كالمضارب؛ لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف، وهو ما قلناه، ولا يبطل الإذن الإباق؛ لأنه لا يمنع ابتداء الإذن فلا يقطع استدامته كما لو غصبه غاصب.
فصل:
ولا يجوز تبرع المأذون له بالدراهم والكسوة؛ لأنه ليس بتجارة ولا من توابعها، فلم يدخل في الإذن فيها، وتجوز هديته المأكول، واتخاذ الدعوة وإعارة دابته ما لم يسرف لما «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجيب دعوة المملوك» ولأن العادة جارية به بين التجار، فجاز، كصدقة المرأة بالكسرة من بيت زوجها.
فصل:
وما كسب العبد من المباح، أو وهب له فقبله، ملكه مولاه؛ لأنه كسب ماله فملكه، كصيد فهده، وإن ملكه سيده مالاً، ملكه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع وله مال، فماله للبائع» ولأنه يملك البضع فملك المال، كالحر، وعنه: لا يملك؛ لأنه مال فلم يملك المال كالبهيمة.
فإن ملكه سيده جارية لم يملك وطأها قبل الإذن فيه؛ لأن ملكه غير تام، فإن أذن له فيه، ملكه.
قال أبو بكر: على كلتا الروايتين؛ لأنه يملك الاستمتاع بالنكاح، فملكه بالشراء كالحر، وقال القاضي: بل هذا بناء على الرواية التي يملك المال، ولا يملك ذلك على الأخرى؛ لقول الله تعالى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وإن لزمته كفارة، فكفارته الصيام لا غير إن لم يأذن له سيده في التكفير بالمال، وإن أذن له فيه، انبنى على الروايتين في ملكه.
فإن قلنا: لا يملك، لم يكفر بغير الصيام، وإن قلنا: يملك، فله التكفير بالإطعام والكسوة، وفي العتق وجهان: أحدهما: يملكه، قياساً على الإطعام والكسوة.
والثاني، لا يملكه؛ لأنه يتضمن الولاء، والعبد ليس من أهله.
فعلى الأول إن أذن له في التكفير بإعتاق نفسه فهل يجزئه؟ على وجهين، والله تعالى أعلم.(2/162)
[باب المساقاة]
تجوز المساقاة على النخل، وسائر الشجر بجزء معلوم، يجعل للعامل من الثمر، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع» متفق عليه، ولأنه مال ينمى بالعمل عليه، فجازت المعاملة عليه ببعض نمائه، كالأثمان، ولا تجوز على ما لا يثمر.
كالصفصاف؛ لأن موضوعها على أن للعامل جزءاً من الثمرة، وفي المساقاة بعد ظهور الثمرة روايتان، حكاهما أبو الخطاب. إحداهما: الجواز إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة؛ لأنها جازت في المعدومة، مع كثرة الغرر، فمع قلته أولى.
والثانية: المنع، لإفضائها إلى أن يستحق جزءاً من النماء الموجود قبل العمل، فلم يصح، كالمضاربة بعد الربح، وإن ساقاه على شجر يغرسه، ويعمل عليه حتى يحمل، فيكون له جزء من الثمرة، جاز. نص عليه؛ لأن الثمرة تحصل بالعمل عليها كما تحصل على النخل المغروس، ولا تصح إلا على شجر معين معلوم برؤية، أو صفة؛ لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان، فأشبهت المضاربة، ولو قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين، لم يصح.
فصل:
وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها عقد جائز، لما روي عن ابن عمر «أن اليهود سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نقركم على ذلك ما شئنا» رواه مسلم.
فلو كانت لازمة، لقدر مدتها، ولم يجعل إخراجهم إليه إذا شاء، ولأنه عقد على مال بجزء من نمائه، فكان جائزاً كالمضاربة فلذلك لا يفتقر إلى ضرب مدة، وإن وقتاها، جاز، كالمضاربة، وتنفسخ بموت كل واحد منها وجنونه، وفسخه لها.
فإن انفسخت بعد ظهور الثمرة، فهي بينهما؛ لأنها حدثت على ملكهما، وعلى العامل تمام العمل، كعامل المضاربة إذا انفسخت قبل أن ينض المال، وإن انفسخت قبل ظهورها، بفسخ العامل، فلا شيء له؛ لأنه رضي بإسقاط حقه، وإن انفسخت بغير ذلك، فللعامل أجرة مثله؛ لأنه منع إتمام عمله الذي يستحق به العوض، فصار كعامل الجعالة.(2/163)
وقال بعض أصحابنا: هو لازم؛ لأنه عقد معاوضة فكان لازماً، كالإجارة، فعلى هذا يفتقر إلى تقدير مدتها كالإجارة، ويجب أن تكون المدة تكمل الثمرة في مثلها؛ لأن المقصود اشتراكهما في الثمرة.
فلا يحصل بدون ذلك.
فإن شرطا مدة لا تكمل الثمرة فيها، فعمل العامل، ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء له؛ لأنه رضي بالعمل بغير عوض، فأشبه المتطوع.
والثاني: له أجرة مثله؛ لأنه يقتضي العوض، فلم يسقط بالرضى بتركه، كالوطء في النكاح، وإن جعلا مدة تحمل في مثلها، فلم يتحمل، فلا شيء له؛ لأنه عقد صحيح، فيه مسمى صحيح، فلم يستحق غيره.
كعامل المضاربة إذا لم يربح، وإن جعلا مدة قد تكمل فيها، وقد لا تكمل، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنها مدة يُرجى وجود الثمرة فيها، فصح العقد عليها، كالتي قبلها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده، فلم يصح، كالسلم في مثله.
فعلى هذا، إن عمل استحق الأجر؛ لأنه لم يرض بالعمل بغير عوض، ولم يسلم له، فرجع إلى بدله، كالإجارة الفاسدة.
فصل:
ويجوز عقد المساقاة والإجارة على مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، وإن طالت؛ لأنه عقد يجوز عاماً، فجاز أكثر منه، كالكتابة.
فإذا عقدها على أكثر من عام، لم يجب ذكر قسط كل سنة، كما لو اشترى أعياناً بثمن واحد، وإن قدر قسط كل سنة، جاز، وإن اختلفت، نحو أن يقول: ساقيتك ثلاثة أعوام على أن لك نصف ثمرة العام الأول، وثلث الثانية، وربع الثالثة.
فإن انقضت المدة قبل طلوع ثمرة العام الآخر، فلا شيء للعامل منها؛ لأنها حدثت بعد موته، وإن ظهرت في مدته تعلق حقه بها لحدوثها في مدته.
فصل:
وحكم المساقاة والمزارعة حكم المضاربة في الجزء المشروط للعامل في كونه معلوماً مشاعاً من جميع الثمرة، وفي الاختلاف في قدره وفساد العقد بجهله، وشرط دراهم لأحدهما، أو ثمرة شجر معين، أو عمل رب المال، أو غلمانه، في ملكه للنماء بالظهور؛ لأنه عقد على العمل في مال ببعض نمائه، فأشبه المضاربة، ولو شرط له ثمرة عام غير الذي عامله فيه، لم يصح، كما لو شرط للمضارب ربح غير مال المضاربة، وإن قال: إن سقيته سيحاً، فلك الثلث، وإن سقيته بنضح، فلك النصف، وإن زرعت(2/164)
في الأرض حنطة فلك النصف، وإن زرعت شعيراً، فلك الثلث، لم يصح؛ لأنه عقد على مجهول، فلم يصح، كبيعتين في بيعة، ويتخرج أن يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته رومياً، فلك درهم، وإن خطته فارسياً، فلك نصف درهم.
فصل:
وإن ساقاه على بستانين بالنصف من هذا، والثلث من الآخر صح، أو على أنواع جعله له من كل نوع قدراً، أو جعل له في المزارعة نصف الحنطة وثلث الشعير، وهما يعلمان قدر كل نوع، أو كان البستان لاثنين، فساقياه على نصف ثمرة نصيب أحدهما، وثلث ثمرة الآخر، وهم يعلمونه، صح؛ لأنه معلوم فصح، كما لو كانا في عقدين، وإن لم يعلموا، لم يصح؛ لأنه مجهول، ولو قال: ما زرعت فيها من حنطة فلك نصفه، وما زرعت من شعير فلك ثلثه، لم يصح؛ لأنه مجهول.
فصل:
وينعقد بلفظ المساقاة؛ لأنه موضوعها، وبما يؤدي معناه؛ لأنه المقصود المعنى، ولا يثبت فيها خيار الشرط، وإن قلنا بلزومها؛ لأنه لا يمكن رد المعقود عليه إذا فسخ، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما: لا يثبت؛ لأنه لا يثبت فيها خيار الشرط، فأشبه النكاح.
والثاني: يثبت؛ لأنه عقد لازم يقصد به المال، فأشبه البيع.
فصل:
ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها، كالحرث وآلته وبقره واستقاء الماء، وإصلاح طرقه وقطع الشوك، والحشيش المضر، واليابس من الشجرة، وزبار الكرم، وتسوية الثمرة، والحفظ والتشميس، وإصلاح موضعه، ونحو ذلك، وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل، كسد الحيطان وإنشاء الأنهار، وحفر بئر الماء، وعمل الدولاب ونصبه، قال أصحابنا: والثور الذي يديره؛ لأن هذا يراد لحفظ الأصل، ولهذا من أراد إنشاء بستان، عمل هذا كله، وقيل: ما يتكرر من كل عام، فعلى العامل، وما لا يتكرر فعلى رب المال، والجذاذ والحصاد واللقاط على العامل، نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر إلى يهود، على أن يعملوها من أموالهم، وهذا من العمل مما لا تستغني عنه الثمرة، أشبه التشميس، وعنه: إن الجذاذ عليهما؛ لأنه يوجد بعد تكامل الثمر، وهذا ينتقض بالتشميس، فإن شرط على أحدهما ما يلزم الآخر، فقد نص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: على الجذاذ عليهما، ويصح شرطه على العامل، فيخرج في سائر العمل مثل(2/165)
ذلك، قياساً عليه، وقال القاضي: تفسد المساقاة؛ لأنه ينافي مقتضاها، أشبه ما لو شرط عمل المضاربة على رب المال.
فصل:
والعامل أمين، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، أو يدعى عليه من خيانة، أو تفريط، وإن ثبتت خيانته، ضم إليه من يشرف عليه، ولا تزال يده عن العمل؛ لأنه يمكن استيفاؤه منه، فإن لم ينحفظ، استؤجر من ماله من يعمل عنه؛ لأنه تعذر استيفاؤه منه، فاستوفى بغيره، وإن هرب، فهو كفسخه إن قلنا بجواز العقد، وإن قلنا بلزومه، رفع الأمر إلى الحاكم، ليستأجر من ماله من يعمل عنه.
فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، فإن لم يجد، فللمالك الفسخ؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه، فأشبه ما لو استأجر داراً فتعذر تسليمها، ثم إن فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء للعامل؛ لأن الفسخ لأمر من جهته، وإن كانت ظاهرة، فهي بينهما، وإن لم يفسخ رب المال، استأذن الحاكم في الإنفاق، ثم رجع بما أنفق، فإن لم يجد حاكماً، أشهد على الإنفاق بشرط الرجوع، ورجع به؛ لأنه حال ضرورة، وإن أنفق من غير استئذان الحاكم مع إمكانه، ففي الرجوع وجهان، بناء على قضاء دينه بغير إذنه، وإن عجز العامل عن العمل، لضعفه أو عن بعضه، أقام مقامه من يعمله، فإن لم يفعل، فهو كهربه، وإن استأذن رب المال، فأنفق بإذنه، رجع عليه.
فصل:
فإن مات العامل، أو رب المال، وقلنا: يلزم العقد، قام الوارث مقامه؛ لأنه عقد لازم، أشبه الإجارة.
فإن كان الميت العامل، فأبى الوارث الإتمام، أو لم يكن وارث، استؤجر من التركة من يعمل، فإن لم يجد، تركة، فلرب المال الفسخ، ولا يقترض عليه؛ لأنه لا ذمة له، وإذا فسخ، فالحكم على ما ذكرنا.
فصل:
فإن بان الشجر مستحقاً، رجع العامل على من ساقاه بالأجرة؛ لأنه لم يسلم له العوض، فرجع على من استعمله.
فإن كانت الثمرة باقية، أخذها ربها، وإن كانت تالفة، ضمنها لمن شاء منهما، فإن ضمنها للغاصب، ضمنه جميعها؛ لأنه حال بينه وبينه، وإن ضمنها العامل، ضمنه النصف؛ لأنه لم يحصل في يده غيره، ويحتمل أن يضمنه الجميع؛ لأن يده ثبتت عليه، وعمل فيه، فضمنه، كالعامل في القراض.(2/166)
[باب المزارعة]
وهي: دفع الأرض إلى من يزرعها بجزء من الزرع، وتجوز في الأرض البيضاء والتي بين الشجر، لخبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وما ذكرنا في المساقاة، وأيهما أخرج البذر، جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر معاملة، ولم يذكر البذر، وفي ترك ذكره دليل على جوازه من أيهما كان، وفي بعض لفظ الحديث ما يدل على أنه جعل البذر عليهم؛ لقول ابن عمر: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخل خيبر وأرضها إليهم على أن يعملوها من أموالهم» .
رواه مسلم، وفي لفظ: «على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها» وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان يدفع الأرض على أن من أخرج البذر، فله كذا، ومن لم يخرجه، فله كذا، وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يشترط كون البذر من رب الأرض؛ لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال من رب المال، كالمساقاة والمضاربة، فإن شرطه على العامل أو شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي، فسدت المزارعة، ومتى فسدت، فالزرع لصاحب البذر؛ لأنه من عين ماله، ولصاحبه عليه أجرة مثله.
فصل:
فإن دفع بذراً إلى ذي أرض؛ ليزرعه فيها بجزء، لم يصح؛ لأن البذر لا من العامل ولا من رب الأرض.
فإن قال: أنا أزرع أرضي ببذري وعواملي على أن سقيها من مائك بجزء، لم يصح؛ لأن المزارعة معاملة على الأرض، فيجب أن يكون العمل فيها من غير صاحبها، وعنه: أنه يصح، اختارها أبو بكر؛ لأنه لما جاز أن يكون عوض العمل جزءاً مشاعاً، جاز أن يكون عوض الماء كذلك، وإن كانوا ثلاثة، من أحدهم الأرض، ومن آخر العمل، ومن آخر البذر، والزرع بينهم، فهي فاسدة، لما ذكرنا في أول الفصل.
فصل:
فإن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث الخارج منها.
فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يصح، واختلف أصحابه، فقال أكثرهم: هي إجارة صحيحة، يشترط فيها شروط الإجارة، وقال أبو الخطاب: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فيشترط فيها شروط المزارعة، وحكمها حكمها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له أرض، فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام» مسمى رواه أبو داود، ولأن هذا مجهول فلم يجز أن يكون عوضاً في الإجارة.
كثلث نماء أرض أخرى.(2/167)
فصل:
وحكم المزارعة حكم المساقاة فيما ذكرناه، ومن الجواز واللزوم، وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها؛ لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها، وإن كانت الأرض شجر فقال: ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف، أو قال: ساقيتك على الشجر بالنصف، وزارعتك الأرض بالثلث، جاز؛ لأنهما عقدان يجوز إفرادهما، فجاز جمعهما، كعينين.
فصل:
ومتى سقط من الحب شيء، ثم نبت في عام آخر، أو سقط من حب المستأجر، ثم نبت في عام آخر، فهو لصاحب الأرض؛ لأن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف، بدليل أن لكل أحد التقاطه، فسقط، كما لو سقط النوى، فنبت شجراً.(2/168)
[كتاب الإجارة]
وهي بيع المنافع، وهي جائزة في الجملة؛ لقول الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] .
الآيتين، وقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان، وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع، وينعقد بلفظ الإجارة والكري؛ لأنه لفظ موضوع لها، وفي لفظ البيع وجهان: أحدهما: ينعقد به؛ لأنها صنف منه.
والثاني: لا تنعقد به؛ لأنها تخالفه في الاسم والحكم، فلم تنعقد بلفظه، كالنكاح.
فصل:
وتجوز إجارة الظئر للرضاع، والراعي لرعاية الغنم، للآيتين، واستئجار الدليل، ليدل على الطريق؛ لأنه ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجرا رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» .
رواه أحمد والبخاري، وإجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقاء عينها دائماً، قياساً على المنصوص عليه، وتجوز إجارة النقود للتحلي والوزن، واستئجار شجر ليجفف عليها الثياب، والغنم لتدوس الزرع والطين؛ لأنها منفعة مباحة يجوز أخذ(2/169)
العوض عنها في غير هذه الأعيان، فجاز فيها، كالبيع، ولا يجوز عقدها على ما لا نفع فيه، مثل أن يستأجر للزرع سبخة لا تنبت، أو لا ماء لها يكفي.
فإن كان لها ماء معتاد، كماء العيون والأنهار، والمد بالبصرة، والمطر في موضع يكتفى به، جاز، وإن كانت الأرض على نهر يستقى بزيادته، كالنيل والفرات، وتسقيها الزيادة المعتادة، جازت إجارتها؛ لأن الغالب وجودها، فهي كالمطر لغيرها، وإن كان لا يسقيها إلا زيادة نادرة، فاستأجرها بعد الزيادة، صح؛ لأنها معلومة، وإن استأجرها قبلها، لم يصح؛ لأنه لا يعلم وجودها، فهي كبيع الطير في الهواء، وإن استأجرها، ولم يذكرها للزراعة، وكانت تصلح لغيرها، صح، وإن لم تصلح لغيرها، لم يصح؛ لأن نفعها معدوم، وإن غرقت الأرض فاكتراها لزرع ما لا ينبت في الماء، كالحنطة، وللماء مغيض يمكن فتحه فينحسر الماء، ويمكن زرعها، صح؛ لأنه يمكن زرعها بفتحه، كما يمكن سكنى الدار بفتحها، وإن علم أنه ينحسر عادة، صح؛ لأنه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع.
فإن لم يعلم هل ينحسر أو لا؟ لم يصح، لما ذكرنا، وإن اكترى أرضاً على نهر تغرق بزيادته المعتادة، لم يصح؛ لأنه غير منتفع بها عادة.
فإن كانت بخلاف ذلك، صح.
فصل:
ولا يجوز عقد الإجارة على المنافع المحرمة، كالغناء والنياحة والزمر، ولا إجارة داره لمن يتخذها كنيسة، أو بيت نار، أو يبيع فيها الخمر ونحوه؛ لأنه محرم، فلم تجز الإجارة لفعله، كإجارة الأمة للزنا، ولا يجوز استئجار رجل ليكتب له غناء أو نوحاً، أو شيئاً محرماً لذلك، ولا يجوز استئجاره ليحمل خمراً، ليشربها لذلك، وعنه: فيمن حمل خنزيراً، أو ميتة لنصراني، أكره أكل كرائه، ولكن يقضى له بالكراء، وإذا كان لمسلم، فهو أشد.
قال القاضي: هذا محمول على أنه استأجره ليرقيها، أما للشرب، فمحظور، لا يحل أخذ الأجرة عليه، وإن استأجر حجاماً ليحجمه، جاز، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه» .
متفق عليه.
قال ابن عباس: ولو كان حراماً ما أعطاه أجره، ويكره للحر أكل أجره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كسب الحجام خبيث: وقال: أطعمه عبدك أو خادمك» وقال القاضي: لا تصح إجارته لهذا الحديث.
فصل:
ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» .
أخرجه البخاري، ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه الولد، وهو محرم، لا قيمة له، فلم يجز أخذ عوضه، كالدم، ولا يجوز إجارة النقود، ليجمل بها الدكان(2/170)
لأنها لم تخلق لذلك، ولا تراد له، فبذل العوض فيه من السفه، وأخذه من أكل المال بالباطل، وكذلك استئجار الشمع للتجميل به، أو ثوب ليوضع على سرير الميت لا يجوز ذلك.
فصل:
ولا يجوز عقد الإجارة على ما تذهب أجزاؤه بالانتفاع به، كالمطعوم والمشروب، والشمع ليسرجه، والشجر يأخذ ثمرته، والبهيمة يحلبها؛ لأن الإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين، كما لو استأجر ديناراً لينفقه إلا في الظئر تجوز للرضاع؛ لأن الضرورة تدعو إليه، لبقاء الآدمي، ولا يقوم غيرها مقامها.
فصل:
ولا تجوز إجارة ما يسرع فساده، كالرياحين؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها دائماً، فجرت مجرى المطعوم، فإن كانت مما تبقى عينه دائماً كالعنبر، جازت إجارته للشم، لما تقدم.
فصل:
وما يخص فاعله أن يكون من أهل القربة، وهم المسلمون، كالحج وتعليم القرآن، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز الاستئجار عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» .
رواه البخاري، وأباح أخذ الجعل عليه، ولأنه فعل مباح، فجاز أخذ الأجرة عليه، كتعليم الفقه.
والثانية: لا يجوز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً» رواه أبو داود، ولأنه لا يقع إلا قربة لفاعله، فلم يجز أخذ العوض عليه كالصلاة.
فأما الاستئجار لتعليم الفقه والشعر المباح فيجوز؛ لأن فاعله لا يختص أن يكون من أهل القربة، فجاز كبناء المساجد، وفي إجارة المصحف وجهان، بناء على بيعه.
فصل:
قال بعض أصحابنا: لا يجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجراه معاً؛ لأنه لا يمكنه تسليم حصته إلى المستأجر، إلا بموافقة الشريك، وقال أبو حفص: يجوز؛ لأنه يصح بيعه ورهنه، فصحت إجارته، كالمفرد.(2/171)
فصل:
ولا بأس أن يؤجر نفسه من الذمي، نص عليه؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجر نفسه يهودياً، يسقي له كل دلو بتمرة، وأخبر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره» وأكل أجرته، ولا يؤجر نفسه لخدمته؛ لأنه يتضمن إذلال المسلم للكافر فلم يجز، كبيعه إياه، ويتخرج الجواز؛ لأنه عاوضه عن منفعة، فجاز، كإجارته لعمل شيء.
فصل:
والإجارة على ثلاثة أضرب.
إجارة عين معينة، كالدور، وموصوفة في الذمة، كبعير للركوب، وعقد على عمل في الذمة، كخياطة ثوب وحمل متاع؛ لأن البيع يقع في عين حاضرة وموصوفة، ومقدر معلوم، كقفيز من صبرة، فكذلك الإجارة.
فإن كانت الإجارة لعين معينة، اشترط معرفتها برؤية أو صفة إن كانت تنضبط بالصفات، كالحيوان، فإن لم تنضبط كالدار، والأرض، فلا بد من رؤيتها، كما يشترط ذلك في البيع، وفي استئجار عين لم يرها، ولم توصف له وجهان، بناءً على بيعها، ويشترط معرفة المنفعة، فإن كان لها عرف، كسكنى الدار، لم يحتج إلى ذكرها؛ لأنها لا تكترى إلا لذلك، فاستغنى عن ذكرها، كالبيع بثمن مطلق، في موضع فيه نقد معروف، وإن اكترى أرضاً، احتاج إلى ذكر ما يكتري له، من غراس أو بناء، أو زرع؛ لأنها تكترى لذلك كله، وضرره يختلف، فوجب بيانه، وإن أجرها للزرع مطاقاً صح، وله زرع ما شاء؛ لأنه يجوز أن يستأجرها لأعظم الزرع ضرراً، فإذا أطلق العقد تناوله بإطلاقه، ودخل فيه ما دونه، وإن قال: لتزرعنها ما شئت، فهو أولى بالصحة، لتصريحه بذلك، وإن اكتراها لزرع معين، فله زرعه ومثله في الضرر ودونه؛ لأن الزرع إنما ذكر لتقدير منفعة الأرض، فلم يتعين، كما لو اكترى للسكنى، كان له أن يسكن غيره، وإن قال: لتزرعها أو تغرسها لم يصح؛ لأنه لم يعين، أشبه ما لو باعه أحد هذين العبدين، وإن قال: لتزرعها وتغرسها ما شئت، صح، وله ما شاء منهما؛ لأنه جعلهما له، فملكهما كالنوع الواحد.
فصل:
وإن اكترى ظهراً للركوب، اشترط معرفته، برؤية أو صفة لأنه يصح بيعه بهما، وذكر المهملج والقطوف من الخيل؛ لأن سيرهما يختلف، ومعرفة ما يركب به من سرج أو غيره؛ لأنه يختلف بالمركوب والراكب، ولا يحتاج إلى ذكر الذكورية والأنوثية؛ لأن التفاوت بينهما يسير، وقال القاضي: يفتقر إلى معرفته لتفاوتهما، ولا بد من معرفة الراكب برؤية أو صفة، ذكره الخرقي؛ لأن الصفة تكفي في بيع مثله، وقال الشريف: لا يجزئ فيه إلا الرؤية؛ لأن الصفة لا تأتي عليه، ولا بد من معرفة المحامل والأغطية،(2/172)
والأوطئة والمعاليق، كالقدر والسطيحة ونحوهما، إما برؤية أو صفة أو وزن، وإن اكترى ظهراً لعمل في مدة، كالحراثة والدياس والسقي والطحن، اشترط معرفة الظهر بالتعيين أو الصفة؛ لأن العمل يختلف باختلافه، وإن استأجره على عمل معين، كحراثة قدر من الأرض، ودياس زرع معين، وطحن قفزان معلومة، لم يحتج إلى معرفة الظهر؛ لأنه لا يختلف، ويحتاج في الطحن إلى معرفة الحجر، وفي السقي إلى معرفة البئر، والدولاب؛ لأنه يختلف، وإن اكترى لحمل متاع، لم يحتج إلى ذكر جنس الظهر، لعدم الغرض في معرفته ويشترط معرفة المتاع برؤية أو صفة، فيذكر جنسه من حديد أو قطن أو نحوه؛ لأن ضرره يختلف، وقدره بالوزن إن كان موزوناً، أو بالكيل إن كان مكيلاً؛ لأن البيع يصح بكلا الطريقين، وإن ذكر وزن المكيل، فهو أحصر.
وإن دخلت الظروف في وزن المتاع، استغني عن ذكرها، وإن لم تدخل وكانت معروفة لا تختلف كثيراً، صح من غير تعيينها؛ لأن تفاوتها يسير، وإن اختلفت كثيراً، اشترط معرفتها بالرؤية، أو الصفة لذلك، ولو اكترى ظهراً ليحمل عليه ما شاء، لم يصح؛ لأنه يدخل في ذلك ما يقتل البهيمة، وإن شرط أن يحمل عليها طاقتها، لم يصح؛ لأنه لا ضابط له.
فصل:
وإن استأجر راعياً مدة، صح؛ لأن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه لرعاية الغنم ثماني سنين، ويشترط معرفة الحيوان؛ لأن لكل جنس تأثيراً في إتعاب الراعي، ويجوز أن يكون على معين، وعلى موصوف في الذمة، فإن كان على موصوف في الذمة اشترط ذكر العدد؛ لأن العمل يختلف به، وإن استأجر ظئراً، اشترط معرفة الصبي بالتعيين؛ لأن الرضاع يختلف به، ولا تأتي عليه الصفة، وإن استأجر رجلاً ليحفر له بئراً، أو نهراً، اشترط معرفة الأرض؛ لأن الغرض يختلف باختلافها ومعرفة الطول والعرض، والعمق؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله، وإن استأجره لبناء حائط، اشترط ذكر طوله وعرضه وعلوه، وآلته من لبن أو طين أو غيره؛ لأن الغرض يختلف بذلك كله، وإن استأجره لضرب لبن، اشترط معرفته الماء والتراب والطول والسمك والعرض والعدد، وعلى هذا جميع الأعمال التي يستأجر عليها.
فإن كان في ما يختلف فيها الغرض ما لا يعرفه، رجع فيه إلى أهل الخبرة به، ليعقد على شرطه، كما لو أراد النكاح، من لا يعرف شروطه، رجع إلى من يعرفه ليعرفه شروطه، وإن عجز عن معرفته، وكل فيه من يعرفه ليعقده.
فصل:
ويشترط معرفة قدر المنفعة؛ لأن الإجارة بيع، والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر، ولمعرفتها طريقان:(2/173)
أحدهما: تقدير العمل، كخياطة ثوب معين، والركوب، أو حمل شيء معلوم إلى مكان معين.
والثاني: تقدير المدة كسكنى شهر، فإن كانت المنفعة لا تتقدر بالعمل، كالتطيين والتجصيص، فإن مقداره يختلف في الغلظ والرقة، وما يروي الأرض من الماء، يختلف باختلاف الأرض واحتياجها إلى الماء، وما يشبع الصبي في الرضاع، يختلف باختلاف الصبيان، والأحوال، والسكنى ونحوها، فلا يجوز تقديره إلا بالمدة، لتعذر تقديره بالعمل، وما يتقدر بالعمل، كاستئجار الظهر للحرث والحمل والطحن والدياس، والعبد للخدمة، جاز تقديره بالعمل، فإن شرط تقديره بالعمل والمدة فقال: استأجرتك لتحرث لي هذه الأرض في شهر، لم يصح؛ لأنه إن حرثها في أقل من شهر، أو فرغ الشهر قبل حرثها، فطولب بتمام ما بقي، كان زيادة على المشروط، وإن لم يتمم، كان نقصاً، وعن أحمد ما يدل على الصحة؛ لأن الإجارة معقودة للعمل، والمدة مذكورة للتعجيل، فجاز كالجعالة، ويشترط فيما قدر بمدة، معرفة المدة؛ لأنها الضابطة للمعقود عليه، فإن قدرها بسنة أو شهر، كان ذلك بالأهلة؛ لأنها المعهودة في الشرع، فوجب حمل المطلق عليها، فإن كان ذلك في أثناء شهر، عد باقيه، ثم عد أحد عشر شهراً بالهلال، ثم كمل الأول بالعدد ثلاثين يوماً؛ لأنه تعذر إتمامه بالهلال فكمل بالعدد، وحكي فيه رواية أخرى: أنه يستوفي الجميع بالعدد؛ لأنه يجب إتمام الشهر مما يليه، فيصير ابتداء الثاني في أثنائه، وكذلك ما بعده، وإن عقد على سنة رومية، وهي: ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع، وهما يعلمان ذلك، جاز، وإن جهلاها أو أحدهما، لم يصح؛ لأن المدة مجهولة عنده، والحكم في مدة الإجارة، كالحكم في مدة السلم على ما مضى فيه.
فصل:
وتجوز الإجارة مدة لا تلي العقد، مثل أن يؤجره شهر رجب وهو في صفر، سواء كانت فارغة أو مؤجرة مع المستأجر، أو غيره؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها، فجاز عليها مفردة، كالتي تلي العقد، ويحتاج إلى ذكر ابتدائها؛ لأنها أحد طرفي المدة، فاحتيج إلى معرفتها كالانتهاء، فإن كانت تلي العقد فابتداؤها منه، ولا يحتاج إلى ذكرها؛ لأنها معلومة.
فصل:
فإن قال: أجرتكها كل شهر بدرهم، فالمنصوص أنه صحيح، وذهب إليه الخرقي والقاضي؛ لكن تصح في الشهر الأول بإطلاق العقد؛ لأنه معلوم يلي العقد وأجرته معلومة، وما بعده يصح العقد فيه بالتلبس به، ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل(2/174)
شهر؛ «لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة، وجاء به إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل منه» وذهب أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى بطلانه؛ لأن العقد على كل الشهور، وهي مبهمة مجهولة، فلم يصح، كما لو جعل أجرتها في الجميع شيئاً واحداً.
فصل:
ويشترط في صحة الإجارة ذكر الأجرة؛ لأنه عقد يقصد فيه العوض فلم يصح من غير ذكره كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع، ويشترط أن تكون معلومة لذلك، ويحصل العلم بالمشاهدة أو بالصفة كالبيع، وفي وجه آخر، لا بد من ذكر قدره وصفته؛ لأنه ربما انفسخ العقد، ووجب رد عوضه بعد تلفه، فاشترط معرفة قدره ليعلم بكم يرجع، كرأس مال السلم، وقد ذكرنا وجه الوجهين في السلم، وتجوز بأجرة حالة ومؤجلة؛ لأن الإجارة كالبيع، وذلك جائز فيه، فإن أطلق العقد وجبت به حالة، ويجب تسليمها بتسليم العين؛ لأنها عوض في معاوضة، فتستحق بمطلق العقد كالثمن، وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة، استحق استيفاء الأجرة عند انقضاء العمل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ولأنه أحد العوضين، فلزم تسليمه عند تسليم الأجر كالبيع، وإن شرطا تأجيلها، جاز إلا أن يكون العقد على منفعة في الذمة، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه عوض في الإجازة، فجاز تأجيله، كما لو كان على عين.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم.
فصل:
ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته، سواء جعل ذلك جميع الأجرة أو بعضها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله أخي موسى، أجر نفسه ثماني سنين، على طعام بطنه وعفة فرجه» رواه ابن ماجة ولأن العادة جارية به من غير نكير، فأشبه الإجماع.
فإن قدر الطعام والكسوة، فحسن، وإن أطلق، جاز، ويرجع في القوت إلى الإطعام في(2/175)
الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله، ولأن لذلك عرفاً في الشرع، فحمل الإطلاق عليه.
فصل:
وإذا استوفى المنفعة، استقرت الأجرة؛ لأنه قبض المعقود عليه، فاستقر بدله، كما لو قبض المبيع، وإن سلم إليه العين مدة يمكن الاستيفاء فيها، استقرت الأجرة عليه؛ لأن المعقود عليه تلف تحت يده، فأشبه تلف المبيع تحت يده، وإن عرض عليه العين ومضت مدة، يمكن الاستيفاء فيها، استقرت الأجرة؛ لأن المنافع تلفت باختياره، فأشبه تلف المبيع بعد عرضه على المشتري، وإن كان العقد على عمل في الذمة، لم تستقر الأجرة إلا باستيفاء العمل؛ لأنه عقد على ما في الذمة، فلم يستقر عوضه ببذل التسليم كالمسلم فيه وإن كان العقد فاسداً، لم يستقر ببذل التسليم، كما لا يستقر ببذل المبيع، ويجب باستيفائها؛ لأنه استوفاها بشبهة عقد، وإن قبض العين ومضت مدة يمكن استيفاء المنفعة فيها، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجب شيء؛ لأنه عقد فاسد على منفعة لم يستوفها، فلم يجب العوض كالنكاح.
والثانية: يجب أجر المثل؛ لأن البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك الإجارة.
فصل:
ويجوز أن يكتري الرجلان ظهراً، يتعاقبان عليه، وأن يكتري الرجل عقبة يركب في بعض الطريق إذا كان ذلك معلوماً؛ لأنه يجوز العقد على جميعه، فجاز على بعضه، كالزمان، فإن كان في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد مطلقاً، وحمل على العادة، كالنقد في البيع، وإن لم يكن فيه عادة، اشترط بيان ما يركب؛ لأنه غير معلوم، فوجب بيانه كالثمن، وإن اختلفا في البادئ منهما، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الملك، فقدم أحدهما بالقرعة، كما في القسمة.
فصل:
إذا دخل حماماً، أو قعد مع ملاح في سفينة، فعليه أجرهما وإن لم يعقدا معه إجارة؛ لأن العرف جار بذلك، فجرى مجرى الشرط، كنقد البلد، وكذلك إن دفع ثوبه إلى خياط، أو قصار، منتصبين لذلك، أو مناد، أو رجل معروف بالبيع بالأجر ليبيعه، فلهم أجر أمثالهم لذلك، وإن دفع كتاباً إلى رجل ليحمله إلى صاحب له بأجر، فحمله فوجد صاحبه غائباً فله الأجر للذهاب؛ لأنه فعل ما استأجره عليه، وللرد؛ لأنه بإذنه(2/176)
تقديراً إذ ليس سوى رده إلا تضييعه، وقد علم أنه لا يرضى تضييعه، فتعين رده.
فصل:
إذا آجره مدة تلي العقد، لم يجز شرط الخيار؛ لأنه يمنع التصرف فيها أو في بعضها فينقص عما شرطاه، وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما،: لا يثبت لذلك.
والثاني: يثبت لأنه يسير، وإن كانت لا تلي العقد، ثبت فيها الخياران؛ لأنها بيع ولا مانع من ثبوته فيها، وكذلك إن كانت على عمل في الذمة، أو على منفعة عين في الذمة ثبتا فيها لذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ما يجوز فسخ الإجارة وما يوجبه]
وهي: عقد لازم ليس لواحد منهما فسخها؛ لأنها بيع فأشبهت بيوع الأعيان، إلا أن يجد العين معيبة، فيملك الفسخ بما يحدث من العيب؛ لأن المنافع لا يحصل قبضها إلا بالاستيفاء، فهي كالمكيل يتعيب قبل قبضه، فإن بادر المكتري إلى إزالة العيب من غير ضرر يلحق المستأجر، كدار تشعثت فأصلحها، فلا خيار للمستأجر لعدم الضرر، وإلا فله الفسخ، فإن سكنها مع عيبها، فعليه الأجرة علم أو لم يعلم؛ لأنه استوفى جميع المعقود عليه معيباً، مع علمه به، فلزمه البدل، كالمبيع المعيب إذا رضيه، وإن كان العقد على موصوف في الذمة فرد بعيب، لم ينفسخ العقد، ويطالب ببدله، فإن تعذر بدله، فله الفسخ، لتعذر المعقود عليه، كما لو وجد بالسلم عيباً فرده، والعيب ما تنقص به المنفعة، كانهدام حائط الدار، وتعيبه وانقطاع ماء بئرها أو تغيره، وانقطاع ماء الأرض أو نقصه، وتغير الظهر في المشي، وعرجه الفاحش وربضه، وكونه عضوضاً أو جموحاً، وضعف بصر الأجير في الخدمة ومرضه.
فأما كون الظهر خشن المشي، فليس بعيب؛ لأن المنفعة فيه كاملة، وإن اختلفا في العيب، رجع فيه إلى أهل الخبرة.
فصل:
وإن تلفت العين في يده، انفسخت الإجارة، كما لو تلف المكيل قبل قبضه، وإن تلفت قبل مضي شيء من المدة فلا أجرة عليه؛ لأنه لم يقبض شيئاً من المعقود عليه، وإن تلفت بعد مضي شيء منها، فعليه من الأجرة بقدر ما استوفى، ويسقط بقدر ما بقي، فإن كان أجرها في بعض المدة أكثر، قسمت على القيمة، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة، لم تنفسخ بالتلف، وله البدل كما لو تعيب.(2/177)
فصل:
إذا اكترى أرضاً للزرع، فانقطع ماؤها، أو داراً فانهدمت، انفسخ العقد في أحد الوجهين؛ لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت، فأشبه تلف العبد، والآخر: لا ينفسخ؛ لأنه يمكن الانتفاع بها كالسكنى في خيمة، أو يجمع فيها حطباً أو متاعاً، لكن له الفسخ؛ لأنها تعيبت، وإن ماتت المرضعة، انفسخت الإجارة، وعن أبي بكر: لا تنفسخ ويجب في مالها أجر رضاعه والمذهب الأول؛ لأن المعقود عليه تلف، فأشبه تلف عبد الخدمة، وإن مات المرتضع، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه؛ لأن غيره لا يقوم مقامه لاختلافهم في الرضاع، ولذلك وجب تعيينه، ولم استأجر رجلاً ليقلع ضرسه فبرئ، أو ليكحل عينه فبرئت، أو ليقتص له فمات المقتص منه، أو عفي عنه، انفسخ العقد؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، وإن استأجر للحج فمات، ففيه وجهان: أحدهما: تنفسخ الإجارة؛ لأنه تعذر الاستيفاء بموته، أشبه موت المرتضع.
والثاني: لا تنفسخ، ويقوم وارثه مقامه، كما لو كان المستأجر داراً، وإن لم يمت لكن تلف ماله، لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه سليم.
فصل:
فإن غصبت العين المستأجرة، فللمستأجر الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ، فالحكم فيه كالفسخ بتلف العين، وإن لم ينفسخ حتى انقضت المدة، خير بين الفسخ والرجوع على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب بأجر المثل، وبين إمضاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل؛ لأن المنافع تلفت في يد الغاصب، فأشبه ما لو أتلف المبيع أجنبي، وإن كان العقد على موصوف في الذمة، طولب المؤجر بإقامة عين مقامها، فإن تعذر، فله الفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه.
فصل:
فإن أجر نفسه ثم هرب، أو اكترى عيناً ثم هرب بها، فللمستأجر الخيار بين الصبر والفسخ؛ لأن فيه تأخير حقه، فأشبه ما لو اشترى مكيلاً فمنعه قبضه، وإن كانت الإجارة على موصوف في الذمة، استؤجر من ماله من يعمله، كما لو هرب قبل تسليم المسلم فيه، فإن لم يكن، فللمستأجر الخيار بين الفسخ والصبر إلى أن يقدر عليه فيطالبه بالعمل، كما لو تعذر تسليم المسلم فيه، وإن كانت الإجارة على مدة انقضت في هربه، بطلت الإجارة؛ لأنه أتلف المعقود عليه، فأشبه ما لو باعه مكيلاً فأتلفه قبل تسليمه.
فصل.(2/178)
وإن أجر عبده، ثم أعتقه، لم تنفسخ الإجارة؛ لأنه عقد على المنفعة فلم تنفسخ بالعتق، كالنكاح، ولا يرجع العبد بشيء؛ لأن منفعته استحقت بالعقد قبل العتق، فلم يرجع ببدله، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ونفقته على سيده؛ لأنه يملك بدل منفعته، فهو كالباقي على ملكه.
فصل:
وإن أجر عيناً، ثم باعها، صح البيع؛ لأنه عقد على المنفعة، فلم يمنع البيع كالنكاح، ولا تبطل الإجارة قياساً على النكاح، وإن باعها من المستأجر، صح لذلك، وفي الإجارة وجهان: أحدهما: تبطل لأنها عقد على المنفعة، فأبطلها ملك الرقبة كالنكاح، فعلى هذا يسقط من الأجرة بقدر ما بقي من المدة.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه عقد على الثمرة، فلم تبطل بملك الأصل، كما لو اشترى ثمرة شجرة ثم ملك أصلها، ومتى وجد المستأجر عيباً ففسخ به، رجع على المؤجر؛ لأن عوض الإجارة له، فالرجوع عليه، وإن كان المستأجر هو المشتري فكذلك، إن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، وإن قلنا: تنفسخ، لم يرجع على أحد.
فصل:
ولا تنفسخ الإجارة بموت المتكاريين، ولا موت أحدهما؛ لأنه عقد لازم، فلا يبطل بموت المتعاقدين مع سلامة المعقود عليه كالبيع، وإن أجر عيناً موقوفة عليه، ثم مات ففيه وجهان: أحدهما: لا تبطل؛ لأنه أجر ما له إجارته شرعاً، فلم تبطل بموته كما لو أجر ملكه، ولكن يرجع البطن الثاني في تركة المؤجر بأجر المدة الباقية، إن كان قبضها؛ لأن المنافع لهم فاستحقوا أجرتها.
والثاني: تبطل فيما بقي من المدة؛ لأننا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره، فإن المنافع بعد موته لغيره بخلاف المالك، فإن ورثته إنما يملكون ما خلفه، وما خرج عن ملكه بالإجارة في حياته، غير مخلف فلم يملكوه، والأمر إلى من انتقل إليه الوقف في إجارته أو تركه، فعلى هذا يرجع المستأجر على المؤجر بأجرة بقية المدة، وإن أجر الولي الصبي، أو ماله مدة فبلغ في أثنائها، ففيه وجهان أيضاً كهذين.(2/179)
[باب ما يلزم المتكاريين وما لهما فعله]
يجب على المكري ما يحتاج إليه من التمكين، من الانتفاع، كمفتاح الدار، وزمام الجمل والقتب والحزام، ولجام الفرس وسرجه؛ لأن عليه التمكين من الانتفاع، ولا يحصل إلا بذلك، وما تلف من ذلك في يد المكتري، لم يضمنه، كما لا يضمن العين، وعلى المكري بدله، لأن التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفي المكتري المنفعة.
فأما ما يحتاج إليه لكمال الانتفاع، كالحبل والدلو والمحمل والغطاء، والحبل الذي يقرن به بين المحملين فهو على المكتري؛ لأن ذلك يراد لكمال الانتفاع فأشبه بسط الدار.
فصل:
وعلى المكري رفع المحمل وحطه، ورفع الأحمال وسوق الظهر وقوده؛ لأن ذلك العادة، فحمل العقد عليه. وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض؛ لأنه لا يمكن فعله راكباً، وليس ذلك عليه للأكل والنفل؛ لأنه ممكن على الظهر، وعليه أن يبرك الجمل للمرأة وللمريض والضعيف، وإن كانت الإجارة على تسليم الظهر، لم يكن عليه شيء من ذلك، فأما أجرة الدليل، فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب في البلد فعلى المكري؛ لأنه من مؤنة التحصيل، وإن كانت على تسليم الظهر، أو على مدة، فهو على المكتري؛ لأن الذي على المكري تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش والبالوعة؛ لأنه من التمكن، فإن امتلأ في يد المكتري، فعليه كسحه؛ لأنه ملأه فكان عليه إزالته، كتنظيف الدار، وعلى المكري إصلاح ما انهدم من الدار، وتكسر من خشب؛ لأنه من التمكين وإذا استأجر ظئراً للرضاع وشرط الحضانة، وهي خدمة الصغير وغسل خرقه لزمها، وإن لم يشترطه عليها، لم يلزمها إلا الرضاع؛ لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى، فلم تلزم إحداهما بالعقد على الأخرى، وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمكتري مطالبتها به؛ لأنه من التمكين، ويضر الصبي تركه.
فصل:
وعلى المكتري علف الظهر وسقيه؛ لأنه من التمكين، فإن هرب، وترك جماله، رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف، فإن لم يجد له مالاً، اقترض عليه، فإن اقترض من المكتري، أو أذن له في الإنفاق عليها قرضاً، جاز؛ لأنه موضع حاجة، وإن كان في الجمال فضل عن المكتري، باعه وأنفق منه، فإذا رجع الجمال، أو اختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق؛ لأنه أمين إذا كانت دعواه لقدر النفقة بالمعروف، وما زاد لا يرجع به؛ لأنه متطوع، فإن أنفق من غير إذن الحاكم مع إمكانه، وأشهد على(2/180)
ذلك، فهل يرجع به؟ على وجهين بناء على من ضمن دينه بغير إذنه، وإن لم يجد من يشهد فأنفق، ففي الرجوع وجهان.
أصحهما: يرجع به؛ لأنه موضع ضرورة فأشبه ما لو أنفق على الآبق في رده، وإذا وصل دفع الجمال إلى الحاكم، ليوفي المنفق نفقته منها، ويفعل في سائرها ما يرى الحظ فيه لصاحبها، من بيعها وحفظ ثمنها، أو بيع بعضها، وإنفاقه على باقيها.
فصل:
وليس على المكتري مؤنة رد العين؛ لأنها أمانة، فلم يلزم مؤنة ردها كالوديعة، ويحتمل أن يلزمه؛ لأنه غير مأذون له في إمساكها بعد انقضاء مدتها، فلزمه مؤنة ردها كالعارية.
فصل:
وللمكتري استيفاء المنفعة بالمعروف؛ لأن إطلاق العقد يقتضي المتعارف، فصار كالمشروط، فإذا استأجر داراً للسكنى، فله وضع متاعه فيها؛ لأنه متعارف في السكنى، ويترك فيها من الطعام ما جرت عادة الساكن به لذلك، وليس له جعلها مخزناً للطعام؛ لأنه غير متعارف وفيه ضرر؛ لأن الفأر تنقب الحيطان للحصول إليه، ولا يجوز أن يربط، فيها الدواب، ولا يطرح فيها الرماد والتراب؛ لأنه غير متعارف به، وإن اكترى قميصاً ليلبسه، لم يكن له أن ينام فيه ليلاً، وله ذلك نهاراً؛ لأن العادة الخلع لنوم الليل دون النهار، وليس له أن يتزر به؛ لأنه يعتمد عليه أكثر من اللبس، وله أن يرتدي به في أحد الوجهين؛ لأنه أخف، والآخر ليس له ذلك؛ لأنه غير المتعارف في لبس القميص، وإن اكترى ظهراً في طريق، العادة السير فيه زمناً دون زمن لم يسر إلا فيه؛ لأنه المتعارف، وإن كانت العادة النزول للرواح، وكان رجلاً قوياً، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك؛ لأنه المتعارف.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنه اكترى للركوب في جميع الطريق، فلم يلزمه تركه في بعضه، وإن اكتره إلى مكة، لم يجز أن يحج عليه؛ لأنه زيادة، وإن اكتراه ليحج عليه، فله الركوب إلى منى، ثم إلى عرفة، ثم إلى مكة، وهل له أن يركبه عائداً إلى منى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد حل من الحج.
والثاني: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج.(2/181)
فصل:
وله ضرب الظهر، وكبحه باللجام، وركضه برجله للمصلحة؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب جمل جابر حين ساقه» ولأنه لا يتوصل إلى استيفاء المنفعة إلا به، فملكه كركوبه، وإن شرط حمل أرطال من الزاد، فله إبدال ما يأكل؛ لأن له غرضاً في أن يشتري الزاد من الطريق، ليخفف عليه حمله فملك بدله، كالذي يشرب من الماء.
فصل:
وله أن يستوفي النفع المعقود ومثله ودونه في الضرر، ولا يملك فوقه، ولا ما يخالف ضرر ضرره، لأنه يأخذ فوق حقه، أو غير حقه.
فإن اكترى ظهراً في طريق، فله ركوبه إلى ذلك البلد في مثله، ودونه في الخشونة، والمسافة والمخافة، ولا يركبه في أخشن منه، ولا أبعد، ولا أخوف، وإن اكترى أرضاً للغراس والبناء، فله زرعها؛ لأنه أقل ضرراً، وإن استأجرها لأحدهما لم يملك الآخر؛ لأن ضرر كل واحد منهما يخالف ضرر الآخر، وإن استأجرها للزرع لم يغرس، ولم يبين؛ لأنهما أضر منه، وإن استأجرها لزرع الحنطة، فله زرعها، وزرع ما ضرره كضررها أو أدنى، كالشعير، والبقلاء، ولا يملك زرع الدخن والذرة والقطن؛ لأن ضررها أكثر، وإن اكترى ظهراً ليحمل عليه قطناً، لم يجز أن يحمل عليه حديداً؛ لأنه أضر على الظهر لاجتماعه وثقله، وإن اكتراه للحديد، لم يحمل عليه قطناً؛ لأنه أضر لتجافيه، وهبوب الريح فيه، وإن اكتراه ليركبه، لم يحمل عليه؛ لأن الراكب يعين الظهر بحركته، وإن اكتراه للحمل، لم يملك ركوبه؛ لأن الراكب يقعد في موضع واحد، والحمل يتفرق على جنبيه، وإن شرط ركوبه عرياناً، لم يركب بسرج؛ لأنه زيادة، وإن شرط ركوبه بسرج، لم يركبه عرياناً؛ لأنه يضر بظهر الحيوان، والعارية كالإجارة في هذا؛ لأنها تمليك للمنفعة، فأشبهت الإجارة.
فصل:
وله أن يستوفي المنفعة بنفسه وبمثله، فإن اكترى داراً، فله أن يسكنها مثله، ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، وإن اكترى ظهراً يركبه، فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لما ذكرنا في الفصل قبله، فإن شرط أن لا يستوفي غير المنفعة بنفسها، ولا يستوفي مثلها، ولا دونها، ولا يستوفيها بمثله، ولا بدونه، صح الشرط؛ لأنه يملكه المنافع، فلا يملك إلا ما ملكه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه ينافي موجب الإجارة، ولا يبطل العقد؛ لأن الشرط لا يؤثر المؤجر، فلغي وبقي العقد على مقتضاه.(2/182)
فصل:
وله أن يؤجر العين؛ لأن الإجارة كالبيع، وبيع المبيع جائز، وكذلك إجارة المستأجر، ويجوز أن يؤجرها للمؤجر وغيره، كما يجوز بيع المبيع للبائع وغيره، فإن أجرها قبل قبضها، لم يجز، ذكره القاضي؛ لأنها لم تدخل في ضمانه، فلم تجز إجارتها، كبيع الطعام قبل قبضه، ويحتمل الجواز؛ لأن المنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر قبض العين فيها، ويحتمل أن تجوز إجارتها للمؤجر؛ لأنها في قبضه، ولا تجوز من غيره لعدم ذلك، وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة، كالبيع برأس المال وزيادة، وعنه: إن أحدث في العين زيادة، جازت إجارتها بزيادة، وإن لم يفعل لم يؤجرها بزيادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ربح ما لم يضمن» فإن فعل تصدق بالزيادة، وعنه: يجوز بإذن المالك، ولا يجوز بغير إذنه، والمذهب الأول.
فصل:
فإن استوفى أكثر من المنفعة بزيادة متميزة مثل إن اكترى إلى مكان، فجاوزه، أو ليحمل قفيزاً فحمل اثنين لزمه المسمى، لما عقد عليه، وأجرة المثل للزيادة؛ لأنه استوفى المعقود عليه، فاستقر المسمى ولزمته أجرة الزيادة، كما لو اشترى قفيزاً، فقبض اثنين، وإن كانت الزيادة لا تتميز، كرجل اكترى أرضاً ليزرع حنطة فزرع دخناً فكذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان، ما بين الحنطة والشعير، فيعطي رب الأرض، فأوجب المسمى وزيادة؛ لأنه لما عين الحنطة تعلق العقد بما يماثله في الضرر، فصار مستوفياً للمعقود عليه وزيادة كالتي قبلها، وقال أبو بكر: عليه أجرة المثل للجميع؛ لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمته أجرة المثل، كما لو زرع غير الأرض، ولرب الأرض منع المستأجر من زرع الأرض، فإن زرع فحكمه في ذلك حكم الغاصب على ما سيأتي.
فصل:
فإن اكترى أرضاً للزرع مدة، فليس له زرع ما لا يستحصد فيها؛ لأن عليه تسليمها، فارغة عند انتهائها، وهذا يمنع ذلك، وللمالك منعه من زرعه لذلك، فإن فعل، لم يجبر، على قلعه في المدة؛ لأنه مالك لمنفعة الأرض، فإذا انقضت ولم يحصد، خير المالك بين أخذه، ودفع نفقته، وبين تركه بالأجرة لأنه تعدى بزرعه، فأشبه الغاصب، وإن كان بقاؤه بغير تفريط، إما لشدة برد، أو قلة مطر ونحوه، فعلى المؤجر تركه بالأجرة؛ لأنه زرعه بحق، فكان عليه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزائد لا غير.(2/183)
فصل:
فإن اكتراها مدة ليزرع فيها زرعاً لا يكمل فيها، وشرط قلعه في آخرها، صح العقد والشرط؛ لأنه قد يكون له غرض صحيح فيه، وإن شرط تبقيته حتى يكمل فسد العقد لجهل المدة، ولأن شرط تبقيته تنافي تقدير مدته، وللمؤجر منعه من الزرع؛ لأن العقد فاسد، فإن زرعه، لزم إبقاؤه بشرطه؛ لأنه زرعه بإذن المالك، وإن أطلق العقد، صح؛ لأن الانتفاع بالأرض في هذه المدة ممكن، فإذا انقضت، والزرع باق، احتمل أن يكون حكمه حكم المفرط لزرعه في مدة الإجارة ما لا يكمل فيها، واحتمل أن يكون حكمه حكم غير المفرط لتفريط المؤجر بإجارة مدة لا يكمل فيها.
فصل:
وأن استأجرها للغراس مدة، جاز، وله الغرس فيها، ولا يغرس بعدها؛ لأن العقد، يقتضي التصرف في المدة دون ما بعدها، فإن غرس، فانقضت المدة، وكان مشروطاً عليه القلع عند انقضائها، أخذ بما شرطه، ولم يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه لما شرط القلع، مع علمه بأنه يحفر الأرض كان راضياً، وإن لم يكن شرط القلع، لم يجب؛ لأن تفريغ المستأجر على حسب العادة، والعادة ترك الغراس حتى ييبس، وللمستأجر قلع غرسه؛ لأنه ملكه، فإن قلعه، لزمه تسوية الحفر؛ لأنه حفرها لتخليص ملكه من ملك غيره بغير إذنه، وإن لم يقلعه، فللمؤجر دفع قيمته ليملكه؛ لأن الضرر يزول عنهما به، أشبه الشفيع في غراس المشتري، وإن أراد قلعه، وكان لا ينقص بالقلع، أو ينقص لكنه يضمن، أرش النقص، فله ذلك؛ لأن الضرر يزول عنهما به، وإن اختار إقراره بأجرة مثله، فله ذلك؛ لأن الضرر يزول عنهما به، ولصاحب الشجر بيعه للمالك ولغيره، فيكون بمنزلته؛ لأن ملكه ثابت عليه، فأشبه الشقص المشفوع، والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا.
[باب تضمين الأجير واختلاف المتكاريين]
الأجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص: هو الذي يؤجر نفسه مدة، فلا ضمان عليه فيما يتلف في يده بغير تفريط، مثل أن يأمره بالسقي، فيكسر الجرة، أو بكيل شيء، فيكسر الكيل، أو بالحرث، فيكسر آلته نص عليه، أو بالرعي، فتهلك الماشية بغير تفريطه، والمشترك: الذي يؤجر نفسه على عمل، فظاهر كلام الخرقي، أنه يضمن ما تلف بعمله، ونص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حائك دفع إليه غزل، فأفسد حياكته يضمن، والقصار ضامن لما يتخرق من مده ودقه وعصره وبسطه، والطباخ ضامن لما أفسد من طبخه، لما روى جلاس بن عمرو: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرم الله وجهه: كان يضمن الأجير، ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق، فكان ضامناً لها(2/184)
كالمستعير، وقال القاضي وأصحابه: إن كان يعمل في ملك المستأجر، كخياط أو خباز، أخذه إلى داره ليستعمله فيها، فلا ضمان عليه ما لم يتعد فيه، مثل أن يسرف في الوقود أو يلزقه قبل وقته، أو يتركه بعد وقته فيضمن؛ لأنه أتلفه بعدوانه، وما لا فلا ضمان عليه؛ لأنه سلم نفس إلى صاحب العمل، فأشبه الخاص، وإن كان العمل في غير ملك المستأجر، ضمن ما جنت يداه لما ذكرناه، ولا ضمان عليه فيما تلف من حرزه؛ لأنها أمانة في يده، فأشبه المودع، وإن حبسها على أجرتها فتلفت، ضمنها؛ لأنه متعد بإمساكها إذ ليست رهناً ولا عوضاً عن الأجرة.
فصل:
ولا ضمان على المستأجر في العين المستأجرة إن تلفت بغير تفريط؛ لأنه قبضها ليستوفي ما ملكه فيها، فلم يضمنها كالزوجة، والنخلة التي اشتراها ليستوفي ثمرتها، وإن تلفت بفعله بغير عدوان، كضرب الدابة وكبحها، لم يضمن؛ لأنها تلفت من فعل مستحق، فلم يضمنها، كما لو تلفت تحت الحمل، وإن تلفت بعدوان، كضربها من غير حاجة، أو لإسرافه فيه، ضمن؛ لأنه جناية على مال الغير، وإن اكترى إلى مكان، فتجاوزه، فهلك الظهر، ضمنه؛ لأنه متعد، أشبه الغاصب، وإن هلك بعد نزوله عنه، وتسليمه إلى صاحبه، لم يضمنه؛ لأنه برئ بتسليمه إليه إلا أن يكون هلاكه، لتعب الحمل فيضمنه؛ لأنه هلك بعدوانه، وإن حمل عليه أكثر مما استأجره، فتلف، ضمنه لذلك، وإن اكترى دابة ليركبها فركب معه آخر بغير إذن فتلفت، ضمانها الآخر كلها؛ لأن عدوانه سبب تلفها فضمنها، كمن ألقى حجراً في سفينة موقرة فغرقها، وإن تلفت الدابة، بعد عودها إلى المسافة، ضمنها؛ لأن يده صارت ضامنة، فلم يسقط عنه ذلك إلا بإذن جديد، ولم يوجد.
فصل:
ولو قال لخياط: إن كان هذا يكفيني قميصاً فاقطعه فقطعه، فلم يكفه، ضمنه؛ لأنه إنما أذن له في قطعه بشرط الكفاية ولم يوجد، وإن قال: هو يكفيك قميصاً فقال: اقطعه، فقطعه، فلم يكفه لم يضمنه؛ لأنه قطعه بإذن مطلق.
فصل:
ومن أجر عيناً فامتنع من تسليمها فلا أجرة له؛ لأنه لم يسلم المعقود عليه، فلم يستحق عوضه، كالمبيع إذا لم يسلمه، وإن سلمه بعض المدة، ومنعه بعضاً، فقال أصحابنا: لا أجرة له؛ لأنه لم يسلم ما تناوله العقد، فأشبه الممتنع من تسليم الجميع، ويحتمل أن يلزمه عوض ما استوفاه، كما باعه مكيلاً فسلم إليه بعضه، ومنعه من(2/185)
باقيه، وإن أجر نفسه على عمل، وامتنع من إتمامه، فكذلك، وإن أجر عبده فهرب، أو دابة فشردت في بعض المدة فله من الأجرة بقدر ما استوفي من المدة؛ لأن الامتناع بغير فعله، فأشبه ما لو مات، وإن تلف الثوب في يد الصانع بغير تفريطه، فلا أجرة له فيما عمل؛ لأنه لم يسلمه إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه، وإن تلف بتفريطه خير المالك بين تضمنه إياه معمولاً، ويدفع إليه أجرته، وبين تضمينه إياه غير معمول ولا أجرة له، وإن استأجر الأجير المشترك أجيراً خاصاً، فأتلف الثوب، فلا ضمان على الخاص، ويضمنه المشترك.
فصل:
وإذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو المنفعة، تحالفا؛ لأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، ثم الحكم في فسخ الإجارة، كالحكم في فسخ البيع؛ لأنها بيع، وإن اختلفا في العدوان، فالقول قول المستأجر؛ لأن الأصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، وإن اختلفا في رد العين، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المؤجر؛ لأن الأصل عدم الرد، ولأن المستأجر قبض العين لنفسه، أشبه المستعير.
والثاني: القول قول الأجير؛ لأنه أمين، فأشبه المودع، وإن هلكت العين، فقال الأجير: هلكت بعد العمل، فلي الأجرة، فأنكره المستأجر، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم العمل، وإن دفع ثوباً إلى خياط، فقطعه قباء، وقال: بهذا أمرتني، فلي الأجرة، ولا ضمان علي وقال صاحبه: إنما أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول الأجير، نص عليه؛ لأنه مأذون له في القطع، والخلاف في صفته، فكان القول قول المأذون له كالمضارب ولأن الأصل عدم وجوب الغرم، فكان القول قول من ينفيه، ويتخرج أن يقبل قول المالك؛ لأن القول قوله في أصل الإذن، فكذلك في صفته، ولأن الأصل عدم ما ينفيه، فكان القول قوله فيه.
[باب الجعالة]
وهي أن يجعل جعلاً لمن يعمل له عملاً من رد آبق أو ضالة، أو بناء، أو خياطة، وسائر ما يستأجر عليه من الأعمال فيجوز ذلك؛ لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ} [يوسف: 72](2/186)
{بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ولما روى أبو سعيد «أن ناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتوا حياً من أحياء العرب، فلم يقروهم، فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل، أو تجعلوا لنا جعلاً، فجعلوا لهم قطيع شياه، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقة ويتفل فبرئ الرجل، فأتوهم بالشياه، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي منها بسهم» .
متفق عليه.
ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها، فجاز كالإجارة، ويجوز عقد الجعالة لعامل غير معين، وعمل مجهول، فيقول: من رد ضالتي فله كذا للآية، ولأن الحاجة داعية إليه مع الجهل، فجاز كالمضاربة، ولا يجوز إلا بعوض معلوم؛ لأنه عقد معاوضة، فاشترط العلم بعوضه كالإجارة، فإن شرط مجهولاً فسد، وله أجرة المثل؛ لأنه عقد يجب المسمى في صحيحه، فوجبت أجرة المثل في فاسده كالإجارة.
فصل:
وهي عقد جائز؛ لأنها تنعقد على مجهول، فكانت جائزة كالمضاربة، وأيهما فسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل، وإن فسخه العامل قبل تمام العمل، فلا شيء له، لأنه إنما يستحق بعد الفراغ من عمله وقد تركه، وإن فسخه الجاعل بعد التلبس به، فعليه أجرة ما عمل العامل؛ لأنه إنما عمل بعوض لم يسلم له، وإن تم العمل، لزم العقد ووجب الجعل؛ لأنه استقر بتمام العمل، فأشبه الربح في المضاربة، وإن زاد في الجعل، أو نقص منه قبل الشروع في العمل، جاز؛ لأنه عقد جائز، فجازت الزيادة فيه والنقصان قبل العمل كالمضاربة.
فصل:
ولا يستحق الجعل إلا بعد فراغه من العمل؛ لأنه كذا شرط، وإن جعل له جعلاً على رد آبق فرده إلى باب الدار، فهرب، أو مات قبل تسليمه لم يستحق شيئاً؛ لأنه لم يأت بما جعل الجعل فيه، وإن قال: من رده من مصر فله دينار، فرده من نصف طريقها، أو قال: من رد عبدي، فله دينار، فرد أحدهما، فله نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل، وإن رده من أبعد من مصر، لم يستحق إلا الدينار؛ لأنه لم يضمن لما زاد شيئاً، وإن رده جماعة اشتركوا في الدينار؛ لأنهم اشتركوا في العمل.
فإن جعل لواحد في رده ديناراً، ولآخر اثنين، ولآخر ثلاثة، فلكل واحد منهم ثلث جعله، وإن جعل لواحد منهم ثوباً، فله ثلث أجرة المثل؛ لأنه عوض مجهول، فاستحق ثلث أجرة(2/187)
المثل، وإن جعل لواحد جعلاً، فأعانه آخر، فالجعل كله للمجعول له؛ لأن العمل كله له.
فإن قال الآخر: شاركته لأشاركه في الجعل، فللعامل نصف الجعل؛ لأنه عمل نصف العمل ولا شيء للآخر؛ لأنه لم يشرط له شيء.
فصل:
ومن عمل لغيره عملاً بغير جعل، فلا شيء له؛ لأنه بذل منفعته بغير عوض، فلم يستحقه، وإن التقط لقطة قبل الجعل، ثم بلغه الجعل لم يستحقه؛ لأنه وجب عليه ردها بالتقاطها، فلم يجز له أخذ العوض عن الواجب، وإن التقطها بعد الجعل، ولم يعلم بذلك لم يستحقه؛ لأنه تطوع بالالتقاط، وإن نادى غير صاحب الضالة: من ردها، فله دينار، فردها رجل، فالدينار على المنادي؛ لأنه ضمن العوض وإن قال في النداء: قال فلان: من رد ضالتي فله دينار، فردها رجل، لم يضمن المنادي؛ لأنه لم يضمن، إنما حكى قول غيره.
فصل
وإن اختلفا في الجعل أو في قدره، أو في المجعول فيه الجعل، فالقول قول المالك؛ لأنه منكر ما يدعى عليه والأصل عدمه.
فصل:
وإن رد آبقاً من غير شرط، ففيه روايتان: إحداهما: لا جعل له فيما ذكرنا.
والثانية: له الجعل؛ لأن ذلك يروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه جعل في الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً» ولأن في ذلك حثاً على رد الإباق، وصيانة عن الرجوع إلى دار الحرب، وردتهم عن دينهم، فينبغي أن يكون مشروعاً، وقدر الجعل ديناراً أو اثني عشر درهماً، لما روينا، ولأن ذلك يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه إن رده من خارج المصر فله أربعون درهماً، وإن رده من المصر، فله دينار؛ لأنه يروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسواء كان ذلك كقيمة العبد أو أقل أو أكثر، فإن مات السيد، استحق الجعل في تركته، وما أنفقه على الآبق في قوته، رجع به على سيده، سواء رده أو هرب منه في بعض الطريق.(2/188)
[باب المسابقة]
تجوز المسابقة على الأقدام والدواب وبالسهام والحراب والسفن وغيرها، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق» متفق عليه، «وسابق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على قدميه» وسابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار بين يديه، «ومر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يربعون حجراً أي يرفعونه بأيديهم ليعلم الشديد منهم، فلم ينكر عليهم» ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» رواه أبو داود.
فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعاً بينه وبين ما روينا، والمراد بالحافر الخيل خاصة، وبالخف الإبل، وبالنصل السهام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله» ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر والفر والقتال، وغير السهام لا يعتاد الرمي بها، فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس.
فصل:
والمسابقة بعوض جعالة فيه؛ لأنه عقد على ما لا يعلم القدرة على تسليمه، فأشبه رد الآبق، ولكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في المسابقة، وما لم يظهر فضل أحدهما، فإن ظهر، فللفاضل الفسخ والنقصان والزيادة ولا يجوز للمفضول، لئلا يفوت غرض المسابقة، فإنه متى بان له أنه مسبوق، فسخ، وذكر القاضي وجهاً آخر، أنها عقد لازم؛ لأن من شرطها العلم بالعوضين فكانت لازمة كالإجارة، ويجوز بذل العوض من بيت المال، ومن السلطان، ومن المتسابقين وآحاد الرعية؛ لأنه إخراج مال لمصلحة، فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، فإن بذل العوض فيها تحريض على التعلم، والاستعداد للجهاد، ومن شرط العوض كونه معلوماً لما ذكرنا في الجعالة له.
فصل:
ولا تجوز المسابقة بين جنسين، كالخيل والإبل؛ لأن تفاضل الجنسين معلوم.
فأما النوعان كالعربي والهجين، والبختي والعرابي، فقال القاضي: تجوز المسابقة بينهما؛ لأن الجنس يشملهما، فأشبها النوع الواحد، وقال أبو الخطاب: لا تصح؛ لأنهما يختلفان في الجري عادة، فأشبها الجنسين، وكذا الخلاف في المناضلة بنوعين من القسي، كالعربي والفارسي وقوس الجرح وقوس النبل لذلك.
فصل:
ويشترط تعيين المركوبين؛ لأن القصد جوهرهما، وتعيين الراميين؛ لأن القصد(2/189)
معرفة حذقهما، ولا يعتبر تعيين الراكبين ولا القوسين؛ لأنهما آلة للمقصود فلم يعتبر تعيينهما، كسرج الدابة، ويعتبر تحديد المسافة، لحديث ابن عمر، ولأنهما إذا أجريا إلى غير غاية، لم يؤمن ألا يسبق أحدهما حتى يعطبا أو أحدهما، ولا يجوز إجراؤهما إلا بتدبير الراكبين؛ لأنهما إذا جريا لأنفسهما، تنافرا ولم يمضيا إلى الغاية، ولا يجوز أن يستبقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام، فهو السابق؛ لأن هذا لا ينضبط، فإن الفرسين لا يقفان عند الغاية ليقدر ما بينهما.
فصل:
وإذا كان الجعل من غيرهم فقال: من سبق منكم، فله عشرة، صح، فإن سبق واحد، فهي له؛ لأنه سبق، وإن سبق اثنان أو أكثر، اشتركوا في السبق، وإن جاء الكل معاً، فلا شيء لهم؛ لأنهم لا سابق فيهم، وإن جعل السبق للمصلي وحده، أو فضله عن السابق، لم يصح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد أن لا يسبق فيفوت الغرض، وكذلك إن جعل للسابق عشرة وللثالث أربعة، ولم يجعل للمصلي شيئاً، لم يصح؛ لأن من عدا السابق يجتهد أن لا يسبق صاحبه، وإن سوى بين السابق والمصلي، ولا ثالث معهما، لم يصح لفوات الغرض به، وإن كان معهما ثالث نقص عنهما، صح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد في أن لا يكون الثالث، وإن جعل للمجلي وهو الأول مائة، وللمصلي وهو في الثاني تسعين، وللمسلي وهو الثالث ثمانين، وللتالي وهو الرابع سبعين، وللمرتاح وهو الخامس ستين، وللعاطف وهو السادس خمسين، وللحظي وهو السابع أربعين، وللمؤمل وهو الثامن ثلاثين، وللطيم وهو التاسع عشرين، وللحظي وهو العاشر عشرة، وللفسكل وهو الأخير خمسة، صح؛ لأن الغرض حاصل وكل واحد يجتهد في سبق الآخر، لينال أعلى من رتبته، وإن جعل كل رتبة يشترك فيه جميع من بلغها، احتمل أن يصح لذلك، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه قد يشترك في السبق جماعة، وينفرد المصلي فيفضلهم بكثرة ما جعل له فيفوت الغرض، وإن قال: من بلغ الغاية فله عشرة، لم يكن ذلك مسابقة؛ لأن مقصود المسابقة التحريض على السبق وتعلم الفروسية، وهذا يفوت بالتسوية، ولكنه جعالة محضة؛ لأنه بذل العوض في أمر فيه غرض صحيح، وكذلك إن قال: ارم عشرة اسهم، فإن كانت إصابتك أكثر من خطئك، فلك كذا، أو قال: إن أصبت بهذا السهم، فلك كذا، صح ولم يكن مناضلة لذلك.
فصل:
وإن أخرج الجعل أحد المتسابقين، جاز؛ لأن فيهما من يأخذ ولا يعطي، فلا يكون قماراً.
فإن سبق من أخرج، أحرز سبقه، ولم يأخذ من صاحبه شيئاً، وإن سبق الآخر، أحرز الجعل؛ لأنه سابق، وإن جاءا معاً فالجعل لصاحبه؛ لأنه لا سبق فيهما.(2/190)
وإن أخرجا معاً، لم يجز؛ لأنه يكون قماراً؛ لأنه ليس فيهما إلا من يأخذ إذا سبق، ويعطي إذا سبق، إلا أن يدخلا معهما ثالثاً يساوي فرسه فرسيهما، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق، فليس بقمار، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق، فهو قمار» رواه أبو داود، ولأنه مع وجود المحلل المكافئ فيهم من يأخذ ولا يعطي، فيخالف القمار.
فإن كان لا يكافئهما، فوجوده كعدمه؛ لأنه معلوم أنه لا يأخذ شيئاً، وسواء كان المحلل واحداً أو أكثر، والمسابقة بين اثنين أو حزبين؛ لأن الغرض الخروج من القمار وقد حصل على أي صفة كان.
فإذا تسابقوا فجاءوا معاً، أو جاء المستبقان معاً قبل المحلل، أحرز كل واحد منهما سبقه، ولا شيء للمحلل؛ لأنه لم يسبق ولم يسبق أحدهما صاحبه، وإن سبقهما المحلل أخذ سبقيهما؛ لأنه سبقهما، وإن سبق أحد المستبقين وحده، أحرز السبقين لسبقه، ولم يأخذ من المحلل شيئاً، وإن سبق أحدهما مع المحلل، أحرز المستبق سبق نفسه؛ لأنه غير مسبوق، وكان سبق الآخر بينه وبين المحلل نصفين، لاشتراكهما في سبقه.
فصل:
وترسل الفرسان معاً من أول المسافة في حال واحدة، ولا يجوز لأحدهما أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العدو، ولا يصلح به ولا يجلب عليه، لما روى عمران بن حصين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب في الرهان» رواه أبو داود، وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا» فإن استوى الفرسان في طول العنق فسبق أحدهما برأسه، فهو سابق، وإن اختلفا في طول العنق، أو كان بعيرين اعتبر السبق بالكتف، فمن سبق به أو ببعضه، فهو سابق، ولا عبرة بالعنق، وإن عثر أحدهما، أو ساخت قوائمه في الأرض، أو وقف لعلة، فسبقه الآخر لم يحكم له بالسبق؛ لأن سبقه إياه للعارض، لا لفضل جريه.
فصل:
وإن مات أحد المركوبين، بطلت المسابقة؛ لأن العقد تعلق بعينه، فأشبه تلف المعقود عليه في الإجارة، وإن مات الراكب، لم تبطل؛ لأنه غير المعقود عليه، وللوارث أن يقوم مقامه، وله أن لا يفعل؛ لأن العقد جائز، ومن جعله لازماً، ألزمه. أن يقوم مقامه، كالإجارة.(2/191)
[باب المناضلة]
وهي المسابقة بالرمي وتجوز بين اثنين وحزبين، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه خرج على أصحاب له يتناضلون فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون، فقالوا: يا رسول الله، كيف نرمي وأنت معهم فقال: ارموا وأنا معكم كلكم» رواه البخاري ولأنه إذا جاز على اثنين، جاز على ثلاثة كسباق الخيل.
فصل:
ويشترط لصحتها شروط ثمانية: أحدهما: تعيين الرماة؛ لأن الغرض معرفة الحذق في الرمي، فلا يتحقق مع عدم التعيين، كسباق الخيل، فإن عقد اثنان نضالاً على أن يكون مع كل واحد منهما ثلاثة لم يصح لذلك، وإن عقد جماعة نضالاً ليتناضلوا حزبين، احتمل أن لا يصح؛ لأن التعيين لا يتحقق قبل التفاضل، وقال القاضي: يصح ويجعل لكل حزب رئيس، فيختار أحدهما واحداً، ويختار الآخر آخر كذلك حتى يتناضلوا، فإن اختلفا في المبتدئ منهما بالخيار، أقرع بينهما، ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة؛ لأنها ربما وقعت على الحذاق في أحد الحزبين، ولا يجوز أن يجعل زعيم الحزبين واحداً؛ لأنه قد يميل إلى أحدهما فتلحقه التهمة، ولا يجوز أن يجعل الخيرة في تمييز الحزبين إلى واحد، ولا يجوز أن يجعل إلى واحد، والسبق عليه؛ لأنه يختار الحذاق فيبطل معنى النضال.
فصل:
الشرط الثاني: تعيين نوع القسي؛ لأن الأغراض تختلف باختلافها، فقد يكون الرامي أحذق بنوع منه بالنوع الآخر، وإن لم يكن في البلد إلا نوع واحد، لم يحتج إلى التعيين؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه كالنقد، فإن عقدا على نوع، فأراد أحدهما أن ينتقلا إلى غيره، أو ينتقل أحدهما، لم يجز لما ذكرناه وإن عقدا على قوس بعينه، فانتقل أحدهما إلى غيره من نوعه، جاز؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الأعيان.
وإن شرط عليه أن لا ينتقل خرج على الوجهين فيما إذا شرط في الإجارة أن لا يستوفي المنفعة بمثله.
فصل:
الشرط الثالث: أن يرميا غرضاً، وهو ما يقع فيه السهم المصيب من جلد أو ورق أو نحوه، وإن قالا: السبق لأبعدنا رمياً لم يصح؛ لأن القصد بالرمي الإصابة لا الإبعاد، فلم يجز أخذ العوض من غير المقصود، والسنة أن يكون لهما غرضان في هدفين متقابلين يرميان من أحدهما الآخر، ثم يرميان من الآخر الأول، فإن أصحاب(2/192)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك كانوا يرمون، فروي عن حذيفة، وابن عمر أنهما كانا يشتدان بين الغرضين، إذا أصاب أحدهما خصلة قال: أنا بها في قميص رواه سعيد. ويروى أن «ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة» . والهدف: اسم لما ينصب الغرض فيه.
فصل:
الشرط الرابع: أن يكون قدر الغرض معلومًا طوله وعرضه وانخفاضه وارتفاعه؛ لأن الإصابة تختلف باختلافه، فوجب علمه كتعيين النوع.
فصل:
فإن أطلقا العقد، حمل على إصابته أي موضع كان من الغرض من أطرافه وعراه وغيرها، وإن أصاب علاقته، لم يحسب له؛ لأن العلاقة ما يعلق به، والغرض: هو المعلق. وإن شرطا إصابة موضع من الغرض، كالدارة التي في وسطه، أو الخاتم الذي في الدارة، لم يحتسب بإصابة غيره، ويستحب أن يصفا الإصابة، فيقولا: خواصل، وهو اسم للإصابة كيفما كانت، أو خوارق، وهو ما ثقب الغرض، أم خواسق، وهو ما ثقبه وثبت فيه، أو موارق، وهو ما ثقبه ونفذ منه، أو خوارم وهو ما قطع طرفه.
فإن أطلقا الإصابة حمل على الخواصل، والقرع كالخصل، فإن أصاب سهمًا في الغرض قد عرق إلى فوقه حسب له؛ لأنه لولاه لوقع السهم في الغرض، وإن كان السهم معلقًا بنصله، وباقيه خارج من الغرض، لم يحسب له ولا عليه؛ لأن بينه وبين الغرض طول السهم، فلا يدري أكان يصيب أم لا؟ فإن أطارت الريح الغرض، فأصاب السهم موضعه، حسب له، وإن وقع في الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ؛ لأنه أخطأ في الرمي، وإنما أصاب بفعل الريح، وإن عرضت ريح شديدة، لم يحسب له السهم في إصابة ولا خطأ؛ لأن ذلك من أجل الريح، وإن كانت لينة حسب في الإصابة والخطأ؛ لأنها لا تمنع.
وإن وقع السهم دون الغرض، ثم ازدلف فأصابه حسب خاطئًا؛ لأن هذا لسوء رميه، وإن عرض عارض، من كسر قوس، أو انقطاع وتر، أو ريح في يده، فأصاب، حسب له؛ لأن إصابته مع اختلال الآلة أدل على حذقه، وإن أخطأ لم يحسب عليه؛ لأنه للعارض، وقال القاضي: يحسب له؛ لأنه لا يحسب عليه في الخطأ، فلا يحسب له في الإصابة كما في الريح الشديدة. وإن انكسر السهم فوقع دون الغرض، لم يحسب عليه؛ لأنه لعارض، وإن أصاب بنصله حسب له لما ذكرناه، وإن أصاب بغيره، لم يحسب له، وإن أعرق الرامي في النزع حتى أخرج السهم من الجانب الآخر، احتسب له وعليه؛ لأنه لسوء رميه أخطأ، ولحذقه أصاب، ولأن ما حسب عليه في الخطأ حسب له في الإصابة كغيره، وإن مرت بهيمة بين يديه، وتشوش رميه، لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه لذلك العارض، وإن خرقه وأصاب، حسب له؛(2/193)
لأن هذا لقوة نزعه، وسداد رميه، وإن شرطا الخسق، فأصاب الغرض، وثبت فيه، حسب له، فإن سقط بعد، لم يؤثر، كما لو نزعه إنسان، وإن ثقب ولم يثبت، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحسب له؛ لأن الخاسق ما ثبت، ولم يوجد.
والثاني: يحسب له؛ لأنه ثقب ما يصلح له، فالظاهر أنه لم يثبت لعارض من سعة الثقب، أو غلظ لقيه، وإن مرق منه، حسب له؛ لأنه لقوة رميه، وإن خدشه، ولم يثبت فيه لمانع من حجر، أو غلظ الأرض، فعلى الوجهين، لكن إن لم يحسب له لم يحسب عليه؛ لأن العارض منعه، وإن لم يكن مانع حسب عليه، فإن اختلفا في العارض، وعلى موضع السهم، وفيه مانع، فالقول قول صاحب السهم، وإلا فالقول قول رسيله، ولا يمين؛ لأن الحال تشهد بصدق المدعي، وإن لم يعلم موضع السهم، ولم يوجد وراء الغرض مانع، فالقول قول رسيله لذلك، وإن كان وراءه مانع، فقال الرسيل: لم يثقب موضع المانع، أو أنكر الثقب، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ما يدعيه صاحبه، لكنه محتمل فأحلفناه لذلك، وإن كان في الغرض خرق، أو موضع بال، فوقع السهم فيه، وثبت في الهدف، وكان صلابته كصلابة الغرض، حسب له؛ لأنه لولا الخرق لثبت في الغرض، وإن لم يكن كذلك، لم يحسب له ولا عليه؛ لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض أو لا؟ وإن ثبت في الهدف، فوجد في نصله قطعة من الغرض، فقال الرامي: هذا الجلد قطعه سهمي لقوته، وقال رسيله: بل هذه جلدة كانت منقطعة من قبل، فالقول قول الرسيل؛ لأن الأصل عدم الخسق، والله أعلم.
فصل:
الشرط الخامس: أن يكون مدى الغرض معلومًا مقدرًا بما يصيب مثلهما، وفي مثله عادة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد، فاشترط العلم به كالنوع، وإن جعلاه قدرًا لا يصيبان في مثله، أو لا يصيبان إلا نادرًا، كالزائد على ثلاثمائة ذراع، لم يجز؛ لأن الإصابة تندر في مثل هذا، فيفوت الغرض.
فصل:
الشرط السادس: أن يكون الرشق معلومًا، والرشق بكسر الراء: عدد الرمي؛ لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك.
فصل:
الشرط السابع: أن يكون عدد الإصابة معلومًا، كخمسة من عشرين ونحوها، ويعتبر أن يكون إصابة لا يندر مثلها، فإن شرطا إصابة الجميع، أو تسعة من عشرة، لم(2/194)
يصح؛ لأن هذا يندر، فيفوت الغرض. ويستحب أن يبينا حكم الإصابة هل هي مبادرة أو محاطة؟ والمبادرة: أن يقولا: من سبق إلى إصابتين أو نحوهما، فهو السابق، فأيهما سبق إليهما مع تساويهما في الرمي، فهو السابق، فإذا رمى كل واحد عشرة، فأصاب أحدهما إصابتين دون الآخر، فهو السابق. ولا يلزم إتمام الرمي؛ لأن المقصود قد حصل، وإن أصاب كل واحد منهما من العشرة إصابتين، فلا سابق فيهما، وبطل النضال؛ لأن الزيادة على عدد الإصابة غير معتد بها، فإن رميا العشرين، فلم يصب واحدًا منهما إصابتين، أو أصاباهما معًا، فلا سابق فيهما.
وأما المحاطة، فهي أن يشترطا حط ما تساويا فيه من الإصابة، ثم من فضل صاحبه بإصابة معلومة، فقد سبق، فإن شرطا فضل ثلاث إصابات، فرميا خمسة عشر، أصابها أحدهما كلها، أو أخطأها الآخر، فالمصيب سابق، ولا يجب إتمام الرمي، لعدم الفائدة فيه؛ لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب المخطئ الخمسة الباقية، ويخطئها الأول، ولا يخرج الثاني بذلك عن كونه مسبوقًا، وإن كان في إتمامه فائدة مثل أن يكون الثاني أصاب من الخمسة عشر تسعة، فإذا أصاب الخمسة الباقية، وأخطأها الأول، لم يكن مسبوقًا، وجب إتمام الرمي، فإن أطلقا العقد، انصرف إلى المبادرة؛ لأن العقد على المسابقة، والمبادر سابق، ذكر هذا القاضي، وقال أبو الخطاب: يشترط بيان ذلك في المسابقة؛ لأن الغرض يختلف به، فمن الناس من تكثر إصابته في الأول دون الثاني، فوجب اشتراطه، كقدر مدى الغرض.
فصل:
الشرط الثامن: التسوية بين المتناضلين في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي، فإن تفاضلا في شيء منه، أو شرطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر أو أن يرمي أحدهما والشمس في وجهه، أو يحسب له خاصل بخاسق، أو لا يحسب عليه سهم خاطئ، لم يصح؛ لأن القصد معرفة حذقهما، ولا يعرف مع الاختلاف؛ لأنه ربما فضله بشرطه لا بحذقه، وإن شرطا بحسب خاسق كل واحد منهما بخاصلين، أو يسقط القريب من إصابة أحدهما ما هو أبعد منها من رمي الآخر، فمن فضل بعد بثلاث إصابات فهو السابق صح؛ لأنه لا فضل لأحدهما في عدد ولا صفة، وهذه نوع محاطة، فصحت كاشتراط حط ما تساويا فيه.
فصل:
وإن كان الرماة حزبين، اشترط كون الرشق يمكن قسمته عليهم، إن كان كل حزب ثلاثة، وجب أن يكون له ثلث صحيح؛ لأنه يجب التسوية بينهما في عدد الرمي، ولا يمكن إلا بذلك، فوجب. وإذا نضل أحد الحزبين صاحبه، فالجعل بين الناضلين سواء من أصاب ومن لم يصب، ويحتمل أن يكون بينهما على قدر إصابتهم؛ لأنهم بها(2/195)
يستحقون، والجعل على المنضولين بالسوية وجهًا واحدًا؛ لأنه لزمهم بالتزامهم لإصابتهم بخلاف الناضلين.
فصل:
فإن كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي، بطل العقد فيه؛ لأنها لا تنعقد على من لا يحسن الرمي، ويخرج من الحزب الآخر بإزائه، كما إذا بطل البيع في بعض المبيع، بطل في ثمنه، وهل يبطل العقد في الباقين؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة، فإن قلنا: لا يبطل، فلهم الخيار في الفسخ والإمضاء؛ لأن الصفقة تفرقت عليهم، فإن اختاروا إمضاءه، ورضوا بمن يخرج بإزائه وإلا انفسخ العقد.
فصل:
ويرمي واحد بعد الآخر؛ لأن رميهما يفضي إلى التنازع بالمصيب، فإن اتفقا على المبتدئ منهما جاز، وإن كان بينهما شرط عمل به، وإن اختلفا ولا شرط بينهما، قدم المخرج، فإن كان المخرج غيرهما، اختار منهما، فإن لم يختر أقرع بينهما، وإذا بدأ أحدهما في وجه، بدأ الآخر في الثاني تعديلًا بينهما، فإن شرطا البداية لأحدهما في كل الوجوه، لم يصح؛ لأنه تفضيل، وإن فعلاه بغير شرط جاز؛ لأنه لا أثر له في إصابة، ولا تجويد رمي، ويرميان مراسلة سهمًا وسهمًا، أو سهمين وسهمين. وإن اتفقا على غير هذا، جاز لعدم تأثيره في مقصود المناضلة.
فصل:
وإن مات أحد الراميين، أو ذهبت يده، بطل العقد؛ لأن المعقود عليه تلف، فأشبه موت الفرس في السباق، وإن مرض أو رمد لم تبطل؛ لأنه يمكن الاستيفاء بعد زوال العذر، وله الفسخ؛ لأن فيه تأخير المعقود عليه، فملك الفسخ كالإجارة، وإن عرض مطر، أو ريح، أو ظلمة؛ أخر إلى زوال العارض، وإن أراد أحدهما التأخير لغير عذر، فله ذلك إن قلنا: هي جعالة؛ لأنها جائزة، وليس له ذلك إن قلنا: هي إجارة، ويكره للأمين مدح أحدهما أو زجره؛ لأن فيه كسر قلبه أو قلب صاحبه.
[باب اللقطة]
وهي المال المضاع عن ربه وهي ضربان: ضال وغيره، فأما غير الضال فيجوز التقاطه بالإجماع، وهو نوعان: يسير يباح التصرف فيه بغير تعريف؛ لما روى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» رواه أبو داود.(2/196)
ولا تحديد في اليسير إلا أنه ينبغي أن يعفى عما رخص فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث وشبهه، وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما كان مثل التمرة والكسرة والخرقة، وما لا خطر له؛ فلا بأس، ويحتمل أن لا يجب تعريف ما لا يقطع فيه السارق؛ لأنه تافه. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه.
والنوع الثاني: الكثير؛ فظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ترك التقاطه أفضل؛ لأنه أسلم من خطر التفريط، وتضييع الواجب من التعريف، فأشبه ولاية اليتيم، واختار أبو الخطاب: أن أخذه أفضل إذا وجد بمضيعة، وأمن نفسه عليه، لما فيه من حفظ مال المسلم، فكان أولى كتخليصه من الغرق، ولا يجب أخذه؛ لأنه أمانة، فلم يجب كالوديعة، ومن لم يأمن نفسه عليه، ويقوى على أداء الواجب، لم يجز له أخذه؛ لأنه تضييع لمال غيره، فحرم كإتلافه.
فصل:
إذا أخذها، عرف عفاصها، وهو: وعاؤها. ووكاءها وهو: الذي تشد به، وجنسها وقدرها؛ لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لقطة الذهب والورق فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه» متفق عليه. نص على الوكاء والعفاص، وقسنا عليهما القدر والجنس، ولأنه إذا عرف هذه الأشياء، لم تختلط بغيرها، وعرف بذلك صدق مدعيها، أو كذبه، وإن أخر معرفة صفتها إلى مجيء مدعيها، أو تصرفه فيها جاز؛ لأن المقصود يحصل، وقد جاء ذلك في حديث أبي.
ولا يحل له التصرف فيها إلا بعد معرفة صفتها؛ لأن عينها تذهب، فلا يعلم صدق مدعيها إلا من حفظ صفتها، ويستحب أن يشهد عليها، نص عليه؛ لما روى عياض بن حمار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب» رواه أبو داود. ولأن فيه حفظها من ورثته إن مات وغرمائه إن أفلس، وصيانته من الطمع فيها، ولا يجب ذلك لتركه في حديث زيد، ولأنه أمانة فلا يجب الإشهاد عليها كالوديعة، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا يبين في الإشهاد كم هي، لكن يقول: أصبت لقطة.
فصل:
ويجب تعريفها، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، ولأنه طريق وصولها إلى صاحبها فوجب كحفظها، ويجب التعريف حولًا من حين التقاطها متواليًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به عند وجدانها، والأمر يقتضي الفور، ولأن الغرض وصول الخبر وظهور أمرها، وإنما يحصل(2/197)
بذلك؛ لأن صاحبها إنما يطلبها عقيب ضياعها، ويكون التعريف في مجامع الناس، كالأسواق وأبواب المساجد، وأوقات الصلوات؛ لأن المقصود إشاعة أمرها، وهذا طريقه، ويكثر منه في موضع وجدانها، وفي الوقت الذي يلي التقاطها، ولا يعرفها في المسجد؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله تعالى عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا» رواه مسلم. ويقول: من ضاع منه كذا، يذكر جنسها: أو يقول: شيء ولا يزيد في صفتها؛ لئلا يفوت طريق معرفة صاحبها، وأجرة المعرف على الملتقط؛ لأن التعريف عليه، ولأنه سبب تملكها، فكان على متملكها، قال أبو الخطاب: إن التقطها للحفظ لصاحبها لا غير، فالأجرة على مالكها يرجع بها عليه. وقاله ابن عقيل فيما لا يملك بالتعريف.
فصل:
فإذا جاء مدعيها، فوصفها بصفاتها المذكورة، لزم دفعها إليه؛ لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، ولأنها لو لم تدفع بالصفة لتعذر وصول صاحبها إليها، لتعذر إقامة البينة، فإن وصفها اثنان، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وسلمت إليه، كما لو ادعى الوديعة اثنان، وقال أبو الخطاب: تقسم بينهما، وإن وصفها أحدهما وللآخر بينة، قدم ذو البينة؛ لأنها أقوى من الوصف، فإن كان الواصف سبق فأخذها نزعت منه، وإن تلفت في يده، فلصاحبها تضمين من شاء منهما؛ لأن الواصف أخذ مال غيره بغير إذنه، والملتقط دفعه إليه بغير إذن مالكه، ويستقر الضمان على الواصف؛ لأن التلف حصل في يده، فإن ضمن لم يرجع على أحد، وإن ضمن الملتقط رجع عليه، إلا أن يكون الملتقط دفعها بحكم حاكم، فلا يضمن؛ لأنها تؤخذ منه قهرًا. وإن أتلفها الملتقط، فغرمه الواصف عوضها، ثم جاء صاحب البينة، لم يرجع إلا على الملتقط؛ لأن الواصف إنما أخذ مال الملتقط ولم يأخذ اللقطة، ثم يرجع الملتقط على الواصف.
فصل:
فإن لم تعرف، دخلت في ملك الملتقط عند الحول حكمًا، كالميراث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد: «وإن لم تعرف فاستنفقها» وفي لفظ: «وإلا فهي كسبيل مالك» ولأنه كسب مال بفعل، فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد. واختار أبو الخطاب: أنه لا يملكها إلا باختياره؛ لأنه تملك مال ببدل، فاعتبر فيه اختيار التملك، كالبيع. والغني والفقير سواء في هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق، ولأنه تملك مال بعوض، أشبه البيع.
فصل:
وما جاز التقاطه ووجب تعريفه، ملك به، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في(2/198)
الصياد يقع في شبكته الكيس والنحاس يعرفه سنة، فإن جاء صاحبه، وإلا فهو كسائر ماله. وهذا ظاهر كلام الخرقي. وقال أكثر أصحابنا: لا يملك غير الأثمان؛ لأن الخير ورد فيها، ومثلها لا يقوم مقامها من كل وجه؛ لعدم تعلق الغرض بعينها، فلا يقاس عليها غيرها، وقال أبو بكر: ويعرفها أبدًا، وقال القاضي: هو مخير بين ذلك، وبين دفعها إلى الحاكم. وقال الخلال: كل من روى عن أبي عبد الله أنه يعرفها سنة، ثم يتصدق بها، والذي نقل عنه أنه يعرفها أبدًا، قول قديم رجع عنه، والأول أولى؛ لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء، أو في قرية مسكونة؟ قال: عرفه سنة، فإن جاء صاحبه، وإلا فشأنك به» رواه الأثرم. «وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في عيبة - والعيبة: هي وعاء من أدم توضع فيه الثياب -: عرفها سنة، فإن عرفت وإلا، فهي لك. أمرنا بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، ولأنه مال يجوز التقاطه، ويجب تعريفه فملك به، كالأثمان وقد دل الخبر على جواز أخذ الغنم مع تعلق الغرض بعينها، فيقاس عليها غيرها.
فصل:
ولقطة الحرم تملك بالتعريف في ظاهر كلامه، لظاهر الخبر، ولأنه أحد الحرمين أشبه المدينة، وعنه: لا تملك بحال، ويجب تعريفها أبدًا أو يدفعها إلى الحاكم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد» متفق عليه.
فصل:
واللقطة مع الملتقط قبل تملكها أمانة، عليه حفظها بما يحفظ به الوديعة، وإن ردها إلى موضعها، ضمنها؛ لأنه ضيعها، وإن تلفت بغير تفريط، لم يضمنا؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولتكن الوديعة وديعة عندك» ولأنه يحفظها لصاحبها بإذن الشرع، أشبه الوديعة، وإن جاء صاحبها، أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة؛ لأنها ملكه، وإن جاء بعد تملكها أخذها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدها إليه» ويأخذها بزيادتها المتصلة؛ لأنها تتبع في الفسوخ، وزيادتها المنفصلة بعد تملكها لملتقطها؛ لأنها حدثت على ملكه، فأشبه نماء المبيع في يد المشتري، فإن تلفت بعد تملكها، ضمنها؛ لأنها تلفت من ماله، وإن نقصت بعد التملك، فعليه أرش نقصها، وإن باعها أو وهبها بعد تملكها، صح؛ لأنه تصرف صادف ملكه، فإن جاء صاحبها في مدة الخيار، وجب فسخ البيع وردها إليه؛ لأنه يستحق العين، وقد أمكن ردها إليه، وإن جاء بعد لزوم البيع، فهو كتلفها؛ لأنه تعذر ردها.(2/199)
فصل:
الضرب الثاني: الضوال، وهي الحيوانات الضائعة، وهى نوعان:
أحدهما: ما يمتنع من صغار السباع إما بقوته: كالإبل والخيل، أو بجناحه: كالطير، أو بسرعته: كالظباء، أو بنابه: كالفهد، فلا يجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن خالد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فقال: ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» متفق عليه. وللإمام أخذها، ليحفظها لأربابها؛ لأن للإمام ولاية في حفظ أموال المسلمين، ولهذا كان لعمر حظيرة يحفظ فيها الضوال، فإذا أخذها، وكان له حمى ترعى فيه، تركها، وأشهد عليها، ورسمها بسمة الضوال، وإن لم يكن له حمى، خلاها وحفظ صفاتها، ثم باعها، وحفظ ثمنها لصاحبها؛ لأنها تحتاج إلى علف، فربما استغرق ثمنها، وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ضمنها ولم يملكها، وإن عرفها، فإن دفعها إلى الإمام برئ من ضمانها؛ لأنه دفعها إلى من له الولاية عليها، أشبه دفعها إلى صاحبها، وإن ردها إلى موضعها، لم يبرأ؛ لأن ما لزمه ضمانه، لا يبرأ منه إلا برده إلى صاحبه أو نائبه كالمسروق.
فصل:
النوع الثاني: ما لا ينحفظ عن صغار السباع، كالشاة وصغار الإبل والبقر ونحوها، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يجوز التقاطها؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يئوي الضالة إلا ضال» رواه أبو داود. ولأنه حيوان أشبه الإبل. والمذهب جواز التقاطها؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه.
وهذا يخص عموم الحديث الآخر، ولأنه يخشى عليها التلف، أشبه غير الضالة، وسواء وجدها في المصر أو في مهلكة؛ لأن الحديث عام فيهما، ولأنه مال يجوز التقاطه، فاستويا فيه، كالأثمان، والعبد الصغير، كالشاة في جواز التقاطه؛ لأنه لا ينحفظ بنفسه، فأما الحمر فألحقها أصحابنا في النوع الأول؛ لأن لها قوة، فأشبهت البقر، وظاهر حديث زيد إلحاقها بالغنم؛ لأنه علل أخذ الشاة بخشية الذئب عليها، والحمر مثلها في ذلك، وعلل المنع من الإبل بقوتها على ورود الماء، وصبرها بقوله: «معها سقاءها» والحمر بخلافها.
ومتى التقط هذا النوع خير بين أكله في الحال، وحفظه لصاحبه وبيعه، وحفظ ثمنه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي لك» ولم يأمر
هـ بحفظها، ولأن إبقاءها يحتاج إلى غرامة، ونفقة دائمة فيستغرق قيمتها، فإن اختار إبقاءها وحفظها لصاحبها، فهو الأولى متفق عليه. وينفق عليها؛ لأن به بقاءها، فإن لم يفعل ضمنها؛ لأنه فرط فيها، وإن أنفق عليها متبرعًا، لم يرجع على صاحبها، وإن نوى الرجوع على صاحبها، وأشهد على ذلك، ففي الرجوع به روايتان، بناء على الوديعة، وإن اختار أكلها(2/200)
أو بيعها، لزمه حفظ صفتها، ثم يعرفها عامًا، فإذا جاء صاحبها، دفع إليه ثمنها، أو غرمه له إن أكلها، ولا يلزمه عزل ثمنها إذا أكلها؛ لأنه لا يخرج من ذمته بعزله، فلم يلزمه كسائر ما يلزمه ضمانه، وإن أراد بيعها، فله أن يتولى ذلك بنفسه؛ لأن ما ملك أكله، فبيعه أولى. فإذا عرفها حولًا، ولم تعرف، ملكها إن كانت باقية، أو ثمنها إن باعها؛ لأن حديث زيد يدل على ملكه لها؛ لأنه أضاف إليها بلام التمليك، ولأنه مال يجوز التقاطه، فيملك بالتعريف، كالأثمان. وعنه: لا يملكها، والمذهب الأول.
فصل:
فإن التقط ما لا يبقى عامًا، كالبطيخ والطبيخ، لم يجز تركه ليتلف، فإن فعل ضمنه؛ لأنه فرط في حفظه، فإن كان مما لا يبقى بالتجفيف، كالبطيخ خير بين بيعه وأكله، وإن كان يبقى بالتجفيف، كالعنب والرطب، فعل ما فيه الحظ لصاحبه من بيعه وأكله وتجفيفه، فإن احتاج في التجفيف إلى غرامة، باع بعضه فيها، وإن أنفقها من عنده، رجع بها؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر بخلاف نفقة الحيوان، فإنها تتكرر، فربما استغرقت قيمته، فلا يكون لصاحبها حظ في إمساكها إلا بإسقاط النفقة عنه، وإن أراد بيعها، فله البيع بنفسه لما ذكرنا في الضوال. وعنه: له بيع اليسير، وأما الكثير، فإنه يرفعه إلى السلطان، والقول في تعريفه، وسائر أحكامه كالقول في الشاة.
فصل:
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من اشترى سمكة، فوجد في بطنها درة، فهي للصياد، وإن وجد دراهم، فهي لقطة؛ لأنها لا تبتلع الدراهم إلا بعد ثبوت اليد عليها، وقد تبتلع درة من البحر مباحة، فيملكها الصياد بما فيها، فإن باعها ولم يعلم بالدرة، لم يزل ملكه عن الدرة، كما لو باع دارًا له فيها مال لم يعلم به.
فصل:
فإن وجد اللقطة اثنان، فهي بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في الحكم، وإن ضاعت من واجدها، فوجدها آخر ردها على الأول؛ لأنه قد ثبت له الحق فيها، فوجب ردها إليه كالملك، وإن رآها اثنان، فرفعها أحدهما فهي له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو له» وإن رآها أحدهما فقال للآخر: ارفعها ففعل، فهي لرافعها؛ لأنه مما لا يصح التوكيل فيه.
فصل:
فإن التقطها صبي أو مجنون أو سفيه، صح التقاطه؛ لأنه كسب بفعل، فصح منه كالصيد، فإن تلفت في يده بغير تفريط لم يضمنها؛ لأنه أخذ ماله، وإن تلفت بتفريط(2/201)
ضمنها، ومتى علم وليه بها، لزمه نزعها منه وتعريفها؛ لأنها أمانة، والمحجور عليه ليس من أهلها، فإن تم تعريفها، دخلت في ملك واجدها حكمًا، كالميراث.
فصل:
ويصح التقاط العبد بغير إذن سيده؛ لعموم الخبر، ولما ذكرنا في الصبي، ويصح تعريفه لها؛ لأن له قولًا صحيحًا، فصح تعريفه كالحر، فإذا تم تعريفها ملكها سيده؛ لأنها كسب عبده، ولسيده انتزاعها منه قبل تعريفها؛ لأن كسب عبده له، ويتولى تعريفها أو إتمامه، وله إقرارها في يد عبده الأمين، ويكون مستعينًا به في حفظها وتعريفها، ولا يجوز إقراراها في يد من ليس بأمين؛ لأنها أمانة وإن فعل، فعليه الضمان، وإن علم العبد أن سيده غير مأمون عليها، لزمه سترها عنه، وتسليمها إلى الحاكم ليعرفها، ثم يدفعها إلى سيده بشرط الضمان، وإن أتلفها العبد، فحكم ذلك حكم جنايته، وإن عتق العبد بعد الالتقاط، فلسيده أخذها؛ لأنها كسبه.
فصل:
والمكاتب كالحر؛ لأن كسبه لنفسه، والمدبر وأم الولد كالقن، ومن نصفه حر فلقطته بينه وبين سيده ككسبه، فإن كانت بينهما مهايأة، لم تدخل في المهايأة في أحد الوجهين؛ لأنهما من الأكساب النادرة، فأشبهت الميراث، والآخر تدخل؛ لأنها من كسبه فهي كصيده، وفي الهدية والوصية وسائر الأكساب النادرة وجهان كاللقطة.
فصل:
والذمي كالمسلم للخبر، ولأنه كسب يصح من الصبي، فصح من الذمي كالصيد، والفاسق كالعدل لذلك، لكن إن أعلم الحاكم بهما، ضم إليه أمينًا يحفظها، ويتولى تعريفها؛ لأنها أمانة، فلا يؤمن خيانته فيها، فإذا عرفها، ملكها ملتقطها.
فصل:
ومن التقط لقطة لغير التعريف، ضمنها ولم يملكها، وإن عرفها؛ لأنه أخذها على وجه يحرم عليه، فلم يملكها كالغاصب، ومن ترك التعريف في الحول الأول، لم يملكها وإن عرفها بعد؛ لأن السبب الذي يملكها به قد فات، ولم يبرأ منها إلا بتسليمها إلى الحاكم.
فصل:
ومن ترك دابة بمهلكة، فأخذها إنسان، فخلصها ملكها؛ لما روى الشعبي قال: حدثني غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن وجد دابة عجز عنها أهلها فسيبوها، فأخذها فأحياها فهي له» ولأن فيه إنقاذا للحيوان من الهلاك،(2/202)
مع نبذ صاحبه له، فأشبه السنبل الساقط، فإن كان مكانها عبدًا، لم يملكه؛ لأنه في العادة يمكنه التخلص، وإن كان متاعًا، لم يملكه؛ لأنه لا حرمة له في نفسه.
[باب اللقيط]
وهو الطفل المنبوذ، والتقاطه فرض على الكفاية؛ لأنه إنجاء آدمي من الهلاك فوجب، كتخليص الغريق، وهو محكوم بحريته؛ لما روى سنين أبو جميلة قال: وجدت ملقوطًا، فأتيت به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته، رواه سعيد في سننه. ولأن الأصل في الآدميين الحرية، ويحكم بإسلامه في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم؛ لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها، وإن وجد في بلد فيه كفار، ولا مسلم فيه فهو كافر؛ لأن الظاهر أنه ولد كافرين، وإن وجد في بلد الكفار، وفيه مسلمون، ففيه وجهان:
أحدهما: هو كافر، لأنه في دارهم.
والثاني: هو مسلم تغليبًا لإسلام المسلم الذي فيه.
فصل:
وما يوجد عليه من ثياب أو حلي، أو تحته من فراش أو سرير أو غيره، أو في يده من نفقة أو عنان دابة، أو مشدودا في ثيابه، أو ببعض جسده، أو مجعولًا فيه، كدار وخيمة، فهو له؛ لأنه آدمي حر فما في يده له كالبالغ، وإن كان مطروحًا بعيدًا منه، أو قريبًا مربوطًا بغيره، لم يكن له؛ لأنه لا يد له عليه، وكذلك المدفون تحته؛ لأن البالغ لو جلس على دفين، لم يكن له. وقال ابن عقيل: وإن كان الحفر طريًا فهو له؛ لأن الظاهر أنه حفر النابذ له، وإن وُجِدَ بقربه مال موضوع، ففيه وجهان:
أحدهما: هو له إن لم يكن له غيره؛ لأن الإنسان يترك ماله بقربه.
والثاني: ليس هو له؛ لأنه لا يد له عليه.
فصل:
وينفق عليه من ماله؛ لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ، ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم؛ لأنه ولي فملك ذلك، كولي اليتيم، ويستحب استئذانه؛ لأنه أنفى للتهمة، فإن بلغ واختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق. وإن لم يكن له مال فنفقته في بيت المال؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلينا نفقته، ولأنه آدمي حر له حرمة، فوجب على السلطان القيام به عند حاجته كالفقير، وليس على الملتقط نفقته؛ لحديث(2/203)
عمر، ولأنه لا نسب بينهما، ولا ملك فأشبه الأجنبي. وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال، فعلى من علم حاله الإنفاق عليه فرض كفاية؛ لأن به بقاءه فوجب، كإنقاذ الغريق، فإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه، ثم بان رقيقًا، أو له أب موسر، رجع عليه؛ لأنه أدى الواجب عنه، فإن لم يظهر له أحد، وفي من بيت المال.
فصل:
فإن كان الملتقط أمينًا حرًا مسلمًا، أقر في يده؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا بد له من كافل، والملتقط أحق للسبق، وفي الإشهاد عليه وجهان:
أحدهما: لا يجب، كما لا يجب في اللقطة.
والثاني: يجب؛ لأن القصد به حفظ النسب والحرية فوجب، كالإشهاد في النكاح، وإن التقطه فاسق، نزع منه؛ لأنه ليس في حفظه إلا الولاية، ولا ولاية لفاسق. قال القاضي: هذا المذهب، وظاهر قول الخرقي، أنه يُقَرّ في يده؛ لقوله: إن لم يكن من وجد اللقيط أمينًا منع من السفر به. فعلى هذا يضم إليه أمين يشارفه، ويشهد عليه، ويشيع أمره، لينحفظ بذلك، وليس لكافر التقاط محكوم بإسلامه؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، فإن التقطه، نزع منه، وله التقاط المحكوم بكفره، ويقر في يده؛ لثبوت ولايته عليه، وليس للعبد الالتقاط إلا بإذن سيده، فتكون الولاية للسيد، والعبد نائب عنه.
فصٍٍل: فإن أراد الملتقط السفر به، وهو ممن لم تختبر أمانته في الباطن، نزع منه؛ لأنه ما لا يؤمن أن يدعي رقه. وإن علمت أمانته باطنًا فأراد نقله من الحضر إلى البدو، منع منه؛ لأنه ينقله إلى العيش في الشقاء ومواضع الجفاء. وإن أراد النقلة إلى بلد آخر يقيم فيه، ففيه وجهان:
أحدهما: يقر في يده لأنهما سواء فيما ذكرنا.
والثاني: يمنع منه؛ لأن بقاءه في بلده أرجى لظهور نسبه، وإن كان اللقيط في بدو، فله نقله إلى الحضر؛ لأنه أرفق به، وله الإقامة به في البدو. وفي حلة لا تنتقل عن مكانها؛ لأن الحلة كالقرية، وإن كان متنقلًا، ففيه وجهان:
أحدهما: يقر في يده؛ لأنه أرجى لكشف نسبه.
والثاني: ينزع منه؛ لأنه يشقى بالتنقل.(2/204)
فصل:
فإن التقطه موسر ومعسر، قدم الموسر؛ لأنه أحظ للطفل، فإن تساويا وتشاحا، أقرع بينهما؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ، ولأنهما تساويا في الحق، فأقرع بينهما، كالعبدين في العتق، وإن ترك أحدهما نصيبه، كلفه الآخر، والرجل والمرأة في هذا سواء؛ لأن المرأة أجنبية، والرجل يحضنه بأجنبية، فهما سواء.
فصل:
فإن اختلفا في الملتقط، وهو في يد أحدهما، فالقول قوله، وهل يستحلف؟ فيه وجهان. وإن كان في يديهما، قدم أحدهما بالقرعة. وهل يستحلف؟ على وجهين. وإن لم يكن في يد واحد منهما، سلمه السلطان إلى من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما. وإن كان لأحدهما بينة، قضى بها؛ لأنها أقوى، فإن كانت لكل واحد منهما بينة، قدم أسبقهما تاريخًا؛ لأنه يثبت بها السبق إلى الالتقاط، وإن تساويا وهو في يد أحدهما انبنى على بينة الداخل والخارج، وإن تساويا في اليد أو عدمها، سقطتا وأقرع بينهما، فقدم بها أحدهما.
فصل:
وإن ادعى نسبه رجل لحق به؛ لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل، كما لو أقر له بمال، ويأخذ من الملتقط إن كان من أهل الكفالة؛ لأن الوالد أحق بكفالة ولده، وإن كان كافرًا، لم يتبعه في الدين؛ لأنه محكوم بإسلامه بالدار، فلا يزول ذلك بدعوى كافر، ولا يدفع إليه؛ لأنه لا ولاية لكافر على مسلم، ويثبت نسبه منه؛ لأن الكافر كالمسلم في ثبوت النسب منه، ولا ضرر على أحد في انتسابه إليه، وإن كانت له بينة بولادته على فراشه، ألحق به نسبًا ودينًا؛ لأنه ثبت أنه ابنه ببينة، ذكره بعض أصحابنا، وقياس المذهب أنه لا يلحقه في الدين إلا أن تقوم البينة أنه ولد كافرين حيين؛ لأن الطفل يحكم بإسلامه بإسلام أحد أبويه أو موته، وإن ادعت امرأة نسبه، ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: يقبل قولها؛ لأنها أحد الأبوين، فثبت النسب بدعواها كالأب، ويلحق بها دون زوجها.
والثانية: إن كان لها زوج، لم تقبل دعواها؛ لأنه يؤدي إلى أن تلحق بزوجها نسبًا(2/205)
لم يقر به، أو ينسب إليها ما تتعد به وإن لم يكن، قبل لعدم ذلك.
والثالثة: إن كان لها إخوة ونسب معروف، لم تقبل دعوتها؛ لأن ولادتها لا تخفى عليهم وإن لم يكن قبلت. والأمة كالحرة، إلا أننا إذا ألحقنا النسب بها، لم يثبت رق ولدها؛ لأنه محكوم بحريته، فلا يثبت رقه بمجرد الدعوى، كما لم يثبت كفره.
فصل:
فإن ادعى نسبه رجلان، ولأحدهما بينة، فهو ولده؛ لأن له حجة، فإن كان لهما بينتان، أو لا بينة لهما، عرض على القافة معهما، أو من عصبتهما عند فقدهما، فإن ألحقته بأحدهما، ألحق به؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززًا المدلجي نظر آنفًا إلى زيد وأسامة، وقد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» متفق عليه.
فلولا أن ذلك حق، لما سر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن ألحقته بهما لحقهما، لما روى سليمان بن يسار: عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه، فجعله عمر بينهما رواه سعيد. وعن علي مثله. قال أحمد: ويرثهما ويرثانه، ونسبه من الأول قائم لا يزيله شيء، قال: ويلحق بثلاثة، وينبغي أن يلحق بمن ألحقه منهم وإن كثروا؛ لأن المعنى في الاثنين موجود فيما زاد فيقاس عليه، وقال القاضي: لا يلحق بأكثر من ثلاثة. وقال ابن حامد: لا يلحق بأكثر من اثنين؛ لأننا صرنا إلى ذلك للأثر، فيجب أن نقتصر عليه.
فإن لم توجد قافة، أو أشكل عليهم، أو نفته عنهما، أو تعارضت أقوالهما، فقال أبو بكر: يضيع نسبه؛ لأنه لا دليل لأحدهما، فأشبه من لم يدع نسبه أحد. وقال ابن حامد: يترك حتى يبلغ، ويؤاخذان بنفقته؛ لأن كل واحد منهما مقر به، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الطبع يميل إلى الوالد ما لا يميل إلى غيره. فإذا تعذرت القافة، رجعنا إلى اختياره. ولا يصح انتسابه قبل بلوغه؛ لأنه قول يتعين به النسب، وتلزم به الأحكام، فلا يقبل من الصبي، كقول القائف.
وسواء كان المدعيان مسلمين حرين، أو كافرين رقيقين، أو مسلمًا وكافرًا، وحرًا وعبدًا؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد صحت دعواه؛ فإن ادعاه امرأتان، وقلنا بصحة دعوتيهما، فهما كالرجلين، إلا أنه لا يلحق بأكثر من واحدة؛ لأنه يستحيل ولد من أنثيين، وإن كانت إحداهما تسمع دعواها دون الأخرى، فهي كالمنفردة به، وإن ألحقته القافة بكافر وأمة، لم يحكم برقه ولا كفره؛ لأنه ثبت إسلامه وحريته بظاهر الدار، فلا يزول ذلك بظن ولا شبهة، كما لم تزل بمجرد الدعوة.(2/206)
فصل:
فإن كان لامرأتين وابن وبنت، فادعت كل واحدة أنها أم الابن، احتمل أن يعرض معهما على القافة، واحتمل أن يعرض لبنهما على أهل الخبرة، فمن كان لبنها لبن ابن، فهو ابنها. وقد قيل: إن لبن الابن ثقيل، ولبن البنت خفيف، فيعتبر ذلك.
ٍفصل:
والقافة: قوم من العرب عرفت منهم الإصابة في معرفة الأنساب، واشتهر ذلك في بني مدلج رهط مجزز، وسراقة بن مالك بن جعشم، ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرًا عدلًا مجربًا في الإصابة؛ لأن ذلك يجري مجرى الحكم، فاعتبر ذلك فيه. قال القاضي: يترك الغلام مع عشرة غير مدعيه، ويرى القائف، فإن ألحقه بأحدهم سقط قوله، وإن نفاه عنهم، جعلناه مع عشرين فيهم مدعيه. فإن ألحقه بمدعيه، علمت إصابته. وهل يكتفى بواحد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكتفى به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَّ بقول مجزز وحده؛ لأنه بمنزلة الحاكم يجتهد ويحكم، كما يجتهد الحاكم ويحكم.
والثاني: لا يقبل إلا اثنان؛ لأنه حكم بالشبه والخلقة، فلا يقبل من واحد، كالحكم بالمثل في جزاء الصيد.
فصل:
فإن ادعى رجل رقه لم يقبل؛ لأن الأصل الحرية، فإن شهدت له بينة بالملك قبلت، وإن لم يذكر السبب، كما لو شهدت له بملك مال. وإن شهدت باليد للملتقط، لم يحكم له بالملك؛ لأن سبب يده قد علم. وإن شهدت بها لغيره ثبت. والقول قوله في الملك مع يمينه كما لو كان في يده مال فحلف عليه.
فصل:
ومن حكمنا بإسلامه لإسلام أحد أبويه، أو موته، أو إسلام سابيه، فحكمه حكم سائر المسلمين في حياته وموته، ووجوب القود على قاتله قبل البلوغ أو بعده، وإن كفر بعد بلوغه، فهو مرتد يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه محكوم بإسلامه يقينًا، فأشبه غيره من المسلمين، ومن حكمنا بإسلامه للدار وهو اللقيط فكذلك؛ لأنه محكوم بإسلامه ظاهرًا، فهو كالثابت يقينًا، وذكر القاضي وجهًا آخر: أنه يقر على كفره؛ لأنه لم يثبت إسلامه يقينًا.(2/207)
فصل:
فإن بلغ اللقيط فقذفه إنسان، أو جنى عليه، أو ادعى رقه، فكذّبه اللقيط، فالقول قول اللقيط؛ لأنه حر في الحكم، ويحتمل أن يقبل قول المدعي في درء حد القذف خاصة؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات، بخلاف القصاص.
فصل:
وإن بلغ فتصرف، ثم ثبت رقه، فحكم تصرفه حكم تصرف العبيد؛ لأنه ثبت أنه مملوك، وإن أقر بالرق على نفسه بعد أن كان أقر بالحرية، لم يقبل إقراره بالرق؛ لأنه قد لزمه بالحرية أحكام من العبادات والمعاملات، فلم يملك إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية، وكذبه المقر له، بطل إقراره؛ لأنه لا يثبت رقه لمن لا يدعيه، فإن أقر بعده لغيره قبل، كما لو أقر له بمال، ويحتمل أن لا يقبل؛ لأن في إقراره الأول اعترافًا بأنه ليس لغيره، فلم يقبل رجوعه عنه، كما لا يقبل رجوعه عن الحرية، وإن صدقه الأول، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه محكوم بحريته، فلا يقبل إقراره بما يبطلها، كما لو أقر بها.
والثاني: يقبل؛ لأنه مجهول الحال أقر بالرق فقبل، كما لو قدم رجلان من دار الحرب، فأقر أحدهما لصاحبه بالرق، فعلى هذا يحتمل أن يقبل إقراره في جميع أحكامه؛ لأنه معنى يثبت الرق، فأثبته في جميع أحكامه كالبينة، ويحتمل أن يقبل فيما عليه دون ما له؛ لأنه أقر بما يوجب حقًا له وعليه، فيثبت ما عليه دون ما له، كما لو قال: لفلان علي ألف على رهن لي عنده، فإن قلنا بالأول وكان قد نكح، فهو فاسد، حكمه حكم ما لو تزوج العبد أو الأمة بغير إذن سيده.
وإن تصرف بغير النكاح، فسدت عقوده كلها، وترد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية، وإن كانت تالفة، ثبتت قيمتها في ذمته؛ لأنها ثبتت برضا أصحابها، وإن قلنا: لا يقبل في ما له وهي أمة، فنكاحها صحيح، ولا مهر لها إن كان قبل الدخول، وإن كان بعده، فلها الأقل من المسمى، أو مهر المثل، ولزوجها الخيار بين المقام معها على أنها أمة، أو فراقها إن كانت ممن يجوز له نكاح الأمة؛ لأنه قد ثبت كونها أمة في المستقبل، وإن كان المقر ذكرًا، فسد نكاحه، لإقراره أنه عبد، نكح بغير إذن سيده، وحكمه حكم الحر في وجوب المسمى، أو نصفه إن كان قبل الدخول، ولا تبطل عقوده، وما عليه من الحقوق والأثمان، يؤدى مما في يده، وما فضل ففي ذمته، وما فضل معه فلسيده. وإن جنى جناية توجب القصاص، اقتص منه، حرًا كان المجني عليه أو عبدًا. وإن كانت خطأ تعلق أرشها برقبته؛ لأنه عبد، وإن جنى عليه حر، فلا قود؛ لأنه عبد.(2/208)
[باب الوديعة]
قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة، لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته، وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما. وإن كان عاجزًا عن حفظها، أو خائفًا من نفسه عليها، لم يجز له قبولها؛ لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه، فإن الحق له، فيجوز بذله، ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال، فإن استودع من صبي غير مأذون له، أو سفيه، أو مجنون ضمن؛ لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه. ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه، كما لو غصبه إياه. فإن خاف أنه إن لم يأخذ منهم أتلفوه، لم يضمنه إن أخذه؛ لأنه قصد تخليصه من الهلاك فلم يضمنه، كما لو وجده في سيل فأخرجه منه.
فصل:
والوديعة أمانة إذا تلفت من غير تفريط، لم يضمن المودع بالإجماع؛ لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المستودع ضمان» فإن تلفت من بين ماله، ففيها روايتان؛ أظهرهما: لا يضمن للخبر، ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة، فلم يضمن، كما لو ذهب معها شيء من ماله. والأخرى: يضمن؛ لأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ضمن أنسًا وديعة، ذهبت من بين ماله.
فصل:
فإن لم يعين لها صاحبها الحرز؛ لزمه حفظها في حرز مثلها، فإن أخر إحرازها فتلفت ضمنها؛ لتركه الحفظ من غير عذر، وإن تركها في دون حرز مثلها ضمن؛ لأن الإيداع يقتضي الحفظ، فإذا أطلق، حمل على المتعارف، وهو حرز المثل، وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن؛ لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه.
فصل:
فإن عين له الحرز، فقال: أحرزها في هذا البيت، فتركها فيما دونه ضمن؛ لأنه(2/209)
لم يرضه، وإن تركها في مثله، أو أحرز منه فقال القاضي: لا يضمن؛ لأن من رضي شيئًا رضي مثله وفوقه. وظاهر كلام الخرقي: أنه يضمن؛ لأنه خالف أمره لغير حاجة، فأشبه ما لو نهاه؛ فإن قال: احفظها في هذا البيت ولا تنقلها عنه، فنقلها لغير حاجة، ضمنها سواء نقلها إلى مثله، أو أحرز منه؛ لأنه خالف نص صاحبها، وإن خاف عليها نهبًا أو هلاكًا وأخرجها، لم يضمنها؛ لأن النهي للاحتياط عليها، والاحتياط في هذه الحال نقلها، فإن تركها فتلفت ضمنها؛ لأنه فرط في تركها.
ويحتمل أن لا يضمن؛ لأنه امتثل أمر صاحبها، فإن قال: لا تخرجها، وإن خفت عليها، فأخرجها لخوفه عليها، لم يضمن؛ لأنه زاده خيرًا، وإن تركها فتلفت لم يضمن؛ لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء من الضمان، فأشبه ما لو أمره بإتلافها فأتلفها، فإن أخرجها فتلفت، فادعى أنني أخرجتها خوفًا عليها، فعليه البينة على ما ادعى وجوده من تلك الناحية؛ لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه، ثم القول قوله في خوفه عليها، وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليها، فإن قال: لا تقفل عليها قفلين، ولا تنم فوقها فخالفه؛ فالمذهب أنه لا يضمن؛ لأنه زاد في الحرز، فأشبه ما لو قال له: اتركها في صحن الدار، فتركها في البيت، ويحتمل أن يضمن؛ لأنه نبه اللص عليها وأغراه بها.
فصل:
فإن أودع نفقة، فربطها في كمه، لم يضمن، وإن تركها فيها بغير رباط، وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ضمن لتفريطه. وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمن، وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده لم يضمنها؛ لأن العادة جارية بالإحراز بهما. وإن قال: اربطها في كمك، فأمسكها في يده ضمن؛ لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط.
وقال القاضي: اليد أحرز عند المغالبة، والكم أحرز عند غيرها، فإن تركها في يده عند المغالبة، فلا ضمان عليه؛ لأنه زادها احتياطًا، وإلا ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمره به، وهذا صحيح. وإن قال: اجعلها في كمك، فتركها في جيبه، لم يضمن؛ لأنه أحرز، لأنه ربما نسي، فسقطت من الكم، وإن قال: اجعلها في جيبك، فتركها في كمه، ضمن، وإن قال: اتركها في بيتك فشدها في ثيابه، وأخرجها معه ضمن؛ لأن البيت أحرز، وإن شدها على عضده مما يلي جنبه لم يضمن؛ لأنه أحرز من البيت، فإن شدها مما يلي الجانب الآخر ضمن؛ لأن البيت أحرز منه، ولأنه ربما يبطها الطرار. وإن قال: احفظها في البيت، ودفعها إليه في غيره، فمضى بها إليه في الحال لم يضمن، وإن قعد وتوانى ضمنها؛ لأنه توانى عن حفظها فيما أمر به مع الإمكان، فإن قال: احفظ هذا الخاتم في البنصر، فجعله في الخنصر ضمن؛ لأنه دون البنصر، فالخاتم فيها(2/210)
أسرع إلى الوقوع، وإن جعله في الوسطى، وأمكن إدخاله في جميعها لم يضمن؛ لأنها أغلظ، فهي أحفظ، وإن انكسر أو بقي في رأسها، ضمن لتعديه فيه، وإن قال: لا تدخل أحدًا البيت الذي فيه الوديعة، فخالفه فسرقت ضمن؛ لأن الداخل ربما دل السارق عليها.
فصل:
وإذا أراد المودع السفر، أو عجز عن حفظها، ردها على صاحبها أو وكيله، ولم يجز دفعها إلى الحاكم؛ لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر، فإذا سافر بها في طريق مخوف، أو إلى بلد مخوف، أو نهاه المالك عن السفر بها ضمن؛ لأنه مفرط أو مخالف، وإن لم يكن كذلك لم يضمن؛ لأنه نقلها إلى موضع مأمون، أشبه ما لو نقلها في البلد، وإن لم يرد السفر بها، ولم يجد مالكها، دفعها إلى الحاكم؛ لأنه متبرع بالحفظ، فلا يلزمه ذلك في الدوام، والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته، فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ضمنها؛ لأنه كصاحبها عند غيبته، وإن لم يجد حاكمًا أودعها ثقة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن، ولأنه موضع الحاجة.
وعنه: يضمن، قال القاضي: يعني إذا أودعها من غير حاجة، فإن دفنها في الدار، وأعلم بها ثقة يده على المكان، فهو كإيداعها إياه، وإن لم يعلم بها أحد، فقد فرط؛ لأنه لا يأمن الموت في سفره، وإن أعلم بها من لا يد له على المكان، فكذلك؛ لأنه ما أودعها، وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها؛ لأنه عرضها للذهاب، وإن حضره الموت، فهو كسفره؛ لأنه يعجز عن حفظها.
فصل:
ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة؛ لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره، فإن فعل، فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال، فله تضمين أيهما شاء؛ لأنهما متعديان، ويستقر ضمانها على الثاني؛ لأن التلف حصل عنده، وقد دخل على أنه يضمن، وإن لم يعلم الحال، فقال القاضي: يضمن أيهما شاء، ويستقر ضمانها على الأول؛ لأن الثاني يدخل على أنه أمين. وظاهر كلام أحمد أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك.
وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله، كزوجته وأمته وخازنه لم يضمن؛ لأنه حفظها بما يحفظ به ماله، فأشبه حفظها بنفسه، وإن استعان بغيره في حملها، ووضعها في الحرز، وسقي الدابة وعلفها، لم يضمن؛ لأن العادة جارية بذلك، أشبه فعله بنفسه.(2/211)
فصل:
وإن خلطها بما لا تتميز منه ضمنها؛ لأنه لا يمكنه رد أعيانها، وإن خلطها بما تتميز منه، كصحاح بمكسرة، وسود ببيض لم يضمن؛ لأنها تتميز من ماله، أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه، وعنه فيمن خلط بيضًا بسود: يضمن، وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض، فيضمنها لذلك، وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية: أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز. وإن أودعه دراهم في كيس مشدود، فحله أو خرق ما تحت الشد، أو كسر الختم ضمن ما فيه؛ لأنه هتك الحرز لغير عذر، فإن كانت من غير وعاء، فأخذ منها درهمًا، ضمنه وحده؛ لأنه تعدى فيه وحده، فإن رده إليها، لم يزل ضمانه؛ لأنه ثبت بتعديه فيه، فلم يزل إلا برده إلى مالكه، وإن رد بدله، وكان متميزًا لم يضمن غيره لذلك، وإن لم يتميز، ضمن الكل لخلطه الوديعة بما لا يتميز، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره؛ لأنه لا يعجز عن ردها، ورد ما يلزمه رده معها، ومن لزمه الضمان بتعديه، فترك التعدي، لم يبرأ من ضمانها؛ لأن الضمان تعلق بذمته، فلم يبرأ بترك التعدي، كما لو غصب شيئًا من دار، ثم رده إليها، وإن ردها إلى صاحبها، ثم ردها صاحبها إليه برئ؛ لأن هذا وديعة ثانية، وإن أبرأه من الضمان برئ؛ لأن الضمان حقه، فبرئ منه بإبرائه كدينه.
فصل:
فإن أودع بهيمة، فلم يعلفها، ولم يسقها حتى ماتت ضمنها؛ لأن في ذلك هلاكها، فأشبه ما لو لم يحرزها، وإن نهاه المالك عنه فتركه، أثم لحرمة الحيوان، ولم يضمن؛ لأن مالكها أذن في إتلافها، فأشبه ما لو أمره بقتلها، والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة؛ لأنها أمانة مثلها.
فصل:
وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها، كإخراج الثياب للنشر، والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة لم يضمن؛ لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد، وإن نوى جحد الوديعة، أو إمساكها لنفسه، أو التعدي فيها، ولم يفعل، لم يضمن؛ لأن النية المجردة معفو عنها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل به» رواه البخاري ومسلم بمعناه.
وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها؛ لأنه تصرف فيها بما ينفي مقتضاها فضمنها، كما لو أحرزها في غير حرزها، إن أخذت منه قهرًا لم يضمن؛ لأنه غير مفرط، أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى، وإن أكره حتى سلمها لم يضمن؛ لأنه مكره، أشبه الأول.(2/212)
فصل:
وإن طولب بالوديعة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها، وإن أقر بها وادعى ردها، أو تلفها بأمر خفي، قبل قوله مع يمينه؛ لأنه قبضها لنفع مالكها. وإن كان بأمر ظاهر، فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية، ثم القول قوله مع يمينه.
فصل:
وإن طالبه برد الوديعة، فأخره لعذر لم يضمن؛ لأنه لا تفريط من جهته، وإن أخره لغير عذر، ضمنها لتفريطه، ومؤنة ردها على مالكها؛ لأن الإيداع لحظة.
[باب العارية]
وهي هبة المنافع، وهي مندوب إليها؛ لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، ولأن فيها عونًا لأخيه المسلم، وقضاء حاجته " «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ، وتصح في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، " لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من أبي طلحة فرسًا فركبها، «واستعار من صفوان بن أمية أدراعًا» رواه أبو داود. وسئل عن حق الإبل فقال: «إعارة دلوها، وإطراق فحلها» فثبتت إعارة ذلك بالخبر، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه، فيجوز إعارة الفحل للضراب للخبر، والكلب للصيد قياسًا عليه.
فصل:
ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر؛ لأنه لا يجوز أن يستخدمه، ولا الصيد لمحرم؛ لأنه لا يجوز له إمساكه، ولا الجارية الجميلة لغير ذي محرم منها على وجه يفضي إلى خلوته بها؛ لأنه لا يؤمن عليها، فإن كانت شوهاء، أو كبيرة لا يشتهى مثلها فلا بأس؛ لأنه يؤمن عليها، ويكره استعارة والديه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما لذلك.
فصل:
فإن قبض العين ضمنها؛ لما روى صفوان بن أمية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه(2/213)
أدراعًا يوم حنين، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» ، وروي: «مؤداة» رواه أبو داود. ولأنه قبض مال غيره لنفع نفسه، لا للوثيقة. فضمنه كالمغصوب، وعليه مؤنة ردها لذلك، فإن شرط نفي الضمان، لم ينتف؛ لأن ما يضمن لا ينتفي بالشرط، وقال أبو حفص العكبري: يبرأ؛ لأن الضمان حقه، فسقط بإسقاطه، كالوديعة التي تعدى فيها، فإن استخلق الثوب، أو نقصت قيمتها لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه؛ لدخوله فيما هو من ضرورته. ولو تلفت ضمنها بقيمتها يوم تلفها؛ لأن نقصها قبل ذلك غير مضمون، بدليل أنه لو ردها، لم يضمنه، فإن تلفت أجزاؤها بالاستعمال كخمل المنشفة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه، لما ذكرنا.
والثاني: يضمنه؛ لأنه من أجزائها فيضمنه كسائر أجزائها، وإن تلف ولد العارية، ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأنه تابع لما يجب ضمانه، فيجب ضمانه، كولد المغصوب.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه لم يدخل في العارية، فلم يدخل في الضمان، بخلاف المغصوب، فإن ولدها داخل في الغصب.
فصل:
والعارية عقد جائز لكل واحد منهما فسخها؛ لأنها إباحة، فأشبهت إباحة الطعام، وعليه ردها إلى المعير، أو من جرت عادته أن يجري ذلك على يديه كرد الدابة إلى سائسها، فإن ردها إلى غيرهما، أو دار المالك، أو إصطبله، لم يبرأ من الضمان؛ لأن ما وجب رده، لم يبرأ برده إلى ذلك، كالمغصوب.
فصل:
ومن استعار شيئًا، فله استيفاء نفعه بنفسه، ووكيله؛ لأنه نائب عنه. وليس له أن يعيره؛ لأنها إباحة فلا يملك بها إباحة غيره، كإباحة الطعام؛ فإن أعاره فتلف عند الثاني، فللمالك تضمين أيهما شاء، ويستقر الضمان على الثاني؛ لأنه قبضه على أنه ضامن له، وتلف في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب من الغاصب.
فصل:
وتجوز العارية مطلقة ومعينة؛ لأنها إباحة، فأشبهت إباحة الطعام، فإن أطلقها، فله أن ينتفع بها في كل ما يصلح له، فإن كانت أرضًا، فله أن يبني ويغرس ويزرع؛ لأنها تصلح لذلك كله، وإن عين نفعًا، فله أن يستوفيه ومثله ودونه، وليس له استيفاء أكثر منه(2/214)
على ما ذكرنا في الإجارة.
فصل:
وتجوز مطلقة ومؤقتة، فإن أعارها لغراس سنة، لم يملك للغرس بعدها، فإن غرس بعدها، فحكمه حكم غرس الغاصب؛ لأنه بغير إذنه، وإن رجع قبل السنة، لم يملك الغرس بعد الرجوع؛ لأن الإذن قد زال، فأما ما غرسه بالإذن، فإن كان قد شرط عليه قلعه لزمه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» حديث حسن صحيح.
وإن شرط عليه تسوية الحفر لزمه للخبر، وإلا لم يلزمه؛ لأنه أذن في حفرها باشتراطه القلع، ولم يشترط تسويتها، وإن لم يشترط عليه قلعه لكن لا تنقص قيمته بقلعه، لزم قلعه؛ لأنه أمكن رد العارية فارغة من غير ضرر فوجب، وإن نقصت قيمته بالقلع فاختار المستعير، فله ذلك؛ لأنه ملكه فملك نقله، وعليه تسوية الأرض؛ لأن القلع باختياره لو امتنع منه، لم يجبر عليه؛ لأنه فعله لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية، كالمشتري مع الشفيع إذا أخذ غرسه. وقال القاضي: لا تلزمه التسوية؛ لأن المعير دخل على هذا بإذنه في الغراس الذي لا يزول إلا بالحفر عليه، وإن أبى قلعه فبذل المعير قيمته ليملكه، أجبر على قبولها؛ لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق، فأشبه الشفيع مع المشتري، ولو بذل المستعير قيمة الأرض ليملكها مع غرسه، لم يجبر المعير عليه؛ لأن الغرس يتبع الأرض في الملك، بخلاف الأرض، فإنها لا تتبع للغرس، فإن بذل المعير أرش النقص الحاصل بالقلع، أجبر المستعير على قبوله؛ لأنه رجوع في العارية من غير إضرار، وإن لم يبذل القيمة، ولا أرش النقص، وامتنع المستعير من القلع، لم يقلع؛ لأنه إذن له فيما يتأبد، فلم يملك الرجوع على وجه يضر به، كما لو أذن له في وضع خشبة على حائطه، ولم يذكر أصحابنا عليه أجرة؛ لأن بقاء غرسه بحكم العارية، وهي انتفاع بغير أجرة، كالخشب على الحائط، وذكروا في الزرع أن عليه الأجرة لمدة بقاء الزرع من حين الرجوع؛ لأنه لا يملك الانتفاع بأرض غيره بعد الرجوع بغير أجرة، وهذا يقتضي وجوب الأجرة على صاحب الغراس بعد الرجوع، وللمعير دخول أرضه كيف شاء؛ لأن بياضها له، لا حق للمستعير فيها، وللمستعير دخولها، للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة؛ لأن الإذن في الغراس إذن بما يعود في صلاحه، وأخذ الثمرة، وليس له دخولها للتفرج ونحوه، ولا يمنع واحد منهما من بيع ملكه لمن شاء يكون بمنزلته؛ لأنه ملكه على الخصوص فملك بيعه، كالشقص المشفوع.
فصل:
وإن رجع في العارية وفي الأرض، زرع مما يحصد قصيلًا، حصده؛ لأنه أمكن(2/215)
الرجوع من غير إضرار، وإن لم يمكن، لزم المعير تركه بالأجرة إلى وقت حصاده؛ لأنه لا يملك الرجوع على وجه يضر بالمستعير، وإن حمل السيل بذر رجل إلى أرض آخر فنبت فيه، ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم العارية؛ لأنه بغير تفريط من ربه، إلا أن عليه أجرة الأرض؛ لأنه لا يجوز استيفاء نفع أرش إنسان بغير إذنه من غير أجرة، فصار كزرع المستعير بعد رجوع المعير، وقال القاضي: ليس عليه أجرة؛ لأنه حصل بغير تفريطه، أشبه مبيت بهيمته في دار غيره.
والثاني: حكمه حكم الغصب؛ لأنه حصل في ملكه بغير إذنه.
فصل:
وإن أعاره حائطًا ليضع عليه أطراف خشبه، لم يكن له الرجوع ما دام الخشب على الحائط؛ لأن هذا يراد للبقاء، وليس له الإضرار بالمستعير، فإن بذل المالك قيمة الخشب ليملكه، لم يكن له؛ لأن معظمه في ملك صاحبه، فإن أزيل الخشب لتلفه أو سقوطه أو هدم الحائط، لم يجز رده إلا بإذن مستأنف؛ لأن الإذن تناول الوضع الأول، فلا يتعدى إلى غيره، وإن وجدت أخشاب على حائط لا يعلم سببها، ثم نقلت جاز إعادتها؛ لأن الظاهر أنها بحق ثابت، وإن استعار سفينة، فحمل متاعه فيها، لم يملك صاحبها الرجوع فيها حتى ترسي. وإن أعاره أرضًا للدفن، لم يملك الرجوع فيها ما لم يبل الميت لما ذكرنا.
فصل:
وإن استعار شيئًا يرهنه مدة معلومة على دين معلوم صح؛ لأنه نوع انتفاع. فإن أطلق الإذن من غير تعيين صح؛ لأن العارية لا يشترط في صحتها تعيين النفع، فإن عين فخالفه، فالرهن باطل؛ لأنه رهنه بغير إذن مالكه، وإن أذن له في رهنه بمائة، فرهنه بأقل منها صح؛ لأن من أذن في شيء فقد أذن في بعضه؛ وإن رهنه أكثر منها بطل في الكل في أحد الوجهين؛ لأنه مخالف، أشبه ما لو خالف في الجنس، وفي الآخر: يصح في المأذون، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة.
وللمعير مطالبة الراهن بفكاكه في الحال، سواء أجله أو أطلق؛ لأن العارية لا تلزم، وإن حل الدين قبل فكاكه بيع واستوفى الدين من ثمنه؛ لأن هذا مقتضى الرهن، ويرجع المعير على المستعير بقيمته أو مثله إن كان مثليًا؛ لأن العارية مضمونة بذلك، ولا يرجع بما بيع به إن كان أقل من القيمة؛ لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها.
وإن بيع بأكثر من قيمته، رجع به؛ لأن ثمن العين ملك لصاحبها، وقيل: لا يرجع(2/216)
بالزيادة. وإن تلف في يد المرتهن، رجع المعير على المستعير، ويرجع المستعير على المرتهن إن كان تعدى، وإلا فلا.
فإن قضى المعير الدين وفك الرهن بإذن الراهن، رجع عليه، وإن كان بغير إذنه متبرعًا، لم يرجع. وإن قضاه محتسبًا بالرجوع، ففيه روايتان، بناء على قضاء دينه بغير إذنه.
فصل:
إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال: أعرتنيها فقال: بل أجرتكها عقيب العقد، والدابة قائمة، فالقول قول الراكب؛ لأن الأصل عدم الإجارة وبراءة ذمته من الأجرة، وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة، فالقول قول المالك؛ لأنهما اختلفا في صفة نقل ملكه إلى غيره، فأشبه ما لو اختلفا في العين، فقال: وهبتنيها وقال: بل بعتكها، فيحلف المالك، ويجب له المسمى في أحد الوجهين؛ لأنه ادعاه وحلف عليه.
والآخر تجب أجرة المثل؛ لأنهما لو اتفقا على الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة، لم يجب أكثر من أجرة المثل، فمع الاختلاف أولى. وإن قال: أكريتنيها. قال: بل أعرتكها، بعد تلفها أو قبله، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في صفة القبض، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» حديث حسن. والقول قول الراكب في قدر القيمة مع يمينه، وإن قال: غصبتنيها. قال: بل أعرتنيها أو أكريتنيها، فالقول قول المالك لذلك، ولأن الراكب يدعي انتقال المنافع إلى ملكه بالعارية أو الكراء. والمالك ينكر ذلك والأصل معه.
[باب الغصب]
وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق، وهو محرم بالإجماع، وقد روى جابر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته يوم النحر: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا» رواه مسلم، ومن غصب شيئًا، لزمه رده؛ لما روى سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده» وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمنها؛ لأن حق المالك في العين، وهي باقية لم تتغير صفتها، فلا حق له في(2/217)
القيمة مع بقاء العين، وإن نقصت القيمة لنقص المغصوب نقصًا مستقرًا، كثوب استخلق، أو تخرق، وإناء تكسر أو تشقق، وشاة ذبحت، وحنطة طحنت، فعليه رده وأرش نقصه؛ لأنه نقص عين نقصت به القيمة، فوجب ضمانه، كذراع من الثوب، وإن طالب المالك ببدله، لم يملك ذلك؛ لأن عين ماله باق، فلم يملك المطالبة ببدله، كما لو قطع من الثوب جزءًا، وإن كان النقص غير مستقر، كطعام ابتل أو عفن، فله بدله في قول القاضي؛ لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف، وقال أبو الخطاب: يخير بين ذلك وبين تركه حتى يستقر فيه الفساد، ويأخذه مع أرشه؛ لأن عين ماله باقية، فلا يمنع من أخذها مع أرشها، كالثوب الذي تخرق.
فصل:
فإن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه، كنقصه لكبر، أو مرض، أو شجة دون الموضحة، ففيه ما نقص مع الرد لذلك، وإن كان أرشه مقدرًا، كذهاب يده، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه ضمان مال، أشبه ضمان البهيمة. والأخرى: يرده وما يجب بالجناية؛ لأنه ضمان للرقيق فوجب فيه المقدر، كضمان الجناية، فإن قطع الغاصب يده، فعلى هذه الرواية الواجب نصف قيمته، كغير المغصوب.
وعلى الأولى عليه أكثر الأمرين من نصف قيمته، أو قدر نصفه؛ لأنه قد وجدت اليد والجناية، فوجب أكثرهما ضمانًا، وإن غصب عبدًا، فقطع أجنبي يده، فللمالك تضمين أيهما شاء، فعلى الأولى: إن ضمن الغاصب، ضمنه أكثر الأمرين، ويرجع الغاصب على القاطع بنصف قيمته لا غير؛ لأن ضمانه ضمان الجناية، وإن ضمن الجاني، ضمنه نصف القيمة، وطالب الغاصب بتمام النقص، وعلى الثانية: يطالب أيهما شاء، ويستقر الضمان على القاطع؛ لأنه المتلف فيكون الرجوع عليه.
فصل:
وروي عن أحمد فيمن قلع عين فرس: أنه يضمنها بربع قيمتها؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والصحيح أن يضمنها بنقصها؛ لأنها بهيمة فلم يكن فيها مقدر، كسائر البهائم أو كسائر أعضائها، ويحمل ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن عين الدابة التي قضى فيها نقصها ربع القيمة، ولو غصب دابة قيمتها مائة، فزادت فصارت قيمتها ألفًا، ثم جنى عليها جناية نقصت نصف قيمتها، لزمه خمسمائة؛ لأن الواجب قيمة ما أتلف يوم التلف، وقد فوت نصفها، فضمن خمسمائة.
فصل:
فإن نقصت العين دون القيمة، وكان الذاهب يضمن بمقدر، كعبد خصاه وزيت(2/218)
أغلاه، فذهب نصفه، ولم تنقص قيمته، فعليه قيمة العبد، ومثل ما نقص من الزيت مع ردهما؛ لأن الواجب فيهما مقدر بذلك، فإن لم يكن مقدرًا، كعبد سمين هزل فلم تنقص قيمته، لم يلزمه أرش هزاله؛ لأن الواجب فيه ما نقص من القيمة، ولم تنقص. فإن أغلى عصيرًا فنقص، فهو كالزيت؛ لأنه في معناه، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأن الغليان عقد أجزائه وجمعها، وأذهب مائيته فقط، بخلاف الزيت، فإن نقصت عينه وقيمته، فعليه مثل ما نقص من العين وأرش نقص الباقي في العصير والزيت؛ لأن كل واحد من النقصين مضمون منفردا، فكذلك إذا اجتمعا، ولو شق ثوبًا ينقصه الشق نصفين، ثم تلف أحدهما، رد الباقي وتمام قيمة الثوب قبل قطعه، وإن غصب خفين، فتلف أحدهما، فكذلك في أحد الوجهين؛ لأن نقص الباقي بسبب تعديه. والآخر. لا يلزمه إلا رد الباقي، وقيمة التالف؛ لأنه لم يتلف إلا أحدهما.
فصل:
وإن غصب عبدًا فمرض، أو ابيضت عينه ثم برئ، لم يلزمه إلا رده؛ لأن نقصه زال، فأشبه ما لو انقلعت سنه، ثم عادت. وإن هزل ثم سمن، أو نسي صناعته ثم علمها، فكذلك في أحد الوجهين؛ لأن نقصه زال، فأشبهت التي قبلها. والآخر: يضمن النقص؛ لأن السمن الثاني غير الأول، فلا يسقط به ما وجب بزوال الأول، فعلى هذا الوجه، لو سمن ثم هزل، ضمنهما معًا؛ لأن الثاني غير الأول، وعلى الوجه الأول، يضمن أكثر السمنين قيمة؛ لأن عود السمن أسقط ما قابله من الأرش، فإن كانت الزيادة الثانية، من غير جنس الأولى، كعبد هزل فنقصت قيمته، ثم تعلم فعادت قيمته، ضمن الأولى؛ لأن الثانية من غير جنس الأولى، فلا تنجبر بها، وإن نسي الصناعة أيضًا، ضمن النقصين جميعًا، لما ذكرنا.
فصل:
فإن جنى العبد المغصوب، لزم الغاصب ما يستوفي من جنايته؛ لأنه بسبب كان في يده، وإن أقيد منه في الطرف، فحكمه حكم ذهابه بفعل الله تعالى؛ لكونه ضمانًا وجب باليد لا بالجناية، فإن القطع قصاصًا ليس بجناية، وأن تعلق الأرش برقبته، فعليه فداؤه؛ لأنه حق تعلق برقبته في يده، فلزمه تخليصه منه. وإن جنى على سيده، ضمن الغاصب جنايته؛ لأنها من جملة جناياته، فأشبه الجناية على أجنبي.
فصل:
وإن زاد المغصوب في يده، كجارية سمنت، أو ولدت، أو كسبت، أو شجرة أثمرت، أو طالت، فالزيادة للمالك مضمونة على الغاصب؛ لأنها حصلت في يده(2/219)
بالغصب، فأشبهت الأصل، وإن ألقت الولد ميتًا، ضمنه بقيمته، يوم الوضع لو كان حيًا؛ لأنه غصب بغصب الأم. وإن صاد العبد والجارية صيدًا، فهو لمالكهما؛ لأنه من كسبهما. وهل تجب أجرة العبد الكاسب أو الصائد في مدة كسبه، أو صيده؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تجب؛ لأن منافعه صارت إلى سيده، فأشبه ما لو كان في يده.
والثاني: تجب؛ لأن الغاصب أتلف منافعه، وإن غصب فرسًا، أو قوسًا، أو شركًا، فصاد به، ففيه وجهان:
أحدهما: هو لصاحبه؛ لأن صيده حصل به، أشبه صيد الجارحة.
والثاني: للغاصب؛ لأنه الصائد، وهذه آلة. وإن غصب منجلًا، فقطع به حطبًا، أو خشبًا، أو حشيشًا، فهو للغاصب؛ لأن هذا آلة، فهو كالحبل يربطه به.
فصل:
وإن غصب أثمانًا، فاتجر بها، فالربح لصاحبها؛ لأنه نماء ماله، وإن اشترى في ذمته، ثم نقدها فيه، فكذلك في إحدى الروايتين. والأخرى: هو للغاصب؛ لأن الثمن ثبت في ذمته، فكان الشراء له، والمبيع ربحه له؛ لأنه بذل ما وجب عليه، وقياس المذهب: إنه إذا اشترى بعينه كان الشراء باطلًا، والسلعة للبائع.
فصل:
وإن غصب عينًا، فاستحالت، كبيض صار فرخًا، وحب صار زرعًا، وزرع صار حبًا، ونوى صار شجرًا، وجب رده؛ لأنه عين ماله، فإن نقصت قيمته، ضمن أرش نقصه؛ لحدوثه في يده، وإن زاد، فالزيادة لمالكه، ولا شيء للغاصب بعمله فيه؛ لأنه غير مأذون فيه، وإن غصب عصيرًا فتخمر، ضمن العصير بمثله؛ لأنه تلف في يده، فإن عاد خلًا، رده وما نقص من قيمة العصير؛ لأنه عين العصير، أشبه النوى يصير شجرًا.
فصل:
فإن عمل فيه عملًا، كثوب قصره، أو فصله وخاطه، أو قطن غزله، أو غزل نسجه، أو خشب نجره، أو ذهب صاغه، أو ضربه، أو حديد جعله إبرًا، فعليه رده؛ لأنه عين ماله، ولا شيء للغاصب؛ لأنه عمل في ملك غيره بغير إذنه، فلم يستحق شيئًا، كما لو أغلى الزيت. وإن نقص بذلك، فعليه ضمان نقصه؛ لأنه حدث بفعله. وعنه: أنه إن زاد يكون شريكًا للمالك بالزيادة؛ لأن منافعه أجريت مجرى الأعيان، أشبه، ما لو صبغ الثوب، والأول أصح.(2/220)
فصل:
فإن غصب شيئًا، فخلطه بما يتميز منه، كحنطة بشعير، أو زبيب أحمر بأسود، فعليه تمييزه ورده؛ لأنه أمكن رده، فوجب، كما لو غصب عينًا فبعدها، وإن خلطه بمثله مما لا يتميز، كزيت بزيت، لزمه مثل كيله منه؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه، فلم ينتقل إلى البدل في الجميع، كما لو غصب شيئًا، فتلف بعضه.
وهذا ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه نص على أنه شريك إذا خلطه بغير جنسه، فنبه على الشركة إذا كان مثله. وقال القاضي: قياس المذهب أنه يلزمه مثله، إن شاء الغاصب منه أو من غيره؛ لأنه تعذر رد عينه، أشبه ما لو أتلفه. وإن خلط بأجود منه، لزمه مثله من حيث شاء الغاصب، فإن دفع إليه منه، لزمه أخذه؛ لأنه أوصل إليه خيرًا من حقه من جنسه. وإن خلطه بدونه، لزمه مثله، فإن اتفقا على أخذ المثل منه جاز، وإن أباه المالك، لم يجبر؛ لأنه دون حقه. وإن طلب ذلك، فأباه الغاصب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر؛ لأن الحق انتقل إلى ذمته، فكانت الخيرة إليه في التعيين.
والثاني: يلزمه؛ لأنه قدر على دفع بعض ماله إليه من غير ضرر، فلزمه، كما لو كان مثله. وإن خلطه بغير جنسه، كزيت بشيرج، لزمه مثله من غيره، وأيهما طلب الدفع منه، فأبى الآخر لم يجبر، وقد قال أحمد في رجل له رطل زيت اختلط برطل شيرج لآخر: يباع الدهن كله، ويعطى كل واحد منهما قدر حصته، فيحتمل أن يختص هذا بما لم يخلطه أحدهما، ويحتمل أن يعم سائر الصور؛ لأنه أمكن أن يصل إلى كل واحد بدل عين ماله، فأشبه ما لو غصب ثوبًا فصبغه. فإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته مفردًا، ضمن الغاصب نقصه؛ لأنه بفعله، وإن خلطه بما لا قيمة له، كزيت بماء وأمكن تخليصه، وجب تخليصه ورده مع أرش نقصه، وإن لم يمكن تخليصه، أو كان ذلك يفسده، وجب مثله؛ لأنه أتلفه. ولو أعطاه بدل الجيد أكثر منه رديئًا، أو أقل منه وأجود صفة، لم يجز؛ لأنه ربا، إلا أن يكون اختلاطه بغير جنسه فيجوز؛ لأن الربا لا يجوز في جنسين.
فصل:
فإن غصب ثوبًا فصبغه، فلم تزد قيمة الثوب والصبغ ولم تنقص، فهما شريكان يباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما؛ لأن الصبغ عين مال، له قيمة، فلم يسقط حقه فيها باتصالها بمال غيره. وإن زادت قيمتهما فالزيادة بينهما؛ لأنها نماء مالهما. وإن نقصت القيمة، ضمنها الغاصب؛ لأن النقص حصل بسببه، وإن زادت قيمة أحدهما لزيادة قيمته في السوق، فالزيادة لمالك ذلك؛ لأنها نماء ماله. وإن بقيت للصبغ قيمة، فأراد(2/221)
الغاصب إخراجه، وضمان النقص، فله ذلك؛ لأنه عين ماله، أشبه ما لو غرس في أرض غيره، ويحتمل أن لا يملك ذلك؛ لأنه يضر بملك المغصوب منه لنفع نفسه، فمنع منه، بخلاف الأرض، فإنه يمكن إزالة الضرر بتسوية الحفر، ولأن قلع الغرس معتاد، بخلاف قلع الصبغ، وإن أراد المالك قلعه، ففيه وجهان:
أحدهما: يملكه ولا شيء عليه، كما يملك قلع الشجر من أرضه.
والآخر: لا يملكه؛ لأن الصبغ يهلك به، أشبه قلع الزرع، وإن بذل المالك قيمة الصبغ ليملكه، لم يجبر الغاصب عليه؛ لأنه بيع ماله، ويحتمل أن يجبر. كما يملك أخذ زرع الغاصب بقيمته، وكالشفيع يأخذ غرس المشتري، وإن وهبه الغاصب لمالكه، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأنه صار صفة للعين، فأشبه قصارة الثوب.
والآخر: لا يلزمه؛ لأن الصبغ عين يمكن إفرادها فأشبه الغراس، فإن أراد المالك بيع الثوب، فله ذلك؛ لأنه ملكه، فلم يمنع بيعه، وإن طلب الغاصب بيعه، فأباه المالك لم يجبر؛ لأن الغاصب متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك صاحب الثوب عنه، كما لو طلب الغارس في أرض غيره بيعها. ويحتمل أن يجبر، ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، وإن غصب ثوبًا وصبغًا من رجل فصبغه به، فعليه رده وأرش نقصه إن نقص؛ لأنه بفعله والزيادة للمالك؛ لأنه عين ماله ليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل. وإن صبغه بصبغ غصبه من غيره، فهما شريكان في الأصل والزيادة، وإن نقص، فالنقص من الصبغ؛ لأنه تبدد، ويرجع صاحبه على الغاصب؛ لأنه بدده. وإن غصب عسلًا ونشاء، فعمله حلواء، فحكمه كحكم غصب الثوب وصبغه سواء.
فصل:
وإن غصب أرضًا فغرسها، أو بنى فيها، لزمه قلعه؛ لما روى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق» قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأنه شغل ملك غيره، بملك لا حرمة له في نفسه فلزمه تفريغه، كما لو ترك فيها قماشًا، وعليه تسوية الحفر، ورد الأرض إلى ما كانت عليه، وضمان نقصها إن نقصت؛ لأنه حصل بفعله.
وإن بذل له المالك قيمة غرسه، وبنائه، ليملكه، فأبى إلا القلع، فله ذلك؛ لأنها معاوضة، فلم يجبر عليها. وإن وهبه الغاصب الغراس، أو البناء، لم يجبر على قبوله، إن كان له غرض في القلع؛ لأنه يفوت غرضه، وإن لم يكن فيه غرض، احتمل أن يجبر؛ لأنه يتخلص كل واحد منهما من صاحبه بغير ضرر، واحتمل أن لا يجبر؛ لأن ذلك عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبولها، كما لو يكن في أرضه، وإن غرسها من(2/222)
ملك صاحب الأرض فطالبه بالقلع، وله فيه غرض لزمه؛ لأنه فوت عليه غرضًا بالغرس، فلزمه رده، كما لو ترك فيها حجرًا، وإن لم يكن فيه غرض، لم يجبر عليه؛ لأنه سفه، ويحتمل أن يجبر؛ لأن المالك محكم في ملكه، وإن أراد الغاصب قلعه، فللمالك منعه؛ لأنه ملكه، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل.
فصل:
فإن حفر فيها بئرًا، فطالبه المالك بطمها لزمه؛ لأنه نقل ملكه، وهو التراب من موضعه، فلزمه رده، وإن طلب الغاصب طمها لدفع ضرر، مثل إن جعل ترابها في غير أرض المالك، فله طمها؛ لأنه لا يجبر على إبقاء ما يتضرر به، كإبقاء غرسه، وإن جعل التراب في أرض المالك، لم يبرئه من ضمان ما يتلف بها، فله طمها؛ لأنه يدفع ضرر الضمان عنه، وإن أبرأه من ضمان ما يتلف بها، ففيه وجهان:
أحدهما: يبرأ؛ لأنه لما سقط الضمان بالإذن في حفرها، سقط بالإبراء منها، فعلى هذا لا يملك طمها؛ لأنه لا غرض فيه.
والثاني: لا يبرأ بالإبراء؛ لأنه إنما يكون من واجب، ولم يجب بعد شيء فعلى هذا يملك طمها لغرضه فيه.
فصل:
وإن زرعها، وأخذ زرعه، فعليه أجرة الأرض، وما نقصها، والزرع له؛ لأنه عين بذره نما، وإن أدركها ربها، والزرع قائم، فليس له إجبار الغاصب على القلع، ويخير بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه، ويدفع إلى الغاصب نفقته؛ لما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأنه أمكن الجمع بين الحقين بغير إتلاف، فلم يجز الإتلاف، كما لو غصب لوحًا، فرقع به سفينة ملججة في البحر، وفارق الغراس؛ لأنه لا غاية له ينتظر إليها. وفيما يرده من النفقة روايتان:
إحداهما: القيمة؛ لأنه بدل عنه، فتقدرت به، كقيم المتلفات.
والثانية: ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث وغيره؛ لظاهر الحديث، ولأن قيمة الزرع زادت من أرض المالك، فلم يكن عليه عوضها، وإن أدرك رب الأرض شجر الغاصب مثمرًا، فقال القاضي: للمالك أخذه، وعليه ما أنفقه الغاصب من مؤنة الثمرة كالزرع؛ لأنه في معناه، وظاهر كلام الخرقي: أنه للغاصب؛ لأنه ثمر شجره، فكان له كولد أمته.(2/223)
فصل:
وإن جصص الدار، وزوقها، فالحكم فيه كالحكم في البناء سواء، وإن وهب ذلك لمالكها، ففي إجباره على قبول الهبة وجهان، كالصبغ في الثوب.
فصل:
وإن غصب عينًا فبعدت بفعله أو بغيره، فعليه ردها، وإن غرم أضعاف قيمتها؛ لأنه بتعديه. وإن غصب خشبة، فبنى عليها فبليت، لم يجب ردها، ووجبت قيمتها؛ لأنها هلكت فسقط ردها. وإن بقيت على جهتها، لزم ردها، وإن انتقض البناء؛ لأنه مغصوب يمكن رده، فوجب كما لو بعدها. وإن غصب خيطًا فخاط به ثوبًا، فهو كالخشبة في البناء. وإن خاط به جرحه، أو جرح حيوان يخاف التلف بقلعه، أو ضررًا كثيرًا، لم يقلع؛ لأن حرمة الحيوان آكد من حرمة مال الغير، ولهذا جاز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان دون غيره، إلا أن يكون الحيوان مباح القتل كالمرتد والخنزير فيجب رده؛ لأنه لا حرمة للحيوان. وإن كان الحيوان مأكولًا للغاصب، فيجب رده؛ لأنه يمكن ذبح الحيوان والانتفاع بلحمه، ويحتمل ألا يقلع؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذبح الحيوان لغير مأكله. وإن كان الحيوان لغير الغاصب لم يقلع بحال؛ لأن فيه ضررًا بالحيوان وبصاحبه، وإن مات الحيوان، وجب رد الخيط، إلا أن يكون آدميًا؛ لأن حرمته باقية بعد موته، والحكم فيما إذا بلع الحيوان جوهرة كالحكم في الخيط سواء.
فصل:
وإن غصب لوحًا فرقع به سفينة، وخاف الغرق بنزعه، لم ينزع؛ لأنه يمكنه رده بغير إتلاف ماله، بأن تخرج إلى الشط، فلم يجز إتلافه، سواء كان فيها ماله، أو مال غيره.
فصل:
وإن ادخل فصيلًا أو غيره إلى داره، فلم يمكن إخراجه إلا بنقض الباب نقض، كما ينقض البناء لرد الخشبة، وإن دخل الفصيل من غير تفريطه، فعلى صاحب الفصيل ما يصلح به الباب؛ لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب، وهكذا الحكم إن وقع الدينار في محبرة إنسان بتفريط أو غيره.
فصل:
وإن غصب عبدًا فأبق، أو دابة فشردت، فللمغصوب منه المطالبة بقيمته؛ لأنه تعذر رده فوجب بدله، كما لو تلف. فإذا أخذ البدل، ملكه؛ لأنه بدل ماله، كما يملك بدل(2/224)
التالف. ولا يملك الغاصب المغصوب؛ لأنه لا يصح تمليكه بالبيع، فلا يملكه بالتضمين كالتالف، فإذا قدر عليه، رده وأخذ القيمة؛ لأنها استحقت بالحيلولة، وقد زالت، فوجب ردها، وزيادة القيمة المتصلة للغاصب؛ لأنها تتبع الأصل، والمنفصلة للمغصوب منه؛ لأنها لا تتبع الأصل في الفسخ بالعيب، وهذا فسخ، فأما المغصوب فيرد بزيادته المتصلة والمنفصلة؛ لأن ملك صاحبه لم يزل عنه.
فصل:
وإن غصب أثمانًا، فطالبه مالكها بها في بلد آخر، لزم ردها إليه؛ لأن الأثمان قيم الأموال، فلم يضر اختلاف قيمتها، وإن كان المغصوب من المتقومات، لزم دفع قيمتها في بلد الغصب، وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة، أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه، فله مطالبته بمثله؛ لأنه لا ضرر على الغاصب فيه. وإن كانت أكثر فليس له المثل؛ لأننا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه، وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب، وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب، أو المثل في بلد الغصب، رده وأخذ القيمة كما لو كان عبدًا فأبق.
فصل:
إذا تلف المغصوب، وهو مما له مثل، كالأثمان والحبوب والأدهان، فإنه يضمن بمثله؛ لأنه يماثله من حيث الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والاجتهاد، فكان المثل أولى، كالنص مع القياس، فإن تغيرت صفته كرطب صار تمرًا، أو سمسم صار شيرجًا، ضمنه المالك بمثل أيهما شاء؛ لأنه قد ثبت ملكه على واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما. وإن وجب المثل وأعوز وجبت قيمته يوم عوزه؛ لأن يسقط بذلك المثل، وتجب القيمة، فأشبه تلف المتقومات. وقال القاضي: تجب قيمته يوم قبض البدل؛ لأن التلف لم ينقل الوجوب إلى القيمة، بدليل ما لو وجد المثل بعد ذلك، وجب رده، وإن قدر على المثل بأكثر من قيمته، لزمه شراؤه؛ لأنه قدر على أداء الوجوب فلزمه، كما لو قدر على رد المغصوب بغرامة.
فصل:
فإن كان مما لا مثل له، وجبت قيمته؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركًا له في عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد، قوم وأعطي شركاؤه حصصهم» متفق عليه. فأوجب القيمة؛ لأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن، لاختلاف الجنس الواحد، فكانت القيمة أقرب إلى إبقاء حقه. فإن اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف نظرت، فإن كان ذلك لمعنى فيه وجبت قيمته أكثر ما كانت؛ لأن معانيه مضمونة(2/225)
مع رد العين، فكذا مع تلفها، وإن كان لاختلاف الأسعار، فالواجب قيمته يوم تلف؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته، وما زاد على ذلك، لا يضمن مع الرد، فكذلك مع التلف، كالزيادة في القيمة. وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلف فيه؛ لأنه موضع الضمان، وإن كان المضمون سبيكة، أو نقرة أو مصوغًا، ونقد البلد من غير جنسه، أو قيمته كوزنه، وجبت؛ لأن تضمينه بها لا يؤدي إلى الربا، فأشبه غير الأثمان. وإن كان نقد البلد من جنسه وقيمته مخالفة لوزنه، قوم بغير جنسه كي لا يؤدي إلى الربا. وإن كانت الصياغة محرمة، فلا عبرة بها؛ لأنها لا قيمة لها شرعًا. وذكر القاضي: أن ما زادت قيمته لصناعة مباحة، جاز أن يضمن بأكثر من وزنه؛ لأن الزيادة في مقابل الصنعة، فلا يؤدي إلى الربا.
فصل:
وإذا كانت للمغصوب منفعة مباحة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة، فعليه الأجرة.
وعنه: إن منافع الغصب لا تضمن، والمذهب الأول؛ لأنه يطلب بدلها بعقد المعاينة، فتضمن بالغصب كالعين. وسواء رد العين أو بدلها؛ لأن ما وجب مع ردها، وجب مع بدلها، كأرش النقص. فإن تلفت العين، لم تلزمه أجرتها بعد التلف؛ لأنه لم يبق لها أجرة، ولو غصب دارًا فهدمها، أو عرصة فبناها، أو دارًا فهدمها ثم بناها وسكنها، فعليه أجرة عوضه؛ لأنه لما هدم البناء لم يبق لها أجرة لتلفها، ولما بنى العرصة كان البناء له، فلم يضمن أجرة ملكه، إلا أن يبنيها بترابها، أو آلة للمغصوب منه فيكون ملكه؛ لأنها أعيان ماله، وليس للغاصب فيه إلا أثر الفعل، فتكون أجرتها عليه. وكل ما لا تستباح منافعه بالإجارة أو تندر إجارته، كالغنم، والشجر، والطير، فلا أجرة له. ولو أطرق فحلًا، أو غصب كلبًا لم تلزمه أجرة لذلك؛ لأنه لا يجوز أخذ العوض من منافعه بالعقد، فلا يجوز بغيره.
فصل:
وإن غصب ثوبًا فلبسه وأبلاه، فعليه أجرته وأرش نقصه؛ لأن كل واحد منهما يضمن منفردًا فيضمن مع غيره، ويحتمل أن يضمن أكثر الأمرين من الأجرة وأرش النقص؛ لأن ما نقص حصل بالانتفاع الذي أخذ المالك أجرته، ولذلك لا يضمن المستأجر أرش هذا النقص، وإن كان الثوب مما لا أجرة له كغير المخيط، فعليه أرش نقصه حسب. وإن كان المغصوب عبدًا فكسب، ففي أجرة مدة كسبه وجهان، كذلك وإن أبق العبد فغرم قيمته، ثم وجده فرده، ففي أجرته من حين دفع قيمته إلى رده وجهان:(2/226)
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن المغصوب منه ملك بدل العين، فلا يستحق أجرتها.
والثاني: يلزمه؛ لأن منافع ماله تلفت بسبب كان في يد الغاصب، فلزمه ضمانها، كما لو لم يدفع القيمة. وإن غصب أرضًا فزرعها، فأخذ المالك زرعها، لم تكن على الغاصب أجرة؛ لأن منافع ملكه عادت إليه، إلا أن يأخذه بقيمته، فتكون له الأجرة إلى وقت أخذه؛ لأن القيمة زادت بذلك للغاصب، فكان نفعها عائدًا إليه.
فصل:
وإذا غصب عينًا فباعها لعالم بالغصب، فتلفت عند المشتري، فللمالك تضمين أيهما شاء، قيمتها وأجرتها مدة مقامها في يد المشتري فيضمن الغاصب لغصبه، والمشتري لقبضه ملك غيره بغير إذنه، فإن ضمن الغاصب، رجع على المشتري، وإن ضمن المشتري، لم يرجع على أحد؛ لأنه غاصب تلف المغصوب في يده، فاستقر الضمان عليه، كالغاصب إذا تلف تحت يده.
فأما أجرتها أو نقصها قبل بيعها، فعلى الغاصب وحده، ولا شيء على المشتري منه، وإن كان جارية فوطئها، لزمه الحد والمهر، وردها مع ولدها، وأجرتها، وأرش نقصها، وولده رقيق؛ لأن وطأه زنا، فأشبه الغاصب، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، فلا حد عليه، وولده حر، وعليه فداؤه بمثله يوم وضعه؛ لأنه مغرور، فأشبه ما لو تزوجها على أنها حرة، وللمالك تضمين أيهما شاء، لما ذكرنا، فإن ضمن الغاصب، رجع على المشتري بقيمة العين، ونقصها، وأرش بكارتها؛ لأنه دخل مع البائع، على أن يكون ضامنًا لذلك بالثمن، فلم يغره فيه، ولا يرجع عليه ببدل الولد إذا ولدت منه ونقص الولادة؛ لأنه دخل معه على أن لا يضمنه فغره بذلك، فأما ما حصلت له به منفعة، ولم يلتزم ضمانه، كالأجرة والمهر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يرجع به؛ لأن المشتري دخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض، فقد غره فاستقر الضمان على الغاصب، كعوض الولد.
والثانية: يرجع به؛ لأن المشتري استوفى بدل ذلك، فتقرر ضمانه عليه، وإن ضمن المشتري، رجع على الغاصب بما لا يرجع به الغاصب عليه؛ لأنه استقر ضمانه على الغاصب، ولم يرجع بما يرجع به الغاصب عليه؛ لأنه لا فائدة في رجوعه عليه بما يرجع به الغاصب عليه.
فصل:
وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب، أو أطعمه إياه، استقر الضمان على(2/227)
المتهب، ولم يرجع على أحد؛ لما ذكرنا في المشتري، وإن لم يعلم، رجع بما غرم على الغاصب؛ لأنه غره بدخوله معه، على أنه لا يضمن.
وعنه: فيما إذا أكله أو أتلفه: لا يرجع به؛ لأنه غرم ما أتلف، فعلى هذا إن غرم الغاصب، رجع على الأكل؛ لأنه أتلف، فاستقر الضمان عليه، وإن أجر الغاصب العين، ثم استردها المالك، رجع على من شاء منهما بأجرتها، ويستقر الضمان على المستأجر علم أو جهل؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة، ويسقط عنه المسمى في الإجارة، وإن تلفت العين فغرمها، رجع به على الغاصب إذا لم يعلم؛ لأنه دخل معه، على أنه لا يضمن، وإن وكل رجلًا في بيعها، أو أودعها، فللمالك تضمين من شاء، لما ذكرنا. وإن ضمنهما، رجعا بما غرما على الغاصب، إلا أن يعلما بالغصب، فيستقر الضمان عليهما. وإن أعارها، استقر الضمان على المستعير، علم أو جهل؛ لأنه دخل معه، على أنها مضمونة عليه، وإن غرمه الأجرة، ففيه وجهان. مضى توجيههما في المشتري.
فصل:
وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالمًا به، برئ الغاصب؛ لأنه أتلف ماله برضاه، عالمًا به، وإن لم يعلم، فالمنصوص أنه يرجع. قيل لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية، ولم يعلم، فقال: كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية. ويقول هذا: لك عندي هدية؛ لأنه بالغصب أزال سلطانه، وبالتقديم إليه لم يعد ذلك السلطان، فإنه إباحة لا يملك بها التصرف في غير ما أذن له فيه.
ويتخرج أن يبرأ؛ لأنه رد إليه ماله فبرئ، كما لو وهبه إياه. ويحمل كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، على أنه أوصل إليه بدله، فأما إذا وهبه إياه، فالصحيح أنه يبرأ؛ لأنه قد تسلمه تسليمًا صحيحًا، ورجع إليه سلطانه به، وزالت يد الغاصب بالكلية، وكذلك إن باعه إياه، وسلمه إليه. فأما إن أودعه إياه، أو أعاره أو أجره إياه، فإن علم أنه ماله، برئ الغاصب؛ لأنه عاد إلى يده وسلطانه وإن لم يعلم، لم يبرأ؛ لأنه لم يعد إليه سلطانه، وإنما قبضه على الأمانة، وقال بعض أصحابنا: يبرأ؛ لأنه عاد إلى يده.
فصل:
وأم الولد تضمن بالغصب؛ لأنها تضمن في الإتلاف بالقيمة، فتضمن في الغصب، كالقن، ولا يضمن الحر بالغصب؛ لأنه ليس بمال، فلم يضمن باليد. وإن حبس حرًا فمات، لم يضمنه لذلك إلا أن يكون صغيرًا، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأنه حر أشبه الكبير.(2/228)
والثاني: يضمنه؛ لأنه تصرف له في نفسه، أشبه المال، فإن قلنا: لا يضمنه فكان عليه حلي، فهل يضمن الحلي؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه تحت يده، أشبه ثياب الكبير.
والثاني: يضمنه؛ لأنه استولى عليه، فأشبه ما لو كان منفردًا، وإن استعمل الكبير مدة كرهًا، فعليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه ما يتقوم، فلزمه ضمانه، كإتلاف ماله. وإن حبسه مدة لمثلها أجرة، ففيه وجهان:
أحدهما: تلزمه الأجرة؛ لأنها منفعة تضمن بالإجارة، فضمنت بالغصب، كنفع المال.
والثاني: لا يلزمه؛ لأنها تلفت تحت يده، فلم تضمن، كأطرافه.
فصل:
وإن غصب كلبًا يجوز اقتناؤه، لزمه رده؛ لأن فيه نفعًا مباحًا، وإن غصب خمر ذمي، لزمه ردها إليه؛ لأنه يقر على اقتنائها وشربها، وإن غصبها من مسلم، وجبت إراقتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإراقة خمر الأيتام، وإن أتلفها لمسلم أو ذمي لم يضمنها؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه» ولأنها يحرم الانتفاع بها فلم تضمن، كالميتة. وإن غصبه منهما، فتخلل في يده، لزمه رده إلى صاحبه؛ لأنها صارت خلًا على حكم ملكه. فإن تلف ضمنه؛ لأنه مال تلف في يد الغاصب، فإن أراقه صاحبه، فجمعه إنسان فتخلل، لم يلزمه رده؛ لأن صاحبه أزال ملكه عنه بتبديده.
فصل:
فإن غصب جلد ميتة، ففي وجوب رده وجهان، مبنيان على طهارته بالدباغ، إن قلنا: يطهر، وجب رده؛ لأنه يمكن التوصل إلى تطهيره، أشبه الثوب النجس. وإن قلنا: لا يطهر، لم يجب رده، ويحتمل أن يجب، إذا قلنا: يجوز الانتفاع به في اليابسات، ككلب الصيد. وإن أتلفه، لم يضمنه؛ لأنه لا قيمة له.
فصل:
وإن كسر صليبًا أو مزمارًا لم يضمنه؛ لأنه لا يحل بيعه، فأشبه الميتة. وإن كسر أواني الذهب والفضة لم يضمنها؛ لأن اتخاذها محرم، وإن كسر آنية الخمر، ففيه روايتان:
إحداهما: يضمنها؛ لأنه مال غير محرم، ولأنها تضمن إذا كان فيها خل، فتضمن إذا كان فيها خمر، كالدار.(2/229)
والثانية: لا تضمن لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بتشقيق زقاق الخمر» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند.
فصل:
ومن أتلف مالًا محترمًا لغيره ضمنه؛ لأنه فوته عليه فضمنه، كما لو غصبه فتلف عنده. وإن فتح قفص طائر فطار، أو حل دابة فشردت، أو قيْدَ عبد فذهب، أو رباط سفينة فغرقت، ضمن ذلك كله؛ لأنه تلف بسبب فعله فضمنه، كما لو نفر الطائر أو الدابة. وإن فعل ذلك، فلم يذهب حتى جاء آخر فنفرهما، فالضمان على المنفر؛ لأن فعله أخص، فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر، وإن وقف طائر على جدار، فنفره إنسان فطار لم يضمنه؛ لأن تنفيره لم يكن سبب فواته؛ لأنه كان فائتًا قبله، وإن طار في هواء داره فرماه فقتله ضمنه؛ لأنه لا يملك منع الطائر الهواء، فأشبه ما لو قتله في غير داره.
فصل:
وإن حل زقاق فاندفق، أو خرج منه شيء، بل أسفله فسقط، أو سقط بريح، أو زلزلة، أو كان جامدًا فذاب في الشمس فاندفق ضمنه؛ لأنه تلف بسببه فضمنه، كما لو دفعه، وقال القاضي: لا يضمنه إذا سقط بريح، أو زلزلة؛ لأن فعله غير ملجئ، فلا يضمنه، كما لو دفعه إنسان آخر. ولنا أنه لم يتخلل بين فعله وتلفه مباشرة يمكن إحالة الضمان عليه، فيجب أن يضمنه، كما لو جرح إنسانًا فأصابه الحر فمات به، فأما إن بقي واقفًا، فجاء إنسان فدفعه، ضمن الثاني؛ لأنه مباشر، وإن كان يخرج قليلًا قليلًا، فجاء إنسان فنكسه فاندفق، ضمن الثاني ما خرج بعد التنكيس؛ لأنه مباشر له، فهو كالذابح بعد الجارح، ويحتمل أن يشتركا فيما بعد التنكيس، وإن فتح زقًا فيه جامد، فجاء آخر فقرب إليه نارًا فأذابه فاندفق؛ ضمنه الثاني؛ لأنه باشر الإتلاف. وإن أذابه الأول، ثم فتحه الثاني، فالضمان على الثاني؛ لأن التلف حصل بفعله.
فصل:
وإن أجج في سطحه نارًا، فتعدت فأحرقت شيئًا لجاره، وكان ما فعله يسيرًا جرت العادة به، لم يضمن؛ لأنه غير متعد، وإن أسرف فيه لكثرته، أو كونه في ريح عاصف ضمن. وكذلك إن سقى أرضه فتعدى إلى حائط آخر.
فصل:
وإن أطارت الريح إلى داره ثوبًا، لزمه حفظه؛ لأنه أمانة حصلت في يده، فلزمه حفظها كاللقطة. فإن عرف صاحبه، لزمه إعلامه، فإن لم يفعل، ضمنه كاللقطة إذا ترك تعريفها، وإن دخل طائر داره، لم يلزمه حفظه، ولا إعلام صاحبه؛ لأنه محفوظ بنفسه.(2/230)
فإن أغلق عليه بابًا ليمسكه ضمنه؛ لأنه أمسكه لنفسه، فضمنه كالغاصب، فإن لم ينو ذلك لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في داره، فلم يضمن ما فيها.
فصل:
إذا اختلف المالك والغاصب في تلف المغصوب، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يعتذر إقامة البينة على التلف، ويلزمه البدل؛ لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين، فوجب بدلها، كما لو أبق العبد المغصوب. وإن اختلفا في قيمة المغصوب، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة المختلف فيها، فأشبه من ادعى عليه بدين، فأقر ببعضه وجحد باقيه، وإن قال المالك: كان كاتبًا قيمته ألف، وقال الغاصب: كان أميًا قيمته مائة، فالقول قول الغاصب؛ لما ذكرناه.
وإن قال الغاصب: كان سارقًا فقيمته مائة، وقال المالك: لم يكن سارقًا فقيمته ألف، فالقول فقول المالك؛ لأن الأصل عدم السرقة، وإن غصبه طعامًا وقال: كان عتيقًا فلا يلزمني حديث، وأنكره المالك فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويأخذ المغصوب منه العتيق؛ لأنه دون حقه، وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب هل هي للغاصب أو للمالك؟ فهي للغاصب؛ لأنها والعبد في يده، فكان القول قوله فيها. وإن غصبه خمرًا، فقال المالك: استحالت خلًا، فأنكره الغاصب، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل عدم الاستحالة.
فصل:
إذا اشترى رجل عبدًا، فادعى رجل أن البائع غصبه إياه، فأنكره المشتري وصدقه البائع، حلف المشتري، والعبد له، وعلى البائع قيمته، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن؛ لأنه لا يدعيه، أما أن يغرم قيمته مطالبته بأقل الأمرين، من قيمته، أو ثمنه؛ لأنه يدعي القيمة، والمشتري يقر بالثمن فيكون له أقلهما، وللمالك مطالبة المشتري؛ لأنه مقر بالثمن للبائع، والبائع يقر به لمالكه، فإن قلنا بصحة تصرف الغاصب، فله مطالبته بجميع الثمن.
وإن قلنا: لا يصح، فله أقل الأمرين، لما تقدم. وإن صدقه المشتري، فأنكره البائع، حلف البائع وبرئ، ويأخذ المدعي عبده، لما روى سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به» وإن كان المشتري أعتق العبد، فصدق البائع والمشتري المالك، غرم أيهما شاء قيمته، ويستقر الضمان على المشتري؛ لأنه أتلف العبد بعتقه، وإن وافقهما العبد على التصديق فكذلك، ولم يبطل العتق؛ لأنه حق الله تعالى، فلا يقبل قولهم في إبطاله. وفيه وجه آخر: أنه يبطل العتق إذا صدقوه كلهم، ويعود العبد رقيقًا للمدعي؛ لأنه إقرار بالرق على وجه لا يبطل به حق أحد فقبل، كإقرار مجهول الحال.(2/231)
[كتاب الشفعة]
وهي استحقاق انتزاع الإنسان صحة شريكه من مشتريها مثل ثمنها، وهي ثابتة بالسنة والإجماع؛ أما السنة فما روى جابر قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة، أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن شاء، أخذ. وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه، فهو أحق به» رواه مسلم. وأجمع المسلمون على ثبوت الشفعة في الجملة، ولا تثبت إلا بشروط سبعة.
أحدها: أن يكون المبيع أرضًا للخبر، ولأن الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك، بخلاف غيره، فأما غير الأرض فنوعان:
أحدهما: البناء والغراس. فإذا بيعا مع الأرض، ثبتت الشفعة فيه؛ لأنه يدخل في قوله حائط، وهو البستان المحوط، ولأنه يراد للتأبيد، فهو كالأرض، وإن بيع منفردًا، فلا شفعة فيه؛ لأنه ينقل ويحول، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن فيه شفعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم» ولأن في الأخذ بها رفع ضرر الشركة، فأشبه الأرض، والمذهب الأول؛ لأن هذا مما لا يتباقى ضرره، فأشبه المكيل. وفي سياق الخبر ما يدل على أنه أراد الأرض؛ لقوله: فإذا طرقت الطرق، فلا شفعة.
النوع الثاني: الزرع والثمرة الظاهرة، والحيوان وسائر المبيعات، فلا شفعة فيه تبعًا ولا أصلًا؛ لأنها لا تدخل في البيع تبعًا، فلا تدخل في الشفعة تبعًا، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الشفعة في كل ما لا ينقسم، كالحجر والسيف والحيوان وما في معناه، ووجه الروايتين ما ذكرناه.(2/232)
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون المبيع مشاعًا؛ لما روى جابر قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة» رواه البخاري. ولأن الشفعة، ثبتت لدفع الضرر الداخل عليه بالقسمة من نقص قيمة الملك، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، ولا يوجد هذا في المقسوم.
فصل:
الشرط الثالث: أن يكون مما تجب قسمته عند الطلب، فأما ما لا تجب قسمته كالرحى والبئر الصغيرة والدار الصغيرة، فلا شفعة فيه؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا شفعة في بئر ولا نخل، ولأن إثبات الشفعة إنما كان لدفع الضرر الذي يلحق بالمقاسمة، وهذا لا يوجد فيما لا يقسم، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الشفعة تثبت فيه؛ لعموم الخبر، ولأنه عقار مشترك، فثبتت فيه الشفعة، كالذي يمكن قسمته. والمذهب الأول. فأما الطريق في درب مملوك. فإن لم يكن للدار طريق سواها، فلا شفعة فيها؛ لأنه يضر بالمشتري لكون داره تبقى بلا طريق. وإن كان لها غيرها، ويمكن قسمتها بحيث يحصل لكل واحد منهم طريق، ففيها الشفعة؛ لوجود المقتضي لها، وعدم الضرر في الأخذ بها، وإن لم يمكن قسمتها، خرج فيها روايتان كغيرها.
فصل:
الشرط الرابع: أن يكون الشقص منتقلًا بعوض، فأما الموهوب والموصى به فلا شفعة فيه؛ لأنه انتقل بغير بدل، أشبه الموروث، والمنتقل بعوض نوعان:
أحدهما: ما عوضه المال كالمبيع، ففيه الشفعة بالإجماع، والخبر ورد فيه.
الثاني: ما عوضه غير المال: كالصداق، وعوض الخلع، والصلح عن دم العمد، وما اشتراه الذمي بخمر، أو خنزير، فلا شفعة فيه في ظاهر المذهب؛ لأنه انتقل بغير مال، أشبه الموهوب، ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض، أشبه الموروث. وقال ابن حامد: فيه الشفعة؛ لأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، فعلى قوله يأخذ الشقص بقيمته، لأن أخذه بمهر المثل يفضي إلى تقويم البضع في حق الأجانب، ذكره القاضي. وقال الشريف: يأخذه بمهر المثل؛ لأنه ملكه ببدل لا مثل له، فيجب الرجوع إلى قيمته، كما لو اشتراه بعوض، ولا تجب الشفعة بالرد بالعيب. والفسخ بالخيار أو الاختلاف؛ لأنه فسخ للعقد وليس بعقد، ولا برجوع الزوج في الصداق، أو نصفه قبل الدخول لذلك، ولا بالإقالة إذا قلنا: هي فسخ لذلك.(2/233)
فصل:
الشرط الخامس: الطلب بها على الفور ساعة العلم، فإن أخرها مع إمكانها سقطت الشفعة. قال أحمد: الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة كحل العقال» رواه ابن ماجه. ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري، لكونه لا يستقر ملكه على المبيع، ولا يتصرف فيه بعمارة، خوفًا من أخذ المبيع وضياع عمله. وقال ابن حامد: تتقدر بالمجلس وإن طال؛ لأنه كله في حكم حالة العقد، بدليل صحة العقد بوجود القبض؛ لما يشترط قبضه فيه. وعن أحمد: أنه على التراخي، ما لم توجد منه دلالة على الرضا، كقوله: بعني أو صالحني على مال أو قاسمني؛ لأنه حق لا ضرر في تأخيره، أشبه القصاص. والمذهب الأول، لكن إن أخره لعذر، مثل أن يعلم ليلًا فيؤخره إلى الصباح، أو لحاجته إلى أكل أو شرب، أو طهارة، أو إغلاق باب، أو خروج من الحمام، أو خروج لصلاة أو نحو هذا، لم تبطل شفعته؛ لأن العادة البداءة بهذه الأشياء، إلا أن يكون حاضرًا عنده فيترك المطالبة، فتبطل شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه في الطلب بها، وإن لقيه الشفيع فبدأه بالسلام، لم تبطل شفعته؛ لأن البداءة بالسلام سنة، وكذلك إن دعا له فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك؛ لاحتمال أن يكون دعا له في صفقته؛ لأنها أوصلته إلى شفعته. وإن أخر الطلب لمرض، أو حبس، أو غيبة، لم يمكنه فيه التوكيل ولا الإشهاد، فهو على شفعته؛ لأنه تركه لعذر. وإن قدر على إشهاد من تقبل شهادته، فلم يفعل، ولم يسر في طلبها من غير عذر، بطلت شفعته؛ لأنه قد يترك الطلب زهدًا، أو للعذر، فإذا أمكنه تبيين ذلك بالإشهاد، فلم يفعل، بطلت شفعته، كترك الطلب في حضوره، وإن لم يشهد وسار عقيب علمه؛ ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل؛ لأن السير قد يكون لطلبها أو لغيره، فوجب بيان ذلك بالإشهاد، كما لو لم يسر.
والثاني: لا تبطل؛ لأن سيره عقيب علمه ظاهر في طلبها، فاكتفي به، كالذي في البلد، وإن أشهد ثم أخر القدوم لم تبطل شفعته؛ لأن عليه في العجلة ضررًا؛ لانقطاع حوائجه. وقال القاضي: تبطل إن تركه مع الإمكان، وإن كان له عذر، فقدر التوكيل فلم يفعل، ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل شفعته؛ لأنه تارك للطلب مع إمكانه، فأشبه الحاضر.
والثاني: لا تبطل؛ لأنه إن كان بجعل، ففيه غرم، وإن كان بغيره ففيه منة، وقد لا يثق به. وإن أخر المطالبة بعد قدومه وإشهاده، ففيه وجهان. بناء على تأخير السير لطلبها.(2/234)
فصل:
فإن ترك الطلب لعدم علمه بالبيع، أو لكون المخبر لا يقبل خبره، أو لإظهار المشتري أن الثمن أكثر مما هو، أو أنه اشترى البعض، أو اشترى بغير النقد الذي اشترى به، أو أنه اشتراه لغيره، أو أنه اشتراه لنفسه، وكان كاذبًا فهو على شفعته، ولو عفا عن الشفعة لذلك لم تسقط؛ لأنه قد لا يرضاه بالثمن الذي أظهره، أو لأنه لا يقدر على النقد، وقد يرضى مشاركة من نسب إليه البيع، دون من هو له في الحقيقة، فلم يكن ذلك رضا منه بالبيع الواقع، وإن أظهر الثمن قليلًا فترك الشفعة، وكان كثيرًا، سقطت؛ لأنه من لا يرضى بالقليل، ولا يرضى بأكثر منه. فإن ادعى أنه لم يصدق المخبر، وهو ممن يقبل خبره الديني، سقطت شفعته، رجلًا كان أو امرأة، إذا كان يعرف حاله؛ لأن هذا من باب الإخبار، وقد أخبره من يجب تصديقه، وإن لم يكن المخبر كذلك، فالقول قوله.
فصل:
فإن باع الشفيع حصته عالمًا بالبيع، بطلت شفعته لأنها ثبتت، لإزالة ضرر الشركة، وقد زال ببيعه، وإن باع قبل العلم فكذلك. عند القاضي: لذلك، ولأنه لم يبق له ملك يستحق به. وقال أبو الخطاب: لا تسقط؛ لأنها ثبتت بوجود ملكه حين البيع، وبيعه قبل العلم لا يدل على الرضا، فلا تسقط. وله أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه، ولمشتريه أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه؛ لأنه كان مالكًا حين البيع الثاني ملكًا صحيحًا، فثبتت له الشفعة. وعلى قول القاضي: للمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني. وإن باع الشفيع البعض، احتمل سقوط الشفعة؛ لأنها استحقت بجميعه. وقد ذهب بعضه فسقط الكل، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع.
فصل:
الشرط السادس: أن يأخذ جميع المبيع، فإن عفا عن البعض، أو لم يطلبه سقطت شفعته؛ لأن في أخذ البعض تفريقًا لصفقة المشتري، وفيه إضرار به، وإنما ثبتت الشفعة على وجه يرجع المشتري بماله، من غير ضرر به، فمتى سقط بعضها، سقطت كلها كالقصاص، فإن كان المبيع شقصين من أرضين فله أخذ أحدهما؛ لأنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر، فجرى مجرى الشريكين، ويحتمل ألا يملك ذلك؛ لأن فيه تفريق صفقة المشتري، أشبه الأرض الواحدة. وإن كان البائع، أو المشتري اثنين من أرض، أو أرضين، فله أخذ نصيب أحدهما؛ لأنه متى كان في أحد طرفي الصفقة اثنان، فهما عقدان، فكان له الأخذ بأحدهما، كما لو كانا متفرقين.(2/235)
فصل:
فإن كان للشقص شفعاء، فالشفعة بينهم على قدر حصصهم في الملك، في ظاهر المذهب؛ لأنه حق يستحق بسبب الملك، فيسقط على قدره، كالإجارة والثمرة.
وعنه: أنها بينهم بالسوية، اختارها ابن عقيل؛ لأن كل واحد منهم يأخذ الكل لو انفرد، فإن اجتمعوا تساووا، كسراية العتق، فإن عفا بعضهم توفر نصيبه على شركائه، وليس لهم أخذ البعض؛ لأن فيه تفريق صفقة المشتري، وإن جعل بعضهم حصته لبعض شركائه، أو لأجنبي، لم يصح، وكانت لجميعهم؛ لأنه عفو وليس بهبة، وإن حضر بعض الشركاء وحده، فليس له إلا أخذ الجميع؛ لئلا تتبعض صفقة المشتري، فإن ترك الطلب انتظارًا لشركائه، ففيه وجهان:
أحدهما: تسقط شفعته، لتركه طلبها مع إمكانه.
والثاني: لا تسقط؛ لأن له عذرًا، وهو الضرر الذي يلزمه بأخذ صاحبيه منه، فإن أخذ الجميع، ثم حضره الثاني قاسمه، فإذا حضر الثالث قاسمهما، وما حدث من النماء المنفصل في يد الأول، فهو له؛ لأنه حدث في ملكه، وإن أراد الثاني الاقتصار على قدر حقه، فله ذلك؛ لأنه لا تتبعض الصفقة على المشتري، إنما هو تارك بعض حقه لشريكه، فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ ثلث ما في يد الثاني، وهو التسع فيضمه إلى ما في يد الأول، وهو الثلثان تصير سبع أتساع، يقتسمانها نصفين، لكل واحد منهما ثلاثة أتساع ونصف تسع، وللثاني تسعان، ولو ورث اثنان دارًا، فمات أحدهما عن ابنين، فباع أحدهما نصيبه، فالشفعة بين أخيه وعمه؛ لأنهما شريكان للبائع، فاشتركا في شفعته، كما لو ملكا بسبب واحد.
فصل:
وإن كان المشتري شريكًا، فالشفعة بينه وبين الشريك الآخر؛ لأنهما تساويا في الشركة، فتساويا في الشفعة، كما لو كان الشريك أجنبيًا، فإن أسقط المشتري شفعته ليلزم شريكه أخذ الكل، لم يملك ذلك؛ لأن ملكه استقر على قدر حقه، فلم يسقط بإسقاطه، وإن كان المبيع شقصًا وسيفًا صفقة واحدة، فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن نص عليه. ويحتمل أن لا يجوز، لئلا تتشقص صفقة المشتري، والصحيح الأول؛ لأن المشتري أضر بنفسه، حيث جمع في العقدين فيما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه.
فصل:
الشرط السابع: أن يكون الشفيع قادرًا على الثمن؛ لأن أخذ المبيع من غير دفع الثمن إضرار بالمشتري، وإن عرض رهنًا، أو ضمينًا، أو عوضًا عن الثمن، لم يلزمه(2/236)
قبوله؛ لأن في تأخير الحق ضررًا، وإن أخذ بالشفعة، لم يلزم تسليم الشقص حتى يتسلم الثمن، فإن تعذر تسليمه، قال أحمد: يصبر يومًا أو يومين، أو بقدر ما يرى الحاكم، فأما أكثر فلا، فعلى هذا إن أحضر الثمن، وإلا فسخ الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري، فإن أفلس بعد الأخذ، خير المشتري بين الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء، كالبائع المختار.
فصل:
ويأخذه بالثمن الذي استقر العقد عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «فهو أحق به بالثمن» رواه أبو إسحاق الجوزجاني. ولأنه استحقه بالبيع، فكان عليه الثمن كالمشتري. فإن كان الثمن مثليًا كالأثمان والحبوب والأدهان، وجب مثله، وإن كان غير ذلك، وجب قيمته، لما ذكرنا في الغصب، وتعتبر قيمته حين وجوب الشفعة، كما يأخذ بالثمن الذي وجب بالشفعة، فإن حط بعض الثمن عن المشتري، أو زيد عليه في مدة الخيار؛ لحق العقد، ويأخذه الشفيع بما استقر عليه العقد؛ لأن زمن الخيار كحال العقد. وما وجد بعد ذلك من حط أو زيادة، لم تلزم في حق الشفيع؛ لأنه ابتداء هبة، فأشبه غيره من الهبات، وإن كان الثمن مؤجلًا، أخذ به الشفيع إن كان مليًا، وإلا أقام ضمينًا مليًا وأخذ به؛ لأنه تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، والتأجيل من صفته.
وإن كان الثمن عبدًا، فأخذ الشفيع بقيمته، ثم وجد به البائع عيبًا فأخذ أرشه، وكان الشفيع أخذ بقيمته سليمًا، لم يرجع عليه بشيء؛ لأن الأرش دخل في القيمة، وإن أخذ بقيمته معيبًا، رجع عليه بالأرش الذي أخذه البائع من المشتري؛ لأن البيع استقر بعبد سليم، وإن رد البائع العبد قبل أخذ الشفيع، انفسخ العقد ولا شفعة؛ لزوال السبب قبل الأخذ، ولأن في الأخذ بالشفعة إسقاط حق البائع من استرجاع المبيع وفيه ضرر، ولا يزال الضرر بالضرر، وإن رده بعد أخذ الشفيع، رجع بقيمة الشقص، وقد أخذه الشفيع بقيمة العبد، فإن كانتا مختلفتين، رجع صاحب الأكثر على الآخر بتمام القيمة؛ لأن الشفيع يأخذ بما استقر عليه العقد، والذي استقر عليه العقد، قيمة الشقص، وإن أصدق امرأة شقصًا، وقلنا: تجب الشفعة فيه، فطلق الزوج قبل الدخول والأخذ بالشفعة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا شفعة لما ذكرنا.
والثاني: يقدم حق الشفيع؛ لأنه حق أسبق؛ لأنه ثبت بالعقد، وحق الزوج بالطلاق بخلاف البائع، فإن حقه ثبت بالعيب القديم.
فصل:
فإن اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه(2/237)
العاقد، فهو أعلم بالثمن، ولأن المبيع ملكه، فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة، وإن قال المشتري: لا أعلم قدر الثمن، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنفسه، فإن حلف، سقطت الشفعة؛ لأنه لا يمكن الأخذ بغير ثمن، ولا يمكن أن يدفع إليه مالًا يدعيه إلا أن يفعل ذلك تحيلًا على إسقاطها، فلا تسقط، ويؤخذ الشقص بقيمته؛ لأن الغالب بيعه بقيمته. وإن ادعى أنك فعلته تحيلًا فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر. وإن كان الثمن عرضًا، فاختلفا في قيمته، رجع إلى أهل الخبرة إن كان موجودًا، وإن كان معدومًا، فالقول قول المشتري في قيمته. وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص، فقال المشتري: أنا أحدثته، وقال الشفيع: كان قديمًا، فالقول قول المشتري مع يمينه. ولو قال: اشتريت نصيبك فلي فيه الشفعة، وأنكر ذلك، فقال: بل اتهبته، أو ورثته، فالقول قوله مع يمينه.
فصل:
فإن ادعى عليه الشراء، فقال: اشتريته لفلان سئل المقر له، فإن صدقه، فهو له، وإن كذبه، فهو للمشتري، ويؤخذ بالشفعة في الحالين. وإن كان المقر له غائبًا، أخذه الشفيع بإذن الحاكم والغائب على حجته إذا قدم؛ لأننا لو وقفنا الأمر لحضور المقر له، كان ذلك إسقاطًا للشفعة؛ لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب. وإن قال: اشتريته لابني الطفل، فهو كالغائب في أحد الوجهين. وفي الآخر: لا تجب الشفعة؛ لأن الملك ثبت للطفل، ولا يثبت في ماله حق بإقرار وليه عليه. فأما إن ادعى عليه الشفعة في شقص فقال: هذا لفلان الغائب، أو الطفل، فلا شفعة فيه؛ لأنه قد ثبت لهما، فإقراره بذلك إقرار إلى غيره، فلا يقبل.
فصل:
إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: الثمن، ألفان، وقال المشتري: هو ألف، فأقام البائع بينة بدعواه، ثبتت، وللشفيع أخذه بألف؛ لأن المشتري يقر أنه لا يستحق أكثر منها، وأن البائع ظلمه، فلا يرجع بما ظلمه على غيره. فإن قال المشتري: غلطت والثمن ألفان، لم يقبل؛ لأنه رجوع عن إقراره فلم يقبل. كما لو أقر لأجنبي. وإن لم يكن بينة تحالفا، وليس للشفيع أخذه بما حلف عليه المشتري؛ لأن فيه إلزامًا للعقد في حق البائع، بخلاف ما حلف عليه. فإن بذل ما حلف عليه البائع، فله الأخذ؛ لأن البائع، مقر له بأنه يستحق الشفعة به، ولا ضرر على المشتري فيه.
فصل:
وإن أقر البائع بالبيع فأنكره المشتري، ففيه وجهان:(2/238)
أحدهما: لا تثبت الشفعة؛ لأن الشراء لم يثبت، فلا تثبت الشفعة التابعة له، ولأن البائع إن أقر بقبض الثمن، لم يمكن الشفيع دفعه إلى أحد؛ لأنه لا مدعي له، ولا يمكن الأخذ بغير ثمن، وإن لم يقر البائع بقبضه، فعلى من يرجع الشفيع بالعهدة.
والثاني: تثبت الشفعة؛ لأن البائع مقر بحق للمشتري والشفيع، فإذا لم يقبل المشتري قبل الشفيع، وثبت حقه، ويأخذ الشقص من البائع، ويدفع إليه الثمن. وإن لم يكن أقر بقبضه، والعهدة عليه؛ لأن الأخذ منه. وإن أقر بقبض الثمن عرضناه على المشتري، فإن قبله دفع إليه، وإلا أقر في يد الشفيع في أحد الوجوه، وفي الآخر يؤخذ إلى بيت المال.
والثالث: يقال له: إما أن تقبض، وأما أن تبرئ، وأصل هذا إذا أقبر بمال في يده لرجل، فلم يعترف به.
فصل:
وإذا تصرف المشتري في الشقص قبل أخذ الشفيع، لم يخل من خمس أضرب:
أحدها: تصرف بالبيع، وما تستحق به الشفعة، فللشفيع الخيار بين أن يأخذ بالعقد الثاني، وبين فسخه، ويأخذ بالعقد الأول؛ لأنه شفيع في العقدين، فملك الأخذ بما شاء منهما، فإن أخذه بالثاني، دفع إلى المشتري الثاني مثل ثمنه، وإن أخذه بالأول، دفع إلى المشتري الأول مثل الذي اشتري به، وأخذ الشقص، ويرجع الثاني على الأول بما أعطاه ثمنًا، وإن كان ثم ثالث، رجع الثالث على الثاني.
الثاني: تصرف برد أو إقالة، فللشفيع فسخ الإقالة والرد، ويأخذ الشقص؛ لأن حقه أسبق منهما، ولا يمكنه الأخذ معهما.
الثالث: وهبه، أو وقفه، أو رهنه، أو أجره ونحوه، فعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تسقط الشفعة؛ لأن في الأخذ بها إسقاط حق الموهوب الموقوف عليه بالكلية، وفيه ضرر، بخلاف البيع؛ لأنه يوجب رد العوض إلى غير المالك، وحرمان المالك، وقال أبو بكر: تجب الشفعة؛ لأن حق الشفيع أسبق، فلا يملك المشتري التصرف بما يسقط حقه، ولأنه ملك فسخ البيع مع إمكان الأخذ به، فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى، فعلى هذا تفسخ هذه العقود، ويأخذ الشقص، ويدفع الثمن إلى المشتري.
الرابع: بناء أو غرس، ويتصور ذلك بأن يكون الشفيع غائبًا، فقاسم المشتري وكيله في القسمة أو رفع الأمر إلى الحاكم فقاسمه أو أظهر ثمنًا كثيرًا أو نحوه، فترك الشفيع الشفعة وقاسمه، فبنى وغرس، ثم أخذ الشفيع بالشفعة، فإن اختار المشتري أخذ(2/239)
بنائه أو غراسه، لم يمنع منه؛ لأنه ملكه، فملك نقله، ولا يلزمه تسوية الحفر، ولا ضمان النقص؛ لأنه غير متعد، ويحتمل كلام الخرقي أنه يلزمه تسوية الحفر؛ لأنه فعله في ملك غيره لتخليص ملكه، فأشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها، وإن لم يقلعه، فللشفيع الخيار بين أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء فيملكه، وبين أن يقلعه، ويضمن نقصه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» من المسند، ورواه ابن ماجه، ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك.
الخامس: زرع الأرض، فالزرع يبقى لصاحبه حتى يستحصد؛ لأنه زرعه بحق، فوجب إبقاؤه له كما لو باع الأرض المزروعة.
فصل:
وإن نما المبيع نماء متصلًا، كغراس كبر، وطلع زاد قبل التأبير، أخذ الشفيع بزيادته؛ لأنها تتبع الأصل في الملك، كما تتبعه في الرد، وإن كان نماء منفصلًا كالغلة، والطلع المؤبر، والثمرة الظاهرة، فهي للمشتري؛ لأنها حدثت في ملكه، وليست تابعة للأصل، وتكون مبقاة إلى أوان الجذاذ؛ لأن أخذ الشفيع شراء ثان، فإن كان المشتري اشترى الأصل والثمرة الظاهرة معًا، أخذ الشفيع الأصل بحصته من الثمن، كالشقص والسيف.
فصل:
وإن تلف بعض المبيع، فهو من ضمان المشتري؛ لأنه ملكه تلف في يده، وللشفيع أن يأخذ الباقي بحصته من الثمن، ويأخذ أنقاضه؛ لأنه تعذر أخذ البعض، فجاز أخذ الباقي كما لو أتلفه الآدمي. وقال ابن حامد: إن تلف بفعل الله تعالى لم يملك الشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن ويترك؛ لأن في أخذه بالبعض إضرارًا بالمشتري، فلم يملكه كما لو أخذ البعض مع بقاء الجميع.
فصل:
ويملك الشفيع الأخذ بغير الحاكم؛ لأنه حق ثبت بالإجماع، فلم يفتقر إلى الحكم، كالرد بالعيب، ويأخذه من المشتري، فإن كان في يد البائع، فامتنع المشتري من قبضه، أخذه من البائع؛ لأنه يملك أخذه فملكه، كما لو كان في يد المشتري. وقال القاضي: يجبر المشتري على القبض، ثم يأخذه الشفيع؛ لأن أخذه من البائع يفوت به التسليم المستحق، ولا يثبت للمشتري خيار؛ لأنه يؤخذ منه قهرًا، ولا للشفيع بعد التملك؛ لأنه يأخذه قهرًا، وذلك ينافي الاختيار، ويملك الرد بالعيب؛ لأنه مشتر ثان، فملك ذلك كالأول، وإن خرج مستحقًا، رجع بالعهدة على المشتري؛ لأنه أخذه منه على أنه ملكه،(2/240)
فرجع عليه، كما لو اشتراه منه، ويرجع المشتري على البائع.
فصل:
وإذا أذن الشريك في البيع، لم تسقط شفعته؛ لأنه إسقاط حق قبل وجوبه، فلم يصح، كما لو أبرأه مما يجب له، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما هو ببعيد أن لا تكون له شفعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإذا باع ولم يؤذنه، فهو أحق به» رواه مسلم. يفهم منه أنه إذا باعه بإذنه لا حق له، وإن دل في البيع، أو توكل، أو ضمن العهدة، أو جعل له الخيار، فاختار إمضاء البيع، فهو على شفعته.
فصل:
وإذا كان البيع محاباة، أخذ الشفيع بها؛ لأنه بيع صحيح، فلا يمنع الشفعة فيه كونه مسترخصًا. وإن كان البائع مريضًا، والمحاباة لأجنبي فيما دون الثلث، أخذ الشفيع بها؛ لأنها صحيحة نافذة، وسواء كان الشفيع وارثًا، أو لم يكن؛ لأن المحاباة إنما وقعت للأجنبي، فأشبه ما لو وصى لغريم وارثه، ويحتمل ألا يملك الوارث الشفعة هاهنا؛ لإفضائه إلى جعل سبيل للإنسان إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة، وإن كانت محاباة المريض لوارثه، أو لأجنبي لزيادة على الثلث، بطلت كلها في حق الوارث، والزيادة على الثلث في حق الأجنبي، وصح البيع في الباقي، وثبت للمشتري الخيار لتفريق صفقته، وللشفيع الأخذ على ذلك الوجه.
فصل:
إذا مات الشفيع قبل الطلب، بطلت شفعته، نص عليه؛ لأنه حق فسخ لا لفوات جزء، فلم يورث، كرجوع الأب في هبته، ويتخرج أن يورث؛ لأنه خيار ثبت لدفع الضرر عن المال فيورث، كالرد بالعيب، فإن مات بعد الطلب، لم يسقط؛ لأنها تقررت بالطلب بحيث لم يسقط بتأخيره، بخلاف ما قبله، فإن ترك بعض الورثة حقه، توفر على شركائه في الميراث، كالشفعاء في الأصل.
فصل:
وإن كان بعض العقار وقفًا، وبعضه طلقًا، فبيع الطلق، فذكر القاضي أنه لا شفعة لصاحب الوقف؛ لأن ملكه غير تام، فلا يستفيد به ملكًا تامًا. وقال أبو الخطاب: هذا ينبني على الروايتين في ملك الوقف، إن قلنا: هو مملوك، فلصاحبه الشفعة؛ لأنه يلحقه الضرر من جهة الشريك، فأشبه الطلق، وإن قلنا: ليس بمملوك، فلا شفعة له، لعدم ملكه.(2/241)
فصل:
ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه؛ لأن فيه إلزام البيع بغير رضا المتبايعين، وإسقاط حقهما من الخيار، وقيل: يؤخذ بالشفعة؛ لأن الملك انتقل، فإن كان الخيار للمشتري وحده، فللشفيع الأخذ؛ لأنه يملك الأخذ من المشتري قهرًا، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأن فيه إلزام البيع في حق المشتري بغير رضاه.
فصل
وللصغير الشفعة، ولوليه الأخذ بها إن رأى الحظ فيها، فإذا أخذ فيها لم يملك الصغير إبطالها بعد بلوغه، كما لو اشترى له دارًا. وإن تركها مع الحظ فيها، لم تسقط، وملك الصغير الأخذ بها إذا بلغ، وإن تركها الولي للحظ في تركها، أو لإعسار الصبي، سقطت في قول ابن حامد؛ لأنه فعل ما تعين عليه فعله، فلم يجز نقضه، كالرد بالعيب.
وظاهر كلام الخرقي: أنها لا تسقط؛ لأن للشفيع الأخذ مع الحظ وعدمه، فملك طلبها عند إمكانه، كالغائب إذا قدم، والمجنون كالصبي؛ لأنه محجور عليه. وإن باع الولي لأحد الأيتام نصيبًا، فله الأخذ بها للآخر، وإن كان الولي شريكًا، لم يملك الأخذ بها إن كان وصيًا؛ لأنه متهم، وإن كان أبًا، فله الأخذ؛ لأن له أن يشتري لنفسه مال ولده، وهل لرب المال الشفعة على المضارب فيما يشتريه؟ على وجهين بناء على شرائه منه لنفسه.
فصل:
ولا شفعة لكافر على مسلم؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لنصراني» رواه الطبراني في الصغير، ولأنه معنى يختص العقار، فلم يثبت للكافر على المسلم كالاستعلاء، وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي، للخبر والمعنى.(2/242)
[باب إحياء الموات]
وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك، وهي نوعان:
أحدهما: ما لم يجر عليه ملك، فهذا يملك بالإحياء؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» رواه أحمد، والترمذي وصححه. ولا يفتقر إلى إذن الإمام للخبر، ولأنه تملك مباح، فلم يفتقر إلى إذن كالصيد.
الثاني: ما جرى عليه ملك، وباد أهله، ولم يعرف له مالك، ففيه روايتان:
إحداهما: يملك بالإحياء للخبر، ولما روى طاوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعده» رواه أبو عبيد في الأموال، ولأنه في دار الإسلام فيملك، كاللقطة.
والثانية: لا يملك؛ لأنه إما لمسلم، أو لذمي، أو بيت المال، فلم يجز إحياؤه، كما لو تعين مالكه. ويجوز إحياء ما قرب من العامر إذا لم يتعلق بمصالحه، للخبر والمعنى.
وعنه: لا يملك؛ لأنه لا يخلو من مصلحة، فأشبه ما تعلق بمصالحه للخبر، والمذهب الأول.
فصل:
وما تعلقت به مصلحة العامر، كحريم البئر، وفناء الطريق، ومسيل الماء، ويملك بالإحياء، ولا يجوز لغير مالك العامر إحياؤه؛ لأنه تابع للعامر، مملوك لصاحبه، ولأن تجويز إحيائه، إبطال للملك في العامر على أهله، وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع، ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالإحياء؛ لأنه ليس بموات، وتجويز إحيائه، تضييق على الناس في أملاكهم وطرقهم، وهذا لا يجوز.
فصل:
ويجوز الإحياء من كل من يملك المال للخبر، ولأنه فعل يملك به، فجاز ممن(2/243)
يملك المال كالصيد. ويملك الذمي بالإحياء، في دار الإسلام لذلك. وقال ابن حامد: لا يملك فيها بالإحياء لخبر طاوس. وليس للمسلم إحياء أرض في بلد صولح الكفار على المقام فيه؛ لأن الموات تابع للبلد، فلم يجز تملكه عليهم كالعامر.
فصل:
وفي صفة الإحياء روايتان:
إحداهما: أن يعمر الأرض لما يريدها له، ويرجع في ذلك إلى العرف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإحياء ولم يبين، فحمل على المتعارف. فإن كان يريدها للسكنى، فإحياؤها بحائط جرت عادتهم بالبناء به وتسقف، فإنها لا تصلح للسكنى، إلا بذلك، وإن أرادها حظيرة لغنم أو حطب، فبحائط جرت العادة بمثله، وإن أرادها للزرع، فبسوق الماء إليها من نهر أو بئر، ولا يعتبر حرثها؛ لأنه يتكرر كل عام، فأشبه السكنى، لا يحصل الإحياء به لذلك، وإن كانت أرضًا يكفيها المطر، فإحياؤها بتهيئتها للغرس والزرع، إما بقلع أشجارها، أو أحجارها، أو تنقيتها ونحو ذلك مما يعد إحياءً. وإن كانت من أرض البطائح، فإحياؤها بحبس الماء عنها؛ لأن إحياءها بذلك، ولا يعتبر في الإحياء للسكنى نصب أبواب؛ لأن السكنى ممكنة بدونه، والرواية الثانية: التحويط إحياء لكل أرض؛ لما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض فهي له» رواه أبو داود. ولأن الحائط حاجز منيع، فكان إحياء، كما لو أرادها حظيرة.
فصل:
وإذا أحياها ملكها بما فيها من المعادن والأحجار؛ لأنه تملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها، وهذا منها. وإن ظهر فيها معدن جاز، كالقير والنفط والماء، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يملكه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار» رواه الخلال. وكذلك الحكم في الكلأ والشجر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى في الأراك» .
والثانية: يملك ذلك كله؛ لأنه نماء ملكه، فملكه كشعر غنمه.
فصل:
ومن حفر بئرًا في موات، ملك حريمها، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب. ومن سبق إلى بئر عادية فاحتفرها، فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب؛ لما روي عن سعيد بن المسيب أنه(2/244)
قال: «السنة في حريم البئر العادي خمسون ذراعًا، والبديء خمسة وعشرون ذراعًا» رواه أبو عبيد في الأموال. وروى الخلال والدارقطني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وقال القاضي: حريمها ما تحتاج إليه من ترقية الماء منها، كقدر مدار الثور، إن كان بدولاب، وقدر طول البئر إن كان بالسواني، وحمل التحديد في الحديث، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المجاز. والظاهر خلافه، فإنه قد يحتاج إلى حريمها لغير ترقية الماء، لموقف الماشية، وعطن الإبل ونحوه. وأما العين المستخرجة، فحريمها ما يحتاج إليها صاحبها، ويستضر بتملكه عليه، وإن كثر. وحريم النهر: ما يحتاج إليه، لطرح كرايته، وطريق شاويه، وما يستضر صاحبه بتملكه عليه، وإن كثر.
فصل:
ومن تحجر مواتًا، وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره، صار الثاني أحق به؛ لأن صاحب الحق آثره به. فإن مات، انتقل إلى وارثه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقًا، أو مالًا فهو لوارثه» وإن باعه ولم يصح؛ لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه، كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه؛ لأنه صار أحق به، فإن بادر إليه غيره فأحياه، لم يملكه في أحد الوجهين؛ لمفهوم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» ولأن حق المتحجر أسبق، فكان أولى، كحق الشفيع في المشتري.
والثاني: يملكه؛ لأنه أحيا أرضًا ميتة، فيدخل في عموم الحديث، ولأن الإحياء يملك به، فقدم على التحجر الذي لا يملك به، وإن شرع في الإحياء وترك، قال له السلطان: إما أن تعمر، وإما أن ترفع يدك؛ لأنه ضيق على الناس في حق مشترك، فلم يمكن منه، كالوقوف في طريق ضيق، فإن سأل الإمهال، أمهل مدة قريبة، كالشهرين ونحوهما، فإن انقضت ولم يعمر، فلغيره إحياؤها وتملكها كسائر الموات.
فصل:
وإذا كان في الموات معدن ظاهر ينتفع به المسلمون كالملح، وعيون الماء والكبريت والكحل والقار، ومعادن الذهب والفضة والحديد ومقالع الطين ونحوها، لم يجز لأحد إحياؤها. ولا تملك بالإحياء؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع أبيض بن حمال معدن الملح، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد رده» رواه أبو داود. وقال: «يا رسول الله، ما يحمى هذا الأراك؟ فقال: ما لم تنله أخفاف الإبل» رواه أبو داود والترمذي، ولأن هذا مما يحتاج إليه. فلو ملك بالاحتجار، ضاق على الناس وغلت أسعاره، وكذلك ما(2/245)
نضب عنه الماء من الجزائر عند الأنهار الكبار. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أباح الجزائر وأنا آخذ به، يعني: ما ينبت فيها، ولأن البناء فيها يرد الماء إلى الجانب الآخر فيضر بأهله، ولأنها منبت الكلأ والحطب فأشبهت المعادن.
فصل:
وكل بئر ينتفع بها المسلمون، أو عين نابعة، فليس لأحد احتجارها؛ لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة، ومن حفر بئرًا لغير قصد التملك، إما لينتفع بها المسلمون، أو لينتفع بها مدة ثم يتركها لم يملكها، وكان أحق بها حتى يرحل عنها، ثم تكون للمسلمين، ومن حفر بئرًا للتملك فلم يظهر ماؤها، لم تملك به؛ لأنه ما تم إحياؤها، وكان كالمتحجر الشارع في الإحياء.
فصل:
وإن أحيا أرضًا، فظهر فيها معدن ملكه؛ لأنه لم يضيق على الناس به؛ لأنه الذي أخرجه، ولو كان في الموات أرض يمكن فيها إحداث معدن ظاهر، كشط البحر إذا حصل فيه ماؤه، صار ملحًا، ملكه بالإحياء؛ لأنه توسيع على المسلمين لا تضييق.
فصل:
ومن سبق إلى معدن ظاهر، وهو الذي يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة، كالماء والملح والنفط، أو باطن لا يوصل إلى ما فيه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والحديد، كان أحق به للخبر. فإن أقام بعد قضاء حاجته منع منه؛ لأنه يضيق على الناس بغير نفع، فأشبه الوقوف في مشرعة ماء لا يستقى منها وإن طال مقامه للأخذ، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يمنع؛ لأنه سبق، فكان أحق، كحالة الابتداء.
والثاني: يمنع؛ لأنه يضر كالمتحجر. فإن سبق إليه اثنان يضيق المكان عنهما، أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه، وقال بعض أصحابنا: إن كانا يأخذان للتجارة، هايأه الإمام بينهما. وإن كانا يأخذان للحاجة، ففيه أربعة أوجه:
أحدها: يهايئاه بينهما.
والثاني: يقرع بينهما.
والثالث: يقدم الإمام من يرى منهما.
والرابع: ينصب الإمام من يأخذ لهما، ويقسم بينهما.(2/246)
فصل:
ومن شرع في حفر معدن، ولم يبلغ النيل به، فهو أحق به، كالشارع في الإحياء ولا يملكه، وإن بلغ النيل؛ لأن الإحياء العمارة، وهذا تخريب، فلا يملك به، ولأنه يحتاج في كل جزء إلى عمل، فلا يملك منه إلا ما أخذ. لكن يكون أحق به ما دام يأخذ. وإن حفره إنسان من جانب آخر، فوصل إلى النيل، لم يكن له منعه؛ لأنه لم يملكه.
فصل:
ويجوز الارتفاق بالقعود في الرحاب والشوارع والطرق الواسعة، للبيع والشراء، لاتفاق أهل الأمصار عليه من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلا يمنع منه، كالاجتياز. ومن سبق إليه كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق» وله أن يظلل عليه بما لا يضر بالمارة؛ لأن الحاجة تدعو إليه من غير ضرر بغيره، وليس له أن يبني دكة ولا غيرها؛ لأنها تضيق، ويعثر بها العابر. فإن قام وترك متاعه، لم يجز لغيره أن يقعد؛ لأن يده لم تزل. وإن طال القعود، ففيه وجهان، سبق توجيههما. وإن سبق إليه اثنان، ففيه وجهان:
أحدهما: يقرع بينهما لتساويهما.
والثاني: يقدم الإمام أحدهما؛ لأن له نظرًا واجتهادًا.
فصل:
في القطائع، هي ضربان: إقطاع، إرفاق، وهي مقاعد الأسواق والرحاب، فللإمام إقطاعها لمن يجلس فيها، فيصير كالسابق إليها، إلا أنه أحق بها، وإن نقل متاعه؛ لأن للإمام النظر الاجتهاد. فإن أقطعه، ثبتت يده عليه بالإقطاع، فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
الضرب الثاني: موات الأرض، فللإمام إقطاعها لمن يحييها؛ لما «روى وائل بن حجر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه أرضًا فأرسل معاوية: أن أعطه إياها، أو أعلمها إياه» حديث صحيح. وأقطع بلال بن الحارث المزني، وأبيض بن حمال المازني، «وأقطع الزبير حضر فرسه» رواه أبو داود.
وأقطع أبو بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أقطعه الإمام شيئًا، لم يملكه؛ لكن يصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه. ولا يقطع من ذلك إلا ما قدر على إحيائه؛ لأن إقطاعه أكثر منه إدخال ضرر على المسلمين بلا فائدة، وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث العقيق، فلما كان زمن عمر قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم(2/247)
يقطعك لتحتجره على الناس، فخذ ما قدرت على عمارته ودع باقيه» رواه أبو عبيد في الأموال.
فصل:
وليس للإمام إقطاع المعادن الظاهرة، لما ذكرنا في إحيائها. وقال أصحابنا: وكذلك المعادن الباطنة؛ لأنها في معناها، ويحتمل جواز إقطاعها؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها» رواه أبو داود. ولأنه يفتقر في الانتفاع بها إلى المؤن، فجاز إقطاعه، كالموات.
فصل في الحمى: لا يجوز لأحد أن يحمي لنفسه مواتًا يمنع الناس الرعي فيها؛ لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا حمى إلا لله ولرسوله» متفق عليه، ورواه أبو داود. وقال: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» وللإمام أن يحمي مكانًا لترعى فيه خيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة، وضوال الناس التي يقوم بحفظها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع، لخيل المسلمين؛ لأن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حميا، واشتهر في الصحابة، فلم ينكر، فكان إجماعًا.
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله، ما حميت من الأرض شبرًا في شبر رواه أبو عبيد. وليس له أن يحمي قدرًا يضيق به على الناس؛ لأنه إنما جاز
للمصلحة
، فلا يجوز ذلك بضرر أكثر منها، وما حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس لأحد نقضه، ولا يملك بالإحياء؛ لأن ما حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص، فلم يجز نقضه بالاجتهاد، وما حماه غيره من الأئمة، جاز لغيره من الأئمة تغييره في أحد الوجهين، وفي الآخر ليس له ذلك، لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، والأول أولى؛ لأن الاجتهاد في حماها في تلك المدة دون غيرها، ولهذا ملك الحامي لها تغييرها. وإن أحياه إنسان ملكه؛ لأن حمى الأئمة اجتهاد، وملك الأرض بإحيائها نص، فيقدم على الاجتهاد.
[باب أحكام المياه]
وهي ضربان: مباح وغيره، فغير المباح: ما ينبع في أرض مملوكة، فصاحبه أحق به، لأنه يملكه في رواية، وفي الأخرى: لا يملكه، إلا أنه ليس لغيره دخول أرضه بغير إذنه، وما فضل عن حاجته، لزمه بذله لسقي ماشية غيره؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، منعه الله فضل رحمته» ، ولا يلزمه الحبل والدلو؛ لأنه يتلف بالاستعمال فيتضرر به، فأشبه بقية ماله، وهل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره، فيه روايتان:(2/248)
إحداهما: لا يلزمه؛ لأن الزرع لا حرمة له في نفسه.
والثانية: يلزمه؛ لما روى إياس بن عبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع فضل الماء» رواه أبو داود. وإن لم يفضل عنه شيء، لم يلزمه بذله؛ لأن الوعيد على منع الفضل يدل على جواز منع غيره، ولأن ما يحتاج إليه يستضر ببذله، فلم يجب بذله كحبله ودلوه.
الضرب الثاني: الماء النابع في الموات، فمن سبق إلى شيء منه، فهو أحق به؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به» ، وإن أراد أن يسقي أرضًا، وكان الماء في نهر عظيم لا يستضر أحد بسقيه، جاز أن يسقي كيف شاء؛ لأنه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرًا صغيرًا، أو من مياه الأمطار، بدئ بمن في أول النهر فيسقي، ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه، كذلك إلى الآخر؛ لما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: «أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سيل مهزور ومذينيب: يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل» أخرجه مالك في الموطأ.
وعن عبد الله بن الزبير: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك: فغضب الأنصاري فقال: كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: يا زبير، اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر» متفق عليه.
وشراج الحرة: مسايل الماء، جمع شرج، وهو النهر الصغير، ولأن السابق إلى أول النهر كالسابق إلى أول المشرعة، وإن كانت أرض الأول بعضها أنزل من بعض، سقى كل واحدة على حدتها، فإن أراد إنسان إحياء أرض على النهر. بحيث إذا سقاها يستضر أهل الأرض الشاربة منه منع منه؛ لأن من ملك أرضًا كانت له حقوقها ومرافقها، واستحقاق السقي من هذا النهر من حقوقها، فلا يملك غير إبطاله.
فصل
فإن اشترك جماعة في استنباط عين، اشتركوا في مائها، وكان بينهم على ما اتفقوا عليه عند استخراجها، فإن اتفقوا على سقي أرضهم منها بالمهايأة جاز، وإن أرادوا قسمته بنصب حجر، أو خشبة مستوية في مصدم الماء، فيها نقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز، وتخرج حصة كل واحد منهما في ساقيته منفردة، وإن أراد أحدهما أن يسقي نصيبه أرضًا لا حق لها في الشرب منه فله ذلك؛ لأن الماء لا حق لغيره فيه، فكان له التصرف فيه كيف شاء، كما لو انفرد بالعين وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز؛ لأنه يجعل لهذه الأرض رسمًا في الشرب منه، فمنع منه، كما لو كان له داران متلاصقتان في دربين، أراد فتح إحداهما إلى الأخرى، وليس لأحدهما فتح ساقية في(2/249)
جانب النهر قبل المقسم، يأخذ حقه فيها، ولا أن ينصب على حافتي النهر رحى تدور بالماء، ولا غير ذلك؛ لأن حريم النهر مشترك، فلم يملك التصرف فيه بغير إذن شريكه.
فصل
ومن سبق إلى مباح كالسنبل الذي ينتثر من الحصادين، وثمر الشجر المباح، والبلح، وما ينبذه الناس رغبة عنه، فهو أحق به للخبر؛ فإن استبق إليه اثنان، قسم بينهما؛ لأنهما اشتركا في السبب، فاشتركا في المملوك به، كما لو ابتاعاه.
[باب الوقف]
ومعناه: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة، وهو مستحب؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به من بعده، وولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية» رواه مسلم.
ويجوز وقف الأرض؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن عمر أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث قال: فتصدق بها عمر في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا بالمعروف، غير متأثل منه أو غير متمول فيه» متفق عليه.
ووقف السلاح والحيوان جائز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما خالد فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» متفق عليه. وفي رواية: «وأعتده» ويصح وقف كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها دائمًا، قياسًا على المنصوص عليه. ويصح وقف المشاع؛ لأن في حديث عمر أنه أصاب مائة سهم من خيبر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوقفها، وهذا صفة المشاع، ولأن القصد تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع، كحصوله من المفرز، ويصح وقف علو الدار، دون سفلها، وسفلها دون علوها؛ لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما كالدارين.
فصل
ولا يصح وقف ما لا ينتفع به مع بقاء عينه، كالأثمان، والمأكول والمشروب، والشمع؛ لأنه لا يحصل تسبيل ثمرته مع بقائه، ولا ما يسرع إليه الفساد، كالرياحين؛ لأنها لا تتباقى، ولا ما لا يجوز بيعه: كالكلب، والخنزير، ولا المرهون، والحمل(2/250)
المنفرد، ولا أم الولد؛ لأن الوقف تمليك، فلا يجوز في هذه، كالبيع. ولا يجوز في غير معين، كأحد هذين العبدين، وفرس، وعبد؛ لأنه نقل ملك على وجه القربة، فلم يصح في غير معين كالهبة.
فصل
ولا يصح الوقف إلا على بر: كالمساجد، والقناطر، والفقراء، والأقارب، أو آدمي معين، مسلمًا كان أو ذميًا؛ لأنه في موضع القربة، ولهذا جازت الصدقة عليه، ولا يصح على غير ذلك، كالبيع وكتب التوراة والإنجيل؛ لأن هذا إعانة على المعصية، ولأن هذه الكتب منسوخة قد بدل بعضها، وقد غضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين رأى مع عمر شيئًا استكتبه منها، ولا على قطاع الطريق؛ لأنه إعانة على المعصية.
والقصد بالوقف القربة، ولا على من لا يملك: كالميت، والملك، والجني؛ لأن الوقف تمليك في الحياة، ولا على عبد، أو أم ولد؛ لأنه لا يملك في رواية، وفي أخرى: ملكه غير لازم، والوقف لا يجوز أن يكون متزلزلًا، ولا على حربي أو مرتد؛ لأن ملكهما تجوز إزالته، والوقف يجب أن يكون لازمًا، ولا على غير معين: كرجل أو امرأة؛ لأن تمليك غير المعين لا يصح، فإن قيل: فكيف جاز الوقف على المساجد؟ وهي لا تملك، قلنا: الوقف إنما هو على المسلمين، لكن عين نفعًا خاصًا لهم.
فصل
ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل؛ لأنه عقد يبطل بالجهالة، فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع، إلا أن يقول: هو وقف بعد موتي فيصح، ويكون وصية يعتبر خروجه من الثلث؛ لأنه تبرع مشروط بالموت فكان وصية، كما لو قال: إذا مت، فهذا صدقة للمساكين. وجعل القاضي وأبو الخطاب: تعليق الوقف على الموت كتعليقه على شرط في الحياة، فلا يصح في الموضعين إلا على قول الخرقي. والأولى التفريق بينهما؛ لأن تعليقه بالموت وصية فجاز.
كما لو قال: إذا مات، فداري لفلان، أو أبرأته من ديني عليه، ولا يلزم من جواز ذلك صحة تعليق الهبة والإبراء، على شرط في الحياة، كذا هاهنا، ولا يجوز الوقف إلى مدة؛ لأنه إخراج مال على سبيل القربة، فلم يجز إلى مدة، كالصدقة، فإن شرط فيه الخيار، أو شرط فيه الرجوع إذا شاء، أو يبيعه إذا احتاج، أو لم يدخل فيه من شاء لم يصح؛ لأنه إخراج ملك على سبيل القربة، فلم يصح مع هذه الشروط، كالصدقة.
فصل
وإن شرط أن يأكل منه أيام حياته، أو مدة يعينها، فله شرطه. نص عليه أحمد(2/251)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واحتج بما روى حجر المدري: «أن في صدقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل أهله بالمعروف غير المنكر» ، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في وقفه: لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقًا، وكان الوقف في يده إلى أن مات، ولأنه لو وقف وقفًا عامًا، كالسقاية والمسجد، لكان له أن ينتفع منه، كذلك إذا خصه بانتفاعه.
فصل
وإن وقف على نفسه ثم على أولاده، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأن الوقف تمليك، فلم يصح أن يملك نفسه به كالبيع.
والثانية: يصح؛ لأنه لما جاز أن يشترط لنفسه منه شيئًا، جاز أن يختص به أيام حياته كالوصية.
فصل
ولا يكون الوقف، إلا على سبيل غير منقطع: كالفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمساجد، أو على رجل بعينه، ثم على ما لا ينقطع، فإن وقفه على رجل بعينه وسكت، صح وكان مؤبدًا؛ لأن مقتضاه التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه، وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد، أو قدم المسمى على غيره. فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقارب الواقف؛ لأنهم أحق الناس بصدقته، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» .
وعنه: أنه يرجع إلى المساكين؛ لأنها مصارف الصدقات المفروضات، كالزكوات والكفارات.
والأول: ظاهر المذهب، وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والخرقي: أنه يرجع إلى الأغنياء، والفقراء من أقاربه؛ لأن الوقف يستوي فيه الغني والفقير، ويحتمل أن يختص الفقراء؛ لأنهم مصرف الصدقات، ويرجع إلى جميع الورثة في إحدى الروايتين؛ لأنه يصرف إليهم ماله عند موته.
والثانية: يرجع إلى أقرب عصبة الواقف؛ لأنه مصرف ولاء معتقه، وعليهم عقله، فخصوا بهذا، ويكون وقفًا على من رجع إليه؛ لأنه إنما صرف إليهم بوقف مالكه له، والوقف يقتضي التأبيد، فإذا انقرضوا رجع إلى المساكين، وإن لم يكن له أقارب رجع إلى المساكين ليعيلهم، ولو جعل الانتهاء مما لا يجوز الوقف عليه فقال: وقفت على أولادي، ثم على البيع، فحكمه حكم ما لم يسم له انتهاء؛ لأن ذكر ما لا يجوز كعدمه. وإن قال: وقفت داري ولم يذكر سبلها، صح في قياس المذهب؛ لأنه إزالة ملك على(2/252)
سبيل القربة، فصح مطلقًا، كالعتق. وحكمه حكم منقطع الانتهاء.
فصل
فإن قال: وقفت على هذا العبد، ولم يذكر له مالًا فهو باطل؛ لأنه منقطع الابتداء والانتهاء. وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه فقال: ثم على المساكين صح؛ لأنه جمع فيه بين ما يجوز وما لا يجوز فصح، كما لو وقفه على أولاده، ثم على البيع، ويحتمل أن يخرج صحته على الروايتين في تفريق الصفقة، فإن قلنا بصحته، وكان من لا يصح الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه، كالميت والمجهول، صرف في الحال إلى من يجوز؛ لأن ذكر من لا يجوز كعدمه، وإن أمكن اعتبار انقراضه كعبد معين، احتمل ذلك أيضًا لذلك، واحتمل أن يصرف إلى أقارب الواقف إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه، ثم يصرف إلى من يجوز؛ لأن وقفه على من يجوز مشروط بانقراض من لا يجوز، فكان الوقف قبل ذلك لا مصرف له، فصرف إلى الأقارب، كمنقطع الانتهاء.
فصل
ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه، مثل أن يبني مسجدًا، ويأذن للناس في الصلاة فيه، أو مقبرة، ويأذن لهم في الدفن فيها، أو سقاية ويشرع بابها، ويأذن في دخولها؛ لأن العرف جار به، وفيه دلالة على الوقف، فجاز أن يثبت به كالقول، وجرى مجرى من قدم طعامًا لضيفانه، أو نثر نثارًا، أو صب في خوابي السبيل ماء، وأما القول فألفاظه ستة، ثلاثة صريحة، وهي: وقفت، وحبست، وسبلت، متى أتى بواحدة منها صار وقفًا؛ لأنه ثبت لها عرف الاستعمال، وعرف الشرع بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها» فصارت كلفظ الطلاق فيه، وثلاثة كناية، وهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت، فليست صريحة؛ لأنها مشتركة بين الوقف وغيره من الصدقات والتحريمات، فإن نوى بها الوقف، أو قرن بها لفظًا من الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف، بأن يقول: صدقة محبسة، أو محرمة، أو مؤبدة، أو صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، صار وقفًا؛ لأنه لا يحتمل مع هذه القرائن إلا الوقف.
فصل
ولا يجوز التصرف في الوقف بما ينقل الملك في الرقبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمر: «لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» ولأن مقتضى الوقف التأبيد، وتحبيس الأصل، بدليل أن ذلك من بعض ألفاظه، والتصرف في رقبته ينافي ذلك.(2/253)
فصل
والوقف يزيل ملك الواقف؛ لأنه يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة، فأزال ملكه عن الرقبة، كالعتق، ويزيل الملك بمجرد لفظه؛ لأن الوقف يحصل به.
وعنه: لا يحصل إلا بإخراجه عن يده.
قال أحمد: الوقف المعروف أن يخرجه من يده، ويوكل من يقوم به؛ لأنه تبرع، فلم يلزم بمجرده كالهبة والوصية، والأول المشهور؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، فلزم بمجرده كالعتق، ولا يفتقر إلى قبول، ويحتمل أنه متى كان على آدمي معين، افتقر إلى القبول؛ لأنه تبرع لآدمي معين، أشبه الهبة، فإن لم يقبل أو رده بطل في حقه، ولم يبطل في حق من بعده، وصار كالوقف على من لا يصح، ثم على من يصح، وعلى الظاهر من المذهب أنه لا يفتقر إلى القبول، ولا يبطل برده؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، أشبه العتق والوقف على غير معين.
فصل
وينتقل الملك في الوقف إلى الموقوف عليه في ظاهر المذهب؛ لأنه سبب نقل الملك، ولم يخرجه عن المالية وجد إلى من يصح تمليكه، أشبه البيع والهبة.
وعنه: لا يملكه، ويكون الملك لله تعالى؛ لأنه حبس للعين، وتسبيل للمنفعة على وجه القربة، فأزال الملك إلى الله سبحانه كالعتق.
فصل
ويملك الموقوف عليه غلته وثمرته، وصوفه ولبنه؛ لأنه من غلته، فهو كالثمرة، ويملك تزويج الأمة؛ لأنه عقد على نفعها، فأشبه إجارتها، ويملك مهرها؛ لأنه بدل نفعها أشبه أجرتها، وإن ولدت، فولدها وقف معها؛ لأن الوقف حكم ثبت في الأم، فسرى إلى الولد، كالاستيلاد والكتابة، ولا يملك الموقوف عليه وطأها؛ لأن ملكه فيها ضعيف، ولا يؤمن إفضاؤه إلى إخراجها من الوقف فإن وطئها، فلا حد عليه؛ لأنها ملكه، ولا مهر عليه لذلك. وإن لم تلد منه، فهي وقف بحالها، وإن ولدت منه، فالولد حر؛ لأنه من مالكها، وعليه قيمته يوم الوضع؛ لأنه فوت رقه، ويشتري بها عبدًا يكون وقفًا مكانه، وتصير أم ولد له؛ لأنه أحبلها بحر في ملكه، فإذا مات عتقت، ووجبت قيمتها في تركته حينئذ؛ لأنه أتلفها على من بعده، ويشتري بالقيمة جارية تكون وقفًا مكانها، وإن قلنا: ليست ملكًا له، لم تصر أم ولد بوطئه.(2/254)
فصل
وإن أتلف الوقف أجنبي أو الواقف، أو الموقوف عليه، فعليه قيمته يشتري بها مثله يقوم مقامه؛ لأن الموقوف عليه لا يملك التصرف في رقبته، إنما له نفعه، وإن وطئت الجارية بشبهة فولدها حر، وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه يشتري بها ما يقوم مقامه، وإن جنى الوقف، تعلقت جنايته بالموقوف عليه؛ لأنه يملكه، ولم تتعلق بالوقف؛ لأن رقبته محلًا للبيع، فتعلقت بمالكه كأم الولد.
فصل
وتصرف الغلة على ما شرط الواقف من التسوية، والتفضيل، والتقديم، والتأخير، والجمع، والترتيب، وإدخال من أدخله بصفة، وإخراج من أخرجه بصفة؛ لأنه ثبت بوقفه، فوجب أن يتبع فيه شرطه، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف أرضه على الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، وجعل لمن وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا. ووقف الزبير على ولده، وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضرًا بها، وإذا استغنت بزوج فلا حق لها فيه.
فصل
فإذا قال: وقفت على أولادي، دخل فيه الذكر منهم والأنثى والخنثى؛ لأن الجميع أولاد، وهل يدخل فيه ولد الولد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يدخلون؛ لأنهم دخلوا في قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وفي قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] ، فعلى هذه الرواية يدخل ولد البنين دون ولد البنات؛ لأن ولد البنين هم الذين دخلوا في النص دون ولد البنات.
قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
والثانية: لا يدخل ولد الولد؛ لأن ولده حقيقة ولد صلبه، والكلام بحقيقته، إلا أن يقرن به ما يدل على إدخالهم كقوله: وقفت على أولادي، لولد الذكور الثلثان، وولد الإناث الثلث ونحوه. فإن قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولاد أولادي، فهو على المساكين، دخل أولاد الأولاد في الوقف؛ لأن قرينة اشتراط انقراضهم دليل على أنهم أريدوا به، وقيل: لا يدخلون أيضًا؛ لأن اللفظ لا يتناولهم، بل يكون وقفًا(2/255)
منقطع الوسط، يصرف بعد أولاده إلى مصرف الوقف المنقطع، فإذا انقرض أولاد أولاده، صرف إلى المساكين. وإن وصل لفظه بما يقتضي تخصيص أولاده، فقال: وقفت على ولدي لصلبي، أو قال: على أولادي، ثم على أولادهم، اختص بالولد وجهًا واحدًا، ومتى كان الوقف على الأولاد مطلقًا، سوي فيه بين الذكر والأنثى والخنثى؛ لاقتضاء لفظه التسوية، كقوله تعالى في ولد الأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، وإن كان في لفظه تفضيل بعضهم، فهو كذلك، وإن كان له حمل، لم يدخل في الوقف حتى ينفصل، ثم يستحق ما يحدث من الغلة بعد انفصاله، دون ما كان موجودًا قبله، كالثمرة المؤبرة، والزرع المدرك؛ لأنه لا يسمى ولدًا قبل الانفصال، وإن نفي ولده بلعان، خرج من الوقف، لخروجه عن كونه ولدًا له.
فصل
وإن وقف على بنيه، لم يدخل فيه بنت ولا خنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ابنًا، وإن وقف على بناته، لم يدخل فيه ذكر ولا خنثى. وإن وقف على ولد فلان أو بنيه أو بناته، فهو كوقفه على ولد نفسه وبنيه وبناته، إلا أن يقف على بني فلان، وهم قبيلة كبني هاشم، فيدخل فيه الذكر والأنثى والخنثى من ولد البنين دون البنات؛ لأن هذا الاسم يقع على القبيلة ذكرهم وأنثاهم، وولد البنات لا يعدون منها.
فصل
وإن وقف على أولاده وأولاد أولاده، دخل في الوقف أولاده الذكور والإناث والخناثى، وأولادهم الذكور والإناث والخناثى من ولد البنين، فأما ولد البنات، فقال الخرقي: لا يدخلون؛ لأنهم لم يدخلوا في قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، ولا يدخلون في الوقف على ولد فلان وهم قبيلة، فلا يدخلون هاهنا، ولأنهم إنما ينسبون إلى قبيلة آبائهم دون قبيلة أمهاتهم، وقال أبو بكر وابن حامد: يدخلون في الوقف؛ لأنهم أولاد أولاده. وإن قال: وأولاد أولادي المنتسبين إلي، لم يدخلوا وجهًا واحدًا، وإن قال: لولد الذكر سهمان، ولولد الأنثى سهم دخلوا فيه؛ لأنه صرح بدخولهم، ولو وقف على قوم بأعيانهم، ثم على أولادهم، وكانوا ذكورًا وإناثًا، دخل أولاد الإناث في الصحيح؛ لأن اللفظ تناولهم، كتناوله ولد البنين، وإن كان جميعهم إناثًا، دخل في أولادهن؛ لأن لفظه نص فيهم.(2/256)
فصل
وإذا شرك بين الولد وولد الولد بالواو، اشترك الجميع فيه، وإن رتب فقال: على أولادي، ثم على أولادهم، أو قال: الأعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب، وجب ترتيبه، وإن رتب بطنين، ثم شرك بين الباقين، أو شرك بين بطنين، ثم رتب الباقين، فهو على ما شرطه، وكيفما شرط فالأمر عليه؛ لأن الوقف ثبت بلفظه، فوجب أن يتبع مقتضاه.
فصل
وإن وقف على قرابته، أو قرابة فلان، فهو لولده وولد أبيه، وجده وجد أبيه الذكر والأنثى. ولا يعطى من بعد ذلك، ولا قرابته من جهة أمه شيئاً، لأن الله تعالى جعل خمس الخمس لذوي قربى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرابته إلى بني هاشم، لم يتجاوزهم، ولم يعط بني زهرة شيئاً. ويحتمل أن يعطي كل من عرف قرابته من الجهتين، لأن الاسم واقع عليهم لغة وعرفاً.
وعنه: إن لم يصل قرابته من جهة أمه في حياته، دخلوا فيه، وإلا فلا، لأن صلته لهم في حياته تدل على إرادتهم بصلته هذه، وإن وجدت قرينة لفظية، أو حالية تدل على إرادتهم أو حرمانهم، عمل عليه، وأهل بيته بمثابة قرابته. وقال الخرقي: إذا أوصى لأهل بيته، أعطي من قبل أبيه وأمه.
فصل
وإن وقف على أقرب الناس إليه، وله أبوان وولد، فهم سواء فيه، لأن كل واحد منهم يليه في القرب من غير حاجز، ولأنه جزء والده، وولده جزؤه، ويحتمل تقديم الابن لتقديمه في التعصيب. وإن عدم بعضهم، فهو للباقين، ويقدم كل واحد من هؤلاء على من سواهم، لأن سواهم يدلي بواسطة. وإن عدموا، فهو لولد الابن، أو الجد أبي الأب، الأقرب منهم فالأقرب، فإن عدموا فهو للإخوة، لأنهم ولد الأب، ويقدم الأخ من الأبوين، ويسوى بين الأخ من الأب، والأخ من الأم، وكذلك الأخوات، فإن عدموا صرف إلى بنيهم على ترتيب آبائهم، ويسوى بين الأخ والجد لاستوائهما في الميراث، ولأن الجد أبو الأب، والأخ ولد الأب، ويحتمل تقديم الجد، لأن له ولادة، وهو أقوى في الميراث، وقيل يقدم الأخ، لأنه ابن الأب، فيكون أقوى من أبيه، لقوة تعصيبه، فإن لم يكن له إخوة، فهو للأعمام، ثم بنيهم على ترتيب الميراث. وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، صرف إلى ثلاثة منهم، فإن كان بعضهم أقرب من بعض، استوفي ما أمكن من الأقرب، وتمم الباقي من الأبعد، لأنه شرط العدد والأقرب، فوجب(2/257)
اعتبارهما. وإن استوى جماعة في القرب، أعطي الجميع لتساويهم.
فصل
وإن وقف على عترته فهم عشيرته وولده، قاله ابن قتيبة، وقال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته، والأول أولى، لأنه يروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نحن عترة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن وقف على مواليه، وله موال من فوق، وموال من أسفل، فهو لجميعهم، لأن الاسم يشملهم حقيقة. وإن وقف على زيد وعمرو والفقراء، فلهما الثلثان وللفقراء الثلث؛ لأنه جعله لثلاث جهات، فوجب قسمته أثلاثا. وإن وقف عليهما، ثم على الفقراء، فمن مات منهما، رجع نصيبه إلى صاحبه، فإذا ماتا، رجع إلى الفقراء، لأنه جعله لهم مشروطاً بانقراضهما.
فصل
وإن وقف نخلة فيبست، أو جذوعاً فتكسرت، جاز بيعها، لأنه لا نفع في بقائها، وفيه ذهاب ماليتها، فكانت المحافظة على ماليتها ببيعها أولى، لأنه لا يجوز وقف ما لا نفع فيه ابتداء، فلا يجوز استدامة وقفه، لأن ما كان شرطاً لابتداء الوقف، كان شرطاً لاستدامته كالمالية، وإذا بيعت، صرف ثمنها في مثلها، وإن حبس فرساً في سبيل الله، فصارت بحيث لا ينتفع بها فيه، بيعت، لما ذكرنا، وصرف ثمنها في حبيس آخر. وإن وقف مسجداً فخرب، وكان في مكان لا ينتفع به، بيع، وجعل في مكان ينتفع به، لما ذكرنا. وكل وقف خرب ولم يرد شيئاً بيع، واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف. وإن وقف على ثغر فاختل صرف إلى ثغر مثله، لأنه في معناه.
فصل
وينفق على الوقف من حيث شرط الواقف؛ لأنه لما اتبع شرط الواقف في سُبُله كذلك في النفقة عليه، فإن لم يشرط النفقة عليه، أنفق عليه من غلته، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة عليه، فإن لم يكن له غلة، أنفق عليه الموقوف عليه؛ لأنه ملكه.
فصل
وينظر في الوقف من حيث شرط الواقف، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل النظر في وقفه إلى حفصة ابنته، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها، ولأن سبله إلى شرطه، فكذلك النظر فيه. وإن لم يشرط الناظر، ففيه وجهان:
أحدهما: ينظر فيه الموقوف عليه، لأنه ملكه، وغلته له، فكان نظره إليه كالمطلق.(2/258)
والثاني: إلى حاكم البلد، لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه، ففوض الأمر فيه إلى الحاكم، فإن جعله إلى اثنين من أفاضل ولده، جعل إليهما، فإن لم يوجد فيهما إلا فاضل واحد، ضم الحاكم إليه آخر؛ لأن الواقف لم يرض بنظر واحد.
فصل
وإن اختلف أرباب الوقف فيه، رجع إلى الواقف، لأن الوقف ثبت بقوله، فإن لم يكن، تساووا فيه، لأن الشركة ثبتت، ولم يثبت التفضيل، فوجبت التسوية، كما لو شرك بينهم بلفظه.
[باب الهبة]
وهي التبرع بتمليك مال في حياته، وهي مستحبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تهادوا تحابوا» . وهي أفضل من الوصية، لما روى أبو هريرة قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا» رواه البخاري، ومسلم بمعناه.
وهبة القريب أفضل، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» . وفي هبة القريب صلته، ولا يجوز تفضيل بعض ولده على بعض في العطية، لما روى النعمان بن بشير قال: «تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد عليها رسول الله، فجاء أبي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُشهده على صدقتي، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة» رواه مسلم، وفي لفظ: «لا تشهدني على جور» متفق عليه. فسماه جوراً، والجور حرام، ولأن ذلك يوقع العداوة، وقطيعة الرحم، فمنع منه، كنكاح المرأة على عمتها، فإن فعل فعليه التسوية بأحد أمرين: إما رد عطية الأول، أو إعطاء الآخر مثله، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره برده،(2/259)
وأمره يقتضي الوجوب، فإن مات، ولم يسو بينهم، ففيه روايتان:
إحداهما: يثبت ذلك لمن وهب له، ويسقط حق الرجوع، اختاره الخرقي، ولأنه حق للأب، يتعلق بمال الولد، فسقط بموته، كالأخذ من ماله.
والثانية: يجب رده، وهذا اختيار ابن بطة وصاحبه أبي حفص، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جوراً، والجور يجب رده بكل حال، والتسوية المأمور بها القسمة بينهم على قدر مواريثهم، لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت، فأشبه الميراث.
فصل:
فإن خص بعض ولده لغرض صحيح، من زيادة حاجة، أو عائلة، أو اشتغاله بعلم، أو لفسق الآخر وبدعته، فقد روي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يدل على جوازه، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان في سبيل الحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. ووجه ذلك، ما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لعائشة: كنت قد نحلتك جذاذ عشرين وسقاً، ووددت أنك حزتيه، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك. ويحتمل المنع، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل بشيراً.
فصل:
والأم كالأب في التسوية بين الأولاد، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب. ولا تجب التسوية بين سائر الورَّاث، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن لبشير زوجة، فلم يأمره بإعطائها، حين أمره بالتسوية بين أولاده.
فصل:
وما جاز بيعه من مقسوم، أو مشاع، أو غيره، جازت هبته، لأنه عقد يقصد به تمليك العين، فأشبه البيع. وتجوز هبة الكلب، وما يباح الانتفاع به من النجاسات، لأنه تبرع، فجاز في ذلك، كالوصية. ولا يجوز في مجهول، ولا معجوز عن تسليمه، ولا في المبيع قبل قبضه، لأنه عقد يقصد به التمليك في الحياة، أشبه البيع، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لذلك. والحكم في الإيجاب والقبول فيها، كالحكم في البيع على ما ذكر في بابه.
فصل:
ولا يثبت الملك للموهوب له في المكيل والموزون إلا بقبضه، لحديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، فإن مات الموهوب له قبل القبض، بطلت، لأنه غير لازم، فيبطل بالموت كالشركة. وإن مات الواهب، فعنه ما يدل على(2/260)
أن الهبة تبطل لذلك، وهو قول القاضي. وقال أبو الخطاب: لا تبطل، لأنه عقد مآله إلى اللزوم، فلا يبطل بالموت، كبيع الخيار. ويقوم الوارث مقام المورثين في التقبيض والفسخ، فإذا قبض، ثبت الملك حينئذ. والخيرة في التقبيض إلى الواهب، لأنه بعض ما يثبت به الملك فكانت الخيرة له فيه، كالإيجاب، ولا يجوز القبض إلا بإذنه، لأنه غير مستحق عليه، فإن قبض بغير إذنه، لم تتم الهبة. وإن أذن، ثم رجع قبل القبض، أو مات بطل الإذن.
فصل:
وأما غير المكيل والموزون، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تتم هبته إلا بالقبض، لأنه نوع هبة، فلم تتم قبل القبض، كالمكيل والموزون.
والثانية: تتم قبل القبض، لما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: الهبة إذا كانت معلومة، فهي جائزة، قبضت أو لم تقبض، ولأن الهبة أحد نوعي التمليك، فكان منها ما يلزم قبل القبض، كالبيع، وقد ذكرنا اختلاف تفسير أصحابنا للمكيل والموزون في البيع، وإن كان الموهوب في يد المتهب، لم يحتج إلى قبض، لأن قبضه مستدام، وهل يفتقر إلى إذن في القبض؟ فيه روايتان. وذكر القاضي: أنه لا بد من مُضِيّ مدة يتأتى قبضه فيها لما ذكرنا في الرهن.
فصل:
فإن وهب لابنه الصغير شيئاً، وقبضه له، صح ولزم؛ لأنه وليه، فكان له القبض، كما لو كان الواهب أجنبياً، ويكون حكم القبض حكمه فيما إذا وهب له رجل شيئاً في يده؛ لأنه في يد الأب.
فصل:
والهبة المطلقة لا تقتضي ثواباً، سواء كانت من مماثل أو أعلى أو أدنى، لأنها عطية على وجه التبرع، فلم تقتض ذلك كالصدقة. وإن شرط ثواباً معلوماً صح، وكانت بيعاً يثبت فيه الخيار والشفعة، وضمان العهدة، وحكي عن أحمد رواية ثانية: أنه يغلب فيها حكم الهبة، فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به. وإن شرط ثواباً مجهولاً، احتمل أنه لا يصح، لأنه عوض مجهول في معاوضة، فلم يصح كالبيع.
وعنه: أنه يصح ويعطيه ما يرضيه أو يردها، ويحتمل أن يعطيه قيمتها، فإن لم يفعل فللواهب الرجوع، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من وهب هبة أراد بها(2/261)
الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها. قال أحمد: إذا تغيرت العين الموهوبة بزيادة أو نقصان، ولم يثبه منها، فلا أرى عليه نقصان ما نقص، إلا أن يكون ثوباً لبسه، أو جارية استخدمها أو استعملها، فإن اختلفا، فقال: وهبتك ببدل، فأنكر الآخر، فالقول قول المنكر، لأنه ادعى عليه بدلاً الأصل عدمه.
فصل:
وإن وهب لغير ولده شيء، وتمت الهبة، لم يملك الرجوع فيه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العائد من هبته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وإن وهب الرجل لولده، فله الرجوع للخبر؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشيراً برد ما وهب لولده النعمان؛ ولأن الأب لا يتهم في رجوعه؛ لأنه لا يرجع إلا لضرورة، أو إصلاح الولد. وليس للجد الرجوع؛ لأن الخبر يتناول الوالد حقيقة، وليس الجد في معناه؛ لأنه يدلي بواسطة، ويسقط بالأب، ولا تسقط الإخوة، فأما الأم فيحتمل أن لا رجوع لها، لأنه لا ولاية لها على ولدها، بخلاف الأب، ويحتمل أن لها الرجوع، لأنها أحد الأبوين، فأشبهت الأب، ولأنه يجب عليها التسوية بين ولدها في العطية، فأشبهت الأب. والهبة والصدقة سواء في ذلك، بدليل أن في حديث النعمان بن بشير: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس للأب الرجوع في هبته أيضاً، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» .
فصل:
وللرجوع في الهبة شروط أربعة:
أحدها: أن تكون باقية في ملكه، لأن الرجوع فيها بعد خروجها عن ملكه إبطال لملك غيره، فإن عادت إلى الابن بفسخ العقد، فله الرجوع فيها، لأنه عاد حكم العقد الأول، وإن عادت بسبب آخر، فلا رجوع له، لأنه ما استفاد هذا الملك بهبة أبيه.
الثاني: أن يكون تصرف الابن فيها باقياً. فإن استولد الأمة أو رهنها، أو حجر عليه لفلس، سقط الرجوع لما فيه من إسقاط حق الغرماء والمرتهن، ونقل ملك فيما لا يقبل النقل. فإن زال الحجر والرهن، فله الرجوع لزوال المالك.
الثالث: أن لا يزيد زيادة متصلة، كالسمن والتعلم، فإن زادت ففي الرجوع روايتان. كالروايتين في الرجوع على المفلس، وإن كانت منفصلة، لم يمنع الرجوع،(2/262)
والزيادة للابن؛ لأنها نماء منفصل في ملكه، فكانت له كنماء المبيع المعيب.
الرابع: أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، نحو أن يرغب الناس في تزويجه، فيزوجوه من أجله أو يداينوه، فإن تعلقت بها رغبة، ففيه روايتان:
إحداهما: لا رجوع فيها؛ لأنه إضرار بالغير، فلم يجز كالرجوع فيها بعد فلس الابن.
والثانية: له ذلك؛ لعموم الحديث؛ ولأن حق الغير لم يتعلق بهذا المال، أشبه ما لو لم يتزوج.
فصل:
وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع غناه وحاجته بشرطين:
أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال أحد ولديه، فيعطيه الآخر؛ لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى، فإذا وجد الشرطان، جاز الأخذ؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» رواه سعيد وابن ماجه.
وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه سعيد. والترمذي وقال: حديث حسن. ولأنه يتصرف في مال ولده الصغير بغير تولية، أشبه مال نفسه، وليس للابن مطالبة أبيه بدين له عليه لما ذكرنا. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإذا مات بطل دين الابن. قال بعض أصحابنا: يعني ما أخذه على سبيل التملك، فأما إن أخذه على غير ذلك، رجع الابن في تركته، وليس للأم الأخذ من مال ولدها بغير إذنه، ولا للجد، ولا سائر الأقارب، لعدم الخبر فيهم، وامتناع قياسهم على الأب، لما بينهما من الفرق، ويحتمل أن يجوز للأم، لدخول ولدها في عموم قوله: أولادكم.
فصل:
وإن تصرف الأب بمال ابنه قبل تملكه، لم يصح تصرفه، نص عليه أحمد، فقال: لا يجوز عتقه لعبد ابنه ما لم يقبضه. وكذلك إبراؤه من دينه وهبته لماله، لأن ملك الابن باق عليه، بدليل صحة تصرفه فيه، ووطئه لجواريه، وجريان الربا بينه وبين أبيه، فأشبه مال الأجنبي. وإن وطئ الأب جارية ابنه قبل تملكها، فلا حد عليه للشبهة، وإن لم تلد، فهي على ملك الابن، وإن ولدت، فولده حر، وتصير أم ولد له.(2/263)
فصل:
فصل في العمرى: وهي أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، أو عمري. ولها ثلاث صور:
إحداهن: أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولعقبك من بعدك، فهذه هبة صحيحة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً» رواه أحمد ومسلم.
الثانية: أن يقول: أعمرتكها حياتك. ولم يزد، ففيها روايتان:
إحداهما: هي كالأولى للخبر، وجاء في لفظ: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرى لمن وهبت له» متفق عليه؛ ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن تقديره بحياته منافياً لحكم الإملاك.
والثانية: يرجع بعد موته إلى المعمر، لما روى جابر قال: «إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها» . متفق عليه
الثالثة: أن يقول مع ذلك: فإذا مت عادت إلي إن كنت حياً، أو إلى ورثتي، والرقبى مثل ذلك، إلا أنه يقول: إن مت قبلي، عادت إلي، وإن مت قبلك، فهي لك. أو يقول: أرقبتك داري هذه. وقال مجاهد: هي أن يقول: للآخر مني ومنك موتاً، ففيها روايتان:
إحداهما: هي لازمة لا تعود إلى الأول؛ لعموم الخبر الأول، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترقبوا، فمن أرقب شيئاً فهو له حياته وموته» ولأنه شرط أن يعود إليه بعدما زال ملكه، فلم يؤثر، كما لو شرطه بعد لزوم العقد.
والثانية: ترجع إلى المعمر والمرقب، لحديث جابر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» وتصح العمرى والرقبى في العقار والثياب والحيوان، لأنها نوع هبة، فجازت في ذلك كله، كسائر الهبات. ولو شرط في الهبة شرطاً منافياً لمقتضاها، نحو أن يقول: وهبتك هذا بشرط ألا تبيعه، أو بشرط أن تبيعه أو تهبه، فسد الشرط. وفي صحة العقد وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وإن قيدها، فقال: وهبتكها سنة، لم يصح لأنه عقد ناقل للملك في الحياة، أشبه البيع، والله أعلم.(2/264)
[كتاب الوصايا]
الوصية: هي التبرع بعد الموت، وهي مستحبة لمن ترك خيراً، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم» . رواه ابن ماجه. وليست واجبة، لأنها عطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كالزائد على الثلث. وحكي عن أبي بكر أنها واجبة للأقارب غير الوارثين، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
والمستحب فيها الإيصاء بالخمس. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب لمن كثر ماله الوصية بالثلث لما ذكرنا في الحديث، ووجه ما ذكرنا ما روى عامر بن سعد عن أبيه قال: «مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني، فقلت: يا رسول الله لي مال كثير، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، قلت: فبالثلثين؟ قال: لا، قلت: فبالشطر، قال: لا، قلت: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» متفق عليه. يعني يطلبون الناس بأكفهم. فاستكثر الثلث مع إخباره إياه بكثرة ماله وقلة عياله، قال ابن عباس: وددت لو أن الناس غضوا من الثلث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» . متفق عليه. وأوصى أبو بكر بالخمس. وقال: رضيت نفسي ما رضي الله به لنفسه. وقال علي: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالثلث. أما قليل المال ذو العيال، فلا تستحب له الوصية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .(2/265)
فصل:
ويستحب لمن رأى موصياً يحيف في وصيته أن ينهاه، لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعداً عن الزيادة في الثلث. وقال بعض أهل التفسير في قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] هو أن يرى المريض يحيف على ولده فيقول له: اتق الله ولا توص بمالك كله.
فصل:
ولا يجوز لمن له وارث الوصية بزيادة على الثلث، لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعداً عن ذلك، فإن فعل، وقف الزائد على الثلث على إجازة الورثة. فإن أجازوه، جاز. وإن ردوه بطل بغير خلاف، ولأن الحق لهم، فجاز بإجازتهم، وبطل بردهم. وظاهر المذهب أن الإجازة صحيحة. وإجازة الورثة تنفيذ، لأن الإجازة تنفيذ في الحقيقة. ولا خلاف في تسميتها إجازة، فعلى هذا يكتفى فيها بقوله: أجزت، وما يؤدي معناه، وإن كانت عتقاً، فالولاء للموصي يختص به عصباته. وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، والإجازة هبة يفتقر إلى لفظها، وولاء المعتقين لجميع الورثة، وللمجيز إذا كان أباً للموصى له، الرجوع فيها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها، والنهي يقتضي الفساد، ولأنه أوصى بمال غيره فلم يصح، كالوصية بما استقر ملك وارثه عليه. ولا يعتبر الرد والإجازة إلا بعد الموت، لأنه لا حق للوارث قبل الموت، فلم يصح إسقاطه، كإسقاط الشفعة قبل البيع. فأما من لا وارث له، ففيه روايتان:
إحداهما: تجوز وصيته بماله كله، لأن النهي معلل بالإضرار بالورثة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .
والثانية: الوصية باطلة، لأن ماله يصير للمسلمين، ولا مجيز منهم.
فصل:
وإن أوصى بجزء من المال، فأجازها الوارث، ثم قال: إنما أجزتها ظناً مني أن المال قليل، قبل قوله مع يمينه، لأنه مجهول في حقه، فلا تصح الإجازة فيه، ويحتمل أن لا يقبل، لأنه رجوع عن قول يلزمه به حق، فلم يقبل، كالرجوع عن الإقرار، وإن وصى بعبد، فأجازه، ثم قال: ظننت المال كثيراً فأجزته لذلك، ففيه أيضاً وجهان. وقيل: يصح هنا وجهاً واحداً، لأن العبد معلوم.(2/266)
فصل:
ويعتبر خروجه من الثلث بعد الموت، لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها. فلو وصى بثلث ماله، وله ألفان، فصار عند الموت ثلاثة آلاف، لزمت الوصية في الألف. وإن نقصت فصارت ألفاً، لزمت الوصية في ثلث الألف. وإن وصى ولا مال له، ثم استفاد مالاً، تعلقت الوصية به، وإن كان له مال، ثم تلف بعضه بعد الموت، لم تبطل الوصية.
[باب من تصح وصيته والوصية له ومن لا تصح]
من ثبتت له الخلافة، صحت وصيته بها، لأن أبا بكر أوصى بها لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووصى عمر إلى أهل الشورى، ولم ينكره من الصحابة منكر. ومن تثبت له الولاية على مال ولده، فله أن يوصي إلى من ينظر فيه، لما روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، فكان يحفظ عليهم أموالهم، وينفق على أبنائهم من ماله.
وللولي في النكاح الوصية بتزويج موليته، فتقوم وصيته مقامه، لأنها ولاية شرعية، فملك الوصية لها كولاية المال.
وعنه: ليس له الوصية بذلك، لأنها ولاية لها من يستحقها بالشرع، فلم يملك نقلها بالوصية كالحضانة. وقال ابن حامد: إن كان لها عصبة، لم تصح الوصية بها لذلك، وإن لم تكن، صحت، لعدمه.
فصل:
ومن عليه حق تدخله النيابة، كالدين والحج والزكاة ورد الوديعة، صحت الوصية به، لأنه إذا جاز أن يوصي في حق غيره، ففي حق نفسه أولى. ويجوز أن يوصي إلى من يفرق ثلثه في المساكين وأبواب البر، لذلك.
فصل:
ومن صح تصرفه في المال، صحت وصيته، لأنها نوع تصرف، ومن لا تمييز له، كالطفل والمجنون والمبرسم، ومن عاين الموت، لا تصح وصيته، لأنه لا قول له، والوصية قول، وتصح وصية البالغ المبذر، لأنه إنما حجر عليه لحفظ ماله له، وليس في وصيته إضاعة له، لأنه إن عاش، فهو له. وإن مات، لم يحتج إلى غير الثواب، وقد حصله. وتصح وصية الصبي المميز لذلك. ولأن عمر أجاز وصية غلام من غسان.(2/267)
وقال أبو بكر: إذا جاوز العشر، صحت وصيته. رواية واحدة، ومن دون السبع، لا تصح وصيته، ومن بينهما، ففيه روايتان. ويحتمل أن لا تصح وصية الصبي بحال، لأنه لا يصح تصرفه، أشبه الطفل، فأما السكران، فلا تصح وصيته، لأنه لا تمييز له، ويحتمل أن تصح بناء على طلاقه.
فصل:
ولا تصح الوصية بمعصية، كالوصية للكنيسة، وبالسلاح لأهل الحرب، لأن ذلك لا يجوز في الحياة فلا يجوز في الممات، وتصح الوصية للذمي، لما روي أن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصت لأخيها بثلاثمائة ألف، وكان يهودياً، ولأنه يجوز التصدق عليه في الحياة، فجاز بعد الممات. وتصح الوصية للحربي لذلك، ويحتمل أن لا تصح، لأنه لا يصح الوقف عليه.
فصل:
ولا تجوز الوصية لوارث، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» وهذا حديث صحيح، فإن فعل صحت في ظاهر المذهب، ووقفت على إجازة الورثة، لما روى ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز لوارث وصية، إلا أن يشاء الورثة» فيدل على أنهم إذا شاؤوا كانت وصية جائزة، وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» فإن وصى لغير وارث فصار عند الموت وارثاً، لم تلزم الوصية. وإن وصى لوارث فصار غير وارث لزمت الوصية، لأن اعتبار الوصية بالموت.
فصل:
ولا تصح الوصية لمن لا يملك، كالميت والملك والجني، لأنه تمليك فلم يصح لهم، كالهبة. وإن وصى لحمل امرأة، ثم تيقنا وجوده حالة الوصية، بأن تضعه لأقل من ستة أشهر منذ أوصى لغاية أربع سنين، وليست بفراش، صحت الوصية، لأنه ملك بالإرث فملك بالوصية، كالمولود. وإن وضعته لستة أشهر فصاعداً وهي فراش، لم(2/268)
تصح الوصية، لأنه لا يتيقن وجوده حال الوصية، وإن ألقته ميتاً، لم تصح الوصية له، لأنه لا يرث. وإن أوصى لما تحمل هذا المرأة، لم يصح، لأنه تمليك لمن لا يملك، وإن قال: وصيت لأحد هذين الرجلين، لم يصح، لأنه تمليك لغير معين. وإن قال: أعطوا هذا العبد لأحد هذين، صح، لأنه ليس بتمليك، إنما هو وصية بالتمليك فجاز، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد من أحد هذين.
فصل:
وإن وصى لعبد بمعين من ماله، أو بمائة، لم يصح، لأنه يصير ملكاً للورثة فيملكون وصيته. وحكي عنه: أن الوصية صحيحة. وإن وصى له بنفسه، صح وعتق، وإن وصى له بمشاع، كثلث ماله، صح وتعينت الوصية فيه، لأنه ثلث المال، أو من ثلثه. وما فضل من الثلث بعد عتقه، فهو له. وإن وصى لمكاتبه، صح، لأنه يملك المال بالعقود، فصحت الوصية له، كالحر. وإن وصى لأم ولده، صح، لأنها حرة عند الاستحقاق، وإن وصى لمدبره، صح، لأنه إما أن يعتق كله أو بعضه، فيملك بجزئه الحر. وإن وصى لعبد غيره، كانت الوصية لمولاه، لأنه اكتساب من العبد فأشبه الصيد، ويعتبر القبول من العبد، فإن قبل السيد، لم يصح، لأن الإيجاب لغيره، فلم يصح قبوله، كالإيجاب في البيع.
[باب ما تجوز الوصية به]
تصح الوصية بكل ما يمكن نقل الملك فيه، من مقسوم، ومشاع، معلوم ومجهول، لأنه تمليك جزء من ماله، فجاز في ذلك، كالبيع. وتجوز بالحمل في البطن، واللبن في الضرع وبعبد من عبيده، وبما لا يقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والآبق، لأن الموصى له يخلف الموصي في الموصى به، كخلاف الورثة في باقي المال، والوارث يخلفه في هذه الأشياء كلها، كذلك الموصى له. وإن وصى بمال الكتابة، صح لذلك. وإن وصى برقبة المكاتب، انبنى على جواز بيعه. فإن جاز، جازت الوصية به، وإلا فلا. وإن وصى له بما تحمل جاريته، أو شاته، أو شجرته، صح، لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية.
فصل:
وتجوز الوصية بالمنافع، لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث، فكذلك في الوصية. وتجوز الوصية بالعين دون المنفعة، وبالعين لرجل والمنفعة لآخر، لأنهما كالعينين، فجاز فيهما ما جاز في العينين. وتجوز بمنفعة، مقدرة المدة ومؤبدة، لأن المقدرة كالعين المعلومة، والمؤبدة كالمجهولة فصحت الوصية بالجميع.(2/269)
فصل:
وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات، كالكلب، والزيت النجس، لأنه يجوز اقتناؤه للانتفاع، فجاز نقل اليد فيه بالوصية. ولا تجوز بما لا يحل الانتفاع به، كالخمر، والخنزير، والكلب الذي يحرم اقتناؤه، لأنه لا يحل الانتفاع به، فلا تقر اليد عليه.
فصل:
ويجوز تعليقها على شرط في الحياة، لأنها تجوز في المجهول، فجاز تعليقها على شرط، كالطلاق. ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت، لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة. وإن قال: وصيت لك بثلثي، وإن قدم زيد، فهو له، فقدم زيد في حياة الموصي، فهو له. وإن قدم بعد موته فقال القاضي: الوصية للأول، لأنه استحقها بموت الموصي فلم ينتقل عنه. ويحتمل أنها للثاني، لأنه جعلها له بقدومه وقد وجد.
فصل:
وإن كانت الوصية لغير معين، كالفقراء، أو لمن لا يعتبر قبوله، كسبيل الله، لزمت بالموت، لأنه لا يمكن اعتبار القبول، فسقط اعتباره. وإن كان لآدمي معين، لم تلزم إلا بالقبول، لأنها تمليك، فأشبهت الصدقة. ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لأن الإيجاب لما بعده، فكان القبول بعده. فإذا قبل ثبت له الملك حينئذ، لأن القبول يتم به السبب، فلم يثبت الملك قبله، كالهبة. ويحتمل أنه موقوف، إن قبل، بنينا أن ملكه من حين الموت، لأن ما وجب انتقاله بالقبول وجب انتقاله من جهة الموجب بالإيجاب، كالبيع والهبة، والمذهب الأول. فما حدث من نماء منفصل قبل القبول، فهو للوارث. وإن وصى لرجل بزوجته، فأولدها قبل القبول، فولده رقيق للوارث. وعلى الاحتمال الثاني، يكون النماء للموصى له، وولده حر.
فصل:
وإن رد الوصية في حياة الموصي، لم يصح الرد، لأنه لا حق له في الحياة، فلم يملك إسقاطه، كالشفيع قبل البيع. وإن ردها بعد الموت قبل القبول، صح، لأن الحق ثبت له فملك إسقاطه، كالشفيع بعد البيع، وإن رد بعد القبول، لم يصح الرد، لأنه ملك ملكاً تاماً فلم يصح رده، كالعفو عن الشفعة بعد الأخذ بها. فإن لم يقبل ولم يرد، فللورثة مطالبته بأحدهما. فإن امتنع، حكمنا عليه بالرد، لأن الملك متردد بينه وبين الورثة، فأشبه من تحجر مواتاً وامتنع من إحيائه، أو وقف في مشرعة ماء يمنع غيره، ولا يأخذ.(2/270)
فصل:
فإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطلت الوصية، لأنه مات قبل استحقاقها. فإن مات بعده قبل القبول، فكذلك في قياس المذهب، واختيار ابن حامد، لأنه عقد يفتقر إلى القبول، فبطل بالموت قبل القبول، كالهبة، والبيع. وقال الخرقي: يقوم الوارث مقام الموصى له في القبول والرد، لأنه عقد لازم من أحد طرفيه فلم يبطل بموت من له الخيار، كعقد الرهن. فإن قبل الوارث، ثبت الملك له، فلو وصى لرجل بأبيه، فمات الموصى له قبل القبول، فقبل ابنه، وقلنا بصحة ذلك، فإن الملك ينتقل إلى الموصى له بموت الموصي، ورث الموصى به من أبيه، السدس، لأنا تبينا أنه كان حراً. وإن قلنا: لا ينتقل إلا بالقبول، لم يرث شيئاً، لأنه كان رقيقاً.
[باب ما يعتبر من الثلث]
ما وصي به من التبرعات، كالهبة والوقف والعتق والمحاباة، اعتبر من الثلث، سواء كانت الوصية في الصحة، أو المرض، لأن لزوم الجميع بعد الموت.
وعنه: أن الوصية في الصحة من رأس المال، والأول أصح. فأما الواجبات، كقضاء الدين والحج والزكاة، فمن رأس المال، لأن حق الورثة بعد أداء الدين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن الدين قبل الوصية» رواه الترمذي. والواجب لحق الله بمنزلة الدين. لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دين الله أحق أن يقضى» فإن وصى بها مطلقاً، أو من رأس ماله، فهي من رأس ماله، فإن قال: أخرجوها من ثلثي، أخرجت من الثلث، وتممت من رأس المال. فإن كان معها وصية بتبرع، فقال القاضي: يبدأ بالواجب، فإن فضل عنه من الثلث شيء، فهو للموصى له بالتبرع، فإن لم يفضل شيء، سقط، إلا أن يجيز الورثة. ويحتمل أن يقسم الثلث بين الوصيين بالحصة، فما بقي من الواجب، تمم من الثلثين، فيدخله الدور، ويحتاج إلى العمل بطريق الجبر، فتفرض المسألة فيمن وصى بقضاء دينه، وهو عشرة، ووصى لآخر بعشرة، وتركته ثلاثون، فاجعل تتمة الواجب شيئاً، ثم خذ ثلث الباقي وهو عشرة إلا ثلث شيء، قسمها بين الوصيين، فحصل لقضاء الدين خمسة إلا سدس شيء، إذا أضفت إليه الشيء المأخوذ كان عشرة، فاجبر الخمسة من الشيء بسدسه، يبقى خمسة دنانير وخمسة أسداس شيء تعدل العشرة، فالشيء ستة، وحصل لصاحب الوصية الأخرى أربعة.(2/271)
فصل:
فأما عطيته في صحته، فمن رأس ماله، لأنه مطلق في التصرف في ماله، لا حق لأحد فيه. وإن كان في مرض غير مخوف، فكذلك، لأنه في حكم الصحيح. وإن كان مخوفاً اتصل به الموت، فعطيته من الثلث، لما روى عمران بن حصين: «أن رجلاً أعتق ستة أعبد له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولاً شديداً» . رواه مسلم. ولأنه في هذه الحال لا يأمن الموت، فجعل كحال الموت. فإن برئ ثم مرض ومات، فهو من رأس المال، لأنه ليس بمرض الموت. وإن وهب ما يعتبر قبضه وهو صحيح، وأقبضه وهو مريض، اعتبر من الثلث، لأنه لم يلزم إلا بالقبض الذي وجد بالمرض.
فصل:
والمرض المخوف كالطاعون، والقولنج، والرعاف الدائم، والإسهال المتواتر، والحمى المطبقة، وقيام الدم، والسل في انتهائه، والفالج في ابتدائه، ونحوها. وغير المخوف، كالجرب ووجع الضرس، والصداع اليسير، والإسهال اليسير من غير دم، والسل قبل تناهيه، والفالج إذا طال. فأما الأمراض الممتدة فإن أضني صاحبها على فراشه، فهي مخوفة، وإلا فلا. وقال أبو بكر: فيها وجه آخر أنها مخوفة على كل حال، فإن أشكل شيء من هذه الأمراض، رجع إلى قول عدلين من أهل الطب، لأنهم أهل الخبرة به.
فصل:
وإن ضرب الحامل الطلق، فهو مخوف، لأنه من أسباب التلف، وما قبل ستة أشهر فهي في حكم الصحيح. فإن صار له ستة أشهر، فقال الخرقي: عطيتها من الثلث، لأنه وقت لخروج الولد، وهو من أسباب التلف. وقال غيره: هي كالصحيح، لأنه لا مرض بها. وإن وضعت الولد وبقيت معها المشيمة، أو حصل مرض، أو ضربان، فهو مخوف، وإلا فلا، ومن كان بين الصفين حال التحام الحرب، أو في البحر في هيجانه، أو أسير قوم عادتهم قتل الأسرى، أو قدم للقتل، أو حبس له، أو وقع الطاعون ببلده، فعطيته من الثلث، لأنه يخاف الموت خوف المريض وأكثر، فكان مثله في عطيته. قال أبو بكر: وفيه رواية أخرى: أن عطاياهم من جميع المال، لأنه لا مرض بهم.
فصل:
فأما بيع المريض بثمن المثل، وتزويجه بمهر المثل، فلازم من جميع المال، لأنه(2/272)
ليس بوصية، إنما الوصية التبرع، وليس هذا تبرعاً. وإن حابى في ذلك، اعتبرت المحاباة من الثلث، لأنها تبرع، وإن كاتب عبده، اعتبرت من الثلث، لأن ما يأخذه عوضاً من كسب عبده، وهو مال له، فصار كالعتق بغير عوض. وإن وهب له من يعتق عليه، فقبله، عتق من المال كله، لأنه لم يخرج من ماله شيئاً بغير عوض. وإن مات ورثه، لأنه ليس بوصية.
فصل:
وإن عجز الثلث عن التبرعات، قدمت العطايا على الوصايا، لأنها أسبق، فإن عجز الثلث عن العطايا، بدئ بالأول فالأول، عتقاً كان أو غيره، لأن السابق استحق الثلث، فلم يسقط بما بعده، وإن وقعت دفعة واحدة، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر عطيته، لأنهم تساووا في الحق، فقسم بينهم كالميراث.
وعنه: أن العتق يقدم، لأنه آكد، لكونه مبنياً على التغليب والسراية، فإن كان العتق لأكثر من واحد، أقرع بينهم فكمل العتق في بعضهم، لحديث عمران، ولأن القصد تكميل الأحكام في العبد، ولا يحصل إلا بذلك، وإن قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حر، ثم أعتق سالماً، قدم على غانم، لأن عتقه أسبق. وإن قال: إن أعتقت سالماً فغانم حر مع حريته، فكذلك، لأننا لو أعتقنا غانماً بالقرعة، لرق سالم، ثم بطل عتق غانم، لأنه مشروط بعتق سالم، فيفضي عتقه إلى بطلان عتقه، وإن كانت التبرعات وصايا، سوي بين المتقدم والمتأخر، لأنها توجد عقيب موته دفعة واحدة، فتساوت كلها.
فصل:
وإذا عتق بعض العبد بالقرعة، تبينا أنه كان حراً من حين الإعتاق فيكون كسبه له. وإن عتق بعضه، ملك من كسبه بقدره. فإن أعتق عبداً لا يملك غيره - قيمته مائة - فكسب في حياة سيده مائة، عتق نصفه، وله نصف كسبه، ويحصل للورثة نصفه، ونصف كسبه، وذلك مثلا ما عتق منه، فطريق عملها أن يقول: عتق منه شيء وله من كسبه شيء، وللورثة شيئان، فيقسم العبد وكسبه على أربعة أشياء، فيخرج للشيء خمسون، وهو نصف العبد. ولو كسب مثلي قيمته، لقلت: عتق منه شيء، وله من كسبه شيئان، وللورثة شيئان، فيعتق منه ثلاثة أخماسه، وله ثلاثة أخماس كسبه، وللورثة الخمسان.
فصل:
وإن وهب المريض مريضاً عبداً قيمته عشرة لا يملك غيره، ثم وهبه الثاني(2/273)
للأول، ولا يملك غيره، فقد صحت هبة الأول في شيء، وصحت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء، بقي له ثلثا شيء، ولورثة الأول شيئان، أبسط الجميع أثلاثاً، تكن ثمانية والشيء ثلاثة، فلورثة الأول ستة هي ثلاث أرباع العبد، ولورثة الثاني ربعه.
فصل:
ولو تزوج المريض امرأة صداق مثلها خمسة، فأصدقها عشرة لا يملك غيرها، فماتت قبله، ثم مات، فقد صح لها بالصداق خمسة وشيء، وعاد إلى الزوج نصف ذلك ديناران ونصف، ونصف شيء، فصار لورثته سبعة ونصف، إلا نصف شيء، تعدل شيئين، أجبرها بنصف الشيء، تصر شيئين ونصف، تعدل سبعة ونصفين، ابسطها، تصر خمسة، تعدل خمسة عشر. فالشيء إذاً ثلاثة، فلورثة الزوج ستة، ولورثتها، أربعة.
فصل:
وإن باع المريض عبداً لا يملك غيره قيمته ثلاثون، بعشرة، فأسقط الثمن من قيمته، ثم انسب ثلث العبد كله إلى الباقي من ثمنه، يكن نصفه، فيصح البيع في نصفه بنصف ثمنه. ولو اشتراه بخمسة عشر كانت نسبة الثلث إلى باقيه بثلثين، فيصح البيع في ثلثه بثلثي ثمنه.
فصل:
ومن وصى لرجل بثلث ماله، ومنه حاضر وغائب وعين ودين، فللموصى له ثلث العين الحاضرة، وللورثة ثلثاها، وكلما اقتضى من الدين شيء، أو حضر من الغائب شيء، اقتسموه أثلاثاً، لأنهم شركاء فيه. وإن وصى بمائة حاضرة وله مائتان غائبة، أو دين، ملك الموصى له ثلث الحاضرة، وله التصرف فيه في الحال، لأن الوصية فيه نافذة، فلا فائدة في وقفه، ووقف ثلثيها، فكلما حضر من الغائب شيء أخذه الوارث، واستحق الموصى له من الحاضرة قدر ثلثه، وإن تلفت الغائبة، فالثلثان للورثة، وكذلك لو دبر عبده ومات وله دين مثلاه، عتق ثلثه، ووقف ثلثاه لما ذكرناه.
فصل:
وإن وصى له بمنفعة عبد سنة، ففي اعتبارها في الثلث وجهان:
أحدهما: تقوم المنفعة سنة، ويقوم العبد مسلوب المنفعة سنة على الوارث.
والثاني: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة سنة، فيعتبر ما بينهما. وإن وصى بنفعه حياته. ففيه وجهان:
أحدهما: يقوم العبد بمنفعته،، ثم يقوم مسلوب المنفعة، فما زاد على قيمة الرقبة(2/274)
المنفردة، فهو قيمة المنفعة.
والثاني: يقوم العبد بمنفعته على الموصى له، لأن عبداً لا نفع فيه لا قيمة له. وإن وصى لرجل بنفعه، ولآخر برقبته، اعتبر خروج العبد بمنفعته من الثلث وجهاً واحداً. وإن وصى له بثمرة شجرة أبداً، ففي التقويم الوجهان لما ذكرناه.
[باب الموصى له]
إذا أوصى لجيرانه، صرف إلى أربعين داراً من كل جانب، لما روى أبو هريرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجار لأربعون داراً، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا» .
وإن أوصى للعلماء، فهو للعلماء بالشرع دون غيرهم، لأنه لا يطلق هذا الاسم على غيرهم، ولا يستحق من يسمع الحديث ولا معرفة له به، لأن مجرد سماعه ليس بعلم.
فصل:
وإن أوصى للأيتام، فهو لمن لا أب له غير بالغ، لأن اليتم فقد الأب من الصغر، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود. ويدخل فيه الغني والفقير، لشمول الاسم لهم. والأرامل: النساء غير ذوات الأزواج. لأن الاسم لا يطلق في العرف على غيرهن، وتستحق منه الغنية والفقيرة لذلك، فإن قيل: فقد قال الشاعر:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذه الأرامل الذكر؟
فسمى الذكر أرملاً. قلنا: هذا البيت حجة لنا، فإنه لم يدخل الذكور في لفظ الأرامل، إذ لو دخلوا لكان الضمير ضمير الذكور، فإنه متى اجتمع ضمير المذكر والمؤنث غلب ضمير التذكير، وإنما سمى نفسه أرملاً، تجوزاً، وكذلك وصفه بكونه ذكراً. والعزاب: من لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل عزب. وامرأة عزبة، والأيامى مثل العزاب سواء. قال الشاعر:(2/275)
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويحتمل أن يختص العزاب بالرجال، والأيامى بالنساء، لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم، ولأنه لو كان الأيم مشتركاً بينهما لاحتيج إلى الفرق بهاء التأنيث، كقائم وقائمة، فلما أطلق على المؤنث بغيرها، دل على اختصاصها به، كطالق وحائض وشبههما.
فصل:
والغلمان والصبيان: الذكور ممن بلغ، لأن الاسم في العرف لهم دون غيرهم. والفتيان والشبان: اسم للبالغين إلى الثلاثين. والكهول: من جاوز ذلك إلى الخمسين. وقيل في قَوْله تَعَالَى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا} [آل عمران: 46] هو ابن ثلاثين. والشيوخ: من جاوز الخمسين إلى آخر العمر. والعانس من الرجال والنساء: من كبر ولم يتزوج، قال قيس بن رفاعة الواقفي:
فينا الذي ما عدا أن طر شاربه ... والعانسون وفينا المرد والشيب
فصل:
ومن وصى لصنف من أصناف الزكاة، صرف إلى من يستحق الزكاة من ذلك الصنف، ويعطى من الوصية والوقف حسب ما يعطى من الزكاة، إلا الفقراء والمساكين، فإنه إذا وصى لأحد الصنفين، دخل الآخر في الوصية، لأنهما صنفان في الزكاة، وصنف في سائر الأحكام، لشمول الاسم للقسمين وإن وصى لأقاربه، أو أهل قريته، لم يدخل الكافر في الوصية إذا كان الموصي مسلماً، لأنهم لم يدخلوا في وصية الله تعالى للأولاد بالميراث. وإن كان الموصي كافراً. لم يدخل المسلم في وصيته في أحد الوجهين لذلك، ويدخل في الآخر لعموم اللفظ فيه، وكونه أحق بالوصية له من الكافر.(2/276)
فصل:
فإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكراً وأنثى، فهما سواء، لأنه عطية فاستوى فيها الذكر والأنثى، كالهبة. وإن قال: إن ولدت ذكراً، فله ألف. وإن ولدت أنثى، فلها مائة، فولدت ذكراً وأنثى، فلكل واحد منهما ما عين له. وإن ولدت خنثى، فله مائة لأنه اليقين، ويوقف الباقي حتى يتبين. وإن ولدت ذكرين وأنثيين، شرك بين الذكرين في الألف، وبين الأنثيين في المائة، لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر. ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكر، فله ألف، وإن كان أنثى، فله مائة، فولدت ذكراً وأنثى، فلا شيء لواحد منهما. لأنه شرط أن يكون جميع ما في البطن على هذه الصفة ولم توجد.
فصل:
ومتى كانت الوصية لجمع يمكن استيعابهم، لزم استيعابهم والتسوية بينهم، لأن اللفظ يقتضي التسوية، فأشبه ما لو أقر لهم، وإن لم يمكن استيعابهم، صحت الوصية لهم، وجاز الاقتصار على واحد، لأنه لما أوصى لهم عالماً بتعذر استيعابهم، علم أنه لم يرد ذلك، إنما أراد أن لا يتجاوزهم بالوصية، ويحصل ذلك بالدفع إلى واحد منهم، ويحتمل أن لا يجزئ الدفع إلى أقل من ثلاثة، بناء على قولنا في الزكاة: ويجوز تفضيل بعضهم على بعض، لأن من جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه، سواء كانت الوصية لقبيلة، أو أهل بلدة، أو الموصوفين بصفة، كالمساكين.
فصل:
وإن وصى لزيد والمساكين، فلزيد النصف، وللمساكين النصف، لأنه جعلها لجهتين، فوجب قسمها نصفين، كما لو وصى لزيد وعمرو، وإن وصى لزيد والفقراء والمساكين، فلزيد الثلث لذلك. وإن وصى لزيد بدينار، وللفقراء بثلاثة وزيد فقير، لم يعط غير الدينار، لأنه قطع الاجتهاد في الدفع إليه بتقدير حقه بدينار.
فصل:
وإن قال له: ضع ثلثي حيث يريك الله، لم يملك أخذه لنفسه، لأنه تمليك ملكه بالإذن، فلم يملك صرفه إلى نفسه، كالبيع، ولا إلى ولده، ولا إلى والده، لأنه بمنزلته، ولهذا منع من قبول شهادته له، ويحتمل جواز ذلك لعموم لفظ الموصي فيهم، وله وضعها حيث أراه الله، والمستحب صرفها إلى فقراء أقارب الميت ممن لا يرثه، لأنهم أولى الناس بوصية الميت وصدقته، ونقل المروذي عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن وصى بثلثه في أبواب البر: يجزئ ثلاثة أجزاء في الجهاد، وجزء يتصدق به في قرابته، وجزء في الحج. ويحتمل أن يصرف في أبواب البر كلها، وهي كل ما فيه قربة، لأن(2/277)
لفظه عام ولا نعلم قرينة مخصصة، فوجب إبقاؤه على العموم.
فصل:
إذا وصى بشيء لله ولزيد، فجميعه لزيد، لأن ذكر الله تعالى للتبرك باسمه،، كقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وإن وصى بشيء لزيد ولمن لا يملك، كجبريل والرياح والميت، فالموصى به كله لزيد، ويحتمل أن له نصف الموصى به، لأنه شريك بينه وبين غيره، فلم يكن له أكثر من النصف، كما لو كان شريكه ممن يملك. وإن أوصى لزيد وعمرو، فبان أحدهما ميتاً، فليس لأحدهما إلا نصف الوصية، لأنه قاصد للتشريك بينهما، لاعتقاده حياتهما.
[باب الوصية بالأنصباء]
إذا وصى لرجل بسهم من ماله، فحكى الخرقي فيها روايتين:
إحداهما: للموصى له السدس، لأنه يروى عن ابن مسعود، «أن رجلاً وصى لرجل بسهم من ماله، فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سدس المال» . وقال إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس، فإن كان الورثة عصبة، أعطي سدس جميع المال، والباقي للعصبة، وإن كانوا ذوي فرض، أعيلت المسألة بالسدس، فيصير له السبع، وإن أعيلت الفريضة، أعيل سهمه أيضاً، لأنه ليس بأحسن حالاً من الوارث.
والثانية: يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة مزاداً عليه، لأن وصيته من الفريضة، فيكون سهماً على سهمانها. قال القاضي: ويشترط أن لا يزيد على الثلث، فإن زاد عليه، رد إلى السدس. واختار الخلال وصاحبه: أن يعطى أقل سهم من سهام الورثة، فيكون ذلك بمنزلة الوصية بنصيب وارث.
فصل:
وإن وصى له بنصيب، أو حظ، أو جزء من ماله، أعطاه الورثة ما شاؤوا، لأن كل شيء يقع عليه اسم ذلك.
فصل:
وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته، أعطي مثل ما لأقلهم نصيباً، لأنه اليقين، يزاد ذلك على مسألة الورثة. فإن كان له ابن، فله النصف، لأنه سوى بينهما، ولا(2/278)
تحصل التسوية إلا بذلك، وإن كان له ابنان، فللموصى له الثلث. وإن أوصى بنصيب أحدهما، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح ويكون ذلك كناية عن مثل نصيبه بتقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
والثاني: لا يصح، لأن نصيب الابن له، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بماله من غير الميراث. وإن وصى بمثل نصيب ابنه الكافر، أو الرقيق، فالوصية باطلة، لأنه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له.
فصل:
وإن وصى له بضعف نصيب ابنه، فله مثل نصيبه مرتين، لأن ضعف الشيء مثلاه. وإن وصى له بضعفي نصيب ابنه، فقال أصحابنا: له ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه، وأربعة أمثاله، لأن ضعف الشيء: هو ومثله، وضعفاه: هو مثلاه. وقال ذلك أبو عبيدة.
واختياري: أن ضعفي الشيء مثلاه، بمنزلة ضعفه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] أي مثلين، قاله أهل التفسير. وكذلك: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] وقال هشام بن معاوية النحوي: العربي يتكلم بالضعف مثنى، فيقول: إن أعطيتني درهماً، فلك ضعفاه، أي: مثلاه، قال: وإفراده لا بأس به، والتثنية أحسن، فعلى هذا ثلاثة أضعافه: ثلاثة أمثاله.
فصل:
وإن وصى لرجل بجزء مقدر من ماله، كثلث أو ربع، أخذته من مخرجه، فدفعته إليه، وقسمت الباقي على مسألة الورثة، إن انقسم، وإلا ضربت مسألة الورثة، أو وفقها في مخرج الوصية، فما بلغ، فمنه تصح. فإن كان أكثر من الثلث، فأجاز الورثة، فكذلك، وإن ردوا، أعطيت الموصى له الثلث، وجعلت للورثة الثلثين، وإن وصى بجزأين، مثل أن يوصي لرجل بثلث ماله، ولآخر بنصفه، أخذت مخرج الوصيتين، وضربت إحداهما في الأخرى، تصير ستة، فأعطيت صاحب النصف ثلاثة، وصاحب الثلث سهمين إن أجاز الورثة، وإن ردوا، قسم الثلث بينهما على خمسة، وضربت ذلك في ثلاثة، تكن خمسة عشر، للوصيين خمسة، وللورثة عشرة، لأن ما قسم متفاضلاً عند اتساع المال، قسم متفاضلاً عند ضيقه، كالمواريث، وإن أجازوا لأحدهما دون الآخر ضربت مسألة الإجازة في مسألة الرد، أو وفقها إن وافقت، وأعطيت المجاز(2/279)
له سهامه من مسألة الإجازة مضروبة في مسألة الرد، أو وفقها، وأعطيت الآخر سهامه من مسألة الرد مضروبة في مسألة الإجازة أو وفقها. ولو وصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلثه، قسمت المال على أربعة، لصاحب المال ثلاثة، ولصاحب الثلث سهم، لأن السهام في الوصايا كالسهام في الميراث، تعال بالزائد، وإن لم يجيزوا، قسم الثلث على أربعة، فإن أجازوا لصاحب الكل وحده، فلصاحب الثلث ربع الثلث، لأن ذلك كان له في حال الرد عليهما، وفي صاحب المال وجهان:
أحدهما: له الباقي كله، لأنه موصى له به، وإنما امتنع منه في حال الإجازة لهما، لمزاحمة صاحبه له، فإذا زالت المزاحمة في الباقي، كان له.
والثاني: ليس له إلا ثلاثة أرباع المال التي كانت له في حال الإجازة لهما، والباقي للورثة، لأنه من نصيب صاحب الثلث. وإن أجازوا لصاحب الثلث وحده، ففيه وجهان:
أحدهما: له الثلث كاملاً.
والثاني: له الربع، ولصاحب المال الربع، والباقي للورثة، وإن كثرت السهام، كرجل أوصى لرجل بالمال، ولآخر بنصفه، ولآخر بثلثه، ولآخر بربعه، ولآخر بسدسه، أخذت مخرجاً يجمع الكسور فجعلته المال، وهو هنا اثنا عشر، ثم زدت عليه نصفه وثلثه وربعه وسدسه، فبلغ الجميع سبعة وعشرين، فيقسم المال بينهم إن أجيز لهم، أو الثلث إن رد عليهم.
فصل:
فإن أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمثل نصيب أحد ورثته، وهما اثنان، ففيها وجهان:
أحدهما: أن يعطي الثلث لصاحبه، ويقسم الباقي بين الاثنين، والوصي الآخر على ثلاثة، فتصح المسألة من تسعة، للموصى له بالثلث ثلثه، وللآخر سهمان، ولكل ابن سهمان. وإن ردا قسمت الثلث بين الوصيين على خمسة. والوجه الآخر: أن صاحب النصيب موصى له بثلث المال، لأننا لا نرتب الوصايا بعضها على بعض، فعلى هذا إن أجيز لهما، فللوصين الثلثان، وللابنين الثلث. فإن ردا، فالثلث بينهما على اثنين، والثلثان للابنين. وتصح من ستة. فإن كانت الوصية الأولى بالنصف، ففيه وجه ثالث. وهو: أن تجعل لصاحب النصيب نصيبه من الثلثين وهو ثلثهما، ولصاحب النصف النصف إن أجاز الورثة. وإن ردوا قسمت الثلث بين الوصيين على ثلاثة عشر سهماً، والثلثان للابنين.(2/280)
فصل:
وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته، ولآخر بجزء مما يبقى من المال، كرجل له ثلاثة بنين أوصى بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي، فعلى الوجه الذي نقول لصاحب النصيب في المسألة التي قبلها ثلث المال، له هاهنا ربع المال، ويكون للآخر ربع أيضاً، يبقى سهمان من أربعة لثلاثة بنين، وتصح من اثني عشر سهماً، لكل واحد من الوصيين ثلاثة، ولكل ابن سهمان وإن ردوا عليهما، قسمت الثلث بين الوصيين نصفين، والباقي للبنين، وعلى الوجه الآخر لا يزاد صاحب النصيب على ميراث ابن، لأنه قصد التسوية بينه وبينهم. ولك في عملها طرق:
أحدها: أن تضرب مخرج إحدى الوصيتين في الأخرى، وهو هنا ثلاثة في أربعة، تكن اثني عشر، ثم تنقصه سهماً يبقى أحد عشر، فمنه تصح، ثم تأخذ مخرج الجزء وهو ثلاثة تنقصها سهماً يبقى سهمان وهو النصيب.
الطريق الثاني: أن تجعل المال ثلاثة أسهم ونصيباً، تدفع النصيب إلى صاحبه، وإلى الوصي الآخر ثلث الباقي سهماً، يبقى سهمان بين البنين لكل واحد ثلثا سهم، فتعلم أن النصيب ثلثا سهم. فإذا بسطتها أثلاثاً كانت أحد عشر.
الطريق الثالث: أن تقول: ثلاثة أسهم بقية مال ذهب ثلثه، فرد عليه نصفه وسهماً، صارت خمسة ونصفاً، وإذا بسطتها، كانت أحد عشر.
فصل:
وإن وصى لرجل بمثل نصيب أحد ورثته، ولآخر بثلث ما بقي من الثلث، فاجعل المال تسعة أسهم وثلاثة أنصباء، ادفع نصيباً إلى صاحبه، وإلى الآخر سهمان، وادفع نصيبين إلى ابنين، يبقى ثمانية أسهم للابن الثالث، فتبين أن النصيب ثمانية أسهم، والمال ثلاثة وثلاثون.
فصل:
وإن كان له مائتا درهم وعبد قيمته مائة، فأوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بالعبد، فقد أوصى بثلثي ماله، فإن لم يجز الورثة، رددت وصية كل واحد منهما إلى نصفها، فلصاحب العبد نصفه، وللآخر سدس المائتين وسدس العبد، ويحتمل أن يقتسما الثلث على حسب ما يحصل لهما في الإجازة، فيكون بينهما على عشرين، لصاحب العبد تسعة وهي ربع العبد وخمسه، ولصاحب الثلث أحد عشر وهي سدس المال وسدس عشره، وإن أجازوا لهما، فللموصى له بالثلث ثلث المائتين، لأنه لا مزاحم له فيهما، أو يزدحم هو وصاحب العبد فيه، لأنه قد أوصى لأحدهما بجميعه، وللآخر بثلثه،(2/281)
فيقسم بينهما على أربعة، لصاحبه ثلاثة أرباعه، ولصاحب الثلث ربعه، فإن أجازوا لصاحب الثلث وحده، فله ثلث المائتين. وهل يستحق ثلث العبد أو ربعه؟ على وجهين. ولصاحب العبد نصفه. وإن أجازوا لصاحب العبد وحده، فلصاحب الثلث سدس المائتين وسدس العبد، ولصاحب العبد خمسة أسداس في أحد الوجهين، وفي الآخر ثلاثة أرباعه التي كانت له في حال الإجازة لهما، وباقيه للورثة.
فصل:
وإن أوصى بنصف ماله لوارثه وأجنبي، فأجيز لهما، فهو بينهما، وإن رد عليهما، أو على الوارث وحده، فللأجنبي السدس، والباقي للورثة، وإن وصى لكل واحد بثلث ماله، فأجيز لهما، جاز لهما، وإن رد عليهما، فقال القاضي: إن عينوا وصية الوارث بالإبطال، فالثلث كله للأجنبي، وإن أبطلوا الزائد على الثلث من غير تعيين، فالثلث الباقي بين الوصيين. وقال أبو الخطاب: فيها وجهان:
أحدهما: أن الثلث كله للأجنبي.
والثاني: للأجنبي السدس ويبطل الباقي.
فصل:
وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته إلا جزءاً من المال، مثل أن يوصي لرجل بمثل نصيب أحد بينه - وهم ثلاثة - إلا ربع المال، فاجعل لكل ابن ربع المال، واقسم الباقي بينهم وبين الموصى له على أربعة لا تنقسم، واضرب عددهم في مخرج الربع تكن ستة عشر، له سهم، ولكل ابن خمسة، وإن قال: إلا سدساً، فضلت كل ابن بسدس، وقسمت الباقي بينهم وبين الوصي على ما ذكرناه.
فصل:
وإن وصى له بنصف نصيب أحدهم إلا ربع ما يبقى بعد النصيب، فرضت المال بقدر مخرج الجزء المستثنى - وهو أربعة - وزدت عليه نصيباً، واستثنيت من النصيب سهماً رددته على السهام، صارت خمسة بين البنين، لكل ابن سهم وثلثان، فهو النصيب، فتبين أن المال خمسة وثلثان، إذا بسطتها تكن سبعة عشر، للموصى له سهمان، ولكل ابن خمسة. فإن كان أوصى بمثل نصيب أحدهم إلا ربع الباقي بعد الوصية، فرضت أقل من مخرج الجزء الموصى به، وذلك ثلاثة، وزدت نصيباً، ثم استثنيت من النصيب سهماً، وزدته على الثلاثة، صارت أربعة بين البنين، لكل ابن سهم وثلث، فتبين أن النصيب سهم وثلث، إذا بسطتها، صارت ثلاثة عشر سهماً، ومنهما تصح.(2/282)
[باب جامع الوصايا]
إذا أوصى بعبد من عبيده، ولا عبيد له، أو بعبده الحبشي ولا حبشي له، أو بعبده سالم وليس ذلك له، فالوصية باطلة، لأنه وصى له بما لا يملك، أشبه إذا وصى له بداره ولا دار له، وعن أحمد في رجل قال: أعطوا فلاناً من كيسي مائة، ولم يكن في الكيس مائة: يعطى مائة درهم، فلم تبطل الوصية، فيخرج هاهنا مثله، لأنه لما تعذرت الصفقة، بقي أصل الوصية، فيشترى له عبد. فإن كان له عبيد أعطي واحداً بالقرعة في إحدى الروايتين، لأنهم تساووا بالنسبة إلى استحقاقه، فيصار إلى القرعة، كما لو أعتق واحداً منهم.
والثانية: يعطيه الورثة ما شاؤوا من سليم ومعيب، وصغير وكبير، لأنه يتناوله الاسم، فيرجع إلى رأي الورثة، كما لو وصى له بحظ أو نصيب، ولا عرف في هبة الرقيق، فرجع إلى ما يتناوله الاسم، فإن مات رقيقه قبل موته أو بعده، بطلت الوصية، لفوات ما تعلقت به الوصية به من غير تفريط. وإن بقي منهم واحد، تعينت الوصية فيه، لوجوده منفرداً. وإن قتلوا قبل موت الموصي، بطلت الوصية، لأنه جاء وقت الوجوب، ولا رقيق له. وإن قتلوا بعد موته، وجبت له قيمة أحدهم، لأنه بدل ما وجب له، وإن لم يكن له عبيد حين الوصية، فاستحدث عبيداً، احتمل صحة الوصية اعتباراً بحالة الموت، واحتمل أن لا تصح، لأن ذلك يقتضي من عبيده الموجودين حال الوصية.
فصل:
وإن وصى بعتق عبد، وله عبيد، احتمل أن يجزئ عتق ما وقع عليه الاسم، لعموم اللفظ، واحتمل أن لا يجزئ إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة، لأن للعتق عرفاً شرعياً، فحملت الوصية عليه، وهل يعتق أحدهم بالقرعة، أو يرجع إلى اختيار الورثة؟ على وجهين. وإن عجز الثلث عن عتق رقبة كاملة، عتق منها قدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة عتق جميعه. وإن وصى بعتق عبيد، فلم يخرج من الثلث إلا واحد، عتق واحد منهم بالقرعة. وإن وصى أن يشترى بثلثه رقاب يعتقون، فأمكن شراء ثلاث رقاب بثمن رقبتين غاليتين، فعتق الثلاثة أولى، لأنه تخليص لثلاثة، وإن اتسع لرقبتين وبعض أخرى، زيد في ثمن الرقبتين، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الرقاب. قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها» وإن قال: أعتقوا أحد رقيقي، جاز إعتاق الذكر والأنثى والخنثى، لأنه أحد رقيقه، وإن قال: أعتقوا عبداً من عبيدي، لم يجزئهم عتق الأنثى ولا الخنثى المشكل، لأنه لا يعلم كونه ذكراً، ويجزئ عتق الخنثى المحكوم بذكوريته، لأنه عبد، وإن قال: أعتقوا أمة، لم يجزئهم إلا أنثى.(2/283)
فصل:
وإن قال أعطوه شاة من غنمي، فهو كالوصية بعبد من عبيده، ويتناول الضأن والمعز. وهل يتناول الذكر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتناوله، لأن الاسم يقع عليه لغة.
والثاني: لا يتناوله، لأنه لا يتناوله الاسم عرفاً. قال أصحابنا: ويتناول الصغيرة، ويحتمل أن لا يتناولها، لأنها لا تسمى شاة عرفاً، فإن لم يكن له إلا ذكران، أو صغار، لم يعط إلا من جنس ماله، لأنه أضافه إليه فاختص به. وإن قال: أعطوه جملاً، لم يعط إلا ذكراً، والبعير كالجمل، لأنه في العرف مختص به. وقال أصحابنا: البعير كالإنسان، يتناول الذكر والأنثى، وإن قال: أعطوه ناقة، لم يعط إلا أنثى، وإن قال: أعطوه ثوراً، فهو الذكر، والبقرة هي الأنثى. وإن وصى له برأس من الإبل، أو البقر، أو الغنم، جاز فيه الذكر والأنثى، لأن ذلك اسم للجنس.
فصل:
وإن وصى له بدابة، أعطي من الخيل، أو البغال، أو الحمير، لأن اسم الدابة يطلق على الجميع، ويتناول الذكر والأنثى. وإن قال: من دوابي، تعينت الوصية فيما عنده، وإن قرن به ما يصرفه إلى أحدها، تعينت الوصية فيه، فإذا قال: أعطوه دابة يقاتل عليها، فهي فرس، وإن قال: ينتفع بنسلها، خرج منها البغال: وإن قال: أعطوه فرساً، تناول الذكر والأنثى، وإن قال: حصاناً، فهو الذكر، وإن قال: حجرة، فهي الأنثى، وإن قال: حماراً، فهو ذكر، وإن قال: أتاناً، فهي أنثى.
فصل:
وإن وصى بكلب يباح اقتناؤه، صحت الوصية، لأن فيه نفعاً مباحاً، وتقر اليد عليه، والوصية تبرع، فجازت فيه. وإن كان له كلب، أو لم يكن له إلا كلب هراش، لم تصح الوصية، لأنه لا يمكن شراؤه، وكلب الهراش، لا يباح اقتناؤه، وإن كان له كلاب ينتفع بها، فللموصى له واحد منها، إلا أن تذكر القرينة على واحد منها بعينه، من صيد، أو حفظ غنم، فيدفع إليه ما دلت القرينة عليه، وإن وصى له بثلاثة أكلب لا مال له سواها، ردت الوصية إلى ثلثها، ويعطى واحداً منها بالقرعة في أحد الوجهين، وفي الآخر يعطيه الورثة أيها شاؤوا، وإن لم يكن له إلا كلب واحد، أعطي ثلثه، وإن كان للموصي مال، ففيه وجهان:
أحدهما: يدفع جميع الكلاب إلى الموصى له، وإن قل المال، لأن أقل المال خير من الكلاب الكثيرة، فأمضيت الوصية، كما لو وصى له بشاة، تخرج من ثلثه.(2/284)
والثاني: يدفع إليه ثلث الكلاب، لأنه لا يجوز أن يكون للوصي شيء إلا وللورثة مثلاه، ولا يمكن اعتبار الكلب من ثلث المال، لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.
فصل:
وإن وصى له بطبل من طبوله، وله طبول حرب، أعطي واحداً منها، فإن لم يكن له إلا طبول لهو، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمحرم، وإن كان له طبل لهو وطبل حرب، أعطي طبل الحرب، لأن طبل اللهو لا تصح الوصية به، فهو كالمعدوم. وإن وصى له بعود من عيدانه، وله عيدان للقسي والبناء، أعطي واحداً منها، وإن لم يكن له إلا عيدان لهو، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمحرم، وإن كان له عيدان للهو ولغيره، ففيه وجهان:
أحدهما: الوصية باطلة، لأن العود بإطلاقه ينصرف إلى عود اللهو، ولا تصح الوصية به. والآخر: تصح الوصية ويعطى عوداً مباحاً، لأن الوصية تعينت فيه لتحريم ما سواه، فأشبه ما لو وصى له بطبل، وله طبل لهو، وطبل حرب.
فصل:
وإن وصى له بقوس وأطلق، انصرف إلى قوس الرمي بالسهام، لأنه الذي يفهم من إطلاق القوس، فإن قال: قوس يرمي عليه، أو يغزو به، كان تأكيداً لذلك، وإن قال: يندف به، أو يتعيش به، انصرف إلى قوس الندف. وإن قال: قوساً من قسيي، وليس له إلا قسي ندف أو بندق، أعطي واحداً منها، لأن الوصية تعينت فيه بإضافتها إلى قسيه، واختصاص قسيه بها. قال القاضي: ويعطى القوس بوتره، لأنه لا ينتفع به إلا به، فجرى مجرى جزئه، ويحتمل أن يعطاه بدون الوتر، لأن الاسم يقع عليه بدونه.
فصل:
وإن أوصى له بعبد، ولآخر بباقي الثلث، دفع العبد إلى صاحبه، وتمام الثلث للآخر، فإن لم يبق من الثلث شيء، بطلت الوصية بالباقي، لأنه لا باقي ها هنا، فإن رد صاحب العبد وصيته، فوصية الآخر بحالها، فإن مات العبد بعد موت الموصي فكذلك، ويقوم العبد حال الموت. وإن مات قبل موت الموصي، قومت التركة بدون العبد، لأنه معدوم.
فصل:
فإن وصى لرجل بمائة، ولآخر بتمام الثلث، ولثالث بالثلث، فأجيز لهم، قسم الثلثان بين الأوصياء على ما ذكر الموصي، فإن كان الثلث مائة، سقطت وصية صاحب الباقي، وقسم الثلثان بين الآخرين نصفين، وإن كان الثلث دون المائة، فرد الورثة، قسم(2/285)
الثلث بينهما بالحصة. فإذا كان الثلث خمسين قسم أثلاثاً، لصاحب المائة ثلثاها، وللآخر ثلثها، وإن كان الثلث أكثر من المائة، فلم يجز الورثة، دفع إلى صاحب الثلث نصفه، وفي باقيه وجهان:
أحدهما: يقدم صاحب المائة بها، فإن فضل عنها شيء دفع إلى صاحب الباقي، وإلا فلا شيء له، لأنه حق في الباقي بعد المائة، فلا يأخذ شيئاً قبل استيفائها، كالعصبة، لا تأخذ شيئاً قبل تمام الفرض، ويزاحم صاحب المائة لصاحب الباقي، وإن لم يعطه شيئاً، كما يعال ولد الأبوين لجد بولد الأب، ولا يعطيه شيئاً.
والثاني: أن السدس يقسم بين صاحب المائة وصاحب الباقي على قدر وصيتهما، فإذا كان الثلث مائتين، أخذا مائة، فاقتسماها نصفين، لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث، لا من بعضه، فلم يجز أن يأخذ من نصف الثلث ما يأخذه من جميعه، كالوراث إذا زاحمهم أصحاب الوصايا. وإن بدأ فوصى لرجل بثلث ماله، ثم وصى لآخر بمائة، ولآخر بتمام الثلث، ففيه وجهان:
أحدهما: هي كالتي قبلها سواء، لأنه إذا أوصى بتمام الثلث بعد وصيته بالثلث، علم أنه لم يرد ذلك الثلث الموصى به، وإنما أراد ثلثاً ثانياً، فصارت كالتي قبلها.
والثاني: أن الوصية بتمام الثلث باطلة، لأن الثلث قد استوعبته الوصية الأولى، ولا باقي له، فيكون وجود هذه الوصية كعدمها.
فصل:
إذا وصى لرجل بمنفعة جارية، ولآخر برقبتها، صح، ولصاحب المنفعة منافعها وأكسابها، وله إجارتها، لأنه عقد على منفعتها، ولا يملك واحد منهما وطأها، لأن الوطء إنما يكون في ملك تام، وليس لواحد منهما ملك تام، ولا يملك أحدهما تزويجها لذلك، فإن اتفقا عليه جاز، لأن الحق لا يخرج عنهما، والولي مالك الرقبة، لأنه مالكها، والمهر له، لأنه بدل منفعة البضع التي لا يصح بذلها، ولا وصية بها، وإنما هي تابعة للرقبة، فتكون لصاحبها. وقال أصحابنا: هو لمالك منفعتها لأنه بدل منفعة من منافعها، فإن أتت بولد، فحكمه حكمها، لأنه جزء من أجزائها، فيثبت فيه حكمها كولد المكاتبة، وأم الولد. وإن زنت، فالحكم في الولد والمهر على ما ذكرنا. وإن وطئت بشبهة، فالمهر على ما ذكرنا، والولد حر تجب قيمته يوم وضعه لمالك الرقبة في أحد الوجهين، وفي الآخر: يشتري بها عبد يقوم مقامه. وإن قتلت وجبت قيمتها، يشترى بها ما يقوم مقامها، وإن قتل ولدها الرقيق، فكذلك، لأن الواجب قائم مقام الأصل، فكان حكمه حكم الأصل. وإن احتاجت إلى نفقة، احتمل أن تجب على(2/286)
مالك المنفعة، لأنه يملك نفعها على التأبيد، فكانت النفقة عليه، كالزوج. واحتمل أن تجب على صاحب الرقبة، لأنه مالك رقبتها، فوجب عليه نفقتها، كما لو كانت زمنة. واحتمل أن تجب في كسبها، لأنه تعذر إيجابها على كل واحد منهما، فلم يبق إلا إيجابها في كسبها، فإن لم يف كسبها، ففي بيت المال، فإن أعتقها صاحب الرقبة، عتقت لأنه مالك لرقبتها، وتبقى منافعها مستحقة لصاحب المنفعة يستوفيها في حال حريتها. وإن باعها، احتمل أن يصح، لأن البيع يقع على رقبتها وهو مالك لها، واحتمل أن لا يصح لأن ما لا نفع له لا يصح بيعه، كالحشرات. واحتمل أن يصح بيعها لمالك منفعتها دون غيره، لأنه يجتمع لها رقبتها ونفعها بخلاف غيره. فإن وطئها أحد الوصيين، فمن حكمنا له بالمهر، لا مهر عليه، ومن لم نحكم له بالمهر، فهو عليه لصاحبه، ولا حد عليه، لأن له شبهة الملك فيها.
فصل:
ومن أوصي له بشيء، فتلف بعضه أو هلك، فله ما بقي إن حمله الثلث. وإن وصى له بثلث ثلاثة دور، فهلك اثنتان، فليس له إلا ثلث الباقية، لأنه لم يوص له منها إلا بثلثها. وإن أوصى له بثلث عبد، فاستحق ثلثاه، فجميع الثلث الباقي للموصى له إذا حمله ثلث المال، لأنه قد أوصى له بجميعه.
فصل:
إذا أوصى بعتق مكاتبه، أو الإبراء مما عليه، اعتبر من الثلث أقل الأمرين، من قيمته مكاتباً، أو مال كتابته، لأن العتق إبراء، والإبراء عتق، فاعتبر أقلهما، وألغي الآخر، فإن احتمله الثلث، عتق وبرئ، وإن احتمل الثلث بعضه كنصفه، عتق نصفه، وبقي نصفه على الكتابة. وإن لم يكن للموصي سوى المكاتب، عتق ثلثه في الحال، وبقي ثلثاه على الكتابة، إن عجز رق، وإن أدى عتق، وإن قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه، وضع عنه النصف، وأدنى زيادة، لأنه الأكثر. وإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه، وضع عنه أكثر من نصفها لذلك. وإن قال: ضعوا عنه أكبر نجومه، وضع عنه أكثرها مالاً، وإن قال: ضعوا عنه أوسط نجومه وهي ثلاثة، وضع الثاني. وإن كانت خمسة، وضع الثالث. وإن كانت أربعة، وضع الثاني والثالث. وعلى هذا القياس. فإن كانت أوسط في القدر، وأوسط في المدة وأوسط في العدد، فللوارث وضع أي الثلاثة شاء، لأن الأوسط يقع على الثلاثة. وإن قال: ضعوا عنه ما قل أو كثر، فللوارث وضع ما شاء، لأن الاسم يتناوله.(2/287)
فصل:
وإن وصى لرجل بمال الكتابة، ولآخر برقبته، صح، فإن أدى، عتق وبطلت الوصية بالرقبة، وإن عجز رق وكان لمالك الرقبة. وإن كانت الكتابة فاسدة فأوصى بما في ذمة المكاتب، لم يصح، لأنه لا شيء في ذمته. وإن وصى بما يقتضي منه صحت الوصية، لأنه أضافه إلى حال يملكه، فصح، كما لو وصى برقبة المكاتب إذا عجز، وإن وصى له برقبته، صحت الوصية، لأنه وصى بمملوكه.
فصل:
وإذا قال: حجوا عني بخمسمائة، وهي تخرج من الثلث، وجب صرفها كلها في الحج، وليس للولي أن يصرف إلى من يحج أكثر من نفقة المثل، لأنه أطلق له التصرف في المعاوضة، فاقتضى عوض المثل، كالوكيل في البيع، ويحج عنه من بلده، لأن حج المستنيب من بلده، فكذلك النائب. فإن فضل ما لا يكفي للحج من بلده، أو كان الموصى به لا يكفي للحج من بلده فقال أحمد: يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب، من غير مدينته.
وعنه: أنه يعان به في الحج. فإن لم يمكن ذلك، سقطت الوصية لتعذرها، فإن قال الموصي: أحجوا عني حجة بخمسمائة، صرف جميع ذلك إلى من يحج حجة واحدة، لأن الموصي قصد إرفاق الحاج بذلك، فإن عين الحاج تعين. فإن أبى المعين الحج، صرف إلى من يحج عنه نفقة المثل، والباقي للورثة. فإن قال المعين: أعطونى الزائد، لم يقبل منه، لأنه إنما أوصى له بالزيادة بشرط أن يحج، فإذا لم يحج لم يستحق شيئاً. وإن لم يعين أحداً فللوصي صرفها إلى من شاء، لأنه فوض إليه الاجتهاد فيه. وإن قال الموصي: أحجوا عني حجة، ولم يذكر المقدار، لم يدفع إلى من يحج عنه إلا قدر نفقة المثل، إلا أن لا يوجد من يحج بذلك، فيعطى أقل ما يوجد من يحج به، وكذلك إن قال: أحجوا عني، ولم يذكر قدر ما يحج به ولا قدر الحج، لم يحج أكثر من حجة واحدة بقدر نفقة المثل، لأنه اليقين.
فصل:
وإذا أوصى ببيع عبده، فالوصية باطلة، لأنه لا نفع فيها، وإن قال: بيعوه لفلان، صحت الوصية، لأنه قد يقصد نفع العبد بإيصاله إلى فلان، أو نفع فلان بإيصال العبد إليه، فإن أبى الآخر شراءه، بطلت الوصية. وإن قال: اشتروا عبد زيد بخمسمائة فأعتقوه، فأبى زيد بيعه بخمسمائة، أو بيعه بالكلية، بطلت الوصية. وإن اشتروه بأقل، فالباقي للورثة، لأن المقصود قد حصل، ويحتمل أن تكون الخمسمائة لزيد، لأنه(2/288)
يحتمل أنه قصد محاباته، فأشبه ما لو قال: يحج عني فلان بخمسمائة. وإذا أوصى بفرسه في سبيل الله، وألف درهم ينفق عليه، فمات الفرس، فالألف للورثة، لأن الوصية بطلت فيها، لعدم مصرفها. وإن أنفق بعضها، رد الباقي إلى الورثة.
[باب الرجوع في الوصية]
يجوز الرجوع في الوصية، لأنها عطية لم تزل الملك، فجاز الرجوع فيها، كهبة ما يعتبر قبضه قبل قبضه. ويجوز الرجوع فيها بالقول والتصرف، لأنه فسخ عقد قبل تمامه، فجاز بالقول والتصرف، كفسخ البيع في الخيار. فإن قال: رجعت فيها، أو: فسختها، فهو رجوع، لأنه صريح فيه، وإن قال: هو حرام عليه، كان رجوعاً، لأنه لا يكون حراماً وهو وصية. وإن قال: لوارثي، فهو رجوع، لأن ذلك ينافي كونه وصية.
فصل:
وإن قال: هو تركتي، لم يكن رجوعاً، لأن الموصى به من تركته، وإن أوصى به لآخر، لم يكن رجوعاً، لاحتمال أن يكون ناسياً، أو قاصداً للتشريك بينهما. وإن قال: ما وصيت به لفلان، فهو لفلان، كان رجوعاً، لأنه صرح برده إلى الآخر.
فصل:
وإن باعه، أو وهبه، أو وصى ببيعه، أو هبته، أو عتقه، أو كاتبه، صار رجوعاً، لأنه صرفه عن الموصى له، وإن دبره كان رجوعاً، لأنه أقوى من الوصية، لكون عتقه ينجز بالموت، وإن عرضه للبيع، أو رهنه، كان رجوعاً، لأنه عرضه لزوال ملكه، وفي الكتابة والتدبير والرهن وجه آخر، أنه ليس برجوع، لأنه لم يخرجه عن ملكه.
فصل:
وإن أوصى بثلث ماله ثم باع ماله، لم يكن رجوعاً، لأن الوصية بثلث ماله عند الموت، لا بثلث الموجود. وإن زوجه أو أجره أو علمه صناعة، لم يكن رجوعاً، لأنه لا ينافي الوصية به، وإن وطئ الجارية، لم يكن رجوعاً، لأنه استيفاء منفعة أشبه الاستخدام. وإن غسل الثوب ولبسه، أو جصص الدار، أو سكنها، لم يكن رجوعاً، لأنه لا يزيل الاسم، ولا يدل على الرجوع. وإن جحد الوصية، لم يكن رجوعاً، لأنه عقد فلم يبطل بالجحود كسائر العقود، ويحتمل أن يكون رجوعاً، لأنه يدل على إرادة الرجوع.
فصل:
وإن وصى بطعام معين فخلطه بغيره، كان رجوعاً، لأنه جعله على صفة لا يمكن(2/289)
تسليمه. وقال أبو الخطاب: ليس برجوع. وإن وصى بقفيز من صبرة، ثم خلط الصبرة بأخرى، لم يكن رجوعاً، لأنه كان مشاعاً، ولم يزل، فهو باق على صفته.
فصل:
وإن وصى بحنطة فزرعها وطحنها، أو بدقيق فخبزه، أو بخبز فثرده، أو جعله فتيتاً، أو بشاة فذبحها، أو بثوب فقطعه قميصاً، أو بخشب ثم نجره باباً، أو بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه، كان رجوعاً، لأنه أزال اسمه وهيأه للانتفاع به. وقال أبو الخطاب: ليس برجوع، لأنه لا يمنع التسليم أشبه غسل الثوب. وإن أوصى له بقطن، ثم حشا به فراشاً، أو مسامير، ثم سمر بها باباً، أو بحجر وبناه في حائط، كان رجوعاً، لأنه شغله بملكه على وجه الاستدامة. وإن أوصى له بعنب فجعله زبيباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يكون رجوعاً، لأنه أزال اسمه.
والثاني: ليس برجوع، لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له. وإن وصى بدار ثم هدمها، كان رجوعاً في أحد الوجهين. وفي الآخر: لا يكون رجوعاً، بناء على ما إذا طحن الحنطة، وإن انهدمت بنفسها فكذلك إذا زال رسمها، وإن لم يزل اسمها، فالوصية ثابتة فيما بقي، وفيما انفصل وجهان.
فصل:
وإن وصى بأرض ثم زرعها، لم يكن رجوعاً، لأنه لا يراد للبقاء، وقد يحصد قبل الموت. فإن غرسها أو بناها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكون رجوعاً، لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة.
والثاني: لا يكون رجوعاً، لأنه استيفاء منفعة أشبه الزراعة. وإن أوصى له بسكنى داره سنة، ثم أجرها فمات قبل انقضاء الإجارة، ففيه وجهان:
أحدهما: يسكن سنة بعد انقضاء مدة الإجارة، لأنه موصى له بسنة.
والثاني: تبطل الوصية بقدر ما بقي من مدة الإجارة، وتبقى في الباقي.
[باب الأوصياء]
لا تصح الوصية إلا إلى عاقل، فأما المجنون والطفل، فلا تصح الوصية إليهما، لأنهما ليسا من أهل التصرف في مالهما، فلا يجوز توليتهما على غيرهما، ولا تصح الوصية إلى فاسق، لأنه غير مأمون.(2/290)
وعنه: تصح ويضم إليه أمين ينحفظ به المال. قال القاضي: هذه الرواية محمولة على من طرأ فسقه بعد الوصية، لأنه يثبت في الاستدامة ما لا يثبت في الابتداء. واختار القاضي: أنه إذا طرأ الفسق أزال الولاية. لأن هذه أمانة، والفاسق ليس من أهلها. وقال الخرقي: إذا كان خائناً، ضم إليه أمين، لأنه أمكن الجمع بين حفظ المال بالأمين، وتحصيل نظر الوصي بإبقائه في الوصية، ولا تصح وصية مسلم إلى كافر، لأنه ليس من أهل الولاية على مسلم. وفي وصية الكافر، إلى الكافر وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه يجوز أن يكون ولياً له، فجاز أن يكون وصياً له، كالمسلم.
والثاني: لا يجوز، لأنه أسوأ حالاً من الفاسق، وتصح وصيته إلى المسلم، لأن المسلم مقبول الشهادة عليه وعلى غيره.
فصل:
وتصح وصية الرجل إلى المرأة، لأن عمر أوصى إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة، فأشبهت الرجل، وإلى الأعمى، لأنه من أهل الشهادة والتصرفات، فأشبه البصير، وإلى الضعيف لذلك، إلا أنه يضم إليه أمين يعينه، وتصح وصية الرجل إلى أم ولده. نص عليه. لأنها حرة عند نفوذ الوصية. وقال ابن حامد: تصح الوصية إلى العبد، سواء كان له أو لغيره، لأنه يصح توكيله، فأشبه الحر، والمكاتب والمدبر والمعلق عتقه بصفة، كالقن، لأنهم عبيد. وفي الوصية إلى الصبي العاقل وجهان:
أحدهما: تصح، لأنه يصح توكيله، فأشبه الرجل.
والثاني: لا يصح، لأنه ليس من أهل الشهادة، فلا يكون ولياً، كالفاسق.
فصل:
وتعتبر هذه الشروط حال العقد في أحد الوجهين، لأنها شروط لعقد، فاعتبرت حال وجوده، كسائر العقود.
والثاني: تعتبر حال الموت، لأنه حال ثبوت الوصية ولزومها، فاعتبرت الشروط فيها، كالوصية له، ولأن شروط الشهادة تعتبر عند أدائها، لا عند تحملها، فكذلك ها هنا. ولو كانت الشروط موجودة عند الوصية، ثم عدمت عند الموت، بطلت الوصية إليه، لأنه يخرج بذلك كونه من أهل الولاية.
فصل:
ويجوز أن يوصي إلى نفسين، لما روي أن ابن مسعود كتب في وصيته: إن مرجع وصيتي إلى الله، ثم إلى الزبير وابنه عبد الله، ولأنها استنابة في التصرف، فجازت إلى(2/291)
اثنين، كالوكالة، ويجوز أن يجعل التصرف إليهما جميعاً، وإلى كل واحد منهما منفرداً، لأنه تصرف مستفاد بالإذن، فجاز ذلك فيه، كالتوكيل، فإن جعل إلى كل واحد منهما، فلكل واحد أن ينفرد بالتصرف والحفظ. فإن ضعف أو فسق أو مات، فالآخر على تصرفه، ولا يقام غير الميت مقامه، لأن الموصي رضي بنظر هذا الباقي. وإن جعل التصرف إليهما جميعاً، أو أطلق الوصية إليهما، لم يجز لأحدهما الانفراد بالتصرف، لأنه لم يرض بنظره وحده. وإن فسق أحدهما، أو جن، أو مات، أقام الحاكم مكانه أميناً، لأن الموصي له لم يرض بنظر أحدهما وحده، وليس للحاكم أن يفوض الجميع إلى الباقي؛ لذلك. وإن ماتا معاً، فهل للحاكم تفويض ذلك إلى واحد؟ فيها وجهان:
أحدهما: يجوز، لأن حكم وصيتهما سقط بموتهما، فكان الأمر إلى الحاكم، كمن لم يكن له وصي.
والثاني: لا يجوز، لأن الموصي لم يرض بنظر واحد. وإن اختلف الوصيان في حفظ المال، جعل في مكان واحد تحت نظريهما، لأن الموصي لم يرض بأحدهما، فلم يجز له الانفراد به، كالتصرف. وإن أوصى إلى رجل، وبعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد خرجت الأول، أو ما يدل على ذلك، لما ذكرنا في الوصية له.
فصل:
ويجوز أن يوصي إلى رجل، فإن مات فإلى آخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جيش مؤتة: «أميركم زيد، فإن قتل فأميركم جعفر، فإن قتل، فأميركم عبد الله بن رواحة» رواه أحمد والنسائي.
والوصية في معنى التأمير. ولو قال: أنت وصيي، فإذا كبر ابني، فهو وصيي، صح، لأنه إذن في التصرف، فجاز مؤقتاً، كالتوكيل. ومن أوصي إليه في مدة، لم يكن وصياً في غيرها، لذلك. فإذا أوصى إلى رجل وجعل له أن يوصي إلى من شاء، جاز. وله أن يوصي إلى من شاء من أهل الوصية، لأنه رضي باجتهاده وولاية من ولاه. وإن نهاه عن الإيصاء، لم يكن له أن يوصي، كما لو نهى الوكيل عن التوكيل. وإن أطلق، ففيه روايتان:
إحداهما: له أن يوصي، لأنه قائم مقام الأب فملك ذلك كالأب.
والثانية: ليس له ذلك. اختاره أبو بكر وهو ظاهر كلام الخرقي، لأنه يتصرف بالتولية، فلم يكن له التفويض من غير إذن فيه، كالتوكيل.(2/292)
فصل:
وللوصي التوكيل فيما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، وهل له التوكيل فيما يتولاه بنفسه؟ على روايتين.
فصل:
ولا يتم إلا بالقبول، لأنه وصية فلا يتم إلا بالقبول، كالوصية له. ويجوز قبولها وردها في حياة الموصي، لأنه إذن في التصرف، فجاز قبوله عقيب الإذن، كالوكالة. ويجوز تأخير قبولها إلى ما بعد الموت، لأنه نوع وصية، فصح قبولها بعد الموت، كالوصية له.
[فصل في عزل الوصي]
فصل:
وللموصي عزل الوصي متى شاء، وللوصي عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي، وبعد موته، لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما فسخه كالوكالة. وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى: ليس للوصي عزل نفسه بعد موت الموصي، لأنه غره بقبول وصيته، فعزل نفسه إضرار به، والضرر مدفوع شرعاً.
فصل:
وإذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في النفقة، فالقول قول الوصي، لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة عليها، فإذا قال: أنفقت عليك كل سنة مائة، فقال الصبي: بل خمسين، فالقول قول المنفق، إذا كان ما ادعاه قدر النفقة بالمعروف، وإن كان أكثر، ضمن الزيادة لتفريطه بها. وإن قال: أنفقت عليك منذ سنتين، فقال الصبي: ما مات أبي إلا من سنة، فالقول قول الصبي، لأنه لم يثبت كون الوصي أميناً في السنة المختلف فيها، والأصل عدم ذلك. وإن اختلفا في دفع المال إليه بعد بلوغه، فالقول قول الوصي، لأنه أمين في ذلك، فقبل قوله فيه، كالنفقة، وكالمودع.
فصل:
إذا ملك المريض من يعتق عليه. فحكى الحبرمي عن أحمد أنه يعتق ويرث، لأنه إن ملكهم بغير عوض، فلم يضع في عتقهم شيء من ماله، فلم يحتسب وصية لهم، كما لو ورثهم، وإن ملكهم بعوض فلم يصل إليهم، وإنما أتلفه المريض على ورثته، فهو كما لو بنى به مسجداً. وقال القاضي فيما ملكه بعوض: إن خرج من الثلث عتق وورث، وإلا عتق منه بقدر الثلث، وما ملكه بغير عوض عتق بكل حال.(2/293)
[كتاب الفرائض]
وهو علم المواريث. وقد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتعلمها، وحث عليها على الخصوص. فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجة. فإذا مات المرء، بدئ بكفنه. وتجهيزه مقدم على سواه كما يقدم المفلس بنفقته على غرمائه. ثم يقضى دينه، لقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] . قال علي: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن الدين قبل الوصية» . رواه الترمذي وابن ماجة. ولأن الدين تستغرقه حاجته، فقدم، كمؤنة تجهيزه. ثم تنفذ وصيته، للآية، ولأن الثلث بقي على حكم ملكه ليصرف في حاجته، فقدم على الميراث كالدين، ثم ما بقي قسم على الورثة للآيات الثلاث في سورة النساء.
[فصل في أسباب التوارث]
فصل:
وأسباب التوارث ثلاثة: رحم، ونكاح، وولاء، لأن الشرع ورد بالتوارث بها، فأما المؤاخاة في الدين، والمولاة في النصرة، وإسلام الرجل على يد الآخر، فلا يورث بها، لأن هذا كان في بدء الإسلام ثم نسخ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] .(2/294)
فصل:
والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة: الابن، وابنه وإن نزل، والأب، وأبوه وإن علا، والأخ من كل جهة، وابن الأخ إلا من الأم، والعم، وابنه كذلك، والزوج، ومولى النعمة. ومن النساء سبع: الأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت والزوجة، ومولاة النعمة. والمختلف في توريثهم أحد عشر صنفاً: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنو الإخوة من الأم، والعمات، والعم من الأم، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد، فهؤلاء ومن أدلى بهم يسمون ذوي الأرحام، ويرثون عند عدم المجمع على توريثهم، على ما سنذكره إن شاء الله في بابه.
فصل:
وينقسم الوراث إلى ذوي فرض، وعصبة، وذوي رحم، فالرجال من المجمع عليهم، كلهم عصبة إلا الزوج، والأخ من الأم، والأب، والجد مع الابن، والنساء المنفردات عن إخوتهن، ذوات فرض، إلا مولاة النعمة، والأخوات من البنات، والفرض جزء مقدر، والعصبة يرث المال كله إذا انفرد، فإن كان معه ذو فرض، بدئ به، والباقي للعصبة لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» متفق عليه.
وإن استغرقت الفروض المال، سقط. فلو خلفت المرأة زوجاً، وأماً، وإخوة لأم، وإخوة لأبوين أو لأب، كان للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة للأم الثلث، وسقط الباقون، لأن الله فرض هذه الفروض لأهلها، فوجب دفعها إليهم، وجعل للعصبة الباقي، ولم يبق شيء. وهذه المسألة تسمى: المشركة إذا كان الإخوة لأبوين، لأن عمر شرك بين ولد الأم وولد الأبوين في الثلث، وتسمى: الحمارية، لأن بعض الصحابة قال: هب أباهم كان حماراً فما زادهم ذلك إلا قرباً. ويقال: إن بعض ولد الأبوين قال ذلك لعمر وقد أسقطهم، فشرك بينهم. ومذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ما قلناه.
[باب أصحاب الفروض]
باب ذوي الفروض وهم عشرة: الزوجان، والأبوان، والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت من كل جهة، والأخ من الأم. فأما الزوج، فله النصف إذا لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن، والربع إذا كان معه أحدهما، وللزوجة والزوجات الربع مع عدم الولد وولد الابن، والثمن مع أحدهما، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ(2/295)
الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] وولد الابن، ولد، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] والأربع من النساء كالواحدة، لعموم اللفظ فيهن.
فصل:
فأما الأم، فلها ثلاثة فروض: الثلث إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن، أو اثنان من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقسنا الأخوين على الإخوة، لأن كل فرض تعين بعدد. كان الاثنان فيه بمنزلة الجماعة، كفرض البنات والأخوات.
الفرض الثالث: لها ثلث الباقي بعد فرض الزوجين، في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، لأن عمر قضى بهذه القضية، فاتبعه عثمان وابن مسعود، وزيد، وتسمى هاتان المسألتان: العمريتان، لقضاء عمر فيهما، ولأن الفريضة جمعت الأبوين مع ذي فرض واحد، فكان للأم ثلث الباقي، كما لو كان معها بنت.
فصل:
وللأم حال رابع، وهو: إذا لاعنها زوجها ونفى ولدها وتم اللعان بينهما، انتفى عنه، وانقطع تعصيبه منه، ولم يرثه هو ولا أحد من عصباته، وترث أمه وذوو الفروض منه فروضهم، والباقي لعصبته، وفيه روايتان:
إحداهما: أن عصبته عصبة أمه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وأولى الرجال به، أقارب أمه. وعن علي أنه لما رجم المرأة، دعا أولياءها فقال: هذا ابنكم ترثونه ولا يرثكم. حكاه أحمد.
والرواية الثانية: أن أمه عصبته، وإن لم تكن فعصبتها عصبته، لما روى واثلة بن الأسقع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنها قامت مقام أبيه في انتسابه إليها، فقامت مقامه في حيازة ميراثه، فعلى هذه الرواية، لو مات ابن ابن الملاعنة،(2/296)
وخلف أمه وجدته الملاعنة، لكان لأمه الثلث والباقي لجدته. ويعايا بها، فيقال: جدة ورثت مع أم أكثر منها. وإن خلف ابن الملاعنة أمه وأخاه وخاله، فلأمه الثلث، ولأخيه السدس، وباقيه له، لأنه عصبة أمه في إحدى الروايتين، والأخرى: الباقي للأم. وإن لم يكن أخ، فالباقي للخال على إحدى الروايتين.
فصل:
وللأب ثلاثة أحوال.
حال: يرث فيها بالفرض المجرد، وهي مع الابن أو ابنه يرث السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] .
وحال: يرث فيها بالتعصيب المجرد، وهي مع عدم الولد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] . أضاف الميراث إليهما، ثم خص الأم منه بالثلث، دل على أن باقيه للأب.
والحال الثالث: يجتمع له الأمران، السدس بالفرض، للآية. والباقي بالتعصيب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وهي مع إناث الولد.
فصل:
وللجد أحوال الأب الثلاثة، وإن اجتمع مع الأم أحد الزوجين، فللأم الثلث كاملاً. وله حال رابع، وهي مع الإخوة من الأبوين، أو من الأب، فإنه لم يسقطهم، لأنهم يدلون بالأب فلم يسقطهم، كأم الأب، ولكنه يقاسمهم، كأخ، ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فإن نقصته منه، بأن زاد الإخوة على اثنين، أو الأخوات على أربعة، فله الثلث، والباقي لهم. فإن كان معهم ذو فرض، أخذ فرضه، وجعل للجد الأحظ من ثلاثة أشياء، المقاسمة، كأخ، أو ثلث الباقي، لأن الفرض كالمستحق، فصار الباقي كجميع المال، أو سدس جميع المال، لأن ولد الصلب لا يمنعونه السدس، فولد الأب أولى، ولا يفرض للأخوات مع الجد، لأننا جعلناه كالأخ فيعصب الأخت، كالأخ. ولا تعول مسائله إلا في مسألة واحدة، تسمى: الأكدرية، لتكديرها أصول زيد، حيث أعال مسائل الجد. وفرض للأخت معه، وهي زوج وأم وأخت وجد، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس. ثم يفرض للأخت النصف، لأنه لم يبق لها شيء، ولا مسقط لها ها هنا، ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت، فيقسم بينهما على ثلاثة، لئلا تفضل الأخت الجد، فتضرب الثلاثة في مسألة وعولها، وهي تسعة،(2/297)
صارت من سبعة وعشرين، للأم ستة، وللزوج تسعة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة. ولو كانت أم وأخت وجد، فللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، وتسمى: الخرقاء، لكثرة اختلاف الصحابة فيها. ولو كان مكان الأخت أخ، كان المال بينهم أثلاثاً.
فصل في المعادة: ولد الأب إذا انفردوا يقومون مقام ولد الأبوين في مقاسمة الجد، فإن اجتمعوا، فإن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، لأن من حجب بولد الأبوين وولد الأب إذا انفردوا، حجب بهما إذا اجتمعا، كالأم، وما حصل لولد الأب، أخذه منهم ولد الأبوين، لأنهم أولى بالإرث منهم، ولا شيء لولد الأب إلا أن يكون ولد الأبوين أختاً واحدة، فيردون عليها قدر فرضها، والباقي لهم. ولا يتفق هذا في مسألة فيها فرض إلا أن يكون الفرض السدس. فإن اجتمع أخوان في الجهتين، وجد، اقتسموا أثلاثاً، ثم أخذ الأخ للأبوين ما حصل لأخيه، فإن كان مكان الأخوين أختان، اقتسموا أرباعاً، ثم أخذت الأخت للأبوين ما حصل لأختها، لتستكمل النصف. فإن كان مع التي من قبل الأب، أخوها، اقتسموا أسداساً، ثم أخذت منهما تمام فرضها، يبقى لهما السدس على ثلاثة، وتصح في ثمانية عشر. فإن كان معهم أم، فلها السدس، وتفعل فيما بقي كما فعلت في أصل المال، فتصح في مائة وثمانية. وإن شئت فرضت للجد ثلث الباقي بعد السدس، ولا ثلث له، فتضرب ثلاثة في ستة، تكن ثمانية عشر، للأم ثلاثة، وللجد خمسة، وللأخت النصف تسعة، يبقى سهم بين الأخ وأخته على ثلاثة تضربها في ثمانية عشر، تكن أربعة وخمسين، وتسمى: مختصرة زيد، لاختصارها من مائة وثمانين إلى أربعة وخمسين. ولو كانت: أم، وجد، وأخت لأبوين، وأخوان، وأخت لأب، لصحت في تسعين وتسمى: تسعينية زيد، لصحتها من تسعين على مذهبه.
فصل:
وللجدة السدس - وإن كثرن، لم يزدن على السدس شيئاً - فرضاً، لما روى قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تطلب ميراثها، فقال: ما لك من كتاب الله شيء، وما أعلم لك من سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أعطاها السدس، فقال: هل معك غيرك؟ فشهد له محمد بن مسلمة، فأمضاه لها أبو بكر، فلما كان عمر جاءت الجدة الأخرى، فقال عمر: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا في غيرك، وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما، فهو لكما، وأيكما خلت به، فهو لها.» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.(2/298)
ولا يرث من الجدات أكثر من ثلاث: أم الأم، وأم الأب، وأم الجد، ومن كان من أمهاتهن وإن علت درجتهن، فلهن السدس إذا تحاذين في الدرجة، لما روى سعيد بإسناده، عن إبراهيم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورث ثلاث جدات، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم.» قال إبراهيم: كانوا يورثون من الجدات ثلاثاً، وهذا يدل على أنه لا يرث أكثر من ثلاث، وأجمع أهل العلم على أن أم أبي الأم لا ترث، وكذلك كل جدة أدلت بأب بين أمين، لأنها تدلي بغير وارث. قال الشعبي: إنما طرحت أم أبي الأم، لأن أبا الأم لا يرث، ولا ترث جدة تدلي بأب أعلى من الجد، لأنها خارجة عن الثلاث اللاتي ورثهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل كلام الخرقي توريثها، لأنها تدلي بوارث. وإن كان بعض الجدات أقرب من بعض، فالميراث لأقربهن، لأن الجدات أمهات يرثن ميراث الأم، وكذلك سقطن بها. فإذا اقترب بعضهن، أسقطت البعدى، كما لو كانت القربى من جهة الأم.
وعنه: أن القربى من جهة الأم تسقط البعدى من جهة الأب، والقربى من جهة الأب لا تسقط البعدى من جهة الأم، لأنها تدلي بمن لا يسقطها، وهو الأب، فأولى أن لا تكون هي مسقطة لها. وترث الجدة وابنها حي، سواء كان أباً أو جداً، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن ابن مسعود: أن أول جدة أطعمت السدس أم أب مع ابنها. ورواه الترمذي، ولفظه قال: «أول جدة أطعمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس الجدة مع ابنها، وابنها حي.»
وعنه: لا ترث، لأنها تدلي به، فلا ترث معه، كالجد. والجدات المتحاذيات: أم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب، السدس بينهن أثلاثاً. فإن أدلت جدة بقرابتين، وأخرى بقرابة واحدة، فلذات القرابتين ثلثا السدس في قياس قول أحمد، وللأخرى ثلثه، لأنها شخص ذو قرابتين تورث كل واحدة منهما منفردة، فإذا اجتمعا، ولم يرجح بهما ورث بهما، كابن العم إذا كان أخاً لأم، أو زوجاً.
فصل:
فأما البنات، فلهن الثلثان وإن كثرن، وللواحدة إذا انفردت النصف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] . وحكم البنتين حكم ما زاد عليهما، لما روى جابر بن عبد الله قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما(2/299)
معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: يقضي الله في ذلك. فنزلت آية الميراث، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعيد الثلثين وأعط أمهما الثمن، فما بقي فهو لك» رواه أبو داود.
فصل:
وبنات الابن كبنات الصلب سواء. إن لم يكن للميت ولد من صلبه، للواحدة النصف، وللثنتين فصاعداً الثلثان، لأنهن بنات، لأن كل موضع سمى الله فيه الولد دخل فيه ولد الابن. وإن كان من ولد الصلب بنت واحدة، فلها النصف، ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر - السدس تكملة الثلثين، لأن الله تعالى لم يفرض للبنات إلا الثلثين، وهؤلاء بنات، وقد سبقت بنت الصلب فأخذت النصف، لأنها أعلى درجة منهن، فكان الباقي لهن السدس، ولهذا يسميه الفقهاء تكملة الثلثين. وقد روى الهزيل قال: «سئل أبو موسى عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. أقضي فيها ما قضى رسول الله: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود. فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم» ، رواه أحمد والبخاري.
فصل:
وللأخت للأبوين النصف، وللبنتين فصاعداً الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] .
وحكم الأخوات من الأب إذا انفردن حكم الأخوات من الأبوين سواء، لدخولهن في لفظ الآية.
وإن اجتمع الأخوات من الجهتين، فحكم ولد الأب مع ولد الأبوين، حكم بنات الابن مع بنات الصلب سواء، لأنهن في معناهن.
وإن اجتمع الأخوات مع البنات، صار الأخوات عصبة، لهن ما فضل، وليس لهن معهن فريضة مسماة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فشرط في فرضها عدم الولد، فاقتضى ألا يفرض لها مع وجوده، ولما ذكرنا من حديث الهزيل.(2/300)
فصل:
فأما ولد الأم، فلواحدهم السدس، ذكراً كان أو أنثى، وللاثنين السدسان. فإن كثروا، فهم شركاء في الثلث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] يعني ولد الأم بإجماع أهل العلم. وفي قراءة عبد الله وسعد: وله أخ أو أخت من أم.
[باب من يسقط من ذوي الفروض]
تسقط بنات الابن، بالابن. ويسقطن باستكمال البنات الثلثين، إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. وابن ابن الابن يعصب من في درجته، ومن أعلى منه من عماته، وبنات عم أبيه إذا لم يكن لهن فرض، ولا يعصب من أنزل منه. وإذا كان أربع بنات ابن، بعضهن أنزل من بعض. سقطت الثالثة والرابعة، لاستكمال من فرقهما الثلثين. فإن كان مع الرابعة أخوها، أو ابن عمها، فللأولى النصف، وللثانية السدس، والباقي للثالثة والرابعة وأختها وأخيها، بينهم على أربعة، وتصح في اثني عشر. وتسقط الجدات من كل جهة بالأم، لأنهن يرثن من جهتها، لكونهن أمهات، فيسقطن بها كما يسقط الجد بالأب.
فصل:
ويسقط ولد الأبوين بثلاثة: بالابن، وابن الابن، والأب، لأن الله تعالى شرط في توريثهم عدم الولد، بقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فلم يجعل لهما مسمى مع الولد، وإنما أخذت الفاضل عن البنات. والابن لا يفضل عنه شيء فسقطن به، وكذلك ابنه، لأنه ابن. ويسقطون بالأب، لأنهم يدلون به، وكل من أدلى بشخص سقط به، إلا ولد الأم، والجدة من جهة الأب. ويسقط ولد الأب بهؤلاء الثلاثة، لذلك، وبالأخ مع الأبوين، لما روي «عن علي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» ، أخرجه الترمذي.
وتسقط الأخوات من الأب، باستكمال الأخوات للأبوين الثلثين، إلا أن يكون معهن أخ لهن، فيعصبهن في الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، كبنات الابن مع البنات.(2/301)
فصل:
ويسقط ولد الأم بأربعة: الولد، ذكراً كان أو أنثى، وولد الابن، والأب، والجد، لأن الله تعالى شرط في توريثهم كون الموروث كلالة، بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] والكلالة: من لا ولد له ولا والد في قول بعض أهل العلم، وفي قول بعضهم: هو اسم لمن عدا الولد والوالد من الوارث، فيدل على أنهم لا يرثون مع ولد ولا والد.
فصل:
ومن لم يرث لمعنى فيه، وهو الرقيق، والقاتل، والمخالف في الدين، لم يحجب غيره، لأنه ليس بوارث، فلم يحجب، كالأجنبي.
[باب أصول سهام الفرائض]
الفروض المذكورة في كتاب الله تعالى: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس، وهي تخرج من سبعة أصول: أربعة لا تعول، وثلاثة تعول، لأن كل فرض انفرد، فأصله من مخرجه. وإن اجتمع معه فرض من جنسه، فأصلهما من مخرج أقلهما، لأنه مخرج الكبير داخل في مخرج الصغير. وإن اجتمع معه فرض من غير جنسه، ضربت مخرج أحدهما في مخرج الآخر إن لم يتوافقا، فما ارتفع فهو أصل لهما، أو وفق أحدهما في جميع الآخر إن توافقا، فلذلك صارت الأصول سبعة، النصف وحده من اثنين. والثلث أو الثلثان من ثلاثة. والربع وحده، أو مع النصف من أربعة. والثمن وحده، أو مع النصف من ثمانية. وهذه الأربعة التي لا تعول، لأن العول فرع ازدحام الفروض، ولا يوجد ذلك هنا. وإن اجتمع مع الفرض من غير جنسه، كالنصف يجتمع مع أحد الثلاثة، السدس أو الثلث والثلثان، فأصلهما من ستة، لأنك إذا ضربت مخرج النصف في مخرج الثلث، صار ستة، ويدخل العول هذا الأصل، لازدحام الفروض فيه. وإن اجتمع مع الربع أحد الثلاثة، فأصلها من اثني عشر، لأنك إذا ضربت مخرج الربع في مخرج الثلث، أو وفق مخرج السدس، كانت اثنتي عشرة. وإن اجتمع مع الثمن سدس أو ثلثان، فأصلها من أربعة وعشرين، لما ذكرنا. وتعول هذه الأصول الثلاثة. ومعنى العول: نقص الفروض لازدحامها وضيق المال عنها، وقسمته بينهم على قدر فروضهم. وطريق العمل فيها، أن تأخذ لكل ذي فرض فرضه من أصل مسألته، ثم تجمع السهام كلها، فتقسم المال عليها، فيدخل النقص على كل ذي فرض بقدر فرضه،(2/302)
كما تصنع مع الوصايا الزائدة على الثلث وفي قسمة مال المفلس على ديونه. وهذا قول عامة الصحابة، إلا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
وأصل الستة يتصور عوله إلى عشرة، ولا تعول إلى أكثر منها، ومثال العول: زوج وأخت لأبوين وأخت لأب، أصلها ستة، للزوج النصف، ثلاثة، وللأخت للأبوين ثلاثة، وللأخت للأب، السدس، سهم. عالت إلى سبعة. فإن كان مكان الأخت للأب، أم، فلها الثلث، وعالت إلى ثمانية وتسمى: مسألة المباهلة، لأنها أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أرى أن يقسم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر، واتبعه الناس علي ذلك، حتى خالفهم ابن عباس. فقال: من شاء باهلته، إن المسائل لا تعول. إن الذي أحصى رمل عالج عدداً، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً، ونصفاً، وثلثاً، هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ زوج وأم وثلاث أخوات متفرقات، عالت إلى تسعة، وتسمى: مسألة الغراء. فإن كانت الأخوات ستاً، عالت إلى عشرة، وسميت: أم الفروخ، لكثرة عولها، لأنها عالت بثلثيها، فشبهوا أصلها بالأم، والعول بالفروخ.
فصل:
وأصل اثني عشر، تعول على الأفراد إلى ثلاثة عشر، وخمسة عشر، وسبعة عشر، لا تعول إلى أكثر من ذلك، فتقول في زوج وأم وابنتين: أصلها اثنا عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، فإن كان معهم الأب، عالت إلى خمسة عشر، ثلاث زوجات، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان لأب، عالت إلى سبعة عشر، ولكل واحدة سهم. وتسمى: أم الأرامل. وأصل أربعة وعشرين، تعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر منها، وتسمى النحيلة، لقلة عولها، وسميت: المنبرية، لأن علياً سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعاً، ومضى في خطبته، يعني: أن كان للزوجة الثمن، ثلاثة من أربعة وعشرين، فصار لها ثلاثة من سبعة وعشرين، وهي تسع.
[باب تصحيح المسائل]
إذا لم تنقسم سهام فريق من الورثة عليهم قسمة صحيحة، ضربت عددهم في أصل المسألة وعولها، إن عالت، فما بلغ، فمنه تصح، إلا أن يوافق عددهم سهامهم، بجزء من الأجزاء، فيجزئك ضرب وفق عددهم في أصل المسألة وعولها، فإذا أردت القسمة، فكل من له شيء من أصل المسألة مضروب في العدد الذي ضربته في المسألة وهو جزء السهم، فما بلغ، فهو له إن كان واحداً، وإن كانوا جماعة، قسمته عليهم،(2/303)
وإن كان الكسر على فريقين، أو أكثر متماثلة، كثلاثة وثلاثة، أجزأك ضرب أحدهما في المسألة، وإن كانت متناسبة. وهو: أن ينتسب القليل إلى الكثير بجزء من أجزائه، كثلاثة أو أربعة، مثل ثلاثة وتسعة، أجزأك ضرب أكثرها في المسألة، وإن كانت متباينة، كثلاثة وأربعة وخمسة، ضربت بعضها في بعض فما بلغ، ضربته في المسألة. وإن كانت متوافقة بجزء من الأجزاء كنصف وثلث، وافقت بين عددين منها، وضربت وفق أحدهما في الآخر وافقت بينه وبين الثلث، وضربت وفق أحدهما في الآخر، فما بلغ، فهو جزء السهم، يضرب في المسألة. وطريق القسمة على ما ذكرنا متقدماً.
[باب الرد في الميراث]
باب الرد وإذا لم تستغرق الفروض المال، وفضلت منه فضلة، ولم يكن عصبة، فالفاضل من ذوي الفروض مردود عليهم على قدر سهامهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك مالاً فلورثته» رواه أحمد، وأبو داود. إلا على الزوج والزوجة، لأنهما ليسا من أولي الأرحام، فلم يدخلوا في قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وهذا يروى عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وعن أحمد: أنه لا يرد على ولد الأم مع الأم، ولا على الجدة مع ذي سهم، لأنه قول ابن مسعود، والأول المذهب، لعموم الأدلة، ولأنه قول عمر وعلي وابن عباس.
وطريق العمل في الرد أن تأخذ سهام أهل الرد من أصل مسألتهم، وكلها تخرج من ستة، إذ ليس في الفروض ما يخرج عن الستة، إلا الربع والثمن، وليسا لغير الزوجين، وليسا من أهل الرد، فيجعل عدد سهامهم أصل مسألتهم، فيقسم المال عليها، وينحصر ذلك في أربعة أصول، فإذا كان معك سدسان، كجدة، وأخ لأم، فأصلهما من اثنين، وإن كان ثلث وسدس، كأم وأخ من أم، فأصلها من ثلاثة، وإن كان نصف وسدس، كابنة وابنة ابن، فأصلها من أربعة، وإن كان نصف وثلث، كأم وأخت، أو ثلثان وسدس، كأختين وأم، أو نصف وسدسان، كثلاث أخوات متفرقات، فهي في خمسة، ولا تزيد أبداً على هذا، لأنها لو زادت سهماً لكمل المال، فإن انكسر سهم فريق عليهم، ضربت عددهم في عدد سهامهم، لأنه أصل مسألتهم، فتقول في ثلاث جدات وأخت: هي من أربعة، للجدات سهم على ثلاثة، تضربها في أربعة، تكن اثني عشر، ومنها تصح.(2/304)
فصل:
فإن اجتمع مع أهل الرد أحد الزوجين، أعطيته فرضه من أصل مسألته، ثم ضربت مسألته في مسألة أهل الرد، فما بلغ، انتقلت إليه المسألة، ثم تصحح بعد ذلك، فتقول في زوجة وبنت، وبنت ابن، وجدة: للزوجة الثمن من ثمانية، ومسألة أهل الرد في خمسة، تضربها في ثمانية، تكن أربعين، للزوجة الثمن خمسة، يبقى خمسة وثلاثون بين أهل الرد على خمسة، فإن انكسر على بعضهم، ضربته في أربعين، فما بلغ فمنه تصح.
[باب ميراث العصبة من القرابة]
وهم كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى، وهم الأب والابن، ومن أدلى بهما من الذكور، فأحقهم بالميراث أقربهم، ويسقط به من بعد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وأحقهم الابن وابنه وإن نزل، لأن الله تعالى بدأ بهم بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. ثم الأب، لأن سائر العصبات يدلون به، ثم الجد أبو الأب، وإن علا، لأنه أب ثم بنو الأب وهم الإخوة، ثم بنوهم، وإن نزلوا، ثم بنو الجد، وهم الأعمام، ثم بنوهم، وإن نزلوا، ثم بنو جد الأب، وهم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن نزلوا. وعلى هذا لا يرث بنو أب أعلى من بني أب أقرب منه، وإن نزلت درجتهم. وأولى ولد كل أب أقربهم إليه. فإن استوت درجتهم، فأولاهم من كان لأب وأم، لحديث علي. وليس من فريضة يرث فيها العصبة عول ولا رد، لأن العصبة يأخذ المال كله إذا انفرد، ولقوله تعالى في الأخ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] أضاف الميراث جميعه إليه، وإن كان معه ذو فرض، أخذ الباقي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخي سعد بن الربيع: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر» وإن استغرقت الفروض المال، سقط، لأن حقه في الباقي، ولا باقي هنا.
فصل:
وأربعة من الذكور يعصبون أخواتهم، فيمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما ورثوا، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهم الابن، وابنه، والأخ من الأبوين، أو من الأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ومن عدا هؤلاء من العصبة ينفرد(2/305)
الذكور بالميراث، دون الإناث، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، لأن أخواتهم من أولي الأرحام.
فصل:
وإن اجتمع في شخص واحد سببان يقتضيان الإرث، كزوج هو ابن عم، أو ابن عم هو أخ من أم، ورث بهما جميعاً، فإن كان ابنا عم، أحدهما أخ لأم، فللأخ للأم السدس، والباقي بينهما نصفان، وإن كانوا ثلاثة، كبني عم، أحدهم زوج، والآخر أخ لأم، فللزوج النصف، وللأخ السدس، والباقي بينهم أثلاثاً، لأن قرابة الأم يرث بها منفردة، فلم يرجع بها، كالزوجية.
[باب المناسخات في الميراث]
باب المناسخات إذا لم تنقسم تركة الميت الأول حتى مات بعض وراثه، فصحح مسألة الأول، ثم صحح مسألة الثاني، وأقسم سهام الثاني من المسألة الأولى على مسألته، فإن انقسمت صحت المسألتان مما صحت منه الأولى، وإن لم تنقسم وافقت بين مسألتها وبين مسألته، وأخذت وفق مسألته، فضربته في المسألة الأولى، فإن لم يتوافقا، ضربت مسألته كلها بالمسألة الأولى، فما بلغ، فمنه تصح المسألتان. فإذا أردت القسمة، فكل من له شيء من المسألة الأولى مضروب في الثانية، أو في وفقها، وكل من له شيء من الثانية، مضروب في السهام التي مات عنها الثاني أو في وفقها، فإن مات ثالث، صححت مسألته، وقسمت عليها سهامه من المسألتين. فإن انقسم، صحت، وإلا ضربت مسألته أو وفقها فيما صحت منه الأوليان، وتعمل على ما ذكرنا.
فصل:
فإن خلف الميت تركة معلومة، فانسب سهام كل وارث من المسألة، وأعطه مثل تلك النسبة من التركة، فإن عز عليك ذلك، فاقسم التركة على المسألة، فما خرج بالقسم، فاضربه في سهام كل وارث، فما كان، فهو نصيبه، فإذا خلفت المرأة زوجاً وأماً وأختاً، وأربعين ديناراً، فللأم ربع المسألة، فلها ربع التركة عشرة، وللزوج ربع وثمن، فله خمسة عشر، وللأخت مثل ذلك. وإن قسمت الأربعين على المسألة، فلكل سهم خمسة،، فإذا ضربت سهام كل وارث في خمسة، خرج مثل ما ذكرنا.
[باب ميراث الغرقى ومن عمي موتهم]
وإن مات متوارثان فلم يعلم أيهما مات قبل صاحبه، ورث كل واحد منهما من(2/306)
صاحبه من تلاد ماله، دون ما ورثه من الميت معه، لأن ذلك يروى عن عمر وعلي وإياس بن عبد المزني، فتقول في أخوين غرقا، وخلف كل واحد منهما زوجته ومولاه: يقدر أن الأكبر مات أولاً، فلزوجته الربع، والباقي لأخيه الأصغر. ثم مات الأصغر عن ثلاثة أسهم، فلزوجته الربع وباقيه لمولاه، فتضرب أربعة في أربعة، تكن ستة عشر، لزوجة الأكبر أربعة، ولزوجة الأصغر ثلاثة، يبقى تسعة لمولى الأصغر. ثم قدر أن الأصغر مات أولاً، فلزوجته الربع، وباقيه لأخيه الأكبر، ثم تعمل فيها عملك في الأولى، فترث زوجة كل واحد منهما ربع مال زوجها، وثمناً ونصف ثمن من مال أخيه، ويرث مولى كل واحد منهما نصف مال أخي عتيقه، ونصف ثمنه، ولا يرث من مال عتيقه شيئاً، وقد روي عن أحمد فيما إذا ماتت امرأة وابنها، وخلفت زوجاً وأخاً، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها، أن يحلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، ويكون ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين، وذكرها الخرقي في مختصره. وهذا يدل على أنه لا يرث أحدهما صاحبه، بل يقسم ميراث كل واحد منهما على الأحياء من ورثته، دون من مات معه، لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وزيد ومعاذ وابن عباس والحسن بن علي، - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، ولأنه لا يعلم أن أحدهما حي حين مات صاحبه، فلم يرثه، كالحمل إذا سقط ميتاً. ولو علم خروج روحيهما معاً، لم يرث أحدهما صاحبه، لأنه من شرط توريثه، كونه حياً حين موت الآخر.
[باب ميراث ذوي الأرحام]
وقد ذكرناهم. ويرثون إذا لم يكن عصبة، ولا ذو فرض من أهل الرد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وقد روي عن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخال وارث من لا وارث له» قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى أبو عبيد بإسناده «أن ثابت بن الدحداح مات، ولم يخلف له إلا ابنة أخ له، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بميراثه لابنة أخيه» ، وقسنا سائرهم على هذين.
فصل:
وطريق توريثهم بالتنزيل، أن تنزل كل واحد منهم منزلة من يدلي به من الوارث، فتجعل بنت البنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلتها، وبنات الإخوة بمنزلة آبائهن،(2/307)
وبنو الأخوات وبناتهن بمنزلة أمهاتهن، والخال والخالة وأبو الأم بمنزلة الأم، والعمات والعم من الأم بمنزلة الأب، وعن أحمد رواية أخرى أنه: تنزل العمة منزلة العم، لأنه روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأول أولى، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الزهري: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم» ولأن الأب أقوى جهاتها، فنزلت منزلته، كما أن بنت الأخ تدلي بأبيها لا بأخيها، وبنت العم تدلي بأبيها لا بأخيها. وإذا انفرد ذو رحم، ورث المال كله. وإن اجتمع منهم جماعة، فأدلوا بشخص واحد وكانوا في درجة واحدة، فالمال بينهم على حسب مواريثهم منه. فإن أسقط بعضهم بعضاً، كأبي الأم والأخوال، أسقطت الأخوال بأبي الأم، لأن الأب يسقط الإخوة، وإن كان بعضهم أقرب من بعض، سقط البعيد منهم، كما يسقط بعيد العصبات بقريبهم، وإن لم يسقط بعضهم بعضاً، قسمت المال بينهم على حسب مواريثهم منه. فتقول في ثلاث عمات متفرقات: المال بينهن على خمسة، لأنهن أخوات الأب، فكان ميراثهن كميراث ثلاث أخوات للميت متفرقات. وإن كان ثلاث خالات متفرقات، فكذلك، لأنهن أخوات لأم. فإن اجتمع ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فكذلك، لأنهن أخوات لأم. فإن اجتمع ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، نزلت العمات أباً، والخالات أماً، فجعلت الثلث للخالات على خمسة، والباقي للعمات على خمسة، فتجتزئ بإحدى الخمسين، وتضربها في ثلاثة، تكن خمسة عشر، للخالة التي من قبل الأبوين ثلاثة أسهم، وللخالة من الأب سهم، وللخالة من الأم سهم، وللعمة من الأبوين ستة، وللعمة من الأب سهمان، وللعمة من الأم سهمان. وإن كان ثلاثة أخوال متفرقين، فللخال من الأم السدس، والباقي للخال من الأبوين، كثلاثة إخوة متفرقين. وإن كان أبوهم واحداً وأمهم واحدة، فالذكر والأنثى سواء، لأنهم يرثون بالرحم المجرد، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كولد الأم.
وعنه: أنهم يقتسمون للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنهم فرع على ذوي الفروض والعصابات، فثبت فيهم حكمهم. وقال الخرقي: يفضل الخال على الخالة دون سائر ذوي الأرحام. وإن أدلى جماعة بجماعة، فقسم المال بين المدلى بهم على ما توجبه الفريضة، فما صار لكل وارث فهو لمن أدلى به، فإن سبق بعضهم إلى الوارث، فهو أحق بالمال، ويسقط به البعيد، إن كانا من جهة واحدة. وإن كانا من جهتين نزلت البعيد حتى يلحق بوارثه، سواء سقط به القريب، أو لم يسقط، فتقول في بنت بنت بنت، وبنت أخ، لأم: المال، لبنت بنت البنت، والجهات أربع: الأبوة، والبنوة، والأخوة، والأمومة، وإن اجتمعت بنت أخ وعمة، فالمال للعمة، لأنها بمنزلة أب، وهو يسقط الأخ، ومن نزلها عماً، أسقطها ببنت الأخ، لأن الأخ يسقط العم. وإن اجتمع،(2/308)
بنت أخت وابن، وبنت أخت أخرى، فللواحدة حق أمها النصف، وللأخرى وأخيها حق أمهما النصف، وإن أدلى ذو رحم بقرابتين، ورث بهما، فتقول في بنت ابن أخ لأم، هي بنت بنت أخت لأب، وبنت بنت أخت الأبوين: للأولى الخمسان بقرابتيها، وللثانية ثلاثة أخماس، لأنهما بمنزلة ثلاث أخوات متفرقات. ولا يعول في مسائل الأرحام إلا واحدة، وشبهها. وهي: خال، وبنات ست أخوات متفرقات.
فصل:
ولا يرث ذو رحم، مع ذي فرض، ولا عصبة، إلا مع الزوج، لأن الرد أولى، والزوج لا يرد عليه، فإن اجتمع معهم زوج، أعطيته فرضه غير محجوب، ولا معاول، وقسمت الباقي بينهم، كما لو انفردوا، فقول في زوج، وبنت بنت، وبنت أخت: للزوج النصف، والباقي بينهما نصفان. امرأة وابنتا بنتين، وابنتا أختين، للزوجة الربع، ولبنتي البنتين ثلثا الباقي، والباقي لبنتي الأختين.
[باب ميراث الخنثى]
وهو الذي له ذكر وفرج امرأة، فيعتبر بمباله، لأنه قد جاء في الأثر: يورث الخنثى من حيث يبول، ولأنها أعم علاماته، لأنها توجد في الصغير والكبير، وقد أجرى الله العادة، أن الذكر يبول من ذكره، والأنثى من فرجها، فاعتبر ذلك. فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو ذكر، وإن بال من حيث تبول المرأة، فله حكم المرأة فإن بال منهما، اعتبر بأسبقهما فإن خرجا في حال واحدة، اعتبر أكثرهما، لأن الأكثر أقوى في الدلالة، فإن استويا، فهو مشكل، فإن مات له من يرثه، أعطي هو ومن معه اليقين، ووقف الباقي حتى يبلغ فينكشف الأمر، بأن يظهر فيه علامات الرجال، من خروج المني من ذكره، ونبات اللحية، أو علامات النساء، من تفلك الثدي، والحيض، والحمل، فإن يئس من ذلك، فله نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، فإن اجتمع ابن وبنت وولد وخنثى، فللذكر أربعة أسهم، وللخنثى ثلاثة، وللبنت سهمان، لأنه يحصل بهذا العمل له نصف ميراث الذكر، ونصف ميراث الأنثى. فإن كان مكان الابن أخ، أو غيره من العصبات، فله السدس، والباقي بين الخنثى والبنت على خمسة. وقال أصحابنا: يعمل المسألة على أنه ذكر، ثم على أنه أنثى، ثم يضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو وفق إحداهما في الأخرى إن اتفقتا، أو يجتزئ بإحداهما إن تماثلتا، أو بأكبرهما إن تناسبتا، وتضرب ذلك في اثنين، فما بلغ، فمنه تصح، ثم كل من له شيء من إحداهما، مضروب في الأخرى، أو في وفقها، أو تجمع مال منهما إن تماثلتا، فتعطيه إياه، ففي هذه المسألة إن قدرناه ذكراً، فهي من خمسة، وإن قدرناه أنثى فهي في أربعة، تضرب(2/309)
أربعة في خمسة، تكن عشرين، ثم في الحالين تكن أربعين، فللابن اثنان في خمسة، واثنان في أربعة، ثمانية عشر، وللبنت تسعة، وللخنثى سهم في خمسة، وسهمان في أربعة، ثلاثة عشر، لأن للابن الخمسين بيقين، وذلك ستة عشر، وللبنت الخمس بيقين، ثمانية، وللخنثى الربع بيقين، عشرة، فذلك أربعة وثلاثون، يبقى ستة أسهم يدعيها الخنثى كلها، ليتم له سهم ذكر، ويدعي الابن ثلثيها، ليتم له النصف، والبنت تدعي ثلثها، ليتم لها الربع، فقسمناها بينهم على حسب دعاويهم، للخنثى نصفها ثلاثة، وللابن سهمان، وللبنت سهم، فإن كانا خنثيين، نزلتهم على عدد أحوالهم، فتجعل لهما أربعة أحوال في أحد الوجهين، وفي الآخرين تنزلهم حالين، مرة ذكوراً، ومرة إناثاً، والأول أصح، لأنه يعطي كلا بحسب ما فيه من الاحتمال، وعلى الطريق الثاني: يفضي إلى حرمان من يحتمل الاستحقاق. ألا ترى أنه لو اجتمع بنت وولد خنثى وولد ابن خنثى وأخ، فنزلتهم حالين، لم تعط ولد الابن شيئاً، ومن المحتمل أن يكون ذكراً وحده، فيكون له الباقي بعد البنتين، فعلى هذا تنزل الثلاثة، ثمانية أحوال، وللأربعة ستة عشر، وللخمسة اثنان وثلاثون حالاً.
[باب ميراث الحمل]
إذا مات عن حمل يرثه، فطالب بقية الورثة بالقسمة، وقف نصيب ابنين ذكرين، إن كان ميراث الذكور أكثر، وابنتين إن كان أكثر، لأن ما زاد على اثنين نادر جداً، فلم يلتفت إليه، كاحتمال الحمل في الآيسة، ويدفع إلى كل وارث اليقين. فإذا وضعت الحمل، دفع إليه نصيبه، ورد الفضل على من يستحقه، وإن وضعته ميتاً، لم يرث، لأننا لا نعلم أنه كان حياً حين موت موروثه. وإن وضعته واستهل، ورث، وورث، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا استهل المولود ورث» رواه أبو داود. وظاهر كلام أحمد: أنه لا يرث حتى يستهل، وهو الصوت ببكاء أوعطاس أو نحوه، لتقييده في الحديث بالمستهل، ويحتمل أن يلحق بذلك كل من علمت حياته بارتضاع أو نحوه، لأنه ولد حياً، فأشبه المستهل، فأما الحركة والاختلاج، فلا تدل على الحياة، فإن اللحم يختلج، سيما إذا خرج من ضيق إلى سعة، وإن خرج بعضه فاستهل، ثم انفصل باقيه ميتاً، لم يرث، لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا وهو حي. وإن ولدت توأمين، فاستهل أحدهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حكم بأنه المستهل.(2/310)
ولا يرث حمل إلا أن يعلم بأنه كان موجوداً حال الموت، بأن تلده لأقل من ستة أشهر إن كانت ذات زوج، أو لأقل من أربع سنين إن كانت بائناً.
[باب ما يمنع الميراث]
ويمنع الميراث ثلاثة أشياء: اختلاف الدين. فلا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً بحال، لما روى أسامة بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . متفق عليه.
والمرتد لا يرث أحداً، لأنه ليس بمسلم، فيرث المسلمين، ولا يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه، فيرث أهله، ولا يرثه أحد لذلك. وماله فيء.
وعنه: يرثه ورثته من المسلمين.
وعنه: يرثه أقاربه من أهل دينه الذي اختاره.
وعنه: في الميراث بالولاء روايتان:
إحداهما: يرث الرجل عتيقه وإن اختلف ديناهما، لأن الولاء شعبة من الرق، واختلاف الدين لا يمنع الرجل أخذ مال رقيقه إذا مات.
والثانية: لا يرثه مع اختلاف الدين لعموم الخبر، ولأنه نوع توارث، فمنعه اختلاف الدين، كغيره، ولأنه مانع من الإرث، فمنع الإرث بالولاء، كالقتل.
فصل:
ومن أسلم على ميراث قبل أن يقسم، قسم له، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسلم على شيء فهو له» أخرجه سعيد.
وعنه: لا يقسم له، لأن المانع من الإرث وجد حين وجد السبب، وهو الموت، فمنع من الإرث كالرق، ومن كان رقيقاً حين موت موروثه، فعتق بعده، لم يرث، لأن العتق ليس من فعله، ولا هو قربة للمعتق، بخلاف إسلامه. ولو ملك ابن عمه، فدبره، فعتق بموته، لم يرثه، لأنه رقيق حين الموت. وإن قال: أنت حر في آخر حياتي، عتق، وورث، لأنه حر حين الموت، ويحتمل أن لا يرث، لأن عتقه وصية له، فيفضي إلى الوصية للوارث.
فصل:
ويرث الكفار بعضهم بعضاً، وإن اختلفت أديانهم في إحدى الروايتين، لأن مفهوم(2/311)
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً» أن الكفار يتوارثون.
والثانية: لا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى، لما روى عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» رواه أبو داود. ولأن الموالاة منقطعة بينهم، فأشبه اختلافهم بالكفر والإسلام. قال القاضي: والكفر ثلاث ملل، اليهودية ملة، والنصرانية ملة، ودين من عداهم ملة، لاجتماعهم في عدم الكتاب. قال: وقياس المذهب عندي أنه لا يرث حربي ذمياً، ولا ذمي حربياً، لأنه موالاة بينهما، واحتمل أن يتوارثا، لأنهما من أهل ملة واحدة.
فصل:
وإذا أسلم المجوس، أو تحاكموا إلينا، ورثوا لجميع قراباتهم إذا أمكن ذلك، لأنها قرابات ترث بكل واحدة منفردة ولم ترجح بها، فورث بهما إذا اجتمعا، كابن عم هو زوج، وأخ لأم. فلو تزوج مجوسي بنته، فأولدها بنتاً، ثم مات وخلف أخاً، فلابنتيه الثلثان، والباقي لأخيه. فإن ماتت بعده الكبرى، فمالها لابنتها، نصفه بكونها بنتاً، وباقيه بكونها أختاً من أب، وإن ماتت الصغرى قبل الكبرى، فللكبرى الثلث بكونها أماً، والنصف بكونها أختاً، وباقيه لعمها. فإن كان أولدها بنتين، ثم مات، ثم ماتت إحدى الصغيرتين. فلأختها لأبويها النصف، ولأمها السدس بكونها أماً، والسدس بكونها أختاً لأب، وحجبت نفسها بنفسها، والباقي لعمها، ولا يرثون بنكاح ذوات المحارم، ولا ما يقرون عليه إذا أسلموا، لذلك لم يورث بنت المجوسي الذي تزوجها منه شيئاً.
فصل:
والثاني من الموانع الرق، فلا يرث العبد قريبه، ولا يورث، لأنه لا ملك له فيورث. وإن ملك فملكه ضعيف يرجع إلى سيده ببيعه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» فكذلك بموته، ولا يرث، لأنه لو ورث شيئاً، لكان لسيده، فيكون التوريث لسيده دونه.
فصل:
ومن بعضه حر، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، لما روى عبد الله ابن الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في العبد يعتق بعضه: يرث ويورث على قدر ما عتق منه» ولأن هذا قول علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فينظر ما له مع الحرية الكاملة، فيعطيه منه بقدر ما فيه من الحرية الكاملة، ويحجب به بقدر ذلك، فتقول في بنت نصفها حر، وأم حرة، وعم: للبنت الربع،(2/312)
لأنه نصف ما تستحقه بالحرية الكاملة، وللأم الربع، لأن حرية البنت تحجبها عن السدس، فنصف حريتها يحجبها عن نصفه، والباقي للعم. فإن كان نصف الأم حراً، فلها الثمن، لأنه نصف ما تستحقه بالحرية الكاملة، والباقي للعم. وإن شئت عملتها بالأحوال، كمسائل الخناثى، فتقول: لو كانتا حرتين، فالمسألة من ستة، ولو كانت الأم وحدها حرة، كانت من ثلاثة، وإن كانت البنت وحدها حرة، كانت من اثنين، وإن كانتا رقيقتين، فهي من سهم، فتجزئ بالستة، لأن سائر المسائل داخلة فيها، وتضربها في أربعة تكن أربعة وعشرين، للبنت النصف في حالين، وذلك ستة، وهو الربع، وللأم الثلث في حال، والسدس في حال، وذلك ثلاثة، وهو الثمن، والباقي للعم.
فصل:
الثالث من الموانع: قتل الموروث بغير حق، يمنع القاتل ميراثه، عمداً كان القتل أو خطأ، لما روي «عن عمر: أنه أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه، وكان حذفه بسيف فقتله. وقال عمر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ليس لقاتل ميراث» رواه مالك في الموطأ. ولأن توريث القاتل ربما أفضى إلى قتل الموروث استعجالاً لميراثه، وكل قتل يضمن بقتل، أو دية، أو كفارة، يمنع الميراث لذلك، وما لا يضمن كالقصاص والقتل في الحد، لا يمنع، لأنه فعل مباح، فلم يمنع الميراث، كغير القتل، ولأن المنع في العدوان كان حسماً لمادة العدوان، ونفياً للقتل المحرم، فلو منع هنا، لكان مانعاً من استيفاء الواجب، أو الحق المباح استيفاؤه.
وعنه: لا يرث العادل الباغي إذا قتله. وهذا يدل على أن كل قتل يمنع الميراث، لعموم الخبر، والأول أظهر في المذهب.
[باب ذكر الطلاق الذي لا يمنع الميراث]
إذا طلق الرجل زوجته طلاقاً رجعياً، لم ينقطع الميراث بينهما ما دامت في العدة، سواء كان صحيحاً، أو مريضاً، لأن الرجعية زوجة، وإن أبانها في صحته انقطع التوارث بينهما، لزوال الزوجية التي هي سبب التوارث، وكذلك إن كان في مرض غير مرض الموت، لأن حكمه حكم الصحة، وإن أبانها في مرض موته باختيارها، بأن سألته الطلاق، أو علق طلاقها على فعل لها منه بد، ففعلته، انقطع التوارث لزوال الزوجية بأمر لا يتهم فيه، وكذلك إن علق طلاقها في صحته على شرط وجد في مرضه، لم ترثه كذلك.
وعن أحمد: أنها ترثه في هذه المسائل الثلاث لأنه طلاق في مرض موته. ولو(2/313)
طلقها في مرضه وهي أمة، أو كافرة، فأسلمت أو عتقت، لم ترث، لأنه لا يتهم في طلاقها. وإن أبانها في مرض موته على غير ذلك، لم يرثها، وورثته ما دامت في العدة، لما روي أن عثمان ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرض موته فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً، ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل. وهل ترثه بعد انقضاء العدة؟ فيه روايتان:
إحداهما: ترثه، لأن عثمان ورث امرأة من عبد الرحمن بعد انقضاء العدة، ولأنه فار من ميراثها فورثته، كالمعتدة.
والثانية: لا ترثه، لأن آثار النكاح زالت بالكلية، فلم ترثه، كما لو تزوجت، ولأن ذلك يفضي إلى توريث أكثر من أربع نسوة، بأن يتزوج أربعاً بعد انقضاء عدة المطلقة، وذلك غير جائز، وإن تزوجت لم ترثه، لأنها فعلت باختيارها فعلاً ينافي زوجية الأول فلم ترثه، كما لو تسببت في فسخ النكاح، وهكذا لو ارتدت في عدتها، أو فعلت ما ينافي نكاح الأول، لم ترثه، وإن ارتدت ثم أسلمت في عدتها، ففيه وجهان:
أحدهما: ترثه، لأنها مطلقة في المرض، أشبه ما لو لم ترتد.
والثاني: لا ترثه لأنها فعلت ما ينافي النكاح، أشبه ما لو تزوجت.
فصل:
وإن طلق امرأة قبل الدخول فهل ترثه؟ فيه روايتان كالتي انقضت عدتها، ولو قال لزوجته في صحته: إذا مرضت فأنت طالق، فحكم طلاقه حكم طلاق المريض. وإن أقر في مرضه بطلاقها في صحته، فحكمه حكم طلاقها في مرضه، وإن علق طلاقها على فعل لا بد لها منه، كالصلاة، ففعلته، فهو كالطلاق ابتداء. وإن قال لزوجته الذمية، أو الأمة وهو مريض: إذا عتقت، أو أسلمت، فأنت طالق، فعتقت الأمة، وأسلمت الذمية، فهو كطلاقه لحرة مسلمة، وإن قال السيد لأمته: أنت حرة غداً، فطلق الزوج اليوم أو غداً عالماً بعتق السيد، ورثته، لأنه متهم، وإن لم يعلم، لم ترثه، لعدم التهمة.
فصل:
ولو تسببت الزوجة في فسخ نكاحها في مرضها، برضاع أو غيره، بانت وورثها زوجها، ولم ترثه، لما ذكرنا في طلاق المرض. ولو استكره رجل امرأة أبيه في مرض أبيه على فعل ينفسخ نكاحها به، بانت، ولم يسقط ميراثها لذلك. وإن كان للمريض زوجة أخرى، سقط ميراثها، لأنه غير متهم في قصد توفير نصيبها عليه، لرجوعه إلى الزوجة الأخرى دونه.(2/314)
فصل:
وإن تزوج نساء بعضهن عقدهن فاسد، لم تعلم بعينها، أو طلق بعض نسائه لا بعينها، أو علمها وأنسيها، أقرع بينهن. فمن خرجت قرعتها بفساد العقد، أو الطلاق، فلا ميراث لها، لأنه اشتبه المستحق بغيره. فوجب المصير إلى القرعة، كما لو أعتق في مرضه عبيداً، لم يخرج من ثلثه إلا أحدهم.
[باب الإقرار بمشارك في الميراث]
إذا أقر جميع الورثة بمشارك لهم في الميراث، ثبت نسبه وورث، لأن الورثة يقومون مقام الميت في ماله وحقوقه، وهذا من حقوقه، وإن أقروا لمن يسقطهم، كإخوة أقروا بابن، ثبت نسبه وأسقطهم، لأن الجميع ورثة لولا الإقرار، فأشبه ما لو أقروا بمشاركهم. وإن أقر بعضهم، لم يثبت النسب، ودفع المقر إلى المقر له فضل ما في يده عن ميراثه، فإذا خلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ، فله ثلث ما في يده، فإن أقر بأخت، فلها الخمس، وإن شئت ضربت مسألة الإقرار أو وفقها في مسألة الإنكار، ودفعت إلى المنكر سهمه من مسألة الإنكار، مضروباً في مسألة الإقرار أو وفقها، وإلى المقر سهمه من مسألة الإقرار، مضروباً في مسألة الإنكار أو وفقها، فما فضل، فهو للمقر به، وإن لم يكن في يد المقر فضل، فلا شيء للمقر به، لأنه يقر على غيره. فإن خلف ابنين فأقر أحدهما بأخوين، فصدقه أخوه في أحدهما، ثبت نسب من اتفقا عليه، فصاروا كثلاثة أقر أحدهم بأخ رابع. فضرب مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، تكن اثني عشر، للمقر سهم من مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، ثلاثة، وللمنكر سهم في مسألة الإقرار أربعة. ثم إن أقر المتفق عليه بالمختلف فيه، فله مثل سهم المقر، وإن أنكر فله مثل سهم المنكر والفضل للمختلف فيه. وقال أبوالخطاب: إن أقر المتفق عليه بالمختلف فيه، وأنكر المختلف فيه المتفق عليه. فإن المتفق عليه يأخذ من المقرين ربع ما في أيديهما، ويأخذ المختلف فيه من المقر به ثلث ما في يده. وتصح من ثمانية، للمقر بهما سهمان، وللمتفق عليه سهمان، وللمقر بأحدهما ثلاثة، وللمختلف فيه سهم. وإن كان الوارث ابناً فأقر بأخوين بكلام متصل، ثبت نسبهما، سواء تصادقا أو تجاحدا، لأن نسبهم ثبت في حال واحدة بقول الوارث الثابت النسب قبلهم، ويحتمل أن لا يثبت نسبهما إذا تجاحدا، لأنه لم يحصل الإقرار من جميع الورثة، وإن أقر بواحد بعد الآخر، ثبت نسب الأول، وأعطاه نصف ما في يده، ثم إن صدق الثاني بالثالث، ثبت نسبه، ودفعا إليه ثلث ما في أيديهما. وإن أنكره الثاني، لم يثبت نسبه، ودفع إليه المقر ثلث ما في يده.(2/315)
فصل:
وإن أقر من أعيلت له المسألة بمن يسقط العول، كزوج وأم وأخت، فأقرت الأخت بأخ لها، فاضرب وفق مسألة الإقرار في مسألة الإنكار، تكن اثنين وسبعين، للأم ربعها ثمانية عشر، وللزوج ربعها وثمنها سبعة وعشرون، وللأخت سهمان في مسألة الإقرار في نصف مسألة الإنكار، وهي ثمانية، يبقى تسع عشر يدعي المقر له منهما ستة عشر. فإن مضى الزوج على الإنكار، أخذ الأخ ستة عشر، وبقيت ثلاثة يقران بها للزوج وهو ينكرها ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: يدفع إلى بيت المال، لأنه مال لا يدعيه أحد، فهو كالمال الضائع.
والثاني: يقر في يد الأخت.
والثالث: يترك حتى يصطلحا عليهما، لأنها لا تعدوهما، وقد جهلنا مستحقها منهما. وإن أقر الزوج بالأخ، فهو يدعي تمام النصف تسعة، والأخ يدعي ستة عشر، فالجميع خمس وعشرون، والمقر به من السهام تسعة عشر، لا تنقسم إلى خمسة وعشرين، فاضرب خمسة وعشرين من أصل المسألة، ثم كل من له شيء من أصل المسألة مضروب في خمسة وعشرين، ومن له شيء من خمسة وعشرين مضروب في تسعة عشر، وعلى هذا تعمل ما ورد عليك من هذا.
[باب ميراث المفقود]
إذا غاب الإنسان وخفي خبره، وغالب سفره السلامة، كالتاجر والسائح، انتظر به تمام تسعين سنة من يوم ولد في أشهر الروايتين، وفي الأخرى: ينتظر به أبداً، أو يرجع إلى اجتهاد الحاكم في تقدير المدة، وإن كان غالب سفره الهلاك، كالذي يفقد بين أهله، أو يفقد في طريق الحج، فإنه ينتظر به تمام أربع سنين، لأنها أكثر مدة الحمل، وتعتد زوجته عدة الوفاة، وتحل للأزواج، قال أحمد: إذا أمرت زوجته أن تتزوج، قسمت ميراثه، وقد روي عنه التوقف، وقال: قد هبت الجواب فيها، وكأني أحب السلامة، والأول المذهب. فإن مات للمفقود من يرثه في مدة غيبته، دفع إلى كل وارث اليقين، ووقف نصيب المفقود، فإن بان حياً، دفع إليه. وإن بان ميتاً حين موت مورثه، رد على من يستحقه، وكذلك إن كانت المدة قد مضت، وإن لم تكن مضت ولم يتبين أمره، فحكم نصيبه في الميراث حكم سائر ماله، يقسم على ورثته إذا مضت المدة، لأنه محكوم بحياته، ويجوز أن يصطلحوا على الفاضل من نصيب المفقود في الموقف، لأنه حقهم، ولا يجوز أن يصطلحوا على نصيب المفقود، والله أعلم.(2/316)
[باب الولاء]
ومن أعتق مملوكاً، ثبت عليه الولاء، لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. فإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة، أو بيعه عبده نفسه، أو أعتقه عنه غيره بإذنه، فله عليه الولاء، لأنه عتق عليه، فأشبه ما لو باشر عتقه. وسواء أدى المكاتب إلى السيد، أو إلى ورثته، لأن عتقه بكتابته وهي من سيده. فأما إن أعتق عبده عن ميت، أو حي بغير أمره، فالولاء للمعتق، للخبر، ولأنه أعتقه بغير إذن الآخر، فكان ولاؤه للمعتق، كما لو لم ينو، ولو قال: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه، ففعل، فالولاء للمعتق عنه، لأنه نائب عنه في العتق فهو كالوكيل. ولو قال: أعتقه والثمن علي، ففعل، فالولاء للمعتق، لأنه لم يعتقه من غيره، فأشبه ما لو لم يجعل له جعلاً. وإن قال: اعتقه عني، ولم يذكر عوضاً، ففيه روايتان:
إحداهما: ولاؤه للمعتق، للخبر.
والثانية: للمعتق عليه، لأنه أعتقه عنه بأمره، فأشبه ما لو كان بعوض.
فصل:
ومن أعتق عبده سائبة، أو قال: أعتقتك ولا ولاء لي عليك، أو أعتقه من زكاته، أو كفارته، أو نذره، ففيه روايتان:
إحداهما: له عليه الولاء، لعموم الخبر.
والثانية: لا ولاء عليه، لأنه جعل ولاءه من السائبة، فصح، كرقه. وفي سائر الصور، العتق بمال لا يستحقه، فلم يكن له ولاء كالوكيل. فعلى هذه الرواية، ما رجع من ولائهم، يرد في مثلهم، ويكون حكم ولائهم كحكم ولاء الأولين.
فصل:
وإن أعتق مسلم كافراً، أو كافر مسلماً، ثبت له الولاء، للخبر. وهل يرث به؟ فيه روايتان ذكرناهما، فإن قلنا: لا يرث وكان للمعتق عصبة على دين المعتق، ورثه، لأنه يرثه لو كان المعتق ميتاً. وكذلك إذا كان ممنوعاً من ميراثه. وإن أسلم الكافر منهما،(2/317)
ورث المولى، كما لو أسلم القريب الكافر وورثه قريبه المسلم.
فصل:
ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الولاء وعن هبته» متفق عليه. ولأن الولاء كالنسب، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» .
[باب الميراث بالولاء]
إذا مات المعتق ولم يخلف وارثاً من نسبه، ورثه مولاه، وإن خلف ذا فرض، فللمولى ما فضل عنه، لما روى عبد الله بن شداد قال: «أعتقت ابنة حمزة مولى لها، فمات وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف» . رواه النسائي وابن ماجة.
ولا يرث المولى مع عصبة من النسب، لأنه فرع على النسب، فلا يرث مع وجوده. وإن مات العبد بعد موت مولاه، ورثه أقرب عصبة مولاه دون ذوي الفروض، لأن الولاء كالنسب، والنسب إلى العصبات، ولأنه كنسب المولى من أخ أو عم، فيرثه ابن المولى دون ابنته، كما يرث عمه، ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات، لما روى سعيد بن المسيب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المولى أخ في الدين، وولي النعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» . ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب، فكذلك عصبات المولى، ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتق، أو أعتق من اعتقن. وعن أبي عبد الله رواية أخرى في بنت المعتق خاصة: أنها ترث، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ورث بنت حمزة من الذي أعتقه حمزة، والصحيح أنها لا ترث، وأنها هي المعتقة للمولى، كما روى عبد الله بن شداد فيما تقدم، ولا يرث منه ذو فرض إلا الأب والجد، يرثان السدس مع الابن وابنه، لأنهما عصبة. فيقسم بينهما كما يقسم مال المعتق بينهما. فإن اجتمع الجد والأخ أو الإخوة، قسم بينهما كما يقسم ميراث المعتق، ولا يعتد بالأخوات، لأنهن لا يرثن منفردات. ويقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب، ويعاد الأخ للأبوين الجد بالأخ للأب، لأنه يرث منفرداً، ثم الأقرب فالأقرب. فإذا انقرض عصبات المولى من النسب، فلمولاه إن كان ذا مولى، ثم لأقرب عصباته. ولو اشترى رجل وأخته أباهما، أو أخاهما، فعتق عليهما، ثم اشترى عبداً فأعتقه، ثم مات أبوهما أو(2/318)
أخوهما، ثم مات عتيقه، فميراثه للرجل دون أخته، لأنه يرثه بنسبه من معتقه، ولا ترث النساء من الولاء بالنسبة شيئاً.
فصل:
وإذا مات رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالميراث لابن المولى، لأن الولاء للكبر، ومعناه أنه يرث به أقرب الناس إلى سيده يوم موت العبد. وذلك لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا يورث، وإنما يورث به مع بقائه للمولى، فوجب أن يكون للكبر، لأنه أقرب. ولو مات المعتق وخلف ابنين ومولى، ومات أحدهما وخلف ابناً، ومات الآخر وخلف تسعة، ثم مات المولى، كان الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد منهم عشرة، لما ذكرنا.
فصل:
وإذا تزوج عبد معتقة قوم فأولدها، فولاء الولد لمولى أمه، لأن الحرية حصلت له بإعتاق الأم والإنعام عليها. فإن أعتق سيد العبد عبده، أنجر ولاء الولد عن مولى الأم إلى مولى العبد، لما روي عن الزبير أنه رأى بخيبر فتية لعساً فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم فقيل له: موالي لرافع بن خديج وأبوهم مملوك لآل الحرقة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه، وقال لأولاده: انتسبوا لي، فإن ولاءكم لي. فقال رافع بن خديج: الولاء لي، لأنهم عتقوا بعتقي أمهم، فاحتكموا إلى عثمان، فقضى بالولاء للزبير، فأجمعت الصحابة عليه. ولأن الولاء فرع النسب، والنسب معتبر بالأب. وإنما ثبت لمولى الأم، لعدم الولاء من جهة الأب، فإذا ثبت الولاء على الأب، عاد الولاء إلى موضعه، كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج. وإن أعتق الجد، لم ينجر الولاء.
وعنه: ينجر. والأول المذهب، لأن الأصل بقاء الولاء لمن ثبت له، وإنما خولف هذا الأصل في الأب، لإجماع الصحابة عليه فيبقى فيمن عداه على الأصل.
فصل:
وإن تزوج عبد أمة فأولدها، فأعتقها سيدها وولدها، ثبت له الولاء عليهم. فإن عتق الأب بعد ذلك، لم ينجر الولاء، لأن الولاء ثبت على الولد بالمباشرة، فكان المنعم عليه بالمباشرة أولى من المنعم على أبيه، وإذا تزوج حر الأصل بمولاة، أو تزوج عبد أو مولى بحرة الأصل، فلا ولاء على ولدهم بحال. وإن تزوج مولى بمولاة، فولاء ولدهما لسيد الأب، لأن الاستدامة أقوى من الابتداء، ثم ابتداء الحرية في الأب يسقط استدامة الولاء لمولى الأم، فلأن يمنع ابتداء الولاء له أولى.(2/319)
فصل:
إذا تزوج عبد معتقَة قوم، فأولدها ولداً، فاشترى الولد أباه، ثبت له ولاؤه، وولاء أولاده، ويبقى ولاء المعتق لمولى أبيه؛ لأنه لا يمكن أن يجر ولاء نفسه، لاستحالة ثبوت ولاء الإنسان على نفسه، كما يستحيل أن يكون أبا نفسه. وإن لم يشتر أباه، لكن اشترى عبداً فأعتقه، ثم اشترى هذا العبد أبا سيده، فأعتقه، فإنه ينجر إليه ولاء سيده، ويصير كل واحد منهما مولى صاحبه من فوق ومن أسفل، ويصير هذا كحربي أعتق عبداً فأسلم وأسر سيده ثم أعتقه.
فصل:
ولو تزوج عبد معتقة، فأولدها بنتين، فاشتريا أباهما، عتق عليهما، ولهما عليه الولاء، وتجر كل واحدة منهما إلى نفسها نصف ولاء أختها، لإعتاقها نصف الأب، ويبقى نصف ولاء كل واحدة منهما لمولى أمها. فإن مات الأب، فماله لهما، ثلثاه بالبنوة، وباقيه بالولاء، فإن ماتت إحداهما بعده، فلأختها نصف ما لها بالنسب، ونصف الباقي بكونها مولاة نصفها، ويبقى الربع لمولى أمها. وإن ماتت إحداهما قبل الأب، فمالها لأبيها بالنسب، فإن مات الأب بعدها، فللباقية نصف ميراث أبيها بالنسب، ونصف الباقي بالولاء، يبقى الربع لموالي الميتة، وهم أختها وموالي أمها، لأخيها نصفه، وهو الثمن، صار لها سبعة أثمان المال، ولموالي أم الميتة الثمن، فإذا ماتت هذه بعدهما، فنصف ما لها لموالي أمها بالولاء، ونصفه لموالي أختها الميتة، وهم أختها وموالي أمها، فيكون الربع لموالي أمها، والربع الباقي يرجع إلى هذه الميتة، فهذا الجزء دائر، لأنه خرج من هذه وعاد إليها، فقال القاضي: يجعل في بيت المال، لأنه لا مستحق له، وإن مات الأب بعد موتهما، فلموالي أمهما ثلاثة أرباع ماله، وربع دائر يرجع إلى بيت المال. وذكر أبو عبد الله الرقي: أن قياس قول أحمد: أن هذا السهم يرد إلى موالي الأم، فعلى هذا يكون جميع الميراث لموالي الأم.(2/320)
[كتاب العتق]
وهو: قربة مندوب إليها، بدليل ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله: «من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل إرب منها، إرباً منه من النار» رواه مسلم، حتى إنه ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج. والأفضل عتق من له قوة وكسب، يستغني به، فأما من لا كسب له، فحكي عن أحمد أنه لا يستحب عتقه، لأنه يتضرر بفوات نفقته الواجبة له، وربما صار كَلاً على الناس.
فصل:
ويحصل العتق بثلاثة، القول، والملك، والاستيلاد، ولا يحصل بالنية المجردة، لأنه إزالة ملك، فلم يحصل بمجرد النية، كالطلاق، وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية، فالصريح: لفظ العتق، والحرية، وما تصرف منهما، لأنه يثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، فكانا صريحين، كلفظ الطلاق في الطلاق، فإن أراد بهما غير العتق، كرجل يقول لغلامه: هو حر، يريد أنه عفيف كريم الأخلاق، أو يغالبه فيقول: ما أنت إلا حر، يريد أنك تمتنع من طاعتي امتناع الحر، فقد قال أحمد في رواية حنبل: أرجو أن لا يعتق، وأنا أهاب المسألة، فظاهر هذا أنه لا يعتق، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، فانصرف إليه. كما لو نوى العتق بكنايته.
والكناية: نحو قوله: قد خليتك، واذهب حيث شئت، والحق بأهلك، وحبلك على غاربك، ونحوه. فلا يعتق بذلك حتى ينويه، لأنه يحتمل غير العتق، فأشبه كناية الطلاق فيه، وفي قوله: لا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة، وفككت رقبتك، ولا رق لي عليك، وأنت لله، وأنت مولاي، وملكتك نفسك. فيه روايتان:
إحداهما: هو صريح في العتق، لأنها تتضمن العتق، وقد جاء في كتاب الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . يعني: العتق، فكانت صريحة، كقوله: أعتقتك.(2/321)
والثانية: هو كناية، لأنها تحتمل غير العتق. وقال القاضي: قوله: لا رق لي عليك، ولا ملك لي عليك، وأنت لله، صريح. نص عليه أحمد، في: أنت لله، لأن معناه: أنت حر لله. واللفظان الأولان صريحان في نفي الملك، والعتق من ضرورته. وفي قوله لأمته: أنت طالق، أو أنت حرام علي، روايتان:
إحداهما: هو كناية، تعتق به إذا نوى به العتق، لأن الرق أحد الملكين في الآدمي، فيزول بلفظ الطلاق، كملك النكاح، والحرية يحصل بها تحريمها عليه، فجاز أن يكون كناية فيه.
والثانية: ليس بكناية، لأنه ملك لا يستدرك بالرجعة، فلم يزل بالطلاق، كملك المال. والتحريم صريح في الظهار، فلم يكن كناية في العتق، كقوله: أنت علي كظهر أمي.
فصل:
ولا يصح العتق إلا من جائز التصرف، ولا يصح من صبي، ولا مجنون ولا سفيه، لأنه تبرع في الحياة، فأشبه الهبة. ولا يصح عتق الموقوف، لأنه فيه إبطالاً لحق البطن الثاني منه، وليس له ذلك.
فصل:
فإن كان العبد بين شريكين، فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، عتق كله، ووجب عليه قيمة نصيب شريكه، لما روى ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له في عبد، فإن كان له ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق» متفق عليه. وفي لفظ «وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق» . وفي لفظ «فقد عتق كله» .
ويعتق كله حال إعتاق الشريك، للخبر، ولأنه سراية قول، فنفذ في الحال كطلاق بعض الزوجة، فإن أعتقه الشريك عقيب عتق الأول وقبل أخذ القيمة، لم يثبت له فيه عتق، لأنه صار حراً بعتق الأول. ولو لم يؤد القيمة حتى أفلس، كانت ديناً في ذمته، وعتقه ماض، ووقت التقويم وقت العتق، لأنه وقت الإتلاف، فأشبه الجناية، فإن اختلفا في القيمة، فالقول قول المعتق، لأنه غارم. وإن اختلفا في صناعة تزيد بها قيمته، أو عيب تنقص به قيمته، فالقول قول من ينفيه، لأن الأصل عدمه، وسواء كان المعتق مسلماً أو كافراً، لأنه تقويم متلف، فاستوى فيه المسلم والكافر، كتقويم المتلفات. ويحتمل أن لا يسري عتق الكافر في المسلم، لأنه لا يجوز أن يتملكه. وإن كان نصيب الشريك وقفاً، لم يعتق، لأن الوقف لا يعتق بالمباشرة، فبالسراية أولى.(2/322)
وإن كان المعتق معسراً، عتق نصيبه منه خاصة، وباقيه على الرق، للخبر، ولأن سراية العتق ضرر بالشريك، لتلف ماله بغير رضاه، من غير عوض يجبره.
وعنه: يستسعي العبد في قيمة باقيه، ويعتق كله. لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أعتق شقصاً له في مملوكه، فعليه أن يعتقه كله، إن كان له مال، وإلا استسعي العبد غير مشقوق عليه» رواه أبو داود.
والأول أصح، لأن خبر ابن عمر أصح، ولأن الإحالة على السعاية، إحالة على وهم، وفيه ضرر بالعبد بإجباره على الكسب من غير اختياره، فإن كان معه قيمة البعض، عتق منه بقدره، لأن ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن البعض وجب بقدر ما قدر عليه، كقيمة المتلف.
فصل:
فإن أعتق المعسر بعض عبده، عتق كله، لأنه موسر بما يسري إليه، فأشبه ما لو أعتق بعض عبد وهو موسر بقيمة باقيه، فإن أعتق بعضه في مرض موته، عتق منه ما يحتمله الثلث وإن زاد على قدر ما أعتق، لأن عتق بعضه كعتق جميعه، وإن احتمل الثلث جميعه، عتق كله.
فصل:
إذا ملك بعض عبد، فأعتقه في مرض موته أو دبره، فعتق بموته، وكان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه، أعطي وكان كله حراً في إحدى الروايتين، لأن ثلثه له، فكان موسراً به، والأخرى: لا يعتق منه إلا ما ملك، لأن حق الورثة تعلق بماله، إلا ما استثناه من الثلث بتصرفه فيه. ذكرهما الخرقي، وأبو الخطاب. قال الخرقي: وكذلك الحكم إذا دبر بعضه وهو مالك لكله، لأن ملكه يزول عما سوى المعتق. وقال القاضي: إن أعتقه في مرض موته وهو موسر، عتق جميعه، لأنه أعتقه وهو موسر بثمن جميعه، فدخل في الخبر، وإن دبره لم يعتق إلا ما ملك، لأن ملكه زال بالموت، إلا ما استثناه بوصيته. وصحح الرواية الأولى في العتق في المرض. والثانية في التدبير.
فصل:
وإذا كان العبد لثلاثة، لأحدهم نصفه، وللآخر ثلثه، وللثالث سدسه، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معاً، وهما موسران، عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه بالسوية، لأن التقويم المستحق بالسراية، يسقط على عدد الرؤوس، كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل، جرحه أحدهما جرحاً، والآخر عشرة، ويكون ولاؤه بينهما أثلاثاً، لصاحب النصف ثلثاه، ولصاحب السدس ثلثه، ويحتمل أن يقوم عليهما(2/323)
على قدر ملكيهما، لأنه يستحق بالملك، فكان على قدره، كالشفعة، فيكون ولاؤه بينهما أرباعاً.
فصل:
وإذا كان العبد لثلاثة، فأعتقوه معاً، أو وكل نفسان الثالث، فأعتق حقهما مع حقه، أو أعتقه كل واحد منهم وهو معسر، عتق على كل واحد حقه منهم، وولاؤه بينهم أثلاثاً، وإن أعتقه الأول وهو معسر، وأعتقه الثاني وهو موسر، عتق عليه نصيبه ونصيب شريكه، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول، وثلثاه للمعتق الثاني. وإن قال اثنان منهم للثالث: إذا أعتقت نصيبك فنصيبنا حر، فأعتق نصيبه وهو معسر عتق كله عليه، وقوم عليه نصيب شريكيه، وولاؤه له دونهما، ويحتمل أن يعتق نصيبهما عليهما، لأن إعتاق نصيبهما يتعقب إعتاق نصيبه، ولا تسبقه السراية، وإن كان معسراً، عتق عليه نصيبه خاصة، وعتق نصيب صاحبيه بالشرط، وولاؤه بينهم أثلاثاً، سواء اتفقا في القول، أو سبق به أحدهما، لأن الوقوع بوجود الشرط، وقد استويا فيه، وإن قالا له: إذا أعتقت نصيبك، فنصيبنا حر مع نصيبك، فأعتق نصيبه، عتق نصيب كل واحد على مالكه، لأن عتقه وقع في حالة واحدة.
فصل:
فأما العتق بالملك، فإن من ملك ذا رحم محرم، عتق عليه بمجرد ملكه، لما روى سمرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ملك ذا رحم محرم، فهو حر» رواه أبو داود ولأنه ذو رحم محرم فعتق عليه إذا ملكه الولد.
وعنه: لا يعتق عليه، إلا عمودا النسب، بناء على أن نفقة غيرهم لا تجب. وإن ملك بعض من يعتق عليه بسبب غير الميراث، فهو كإعتاقه له في تقويم باقيه عليه مع اليسار، وبقائه على الرق مع الإعسار، لأنه عتق بسبب من جهته، فأشبه إعتاقه بالقول. وإن ملكه بالإرث، لم يعتق منه إلا ما ملك، موسراً كان أو معسراً، لأنه لا اختيار له في إعتاقه، ولا سبب من جهته. ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يعتق نصيب الشريك إذا كان موسراً، لأنه ملك بعضه، أشبه البيع. وإذا ملك ولده من الزنا، لم يعتق عليه على ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأنه لا تجب عليه نفقته، ويحتمل أن يعتق عليه، لأنه ولد يحرم نكاحه، فعتق، كولد الرشيدة.
فصل:
وإن وهب لصبي من يعتق عليه، أو وصي له به، وكان بحيث لا يجب على الصبي نفقته لكون الصبي معسراً، أو الموهوب صحيحاً كبيراً. إذا كسب وجب على(2/324)
الولي قبول الهبة والوصية، لأن فيه نفعاً للصبي، وجمالاً بحرية قريبه من غير ضرر. وإن كان بحيث تلزمه نفقته، لم يكن له قبوله، لأن فيه ضرراً بإلزامه نفقته. وإن وهب له جزء ممن يعتق عليه، وكان ممن لا تجب نفقته، ففيه وجهان مبنيان على أنه: هل يقوم على الصبي باقيه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقوم عليه باقيه، لأنه يدخل في ملكه بغير سبب من جهته، أشبه الإرث، فعلى هذا يلزم وليه قبوله، لما فيه من النفع الخالي على الضرر.
والثاني: يقوم عليه، لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله، كما لو قبل وكيل البالغ، فعلى هذا لا يملك قبوله. فإن قبل في موضع لا يملك القبول، لم يصح، ولا يملك الولي شراء من يعتق على الصبي، لأنه إذا لم يملك قبول الهبة التي لا عوض فيها، فالبيع أولى.
فصل:
وإذا أعتق في مرضه عبيداً لا مال له غيرهم، أو دبرهم، أو أوصى بعتقهم، أو دبر أحدهم وأوصى بعتق الباقين، لم يعتق منهم إلا الثلث، إلا أن يجيز الورثة، فيقرع بينهم بسهم حرية، وسهمي رق، فمن خرج له سهم حرية، عتق ورق الباقون، لما روى عمران بن حصين: «أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم، فجزأهم رسول الله ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» . أخرجه مسلم.
وإن كان عليه دين يستغرقهم، لم يعتق منهم شيء، لأن عتقهم وصية، وقد «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الدين قبل الوصية» . وإن كان يستغرق بعضهم، عتق من باقيهم ثلثه، فيقرع بينهم لإخراج الدين، ثم يقرع بينهم لإخراج الحرية، فإن كان الدين يستغرق نصفهم، جزأناهم جزأين، وأقرعنا بينهم بسهم دين، وسهم تركة، فمن خرج له سهم الدين، بيع فيه، ثم يقرع بين الباقين بسهم حرية، وسهمي رق كما ذكرنا.
فصل:
ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم، فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم، بعناهم فيه، لما ذكرنا. فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين ونجيز العتق، احتمل أن لهم ذلك، لأن المانع إنما هو الدين، فإذا قضي زال المانع، فثبت العتق، واحتمل أنه ليس لهم ذلك، لأن الغرماء تتعلق حقوقهم بالتركة، فلم يملك الورثة إبطالها بالقول، لكن إذا قضوا الدين فلهم استئناف العتق. وإن أعتقنا بعضهم بالقرعة، ثم ظهر عليه دين يستغرق بعضهم، احتمل أن يبطل العتق في الجميع، كما لو اقتسم الشركاء، ثم ظهر لهم شريك ثالث، واحتمل أن يبطل بقدر الدين، لأن بطلانه لأجل الدين، فيقدر بقدره، ولو(2/325)
أعتقهم فأعتقنا منهم واحداً يعجز ثلثه عن أكثر منه، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه، تبينا أن الباقين كانوا أحراراً من حين أعتقهم، فيكون كسبهم لهم، لأنهم يخرجون من الثلث.
فصل:
فإن مات بعضهم، أقرعنا بينهم، فإن خرجت لميت حسبناه من التركة، وقومناه حين العتق، لأنه خرج بذلك من التركة. وإن خرجت لحي، نظرنا في الميت، فإن مات في حياة المعتق أو بعدها قبل قبض الوارث، لم يحسب من التركة، لأنه لم يصل إلى الوارث، فيكون لتركة الحيين، فيكمل ثلثهما ممن وقعت عليه القرعة، وتعتبر قيمته حين إعتاقه، لا حين إتلافه. وحكى أبو الخطاب عن أبي بكر أن الميت يحسب من التركة، ويعتق من تقع عليه القرعة إن خرج من الثلث، لأننا حسبناه من التركة إذا وقعت القرعة له، فكذلك إذا وقعت لغيره. فإن مات بعد قبض الوارث، حسب من التركة، لأنه وصل إليه.
فصل
قال أحمد: بأي شيء خرجت القرعة، وقع الحكم به، سواء كانت رقاعاً أو خواتيم، وذلك لأن الشرع ورد بالقرعة، ولم يرد بكيفيتها، فوجب ردها إلى ما يقع عليه الاسم مما تعارفه الناس، والأحوط أن تقطع رقاع متساوية يكتب في كل رقعة اسم ذي السهم، ثم يجعل في بنادق طين، أو شمع، متساوية، ثم يغطى بثوب، ويقال لرجل: أدخل يدك، فأخرج بندقة، فيفضها، ويعلم ما فيها، فإن كان القصد عتق الثلث، جزأ العبيد ثلاثة أجزاء، فإن أمكن تجزئتهم بالعدد والقيمة، كستة أعبد قيمتهم متساوية، جعلنا كل اثنين جزءاً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم. وإن كانت قيمتهم مختلفة، إلا أننا إذا ضممنا قليل القيمة إلى كثيرها، صار أثلاثاً، فعلنا ذلك. وإن أمكن تعديلهم بالقيمة دون العدد، كستة قيمة أحدهم الثلث، وقيمة اثنين الثلث، وقيمة ثلاثة الثلث، جزأناهم بالقيمة. وإن لم يمكن تعديلهم بقيمة ولا عدد، كثمانية أعبد قيمتهم مختلفة، أو متساوية، احتمل أن لا نجزئهم، بل نخرج قرعة الحرية لواحد واحد، حتى يستوفى الثلث، واحتمل أن نقارب بينهم، ونجزئهم ثلاثة أجزاء، فنجعل ثلاثة جزءاً، وثلاثة جزءاً، واثنين جزءاً، فإن خرجت القرعة على زائد على الثلث، أقرعنا بين ما وقعت لهم القرعة، فكملنا الحرية في بعضهم، وتممنا الثلث من الباقين. وإن وقعت على ما دون الثلث، عتقوا، وأعدنا القرعة لتكميل الثلث من الباقين. وإن أعتق عبدين، قيمة أحدهما مثلا قيمة الآخر، أقرعنا بينها بسهم حرية، وسهم رق، فإن وقع سهم الحرية للأدنى عتق، وإن وقع للأكثر عتق نصفه. فإن كانت قيمة أحدهما مائتين، والآخر(2/326)
ثلاثمائة، جمعنا قيمتهما، ثم أقرعنا بينهما، فمن خرج له سهم الحرية، ضربنا قيمته في ثلاثة، ونسبنا قيمتها إلى المرتفع بالضرب، فما خرج من النسبة، عتق من العبد قدره، فإذا وقعت على الذي قيمته مائتان، ضربناه في ثلاثة، صار ستمائة، ونسبنا قيمتهما إلى ذلك، نجدها خمسة أسداسه، فيعتق منه خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر، عتق منه خمسة أتساعه لذلك، وهكذا نصنع في أمثال ذلك.
فصل
إذا أعتق الأمة وهي حامل، عتق جنينها، لأنه يتبعها في البيع والهبة، ففي العتق أولى، فإن استثنى جنينها، لم يعتق، لما روي عن ابن عمر: أنه أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، ولأنها ذات حمل، فصح استثناء حملها، كما لو باع نخلة لم تؤبر، واشترط ثمرتها. وقال القاضي: يخرج على الروايتين فيما إذا استثنى ذلك في البيع، والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه. وإن أعتق جنينها وحده، لم تعتق هي، لأنها ليست تابعة له، فلا تعتق بعتقه، كما لو أعتقه بعد الولادة.
فصل
وإذا كان العبد بين شريكين، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه، لم يخل من أحوال ثلاثة:
أحدهما: أن يكونا موسرين فيصير العبد حراً، لاعتراف كل واحد منهما بحريته بإعتاق شريكه، ويبقى كل واحد منهما يدعي على شريكه قيمة حقه منه، فإن لم يكن بينة، حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئ. وإن نكل أحدهما، قضي عليه. وإن نكلا جميعاً، تساقطا حقاهما، ولا ولاء على العبد، لأنه لا يدعيه أحد. فإن اعترف به أحدهما بعد ذلك، ثبت له، سواء كانا عدلين أو فاسقين.
الحال الثاني: أن يكونا معسرين، فلا يقبل قول كل واحد منهما على صاحبه، لأنه لا اعتراف فيه بالحرية، لعدم السراية في إعتاق المعسر، فإن كانا فاسقين، فلا عبرة بقولهما. وإن كانا عدلين، فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما، ويصير حراً، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً. فإن كان أحدهما عدلاً، والآخر فاسقاً، فله أن يحلف مع العدل. هذا إذا قلنا: إن الحرية تثبت بشاهد ويمين، ولا ولاء لواحد منهما أيضاً، لأنه لا يدعيه.
الحال الثالث: أن يكون أحدهما موسراً، والآخر معسراً، فيعتق نصيب المعسر وحده، لاعترافه بحريته، لأنه يعترف بعتق الموسر الذي يسري إلى نصيبه، ويبقى نصيب الموسر رقيقاً، لأنه إنما اعترف بإعتاق شريكه الذي لا يسري، فلا يؤثر. فإن كان المعسر عدلاً، فللعبد أن يحلف مع شهادته، ويصير حراً إذا قلنا: إن الحرية تثبت بشهادة ويمين.(2/327)
فصل
وإن ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران، أو المدعى عليه موسر وحده، عتق نصيب المدعي وحده، لاعترافه بحريته، وبقي نصيب المدعى عليه رقيقاً. وإن كانا معسرين، أو المدعى عليه معسراً، لم يعتق منه شيء. فإن اشترى المدعي نصيب صاحبه، عتق ولم يسر إلى نصيبه، لأن عتقه باعترافه بحريته، لا بإعتاقه.
فصل
إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهداً، حلف مع شاهده، وصار حراً في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يثبت ذلك بشاهد ويمين، لأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، فأشبه الطلاق.
فصل
إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة، فاعترف كل واحد منهما بعتق أحد العبدين، عتق من كل واحد ثلثه، ولكل واحد من الابنين سدس العبد الذي اعترف بعتقه، ونصف الآخر، لأنه يزعم أن ثلثي العبد الذي اعترف بعتقه حر، ويبقى ثلثه لكل واحد منهما سدسه. وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما، أقرعنا بينهما، فإن وقعت القرعة على الآخر، عتق من كل واحد ثلثه، كالتي قبلها، لأن القرعة قائمة مقام تعيينه. وإن وقعت على الذي اعترف أخوه بعتقه، عتق ثلثاه، إلا أن يجيزا عتقه كاملاً، وصار كالمتفق على عتقه.
[باب تعليق العتق بالصفة]
ويجوز تعليق العتق بصفة، نحو قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، أو: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حر، لأنه عتق بصفة، فجاز، كالتدبير، ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها، لأنه حق علق على شرط، فلا يثبت قبله، كالجعل في الجعالة. وإن قال ذلك في مرض موته، اعتبر من الثلث، لأنه لو أعتقه، اعتبر من الثلث، فإذا عقده، كان أولى، فإن قال في الصحة فهو من رأس المال، سواء وجدت الصفة في الصحة أو المرض، لأنه غير متهم بالإضرار بالورثة في تلك الحال. وقال أبو بكر: إن وجدت الصفة في المرض، فهو من الثلث، لأن حق الورثة قد تعلق بالثلثين، فلم ينفذ إعتاقه فيهما، كما لو نجز العتق. وإن مات السيد قبل وجود الصفة، بطلت، لأن ملكه يزول بموته، فيبطل تصرفه بزواله. وإن قال: إن دخلت الدار بعد موتي، فأنت حر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تنعقد هذه الصفة، لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد زوال ملكه،(2/328)
فلم تصح، كما لو قال: إن دخلت الدار بعد بيعي إياك، فأنت حر.
والثانية: تنعقد، لأنه إعتاق بعد الموت فصح، كما لو قال: أنت حر بعد موتي.
فصل
وإن علق عتق أمته على صفة وهي حامل، تبعها ولدها في ذلك، لأنه كعضو من أعضائها. فإن وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت، عتق الولد، لأنه تابع في الصفة، فأشبه ما لو كان في البطن. وإن علق عتقها وهي حائل، ثم وجدت الصفة وهي حامل، عتقت هي وحملها، لأن العتق وجد فيها وهي حامل، فتبعها ولدها، كالعتق المطلق. وإن حملت ثم ولدت، ووجدت الصفة، لم يعتق الولد، لأن الصفة لم تتعلق به. وفيه وجه آخر: يتبعها قياساً على ولد المدبرة. وإن بطلت الصفة ببيع أو موت. لم يعتق الولد، لأنه إنما يتبعها في العتق، لا في الصفة. فإذا لم توجد فيها، لم توجد فيه، بخلاف ولد المدبرة، فإنه يتبعها في التدبير. فإذا بطل فيها، بقي فيه.
فصل
وإذا علق العتق بصفة، لم يملك إبطالها بالقول، لأنه كالنذر، ويملك ما يزيل الملك فيه من البيع وغيره. فإذا باعه ثم اشتراه، فالصفة بحالها، لأن التعليق والصفة وجدا في ملكه، فعتق، كما لو لم يزل الملك، فإن وجدت الصفة بعد زوال الملك، ثم اشتراه، فهل تعود الصفة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا تعود، لأنها انحلت بوجودها في ملك المشتري، فلم تعد، كما لو انحلت بوجودها في ملكه.
والثانية: تعود، لأنه لم توجد الصفة التي يعتق بها، فأشبه ما لو عاد إلى ملكه قبل وجود الصفة، ولأن الملك مقدر بالصفة، فكأنه قال: إذا دخلت الدار وأنت في ملكي، فأنت حر، ولم يوجد ذلك.
فصل
وإن علق العتق على صفة قبل الملك فقال لعبد أجنبي: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم ملكه ودخل الدار، لم يعتق، لأنه لا يملك تنجيز العتق، فلا يملك تعليقه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا عتق قبل ملك» رواه أبو داود الطيالسي. وإن قال: إن(2/329)
ملكتك فأنت حر. أو ملكت فلاناً، فهو حر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يعتق لذلك.
والثانية: يعتق إذا ملكه، لأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه فيه، فأشبه ما لو كان التعليق في ملكه. وإن قال الحر: كل مملوك أملكه، فهو حر، ففيه روايتان، لما ذكرنا. وإن قال ذلك العبد، ثم عتق وملك، فهل يعتق عليه؟ على وجهين:
أحدهما: يعتق عليه، كالحر.
والثاني: لا يعتق عليه، لأن العبد لا يملك، فلا يصح منه التعليق. ولو قال الحر: آخر مملوك أشتريه، فهو حر، وقلنا بصحة التعليق، فمتى مات، تبينا حصول الحرية لآخر مملوك اشتراه من حين الشراء فيكون اكتسابه له. فإن أشكل الآخر منهم، أقرع بينهم، لإخراج الحر، وكذلك لو قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ابنين، أقرع بينهما إذا أشكل أولهما خروجاً.
[باب التدبير]
ومعناه: تعليق الحرية بالموت: وصريحه: أنت حر أو عتيق، بعد موتي، أو أنت مدبر، أو قد دبرتك، لأن هذا اللفظ موضوع له، فكان صريحاً فيه، كلفظ العتق في الإعتاق، وهو مستحب، لأنه يقصد به العتق، ويعتبر من الثلث، لأنه تبرع بالمال بعد الموت، فهو كالوصية، ونقل عنه حنبل أنه من رأس المال، وليس عليه عمل، وذكر أبو بكر أنه كان قولاً قديماً، وربما رجع عنه.
فصل
ويجوز مطلقاً ومقيداً، فالمطلق كما ذكرنا، والمقيد نحو أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو في هذا البلد، فأنت حر، لأنه تعليق على صفة، فجاز مطلقاً ومقيداً. والمقيد: كتعليقه على دخول الدار. وإن قال: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي، جاز، لأنه تعليق على صفة، فجاز تعليقه على صفة أخرى، كما ذكرنا. فإن دخل الدار(2/330)
في حياة السيد، فهو مدبر، وإن لم يدخل حتى مات، بطلت الصفة بالموت، لأنه يزول به الملك، ولم يوجد التدبير، لعدم شرطه.
فصل
ويجوز تدبير المعلق عتقه على صفة وتعليق عتق المدبر على صفة، لأن التدبير تعليق على صفة، فلا يمنع التعليق على صفة أخرى، كغيره من الصفات، فإن وجدت إحداهما، عتق وبطلت الأخرى، لزوال الرق قبل وجودها. ويجوز تدبير المكاتب، كما يجوز تعليق عتقه على صفة، وتجوز كتابة المدبر، كما يجوز أن يبيعه نفسه. فإذا كاتبه ودبره، فأدى كتابته قبل موت سيده، عتق وبطل التدبير. فإن مات السيد قبل الأداء، عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي من كتابته، وبطلت الكتابة. وإن لم يحمله الثلث، عتق منه قدر الثلث، وسقط من مال الكتابة بقدر ما عتق، وهو على الكتابة فيما بقي، وما في يده من الكسب له في الحالين، لأنه كان مملوكاً له ولم يوجد ما يخرجه عن يده، فبقي له، كما لو أبرأه من مال الكتابة، ويحتمل أن تكون كتابة المدبر رجوعاً في تدبيره، إن قلنا: إنه يملك إبطاله بالرجوع فيه، ولا يصح تدبير أم الولد، لأنها تستحق العتق بموت سيدها، بسسب مؤكد، فلا يفيد التدبير. ولو استولد المدبرة، بطل تدبيرها لذلك.
فصل
ويجوز بيع المدبرة، لما روى جابر بن عبد الله «أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر منه، ولم يكن له مال غيره، فاحتاج. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يشتريه مني؟ فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه وقال: أنت أحوج منه» رواه البخاري ومسلم والنسائي. ولأنه إما وصية، وإما تعليق على صفة، وأيهما كان، لم يمنع البيع. وعن أحمد أنه لا يباع إلا في الدين، أو حاجة صاحبه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما باعه لحاجة صاحبه.
وعنه: لا يجوز بيع المدبرة خاصة، لأن بيعها إباحة فرجها، والحكم في هبته ووقفه، كالحكم في بيعه واكتسابه ومنافعه. وأرش الجناية عليه لسيده، لأنه كالقن. وإن جنى فسيده بالخيار بين فدائه أو تسليمه للبيع، كالقن. فإن مات السيد قبل ذلك، عتق، وأرش جنايته في تركته، لأنه عتق من جهته، فتعلق الأرش بماله كالمنجر. وإن كانت الجناية لا تستغرق قيمته، فبيع بعضه فيها، فباقيه باق على التدبير، لأن المانع اختص ببعضه، فوجب أن يختص المنع به.
فصل
فإذا زال ملكه عن المدبر، ببيع أو غيره، ثم عاد إليه، رجع التدبير بحاله، لأنه(2/331)
علق العتق بصفة، فلم تبطل بالبيع، كالتعليق بدخول الدار. وفيه وجه آخر: أنه يبطل بالبيع، لأنه وصية، فبطل بالبيع، كالوصية له بمال.
فصل
ولو دبره، ثم قال: قد رجعت في تدبيري، أو أبطلته، لم يبطل، لأنه تعليق بصفة، فأشبه تعليقه بدخول الدار.
وعنه: يبطل، لأنه تصرف معلق بالموت يعتبر من الثلث، فأشبه الوصية. وإن قال للمدبر: إن أديت إلى ورثتي ألفاً، فأنت حر، فهو رجوع، لأنه وقفه على أداء ألف، وذلك مناف للتدبير، فأشبه قوله: رجعت في تدبيري. والصبي كالبائع في هذا، لأنه مثله في التدبير، فكان مثله في الرجوع فيه.
فصل
وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه، لم يسر إلى نصيب شريكه، لأنه تعليق للعتق بصفة، أو وصية، وكلاهما لا يسري، ويحتمل أن يضمن ويصير كله مدبراً له، لأنه سبب يوجب العتق بالموت فسرى، كالاستيلاد. فإن أعتق الآخر نصيبه، سرى العتق إلى جميعه، وقوم عليه نصيب شريكه، لحديث ابن عمر. ويحتمل أن لا يسري العتق فيه، إذا قلنا: إنه يجوز بيعه.
فصل
وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها، فولدها بمنزلتها، لأنها تستحق الحرية بالموت، فيتبعها ولدها، كأم الولد. ولا يتبعها ولدها الموجود قبل التدبير، لأنه لا يتبع في حقيقة العتق، ففي تعليقه أولى. وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى: أنه يتبعها في التدبير. وإن دبر عبده، ثم أذن له في التسري، فولد له ولد، لم يكن مدبراً، لأن أمه غير مدبرة.
وعنه: أنه يصير مدبراً، لأنه ولده من أمته فيتبعه، كولد الحر. وإذا صار الولد مدبراً لتدبير أمه، فبطل تدبيرها لبيعها، والرجوع في تدبيرها، لم يبطل في ولدها، لأنه استحق الحرية، فلم يبطل حقه، لمعنى وجد في غيره، كما لو باشره بالتدبير.
فصل
ويصح تدبير الصبي المميز والسفيه، لما ذكرنا في صحة وصيتهما. ويصح تدبير الكافر، لأنه يصح إعتاقه. فإن أسلم مدبره، أمر بإزالة ملكه عنه، لأن الكافر لا يمكن من استدامة الملك على مسلم، مع إمكان بيعه. وفيه وجه آخر: أنه لا يباع، لأنه استحق الحرية بالموت، فأشبه أم الولد إذا أسلمت، ولكن تزال يده عنه، وينفق عليه من كسبه.(2/332)
فإن لم يكن ذا كسب، فنفقته على سيده، كأم الولد إذا أسلمت. وإن دبر المرتد عبده، كان تدبيره موقوفاً، كسائر تصرفاته، فإن أسلم، تبينا صحة تدبيره. وإن مات على الردة، تبينا بطلانه.
وعنه: أن ملكه يزول بنفس الردة، فيكون تدبيره باطلاً، وهذا قول أبي بكر. وإن ارتد بعد التدبير وقتل بردته، أو مات، بطل التدبير، لأن ملكه زال في حياته. وإن رجع صح تدبيره، لأنا تبينا بقاء ملكه، أو رجوعه إليه بإسلامه بعد زواله.
فصل
فإذا ادعى العبد أن سيده دبره، فأنكر، فالقول قول السيد مع يمينه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم، والبخاري بمعناه. فإن أقام العبد بينة، ثبت تدبيره. وهل يكفي شاهد ويمين، أو رجل وامرأتان، أم لا يكفي إلا رجلان؟ على روايتين، كما ذكرنا في العتق، ويتخرج أن لا تسمع دعوى العبد بناء على أن السيد له الرجوع في التدبير. وهل يكون إنكار التدبير رجوعاً عنه؟ على وجهين، بناء على الوصية.
فصل
وإن قتل المدبر سيده، بطل تدبيره، لأنه استحقاق علق بالموت من غير فعل، فأبطله القتل، كالإرث والوصية.
[باب الكتابة]
وهو مندوب إليها في حق من يعلم فيه خيراً، لقول الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] يعني: كسباً وأمانة، في قول أهل التفسير.
وعنه: رواية أخرى أنها واجبة، إذا دعا العبد الذي فيه خير سيده إليها، لظاهر الآية، ولأن عمر أجبر أنساً على كتابة سيرين، والأول ظاهر المذهب، لأنه إعتاق بعوض، فلم يجب كالاستسعاء، والآية محمولة على الندب، وقول عمر يخالفه فعل أنس، فأما من لا كسب له، ففيه روايتان:
إحداهما: تكره كتابته، لأنه يصير كلاً على الناس.
والثانية: لا تكره، لعموم الأخبار في فضل الإعتاق. وإذا دعا هذا سيده إلى(2/333)
الكتابة لم يجبر، رواية واحدة. وإن دعا السيد عبده إلى الكتابة، لم يجبر عليها، لأنه إعتاق على مال، لم يجبر عليه كغير الكتابة.
فصل
ولا تنعقد إلا بالقول، وتنعقد بقوله: كاتبتك على كذا، لأنه لفظها الموضوع لها، فانعقدت به، كلفظ النكاح فيه. ويحتمل أن يشترط أن يقول: إذا أديت إلي، فأنت حر، لأنه إعتاق معلق على شرط، فاعتبر ذكره، والأول أولى.
فصل
ولا تصح إلا من جائز التصرف، مسلماً كان أو كافراً، لأنها تصرف في المال، فأشبهت البيع. فأما المميز من الصبيان، فيصح أن يكاتب عبده بإذن وليه، ولا يصح بغير إذنه، كما في بيعه، ويحتمل أن لا تصح بحال، لأنه إعتاق. وإن كاتب السيد عبده المميز، صح، لأن إيجاب سيده له إذن منه في قبولها. وإن كاتب عبده المجنون أو الطفل، فهو عقد باطل، وجوده كعدمه، إلا أن القاضي قال: يعتق بالأداء، لأن الكتابة تعليق الحرية بالأداء، فإن بطلت الكتابة كان عتقهما بحكم الصفة المحضة، وقال أبو بكر: لايعتق، لأن الكتابة ليست بصفة، ولا يعتبر ذكر الصفة فيها بحال.
فصل:
ولا تصح إلا على عوض، لأنها عقد معاوضة، فأشبه البيع. ومن شرطه أن يكون مؤجلاً، لأن جعله حالاً يفضي إلى العجز عن أدائه، وفسخ العقد بذلك، فيفوت المقصود. وأن يكون منجماً نجمين فصاعداً في قول أبي بكر، وظاهر كلام الخرقي، لأن علياً قال: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني. وقال ابن أبي موسى: يجوز جعل المال كله في نجم واحد، لأنه عقد شرط فيه التأجيل، فجاز على نجم واحد، كالسلم، ولأن القصد بالتأجيل إمكان التسليم عنده، ويحصل ذلك في النجم الواحد، والأحوط نجمان فصاعداً. ويجب أن تكون النجوم معلومة، ويعلم في كل نجم قدر المؤدى، وأن يكون العوض معلوماً بالصفة، لأنه عوض في الذمة، فوجب فيه العلم بذلك، كالسلم، ولا تصح إلا على عوض يصح السلم فيه، لما ذكرنا. وذكر القاضي: أنه يحتمل أن يصح على عوض مطلق، بناء على قوله في النكاح والخلع، والصحيح ما قدمنا.
فصل:
وتجوز الكتابة على المنافع، لأنها تثبت في الذمة بالعقد، فجازت الكتابة عليها، كالمال، وتجوز على مال أو خدمة، لأن كل واحد منهما، يصح أن يكون عوضاً(2/334)
منفرداً، فصح في الآخر، كالمالين. فإن كاتبه على خدمة شهر، أو شهرين متواليين، فهو كالنجم الواحد، لأنها مدة واحدة، فإن قال: على أن تخدمني شهراً، ثم تخدمني عقيبه شهراً آخر، صح، لأنهما نجمان. وإن قال: على خدمة شهر ودينار بعده بيوم، صح، لأنهما نجمان. فإن جعل الدينار مع انقضاء الشهر، أو في أثنائه، صح، لأن الخدمة بمنزلة العوض الحال، فصار كالأجلين، ويحتمل أن لا يصح، لأنهما في مدة واحدة فكانا نجماً واحداً. وإن جعل الدينار حالاً، عقيب العقد، لم يصح، لأنه عوض حال معجوز عنه، بخلاف الخدمة، فإنها وإن كانت في منزلة الحال، فهو قادر عليها.
فصل:
والكتابة عقد لازم لا يملك العبد فسخها بحال.
وعنه: أنه يملكه، ولا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب، لأنه أسقط حقه منه بالعوض، فلم يملك ذلك قبل العجز عنه، كالبيع. وللعبد الامتناع من الأداء، لأنه جعل شرطاً في عتقه، فلم يلزمه، كدخول الدار. ولا تبطل بموت السيد، ولا جنونه، ولا الحجر عليه، ولا جنون العبد لأنه عقد لازم، فأشبه البيع، وينتقل بموت السيد إلى ورثته، لأنه مملوك لمورثهم فانتقل إليهم، كالقن. فإذا أدى إليهم، عتق، وولاؤه لمكاتبه، لأن السبب وجد منه، ولا يجوز شرط الخيار في الكتابة، لأن الخيار شرع لدفع الغبن عن المال، والسيد دخل على بصيرة: أن الحظ لعبده، فلا معنى للخيار. وإن اتفقا على الفسخ، جاز، لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال، فجاز فسخه بالتراضي، كالبيع.
فصل:
ويجوز بيع المكاتب، لأن «بريرة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني على كتابتي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: اشتريها» متفق عليه، ولأنه سبب يجوز فسخه، فلم يمنع البيع كالتدبير.
وعنه: لا يجوز بيعه، لأن سبب العتق ثبت له في كل وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع، كالاستيلاد. والأول أظهر، فإن باعه لم تبطل الكتابة، لأنها عقد لازم، فلم تبطل ببيعه كالنكاح، ويكون في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته، فإذا أدى عتق، وولاؤه له، وإن عجز فله الفسخ، ويعود رقيقاً له، لأن البائع نقل ماله من الحق فيه إلى المشتري فصار بمنزلته، وإن لم يعلم المشتري أنه مكاتب، فله الخيار بين فسخ البيع، وأخذ ما بينه سليماً ومكاتباً، لأنه عيب، فأشبه سائر العيوب، والحكم في هبته والوصية به، كالحكم في بيعه، لأنه نقل للملك فيه. ولا يجوز وقفه، لأنه معرض(2/335)
لزوال الرق فيه، والوقف يجب أن يكون مستقراً.
فصل:
وإن اشترى المكاتب مكاتباً آخر، صح، سواء اشتراه من سيده، أو من أجنبي، لأن المشتري أهل للشراء، والمبيع محل له، فصح، كما لو اشترى عبداً. فإن عاد المبيع فاشترى سيده، لم يصح، لأنه لا يصح أن يملك مالكه، والله أعلم.
[باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه]
يملك المكاتب اكتساب المال بالبيع، والإيجار والأخذ بالشفعة، وأخذ الصدقة، والهبة، وكسب المباحات، والسفر، لأنه من أسباب الكسب، وهو مع المولى كالأجنبي في ضمان المال، وبذل المنافع، وأرش الجنايات، وجريان الربا بينهما، لأنه صار بما بذله من العوض كالحر، وقال ابن أبي موسى: لا ربا بينهما، لأنه ملك لسيده. قال أصحابنا: ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته، لأن مال الكتابة ليس بمستقر، ولذلك لا يصح ضمانه، فليس بدين صحيح، فكأن السيد أخذ بعضاً، وأسقط بعضاً.
فصل:
ويملك التصرف في المال بما يعود لمصلحته ومصلحة ماله، فيجوز أن ينفق على نفسه، لأن هذا من أهم مصالحه، وعلى رقيقه، وحيواناته، وله أن يفدي نفسه ورقيقه في الجناية،
لأن فيه مصلحته
، وله أن يختن غلامه ويؤدبه، لأنه صلاح للمال، وله أن يقتص من الجناية عليه، وعلى رقيقه، ويأخذ الأرش، لأن فيه مصلحته، وذكره القاضي. وقال أبو بكر وأبو الخطاب: لا قصاص له في جناية بعض رقيقه على بعض، لأن فيه إتلاف المال على سيده.
فصل:
وليس له إقامة الحد على رقيقه، لأن طريقه الولاية، والمكاتب ليس من أهل الولاية، وليس له أن يتصدق ولا يتبرع، ولا يعتق الرقيق، ولا يحج بماله، ولا يهب ولا يحابي، ولا يبرئ من الدين، ولا يكفر بالمال، ولا ينفق على أقاربه، ولا يقرض، ولا يسرف في النفقة على نفسه، لأن حق السيد متعلق بإكسابه، فإنه ربما عجز فصار إلى سيده. وإن كانت أمة مزوجة، لم يملك بذل العوض في خلعها، ولا تعجيل قضاء دين مؤجل، لأنه تبرع يمنع التصرف في المال من غير حاجة إليه. وإن كان مكاتباً بين نفسين، لم يكن له تقديم حق أحدهما، لأن ما يقدمه يتعلق به حق الآخر، ولا يملك(2/336)
فداء جناية، أو جناية رقيقه بأكثر من قيمته، لأن الفداء كالابتياع. ولا يملك التزويج ولا التسري، لأنه تلزمه النفقة والمهر في التزويج، ولا يأمن حبل الأمة، فتتلف بالولادة. وما فعل من هذا كله بإذن سيده. جاز. لأن المنع لأجله، فجاز بإذنه، كتصرف الراهن بإذن المرتهن، وإن وهب المولى أو أقرضه، أو حاباه أو فدى جنايته عليه بأكثر من أرشها، جاز لاتفاقهما عليه.
فصل:
وليس له التصرف إلا على وجه الحظ والاحتياط، لأن حق المولى متعلق باكتسابه فلا يبيع نسأً، وإن أخذ به رهناً، أو ضميناً، ويحتمل الجواز لما ذكرنا في المضارب. وإن باع ما يساوي مائة بمائة نقداً وعشرين نسيئة، جاز، لأنه لا ضرر فيه، وليس له أن يضارب بماله، لأنه يخاطر به، ولا يرهنه، لأنه يخرج ماله بغير عوض. وفيه وجه آخر: أنه يجوز له رهنه والمضاربة به، لأنه قد يرى الحظ فيه، بدليل أن لولي اليتيم فعله في مال اليتيم، فجاز، كإجارته.
فصل:
وإذا استولد أمته، صارت أم ولد له، لأنها علقت له في ملكه، وليس له بيعها، نص عليه وتكون هي وولدها منه موقوفين. إن عتق بالكتابة عتق الولد، وأمه أم ولد. وإن رق، رقا. وذكر القاضي في موضع آخر: أن الأمة لا تصير أم الولد، لأنها علقت بمملوك، وله بيعها، وليس له مكاتبة رقيقه، لأنه إعتاق. واختار القاضي: أن له ذلك، لأنه معاوضة فملكه كالبيع. وقال أبو بكر: إعتاقه وكتابته موقوفان. وإن أدى وهما في ملكه نفذا، وإلا بطلا، كالقول في ذوي أرحامه. والأول أصح، لأن العتق تبرع، فلم يصح كالهبة، ومن لا يصح إعتاقه لا تصح كتابته، كالمأذون، وليس له تزويج الرقيق. وحكي عن القاضي: أن له تزويج الأمة دون العبد، لأنه معاوضة، وقال أبو الخطاب: له تزويجهما إذا رأى المصلحة فيه، لأنه تصرف في الرقيق بما فيه المصلحة، فجاز، كختان العبد. والأول أصح، لأن في التزويج ضرراً في المال ونقصاً في القيمة، وليس هو من جهات المكاسب، قال القاضي: وله أن يشتري ذوي رحمه، لأنه لا ضرر على السيد فيهم، فإنه إن عجز فهم عبيد، وإن عتق، لم يضر السيد عتقهم وقال أبو الخطاب: ليس له شراؤهم، لأنه يبذل ماله فيما لا يجوز التصرف فيه، ويلزمه نفقته، لكن يصح أن يملكهم بالهبة والوصية، أو بالشراء بإذن السيد، وعلى كلا القولين إذا ملكهم لم يعتقوا بمجرد ملكه لهم، لأنه لا يملك إعتاقهم بالقول، فلا يحصل العتق بالملك القائم مقامه، ولا يملك بيعهم ولا إخراجهم عن ملكه، لأن من يعتق عليه ينزل منزلة جزئه، فلم يجز بيعه، كبعضه. فإن أدى عتق وكمل ملكه فيهم، فعتقوا حينئذ، وولاؤهم له(2/337)
دون سيده. وإن رق، رقوا ونفقتهم على المكاتب، لأنهم عبيده. وإن أعتقهم السيد لم يصح، لأنهم ليسوا عبيداً له. وإن اشترى المكاتب زوجته أو المكاتبة زوجها، صح، لأنه يملك التصرف فيه، وإذا ملك أحدهما صاحبه، انفسخ النكاح، لأنه لا يجتمع ملك اليمين وملك النكاح. ولو زوج ابنته من مكاتبه، فمات السيد قبل عتقه، انفسخ النكاح، لأنها لما ملكته أو جزأ من أجزائه، انفسخ النكاح، كما لو اشترته.
فصل:
وإن حبس المكاتب أجنبي عن التصرف، فعليه أجرة مثله، لأنه فوت منافعه، فلزمه عوضها، كالعبد وإن حبسه سيده، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تلزمه أجرة مثله، لما ذكرنا.
والثاني: لا يحتسب عليه بمدة الحبس، لأنه يلزمه تمكينه من التصرف مدة الكتابة، فإذا منعه لم يحتسب بها عليه.
والثالث: يلزمه أرفق الأمرين به، لأنه وجد سببهما، فكان للمكاتب أنفعهما، وإن قهره أهل الحرب فحبسوه، لم يلزم السيد إنظاره، لأن الحبس من غير جهته.
فصل:
وليس للسيد وطء مكاتبته من غير شرط، لأنه زال ملكه عن استخدامها، وأرش الجناية عليها، فلا يحل وطؤها كالمعتقة، وإن شرطه في عقد الكتابة صح الشرط، لأنه شرط منفعتها مع بقاء ملكه عليها، فصح، كما لو شرط خدمتها مدة، فإن وطئها مع الشرط، فلا مهر عليه، لأنه يملكه، فأشبه وطء أم ولده، وإن وطئها من غير شرط أدب، لأنه وطئ وطأً محرماً، ولا حد عليه، لأنها مملوكته، ولها عليه مهر مثلها، سواء أكرهها، أو طاوعته، لأنه عوض منفعتها، فوجب لها، كما لو استخدمها، وإن علقت منه، فالولد حر، لأنه ولده من أمته، ولا يلزمه قيمته لذلك، وتصير أم ولد له، لأنه أحبلها بجزء من ملكه، والكتابة بحالها، فإن أدت عتقت، وإن عجزت عتقت بموته، لأنها من أمهات الأولاد، وما في يدها لورثة سيدها، وإن مات السيد قبل عجزها، عتقت، لأنه اجتمع بها سببان يقتضيان العتق، فأيهما سبق عتقت به، وما في يدها لها، ذكره القاضي، لأن العتق إذا وقع في الكتابة، لا يبطل حكمها، ولأن الملك كان ثابتاً لها، والعتق لا يقتضي زواله عنها، فأشبه ما لو عتقت بالإبراء من مال الكتابة، وقال الخرقي وأبو الخطاب: ما في يدها لورثة سيدها، لأنها عتقت بحكم الاستيلاد، فأشبه غير المكاتبة، ولو أعتقها سيدها، أو عتقت بالتدبير، احتمل أن يكون كذلك،(2/338)
واحتمل أن يكون ما في يدها لها بكل حال، لأن إعتاقها برضى من المعتق، رضى منه بإعطائها مالها، بخلاف العتق بالاستيلاد.
فصل:
وولد المكاتبة من غير سيدها بعد كتابتها، بمنزلتها، لأنها استحقت الحرية بسبب قوي، فتبعها ولدها كأم الولد. وسواء حملت به بعد الكتابة، أو كانت حاملاً به عند كتابتها، ونفقته عليها، لأنه تبعها في حكمها، وكسبه لها لذلك، وإن قتل، فقيمته لها، لأنه بمنزلة جزئها، وبذل جزئها لها. فإن أعتقه السيد، نفذ عتقه. نص عليه، لأنه عبد له فصح عتقه، كأمه. فإن كان ولدها جارية، لم يملك السيد وطأها، لأنه لا يملك وطء أمها، وحكمها حكم أمها، وإن وطئها، فلا حد عليه للشبهة، وعليه مهرها، وحكمه حكم كسبها، وإن علقت منه، صارت أم ولد له بشبهة الملك، ولا يلزمه قيمتها، لأن القيمة تجب لمن يملكها، والأم لا تملك رقبتها، إنما هي موقوفة عليها، ويحتمل أن تلزمه قيمتها لأمها، كما لو قتلها، والحكم في وطء جارية المكاتبة، كالحكم في وطء بنتها، إلا أنه يلزمه قيمتها إذا أحبلها لمولاتها، لأنها مملوكتها. ووطء جارية المكاتب، كوطء جارية المكاتبة سواء.
فصل:
إذا كانت الأمة بين شريكين فكاتباها، ثم وطئها أحدهما، أدب ولا حد عليه، لشبهة الملك، وعليه المهر لها، لما قدمناه. فإن أولدها، فولده حر، وتصير أم ولد له، وعليه نصف قيمتها لشريكه، لأنه فوت رقها عليه. فإن كان موسراً أداه، وإن كان معسراً ففي ذمته، هذا ظاهر كلام الخرقي، لأن الإحبال أقوى من الإعتاق، بدليل نفوذه من المجنون، وتصير أم ولد للواطئ ومكاتبة له، كما لو اشترى نصفها من شريكه. وقال القاضي: إن كان الواطئ معسراً، لم يسر إحباله إلى نصيب الشريك، لأنه إعتاق، فلم يسر مع الإعسار، كالقول، ويصير نصفها أم ولد. فإن عجزت، استقر الرق في نصفها، وثبت حكم الاستيلاد لنصفها. وإن كان الواطئ موسراً، فنصفها أم ولد، ونصفها موقوف. إن أدت، عتقت. وإن عجزت، فسخت الكتابة، وقومت حينئذ على الواطئ، وصار جميعها أم ولد له، وأما الولد، فهو حر، ونسبه لاحق بالواطئ، وهل تجب نصف قيمته؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجب، لأنه كان من سبيله أن يكون عبداً، فقد أتلف رقه بفعله، فكان عليه نصف قيمته.
والثانية: لا تجب قيمته، لأنه انتقل نصيب شريكه إليه حين علقت به، ولا قيمة(2/339)
له في تلك الحال، فلم يضمنه. وقال القاضي: والرواية الأولى أصح على المذهب، ويكون الواجب لأمه إن كانت في الكتابة، لأنه بدل ولدها. وقال أبو بكر: إن وضعته بعد التقويم، فلا شيء على الواطئ، لأنها وضعته في ملكه، وإن كان قبله، غرم نصف قيمته.
فصل:
فإن وطئها الثاني بعد وطء الأول، وكانت باقية على الكتابة، فعليه المهر لها. وإن كانت قد عجزت وقومت على الأول، فالمهر له. وإن لم تقوم على الأول، فمهرها بينهما، فإن أولدها الثاني بعد الحكم بأنها أم ولد الأول، لم تصر أم ولد للثاني، وحكم ولدها حكمها، كما لو ولدت من أجنبي، وإن كان قبل الحكم بأنها أم ولد للأول، صار نصفها أم ولد للثاني، ونصفها أم ولد للأول.
فصل:
ويجب على السيدة إيتاء المكاتب من المال قدر ربع الكتابة، لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في هذه الآية: «يحط به الربع» أخرجه أبو بكر. وهذا نص. وروي موقوفاً على علي.
ويخير السيد بين وضعه عنه، وبين دفعه إليه، لأن الله تعالى نص على الدفع إليه، فنبه به على الوضع، لكونه أنفع من الدفع، لتحقق النفع به في الكتابة، فإن اختار الدفع، جاز به العقد، للآية. ووقت الوجوب بعد العتق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فإذا آتى ما عليه، عتق. وقال علي: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني، ويجب الإيتاء من جنس مال الكتابة، للآية. فإن اتفقا على غير ذلك، جاز، لأن الحق لهما، فجاز باتفاقهما. وإن مات السيد بعد العتق وقبل الإيتاء، فذلك دين في تركته يحاص به غرماؤه، لأنه حق لآدمي فلم يسقط بالموت، كسائر حقوقه.
[باب الأداء والعجز في الكتابة]
باب الأداء والعجز لا يعتق المكاتب حتى يبرأ من مال الكتابة، بالأداء أو الإبراء، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» رواه أبو داود. وقال أصحابنا: إذا أدى ثلاث أرباع كتابته وعجز عن الربع، عتق،(2/340)
لأنه حق له، فلا تتوقف حريته على أدائه، كأرش جناية سيده عليه. وإن أبرأه سيده، عتق لأنه لم يبق عليه شيء.
فصل:
وإن عجلت الكتابة قبل محلها وفي قبضها ضرر، لم يلزمه قبضه قبل محله، كالسلم. وإن لم يكن في قبضه ضرر، لزمه قبضه وعتق العبد، لأن الأجل حق لمن عليه الدين. فإذا رضي بإسقاط حقه، يجب أن يسقط كسائر الحقوق.
وعنه: لا يلزمه قبضه، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له، ولم يرض بزواله، فلم يزل، كما لو علق عتقه بمضي تلك المدة.
وعنه: أنه يعتق إذا ملك ما يؤدي، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. فعلى هذا إن امتنع من الأداء، أجبره الحاكم عليه.
فصل
وإذا حل نجم فعجز عن أدائه، فللسيد الفسخ، لأنه تعذر العوض في عقد معاوضة، ووجد عين ماله، فكان له الرجوع، كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل تقديمها.
وعنه: لا يعجز حتى يحل نجمان، لأن ما بينهما محل الأداء الأول، فلا يتحقق عجزه حتى يحل الثاني.
وعنه: لا يعجز حتى يقول: قد عجزت، وللسيد الفسخ بغير حاكم، لأنه مجمع عليه، أشبه الرد بالعيب. وإن امتنع العبد من الأداء مع إمكانه، فظاهر كلام الخرقي: أن للسيد الفسخ، وهو قول جماعة من أصحابنا، لأن التعذر حاصل بالامتناع، كحصوله بالعجز. وقال أبو بكر: ليس له الفسخ، لأنه أمكن الاستيفاء بإجباره على ذلك، وتعذر البعض كتعذر الجميع.
فصل:
وإن كان معه متاع يريد بيعه فاستنظره لبيعه، لزمه إنظاره، لأنه أمكن الاستيفاء من غير ضرر. ولا يلزمه إنظاره أكثر من ثلاث، لأنها قريبة، وإن كان له مال غائب، يرجو قدومه فيما دون مسافة القصر، فكذلك، وإن كان أبعد، لم يلزمه إنظاره، لأن فيه ضرراً. وإن كان له دين حال على مليء، أو في يد مودع، فهو كالغائب القريب. وإن كان على معسر، أو مؤجلاً، فهو كالبعيد. وإن حل النجم والمكاتب غائب بغير(2/341)
إذن سيده، فله الفسخ. وإن كان بإذنه، لم يفسخ، ويرفع الأمر إلى الحاكم ليكتب كتاباً إلى حاكم ذلك البلد، ليأمره بالأداء، أو يثبت عجزه عنده، فيفسخ حينئذ، وإن حل والمكاتب مجنون معه مال، فسلمه إلى المولى، عتق، لأنه قبض ما يستحقه، فبرئت به ذمة الغريم، فإن لم يكن معه شيء، فلسيده الفسخ. وإن فسخ ثم ظهر له مال، نقض الحكم بالفسخ، لأننا حكمنا بالعجز في الظاهر، وقد بان خلافه، فنقض، كما لو حكم الحاكم، ثم وجد النص بخلافه، وإن كان قد أنفق عليه بعد الفسخ، رجع بما أنفق، لأنه لم يتبرع به، بل أنفق على أنه عبده. وإن أفاق بعد الفسخ فأقام بينة أنه كان قد أدى، نقض الحكم بالفسخ، ولم يرجع السيد بالنفقة، لأنه تبرع بإنفاقه عليه، مع علمه بحريته.
فصل:
وإن أحضر المكاتب المال، فقال السيد: هذا حرام، وأنكر المكاتب ولا بينة، فالقول قول المكاتب مع يمينه، لأنه في يده، فالظاهر أنه له. فإذا حلف، خير المولى بين أخذه أو إبرائه من مال الكتابة. فإن لم يفعل قبضه الحاكم، لأنه حق تدخله النيابة. فإذا امتنع منه، قام الحاكم مقامه، وكذلك إن عجلت الكاتبة قبل محلها - وقلنا: يلزمه أخذه - فامتنع، قام الحاكم مقامه، وروي أن رجلاً أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إني كاتبت على كذا وكذا، وإني أيسرت بالمال، فأتيته بالمال، فزعم أنه لا يأخذه إلا نجوماً، فقال عمر: يا برفأ خذ هذا المال فاجعله في بيت المال، وأد إليه نجوماً في كل عام، وقد عتق هذا. رواه الأثرم.
فصل:
فإذا أدى المكاتب ظاهراً فبان مستحقاً، تبينا أنه لم يعتق، لأن العتق بالأداء، وما أدى. وإن علم بعد الموت، فتركته لمولاه أو ورثته، لأنه مات على الرق. وإن ظهر به عيب، فللسيد الرد والمطالبة بالأرش. فإن رضي به معيباً، استقر العتق. وإن طلب الأرش فأدى إليه، استقر العتق. وإن لم يؤد إليه بطل العتق، لأن ذمته لم تتم براءتها من المال. وإن رد المعيب بطل العتق، إلا أن يعطيه بدله. وقال أبو الخطاب: لا يرتفع العتق، وله قيمة المعيب أو أرشه إن أمسكه. وإن كاتب على خدمة شهر فمرض فيه، لم يقع العتق، لعدم العوض.
فصل:
وإن باع ما في ذمة المكاتب، لم يصح، لأنه بيع دين، لا سيما وهو غير مستقر، فإن قبضه المشتري، لم يعتق المكاتب، لأنه لم يقبضه السيد، ولا وكيله وإنما قبضه(2/342)
المشتري لنفسه، وهو لا يستحقه. وفيه وجه آخر: أنه يعتق، لأن السيد أذن للمشتري في قبضه، فكان قبضه كقبض وكيله.
فصل:
إذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته، لأن جنايته تقدم على حق المالك إذا كان قناً، فعلى حقه إذا كان مكاتباً أولى. فإن أداهما، عتق، وإن عجز عن أدائهما، فلكل واحد منهما تعجيزه، فإن عجزه ولي الجناية، بيع فيها إن استغرقته، وإلا بيع منه بقدر جنايته، وباقيه على الكتابة، متى أدى كتابة باقية عتق. وهل يسري عتقه ويقوم على سيده إن كان موسراً؟ على وجهين. وإن عجزه السيد عاد قناً وخير بين فدائه أو تسليمه، كعبده القن، فإن أعتقه السيد، فعليه فداؤه أيضاً، لأنه أتلف محل الحق. وإن كان عليه دين من معاملة، بدئ بقضائه مما في يده، لأنه يتعلق بما في يده، ويختص به. والسيد والمجني عليه يرجعان إلى رقبته. فإن فضل شيء، قدم ولي الجناية. وإن لم يكن له مال، لم يملك الغريم تعجيزه، لأن حقه في الذمة، فلا فائدة في تعجيزه، بل تركه على الكتابة أنفع له، لأنه ربما اكتسب بما يعطيه، فكان أولى.
[باب الكتابة الفاسدة]
إذا كاتبه على عوض محرم، أو مجهول، فالعقد فاسد. وإن شرطا شرطاً فاسداً، مثل أن يشرط أن يوالي من شاء من ميراثه، فالعقد صحيح، لأن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان في بريرة ثلاث قضيات، أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولاء، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. فحكم بفساد الشرط مع أمره بالشراء، ويتخرج فساد العقد بناء على فساد البيع به، وإن شرط عليه أن لا يسافر ولا يطلب الصدقة، فالعقد صحيح. وفي الشرط روايتان:
إحداهما: هو صحيح، لأن فيه غرضاً صحيحاً للسيد، وهو صيانته عن أكل الصدقة، وصيانة عبده عن التغرير بالسفر.
والثانية: هو باطل، لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو تمكينه من الكسب، وأخذ ما فرض الله له من الصدقات.
فصل:
ومتى فسد العقد، فللسيد الفسخ، لأنه عقد فاسد لا حرمة له، وسواء كان فيه صفة، كقوله: إن أديت إلي، فأنت حر، أو لم تكن، لأن المقصود المعاوضة، فصارت الصفة مثبتة عليها، بخلاف الصفة المجردة. وله فسخ العقد بنفسه، لأنه مجمع عليه،(2/343)
وتنفسخ بموت السيد، وجنونه، والحجر عليه لسفه، لأنه عقد غير لازم فأشبه الوكالة، وقال أبو بكر: لا تنفسخ بذلك، ولا تبطل بجنون العبد، لأنه لازم من جهته، فأشبه العتق المعلق بالصفة. وإن أدى ما كوتب عليه عتق، لأن الكتابة جمعت معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة، بقيت الصفة، فعتق بها. وإن أدى إلى غير كاتبه، أو أبرأه السيد مما عليه، لم يعتق، لأن الصفة لم توجد. وقال أبو بكر: يعتق بالأداء إلى الوارث، لأنه قام مقام المورث. وإذا عتق فله ما فضل في يده من الكسب. ويتبع الجارية ولدها، لأنها أجريت مجرى الصحيحة في العتق، فتجري مجراها فيما ذكرنا. وفيه وجه آخر: لا يتبعها ولدها ولا فضلة كسبها، لأن عتقها بالصفة دون الكتابة. ولا يرجع السيد على العبد بشيء، لأنها إما عتق بصفة، وإما مجراه مجرى الكتابة الصحيحة، وكلاهما لا يثبت فيه التراجع.
[باب جامع الكتابة]
تصح كتابة بعض العبد، لأنه عقد معاوضة على نصيب المكاتب، فصح كبيعه. وإذا كاتبه وكان باقيه حراً فأدى، كملت له الحرية. وإن كان باقيه قناً، لم تسر الكتابة إليه، لأنه عقد معاوضة، فأشبه البيع، ويصير شريكاً لمالك باقيه في نفسه. فإذا أدى ما كوتب عليه ومثله لمالك باقيه، عتق وسرى العتق إلى سائره إن كان جميعه للمكاتب، وإن كان لغيره والمكاتب موسر، عتق جميعه، وإن كان معسراً، لم يعتق إلا ما كاتبه كالإعتاق المنجز. وإذا أذن له شريك المكاتب في الأداء من جميع كسبه، عتق بأدائه، كما لو أدى إليها. وإن كان باقيه مكاتباً، أو كاتب السيدين معاً، جاز، سواء اتفق العوضان أو اختلفا، لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع. ولا يملك أن يؤدي إلى أحدهما أكثر مما يؤدي إلى صاحبه، لأنهما سواء في كسبه، إلا أن يأذن أحدهما في تعجيل حق الآخر فيجوز. وذكر أبو بكر وجهاً آخر: أنه لا يجوز تخصيص أحدهما بالأداء وإن أذن الآخر فيه، لأن حقه في ذمته لا فيما في يده، فلم ينفع إذنه فيه، والأول أصح، لأن المنع لحقه، فجاز بإذنه. فإن أدى إليهما في حال واحدة، عتق عليهما وولاؤه لهما. وإن أدى أحدهما قبل الآخر بإذنه، أو لكون نصيب المؤدى إليه من العوض أقل، عتق نصيبه وسرى إلى نصيب الآخر إن كان موسراً في قول الخرقي، لأنه أعتق شركاً له في عبد، وهو موسر، فعتق عليه كله، لحديث ابن عمر. وقال أبو بكر: لا يسري في الحال، لأن في سرايته إبطال نصيب صاحبه من الولاء الذي انعقد سببه، وهكذا الخلاف فيما إذا عتق أحدهما نصيبه بالمباشرة، وفيما إذا كان نصفه قناً فأعتقه صاحب القن.(2/344)
فصل:
ويجوز أن يكاتب جماعة من عبيده صفقة واحدة بعوض واحد، لأن العوض بجملته معلوم، فصح، كما لو باع عبدين بثمن واحد، ويصير كل واحد منهم مكاتباً بحصته من العوض، يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد، لأنه عوض، فيسقط على المعوض بالقيمة، كما لو اشترى شقصاً وسيفاً. قال أبو بكر: ويتوجه لأبي عبد الله قول آخر: إن العوض بينهم على عددهم، لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة، فكان بينهم على السواء، كما لو أقر لهم بشيء، والأول أصح. وتعتبر قيمتهم حال العقد، لأنه حال زوال سلطانه عنهم. وأيهم أدى عتق، لأنه أدى ما عليه فعتق، كما لو انفرد. وقال ابن أبى موسى: لا يعتق حتى تؤدى جميع الكتابة. وإن مات بعضهم، سقط من مال الكتابة بقدر حصته، والأول أصح.
فصل
وإذا كاتب السيد عبده، فماله لسيده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» ولأنه عقد يزيل ملك السيد عن إكسابه فأشبه البيع.
[باب اختلاف السيد ومكاتبه]
إذا اختلفا في أصل العقد، فالقول قول السيد مع يمينه، لأن الأصل عدمه. وإن اختلفا في قدر مال الكتابة أو أجله، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: القول قول السيد، لأنهما اختلفا في الكتابة، فأشبه ما لو اختلفا في عقدها.
والثانية: القول قول المكاتب، لأن الأصل عدم الزيادة المختلف فيها.
والثالثة: يتحالفان، لأنهما اختلفا في قدر العوض، فيتحالفان، كما لو اختلفا في ثمن المبيع: فإذا تحالفا قبل العتق، فسخنا العقد، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه. وإن كان التحالف بعد العتق، رجع السيد على العبد بقيمته، ورجع العبد بما أداه على سيده.
فصل:
وإن وضع السيد عن العبد بعض نجومه، أو أبرأه منه، واختلفا في أي النجوم هو، فالقول قول السيد، لأنهما اختلفا في فعله. وإن وضع عنه دراهم والكتابة على دنانير، لم يصح، لأنه وضع عنه غير ما عليه. فإن قال العبد: إنما أردت دنانير بقيمة(2/345)
الدراهم، فأنكره السيد، فالقول قول السيد، لأن الظاهر معه، وهو أعلم بما عنى. وإن أدى كتابته، فقال السيد: أنت حر، ثم بان مستحقاً، لم يعتق، لأن الظاهر أنه قصد إلى الخبر بناء على ظنه، وقد بان خلافه، فإن قال العبد: أردت عتقي، فأنكر السيد، فالقول قوله، لأنه أعلم بقصده، وإن ادعى العبد وفاء الكتابة فأنكره السيد، فالقول قول السيد، لأن الأصل عدم الوفاء. وإن قال السيد: استوفيت، فادعى المكاتب أنه وفاه الجميع، وقال السيد: إنما وفيتني البعض، فالقول قول السيد، لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع.
فصل:
فإن كان للمكاتبة ولد فقالت: ولدته في الكتابة، فقال السيد: بل قبلها، فالقول قول السيد: لأنه اختلاف في وقت الكتابة، والأصل عدمها قبل الولادة. وإن زوج السيد مكاتبه أمته، فولدت منه: واشترى زوجته، فقال السيد: ولدته قبل الشراء، وقال المكاتب: بل بعده، احتمل أن تكون كالتي قبلها، واحتمل أن يكون القول قول العبد، لأن هذا اختلاف في الملك، والظاهر مع العبد، لأنه في يده. بخلاف التي قبلها، لأنهما لم يختلفا في الملك، إنما اختلفا في وقت العقد.
فصل:
فإذا أدى أحد المكاتبين إلى السيد أو أبرأه فادعى كل واحد من المكاتبين أنه المؤدي، أو المبرأ، فالقول قول السيد في التعيين، لأنه لو أنكرهما، كان القول قوله. فإذا أنكر أحدهما، قبل قوله، وعليه اليمين له، فإن نكل قضي عليه، وعتقا جميعاً، فإن قال: لا أعلم أيكما المؤدي، فعليه اليمين أنه لا يعلم، فيقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وعتق، وبقي الآخر على الكتابة، وكذلك إن مات السيد قبل التعيين، قرع بينهما، لأنهما تساويا في احتمال الحرية، فأشبه ما لو أعتق أحدهما وأنسيه.
فصل:
إذا كاتب عبيداً كتابة واحدة، فأدوا، عتقوا. فقال من كثرت قيمته: أدينا على قدر قيمنا، وقال الآخر: بل أدينا على السواء، فبقيت لنا على الأكثر بقية، فمن جعل العوض بينهم على عدد رؤوسهم قال: القول قول من ادعى التسوية، ومن جعل على كل واحد قدر حصته، فعنده فيه وجهان:
أحدهما: القول قول من يدعي، التسوية، لأن أيديهم على المال فيتساوون فيه.
والثاني: القول قول الآخر، لأن الظاهر أن الإنسان لا يؤدي إلا ما عليه.(2/346)
فصل:
وإذا كاتب رجلان عبداً بينهما، فادعى أنه أدى إليهما، فصدقه أحدهما، وأنكر الآخر، عتق نصيب المقر، وحلف الآخر، وبقيت حصته على الكتابة، وله مطالبة المقر بنصف ما قبض، لحصول حقه في يده، ومطالبة المكاتب بالباقي، وله مطالبة المكاتب بالجميع، لأنه لم يدفع إليه حقه، ولا إلى وكيله، فإذا قبض، عتق المكاتب، ومن أيهما أخذ، لم يرجع به المقبوض منه على الآخر، لأنه يقر ببراءة صاحبه، ويدعي أن المنكر ظلمه، فلا يرجع بما ظلمه به على غيره. فإن عجز المكاتب، عجزه ورق نصفه، ولم يسر عتق الآخر، لأنه لا يعترف بعتقه ولا العبد أيضاً، ولا يعترف المنكر بعتق شيء منه، وإن شهد المصدق له. فقال الخرقي: تقبل شهادته له في العتق، لأنه لا نفع له فيه، ولا تقبل شهادته فيما يرجع إلى براءته من مشاركة صاحبه. وقياس المذهب أنه لا تقبل شهادته في العتق أيضاً، لأن من شهد بشهادة يجر إلى نفسه نفعاً، بطلت شهادته في الكل. وإن ادعى المكاتب، ودفع جميع المال إلى أحدهما، ليأخذ نصيبه منه، ويدفع باقيه إلى شريكه. وقال المدعى عليه: بل دفعت إلى كل واحد منا حقه، فهي كالتي قبلها، إلا أن المنكر يأخذ حصته بلا يمين، لأنه لا يدعي واحد منهما دفع المال إليه، وإن قال المدعى عليه: قبضت المال، ودفعت إلى شريكي حصته، فأنكر شريكه، فعليه اليمين ها هنا، لأنه يدعي التسليم إليه. فإذا حلف، فله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه. فإن أخذ من المكاتب، رجع على المقر، لأنه قبض منه، سواء صدقه المكاتب في الدفع إلى شريكه، أو كذبه، لتفريطه في ترك الإشهاد. فإن حصل للمنكر ماله من أحدهما، عتق. وإن عجز المكاتب، فللمنكر استرقاق نصفه، والرجوع على المقر بنصف ما قبض، لأنه استحق نصف كسبه، ويقوم على المقر، لأنه رقه كان بسبب منه، وهو التفريط.
فصل
وإذا خلف رجل ابنين وعبداً، فادعى العبد أن سيده كاتبه، فأنكراه، فالقول قولهما مع أيمانهما، لأن الأصل عدم الكتابة، ويحلفان على نفي العلم، لأنها يمين على فعل الغير. وإن صدقه أحدهما، أو نكل عن اليمين، وحلف الآخر، ثبتت الكتابة لنصفه. ومتى أدى إلى المقر، عتق نصيبه، ولم يسر إلى نصيب شريكه، لأنه لم يباشر العتق، ولم يتسبب إليه، إنما هو مقر بما فعل أبوه، وولاء نصفه الذي عتق للمقر، لأنه لا يدعيه غيره. وإن شهد المقر على المنكر، فشهادته مقبولة إن كان عدلاً، لأن لا يجر إلى نفسه نفعاً، ولا يدفع ضرراً. والله أعلم.(2/347)
[باب حكم أمهات الأولاد]
إذا أصاب الرجل أمته، فولدت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان، صارت له أم ولد، تعتق بموته من رأس المال، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه» رواه أحمد، وابن ماجة. ولأنه إتلاف حصل بالاستمتاع، فحسب من رأس المال، كإتلاف ما يأكله. فأما إن علقت منه في غير ملكه، لم تعتق عليه، سواء ملكها حاملاً أو بعد الوضع، لأنها علقت بمملوك. فإذا كان الولد مملوكاً، فأمه أولى.
وعنه: إن ملكها حاملاً فولدت عنده، صارت له أم ولد، لعموم الخبر. وقال القاضي: إن لم يطأها بعد ملكه لها، لم تصر أم ولد. وكذلك إن وطئها في ابتداء حملها، أو توسطه بعد ملكه لها، صارت أم ولد، لأن الماء يزيد في سمعه وبصره. وقد قال عمر: أبعدما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن، بعتموهن؟ ! فعلل بالاختلاط وقد وجد. وإن ولدت منه في غير ملكه بنكاح، أو زنا، ثم ملكها، لم تصر أم ولد، لأن ولدها مملوك لسيد الأمة. ونقل ابن أبي موسى: أنها تصير أم ولد، لما ذكرناه. والأول المذهب.
فصل
فإن أسقطت ولداً ميتاً، فهو كالحي في ذلك، لأنه ولد. وإن أسقطت جزءاً منه، كيد، ورجل، فهي أم ولد، لأنه من ولد. وإن ألقت نطفة أو علقة، لم تصر أم ولد، لأنه ليس بولد. وإن وضعت ما يتحقق فيه تخطيط، من رأس، أو يد، أو رجل، أو عين، فهو ولد. وإن ألقت مضغة، فشهدت ثقة من القوابل أنه تخطط، أو تصور، ثبت أنه ولد. وإن لم يتخطط ويتصور، فشهدت أنه بدو خلق آدمي، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تصير أم ولد، لأنه ليس بولد، أشبه النطفة، والأخرى هي أم ولد، لأنه بدو خلق بشر، أشبه المتخطط.
فصل
ويملك الرجل استخدام أم ولده، وإجارتها ووطأها، وتزويجها، وحكمها حكم الإماء في صلاتها وغيرها، لأنها باقية على ملكه، إنما تعتق بعد الموت بدليل حديث ابن عباس.(2/348)
فصل
ولا يملك بيعها ولا هبتها، ولا التصرف في رقبتها، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن عبيدة. قال: خطب علي الناس فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده، وروي عنه أنه قال: بعث إلي علي وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف. وروى صالح عن أحمد أنه قال: أكره بيعهن، وقد باع علي بن أبي طالب. قال أبو الخطاب: فظاهر هذا أنه يصح البيع مع الكراهة، والمذهب الأول.
فصل
وإن ولدت من غير سيدها، فله حكمها، يعتق بموت سيدها، سواء عتقت أو ماتت قبله، لأن الاستيلاد كالعتق المنجز، ولا يبطل الحكم فيه بموتها، لأنه استقر في حياتها فلم يسقط بموتها، كولد المدبرة.
فصل
وإن أسلمت أم ولد الذمي، لم تعتق. ونقل عنه منها: أنها تعتق، لأنه لا يجوز إقرار ملك كافر على مسلمة، ولا سبيل إلى إزالته بغير العتق.
وعنه: أنها تستسعى في قيمتها ثم تعتق، والمذهب الأول. قال أبو بكر: الذي تقتضيه أصول أبي عبد الله أنها لا تعتق، لأنه سبب يقتضي العتق بعد الموت، فلم يتجزأ بالإسلام، كالتدبير، ولكن تزال يده عنها، ويحال بينه وبينها، لأن المسلمة لا تحل لكافر، وتسلم إلى امرأة ثقة، ونفقتها في كسبها، وما فضل منه، فهو لسيدها. وإن لم يف بنفقتها، فعلى سيدها تمامها في إحدى الروايتين، وهو قول الخرقي، لأنها مملوكته.
والثانية: لا يلزمه ذلك، لأنه منع الانتفاع بها. فإن أسلم حلت له، وإن مات عتقت.
فصل
وإن جنت، لزم سيدها فداؤها، لأنه منع من بيعها بالإحبال، ولم تبلغ حالاً تتعلق بذمتها، فأشبه ما لو امتنع من تسليم عبده القن، ويفديها بأقل الأمرين من قيمتها، أو أرش جنايتها، لأنه لا يمكن بيعها.
وعنه: يفديها بأرش جنايتها بالغة ما بلغت. حكاها أبو بكر، لأنه ممنوع من(2/349)
تسليمها. فإن عادت فجنت، فداها كما وصفت، لأن الموجب لفدائها وجد في الثانية كوجوده في الأول، فوجب استواؤهما في الفداء، لاستوائهما في مقتضيه.
فصل
وإن جنت أم ولد على سيدها فيما دون النفس، فهو كجناية القن سواء. وإن قتلته، عتقت، لأنه زال ملكه بموته، ولا يمكن نقل الملك. فإن كانت جنايتها عمداً، فللأولياء القصاص منها. وإن كانت غير موجبة له، فسقط بالعفو، فعليها قيمة نفسها، لأنها جناية أم ولد، فلم يجب أكثر من قيمتها، كالجناية على الأجنبي. وإن ورث ولدها شيئاً من القصاص الواجب عليها، سقط كله، لأنه لا يتبعض، وصار الأمر إلى القيمة.(2/350)
[كتاب النكاح]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب النكاح النكاح مشروع، أمر الله به ورسوله، فقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وقال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] .(3/3)
وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء»
وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» . وقال سعد بن أبي وقاص: «لقد رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أحله له لاختصينا» . متفق عليهما، والتبتل: ترك النكاح.
وقد روي عن أحمد: أن النكاح واجب. اختاره أبو بكر لظاهر هذه النصوص فظاهر المذهب أنه لا يجب إلا على من يخاف بتركه مواقعة المحظور، فيلزمه النكاح؛ لأنه يجب عليه اجتناب المحظور، وطريقه النكاح. ولا يجب على غيره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ولو وجب لم يعلقه على الاستطابة. والاشتغال به أفضل من التخلي للعبادة، لظاهر الأخبار. فإن أقل أحوالها الندب إلى النكاح، والكراهة لتركه. إلا أن يكون ممن لا شهوة له، كالعنين والشيخ الكبير، ففيه وجهان:
أحدهما: النكاح له أفضل؛ لدخوله في عموم الأخبار.
والثاني: تركه أفضل؛ لأنه لا يحصل منه مصلحة النكاح، ويمنع زوجته من التحصن بغيره، ويُلزم نفسه واجبات وحقوق لعله يعجز عنها.
فصل:
ولا يصح إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع، ولا يصح نكاح(3/4)
العبد بغير إذن مولاه، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن؛ ولأنه ينقص قيمته، ويوجب المهر والنفقة، وفيه ضرر على سيده، فلم يجز بغير إذنه كبيعه. وعنه: أنه يصح ويقف على إجازة مولاه، بناء على تصرفات الفضولي، ويجوز نكاحه بإذن مولاه؛ لدلالة الحديث، ولأن المنع لحقه فزال بإذنه.
فصل:
ومن أراد نكاح امرأة فله النظر إليها، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب أحدكم امرأة، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» رواه أبو داود.
وينظر إلى الوجه؛ لأنه مجمع المحاسن، وموضع النظر، وليس بعورة وفي النظر إلى ما يظهر عادة من الكفين والقدمين، ونحوهما روايتان:
إحداهما: يباح؛ لأنه يظهر عادة، أشبه الوجه.
والثانية: لا يباح لأنه عورة، أشبه ما لا يظهر، ولا يجوز النظر إلى ما لا يظهر عادة؛ لأنه عورة، ولا حاجة إلى نظره، ويجوز النظر إليها بإذنها، وبغير إذنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق النظر، فلا يجوز تقييده. وفي حديث جابر قال: فخطبت امرأة، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها.
وليس له الخلوة بها؛ لأن الخبر إنما ورد بالنظر، فبقيت الخلوة على أصل التحريم. ويجوز لمن أراد شراء جارية النظر منها إلى ما عدا عورتها، للحاجة إلى معرفتها، ويجوز للرجل النظر إلى وجه من يعاملها لحاجته إلى معرفتها؛ للمطالبة بحقوق العقد. ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها للتحمل والأداء. ويجوز للطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إلى مداواته، من بدنها حتى الفرج؛ لأنه موضع ضرورة، فأشبه الحاجة إلى الختان.(3/5)
فصل:
وله أن ينظر من ذوات محارمه، إلى ما يظهر غالباً، كالرأس، والرقبة، والكفين والقدمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] وقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55] . وذات المحرم: من تحرم عليه على التأبيد، بنسب أو سبب مباح، كأم الزوجة وابنتها، فأما أم المزني بها والموطوءة بشبهة، وبنتها فلا يباح النظر إليها؛ لأنها حرمت بسبب غير مباح، فلا تلحق بذوات الأنساب. وأما عبد المرأة فليس بمحرم لها؛ لأنها لا تحرم عليه على التأبيد، لكن يباح له النظر إلى ما يظهر منها غالباً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] وروت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، فملك ما يؤدي فلتحتجب منه» رواه الترمذي. وقال: حديث صحيح. وفيه دلالة على أنها لا تحتجب منه قبل ذلك؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لحاجتها لخدمته، فأشبه ذا المحرم.
فصل:
ومن لا تمييز له من الأطفال لا يجب التستر منه في شيء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] .
وفي المميز روايتان:
إحداهما: هو كالبالغ لهذه الآية. والثانية: هو كذي المحرم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] إلى قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] ففرق بينه وبين البالغ. وحكم الطفلة التي لا تصلح للنكاح مع الرجال حكم الطفل من النساء، والتي صلحت للنكاح، كالمميز من الأطفال، لما روى أبو بكر بإسناده: «أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثياب رقاق، فأعرض(3/6)
عنها وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» .
فصل:
والعجوز التي لا تُشتهى مثلها يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] . قال ابن عباس استثناهن الله تعالى من قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ؛ ولأن ما حرم من النظر لأجله معدوم في حقها، فأشبهت ذوات المحارم. وفي معناها: الشوهاء التي لا تُشتهى. ومن ذهبت شهوته من الرجال لكبر أو مرض، أو تخنيث فحكمه حكم ذي المحرم في النظر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] أي الذي لا إرب له في النساء، كذلك فسره مجاهد، وقتادة ونحوه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخنث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ينعت امرأة قال: "إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان"، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا؟ ! لا يدخلن عليكم هذا» رواه أبو داود؛ فأجاز دخوله عليهن حين عده من غير أولي الإربة، فلما علم ذلك منه حجبه.
فصل:
ويباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه ولمسه، وكذلك السيد مع أمته المباحة له؛ لأنه أبيح له الاستمتاع به، فأبيح له النظر إليه، كالوجه. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: «قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منا وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» .
ويكره النظر إلى الفرج؛ فإن زَوَّجَ أمتَه حرم النظر منها إلى ما بين السرة والركبة،(3/7)
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة» رواه أبو داود.
فصل:
فأما الرجل مع الرجل فلكل واحد منهما النظر من صاحبه إلى ما ليس بعورة؛ لأن تخصيص العورة بالنهي دليل على إباحة النظر إلى غيرها.
ويكره النظر إلى الغلام الجميل؛ لأنه لا يأمن الفتنة بالنظر إليه، والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، والمسلمة مع الكافرة كالمسلمتين، كما أن المسلم مع الكافر كالمسلمين. وعنه: إن المسلمة لا تكشف قناعها عند الذمية، ولا تدخل معها الحمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فتخصيصهن بالذكر يدل على اختصاصهن بذلك.
فصل:
وفي نظر المرأة إلى الرجل روايتان:
إحداهما: يحرم عليها من ذلك ما يحرم عليه، لما روت أم سلمة قالت: «كنت قاعدة عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وحفصة، فاستأذن ابن أم مكتوم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احتجبن منه فقلت: يا رسول لله، ضرير لا يبصر. فقال: أفعمياوان أنتما، ألا تبصرانه» أخرجه أبو داود وقال النسائي: حديث صحيح.
والثانية: يجوز لها النظر منه إلى ما ليس بعورة، لما روت فاطمة بنت قيس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فلا يراك» وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد» . متفق عليهما، وهذا أصح. وحديث أم سلمة يحتمل أنه خاص(3/8)
لأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن قُدِّر عمومه، فهذه الأحاديث أصح منه، فتقديمها أولى. وكل من أبيح له النظر إلى من لا يحل له الاستمتاع به لم يجز له ذلك لشهوة وتلذذ؛ لأنه داعية إلى الفتنة.
[باب شرائط النكاح]
وهي خمسة. أحدها: الولي، فإن عقدته المرأة لنفسها، أو لغيرها بإذن وليها، أو بغير إذنه لم يصح، لما روت عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي» قال أحمد ويحيى: هذا حديث صحيح. وقد روي عن أحمد أن للمرأة تزويج معتقها، فيخرج من هذا صحة تزويجها لنفسها بإذن وليها، وتزويج غيرها بالوكالة، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» رواه أبو داود والترمذي. فمفهومه صحته بإذنه، ولأن المنع لحقه فجاز بإذنه، كنكاح العبد. والأول المذهب، لعموم الخبر الأول؛ ولأن المرأة غير مأمونة على البضع، لنقص عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها، كالمبذر في المال، بخلاف العبد، فإن المنع لحق المولى خاصة، وإنما ذكر تزويجها بغير إذن وليها؛ لأنه الغالب، إذ لو رضي لكان هو المباشر له دونها.
فصل:
فإن تزوج بغير إذن ولي، فالنكاح فاسد، لا يحل الوطء فيه، وعليه فراقها؛ وإن وطئ فلا حد عليه في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه وطء مختلف في حله، فلم يجب به حد، كوطء التي تزوجها في عدة أختها. وذكر عن ابن حامد:
أنه أوجب به الحد؛ لأنه وطء في نكاح منصوص على بطلانه، أشبه ما لو تزوج ذات زوج. وإن حكم بصحة هذا العقد حاكم ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم مختلف فيه فأشبه الشفعة للجار.
والثاني: ينقض؛ لأنه خالف النص.(3/9)
فصل:
فإن كانت أمة فوليها سيدها؛ لأنه عقد على نفعها، فكان إلى سيدها كإجارتها، فإن كان لها سيدان لم يجز تزويجها إلا بإذنهما. وإن كانت سيدتها امرأة فوليها ولي سيدتها يزوجها بإذن سيدتها لأنه تصرف فيها فلم يجز بغير إذنه، كبيعها. وعنه رواية أخرى:
أن مولاتها تأذن لرجل فيزوجها؛ لأن سبب الولاية الملك، وقد تحقق في المرأة، وامتنعت المباشرة لنقص الأنوثة فكان لها التوكيل، كالولي الغائب، ونقل عنه: أنه قيل له: هل تزوج المرأة أمتها؟ قال: قد قيل ذلك، هي مالها. وهذا يحتمل رواية ثالثة. فإن كانت سيدتها غير رشيدة، أو كانت لغلام أو لمجنون فوليها من يلي مالهم؛ لأنه تصرف في بعضها، أشبه إجارتها.
فصل:
وإن كانت حرة فأولى الناس بها أبوها؛ لأنه أشفق عصباتها، ويلي مالها عند عدم رشدها. ثم الجد أبو الأب وإن علا؛ لأنه أب. وعنه: الابن يقدم على الجد؛ لأنه أقوى تعصيباً منه، وعنه: أن الأخ يقدم على الجد؛ لأنه يدلي ببنوة الأب، والبنوة أقوى. وعنه: أن الجد والأخ سواء، لاستوائهما في الإرث بالتعصيب. والمذهب الأول؛ لأن للجد إيلاداً وتعصيباً، فقدم عليهما كالأب، ولأنه لا يقاد بها، ولا يقطع بسرقة مالها بخلافهما. ثم ابنها، ثم ابنه وإن نزل؛ لأنه عدل من عصباتها فيلي نكاحها، كابنها. وقدم على سائر العصبات؛ لأنه أقربهم نسباً، وأقواهم تعصيباً فقدم كالأب. ثم الأخ، ثم ابنه، ثم العم، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها على ترتيبهم في الميراث؛ لأن الولاية لدفع العار عن النسب، والنسب في العصبات. وقدم الأقرب فالأقرب؛ لأنه أقوى فقدم كتقديمه في الإرث، ولأنه أشفق فقدم كالأب. فإذا انقرض العصبة من النسب، فوليها المولى المعتق، ثم عصابته الأقرب فالأقرب، ثم مولى المولى، ثم عصباته؛ لأن الولاء كالنسب في التعصيب، فكان مثله في التزويج ويقدم ابن المولى على ابنه؛ لأنه أقوى تعصيباً، وإنما قدم الأب المناسب لزيادة شفقته، وتحكم الأصل على فرعه. وهذا معدوم في أبي المولى، فرجع فيه إلى الأصل. وإذا كان المعتق امرأة، فولي مولاتها أقرب عصباتها؛ لأنه لما لم يمكنها مباشرة نكاحها كانت كالمعدومة. وعنه: أنها تولي رجلاً في تزويجها، لما ذكرنا في أمتها. ثم السلطان، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» .(3/10)
فصل:
فإن استوى اثنان في الدرجة، وأحدهما من أبوين، والآخر من أب، كالأخوين، والعمين ففيه روايتان:
إحداهما: يقدم ذو الأبوين. اختاره أبو بكر؛ لأنه حق يستفاد بالتعصيب فأشبه الميراث بالولاء.
والثانية: هما سواء. اختارها الخرقي؛ لأن الولاية بقرابة الأب وهما سواء فيها، فإن كانا ابني عم، أحدهما أخ لأم، فذكر القاضي: أنهما كذلك. والصحيح أن الإخوة لا تؤثر في التقديم، لاستوائهما في التعصيب والإرث به، بخلاف التي قبلها من كل وجه، فإن استويا من كل وجه، فالولاية ثابتة لكل واحد منهما، أيهما زوج صح تزويجه؛ لأن السبب متحقق في كل واحدة، لكن يستحب تقديم أسنهما وأعلمهما وأتقاهما؛ لأنه أحوط للعقد في اجتماع شروطه والنظر في الحظ. فإن استويا وتشاحا، أقرع بينهما؛ لأنهما تساويا في الحق، وتعذر الجمع، فيقرع بينهما، كالمرأتين في السفر. فإن قرع أحدهما فزوج الآخر صح؛ لأن القرعة لم تبطل ولايته، فلم يبطل نكاحه. وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً آخر: أنه لا يصح.
فصل:
فإن زوجها الوليان لرجلين دفعة واحدة، فهما باطلان؛ لأن الجمع يتعذر فبطلا، كالعقد على أختين، ولا حاجة إلى فسخهما لبطلانهما. وإن سبق أحدهما فالصحيح السابق، لما روى سمرة وعقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما» رواه أبو داود؛ ولأن الأول: خلا عن مبطل والثاني: تزوج زوجة غيره، فكان باطلاً، كما لو علم. فإن دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج، فعليه مهرها؛ لأنه وطء بشبهة، وترد إلى الأول؛ لأنها زوجته، ولا يحل له وطؤها حتى تقضي عدتها من وطء الثاني، فإن جهل الأول منهما ففيه روايتان:
إحداهما: يفسخ النكاحان؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون نكاحه هو الصحيح، ولا سبيل إلى الجمع، ولا إلى معرفة الزوج فيفسخ لإزالة الزوجية، ثم لها أن تتزوج من شاءت منهما، أو من غيرهما.
والثانية: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة أمر صاحبه بالطلاق ثم يجدد القارع(3/11)
نكاحه، فإن كانت زوجته لم يضره ذلك، وإن لم تكن صارت زوجته بالتجديد، وكلا الطريقين لا بأس به. وسواء علم السابق ثم نسي، أو جهل الحال؛ لأن المعنى في الجميع واحد. وإن أقرت المرأة لأحدهما بالسبق لم يقبل إقرارها؛ لأن الخصم غيرها، فلم يقبل قولها عليه، كما لو أقرت ذات زوج لآخر أنه زوجها. وإن ادعى عليها العلم بالسابق، لم يلزمها يمين؛ لأنه من لا يقبل إقراره لا يستحلف في إنكاره.
فصل:
ويشترط للولي ثمانية شروط.
أحدها: العقل، فلا يصح تزويج طفل، ولا مجنون.
والثاني: الحرية. فلا ولاية لعبد.
الثالث: الذكورية، فلا ولاية لامرأة؛ لأن هؤلاء لا يملكون تزويج أنفسهم، فلا يملكون تزويج غيرهم بطريق الأولى.
الرابع: البلوغ: فلا يلي الصبي بحال. وعنه: أن الصبي المميز إذا بلغ عشراً صح تزويجه؛ لأنه يصح بيعه. والأول أولى؛ لأنه مولى عليه فلا يلي، كالمرأة.
الخامس: اتفاق الدين. فلا يلي كافر مسلمة بحال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] إلا أم الولد الذمي المسلمة ففيها وجهان:
أحدهما: يملك تزويجها؛ لأنه لا يملكها، فأشبه المسلم إذا كان سيده كافر.
والثاني: لا يليه للآية، ويليه الحاكم ولا يلي مسلم كافرة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] إلا السلطان فإنه يلي نكاح الذمية التي لا ولي لها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» ؛ ولأن ولايته عامة عليهم. وسيد الأمة الكافرة يزوجها وإن كان مسلماً؛ لأنه عقد عليها، فوليه كبيعها، وولي سيد الكافرة أو سيدتها يزوجها؛ لأنه يقوم مقامهما. ويلي الكفار أهل دينهم، للآية التي تلوناها. وهل تعتبر عدالتهم في دينهم؟ على وجهين بناء على الروايتين في المسلمين.
السادس: العدالة. فلا يلي الفاسق نكاح قريبته وإن كان أباً في إحدى الروايتين؛ لأنها ولاية نظرية، فنافاها الفسق، كولاية المال. والثانية: يلي لأنه قريب ناظر، فكان(3/12)
ولياً كالعدل، ولأن حقيقة العدالة لا تعتبر، بل يكفي كونه مستور الحال. ولو اشترطت العدالة اعتبرت حقيقتها كما في الشهادة.
السابع: التعصيب، أو ما يقوم مقامه، فلا تثبت الولاية لغيرهم، كالأخ من الأم والخال، وسائر من عدا العصبات؛ لأن الولاية تثبت لحفظ النسب، فيعتبر فيها المناسب، ولا تثبت الولاية للرجل على المرأة التي تسلم على يديه. وعنه: أنها تثبت. ووجه الروايتين ما ذكرنا في كتاب الولاء.
الثامن: عدم من هو أولى منه. فلا تثبت الولاية للأبعد مع حضور الأقرب الذي اجتمعت الشروط فيه، لما ذكرنا في تقديم ولاية الأب. فإن مات الأقرب، أو جن، أو فسق انتقلت إلى من بعده؛ لأن ولايته بطلت، فانتقلت إلى الأبعد، كما لو مات. فإن عقل المجنون، وعدل الفاسق عادت ولايته، لزوال مزيلها مع وجود مقتضيها، فإن زوجها الأبعد من غير علم بعود ولاية الأقرب لم تصح ولاية زوجها بعد زوال ولايته، ويحتمل أن تصح، بناء على الوكيل إذا تصرف بعد العزل قبل علمه به. وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها من كفء فعضلها، فللأبعد تزويجها. نص عليه. وعنه: لا يزوجها إلا السلطان وهو اختيار أبي بكر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له» ؛ ولأن التزويج حق عليه امتنع منه، فقام الحاكم مقامه في إيفائه، كما لو كان عليه دين فامتنع من قضائه، واختار الخرقي الرواية الأولى؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فوليها الأبعد، كما لو فسق. والحديث دليل على أن السلطان لا يزوج هاهنا، لقوله: «فالسلطان ولي من لا ولي له» وإن غاب الأقرب غيبة منقطعة ولم يوكل في تزويجها، فللأبعد تزويجها، لما ذكرنا. والغيبة المنقطعة: ما لا تقطع إلا بكلفة ومشقة في منصوص أحمد، واختيار أبي بكر. وذكر الخرقي: أنها ما لا يصل الكتاب فيها إليه، أو يصل فلا يجيب عنه؛ لأن غير هذا يمكن مراجعته. وقال القاضي: حدها: ما لا تقطعها القافلة في السنة إلا مرة؛ لأن الكفء ينتظر عاماً ولا ينتظر أكثر منه. وقال أبو الخطاب: يحتمل أن يحدها بما تقصر فيه الصلاة؛ لأن أحمد قال: إذا كان الأب بعيد السفر، يزوج الأخ. والسفر البعيد في الشرع: ما علق عليه رخص السفر، والأولى المنصوص. والرد في هذا إلى العرف، وما جرت العادة بالانتظار فيه، والمراجعة لصاحبه، لعدم التحديد فيه من الشارع. فأما القريب فيجب انتظاره ومراجعته؛ لأنه في حكم الحاضر، إلا أن تتعذر مراجعته، لأسر أو حبس لا يوصل إليه ونحوهما، فيكون كالبعيد، لكونه في معناه. ولا يشترط في الولاية البصر؛ لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - زوج(3/13)
ابنته وهو أعمى لموسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولأن الأعمى من أهل الرواية والشهادة، فكان من أهل الولاية كالبصير. فأما الأخرس، فإن منع فهم الإشارة أزال الولاية، وإن لم يمنعها لم يزل الولاية؛ لأن الأخرس يصح تزوجه، فصح تزويجه كالناطق.
فصل:
وإذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب وسلامته من الموانع، أو زوج أجنبي، أو زوجت المرأة المعتبر إذنها بغير إذنها، أو تزوج العبد بغير إذن سيده، فالنكاح باطل في أصح الروايتين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» وفي لفظ: «فنكاحه باطل» ولأنه نكاح لم تثبت أحكامه من الطلاق، والخلع، والتوارث فلم ينعقد كنكاح المعتدة. والثانية: هو موقوف على إجازة من له الإذن. فإن أجازه جاز، وإلا بطل لما ذكرناه في تصرف الفضولي في البيع، ولما روى ابن ماجه: «أن جارية بكراً أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أبو داود. وقال: هذا حديث مرسل، رواه الناس عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكروا ابن عباس. فإن قلنا بهذه الرواية فإن الشهادة تعتبر حالة العقد؛ لأنها شرط له فتعتبر معه كالقبول. ويكفي في إذن المرأة النطق، أو ما يدل على الرضى تقوم مقام النطق به، بدليل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبريرة: إن وطئك زوجك فلا خيار لك» فأما إن زوجت المرأة نفسها، أو زوجها طفل، أو مجنون، أو فاسق، فهو باطل لا يقف على الإجازة؛ لأنه تصرف صادر من غير أهله. وذكر أصحابنا: تزويجها لنفسها من جملة الصور المختلفة في وقوفها. والأولى أنها ليست منها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل» ولأنه تصرف لو قارنه الإذن لم يصح، فلم يصح بالإذن اللاحق، كتصرف المجنون.
فصل:
ولكل واحد من الأولياء أن يوكل في تزويج موليته، فيقوم وكيله مقامه حاضراً كان الموكل أو غائباً، ولا يعتبر إذن المرأة في التوكيل. وخرج القاضي ذلك على الروايتين(3/14)
في توكيل الوكيل من غير إذن الموكل، وليس كذلك، فإن الولي ليس بوكيل للمرأة، ولا تثبت ولايته من جهتها، فلم يقف جواز توكيله على إذنها، كالسلطان، ولأنه ولي في النكاح فملك الإذن فيه من غير إذنها، كالسلطان. ويجوز التوكيل في التزويج مطلقاً من غير تعيين الزوج؛ لأنه إذن في التزويج فجاز مطلقاً، كإذن المرأة. ويجوز التوكيل في تزويج معين، واختلفت الرواية هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية؟ على روايتين. ذكرناهما في الوصايا. ولا يصير وصياً في النكاح بالوصية إليه في المال؛ لأنها إحدى الوصيتين فلم تملك بالأخرى، كالأخرى.
فصل:
وإذا لم يكن للمرأة ولي، ولا للبلد قاض ولا سلطان. فعن أحمد: ما يدل على أنه يجوز لها أن تأذن لرجل عدل يحتاط لها في الكفء والمهر، ويزوجها فإنه قال في دهقان قرية: يزوج المرأة إذا لم يكن في الرستاق قاض إذا احتاط لها في الكفء والمهر. ووجه ذلك أن اشتراط الولي هاهنا يمنع النكاح بالكلية، فوجب أن لا يشترط. وعنه: لا يصح إلا بولي لعموم الخبر.
فصل:
وإذا أراد ولي المرأة تزوجها، كابن عمها، أو مولاها جعل أمرها إلى من يزوجها منه بإذنها، لما روي أن المغيرة بن شعبة أمر رجلاً أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه، ولأنه وليها فجاز أن يتزوجها من وكيله، كالإمام. فإن زوج نفسه بإذنها ففيه روايتان
إحداهما: لا يجوز لحديث المغيرة، ولأنه عقد ملكه بالإذن، فلم يجز أن يتولى طرفيه، كالوكيل في البيع. والثانية: يجوز، لما روي عن عبد الرحمن بن عوف: أنه قال لأم حكيم بنت قارظ أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم، فقال: قد تزوجتك، ولأنه صدر الإيجاب من الولي، والقبول من الأهل فصح، كما لو زوج الرجل عبده الصغير لأمته. وإن قال السيد: قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها. أو قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها، ففيه روايتان:
إحداهما: يصح العتق والنكاح، ويصير عتقها صداقها، لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» متفق عليه. وفي رواية «أصدقها نفسها» .(3/15)
والثانية: لا يصح حتى يبتدئ العقد عليها بإذنها؛ لأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول، فلم يصح العقد، كما لو كانت حرة. فعلى هذا ينفذ العتق وعليها قيمة نفسها؛ لأنه إنما أعتقها بعوض لم يسلم له، ولم يمكن إبطال العتق، فرجعنا إلى القيمة. ولا يجوز لأحد أن يتولى طرفي العقد غير من ذكرنا، إلا السيد يزوج عبده من أمته. فإن كان وكيلاً للزوج والولي أو وكيلاً للزوج، ولياً للمرأة، أو وكيلاً للولي، ولياً للزوج ففيه وجهان: بناء على ما ذكرنا في الوكيل في البيع.
فصل:
الشرط الثاني من شرائط النكاح: أن يحضره شاهدان، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» رواه الخلال. وعن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان» . رواه الدارقطني، وعن أحمد: أن الشهادة ليست شرطاً فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وتزوجها بغير شهود، ولأنه عقد معاوضة، فلم تشترط الشهادة فيه، كالبيع.
فصل:
ويشترط في الشهود سبع صفات:
أحدها: العقل؛ لأن المجنون والطفل ليسا من أهل الشهادة.
والثاني: السمع؛ لأن الأصم لا يسمع العقد فيشهد به.
والثالث: النطق؛ لأن الخرس لا يتمكن من أداء الشهادة.
الرابع: البلوغ؛ لأن الصبي لا شهادة له. وعنه: أنه ينعقد بحضور مراهقين، بناء على أنهما من أهل الشهادة، والأول أصح.
الخامس: الإسلام. ويتخرج أن ينعقد نكاح المسلم للذمية بشهادة ذميين، بناء على قبول شهادة بعضهم على بعض. والأول المذهب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» .(3/16)
السادس: العدالة للخبر، وعنه: ينعقد بحضور فاسقين؛ لأنه تحمل فلم تعتبر فيه العدالة كسائر التحملات. والأول أولى للخبر، ولأن من لا يثبت النكاح بقوله لا ينعقد بشهادته، كالصبي إلا أننا لا نعتبر العدالة باطناً. ويكفي أن يكون مستور الحال. وكذلك العدالة المشروطة في الولي؛ لأن النكاح يقع بين عامة الناس في مواضع لا تعرف فيها حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يشق.
السابع: الذكورية. وعنه: ينعقد بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع. والأول: المذهب، لما روى أبو عبيد في " الأموال " عن الزهري أنه قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق. وهل يشترط عدم العداوة والولادة؟ وهو أن لا يكون الشاهدان عدوين للزوجين، أو لأحدهما، ولا ابنين لهما، أو لأحدهما على وجهين. ولا تشترط الحرية، ولا البصر؛ لأنها شهادة لا توجب حداً، فقبلت شهادتهما فيه، كالشهادة عليه بالاستفاضة. ويعتبر أن يعرف الضرير المتعاقدين، ليشهد عليهما بقولهما. وهل يشترط كون الشاهد من غير أهل الصنائع الرزية، كالحجام ونحوه؟ على وجهين بناء على قبول شهادتهم.
فصل:
الشرط الثالث من شروط النكاح: تعيين الزوجين؛ لأن المقصود بالنكاح أعيانهما، فوجب تعيينهما. فإن كانت حاضرة فقال: زوجتك هذه صح؛ لأن الإشارة تكفي في التعيين. فإن زاد على ذلك فقال: ابنتي أو فاطمة كان تأكيداً. وإن سماها بغير اسمها صح؛ لأن الاسم لا حكم له مع الإشارة، فأشبه ما لو قال: زوجتك هذه الطويلة وهي قصيرة. وإن كانت غائبة، فقال: زوجتك ابنتي وليس له غيرها صح لحصول التعيين بتفردها بهذه الصفة المذكورة. وإن سماها باسمها، أو وصفها بصفتها كان تأكيداً. وإن سماها بغير اسمها صح أيضاً؛ لأن الاسم لا حكم له مع التعيين، فلا يؤثر الغلط فيه. وإن كان له ابنتان فقال: زوجتك ابنتي لم يصح حتى يسميها، أو يصفها بما تتميز به؛ لأن التعيين لا يحصل بدونه. فإن قال: ابنتي فاطمة، أو ابنتي الكبرى صح؛ لأنها تعينت به. وإن نويا ذلك من غير لفظ لم يصح؛ لأن الشهادة في النكاح شرط، ولا يقع إلا على اللفظ ولا تعيين فيه. وإن خطب الرجل امرأة فزوج غيرها لم ينعقد النكاح؛ لأنه ينوي القبول لغير ما وقع فيه الإيجاب فلم يصح، كما لو قال: قد زوجتك ابنتي فاطمة. فقال: قبلت تزويج عائشة، فإن كان له ابنتان كبرى اسمها عائشة وصغرى اسمها فاطمة، فقال: قبلت تزويج عائشة، فقبله الزوج ينويان الصغرى لم يصح؛ لأنهما لم يتلفظا بما تقع الشهادة عليه، ولم يذكر المنوية بما تتميز به. وإن نوى أحدهما الكبرى، والآخر الصغرى لم يصح؛ لأنه قبل النكاح في غير من وقع عليه(3/17)
الإيجاب. وإن قال: زوجتك حمل امرأتي لم يصح؛ لأنه لم يثبت لها حكم البنات قبل الولادة، ولا يتحقق كونها بنتاً. وإن قال: إن ولدت زوجتي بنتاً زوجتكها كان وعداً لا عقداً؛ لأن النكاح لا يتعلق على الشروط.
فصل:
الشرط الرابع من شروط النكاح: التراضي من الزوجين، أو من يقوم مقامهما؛ لأن العقد لهما، فاعتبر تراضيهما به كالبيع. فإن كان الزوج بالغاً عاقلاً لم يجز بغير رضاه. وإن كان عبداً لم يملك السيد إجباره عليه؛ لأنه خالص حقه، وهو من أهل مباشرته، فلم يجبر عليه كالطلاق. وإن كان العبد صغيراً فلسيده تزويجه؛ لأنه إذا ملك تزويج ابنه الصغير فعبده أولى. قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يملكه أيضاً قياساً على الكبير، ويملك الأب تزويج ابنه الصغير الذي لم يبلغ، لما روي عن ابن عمر: أنه زوج ابنه وهو صغير فاختصموا إلى زيد، فأجازاه جميعاً. رواه الأثرم؛ ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية فملك تزويجه، كابنته الصغيرة. وسواء كان عاقلا، أو معتوهاً؛ لأنه إذا ملك تزويج العاقل فالمعتوه أولى. ويملك الأب أيضاً تزويج ابنه البالغ المعتوه في ظاهر كلام أحمد والخرقي لأنه غير مكلف فأشبه الصغير. وقال القاضي: لا يجوز تزويجه، إلا إذا ظهر منه أمارات الشهوة، باتباع النساء ونحوه. فقال أبو بكر: لا يجوز تزويجه بحال؛ لأنه رجل فلم يجز تزويجه بغير إذنه، كالعاقل، والأول أولى؛ لأنه إذا جاز تزويج الصغير مع عدم حاجته إلى قضاء شهوته، وحفظه عن الزنى، فالبالغ أولى. ولا يجوز تزويجه، إلا إذا رأى وليه المصلحة في تزويجه، لاحتياجه إلى الحفظ والإيواء، أو قضاء الشهوة ونحو ذلك، فأما من له إفاقة في بعض أحيانه، فلا يجوز إجباره على النكاح لأنه يمكن استئذانه. ووصي الأب كالأب في تزويج الصغير والمعتوه؛ لأنه نائب عنه فأشبه الوكيل، ولا يملك غير الأب ووصيه تزويج صغير ولا معتوه؛ لأنه إذا لم يملك تزويج الأنثى مع قصورها، فالذكر أولى. وقال ابن حامد: للحاكم تزويج المعتوه الذي يشتهي النساء؛ لأنه يلي ماله، فملك تزويجه، كالوصي. وقال القاضي: له تزويج الصغير الذي يشتهي كذلك. ولا يجوز إذا رأى المصلحة في ذلك؛ لأنه ناظر له في مصالحه، وهذا منها، فأشبه عقده على ماله.
فصل:
فأما المرأة، فإن السيد يملك تزويج أمته بكراً كانت أو ثيباً، بغير رضاها؛ لأنه عقد على منافعها فملكه، كإجارتها. وأما الحرة فإن الأب يملك تزويج ابنته الصغيرة البكر بغير خلاف؛ «لأن أبا بكر الصديق زوج عائشة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي ابنة ست» . متفق عليه(3/18)
ولم يستأذنها وروى الأثرم: أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست. ولا يملك تزويج ابنته الثيب الكبيرة إلا بإذنها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأيم أحق بنفسها من وليها» وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس للولي من الثيب أمر» رواهما أبو داود. وفي البكر البالغة روايتان:
إحداهما: له إجبارها، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» وإثباته الحق للأيم على الخصوص يدل على نفيه عن البكر.
والثانية: لا يجوز تزويجها إلا بإذنها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تأذن، قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت» متفق عليه. وأما الثيب الصغيرة، ففيها وجهان:
أحدهما: لا يجوز تزويجها، لعموم الأحاديث فيها.
والأخرى: يجوز تزويجها؛ لأنها ولد صغير فملك الأب تزويجها، كالغلام. والثيب: هي الموطوءة في فرجها حلالاً كان أو حراماً؛ لأنه لو أوصى للثيب بوصية دخل فيها من ذكرناه، ولا تدخل في وصيته الأبكار. ووصي الأب إذا نص له على التزويج، كالأب؛ لأنه قائم مقامه.
فصل:
فأما غيرهما، فلا يملك تزويج كبيرة إلا بإذنها، جداً كان أو غيره، لعموم الأحاديث، ولأنه قاصر عن الأب فلم يملك الإجبار، كالعم. وفي الصغيرة ثلاث روايات:(3/19)
إحداهن: ليس لهم تزويجها، لما روي «أن قدامة بن مظعون زوج ابنة أخيه من عبد الله بن عمر، فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها» والصغيرة لا إذن لها. والثانية: لهم تزويجها ولها الخيار إذا بلغت، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبِيرًا} [النساء: 2] {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . دلت بمفهومها على أنه له تزوجها إذا أقسط لها، وقد فسرته عائشة بذلك. والثالثة: لهم تزويجها إذا بلغت تسعاً بإذنها، ولا يجوز قبل ذلك، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» رواه أبو داود. وجمعنا بين الأدلة والأخبار، وقيدنا ذلك بابنة تسع؛ لأن عائشة قالت: «إذا بلغت الجارية تسع سنين، فهي امرأة» . وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه، فأشبهت البالغة. وإذن الثيب الكلام، وإذن البكر الصمات، أو الكلام في حق الأب وغيره، لما تقدم من الحديث، وهو صريح في الحكم. وروى عدي الكندي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صمتها» رواه الأثرم وابن ماجة. ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم، لشمول اللفظ لهما جميعاً.
فصل:
الشرط الخامس من شروط النكاح: الإيجاب والقبول. ولا يصح الإيجاب إلا بلفظ النكاح، أو التزويج، فيقول: زوجتك ابنتي، أو أنكحتكها؛ لأن ما سواهما لا يأتي على معنى النكاح، فلا ينعقد به، كلفظ الإحلال، ولأن الشهادة شرط في النكاح، وهي واقعة على اللفظ. وغير هذا اللفظ ليس بموضوع للنكاح، وإنما يصرف إليه بالنية، ولا شهادة عليها، فيخلوا النكاح عن الشهادة.
وأما القبول فيقول: قبلت هذا النكاح. وإن اقتصر على قبلت صح؛ لأن القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي، كما في البيع. وإن قيل للولي: أزوجت؟ قال: نعم. قيل للمتزوج: أقبلت؟ قال: نعم انعقد النكاح؛ لأن نعم جواب للسؤال، والسؤال مضمر معاد فيه، ولهذا لو قيل له: أسرقت؟ قال: نعم. كان مقراً بالسرقة، حتى يلزمه القطع(3/20)
الذي يندرئ بالشبهات، فهاهنا أولى. ولا يصح الإيجاب والقبول بغير العربية لمن يحسنها؛ لأنه عدول عن لفظ الإنكاح والتزويج مع إمكانهما فلم يصح، لما ذكرنا. ويصح بمعناهما الخاص بكل لسان لمن يحسنهما؛ لأنه يشتمل على معنى اللفظ العربي، فأشبه ما لو أتى به، وليس عليه تعلمهما بالعربية؛ لأن النكاح غير واجب، فلا يلزم تعلم أركانه، كالبيع، ولأن المقصود المعنى دون اللفظ المعجوز وهو حاصل، بخلاف القراءة. وقال أبو الخطاب: يلزمه التعلم؛ لأن ما كانت العربية شرطاً فيه عند الإمكان لزمه تعلمه، كالتكبير. وإذا فهمت إشارة الأخرس صح النكاح بها؛ لأنه معنى لا يستفاد إلا من جهته فصح بإشارته، كبيعه. وإن تقدم القبول على الإيجاب لم يصح؛ لأن القبول إنما هو بالإيجاب، فيشترط تأخره عنه. وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه؛ لأن حكم المجلس حكم حالة العقد، بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، فإن تفرقا قبله، أو تشاغلا بغيره قبل القبول بطل الإيجاب؛ لأنهما أعرضا عنه بتفرقهما، أو تشاغلهما فبطل، كما لو طال التراخي. ونقل أبو طالب عن أحمد في رجل مشى إليه قوم فقالوا: زوج فلاناً على ألف، فقال: قد زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج فأخبروه فقبل، هل يكون هذا نكاحاً؟ قال: نعم. فجعل أبو بكر هذا رواية ثانية. وقال القاضي: هذا محمول على أنه وكل من قبل العقد في المجلس. وإن خرج أحدهما عن أهلية العقد بجنون، أو إغماء أو موت قبل القبول بطل؛ لأنه لن ينعقد فبطل بهذه المعاني، كإيجاب البيع. ومتى عقد النكاح هازلاً أو تلجئة صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن.
فصل:
وفي الكفاءة روايتان:
إحداهما: هي شرط لصحة النكاح، فإذا فاتت لم يصح. وإن رضوا به، لما روى الدارقطني بإسناده عن جابر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح النساء إلا الأكفاء، ولا يزوجهن إلا الأولياء» وقال عمر: لأمنعن فروج ذوي الأحساب إلا من الأكفاء؛ ولأنه تصرف يتضرر به من لم يرض به فلم يصح، كما لو زوجها وليها بغير رضاها.
والثانية: ليست شرطاً؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج زيداً مولاه ابنة عمته زينب بنت(3/21)
جحش، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية» . رواه مسلم وقالت عائشة: إن أبا حذيفة تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة. أخرجه البخاري. لكن إن لم ترض المرأة، ولم يرض بعض الأولياء ففيه روايتان:
إحداهما: العقد باطل؛ لأن الكفاءة حقهم، تصرف فيه بغير رضاهم، فلم يصح كتصرف الفضولي.
والثانية: يصح ولمن لم يرض الفسخ. فلو زوج الأب بغير الكفء فرضيت البنت كان للأخوة الفسخ؛ لأنه ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة، فملك الفسخ كالمتساويين.
فصل:
والكفء ذو الدين والمنصب. فلا يكون الفاسق كفئا لعفيفة؛ لأنه مردود الشهادة والرواية، غير مأمون على النفس والمال. ولا يكون المولى والعجمي كفئاً لعربية، لما ذكرنا من قول عمر. وقال سلمان لجرير: إنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم، ولا ننكح نساءكم، إن الله فضلكم علينا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجعله فيكم. والعرب بعضهم لبعض أكفاء، والعجم بعضهم لبعض أكفاء؛ لأن المقداد بن الأسود الكندي تزوج ضباعة ابنة الزبير ابن عمة رسول الله. وزوج أبو بكر أخته للأشعث بن قيس الكندي، وزوج علي ابنته أم كلثوم عمر بن الخطاب.
وعنه أن غير قريش لا يكافئهم وغير بني هاشم لا يكافئهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . واختلفت الرواية في ثلاثة أمور: أحدها: الحرية، فروي أنها ليست شرطاً في الكفاءة، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة حين عتقت تحت عبد، فاختارت فرقته: لو راجعتيه، قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا إنما أنا شفيع» ومراجعتها له ابتداء نكاح عبد لحرة. روي أنها شرط، وهي أصح؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بريرة حين عتقت تحت عبد» . فإذا ثبت لها الخيار بالحرية الطارئة فبالسابقة أولى؛ ولأن فيه نقصاً في المنصب والاستمتاع والإنفاق، ويلحق به العار فأشبه عدم المنصب.(3/22)
والثاني: اليسار ففيه روايتان:
إحداهما: هو من شروط الكفاءة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الحسب المال» وقال «إن أحساب الناس بينهم هذا المال» رواه النسائي بمعناه؛ ولأن على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، لإخلاله بنفقتها ونفقة ولدها.
والثانية: ليس منها؛ لأن الفقر شرف في الدين. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً» رواه الترمذي. وليس هو أمراً لازماً، فأشبه العافية من المرض. واليسار المعتبر: ما يقدر به على الإنفاق عليها حسب ما يجب لها.
والثالث: الصناعة وفيها روايتان:
إحداهما: أن أصحاب الصنائع الدنيئة لا يكافؤون من هو أعلى منهم. فالحائك والحجام والكساح والزبال وقيم الحمام لا يكون كفئاً لمن هو أعلى منه؛ لأنه نقص في عرف الناس، وتتعير المرأة به، فأشبه نقص النسب.
والثانية: ليس هذا شرطاً؛ لأنه ليس بنقص في الدين، ولا هو بلازم، فأشبه المرض. وقد أنشدوا:
وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
فصل:
ويستحب إعلان النكاح، والضرب عليه بالدف، لما روى محمد بن حاطب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح» رواه النسائي. فإن أسروه وتواصوا بكتمانه كره ذلك، وصح النكاح. وقال أبو بكر: لا يصح للحديث. ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» مفهومه صحته بهما، والحديث محمول على الندب جمعاً بين الخبرين، ولأن إعلان النكاح والضرب عليه بالدف إنما يكون بعد العقد وصحته، ولو كان شرطاً، لاعتبر حال(3/23)
العقد كسائر شروطه. وقال أحمد: لا بأس بالغزل في العرس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار:
«
أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت نواديكم
ولولا الحنطة السمرا ... ء ما سمنت عذاراكم
»
فصل:
ويستحب عقده يوم الجمعة؛ لأن جماعة من السلف كانوا يحبون ذلك. والمساية أولي، لما روى أبو حفص بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة» .
ويستحب تقديم الخطبة بين يدي النكاح، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (الحمد لله) فهو أقطع» ويستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود التي قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في الحاجة " إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] » . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا ليس بواجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لخاطب الواهبة: «زوجتكها(3/24)
بما معك من القرآن» ولم يذكر خطبة.
فصل:
ويستحب أن يقال للمتزوج ما روى أبو هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال: بارك الله لك، وبارك عليك وجمع بينكما في خير» رواه أبو داود. وإذا زفت إليه قال ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه» رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد مولى أبي أسيد أنه تزوج، فحضره عبد الله بن مسعود وأبو ذر، وحذيفة، وغيرهم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إذا دخلت على أهلك فصل ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي في، وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك.
فصل:
ويستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات الدين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» متفق عليه. ويختار الجميلة؛ لأنه أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح. وروى سعيد بإسناده أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة، تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها» ويتخير الحسيبة، لنجب ولدها. وقد روي عن عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:(3/25)
«تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم» ويختار البكر لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير» رواه ابن ماجه. ويختار الولود، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة» رواه سعيد. ويختار ذات العقل، ويجتنب الحمقاء؛ لأنه ربما تعدى ذلك إلى ولدها. وقد قيل: اجتنبوا الحمقاء، فإن ولدها ضياع، وصحبتها بلاء. قال أبو الخطاب: ويختار الأجنبية؛ لأن ولدها أنجب، وقد قيل: إن الغرائب أنجب، وبنات العم أصبر.
[باب ما يحرم من النكاح]
المحرمات في النكاح عشر أشياء:
أحدها: المحرمات بالنسب، وهن سبع ذكرهن الله سبحانه وتعالى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فالأمهات: كل امرأة انتسبت إليها بولادة، وهي: الأم، والجدات من جهة الأم وجهة الأب وإن علون. والبنات: كل من انتسب إليك بولادة وهي ابنة الصلب وأولادها وأولاد البنين وإن نزلت درجتهن. والأخت: من الجهات الثلاث. والعمات: كل من أدلت بالعمومة من أخوات الأب وأخوات الأجداد وإن علون من جهة الأب والأم. والخالات: كل من أدلى بالخؤولة من أخوات الأم وأخوات الجدات وإن علون من جهة الأب والأم. وبنات الأخ: كل من ينتسب ببنوة الأخ من أولاده وأولاد أولاده الذكور والإناث وإن نزلت درجتهن، وكذلك بنات الأخ؛ لأن الاسم ينطلق على البعيد والقريب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] . و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] . وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبعض أصحابه: «ارموا(3/26)
بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً» .
ولا فرق بين النسب الحاصل بنكاح، أو ملك يمين، أو وطء شبهة أو حرام. فتحرم عليه ابنته في الزنى، لدخولها في عموم اللفظ، ولأنها مخلوقة من مائة فحرمت، كتحريم الزانية على ولدها. وتحرم المنفية باللعان؛ لأنها ربيبته، ولاحتمال أنها ابنته.
فصل:
النوع الثاني: المحرمات بالرضاع، وهن مثل المحرمات بالنسب سواء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] نص على هاتين، وقسنا عليهما سائر المحرمات بالنسب. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» متفق عليه.
فصل:
النوع الثالث: المحرمات بالمصاهرة، وهن أربع: أمهات النساء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] . فمتى عقد النكاح على امرأة حرم عليه جميع أمهاتها من النسب والرضاع وإن علون على ما ذكرنا. وسواء دخل بالمرأة أو لم يدخل، لعموم اللفظ فيهن، ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل نكح امرأة دخل بها أو لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها» رواه ابن ماجه.
الثانية: الربائب، وهن بنات النساء. ولا تحرم ربيبته إلا أن يدخل بأمها، فإن فارق أمها قبل أن يدخل بها حلت له ابنتها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] .(3/27)
وإن ماتت قبل دخوله بها لم تحرم ابنتها، للآية. وعنه: تحرم؛ لأن الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة، فكذلك هاهنا. وإن خلا بها ثم طلقها ولم يطأها، فعنه: تحرم ابنتها كذلك. وقال القاضي: وهذا محمول على أنه حصل نظراً لشهوة أو مباشرة، فيخرج كلامه على إحدى الروايتين، فأما مع عدم ذلك فلا تحرم؛ لأن الدخول كناية عن الجماع ولم يوجد والنسب والرضاع في هذا سواء.
الثالثة: حلائل الأبناء، وهن زوجات أبنائه، وأبناء أبنائه وبناته، وإن سفلوا من نسب أو رضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ويحرمن بمجرد العقد، لعموم الآية فيهن.
الرابعة: زوجات الأب القريب والبعيد من قبل الأب والأم من نسب أو رضاع يحرمن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وسواء دخل بهن أو لم يدخل لعموم الآية.
فصل:
كل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع تحرم ابنتها، وإن نزلت درجتها، إلا بنات العمات والخالات فإنهن محللات، لقول الله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] وكذلك بنات من نكحهن الآباء، والأبناء فإنهن محللات، فيجوز للرجل نكاح ربيبة أبيه وابنه، لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
فصل:
ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين؛ لأنه إذا حرم النكاح لكونه طريقاً إلى الوطء، فتحريم الوطء أولى. وكل من حرمها النكاح من أمهات النساء وبناتهن، وحلائل الآباء والأبناء، حرمها الوطء في ملك اليمين والشبهة والزنى كذلك، ولأن الوطء آكد في التحريم من العقد، وكذلك تحرم به الربيبة، ولأنه سبب للبعضية، أشبه الوطء في النكاح. ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر؛ لأن كل واحد منهما وطء في فرج يجب الحد بجنسه، فاستويا في التحريم به. وإن وطئ صغيرة لا يوطأ مثلها، أو ميتة ففيه وجهان:(3/28)
أحدهما: ينشر الحرمة؛ لأنه معنى ينشر الحرمة المؤبدة، أشبه الرضاع.
والثاني: لا ينشرها؛ لأنه ليس بسبب للبعضية، أشبه النظر. وفي القبلة واللمس لشهوة، والنظر إلى الفرج لشهوة روايتان:
إحداهما: يحرم؛ لأنها مباشرة لا تباح إلا بملك، فتعلق بها تحريم المصاهرة، كالوطء.
والثانية: لا تحرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] . يريد بالدخول الوطء. وإن تلوط بغلام، فاختار أبو الخطاب: أن حكمه في تحريم المصاهرة حكم المباشرة فيما دون الفرج، لكونه وطئا في غير محله. وقال غيره من أصحابنا: حكمه حكم الزنى. فيحرم على الواطئ أم الغلام وابنته، ويحرم على الغلام أم الواطئ وابنته؛ لأنه وطء في فرج آدمي، أشبه الزنا بالمرأة، وإن وطئ أم امرأته وابنتها انفسخ النكاح؛ لأنه طرأ عليها ما يحرمها، أشبه الرضاع.
فصل:
النوع الرابع: تحريم الجمع وهو ضربان: جمع حرم لأجل النسب بين المرأتين، وهو ثابت في أربع. بين الأختين، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وسواء كانتا من أبوين، أو من أحدهما، أو من نسب أو رضاع، لعموم الآية في الجميع.
والثاني: بين الأم وبنتها؛ لأن تحريم الجمع بين الأختين تنبيه على تحريم الجمع بين الأم وبنتها.
والثالث: الجمع بين المرأة وعمتها.
والرابع: الجمع بينها وبين خالتها، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» متفق عليه؛ ولأنهما امرأتان لو كانت إحداهما ذكراً حرمت عليه الأخرى، فحرم الجمع بينهما، كالأختين؛ ولأنه(3/29)
يفضي إلى قطيعة الرحم المحرم، لما بين الزوجات من التغاير، والتنافر، والقريبة والبعيدة سواء في التحريم، لتناول اللفظ لهما، ولأن المحرمية ثابتة بينهما مع البعد، فكذلك تحريم الجمع. فإن تزوج أختين في عقد واحد بطل فيهما؛ لأن إحداهما ليست أولى بالبطلان من الأخرى فبطل فيهما، كما لو باع درهماً بدرهمين. وإن تزوج امرأة وابنتها في عقد واحد ففيها وجهان:
أحدهما: يبطل فيهما كالأختين.
والثاني: يبطل في الأم وحدها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والبنت لا تحرم بمجرد العقد، فكانت الأم أولى بالبطلان، فاختصت به، وإن تزوجت امرأة، ثم تزوج عليها من يحرم الجمع بينهما لم يصح نكاح الثانية وحدها؛ لأنها اختصت بالجمع.
فصل:
وإن تزوج امرأة، ثم طلقها لم تحل له أختها، ولا عمتها ولا خالتها حتى تنقضي عدتها، رجعية كانت أو بائنة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» ولأنها محبوسة على النكاح لحقه، فأشبهت الرجعية. ولو قال: أخبرتني بانقضاء عدتها فكذبته لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وسكناها، ويقبل في سقوط رجعتها؛ لأنه يقر بسقوط حقه. وفي جواز نكاح أختها؛ لأنه حق لله تعالى، وهو مقلد فيه. ولو أسلم زوج المجوسية، أو الوثنية لم يحل له نكاح أختها حتى تنقضي عدتها. وإن أسلمت زوجته دونه فنكح أختها، ثم أسلما في عدة الأولى اختار منهما واحدة، كما لو تزوجهما معاً. وإن أسلما بعد عدة الأولى بانت منه، والثانية زوجته.
فصل:
وإن ملك أختين جاز؛ لأن الملك لا يختص مقصوده بالاستمتاع، ولذلك جاز أن يملك من لا يحل له، كالمجوسية، وأخته من الرضاع. وله وطء إحداهما، أيتهما شاء؛ لأن الأخرى لم تصر فراشاً، فلم يكن جامع بينهما في الفراش، فإذا وطئها حرمت أختها. حتى تحرم الموطوءة بإخراج عن ملكه أو تزويج أو يعلم أنها ليست حاملاً، لئلا يكون جامعاً بينهما في الفراش، أو يكون جامعاً ماءه في رحم أختين. فإن عزلها عن فراشه واستبرأها لم تحل له أختها؛ لأنه لا يؤمن عوده إليها، فيكون جامعاً(3/30)
بينهما. وإن رهنها، أو ظاهر منها لم تحل أختها؛ لأنه متى شاء فك الرهن وكفر فأحلها. وكذلك إن كاتبها؛ لأنه بسبيل من حلها بما لا يقف على غيرهما، فأشبه ما لو رهنها. وروي عن أحمد: أنه لا يحرم الجمع بين الأختين في الوطء، وإنما يكره لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . والمذهب الأول، لكونه إذا حرم الجمع في النكاح لكونه طريقاً إلى الوطء ففي الوطء أولى. وإن تزوج امرأة فملك أختها جاز. ولا تحل له الأمة؛ لأن أختها على فراشه. فإن وطئها لم تحل الزوجة حتى يستبرئ الأمة، ويحتمل أن تحرم حتى يخرج الأمة عن ملكه، أو يزوجها؛ لأنها قد صارت فراشاً. وإن وطء أمته ثم تزوج أختها، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أن النكاح لا يصح؛ لأن النكاح سبب يصير به فراشاً، فلم يجز أن يرد على فراش الأخت كالوطء. قال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد: أنه يصح؛ لأن النكاح سبب يستباح به الوطء، فجاز أن يرد على وطء الأخت كالشراء. ولا تحل المنكوحة حتى تحرم الأمة بإخراج عن ملكه، أو تزويج لما ذكرنا في التي قبلها. وإن باع الموطوءة أو زوجها، ثم تزوج أختها، ثم عادت الموطوءة إلى ملكه لم تحل له، كما لو اشتراها ابتداء. ولا تحرم الزوجة؛ لأن النكاح أقوى.
وعنه: ما يدل على تحريمها أيضاً حتى يخرج الأمة عن ملكه؛ لأن هذه فراش، والمنكوحة فراش فلا يحل وطء واحدة منهما، كما لو كانتا أمتين. ولو كانت له أمة يطأها، فزوجها أو باعها، ثم تسرى أختها فعادت الأولى إليه لم يبح له واحدة منهما حتى يحرم الأخرى؛ لأن الأولى عادت إلى الفراش فاجتمعتا فيه، فلم يبح له واحدة منهما قبل إخراج الأخرى عن الفراش. فإن ملك أختين فوطئهما فقد أتى محرماً، ولا حد عليه؛ لأنه وطئ مملوكته، فأشبه وطء المظاهر منها، ولا تحل له واحدة منهما حتى يحرم الأخرى، كما يحرم وطء الأولى الثانية.
فصل:
إذا تزوج أختين في عقدين، ثم جهل السابقة منهما حرمتا جميعاً؛ لأن المحللة اشتبهت بالمحرمة فحرمتا جميعاً، كما لو اشتبهت بأجنبية، وعليه فراق كل واحدة منهما بطلقة، لتحل لغيره، ويزول حبسه عنها، إلا أن يريد إمساك إحداهما، فيطلق الأخرى، ويجدد العقد للتي يمسكها. فإن طلقهما معاً قبل الدخول، فعليه نصف المهر لإحداهما؛ لأن نكاحها صحيح، ولا يعلم أيتهما هي، فيقرع بينهما فيه؛ لأنهما سواء فيقرع بينهما، كما لو أراد السفر بإحدى زوجتيه، فمن خرجت له القرعة فلها نصف صداقها. وقال(3/31)
أبو بكر: يتوجه ألا يلزمه لهما صداق؛ لأنه مجبر على طلاقهما، فلم يلزمه صداقهما، كما لو فسخ نكاحه برضاع أو غيره. قال: وهذا اختياري. وإن كان دخل بهما، فعليه كمال الصداقين لهما، إلا أن لإحداهما المسمى، وفي الأخرى روايتان:
إحداهما: لها المسمى أيضاً.
والثانية: لها مهر المثل؛ لأنه واجب بالإصابة، لا بالعقد. فإن قلنا: يجب مهر المثل أقرعنا بينهما فيه. وإن أراد نكاح إحداهما طلق الأخرى. وعقد النكاح للثانية، إلا أنه إن كان لم يدخل بواحدة منهما، فله أن يعقد النكاح في الحال. وإن كان دخل بها لم يعقده حتى تنقضي عدتها، لئلا يكون نكاحاً لإحداهما في عدة أختها، أو ناكحاً لمعتدة من وطئه لها في غير ملكه.
فصل:
ولا يحرم الجمع بين ابنتي العم، ولا ابنتي الخال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ولأن إحداهما لو كانت ذكراً حلت له الأخرى، لكن يكره لما روى عيسى بن طلحة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تزوج المرأة على ذي قرابتها مخافة القطيعة» وهذا محمول على الكراهة لما ذكرناه، ويجوز الجمع بين المرأة وربيبتها للآية. وفعله عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان بن أمية. ويجوز للرجل أن يتزوج ربيبة ابنه وربيبة أبيه، وربيبة أمه للآية؛ ولأنه لا نسب بينهما ولا سبب محرم.
فصل:
الضرب الثاني: تحريم الجمع، لكثرة العدد. فلا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] يعني اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: أمسك أربعاً وفارق سائرهن» رواه الترمذي.(3/32)
وليس للعبد أن يتزوج أكثر من اثنتين، لما روي عن الحكم بن عيينة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين. وروى الإمام أحمد أن عمر سأل الناس عن ذلك، فقال: عبد الرحمن بن عوف: لا يتزوج إلا اثنتين. وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً. والحكم فيمن تزوج خمساً، أو نكح خامسة في عدة الرابعة، ونحو ذلك من الفروع، كالحكم في الجامع بين أختين على ما مضى فيه.
فصل:
ويباح التسري من الإماء من غير حصر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولأن القسم بينهن غير واجب، فلم ينحصرن في عدد. وللعبد أن يتسرى بإذن سيده، نص عليه أحمد؛ لأن ذلك قول ابن عمر، وابن عباس، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأن العبد يملك في النكاح، فملك التسري كالحر. وإنما يملك التسري إذا ملكه سيده وأذن له في التسري. قال القاضي: يجب أن يكون تسري العبد مبنياً على الروايتين من ثبوت الملك له بتمليك سيده؛ لأن الوطء لا يباح إلا بنكاح، أو ملك يمين. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] والمكاتب كالقن سواء؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم. فأما من بعضه حر، فإن ملك بجزئه الحر جارية فملكه تام، وله الوطء بغير إذن السيد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ولأن ملكه عليها تام. فأما تزويجه، فإنه يلزمه حقوق تتعلق بجميعه، فاعتبر رضى السيد به، ليكون راضياً بتعلق الحق بملكه. وإن تسرى العبد بإذن سيده ثم رجع لم يكن له الرجوع نص عليه؛ لأنه يملك به البضع فلم يملك فسخه، كالنكاح. وقال القاضي: ويحتمل أنه أراد التزويج. وله الرجوع في التسري؛ لأنه رجوع فيما ملكه لعبده، فأشبه سائر المال.
فصل:
النوع الخامس: المحرمات لاختلاف الدين، فلا يحل لمسلم نكاح كافرة غير كتابية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . ولا يحل نكاح مرتدة وإن تدينت بدين أهل الكتاب؛ لأنها لا تقر على دينها، ولا مجوسية. لأنه لم يثبت لهم كتاب، ولا كتابية، أحد أبويها غير كتابي،(3/33)
لأنها لم تتمحض كتابية، أشبهت المجوسية، ولا من يتمسك بصحف إبراهيم وزبور داود، أو كتاب غير التوراة والإنجيل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ؛ ولأن تلك الكتب ليست بشرائع، إنما هي مواعظ وأمثال. ويباح نكاح حرائر الكتابيات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهم اليهود والنصارى ومن وافقهم من أصل دينهم ودان بالتوراة والإنجيل، كالسامرة وفرق النصارى، وفي نصارى بني تغلب روايتان:
إحداهما: إباحة نسائهم؛ لأنهن كتابيات فيدخلن في عموم الآية.
والثانية: تحريمهن؛ لأنه لا يعلم دخولهن في دينهم قبل تبديل كتابهم. ولا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال، كتابياً كان أو غير كتابي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وكل من تحل حرائرهم بالنكاح حل وطء إمائهم بملك اليمين. ومن حرم نكاح حرائرهم، حرم وطء إمائهم بملك اليمين بالقياس على المحرمات بالرضاع.
فصل:
النوع السادس: التحريم لأجل الرق وهو ضربان:
أحدهما: تحريم الإماء، وهن نوعان: كتابيات، فلا يحل لمسلم نكاحهن ولو كان عبداً. وعنه: يجوز، والأول: المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . فشرط في إباحتهن إيمانهن، ولأنهن ناقصات من وجهين، أشبه المشركات.
والثاني: الأمة المسلمة، فللعبد نكاحها؛ لأنها تساويه، ولا تحل لحر نكاحها إلا بشرطين: عدم الطول، وهو: العجز عن نكاح حرة، أو شراء أمة.
والثاني: خشية العنت: وهو الزنى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فإن أمكنه نكاح حرة كتابية لم تحل له(3/34)
الأمة المسلمة؛ لأنه لا يخشى العنت، ولأنه أمكنه صيانة ولده عن الرق فحرم عليه إرقاقه، كما لو قدر على نكاح مؤمنة. وإن تزوج أمة تحل له، ثم وجد الطول ففيه وجهان:
أحدهما: نكاحه باق، اختاره الخرقي؛ لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله، كما لو أمن العنت.
والثاني: يبطل؛ لأنه أبيح للضرورة فزال بزوالها، كأكل الميتة. وإن تزوج حرة على أمة فهل يبطل نكاح الأمة؟ على روايتين كذلك، فإن تزوج حرة تعفه وأمة في عقد واحد فسد نكاح الأمة، لعدم شرطه، وهو عدم طول الحرة. وفي نكاح الحرة روايتان.
أصلهما تفريق الصفقة. وكذلك الحكم في كل عقد جمع فيه بين محللة ومحرمة، كأجنبية وأخته من الرضاع. فإن كانت الحرة لا تعفه، ولم يتمكن من نكاحها حرة تعفه ففي نكاح الأمة روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأنه واجد الطول حرة.
والثانية: يصح؛ لأنه خائف العنت، عادم لطول حرة تعفه، فحلت له الأمة، كالعاجز عن نكاح حرة. فعلى هذا يصح العقد فيهما جميعاً، وكذلك الحكم إن كانت تحته حرة لا تعفه، فيتزوج عليها أمة، أو كان تحته أمة لا تعفه فيتزوج عليها ثانية، ففيها روايتان.
قال الخرقي: وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين. ووجه الروايتين ما تقدم. وإن تزوج أمتين في عقد وإحداهما تعفه بطل فيهما؛ لأن إحداهما ليست بأولى من الأخرى، فبطل فيهما، كما لو جمع بين أختين.
فصل:
الضرب الثاني: أنه لا يحل للعبد نكاح سيدته؛ لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض، إذا ملكها إياه يقتضي وجوب نفقته عليها، وسفره بسفرها، وطاعته إياها. ونكاحه إياها يوجب عكس ذلك، فيتنافيان. ولا يصح أن يتزوج الحر أمته؛ لأن النكاح يوجب للمرأة حقوقاً يمنعها ملك اليمين من القسم والمبيت فبطل. فإن ملكت المرأة زوجها، أو جزءاً منه، أو ملك الرجل زوجته أو جزءاً منها انفسخ النكاح، لما ذكرنا، ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه؛ لأن له فيها شبهة يسقط الحد بوطئها، فلم يحل له نكاحها، كالمشتركة بينه وبين غيره. وللابن أن يتزوج أمة أبيه، لعدم ذلك فيه. وإن تزوج جارية ثم ملكها ابنه، ففيه وجهان:(3/35)
أحدهما: يبطل النكاح؛ لأن ملك الابن كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح.
والثاني: لا يبطل؛ لأنه يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحها، كما لو ملكها أجنبي.
فصل:
النوع السابع: منكوحة غيره، والمعتدة منه، والمستبرأة منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . ولقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] ؛ ولأن تزويجها يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، وسواء في ذلك المعتدة من وطء مباح، أو محرم، أو من غير وطء؛ لأنه لا يؤمن أن تكون حاملاً، فلو جوزنا تزويجها لاختلاط نسب المتزوج بنسب الواطئ الأول. ولا يجوز نكاح المزني بها بالحمل إلا أن تضع. فإن وطئت امرأة الرجل بشبهة أو زنا لم ينفسخ نكاحه؛ لأن النكاح سابق فكان أولى. ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين: «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر يسقي ماءه زرع غيره» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وأبو داود، وزاد يعني: إتيان الحبالى؛ ولأنها ربما يأتي بولد من الزنا فينسب إليه. قال أحمد: وإذا علم الرجل من جاريته الفجور فلا يطؤها لعلها تلحق به ولداً ليس منه.
فصل:
ولا يحل التعريض بخطبة الرجعية؛ لأنها زوجته، فأشبهت ما قبل الطلاق، ويجوز التعريض بخطبة المعتدة من الوفاة، والطلاق الثلاث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] . وروت «فاطمة بنت قيس: أن أبا عمر بن حفص ابن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقيني بنفسك» .(3/36)
ويحرم التصريح؛ لأن تخصيص التعريض بالإباحة دليل على تحريم التصريح، ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يأمن أن يحملها الحرص عليه على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها، بخلاف التعريض. فأما البائن بخلع، فلزوجها التصريح بخطبتها والتعريض؛ لأنه يحل له نكاحها في عدتها، إذ لا يصان ماؤه عن مائه، ولا يخشى اختلاط نسبه بنسب غيره. وهل يحل لغيره التعريض بخطبتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحل؛ لأن الزوج يملك استباحتها في عدتها فأشبهت الرجعية.
والثاني: يحل؛ لأنها بائن أشبهت المطلقة ثلاثاً. والمرأة كالرجل فيما يحل لها من الجواب ويحرم. والتصريح أن يقول: زوجيني نفسك إذا انقضت عدتك ونحوه، والتعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، ولا تسبقيني بنفسك، وما أحوجني إلى مثلك ونحوه. وتجيبه: ما يرغب عنك. وإن قضي شيء كان ونحوه.
فصل:
ومن خطب امرأة فأجيب حرم على غيره خطبتها إلا أن يأذن، أو يترك، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» متفق عليه. وفي حديث: «أو يأذن له فيخطب» ولأن في ذلك إفساداً على أخيه، وإيقاعاً للعداوة بينهما فحرم، كبيعه على بيعه. وإن لم يسكن إليه، فلغيره خطبتها، لما روت «فاطمة بنت قيس أنها أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت: أن معاوية وأبا جهم خطباها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة» متفق عليه. فخطبها بعد خطبتها. وإن لم يعلم هل أجابت أم لا؟ ففيه وجهان:(3/37)
أحدهما: التحريم، لعموم النهي.
والثاني: الإباحة؛ لأن الأصل عدم الإجابة المحرمة. والتعويل في الإجابة والرد عليها إن كانت غير مجبرة، وعلى وليها إن كانت مجبرة.
فصل:
النوع الثامن: الملاعنة. تحرم على الملاعن وتذكر في بابه.
النوع التاسع: الزانية، يحرم نكاحها حتى تتوب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؛ ولأنه لا يؤمن أن تلحق به ولداً من غيره، فحرم نكاحها كالمعتدة. ويحرم نكاحها في عدتها على الزاني وغيره؛ لأن ولدها لا يلحق نسبه بأحد، فيؤدي تزويجها إلى اشتباه النسب. فأما الموطوءة بشبهة، أو في نكاح فاسد، فهل يحرم؟ فظاهر كلام الخرقي تحريمها على الواطئ، لقوله في الذي تزوج امرأة في عدتها: له أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، وذلك أنه وطء من غير ملك. أشبه الوطء المحرم. ويحتمل أن لا تحرم على الواطئ؛ لأن نسب ولدها لاحق به، فأشبهت المعتدة من النكاح.
فصل:
واختلف أصحابنا في الخنثى، المشكل. فقال أبو بكر: لا يصح نكاحه. ونص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الميموني؛ لأنه مشكوك في حله للرجال والنساء فلم يحل، كما لو اشتبهت الأجنبية بالأخت. وقال الخرقي: يرجع إلى قوله. فإن قال: إني رجل حل له النساء وإن قال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلاً؛ لأنه معنى لا يعرف إلا من جهته. وليس فيه إيجاب حق على غيره فوجب أن يقبل منه، كما يقبل(3/38)
قول المرأة في انقضاء عدتها، فعلى هذا إن عاد بعد نكاح المرأة، فقال: أنا امرأة انفسخ نكاحه، لإقراره ببطلانه، ولزمه نصف المهر إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، ولا يحل له بعد ذلك أن ينكح؛ لأنه أقر بقوله: أنا رجل بتحريم الرجال، وأقر بقوله: أنا امرأة بتحريم النساء. وإن تزوج رجلاً ثم قال: أنا رجل لم يقبل قوله في فسخ نكاحه؛ لأنه حق عليه، فإذا زال النكاح فلا مهر له؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وسواء دخل به أو لم يدخل. ويحرم عليه النكاح بعد ذلك لما ذكرناه.
فصل:
النوع العاشر: التحريم للإحرام. فلا يحل نكاح محرم ولا محرمة، ولا يجوز عقد المحرم نكاح غيره. ومتى عقد أحد نكاحاً لمحرم، أو على محرمة، أو عقد المحرم نكاحاً لغيره، أو لنفسه فالعقد باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» رواه مسلم؛ ولأنه عارض منع الطيب فمنع النكاح، كالعدة. وعنه: أن عقد المحرم النكاح لغيره صحيح؛ لأنه محرم، لكونه من دواعي الوطء، ولا يحصل ذلك بكونه ولياً. والأول أصح، لعموم الخبر، فأما إن كان شاهداً في النكاح انعقد بشهادته؛ لأنه من أهل الشهادة، فأشبه الحلال. وتكره له الشهادة والخطبة، للخبر في الخطبة، والشهادة في معناها؛ لأنها معونة على النكاح.
[باب الشروط في النكاح]
وهي قسمان صحيح وفاسد. فالصحيح نوعان:
أحدهما: شرط ما يقتضيه العقد، كتسليم المرأة إليه، وتمكنه من استمتاعها، فهذا لا يؤثر في العقد. ووجوده كعدمه.
والثاني: شرط ما تنتفع به المرأة، كزيادة على مهرها معلومة، أو نقد معين، أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، أو لا يسافر بها ولا ينقلها عن دارها ولا بلدها، فهذا صحيح يلزم الوفاء به، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» متفق عليه. وروي أن رجلاً تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذاً يطلقننا. فقال(3/39)
عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط، ولأنه شرط لها، فيه نفع ومقصود لا ينافي مقصود النكاح فصح، كالزيادة في المهر. فإن لم يف به فلها فسخ النكاح لأنه شرط لازم في عقد، فثبت حق الفسخ بفواته، كشرط الرهن في البيع.
فصل:
القسم الثاني: فاسد وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يبطل في نفسه، ويصح النكاح، مثل أن يشرط عليها أنه لا مهر لها، أو الرجوع عليها بمهرها، أو لا نفقة لها عليه، أو أن نفقته عليها، أو لا يطؤها، أو يعزل عنها، أو يقسم لها دون قسم صاحبتها، أو ألا يقسم لها إلا في النهار، أو ليلة في الأسبوع ونحوه، فهذه الشروط باطلة في نفسها؛ لأنها تتضمن إسقاط حق يجب بالعقد قبل انعقاده فلم يصح، كإسقاط الشفعة قبل البيع. وقد نقل عن أحمد في النهاريات والليليات: ليس هذا من نكاح أهل الإسلام، وهذا يحتمل إفساد العقد، فيتخرج عليه سائر الشروط الفاسدة أنها تفسده؛ لأنها شروط فاسدة، فأفسدت العقد، كما لو زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته. وهذا يحتمل أن يفسد بشرطها عليها ترك الوطء؛ لأنه ينافي مقتضى العقد ومقصوده. ولو شرط عليها ألا يطأها، لم يفسد؛ لأن الوطء حقه عليها وهي لا تملكه.
فصل:
النوع الثاني: ما يفسد النكاح من أصله، وهو أربعة أمور:
أحدهما: أن يشرطا تأقيت النكاح، وذلك نكاح المتعة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً أو نحوه فالنكاح باطل نص عليه، لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن المتعة في حجة الوداع» وفي لفظ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرم متعة النساء» رواه أبو داود؛ ولأنه لم يتعلق به أحكام النكاح من الطلاق وغيره فكان باطلاً، كسائر الأنكحة الباطلة. قال أبو بكر: فيه رواية أخرى: أنها مكروهة؛ لأن أحمد قال في رواية ابن منصور يجتنبها أحب إلي، فظاهرها الكراهة، لا(3/40)
التحريم وغيره من أصحابنا يقول: المسألة رواية واحدة في تحريمها. ولو شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح النكاح؛ لأنه شرط يمنع بقاء النكاح، فأشبهت التأقيت. ويتخرج أن يصح النكاح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح وقع مطلقاً، وشرط على نفسه شرطاً لا يؤثر فيه، فأشبه ما لو شرط ألا يطأها.
فصل:
الأمر الثاني: أن يزوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته، فهذا نكاح الشغار. ولا تختلف الرواية عن أحمد في فساده، لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن نكاح الشغار» . والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه؛ ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفاً في الآخر فلم يصح، كما لو قال: بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي. فإن سميا مع ذلك صداقاً، فقال: زوجتك أختي على أن تزوجني أختك، ومهر كل واحدة مائة، فالمنصوص عن أحمد صحته لحديث ابن عمر. وقال الخرقي: لا يصح، لما روى الأعرج «أن العباس بن عبيد الله بن العباس: أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته: وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان: يأمره أن يفرق بينهما. وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه أبو داود ولأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كما لو باعه ثوبه بشرط أن يبيعه ثوبه، وإن سمي لإحداهما مهراً، دون الأخرى، فقال أبو بكر: النكاح فاسد فيهما، وقال القاضي: يجب أن يكون في التي سمى لها مهراً روايتان.
فصل:
الشرط الثالث: أن يشرط عليه إحلالها لزوج قبله، ثم يطلقها فيكون النكاح حراماً باطلاً، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. فإن تواطآ على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه فالنكاح باطل أيضاً. نص عليه. وقال: متى أراد بذلك الإحلال فهو ملعون،(3/41)
لعموم الحديث. وروى نافع: أن رجلاً قال لابن عمر: امرأة تزوجتها أحلها لزوجها ولم يأمرني ولم تعلم. قال: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها. وإن كنا نعده على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحاً. ولا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة. وإن شرط عليه سابقاً إحلالها فنوى غير ذلك صح؛ لأنه خلا عن نية التحليل وشرطه. وإن قصدت المرأة التحليل ووليها دون الزوج لم يؤثر في العقد؛ لأنه ليس إليهما إمساك ولا فراق، فلم يؤثر بنيتهما، كالأجنبي. وإن زوجها عبده بنية أن يهبها إياه لينفسخ نكاحه فهو نكاح المحلل؛ لأنه قصد به التحليل. وذكر القاضي: فيما إذا خلا العقد عن شرط التحليل وجهاً آخر: أنه يصح. وخرجه أبو الخطاب رواية؛ لأنه روي عن أحمد: أنه كرهه فظاهره الصحة مع الكراهة؛ لأن مجرد النية لا يفسد العقد كما لو اشترى عبداً ينوي أن يبيعه.
فصل:
النوع الثالث: فاسد وفي فساد النكاح به روايتان:
وهو أن يتزوجها بشرط الخيار، أو إن رضيت أمها، أو إنسان ذكره، أو بشرط ألا يكره فلان، أو إن جاءها بالمهر إلى كذا، وإلا فلا نكاح بينهما. فنقل عنه ابناه وحنبل: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد؛ لأن عقد النكاح يجب أن يكون ثابتاً لازماً، فنافاه هذا الشرط، كالخلع. ونقل عنه: أن العقد صحيح والشرط باطل؛ لأن النكاح يصح في المجهول فلم يفسد بالشرط الفاسد، كالعتق. ونقل عنه فيمن شرط إن جاءها بالمهر في وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما أن الشرط صحيح؛ لأن لها فيه نفعاً أشبه ما لو اشترط ألا يخرجها من دارها.
[باب الخيار في النكاح]
وأسبابه أربعة:
أحدها: أن يجد أحدهما بصاحبه عيباً يمنع الوطء وهو سبعة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي: الجنون مطبقاً كان أو غير مطبق، والجذام، والبرص، واثنان في الرجل: الجب والعنة، واثنان في المرأة: الرتق، وهو انسداد الفرج. والفتق وهو انخراق ما بين مخرج البول والمني. وقيل: انخراق ما بين القبل والدبر، فمن وجد بصاحبه عيباً منها فله الخيار في فسخ النكاح، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من بني غفار فرأى بكشحها بياضاً، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البسي ثيابك والحقي بأهلك»(3/42)
فثبت الرد بالبرص بالخبر، وقسنا عليه سائر العيوب؛ لأنها في معناه في منع الاستمتاع. وإن كان قد بقي من ذكر المجبوب ما يمكن الجماع به، ويغيب منه في الفرج قدر الحشفة فلا خيار لها؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. وإن اختلفا في ذلك، فالقول قول المرأة؛ لأنه يضعف بالقطع، والأصل عدم الوطء.
فصل:
وإن وجد أحدهما الآخر خنثى، أو وجدت زوجها خصياً ففيه وجهان:
أحدهما: لها الخيار؛ لأنه يثير نفرة، وفيه نقص وعار، فأشبه البرص.
والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. واختلف أصحابنا في البخر، وهو نتن الفم. وفي الذي لا يستمسك بوله أو خلاه. فقال أبو بكر: يثبت به الخيار؛ لأنه ينفر عن الاستمتاع، ويتعدى ضرره ونجاسته. وقال غيره: لا خيار فيه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه، ويتخرج عليه الناصور والباسور والقروح السيالة في الفرج؛ لأنها في معناه. واختلفوا في العفل، وقيل: هي رغوة في الفرج يمنع لذة الوطء، فعده الخرقي مانعاً كذلك، ولم يعده القاضي في الموانع؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع. وكذلك يخرج في الرائحة الكريهة التي في الفرج تثور عند الوطء. وما عدا هذه العيوب كالقرع والعمى والعرج لا يثبت به خيار؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه.
فصل:
ومن علم العيب وقت العقد فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة بالعيب فأشبه من اشترى ما يعلم عيبه. وإن وجد بصاحبه عيباً به مثله، ففيه وجهان:
أحدهما: لكل واحد منهما الخيار، لوجود سببه، فأشبه العبد المغرور بأمة، ولأنه قد يعاف عيب غيره، وإن كان به مثله.
والثاني: لا خيار له؛ لأنهما متساويان في النقص فأشبها القفيزين. وإن حدث العيب بأحدهما بعد العقد، ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له، وهو قول أبي بكر: لأنه عيب حدث بعد لزوم العقد أشبه الحادث بالمبيع.
والثاني: يثبت به الخيار. وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنه عيب، لو قارن أثبت الخيار، فإذا حدث أثبته كالإعسار.(3/43)
فصل:
وإذا علم العيب فأخر المطالبة بالفسخ لم يبطل خياره. وقال القاضي: يبطل. وأصلهما ما ذكرنا في خيار الرد بالعيب في المبيع، وإن قال: رضيت به معيباً، أو وجد منه دلالة على الرضى، كالاستمتاع، أو التمكين منه بطل خياره.
فصل:
وإن فسخ قبل المسيس فلا مهر لها؛ لأنه إن كان الفسخ منها فالفرقة من جهتها، فأسقطت مهرها كردتها. وإن كان من الزوج فهو لمعنى من جهتها، لحصوله بتدليسها، فأشبه ما لو باشرتها. وإن كان بعد الدخول استقر المهر ولم يسقط لاستقرار النكاح بالدخول فيه، ويجب المسمى؛ لأنه نكاح صحيح فيه مسمى صحيح، فوجب المسمى فيه. كما لو ارتدت. وذكر القاضي: أن فيه رواية أخرى أنه يجب مهر المثل بناء على العقد الفاسد، وليس هذا بفاسد، إذ لو كان فاسداً لما ثبت الخيار فيه، ويرجع بالمهر على من غره، لما روي عن عمر أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها غرم على وليها، ولأنه غره في النكاح بما يجب به المهر فكان المهر عليه، كما لو غره بحرية أمة. وعنه: لا يرجع على أحد؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن لم يعلم الولي فالغرور من المرأة. وإن طلق الزوج ثم علم بها عيباً فعليه المهر، لا يرجع به على أحد؛ لأنه رضي بالتزامه.
فصل:
ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كالفسخ للإعسار. فإن رده الحاكم إلى مستحقه جاز، والفرقة الواقعة بينهما فسخ لا طلاق؛ لأنه رد لعيب، فكان فسخاً كرد المشتري. وإن اتفقا على الرجعة لم يجز إلا بنكاح جديد، ويرجع على طلاق ثلاث. وقال أبو بكر: فيها قول آخر: إنها تحرم على التأبيد؛ لأنه فرقة حاكم، فأشبهت فرقة اللعان، ولنا أنها فرقة لعيب أشبهت فرقة المعتقة تحت عبد.
فصل:
وليس لولي صغير ولا صغيرة ولا سيد أمة تزويجهم بمعيب؛ لأن فيه ضرراً بهم، وعليه النظر في الحظ لهم. ولا لولي كبيرة تزويجها بمعيب بغير رضاها؛ لأنه فيه ضرراً بها. فإن طلبت التزويج بمجبوب أو عنين لم يملك منعها؛ لأن الضرر يختص بها. وإن أرادت التزويج بمعيب غيرهما فله منعها؛ لأن عليه ضرراً أو عاراً، ويخشى تعديه(3/44)
إليها وإلى ولدها، ويحتمل أنه ليس منعها قياساً على الجب والعنة. فإن رضيا به جاز ويكره. قال أحمد ما يعجبني أن يزوجها بعنين، وإن رضيت الساعة فتكره إذا دخلت. وإن حدث العيب بالرجل، أو وجدته معيباً فرضيت به المرأة لم يكن لوليها إجبارها على الفسخ؛ لأنه حقه في ابتداء العقد لا في دوامه. ولهذا يملك منعها من نكاح العبد، ولو عتقت تحت عبد لم يملك إجبارها على الفسخ.
فصل:
وإذا اختلفا في عيب المرأة أريت النساء الثقات، فرجع إلى قولهن. فإن ادعت المرأة أن زوجها عنيناً فأنكر فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة. وإن اعترف أجله الحاكم عاماً منذ رافعته، لما روى سعيد بن المسيب: إن عمر أجل العنين سنة. وعن علي والمغيرة مثله؛ ولأن العجز قد يكون لعارض من حرارة، أو برودة، أو يبوسة، أو رطوبة فإذا مضت السنة واختلفت عليه الأهوية ولم يزل علم أنه خلقة. ولا تثبت المدة إلا بالحكم؛ لأنها مدة مختلف فيها بخلاف مدة الإيلاء. فإذا مضت السنة منذ ضربت له المدة ولم يطأها خيرت في المقام معه أو فراقه؛ لأن الحق لها. فإن رضيته عنيناً، أو قالت في وقت: قد رضيته عنيناً لم يكن لها خيار بعد ذلك؛ لأنها رضيت العيب، فأشبه ما لو رضيت المبيع المعيب. وإن اختارت فراقه فرق الحاكم بينهما. وإن اعترفت أنه وطئها مرة بطل كونه عنيناً. وإن ادعى أنه وطئها، فادعت أنها عذراء أريت النساء الثقات، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها، وإلا فالقول قوله. وإن اختلفا في ثيب فالقول قوله؛ لأن الأصل السلامة. وعنه: القول قولها؛ لأن الأصل عدم الإصابة. وعنه: يخلى معها في بيت، ويقال: أخرج ماءك على شيء، فإن عجز عن ذلك فالقول قولها. وإن فعل فالقول قوله. فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار، فإن ذاب فهو مني، وبطل قولها؛ لأنه شبيه ببياض البيض، وذاك إذا وضع على النار تجمع ويبس، وهذا يذوب، فيتميز بذلك أحدهما من الآخر، فيختبر به؛ لأن هذا قول عطاء. وإن اعترفت أنه وطئ غيرها، أو وطئها في الدبر، أو في نكاح آخر لم تزل عنته؛ لأنه قد يعن عن امرأة دون أخرى، وفي نكاح دون نكاح. والدبر ليس بمحل للوطء، فأشبه ما دون الفرج. ويقتضي قول أبي بكر أنها متى اعترفت بوطئه لغيرها، أو لها في أي نكاح كان زالت عنته. وهذا اختيار ابن عقيل؛ لأن العنة جبلة وخلقة، فلا تبقى مع ما ينافيها. وأدنى الوطء الذي يخرج به من العنة، إيلاج الحشفة في الفرج؛ لأن الوطء الذي تتعلق به الأحكام دون غيره. وهل يحلف من القول قوله؟ يحتمل وجهين، بناء على الاستحلاف في غير دعوى المال.(3/45)
فصل:
السبب الثاني: إذا عتقت المرأة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح، لما روت عائشة قالت: «كاتبت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها وكان عبداً، فاختارت نفسها. قال عروة: ولو كان حراً ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في " موطئه " وأبو داود في " سننه ". وإن عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، للخبر، ولأنها كملت تحت كامل، فلم يثبت لها خيار، كما لو أسلمت الكتابية تحت مسلم، بخلاف زوجة العبد. ولها الفسخ بنفسها؛ لأنه خيار ثبت بالنص والإجماع، ولما روى الحسن عن عمر بن أمية قال: سمعت رجالاً يتحدثون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها، إن شاءت فارقته، فإن وطئها فلا خيار لها» رواه الإمام أحمد في المسند. وخيارها على التراخي، للخبر ما لم يطأها، فإن أمكنته من وطئها عالمة بالحال بطل خيارها، للخبر؛ ولأنه دليل على رضاها به فبطل خيارها، كما لو نطقت به. وإن لم تعلم بطل خيارها أيضاً، نص عليه أحمد للخبر. وقال القاضي وأبو الخطاب: لا يبطل؛ لأن تمكينها مع جهلها لا يدل على رضاها به. وإن لم تعلم بالعتق حتى وطئها، ففيه وجهان كالتي قبلها فعلى هذا إن ادعت الجهل بالعتق وهي ممن يجوز خفاؤه عليها لبعدها عن المعتق فالقول قولها مع يمينها، وإن كانت ممن لا يخفى عليها ذلك لقربه واشتهاره لم يقبل قولها، فإن ادعت الجهل بثبوت الخيار فالقول قولها؛ لأنه لا يعلمه إلا خواص الناس. وإن أعتق العبد قبل اختيارها بطل خيارها؛ لأن الخيار لدفع الضرر الحاصل بالرق، وقد زال بعتقه فزال، كرد المعيب إذا زال عيبه. ولو أعتقا معاً فلا خيار لها. وعنه: لها الخيار، والأول أولى؛ لأنها لو عتقت تحت حر لم يثبت لها خيار، لعدم الضرر، فكذا هاهنا. ويستحب لمن أراد عتق عبد وجاريته المتزوجين البداءة بعتق الرجل، لئلا يكون للمرأة عليه خيار. وقد روى أبو داود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه كان غلام وجارية، فقالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أريد أن أعتقهما، فقال لها: فابدئي بالرجل» .
فصل:
فإن أعتقت المجنونة والصغيرة فلا خيار لهما؛ لأنهما لا عقل لهما، ولا قول(3/46)
معتبر، ولا يملكه وليهما؛ لأن هذا طريقه الشهوة، فلا يدخل تحت الولاية، كالقصاص، فإذا بلغت الصغيرة، وعقلت المجنونة فلها الخيار حينئذ، لكونهما صارا على صفة يعتبر كلامهما. والحكم في وطئهما كالحكم في وطء الجاهلة بالعتق.
فصل:
إذا عتق بعض الأمة فلا خيار لها في إحدى الروايتين اختارها الخرقي؛ لأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسها على من عتق جميعها؛ لأنها أكمل منها.
والثانية: لها الخيار اختارها أبو بكر؛ لأنها أكمل من زوجها، فأشبهت الكاملة بالعتق.
فصل:
إذا فسخت قبل الدخول سقط مهرها؛ لأن الفسخ من جهتها. وعنه: يجب نصف المهر للسيد؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط نصفه من جهة غيره. وإن رضيته فالمهر للسيد؛ لأنه استحقه بالعقد، وروي وإن فسخت بعد الدخول استقر المسمى للسيد؛ لأنه وجب له بالعقد، واستقر بالدخول، فأشبه ما لو ارتدت. وإن طلقها قبل اختيارها وقع طلاقه، ولسيدها نصف المهر، وإن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده. وقال القاضي: طلاقه موقوف إن فسخت، تبينا أنه لم يقع، وإن لم تفسخ وقع. ولنا أنه طلاق من زوج جائز التصرف في نكاح صحيح فوقع، كما لو لم يعتق.
فصل:
وإن طلقها الزوج طلاقاً بائناً، ثم أعتقت فلا خيار لها؛ لأنه لا نكاح بينهما يفسخ. وإن كان رجعياً فلها الفسخ في العدة؛ لأن نكاحها باق ويمكن فسخه، فإذا فسخت انقطعت الرجعة، وبنت على ما مضى من العدة، كما لو طلقها بائنة. وإن اختارت المقام معه بطل خيارها؛ لأنها حالة صح منها اختيار الفسخ، فصح اختيار المقام، كصلب النكاح.
فصل:
السبب الثالث: الغرر. فلو تزوجت المرأة رجلاً مطلقاً، أو على أنه حر فبان عبداً فلها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنها إذا ملكت الفسخ بالحرية الطارئة، فللسابقة أولى. ولها الفسخ من غير حاكم، كما لو عتقت تحت عبد. ومن جعل الحرية من شروط الكفاءة، والكفاءة من شروط النكاح أبطله، لفوات شرطه.(3/47)
فصل:
وإن تزوج أمة على أنها حرة، أو يظنها حرة، وهو ممن لا يحل نكاح الإماء، فالنكاح فاسد، وعليه فراقها متى علم، وحكمه حكم الأنكحة الفاسدة في المهر وغيره. وإن كان ممن تحل له الإماء، فالنكاح صحيح؛ لأن فوات صفة في المعقود عليه لا تفسد العقد، كما لو تزوجها على أنها بيضاء فبانت سوداء. وفي الموضعين متى أصابها فولدت منه فالولد حر، حراً كان الزوج أو عبداً؛ لأنه اعتقد حريتها، وعليه فداء أولاده؛ لأن عمر وعلياً وابن عباس قضوا بذلك. وعنه: ليس عليه فداؤهم؛ لأن الولد ينعقد حراً، فلم يضمنه لسيدها؛ لأنه لم يملكه. وعنه: يقال للزوج افتد ولدك وإلا فهم يتبعون الأم. والمذهب الأول. وله فسخ نكاحها إن أحب؛ لأنه غرور بالحرية، أشبه غرور المرأة. فإن فسخ قبل الدخول فلا مهر عليه؛ لأن الفسخ لسبب من جهتها. وإن فارقها بعد الدخول فعليه المهر بما أصاب منها، ويرجع بما غرمه من المهر، وفداء الأولاد في الموضعين على من غره، نص عليه أحمد. وذكره الخرقي؛ لأن الصحابة الذين ذكرناهم قضوا به. وعن أحمد: لا يرجع بالمهر، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأنه وجب في مقابلة نفع وصل إليه. وظاهر المذهب الأول؛ لأن العاقد ضمن له سلامة الوطء، كما ضمن له سلامة الولد، فوجب أن يرجع به كقيمة الولد.
فصل:
ويفدي الأولاد بقيمتهم يوم الولادة؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأنه محكوم بحريتهم يوم وضعهم، فاعتبر فداؤهم يومئذ. وتجب القيمة؛ لأنه ضمان وجب لفوات حرية، فأشبه ضمان حصة شريكه إذا سرى العتق إليه. وعنه: يفديهم بعبيد مثلهم؛ لأنه يروى عن عمر أنه قضى بفداء ولده بغرة غرة، مكان كل غلام غلام، ومكان كل جارية جارية؛ ولأن الولد حر فلا يضمن بقيمته، كسائر الأحرار. وعنه: أنه مخير بين فدائهم بمثلهم وقيمتهم؛ لأن الأمرين يرويان جميعاً عن عمر. فإن فداهم بمثلهم وجب مثلهم في القيمة. اختاره أبو بكر؛ لأن الحق ينجبر بذلك، ويحتمل أن ينظر إلى صفاتها تقريباً؛ لأن الآدمي ليس من ذوات الأمثال، ولا يفدى منهم إلا من ولد حياً في وقت يعيش مثله، سواء عاش أو مات بعد ذلك؛ لأن غير ذلك لا قيمة له.
فصل:
وإن كان المغرور عبداً فولده أحرار؛ لأنه وطئها يعتقد حريتها فكان ولده حراً، كولد الحر. وعليه فداؤهم؛ لأنه فوت رقهم. وهل يتعلق فداؤهم برقبته، أو بذمته؟ على وجهين:(3/48)
أحدهما: برقبته كأرش جنايته.
والثاني: بذمته، كعوض الخلع من الأمة. ويرجع به على من غره. فإن قلنا برقبته رجع به في الحال؛ لأنه يؤخذ من سيده في الحال. وإن قلنا: يتعلق بذمته لم يلزمه أداؤه حتى يعتق، ولا يرجع به حتى يغرمه؛ لأنه لا يرجع بشيء لم يفت عليه، وتتعجل حريتهم في الحال. وللعبد الخيار إذا علم، ويحتمل أن لا يثبت؛ لأنه فقد صفة لم ينقص بها عن رتبته، فأشبه ما لو شرط نسب امرأة فبان خلافه. والأول ظاهر المذهب؛ لأنه مغرور بحرية فملك الفسخ، كالحر الذي يباح له نكاح الإماء. وإن غرت الأمة بعبد، فتزوجته على أنه حر فلها الخيار أيضاً؛ لأنها مغرورة بحرية من ليس بحر، أشبهت المرأة الحرة، والعبد المغرور. ويحتمل ألا يثبت لها خيار؛ لأنه يكافئها، ولا يؤثر رقه في إرقاق ولدها، فأشبه ما لو شرطته أشرف نسباً منها، فتبين أنه مثلها.
فصل:
فإن غرها بنسبة وكان مخلاً بالكفاءة، فقد مضى القول فيه، وإن لم يخل بها، ففيه وجهان:
أحدها: لا خيار لها؛ لأن زيادة نسبه عليها، لا يضرها فواته، فأشبه ما لو شرطته جميلاً أو فقيهاً فبان بخلافه.
والثاني: لها الخيار؛ لأنها شرطت ما يقصد، فأشبه شرط الصفة المقصودة في المبيع.
فصل:
وإن شرطها بكراً، فبانت ثيباً أو نسيبة أو جميلة أو بيضاء، فبانت بخلافه ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له؛ لأن النكاح لا يرد فيه بعيب سوى العيوب السبعة، فلا يرد بمخالفة الشرط، كما لو شرطت ذلك في الرجل.
والثاني: له الخيار؛ لأنها صفات مقصودة فصح شرطها، كالحرية. وإن شرطها مسلمة فبانت كافرة، أو تزوجها في دار الإسلام يظنها مسلمة، فبانت كافرة فله الخيار؛ لأنه نقص وضرر يتعدى إلى الولد، فملك الخيار به إذا شرط عدمه، كالرق. وإن تزوجها على أنها كتابية، فبانت مسلمة فلا خيار له؛ لأنها زيادة. وقال أبو بكر: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في إسقاط العبادات عنها، فيضره فواته. وإن تزوجها على أنها أمة، فبانت حرة فلا خيار له؛ لأنها زيادة، وكذلك لو شرطها على صفة،(3/49)
فبانت خيراً منها؛ لأنه نفع، فلم يثبت به الخيار، كما لو شرطه في المبيع.
فصل:
والسبب الرابع: الإعسار بالنفقة ونحوها على ما نذكره في موضعه، ومخالفته شرطها اللازم، كاشتراطها دارها ونحوها على ما مضى، والله أعلم.
[باب نكاح الكفار]
أنكحتهم صحيحة إذا اعتقدوا إباحتها في شرعهم، وإن خالفت أنكحة المسلمين فهي صحيحة، إلا أن يتزوج محرمة عليه؛ لأنه أسلم خلق كثير في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم في أنكحتهم، ولم يكشف عن كيفيتها. ولا يتعرض لهم ما لم يترافعوا إلينا؛ لأننا صالحناهم على إقرارهم على دينهم. وعن أحمد في مجوسي تزوج نصرانية: أو ملك نصرانية يحول بينهما الإمام، فيخرج من هذا أنه يفرق بينهم، وبين ذوات المحارم؛ لأن عمر كتب: أن فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس. وإن ملك نصراني مجوسية لم يحل بينهما؛ لأنه أعلى منها. وقال أبو بكر: يمنع من وطئها أيضاً، كما يمنع المجوسي من النصرانية، فأما إن أسلموا وترافعوا إلينا لم ينظر في كيفية عقدهم، ونظرنا في الحال، فإن كانت المرأة ممن يجوز عقد نكاحها في الحال أقررناهما. وإن كانت ممن يحرم نكاحها في الحال، كذات محرمة، والمعتدة، والمطلقة ثلاثاً، فرقنا بينهما. وإن تزوجها بشرط الخيار مدة، أو في عدتها، ثم أسلما في المدة أو العدة فرقنا بينهما كذلك. وإن أسلما بعد انقضائهما أقررناهما عليه. وإن قهر حربي حربية، فوطئها وطاوعته، واعتقداه نكاحاً أقررناهما عليه وإلا فلا. وإن أسلما وبينهما نكاح متعة، أو نكاح شرط فيه الخيار متى شاء لم يقرا عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه ولا تأبيده. وإن اعتقدا فساد الشرط وحده أقرا عليه.
فصل:
وإذا اسلم الزوجان معاً فهما على نكاحهما، سواء أسلما قبل الدخول أو بعده؛ لأن ذلك إجماع، ولأنه لم يوجد بينهما اختلاف دين يقتضي الفرقة. وإن سبق أحدهما صاحبه وكان المسلم زوج كتابية، فالنكاح بحاله؛ لأنه يحل له ابتداء نكاحها. وإن أسلمت المرأة قبله، أو أسلم أحد الزوجين الوثنيين، أو المجوسيين قبل الدخول، بانت منه امرأته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .(3/50)
وتقع الفرقة بسبق أحدهما الآخر بلفظه؛ لأنه يحصل بذلك اختلاف الدين المحرم، ويحتمل أن يقف على المجلس كالقبض؛ لأن حكم المجلس حكم حالة العقد، ولأنه يبعد اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة واحدة. فإن كان إسلام أحدهما بعد الدخول ففيه روايتان:
إحداهما: تتعجل الفرقة، لما ذكرنا.
والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن أسلم الآخر فيها فهما على نكاحهما، وإن لم يسلم حتى انقضت تبينا أن الفرقة وقعت حين أسلم الأول، بحيث لو كان وطئها في عدتها ولم يسلم أدب، ولها عليه مهر مثلها، لما روى ابن شبرمة قال: كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبله، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته. وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما. ولم يعلم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين زوجين أسلما، مع أن جماعة منهم أسلموا قبل أزواجهم، منهم أبو سفيان، وجماعة أسلم أزواجهن قبلهم، منهم صفوان بن أمية وعكرمة وأبو العاص بن الربيع. والفرقة الواقعة بينهما فسخ؛ لأنها فرقة عريت عن الطلاق، فكانت فسخاً كسائر الفسوخ.
فصل:
وإن أسلم الحر وتحته أكثر من أربع فأسلمن معه، أو كن كتابيات، أمر أن يختار منهن أربعاً ويخلي سائرهن، سواء تزوجهن في عقد، أو عقود متفرقة، وسواء اختار أول من عقد عليها أو آخرهن، لما روى «قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت له ذلك. فقال: اختر منهن أربعا» رواه أبو داود. فإن أبى أجبر بالحبس والتعزير؛ لأنه حق عليه يمكنه إيفاؤه فأجبر عليه، كالدين. ولا يملك الحاكم الاختيار عنه؛ لأنه حق لغير معين. فإن جن خلي حتى يفيق، ثم يخير(3/51)
لأنه عجز عن الاختيار، فأشبه العاجز عن الدين بالإعسار، وعليه نفقة الجميع إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح. فإن مات قبل الاختيار لم يقم وارثه مقامه، لما ذكرنا. ولزم جميعهن العدة؛ لأن كل واحدة يجوز أن تكون زوجة. وعدة الحامل وضع حملها. وعدة ذوات الأشهر أربعة أشهر وعشراً. وعدة ذوات الأقراء أطول الأجلين من ثلاثة قروء وعدة الوفاء، ليسقط الفرض بيقين، والميراث لأربع منهن بالقرعة، إلا أن يصطلحن عليه فيكون بينهن على ذلك.
فصل:
والاختيار أن يقول: قد اخترت هؤلاء، أو نكاح هؤلاء، أو أمسكتهن، أو نحو هذا. وإن قال: اخترت فسخ نكاح هؤلاء، كان اختياراً لغيرهن. وإن طلق واحدة، كان اختياراً لها؛ لأن الطلاق لا يكون إلا لزوجة. وإن قال: فارقت هذه ففيه وجهان:
أحدهما: يكون اختياراً لنكاحها؛ لأن الفراق طلاق.
والثاني: يكون فسخاً لنكاحها واختياراً لغيرها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن» وهذا يقتضي أن يكون لفظ الفراق صريحاً في ترك نكاحها. وإن وطئ إحداهن كان اختياراً لها في قياس المذهب، كما لو وطئ الجارية المعيبة في مدة الخيار. وإن آلى، أو ظاهر منها لم يكن اختياراً لها؛ لأنه يصح في غير زوجة، ويحتمل أنه اختيار لها؛ لأنه لا يؤثر إلا في زوجة. فإن طلق الجميع أقرع بينهن، فإذا وقعت القرعة على أربع منهن فهن المختارات، فيقع طلاقه بهن، وينفسخ طلاق البواقي، وله نكاح من شاء منهن بعد انقضاء عدة المطلقات. وإن أسلم قبلهن وقال: كلما أسلمت واحدة منهن، فقد اخترتها أو فقد فسخت نكاحها لم يصح؛ لأن الاختيار والفسخ لا يصح تعليقه على شرط ولا على غير معين؛ لأنه كالعقد، ولأن الفسخ إنما يستحق فيما زاد على الأربع، وقد يجوز ألا يسلم أكثر من أربع، وإن قال: كلما أسلمت واحدة فهي طالق، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على شرط. وكلما أسلمت واحدة طلقت، وكان اختياراً لها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه يتضمن الاختيار الذي لا يصح تعليقه بالشرط. وإن قال: اخترت فلانة، أو فسخت نكاحها قبل إسلامها لم يصح؛ لأنه ليس بوقت لاختيار ولا فسخ. وإن طلقها كان موقوفاً إن أسلمت تبينا وقوع طلاقه، وإلا فلا. وإن وطئ(3/52)
واحدة، فأسلمت في عدتها تبينا أنه وطئ زوجته. وإن لم تسلم فقد وطئ أجنبية، وإن طلق الجميع، فأسلمن في العدة، أمر باختيار أربعة منهن، فيتبين وقوع طلاقه بهن، ويعتددن من حين طلاقه، وبان سائرهن بغير طلاق.
فصل:
وإن أسلم عبد وتحته أكثر من اثنتين فأسلمن معه لزمه اختيار اثنتين؛ لأنهما في حقه كالأربع في حق الحر. فإن عتق قبل الاختيار لم يجز له الزيادة على اثنتين؛ لأنه ثبت له الاختيار وهو عبد. وإن أسلم وعتق ثم أسلمن، أو أسلمن ثم عتق، ثم أسلم لزمه نكاح أربع؛ لأنه في وقت الاختيار ممن له نكاح أربع.
فصل:
ومن أسلم وتحته أختان لزمه أن يختار إحداهما، لما روى «الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان. قال: طلق أيهما شئت» رواه أبو داود؛ ولأن الجمع بينهما محرم، فأشبه الزيادة على الأربع. وهذا القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن جمعهما محرم. وإن أسلم وتحته امرأة وبنتها ولم يدخل بالأم انفسخ نكاحها؛ لأنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، وثبت نكاح بنتها؛ لأنها لا تحرم قبل الدخول بأمها. وإن كان قد دخل بالأم انفسخ نكاحهما، وحرمتا على التأبيد.
فصل:
ولو أسلم حر وتحته إماء، فأسلمن معه، وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاح الإماء. وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء اختار منهن واحدة؛ لأنه يملك ابتداء نكاحها فملك اختيارها كالحرة. ولو أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر فله الاختيار منهن؛ لأن وقت الاختيار حين اجتماعهن على الإسلام، فاعتبر حاله حينئذ. وإن أسلم وهو معسر فلم يسلمن حتى أيسر لم يكن له الاختيار منهن كذلك. فإن أسلمت معه واحدة فله اختيارها، وله انتظار الباقيات؛ لأن له غرضاً صحيحاً فيه، فإن اختار الأولى ثبت نكاحها، وانقطعت عصمة البواقي منذ اختلف دينهن. وإن اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الفضل عمن يثبت نكاحها(3/53)
ولا فضل. فإن فسخ ولم تسلم البواقي لزمه نكاحها وبطل الفسخ. وإن أسلمن فله اختيار واحدة. فإن اختار التي فسخ نكاحها ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الفسخ كان قبل وقته، فوجوده كعدمه.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأننا إنما منعنا الفسخ فيها، لكونها غير فاضلة، وبإسلام غيرها صارت فاضلة، فصح فسخ نكاحها.
فصل:
وإن أسلم وتحته حرة وأمة، فأسلمتا في عدتهما ثبت نكاح الحرة، وبطل نكاح الأمة؛ لأن لا يجوز له ابتداء نكاح أمة وتحته حرة. وإن لم تسلم الحرة في عدتها ثبت له نكاح الأمة إن كان ممن له نكاح الإماء. وإن أسلمتا في العدة، ثم ماتت الحرة، أو عتقت الأمة لم يكن له إمساك الأمة؛ لأن نكاحها انفسخ بإسلام الحرة. وإن عتقت الأمة قبل إسلامها فله إمساكها؛ لأن الاعتبار بحالة اجتماعهم على الإسلام، وهي حرة حينئذ. وإن أسلمت قبله وعتقت، ثم أسلم الزوج فله إمساكها كذلك. ولو أسلم وتحته إماء، فعتقت إحداهن، ثم أسلمن كلهن لزم نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء. وإن أسلمت إحداهن، ثم عتقت، ثم أسلم البواقي فله الاختيار منهن؛ لأن الاعتبار بحالة الاختيار، وحالة الاختيار حالة اجتماعهما على الإسلام، وهي أمة حينئذ.
فصل:
وإذا ارتد الزوجان، أو أحدهما قبل الدخول انفسخ النكاح، لاختلاف دينهما، أو كون المرأة بحال لا يحل نكاحها. وإن كان بعده ففيه روايتان:
إحداهما: تتعجل الفرقة.
والثانية: تقف على انقضاء العدة. فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضائها فهما على النكاح. وإن لم يجتمعا وقعت الفرقة من حين الردة؛ لأنه انتقال عن دين يمنع ابتداء النكاح، فكان حكمه ما ذكرنا، كإسلام أحد الزوجين.
فصل:
وإن انتقل الكتابي إلى دين غير أهل الكتاب، كالمجوسية وغيرها، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يجبر على الإسلام، ولا يقبل منه غيره؛ لأن ما سواه باطل اعترف ببطلانه؛ لأنه لما كان على دينه اعترف ببطلان ما سواه، ثم اعترف ببطلان دينه حين انتقل عنه، فلم يبق إلا الإسلام.(3/54)
والثانية: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو الدين الذي كان عليه؛ لأننا أقررناه عليه أولاً، فنقره عليه ثانياً.
والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دين أهل الكتاب؛ لأنه دين أهل كتاب فيقر عليه كغيره من أهل ذلك الدين. وإن انتقل المجوسي إلى دين أهل الكتاب، أو انتقل كتابي إلى دين آخر من دين أهل الكتاب، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا يقبل منه إلا الإسلام، لما ذكرنا.
والثانية: يقر على ما انتقل إليه.
والثالثة: لا يقبل منه إلا الإسلام، أو دينه الذي كان عليه، لما تقدم. وإذا قلنا: لا يقبل منه إلا الإسلام ففيه روايتان:
إحداهما: أنه يجبر عليه بالقتل، كالمرتد.
والثانية: أنه إن انتقل إلى المجوسية أجبر بالقتل، وإن انتقل إلى دين أهل الكتاب لم يجبر بالقتل، لكن يجبر بالضرب والحبس؛ لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فلم يقبل كالباقي على دينه. وكل موضع قلنا: لا يقر، فإذا انتقلت الكتابية المتزوجة للمسلم فحكمها حكم المرتدة على ما يبين في موضعه.
فصل:
إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فقالت المرأة: أسلم أحدنا فانفسخ النكاح، وقال: بل أسلمنا معاً، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
والثاني: القول قولها؛ لأن الظاهر معها، فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر بعيد. وإن اتفقا على سبق أحدهما، وقالت المرأة: أنت السابق فعليك نصف المهر. وقال الزوج: بل أنت سبقت فلا مهر لك، فالقول قول المرأة؛ لأن الأصل بقاء المهر وعدم سقوطه. وإن أسلما بعد الدخول فقال الزوج: أسلمت في عدتك فالنكاح باق، وقالت: بل انقضت عدتي قبل إسلامك فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح. وفيه وجه آخر أن القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم إسلام الثاني. وإن قال: أسلمت قبلك فلا نفقة لك، فقالت: بل أسلمت قبلك فلي النفقة، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة.(3/55)
والثاني: القول قوله؛ لأن النفقة إنما تجب بالتمكين من الاستمتاع، والأصل عدم وجوبه.
فصل:
إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، ثم ارتد ولم يسلم الآخر في العدة فعدتها من حين أسلم الأول. وإن أسلم الثاني في العدة، فابتداء العدة من حين ارتد؛ لأن الحكم اختلاف الدين بإسلام الأول زال بإسلام الثاني منهما. ولو أسلم رجل وتحته عشر نسوة فأسلمن، ثم ارتددن، أو ارتد دونهن لم يكون له أن يختار منهن؛ لأنه لا يملك العقد عليهن في الحال.
فصل:
ولو أسلم عبد وتحته أمة كافرة فأعتقت، أو أسلمت قبله ثم أعتقت فلها فسخ النكاح؛ لأنها عتقت تحت عبد، فإذا فسخت، ثم أسلم الثاني في العدة بانت بفسخ النكاح. وإن لم يسلم الثاني تبينا أنها بانت باختلاف الدين، وعليها عدة حرة في الموضعين؛ لأنها وجبت وهي حرة، أو عتقت في أثناء عدة يمكن الزوج تلافي نكاحها فيها، فأشبهت الرجعية. وإن أخرت الفسخ حتى أسلم الثاني منهما لم يسقط حقها؛ لأنها تركته اعتماداً على جريانها إلى البينونة، فأشبهت الرجعية. وإن قالت: قد رضيت بالزوج، فذكر القاضي: أنه يسقط حقها؛ لأنها رضيته في حال يمكن فسخه فصح، كحالة اجتماعهما على الإسلام.(3/56)
[كتاب الصداق]
يستحب أن يعقد النكاح بصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتزوج ويزوج بناته بصداق. وعن سهل بن سعد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إزارك إن أعطيتها إياه جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئاً آخر فقال: لا أجد، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجتكها بما معك من القرآن» متفق عليه؛ ولأنه أقطع للنزاع فيه.
ويجوز من غير صداق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . فأثبت الطلاق مع عدم الفرض، ولأن القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع، وهو حاصل بغير صداق.
فصل:
ويجوز أن يكون الصداق قليلاً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس ولو خاتماً من حديد» ولأنه بدل منفعتها، فكان تقديره إليها، كأجرتها. ويجوز أن يكون كثيراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] .(3/57)
ولا تستحب الزيادة على خمسمائة درهم؛ لأنه صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته. بدليل ما روى أبو سلمة قال: «سألت عائشة عن صداق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ثنتا عشر أوقية ونش، فقلت: وما نش؟ قالت: نصف أوقية» . رواه مسلم، وأبو داود؛ ولأنه إذا كثر أجحف، ودعا إلى المقت. ويستحب تخفيفه، لما روت عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة» رواه أحمد.
فصل:
وكل ما جاز ثمناً في بيع، أو عوضاً في إجارة، من دين وعين، وحال مؤجل، ومنفعة معلومة، من حر أو عبد، كرد عبدها من مكان معين، وخدمتها في شيء معلوم جاز أن يكون صداقاً؛ لأن الله تعالى أخبر عن شعيب أنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجعل الرعي صداقاً، ولأنه عقد على المنفعة فجاز ما ذكرنا، كالإجارة.
فصل:
وما لا يجوز أن يكون ثمناً ولا أجرة لا يجوز أن يكون صداقاً، كالخمر، وتعليم التوراة، والإنجيل، وتعليم الذمية القرآن، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، كالمبيع المعتبر قبضه قبل قبضه، وما لا يقدر على تسليمه، كالآبق، والطير في الهواء؛ لأنه عوض في عقد، فأشبه عوض البيع والإجارة. ولا يصح أن يكون مجهولاً، كعبد وثوب، هذا اختيار أبي بكر. وقال القاضي: يصح في مجهول جهالة لا تزيد على مهر المثل، كعبد أو فرس أو بعير، أو ثوب هروي، أو قفيز حنطة، أو قنطار زيت؛ لأنه لو تزوجها على مهر مثلها صح مع كثرة الجهل، فهذا أولى. فإن زادت جهالته على جهالة مهر المثل، كثوب ودابة وحكم إنسان، ورد عبدها أين كان، وخدمتها فيما أرادت لم يصح. وقال أبو الخطاب: إن تزوجها على عبد من عبيده صح ولها(3/58)
أحدهم بالقرعة. نص عليه أحمد. وعلى هذا يخرج إذا أصدقها قميصاً من قمصانه، أو عمامة من عمائمه، أو دابة من دوابه؛ لأن الجهالة تقل فيه. ولا تصح على عبد مطلق؛ لأن الجهالة تكثير، ولنا أنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولاً، كثمن البيع. وتأول أبو بكر، نص أحمد على أنه عين عبداً فأشكل عليه، فإن أصدقها ما لا يجوز أن يكون صداقاً لم يبطل النكاح. ونقل المروذي عن أحمد: إذا تزوج على مال بعينه غير طيب أنه كرهه، وأعجبه استقبال النكاح، وهذا يدل على أن النكاح لا يصح اختاره أبو بكر؛ لأنه عقد معاوضة، ففسد بفساد العوض، كالبيع، والأول أولى؛ لأن فساده ليس بأكثر من عدمه، وعدمه لا يفسد العقد. ويجب لها مهر المثل؛ لأنها لم ترض إلا ببدله، ولم يسلم البدل، وتعذر رد العوض، فوجب رد بدله، كما لو باعه سلعة بخمر فتلفت عند المشتري. وعلى قول القاضي: إذا أصدقها مجهولاً وجب لها الوسط، ووسط العبيد السندي، فيجب ذلك لها. وإن جاءها بقيمته لزم قبوله، قياساً على الإبل في الدية.
فصل:
فإن أصدقها عبداً فخرج حراً، أو مستحقاً فله قيمته؛ لأن العقد وقع على التسمية؛ لأنها رضيت بقيمته إذ ظنته مملوكاً، وقد تعذر تسليمه، فكانت لها قيمته، كما لو وجدته معيباً فردته. وإن أصدقها مثلياً فخرج مستحقاً فلها مثله؛ لأنه أقرب إليه، ولذلك يضمن به في الإتلاف. وإن أصدقها عصيراً فخرج خمراً، فذكر القاضي: أن لها قيمته؛ لأن الخمر ليس من ذوات الأمثال، ويحتمل أن يلزمه مثل العصير المسمى؛ لأنه مثلي، فوجب إبداله بمثله، كما لو أتلف. ويفارق هذا ما إذا قال: أصدقتك هذا الخمر، أو هذا الحر؛ لأنها رضيت بما لا قيمة له، فأشبهت المفوضة، ولم ترض هاهنا بذلك. وإن قال: أصدقتك هذا الخمر أشار إلى الخل، أو هذا الحر وأشار إلى عبده صح ولها المشار إليه؛ لأنه محل يصح العقد عليه، فلم يختلف حكمه باختلاف تسميته، كما لو قال: أصدقتك هذا الأبيض، وأشار إلى الأسود. وإن تزوجها على شيء فخرج معيباً، فهي مخيرة بين أخذ أرشه، وبين رده وأخذ قيمته، أو مثله إن كان مثلياً، لما ذكرنا في أول الفصل.
فصل:
وإن تزوج الكافر كافرة بمحرم ثم أسلما، أو تحاكما إلينا قبل الإسلام والقبض سقط المسمى ووجب مهر المثل؛ لأنه لا يمكن إجباره على تسليم المحرم. وإن كان بعد القبض، برئت ذمته كما لو تبايعا بيعاً فاسداً وتقابضا. وإن قبضت البعض برئت ذمته من المقبوض، ووجب بقسط ما بقي من مهر المثل. فإن كان الصداق خنزيرين، أو(3/59)
زقي خمر، أو زق خمر وخنزيراً، وقبضت أحدهما ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر العدد؛ لأنه لا قيمة له، فكان الجميع واحداً، فيقسط على عدده، فيسقط نصف الصداق، ويجب نصف مهر الثمل.
والثاني: يعتبر بقيمته عندهم، أو بالكيل إن كان مكيلاً لأنه أخصر.
فصل:
وإن تزوج المرأة على أن يشتري لها عبداً بعينه صح؛ لأنه أصدقها تحصيل عبد معين فصح، كما لو أصدقها رد عبدها من مكان معين، فإن لم يبع، أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته؛ لأنه تعذر تسليم المسمى، فوجبت قيمته، كما لو تلف. وإن تزوجها على أن يعتق أباها صح كذلك. ومتى تعذر إعتاقه وجبت قيمته لما ذكرناه، وفي المسألتين إذا أمكن الوفاء بما شرطه، فبذل قيمته لم يلزمها قبوله؛ لأن الحق ثبت لها في معين، فلم يلزم قبول عوضه مع إمكانه، كما لو قال: أصدقتك هذا العبد. وإن تزوجها على عبد موصوف في الذمة صح؛ لأنه يصلح أن يكون عوضاً في البيع، ولا يلزمها قبول قيمته؛ لأنها استحقت عبداً بعقد معاوضة، فلم يلزمها قبول قيمته، كالمبيع. وعند القاضي: يلزمها قبولها، قياساً على الإبل في الدية.
فصل:
وإن تزوجها على طلاق زوجته الأخرى لم يصح الصداق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها ولتنكح فإنما رزقها على الله» رواه البخاري ومسلم.
وعنه: يصح لأن لها فيه غرضاً صحيحاً، أشبه عتق أبيها، فإن فات طلاقها بموتها، فقال أبو الخطاب: قياس المذهب أن لها مهر الميتة؛ لأن عوض طلاقها مهرها، فأشبه قيمة العبد، ويحتمل أن يجب مهر المثل؛ لأن الطلاق لا قيمة له ولا مثل.
فصل:
وإن تزوجها على ألف إن كان أبوها حياً، وألفين إن كان ميتاً، فالتسمية فاسدة،(3/60)
لأنه في معنى بيعتين في بيعة. وإن تزوجها على ألف إن لم يكن له زوجة، وعلى ألفين إن كان له زوجة، فقال أحمد: تصح التسمية، قال أبو بكر والقاضي: في المسألتين جميعاً روايتان، جعلا نصه في إحدى المسألتين رواية في الأخرى لتماثلهما.
إحداهما: فساد التسمية، اختاره أبو بكر؛ لأنه لم يعين العوض ففسد، كبيعتين في بيعة.
والثانية: يصح؛ لأن الألف معلومة، وإنما جعلت الثانية، وهي معلقة على شرط، فإن وجد كانت زيادة في الصداق، والزيادة فيه صحيحة.
فصل:
فإن أصدقها تعليم شيء مباح، كصناعة، أو كتابة، أو فقه، أو حديث، أو لغة، أو شعر لها أو لغلامها صح، ولأنه أحد عوضي الإجارة فجاز صداقاً كالأثمان. فإن أصدقها تعليم شيء لا يحسنه نظرت، فإن قال: أحصل لك تعليمه صح؛ لأنها منفعة في ذمته لا تختص به، فأشبه ما لو أصدقها ديناراً لا يقدر عليه، وإن قال: على أن أعلمك، فذكر القاضي في الجامع أنه لا يصح؛ لأنه تعين بفعله وهو عاجز عنه، وقال في " المجرد " يحتمل أن يصح؛ لأنه يقع في ذمته فصح لما ذكرنا، فإن تعلمتها من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، فعليه أجرة تعليمها، وإن أتته بغيرها ليعلمها مكانها لم يلزمه ذلك؛ لأنهما يختلفان في سرعة التعلم وإبطائه، ويحتمل أن يلزمه إذا أتته بمن يجري مجراها، كمن اكترى شيئاً جاز أن يوليه لمن يقوم مقامه. وإن طلقها بعد الدخول قبل تعليمها ففيه وجهان:
أحدهما: يعلمها من وراء حجاب، كما يسمع الحديث من الأجنبية.
والثاني: عليه أجرة التعليم؛ لأنها صارت أجنبية، فلا تؤمن الفتنة عليهما في تعليمها. أما الحديث، فإن الحاجة داعية إلى سماعه؛ لأنه لا بدل له. وإن كان قبل الدخول ففي تعليمه النصف الوجهان. فإن طلقها بعد تعليمها رجع عليها بنصف أجرة التعليم.
فصل:
فإن أصدقها تعليم القرآن أو شيء منه، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها بما معك من القرآن» .(3/61)
والثانية: لا يجوز؛ لأن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لصاحبه، فلم يكن صداقاً، كتعليم الإيمان. وقد روى النجاد بإسناده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّج رجلاً على سورة من القرآن، ثم قال: لا تكون لأحد بعدك مهراً» فإن قلنا بجوازه، فأصدقها تعليم بعض القرآن، فمن شرطه تعيين ذلك البعض؛ لأن التعليم والمقاصد تختلف باختلافه. وذكر أبو الخطاب وابن عقيل أنه إن كان في البلد قراءات افتقر إلى تعيين أحدها؛ لأن حروف القرآن تختلف، فأشبه تعيين الآيات، والصحيح أنه لا يفتقر إليه؛ لأنه اختلاف يسير، وكل حرف ينوب مناب صاحبه، فأشبه ما لو أصدقها قفيزاً من صبرة.
فصل:
ويصح أن يكون الصداق معجلاً ومؤجلاً. فإن أطلق ذكره كان حالاً؛ لأنه عوض في عقد معاوضة أشبه الثمن، فإن شرطه مؤجلاً إلى مدة معلومة، فهي إلى أجله. وإن لم يذكر أجله فقال أبو الخطاب: لا يصح، ولها مهر المثل قياساً على الثمن في المبيع. وقال القاضي: يصح، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة؛ لأن الصداق يجوز أن يكون مجهولاً فيما إذا تزوجها على مهر المثل، فالتأجيل التابع له أولى، فعلى هذا محل الآجل الفرقة بموت أو غيره؛ لأن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الآجل تركه إلى الفرقة، فحمل عند الإطلاق عليه.
فصل:
وإذا تزوجها على صداقين، سر وعلانية، فقال الخرقي: يؤخذ بالعلانية؛ لأن الزائد على صداق السر زيادة زادها في الصداق، وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة. وقال القاضي: الواجب مهر العقد الذي انعقد به النكاح، سراً كان أو علانية؛ لأنه الذي انعقد به النكاح، فكان الواجب المسمى فيه، كما لو انفرد.
فصل:
وإلحاق الزيادة بالصداق جائزة، فإن زادها في صداقها شيئاً بعد انبرام العقد جاز، وكان الجميع صداقاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] .(3/62)
فصل:
وإذا تزوج أربعاً بصداق واحد صح؛ لأن جملة صداقهن معلومة فصح، كما لو اشترى أربعة أعبد بثمن واحد، ويقسم بينهن على قدر مهورهن، كما يتقسط ثمن الأعبد على قيمتهم. وقال أبو بكر: يخرج فيه وجه آخر، أنه يقسم بينهن على عددهن؛ لأنه أضيف إليهن إضافة واحدة، فأشبه ما لو أقر لهن، وهذا القول فيما إذا خالعهن بعوض واحد، أو كاتب أعبده بعوض واحد.
فصل:
وتملك المرأة المسمى بالعقد إذا كان صحيحاً، ومهر المثل في الموضع الذي يجب فيه؛ لأنه عقد يُملك فيه المعوض بالعقد، فملك العوض به كالبيع. وعنه رواية أخرى تدل على أنها لا تملك إلا نصفه؛ لأنه لو طلقها لم يجب إلا نصفه، والمذهب الأول فعلى هذا نماؤه وزيادته لها، وزكاته عليها، ونقصانه بعد قبضها إياه عليها. وإن نقص قبل القبض لمنعه إياه من قبض فهو من ضمانه، وإن لم يمنعها فنقص المكيل والموزون عليه؛ لأنه يعتبر قبضه، وما عداه يخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في المبيع قبل القبض سواء؛ لأنه منتقل بعقد ينقل الملك، فأشبه المبيع.
والثاني: لها التصرف فيه؛ لأنه منتقل بسبب لا ينفسخ بهلاكه قبل قبضه، فجاز التصرف فيه قبل قبضه، كالوصية والميراث، وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة زوجها صداقها قبل قبضه، وهو تصرف.
فصل:
ويدفع صداق المرأة إليها إن كانت رشيدة، وإلى من يلي مالها إن كانت غير رشيدة؛ لأنه مال لها، فأشبه ثمن مبيعها. وفي البكر البالغة العاقلة وجهان:
أحدهما: لا يدفع إلا إليها كذلك.
والثاني: يجوز دفعه إلى أبيها؛ لأنه العادة، ولأنه يملك إجبارها على النكاح، فأشبهت الصغيرة.
فصل:
ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها المعجل؛ لأن في إجبارها على تسليم نفسها أولاً خطر إتلاف البضع، والامتناع عن بذل الصداق، فلا يمكن الرجوع فيه، بخلاف المبيع، ولها النفقة إذا امتنعت؛ لأنه امتناع بحق، فأشبه ما لو امتنعت للإحرام بحجة الإسلام. وإن سلمت نفسها ثم أرادت المنع فقد توقف أحمد عن الجواب. وذهب أبو(3/63)
عبد الله بن بطة وأبو إسحاق بن شاقلا: إلى أنه ليس لها ذلك؛ لأنها سلمت تسليماً استقر به العوض برضى المسلم، فلم يكن لها المنع، كما لو سلمت المبيع. وذهب ابن حامد: إلى أن لها ذلك؛ لأنه تسليم بحكم عقد النكاح، فملكت المنع منه قبل قبض صداقها كالأول. فأما إن أكرهها فوطئها لم يسقط حقها من الامتناع؛ لأنه بغير رضاها. وإن قبضت صداقها فوجدته معيباً فردت فلها منع نفسها حتى يبذله؛ لأن صداقها جيد. وإن لم تعلم عيبه حتى سلمت نفسها، ثم أرادت الامتناع ففيه وجهان بناء على ما تقدم. وإن كان صداقها مؤجلاً فليس لها منع نفسها قبل قبضه؛ لأن رضاها بالتأجيل رضى منها بتسليم نفسها قبله، كالثمن المؤجل، وإن حل المؤجل قبل تسليم نفسها لم يكن لها منع نفسها أيضاً؛ لأنه قد وجب عليها تسليم نفسها واستقر، فلم يسقط بحلوله.(3/64)
[باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر وحكم التراجع]
باب ما يستقر به الصداق وما لا يستقر
وحكم التراجع يستقر الصداق بثلاثة أمور:
أحدها: الخلوة بعد العقد، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أوفى، قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون، أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة، وهذه قضايا اشتهرت، فلم تنكر، فكانت إجماعا؛ ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها، فاستقر صداقها، كما لو وطئها. فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها، أو الزوج صغيرا، أو أعمى لا يعلم دخوله عليها، لم يكمل صداقها؛ لأنه لم يحصل التمكين. وكذلك إن نشزت عليه فمنعته وطأها، لم يكمل صداقها لذلك، ذكره ابن حامد. وإن كان بهما عذر كالإحرام، والصيام الواجب، والمرض. أو بأحدهما، كالحيض والنفاس، والرتق، والجب، والعنة، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يستقر الصداق؛ لعموم ما ذكرنا؛ ولأن التسليم المستحق قد وجد، والمنع من غير جهتها، فلم يؤثر في المهر، كما لم يؤثر في إسقاط النفقة.
والثانية: لا يستقر؛ لأنه لا يتمكن من تسليمها، فلم يستقر مهرها، كما لو منعت نفسها.
والثالثة: إن كان المانع هو صوم رمضان، لم يكمل الصداق، وفي معناه ما يحرم دواعي الوطء كالإحرام، وما لا يمنع دواعي الوطء، كسائر الموانع لا يمنع استقرار الصداق.
فصل:
والثاني: الوطء يستقر به الصداق وإن كان في غير خلوة؛ لأنه قد وجد استيفاء المقصود، فاستقر العوض، كما لو اشترى طعاما فأكله، وإن استمتع بغير الوطء كقبلة، أو مباشرة دون الفرج، أو نال منها ما لا يحل لغيره، كالنظر إليها عريانة، فقال أحمد: يكمل الصداق به؛ لأنه نوع استمتاع، أشبه الوطء. وقال القاضي: هذا على الرواية التي يثبت بها تحريم المصاهرة، ولا يكمل به الصداق على الرواية الأخرى؛ لأنه لا يحرم المصاهرة، فلم يقرر الصداق، كرؤية الوجه.
فصل:
الثالث: موت أحد الزوجين قبل الدخول يقرر الصداق، سواء مات حتف أنفه، أو قتل نفسه، أو قتل غيره، لما روى معقل بن سنان، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع(3/65)
بنت واشق، وكان زوجها مات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فجعل لها مهر نسائها، لا وكس ولا شطط» . رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي؛ ولأنه عقد عمر، فبموت أحدهما ينتهي به فيستقر به العوض، كانتهاء الإجارة.
ومتى استقر الصداق، لم يسقط منه شيء بانفساخ النكاح ولا بغيره.
فصل: وإن افترقا قبل استقراره، لم يخل من أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون بسبب من المرأة، كردتها، وإسلامها، وإرضاعها من ينفسخ النكاح بإرضاعه، وفسخها لعيب الزوج، أو إعساره، فيسقط مهرها؛ لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم فسقط العوض، كما لو أتلف المبيع قبل تسليمه. وفي معناه فسخ الزوج لعيبها، لما مضى في موضعه.
الثاني: أن يكون بسبب من الزوج، كطلاقه وخلعه وإسلامه وردته، واستمتاعه بأم زوجته أو بنتها، فيسقط نصف المسمى، ويجب نصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقسنا عليه سائر ما استقل به الزوج؛ لأنه في معناه. وعن أحمد: أنه إذا أسلم لا مهر عليه؛ لأنه فعل الواجب عليه، وحصلت الفرقة بامتناعها من موافقته على الواجب، فكان من جهتها. والأول المذهب؛ لأن فسخ النكاح، لاختلاف الدين، وذلك حاصل بإسلامه، وإنما ينصف المهر بالخلع؛ لأن المغلب فيه جانب الزوج، بدليل أنه يصح به دونها، وهو خلعه مع أجنبي، فصار كالمنفرد به.
الثالث: افترقا بسبب من أجنبي، كرضاع أو غيره فيجب نصف المهر؛ لأنه لا جناية منها تسقط مهرها، ويرجع الزوج بما لزمه على الفاعل؛ لأنه قرره عليه.
الرابع: افترقا بسبب منهما، كشرائها لزوجها ولعانهما، ففيه روايتان. وإن اشتراها زوجها ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط الصداق؛ لأنها شاركت في الفسخ فسقط مهرها، كالفسخ بعيب.(3/66)
والثاني: يتنصف؛ لأن للزوج فيه اختيارا، أشبه الخلع.
فصل:
ومتى سقط المهر، أو نصفه بعد تسليمه إليها، فله الرجوع عليها، ولا يخلو، إما أن يكون تالفا، أو غير تالف، فإن كان تالفا، رجع مثله إن كان مثليا، أو بقيمته إن لم يكن مثليا أقل ما كانت من حين العقد، إلى حين القبض، أو التمكين منه؛ لأنه إن زاد بعد العقد، فالزيادة لها، وإن نقص، فالنقص عليه، فلم يرجع بما هو عليه، وإن كان باقيا، لم يخل من خمسة أحوال:
أحدها: أن يكون باقيا بحاله لم يتغير، ولم يتعلق به حق غيرها، فإن الزوج يرجع فيه، ويدخل في ملكه حكما، وإن لم يجز ذلك كالميراث في قياس المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . فعلق تنصيفه بالطلاق وحده، فيجب أن يتنصف به، ويحتمل أن لا يملكه إلا باختياره؛ لأن الإنسان لا يملك شيئا بغير اختياره إلا بالميراث، فعلى هذا الوجه إن زاد بعد الطلاق وقبل الاختيار، فهو للزوجة؛ لأن ملكها لم يزل عنه، فنماؤه لها، وعلى الأول نماء نصيب الزوج له؛ لأنه نماء ملكه، فإذا قال: قد رجعت فيه، أو اخترته، ثبت الملك فيه على الوجهين. وإن نقص في يدها بعد ثبوت ملكه عليه، وكانت قد منعته منه، فعليها ضمان نقصه؛ لأن يدها عادية، فتضمن، كالغاصبة. وإن لم تمنعه، ففيه وجهان. أصلهما، الزوج إذا تلف الصداق المعين في يده قبل مطالبتها به، قال الزوج: نقص قبل الطلاق فهو من ضمانك، فأنكرته، فالقول قولها؛ لأن الأصل السلامة.
فصل:
الحال الثاني: أن تجده ناقصا، كعبد مرض أو نسي صناعته، أو كبر كبرا ينقص قيمته، فالزوج بالخيار بين أخذه ناقصا؛ لأنه يرضى بدون حقه وبين تركه، ومطالبتها بقيمته، أو نصفها يوم وقع العقد عليه؛ لأن النقص حدث في ملكها، فكان من ضمانها.
فصل:
الحال الثالث: أن تجده زائدا، فلا تخلو، إما أن تكون الزيادة منفصلة، كالولد والثمرة واللبن والكسب ونحو ذلك، فله نصف الأصل، والزيادة لها؛ لأنها زيادة متميزة حادثة من ملكها، فلم تتبع الأصل في الرد، كما في الرد بالعيب، وإما أن تكون متصلة، كالسمن والكبر والحمل في البطن، والثمرة على الشجرة، وتعلم صناعة، أو كتابة ونحو(3/67)
ذلك، فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائدا، فيلزمه قبوله؛ لأنه نصف المفروض مع زيادة لا تتميز، وبين دفع قيمة حقه يوم وقع العقد عليه؛ لأن حقه في نصف الفرض، والزائد ليس بمفروض، فوجب أخذ البدل، إلا أن يكون محجورا عليها لسفه أو فلس أو صغر، فليس له إلا نصف القيمة؛ لأن الزيادة لها، وليس لها التبرع بما لا يجب عليها. وإن كانت مفلسة، كان غريما بالقيمة. وإن بذلت له أخذ نصف الشجر دون الثمر، لم يلزمه؛ لأن عليه ضررا في بقاء الثمر عليها، فلم يلزمه. وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف الشجر، وأترك الثمر عليه، أو أترك الرجوع حتى تجذي ثمرتك ثم أرجع، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تجبر على قبوله؛ لأن الحق انتقل من العين، فلم يعد إليها إلا بتراضيهما.
والثانية: تجبر عليه؛ لأنه لا ضرر عليها، فلزمها كما لو وجدها ناقصة فرضي بها، وإن أصدقها أرضا فزرعتها، فحكمها حكم الشجر إذا أثمر سواء. في قول القاضي، وقال غيره: يفارق الزرع الثمرة في أنها إذا بذلت نصف الأرض مع نصف الزرع، لم يلزمه قبوله؛ لأن الزرع ينقص الأرض ويضعفها؛ ولأنه ملكها أودعته في الأرض، بخلاف الثمرة. وإن أصدقها أرضا فبنتها، أو ثوبا فصبغته، فحكمها حكم الأرض المزروعة. فإن بذل الزوج لها نصف قيمة البناء والصبغ لتملكه، فقال الخرقي: يلزمها قبوله، ويصير له نصف الجميع؛ لأن الأرض له، وفيها بناء لغيره بني بحق، فكان له تملكه بالقيمة، كالشفيع والمعير. وقال القاضي: لا يملكه؛ لأن بيع البناء معاوضة، فلا تجبر عليها، كما لو بذل نصف قيمة الثمرة ليملك نصف الشجر.
فصل:
الحال الرابع: وجده زائدا من وجه ناقصا من وجه، كعبد تعلم صناعة ومرض، أو خشب شقته دفوفا، أو حلي كسرته ثم صاغته على غير ما كان، أو جارية حملت، فإن الحمل نقص في الآدمية من وجه، وزيادة من وجه، بخلاف حمل البهيمة فإنه زيادة محضة، فهو كسمنها، فإذا تراضيا على أخذ نصفه، جاز؛ لأن الحق لهما، وأيهما امتنع من ذلك، لم يجبر عليه؛ لأن عليه ضررا.
الحال الخامس: أن يتعلق به حق غيرهما، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يزيل ملكها كبيع العين، وهبتها المقبوضة وعتقها ووقفها، فحكم ذلك حكم تلفها، فإن عادت العين إلى ملكها ثم طلقها، فله الرجوع في نصفها؛ لعدم المانع منه، وفي معنى ذلك العقد اللازم المراد لإزالة الملك، كالرهن والكتابة.(3/68)
النوع الثاني: ما ليس بلازم، كالهبة قبل القبض، والوصية قبل الموت والتدبير، فله الرجوع في نصفها؛ لأنه حق غير لازم فأشبه الشركة.
النوع الثالث: ما لا يزيل الملك، كالنكاح والإجارة، فيخير بين الرجوع في نصفها مع بقاء النكاح والإجارة، وبين الرجوع بنصف القيمة؛ لأنه نقص رضي به، فأشبه نقصها بهزالها.
فصل:
فإن كان الصداق عينا، فوهبتها لزوجها، ثم طلقها قبل الدخول، ففيه روايتان:
إحداهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنه دعا إليه بعقد مستأنف، فلم يمنع استحقاق نصفه بالطلاق، كما لو وهبته أجنبيا، ثم وهبه الأجنبي للزوج.
والثانية: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن نصف الصداق تعجل له بالهبة. وإن كان دينا فأبرأته منه ثم طلقها، وقلنا: لا يرجع ثَمَّ، فهاهنا أولى. وإن قلنا: يرجع ثم، خرج هاهنا وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه عاد إليه بغير الطلاق، فأشبه العين.
والثاني: لا يرجع؛ لأن الإبراء إسقاط وليس بتمليك. وإن أصدقها عينا، فوهبتها له، أو دينا، فأبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول، ففي رجوعه به عليها وجهان، بناء على الرجوع في النصف بالطلاق. وإن باع رجلا عبدا، أو أبرأه من ثمنه، فوجد به المشتري عيبا فرده، وطالبه بثمنه، أو أمسكه وأراد أرشه، فهل له ذلك؟ على وجهين، بناء على الروايتين في الصداق. وإن أصدقها عبدا فوهبته نصفه، ثم طلقها قبل الدخول انبنى على الروايتين. فإن قلنا: إذا وهبته الكل لا يرجع بشيء، رجع هاهنا في نصف الباقي من العبد. وإن قلنا: يرجع ثم، رجع في النصف الباقي جميعه.
فصل:
والزوج هو الذي بيده عقد النكاح؛ فإذا طلق قبل الدخول، فأي الزوجين عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو حائز الأمر في ماله، برئ منه صاحبه، وكمل له الصداق جميعه. وعنه: ما يدل على أن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب، فيصح عفوه عن نصف مهر ابنته البكر التي لم تبلغ إذا طلقت قبل الدخول؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الطلاق هو الولي؛ ولأن الله خاطب الأزواج بخطاب المواجهة، ثم قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهذا خطاب غائب، فاعتبرنا هذه(3/69)
الشروط؛ لأن الأب يلي مالها في صغرها دون غيره، ولا يليه في كبرها، ولا يملك تزويجها إلا إذا كانت بكرا، ولم تكن ذات زوج، والمذهب الأول. قال أبو حفص: ما أرى القول الآخر إلا قولا قديما، ولا يجوز عفو الأب ولا غيره من الأولياء، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وَلِيّ العقدة الزوج» رواه الدارقطني؛ ولأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وليس عفو الولي عن صداق ابنته أقرب للتقوى، ولا يمنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] ؛ ولأن صداق المرأة حق لها، فلا يملك الولي العفو عنه كسائر ديونها؛ ولأن الصغير لو رجع إليه صداق زوجته، أو نصفه؛ لانفساخ النكاح، برضاع أو نحوه، لم يكن لوليه العفو عنه، رواية واحدة. فكذلك ولي الصغيرة.
[باب الحكم في المفوضة]
وهو أن يزوج الرجل ابنته بغير صداق برضاها أو رضا أبيها، سواء سكتا عن ذكره، أو شرطا نفيه، فالعقد صحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] . وعن عقبة بن عامر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، فإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف» . رواه أبو داود.
ويجب لها مهر نسائها بالعقد؛ لأنه لو لم يجب، لما استقر بالدخول، ولا ملكت المطالبة بفرضه قبله؛ ولأن إخلاء النكاح عن المهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولها(3/70)
المطالبة بفرضه قبل الدخول وبعده، ويلزمه إجابتها إليه. فإن ترافعا إلى الحاكم، لم يفرض لها إلا مهر المثل؛ لأنه الواجب لها، وإن تراضى الزوجان على فرضه، جاز. فإن فرض لها مهر مثلها، فليس لها غيره؛ لأنه الواجب لها. وإن فرض لها الحاكم أكثر منه جاز؛ لأن له أن يزيدها في صداقها. وإن فرض لها أقل منه، فرضيته، جاز؛ لأن الحق لها، فملكت تنقيصه، وما فرض لها من ذلك، صار كالمسمى في التنصيف بالطلاق قبل الدخول، وقراره بالدخول وغيره؛ لأنه مهر مفروض، فأشبه المفروض بالعقد. وإن دخل بها قبل الفرض، استقر مهر المثل؛ لأن الوطء في نكاح خال عن مهر، خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن مات أحدهما قبل الإصابة والفرض، وجب لها مهر نسائها في صحيح المذهب، لما روى علقمة «أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع ابنة واشق، امرأة منا، مثل ما قضيت» . أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وعن أحمد: لا يكمل لها الصداق لأنها فرقة قبل فرض ومسيس، فأشبهت الطلاق، فعلى هذا يجب لها نصف مهر المثل.
فصل:
ومهر نسائها: هو مهر نساء عصباتها المساويات لها، ويعتبر الأقرب فالأقرب منهن، فأقربهن الأخوات، ثم بنات الإخوة، ثم العمات، ثم بنات الأعمام، ثم من بعدهن الأقرب فالأقرب، ولا يعتبر ذوات الأرحام، كالأم والخالة والأخت من الأم في إحدى الروايتين؛ لأن المهر يختلف بالنسب، ونسبها مخالف لنسبهن، والأخرى يعتبر؛ لأنهن من نسائها فيدخلن في الخبر. فإن لم يكن لها نساء عصبات، اعتبر هؤلاء على الروايتين. ويعتبر بمن يساويها في صفاتها من سنها وبلدها وعقلها وعفتها وجمالها ويسارها وبكارتها وثيوبتها؛ لأنه عوض متلف، فاعتبرت فيها الصفات. فإن لم يكن مهر نسائها يختلف بهذه الأمور، لم تعتبرها، وإن كان يختلف فلم نجد إلا دونها، زيد لها بقدر فضيلتها، وإن لم يوجد إلا أعلى منها، نقصت بقدر نقيصتها، ويجب حالا من نقد البلد، كقيم المتلفات. فإن كان عادة نسائها التأجيل، ففيه وجهان:
أحدهما: يفرض مؤجلا؛ لأنه مهر نسائها.(3/71)
والثاني: يفرض حالا؛ لأنه قيمة متلف. وإن كان عادتهم أنهم إذا زوجوا عشيرتهم، خففوا، وإذا زوجوا غيرهم، أثقلوا أو عكس ذلك، اعتبر؛ لأنه مهر المثل. فإن لم يوجد من أقاربها أحد، اعتبر شبهها من أهل بلدها، فإن عدم ذلك، اعتبر أقرب الناس إليها من نساء أقرب البلدان إليها.
فصل: وإن طلق المفوضة قبل الدخول والفرض، فليس لها إلا المتعة. نص عليه أحمد في رواية جماعة. وعنه: لها نصف مهر المثل؛ لأنه نكاح صحيح يوجب مهر المثل بعد الدخول، فيوجب نصفه بالطلاق قبله، كالتي سمي لها، والأول المذهب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] . ولا متعة لغيرها في ظاهر المذهب؛ لأنه لما خص بالآية من لم يفرض لها ولم يمسها، دل على أنها لم تجب لمدخول بها، ولا مفروض لها؛ ولأنه حصل في مقابله ابتذال المهر أو نصفه، بخلاف مسألتنا، وعنه: لكل مطلقة متاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وقال سبحانه: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] قال أبو بكر: العمل عندي على هذه الرواية لولا تواتر الروايات بخلافها، فإنه لم يرو هذه إلا حنبل، وخالفه سائر من روى عن أبي عبد الله، فيتعين حمل هذه الرواية على الاستحباب، جمعا بين دلالة الآيات المختلفات، ولما ذكرنا من المعنى. فأما المتوفى عنها، فلا متعة لها بغير خلاف؛ لأن الآية لم تتناولها، ولا هي معنى المنصوص عليه.
فصل:
والمتعة معتبرة بحال الزوج {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وحكى القاضي عن أحمد: أنها مقدرة بنصف مهر المثل؛ لأنها بدل عنه، فتقدرت به، والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] فقدرها بحال الزوج دون حال المرأة؛ ولأنه لو وجب قدر نصف مهر المثل، كان ذلك نصف مهر المثل، وفي قدرها روايتان:(3/72)
إحداهما: يرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم، فيفرض لها ما يؤديه اجتهاده إليه؛ لأنه أمر لم يرد الشرع بتقديره ويحتاج إلى الاجتهاد، فرد إلى الحاكم، كالنفقة.
والثانية: أعلى المتعة خادم، وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها، وأوسطها ما بين ذلك، لقول ابن العباس: أعلى المتعة خادم، ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة. وهذا تفسير من الصحابي، فيجب الرجوع إليه.
فصل:
وكل فرقة أسقطت المسمى، أسقطت المتعة، وما نصفت المسمى، أوجبت المتعة؛ لأنها قائمة مقام نصف المسمى، فاعتبر ذلك فيها. وسئل أحمد: عن رجل تزوج امرأة ولم يكن فرض لها مهرا، ثم وهب لها غلاما، ثم طلقها، قال: لها المتعة، وذلك لأن الهبة لا تنقضي بها المتعة، كالمسمى.
فصل:
فأما المفوضة المهر، وهي التي تزوجها على حكمها، أو حكمه، أو حكم أجنبي، أو بمهر فاسد، أو يزوجها غير الأب بغير صداق بغير إذنها، فإنه يتنصف لها مهر المثل بالطلاق في ظاهر المذهب، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد: ليس لها إلا المتعة؛ لأنه نكاح خلا عن تسمية صحيحة، فأشبه نكاح المفوضة البضع. ولنا: أنها لم ترض بغير صداق، ولم يرض أبوها، فلم تجب المتعة، كالتي سمي لها، بخلاف الراضية بغير صداق.
فصل:
وللأب تزويج ابنته بغير صداق مثلها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا أو ثيبا؛ لأن «عمر خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء، فما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدا من نسائه أو بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» ، وظاهره صحة تسمية من زوج بمثل ذلك، وإن نقص عن مهر المثل، وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين وهو سيد قرشي؛ ولأنه غير متهم في حقها، فلا يمنع من تحصيل المقصود والحظ لابنته بتفويت غير المقصود، وليس لغيره نقصها عن مهر نسائها إلا بإذنها؛ لأنه متهم. فإن زوج بغير صداق، لم يكن تفويضا صحيحا؛ لأنه أسقط ما ليس له التصرف فيه، ويجب مهر المثل، وإن فعله الأب، كان تفويضا صحيحا.
فصل:
وللأب أن يشترط لنفسه شيئا من صداق ابنته؛ لأن الله تعالى أخبر أن شعيبا زوج(3/73)
ابنته لموسى برعاية غنمه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» ، وقال: «إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. فإن زوجها على ألف لها، وألف له، ثم طلقت قبل الدخول، رجع الزوج بالألف التي لها؛ لأن ما أخذه الأب محسوب على البنت من صداقها، فكأنها قبضته، ثم وهبته لأبيها، فإن شرط غير الأب شيئا لنفسه، فالكل لها، ولا شيء له؛ لأنه عوض عنها، فكان لها، كالمسمى لها.
فصل:
وإن زوج الرجل ابنه الصغير، فالمهر على الزوج؛ لأنه المعوض له، فكان العوض عليه، كالكبير، وكما لو اشترى له شيئا، فإن كان الابن معسرا، ففيه وجهان:
أحدهما: هو عليه كذلك.
والثاني: على الأب؛ لأنه لما زوجه مع علمه بإعساره ووجوب الصداق عليه، كان رضا منه بالتزامه.
فصل:
وإن تزوج العبد بإذن مولاه، فالمهر على المولى؛ لأنه وجب بإذنه، فكان عليه، كالذي يجب بعقد الوكيل. وإن تزوج بغير إذن سيده، فالنكاح باطل، فإن فارقها قبل الدخول، فلا شيء عليه، وإن دخل بها ففي رقبته صداقها؛ لأنه وجب بجنايته، فكان في رقبته كسائر جناياته. وفي قدره روايتان:
إحداهما: مهر مثلها؛ لأنه وطء يوجب المهر، فأوجب جميعه، كوطء المكرهة.
والثانية: يجب عليه خمسا المهر، لما روى خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بمولاة تيحان التيمي بغير إذن أبي موسى، فكتب في ذلك إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه: أن فرق بينهما وخذ لها الخمسين من صداقها، وكان صداقها خمسة(3/74)
أبعرة. رواه أحمد. ولأن المهر أحد موجبي الوطء، فجاز أن ينقص في العبد عن الحر كالحد. وقد روى حنبل عن أحمد أنه لا صداق عليه، ويحتمل هذا أن يحمل على ما إذا فرق بينهما قبل الدخول، ويحتمل أن لا يجب شيء في الحالين؛ ولأن المرأة مطاوعة له في غير نكاح صحيح، أشبه الزانية. وهذا مذهب ابن عمر، والمذهب الأول. والسيد مخير بين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو الواجب من المهر، كأرش جناياته. وإذا زوج السيد عبده أمته، وجب الصداق عليه، ثم سقط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، ولا يثبت للسيد على عبده مال، فسقط. وقال القاضي: لا يثبت مهر أصلا لأنه لا يمكن أن يجب للسيد على عبده مال. وإن تزوج العبد بحرة، أو أمة بغير إذن سيده، ثم باعها العبد، أو باعه لسيد الأمة بثمن في الذمة، صح ويحول صداقها إلى ثمنه، أو نصفه إن كان قبل الدخول، وإن باعها إياه بصداقها، صح؛ لأنه يجوز أن يبيعها به عبدا آخر، فكذلك هذا. وينفسخ النكاح إذا ملكت زوجها. فإن كان قبل الدخول، رجع السيد عليها بما يسقط من صداقها.
[باب اختلاف الزوجين في الصداق]
إذا اختلفا في قدره، ولا بينة على مبلغه، ففيه روايتان:
إحداهما: القول قول من يدعي مهر المثل منهما. فإن ادعت مهر المثل أو أقل، فالقول قولها. وإن ادعى مهر مثلها أو أكثر، فالقول قوله؛ لأن الظاهر أن صداقها مهر مثلها؛ ولأنه موجب العقد بدليل ما لو خلا عن الصداق فكان القول قول مدعيه، كالمنكر في سائر الدعاوى. فإن ادعى أقل من مهر المثل، وادعت أكثر من مهر المثل، ردا إلى مهر المثل. وينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه؛ لأن دعوى كل واحد منهما محتملة، فلا تدفع بغير يمين. والرواية الثانية: القول قول الزوج بكل حال؛ لأنه منكر، فيدخل في عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فإن مات الزوجان، فورثتهما بمنزلتهما، إلا أن من يحلف منهما على الإثبات، يحلف على البت، ومن يحلف على النفي، يحلف على(3/75)
نفي العلم؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وإن اختلف الزوج وأبو الصغيرة أو المجنونة، قام الأب مقامهما في اليمين؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فأشبه الوكيل. فإن لم يحلف حتى بلغت الصبية، وعقلت المجنونة، فاليمين عليهما دونه؛ لأنه إنما حلف لتعذر اليمين من جهتهما، فإذا أمكن الحلف منهما، لزمهما، كالوصي إذا بلغ الطفل.
فصل:
وإن أنكر الزوج تسمية الصداق، وادعت تسمية مهر المثل، وكان الخلاف بعد الطلاق قبل الدخول، ففيه وجهان، بناء على الروايتين. فإن قلنا: القول قول الزوج، وجبت المتعة. وإن قلنا بالرواية الأخرى، فلها نصف مهر المثل. وإن اختلفا قبل الطلاق بعد الدخول، فقد استقر لها مهر مثلها، وإن كان قبله، فلها المطالبة بفرض مهر المثل، ولا يشرع التحالف. وإن ادعت أكثر من مهر المثل، حلف على نفي الزيادة.
فصل:
فإن قال: أصدقتك هذا العبد، قالت: بل هذه الأمة، لم تملك العبد؛ لأنها لا تدعيه، ولا الأمة؛ لأنها لا تجب بمجرد الدعوى، لكن إن قلنا: القول قول الزوج، فلها قيمة العبد، وإن قلنا: القول قول من يدعي مهر المثل، وكانت الأمة مهر المثل أو أقل، حلفت ولها قيمتها. وإن كانت أكثر والعبد مهر المثل أو أكثر، حلف الزوج ولها قيمته. وإن كانت الأمة أكثر والعبد أقل، رد إلى مهر المثل على ما ذكرنا فيما تقدم.
فصل:
وإن اختلفا في قبض الصداق، أو إبرائه منه، فالقول قولها؛ لأن الأصل معها. وإن اختلفا فيما يستقر به الصداق بالاستمتاع أو الخلوة، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن اتفقا على أنه دفع إليها مالا، فقال: دفعته صداقا. قالت: بل هبة. فإن كان الخلاف في نيته، فالقول قوله بلا يمين؛ لأنه أعلم بما نواه. وإن اختلفا في لفظه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه ملكه، فالقول قوله في صفة نقله.
فصل:
وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق، فقالت: حدث بعد الطلاق، فلا ضمان علي، وقال: بل قبله، فالقول قولها؛ لأن الأصل براءة ذمتها.
فصل:
ويجب المهر للموطوءة في نكاح فاسد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي أنكحت نفسها(3/76)
بغير إذن وليها: «فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها» ويجب للموطوءة بشبهة لهذا المعنى. ويجب للمكرهة على الزنا؛ لأنه وطء سقط الحد عنها فيه بشبهة، والواطئ من أهل الضمان في حقها، فأوجب المهر، كالوطء بالشبهة. ولا يجب مع المهر أرش البكارة في هذه المواضع؛ لأنه داخل في المهر. وعنه: للمكرهة الأرش مع المهر؛ لأنه إتلاف جزء فوجب عوضه، كما لو جرحها ثم وطئها. وعن أحمد: لا يجب المهر للمكرهة الثيب قياسا على المطاوعة. وعنه: لا يجب لمحارمه من النسب؛ لأن تحريمهن تحريم أصل، فلا يوجب وطؤهن مهرا، كاللواط. وعنه: من تحرم ابنتها، لا مهر لها كذلك، ومن تحل بنتها، كالعمة والخالة، يجب لها؛ لأن تحريمها أخف، ولنا: أنه أتلف منفعة بضعها بالوطء مكرهة، فأشبهت الأجنبية والبكر.
فصل:
ولا يجب المهر للمطاوعة على الزنا؛ لأنها باذلة لما يوجب البدل لها، فلم يجب لها شيء - كما لو أذنت في قطع يدها - فإن كانت أمة، وجب المهر لسيدها؛ لأنه المستحق له، فلا يسقط ببذلها كيدها، ولا يجب المهر بالوطء في الدبر، ولا اللواط؛ لأنه لا منفعة فيه متقومة في الشرع، بخلاف الفرج.
فصل:
ومن نكاحها باطل بالإجماع، كذات الزوج، والمعتدة، حكمها حكم الأجنبية في وجوب الصداق إن كان الوطء بشبهة أو إكراه، وسقوطه إن كانت مطاوعة عالمة بالتحريم؛ لأنه باطل بالإجماع، فكان وجوده كعدمه.
[باب الوليمة]
وهي: الإطعام في العرس. وهي مستحبة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: «أولم ولو بشاة» متفق عليه. وليست واجبة؛ لأنها طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة. ويستحب أن يولم بشاة، للخبر. وإن أولم(3/77)
بغيرها أصاب السنة، لما روى أنس قال: «ما أولم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه.
فصل:
وإجابة الداعي إليها واجبة، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها، وقال أبو هريرة: ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله» رواهما البخاري. وإن كان الداعي ذميا، لم تجب إجابته؛ لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، ولا يجب ذلك للذمي، وتجوز إجابته، لما روى أنس «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير وإهالة سنخة، فأجابه» . رواه أحمد في (الزهد) , وإنما تجب إجابة المسلم إذا نص عليه. فإن دعا الجفلى، كقوله: أيها الناس أجيبوا، وهلم إلى الطعام، لم تجب الإجابة؛ لأن كل واحد غير منصوص عليه، فلا ينكسر قلب الداعي بتخلفه، وإن دعا ثلاثة أيام، وجبت الإجابة في اليوم الأول، واستحب في الثاني، ولم تستحب في الثالث، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة» رواه أبو داود. فإن دعا اثنان، ولم يمكنه الجمع بينهما، أجاب أسبقهما؛ لأن إجابته وجبت بدعوته، فمنعت من وجوب إجابة الثاني، فإن استويا، أجاب أقربهما بابا، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا اجتمع داعيان، فأجب أقربهما بابا، فإن أقربهما بابا، أقربهما جوارا فإن سبق أحدهما، فأجب الذي سبق» رواه أبو داود. فإن استويا أجاب أقربهما رحما، فإن استويا أجاب أدينهما؛ لأن هذا من أبوب البر، فقدم بهذه المعاني. فإن استويا، أقرع بينهما.(3/78)
فصل:
وإذا دعي الصائم، لم تسقط الإجابة، فإذا حضر وكان الصوم واجبا، لم يفطر. وإن كان تطوعا، استحب له الفطر، ليسر أخاه ويجبر قلبه، ولا يجب لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما، فليدع، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وأبو داود. ويستحب إعلامهم بصيامه؛ لأنه يروى عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ولأن التهمة تزول ويتمهد عذره. وإن كان مفطرا، فالأفضل الأكل، للخبر؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي، ولا يجب، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الطعام، فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك» حديث صحيح.
فصل:
والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فذلك إذن له» رواه أبو داود.
فصل:
وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر، كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار، حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين. وإن لم يمكنه، لم يحضر؛ لأنه يرى المنكر ويسمعه اختيارا. وإن حضر فرأى المنكر أو سمعه، أزاله. فإن لم تمكنه إزالته، انصرف، لما روى سفينة: «أن رجلا أضافه علي فصنع له طعاما، فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأكل معنا، فدعوه، فجاء فوضع يده على عضادتي الباب، فرأى قراما في ناحية البيت، فرجع، فقالت فاطمة: الحقه، فقل: ما رجعك يا رسول الله؟ فقال: إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوقا» حديث حسن. ولأنه يشاهد المنكر ويسمعه من غير حاجة، فمنع منه، كالقادر على إزالته. وإن علم المنكر ولم يره ولم يسمعه، لم ينصرف؛ لأنه لم يره،(3/79)
ولم يسمعه، ولا ينصرف لسماع الدف؛ لأنه مشروع، ولا لرؤية نقوش وصور غير الحيوان، كالشجر والأبنية؛ لأنه نقش مباح، فهو كعلم الثوب. وأما صور الحيوان، فإن كانت توطأ أو يتوكأ عليها، كالبسط والوسائد، فلا بأس بها. وإن كانت على حيطان أو ستور، انصرف، لما روت «عائشة قالت: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سفر وقد سترت لي سهوة بنمط فيه تصاوير، فلما رآه قال: أتسترين الجدر بستر فيه تصاوير فهتكه. قالت: فجعلت منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي» . فإن قطع رأس الصورة، أو ما لا يبقي الحيوان بعده، كصدر وظهر، ذهبت الكراهة؛ لأنه لا تبقى الحياة فيه، فأشبه الشجر. وإن أزيل منه ما تبقى الحياة بعده، كيد أو رجل، فالكراهة بحالها؛ لأنها صورة حيوان. وإن سترت الحيطان بستور غير مصورة لحاجة من حر أو برد، جاز ولم يكره؛ لأنه يستعمله لحاجة، فأشبه لبس الثياب. وإن كان لغيره حاجة، ففيه وجهان:
أحدهما: هو محرم، لما روي عن علي بن الحسين قال، «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تستر الجدر» . رواه الخلال. والنهي يقتضي التحريم. ودعا ابن عمر أبا أيوب، فجاء فرأى البيت مستورا بنجاد أخضر، فقال: يا عبد الله ! أتسترون الجدر؟ لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا، ثم خرج.
والثاني: هو مكروه؛ لأن ابن عمر أقر عليه ولم ينكر؛ ولأن كراهته، لما فيه من السرف، فلا يبلغ به التحريم، كالزيادة في الملبوس. ويجوز الرجوع لذلك، لفعل أبي أيوب.
فصل:
فأما سائر الدعوات غير الوليمة، كدعوة الختان، وتسمى: الأعذار، والعذيرة، والخرس والخرسة عند الولادة. والوكيرة: دعوة البناء. والنقيعة: لقدوم الغائب. والحذاق: عند حذق الصبي. والمأدبة: اسم لكل دعوة لسبب كانت أو لغير سبب، ففعلها مستحب، لما فيه من إطعام الطعام وإظهار النعمة، ولا تجب الإجابة إليها، لما روي «عن عثمان بن أبي العاص أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، وقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يدعى إليه» . رواه الإمام أحمد. وتستحب(3/80)
الإجابة، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا دعي أحدكم فليجب عرسا كان أو غير عرس» رواه أبو داود؛ ولأن فيه جبر قلب الداعي وتطييبه.
فصل:
والنثار والتقاطه مباح؛ لأنه نوع إباحة، فأشبه تسبيل الماء والثمرة، وفي كراهته روايتان:
إحداهما: يكره وهي التي ذكرها الخرقي، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن النهبة» ، وقال: «لا تحل النهبى» رواه أحمد في المسند. ولأن في التقاطه دناءة وقتالا، وقد يأخذ من غيره أحب إلى صاحب النثار منه.
والثانية: لا يكره، اختارها أبو بكر، لما روى عبد الله بن قرط قال: «قرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات أو ست بدنات، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فنحرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: من شاء اقتطع» رواه أبو داود. ولا بأس أن يخلط المسافرون أزوادهم ويأكلون جميعا؛ لأن السلف كانوا يتناهدون في الغزو والحج وغيرهما. ومن وقع في حجره شيء من النثار، فهو له؛ لأنه مباح حصل في حجره فملكه، كما لو وثبت سمكة فسقطت في حجره.
[باب عشرة النساء]
يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف، لقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، ويجب على كل واحد منهما بذل ما يجب لصاحبه من الحق عليه، من غير مطل، ولا إظهار الكراهية للبذل، ولا إتباعه بأذى ولا من، وكف أذاه عن صاحبه. ولأن هذا من المعاشرة بالمعروف، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» .(3/81)
فصل:
وإذا تزوج امرأة يوطأ مثلها، فطلب تسليمها إليه، وجب ذلك؛ لأنه يطلب حقه الممكن. فإن سألت الإنظار، أنظرت مدة جرت العادة بإصلاح أمرها فيها، كاليومين والثلاثة؛ لأنه يسير جرت العادة بمثله. وإن كانت لا يجامع مثلها، لصغر أو مرض يرجى زواله، لم يجب تسليمها؛ لأنها لا تصلح للاستمتاع المستحق عليها، وإن كان لمرض غير مرجو الزوال، أو لكونها نضوة الخلق، وجب تسليمها؛ لأن المقصود من مثلها الاستمتاع بغير الجماع، وذلك ممكن في الحال. وكل موضع يجب تسليمها إليه إذا طلبها، يلزمه تسلمها إذا عرضت عليه، وما لا فلا.
فصل:
ويجب تسليم الحرة ليلا ونهارا؛ لأنه لا حق لغيره عليها، وللزوج السفر بها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسافر بنسائه. ويجب تسليم الأمة في الليل دون النهار لأنها مملوكة عقد على أحد منفعتيها، فلم يجب التسليم في غير وقتها، كالمستأجرة للخدمة في أحد الزمانين.
فصل:
وله إجبارها على غسل الحيض والنفاس، مسلمة كانت أو ذمية؛ لأن إباحة الوطء يقف عليه، وله إجبار المسلمة على الغسل من الجنابة؛ لأنه واجب عليها. وفي الذمية روايتان:
إحداهما: لا يملك إجبارها عليه؛ لأنه لا يجب عليها، ولا يقف إباحة الوطء عليه.
والثانية: يملك إجبارها؛ لأن كمال الاستمتاع يقف عليه، لكون النفس تعاف من لا تغتسل من جنابة. وفي التنظف والاستحداد وجهان، بناء على هاتين الروايتين. وقال القاضي: له إجبارها على الاستحداد إذا طال الشعر واسترسل، وتقليم الأظافر إذا طالت رواية واحدة. وهل له منعها أكل ما يتأذى برائحته؟ على وجهين، لما ذكرنا وله منع المسلمة من كل محرم؛ لأن الله منعها منه، وليس له منع الذمية من يسير الخمر؛ لأنها لا تعتقد تحريمه، وله إجبارها على غسل فيها منه؛ لأن نجاسته تمنع الاستمتاع به، وله منعها من السكر؛ لأنه يجعلها كالزق المنفوخ، ولا يأمن من جنايتها عليه.
فصل:
وله منعها من الخروج من منزله، إلا لما لا بد لها منه؛ لأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب. وقد روي عن ابن عمر قال: «أتت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/82)
فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج إلا بإذنه» . ويكره منعه إياها من عيادة أحد والديها، أو شهود جنازته؛ لأنه يؤدي إلى النفور، ويغريها بالعقوق.
فصل:
وله الاستمتاع في كل وقت من غير إضرار بها، ولا منعها من فريضة، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى ترجع» متفق عليه.
ولا يجوز وطؤها في الحيض ولا في الدبر، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . وروى خزيمة بن ثابت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» . وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد» رواهما الأثرم.
ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين، ووطؤها في الفرج مقبلة ومدبرة، وكيف شاء لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] قال جابر: من بين يديها ومن خلفها غير ألا يأتيها إلا في المأتى. متفق عليه.
فصل:
وإذا أراد الجماع، استحب أن يقول: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان(3/83)
ما رزقتنا، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا» متفق عليه. ويستحب التستر عند المجامعة، لما روى عتبة بن عبيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم أهله، فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين» . رواه ابن ماجه. ولا يجامعها بحيث يراهما إنسان، أو يسمع وجسهما. وإذا فرغ قبلها، كره له النزع حتى تفرغ، لما روى أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جامع الرجل أهله، فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها، فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها» .
فصل:
ويكره العزل، وهو: أن ينزل الماء خارج الفرج، لما فيه من تقليل النسل، ومنع المرأة من كمال استمتاعها، وليس بمحرم، لما روى أبو سعيد قال: «ذكر - يعني العزل - عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فلم يفعل أحدكم؟ - ولم يقل: فلا يفعل - فإنه ليس نفس مخلوقة إلا والله خالقها» متفق عليه. فإن كان ذلك في أمته، فله ذلك بغير إذنها؛ لأن الاستمتاع بها حق له دونها، وكذلك أم الولد، وإن كان في زوجة حرة لم يجز إلا بإذنها، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها» . رواه أحمد. وإن كانت أمة فقال أصحابنا: لا يعزل عنها إلا بإذن سيدها؛ لأن الولد له، والأولى جوازه؛ لأن تخصيص الحرة بالاستئذان دليل سقوطه في غيرها؛ ولأن السيد لا حق له في الوطء، فلا يجب استئذانه في كيفيته. ولأن على الزوج ضررا في رق ولده، بخلاف الحرة. ويحتمل أن يكون الاستئذان للحرة والأمة مستحبا غبر واجب؛ لأن(3/84)
حقهما في الوطء لا في الإنزال، بدليل خروجه بذلك من الفيئة والعنة.
فصل:
وإذا كان له زوجتان، لم يجمع بينهما في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن عليهما فيه ضررا، ويؤدي إلى الخصومة، ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن فيه دناءة، وسوء عشرة، وإثارة للغيرة.
[باب القسم بين النساء]
باب القسم يجب على الرجل المبيت عند امرأته الحرة ليلة من كل أربع، ووطؤها مرة في كل أربعة أشهر، إذا لم يكن عذر. وقال القاضي: لا يجب المبيت ولا الوطء ابتداء إذا لم يقصد الإضرار بتركه؛ لأنه حق فجاز تركه، كسكنى الدار المستأجرة، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن عمرو: «ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا» متفق عليه. وقال عمر لكعب بن سور: اقض بين هذا وامرأته، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة وهي رابعتهن، فأقضي لها بثلاث أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة. ولأن الوطء يجب على المولي، ويفسخ النكاح لتركه، وما لا يجب على غير الحالف، لا يجب على الحالف على تركه، كسائر المباحات، وما لا يجب، لا يفسخ النكاح، لتعذره، كزيادة النفقة. فإن لم يفعل فطلبت الفرقة، فرق بينهما. قال أصحابنا: وحق الأمة ليلة من كل سبع؛ لأن أكثر ما يمكنه جمعه معها ثلاث حرائر، لهن ست، ولها السابعة. والصحيح أن لها ليلة من ثمان نصف ما للحرة؛ لأن زيادتها على ذلك يحل بالتنصيف. وزيادة الحرة على ليلة من أربع زيادة على الواجب، فتعين ما ذكرنا.(3/85)
فصل:
فإن كان له امرأتان أو أكثر، وجب التسوية بينهن في القسم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» رواه أبو داود. ولأن الجور يخل بالعشرة بالمعروف. وليس له البداءة في القسم بإحداهما دون الأخرى من غير رضاها؛ لأنه جور يدعو إلى النفور. فإذا أراد البداءة بالقسم، أقرع بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه. وإذا بدأ بواحدة بقرعته أو غيرها، لزمه القضاء للبواقي؛ لأن ترك القضاء ميل.
فصل:
ويجب القسم على المريض، والمجبوب والمظاهر، والمولي وزوج المريضة، والمحرمة، والحائض والنفساء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم في مرضه؛ ولأن القسم يراد للأنس والإيواء، وذلك أحصل في هذه الأحوال. فأما المجنون والمجنونة، فإن خيف منهما، سقط؛ لأن الأنس لا يحصل منهما، وإن لم يخف منهما، فالمجنونة على حقها في القسم. ويطوف ولي المجنون به؛ لأن الأنس يحصل منهما.
فصل:
وإذا سافرت زوجته بغير إذنه، سقط حقها من القسم والنفقة؛ لأنها منعته القسم لها بغيبتها، فأسقطت نفقتها بنشوزها. وإن بعثها أو أمرها بالنقلة من بلدها، لم يسقط حقها من نفقة، ولا قسم؛ لأن ذلك حاصل بفعله، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع، لم يسقط ثمنه. وإن سافرت بإذنه لحاجتها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يسقطان؛ لأنها سافرت بإذنه، أشبه ما لو سافرت معه.
الثاني: يسقط. اختاره الخرقي؛ لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد تعذر من جهتها، فسقط، كثمن المبيع إذا تعذر تسليمه، ويحتمل أن يسقط قسمها وجها واحدا؛ لأنه لو سافر عنها لعذر، سقط حقها منه، فإذا سافرت هي، كان أولى. وفي النفقة وجهان؛ لأنها لا تسقط بسفره.
فصل:
وعماد القسم الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] .(3/86)
ولأن الليل للسكن والإيواء، والنهار للمعاش والانتشار، إلا من معاشه بالليل، كالحارس، فعماد قسمه النهار؛ لأن نهاره كليل غيره. وإذا قسم للمرأة ليلة، كان لها ما يليها من النهار تبعا لليل، بدليل ما روي «أن سودة وهبت يومها لعائشة» . متفق عليه. «وقالت عائشة: قبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي وفي يومي» ، والأولى أن يقسم بين زوجاته ليلة وليلة، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق. فإذا زاد على ذلك، لم يجز إلا برضاهن؛ لأنه إذا بات عند واحدة، تعينت الليلة الثانية للأخرى، فلم يجز أن يبيتها عند غيرها بغير رضاها. فإن اتفق الجميع على القسم أكثر من ذلك أو أقل، جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهن. وقال القاضي: له أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثا؛ لأنه يسير، ولا تجوز الزيادة عليه إلا برضاهن. فإن قسم لإحداهما، ثم طلق الأخرى قبل قسمها، أثم؛ لأنه فوت حقها الواجب لها، فإن عادت بعد ذلك إليه، لزمه أن يقضي لها؛ لأنه قدر على إيفائه بعد العجز عنه، فلزمه، كالدين إذا أعسر به ثم أيسر. وإن نشزت إحداهن في ليلتها، وأغلقت بابها دونه، أو ادعت طلاقه، سقط حقها من القسم. فإن طاوعت، استأنف القسم بينهما، ولم يقض لها؛ لأنها أسقطت حق نفسها.
فصل:
والأولى أن يطوف على نسائه في منازلهن، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأنه أحسن في العشرة وأصون لهن. وله أن يقيم في موضع واحد، ويستدعي واحدة واحدة، وله أن يأتي واحدة ويستدعي واحدة؛ لأن المرأة تابعة للزوج في المكان، ولذلك ملك نقلها إلى حيث شاء. وإن حبس في موضع يمكن حضورها معه، وهو مسكن مثلها، فهي على حقها من القسم. وإن لم يكن مسكن مثلها، لم يلزمها إجابته؛ لأن عليها ضررا. وإن كانت له امرأتان في بلدين، فعليه العدل بينهما؛ لأنه حق لهما، فلا يسقط بتباعدهما، كالنفقة. فإن امتنعت إحداهما من النقلة بعد طلبه لها، سقط حقها. وإن أقام في بلد إحداهما، ولم يقم معها في المنزل، لم يلزمه القضاء؛ لأنه لم يقسم لها، وإن أقام عندها، لزمه القضاء للأخرى.(3/87)
فصل:
يستحب التسوية بين الزوجات في الاستمتاع؛ لأنه أكمل، ولا يجب ذلك؛ لأن الداعي إليه الشهوة والمحبة، ولا سبيل إلى التسوية فيه. قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] . قال ابن عباس: في الحب والجماع. وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الترمذي وابن ماجه.
فصل:
وإن خرج في ليلة إحداهن ولم يلبث أن عاد، لم يقض لها؛ لأنه لا فائدة في قضائه، وإن أقام قضى لها، سواء كانت إقامته لعذر، أو لغير عذر؛ لأن حقها فات بغيبته عنها. ويستحب أن يقضي لها في مثل الوقت الذي خرج فيه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة. وإن قضاه في غيره من الليل، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، لعدم المماثلة.
والثاني: يجوز؛ لأنه قضى في الوقت الذي هو المقصود في القسم، وله الخروج في النهار حيث شاء؛ لأن النهار للمعاش والانتشار. وإن دخل على ضرتها في ليلتها، ولم يلبث أن خرج، لم يقض، لعدم الفائدة في قضائه، فإن جامعها فيه، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقضي أيضا؛ لأن الزمن اليسير لا يقضى، والوطء لا يستحق في القسم.
والثاني: عليه القضاء وهو أن يدخل على صاحبة القسم في ليلة الأخرى فيطأها، ليعدل بينهما. وإن أطال المقام عند الضرة، قضاه في ليلة المدخول عليها بكل حال. فأما الدخول على غيرها في يومها، فيجوز للحاجة، من غير أن يطيل ولا يجامع. وهل له أن يستمتع منها فيما دون الفرج؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل علي في يوم غيري وينال مني كل شيء إلا الجماع» .(3/88)
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحصل به السكن، أشبه الجماع. وإن أطال، قضاه للأخرى. وإن جامع ففيه وجهان. كما ذكرنا في الليل.
فصل:
والكتابية كالمسلمة في القسم؛ لأنه من حقوق النكاح فاستويا فيه، كالنفقة والسكنى. فإن كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة، فللحرة ليلتان، وللأمة ليلة، لما روي عن علي أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين. أخرجه الدارقطني واحتج به أحمد. فإن أعتقت الأمة في مدتها أو قبلها، أضاف إلى ليلتها أخرى؛ لأنها صارت حرة، فيجب التسوية بينهما. وإن أعتقت بعد مدتها، استأنف القسم متساويا ولم يقض لها.
فصل:
إذا كان له أربع نسوة، فنشزت إحداهن، وظلم أخرى فلم يقسم لها، وقسم للاثنتين ثلاثين ليلة، ثم أطاعته الناشز، وأراد القضاء للمظلومة، فإنه يقسم لها ثلاثا، وللناشز ليلة، خمس أدوار، فيكمل للمظلومة خمسة عشر، ويحصل للناشز خمس، فتحصل التسوية. فإن كان له ثلاث نسوة، فظلم إحداهن، وقسم بين الباقيتين ثلاثين ليلة، ثم تزوج جديدة، وأراد القضاء، فإنه يبدأ فيوفي الجديدة حق العقد، ثم يقسم بينهما وبين المظلومة خمسة أدوار، كما ذكرنا في التي قبلها سواء.
فصل:
ولا قسم عليه في ملك اليمين. فإذا كانت له زوجات وإماء، فله الدخول على الإماء كيف شاء، والاستمتاع بهن؛ لأن الأمة لا حق لها في الاستمتاع، ولذلك لم تملك المطالبة في الإيلاء.
فصل:
وللمرأة أن تهب حقها من القسم لزوجها، فيجعله لمن شاء من زوجاته، ولبعض ضرائرها، أو لهن جميعا إذا رضي الزوج؛ لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه، فإذا رضي، جاز، لما روت عائشة «أن سودة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة» . متفق عليه. ويجوز ذلك في بعض الزمان، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد على صفية بنت حيي في شيء، فقالت(3/89)
لعائشة: هل لك أن ترضي عني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولك يومي؟ قالت: نعم - فأخذت خمارا مصبوغا بزعفران، فرشته بالماء ليفوح ريحه، ثم قعدت إلى جنب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إليك يا عائشة، إنه ليس يومك قالت: ذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، فأخبرته بالأمر فرضي عنها» . رواه ابن ماجه. ولا يعتبر رضا الموهوبة؛ لأنه حقه عليها عام، وإنما منعه المزاحمة التي زالت بالهبة، ثم إن كانت ليلة الواهبة لا تلي ليلة الموهوبة، لم تجز الموالاة بينهما؛ لأن الموهوبة قائمة مقام الواهبة، فلم يجز تغييرها عن موضعها، كما لو كانت الواهبة باقية، ويحتمل أن يجوز لعدم الفائدة في التفريق. وللواهبة الرجوع في هبتها في المستقبل؛ لأنه لم يقبض، وما مضى فقد اتصل به القبض، فلا حق لها فيه. وإن بذلت ليلتها بمال، لم يصح؛ لأنها ليست مالا، ولا منفعة يستحق بها المال. وإن كان العوض غير المال، كإرضاء زوجها ونحو ذلك، جاز لحديث عائشة.
فصل:
والحق في قسم الأمة لها، دون سيدها، فلها هبة ليلتها بغير إذن سيدها، ولها المطالبة بها؛ لأن الإيواء والسكنى حق لها، فملكت إسقاطه والمطالبة به، كالحرة.
فصل:
وإن تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة، قطع الدور لحق الجديدة، فإن كانت بكرا، أقام عندها سبعا. وإن كانت ثيبا، أقام عندها ثلاثا، ثم دار، لما روى أبو قلابة «عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا، فعل، ثم قضى جميعها للبواقي، لما روت «أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها، أقام عندها ثلاثا وقال: إن شئت سبَّعت لك، وإن سبَّعت لك سبعت لنسائي» . رواه مسلم. وفي لفظ: «وإن شئت ثلثت ثم(3/90)
درت» والأحرار والرقيق سواء في هذا الحديث، للإيناس وإزالة الاحتشام، فاستوين فيه لاستوائهن في الحاجة إليه، كالنفقة.
فصل:
يكره أن يزف امرأتين في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهما في إيفاء حقهما، وتستضر التي يؤخر حقها وتستوحش، فإن فعل، بدأ بالتي تدخل عليه أولا فوفاها حقها؛ لأنها أسبق، فإن أدخلتا عليه معا، أقرع بينهما، فقدم من تخرج لها القرعة، ثم ثنى بصاحبتها، ثم قسم بعد ذلك.
فصل:
وإذا أراد السفر بجميع نسائه، قسم لهن كما يقسم في الحضر. وإن أراد السفر ببعضهن، لم يسافر بهن إلا بقرعة، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه» . متفق عليه. ولا يلزمه القضاء للحاضرات؛ لأن عائشة لم تذكر قضاء؛ ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم، والسفر الطويل والقصير سواء في هذا، لعموم الخبر والمعنى. وإن سافر بإحداهن بغير قرعة، أثم، وقضى للبواقي؛ لأنه خصها مدة على وجه تلحقه التهمة، فلزمه القضاء، كالحاضر. فإن خرجت القرعة لإحداهن فامتنعت من السفر معه، سقط حقها لامتناعها. وإن آثرت أخرى به، جاز إذا رضي الزوج؛ لأن الحق لها، أشبه ليلتها في الحضر، وإن أحب تركها، والسفر وحده، جاز؛ لأن القرعة لا توجب، وإنما تعين مستحق التقديم. وإن سافر بها بقرعة ثم بدا له فأبعد السفر، فله استصحابها معه؛ لأنه سفر واحد. وإن أقام في بلدة مدة يلزمه فيها إتمام الصلاة، قضى ذلك، فإذا خرج مسافرا، لم يقض ما سافره؛ لأنه سفر واحد قد أقرع له. وإن كانت عنده امرأتان، فتزوج امرأتين، ثم أراد سفرا، أقرع بين الكل، فإن وقعت القرعة لإحدى الأوليين، سافر بها، فإذا قدم، قضى حق العقد للجديدتين، ثم دار. وإن وقعت للجديدة، سافر بها ودخل حق العقد في قسم السفر، فإذا قدم، قضى حق العقد للأخرى، ثم دار؛ لأنه حق وجب عليه قبل سفره. ويحتمل ألا يقضي لها؛ لأن الإيواء في الحضر أكثر منه في السفر، فيحصل تفضيلها على التي سافر بها. ويحتمل أن يقيم عند الأخرى لقضاء حق العقد؛ لأنه حق وجب بالعقد، ولم يوجد له مسقط، فيجب قضاؤه، ثم يقيم مثله عند التي(3/91)
سافر بها، لئلا يفضل الحاضر عليها، فإن العدل يحصل بهذا، فيكون أولى من إسقاط حق العقد بغير مسقط وإن قدم من سفره قبل إتمام حق العقد للتي معه، أتمه في الحضر، والله أعلم.
[باب النشوز]
وهو نوعان. أحدهما: نشوز المرأة، وهو معصيتها زوجها فيما يجب له عليها من حقوق النكاح، فمتى ظهر منها إمارات النشوز، مثل أن يدعوها فلا تجيبه، أو تجيبه مكرهة متبرمة، وعظها وخوفها الله تعالى وما يلحقها من الإثم والضرر بنشوزها من سقوط نفقتها وقسمها وإباحة ضربها وأذاها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] . ولا يجوز ضربها؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك لعذر، أو ضيق صدر من غير الزوج، فإن أظهرت النشوز، فله هجرها في المضاجع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] . قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك. فإن الهجران في الكلام، فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، أو قال: ثلاث ليال» ، متفق عليه. فإن ردعها ذلك، وإلا فله ضربها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم. ولا يحرج بالضرب، للخبر. قال ثعلب: غير مبرح، أي: غير شديد. وعليه اجتناب المواضع المخوفة،(3/92)
والمستحسنة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف والتشويه. وهل له ضربها بأول النشوز؟ فعنه: له ذلك، للآية والخبر؛ ولأنها صرحت بالمعصية، فكان له ضربها، كالمصرة. وظاهر قول الخرقي: أنه ليس له ضربها؛ لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل، فيبدأ بالأسهل فالأسهل، كإخراج من هجم على منزله؛ ولأنها عقوبات على جرائم، فاختلفت باختلافها، كعقوبات المحاربين.
فصل:
النوع الثاني: نشوز الرجل عن امرأته، وهو: إعراضه عنها لرغبته عنها، لمرضها، أو كبرها، أو غيرهما، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقها تسترضيه بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، فيريد طلاقها، ويتزوج عليها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، وأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي. رواه البخاري. «وقالت عائشة: إن سودة لما أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها. ففي تلك وأشباهها أراه أنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] » رواه أبو داود. ومتى صالحته على شيء من حقها، ثم أرادت الرجوع، فلها ذلك. قال أحمد في الرجل يغيب عن زوجته فيقول لها: إن رضيت على هذا وإلا، فأنت أعلم، فتقول: قد رضيت، فهو جائز. وإن شاءت، رجعت.
فصل:
وإذا ادعى كل واحد منهما ظلم صاحبه وعدوانه، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة يطلع عليهما، ويلزمهما الإنصاف. فإن لم يمكن إنصاف أحدهما من صاحبه، وخيف الشقاق بينهما، بعث الحاكم حكما من أهله، وحكما من أهلها، ليفعلا ما رأيا المصلحة فيه من التفريق بعوض أو غيره، أو الإصلاح بترك بعض الحقوق أو غيره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين؛ لأنهما إما وكيلان،(3/93)
أو حكمان، وأي ذلك كان، فلا تشترط له القرابة، والأولى جعلهما من أهلهما، للآية؛ ولأنهما أعرف بالحال وأشفق. ويجب أن يكونا ذكرين، عدلين؛ لأنهما إن كانا وكيلين، فهما يحتاجان إلى الرأي في النظر والتفريق، ولا يكمل بدون هذين الوصفين. وإن كانا حكمين، فهذا شرط فيه، واختلفت الرواية فيهما. فروي: أنهما حكمان، لتسمية الله تعالى إياهما بذلك، فعلى هذا لهما فعل ما رأياه بغير رضا الزوجين؛ لأن الحاكم يحكم بما يراه من غير رضا الخصم. وروي: أنهما وكيلان لا يملكان التفريق، ولا إسقاط شيء من الحقوق إلا بتوكيلهما أو رضاهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة، فلم يجز إلا بإذنهما. ومتى كانا حكمين، اشترط كونهما فقيهين حرين؛ لأنهما من شرائط الحكم. وإن كانا وكيلين، جاز أن يكونا عاميين أو عبدين؛ لأن توكيلهما جائز. وقال القاضي: لا يجوز أن يكونا عبدين؛ لأنهما ناقصان. فإن غاب الزوجان، نفذ تصرف الحكمين في حقهما إن قلنا: هما وكيلان، كما ينفذ تصرف الوكيل في غيبة الموكل. وإن قلنا: هما حكمين، لم ينفذ؛ لأنه لا يجوز له الحكم للغائب. وكل واحد منهما محكوم له وعليه. وإن جنى، لم ينفذ تصرف الحكمين بحال؛ لأن الوكالة تبطل بجنون الموكل.(3/94)
[كتاب الخلع]
ومعناه: فراق الزوج امرأته بعوض. فإن خالعها بغير عوض، لم يصح، لكن إن كان بلفظ الطلاق، أو نواه به، فهو طلاق رجعي، ولم يقع به شيء، وعنه: يصح الخلع بغير عوض. اختاره الخرقي. فإذا سألته خلعها، فقال: خلعتك، انفسخ النكاح ولا شيء له؛ لأنه فرقة، فجازت بغير عوض، كالطلاق. فإن قال: خلعتك من غير سؤال الزوجة، لم يكن خلعا، وكان كناية في الطلاق لا غير. قال أبو بكر: لا خلاف عن أبي عبد الله أن الخلع ما كان من قبل النساء. فإذا كان من قبل الرجال، فلا نزاع في أنه طلاق يملك به الرجعة. ووجه الرواية الأولى أنه فسخ للنكاح بغير عوض ولا عيب، فلم يملكه الزوج، كما لو لم تسأله المرأة.
[فصل في حكم الخلع]
فصل:
والخلع على ثلاثة أضرب: مباح: وهو أن تكره المرأة زوجها لبعضها إياه، وتخاف ألا تؤدي حقه، ولا تقيم حدود الله في طاعته، فلها أن تفتدي نفسها منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . وروى البخاري بإسناده، قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت من دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتردين عليه حديقته؟ فالت: نعم. فردت عليه، وأمره ففارقها» . ولأن حاجتها(3/95)
داعية إلى فرقته، ولا تصل إليها إلا ببذل العوض، فأبيح لها ذلك، كشراء المتاع.
الثاني: المخالعة لغير سبب مع استقامة الحال، فذهب أصحابنا إلى أنه صحيح مع الكراهة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] . ويحتمل كلام أحمد تحريمه وبطلانه؛ لأنه قال: الخلع مثل حديث سهلة، تكره الرجل، فتعطيه المهر، فهذا الخلع. ووجه ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] . وروى ثوبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» رواه أبو داود. ولا يلزم من الجواز في غير عقد، الجواز في عقد بدليل عقود الربا.
الثالث: أن يعضل الرجل زوجته بأذاه لها، ومنعها حقها ظلما، لتفتدي نفسها منه، فهذا محرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] . فإن طلقها في هذه الحال بعوض، لم يستحقه لأنه عوض أكرهت على بذله بغير حق، فلم يستحقه، كالثمن في البيع. ويقع الطلاق رجعيا. وإن خالعها بغير لفظ الطلاق، وقلنا: هو طلاق، فحكمه ما ذكرنا، وإلا فالزوجية بحالها. فإن أدبها لتركها فرضا أو نشوزها، فخالعته لذلك، لم يحرم؛ لأنه ضربها بحق. وإن زنت فعضلها لتفتدي نفسها منه، جاز وصح الخلع، لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] . والاستثناء من النفي إثبات. وإن ضربها ظلما لغير قصد أخذ شيء منها، فخالعته لذلك، صح الخلع؛ لأنه لم يعضلها ليأخذ مما آتاها شيئا.
فصل:
ويصح الخلع من العبد والسفيه والمفلس، وكل زوج يصح طلاقه؛ لأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض، فبعوض أولى. والعوض في خلع العبد لسيده؛ لأنه من كسبه، لا يجوز تسليمه إلى غيره، إلا بإذنه، ولا يجوز تسليم العوض في خلع السفيه إلا إلى(3/96)
وليه، كسائر حقوقه. وقال القاضي: يصح قبضهما؛ لأنه صح خلعهما، فصح قبضهما، كالمفلس. ولا يصح من غير زوج؛ لأنه لا يملك الطلاق إلا أب الصغير. فإن فيه روايتين:
إحداهما: لا يملك طلاق زوجته ولا خلعها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه. ولأنه إسقاط لحقه فلم يملكه، كإسقاط قصاصه.
والثانية: يملكه؛ لأنه يملك تزويجه، فملك الطلاق والخلع، كالزوج، وكذلك القول في زوجة عبده الصغير.
فصل:
ويصح الخلع من كل زوجة رشيدة؛ لأن استدانتها صحيحة. فإن كانت أمة، فحكم خلعها حكم استدانتها بإذن سيدها، وبغير إذنه، ويرجع على المكاتبة بالعوض إذا عتقت، وعلى المفلسة إذا أيسرت، كاستدانتها. فأما السفيهة والصغيرة والمجنونة، فلا يصح بذل العوض منهن؛ لأنه تصرف في المال وليس من أهله. ويصح بذل العوض في الخلع من الأجنبي. فإذا قال: طلق زوجتك بألف علي، ففعل، لزمته ألف؛ لأنه إسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المسقط عنه، فصح بالمالك والأجنبي، كالعتق بمال، فإن قال: طلق زوجتك بمهرها، وأنا ضامن، ففعل، بانت وعليه مهرها، لا يرجع به على أحد. وليس لغير الزوجة خلعها بشيء من مالها، ولو كان أبا الصغيرة؛ لأنه يسقط به حقها من العوض والنفقة والاستمتاع، فإن فعل وكان طلاقا، كان رجعيا، وإلا لم يقع به شيء، كالخلع مع العضل.
فصل:
ويجوز الخلع من غير حاكم؛ لأنه قطع عقد بالتراضي، فلم يحتج إلى حاكم، كالإقالة. ويجوز في الحيض؛ لأن تحريم الطلاق فيه يثبت دفعا لضرر تطويل العدة، والخلع يدفع به ضرر سوء العشرة، وهو أعظم وأدوم، فكان دفعه أولى.
[فصل في ألفاظ الخلع]
فصل:
وألفاظ الخلع تنقسم إلى صريح وكناية؛ لأنه أحد نوعي الفرقة، فكان له صريح وكناية، كالطلاق. فالصريح ثلاثة ألفاظ: خالعتك؛ لأنه يثبت له عرف الاستعمال.(3/97)
وفاديتك لورود القرآن به. وفسخت نكاحك؛ لأنه حقيقة فيه. وما عدا هذا، مثل بارأتك وأبرأتك وأبنتك، فكناية. فمتى أتى بالصريح، وقع وإن لم ينو، ولا يقع بالكناية إلا بنية، أو دلالة حال، بأن تطلب الخلع، وتبذل العوض، فيجيبها بذلك؛ لأن دلالة الحال تغني عن النية. ومتى وقع الخلع بلفظ الطلاق، أو نوى به الطلاق، فهو طلاق بائن؛ لأنه لا يحتمل غير الطلاق. وإن خالعها بغير لفظ الطلاق غير ناو به الطلاق، ففيه روايتان:
إحداهما: هو طلاق أيضا؛ لأنه كناية في الطلاق، نوى به فرقتها، فكان طلاقا، كما لو نوى به الطلاق.
والثانية: هو فسخ لقول الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم ذكر الخلع، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . فلو كان طلاقا، كانت أربعا، ولا خلاف في تحريمها بثلاث؛ ولأنه ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يكن طلاقا، كغيره من الكنايات. فإذا قلنا: هو طلاق، نقص به عدد طلاقها، ومتى خالعها ثلاثا، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وإن قلنا: هو فسخ، لم ينقص به عدد طلاقها، وحلت له من غير نكاح زوج ثان، ولو خالعها مرارا.
فصل:
وتبين بالخلع على كلتا الروايتين، فلا يملك رجعتها؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يملك الرجوع فيما اعتاض عنه، كالبيع، ولا يلحقها طلاقه، ولو واجهها به؛ لأنها بائن، فلم يلحقها طلاقه، كبعد العدة. فإن طلقها بعوض، وشرط الرجعة، فقال ابن حامد: يصح الخلع ويسقط الشرط؛ لأن الخلع لا يفسد بالعوض الفاسد، فلم يفسد بالشرط الفاسد، كالنكاح. قال القاضي: ويسقط المسمى، وله صداقها؛ لأنه إنما رضي به مع الشرط، فإذا فسد الشرط، وجب أن يرجع بما نقص لأجله، فيصير مجهولا، فيفسد ويجب الصداق. ويحتمل أن يجب المسمى؛ لأنه مسمى صحيح، في عقد صحيح، فوجب قياسا على الصداق في النكاح، وفيه وجه آخر: أنه يسقط العوض، وتثبت الرجعة؛ لأن شرط العوض والرجعة يتنافيان، فيسقطان، ويبقى مجرد الطلاق. وإن شرط الخيار في الخلع، بطل الشرط، وصح الخلع؛ لأن الخيار في البيع لا يمنع نقل الملك، ففي الخلع لا يمنع وقوعه. ومتى وقع، فلا سبيل إلى رفعه.(3/98)
فصل:
ويصح الخلع منجزا بلفظ المعاوضة، لما فيه من المعاوضة، ومعلقا على شرط، لما فيه من الطلاق. فأما المنجز بلفظ المعاوضة، فهو أن يوقع الفرقة بعوض، فيقول: خلعتك بألف، أو طلقتك بألف، أو أنت طالق بألف، فتقول: قبلت، كما يقول: بعتك هذا الثوب بألف، فتقول: قبلت. هذا قول القاضي، وقياس قول أحمد: إنه يقع الطلاق رجعيا، ولا شيء له؛ لأنه أوقع الطلاق الذي يملكه، ولم يعلقه بشرط، وجعل عليها عوضا لم تبذله ولم ترض به، فلم يلزمها. فأما المعاوضة الصحيحة، فمثل أن تقول المرأة: اخلعني بألف، أو طلقني بألف، أو على ألف، أو وعلي ألف، فيقول: طلقتك، كما تقول: بعني هذا الثوب بألف، فيقول: بعتك. ولا يحتاج إلى ذكر إعادة الألف في الجواب؛ لأن الإطلاق يرجع إليه، كما يرجع في البيع. ولا يصح الجواب في هذا إلا على الفور. ويجوز للرجل الرجوع في الإيجاب قبل القبول، وللمرأة الرجوع في السؤال قبل الجواب، كما يجوز في البيع. وأما المعلق فيجوز أن يعلق الطلاق على دفع مال، أو ضمانه، فيقول: إن أعطيتني ألفا، أو إذا أعطيتني ألفا، أو متى أعطيتني ألفا، أو متى ضمنت لي ألفا، فأنت طالق، فمتى ضمنتها له، أو أعطته ألفا، طلقت، سواء كان على الفور أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط، فوقع بوجود الشرط، كما لو عري عن ذكر العوض. ويكفي في العطية أن يحضر المال، ويأذن في قبضه، أخذ أو لم يأخذ؛ لأن اسم العطية يقع عليه. يقال: أعطيته فلم يأخذ. فإن أعطته بعض الألف، لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق بألف إن شئت، لم تطلق حتى تشاء؛ لأنه علق على المشيئة، فلم يقع إلا بها، وسواء شاءت على الفور، أو التراخي، نص عليه؛ لأنه جعل المشيئة شرطا، فأشبه تعليقه على دخول الدار.
فصل:
فإذا قال: أنت طالق وعليك ألف، طلقت رجعية، ولا شيء له؛ لأنه لم يجعل الألف عوضا للطلقة، ولا شرطا فيها، إنما عطفه على الطلاق الذي يملك إيقاعه، فوقع ما يملكه دون ما لا يملكه. وإن قال: أنت طالق على ألف، أو على أن عليك ألفا، فعن أحمد: فيها مثل ذلك؛ لأن ((على)) ليست حرف شرط، ولا مقابلة، لهذا لا يصح أن تقول: بعتك ثوبي على ألف. وقال القاضي: لا يقع الطلاق بها حتى تقبل ذلك؛ لأنها أجريت مجرى الشرط والجزاء، بدليل قَوْله تَعَالَى في قصة شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وقَوْله تَعَالَى:(3/99)
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] . فعلى هذا إذا قال أنت طالق على ألف، أو بألف، فقالت: قبلت واحدة بثلث الألف، لم يقع؛ لأنها لم تقبل ما بذله، فأشبه ما لو قال: بعتك عبيدي الثلاثة ألف، فقال: قبلت واحدا بثلث الألف، وإن قالت: قبلت واحدة بألف، وقع الثلاث، واستحق الألف؛ لأنه علق الثلاث على بذلها للألف، وقد وجد. فإن قال: أنت طالق ثلاثا واحدة منها بألف، طلقت اثنتين، ووقعت الثالثة على قبولها. ولو لم يبق من طلاقها إلا طلقة، فقال: أنت طالق اثنتين، الأولى بغير شيء، والثانية بألف، بانت بالثلاث، ولم يستحق شيئا. وإن قال: الأولى بألف، استحق الألف إذا قبلت.
فصل:
وإذا قالت: طلقني بألف، فقال: خلعتك ينوي به الطلاق، أو قلنا: الخلع طلاق، استحق الألف؛ لأنه طلقها. وإن لم ينو الطلاق، وقلنا: ليس بطلاق، لم يستحق العوض؛ لأنها استدعت فرقة تنقص عدد طلاقه، فلم يجبها إليه، ويكون كالخلع بغير عوض، ويحتمل أن لا يقع بها شيء؛ لأنه إنما بذل خلعها بعوض، فلم يحصل، فلم يقع، وإن قالت: اخلعني بألف، فقال: طلقتك بألف، وقلنا: الخلع فسخ، ففيه وجهان:
أحدهما: له الألف؛ لأن الطلاق بعوض نوع من الخلع؛ ولأنها استدعت فرقة لا ينقص عدد طلاقها، فأتى بفرقة تنقص عدد طلاقها، وهذا زيادة.
والثاني: لا يستحق شيئا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت. وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة، وقعت رجعية، ولا شيء له؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت، فإنها استدعت فرقة تحرم بها قبل زوج آخر، فلم يجبها إليه، وإن لم يكن بقي من عدد طلاقها إلا واحدة، استحق الألف، علمت أو لم تعلم؛ لأن القصد تحريمها قبل زوج آخر، وقد حصل ذلك. وإن قالت: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثا، طلقت ثلاثا، وله الألف؛ لأنه حصل ما طلبته وزيادة. وإن قالت: طلقني عشرا بألف، فطلقها ثلاثا، استحق الألف في قياس المسألة التي قبلها؛ لأنه حصل المقصود. وإن طلقها أقل من ذلك، لم يستحق شيئا؛ لأنه لم يجب سؤالها.
فصل:
فإن قالت: طلقني بألف إلى شهر، فقال: إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، استحق الألف، ووقع الطلاق عند رأس الشهر بائنا؛ لأنه بعوض. وإن طلقها قبل رأس(3/100)
الشهر، طلقت ولا شيء له، نص عليه؛ لأنه إخبار بإيقاع الطلاق من غير عوض. وإن قالت: لك علي ألف على أن تطلقني متى شئت من الآن إلى شهر، فطلقها قبل رأس الشهر، وقع الطلاق، واستحق الألف؛ لأنه أجابها إلى ما سألت. وقال القاضي: تبطل التسمية وله صداقها؛ لأن زمن الطلاق مجهول.
فصل:
وإن قالت إحدى زوجتيه: طلقني وضرتي بألف، ففعل، صح الخلع فيهما؛ لأن الخلع مع الأجنبي صحيح. وإن طلق إحداهما لم يستحق شيئا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت، فلم يستحق ما بذلت، كما لو قال في المناضلة: من سبق بسهمين فله ألف، فسبق أحدهما. وقال القاضي: تبين المطلقة على الباذلة حصتها من الألف، كما لو قال: من رد عبدي فله ألف، فرد أحدهما، وإن قالت: طلقني بألف على أن تطلق ضرتي بألف، فكذلك سواء. وقال القاضي: إذا لم يف بشرطها، فله الأقل من المسمى في صداقها، أو الألف.
فصل:
وإن قال لزوجتيه: أنتما طالقتان بألف، فقبلتا، طلقتا، وتقسطت الألف بينهما على قدر صداقهما، وعلى قول أبي بكر يكون بينهما نصفين، كقوله فيما إذا تزوجهما بألف. وإن قبلت إحداهما، بانت، ولزمتها حصتها من الألف، وإن كانت إحداهما غير رشيدة، فقبلتا، بانت الرشيدة بحصتها، ولم تطلق الأخرى؛ لأنها بذلها للعوض غير صحيح. وإن قال: أنتما طالقتان بألف إن شئتما، فقالتا: قد شئنا، فهي كالتي قبلها، إلا أن إحداهما إذا شاءت وحدها، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن مشيئتهما معا شرط لطلاقهما، فلا يوجد بدون شرطه، فإن قالتا: قد شئنا، وإحداهما صغيرة أو مجنونة، فكذلك؛ لأن مشيئتها غير صحيحة، وإن كانت سفيهة، طلقتا؛ لأن مشيئتهما صحيحة، وعلى الرشيدة حصتها من العوض، ويقع طلاق السفيهة رجعيا، ولا عوض عليها؛ لأن بذلها غير صحيح.
[فصل في بيان عوض الخلع]
فصل:
وكل ما جاز صداقا، جاز جعله عوضا في الخلع، قليلا كان أو كثيرا، وقال أبو بكر: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، فإن فعل، رد الزيادة، والأول المذهب، لقول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
وروت الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، وأجازه(3/101)
عثمان؛ ولأنه عوض عن ملك منافع البضع، أشبه الصداق. ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أمر ثابت بن قيس أن يأخذ من زوجته حديقته ولا يزداد، رواه ابن ماجه. وحكمه حكم الصداق في أنه إذا وجد به عيبا، خير بين قيمته وأخذ أرشه، وفي أنه إذا خالعها على عبد فبان حرا، أو خلا فبان خمرا، فله قيمة العبد، ومثل الخل. وإن خالعها بحر، أو خمر يعلمانه وهما مسلمان، فهو كالخلع بغير عوض؛ لأنه رضي منها بما ليس بمال، بخلاف ما إذا لم يعلم، فأنه لم يرض بغير مال، فرجع بحكم الغرور. فإن كانا كافرين فأسلما، أو تحاكما إلينا بعد قبضه، فلا شيء له؛ لأن حكمه مضى قبل الإسلام، فإن أسلما قبله، فظاهر كلام الخرقي أنه يجب له عوض؛ لأنه لم يرض بغير عوض فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا، أو خلا. وقال القاضي في الجامع: لا شيء له؛ لأنه رضي بما ليس بمال، فأشبه المسلم. وقال في المجرد: لها مهر المثل؛ لأن العوض فاسد يرجع إلى قيمة المتلف، وهو مهر المثل، ويحتمل أن يجب لها قيمة الحر لو كان عبدا، وقيمة الخمر عند الكفار؛ لأنه رضي بمالية ذلك، فأشبه المسلم إذا اعتقده عبدا أو خلا.
فصل:
ويصح الخلع على عوض مجهول في ظاهر المذهب. وقال أبو بكر: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة فلا يصح بالمجهول، كالبيع. ولنا أن الطلاق معنى يصح تعليقه بالشرط، فجاز أن يستحق به المجهول، كالوصية، وفيه مسائل خمس:
أحدها: أن تخالعه على ما في يدها من الدراهم، فإن كان في يدها دراهم، فهي له، وإن لم يكن فيها دراهم، فله ثلاثة، نص عليه أحمد؛ لأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة، ولفظها دل على ذلك فاستحقه، كما لو وصى له بدراهم.
الثانية: تخالعه على ما في بيتها من المتاع. فإن كان فيه متاع، فهو له قليلا كان أو كثيرا؛ لأن الخلع على المجهول جائز، فهو كالوصية به، وإن لم يكن فيه متاع، فله أقل ما يقع عليه اسم المتاع كالمسألة قبلها، وكالوصية. وقال القاضي وأصحابه: له المسمى في صداقها؛ لأنها فوتت عليه البضع بعوض مجهول، فيجب قيمة ما فوتت عليه وهو صداقها، وهو تعليل يبطل بالمسألة التي قبلها.
الثالثة: خالعها على دابة، أو حيوان، أو بعير، أو ثوب، ونحو ذلك. أو قال: إن(3/102)
أعطيتني دابة أو بعيرا أو بقرة، فإنها تطلق، ويملك ما أعطته من ذلك. فإن اختلفا فيما يجب له، فالواجب أقل ما يقع عليه الاسم في قياس قول أحمد. وفي قول القاضي وأصحابه: يجب له صداقها، ووجه القولين ما تقدم.
الرابعة: خالعها على عبد مطلق، أو قال: إن أعطيتني عبدا، فأنت طالق، فالحكم فيها كالتي قبلها. قال أبو الخطاب: نص أحمد على أنه يملك العبد الذي أعطته. وقال القاضي: له عبد وسط بناء على قوله في الصداق. وقال أبو الخطاب: يجب له صداقها، ووجههما ما تقدم.
الخامسة: خالعها على ما يثمر نخلها، أو على ما تحمل أمتها، أو على ما في بطن الأمة من الحمل، أو ما في ضرع الشاة من اللبن، أو على ما في النخلة من التمر، فله ما سمي له إن وجد منه شيء، وإن لم يوجد منه شيء فقال القاضي في الجامع: لا شيء له؛ لأنهما دخلا في العقد مع تساويهما في العلم بالحال، ورضاه بما فيه من الاحتمال، فلم يكن له شيء، كما لو خالعها على ما ليس بمال. فإذا لم يستحق شيئا، كان كالخلع بغير عوض. وقد قال أحمد: إذا خلع امرأته على ثمر نخلها سنين، فجائز ترضيه بشيء قبل حمل نخلها. قيل له: فإن حمل نخلها؟ قال: هذا أجود من ذاك. قيل له: يستقيم هذا؟ قال: نعم جائز. قال القاضي: قوله: ترضيه بشيء على طريق الاستحباب؛ لأنه لو كان واجبا لتقدر بتقدير يرجع إليه، وقال: وفي معنى هذا إذا خالعها على حكم أحدهما، أو حكم أجنبي، أو على ما في يدها، أو بيتها، أو بمثل ما خالع به فلان زوجته ونحو ذلك. وقال أبو الخطاب: يرجع عليها بصداقها، وقال ابن عقيل: إن خالعها على حمل أمتها، فلم يخرج الولد سليما، فله مهر المثل في هذه المواضع كلها لما تقدم.
فصل:
إذا قال: إذا أعطيتني عبدا، فأنت طالق، فأعطته عبدا لها، ملكه، وطلقت، سليما كان أو معيبا، قنا أو مدبرا؛ لأن اسم العبد يقع عليه، فقد وجد شرط الطلاق، وإن دفعت إليه حرا لم تطلق؛ لأنها لم تعطه عبدا، ولم تملكه شيئا، وإن دفعت إليه عبدا مغصوبا، لم تطلق؛ لأن معنى العطية هاهنا التمليك، ولم تملكه شيئا. وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فدفعته إليه، فإذا هو حر، أو مغصوب، لم تطلق كذلك. وعنه: تطلق، وله قيمته. وإن خرج معيبا، لم يرجع عليها بشيء، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه شرط لوقوع الطلاق، فأشبه ما لو قال: إن ملكته، فأنت طالق، ثم ملكه. وقال القاضي: له رده، والرجوع بقيمته، أو أخذ أرشه؛ لأنها خالعته عليه، أشبه ما لو(3/103)
قالت: اخلعني على هذا العبد، فخلعها. وقال - فيما إذا قال: إن أعطيتني عبدا، فأنت طالق -: يلزمها عبد وسط، كذلك. وإن قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ونويا صنفا من الدراهم، حمل العقد عليها. وإن أطلقا، حمل على نقد البلد، كالبيع. وإن لم يكن للبلد نقد غالب، حمل على ما يقع عليه الاسم. ولا يقع الطلاق بدفع ألف عددا ناقصة الوزن، ولا تدفع نقرة زنتها ألف؛ لأن الدراهم في عرف الشرع المضروبة الوازنة. وإن دفعت إليه مغشوشة تبلغ فضتها ألفا، طلقت بوجود الفضة، وإن نقصت عنها، لم تطلق؛ لأن الدراهم اسم للفضة.
فصل:
فإذا خالعها على رضاع ولده مدة معلومة، صح. وإن أطلق، صح أيضا وينصرف إلى ما بقي من الحولين؛ لأن الله تعالى قيده بحولين، فينصرف الإطلاق إليه. فإن ماتت المرضعة أو الصبي، أو جف لبنها قبل ذلك، فعليها أجرة المثل لما بقي من المدة؛ لأنه عوض معين، تلف قبل قبضه. فوجبت قيمته، أو مثله، كما لو خالعها على قفيز، فهلك قبل قبضه، وإن خالعها على كفالة ولده عشر سنين، صح، ويرجع عند الإطلاق إلى نفقة مثله، كما ذكرنا في الإجارة. فإن مات في أثناء المدة، فله بدل ما يثبت في ذمتها.
[فصل في التوكيل في الخلع]
فصل:
ويجوز التوكيل في الخلع من الزوجين، ومن كل واحد منهما، مع تقدير العوض، وإطلاقه؛ لأنه عقد معاوضة، فجاز ذلك فيه كالبيع. فإن وكل الزوج، فخالع وكيله بما قدر له، أو بزيادة عليه، أو بصداقها عند الإطلاق، أو زيادة عليه، صح، ولزم المسمى لأنه امتثل أمره، أو زاد خيرا. وإن خالع بدونه، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، اختاره ابن حامد؛ لأنه خالف موكله فلم يصح تصرفه، كما لو وكله في خلع امرأة، فخالع أخرى.
والثاني: يصح، ويرجع على الوكيل بالنقص، اختاره أبو بكر؛ لأنه أمكن الجمع بين تصحيح التصرف، ودفع الضرر، فوجب، كما لو لم يخالف. وذكر القاضي وجهين آخرين:
أحدهما: يتخير الزوج بين قبول العوض ناقصا، وبين رده، وله الرجعة.
والثاني: يسقط المسمى ويجب مهر المثل، وإن عين له جنس العوض، فخالع بغيره، أو خالع عند الإطلاق بغير نقد البلد، أو بمحرم، لم يصح؛ لأنه خالف موكله في الجنس، أشبه ما لو وكله في بيع شيء فباع غيره. فأما وكيل الزوجة فمتى خالع(3/104)
بالمقدر، أو دونه، أو بصداقها عند الإطلاق، أو دونه - صح؛ لأنه امتثل أو زاد خيرا. وإن خالع بزيادة لم تلزمها؛ لأنها لم تأذن فيها، وتلزم الوكيل؛ لأنه التزمها للزوج. وقال القاضي: يلزمها مهر المثل.
[فصل في اختلاف الزوجين في الخلع]
فصل:
إذا ادعى الزوج خلعها فأنكرته، أو قالت: إنما خالعك غيري بعوض في ذمته، بانت بإقراره، والقول قولها في نفي العوض مع يمينها؛ لأنها منكرة. وإن ادعته المرأة فأنكرها، فالقول قوله، ولا شيء عليه؛ لأنه لا يدعيه. وإن اتفقا على الخلع، واختلفا في قدر العوض، أو جنسه أو صفته، أو حلوله، فالقول قول المرأة. نص عليه؛ لأن القول قولها في أصله، فالقول قولها في صفته؛ ولأنها منكرة للزيادة المختلف فيها، والقول قول المنكر، وإن أقرت، وقالت: إنها في ضمان زيد، لزمتها الألف، ولم يلزم زيدا شيء، إلا أن يقر به.(3/105)
[كتاب الطلاق]
وهو على خمسة أضرب:
واجب، هو: طلاق المؤلي بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق إذا رأياه.
ومكروه، وهو: الطلاق من غير حاجة، لما روى محارب بن دثار عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» رواه أبو داود. وعنه: أنه محرم؛ لأنه يضر بنفسه وزوجته. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» .
ومباح، وهو: عند الحاجة إليه، لضرر بالمقام على النكاح، فيباح له دفع الضرر عن نفسه.
ومستحب، وهو: عند تضرر المرأة بالنكاح، إما لبغضه، أو غيره، فيستحب إزالة الضرر عنها. وعند كونها مفرطة في حقوق الله الواجبة عليها، كالصلاة ونحوه. وعجزه عن إجبارها عليه، أو كونها غير عفيفة؛ لأن في إمساكها نقصا ودناءة، وربما أفسدت فراشه، وألحقت به ولدا من غيره. وعنه: أن الطلاق هاهنا واجب. قال في مسألة إسماعيل بن سعيد: هل يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من جنابة، ولا تتعلم القرآن؟ أخشى أن لا يجوز المقام معها. وقال: لا ينبغي له إمساك غير العفيفة.(3/106)
ومحظور، وهو: طلاق المدخول بها في حيضها، أو في طهر أصابها فيه، ويسمى: طلاق البدعة، لمخالفته أمر الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . وروى «ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء» متفق عليه. ولأن طلاق الحائض يضر بها، لتطويل عدتها. والمصابة ترتاب فلا تدري أذات حمل هي فتعتد بوضعه؟ أم حائل فتعتد بالقرء؟ ويحتمل أن يتبين حملها فيندم على فراقها مع ولدها. فأما غير المدخول بها، فلا يحرم طلاقها؛ لأنها لا عدة عليها تطول. والصغيرة التي لا تحمل، والآيسة، لا يحرم طلاقهما؛ لأنه لا ريبة لهما، ولا ولد يندم على فراقه. وكذلك الحامل التي استبان حملها لا يحرم طلاقها، لما روى سالم عن أبيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» أخرجه مسلم. ولأنه لا ريبة لها، ولا يتجدد لها أمر يتجدد به الندم؛ لأنه على بصيرة من حملها.
فصل:
ويقع الطلاق في زمن البدعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالرجعة، ولا يكون إلا بعد طلاق. ويستحب ارتجاعها، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها؛ ولأنه يزيل الضرر الحاصل بالطلاق، ولا يجب لأنه بمنزلة ابتداء النكاح، أو استدامته، وكلاهما غير واجب. وعنه: أن الرجعة واجبة لظاهر الأمر. ومتى ارتجعها، أبيح له طلاقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها قبل إصابتها؛ لأن في حديث «ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق» . متفق عليه.
فصل:
والأولى أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، لقول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1](3/107)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وهذا لا يمكن إذا جمع الثلاث. وقال علي: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله تعالى من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. وهل يحرم جمع الثلاث؟ فيه روايتان:
إحداهما: يحرم، لمخالفته أمر الله في الطلاق واحدة. وروى محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي. ولأنه حرم بالقول امرأته لغير حاجة، فحرم، كالظهار.
والثانية: لا يحرم؛ لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ولم ينقل إنكاره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأنه طلاق يجوز تفريقه، فجاز جميعه، كطلاق النسوة، ومتى طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، أو بكلمات، حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، لما روي «أن ركانة بن عبد يزيد، طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله لقد طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فقال: هو ما أردت فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الترمذي، والدارقطني، وأبو داود، وقال: الحديث صحيح. فلو لم تقع الثلاث، لم يكن للاستحلاف معنى.
فصل:
ويملك الحر ثلاث تطليقات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وروى أبو رزين قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: قول الله(3/108)
تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] » .
ويملك العبد اثنتين، حرة كانت زوجته أو أمة، لما روي أن مكاتبا لأم سلمة، طلق امرأته وكانت حرة تطليقتين، فأراد رجعتها، فذهب إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجده آخذ بيد زيد بن ثابت، فقالا: حرمت عليك، حرمت عليك، والمكاتب والمعتق بعضه كالقن في ذلك؛ لأنه لم تكمل الحرية فيه.
فصل:
وإن طلق العبد زوجته تطليقتين ثم عتق، ففيه روايتان:
إحداهما: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؛ لأنه استوفى عدد طلاقها، فأشبه الحر إذا طلق ثلاثا.
والثانية: له أن ينكحها وتكون عنده على طلقة واحدة؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى بذلك. رواه النسائي. وهو قول ابن عباس وجابر.
ويصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار. فأما غير الزوج، فلا يصح طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» وروى الخلال بإسناده عن علي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح» ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق إلا فيما تملك» رواه أبو داود والترمذي. فلو قال: إذا تزوجت فلانة، أو امرأة، فهي طالق، ثم تزوجها لم تطلق، للخبر؛ ولأنه حل لقيد النكاح قبله، فلم يصح، كما لو قال لأجنبية: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم تزوجها. وعن أحمد: ما يدل على أنها تطلق إذا تزوجها؛ لأنه يصح تعليقه على الشرط، فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية. وأما الصبي العاقل، ففيه روايتان:(3/109)
إحداهما: لا يقع طلاقه حتى يحتلم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم» ولأنه غير مكلف، أشبه الطفل.
والثانية: أنه إن كان ابن عشر وعقل الطلاق، صح طلاقه، اختاره الخرقي؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله» أخرجه الترمذي. ولأنه عاقل، أشبه البالغ. وأما الطفل، والمجنون، والنائم، والزائل العقل لمرض، أو شرب دواء، أو إكراه على شرب الخمر، فلا يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، فثبت في الثلاثة بالخبر، وفي غيرهم بالقياس عليهم. فأما السكران لغير عذر، والشارب لما يزيل عقله لغير حاجة، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع طلاقه، اختاره الخلال، والقاضي، لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا عقوبته، فقال عمر: هؤلاء عندك، فسلهم. فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قالوا. فجعلوه كالصاحي في فريته، وأقاموا(3/110)
مظنة الفرية مقامها؛ ولأنه مكلف فوقع طلاقه، كالصاحي.
والثانية: لا يقع طلاقه، اختارها أبو بكر؛ لأن ذلك قول عثمان صح ذلك عنه؛ ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون، وفي قتله وقذفه وسرقته وعتقه ونذره وبيعه وشرائه مثل ما في طلاقه، والأولى أنه لا يصح منه تصرف له فيه حظ؛ لأن تصحيح ما عليه إنما كان تغليظا عليه، فيبقى في ماله على الأصل.
فصل:
فأما المكره على الطلاق بحق، كالذي وجب عليه الطلاق، فأكرهه الحاكم عليه، صح منه؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كإسلام المرتد. وإن أكره بغير حق، لم يقع طلاقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأنه(3/111)
قول حمل عليه بغير حق، أشبه الإكراه على كلمة الكفر. ولا يكون مكرها إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون المكره قادرا على فعل ما توعده به، لا يمكن دفعه عنه.
الثاني: أن يغلب على ظنه فعل ما توعده به إن لم يفعل.
الثالث: أن يكون ضرره كبيرا غير محتمل، كالقطع والقتل والحبس الطويل، والإخراج من الديار، وأخذ المال، والإحراق بمن يغض ذلك منه، من ذوي الأقدار. فأما من لا يغض ذلك منه، والمهدد بالشتم أو الضرب اليسير ونحوه، فليس بمكره. واختلفت الرواية في نيله بشيء من العذاب، هل يشترط في الإكراه أم لا؟
فعنه: هو شرط، ولا يكون الوعيد بمجرده إكراها، هذا الذي ذكره الخرقي؛ ولأن عمر قال: ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أوجعته، أو أوثقته؛ ولأن الوعيد بمجرده لا يتحقق وقوعه به.
والثانية: ليس بشرط وهو الصحيح؛ لأن الوعيد بالمستقبل هو المبيح دون ما مضى منه، لكون الماضي لا يمكن دفعه، وقد استويا في الوعيد، فيستويان في عدم الوقوع. ولأن المهدد بالقتل إذا امتنع، قتل، فوجب أن تثبت الإباحة بمجرد التهديد دفعا لضرر القتل عنه.
فصل:
وأما السفيه المبذر فيقع طلاقه؛ لأنه زوج مكلف فيقع طلاقه، كالرشيد. والحجر: إنما هو في ماله، لا في غيره.
فصل:
وإن قال العجمي لامرأته: أنت طالق ولا يعلم معناه، لم تطلق لأنه لم يختر(3/112)
الطلاق، لعدم علمه بمعناه، فإن نوى موجبه لم يقع؛ لأنه لم يتحقق اختياره لما لا يعلمه، فأشبه ما لو نطق بكلمة الكفر من لا يعرف معناها. ويحتمل أن تطلق لأنه أتى بالطلاق ناويا مقتضاه، فوقع كما لو علمه. وهكذا العربي إذا نطق بلفظ الطلاق بالعجمية غير عالم بمعناه.
فصل:
وإذا طلق جزءا من زوجته، كثلثها وربعها، أو عضوا منها، كيدها وإصبعها، طلقت؛ لأنه لا يتبعض، فإضافته إلى البعض إضافة إلى الجميع، كالقصاص. وإن أضافه إلى الشعر والسن والظفر، لم يقع؛ لأن هذه تزول، ويخرج غيرها، فلم يقع بإضافته إليها، كالريق. وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق، لم يقع؛ لأنه ليس من ذاتها، إنما هو مجاور لها، وإن أضافه إلى سوادها أو بياضها لم يقع؛ لأنه عرض ليس من ذاتها. وإن أضافه إلى روحها. فقال أبو بكر: لا يقع؛ لأنها ليست عضوا، ولا جزءا ولا شيئا يستمتع به، ولا يحل العقد به. وقال أبو الخطاب: يقع بإضافته إلى روحها ودمها؛ لأن دمها من أجزائها فهو كلحمها، وروحها بها قوامها. وإن أضافه إلى الحمل، لم يقع لأنه ليس من أعضائها، وإنما هو مودع فيها.
فصل:
إذا قال لزوجته: أنا منك طالق، لم تطلق لأنه محل لا يقع الطلاق بإضافته إليه من غير نية، فلم يقع بنية كالأجنبي؛ ولأنه لو قال: أنا طالق، لم يقع به طلاق، فكذلك إذا قال: أنا منك طالق، كالأجنبي. وإن قال: أنا منك بائن، أو بريء، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يقع بإضافة صريحة إليه، فكذلك كنايته.
والثاني: يقع؛ لأن البينونة والبراءة يوصف بها الرجل، فيقال: بان منها، وبانت منه؛ ولأنه عبارة عن قطع الوصلة التي بينهما، فصح إضافته إلى كل واحد منهما.
[باب صريح الطلاق وكنايته]
لا يقع الطلاق بمجرد النية؛ لأنه إزالة ملك، فلا يحصل بمجرد النية، كالعتق. ولو قال: أنت، ونوى الطلاق، وأشار بأصابعه - لم يقع؛ لأنه ليس من كنايات الطلاق ولا صريحه، ولا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية. فالصريح: لفظ الطلاق وما تصرف منه؛ لأنه موضوع له على الخصوص، يثبت له عرف الشرع والاستعمال. فإذا قال: أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك، أو يا مطلقة، فهو صريح. وذكر أبو بكر في قوله: أنت مطلقة - رواية أخرى أنه ليس بصريح؛ لأنه يحتمل أن يريد طلاقا ماضيا، والمذهب الأول؛ لأنه متصرف(3/113)
من لفظ الطلاق، فكان صريحا، كقوله: طلقتك. ولو قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم، كان صريحا؛ لأن الجواب يرجع إلى السؤال، فصار كالملفوظ به. ولو قال: قد كان بعض ذلك، وفسره بتعليقه على شرط، قبل؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت الطلاق، فهو صريح. نص عليه؛ لأنه لفظ بالطلاق، وهو مستعمل في عرفهم. قال الشاعر:
فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما
ويحتمل أن لا يكون صريحا؛ لأنه وصفها بالمصدر، وأخبر به عنها، وهذا تجوز. وفي لفظ الفراق والسراح وجهان:
أحدهما: هو صريح، اختاره الخرقي؛ لأنه ورد في القرآن، فهو كلفظ الطلاق.
والثاني: ليس بصريح، اختاره ابن حامد؛ لأنه موضوع لغيره، يكثر استعماله في غير الطلاق، أشبه سائر كناياته. ما عدا هذا فليس بصريح؛ لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن لطم زوجته وقال: هذا طلاقك، فهو صريح. ذكره ابن حامد، وذكره القاضي: أنه منصوص أحمد؛ لأنه أتى بلفظ الطلاق، وكذلك على قياسه إن أطعمها، وقال: هذا طلاقك.
فصل:
وإذا أتى بصريح الطلاق وقع، نواه أو لم ينوه، جادا كان أو هازلا، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والرجعة» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وإذا أراد التلفظ بغير الطلاق، فسبق لسانه إليه، كأن أراد: أنت طاهر، فسبق لسانه إلى: أنت طالق، أو أراد: فارقتك بقلبي، أو ببدني، أو سرحتك من يدي أو سرحت رأسك، أو طلقتك من وثاقي، لم تطلق؛ لأنه عنى بلفظه ما يحتمله، فوجب صرفه إليه. فإذا ادعى ذلك، دين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه محتمل. فأما في الحكم، فإن كان ذلك في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، لم يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر من وجهين: مقتضى اللفظ، ودلالة الحال. وإن كان في غيرهما، فظاهر كلام أحمد أنه يقبل؛ لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد، فقبل، كما لو كرر لفظة الطلاق وأراد بالثانية التأكيد. وعنه: لا يقبل؛ لأنه يخالف الظاهر فلم يقبل، كما لو أقر بدرهم، ثم فسره بدرهم صغير، أو رديء. وإن نطق بهذه(3/114)
الصلاة، لم يقع الطلاق وجها واحدا؛ لأنه وصل كلامه بما يغير مقتضاه، فأشبه ما لو وصله بشرط، أو قال: له علي درهم صغير. وإن قال: طلقت زوجتي، وقال: أردت في نكاح غير هذا، أو قال: يا مطلقة، وقال: أردت من زوج قبلي، دين في ذلك. فأما في الحكم فإن لم يكن وجد، لم يقبل؛ لأنه لا يحتمله. وإن كان وجد فهل يقبل؟ على وجهين، لما ذكرناه.
فصل:
وما عدا الصريح من الألفاظ قسمان:
أحدهما: ما لا يشبه الطلاق، ولا يدل على الفراق، كقوله: اقعدي، واقربي، وقومي وكلي واشربي وأطعميني، واسقيني، وما أحسنك، وبارك الله عليك، وأنت جميلة أو قبيحة، ونحو هذا فلا يقع به طلاق وإن نواه؛ لأنه لا يحتمل الطلاق، ولو أوقعناه، لوقع بمجرد النية، ولا سبيل إليه.
والثاني: ما يشبه الطلاق، ويدل على ما معناه، فهو كناية فيه، إن نوى به الطلاق، وقع؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. وإن لم ينو شيئا، ولا دلت عليه قرينة، لم يقع؛ لأنه ظاهر في غير الطلاق، فلم يصرف إليه عند الإطلاق، كما لا ينصرف الصريح إلى غيره. وإن كان جوابا لسؤالها الطلاق، وقع. نص عليه، لدلالة الحال عليه، فإن الجواب مبني على السؤال فيصرف إليه، كما لو قيل: أطلقت؟ فقال: نعم. وإن أتى بالكناية حال الخصومة والغضب، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع الطلاق لأن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، لذلك كان قول حسان:
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
مدحا جميلا، وقول النجاشي:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
هجاء قبيحا، مع استوائهما في الخبر عن الوفاء بالذمة، لدلالة الحال عليه.
والثانية: لا يقع لأنه ليس بصريح في الطلاق، ولا نوى به الطلاق، فلم يقع به الطلاق، كحال الرضا. ويتخرج من جواب السؤال مثل ذلك، ويحتمل التفريق بين الكنايات، فيما كثر استعماله منها في غير الطلاق، كقوله: اذهبي، واخرجي، وروحي، لا يقع بغير نية بحال؛ لأنه أتى بما جرت العادة باستعماله بغير الطلاق كثيرا، فلم يكن طلاقا كحال الرضا، وما ندر استعماله، كقوله: اعتدي، وحبلك على(3/115)
غاربك، وأنت بائن، وبتة، إذا أتى في حال الغضب، أو سؤال الطلاق، كان طلاقا، لدلالة استعماله المخالف لعادته في خصوص هذه الحال على إرادة الفراق. فأما إن قصد بالكناية غير الطلاق، لم يقع على كل حال؛ لأنه لو قصد ذلك بالصريح لم يقع، فالكناية أولى.
فصل:
والكنايات ثلاثة أقسام: ظاهرة، وخفية، ومختلف فيها.
فالظاهرة ستة ألفاظ: خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأمرك بيدك، وفيها روايتان:
إحداهما: هي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم ينقل خلافهم في عصرهم، فكان إجماعا؛ ولأنه لفظ يقتضي البينونة بالطلاق، فوقع ثلاثا، كما لو طلق ثلاثا.
والثانية: يقع ما نواه. اختاره أبو الخطاب، لحديث ركانة الذي قدمناه؛ ولأنه أحد نوعي الطلاق، فإذا نوى به واحدة، لم يزد عليها، كالصريح، فإن لم ينو شيئا وقع ثلاثا. وروى عن حنبل: أنه يقع به واحدة بائنة؛ لأنه لفظ اقتضى البينونة دون العدد، فوقعت واحدة بائنة كالخلع.
فأما الخفية، فنحو اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وأغناك الله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وأشباه هذا. فهذا يقع به ما نواه؛ لأنه محتمل له. وإن لم ينو شيئا، وقعت واحدة؛ لأنه اليقين.
وأما المختلف فيها، فالحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، واعتدي، وغطي شعرك، وأنت حرة، وقد أعتقتك، ولا سبيل لي عليك، وأنت علي حرج، ففيها روايتان:
إحداهما: هي ظاهرة؛ لأنها في معنى الظاهرة، والأخرى هي خفية؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخلت عليه ابنة الجون قال: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك» متفق عليه.
ولم يكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليطلق ثلاثا وقد نهى أمته عنه، وقد روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال(3/116)
لسودة بنت زمعة: اعتدي، فجعلها طلقة.» متفق عليه. وفي معنى هذه اللفظات: استبرئي رحمك، وحللت للأزواج، وتقنعي، ولا سلطان لي عليك، فيخرج فيها وجهان.
فصل:
فإن قال: أنت علي حرام، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: أنها ظهار، نوى الطلاق أو لم ينوه، ذكره الخرقي؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس؛ ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارا كقوله: أنت علي كظهر أمي.
والثانية: هو كناية في الطلاق؛ لأنه يروى عن علي وزيد وابن مسعود وأبي هريرة؛ ولأن الطلاق تحريم، فصحت الكناية عنه بالحرام، كقوله: أنت الحرج. فإن لم ينو الطلاق، كان ظهارا، فعلى هذه الروية تكون كناية ظاهرة فيها من الخلاف مثل ما تقدم.
والثالثة: أنه يرجع فيه إلى نيته، إن نوى اليمين كان يمينا؛ لأن ذلك يروى عن الصديق وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه تحريم لامرأة فكان يمينا، كتحريم الأمة. وإن قال: أنت علي حرام، أعني به الطلاق، ففيه روايتان:
إحداهما: أنه طلاق، وهي المشهورة؛ لأنه صريح بلفظ الطلاق.
والثانية: هي ظهار؛ لأنه لا يصلح كناية في الطلاق، فلم يصير طلاقا لقوله، أعني به الطلاق، كقوله: أنت علي كظهر أمي. وإن قال: أنت علي كظهر أمي ينوي به الطلاق، كان ظهارا، ولم يقع به الطلاق؛ لأنه صريح في الظهار، فلم يكن كناية في غيره. ولو صرح به فقال: أعني به الطلاق، لم يصر طلاقا؛ لأنه لا تصلح الكناية به.
وإن قال: أنت علي كالميتة والدم ونوى به الطلاق، فهو طلاق؛ لأنه يشبه الطلاق، فصح أن يكنى به عنه. وإن نوى الظهار، كان ظهارا؛ لأنه يشبهه. وإن نوى اليمين، كان يمينا؛ لأنه يشبهها، وإن لم ينو شيئا، ففيه وجهان:
أحدهما: يكون ظاهرا؛ لأن معناه: أنت علي حرام، كالميتة. والآخر يكون يمينا ولا يكون طلاقا؛ لأنه ليس بصريح، فلا يقع الطلاق به من غير نية.(3/117)
فصل:
ويجوز للرجل تفويض الطلاق إلى زوجته، لما روت عائشة قالت: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتخيير أزواجه، بدأ بي فقال: إني لمخبرك خبرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] ، حتى بلغ: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29] . فقلت: في أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما فعلت» . متفق عليه. وهو على ضربين:
أحدهما: تفويضه بلفظ صريح. فيقول: طلقي نفسك، فلها أن تطلق نفسها واحدة، ليس لها أكثر منها؛ لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، كما لو وكل فيه أجنبيا، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته. نص عليه؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله. والقول قوله في نيته؛ لأنه أعلم بها. ولها أن تطلق بلفظ الصريح والكناية مع النية لأن الجميع طلاق فيدخل في لفظه. ولها أن تطلق متى شاءت؛ لأنه توكيل في الطلاق مطلق، فأشبه توكيل الأجنبي. وقال القاضي: يتقيد بالمجلس قياسا على التخيير.
والثاني: تفويضه إليها بلفظ الكناية. وهو نوعان:
أحدهما: أن يقول: أمرك بيدك، فيكون لها أن تطلق نفسها ما شاءت، ومتى شاءت؛ لأنه نوع توكيل، بلفظ يقتضي العموم في جميع أمرها، فأشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت ومتى شئت، وقد روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها. قال: هو لها حتى ينكل. وعن أحمد ما يدل على أنه إن نوى واحدة، فهي واحدة؛ لأنه نوع تخيير فرجع إلى نيته كالتخيير.
والثاني: أن يقول لها: اختاري، فليس لها أن تختار أكثر من واحدة، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك بلفظه أو نيته، كما ذكرنا في قوله: طلقي نفسك. وليس لها أن تختار، إلا عقيب تخييره، قبل أن يقطعا ذلك بالأخذ في كلام غيره، أو قيام أحدهما عن مجلسه؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،(3/118)
ولأنه خيار تمليك فكان على الفور، كخيار القبول. وإن جعل إليها أكثر من ذلك بلفظه، أو نيته، أو قرينة، فهو على ما جعل إليها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك» وللزوج الرجوع فيما فوضه إليها قبل تطليقها؛ لأنه نوع تفويض، فملك الرجوع فيه، كتوكيل الأجنبي. وإن وطئها، كان رجوعا، لدلالته على رغبته فيها، ورجوعه عما جعل إليها.
فصل:
ولفظة الخيار، وأمرك بيدك، كناية في حق الزوج؛ لأنه ليس بصريح في إرادة الطلاق، فلم ينصرف إليه بغير نية. وإن نوى به إيقاع الطلاق في الحال، وقع؛ لأنه يصلح كناية عن الطلاق، فأشبه سائر كناياته. وإن نوى به التفويض، فطلقت نفسها بلفظ صريح، وقع من غير نية. وإن لم تختر شيئا، لم يقع بها شيء. وكذلك إن اختارت زوجها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير أزواجه فاخترنه، فلم يكن طلاقا. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «خيرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يكن طلاقا» . ولأنه تفويض للطلاق إليها، فلم يقع به بمجرده طلاق، كقوله: طلقي نفسك. وإن قالت: قبلت، فليس بشيء؛ لأن ذلك ينصرف إلى قبول التفويض، فهو كقبول التوكيل. وإن قالت: اخترت نفسي، أو أهلي، أو أبوي، أو الأزواج، أو ألا تدخل علي، ونحو هذا مما يحتمل إرادة الطلاق، فهو كناية يفتقر إلى النية؛ لأنه ليس بصريح، فاعتبرت النية فيه، كالكنايات. فإن نوت به الطلاق، كان طلاقا، وإلا فلا. ويقع به واحدة إلا أن ينوي الثلاث، إذا جعل إليها ثلاثا. وإن ملكها ثلاث تطليقات بلفظه، أو بنيته، فطلقت ثلاثا، وقع ثلاثا، وإن طلقت أقل منها، وقع؛ لأن من ملك ثلاثا، ملك واحدة كالزوج. وإن قال: اختاري فاختارت نفسها، ونويا ثلاثا، وقع الثلاث. وإن نوى أحدهما طلقة، والآخر أكثر منها، وقعت طلقة؛ لأن الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وإيقاع المرأة، فالزائد لم يوجد فيه إلا أحدهما، فلم يقع.
فصل:
وإن قال لزوجته: وهبتك لنفسك، أو لأهلك، فهو كناية، وإن نوى به الإيقاع، وقع، وإن لم ينو الإيقاع في الحال، فهو كناية في حقهما يفتقر إلى قبولهم. والنية من الزوج ومنهم؛ لأنه ليس بصريح. فإن نويا الطلاق دون العدد، وقعت واحدة، يملك(3/119)
الرجعة، وإن نويا جميعا عددا، وقع. وإن نوى أحدهما أكثر من الآخر، وقع الأقل، لاتفاقهما عليه. وإن ردوها، لم يقع شيء؛ لأنه تمليك للبضع فافتقر إلى القبول، كقوله: اختاري. وإن باعها لغيره، لم يقع به طلاق، وإن نوى؛ لأنه لا يتضمن معنى الطلاق، لكونه معاوضة، والطلاق مجرد إسقاط.
فصل:
ويصح تفويض الطلاق إلى غير الزوجة؛ لأنه إزالة ملك، فصح التوكيل فيه، كالعتق. فإن قال لرجل: طلق زوجتي، أو أمرها بيدك، فالحكم فيها كالحكم في جعل ذلك إلى الزوجة على ما مضى. فإن وكل اثنين، لم يملك أحدهما طلاقها منفردا، وإن جعل إليهما طلاقا ثلاثا، فطلقها أحدهما ثلاثا، والآخر واحدة، وقعت واحدة، لاتفاقهما عليها. ولو لم يبق من طلاقها إلا واحدة، فطلقها الوكيل ثلاثا، وقعت الواحدة؛ لأن المحل لا يتسع لأكثر من هذا.
فصل:
لا يقع الطلاق بغير اللفظ إلا في موضعين:
أحدهما: الأخرس: إن أشار بالطلاق وقع طلاقه؛ لأنه يحتاج إلى الطلاق، فقامت إشارته فيه مقام نطق غيره، كالنكاح. ويقع في العدد ما أشار إليه؛ لأن إشارته كلفظ غيره. وأما غير الأخرس، فلا يقع الطلاق بإشارته؛ لأنه لا ضرورة به إليها، فلم يصح منه بها، كالنكاح.
الثاني: إذا كتب طلاق زوجته ونواه، وقع؛ لأنه حروف يفهم منها صريح الطلاق، أشبه النطق. وإن كتب صريح الطلاق من غير نية، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع لذلك.
والثانية: لا يقع؛ لأن الكناية تحتمل الطلاق وامتحان الخط وغيره، فلم تطلق بمجردها، كالكنايات. وإن قصد بالكناية امتحان الخط أو غير الطلاق، لم يقع؛ لأنه لو قصد بالنطق غير الطلاق، لم يقع. فالكناية أولى. وإن قصد غم أهله، فظاهر كلام أحمد أنه يقع؛ لأن ذلك لا ينافي الوقوع، فيغم أهله بوقوع الطلاق بهم. وعنه: فيمن قصد تجويد الخط أنه يقع طلاقه؛ لأنه يتنافى تجويد الخط وإيقاع الطلاق. وإن ادعى إرادة ما ينفي وقوع الطلاق، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن كتبه بشيء لا يتبين، ككتابته بإصبعه على وسادة، أو في الهواء، فظاهر كلام أحمد: أنه لا يقع؛ لأن الكتابة بما لا يتبين كالهمس بلسانه بما لا يسمع. وقال أبو حفص: يقع،(3/120)
لأنه كتب حروف الطلاق، أشبه كتابته بما يبين.
[باب ما يختلف به عدد الطلاق]
إذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن لفظه نص في الثلاث لا يحتمل غيرها، والنية إنما تصرف اللفظ إلى بعض محتملاته. فإن قال: أنت طالق واحدة، فهي واحدة وإن نوى ثلاثا؛ لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها، وكذلك إن قال: أنت واحدة. وإن قال: أنت طالق ولم ينو عددا فهي واحدة. وإن نوى ثلاثا أو اثنتين: ففيه روايتان:
إحداهما: لا يقع إلا واحدة؛ لأن لفظه لا يتضمن عددا، ولا بينونة، فلم يقع به ثلاث، كالتي قبلها.
والثانية: يقع به ما نواه؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، بدليل أنه يصح تفسيره به، فأشبه الكناية. وإن قال: أنت طالق طلاقا، أو الطلاق، وقع ما نواه؛ لأنه صرح بالمصدر، وهو يقع على القليل والكثير. وإن أطلق، وقع بقوله: أنت طالق طلاقا، واحدة؛ لأنه اليقين. وفي قوله: طالق الطلاق، روايتان:
إحداهما: تطلق ثلاثا؛ لأن الألف واللام للاستغراق.
والثانية: تقع واحدة؛ لأن الألف واللام اشتهر استعمالها في الطلاق لغير الاستغراق، كقوله: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وإن قال: فارقتك، لزمه الطلاق، ومن أكره على الطلاق، وكذلك في غيره من الأجناس، كقوله: «اغسليه بالماء» و «عليك بالصعيد» وتيمم بالتراب فيجب حمله على اليقين. وهكذا إن قال: أنت الطلاق، أو الطلاق يلزمني، أو لازم لي، أو علي الطلاق، أو أنت علي حرام أعني به الطلاق، فحكم به على ما ذكرنا. وقد نص أحمد فيمن قال: أنت علي حرام، أعني به الطلاق، أنه ثلاث. ومن قال: أعني به طلاقا، فهي واحدة.
فصل:
فإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو جميعه، أو أكثره، أو منتهاه، طلقت ثلاثا؛ لأن ذلك هو الطلاق الثلاث. وإن قال: أنت طالق كعدد الماء أو الريح، أو التراب، أو كألف، طلقت ثلاثا؛ لأنه يقتضي العدد. فإن قال: أنت طالق طلقة صعوبتها كألف،(3/121)
قبل لأنه يحتمل ما قاله. وإن قال: أنت طالق ملء الدنيا، أو أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله أو أعرضه، طلقت واحدة؛ لأن ذلك لا يقتضي عددا، والطلقة الواحدة توصف بكونها ملء الدنيا، ذكرها وإنها أشد الطلاق عليها، لضررها به، فلم يقع الزائد بالشك. فإن نوى ثلاثا وقعت؛ لأن اللفظ يحتملها.
فصل:
وإن قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين؛ لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها بمقتضى اللفظ، وإن احتمل دخوله، لم نوقعه بالشك. وعنه: تطلق ثلاثا؛ لأن ما بعد "إلى" قد يدخل مع ما قبلها، كقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] .
فصل:
وإن قال: أنت طالق طلقة في طلقتين ونوى الثلاث، وقع؛ لأن (في) تستعمل في بمعنى (مع) كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] وإن نوى واحدة، لم يقع أكثر منها؛ لأنه إنما أوقع واحدة. وإن أطلق ولا يعرف الحساب، وقعت واحدة، فتطلق بقوله: أنت طالق، ولا يقع بقوله: في ثنتين - شيء؛ لأنه لا يعرف مقتضاه، ويحتمل أنه إن كان في عرفهم استعمال ذلك للثلاث، طلقت ثلاثا؛ لأن الظاهر إرادة ما تعارفوه. فإن نوى موجبه في الحساب، احتمل أن تكون نيته كعدمها. قاله القاضي. واحتمل أن تطلق طلقتين. وهذا قول ابن حامد، ووجه القولين ما ذكرنا فيما إذا نوى العجمي بلفظ الطلاق موجبه عند العرب، فإن كان يعرف الحساب، وقع طلقتان؛ لأن ذلك موجبه عندهم. وإن لم ينو فقال أبو بكر: يقع طلقتان؛ لأنه موضوعه عندهم، ويحتمل أن تقع واحدة، لما ذكرنا في غير الحاسب.
فصل:
فإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، وقع طلقتان. نص عليه؛ لأن ما لفظ به بعد الإضراب يدخل فيه ما لفظ قبله، فلم يلزمه أكثر منه. كما لو قال: له علي درهم، بل درهمان. وإن قال: أنت طالق طلقة، بل طلقة، طلقت واحدة، كما لو قال: له علي درهم، بل درهم. وهكذا إن قال: أنت طالق، بل أنت طالق. نص عليه. ويحتمل أن يقع طلقتان. وإن نوى به طلقتين، وقع طلقتان؛ لأنه قصد إيقاع طلقتين بلفظين. وإن قال: أنت طالق، بل هذه الأخرى، طلقتا معا؛ لأنه أوقعه بكل واحدة(3/122)
منهما، فأشبه ما لو قال: له علي هذا الدرهم، بل هذا. ولو قال: أنت طالق واحدة بل هذه ثلاثا، طلقت الأولى واحدة، والثانية ثلاثا. وإن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثا؛ لأن التفسير يحصل بالإشارة، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» فإن قال: أردت بعدد المقبوضتين، قبل منه؛ لأنه يحتمله.
فصل:
وإذا طلقها جزءا من طلقة، طلقت واحدة؛ لأن ذكر بعض ما لا يتبعض، كذكر جميعه، كما لو قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت طالق نصفي طلقة، طلقت طلقة؛ لأن ذلك طلقة. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقة. طلقت طلقتين؛ لأنه طلقة ونصف، فيكمل النصف بالسراية، فتصير طلقتين. وإن قال نصف طلقتين، طلقت واحدة؛ لأن نصف الطلقتين طلقة. وإن قال: أدرت من كل واحدة جزءا، طلقت طلقتين؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال نصفي طلقتين، وقعت طلقتان؛ لأن نصفي الشيء كله. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين، طلقت ثلاثا؛ لأن نصف الطلقتين طلقة، وقد كرره ثلاثا، ويحتمل أن يقطع طلقتان، ويكون معناه: ثلاثة أنصاف من طلقتين. وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، ثلث طلقة، سدس طلقة، أو نصف وثلث وسدس طلقة، طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء طلقة. وإن قال: نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة، طلقت ثلاثا؛ لأن عطف جزء الطلقة على جزء آخر يدل على المغايرة، فيقع جزء من كل طلقة، ثم يكمل بالسراية، وإن قال: أنت نصف طالق، طلقت واحدة، كما لو قال: نصفك طالق. وإن قال: أنت نصف طلقة، طلقت واحدة، كما لو قال: أنت الطلاق.
فصل:
فإن قال لأربع نسائه: أوقعت بينكن، أو عليكن طلقة، طلقت كل واحدة طلقة؛ لأن لكل واحدة ربع الطلقة، ثم تكمل. فإن قال: طلقتين، فكذلك عن أبي الخطاب؛ لأنه إذا قسم لم تزد كل واحدة على طلقة، وكذلك إن أوقع بينهن ثلاثا أو أربعا، وإن أوقع بينهن خمسا، طلقت كل واحدة طلقتين؛ لأن لكل واحدة طلقة وربعا، فيكمل الربع طلقة. وروى الكوسج عن أحمد إذا قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات: ما أرى إلا قد بنَّ منه، فظاهره أنه قد أوقع بكل واحدة ثلاثا؛ لأن نصيب كل واحدة من كل طلقة(3/123)
ربع، ثم يكمل بالسراية. وهذا قول أبي بكر والقاضي. وعلى هذا يتفرع ما أشبهه.
فصل:
فإن قال: أنت طالق طلقة لا تقع عليك، أو لا ينقص به عدد طلاقك، أو لا شيء أو ليس بشيء، طلقت؛ لأنه أوقع الطلاق، ثم وصفه بما لا يتصف به، فلغت الصفة، وبقي الطلاق بحاله. وإن قال: أنت طالق أو لا؟ لم تطلق؛ لأنه لم يوقعه وإنما استفهم عنه، فلم يقع، والله أعلم.
[باب ما يختلف به حكم المدخول بها وغيرها]
إذا قال: أنت طالق، أنت طالق، لغير مدخول بها، طلقت واحدة؛ لأنها بانت بالأولى، فلم يقع بها ما بعدها؛ لأنه أوقعه على بائن. وكذلك كل طلاق يترتب في الوقوع، كقوله: أنت طالق ثم طالق، أو طالق فطالق، أو طالق بل طالق وطالق، أو طالق طلقة فطلقة، أو طلقة قبل طلقة، أو بعد طلقة، أو بعدها طلقة، لم يقع إلا واحدة، كذلك. وإن قال: أنت طالق طلقتين، طلقت طلقتين؛ لأنه أوقعهما معا في محل قابل لهما. ولو قال: أنت طالق طلقة معها طلقة، طلقت طلقتين؛ لأن لفظه يقتضي وقوعهما معا. وكذلك لو قال: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين؛ لأن الواو تقتضي الجمع دون الترتيب، فأشبهت ما قبلها، فإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فكذلك في قول أبي بكر؛ لأنه تعذر وقوع الثانية قبل الأولى، فوقعت معها. وقال القاضي: لا يقع إلا طلقة؛ لأنه أوقعهما مرتبتين، فتقع الأولى وتلغو الثانية، كقوله: طلقة قبل طلقة. ومتى قال شيئا من ذلك لمدخول بها، طلقت طلقتين؛ لأنها لا تبين بالأولى. ولو قال لها: إن قمت، فأنت طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق وطالق وطالق إن قمت، أو قال: إن قمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، إن قمت فأنت طالق، فقامت، طلقت ثلاثا، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لأنه لا ترتيب فيه. وإن قال: إن قمت فأنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، فقامت، طلقت واحدة إن كانت غير مدخول بها، وثلاثا إن كان دخل بها.
فصل:
وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، وقال: أردت أنني طلقتها في نكاح آخر، أو طلقها زوج قبلي، دين. وهل يقبل في الحكم؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقبل؛ لأنه يحتمل أن يريد ذلك.
والثاني: لا يقبل لأنه يخالف الظاهر.(3/124)
والثالث: إن كان وجد، قبل؛ لأن احتمال إرادة ذلك شائع، ولا يقبل إن لم يكن وجد؛ لأنه كذب. وإن قال: بعدها طلقة، وقال: أردت طلقة أوقعها فيما بعد، دين. وهل يقبل الحكم؟ على روايتين. وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق أنت طالق التأكيد بالثانية، قبل منه؛ لأنه محتمل لما قاله. وإن أطلق، طلقت طلقتين؛ لأنه اللفظ الثاني كالأول، فيقتضي من الوقوع ما اقتضاه الأول، وإن قال: أنت طالق طالق، فهي واحدة؛ لأن اللفظ الثاني لا يصلح وحده للاستئناف، فينصرف إلى التأكيد، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل باطل» . وإن قصد بالثاني الإيقاع، طلقت طلقتين، ويقدر له ما يتم الكلام به. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق، فهي ثلاث. فإن قال: أردت بالثانية التوكيد، دين، ولم يقبل في الحكم؛ لأنه غاير بينهما بحرف. وإن أراد بالثالثة التوكيد، قبل في الحكم؛ لأنها مثل الثانية في لفظها، وكذلك إذا قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو طالق ثم طالق، ثم طالق. وإن قال: أنت طالق وطالق، فطالق، أو طلق فطالق ثم طالق، وقال: أردت التوكيد، لم يقبل؛ لأنه غاير بين الحروف. وإن غاير بين الألفاظ فقال: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وقال: أردت بالثانية والثالثة التوكيد، قبل؛ لأنه لم يغاير بين الحروف العاملة في الكلام، بخلاف التي قبلها.
[باب الاستثناء في الطلاق]
يصح الاستثناء في الطلاق؛ لأنه لغة العرب، ونزل به القرآن. وقال أبو بكر: لا يصح في عدد الطلقات؛ لأنه لا سبيل إلى رفع الواقع منها، والمذهب الأول؛ لأنه استثناء في الطلاق، فجاز، كما في عدد المطلقات، وليس الاستثناء رفعا لواقع، إذ لو كان كذلك، لم يصح في الإقرار، ولا في عدد المطلقات. وإنما يمنع دخول المستثنى، من الدخول في المستثنى منه، ولا يصح استثناء الكل، ولا الأكثر. وفي استثناء النصف وجهان، لما نذكره في الإقرار. فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، إلا ثلاثا، أو إلا طلقتين، طلقت ثلاثا. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقة وطلقتين، أو إلا طلقة وطلقة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح الاستثناء؛ لأن العطف بالواو، يجعل الجملتين جملة واحدة، فيكون مستثنيا للأكثر، أو الكل.(3/125)
والثاني: يصح؛ لأن الاستثناء الأول يمكن تصحيحه، فلا يبطل ببطلان غيره. وإن قال: أنت طالق طلقتين وطلقة إلا طلقة، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الاستثناء لما ذكرنا.
والثاني: لا يصح؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما يليه، فيصير مستثنيا للكل؛ ولأن تصحيحه يجعل المستثنى والمستثنى منه لغوا. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة، أو طالق طلقتين ونصفا إلا طلقة، أو إلا نصف طلقة، فكذلك لما ذكرنا. ولو كان العطف بغير الواو، لغا الاستثناء وجها واحدا. وإن قال: أنت طالق خمسا إلا طلقتين، لم يصح؛ لأنه إن عاد إلى الخمس، بقي بعده ثلاث. وإن عاد إلى الثلاث، لم يصح؛ لأنه استثنى الأكثر، وإن قال: إلا طلقة ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه استثناء واحدة من خمس، فبقي أربع.
والثاني: يصح، ذكره القاضي، فيقع طلقتان؛ لأن الاستثناء يعود إلى ما ملكه من الطلقات دون ما زاد. ولا يصح الاستثناء من الاستثناء في الطلاق إلا في مسألة واحدة، وهي قوله: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين، إلا واحدة، في أحد الوجهين، بناء على استثناء النصف. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة، لم يصح، لأن الاستثناء الأول باطل، فلا يصح الاستثناء منه، ويحتمل أن يعود استثناء الواحدة إلى أول الكلام، لتعذر عوده إلى ما يليه، فيقع طلقتان.
فصل:
وإن قال: أنت طالق ثلاثا، واستثنى بقلبه إلا واحدة، طلقت ثلاثا؛ لأنه يسقط ما يقتضيه نصفه بالنية، فلم يصح. وإن قال لنسائه: أربعتكن طوالق، واستثنى بقلبه إلا فلانة، لم يصح كذلك. وإن قال: نسائي طوالق، ونوى إلا فلانة، صح، ولم تطلق لأنه لم يسقط اللفظ، وإنما يستعمل العموم في الخصوص، وذلك شائع. وإذا ادعى ذلك دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين.
[باب الشروط في الطلاق]
يصح تعليق الطلاق بشرط، كدخول الدار، ومجيء زيد، ودخول سنة. فإن علقه بشرط، تعلق به. فمتى وجد الشرط، وقع. وإن لم يوجد، لم يقع؛ لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية، أشبه العتق. ولو قال: عجلت ما علقته، لم تطلق؛ لأنه تعلق بالشرط فلم يتغير. فإن قال: أردت الطلاق في الحال، وإنما سبق لساني إلى الشرط، طلقت في الحال؛ لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة. وإن قال: أنت(3/126)
طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
فصل:
وأدوات الشرط المستعملة في الطلاق والعتاق ستة: إن، ومن، وإذا، ومتى، وأي، وكلما، وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا (كلما) فإذا قال: إن قمت، أو إذا قمت، أو متى قمت، أو أي وقت قمت، أو من قام منكن، فهي طالق، فقامت، طلقت. وإن تكرر القيام، لم يتكرر الطلاق؛ لأن اللفظ لا يقتضي التكرار، وإن قال: كلما قمت، فأنت طالق، فقامت - طلقت. وإن تكرر القيام، تكرر الطلاق؛ لأن اللفظ يقتضي التكرار. وقال أبو بكر: في (متى) ما يقتضي تكرارها؛ لأنها تستعمل للتكرار. قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
والصحيح: أنها لا تقتضيه؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت إذا، وكل هذه الأدوات على التراخي إذا خلت من حرف "لم"، فإن صحبتها "لم" كانت "إن" على التراخي. و (إذا) فيها وجهان:
أحدهما: هي على الفور؛ لأنها اسم زمان، فأشبهت (متى) .
والثاني: هي على التراخي؛ لأنها أخلصت للشرط، فهي بمعنى (إن) وإن احتملت الأمرين، لم يقع الطلاق بالشك. وسائر الأدوات على الفور؛ لأنها تقتضيه. فإذا قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ولم ينو وقتا بعينه، ولا دلت عليه قرينة، لم يقع الطلاق إلا عند قربه منه، وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما. وإن قال: متى لم أطلقك، أو أي وقت لم أطلقك، فأنت طالق، أو من لم أطلقها منكن، فهي طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ولم يطلقها، طلقت. وإن قال: إذا لم أطلقك، فأنت طالق فهل تطلق قي الحال، أو في آخر حياة أحدهما؟ على وجهين. وإن قال: كلما لم أطلقك، فأنت طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها ثلاثا، ولم يطلقها، طلقت ثلاثا؛ لأن معناه: كلما سكت عن طلاقك، فأنت طالق، وقد سكت ثلاث سكتات في ثلاثة أوقات.
فصل:
وإن قال: إن دخلت الدار، أنت طالق، لم تطلق حتى تدخل، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار. ويحتمل أن يقع في الحال؛ لأن جواب الشرط إذا تأخر عنه، لم يكن إلا بالفاء أو بـ "إذا"، وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق، طلقت في الحال؛ لأن الواو ليست جوابا للشرط. فإن قال: أردت بها الجزاء، أو أردت أن أجعلهما شرطين لشيء، ثم أمسكت، دين؛ لأنه محتمل لما قاله. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على(3/127)
روايتين. فإن قال: أنت طالق وإن دخلت الدار، طلقت؛ لأنه معناه: ولو دخلت، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» . وإن قال: أنت طالق لو دخلت الدار، طلقت؛ لأن "لو" تستعمل بعد الإثبات لغير المنع، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] . وإن قال: أردت الشرط، قُبِلَ؛ لأنه محتمل. وإن قال: أنت طالق أن دخلت بفتح الهمزة، طلقت عند أبي بكر؛ لأن (أن) للتعليل لا للشرط، كقوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17] . وقال القاضي: قياس قول أحمد أنه إن كان نحويا، وقع طلاقه لذلك، وإن كان عاميا، فهي للشرط؛ لأن العامي لا يريد بها إلا الشرط، فأجرى عليه حكمه. وحكي عن الخلال: أن النحوي إذا لم يكن له نية، فهو كالعامي.
فصل:
فإن قال: أنت طالق إن شربت، إذا أكلت أو متى أكلت، لم تطلق حتى تشرب بعد الأكل؛ لأن إدخال الشرط على الشرط يقتضي تقديم المؤخر. وإن قال: أنت طالق إن شربت، إن أكلت، فكذلك، لما ذكرناه. وإن قال: أنت طالق إن شربت فأكلت، أو إن شربت ثم أكلت، لم تطلق حتى تأكل بعد الشرب؛ لأنهما حرفا ترتيب. وإن قال أنت طالق إن شربت وأكلت، طلقت بوجودهما على أي صفة؛ لأن الواو للجمع، ولا تقتضي ترتيبا، ولا تطلق بوجود أحدهما؛ لأنها للجمع. وإن قال: أنت طالق إن أكلت، أو شربت، طلقت بوجود أحدهما؛ لأن (أو) تقتضي تعليق الجزاء على واحد من المذكورين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
فصل:
إذا قال: إن حضت فأنت طالق، طلقت بأول جزء من الحيض. فإن رأت دما وتبين أنه ليس بحيض، تبين أن الطلاق لم يقع. فإن قالت: قد حضت فكذبها، قبل قولها بغير يمين. وعنه: لا يقبل قولها، ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج، فإن ظهر الدم، فهي حائض، وإلا فلا. والمذهب الأول لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . فلولا أن قولهن مقبول، ما حرم عليهن كتمانه؛ ولأنه لا يعرف إلا من جهتها. وإن قال: قد حضتِ فأنكرته، طلقت بإقراره. وإن قال:(3/128)
إن حضت فضرتك طالق. فقالت: قد حضت، فكذبها لم تطلق ضرتها؛ لأن قولها يقبل في حقها دون غيرها. وإن قال الزوج: قد حضتِ فكذبته، طلقت بإقراره. فإن قال: إن حضت فأنت وضرتك طالقتان، فقالت: قد حضت فصدقها، طلقتا. وإن كذبها، طلقت وحدها، ولم تطلق الضرة وإن صدقها. وإن قال: إذا حضتما، فأنتما طالقتان، فصدقهما طلقتا. وإن كذبهما، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على حيضهما، ولا يقبل قول واحدة منهما في حق ضرتها. وإن صدق إحداهما وحدها، لم تطلق؛ لأن قول المكذبة غير مقبول في حقها، وطلقت المكذبة؛ لأنها مقبولة القول في نفسها، وقد صدق الزوج صاحبتها، فوجد الشرطان في طلاقها فطلقت. وإن قال لأربع نسوة له: إن حضتن، فأنتن طوالق. فقد علق طلاق كل واحدة منهن بحيض الأربع، فإن قلن: قد حضنا فصدقهن، طلقن؛ لأنه قد وجد حيضهن بتصديقه، وإن كذبهن، أو كذب ثلاثاً أو اثنتين، لم تطلق واحدة منهن؛ لأن قول كل واحدة لا يقبل إلا في حق نفسها، فلم يوجد الشرط.
وإن صدق ثلاثاً، طلقت المكذبة، لما ذكرنا في الاثنتين إذا صدق إحداهما. فإن قال: كلما حاضت إحداكن، فضرائرها طوالق، فقد جعل حيض كل واحدة شرطاً لطلاق البواقي. فإن قلن: قد حضنا فصدقهن، طلق ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن لكل واحدة ثلاث ضرائر، فتطلق بحيض كل واحدة طلقة. وإن كذبهن، لم تطلق واحدة منهن.
وإن صدق واحدة منهن، طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة؛ لأن حيضها ثبت بتصديقه، ولم تطلق المصدقة؛ لأنه ليس لها صاحبة ثبت حيضها. وإن صدق اثنتين. طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأن لكل واحدة منهما ضرة مصدقة، وطلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما ضرتين مصدقتين. فإن صدق ثلاثاً، طلقت المكذبة ثلاثاً، وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين، لما ذكرنا.
فصل:
إذا قال لحائض: إذا حضت، فأنت طالق، لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض؛ لأن " إذا " اسم لزمن مستقبل، فتقتضي فعلاً مستقبلاً. وإن قال لها: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت بانقطاع الدم. نص عليه؛ لأنه ثبت لها أحكام الطهر من وجوب الغسل، والصلاة، وصحة الصوم.
وذكر أبو بكر قولاً آخر: أنها لا تطلق حتى تغتسل؛ لأن بعض أحكام الحيض باقية. وإن قال لطاهر: إذا طهرت فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، لما ذكرنا.
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض، ثم تطهر، نص عليه؛ لأنها لا تحيض حيضة كاملة إلا بذلك.
وإن قال: إن حضت نصف حيضة، فأنت طالق، احتمل أن تطلق إذا مضى نصف عادتها؛ لأن(3/129)
الأحكام تعلقت بالعادة، واحتمل أنه متى مضت حيضتها، تبينا وقوع الطلاق في نصفها.
وحكي عن القاضي: أنه يلغو قوله: نصف حيضة، ويتعلق الطلاق بأول الدم. وقيل عنه: تطلق بمضي سبعة أيام ونصف؛ لأنه نصف أكثر الحيض، يعني - والله أعلم - أنه ما دام حيضها باقياً لا يحكم بوقوع طلاقها حتى يمضي نصف أكثر الحيض؛ لأن ما قبل ذلك لا يتيقن به مضي نصف الحيضة، فلا يقع الطلاق بالشك، فإن طهرت بدون ذلك، تبينا وقوع الطلاق، ونصف الحيضة، قلت أو كثرت؛ لأننا تبينا مضي نصف الحيضة بمضيها كلها فإن قال لزوجتيه: إذا حضتما حيضة واحدة، فأنتما طالقتان، لغا قوله: حيضة واحدة، لاستحالة ذلك، وصار كقوله: إذا حضتما فأنتما طالقتان. فإن قال: أردت إذا حاضت كل واحدة منهما حيضة، قبل؛ لأنه محتمل لما قاله.
فصل:
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة - وهي المدخول بها من ذوات الأقراء: - أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه، طلقت في الحال، لوجود الصفة. وإن كانت حائضاً أو في طهر أصابها فيه، لم تطلق في الحال، لعدم الصفة، فإذا طهرت الحائض أو حاضت المصابة، ثم طهرت، طلقت لوجود الصفة حينئذ، وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض، أو في طهر أصابها فيه، طلقت في الحال.
وإن كانت في طهر لم يصبها فيه، لم تطلق لعدم الصفة، فإذا حاضت أو جامعها، طلقت. وإن قال لها: أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يطلق للسنة، وكانت في زمن السنة، طلقت، لوجود الصفة، وإلا لم تطلق بحال؛ لأنه شرط لوقوعه كونها الآن ممن يطلق للسنة، ولم يوجد ذلك. وإن قال: أنت طالق طلقة للسنة، وطلقة للبدعة، طلقت في الحال واحدة. فإذا صارت إلى ضد حالها، طلقت الأخرى. وإن قال: طلقة للسنة والبدعة، لغا قوله: للسنة وللبدعة، لاستحالة اجتماعهما، وطلقت في الحال. وإن قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، فعلى قول الخرقي، تطلق ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه؛ لأنه وقت السنة.
وعلى قول أبي بكر، تطلق واحدة في طهر، لم يصيبها فيه، وتطلق الثانية والثالثة في طهرين في نكاحين إن وجدا؛ لأن السنة تطليقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها.
وإن قال: أنت طالق ثلاثاً، بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، طلقت طلقتين في الحال، والثالثة في الحال الأخرى؛ لأن قسط الحال الأولى طلقة ونصف، فكمل، فصار(3/130)
طلقتين. وإن قال: أردت في هذه الحال واحدة، والباقي في الأخرى، قبل قوله؛ لأن البعض يقع على الطلقة الواحدة حقيقة، فلم تخالف دعواه الظاهر، فقبلت.
فصل:
وإن كان له امرأة صغيرة لا تحيض، أو آيسة، أو حامل، تبين حملها، أو غير مدخول بها فلا سنة لطلاقها، ولا بدعة. فإذا قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، طلقت، لوجود الصفة، وإن قال: أنت طالق للسنة، أو للبدعة، أو للسنة والبدعة، طلقت في الحال؛ لأنه وصفها بصفة لا تتصف بها، فلغت الصفة، ووقع الطلاق. فإن قال: أردت إيقاعه بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
فصل:
إذا قال لمن لطلاقها سنة وبدعة: أنت طالق أحسن الطلاق، وأجمله، وأعدله، وما أشبه هذا من الصفات الجميلة، طلقت للسنة. وإن قال: أقبح الطلاق، وأسمجه، وما أشبهه من صفات الذم، طلقت للبدعة.
فإن قال: أردت بالأول طلاق البدعة، وبالثاني طلاق السنة؛ لأنه الأليق بها، فإن كان أغلظ عليه، قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه، وإن كان أخف عليه، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
وإن قال: أنت طالق طلاق الحرج، فهو طلاق البدعة؛ لأنه يأثم به. وإن قال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، طلقت في الحال على أي صفة كانت؛ لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق. وإن قال لها: أنت طالق في كل قرء طلقة وهي ممن لطلاقها سنة وبدعة، طلقت في كل حيضة طلقة، إلا على قولنا: الأقراء: الأطهار، فإنه يقع في كل طهر طلقة، وإن كانت ممن لا سنة لطلاقها ولا بدعة، طلقت في الحال طلقة، ثم إن كانت ممن يتجدد لها أقراء، طلقت في كل قرء منها طلقة. ويحتمل أن لا تطلق في الحال شيئاً؛ لأن القرء والطهر بين الحيضتين، وليس ذلك لها.
فصل:
إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، حرم وطؤها. نص عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملاً فيغلب التحريم. وحكى أبو الخطاب رواية أخرى: لا يحرم وطؤها؛ لأن الأصل عدم الحمل، ثم إن ولدت لأقل من ستة أشهر، تبينا وقوع الطلاق؛ لأنها كانت حاملاً. وإن ولدت لأكثر من أربع سنين، لم تطلق؛ لأننا علمنا أنها لم تكن حاملاً. وإن ولدت فيما بين ستة أشهر وأربع سنين ولم يكن لها من يطؤها، طلقت؛ لأنها كانت حاملاً. وإن كان لها زوج يطؤها، فولدت لأقل من ستة أشهر من حين وطء، طلقت؛ لأننا علمنا أنه ليس من الوطء. وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من وطئه، لم(3/131)
تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل والطلاق. وإن قال لها: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، حرم وطؤها قبل استبرائها؛ لأن الأصل عدم الحمل. وكل موضع يقع الطلاق في التي قبلها لا يقع هاهنا، وكل موضع لا يقع ثم وقع هاهنا؛ لأنها ضدها، إلا إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر وأقل من أربع سنين، فهل يقع الطلاق هنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تطلق؛ لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطء.
والثاني: لا تطلق؛ لأن الأصل بقاء النكاح، ويحصل الاستبراء بحيضة. نص عليه. لأن براءة الرحم تحصل بحيضة. وذكر القاضي رواية أخرى: أنها تستبرئ بثلاثة قروء؛ لأنه استبراء حرة، فأشبهت عدتها، والأولى أصح؛ لأن المقصود معرفة براءتها من الحيض، وهو يحصل بحيضة، وأما عدة الحرة بثلاثة قروء، ففيها نوع من التعبد، ولذلك يجب مع علمنا ببراءة الرحم، مثل أن يكون زوجها غائب عنها سنين، وقد حاضت قبل طلاقه حيضات كثيرة، فلا يجوز تعديتها إلى محل لم يرد الشرع بالتعبد فيه، ولهذا كفى استبراؤها قبل يمينه.
وإن استبرأها قبل عقد اليمين، أجزأ؛ لأن معرفة براءة الرحم تحصل به، وهو المقصود. ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، طلقت ثلاثاً.
وإن قال إن كان حملك، أو ما في بطنك ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكراً وأنثى، لم تطلق؛ لأن الشرط أن يكون جميع حملها، أو ما في بطنها ذكراً أو أنثى، ولم يوجد.
فصل:
إذا قال: إذا ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولداً حياً أو ميتاً، ذكراً أو أنثى، أو خنثى، طلقت؛ لأنه ولد. وإن قال: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ثلاثة دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً؛ لأن صفة الثلاث قد وجدت وهي زوجة، وإن ولدتهم واحداً بعد واحد، من حمل واحد، طلقت بالأول طلقة، وبالثاني أخرى، وبانت بالثالث، ولم تطلق به، ذكره أبو بكر؛ لأن العدة انقضت بوضعه، فصادفها الطلاق بائناً، فلم يقع، كما لو قال: إذا مت، فأنت طالق. وقال ابن حامد: تطلق به الثالثة؛ لأن زمن الوقوع زمن البينونة، ولا تنافي بينهما، والأول أصح، وعليه التفريع. فلو قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق واحدة. وإن ولدت أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدتهما دفعة واحدة، طلقت ثلاثاً. فإن ولدتهما واحداً بعد واحد، وقع بالأول ما علق عليه، وبانت بالثاني ولم تطلق به.
فإن أشكل الأول منهما، طلقت واحدة بيقين، ولم تلزمه الثانية بالشك. وقال القاضي: قياس المذهب أن يقرع بينهما، فمن خرجت قرعته فهو الأول. ولو قال: إن كان أول ما تلدين ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كانت أنثى، فأنت طالق اثنتين، فولدتهما(3/132)
دفعة واحدة، لم تطلق؛ لأنه لا أول فيهما. ومتى ادعت الولادة فصدقها، أو ادعى هو ولادتها وأنكرته، طلقت بإقراره. فإن ادعته المرأة فأنكرها، لم تطلق إلا ببينة؛ لأن هذا يمكن إقامة البينة عليه بخلاف الحيض.
فصل:
إذا قال لمدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، طلقت طلقتين، واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة. فإن قال: أردت أنك تطلقين بما أوقعه من طلاقك لأجعله شرطاً، دين. وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين؛ لأن الظاهر جعله شرطاً.
وإن وكل من طلقها، فهو كمباشرته؛ لأن فعل الوكيل كفعل الموكل. وإن قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم قال: إن قمت، فأنت طالق، فقامت، طلقت طلقتين، واحدة بقيامها، وأخرى بالصفة؛ لأن الصفة تطليقة لها، وتعليقه لطلاقها بقيامها إذا اتصل به القيام، تطليق لها.
وإن قال مبتدئاً: إن قمت فأنت طالق، ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق، فقامت، طلقت واحدة بقيامها، ولم تطلق الأخرى؛ لأن هذا يقتضي ابتداء إيقاع، ووقوع الطلاق هاهنا بالقيام، إنما هو وقوع بصفة سابقة لعقد الطلاق شرطاً.
ولو قال: إذا قمت، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، فقامت، طلقت طلقتين،؛ لأن الطلاق الواقع بقيامها طلاقه، فقد وجدت الصفة. ولو قال: إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال: إذا قمت فأنت طالق، فقامت، طلقت اثنتين؛ لأن قوله: أوقعت عليك الطلاق، كقوله: طلقتك. وقال القاضي: لا تطلق إلا طلقة بقيامها، ولا تطلق بالصفة؛ لأن ذلك يقتضي مباشرتها به، لا وقوعه بالصفة. وإن قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق، طلقت طلقتين، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى بالصفة، ولا تقع الثالثة؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، ولم يتكرر، فلم يتكرر الطلاق.
وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة، أو صفة، طلقت ثلاثاً؛ لأن الثانية طلقة واقعة عليها، فتقع عليها الثالثة. وإن قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، ثم قال: أنت طالق، فقال ابن عقيل: تطلق واحدة بالمباشرة، ويلغو ما علق عليها؛ لأنه طلاق في زمن ماض، فأشبه قوله: أنت طالق أمس. وقال القاضي: تطلق ثلاثاً؛ لأنه وصف المعلق بصفة يستحيل وصفه بها، فإنه يستحيل وقوعها بالشرط قبله، فلغت صفتها بالقبلية، وصار كأنه قال: إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق ثلاثاً، فإن قال لزوجتيه: كلما طلقت حفصة، فعمرة طالق، وكلما طلقت عمرة فحفصة طالق، ثم طلق إحداهما، طلقتا جميعاً، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة. فإن كانت المباشرة به حفصة، لم تزد واحدة منهما على طلقة؛ لأنه ما أحدث في عمرة طلاقاً، إنما طلقت بالصفة السابقة، وإن كانت المباشرة عمرة،(3/133)
طلقت أخرى بالصفة الحادثة بعد تعليقه طلاقها، وإن قال لحفصة: كلما طلقت عمرة، فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما طلقت حفصة، فأنت طالق، ثم طلق عمرة، طلقت كل واحدة واحدة. وإن طلق حفصة طلقة، طلقت طلقتين، وطلقت عمرة واحدة.
وإن قال لأربع نسائه: أيتكن وقع عليها طلاقي، فضرائرها طوالق، ثم وقع بإحداهن طلاقه، طلق الجميع ثلاثاً.
فصل:
وإن كان له أربع نساء وعبيد، فقال: كلما طلقت امرأة، فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت اثنتين، فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثاً، فثلاثة أحرار، وكلما طلقت أربعاً، فأربعة أحرار، ثم طلق الأربع متفرقات أو متجمعات، فإنه يعتق من عبيده خمسة عشر، يعتق بطلاق الواحد واحد، وبطلاق الثانية ثلاثة؛ لأنها واحدة، وهي إلى صاحبتها اثنتان، ويعتق بطلاق الثالثة أربعة؛ لأنها واحدة، وهي مع صاحبتيها ثلاث، ويعتق بطلاق الرابعة سبعة؛ لأنها واحدة وهي مع الثالثة اثنتان، وهي مع صواحبها أربع.
وإن شئت، قلت: فيهن أربع صفات، هن أربع، فيعتق لذلك أربعة وهن أربعة، آحاد، فيعتق بذلك أربعة أخر، وهن اثنتان واثنتان، فيعتق بذلك أربعة أخر، وفيهن ثلاث، فذلك خمسة عشر، وقيل: يعتق عشرة، بالواحدة واحد، وبالثانية اثنان، وبالثالثة ثلاثة، وبالرابعة أربعة، والأول أصح؛ لأن الصفة إذا تكررت تكرر الجزاء، وإن كان في محل واحد، ولذلك لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت أسود، فأنت طالق، وإن كلمت طويلاً فأنت طالق، فكلمت رجلاً أسوداً طويلاً، طلقت ثلاثاً. ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاً واحدة لكونها رمانة، واثنتان بأكلها النصفين. ولو قال: إذا ولدت ولداً، فأنت طالق، وإذا ولدت غلاماً، فأنت طالق. وإذا ولدت أسود، فأنت طالق، فولدت غلاماً أسود، طلقت ثلاثاً.
فصل:
إذا قال لزوجته: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إن خرجت، فأنت طالق، وإن لم تخرجي، فأنت طالق، أو إن لم يكن هذا القول حقاً، فأنت طالق، طلقت في الحال؛ لأنه حلف بطلاقها. وإن قال: إن طلعت الشمس، أو قدم الحاج، فأنت طالق، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق حتى تطلع الشمس ويجيء الحاج؛ لأن الحلف ما قصد به المنع من الشيء، أو الحنث عليه، أو التصديق، وليس في طلوع الشمس، وقدوم الحاج(3/134)
شيء من هذا، هذا قول القاضي في " المجرد " وابن عقيل.
والثاني: أنه حلف؛ لأنه تعليق على شرط فكان حلفاً، كما لو قال: إن خرجت فأنت طالق. هذا قول القاضي في " الجامع " وأبي الخطاب. وإن قال: إذا شئت فأنت طالق، أو إذا حضت، أو إذا طهرت، فأنت طالق، لم يكن حلفاً، وجهاً واحداً؛ لأن تعليقه على المشيئة تمليك، وتعليقه على الحيض طلاق بدعة، وتعليقه على الطهر طلاق سنة.
فإن قال: إذا حلفت بطلاقك، فأنت طالق. ثم أعاده ثانية، طلقت واحدة؛ لأنه حلف بطلاقها. فإن أعاده ثالثاً، طلقت ثانية. فإن أعاده رابعاً، طلقت ثلاثاً؛ لأن كل مرة يوجد به صفة طلاق، وتنعقد بها صفة أخرى. ومثله لو قال: إن كلمتك، فأنت طالق، وكرره أربعاً، طلقت ثلاثاً كذلك.
ولو قال لمدخول بهما: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، وكرره أربعاً، طلقتا ثلاثاً، فإن كانتا غير مدخول بهما، بانتا إذا أعاده مرة ثانية، ولم يقع بهما بعده طلاق، فإن كانت إحداهما مدخولاً بها، والأخرى غير مدخول بها، فأعاده مرة، طلقت المدخول بها طلقة رجعية، والأخرى طلقة ثانية.
فإن أعاده ثانياً، لم تطلق واحدة منهما؛ لأن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما ولم يحلف به؛ لأن غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها. وإن قال لمدخول بهما، لإحداهما: إن حلفت بطلاق ضرتك، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: مثل ذلك، طلقت الأولى، وإن أعاده للأولى، طلقت الأخرى، وكلما أعاده لامرأة طلقت الأخرى.
وإن قال: كلما حلفت بطلاقك، فضرتك طالق، ثم قال مثل ذلك لضرتها، طلقت، فإن أعاده للأولى طلقت الضرة، فإن أعاده للثانية، طلقت الأولى، وكلما أعاده لامرأة، طلقت ضرتها حتى تكمل ثلاثاً. وإن كانت إحداهما غير مدخول بها، فطلقت مرة، لم تطلق أخرى، ولم تطلق الأخرى بإعادته لها؛ لأنه ليس بحلف بطلاقها، لكونها بائناً.
فصل:
وإن استعمل الطلاق أو العتاق استعمال القسم، وأجابه بجوابه فقال: أنت طالق، لأقومن، أو ما قمت، أو لقد قمت، أو إني لقائم، وبر، لم يقع الطلاق؛ لأنه حلف بر فيه، فلم يحنث، كما لو حلف بالله، وإن حنث، وقع طلاقه. وإن قال: أنت طالق، لولا أبوك لطلقتك، وكان صادقاً، لم تطلق. وإن كان كاذباً. طلقت.
فصل:
إذا قال: إن كلمتك، فأنت طالق، فاعلمي ذلك، أو فتحققيه، طلقت؛ لأنه كلمها بعد عقد اليمين، إلا أن يريد بعد انقضاء كلامي هذا ونحوه، وإن زجرها فقال: تنحي أو اسكتي، حنث؛ لأنه كلام. وإن سمعها تذكره فقال: الكاذب لعنه الله، حنث؛ لأنه(3/135)
كلمها. وإن قال: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك الكلام، فعبدي حر، انحلت يمينه بيمينها؛ لأنها كلمته، فلم يكن كلامه لها بعد ذلك بداية، فإن كلمها، انحلت يمينها؛ لأنها لم تبدأه ما لم يكن لهما نية، وإن قال: إن كلمتما هذين الرجلين، فأنتما طالقتان، فكلمت كل واحدة واحداً، ففيه وجهان:
أحدهما: يطلقان؛ لأن تكليمهما وجد منهما.
والثاني: لا يطلقان حتى تكلم كل واحدة الرجلين معاً؛ لأنه علق طلاقهما على فعليهما معاً. ولو قال: إن ركبتما هاتين الدابتين، فأنتما طالقتان، طلقتا إذا ركبت كل واحدة دابة؛ لأن العرف في ركوب دابتيهما، أن يركب كل واحد دابته.
ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً ومحمد مع خالد، لم تطلق حتى تكلم زيداً في حال يكون محمد مع خالد؛ لأن الجملة حال للجملة الأولى إلا أن يريد بكلامه الاستئناف، فتطلق بكلام زيد بكل حال، وقال القاضي: يحنث بكلام زيد؛ لأن الجملة الثانية استئناف، لا تعلق لها بالأولى. وإن قال: من بشرتني بقدوم أخي، فهي طالق، فأخبره بذلك زوجتاه. وهما صادقتان، طلقت الأولى وحدها؛ لأن البشارة خبر يحصل به سرور أو غم، وإنما تحصل بالأول، وإن كانتا كاذبتين لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لا سرور في الكذب.
وإن كانت الأولى كاذبة، والثانية صادقة، طلقت الثانية وحدها لذلك. وإن قال: من أخبرتني بقدوم أخي فهي طالق، فقال القاضي: هي كالتي قبلها سواء؛ لأن المراد من الخبر الإعلام، ولا يحصل إلا بالخبر الأول الصدق. ويحتمل أن تطلق الثانية والكاذبة؛ لأن الخبر يقع على الجميع.
فصل:
إذا قال: أنت طالق إن شئت، أو متى شئت، أو غير ذلك من الحروف، فقالت: قد شئت طلقت، سواء شاءت على الفور، أو التراخي؛ لأنه تعليق للطلاق على شرط، فأشبه سائر التعليق. وإن قالت: قد شئت إن شئت، أو إن شاء أبي، لم تطلق وإن شاء؛ لأنها لم تشأ، إنما علقت مشيئتها بمشيئته، كما لو قالت: قد شئت إذا طلعت الشمس. ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فشاء وهو مجنون أو طفل، لم تطلق؛ لأنه لا مشيئة لهما، وكذلك إن شاء وهو سكران، وخرجه أصحابنا على روايتين في طلاقه، وإن شاء وهو مميز، طلقت؛ لأن له مشيئة، ولذلك صح اختياره لأحد أبويه، وخوطب بالاستئذان في العورات الثلاث. وإن كان أخرس فأومأ بمشيئته، طلقت؛ لأن إشارته كنطق غيره.
وإن كان ناطقاً فخرس فكذلك؛ لأنه من أهل الإشارة، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأن إشارته لا يعتد بها في تلك الحال في الشرع. وإن مات أو جن، لم تطلق؛ لأنه لم يشأ(3/136)
وحكي عن أبي بكر: أنها تطلق. وإن قال: أنت طالق إن شاءت البهيمة، فهو تعليق للطلاق على المستحيل. وإن قال: أنت طالق لمشيئة أبيك، أو رضاه، طلقت في الحال؛ لأن معناه: ليرضى، أو لكونه شاء، فإن قال: أردت تعليقه بذلك، قبل منه؛ لأن ذلك يستعمل للشرط في قوله: أنت طالق للسنة.
فإن قال: أنت طالق إلا أن تشائي، فشاءت في الحال، لم تطلق، وإن لم تشأ، طلقت؛ لأنه أوقعه عليها، إلا أن ترفعه مشيئتها، فإذا لم يوجد ما يرفعه، وقع. وإن قال: أنت طالق واحدة، إلا أن تشائي ثلاثاً، فشاءت ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وإن لم تشأ، أو شاءت دون الثلاث، وقعت واحدة؛ لأن هذا هو السابق إلى الفهم من ذلك.
وفيه وجه آخر أنها إذا شاءت ثلاثاً، لم تطلق؛ لأنه علق وقوع الواحدة على عدم مشيئتها الثلاث، ولم يوقع لمشيئتها شيئاً، فأشبه قوله: إلا أن تشائي. وإن قال: أنت طالق إن شئت وشاء أبوك، فشاء أحدهما منفرداً، لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط.
فصل:
وإن قال: أنت طالق، إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار، أو قال: إن كنت تحبين ذلك [بقلبك] ، فقالت: أنا أحب ذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق؛ لأنها لا تحب ذلك، وقولها كذب، لا يلتفت إليه.
والثاني: تطلق لأنه لما لم يوقف على ما في القلب، علق على النطق، كالمشيئة.
فصل:
فإن قال: أنت طالق، أو عبدي حر إن شاء الله، طلقت زوجته، وعتق عبده، لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق. ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق حالاً ومآلاً، فلم يصح، كاستثناء الكل. فإن قال: أنت طالق، إن دخلت الدار إن شاء الله، ففيه روايتان:
إحداهما: يقع الطلاق لما ذكرنا، والأخرى: لا يقع؛ لأن الطلاق المعلق بشرط يمين، فيدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وإن قال: أنت طالق، إلا أن يشاء الله، طلقت لما ذكرنا، ولأنه علق رفع الطلاق على مشيئته لا يوقف عليها، وإن قال: أنت طالق ما لم يشأ الله، أو إن لم يشأ الله، طلقت؛ لأنه علقه بمستحيل، فإن(3/137)
وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال، ويحتمل أن لا يحنث. وإن قال: أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله، لم يحنث دخلت الدار أو لم تدخل؛ لأنها إن دخلت، فقد شاء الله، وإن لم تدخل، فلم يشأ الله تعالى.
فصل:
لا يصح تعليق الطلاق قبل النكاح، فلو قال لأجنبية: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فتزوجها ودخلت الدار، لم تطلق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها» رواه الدارقطني. وفي لفظ «لا طلاق فيما لا يملك» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وروى أبو داود والطيالسي نحوه.
وإن قال: كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، وإن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم تزوجها، لم يقع كذلك. قال أبو بكر: لا يختلف قول أبي عبد الله: إن الطلاق إذا وقع قبل النكاح، لا يقع.
وقال غيره عن أحمد: ما يدل على أن الطلاق يقع؛ لأنه يصح تعليقه على الإخطار، فصح تعليقه على الملك، كالوصية. والمذهب الأول، لما ذكرنا، ولأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة، لا يصح تعليقه، كالمجنون.
فصل:
إذا علق الطلاق بعد النكاح بوقت، طلقت بأوله؛ لأنه إذا علق بشيء، تعلق بأوله، كما لو قال: أنت طالق، إذا دخلت الدار، طلقت بدخولها أول جزء منها. فلو قال: أنت طالق في رمضان، طلقت بغروب شمس شعبان. وإن قال: أنت طالق اليوم، طلقت في الحال.
وإن قال: أنت طالق غداً، طلقت بطلوع فجره. فإن قال: أردت في آخر الشهر واليوم والغد، دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق في أول رمضان، أو في غرته، طلقت في أوله، ولم يقبل قوله: نويت آخره؛ لأنه لا يحتمله.
وإن قال: أردت بالغرة اليوم الثاني، قبل لأنه محتمل؛ لأن الثلاث الأول من الشهر، تسمى غرراً. وإن قال: أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان، طلقت بأول جزء منه؛ لأن رؤيته في الشرع عبارة عما يعلم به دخوله، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» . فإن قال: أردت إذا رأيته بعينيك، قبل؛ لأنه فسر اللفظ(3/138)
بموضوعه، ويتعلق الحكم برؤيتها إياه بعد الغروب؛ لأن هلال الشهر ما كان في أوله، ويحتمل أن يتعلق برؤيتها إياه قبل الغروب، وبعده؛ لأنه هلال للشهر يتعلق به وجوب الصوم والفطر. وإن لم تره حتى أقمر، لم تطلق؛ لأنه ليس بهلال.
واختلف فيما يقمر به، فقيل بعد ثالثة، وقيل باستدارته، وقبل إذا بهر ضوءه. وإن قال: أنت طالق إلى شهر رمضان، طلقت في أول جزء منه، كقوله: في شهر رمضان؛ لأنه جعل الشهر غاية للطلاق، ولا غاية لآخره، فوجب أن يجعل غاية لأوله.
فإن قال: أردت الإيقاع في الحال، طلقت؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، طلقت في آخر أول يوم منه؛ لأنه أوله. وإن قال: في أول آخره، طلقت بطلوع فجر آخر يوم منه؛ لأنه آخره وقال أبو بكر: تطلق في المسألتين. بغروب شمس اليوم الخامس عشر منه؛ لأنه آخر نصف الشهر الأول وأول نصفه الآخر.
فصل:
إذا قال: إذا مضت سنة، فأنت طالق، اعتبر مضي سنة بالأهلة؛ لأنها السنة المعهودة في الشرع. فإن قاله في أثناء شهر، كمل ذلك الشهر بالعدد، ثلاثين يوماً، وأحد عشر شهراً بالأهلة. وإن قال: أردت سنة بالعدد، وهي ثلاثمائة وستون يوماً، أو شمسية وهي ثلاثمائة وخمس وستون يوماً، قبل؛ لأنه سنة حقيقية. وإن قال: إذا مضت السنة، فأنت طالق، طلقت بانسلاخ ذي الحجة؛ لأن التعريف " بالألف واللام " يقتضي ذلك. فإن قال: أردت سنة كاملة، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإن قال: أنت طالق في كل سنة طلقة، طلقت في الحال. ثم إذا مضت سنة كاملة، طلقت أخرى، وكذلك الثالثة.
وقال أبو الخطاب: تطلق الثانية بدخول المحرم، وكذلك الثالثة. فإن قال: أردت أن تكون ابتداء السنين من أول الجديدة، دين. وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين.
فصل:
وإن قال: أنت طالق، إذا قدم فلان غداً، أو غداً إذا قدم فلان، لم تطلق حتى يقدم؛ لأن الطلاق لا يقع قبل شرطه. فإن مات قبل قدومه، لم تطلق؛ لأنها لم تبق محلاً للطلاق. وإن قدم بعد الغد، لم تطلق، لفوات محل الطلاق، وإن قال: أنت طالق يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، لم تطلق؛ لأن الشرط لم يوجد، إلا أن يريد باليوم الوقت، فتطلق. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] . وإن قدم نهاراً، طلقت، وهل تطلق في أول اليوم، أو حين قدومه؟ فيه وجهان:(3/139)
أحدهما: تطلق من أوله، كما لو قال: أنت طالق يوم الجمعة.
والثاني: لا تطلق إلا بعد قدومه؛ لأنه جعل قدومه فيه شرطاً، فلا تطلق قبله. فإن مات قبل قدومه، طلقت على الوجه الأول، ولم تطلق على الثاني.
فصل:
وإن قال: أنت طالق اليوم، إن لم أطلقك اليوم، ولم يطلقها، طلقت في آخر اليوم إذا بقي منه ما لا يتسع، لقوله: أنت طالق؛ لأن معناه إذا فاتني طلاقك اليوم، فأنت طالق، وبهذا يفوت طلاقها. وقال أبو بكر: لا تطلق؛ لأن شرط طلاقها خروج اليوم، وبخروجه يفوت محل طلاقها.
وإن قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد، فقال القاضي في موضع: يقع الطلاق في الحال؛ لأنه علقه بشرط محال، فلغا شرطه، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة: أنت طالق للبدعة. وقال في " المجرد ": لا تطلق؛ لأنه لا يقع في اليوم، لعدم الشرط وإذا جاء الغد، لم يمكن الطلاق في اليوم؛ لأنه زمن ماض.
فصل:
وإن قال: أنت طالق اليوم، غداً، طلقت واحدة؛ لأن من طلقت اليوم، فهي طالق غداً. وإن قال: أردت طلقة اليوم، وطلقة غداً، طلقت اثنتين؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، ونصف غداً، فكذلك؛ لأن كل نصف يكمل بالسراية، فيصيران طلقتين. وإن قال: أردت نصف طلقة اليوم، وباقيها غداً، فكذلك في إحدى الوجهين؛ لأن باقيها نصف يكمل بالسراية.
والثاني: لا تطلق إلا واحدة؛ لأنه لما كمل النصف الأول، لم يبق من الطلقة شيء، فلا باقي لها. فإن قال: أنت طالق في اليوم والغد، طلقت واحدة لما ذكرنا. وإن قال: أنت طالق في اليوم وفي الغد، فكذلك في أحد الوجهين. وفي الآخر: تطلق طلقتين؛ لأن إعادة حرف الصلة يقتضي فعلاً، فكأنه قال: أنت طالق في اليوم، وأنت طالق في غد.
فصل:
إذا قال: أنت طالق بعد موتي، لم تطلق؛ لأنها بعد موته بائن، فليست محلاً للطلاق. وإن قال: أنت طالق مع موتي لم تطلق؛ لأن زمن البينونة زمن الطلاق، فلم يمكن إيقاعه.
وإن تزوج أمة أبيه، ثم قال: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات أبوه، لم تطلق؛ لأنه يملكها بموت أبيه، فينفسخ نكاحه، فيجتمع الفسخ والطلاق، فيمتنع وقوعه، كالتي قبلها. وفيه وجه آخر، أنها تطلق؛ لأن زمن الطلاق عقيب الموت، وهو(3/140)
زمن الملك، والفسخ بعد الملك، فيتقدم الطلاق الفسخ فيقع. وإن قال: إن اشتريتك، فأنت طالق، واشتراها، فعلى وجهين، كالتي قبلها. وإن قال الأب لجاريته: إذا مت فأنت حرة، وقال الزوج: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات الأب، وقعت الحرية والطلاق معاً؛ لأن الحرية تمنع ثبوت الملك له، فلا ينفسخ نكاحه، فيقع طلاقه.
فصل:
إذا قال: أنت طالق أمس، أو قبل أن أتزوجك، لم يقع الطلاق. نص عليه؛ لأنه إضافة إلى زمن يستحيل وقوعه فيه، فلم يقع، كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، ومات قبل مضي شهر، وقال القاضي في بعض كتبه: تطلق؛ لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به، فلغت الصفة، ووقع الطلاق، كما لو قال لآيسة: أنت طالق للبدعة.
وحكي عن أبي بكر أن الطلاق يقع في قوله: أنت طالق قبل أن أتزوجك خاصة؛ لأنه يمكن أن يتزوجها بائناً. وهذا الوقت قبله فيقع فيه، بخلاف التي قبلها. وإن قال: أردت طلاقها في الحال، وقع؛ لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ. وإن قال: أردت أني طلقتها أمس، طلقت بإقراره. وإن قال: أردت أني طلقتها في نكاح آخر، أو طلقها زوج قبلي، فقد ذكرنا حكمه فيما مضى.
وإن قال: أنت طالق قبل قدوم أخي بشهر، أو قبل موتي بشهر، فقدم أخوه، أو مات مع مجيء الشهر أو قبله، لم تطلق؛ لأنه زمن ماض. وإن قدم أو مات بعد مضي شهر وجزء يقع الطلاق فيه، تبينا أنه وقع في ذلك الجزء قبل الشهر. فإن خلعها بعد تعليق طلاقها بيوم، ثم مات، أو قدم بعد التعليق بشهر وساعة، وقع الطلاق دون الخلع؛ لأنها بانت بالطلاق، فكان الخلع لبائن.
وإن مات أو قدم بعد الخلع بشهر وساعة، صح الخلع؛ لأنه صادف زوجة ولم يقع الطلاق؛ لأنها بانت بالخلع قبله. وإن قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت في الحال؛ لأنه قبل موته، وكذلك إن قال: أنت طالق قبل قدوم زيد، سواء قدم أو لم يقدم. ذكره القاضي. وإن قال: أنت طالق قبيل موتي، أو قبيل قدوم زيد، لم يقع الطلاق إلا في الجزء الذي يلي الموت؛ لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير.
فصل:
وإن علقه على مستحيل، كقوله: أنت طالق إن طرت، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تطلق؛ لأنه علقه على صفة لم توجد.
والثاني: تطلق؛ لأنه علق طلاقها على ما يرتفع به جملة، فلغا الشرط، ووقع الطلاق، كقوله: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ولو قال: أنت طالق إن لم تطيري، أو تقتلي الميت، طلقت في الحال؛ لأنه معلوم عدمه. وإن قال: أنت طالق لتطيرن(3/141)
فكذلك. وحكي عن القاضي أنه لا يحنث.
فصل:
إذا كتب إليها: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت إذا أتاها، وإن ذهبت حواشيه، أو انمحى ما فيه، إلا ذكر الطلاق، طلقت؛ لأنه أتاها كتابه مشتملاً على المقصود. وإن انمحى كل ما فيه، أو انمحى ذكر الطلاق، أو ضاع الكتاب، لم تطلق؛ لأن المقصود لم يأت. وإن ذهب الكتاب إلا موضع الطلاق، ففيه وجهان:
أحدهما: تطلق؛ لأن المقصود أتاها.
والثاني: لا تطلق؛ لأن الكتاب لم يأت. وإن قال إذا أتاك طلاقي، فأنت طالق، ثم كتب: إذا أتاك كتابي، فأنت طالق، فأتاها الكتاب، طلقت طلقتين، واحدة بمجيء الكتاب، والأخرى بمجيء الطلاق.
فصل:
إذا قال إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة، فأنت طالق، فإنها تعد له عدداً يعلم أن عددها داخل فيه، ولا يحنث إذا نوى ذلك. فإن لم ينو، حنث في قياس المذهب؛ لأن الأيمان تنبني على المقاصد، وظاهر قصد الحالف العلم بكميته، ولا يحصل بهذا. فإن قال: إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت، فأنت طالق، فأفردت كل نواة وحدها، فالحكم فيها كالتي قبلها.
ولو وقعت في ماء جار، فقال: إن أقمت فيه، أو خرجت منه فأنت طالق، فقال القاضي في " الجامع ": هي كذلك؛ لأن الظاهر قصده خروجها من النهر. وقال في " المجرد " لا يحنث بحال؛ لأن الماء الذي كانت فيه جرى وصارت في غيره.
ولو قال: إن كانت امرأتي في السوق، فعبدي حر، وإن كان عبدي في السوق، فامرأتي طالق، وكانا في السوق، عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأن العبد عتق باللفظ الأول، فلما عتق، لم يبق له في السوق عبد.
ولو كان في فيها تمرة فقال: إن أكلتيها، أو أمسكتيها، أو ألقيتيها، فأنت طالق، فأكلت بعضها، ورمت بعضها، انبنى على فعل بعض المحلوف عليه. ولو كانت على سلم، فحلف عليها ألا تنزل عنه، ولا تصعد عنه، ولا تقف عليه، فإنها تنتقل إلى سلم آخر، ثم تنزل أو تصعد؛ لأن نزولها أو صعودها إنما حصل من غيره.
ولو سرقت زوجته منه شيئاً، فحلف: لتصدقني أسرقت مني شيئاً، أم لا؟ وكانت قد سرقت منه، وخشيت أن تخبره، فإنها تقول: سرقت منك ما سرقت منك. وتكون " ما " هاهنا، بمعنى الذي.
فصل:
ومتى علق طلاق زوجته على صفة، ثم أبانها، ثم تزوجها قبل الصفة، عادت(3/142)
الصفة؛ لأن العقد والصفة وجدا منه في الملك، فأشبه ما لو لم يتخللهما بينونة. وإن وجدت الصفة حال البينونة، لم ينحل اليمين؛ لأنه لم يحنث في يمينه، فلم تنحل، كما لو لم توجد الصفة، ولأن الملك مقدر في يمينه لتقييد الطلاق به، ويتخرج أن تنحل الصفة، بناء على قوله في العتق، وهو اختيار أبي الحسن التميمي؛ لأن الصفة وجدت فانحلت اليمين بها، كما لو وجدت حال الملك.
ولأن اليمين إذا تعلقت بعين، لم تتقيد بالملك، كما لو حلف: لا يدخل هذه الدار وهي ملكه، والله أعلم.
[باب الشك في الطلاق]
. إذا شك هل طلق، أم لا؟ لم تطلق؛ لأن النكاح متيقن، فلا يزول بالشك. وإن طلق فلم يدر، أواحدة طلق أم ثلاثا؟ بنى على اليقين كذلك، نص عليه أحمد. فإذا ارتجعها، فعليه نفقتها. واختلف أصحابنا في حلها، فقال الخرقي: هي محرمة؛ لأنه متيقن للتحريم الحاصل بالطلاق، شاك في حصول الحل بالرجعة، فلا يزول التحريم المتيقن بالشك.
وقال غيره: تحل؛ لأن الرجعة مزيلة لحكم المتيقن من الطلاق، ومنهم من منع حصول التحريم بالطلاق، لكون الرجعية مباحة، فلم يكن التحريم متيقناً. والورع أن يلتزم حكم الطلاق الأكثر، فيدعها حتى تقضي عدتها لتحل لغيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
فصل:
وإذا قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها، أقرع بينهن، فأخرجت بالقرعة المطلقة منهن، نص عليه؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولأن الطلاق إزالة ملك بني على التغليب والسراية، فتدخله القرعة، كالعتق.
وإن نوى واحدة بعينها، طلقت وحدها؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فانصرف إليه، وقوله في ذلك مقبول؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته، فقبل منه، كقول المرأة في حيضها. وإن قال: هذه المطلقة، بل هذه، طلقتا؛ لأن إقراره بطلاق الثانية مقبول، ورجوعه عن طلاق الأولى غير مقبول.
وإن قال: طلقت هذه، بل هذه أو هذه، طلقت الأولى وإحدى الأخريين. وإن قال: هذه، أو هذه، بل هذه طلقت الثالثة وإحدى الأوليين. وإن قال: طلقت هذه وهذه أو هذه، احتمل أن يكون الشك في الجميع؛ لأنه أتى بحرف الشك بعد(3/143)
الأوليين، فيعود إليهما، واحتمل أن يكون الشك في الثانية والثالثة؛ لأن حرف الشك بينهما. وإن قال: طلقت هذه، أو هذه وهذه، ففي أحد الوجهين يكون شاكاً في طلاق الجميع، لا يدري أطلق الأولى وحدها، أو الأخريين جميعاً؟ وفي الأخرى يكون متيقناً لطلاق الثانية، شاكاً في الأوليين.
وكل موضع علم أنه طلق بعضهن، فاشتبهت عليه بغيرها، فحكمها حكم المنسية على ما سنذكره. وإن لم ينو واحدة بعينها، تعينت بالقرعة، وعليه نفقة الجميع حتى تتعين المطلقة؛ لأنهن محبوسات عليه.
فصل:
وإن طلق واحدة بعينها ثلاثاً وأنسيها، أو خفيت عليه، بأن طلقها في ظلمة، أو من وراء حجاب، أو يراها في طاقة، فيطلقها وتشتبه عليه، فإنه يحرم عليه الجميع؛ لأنه اشتبهت زوجته بغيرها فحرمتا، كما لو اشتبهت بمن لم يتزوجها. وإن علمها، عينها، وقبل قوله؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته.
فإن امتنع مع العلم، حبس حتى يعينها؛ لأنه حق عليه امتنع من إيفائه. وإن ادعت غير المعينة عليه أنها المطلقة، فالقول قوله من غير يمين. فإن مات، أقرع بينهن. فمن خرجت لها القرعة فلا ميراث لها. قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه، ولا يعلم أيتهن طلق، قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات بعدها؟ قال: أقول بالقرعة، وذلك لأنه تصير القرعة على المال. وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ثم مات، لا يدري أيتهن طلق، أقرع بين الأربع، وأنذر منهن واحدة، وقسم بينهن الميراث. وكذلك إن ماتت إحداهن، أو متن جميعاً أقرعنا بينهن، فمن خرجت عليها القرعة، حرمناه ميراثها.
وقال الخرقي وكثير من أصحابنا: يقرع بينهن في حياته، فمن خرجت عليها قرعة الطلاق، بانت، وحل له البواقي، احتجاجاً بحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن ذكر بعد ذلك أن المطلقة غيرها، بانت المذكورة؛ لأنها المطلقة، ويكون وطؤه لها وطأ بشبهة، وترد إليه الأخرى، إلا أن تكون قد تزوجت، أو تكون القرعة بحكم حاكم، فلا ترد، نص عليه؛ لأنها إذا تزوجت، فقد تعلق بها حق غيره، فلم يقبل قوله في فسخ نكاح غيره. وقرعة الحاكم كحكمه، لا سبيل إلى نقضه. وقال أبو بكر وابن حامد: لا ترد إليه التي عينتها القرعة بحال؛ لأنه لا يقبل قوله عليها، ولا يرثها إن ماتت، وإن مات هو ورثته.
فصل:
وإن رأى طائراً فقال: إن كان غراباً فحفصة طالق، وإن كان حماماً فعمرة طالق، فطار ولم يعرف ما هو، لم يلزمه طلاق؛ لأنه يحتمل أنه غيرهما. ولو قال: إن كان غراباً، فحفصة طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ولم يعرف ما هو، طلقت(3/144)
إحداهما. والحكم فيها على ما ذكرنا في المشتبهة، وإن كان الحالف رجلين، فقد حنث أحدهما، فيحرم الوطء عليهما؛ لأننا علمنا التحريم في إحداهما، فأشبه ما لو كان الحالف واحداً على زوجتين، ويبقى في حق كل واحد منهما أحكام النكاح، من النفقة والكسوة والمسكن؛ لأن نكاحه كان متيقناً، وزواله مشكوك فيه. وإن قال أحدهما: إن كان غراباً، فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فعبدي حر، لم يعتق واحد منهما؛ لأن الأصل الرق. فإن اشترى أحدهما عبد صاحبه، عتق؛ لأن تمسكه بعبده اعتراف منه بعتق الآخر، وقد ملكه فيعتق، قاله القاضي. وقال أبو الخطاب: يقرع بينهما حينئذ؛ لأن العبدين صارا له، وقد علم عتق أحدهما لا بعينه، فيعتق بالقرعة إلا أن يكون أحدهما قد أقر أن الحانث صاحبه، فيؤخذ بإقراره.
ولو كان الحالف واحداً فقال: إن كان غراباً، فعبدي حر، وإن لم يكن غراباً فأمتي حرة، ولم يعرف، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، فهو الحر؛ لأن القرعة تستعمل لتعيين الحرية.
فصل:
إن قال لحماته: ابنتك طالق، أو كان اسم زوجته زينب فقال: زينب طالق، طلقت زوجته. فإن قال: أردت ابنتك الأخرى، أو امرأة أجنبية اسمها زينب، دين؛ لأنه يحتمل ما قاله، ولم يقبل في الحكم. نص عليه. لأن غير زوجته ليست محلاً لطلاقه، فلم يقبل تفسيره بها. وإن نظر إلى زوجته وأجنبية فقال: إحداكما طالق، فكذلك؛ لما ذكرناه. وقال القاضي: هل يقبل في الحكم؟ على روايتين.
فصل:
فإن كانت له زوجتان، هند وزينب فقال: يا هند، فأجابته زينب، فقال: أنت طالق ينوي المجيبة، أو لم يكن له نية، طلقت المجيبة وحدها؛ لأنها المخاطبة بالطلاق، ولم يرد غيرها به. وإن قال: ظننت المجيبة هنداً، فطلقتها، طلقت هند رواية واحدة؛ لأنه أرادها بطلاقه، وفي زينب روايتان:
إحداهما: تطلق، اختارها ابن حامد؛ لأنه خاطبها بالطلاق فطلقت، كما لو لم يكن له نية.
والثانية: لا تطلق؛ لأنه لم يردها بكلامه، فلم تطلق، كما لو أراد أن يقول: أنت طاهر، فسبق لسانه بقوله، أنت طالق، وقال أبو بكر: لا يختلف كلام أحمد: أنها لا تطلق.
وإن قال: علمت أن المجيبة زينب وأردت طلاق هند، طلقتا معاً " هند " بإرادته، وزينب بخطابه لها بالطلاق اختياراً. ولو لقي أجنبية ظنها زوجته فقال: أنت طالق، طلقت زوجته؛ لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق، فطلقت، كالتي قبلها. وإن لقي زوجته(3/145)
فظنها أجنبية فقال: تنحي يا مطلقة، أو أمته، فقال: تنحي يا حرة يظنها أجنبية، فقال أبو بكر لا يلزمه عتق، ولا طلاق؛ لأنه لم يقصد طلاقاً ولا عتقاً. ويخرج على قول ابن حامد: أن يقع العتق والطلاق بناء على المسألة في أول الفصل.(3/146)
[كتاب الرجعة]
إذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث، أو العبد أقل من اثنتين، فله ارتجاعها ما دامت في العدة، لقول الله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] . يريد الرجعة عند جماعة أهل التفسير. وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وروى ابن عمر قال: «طلقت امرأتي وهي حائض، فسأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: مره فليراجعها» . متفق عليه. وعن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة وراجعها» . رواه أبو داود.
وإن انقضت عدتها، لم يملك رجعتها، لقوله سبحانه: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإن طلق قبل الدخول، فلا رجعة له؛ لأنه لا عدة عليها، فلا تربص في حقها يرتجعها فيه، وكل هذا مجمع عليه بحمد الله.
فصل:
وإذا كانت حاملاً باثنين فوضعت أحدهما، فله رجعتها قبل وضع الثاني؛ لأن العدة(3/147)
لا تنقضي إلا بوضع الحمل كله. وإن طهرت ذات القرء من القرء الثالث ولم تغتسل، ففيه روايتان:
إحداهما: له رجعتها. اختاره كثير من أصحابنا؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر وعمر وعلي وغيرهم.
والثانية: لا رجعة له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وهي الحيض، وقد زال الحيض. وهذا اختيار أبي الخطاب.
فصل:
ويملك رجعتها بغير رضاها، لقول الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ولا تفتقر الرجعة إلى ولي ولا صداق لأنها إمساك. وهل تفتقر إلى إشهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: تفتقر إلى الإشهاد، لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود، أشبه النكاح.
والثانية: لا يجب؛ لأنه إمساك لا يفتقر إلى رضى المرأة، أشبه التكفير في الظهار.
فصل:
والرجعية: زوجة، بدليل أن الله تعالى سمى الرجعة إمساكاً، وسمى المطلقين بعولة. فقال سبحانه وتعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فيلحقها طلاقه، وظهاره، ولعانه، وخلعه، ويرثها وترثه؛ لأنها زوجه، فثبت فيها ما ذكرنا، كما قبل الطلاق.
فصل:
والرجعية مباحة لزوجها، فلها التزين والتشرف له، وله السفر بها، والخلوة معها، ووطؤها في ظاهر المذهب، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وهذه زوجة. وعنه: أنها محرمة وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنها معتدة من طلاقه فحرمت عليه، كالمختلعة. فإن وطئها، فلا حد عليه؛ لأنها زوجته، ولا مهر عليه كذلك. ويحتمل أن يجب المهر على القول(3/148)
بالتحريم، إذا أكرهها على الوطء؛ لأنه وطء حرمه الطلاق، فأشبه وطء المختلعة.
فصل:
وتحصل الرجعة بالوطء في ظاهر المذهب، قصد، أو لم يقصد؛ لأن سبب زوال الملك انعقد مع الخيار، والوطء من المالك يمنع زواله، كوطء البائع في مدة الخيار، ولا يحصل باستمتاع سواه من قبله أو لمس، أو نظر إلى محرم منها، في ظاهر كلام أحمد. وقال ابن حامد: يخرج فيه وجهان: مبنيان على الروايتين في تحريم المصاهرة به. فأما الخلوة بها، فليست رجعة بحال؛ لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها.
وقال بعض أصحابنا: يحصل بها؛ لأنه محرم من غير الزوجة، فأشبه الاستمتاع. وعن أحمد: لا تحصل الرجعة إلا بالقول. وهو ظاهر كلام الخرقي، لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولا يحصل الإشهاد إلا على القول، ولأنه استباحة بضع مقصود، أشبه النكاح.
[فصل في ألفاظ الرجعة]
فصل:
وألفاظ الرجعة: راجعتك، وارتجعتك، لورود السنة بهما في حديث ابن عمر. واشتهارهما في العرف بهذا اللفظ، ورددتك وأمسكتك لورود الكتب بهما، في قوله: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ويحتمل أن يكون الصريح لفظ المراجعة وحده، لاشتهاره في العرف دون غيره. وإن قال: نكحتك، أو تزوجتك، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح الرجعة به، اختاره ابن حامد؛ لأن الأجنبية تحل به فالزوجة أولى.
والثاني: لا يصح؛ لأنه وضع لابتداء النكاح، وهذه لاستدامته، فإن قال: راجعتك للمحبة، أو الإهانة، فهي رجعة صحيحة؛ لأنه أتى بصريح الرجعة، وما قرنه به يحتمل أن يكون بياناً للعلة، ويحتمل غيره، فلا يزول اللفظ عن مقتضاه بالشك. فإن نوى به، أنني راجعتك لمحبتي إياك، أو لأهينك، لم يقدح في الرجعة؛ لأنه ضم إليها بيان علتها. وإن لم يرد الرجعة، وإنما أراد راجعتك إلى الإهانة بفراقي إياك، أو إلى المحبة، فليس برجعة؛ لأنه قصد بلفظه غير الرجعة.(3/149)
فصل:
ولا يصح تعليقها على شرط؛ لأنه استباحة بضع، فأشبهت النكاح. ولو قال: راجعتك إن شئت، أو كلما طلقتك، فقد راجعتك، لم يصح. وإن راجعها في الردة. فقال أبو الخطاب لا يصح؛ لأنه استباحة بضع، فأشبه النكاح.
وقال القاضي: إن قلنا بتعجل الفرقة، فلا يصح. وإن قلنا: لا تتعجل، فهي موقوفة. إن أسلم، صحت، وإن لم يسلم، لم تصح، كما يقف الطلاق والنكاح. وهذا اختيار ابن حامد.
فصل:
وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها بالقروء في زمن يمكن انقضاؤها فيه، أو بوضع الحمل الممكن، فأنكرها الزوج، فالقول قولها، لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه، كالشهود، لما حرم عليهم كتمان الشهادة، دل على قبولها منهم.
وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأنه اختلاف في وقت الطلاق، والقول قوله فيه، وإن ادعت انقضاءها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها، لم تسمع دعواها، مثل أن تدعي انقضاءها بالقروء في أقل من ثمانية وعشرين يوماً. إذا قلنا: الأقراء: الأطهار. أو في أقل من تسعة وعشرين إذا قلنا: هي الحيض؛ لأننا نعلم كذبها. وإن ادعت انقضاءها بالقروء في شهر، لم يقبل قولها إلا ببينه. نص عليه؛ لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ولأن ذلك يندر جداً. وظاهر قول الخرقي: قبول قولها بمجرده لما ذكرناه.
فصل:
وإن ادعى الزوج رجعتها في عدتها، فأنكرته، فالقول قوله؛ لأنه يملك رجعتها، فقبل قوله فيه، كالطلاق. فإن ادعى رجعتها بعد العدة، فأنكرته فالقول قولها؛ لأنه في زمن لا يملكها. والأصل عدمها. فإن كان في زمن يمكن انقضاء العدة، فيه. فقالت: قد انقضت عدتي، فقال: قد كنت راجعتك، وأنكرته، لم يقبل قوله؛ لأن قولها في انقضاء عدتها مقبول، فصار دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضائها، ولو سبق فقال: قد كنت راجعتك، فقالت: قد انقضت عدتي قبل رجعتك، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأنه ادعى الرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها. وظاهر كلام الخرقي: أن القول قولها في(3/150)
الحالين؛ لأن من قبل قوله سابقاً، قبل مسبوقاً كسائر الدعاوى. وإن ادعى أنه أصابها ليثبت له رجعتها، فأنكرته، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدمها.
فصل:
فإن طلقها، فقضت عدتها وتزوجت، ثم ادعى رجعتها، [فصدقته] هي وزوجها، ردت إليه؛ لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول. وإن صدقه أحدهما دون الآخر، قبل قوله وحده في حقه، فإن صدقه الزوج، انفسخ نكاحه لاعترافه بفساده، ولم تسلم المرأة إليه؛ لأن إقرار الزوج عليها غير مقبول.
وإن كان هذا قبل دخوله بها، فلها عليه نصف المهر. وإن كان بعده، فلها الجميع بمنزلة طلاقها. وإن صدقته المرأة وحدها، لم يقبل قولها في فسخ نكاح الزوج. فإن بانت منه بطلاق أو غيره، ردت إلى الأول؛ لأن المنع الذي كان لحق الثاني قد زال.
وإن طلقها قبل الدخول، فلا مهر لها، لاعترافها أنها ليست زوجة له. فإن أنكراه، فالقول قولهما. فإن أقام بينة بدعواه، قبلت، وردت إليه، سواء دخل بها الثاني، أو لم يدخل؛ لأننا تبينا أن الثاني نكحها وهي زوجة الأول. وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: إن دخل بها الثاني، فهي زوجته، ويبطل نكاح الأول؛ لأنه يروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز العقد عليها في الظاهر، ومع الثاني مزية الدخول، والأول المذهب.
فصل:
وإن تزوجت الرجعية في عدتها فوطئها الثاني وحملت منه، انقطعت عدة الأول، فإذا وضعت حملها، أتمت عدة الأول، وله رجعتها في هذا التمام؛ لأنها في عدته، وإن راجعها قبل الوضع، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة غيره، لا في عدته.
والثاني: يصح؛ لأن الزوجية باقية وإنما انقطعت عدته لعارض، فهو كما لو وطئت في صلب نكاحه.
فصل:
وإن وطئ الزوج الرجعية، وقلنا: لا تحصل الرجعة به، فعليها استئناف العدة من الوطء ويدخل فيها بقية عدة الطلاق؛ لأنهما عدتان من رجل واحد فتداخلتا وله ارتجاعها في بقية العدة الأولى، وليس له ارتجاعها بعدها؛ لأن عدة الطلاق انقضت.(3/151)
فصل:
إذا طلق الحر زوجته ثلاثاً، أو طلق العبد زوجته طلقتين، حرمت عليه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره: ويطأها، لقول الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ويشترط لحلها الأول شرطان:
أحدهما: نكاح زوج غيره، للآية. فلو كانت أمة فوطئها سيدها، أو وطئت بشبهة، أو استبرأها من سيدها، لم تحل له، ولا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً، فلو نكحها نكاحاً فاسداً ووطئها، لم تحل له. وذكر أبو الخطاب وجهاً آخر، أنه يحلها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» . فسماه محللاً مع فساد نكاحه. والمذهب: الأول؛ لأن النكاح المطلق في الكتاب والسنة إنما يحمل على الصحيح، وإنما سماه محللاً، لقصده التحليل فيما لا يحل، كقوله تعالى: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] . فلو أحل حقيقة، لم يكن هو والزوج ملعونين.
الثاني: أن يطأها الزوج في الفرج، وأدناه تغييب الحشفة مع الانتشار، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير، فقالت: والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته» متفق عليه. فإن وطئها في الدبر، أو دون الفرج، أو غيب الحشفة من غير انتشار، لم تحل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علق الحكم بذواق العسيلة، ولا يحصل بذلك. فإن كان الذكر مقطوعاً، فبقي منه قدر الحشفة، فأولجه، أحلها، وإلا فلا. وإن كان خصياً، أو مسلولاً، أو موجوءاً، حلت بوطئه، لدخوله في عموم الآية. وعنه: لا يحلها؛ لأنه لا تذاق عسيلته. قال أبو بكر: العمل على أنه يحلها؛ لأنه لا(3/152)
يفقد إلا الإنزال، وهو غير معتبر في الإحلال. ولو كانت ذمية فوطئها زوج ذمي، أحلها للمسلم، لدخوله في الآية والخبر. وكذلك المملوك والصبي والمجنون. وقال ابن حامد: لا يحلها المجنون؛ لأنه لا يذوق العسيلة، والأول المذهب، لدخوله في عموم الآية، والخبر.
ولا يصح دعوى أنه لا يذوق العسيلة، فإن المجنون كالصحيح في الشهوة واللذة، وافتراقهما في العقل لا يوجب افتراقهما في ذلك، فإنه يوجد في البهائم مع عدم العقل. وإن وطئها نائمة، أو مغمى عليها، أو وطئها يعتقدها أجنبية، أو استدخلت ذكره وهو نائم، حلت؛ لأن الوطء وجد في نكاح صحيح، ويحتمل ألا تحل بالوطء في الإغماء؛ لأنها لا تذوق عسيلته.
فصل:
واشترط أصحابنا أن يكون الوطء حلالاً، فلو وطئها زوجها في حيض، أو نفاس، أو صوم مفروض، أو إحرام، لم تحل؛ لأنه وطء حرم لحق الله تعالى فلم يحلها، كوطء المرتدة. وظاهر النص أنه يحلها، لدخوله في العموم، ولأنه وطء تام في نكاح صحيح تام فأحلها، كما لو كان التحريم لحق آدمي، مثل أن يطأ مريضة تتضرر بوطئه، فإنه لا خلاف في حلها به. فأما الوطء في ردتهما، أو ردة أحدهما، فلا يحلها؛ لأنه إن عاد إلى الإسلام، فقد وقع الوطء في نكاح غير تام؛ لانعقاد سبب البينونة، وإن لم تسلم في العدة، فلم يصادف الوطء نكاحاً.
فصل:
وإذا غابت المطلقة ثلاثاً، ثم أتت زوجها، فذكرت أنها نكحت من أصابها، وكان ذلك ممكناً، وكان يعرف منها الصدق والصلاح، حلت له؛ لأنها مؤتمنة على ما تدعيه، وقد وجد ما يغلب على ظنه صدقها.
وإن لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها، لم تحل له؛ لأن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تنقل عنه، فلم يحل، كما لو أخبره فاسق غيرها. فإن كذبها، ثم غلب على ظنه صدقها فصدقها، حلت له؛ لأنه قد لا يعلم، ثم يتجدد علمه بذلك. وإن تزوجت زوجاً ثم طلقها، فادعت أنه أصابها، فأحلها واستقر عليه مهرها فأنكر. فالقول قولها في حلها؛ لأنها لا تدعي عليه حقاً، والقول قوله في استقرار مهرها؛ لأنه حق عليه، والأصل عدمه. وإن ادعت عليه طلاقها فأنكرها، لم تحل للأول؛ لأنه لم يثبت طلاقها، فتبقى على نكاح الثاني.
فصل:
وإذا عادت المطلقة ثلاثاً إلى زوجها، بعد زوج وإصابة، ملك عليها ثلاث تطليقات؛ لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث، فوجب أن يستأنفها. وإن(3/153)
كان طلاقها أقل من ثلاث، رجعت إليه على ما بقي من طلاقها؛ لأنها عادت قبل استيفاء العدد، فرجعت بما بقي من العدد، كما لو رجعت قبل نكاح آخر. وعنه: أنها إن رجعت بعد نكاح زوج آخر رجعت على طلاق ثلاث؛ لأنها رجعت بعد زوج وإصابة، فأشبهت المطلقة ثلاثاً.(3/154)
[كتاب الإيلاء]
. وهو الحلف على ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر، لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] ويصح من كل زوج مكلف قادر على الوطء، ولا يصح من غير زوج، كالسيد يؤلي من أمته، أو من أجنبية، ثم يتزوجها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] ولا يصح من صبي ولا مجنون؛ لأنه لا حكم ليمينهما.
فأما العاجز عن الوطء، فإن كان لسبب يرجى زواله، كالمرض والحبس، صح إيلاؤه؛ لأنه يمنع نفسه الوطء بيمينه، فأشبه القادر، وإن كان لسبب غير مرجو الزوال، كالجب، والشلل، لم يصح إيلاؤه؛ لأنه حلف ترك مستحيل، فلم يصح، كالحلف على ترك الطيران، ولأن الإيلاء، اليمين المانعة من الجماع، وهذا لا تمنعه منه يمينه، ويحتمل أن يصح إيلاؤه، كالعاجز بالمرض. ويصح إيلاء الذمي، لعموم الآية، ولأن من صح طلاقه ويمينه عند الحاكم، صح إيلاؤه كالمسلم.
[فصل في شروط صحة الإيلاء]
فصل:
ويشترط لصحته أربعة شروط:
أحدها: الحلف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة: 226] والإيلاء: الحلف. فإن حلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، كان مؤلياً بغير خلاف. وإن حلف بالطلاق، أو العتاق، أو الظهار، أو صدقة المال ونحوه، ففيه روايتان:(3/155)
إحداهما: لا يكون مؤلياً؛ لأن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في تفسير الآية: يحلفون بالله. هكذا ذكره الإمام أحمد، ولأنه لم يحلف بالله. فلم يكن مؤلياً، كالحالف بالكعبة.
والثانية: يكون مؤلياً؛ لأنها يمين يلزم بالحنث فيها حق، فيصح الإيلاء بها، كاليمين بالله تعالى. وقال أبو بكر: ما أوجب الكفارة، كالحرام، كان به مؤلياً، وما لا كفارة فيه، كالطلاق والعتاق، لم يكن به مؤلياً، ولا يختلف المذهب أنه لا يكون مؤلياً بما لا يلزمه به حق، كقوله: إن وطئتك، فأنت زانية؛ لأنه لا يصح تعليق القذف بشرط، فلا يلزمها بالوطء حق، فلا يكون مؤلياً. ولو قال: إن وطئتك، فعلي صوم أمس، أو صوم هذا الشهر، لم يصح؛ لأنه يصير عند وجوب الفيئة ماضياً، ولا يصح نذر الماضي.
وإن قال: إن وطئتك، فسالم حر عن ظهاري، صار مؤلياً؛ لأنه يلزمه بالوطء حق، وهو تعيين عتق سالم. وإن قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري، إن تظاهرت، لم يكن مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكنه الوطء بغير حق يلزمه. وإن تظاهر، صار مؤلياً؛ لأنه لا يمكنه الوطء، إلا بحق يلزمه.
فصل:
الشرط الثاني: أن يحلف على ترك الوطء بالفرج؛ لأنه الذي يحصل الضرر به. وإن حلف على ترك الوطء في الدبر، أو دون الفرج، فليس بمؤل؛ لأنه لا ضرر فيه. وألفاظ الإيلاء تنقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: صريح في الظاهر والباطن، وهي قوله: والله لا آتيك، أو لا أدخل، أو أغيب، أو أولج ذكري، أو حشفتي، أو لا أفتضك، للبكر خاصة، فهذه صريحة ولا يدين فيها؛ لأنها لا تحتمل غير الإيلاء.
والقسم الثاني: صريحة في الحكم، ويدين فيها. وهي عشرة ألفاظ: لا وطئتك، لا جامعتك، لا أصبتك، لا باشرتك، لا مسستك، لا قربتك، لا أتيتك، لا باضعتك، لا باعلتك، لا اغتسلت منك، فهذه صريحة في الحكم؛ لأنها تستعمل في الوطء عرفا، وقد ورد الكتاب والسنة ببعضها، فلا يقبل تفسيرها بما يحيله، كوطء القدم، والإصابة باليد، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما قاله.
القسم الثالث: كناية وهو: ما عدا هذه الألفاظ، مما يحتمل الجماع وغيره، كقوله: لأسوأنك، ولا دخلت عليك، لا جمع رأسي ورأسك شيء، فهذا لا يكون مؤلياً بها، إلا بالنية؛ لأنها ليست ظاهرة في الجماع، فلم يحمل عليه إلا بالنية، ككنايات الطلاق فيه. فإن قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء، ونوى به الجماع في الدبر، أو دون الفرج،(3/156)
فهو مؤل. وإن نوى جماعاً ضعيفاً لا يزيد على تغييب الحشفة، فليس بمؤل؛ لأن الضعيف كالقوي في الحكم.
فصل:
الشرط الثالث: أن يكون الحالف زوجاً مكلفاً، قادراً على الوطء في الجملة، وقد ذكرنا ذلك.
الشرط الرابع: أن يحلف على مدة تزيد على أربعة أشهر. فإن حلف على أربعة فما دونها، لم يكن مؤلياً، حراً كان أو عبداً، من حرة أو أمة لقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] . فدل على أنه لا يكون مؤلياً بما دونها، ولأن المطالبة بالطلاق والفيئة، إنما تكون بعدها، فلا تصح المطالبة من غير إيلاء، فإذا قال: والله لا وطئتك، كان مؤلياً؛ لأنه يقتضي التأبيد. وكذلك إن قال: حتى تموتي أو أموت؛ لأنه للتأبيد. وكذلك إن علقه على مستحيل فقال: حتى تطيري، ويشيب الغراب، ويبيض القار؛ لأن معناه التأبيد. قال الله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] . أي: لا يلج الجمل في سم الخياط، أي: لا يدخلونها، أبداً، وإن علقه على فعل يقين، أو يغلب على ظنه، أنه لا يوجد في أربعة أشهر، كقيام الساعة، وخروج الدجال، ونزول عيسى من السماء، أو موت زيد، فهو مؤل؛ لأنه لا يوجد في أربعة أشهر ظاهراً، فأشبه ما لو صرح به. وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي، فهو مؤل؛ لأنها لا تحبل من غير وطئه، فهو كالحلف على ترك الوطء دائماً، وقال القاضي: إن كانت ممن يحبل مثلها، لم يكن مؤلياً، ولا أعلم لهذا وجهاً؛ لأنه لا يمكن حملها، من غير وطء.
وإن قال: أردت بـ " حتى " السببية، أي لا أطؤك لتحبلي، قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله، ولا يكون مؤلياً؛ لأنه يمكن وطؤها لغير ذلك.
وإن علقه على ما يعلم وجوده قبل أربعة أشهر، كجفاف بقل، أو ما يغلب على الطن وجوده قبلها، كنزول الغيث في أوانه، وقدوم الحاج في زمانه، أو ما يحتمل الأمرين على السواء، كقدوم زيد من سفر قريب، لم يكن مؤلياً؛ لأنه لم يغلب على الظن وجود الشرط، فلا يثبت حكمه.
وإن قال: والله ليطولن تركي لجماعك، ونوى مدة الإيلاء، فهو مؤل، وإلا فلا. وإن قال: والله لأسوأنك، ولتطولن غيبتي عنك، ونوى ترك الجماع في مدة الإيلاء، فهو مؤل؛ لأنه عنى بلفظه ما يحتمله، وإلا فلا، وإن قال: والله لا وطئتك طاهراً، أو وطأ مباحاً، فهو مؤل لأنه حلف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة، فكان مؤلياً، كما لو قال: والله لا وطئتك إلا في الدبر.(3/157)
فصل:
وإن قال: والله لا وطئتك في هذا البيت، أو البلد، لم يكن مؤلياً؛ لأنه يمكنه الوطء بغير حنث. وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك، أو، إلا أن تشائي، فليس بمؤل كذلك، وكذلك: والله لا وطئتك مريضة، أو محزونة، أو مكرهة، أو ليلاً أو نهاراً، لم يكن مؤلياً كذلك. وإن قال: والله لا وطئتك إن شئت، فشاءت، صار مؤلياً، وإلا فلا.
[فصل في حكم تعليق الإيلاء على شرط]
فصل:
ويصح تعليق الإيلاء على شرط؛ لأنه يمين. فإذا قال: إن وطئتك فوالله لا وطئتك، لم يصر مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث. فإذا وطئها، صار مؤلياً؛ لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث. وإن قال: والله لا وطئتك في هذه السنة إلا مرة، لم يصر مؤلياً في الحال كذلك.
فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، صار مؤلياً؛ لأنه صار ممنوعاً من وطئها بيمينه. وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا يوماً فكذلك؛ لأن اليوم منكر، فلم يختص يوم بعينه، فصارت كالتي قبلها، ويحتمل أن يصير مؤلياً في الحال؛ لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة، كما في التأجيل.
فصل:
فإن قال: والله لا وطئتك، عاماً، ثم قال: والله لا وطئتك نصف عام، دخلت المدة الثانية في الأولى؛ لأنها بعضها، ولم يعقب إحداهما بالأخرى، فتداخلا كما لو قال: له علي مائة، ثم قال: له علي خمسون، فإن قال: والله لا وطئتك عاماً، فإذا مضى، فوالله لا وطئتك نصف عام، فهما إيلاأن في زمانين، لا يدخل حكم أحدهما في الآخر.
فإذا انقضى حكم الأول، ثبت حكم الآخر. وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر، لم يكن مؤلياً؛ لأن كل واحد من الزمانين لا تزيد مدته على أربعة أشهر، ويحتمل أن يكون مؤلياً؛ لأنه ممتنع بيمينه من وطئها مدة متوالية أكثر من أربعة أشهر.
فصل:
وإن قال لأربع نسوة: والله لا أطأكن، انبنى على أصل، وهو: هل يحنث بفعل بعض المحلوف عليه، أم لا؟ فيه روايتان:
إحداهما: يحنث فيكون مؤلياً في الحال منهن؛ لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن، إلا بحنث، فإذا وطئ واحدة، انحلت يمينه؛ لأنها يمين واحدة، فتنحل بالحنث فيها، كما لو حلف على واحدة.(3/158)
وعلى الأخرى: لا يحنث بفعل البعض، فلا يكون مؤلياً في الحال؛ لأنه يمكن وطء كل واحدة بغير حنث. فإذا وطئ ثلاثاً، صار مؤلياً في الرابعة، وابتداء المدة حينئذ. فإن مات بعضهن، أو طلقها انحل الإيلاء؛ لأنه أمكنه وطء الباقيات بغير حنث. وإن قال: والله لا وطئت واحدة منكن، صار مؤلياً في الحال؛ لأنه لا يمكنه الوطء إلا بحنث.
فإن طلق واحدة منهن، أو ماتت، كان مؤلياً من الباقيات؛ لأنه تعلق بكل واحدة منفردة. وإن وطئ واحدة، سقط الإيلاء من الباقيات؛ لأنها يمين واحدة، فإذا حنث مرة، لم يعد الحنث مرة ثانية، وإن نوى واحدة بعينها، كان مؤلياً منها وحدها، ويقبل قوله في ذلك؛ لأن اللفظ يحتمله، وهو أعلم بنيته.
وإن قال: نويت واحدة معينة، قبل؛ لأنه يحتمل ذلك. وقياس المذهب: أن يخرج المؤلي منها بالقرعة، كالطلاق، وذكر القاضي: أن الحكم فيمن أطلق يمينه ولم ينو شيئاً، كذلك، والأول أولى؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فيكون عاماً.
ولو قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن، كان مؤلياً من جميعهن، ولم يقبل قوله: نويت واحدة؛ لأن لفظه لا يحتمل ذلك، وتنحل اليمين بوطء واحدة، لما ذكرنا. فإن طالبن بالفيئة، وقف لهن كلهن. وإن اختلفت مطالبتهن، وقف لكل واحدة عند طلبها؛ لأنه لا يؤخذ بحقها قبل طلبها، وعنه: يوقف لهن جميعهن عند طلب أولاهن؛ لأنها يمين واحدة، فكان الوقف لها واحداً. وإن قال لزوجتيه، كلما وطئت إحداكما فالأخرى طالق. وقلنا بكونه إيلاء، فهو مؤل منهما.
فصل:
فإن قال: والله لا وطئتك، ثم قال للأخرى: شركتك معها، لم يصر مؤلياً من الثانية؛ لأن اليمين بالله، لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم، أو صفة، وهذا كناية. وقال القاضي: يكون مؤلياً منهما. وإن قال: إن أصبتك. فأنت طالق، وقال للأخرى: أشركتك معها ونوى، وقلنا بكونه إيلاء من الأولى، صار مؤلياً من الثانية؛ لأن الطلاق يصح بالكناية. ولو قال: أنت علي كظهر أمي، ثم قال للأخرى: شركتك معها، كان مظاهراً منهما؛ لأن الظهار تحريم، فصح بالكناية كالطلاق. وهل يفتقر إلى نية؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إليها لأن التشريك لا بد أن يقع في شيء يوجب صرفه إلى المذكور كجواب السؤال.
والثاني: يفتقر إليها ذكره أبو الخطاب؛ لأنه ليس صريح في الظهار، فافتقر إلى النية، كسائر كناياته.(3/159)
فصل:
ولا يطالب المؤلي بشيء قبل أربعة أشهر، للآية. وابتداء المدة من حين اليمين؛ لأنها تثبت بالنص والإجماع، فلم تفتقر إلى حاكم، كمدة العدة. فإن كان بالمرأة عذر يمنع الوطء، كصغر أو مرض أو نشوز أو جنون أو إحرام أو صوم فرض، أو اعتكاف فرض، لم يحتسب عليه بمدته؛ لأن المنع منها. وإن طرأ منه شيء، انقطعت المدة؛ لأنها إنما ضربت لامتناع الزوج من الوطء، ولا امتناع منه مع العذر.
ويستأنف المدة عند زوال العذر؛ لأن من شأنها أن تكون متوالية، ويحتسب بمدة الحيض؛ لأنه عذر معتاد لا ينفك منه، فلو قطع المدة، سقط حكم الإيلاء، وكذلك لا يقطع التتابع في الصيام. وفي النفاس وجهان:
أحدهما: هو كالحيض؛ لأنه مثله في أحكامه.
والثاني: هو كالمرض؛ لأنه عذر نادر، أشبه المرض. وإن كان بالزوج عذر، حسبت عليه مدته، ولم يقطع المدة طريانه؛ لأن الامتناع من جهته، والزوجية باقية، فحسبت عليه المدة. وإن آلى من الرجعية، احتسب عليه المدة، ذكره ابن حامد. وإن طرأ الطلاق الرجعي، لم يقطع المدة؛ لأن الرجعية مباحة، ويحتمل أن تنقطع إذا قلنا بتحريمها. وإن طلقها طلاقاً بائناً، انقطعت المدة؛ لأنها حرمت عليه، فإذا تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، استؤنفت المدة، سواء كان الطلاق في المدة، أو بعدها.
فصل:
وإن وطئها، حنث وسقط الإيلاء، لزوال اليمين والضرر عنها، سواء وطئها يقظانة، أو نائمة أو عاقلة أو مجنونة. وهكذا إن وطئها في حيض، أو نفاس، أو إحرام، أو صيام، أو ظهار، لما ذكرنا. وقال أبو بكر: قياس المذهب ألا يخرج من حكم الإيلاء، بالوطء الحرام؛ لأنه لا يؤمر به في الفيئة، فهو كالوطء في الدبر، والأول أولى؛ لأن اليمين تنحل به، فيزول الإيلاء بزوالها. وإن وطئها وهو مجنون، لم يحنث؛ لأن القلم عنه مرفوع، ويسقط الإيلاء؛ لأنه وفاها حقها، ويحتمل ألا يسقط؛ لأن حكم اليمين باق، ولو أفاق، لمنعته اليمين الوطء. وقال أبو بكر: يحنث وينحل الإيلاء؛ لأنه فعل ما حلف عليه. وإن وطئها، ناسياً فهل يحنث؟ على روايتين. أصحهما: لا يحنث. فعلى هذا هل يسقط الإيلاء؟ على وجهين كما ذكرنا في المجنون.
وإن استدخلت ذكره وهو نائم، لم يحنث؛ لأنه ما وطئ، وهل يسقط الإيلاء؟ على وجهين، لما ذكرنا. وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة تغييب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، وإن(3/160)
وطئها في الدبر، أو دون الفرج، لم يعتد به؛ لأن الضرر واليمين لا يزولان به.
فصل:
وإذا وطئ لزمته الكفارة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» متفق عليه. وإن كان الإيلاء بتعليق عتق، أو طلاق، وقع؛ لأنه معلق على شرط قد وجد. وإن كان على نذر، خير بين الوفاء به والتكفير؛ لأنه نذر لجاج، وهذا حكمه.
وإن كان معلقاً على طلاق ثلاث، لم يحل له الوطء؛ لأنه آخره يقع في أجنبية، ويوقع طلاق البدعة من وجهين جمع الثلاث، ووقوعه بعد الإصابة، وذكر القاضي: أن كلام أحمد يقتضي روايتين. فإن وطئ فعليه النزع حين يولج؛ لأن الحنث حصل به فصارت أجنبية، فإذا فعل هذا، فلا حد عليه، ولا مهر؛ لأنه تارك للوطء، وإن لبث أو أتم الإيلاج، فلا حد أيضاً. لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجة، وفي المهر وجهان:
أحدهما: يجب؛ لأنه وطء في محل غير مملوك، أشبه ما لو وطئ بعد النزع.
والثاني: لا يجب؛ لأنه إيلاج في محل مملوك، فكان آخره تابعا له في سقوط المهر، ويلحق النسب به. وإن نزع، ثم أولج وهما عالمان بالتحريم، فهما زانيان زنا لا شبهة فيه، فعليهما الحد، ولا مهر لها إذا كانت مطاوعة. وإن كانت مكروهة، أو جاهلة بالتحريم، فلا حد عليها، ولها عليه المهر. وإن جهلا التحريم معاً، فلا حد، ويجب لها المهر، ويلحقه النسب. وإن قال: إن وطئتك، فأنت علي كظهر أمي، فقال أحمد: لا يطأ حتى يكفر، يريد أنه إذا وطئها مرة، لم يكن له أن يطأها ثانياً، حتى يكفر؛ لأنها تصير محرمة عليه بالظهار، فأما قبل ذلك، فلا يصح منه التكفير؛ لأنه لا يجوز تقديم الكفارة على سببها.
فصل:
وإن انقضت المدة ولم يطأ، فلها المطالبة بالفيئة، أو الطلاق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(3/161)
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فإن سكتت عن المطالبة، لم يسقط حقها، وإن عفت عنها، سقط حقها في أحد الوجهين، كما لو عفت امرأة العنين. والآخر لا يسقط، ولها الرجوع، والمطالبة؛ لأنها ثبتت لدفع الضرر بترك الوطء، وذلك يتجدد مع الأحوال، فأشبه النفقة والقسم وإن طلب الإمهال، ولا عذر له، لم يمهل؛ لأن الحق حال عليه وهو قادر عليه.
وإن كان ناعساً فقال: أمهلوني حتى يذهب النعاس، أو جائعاً فقال: أمهلوني حتى أتغدى، أو حتى ينهضم الطعام، أو حتى أفطر من صيامي، أمهل بقدر ذلك. ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة، كالدين الحال. فإن وطئها، فقد وفاها حقها.
وإن أبى ولا عذر له أمر بالطلاق إن طلبت ذلك، فإن طلق، وقع طلاقه الذي أوقعه، ولا يطالب بأكثر من طلقة؛ لأنها تفضي إلى البينونة، فإن امتنع، طلق الحاكم عليه؛ لأنه حق تعين مستحقه، ودخلته النيابة، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه منه، كقضاء دينه.
وعن أحمد: لا تطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق؛ لأن ما خير فيه بين شيئين، لم يقم الحاكم مقامه فيه، كاختيار إحدى الزوجات إذا أسلم على أكثر من أربع.
فإن قلنا: إن الحاكم يملك الطلاق، فله أن يطلق واحدة أو ثلاثاً؛ لأنه قائم مقام الزوج، فملك ما يملكه. فإن طلق الزوج، أو الحاكم ثلاثاً حرمت عليه، إلا بزوج وإصابة. فإن طلق أحدهما أقل من ثلاث، فله رجعتها. وعن أحمد أنها تكون طلقة بائنة؛ لأنها شرعت لدفع الضرر الحاصل منه، فوجب أن لا يملك رجعتها، كالمختلعة.
وعنه: أن تفريق الحاكم يحرمها على التأبيد؛ لأنه تفريق حاكم، فأشبه فرقة اللعان، والأول أصح؛ لأنه لم يستوف عدد طلاقها، فلم تحرم على التأبيد، كما لو طلق الزوج. وإن قال الحاكم: فرقت بينكما، فهو فسخ للنكاح لا تحل له إلا بنكاح جديد، نص عليه. ومتى وقع الطلاق، ثم ارتجعها، أو تركها ثم انقضت عدتها، ثم تزوجها، أو طلق ثلاثاً فتزوجت غيره، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، وقف لها؛ لأنه ممتنع من وطئها بيمين في حال الزوجية، فأشبه ما لو راجعها. وإن بقي أقل من أربعة أشهر، لم يثبت حكم الإيلاء، لقصوره عن مدته.
فصل:
وإن انقضت المدة وهي حائض، أو نفساء، لم تطالب بالفيئة؛ لأنها لا تستحق الوطء في هذه الحال. وإن كان مغلوباً على عقله، لم يطالب أيضاً؛ لأنه لا يصلح لخطاب، ولا يصح منه جواب، وإن كان مريضاً، أو محبوساً لا يمكنه الخروج، طولب(3/162)
بفيئة المعذور، وهو أن يقول: متى قدرت جامعتها، أو نحو ذلك؛ لأن القصد بالفيئة، ترك ما قصده من الإضرار بما أتى به من الاعتذار، فمتى قدر على الوطء، طولب به؛ لأنه تأخر للعذر. فإن زال العذر، طولب به، كالدين. وهذا اختيار الخرقي. وقال أبو بكر: إذا فاء فيئة المعذور، لم يطالب؛ لأنه فاء مرة، فلم يلزمه فيئة أخرى، كالذي فاء بالوطء، لا يلزمه بالفيئة باللسان كفارة؛ لأنه لم يحنث. وإن كان غائباً لا يمكنه القدوم، لخوف أو نحوه، فاء فيئة المعذور.
وإن أمكنه القدوم، فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها، أو حملها إليه، أو الطلاق، وإن كان محرماً، فاء فيئة المعذور في قول الخرقي لأنه عاجز عن الوطء، أشبه المريض، ويتخرج في الاعتكاف المنذور مثله.
وإن كان مظاهراً، لم يؤمر بالوطء؛ لأنه محرم. ولا يحل الأمر بمعصية الله. ويقال له: إما أن تكفر، وتفيء، وإما أن تطلق، فإن طلب الإمهال، ليطلب رقبة يعتقها، أو طعاماً يشتريه، أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة.
وإن علم أنه قادر على التكفير، وأن قصده المدافعة. لم يمهل؛ لأن الحق حال عليه، وإنما يمهل للحاجة، ولا حاجة. وإن كان فرضه الصيام، لم يمهل حتى يصوم؛ لأنه كثير. وإن كان قد بقي عليه من الصيام مدة يسيرة، أمهل فيها، ويتخرج أن يفيء المظاهر فيئة المعذور، ويمهل ليصوم كالمحرم، فإن أراد الوطء في حال الإحرام، أو الظهار فمنعته، لم يسقط حقها؛ لأنها منعته مما يحرم، فأشبه ما لو منعته في الحيض. وذكر القاضي: أنه يسقط حقها؛ لأنها منعته من إيفائه. وإن انقضت مدة العاجز، لجب، أو شلل، ففيئته: لو قدرت، لجامعتك؛ لأنه لا قدرة له على غير ذلك.
فصل:
ومن طولب بالفيئة فقال: قد وطئتها فأنكرته، فإن كانت ثيباً فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، وعدم ما يوجب إزالته. وهل يحلف؟ على روايتين:
إحداهما: يحلف وهو اختيار الخرقي؛ لأن ما تدعيه المرأة محتمل، فوجب نفيه باليمين.
والأخرى: لا يمين عليه اختاره أبو بكر؛ لأنه لا يقضى فيه بالنكول. وإن كانت بكراً، أريت النساء الثقات، فإن شهدن ببكارتها فالقول قولها؛ لأنه يعلم كذبه، وإلا فالقول قوله. وإن ادعى عجزه عن الوطء، ولم يكن علم أنه عنين، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قوله؛ لأن الأصل سلامته، فيؤمر بالطلاق.
والثاني: يقبل قوله؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته. وإن اختلفا في انقضاء المدة، فالقول قول الزوج؛ لأنه اختلاف في وقت حلفه، فكان القول قوله فيه. وهل يحلف؟(3/163)
على روايتين والله أعلم.
فصل:
وإن ترك الزوج الوطء بغير يمين، فليس بمؤل؛ لأن الإيلاء من شرطه الحلف، فلا يثبت بدونه، لكن إن تركه مضراً بها لغير عذر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بمؤل، فلا يثبت له حكم، كما لو تركه لعذر، ولأن تخصيص الإيلاء بحكمه يدل على أنه لا يثبت بدونه.
والثانية: تضرب له مدة الإيلاء، وتوقف بعدها كالمؤلي سواء؛ لأنه تارك لوطئها مضراً بها، فأشبه المؤلي، ولأن ما لا يجب إذا لم يحلف لا يجب إذا حلف على تركه، كالزيادة على الواجب، وثبوت حكم الإيلاء له، لا يمنع من قياس غيره عليه إذا كان في معناه كسائر الأحكام الثابتة بالقياس، والله أعلم.(3/164)
[كتاب الظهار]
وهو قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو ما أشبهه، وهو محرم؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] ويصح من كل زوج يصح طلاقه؛ لأنه قول يختص النكاح، أشبه الطلاق، إلا الصبي، فلا يصح منه؛ لأنه يمين موجبة للكفارة، أشبه اليمين بالله وقال القاضي: ظهاره كطلاقه، لما ذكرناه أولاً.
ويصح ظهار الذمي؛ لأنه مكلف يصح طلاقه، فصح ظهاره، كالمسلم.
ولا يصح ظهار السيد من أمته، لقول الله تعالى: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] فخص به الزوجات، فإن ظاهر منها، أو حرمها، فعليه كفارة يمين، كما لو حرم طعامه، وعنه: عليه كفارة ظهار. قال أبو الخطاب: ويتوجه ألا يلزمه شيء، كما لو ظاهرت المرأة من زوجها، فإن ظاهر من أجنبية، ثم تزوجها، أو قال: كل امرأة أتزوجها هي علي كظهر أمي، ثم تزوجها، لم تحل له حتى يكفر، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة، فهي علي كظهر أمي، ثم تزوجها قال: عليه كفارة الظهار، ولأنها يمين مكفرة، فصح عقدها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى.(3/165)
فصل:
فإن قال: أنت علي كظهر أمي، أو ظهر من يحرم عليه على التأبيد، كجدته، وسائر ذوات محارمه من النسب، والرضاع، أو المصاهرة، فهو مظاهر؛ لأنه شبَّهها بظهر من هي محل للاستمتاع، تحرم عليه على التأبيد، فكان مظاهراً، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي.
وإن شبهها بمن يحرم في حال دون حال، كأخت زوجته، وعمتها أو الأجنبية، ففيه روايتان:
إحداهما: هي ظهار، اختاره الخرقي وأبو بكر؛ لأنه تشبيه بمحرم عليه، أشبه تشبيهها بالأم.
والأخرى: ليس بظهار؛ لأنه شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد، أشبه تحريمها بالمحرمة والصائمة. وإن قال: أنت عليّ كظهر البهيمة، لم يكن مظاهراً؛ لأنه ليس محلاً للاستمتاع. وإن قال: أنت علي كظهر أبي، ففيه روايتان:
إحداهما: هو ظهار؛ لأنه شبهها بمحل محرم على التأبيد. أشبه التشبيه بظهر الأم.
والأخرى: ليس بظهار؛ لأنه ليس بمحل الاستمتاع، أشبه التشبيه بالبهيمة.
فصل:
فإن قال: أنت عندي، أو معي، أو مني، كظهر أمي، فهو ظهار؛ لأنه تقيد بما يفيده قوله: أنت علي كظهر أمي. وإن شبهها بعضو غير الظهر فقال: أنت علي كفرج أمي، أو يدها، أو رأسها، فهو ظهار؛ لأن غير الظهر، كالظهر في التحريم، فكذلك في الظهار به، وإن شبه عضواً منها بظهر أمه، أو عضواً من أعضائها فقال: ظهرك علي كظهر أمي، أو رأسك علي كرأس أمي، فهو مظاهر؛ لأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فجاز تعليقه على يدها ورأسها، كالطلاق. وما لا يقع الطلاق بإضافته إليه، كالشعر، والسن، والظفر، لا يتعلق الظهار به. لما ذكرنا.
فصل:
فإن قال: أنت علي كأمي، أو مثل أمي، فهو مظاهر. فإن نوى به التشبيه في الكرامة، أو نحوها فليس بظهار؛ لأنه يحتمل مقاله. وعنه: ليس بظهار حتى ينويه؛ لأنه يحتمل غير الظهار، كاحتماله إياه، فليس يصرف إليه إلا بنية، ككنايات الطلاق. وإن قال: أنت كأمي، أو مثلها، فليس بظهار إلا أن ينويه؛ لأنه في غير التحريم أظهر. وقال أبو الخطاب: هي كالتي قبلها، وهكذا يتخرج في قوله: رأسك كرأس أمي، أو يدك(3/166)
كيدها، وما أشبهه، وقياس المذهب، أنه إن وجدت قرينة صارفة إلى الظهار، مثل أن يخرجه مخرج اليمين، كقوله: إن خرجت من الدار، فأنت عندي كأمي، وشبهه، فهو ظهار؛ لأن القرينة صارفة إليه، وإلا لم يكن ظهاراً، لتردد الاحتمالات فيه. وإن قال: أنت حرام كأمي، فهو صريح في الظهار؛ لأنه لا يحتمل سوى التحريم.
فصل:
وإن قال: أنت طالق كظهر أمي، طلقت، ولم يكن ظهاراً؛ لأنه أوقع الطلاق صريحاً، فوقع، وبقي قوله: كظهر أمي، غير متعلق بشيء، فلم يقع. فإن نوى به الطلاق والظهار معاً، فهو ظهار وطلاق. وإن نوى بقوله: أنت طالق: الظهار، لم يكن ظهاراً؛ لأنه صريح في موجبه، فلم ينصرف إلى غيره بالنية، كما لو نوى بقوله: أنت علي كظهر أمي، الطلاق.
[فصل في حكم تأقيت الظهار]
فصل:
ويصح الظهار مؤقتاً، كقوله: أنت علي كظهر أمي شهراً، لما روى سلمة بن صخر قال: «ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة، إذ انكشف منها شيء، فلم ألبث أن نزوت عليها، فانطلقت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته الخبر، فقال: حرر رقبة» رواه أبو داود.
ولأنه يمين مكفرة صح توقيتها، كاليمين بالله تعالى. فإذا مضى الوقت، مضى حكم الظهار. ويجوز تعليقه بشرط، كدخول الدار لذلك، فإذا وجد الشرط، ثبت حكم الظهار، وإن قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، لم يصر مظاهراً لما ذكرناه.
فصل:
وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، لم تكن مظاهرة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فعلقه على الزوج؛ ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة، يملك الزوج رفعه، فاختص الرجل، كالطلاق. وفي وجوب الكفارة ثلاث روايات:
إحداهن: عليها كفارة الظهار، لما روى إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير، فهو علي كظهر أبي، فسألت أهل المدينة، فرأوا: أن عليها(3/167)
الكفارة. رواه الأثرم؛ ولأنها أتت بالمنكر من القول والزور بهذا اللفظ، فلزمتها كفارة الظهار، كالرجل.
والثانية: لا شيء عليها؛ لأنه تشبيه غير ظهار، فلم يوجب الكفارة، كقولها: أنت علي كظهر البهيمة.
والثالثة: عليها كفارة يمين، أومأ إليها بقوله: قد ذهب عطاء مذهباً، جعلها بمنزلة من حرم على نفسه شيئاً من الطعام، وهذا أقيس في مذهبه؛ لأنه تحريم لحلال غير الزوجة، فأوجب كفارة يمين، كتحريم الأمة، وعليها التمكين قبل الكفارة؛ لأنه حق عليها، فلا يسقط بيمينها، ولأنه قول غير الظهار، موجب للكفارة، فأشبه اليمين بالله تعالى.
فصل:
وإذا صح الظهار، ووجد العود، وجبت الكفارة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] والعود: هو الوطء في ظاهر كلام أحمد والخرقي. قال أحمد: العود: هو الغشيان؛ لأن العود في القول فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة، هو استرجاع ما وهب، فالمظاهر: منع نفسه غشيانها، فعوده في قوله: غشيانها.
وقال القاضي وأصحابه: العود: العزم على الوطء؛ لأن الله تعالى أمر بالتكفير عقيب العود قبل التَّماس بقوله سبحانه: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وعلى كلا القولين لا يحل له الوطء قبل التكفير؛ لقوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فإن وطئ قبله، أثم، واستقرت الكفارة عليه، ولم يجب عليه أكثر منها؛ لحديث سلمة حين وطئ، فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكثر من كفارة، وتحريمها باق حتى يكفر، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لسلمة: ما حملك على ما صنعت؟ قال رأيت بياض ساقها في القمر. قال: فاعتزلها حتى تكفر» .
وأما قبل الوطء، فلا كفارة عليه. وإنما أمر بها لكونها شرطاً لحل الوطء، كاستبراء الأمة المشتراة. فإن فات الوطء بموت أحدهما، أو فرقتهما، فلا كفارة عليه لذلك. وإن عاد فتزوجها، لم تحل له، حتى يكفر. وقال أبو الخطاب: إن كانت الفرقة(3/168)
بعد العزم، فعليه الكفارة. وهذا مقتضى قول من وافقه. وقد صرح أحمد بإنكاره، وكذلك قال القاضي: لا كفارة عليه.
فصل:
وفي التلذذ بالمظاهر منها قبل التكفير بما دون الجماع، كالقبلة، واللمس، روايتان:
إحداهما: يحرم؛ لأن ما حرم الوطء من القول، حرم دواعيه، كالطلاق.
والثانية: لا تحرم؛ لأنه تحريم يتعلق بالوطء، فيه كفارة، فلم يتجاوز الوطء، كتحريم الحيض؛ ولأن المسيس هنا كناية عن الوطء، فيقتصر عليه.
فصل:
وإذا ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات، فعليه لكل واحدة كفارة؛ لأنها أربع أيمان في محالّ مختلفة، فأشبه ما لو وجدت في أربعة أنكحة. قال ابن حامد والقاضي: هذا المذهب رواية واحدة.
وقال أبو بكر: فيه رواية أخرى: يجزئه كفارة واحدة؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ولأن الكفارة حق الله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد.
وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة، فكفارة واحدة، رواية واحدة، لما روى ابن عباس: أن عمر سئل عن رجل ظاهر من نسوة، فقال: يجزئه كفارة واحدة؛ ولأنها يمين واحدة فلم توجب أكثر من كفارة، كاليمين بالله تعالى.
وإن ظاهر من امرأة مراراً ولم يكفر، فكفارة واحدة في ظاهر المذهب؛ لأن اليمين الثانية لم تؤثر تحريماً في الزوجة، فلم يجب بها كفارة الظهار، كاليمين بالله.
وعن أحمد: ما يدل على أنه إن نوى بالثانية الاستئناف، وجب بها كفارة ثانية؛ لأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة، فإذا نوى به الاستئناف، تعلق به حكم، كالطلاق، والمذهب الأول.
فأما إن كفر عن الأولى، فعليه للثانية كفارة واحدة رواية واحدة؛ لأنها أثبتت في المحل تحريماً، أشبهت الأولى. وإن قال: كل امرأة أتزوجها، فهي علي كظهر أمي، ثم تزوج نساء في عقد واحد، فكفارة واحدة.
وإن تزوجهن في عقود، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين واحدة. والأخرى: لكل عقد كفارة. فلو تزوج امرأتين في عقد، وأخرى في عقد، لزمته كفارتان؛ لأن لكل عقد حكم نفسه، فتعلق بالثاني كفارة، كالأول.
فصل:
وإن ظاهر من زوجته الأمة، ثم ملكها، فقال الخرقي: لا يطؤها حتى يكفر، يعني: كفارة الظهار؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] .(3/169)
وقال أبو بكر: عليه كفارة يمين لا غير؛ لأنها خرجت عن الزوجات، فلم يجب بوطئها كفارة ظهار، كما لو تظاهر منها وهي أمة، فإن أعتقها عن كفارته، جاز. فإذا تزوجها بعد ذلك، لم يعد حكم الظهار. والله تعالى أعلم.
[باب كفارة الظهار]
. الواجب فيها تحرير رقبة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] . وروى أبو داود بإسناده عن خولة بنت مالك بن ثعلبة. قالت: «تظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، فما برحت حتى نزل القرآن. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يعتق رقبة قلت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين قلت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكيناً» فمن ملك رقبة، أو مالاً يشتري به رقبة، فاضلاً عن حاجته لنفقته وكسوته ومسكنه، وما لا بد له من مؤنة عياله ونحوه، لزمه العتق؛ لأنه واجد، فإن كانت له رقبة لا يستغني عن خدمتها لكبره أو لمرضه، أو لكونه ممن لا يخدم نفسه، أو يحتاج إليها لخدمة زوجته التي يلزمه إخدامها، أو يتقوت بغلتها، أو يتعلق بها حاجة لا بد منها، لم يلزمه عتقها؛ لأن ما تستغرقه حاجته، كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل، كمن معه ماء يحتاج إليه للعطش في التيمم، فإن كانت فاضلة عن حاجته الأصلية، لزمه عتقها؛ لأنه مستغن عنها فإن كان ماله غائباً، ففيه وجهان:
أحدهما: له التكفير بالصيام؛ لأن عليه ضرراً في تحريم الوطء إلى حضور المال، فكان له الصوم كالمعسر.
والثاني: لا يجزئه إلا العتق؛ لأنه مالك لما يشتري به رقبة، ولأنه فاضل عن كفايته. ولو كان ذلك في كفارة القتل والجماع، لم يكن له التكفير بالصيام؛ لأنه قادر على التكفير بالعتق من غير ضرر، فلزمه، كمن ماله حاضر، ويحتمل أن يجوز له الصوم؛ لأنه عاجز في الحال فأشبه المظاهر.(3/170)
فصل:
والاعتبار بحال وجوب الكفارة في أظهر الروايتين؛ لأنها تجب على وجه التطهير، فاعتبر فيها حال الوجوب، كالحد.
والثانية: الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى الأداء، فأي وقت قدر على العتق، لزمه؛ لأنه حق يجب في الذمة، بوجود المال، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال، كالحج. فإن لم يقدر حتى شرع في الصيام، لم يلزمه الانتقال إلى العتق؛ لأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل، فأشبه المتمتع يجد الهدي بعد الشروع في الصيام.
وإن أحب الانتقال إليه بعد ذلك أو قبله على الرواية الأولى، فله ذلك؛ لأنه الأصل، فيجزئه كسائر الأصول، إلا العبد إذا أعتق بعد وجوب الكفارة عليه، فليس له إلا الصوم؛ لأنه لم يكن يجزئه غيره عند الوجوب، فكذلك بعده.
[فصل في شروط الرقبة في كفارة الظهار]
فصل:
ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . نص على المؤمنة في كفارة القتل، وقسنا عليها سائر الكفارات؛ لأنها في معناها. وعنه: يجزئه في سائر الكفارات ذمية، لإطلاق الرقبة فيها.
فصل:
ولا يجزئ إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضرراً بيناً؛ لأن المقصود تمليك العبد منفعته، وتمكينه من التصرف، ولا يحصل هذا مع العيب المذكور، فلا يجزئ الأعمى؛ لأنه يعجز عن الأعمال التي يحتاج فيها إلى البصير، ولا الزمن، ولا مقطوع اليد أو الرجل؛ لأنه يعجز عن أعمال كثيرة، ولا مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى من اليد؛ لأن نفعها يبطل بهذا، ولا مقطوع الخنصر والبنصر في يد واحدة كذلك، وقطع أنملتين من أصبع كقطعها؛ لأن نفعها يذهب بذلك، ولا يمنع قطع أنملة واحدة؛ لأنها تصير كالإصبع القصيرة إلا الإبهام، فإنها أنملتان، فذهاب إحداهما كقطعها، لذهاب نفعها، وإن قطعت الخنصر من يد، والبنصر من أخرى، لم يمنع؛ لأن نفع اليد لا يبطل به. ولا يجزئ الأعرج عرجاً فاحشاً؛ لأنه يضر بالعمل، فهو كقطع الرجل، فإن كان عرجاً يسيراً، أجزأ؛ لأنه لا يضر ضرراً بيناً.
ولا يجزئ الأخرس الذي لا تفهم إشارته، فإن فهمت إشارته، فالمنصوص أن الأخرس لا يجزئ. وقال القاضي وأبو الخطاب: يجزئ، إلا أن يجتمع معه الصمم، فإنهما إذا اجتمعا أضرا ضرراً بيناً.(3/171)
ولا يجزئ المجنون جنوناً مطبقاً؛ لأنه لا يصلح لعمل، ولا من أكثر زمنه الجنون؛ لأنه يعجز عن العمل في أكثر زمنه، فإن كان أكثره الإفاقة، ولا يمنعه من العمل، أجزأ لعدم الضرر البين.
فصل:
ويجزئ الأعور؛ لأنه يدرك ما يدركه ذو العينين، وأجدع الأنف والأذنين والأصم؛ لأنه كغيره في العمل. ويجزئ الخصي والمجبوب كذلك، ويجزئ المرهون والجاني والمدبر وولد الزنا كذلك، ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ ويعتقد خطأه صواباً.
ويجزئ المريض الموجو برؤه، والنحيف القادر على العمل، فأما ما لا يرجى برؤه، أو لا يقدر على العمل فلا يجزئ؛ لأنه لا عمل فيه. ويجزئ عتق الغائب، المعلوم حياته؛ لأنه ينتفع بنفسه حيث كان، وإن شك في حياته، لم تبرأ ذمته؛ لأن الوجوب ثابت بيقين، فلا يزول بالشك، فإن تبين أنه كان حياً، تبينا أن الذمة برئت بعتقه.
فصل:
ولا يجزئ عتق الجنين؛ لأنه لم يثبت له أحكام الرقاب، فإن أعتق صبياً، فقال الخرقي: لا يجزئه حتى يصلي ويصوم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ولأنه لا يصح منه عبادة، لفقد التكليف، فلم يجزئ في الكفارة كالمجنون.
وقال القاضي: لا يجزئ من له دون السبع في ظاهر كلام أحمد، وقال في موضع آخر: يجزئ عتق الصغير في جميع الكفارات، إلا كفارة القتل، فإنها على روايتين. وقال أبو بكر وغيره: يجزئ الطفل في جميع الكفارات؛ لأنه ترجى منافعه وتصرفه، فأجزأ كالمريض المرجو. ولا يجزئ عتق مغصوب؛ لأنه ممنوع من التصرف في نفسه، فأشبه الزمن.
فصل:
ولا يجزئ عتق أم الولد في ظاهر المذهب؛ لأن عتقها مستحق بسبب آخر، فلم يجزئ كعتق قريبه، ولأن الرق فيها غير كامل، بدليل أنه لا يملك نقل ملكه فيها، وعنه: تجزئ؛ لأنها رقبة، فتتناول الآية بعمومها. وفي المكاتب ثلاث روايات:
إحداهن: يجزئ مطلقاً.
والأخرى: لا يجزئ مطلقاً، ووجهها ما ذكرنا.
والثالثة: إن أدى من كتابته شيئاً، لم يجزئ؛ لأنه حصل العوض عن بعضها، فلم يعتق رقبة كاملة، وإن لم يؤد شيء أجزأ؛ لأنه لم يقتض عن شيء منها، أشبه المدبر.(3/172)
فصل:
وإن اشترى من يعتق عليه ينوي بشرائه العتق عن الكفارة، عتق ولم يجزئه؛ لأن عتقه مستحق في الكفارة، فلم يجزئه، كما لو استحق عليه الطعام في النفقة، فدفعه عن الكفارة. وإن اشترى عبداً بشرط العتق، فأعتقه عن الكفارة، لم يجزه كذلك، ولو قال: إن وطئتك فعلي أن أعتق عبدي، ثم وطئها وأعتق العبد عن ظهاره، أجزأه؛ لأنه لم يتعين عتقه عن الإيلاء، بل هو مخير بين عتقه، وبين كفارة يمين.
فصل:
ولو ملك نصف عبد وهو موسر، فاعتق نصيبه، ونوى عتق الجميع عن كفارته، لم يجزئه في قول الخلال وصاحبه، وحكاه صاحبه عن أحمد؛ لأن عتق النصيب الذي لشريكه استحق بالسراية، فلم يجزئه، كما لو اشترى قريبه ينوي به التكفير. وقال غيرهما: يجزئ؛ لأن حكم السراية حكم المباشرة، بدليل أنه لو جرحه فسرى إلى نفسه، كان كمباشرة قتله، وإن كان معسراً عتق نصيبه، فإن ملك النصف الآخر فأعتقه عن الكفارة، أجزأه؛ لأنه أعتق جميعه في وقتين، فأجزأ، كما لو أطعم المساكين في وقتين.
وإن أعتق نصف عبدين، فقال الخرقي: يجزئ؛ لأن أبعاض الجملة كالجملة في الزكاة والفطرة، كذلك في الكفارة. وقال أبو بكر: لا يجزئ؛ لأن المقصود تكميل الأحكام، ولا يحصل بإعتاق نصفين، فعلى قوله، إذا أعتق الموسر نصف عبد، عتق جميعه، ولا يجزئه إعتاق نصف آخر.
فإن أعتق عبده عن كفارة غيره بغير إذنه، لم يجزئه؛ لأنها عبادة، فلم تجز عن غيره بغير أمره مع كونه من أهل الأمر، كالحج، إلا أن يكون ميتاً، فيجزئ عنه؛ لأنه لا سبيل إلى إذنه، فصح من غير إذنه، كالحج عنه.
وإن أعتقه عن كفارة حي بأمره، صح، وأجزأ عن الكفارة إذا نواها؛ لأنه أعتق عنه بأمره، فأجزأه، كما لو ضمن له عوضاً وعنه: لا يجزئ إلا أن يضمن له عوضاً؛ لأن العتق بغير عوض كالهبة، ومن شرطها القبض، ولم يحصل.
[فصل الصيام في كفارة الظهار]
فصل:
ومن لم يجد رقبة وقدر على الصيام، لزمه صيام شهرين متتابعين، فإن شرع في أول شهر، أجزأه صيام شهرين بالأهلة، تامين كانا، أو ناقصين، وإن دخل في أثناء شهر، صام شهراً بالهلال، وأتم الشهر الذي دخل فيه بالعدد ثلاثين يوماً لما ذكرنا فيما تقدم.
فإن أفطر يوماً لغير عذر، لزمه استئناف الشهرين؛ لأنه أمكنه التتابع، فلزمه. وإن حاضت المرأة أو نفست، أو أفطرت لمرض مخيف، أو جنون، أو إغماء، لم ينقطع التتابع؛ لأنه لا صنع لها في الفطر. وإن أفطر لسفر، فظاهر كلام أحمد: أنه لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر، أشبه المرض. ويتخرج في السفر والمرض غير(3/173)
المخوف، أنه يقطع التتابع؛ لأنه أفطر باختياره، فقطع التتابع، كالفطر لغير عذر. وإن أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما، فهما كالمريض، وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما، احتمل أن لا ينقطع التتابع؛ لأنه عذر مبيح للفطر، أشبه المرض، واحتمل أن ينقطع؛ لأن الخوف على غيرهما، ولذلك أوجب الكفارة مع قضاء رمضان.
ومن أكل يظن أن الفجر لم يطلع، وقد طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب، أفطر. وفي قطع التتابع، وجهان، بناء على ما تقدم وإن نسي التتابع، أو تركه جاهلاً بوجوبه، انقطع؛ لأنه تتبع واجب، فانقطع بتركه جهلاً أو نسياناً، كالموالاة في الطهارة.
وإن أفطر يوم فطر أو أضحى، أو أيام التشريق، لم ينقطع به التتابع؛ لأنه فطر واجب أشبه الفطر للحيض، ويكمل الشهر الذي أفطر فيه يوم الفطر ثلاثين يوماً؛ لأنه بدأ من أثنائه. وإن صام ذا الحجة، قضى أربعة أيام، وحسب بقدر ما أفطر؛ لأنه بدأ من أوله. وإن قطع صوم الكفارة بصوم رمضان، لم ينقطع التتابع؛ لأنه زمن منع الشرع صومه في الكفارة، أشبه زمن الحيض. وإن صام أثناء الشهرين عن نذر، أو قضاء، أو تطوعاً، انقطع التتابع؛ لأنه قطع صوم الكفارة اختياراً لسبب من جهته، فأشبه ما لو أفطر لغير عذر.
وإن كان عليه نذر في كل يوم خميس، قدم صوم الكفارة عليه، وقضاه بعدها وكفر؛ لأنه لو صام، لم يمكنه التكفير بحال.
فصل:
وإن وطئ التي ظاهر منها في ليالي الصوم، لزمه الاستئناف، لقول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . أمر بهما خاليين عن التماس، ولم يوجد، وعنه: لا ينقطع التتابع؛ لأنه وطء لا يفطر به. فلم يقطع التتابع، كوطء غيرها، وإن وطئ غيرها ليلاً، لم ينقطع التتابع؛ لأنه غير ممنوع منه، وإن وطئها نهاراً ناسياً أفطر، وانقطع التتابع وعنه: لا يفطر ولا ينقطع التتابع به.
[فصل الإطعام في كفارة الظهار]
فصل:
ومن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض غير مرجو الزوال، أو شبق شديد أو نحوه، لزمه إطعام ستين مسكيناً؛ لأن سلمة بن صخر لما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشدة شبقه، أمره بالإطعام، وأمر أوس بن الصامت بالإطعام حين قالت امرأته: إنه شيخ كبير ما به من صيام. فإن قدر على ستين مسكيناً لم يجزئه أقل منهم، وعنه: يجزئه ترديد الإطعام على واحد ستين يوماً؛ لأنه في معنى إطعام ستين مسكيناً، لكونه قد دفع في كل يوم حاجة مسكين، وعنه: لا يجزئه إلا إطعام ستين مسكيناً، سواء وجدهم أو لم يجدهم،(3/174)
لظاهر قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . والمذهب أن ذلك يجزئ مع تعذر المساكين للحاجة، ولا يجزئ مع وجودهم؛ لأنه أمكن امتثال الأمر بصورته ومعناه.
فصل:
والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير، لما روى الإمام أحمد: بإسناده عن أبي يزيد المدني قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر» وهذا نص، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام، فكان منها لكل فقير من التمر نصف صاع، كفدية الأذى. وأما المد من البر، فيجزئ؛ لأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويجب أن يملك كل فقير هذا القدر، فإن دفعه إليهم مشاعاً، فقال: هذا بينكم بالسوية، فقبلوه، أجزأه لأنه دفع إليهم حقهم، فبرئ منه كالدين.
وقال ابن حامد: يجزئه، وإن لم يقل بالسوية؛ لأن قوله: عن كفارتي يقتضي التسوية، وإن غداهم أو عشاهم ستين مداً، ففيه روايتان:
أحدهما: يجزئ لقول الله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . وهذا قد أطعمهم، ولأن أنساً فعل ذلك، وظاهر المذهب أنه لا يجزئ؛ لأنه لا يعلم وصول حق كل فقير إليه، ولأنه حق وجب للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إياه كالزكاة، ولا يجب التتابع في الإطعام لأن الأمر به مطلق لا تقييد فيه.
فصل:
ويجزئه في الإطعام ما يجزئه في الفطرة، سواء كانت قوت بلده أو لم تكن، وإن أخرج غيرها من الحبوب التي هي قوت بلده أجزأه، ذكره أبو الخطاب، لقول الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، فإن أخرج غير قوت بلده، خيراً منه، جاز لأنه زاد على الواجب، وإن كان أنقص منه، لم يجزئ وقال القاضي: لا يجزئ إخراج غير ما يجزئ في الفطرة لأنه إطعام للمساكين، فأشبه الفطرة، والأول أجود، لموافقته ظاهر النص، ويجوز إخراج الدقيق إذا بلغ قدر مد من الحنطة، وفي الخبز روايتان:
إحداهما: يجزئه، لقول الله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . ومخرج الخبز قد أطعمهم، والأخرى لا يجزئه؛ لأنه قد خرج عن حال الكمال، والادخار، فأشبه(3/175)
الهريسة، فإذا قلنا: يجزئه، اعتبر أن يكون من مد بر فصاعداً، فإن أخذ مد حنطة فطحنه وخبزه، أجزأه. وقال الخرقي: لكل مسكين رطلا خبز؛ لأن الغالب أنهما لا يكونان إلا من مد فأكثر، وفي السويق وجهان، بناء على الروايتين في الخبز، ولا تجزئ الهريسة والكبولاء؛ لأنه خرج عن الاقتيات المعتاد، ولا القيمة؛ لأنه أحد ما يكفر به، فلم تجزئ القيمة فيه، كالعتق.
فصل:
ولا يجوز صرفها إلا إلى الفقراء، والمساكين؛ لأنهما صنف واحد في غير الزكاة، ولا يجوز دفعها إلى غني، وإن كان من أصناف الزكاة؛ لأن الله تعالى، خص بها المساكين، ولا إلى مكاتب كذلك، وقال الشريف أبو جعفر: يجوز دفعها إليه؛ لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته، فأشبه المسكين، والأول أولى؛ لأن الله تعالى خص بها المساكين، والمكاتب صنف آخر، فأشبه المؤلفة. ولا يجوز دفعها إلى من لا يجوز دفع الزكاة إليه، كالعبد والكافر، ومن تلزمه مؤنته لما ذكرنا في الزكاة. وخرج أبو الخطاب وجهاً آخر، في جواز الدفع إلى الكافر، بناء على عتقه، ولا يصح؛ لأنه كافر، فلم يجز الدفع إليه كالمستأمن.
فصل: ولا تجزئ كفارة إلا بالنية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأنه حق يجب على سبيل الطهرة، فافتقر إلى النية كالزكاة، فإن كانت عليه كفارات من جنس، لم يلزمه تعيين سببها، وإن كانت من أجناس، فكذلك؛ لأنها كفارات، فلم يجب تعيين سببها، كما لو كانت من جنس، وقال القاضي: يحتمل أن يلزمه تعيين سببها؛ لأنها عبادات من أجناس، فوجب تعيين النية لها، كأنواع الصيام، فلو كانت عليه كفارة لا يعلم سببها، فأعتق رقبة، أجزأه على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني، ينبغي أن تلزمه كفارات بعدد الأسباب، كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، ولا يلزم نية التتابع في الصيام؛ لأن العبادة هي الصوم، والتتابع شرط فيه، فلم تجب نيته، كالاستقبال في الصلاة.
فصل:
وإن كان المظاهر كافراً، كفر بالعتق والإطعام؛ لأنه يصح منه من غير الكفارة، فصح منه فيها، ولا يكفر بالصوم؛ لأنه لا يصح منه في غيرها، فكذلك فيها، وإن أسلم(3/176)
قبل التكفير، كفر بما يكفر به المسلمون.
فصل:
ولا يجوز تقديم الكفارة على سببها؛ لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه، كتقديم الزكاة قبل الملك، ولو كفر عن الظهار قبل المظاهرة، أو عن اليمين قبلها، أو عن القتل قبل الجرح، لم يجز كذلك، وإن كفر بعد السبب، وقبل الشرط، جاز، فإذا كفر عن الظهار بعده وقبل العود، وعن اليمين بعدها وقبل الحنث، وعن القتل بعد الجرح وقبل الزهوق؛ جاز؛ لأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير» ولأنها كفارة فجاز تقديمها على شرطها، ككفارة الظهار، ولأنه حق مالي، فجاز تقديمه قبل شرطه، كالزكاة.(3/177)
[كتاب اللعان]
. ومتى قذف الرجل زوجته المحصنة بزنى، في قبل أو دبر، فقال: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين، لزمه الحد، إلا أن يأتي ببينة، أو يلاعنها، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] . دلت الآية الأولى على وجوب الحد، إلا أن يسقطه بأربعة شهداء.
والثانية: على أن لعانه يقوم مقام الشهداء في إسقاط الحد، وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ(3/178)
ظهري من الحد، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] » . رواه البخاري. ولأن الزوج يبتلي بقذف امرأته، لنفي العار والنسب الفاسد، وتتعذر عليه البينة، ولأنه قد يحتاج إلى نفي النسب الفاسد، ولا ينتفي إلا باللعان، لتعذر الشهادة على نفيه، وله الملاعنة، وإن قدر على البينة كذلك، ولأنهما حجتان، فملك إقامة أيهما شاء، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.
فصل:
ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته؛ لأن الحق لها، فلا يستوفى من غير طلبها، كالدين، فإن عفت عن الحد، أو لم تطالب، لم تجز مطالبته ببينة ولا حد ولا لعان، ولا يملك ولي المجنونة، والصغيرة وسيد الأمة، المطالبة بالتعزيز من أجلهن؛ لأنه حق ثبت للتشفي، فلا يقوم غير المستحق مقامه فيه، كالقصاص. فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، وليس بينهما نسب يريد نفيه، لم يملك ذلك؛ لأنه لا حاجة إليه، وإن كان بينهما نسب يريد نفيه، فله أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه، فيشرع كما لو طالبته، ولأن نفيه حق له، فلا يسقط برضاها به ويحتمل ألا يشرع اللعان، كما لو صدقته.
[فصل في شروط المتلاعنين]
فصل:
ويصح اللعان بين كل زوجين مكلفين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء عقوبة القذف، ونفي النسب الباطل، والكافر والعبد كالمسلم الحر فيه، وعنه: لا يصح اللعان إلا بين مسلمين، عدلين حرين غير محدودين في قذف؛ لأن اللعان شهادة، بدليل قول الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة، وقال القاضي: من لا يحد بقذفها كالذمية والأمة، والمحدودة في الزنا، إن كان بينهما ولد يريد نفيه، فله اللعان لنفيه؛ لأنه محتاج إليه، وإلا فلا لعان بينهما لأن اللعان لإسقاط حد، أو نفي نسب، ولم يوجد واحد منهما. وإن كان أحد الزوجين صبياً، أو مجنوناً، فلا لعان بينهما؛ لأن غير المكلف لا حكم لقوله، ونفي حكم الولد، إنما يحصل بتمام اللعان، ولا يتم اللعان مع عدم القول منها. وقال القاضي: له لعان المجنونة، إن كان ثم نسب يريد نفيه؛ لأنه محتاج إليه، فإن كان أحدهما أخرس وليست له إشارة مفهومة، ولا كتابة، فهو كالمجنون. لأنه لا يعلم طلبها، ولا يتصور لعانهما. وإن كان له إشارة(3/179)
مفهومة، أو كتابة، صح اللعان منهما؛ لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكذلك في لعانه، وعن أحمد: إذا كانت المرأة خرساء، فلا لعان بينهما؛ لأنه لا يعلم طلبها، فيحتمل أن يحمل على عمومه في كل خرساء؛ لأن إشارتها لا تخلو من تردد واحتمال.
والحد يدرأ بالشبهة، ويحتمل أن يختص بمن لا تفهم إشارتها؛ لأنه علل بأنه لا تفهم مطالبتها. وإن اعتقل لسان الناطق، وأيس من نطقه، فهو كالأخرس، وإن رجي نطقه، لم يصح لعانه؛ لأنه غير مأيوس من نطقه، فأشبه الساكت.
فصل:
ويصح اللعان بين الزوجين قبل الدخول، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] . وبعد الطلاق الرجعي؛ لأن الرجعية زوجته، فتدخل في العموم، ولا يصح من غير الزوجين، للآية. فإن قذف من كانت زوجته، فبانت منه بزنا، لم يضفه، إلى حال الزوجية، فلا لعان بينهما؛ لأنه قذف أجنبية، وإن أضافه إلى حال الزوجية، وبينهما ولد يريد نفيه، لاعن لنفيه؛ لأنه محتاج إليه فصح منه، كحال الزوجية.
وإن لم يكن بينهما ولد، حد، ولم يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إليه، فأشبه قذف الأجنبية. ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا زانية، فنص أحمد: على أنه يلاعن، فنحمله على من بينهما ولد؛ لأنه يتعين إضافة قذفها إلى حال الزوجية. ولو نكح امرأة نكاحاً فاسداً ثم قذفها، فالحكم فيها كالمطلقة. إن كان بينهما ولد، لاعن لنفيه، وإلا فلا؛ لأن النسب يلحق في النكاح الفاسد، فيحتاج إلى اللعان لنفيه، وإن قذف أجنبية ثم تزوجها، حد، ولم يلاعن؛ لأنه قذف أجنبية قذفاً لا حاجة به إليه. وإن قذفها بزنا، أضافه إلى ما قبل النكاح. فإن كان يتعلق به نفي نسب عنه، فله اللعان، وإلا فلا. ونقل عن أحمد في هذا روايتان:
إحداهما: لا يلاعن؛ لأنه قذفها في حال كونها أجنبية، أشبه ما لو قذفها قبل نكاحه لها.
والثانية: يشرع اللعان؛ لأنه قذف زوجته.
[باب صفة اللعان]
. وصفته: أن يقول الرجل بمحضر من الحاكم أو نائبه: أشهد بالله إني لمن الصادقين، فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، وإن(3/180)
كانت غائبة سماها، ونسبها حتى تنتفي المشاركة، ثم يقول: وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت فيه زوجتي هذه من الزنا، ثم تقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، فإن كان غائباً سمته، ونسبته، ثم تقول: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] . الآيات.
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فجاءت، فتلا عليهم آية اللعان، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاعنوا بينهما فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة، أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة، وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما وقضى أن لا بيت لها من أجل أنهما يتفرقان عن غير طلاق، ولا متوفى عنها» .
[فصل في شروط صحة اللعان]
فصل:
وشروط صحة اللعان ستة:
أحدها أن يكون بمحضر من الحاكم، أو نائبه؛ لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم، كسائر الدعاوى، وإن كانت المرأة برزة أرسل إليها فأحضرها، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بامرأة هلال. وإن لم تكن برزة، بعث من يلاعن بينهما، كما يبعث من يستخلفها في سائر الدعاوى.(3/181)
الثاني: أن يأتي به بعد إلقائه عليه، فإن بادر به قبل ذلك، لم يعتد به، كما لو حلف قبل أن يستحلفه الحاكم.
الثالث: كمال لفظاته الخمس. فإن نقص منها شيئاً، لم يعتد به لأن الله علق الحكم عليها، فلا يثبت بدونها، ولأنها بينة، فلم يجز النقص من عددها، كالشهادة.
الرابع: الترتيب على ما ورد به الشرع. فإن بدأ بلعان المرأة، لم يعتد به؛ لأنه خلاف ما ورد به الشرع، ولأن لعان الرجل بينة، للإثبات، ولعان المرأة بينة للإنكار، فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات. فإن قدم الرجل اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة، أو المرأة الغضب على شيء منها، لم يعتد بها؛ لأن الله تعالى جعلها الخامسة، فلا يجوز تغييره.
الخامس: الإتيان بصورة الألفاظ الواردة في الشرع، فإن أبدل الشهادة ببعض ألفاظ اليمين، كقوله: أقسم، أو أحلف، أو أولي، أو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط، أو غيره، لم يعتد به؛ لأنه ترك المنصوص، ولأنه موضع ورد الشرع فيه بلفظ الشهادة، فلم يجز إبداله، كالشهادة في الحقوق. وفيه وجه آخر: أنه يجزئ؛ لأن معناهما واحد.
وقال الخرقي: يقول الرجل: أشهد بالله لقد زنت، وليس هذا لفظ النص، فيدل ذلك على أنه لم يشترط اللفظ. وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة، لم يجز؛ لأن الغضب أغلظ، ولذلك خصت به المرأة؛ لأن المعرة والإثم بزناها أعظم من الحاصل بالقذف. وإن أبدل الرجل اللعنة بالغضب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، لمخالفته المنصوص.
والثاني: يجوز؛ لأنه أبلغ في المعنى.
السادس: الإشارة من كل واحد إلى صاحبه، إن كان حاضراً. أو تسميته ونسبه بما يتميز به إن كان غائباً، ليحصل التميز عن غيره. وقال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الفقهاء يشترطون أن يزاد: فيما رميتها به من الزنا، وفي نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا، ولا أراه يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا، ولم يأت بالخبر في صفة اللعان عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاشتراطه زيادة.
فصل:
ويشترط في اللعان: العربية لمن يحسنها، ولا يصح بغيرها؛ لأن الشرع ورد به بالعربية، فلم يصح بغيرها، كأذكار الصلاة. وإن لم يحسن العربية، جاز بلسانه؛ لأنه(3/182)
يحتاج إليه، فجاز بلسانه، كالنكاح. فإن عرف الحاكم لسانه، أجزأ، وإن لم يعرف لسانه، أحضر عدلين يترجمان عنه، ولا يقبل أقل منهما؛ لأنه بمنزلة الشهادة عليه.
فصل:
فإن كان بينهما ولد يريد نفيه، لم ينتف إلا بذكره في اللعان. فإن لم يذكره، أعاد اللعان، هذا ظاهر قول الخرقي، واختاره القاضي. وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى ذكره، وينتفي بزوال الفراش؛ لأن حديث سهل بن سعد وصف فيه اللعان، ولم يذكر فيه الولد. وقال فيه: «ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى، ولا يرمى ولدها» . رواه أبو داود.
والأول أصح؛ لأن ابن عمر قال: «لاعن رجل امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» متفق عليه والزيادة في الثقة مقبولة.
ولأن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه، كالزوجة. وتذكره المرأة في لعانها؛ لأنهما يتحالفان عليه، فاشترط ذكره في تحالفهما، كالمختلفين في الثمن، ويحتمل أن لا يشترط ذكرها له لأنها لا تنفيه.
والأول المذهب. ولا بد من ذكره في كل لفظة، فإذا قال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، يقول: وما هذا الولد ولدي، وتقول هي: وهذا الولد ولده، في كل لفظة. وذكر القاضي: أنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا وليس مني، لئلا يعني بقوله: ليس مني خلقاً وخلقاً، ولا يكفيه قوله: هو من زنا؛ لأنه قد يعتقد الوطء في النكاح الفاسد زنا، والصحيح الأول؛ لأنه نفى الولد، فينتفي عنه كما لو قال ذلك.
[فصل ما يسن في اللعان]
فصل:
ويسن في اللعان أربعة أمور:
أحدها: أن يتلاعنا قياماً؛ لأن في بعض ألفاظ حديث ابن عباس، فقام هلال، فشهد، ثم قامت فشهدت، ولأن فعله في القيام أبلغ في الردع.
الثاني: أن يكون بمحضر من جماعة؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد، حضروه مع حداثة أسنانهم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يحضر الصبيان تبعاً للرجال،(3/183)
ولأن اللعان بني على التغليظ، للردع والزجر، وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك.
والثالث: أن يعظهما الحاكم بعد الرابعة ويخوفهما، كما جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عباس.
والرابع: أن يضع رجل يده على فيّ الملاعن بعد الرابعة، يمنعه المبادرة إلى الخامسة، إلى أن يعظه الحاكم، ثم يرسلها، وتفعل امرأة بالملاعنة بعد رابعتها كذلك، لما روى ابن عباس في خبر المتلاعنين قال: «فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم أمر به فأمسك على فيه، فوعظه وقال: ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله، ثم أرسل فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعا بها فقرأ عليها، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها، وقال: ويلك كل شيء أهون عليك من غضب الله» . أخرجه الجوزجاني.
فصل:
ولا يسن التغليظ بزمن ولا مكان؛ لأنه لم يرد به أثر، ولا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما دل الحديث على أن لعانهما كان في صدر النهار، لقوله في الحديث: فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث. والغدو إنما يكون أول النهار. وقال أبو الخطاب: يستحب التغليظ بهما، فيتلاعنان بعد العصر، لقول الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] يعني: بعد العصر، ويكون في الأماكن الشريفة عند المنابر في الجامع، إلا في مكة بين الركن والمقام، وفي المسجد الأقصى عند الصخرة؛ لأنه أبلغ في الردع والزجر، ولله الحمد والمنة.
[باب ما يوجب اللعان من الأحكام]
. وهي أربعة أحكام:
أحدها: سقوط الحد، أو التعزير الذي أوجبه القذف؛ لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، ولأن شهادته أقيمت مقام بينة مسقطة للحد، كذلك لعانه، ويحصل هذا بمجرد لعانه كذلك. وإن نكل عن اللعان، أو عن(3/184)
تمامه، فعليه الحد. فإن ضرب بعضه، ثم قال: أنا ألاعن، سمع ذلك منه؛ لأن ما أسقط جميع الحد، أسقط بعضه، كالبينة. ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها، سمعت منها كالرجل. وإن قذف امرأته برجل سماه، سقط حكم قذفه بلعانه، وإن لم يذكره فيه؛ لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك بن سحماء، ولم يذكره في لعانه، ولم يحده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عزره له. ولأن اللعان بينة في أحد الطرفين، فكان بينة في الآخر كالشهادة. وقال أبو الخطاب: يلاعن، لإسقاط الحد لها وللمسمى.
فصل:
الحكم الثاني: نفي الولد. وينتفي عنه بلعانه على ما ذكرناه لما ذكرنا من الحديث فيه، ولأنه أحد مقصودي اللعان، فيثبت به كإسقاط الحد.
فصل:
فإن نفى الحمل في لعانه، فقال الخرقي: لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له، ويلاعن؛ لأن الحمل غير متيقن، يحتمل أن يكون ريحاً فيصير اللعان مشروطاً بوجوده، ولا يجوز تعليقه على شرط، وظاهر كلام أبي بكر صحة نفيه، لظاهر حديث هلال بن أمية، فإن لاعنها قبل الوضع، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنظروها فإن جاءت به كذا وكذا» ونفى عنه الولد، ولأن الحمل تثبت أحكامه قبل الوضع من وجوب النفقة والمسكن، ونفي طلاق البدعة، ووجوب الاعتداد به، وغير ذلك، فكان كالمتيقن.
فصل:
فإن ولدت توأمين، فنفى أحدهما واستلحق الآخر لحقاه جميعاً؛ لأنه لا يمكن جعل أحدهما من رجل، والآخر من غيره، والنسب يحتاط لإثباته، لا لنفيه. وإن نفى أحدهما وترك الآخر، ألحقناهما به جميعاً كذلك.
فصل:
وإن أقر بالولد، أو هنأ به فسكت أو أمن على الدعاء، أو دعا لمن هنأه به، لزمه نسبه، ولم يملك نفيه؛ لأن هذا جواب الراضي به، وكذلك إن علم فسكت، لحقه؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة. وهل يتقدر بالمجلس، أو يكون عقيب الإمكان؟ على وجهين: بناء على خيار الشفعة. وإن أخره(3/185)
لعذر، كأداء صلاة حضرت، أو أكل لدفع الجوع، وأشباه هذا من أشغاله، أو للجهل بأن له نفيه، أو بوجوب نفيه على الفور، لم يبطل خياره؛ لأن العادة جارية بتقديم هذه الأمور، والجاهل معذور. وإن ادعى الجهل بذلك قبل منه؛ لأن هذا مما يخفى، إلا أن يكون فقيهاً، فلا يقبل منه؛ لأنه في مظنة العلم.
وإذا أخره لعذر مدة يسيرة، لم يحتج أن يشهد على نفسه، وإن طالت، أشهد على نفسه بنفيه، كالطلب بالشفعة. وإن قال: لم أصدق المخبر وكان الخبر مستفيضاً، أو المخبر مشهور العدالة، لم يقبل قوله.
وإن لم يكن كذلك، قبل. وإن أخر نفي الحمل، لم يسقط نفيه؛ لأنه غير مستحق، وإن استلحقه، لم يلحقه كذلك، إلا على قول أبي بكر. وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة، وأمكن صدقه، فالقول قوله، وإلا فلا. وإن أخر نفيه رجاء موته، ليكفى أمر اللعان، سقط حقه من النفي.
فصل:
الحكم الثالث: الفرقة، وفيها روايتان:
إحداهما: لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما، لقول ابن عباس في حديثه: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما. وفي حديث عويمر: «أنه قذف زوجته، فتلاعنا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. فدل على أن الفرقة لم تحصل بمجرد اللعان. فعلى هذا، إن طلقها قبل التفريق، لحقها طلاقه، وللحاكم أن يفرق بينهما من غير طلب ذلك منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما من غير استئذانهما، وعليه أن يفرق بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بينهما.
والثانية: تحصل الفرقة بمجرد لعانهما؛ لأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على تفريق الحاكم، كالرضاع. ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم، لساغ ترك التفريق إذا لم يرضيا به، كالتفريق للعيب، والإعسار، وتفريق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما بمعنى: أنه أعلمهما بحصول الفرقة باللعان. وعلى كلتا الروايتين، ففرقة اللعان فسخ؛ لأنها فرقة توجب تحريما مؤبداً، فكانت فسخاً، كفرقة الرضاع.
فصل:
الحكم الرابع: التحريم المؤبد يثبت، لما روى سهل بن سعد قال: «مضت السنة(3/186)
في المتلاعنين، أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً» . رواه الجوزجاني. ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الجلد والتكذيب، فلم يرتفع بهما، كتحريم الرضاع. وقد روى عنه حنبل: أنه إذا أكذب نفسه عاد فراشه كما كان وهذه الرواية شذ بها عن سائر أصحابه.
قال أبو بكر: والعمل على الأول. وإن لاعنها في نكاح فاسد، أو بعد البينونة لنفي نسب، ثبت التحريم المؤبد؛ لأنه لعان صحيح، فأثبت التحريم، كاللعان في النكاح الصحيح. ويحتمل أنه لا يثبت التحريم؛ لأنه لم يرفع فراشاً، فلم يثبت تحريماً، كغير اللعان.
ولو لاعنها في نكاح صحيح وهي أمة، ثم اشتراها، لم تحل له؛ لأنه وجد ما يحرمها على التأبيد، فلم يرتفع بالشراء، كالرضاع.
فصل:
ولا تثبت هذه الأحكام إلا بكمال اللعان، إلا سقوط الحد وما قام مقامه، فإنه يسقط بمجرد لعانه. فإن مات أحدهما قبل كماله منهما، فقد مات على الزوجية؛ لأن الفرقة لم تحصل بكمال اللعان، ويرثه صاحبه كذلك، ويثبت النسب؛ لأنه لم يوجد ما يسقطه.
فإن كان الميت الزوج، فلا شيء على المرأة. وإن ماتت المرأة قبل لعان الزوج، وطلبها بالحد، فلا لعان؛ لأن الحد لا يورث. وإن ماتت بعد طلبها، قام وارثها مقامها في المطالبة، وله اللعان لإسقاط الحد.
فصل:
وإن أكذب نفسه بعد كمال اللعان، لزمه الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، ويلحقه النسب؛ لأنهما حق عليه، فيلزمانه بإقراره بهما، ولا يعود الفراش، ولا يرتفع التحريم المؤبد؛ لأنهما حق له، فلا يعودان بتكذيبه.
فصل:
فإن لاعن الزوج ونكلت المرأة عن اللعان، فلا حد عليها؛ لأن زناها لم يثبت، فإنه لو ثبت زناها بلعان الزوج، لم يسمع لعانها، كما لو قامت به البينة، ولا يثبت بنكولها؛ لأن الحد لا يقضى فيه بالنكول؛ لأنه يدرأ بالشبهات، والشبهة متمكنة منه، ولكن تحبس حتى تلتعن، أو تقر.
قال أحمد: أجبرها على اللعان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فإن لم تشهد، وجب أن لا يدرأ عنها العذاب وعنه: يخلى سبيلها، وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه لم يثبت عليها ما يوجب الحد، فيخلى سبيلها، كما لو لم تكمل البينة. وإن صدقته فيما قذفها به، لم يلزمها الحد حتى تقر أربع مرات؛ لأن الحد لا يثبت بدون إقرار أربع، على ما(3/187)
سنذكره، وحكمها حكم ما لو نكلت، ولا لعان بينهما؛ لأن اللعان إنما يكون مع إنكارها، ولا يستحلف إنسان على نفي ما يقر به.
[باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق]
. إذا تزوج من يولد لمثله بامرأة، فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً بعد إمكان اجتماعهما على الوطء، لحقه نسبه في الظاهر من المذهب، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولأن مع هذه الشروط، يمكن كونه منه، والنسب مما يحتاط له، ولم يوجد ما يعارضه، فوجب إلحاقه به. وإن اختل شرط مما ذكرنا، لم يلحق به، وانتفى من غير لعان؛ لأن اللعان يمين، واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين، أو نفي أحد المحتملين. وما لا يجوز، لا يحتاج إلى نفيه.
فصل:
وأقل سن يولد لمثله في حق الرجل عشر سنين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أبو داود.
وقال القاضي: تسع سنين وأقل مدة الحمل؛ لأن الجارية يولد لها كذلك، فكذلك الغلام. وقال أبو بكر: لا يلحق به الولد حتى يبلغ. قال ابن عقيل: هو أصح؛ لأن من لا ينزل الماء لا يكون منه ولد. وهذا ليس بسديد؛ لأنهم إن أرادوا بالبلوغ بلوغ خمس عشرة، فهو باطل؛ لأنه يولد له لدون ذلك.
وقد روي أنه لم يكن بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله إلا اثنتا عشرة سنة. وإن أرادوا الإنزال فيما يعلم، فلابد من ضبطه بأمر ظاهر. وإذا ولدت امرأة غلام، سنه دون ذلك، لم يلحق به، ومن كان مجبوباً مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق به نسب؛ لأنه لا ينزل مع قطعهما.
وإن قطع أحدهما، فقال أصحابنا: يلحق به النسب؛ لأنه إذا بقي الذكر أولج فأنزل. وإن بقيت الأنثيان، ساحق فأنزل. والصحيح أن مقطوع الأنثيين لا يحلق به نسب؛ لأنه لا ينزل إلا ماء رقيقاً لا يخلق منه ولد، ولا تنقضي به شهوة، فأشبه مقطوع الذكر والأنثيين.
وإن لم يمكن اجتماع الزوجين على الوطء، بأن يطلقهما عقيب تزويجه بها، أو كان بينهما مسافة لا(3/188)
يمكن اجتماعها على الوطء معها، لم يلحق به الولد. وإن ولدت زوجته لدون ستة أشهر من حين تزوجها لم يلحقه ولدها؛ لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح.
فصل:
وأقل مدة الحمل ستة أشهر، لما روي أن عثمان أتى بامرأة ولدت لدون ستة أشهر، فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس: أنزل الله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وأنزل: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] . فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر.
وذكر ابن القتبي أن عبد الملك بن مروان: ولد لستة أشهر. وأكثرها أربع سنين. وعنه سنتان، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: لا تزيد المرأة على سنتين في الحمل. والأول المذهب، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث عائشة: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل.
قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا أمرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين. وقال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاثة بطون، كل دفعة أربع سنين.
وغالب الحمل تسعة أشهر؛ لأنه كذلك يقع غالباً. وإذا أتت المرأة بولد بعد فراقها لزوجها، بموت أو طلاق بائن بأربع سنين، لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
وإن كان الطلاق رجعياً، فوضعته لأربع سنين منذ انقضت عدتها، فكذلك لذلك. وإن كان لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلحق به؛ لأنها علقت به بعد طلاقه، أشبهت البائن.
والثانية: يلحقه؛ لأنها في حكم الزوجات، فأشبهت ما قبل الطلاق. وإن وضعته لأقل من أربع سنين، قبل الحكم بانقضاء عدتها، لحق به؛ لأنه أمكن إلحاقه به، والنسب مما يحتاط لإثباته.
وإن بانت زوجته منه فوضعت ولداً، ثم وضعت آخر بينهما أقل من ستة أشهر، لحق به؛ لأنهما حمل واحد. وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأنه حمل ثان، إذ لا يمكن أن يكونا حملاً بينهما مدة الحمل، فيعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية.
وإن اعتدت بالأقراء، ثم أتت بولد لدون ستة أشهر، لحق به، لعلمنا أنها حملته في الزوجية، والدم دم فساد رأته في حملها. وإن كان لأكثر من ستة أشهر فصاعداً، لم يلحق به؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها، فلا تنقضها بالاحتمال. هذا قول أصحابنا.(3/189)
فصل:
وإذا تزوجت المرأة بعد انقضاء عدتها، ثم ولدت بعد ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، فهو ولده في الحكم لا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ولدت لدون ستة أشهر منذ تزوجها الثاني، لم يلحق به، ولا بالأول، وانتفى عنهما بغير لعان. وإن تزوجت في عدتها، وولدت لدون ستة أشهر من نكاح الثاني، فهو ولد الأول؛ لأنه أمكن أن يكون منه، ولم يمكن إلحاقه بالثاني.
وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً، فهذا يحتمل أن يكون منهما، فيرى القافة معهما، فيلحق بمن ألحقوه به منهما. فإن ألحقته بالأول، انتفى عن الثاني بغير لعان؛ لأن نكاحه فاسد. إن ألحقته بالثاني، لحق، وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين:
إحداهما: له ذلك، والأخرى لا ينتفي عنه بحال. وإن لم توجد قافة، أو أشكل أمره، ففيه روايتان:
إحداهما: يُترك حتى يبلغ، فينتسب إلى من شاء منهما، والأخرى يضيع نسبه.
فصل:
إذا أتت زوجته بولد يمكن أن يكون منه، فقالت: هذا ولدي منك، فقال: ليس هذا ولدي منك، بل استعرتيه، أو التقطتيه، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قولها؛ لأنه خارج تنقضي به العدة، فالقول قولها فيه، كالحيض.
والثاني: القول قوله، ولا يقبل قولها إلا ببينة؛ لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فكانت البينة على مدعيها، ويكفي في ذلك امرأة عدلة.
وإذا ثبتت ولادتها، لحق نسبه به؛ لأنه ولد على فراشه. وإن كان خلافهما في انقضاء العدة، فالقول قولها في انقضائها بغير بينة؛ لأن المرجع إليها فيها، وإن قال: هو من زوج قبلي ولم يكن لها قبله زوج، أو كان ولم يمكن إلحاقه به، لحقه، ولم يلتفت إلى قوله.
وإن قال: هو من وطء شبهة، أو قال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني، فقال الخرقي: هو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها؛ لأنه لم يقذفها، ولا لعان بينهما؛ لأن من شرطه القذف ولم يقذفها. وقال أبو الخطاب: هل له أن يلاعن بنفي الولد؟ على روايتين:
إحداهما: لا يلاعن كذلك.
والثانية: له أن يلاعن؛ لأنه يحتاج إلى نفي النسب الفاسد فشرع، كما لو قذفها.
فصل:
ومن ولدت زوجته بعد وطئه لها بستة أشهر من غير مشاركة غيره له في وطئها،(3/190)
لحقه نسب ولدها، ولم يحل له نفيه، لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليها، احتجب الله عنه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» . أخرجه أبو داود، وإن علم أنه من غيره، مثل أن يراها تزني في طهر لم يصبها فيه، فاجتنبها حتى ولدت، لزمه قذفها ونفي ولدها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الحديث: «وأيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» .
فلما حرم عليها أن تُدخل عليهم نسباً ليس منهم، دل على أن الرجل مثله؛ ولأنه إذا لم ينفه، زاحم ولده في حقوقهم، ونظر إلى حرمه، بحكم أنه محرم لهن. وإن لم يرها تزني، لكن علم أن الولد من غيره، لكونه لم يصبها لزمه نفي ولدها كذلك.
وليس له قذفها، لاحتمال أن تكون مكرهة، أو موطوءة بشبهة وإن كان يطؤها ويعزل، لم يكن له نفي ولدها، لما روى أبو سعيد الخدري قال: «قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا نصيب النساء ونحب الأثمان فنعزل عنهن، فقال: إن الله إذا قضى خَلْق نسمة خلقها» ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق منه.
وإن كان يجامعها دون الفرج، أو في الدبر، فقال أصحابنا: ليس له نفيه؛ لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما لا تحس به.
فصل:
وإن ولدت امرأته غلاماً أسود وهما أبيضان، أو أبيض وهما أسودان، لم يجز له نفيه. ذكره ابن حامد لما روى أبو هريرة قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود، يعرض بنفيه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك من إبل، قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً قال: فأنى أتاها ذلك؟! قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق» .
قال: ولم يرخص له في الانتفاء منه. متفق عليه. ولأن دلالة ولادته على فراشه قوية، ودلالة الشبهة ضعيفة، فلا يجوز معارضة القوي بالضعيف. ولذلك «لما اختلف عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص في غلام. فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن(3/191)
أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد الله بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته. ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شبهاً بيناً لعتبة. فقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر» متفق عليه، فاعتبر الفراش دون الشبه.
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أن له نفيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «انظروها فإن جاءت به أبيض سبطاً، مضيء العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو لشريك» رواه أحمد ومسلم.
فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن» ، أخرجه أبو داود. فجعل الشبه دليلاً على نفيه عن الزوج.
فصل:
وإن رآها تزني ولم يكن له نسب يلحقه، فله قذفها؛ لأن هلالاً وعويمراً قذفا زوجتيهما قبل أن يكون ثَمَّ نسب ينفى. وله أن يسكت؛ لأنه لا نسب فيه ينفيه، وفراقها ممكن بالطلاق، فيستغني عن اللعان. وإن أقرت عنده بالزنا، فوقع في نفسه صِدْقها، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلاً يزني بها، ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب، فله قذفها؛ لأن الظاهر زناها.
وإن لم ير شيئاً، ولا استفاض سوى أنه رأى رجلاً يخرج من عندها من غير استفاضة، لم يكن له قذفها؛ لأنه يجوز أن يكون دخل هارباً، أو سارقاً، أو ليراودها عن نفسها فمنعته، فلم يجز قذفها بالشك. وإن استفاض ذلك ولم يره يدخل إليها، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن عدواً أشاع ذلك عنها.
فصل:
ومن ملك أمة، لم تصر فراشاً بنفس الملك؛ لأنه قد يقصد بملكها التمول، أو التجمل، أو التجارة، أو الخدمة، فلم يتعين لإرادة الوطء، فإن أتت بولد ولم يعترف(3/192)
به، لم يلحقه نسبه؛ لأنه لم يولد على فراشه، فإذا وطئها، صارت فراشًا له، فإذا أتت بولد لمدة الحمل من حين يوم الوطء، لحقه؛ «لأن سعدًا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» . متفق عليه. فإن ادعى أنه كان يعزل عنها، لم ينتف عنه الولد بذلك: لما ذكرنا في الزوجة. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك، أو اتركوا، وإن اعترف بوطئها دون الفرج فقال أصحابنا: يلحقه نسب ولدها؛ لأن الماء قد يسبق إلى الفرج من حيث لا يعلم. وإن انتفى من ولدها بعد اعترافه بوطئها، لم يلاعن؛ لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، ولا ينتفي عنه، إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها، فإن ادعى ذلك، فالقول قوله، وينتفي ولدها عنه، ويقوم ذلك مقام اللعان في نفي الولد.(3/193)
[كتاب العدد]
إذا فارق الرجل زوجته في حياته قبل المسيس والخلوة، فلا عدة عليها بالإجماع، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . ولأن العدة تجب لاستبراء الرحم، وقد علم ذلك بانتفاء سبب الشغل. فإن فارقها بعد الدخول، فعليها العدة بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . ولأنه مظنة لاشتغال الرحم بالحمل، فتجب العدة لاستبرائه. وإن طلقها بعد الخلوة، وجبت العدة، لما روى الإمام أحمد بإسناده عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترًا، أو من أغلق بابًا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة؛ ولأن التمكين من استيفاء المنفعة، جعل كاستيفائها، ولهذا استقرت الأجرة في الإجارة، فجعل كالاستيفاء في العدة.
فصل:
والمعتدات ثلاثة أقسام: معتدة بالحمل فتنقضي عدتها بوضعه، سواء كانت حرة أو(3/194)
أمة، مفارقة في حياة، أو بوفاة؛ لقول الله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] .
«وروت سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما انقلبت من نفاسها، تجملت للخطاب، فدخل عليها ابن السنابل بن بعكك، فقال: لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت ناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت: فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزوج إن بدا لي» . متفق عليه. ولأن براءة الرحم لا تحصل في الحامل إلا بوضعه، فكانت عدتها به، ولا تنقضي إلا بوضع جميع الحمل وانفصاله. فإن كان حملها أكثر من واحد، فحتى تضع آخر حملها وينفصل؛ لأن الشغل لا يزول إلا بذلك. وإن وضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان، انقضت به عدتها؛ لأنه ولد. وإن لم يتبين فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية، فكذلك؛ لأنه تبين لهن. وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فالمنصوص أن العدة لا تنقضي به؛ لأنه لم يصر ولدًا، فأشبه العلقة. وعنه: أن الأمة تصير به أم ولد، فيجب أن تنقضي به العدة؛ لأنه حمل، فيدخل في عموم الآية. وأقل مدة تنقضي فيها العدة بالحمل، أن تضعه بعد ثمانين يومًا، من حين إمكان الوطء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يومًا ثم يكون مضغة أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك» ولا تنقضي العدة بما دون المضغة، ولا يكون مضغة في أقل من ثمانين.
فصل:
القسم الثاني: معتدة بالقروء: وهي: كل مطلقة أو مفارقة في الحياة وهي حائل ممن تحيض. وهي: نوعان. حرة: فعدتها ثلاثة قروء؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وأمة: فعدتها قرآن، لما روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه(3/195)
قال: «طلاق الأمة طلقتان، وقرؤها حيضتان» رواه أبو داود. وعن عمر وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: عدة الأمة حيضتان، وفي القروء روايتان:
إحداهما: الحيض، لهذا الخبر، وقول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها» رواه أبو داود. وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: «فإذا أتى قرؤك فلا تصلي. وإذا مر قرؤك فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء» رواه النسائي؛ ولأنه معنى يستبرأ به الرحم، فكان بالحيض كاستبراء الأمة؛ ولأن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء، فالظاهر أنها تكون كاملة؛ ولا تكون العدة ثلاثة قروء كاملة إلا إذا كانت الحيض. ومن جعل القروء الأطهار، لم يوجب ثلاثة كاملة؛ لأنه يعد الطهر الذي طلقها فيه قرءًا.
والثانية: القروء: الأطهار؛ لقول الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، وإنما يطلق في الطهر. فإذا قلنا: هي حيض، لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولزمها ثلاث حيض مستقبلة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فيتناول الكاملة. وإن قلنا هي الأطهار، احتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءًا، ولو بقي منه لحظة؛ لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في عدتهن، وإنما يكون من عدتهن إذا احتسب به؛ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض، كيلا يضر بها، فتطول عدتها، ولو لم يحتسب بقية الطهر قرءًا، لم تقصر عدتها بالطلاق فيه. فإن لم يبق من الطهر بعد الطلاق جزء، بأن وافق آخر لفظه آخر الطهر، أو قال: أنت طالق في آخر طهرك، كان أول قرئها الطهر الذي بعد الحيض؛ لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق. ومتى قلنا: القرء: الحيض. فآخر عدتها انقطاع الدم في الحيضة الثالثة؛ لأن ذلك آخر القروء. وعنه: لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، اختاره الخرقي؛ لأنه يروى عن الأكابر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبادة وأبو موسى وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإن قلنا: القروء: الأطهار. فآخر العدة آخر الطهر.(3/196)
الثالث: إذا رأت الدم بعده، انقضت عدتها، ويحتمل أن لا تنقضي بانقضائها، حتى ترى الدم يومًا وليلة؛ لأن ما دونه لا يحتمل أن يكون حيضًا، وليست اللحظة التي ترى فيها الدم من عدتها، ولا يصح ارتجاعها فيها؛ لأن حسبانها من عدتها يفضي إلى زيادتها على ثلاثة قروء، وإنما اعتبرت، ليتحقق انتفاء الطهر.
فصل:
وأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يومًا، إن قلنا: القرء: الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يومًا؛ لأن ثلاث حيضات ثلاثة أيام، وبينها طهران ستة وعشرون يومًا. وإن قلنا: أقل الطهر خمسة عشر يومًا، فأقل العدة ثلاثة وثلاثون يومًا. وإن قلنا: الأقراء: الأطهار، والطهر: ثلاثة عشر يومًا، فأقلها: ثمانية وعشرون يومًا ولحظة. وإن قلنا: أقله خمسة عشر يومًا، فأقلها اثنان وثلاثون يومًا ولحظة. فأما الأمة فعلى الأول: أقل عدتها خمسة عشر يومًا، وعلى الثاني: سبعة عشر، وعلى الثالث: أربعة عشر يومًا ولحظة، وعلى الرابع: ستة عشر يومًا ولحظة.
فصل:
القسم الثالث: المعتدة بالشهور. وهي: ثلاثة أنواع:
إحداهن: الآيسة من المحيض، والصغيرة التي لم تحض، إذا بانت في حياة زوجها بعد دخوله بها، فإن كانت حرة، فعدتها ثلاثة أشهر، لقول الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] .
فإن طلقها في أول الهلال، فعدتها ثلاثة أشهر بالأهلة. وإن طلقها في أثناء شهر، اعتدت شهرين بالهلال وشهرًا بالعدد، لما ذكرنا فيما مضى. وإن كانت الأمة، ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: عدتها شهران؛ لأن كل شهر مكان قرء، وعدتها بالأقراء قرءان، فتكون عدتها بالشهور شهرين.
والثانية: عدتها شهر ونصف؛ لأن عدتها نصف الحرة، وعدة الحرة: ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف. وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها، وتنصيف الأشهر ممكن.
والثالثة: أن عدتها ثلاثة أشهر، لعموم الآية، ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم، ولا يحصل بأقل من ثلاثة.(3/197)
فصل:
واختلف عن أحمد في حد الإياس، فعنه: أقله خمسون سنة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدًا بعد خمسين سنة. وعنه: إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون؛ لأنهن أقوى طبيعة. وذكر الزبير في كتاب ((النسب)) : أن هند بنت أبي عبيد بن عبد الله بن زمعة، ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب، ولها ستون سنة. قال: ويقال: لن تلد بعد الخمسين إلا عربية، ولا بعد الستين إلا قرشية. ويحتمل كلام الخرقي أن يكون حده: ستون سنة في حق الكل، لقوله: وإذا رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض.
فصل:
وإن شرعت الصغيرة في الاعتداد بالشهور فلم تنقض عدتها حتى حاضت، بطل ما مضى من عدتها، واستقبلت العدة بالقروء؛ لأنها قدرت على الأصل فيه، فبطل حكم البدل، كالمتيمم يجد الماء. وإن قلنا: القروء: الحيض، استأنفت ثلاث حيض. وإن قلنا: هي الأطهار، فهل تعتد بالطهر الذي قبل الحيض قرءًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: تعتد به؛ لأنه طهر قبل حيض فاعتدت به، كالذي بين الحيضتين.
والثاني: لا تعتد به، كما لو اعتدت قرءين ثم يئست، لم تعتد بالطهر قبل الإياس قرءًا ثالثًا. وإن لم تحض حتى كملت عدتها بالشهور، لم يلتفت إليه؛ لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة فلم يلتفت إليه.
فصل:
النوع الثاني: المتوفى عنها زوجها، إذا لم تكن حاملًا، فعدتها أربعة أشهر وعشرًا، إذا كانت حرة، مدخولًا بها أو غير مدخول بها؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» متفق عليه. وإن كانت أمة، اعتدت شهرين وخمس ليال؛ لأن(3/198)
الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة: نصف عدة الحرة، فيجب أن تكون عدة المتوفى عنها نصف عدة الحرة، وهو ما ذكرنا. ومن نصفها حر، فعدتها بالحساب من عدة حرة وعدة أمة، وذلك ثلاثة أشهر وثمان ليال، لأن نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال، ونصف عدة الأمة شهر وثلاثة ليال.
فصل:
النوع الثالث: ذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فعدتها سنة، تسعة أشهر تتربص فيها ليعلم براءتها من الحمل؛ لأنها غالب مدته، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر علمناه، فصار إجماعًا. فإن حاضت قبل انقضاء السنة ولو بلحظة، لزمها الانتقال إلى القروء؛ لأنها الأصل، فبطل حكم البدل، كالمتيمم إذا رأى الماء. وإن عاد الحيض بعد انقضاء السنة وتزوجها، لم تعد إلى الأقراء؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها وصحة نكاحها، فلم تبطل، كما لو حاضت الصغيرة بعد اعتدادها وتزوجها. وإن حاضت بعد السنة وقبل تزوجها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا عدة عليها كذلك.
والثاني: عليها العدة؛ لأنها من ذوات القروء، وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق الزوج بها، فلزمها العود، كما لو حاضت في السنة. وإن كانت أمة، تربصت تسعة أشهر للحمل؛ لأن مدته للحرة والأمة سواء، وتضم إلى ذلك عدة الأمة على ما ذكرنا من الخلاف فيها. وإن شرعت في الحيض، ثم ارتفع حيضها قبل قضاء عدتها، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض؛ لأنها لا تنبني إحدى العدتين على الأخرى، ولو عرفت ما رفع الحيض من المرض أو الرضاع ونحوه، لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به؛ لأنها من ذوات القروء، والعارض الذي منع الدم يزول، فانتظر زواله، إلا أن تصير آيسة، فتعتد ثلاثة أشهر من وقت أن تصير في عداد الآيسات.
فصل:
إذا أتى على الجارية سن تحيض فيه النساء غالبًا، كخمسة عشر، فلم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر في إحدى الروايتين، لظاهر قول الله تعالى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . والأخرى عدتها سنة؛ لأنه أتى عليها زمن الحيض، فلم تحض، فأشبهت(3/199)
من ارتفع حيضها، ولم تدر ما رفعه. ولو ولدت ولم تر دمًا قبل الولادة، ولا بعدها، ففيه الوجهان، بناء على ما تقدم. فأما المستحاضة، فإن كان لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز، فمتى مرت لها ثلاثة قروء، انقضت عدتها؛ لأنه حيض محكوم به، أشبه غير المستحاضة. وإن كانت ممن لا عادة لها ولا تمييز، إما مبتدأة، وإما ناسية متحيرة، ففيها روايتان:
إحداهما: عدتها ثلاثة أشهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر حمنة ابنة جحش: أن تجلس من كل شهر ستة أيام أو سبعة، فجعل لها حيضة في كل شهر؛ لأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصوم، فيجب أن تنقضي العدة به.
والثانية: تعتد سنة؛ لأنها لم تتيقن بها حيضًا مع أنها من ذوات الأقراء، فأشبهت التي ارتفع حيضها، والأول أولى.
فصل:
فإذا عتقت الأمة بعد قضاء عدتها، لم يلزمها زيادة عليها؛ لأن عدتها انقضت، فأشبهت الصغيرة إذا حاضت بعد انقضاء عدتها بالأشهر، وإن عتقت في عدتها وكانت رجعية، أتمت عدتها عدة حرة؛ لأن الرجعية زوجة وقد عتقت في الزوجية، فلزمتها عدة حرة، كما لو عتقت قبل الشروع فيها. وإن كانت بائنًا، أتمت عدة الأمة؛ لأنها عتقت بعد البينونة، أشبهت المعتقة بعد عدتها.
فصل:
وإن مات زوج المعتدة الرجعية، فعليها عدة الوفاة تستأنفها من حين الموت، وتنقطع عدة الطلاق؛ لأنها زوجة متوفى عنها، فتدخل في عموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . وإن كانت بائنًا غير وارثة لكونها مطلقة في صحته، بنت على عدة الطلاق؛ لأنها أجنبية من نكاحه وميراثه، فلم يلزمها، الاعتداد من وفاته، كما لو انقضت عدتها قبل موته، وعلى قياس هذا: المطلقة في المرض التي لا ترث، كالذمية والأمة والمختلعة، وزوجة العبد؛ لأنها غير وارثة. وإن كانت وارثة كالحرة المسلمة، يطلقها زوجها الحر في مرض موته، فعليها أطول الأجلين من ثلاثة قروء، أو أربعة أشهر وعشر؛ لأنها مطلقة بائن، فتدخل(3/200)
في الآية. ومعتدة ترث بالزوجية، فلزمتها عدة الوفاة كالرجعية. فإن كان طلاقه قبل الدخول، أو موته بعد قضاء عدتها، فلا عدة عليها، وعنه: عليهما العدة من الوفاة؛ لأنهما يرثانه بالزوجية. والأول أصح، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، ولأن الأجنبية تحل للأزواج، فلم تلزمها العدة منه، كما لو تزوجت غيره.
فصل:
وإذا وطئت المرأة بشبهة، أو زنا، لزمتها العدة؛ لأن العدة تجب، لاستبراء الرحم، وحفظًا عن اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ولو لم تجب العدة، لاختلط ماء الواطئ بماء الزوج، ولم يعلم لمن الولد منهما، فيحصل الاشتباه، وعدتها كعدة المطلقة؛ لأنه استبراء لحرة، أشبه عدة المطلقة. وعنه: أن الزانية تستبرأ بحيضة؛ لأن النسب لا يلحق الزاني، وإنما المقصود معرفة براءة رحمها، فكان بحيضة كاستبراء أم الولد إذا مات سيدها.
فصل:
وإذا طلق أحد نسائه ثلاثًا وأنسيها، ثم مات قبل أن يبين المطلقة، فعلى الجميع الاعتداد بأطول الأجلين من عدة الطلاق والوفاة، ليسقط الفرض بيقين، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها؛ لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون المطلقة، فيلزمها ثلاثة قروء، ويحتمل أن تكون غيرها، فتلزمها عدة الوفاة، فلا يحصل حلها يقينًا إلا بهما، والمنصوص أنه يقرع بينهن، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق، وسائرهن عدة الوفاة، فأما إن طلق واحدة لا بعينها، فإنه يقرع بينهن، فتخرج بالقرعة المطلقة منهن، فتعتد عدة الطلاق، ويعتد سائرهن عدة الوفاة؛ لأن الطلاق لم يقع في واحدة بعينها، وإنما عينته القرعة، بخلاف التي قبلها.
فصل:
إذا ارتابت المعتدة لرؤيتها أمارات الحمل من حركة أو نحوها، لم تزل في عدة حتى تزول الريبة، فإن تزوجت قبل زوالها، لم يصح نكاحها؛ لأنها تزوجت قبل العلم بقضاء عدتها. وإن حدثت الريبة بعد انقضاء عدتها ونكاحها، فالنكاح صحيح؛ لأننا حكمنا بصحة ذلك بدليله، فلا يزول عنه بالشك، لكن لا يحل وطؤها حتى تزول الريبة؛ لأنا شككنا في حل الوطء. وإن حدثت بعد العدة وقبل النكاح، ففيه وجهان:(3/201)
أحدهما: لا يحل لها أن تنكح؛ لأنها شاكة في انقضاء عدتها.
والثاني: يحل لها؛ لأننا حكمنا بانقضاء عدتها فلا يتغير الحكم بالشك.
فصل:
إذا فقدت المرأة زوجها، وانقطع خبره عنها، لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون ظاهر غيبته السلامة، كالتاجر وطالب العلم من غير مهلكة، فلا تزول الزوجية ما لم يتيقن موته؛ لأنها كانت ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك. وعنه: إذا مضى له تسعون سنة، قسم ماله. وإذا أباح قسمة ماله، أباح لزوجته أن تتزوج. قال أصحابنا: يعني تسعين سنة من حين ولد؛ لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من ذلك. فإذا اقترن به انقطاع خبره، حكم بموته. والأول أصح؛ لأن هذا تقدير لا يصار إليه بغير توقيف.
الثاني: أن يكون ظاهرها الهلاك، كالذي يفقد من بين أهله، أو في مفازة هلك فيها بعض رفقته، أو بين الصفين، أو ينكسر مركبًا فيهلك بعض رفقته، وأشباه ذلك، فمذهب أحمد أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج. قال بعض أصحابنا: لا يختلف قول أحمد في هذا. وقال أحمد: من ترك هذا القول، أي شيء يقول؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال القاضي: عندي أن فيها رواية أخرى:
أن حكمه حكم من ظاهر غيبته السلامة، والمذهب الأول. قال أحمد: يروى عن عمر من، ثمانية وجوه، ومن أحسنها ما روى عبيد بن عمير قال: فقد رجل في عهد عمر، فجاءت امرأته إلى عمر، فذكرت ذلك له، فقال: انطلقي فتربصي أربع سنين، ففعلت، ثم أتته، فقال: انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرًا، ففعلت ثم أتته، فقال: أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه، فقال له: طلقها، ففعل. فقال عمر: انطلقي فتزوجي من شئت، ثم جاء زوجها الأول، فقال عمر: أين كنت؟ قال: استهوتني الشياطين، فخيره عمر: إن شاء امرأته، وإن شاء الصداق، فاختار الصداق. وقضى بذلك عثمان وعلي وابن الزبير، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وهذه قضايا انتشرت فلم تنكر، فكانت إجماعًا. وهل يعتبر ابتداء المدة من حين ضربها الحاكم، أو(3/202)
من حين ينقطع خبره؟ على وجهين:
أحدهما: من حين ضربها الحاكم؛ لأنها مدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنة.
والثاني: من حين انقطع خبره؛ لأن ذلك ظاهر في موته، فأشبه ما لو قامت به بينة. وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى أن يطلقها وليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعلي.
والثاني: لا يفتقر؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها، ولهذا اعتدت عدة الوفاة، وقول عمر فقد خالفه قول ابن عباس وابن عمر.
فصل:
فإن قدم المفقود قبل تزوجها، فهي زوجته؛ لأننا تبينا حياته، فأشبه ما لو شهد بموته شاهدان، وتبين أنه حي. وإن قدم بعد تزوجها، وقبل دخوله بها، فكذلك لما ذكرناه وقيل عنه: إن حكمها حكم المدخول بها، والصحيح الأول. وإن قدم بعد دخول الثاني بها، خير بينها وبين صداقها، لإجماع الصحابة عليه. فإن اختارها، فهي زوجته بالعقد الأول، ولم يحتج الثاني إلى طلاق؛ لأننا بينا بطلان عقده. وإن اختار صداقها، فله ذلك، ويأخذ من الثاني صداقها الذي ساق إليها الأول. اختاره أبو بكر؛ لأن عليًا وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: يخير بينها وبين صداقها الذي ساق. ولأن الثاني أتلف المعوض، فرجع عليه بالعوض، كشهود الطلاق إذا رجعوا عنه. وعنه: يرجع بالصداق الآخر؛ لأنه بذل عوضًا عما هو مستحق للأول، فكان أولى به. وهل يرجع الثاني على المرأة ما غرمه للأول؟ على روايتين. وتكون زوجة الثاني من غير تجديد عقد؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم ينقل عنهم أمر بتجديد العقد، والقياس أن يلزمه تجديد العقد؛ لأننا تبينا بطلان ما مضى من عقده بحياة صاحبه، ولذلك ملك أخذها منه، فعلى هذا الوجه، الأول يؤمر بطلاقها، ثم يعقد عليها الثاني عقدًا. وإن رجع الأول بعد موت الثاني، ورثت، واعتدت، ورجعت إلى الأول، قضى بذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. رواه الجوزجاني في ((المترجم)) . وقال أبو الخطاب: قياس المذهب أنا إن حكمنا بوقوع الفرقة ظاهرًا وباطنًا، فهي زوجة الثاني، ولا خيار للأول، ولا ينفذ طلاقه لها، ولا يتوارثان إذا مات أحدهما. فإن لم يحكم بوقوعها باطنًا، فهي زوجة الأول بكل حال، ووطء الثاني لها وطء بشبهة.
فصل:
فإن اختارت امرأة المفقود الصبر حتى يتبين أمره، فلها النفقة والمسكن أبدًا، سواء(3/203)
ضرب لها الحاكم مدة تتربص فيها، أو لم يضربها؛ لأننا لم نحكم ببينونتها بضرب المدة، فهي باقية على حكم الزوجية. وإن حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لمفارقتها إياه حكمًا.
فصل:
إذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو غائب، فعدتها من يوم مات، أو طلق، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة في أصح الروايتين. والأخرى إن ثبت ذلك بالبينة، فكذلك، وإن بلغها خبره، فعدتها من حين بلغها الخبر.
[باب اجتماع العدتين]
إذا تزوجت المرأة في عدتها رجلًا آخر، لم تنقطع عدتها بالعقد؛ لأنه عقد فاسد، لا يصير به فراشًا، فإن وطئها، انقطعت عدة الأول؛ لأنها صارت فراشًا للثاني، فلا تبقى في عدة غيره. فإن فرق بينهما، لزمها إتمام عدة الأول، وعدة الثاني، وتقدم عدة الأول، لسبقها، ولما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، لم يدخل بها الذي تزوجها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبًا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها، فرق الحاكم بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ولم ينكحها أبدًا. رواه الشافعي في ((مسنده)) . فإن كانت حاملًا من الأول، انقضت عدتها بوضع الحمل، ثم اعتدت للثاني ثلاثة قروء. وإن حملت من وطء الثاني، انقضت عدتها منه بوضع الحمل، ثم أتمت عدة الأول بالقروء. وتتقدم عدة الثاني هاهنا على عدة الأول؛ لأنه لا يجوز أن تضع حملها منه، ولا تنقضي عدتها منه. وإن أتت بولد يمكن أو يكون منهما، أري القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما، وانقضت عدتها منه به، واعتدت للآخر. وإن ألحقوه بهما، انقضت به عدتها منهما، وإن لم يوجد قافة، أو أشكل عليهم، فعليها الاعتداد بعد وضع حملها بثلاثة قروء؛ لأنه يحتمل أن يكون من الأول، فيلزمها ثلاثة قروء، لعدة الثاني، فلزمها ذلك، لتقضي العدة بيقين.
فصل:
وروي عن أحمد: أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثم لا ينكحها أبدًا. والصحيح في المذهب أنها تحل له؛ لأنه وطء بشبهة، فلم(3/204)
يحرمها على التأبيد، كالنكاح بلا ولي. وقد روي أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا انقضت عدتها، فهو خاطب من الخطاب، يعني الزوج الثاني. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع إلى قول علي. قال الخرقي: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين، فعلى هذا كل معتدة من وطء في نكاح فاسد، أو وطء شبهة، لا يجوز للواطئ، ولا لغيره نكاحها حتى تنقضي عدتها؛ لأنها معتدة من وطء في غير ملك، فحرمت قبل انقضاء عدتها، كالزانية. ويحتمل أن يباح للواطئ نكاحها في كل موضع يلحقه النسب؛ لأن العدة إنما وضعت لصيانة الماء، وحفظًا للنسب عن الاشتباه. والنسب هاهنا لاحق، فلم يمنع الواطئ نكاحها، كالمعتدة من نكاحه الصحيح.
فصل:
وإن وطئت المعتدة بشبهة، أو زنا فلم تحمل، أتمت عدة الأول، ثم اعتدت للثاني؛ لأنها لم تصر فراشًا. وإن حملت من الثاني، أو أشكل الأمر، فالحكم على ما ذكرنا في التي تحمل من زوج ثان.
فصل:
وكل حمل لا يلحق بالزوج، كحمل زوجة الطفل، والخصي والمجبوب وأشباههما لا تنقضي عدتها من الزوج به؛ لأننا تبينا أنه ولد لغيره، فلم تنقض به عدة الزوج، كما لو علمنا الواطئ. وعنه: أن عدة زوجة الصغير تنقضي بوضع الحمل. وذكر أصحابنا في التي ولدت بعد أربع سنين، منذ فارقها زوجها: أن عدتها تنقضي به في وجه، والصحيح الأول، لما ذكرنا، ولأننا إن نعلم الواطئ، فالمرأة تعلمه، فلم يسقط عنها الاعتداد، لجهلنا بعينه، كما لو أقرت. فعلى هذا تنقضي عدة الأول بوطء الثاني، وتنقضي عدة الثاني بوضع الحمل. فإذا وضعته، بنت على عدة الأول على ما ذكرنا. وإن كانت حين موت زوجها حاملًا، انقضت عدتها بوضعه من الواطئ، ثم تعتد عن الزوج بأربعة أشهر وعشر.
فصل:
إذا طلق الزوج زوجته طلاقًا رجعيًا، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانيًا، بنت على ما مضى من العدة؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فأشبه الطلقتين في وقت واحد. وإن طلق العبد زوجته الأمة طلقة، ثم أعتقت، وفسخت النكاح، بنت على العدة كذلك. وإن طلق الرجل زوجته، ثم ارتجعها ثم طلقها قبل وطئها، ففيه وجهان:(3/205)
أحدهما: تبني على العدة الأولى؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء، فأشبه ما لو لم يرتجعها.
والثاني: تستأنف عدة كاملة؛ لأنه طلاق نكاح صحيح، وطئ فيه، فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق. وإن طلقها بعد دخوله بها، استأنفت العدة. رواية واحدة. وسقطت بقية الأولى؛ لأن حكم الطلقة انقطع بالزوجية والدخول، وإن وطئ المطلق زوجته الرجعية في عدتها، وقلنا: ذلك رجعة، فقد عادت الزوجية، فإن طلقها بعد ذلك، استأنفت العدة، وسقط حكم العدة الأولى، كما تقدم. وإن قلنا: ليس هو برجعة، فعليها أن تعتد للوطء؛ لأنه وطء بشبهة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من رجل واحد. وإن كانت حاملًا، فهل تتداخل العدتان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتداخلان؛ لأنهما من رجل واحد، فتنقضي عدتها من الطلاق والوطء، بوضع الحمل.
والثاني: لا يتداخلان؛ لأنهما من جنسين، بل تعتد للطلاق بوضع الحمل، ثم تستأنف عدة الوطء بثلاثة قروء، كما لو كانا من رجلين، وإن كانت حائلًا، فحملت من الوطء. وقلنا: يتداخلان انقضت العدتان بوضع الحمل، وإن قلنا: لا يتداخلان، انقضت عدة الوطء بالوضع، ثم أتمت بقية عدة الطلاق بالقروء.
فصل:
وإذا خلع الرجل زوجته، فله نكاحها في عدتها؛ لأنها لحفظ مائه ونسبه، ولا يصان ماؤه عن مائه، إذا كانا من نكاح صحيح، فإن طلقها بعد أن وطئها، فعليها استئناف العدة؛ لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، ويسقط حكم بقية العدة الأولى. وإن طلقها قبل أن يمسها، ففيه روايتان كما ذكرنا في الرجعية، والأولى هاهنا، أنها تبني على عدة الطلاق الأول فتتمها؛ لأن الطلاق الثاني، طلاق من نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة. كما لو لم يتقدمه نكاح. ويلزمها بقية عدة الأول؛ لأنها تنقطع بعقد التزويج، لكونها تصير به فراشًا، فلا تبقى معتدة منه مع كونها فراشًا له. وإذا طلقها، لزمها إتمامها؛ لأنه لو لم يجب ذلك، أفضى إلى اختلاط المياه، بأن يطأ زوجته، ثم يخلعها، ثم يتزوجها ويطلقها من يومه، فيتزوجها آخر ويطأها في يوم واحد، فإن كانت حاملًا حين خلعها، فتزوجها وولدت، ثم طلقها قبل أن يمسها، لم يكن عليها عدة؛ لأنه لم يبق من العدة الأولى شيء؛ لأنها كانت حاملًا، فلا تنقضي عدتها بغير الوضع.(3/206)
[باب مكان المعتدات]
وهن ثلاثة:
إحداهن: الرجعية، فتسكن حيث يشاء زوجها من المساكن التي تصلح لمثلها؛ لأنها تجب لحق الزوجية.
الثانية: البائن بفسخ، أو طلاق، تعتد حيث شاءت، لما «روت فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له ذلك، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» متفق عليه.
الثالثة: المتوفى عنها زوجها، عليها أن تعتد في منزلها الذي كانت ساكنة به، حين توفي زوجها، لما روت «فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد: أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له، فقتلوه بطرف القدوم، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن أملكه، ولا نفقة، فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به» . رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
فإن خافت هدمًا أو غرقًا أو عدوًا، أو حولها صاحب المنزل، أو لم تتمكن من سكناه إلا بأجرة، فلها الانتقال حيث شاءت؛ لأن الواجب سقط للعذر، ولم يرد الشرع له ببدل فلم يجب، وليس عليها بدل الأجرة، وإن قدرت عليها؛ لأنه إنما يلزمها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن.
فصل:
ولا سكنى للمتوفى عنها، إذا كانت حائلًا، رواية واحدة، وإن كانت حاملًا، فعلى روايتين:(3/207)
إحداهما: لا سكنى لها؛ لأن المال انتقل إلى الورثة، فلم تستحق عليهم السكنى، كما لو كانت حائلًا.
والثانية: لها السكنى، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فريعة بنت مالك، بالاعتداد في المنزل الذي أسكنها فيه زوجها. فإذا قلنا: لا سكنى لها، فتبرع الوارث بإسكانها، أو تبرع غيره بتمكينها من السكنى في منزلها، إما بأداء أجرتها، أو غير ذلك، لزمها السكنى به. وإن لم يوجد ذلك، سكنت حيث شاءت. وإن قلنا: لها السكنى، فهي أحق بمسكنها من الورثة والغرماء، ولا يباع في دينه حتى تنقضي عدتها؛ لأنه حقها تعلق بعينه، فقدمت على سائر الغرماء، كالمرتهن. وإن تعذر ذلك المسكن، أو كان المسكن لغير الميت، استؤجر لها من مال الميت، ويضرب بقدر أجرته مع الغرماء، إن لم يف ماله بدينه، فإن كانت عدتها بالحمل، ضربت بأقل مدته؛ لأنه اليقين. فإن وضعت لأقل من ذلك، ردت الفضل على الغرماء. وإن وضعت لأكثر منه، رجعت عليهم بالنقص، كما ترد عليهم الفضل. ويحتمل أن لا ترجع عليهم بشيء؛ لأننا قدرنا ذلك لها مع تجويز الزيادة، فلم ترد عليه.
فصل:
ولهم إخراجها لطول لسانها، وأذاها لأحمائها بالسب، لقول الله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . فسره ابن عباس بما ذكرنا. وإن بذئ عليها أهل زوجها، نقلوا عنها؛ لأن الضرر منهم.
فصل:
وليس لها الخروج من منزلها ليلًا، ولها الخروج نهارًا لحوائجها، لما روى مجاهد قال: «استشهد رجال يوم أحد، فجاء نساؤهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل، أفنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا، بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإن أردتن النوم، فلتؤب كل امرأة إلى بيتها» ، ولأن الليل مظنة الفساد، فلم يجز لها الخروج لغير ضرورة.(3/208)
فصل:
وليس لها الخروج للحج؛ لأنه لا يفوت، والعدة تفوت، فإن خرجت للحج، فمات زوجها وهي قريبة، رجعت؛ لأنها في حكم الإقامة. وإن تباعدت، مضت في سفرها؛ لأن عليها في الرجوع مشقة فلم يلزمها، كما لو كان أكثر من ثلاثة أيام. قال القاضي: حج البعيد: ما تقصر فيه الصلاة؛ لأن ما دونه في حكم الحضر، وإن خافت في الرجوع، مضت في سفرها ولو كانت قريبة؛ لأن عليها ضررًا في الرجوع. وإن أحرمت بحج أو عمرة في حياة زوجها في بلدها، ثم مات وخافت فواته، مضت فيه؛ لأنه أسبق. فإذا استويا في خوف الفوت، كان أحق بالتقديم. وإن لم تخف فوته، مضت في العدة في منزلها؛ لأنه أمكن الجمع بين الواجبين، فلزمها ذلك. وإن أحرمت بعد موته، لزمتها الإقامة؛ لأن العدة أسبق.
فصل:
إذا أذن لها في السفر لغير نقلة، فخرجت، ثم مات، فحكمه حكم الخروج للحج سواء. وإن كان لنقلة فمات بعد مفارقة البنيان، فهي مخيرة بين البلدين؛ لأنه ليس واحد منهما مسكنًا لها، لخروجها منتقلة عن الأول، وعدم وصولها إلى الثاني. ويحتمل أن يلزمها المضي إلى الثاني؛ لأنها مأمورة بالإقامة والسكنى، والأول بخلافه، وهذا ضعيف جدًا؛ لأن فيه إلزامها السفر مع مشقته، ومؤنته، وإبعادها عن أهلها ووطنها، وربما لم يكن لها محرم سوى زوجها الذي مات، وسفرها بغير محرم حرام، ولا يحصل من سفرها فائدة، ولا حكمة؛ لأن حكمة الاعتداد في منزلها، سترها، وصيانتها لزوم منزلها، وسفرها تبذيل لها وإبراز لها، فهو محصل لضد المقصود، سيما إذا لم يكن معها من يحفظها، ومقامها في البلد الذي يسافر إليه عند الغرباء بين غير أهلها في غير مسكنه، أشد لهلكتها، ثم تحتاج إلى الرجوع وكلفته، وهذا فيه من القبح ما يصان الشرع منه، والله أعلم. وإن وجبت العدة بعد وصولها إلى مقصدها وسفرها لنقلة، لزمها الإقامة به، وتعتد؛ لأنه صار كالوطن الذي تجب العدة فيه. وإن كان لقضاء حاجة، فلها الإقامة إلى أن تقضي حاجتها. وإن كان لزيارة، أو نزهة وقد قدر لها مدة الإقامة، أقامت ما قدر لها؛ لأنه مأذون فيه. وإن لم يقدر لها مدة، فلها إقامة ثلاثة أيام؛ لأنه لم يأذن لها في المقام على الدوام. ثم إن علمت أنه لا يمكنها الوصول قبل فراغ عدتها، لم يلزمها(3/209)
العود لأنها عاجزة عن الاعتداد في مكانها. وإن أمكنها قضاء شيء من عدتها في منزلها، لزمها العود، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم» . وإن خافت من الرجوع، سقط، للعذر. والحكم فيما إذا أذن لها في النقلة من دار إلى دار ومات وهي بينهما، كذلك.
[باب الإحداد]
وهو اجتناب الزينة وما يدعو إلى المباشرة، وهو واجب في عدة الوفاة، لما روت أم عطية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها، بنبذة من قسط، أو أظفار» متفق عليه.
ويجب هذا على الحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة، والمسلمة والذمية، لعموم الحديث فيهن، ولا يجب على الرجعية؛ لأنها باقية على الزوجية، فلها أن تتزين لزوجها وترغبه في نفسها، ولا على أم ولد لوفاة سيدها، ولا موطوءة بشبهة ولا زنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . وفي المطلقة المبتوتة والمختلعة، روايتان:
إحداهما: لا إحداد عليها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا على زوجها» . فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، وهذه عدة الوفاة، ولأنها مطلقة أشبهت الرجعية.
والثانية: يجب عليها؛ لأنها معتدة بائن، أشبهت المتوفى عنها زوجها.
فصل:
ويحرم على الحادة: الكحل بالإثمد، للخبر، ولأنه يحسن الوجه، ولا بأس(3/210)
بالكحل الأبيض، كالتوتياء ونحوه؛ لأنه لا يحسن العين، بل يزيدها مرهًا. وإن دعت الحاجة إلى الاكتحال بالصبر، والإثمد، اكتحلت ليلًا وغسلته نهارًا، لما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت على عيني صبرًا، فقال: «ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب. قال: إنه يشب الوجه، لا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» «وعن أم حكيم بنت أسيد أن زوجها توفي، وكانت تشتكي عينها، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء. فقالت: لا تكتحلي إلا لما لا بد منه، فتكتحلين بالليل، وتغسلينه بالنهار» . رواهما النسائي.
فصل:
ويحرم على الحادة: الخضاب، لما روت أم سلمة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» رواه أبو داود والنسائي. ويحرم عليها أن تمتشط بالحناء، ولا يحرم عليها غسل رأسها بالسدر، ولا المشط به، لما روت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب قالت: قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو داود. ولأنه يراد للتنظيف لا للتطيب، ويجوز تقليم الأظفار والاستحداد؛ لأنه يراد للتنظيف لا للتزيين. ويحرم عليها تحمير وجهها بالكلكون، وتبييضه باسفيذاج العرائس؛ لأنه أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى. ولها أن تستعمل الصبر في جميع بدنها، إلا وجهها؛ لأنه إنما منع منه في الوجه؛ لأنه يصفر فيشبه الخضاب.(3/211)
فصل:
ويحرم عليها الطيب، للخبر، ولأنه يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة. ويحرم عليها استعمال الأدهان المطيبة؛ لأنه طيب. فأما ما ليس بمطيب من الأدهان، كالزيت والشيرج، فلا بأس به؛ لأن التحريم من الشرع، ولم يرد بتحريمه، ولا هو في معنى المحرم.
فصل:
ويحرم عليها الحلي، للخبر، ولأنه يزيد من حسنها ويدعو إلى مباشرتها. ويحرم عليها ما صبغ من الثياب للزينة، كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي، للخبر. فإن صبغ غزله، ثم نسج، ففيه وجهان: أحدهما: لا يحرم، لقوله: «إلا ثوب عصب» . والعصب: ما صبغ غزله قبل نسجه.
والثاني: يحرم؛ لأنه أحسن وأرفع، ولأنه صبغ للتحسين، أشبه ما صبغ بعد النسج، وهذا هو الصحيح، وقوله: «إلا ثوب عصب» إنما أريد به ما صبغ بالعصب، وهو نبت ينبت باليمن، فأما كونه مصبوغ الغزل، فلا معنى له في هذا. ولا يحرم الأسود، ولا الأخضر المشبع، والأزرق المشبع؛ لأنه لم يصبغ لزينة، إنما قصد به دفع الوسخ، أو اللبس في المصيبة، ونحو ذلك، ولا بأس بلبس ما نسج من غزله على جهته من غير صبغ وإن كان حسنًا من الحرير والقطن والكتان والصوف وغيره؛ لأن حسنه من أصل خلقته، لا لزينة أدخلت عليه، فأشبه حسن المرأة في خلقها. قال الخرقي: وتجتنب النقاب؛ لأن المحرمة تمنع منه، فأشبه الطيب. وقال القاضي: كره أحمد النقاب للمتوفى عنها زوجها، دون المطلقة. قال الخرقي: فإن احتاجت إلى ستر وجهها، سدلت عليه كما تفعل المحرمة.
[باب الاستبراء]
ومن ملك أمة بسبب من الأسباب، لم تحل له حتى يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملًا، أو بحيضة إن كانت تحيض، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عام سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» . رواه أحمد(3/212)
في ((المسند)) ) . وروى الأثرم عن رويفع بن ثابت قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في يوم خيبر: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. ولأنها إذا وطئها قبل استبرائها، أدى إلى اختلاط المياه، وفساد الأنساب. فإن كانت حائضًا حين ملكها، لم تعتد بتلك الحيضة، ولزمه استبراؤها بحيضة مستقبلة؛ لأن الخبر يقتضي حيضة كاملة. وإن كانت من الآيسات، أو من اللائي لم يحضن، ففيها ثلاث روايات:
إحداهن: تستبرئ بشهر؛ لأن الشهر أقيم مقام الحيضة في عدة الحرة والأمة.
والثانية: بشهرين، كعدة الأمة.
والثالثة: بثلاثة أشهر، وهي أصح. قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرًا؟ فقال: من أجل الحمل، فإنه لا يبين في أقل من ذلك، فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك. ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة أربعين يومًا، ثم علقة أربعين يومًا، ثم مضغة بعد ذلك، فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحمة، فتبين حينئذ. وهذا معروف عند النساء. فأما شهرًا، فلا معنى له، ولا أعلم أحدًا قاله. فإن ارتفع حيضها لعارض تعلمه، لم تزل في استبراء حتى تحيض، أو تبلغ سن الإياس، فتستبرأ استبراء الآيسات، وإن لم تعلم ما رفعه، استبرأت بعشرة أشهر في إحدى الروايتين، وفي الأخرى بسنة، تسعة أشهر للحمل، وثلاثة مكان الحيضة.
فصل:
ويجب استبراء الصغيرة والكبيرة؛ لأنه نوع استبراء فاستويا فيه، كالعدة. وعنه: أن الصغيرة التي لا يوطأ مثلها لا يجب استبراؤها؛ لأنه يراد لبراءة الرحم، ولا يحتمل الشغل في حقها. وإن ملك من لا تحل له - كالمجوسية، والوثنية - فاستبرأها، ثم(3/213)
أسلمت حلت بغير استبراء ثان، للخبر، ولأن الاستبراء يراد لبراءة الرحم، ولا يختلف ذلك بالحل والحرمة. وإن أسلمت قبل الاستبراء، لزمه استبراؤها، للخبر والمعنى.
فصل:
ولا يصح الاستبراء حتى يملكها؛ لأن سببه الملك فلم يتقدم عليه، كما لا تتقدم العدة الفرقة. فإن استبرأها في مدة الخيار، صح؛ لأن الملك ينتقل بالبيع. وإن قلنا: لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، لم يصح الاستبراء فيه. وهل يشترط القبض لصحة الاستبراء؟ على وجهين:
أحدهما: يشترط، فلو حاضت بيد البائع بعد البيع، لم يصح الاستبراء؛ لأن المقصود معرفة براءتها من ماء البائع، ولا يحصل ذلك مع كونها في يده.
والثاني: يصح؛ لأن سببه الملك وقد وجد، فيجب أن يعقبه حكمه. وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها، ثم أخذها السيد، لم تحتج إلى استبراء؛ لأن ما في يد عبده ملكه. وإن اشترى مكاتبه أمة، ثم صارت إلى السيد لعجزه، أو قبضها من نجوم كتابته، لم تبح بغير استبراء؛ لأنه يتجدد ملكه بأخذها من مكاتبه، إلا أن يكون ذا رحم محرم للمكاتب، فيحل؛ لأن حكمها حكم المكاتب، وإن رق رقت، وإن عتق عتقت. والمكاتب مملوك، فلو كاتب أمته ثم عجزت، أو رهنها ثم فكها، أو ارتدت ثم أسلمت، أو ارتد سيدها ثم أسلم، حلت بغير استبراء؛ لأنه لم تخرج عن ملكه، وإنما حرمت بعارض زال، فأشبه ما لو أحرمت ثم حلت.
فصل:
وإن باعها السيد، ثم ردت عليه بفسخ أو مقايلة بعد قبض المشتري لها وافتراقهما، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك يحتمل اشتغال الرحم قبله، فأشبه ما لو اشتراها. وإن كان قبل افتراقهما، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، فأشبه شراء الصغيرة.
والثانية: لا يجب؛ لأن تيقن البراءة معلوم، فأشبه الطلاق قبل الدخول. وإن زوجها سيدها ثم طلقت قبل الدخول، لم يجب استبراؤها؛ لأن ملكه لم يتجدد عليها. وإن فارقها بعد الدخول، أو مات عنها، لم تحل حتى تقضي العدة.
فصل:
وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها زوجها قبل الدخول، وجب استبراؤها؛ لأنه تجديد ملك، وإن طلقها بعد دخوله بها، أو مات عنها، فعن أحمد: ما يدل على أنه يكتفي بعدتها؛ لأن براءتها تعلم بها. وقال أبو الخطاب: فيها وجهان:(3/214)
أحدهما: يدخل الاستبراء في العدة كذلك.
والثاني: لا يدخل؛ لأن الطلاق والملك سببان للاستبراء من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين من رجلين. وإن اشتراها وهي معتدة، فقال القاضي: يلزمه استبراؤها بعد قضاء عدتها، لما ذكرنا. ويحتمل أن تدخل بقية العدة في الاستبراء؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
فصل:
ومن ملك زوجته، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه لصيانة الماء وحفظ النسب، ولا يصان ماؤه عن مائه، لكن يستحب ذلك، ليعلم: هل الولد من نكاح عليه ولاء أو من ملك يمينه فلا ولاء عليه؟ .
فصل:
وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها، لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها؛ لأنها محرمة عليه بملك اليمين فلم تحل بالإعتاق فحرم نكاحها، كأخته من الرضاع، ولأن ذلك يفضي إلى اختلاط المياه وفساد النسب، بأن يطأها البائع، ثم يبيعها فيعتقها المشتري، ويتزوجها، يطؤها في يوم واحد. ولها أن تتزوج غيره إن لم يكن البائع يطؤها؛ لأنها لم تكن فراشًا، فأبيح لها التزويج، كما لو أعتقها البائع بعد استبرائها. وإن أعتق أم ولده، أو أمة كان يصيبها، لزمها استبراء نفسها؛ لأنها صارت بالوطء فراشًا له، فلزمها الاستبراء عند زوال الفراش، كالزوجة إذا طلقت. فإن أراد معتقها أن يتزوجها في استبرائها، جاز لأنه لا يحفظ ماؤه عن مائه، وإن أعتق أمة لم يكن يطؤها، فليس عليها استبراء؛ لأنها ليست فراشًا. وله أن يتزوجها عقيب عتقها؛ لأنها مباحة لغيره، فله أولى. وعنه: لا يتزوجها حتى يستبرئها. وقال ابن عقيل: هذا محمول على الاستحباب. لما ذكرناه.
فصل:
ومن ملك أمة يلزمه استبراؤها، لم يحل له التلذذ بها بالنظر والقبلة ونحوه؛ لأننا لا نأمن كونها حاملًا من البائع. فتكون أم ولده، فيحصل مستمتعًا بأم ولد غيره، إلا أن يملكها بالسبي، فيكون فيها روايتان:
إحداهما: يباح له ذلك؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه لها بحملها، فلا يكون مستمتعًا إلا بمملوكته.
والثانية: يحرم؛ لأن ما حرم الوطء، حرم دواعيه، كالعدة، وإن وطئت زوجة الرجل أو مملوكته بشبهة، أو زنا، لم يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها. وفي التلذذ بغير الوطء وجهان. بناء على الروايتين.(3/215)
فصل:
ومن أراد بيع أمته ولم يكن يطؤها، لم يلزمه استبراؤها؛ لأنه قد حصل يقين براءتها منه. فإن كان يطؤها، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها. قال: ما كنت لذلك بخليق، ولأن فيه حفظ مائه وصيانة نسبه، فوجب عليه، كالمشتري.
والثانية: لا يجب؛ لأنه يجب على المشتري، فأغنى عن استبراء البائع. فأما إن أراد تزويجها، أو تزوج أم ولده، لم يجز قبل استبرائها؛ لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها. فإذا لم يستبرئها السيد، أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. وله تزويج أمته التي لا يطؤها من غير استبراء؛ لأنها ليست فراشًا له.
فصل:
وإن مات عن أم ولده، لزمها الاستبراء؛ لأنها صارت فراشًا، وتستبرأ كما تستبرأ المسيبة؛ لأنه استبراء بملك اليمين. وعنه: تستبرأ بأربعة أشهر وعشر، لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال: «لا تفسدوا علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر» ، ولأنه استبراء الحرة من الوفاة، فلزمها أربعة أشهر وعشر، كعدة الزوجة. والصحيح الأول، لما ذكرناه. وخبر عمرو لا يصح، قاله أحمد.
فصل:
وإن مات عنها، أو أعتقها وهي مزوجة، أو معتدة، لم يلزمها استبراء؛ لأنه زال فراشه عنها قبل وجوب الاستبراء، فلم يجب، كما لو طلق امرأته قبل الدخول. وإن مات بعد عدتها، لزمها الاستبراء؛ لأنها عادت إلى فراشه. وقال أبو بكر: لا يلزمها استبراء إلا أن يعيدها إلى نفسه؛ لأن الفراش زال بالتزويج، فلا يعود إلا بإعادتها إلى نفسه. فإن مات زوجها وسيدها، ولم يعلق السابق منهما، فعلى قول أبي بكر: عليها بعد موت الآخر منهما عدة الحرة من الوفاة؛ لأنه يحتمل أن سيدها مات أولًا، ثم مات زوجها وهي حرة، فلزمتها عدة الحرة، لتبرأ بيقين. وعلى القول الأول: إن كان بينهما دون شهرين وخمسة أيام، فليس عليهما بعد الآخر منهما، إلا عدة الحرة من الوفاة؛ لأن الاستبراء لا يحتمل الوجوب بحال، لكون موت سيدها إن كان أولًا، فقد مات وهي مزوجة، وإن كان آخرًا، فقد مات وهي معتدة، ولا استبراء عليها في الحالين. وإن كان(3/216)
بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام، فعليها بعد موت الآخر منهما أكثر الأمرين، من عدة حرة من الوفاة، أو الاستبراء؛ لأنه يحتمل أن الزوج مات آخرًا، فعليها عدة الحرة، ويحتمل أن السيد مات آخرًا، فعليها الاستبراء بحيضة، فوجب الجمع بينهما، ليسقط الفرض بيقين. ولا ترث الزوج؛ لأن الأصل الرق، فلا ترث مع الشك.
فصل:
وإذا كانت الأمة بين نفسين فوطئاها، لزمها استبراءان؛ لأنهما من رجلين، فلم يتداخلا، كالعدتين.
فصل:
إذا اشترى أمة فظهر بها حمل، فقال البائع: هو مني، وصدقه المشتري، لحقه الولد، والجارية أم ولد، والبيع باطل. وإن كذبه المشتري، نظرنا، فإن كان البائع أقر بوطئها عند البيع، وأتت بالولد لدون ستة أشهر، فهو ولده، والبيع باطل. وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، وكان البائع استبرأها قبل بيعها، ولم يطأها المشتري، أو وطئها ولكن ولدته لدون ستة أشهر منذ وطئها، لم يلحق بواحد منهما، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا، من حين وطء المشتري، فهو ولده والجارية أم ولده. وإن لم يستبرئها واحد منهما، فأتت بولد لدون أربع سنين منذ باعها، ولأكثر من ستة أشهر منذ وطئها المشتري، عرض على القافة، وألحق بمن ألحقوه به منهما. وقد روى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها، فظهر بها حمل عند المشتري، فخاصموه إلى عمر، فقال له عمر: كنت تقع عليها؟ قال: نعم. قال: فبعتها قبل أن تستبرئها؟ قال: نعم. قال: ما كنت لذلك بخليق، فدعا القافة فنظروا إليه، فألحقوه به. فإن لم يكن البائع أقر بوطئها حين بيعها، فادعاه بعد ذلك، وكذبه المشتري، لم تقبل دعواه في الولد؛ لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر، فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه، كما لو باع عبدًا، ثم أقر أنه كان أعتقه، والقول قول المشتري مع يمينه. وهل يلحقه نسب الولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلحقه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنًا لواحد، مملوكًا لآخر، كولد الأمة المزوجة.
والثاني: لا يلحق؛ لأن فيه ضررًا على المشتري، فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه. والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/217)
[كتاب الرضاع]
إذا ثاب للمرأة لبن على ولد، فأرضعت به طفلًا دون الحولين، خمس رضعات متفرقات، صارت أمه، وهو ولدها في تحريم النكاح، وإباحة النظر، والخلوة، وثبوت المحرمية، وصارت أمهاتها جداته، وآباؤها أجداده، وأولادها إخوته، وإخوتها أخواله، وأخواتها خالاته لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] . نص على هاتين في المحرمات، فدل على ما سواهما. وروت عائشة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنة حمزة: «لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة» متفق عليهما.(3/218)
فصل: وإن كان الولد الذي ثاب اللبن بولادته، ثابت النسب من رجل، صار الطفل ولدًا له، وأولاده أولاد ولده، وصار الرجل أبًا له، وآباؤه أجداده، وأمهاته جداته، وأولاده إخوته، وإخوانه وأخواته أعمامه وعماته، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن أخا أبي القعيس ليس هو الذي أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أخيه، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك» متفق عليه. ولأن اللبن حدث للولد، والولد ولدهما، فكان المرضع بلبنه ولدهما. فإن لم يكن الولد ثابت النسب من رجل، كولد الزنا، والمنفي باللعان، فمفهومه كلام الخرقي أنه لا ينشر الحرمة بينهما؛ لأن النسب لم يثبت، فالتحريم المتفرع عليه أولى. وهذا قول ابن حامد. ولكن إن كان المرتضع أنثى، حرمت تحريم المصاهرة؛ لأنها ربيبة الملاعن، وابنة موطوءة الزاني، وكذلك أولادها، وأولاد الطفل إن كان ذكرًا. وقال أبو بكر: ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ، والزوج الملاعن؛ لأن التحريم ثابت بينهما وبين المولود، فكذلك في المرتضع؛ لأنه فرعه، ولأنه أحد المتواطئين، فتنتشر الحرمة إليه، كالمرأة، ويحتمل أن ينشر الحرمة بين الزاني وبين المرتضع لأن الولد منه حقيقة، فكان اللبن منه، لا ينشر من المرتضع والملاعن، فإن اللبن لم يثبت منه حقيقة ولا حكمًا.
فصل:
وتنتشر الحرمة من الولد إلى أولاده، وإن سفلوا؛ لأنهم أولاد أولاد المرضعة. ولا تنتشر إلى من هو في درجته وأعلى منه، كإخوته، وأخواته، وأمهاته، وآبائه، وأعمامه، وعماته، وأخواله، وخالاته، فللمرضعة نكاح أب الطفل وأخيه، ولزوجها نكاح أمه وأخته، ولإخوته وأخواته من النسب نكاح إخوته وأخواته من الرضاع؛ لأن حرمة النسب تختص به وبأولاده، دون إخوته وأخواته، ومن أعلى منه، كذلك الرضاع المتفرع عليه.(3/219)
فصل:
ولا تثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] . فجعل تمامها في الحولين، فدل على أنه لا حكم للرضاع بعدهما. وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
فصل:
واختلفت الرواية في قدر المحرم من الرضاع، فروي: أن قليله وكثيره يحرم، كالذي يفطر الصائم، لقول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . وروي: أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وعن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواهما مسلم. وروى: لا يتثبت التحريم إلا بخمس رضعات، وهي ظاهر المذهب، لما روي عن عائشة قالت: «أنزل في القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن) فنسخ من ذلك خمس، وصار الأمر إلى خمس رضعات يحرمن. فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك» . رواه مسلم. وهذا الخبر يفسر الرضاعة المحرمة في الآية، ويقدم على الخبر الآخر؛ لأنه إنما يدل بدليل خطابه، والمنطوق أقوى منه. فإن شك في عدد الرضاع، أو في وجوده، لم يثبت التحريم؛ لأن الأصل الإباحة، فلا تزول بالشك.(3/220)
فصل:
واختلف أصحابنا في الرضعة. فقال أبو بكر: متى شرع في الرضاع وخرج الثدي من فيه، فهي رضعة. سواء قطع اختيارًا، أو لعارض من تنفس، أو أمر يلهيه، أو انتقال من ثدي إلى آخر، أو قطعت المرضعة عليه. فإذا عاد، فهي رضعة ثانية. وقال ابن أبي موسى: حد الرضعة أن يمص ثم يمسك عن الامتصاص، لنفس، أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحرم المصة ولا المصتان، والإملاجة ولا الإملاجتان» يدل على أن لكل مصة أثرًا، ولأنه لو تباعد ما بينهما، كانا رضعتين، فكذلك إذا تقاربا، ولأن القليل من الوجور والسعوط رضعة، فالامتصاص أولى. وقال ابن حامد: إن قطع لعارض، أو قطع عليه ثم عاد في الحال، فهما رضعة واحدة. وإن تباعدا، أو انتقل من امرأة إلى أخرى، فهما رضعتان؛ لأن الآكل لو قطع الأكل للشرب، أو عارض، وعاد في الحال، كان أكلة واحدة، فكذلك الرضاع.
فصل:
ويثبت التحريم بالوجور. وهو أن يصب اللبن في حلقه؛ لأنه ينشز العظم وينبت اللحم، فأشبه الارتضاع. وبالسعوط، وهو أن يصب على أنفه؛ لأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلًا للتحريم بالرضاع، كالفم. وعنه: لا يثبت التحريم بهما؛ لأنهما ليسا برضاع. وإن جمد اللبن فجعل جبنًا، وأكله الصبي، فهو كالوجور. ولا يثبت التحريم بالحقنة في المنصوص عنه؛ لأنها تراد للإسهال، لا للتغذي، فلا تنبت لحمًا، ولا تنشز عظمًا. وقد روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم رواه أبو داود. وقال ابن حامد وابن أبي موسى: ينشر الحرمة؛ لأنه واصل إلى الجوف، أشبه الواصل من الأنف. وإن قطر في إحليله، لم ينشر الحرمة. وجهًا واحدًا؛ لأنه ليس برضاع ولا في معناه.
فصل:
إذا حلبت في إناء دفعة واحدة، أو في دفعات، ثم سقته صبيًا في أوقات خمسة، فهو خمس رضعات. وإن سقته في وقت واحد، فهو رضعة واحدة؛ لأن الاعتبار بشرب الصبي، فإن التحريم يثبت به، فاعتبر تفرقه واجتماعه. وإن سقته الجميع في وقت واحد(3/221)
جرعة بعد جرعة، فعلى قول ابن حامد: هو رضعة واحدة، لما ذكرنا في الرضاع. وإن حلبت امرأتان في إناء واحد، وسقتاه صبيًا في خمسة أوقات، صار ابنهما؛ لأن ذلك لا يزيد على اللبن المشوب، وهو ينشر الحرمة.
فصل:
واللبن المشوب كالمحض في نشر الحرمة. ذكره الخرقي. وهذا إذا كانت صفات اللبن باقية، فإن صب في ماء كثير لم يتغير به، لم يثبت التحريم؛ لأن هذا لا يسمى لبنًا مشوبًا، ولا ينشز عظمًا، ولا ينبت لحمًا. وقال أبو بكر: قياس قول أحمد، أن المشوب لا ينشر الحرمة؛ لأنه وجور. وحكي عن ابن حامد: إن غلب اللبن، حرم، وإن غلب خلطه، لم يحرم؛ لأن الحكم للأغلب، ويزول حكم المغلوب، والأول أصح؛ لأن ما تعلق الحكم به غالبًا، تعلق به مغلوبًا، كالنجاسة، والخمر. وسواء شيب بمائع، كالماء، والعسل، أو بجامد، مثل أن يعجن به أقراص، ونحوها؛ لأنه مشوب.
فصل:
ويحرم لبن الميتة؛ لأنه لبن آدمية ثابت على ولد، فأشبه لبن الحية. وقال الخلال: لا ينشر الحرمة؛ لأنه معنى تتعلق به الحرمة في الحياة، فلم تتعلق في حال الموت، كالوطء، وإن حلبته في إناء ثم سقي منه صبي بعد موتها، كان حكمه كحكم ما لو سقي في حياتها؛ لأنه انفصل عنها في الحياة.
فصل:
ولا تثبت الحرمة بلبن البهيمة؛ لأن الأخوة فرع على الأمومة، ولا تثبت الأمومة بهذا الرضاع، فالأخوة أولى. ولا تثبت بلبن رجل؛ لأنه لا يجعل غذاء للمولود، فأشبه لبن البهيمة. ولا بلبن خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم أنه امرأة، فلا يثبت التحريم بالشك. وقال ابن حامد: يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى، فإن أيس من انكشافه بموت أو غيره، ثبت الحل، لما ذكرنا، وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل، فقال أبو الخطاب: نص أحمد على أنه لا ينشر الحرمة؛ لأنه نادر، أشبه لبن الرجل. وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين:
إحداهما: ينشر الحرمة؛ لأنه لبن آدمية، أشبه لبن ذات الحمل، وهذا قول ابن حامد لأنه جعل لبن الخنثى موقوفًا. ولو كان تقدم الحمل شرطًا في التحريم، لما وقف أمره؛ لأننا تيقنا عدمه.
فصل:
وإذا ثاب للمرأة لبن من غير حمل، وقلنا: إنه ينشر الحرمة، فأرضعت به طفلًا،(3/222)
صار ابنًا لها، ولم يصر ابنًا لزوجها؛ لأنه لم يثب بوطئه، فلم يكن منه، وإن وطئ رجلان امرأة، فأتت بولد، فأرضعت بلبنه طفلًا، صار ولدًا لمن ثبت نسب المولود منه، وينتفي عمن ينتفي عنه، سواء ثبت بالقافة أو بغيرها؛ لأن اللبن تابع للولد. فإن ألحقته القافة بهما، فالمرتضع ولدهما. وإن أشكل، أو لم يوجد قافة، ثبتت الحرمة بينه وبينهما؛ لأنه ولد لهما، أو ولد لأحدهما، فتحرم عليه بنات من هو ولد له، وقد اشتبهت الأنساب المحرمة، بغيرها فيحرمان، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات. ولا تثبت المحرمية بينه وبين واحدة منهن كذلك.
فصل:
ولو طلق الرجل زوجة له منها لبن، فتزوجت صبيًا رضيعًا، فأرضعته صار ابنها وابن مطلقها، فينفسخ نكاحها لأنها صارت أمه، وتحرم على المطلق؛ لأنها صارت من حلائل أبنائه لما أرضعت الصبي الذي تزوجته. ولو زوج رجل أم ولده صغيرًا مملوكًا، فأرضتعه بلبن سيدها، انفسخ نكاحها، وحرمت على سيدها كذلك. وإن زوجها صبيًا حرًا، لم يصح نكاحه؛ لأن من شرط نكاح الإماء خوف العنت، وهو معدوم في الصبي. فإن أرضعته، لم تحرم على سيدها؛ لأنه ليس بزوج في الحقيقة. وإن تزوجت صغيرًا، ثم فسخت نكاحه لعيب، ثم تزوجت كبيرًا، فأولدها، وأرضعت بلبنه الصغير الذي فسخت نكاحه، حرمت على زوجها على التأبيد؛ لأنها صارت من حلائل أبنائه.
فصل:
وإن طلق الرجل زوجته وهي ذات لبن منه، فتزوجت آخر، ولم تحمل منه، فاللبن للأول، سواء زاد بوطء الثاني، أو لم يزد؛ لأن اللبن للولد. وإن حملت من الثاني، ولم تلد، ولم ينقطع لبن الأول، ولم يزد، فهو للأول أيضًا كذلك. وإن ولدت من الثاني، فاللبن له وحده، انقطع لبن الأول أو اتصل، زاد أو لم يزد؛ لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره. وإن لم تلد من الثاني، واتصل لبن الأول، وزاد بالحمل من الثاني، فاللبن منهما؛ لأن اتصال لبن الأول دليل على أنه منه، وزيادته عند حدوث الحمل، دليل على أنه منه، فيضاف إليهما. وإن انقطع لبن الأول، ثم ثاب بالحمل من الثاني، فقال أبو بكر: هو منهما؛ لأن الظاهر أن لبن الأول عاد، وسببه وطء الثاني، فيضاف إليهما، كالتي قبلها. وقال القاضي: يحتمل أنه من الثاني وحده؛ لأن لبن الأول ذهب حكمه بانقطاعه، وحدث بحمل الثاني فيكون منه. وهذا اختيار أبي الخطاب.
فصل:
إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد، لهن لبن منه، فارتضع طفل من كل واحدة(3/223)
منهن رضعة، أو ثلاث زوجات، فارتضع من كل واحدة رضعتين، لم يصرن أمهات له؛ لأنه لم يكمل رضاعه من واحدة منهن، وصار السيد والزوج أبًا له في أصح الوجهين؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات، فكمل رضاعه من لبنه، فصار أبًا له، كما لو أرضعته واحدة خمسًا.
والثاني: لا يصير أبًا له؛ لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة، فلم تثبت به الأبوة، كلبن البهيمة. ولو أرضعته بغير لبن السيد، لم يصر السيد أبا له بحال، ولا يحرم أحدهما على الآخر في أصح الوجهين؛ لأن تحريمه عليه فرع كونه ولدًا لهن، ولم يثبت، وفي الآخر يحرم؛ لأنه كمل له الرضاع من موطوءات السيد، فيحرم عليه، كما لو كمل له من واحدة. ولو كان للمرأة خمس بنات لهن لبن، فارتضع طفل من كل واحدة رضعة، لم يصرن أمهات له. وهل تصير المرأة جدة له، وزوجها جدًا، وابنها خالًا له؟ على الوجهين. فإن قلنا بالوجه الأول، حرمت أمهات الأولاد على الطفل في المسألة الأولى؛ لأنهن موطوءات أبيه، وبنات المرأة في الثانية؛ لأنهن بنات جده وجدته، وإن كن ستًا، فارتضع من كل واحدة رضعة، صارت كل واحدة منهن خالته؛ لأنه قد ارتضع من أخواتها خمس رضعات. وإن قلنا بالوجه الثاني، لم يحرمن، لعدم الأسباب المحرمة. وإن كمل الطفل خمس رضعات من أم رجل وأخته وزوجته وابنته وزوجة ابنه وزوجة أبيه، خرج على الوجهين. فأما إن أرضعت امرأة طفلًا ثلاث رضعات من لبن زوج، ثم انقطع لبنها، وتزوجت آخر، فصار لها منه لبن، فأرضعت منه الطفل رضعتين، صارت له أمًا وجهًا واحدًا؛ لأنه كمل رضاعه من لبنها، ولم يصر الرجلان أبوين له؛ لأنه لم يكمل رضاعه من لبن واحد منهما، لكنه يحرم عليهما؛ لأنه ربيبهما.
فصل:
إذا تزوج رجل صغيرة، فأرضعتها زوجة له كبرى بلبنه، حرمتا عليه على التأبيد؛ لأن الصغرى بنته، والكبرى من أمهات نسائه. وإن أرضعتها بلبن غيره بعد دخوله بها، حرمتا أيضًا على التأبيد؛ لأن الكبرى من أمهات نسائه، والصغرى ربيبته المدخول بأمها، وإن كان ذلك بعد طلاقهما أو طلاق إحداهما، فكذلك، لما ذكرناه. ولو تزوج رجلان زوجتين كبرى وصغرى، ثم طلقاهما وتزوج كل واحدة منهما زوجة الآخر، فأرضعت الكبرى والصغرى، حرمت الكبرى عليهما؛ لأنها من أمهات نسائهما، وتحرم الصغرى على من دخل بالكبرى؛ لأنها ربيبته مدخول بأمها، ولا تحرم على الآخر، لعدم دخوله بأمها. وإن أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى بلبن غيره، ولم يكن دخل بالكبرى، حرمت الكبرى، وفي الصغرى وجهان:(3/224)
أحدهما: ينفسخ نكاحها؛ لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح، فانفسخ نكاحهما، كما لو صارتا أختين.
والثاني: لا ينفسخ نكاحها، اختاره الخرقي؛ لأن الكبرى أولى بفسخ نكاحها، لتحريمها على التأبيد، فتبقى هذه منفردة به، بخلاف الأختين، فإنه ليس واحدة منهما أولى من الأخرى.
فصل:
وإن أرضعتها بنت الكبرى، فهو كرضاع الكبرى سواء؛ لأنها صارت بنت بنتها. وإن أرضعتها أمها، صارت زوجتاه أختين، فانفسخ نكاحهما كذلك. وإن أرضعتها جدتها، صارت الصغرى خالة الكبرى، أو عمتها، وإن أرضعتها أختها، صارت الكبرى خالتها، وإن أرضعتها امرأة أخيها بلبنه، صارت عمتها، وينفسخ نكاحهما في جميع ذلك، وله نكاح من شاء منهما.
فصل:
وإن تزوج صغيرتين فأرضعتهما امرأة واحدة معًا، أو إحداهما بعد الأخرى، انفسخ نكاحهما معًا؛ لأنهما صارتا أختين، وله أن ينكح من شاء منهما، وإن أرضعتهما زوجة له كبرى مدخول بها، حرم الكل عليه على الأبد، وإن لم يدخل بها فأرضعتهما معًا، انفسخ نكاحهما، وإن أرضعت واحدة بعد الأخرى، ففيه وجهان:
أحدهما: ينفسخ نكاح الأولى؛ لأنها اجتمعت مع أمها في النكاح، ويثبت نكاح الثانية؛ لأنها لم تصر أختًا للأولى إلا بعد فسخ نكاحها.
والثاني: لا ينفسخ نكاح الأولى برضاعها، فإذا أرضعت الثانية، صارتا أختين فانفسخ نكاحهما. وإن تزوج ثلاث صغار، فأرضعتهن امرأة معًا، أو أرضعت واحدة منفردة واثنتين بعد ذلك معًا، انفسخ نكاحهن جميعًا؛ لأنهن صرن أخوات، وإن أرضعتهن منفردات، انفسخ نكاح الأوليين؛ لأنهما صارتا أختين في نكاحه، وثبت نكاح الثالثة؛ لأنها لم تصر أختًا لهما إلا بعد فسخ نكاحهما. وإن أرضعتهن امرأته الكبرى قبل دخوله بها، فكذلك في قول الخرقي، وفي الوجه الآخر ينفسخ نكاح الجميع.
فصل:
وكل من تحرم عليه ابنتها، كأمه، وابنته، وأخته، وجدته، وزوجة أخيه بلبن أخيه إذا أرضعت زوجته الصغرى، حرمتها عليه على التأبيد، وفسخت نكاحها كذلك؛ لأنها تجعلها بنتًا لها. ومن لا تحرم ابنتها، كعمته وخالته وامرأة عمه وخاله، لا يضر رضاعها(3/225)
شيئًا لأن ابنتها حلال له. ولو تزوج ابنة عمه، أو بنت عمته، أو بنت خاله أو خالته، وهما صغيران، فارتضع أحدهما من جدتهما، انفسخ النكاح بينهما؛ لأن أحدهما يصير عم صاحبه أو خاله.
فصل:
ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول، فعليه للزوج ما يلزمه من صداقها وهو النصف؛ لأنه قرره عليه بعد أن كان يعرض للسقوط، وفرق بينه وبين زوجته، فلزمه ذلك، كشهود الطلاق إذا رجعوا. وإن اشترك في الإفساد جماعة، فالضمان بينهم مقسوم على عدد الرضعات، لاشتراكهم في السبب. وإن كانت المرأة هي المفسدة لنكاحها، فلا صداق لها. فإن أرضعت زوجته الكبرى الصغرى، ففسد نكاحهما، فلا مهر للكبرى، ويرجع عليها بنصف صداق الصغرى. وإن دبت الصغرى فارتضعت من الكبرى وهي نائمة، فلا مهر للصغرى، ويرجع عليها بنصف صداق الكبرى. وإن ارتضعت منها رضعتين وهي نائمة، ثم انتبهت فأرضعتها ثلاث رضعات، فعليه للصغرى خمس صداقها، وعشره يرجع على الكبرى، وللكبرى خمس صداقها يرجع به على الصغرى. وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول، فلها المهر؛ لأنه استقر بالدخول فلم يسقط، كما لو ارتدت. وإن أفسد نكاحها غيرها، فلا شيء عليه كذلك. والمنصوص عن أحمد: أنه يرجع عليه بصداقها؛ لأنه نكاح أفسد، فوجب على المفسد غرامة ما وجب على الزوج، كقبل الدخول.
فصل:
إذا أقر الزوج أن زوجته أخته من الرضاع، انفسخ نكاحه؛ لأنه مقر على نفسه، ثم إن صدقته وكان قبل الدخول، فلا مهر لها؛ لأنه نكاح باطل لا دخول فيه، وإن كذبته، لم يسقط صداقها، ولزمه نصفه؛ لأن الأصل الحل وصحة النكاح. وإن كان بعد الدخول، فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن كانت هي التي قالت: هو أخي من الرضاع، فأكذبها، فهي زوجته في الحكم، ولم يقبل قولها في فسخ نكاحه؛ لأنه حق له عليها، لكن إن طلقها قبل الدخول، فلا مهر لها، لاعترافها بسقوطه. وإن قال الزوج: هذه ابنتي من الرضاع، وهي مثله أو أكبر منه، لم تحرم عليه؛ لأننا نتحقق كذبه.(3/226)
[كتاب النفقات]
باب نفقة الزوجات يجب على الرجل نفقة زوجته، وكسوتها بالمعروف إذا سلمت نفسها إليه، ومكنته من الاستمتاع بها، لما روى جابر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم. فإن امتنعت من تسليم نفسها كما يجب عليها، أو مكنت من استمتاع دون استمتاع، أو في منزل دون منزل، أو في بلد دون بلد، ولم تكن شرطت دارها ولا بلدها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد التمكين التام، فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع، أو تسليمه في موضع دون موضع. وإن عرضت عليه، وبذلت له التمكين التام وهو حاضر، لزمته النفقة؛ لأنها بذلت الواجب عليها، وإن كان غائبًا، لم تجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو يمضي زمن ولو سار، لقدر على أخذها؛ لأنه لا يوجد التمكين إلا بذلك. وإن لم تسلم إليه، ولم تعرض عليه فلا نفقة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة، فلم ينفق عليها حتى أدخلت عليه. ولأنه لم يوجد التمكين، فلا تجب النفقة، كما لو منعت نفسها.(3/227)
فصل:
ولو عرضت عليه وهي صغيرة، لا يوطأ مثلها، فلا نفقة لها؛ لأنه لم يوجد التمكين من الاستمتاع، لأمر من جهتها. وإن كانت كبيرة والزوج صغير، وجبت نفقتها؛ لأن التمكين وجد من جهتها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت النفقة، كما لو سلمت إليه، وهو كبير فهرب منها. وإن سلمت إليه وهو مجبوب، أو مريض لا يمكنه الوطء، وجبت النفقة كذلك. وإن سلمت إليه وهي رقتاء، أو نحيفة، أو مريضة، لا يمكن وطؤها، وجبت نفقتها؛ لأن تعذر الاستمتاع لسبب لا تنسب إلى التفريط فيه.
فصل:
وإن سافرت زوجته بغير إذنه لغير واجب، أو انتقلت من منزله، فلا نفقة لها. وإن كان غائبًا؛ لأنها خرجت عن قبضته وطاعته، فأشبهت الناشز. وإن سافرت بإذنه، فعلى ما ذكرناه في القسم. وإن أحرمت بحج، أو عمرة في الوقت الواجب من الميقات، لم تسقط نفقتها؛ لأنها فعلت الواجب بأصل الشرع، فأشبه ما لو صامت رمضان. وإن تطوعت بالإحرام بغير إذنه، أو أحرمت بالواجب قبل الوقت، أو قبل الميقات بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته الاستمتاع بما لا يجب عليها، فهو كسفرها بغير إذنه وإن فعلته بإذنه، فهو كسفرها لحاجتها. وإن أحرمت بالحج المنذور، فقال أصحابنا: لها النفقة، وينبغي أن يقال: إن كان النذر قبل النكاح، فلها النفقة؛ لأنه وجب قبل النكاح، فكان مقدمًا على حقه فيها. وإن كان بعد النكاح بإذن الزوج، فلها النفقة؛ لأنه إذن في إلزامها إياه، فكان راضيًا بموجبه. وإن كان بغير إذنه، فلا نفقة لها؛ لأنها فوتت التمكين اختيارًا منها بغير رضاه، فأشبه السفر لحاجتها.
فصل:
وصوم رمضان لا يسقط النفقة؛ لأنه واجب معين. والحكم في صوم النذر والتطوع والاعتكاف المنذور والتطوع، كالحكم في الحج الذي كذلك. وأما قضاء رمضان، فإن ضاق وقته، لم يمنع النفقة؛ لأنه واجب مضيق، أشبه رمضان، وإن كان وقتًا متسعًا، فهو كالإحرام قبل الوقت.
فصل:
وإذا أسلمت زوجة الكافر بعد الدخول، فلها نفقة العدة؛ لأن الإسلام واجب عليها، مضيق، أشبه الإحرام بالحج الواجب في وقته. وإن أسلم هو دونها، وهي غير كتابية، فلا نفقة لها؛ لأنها منعته بمعصيتها، وإقامتها على كفرها. وإن ارتدت مسلمة، فلا نفقة لها كذلك، وإن كان هو المرتد، فعليه النفقة؛ لأنه الممتنع بردته. وإن عادت المرتدة(3/228)
إلى الإسلام، فلها النفقة من حين عادت، ولو كان غائبًا؛ لأن سقوط نفقتها لردتها، فعادت بزوالها. وإن نشزت الزوجة، ثم عادت إلى الطاعة والزوج غائب، فلا نفقة لها حتى يمضي زمن لو سار فيه، لقدر على استمتاعها؛ لأن سقوط نفقتها لعدم التمكين، ولم يحصل بعودها إلى الطاعة.
فصل:
وللأمة المزوجة النفقة في الزمن الذي تسلم نفسها فيه، فإن سلمت إليه ليلًا ونهارًا، فلها النفقة كلها، كالحرة. وإن سلمت ليلًا دون النهار، فلها نصف نفقتها؛ لأنها سلمت نفسها في الزمن الذي يلزمها تسليم نفسها فيه، فكان لها نفقتها فيه، كالحرة في جميع الزمان.
فصل:
ولا تجب النفقة في النكاح الفاسد؛ لأنه ليس بنكاح شرعي.
[باب نفقة المعتدة]
وهي ثمانية أقسام: أحدها: الرجعية، فلها النفقة السكنى؛ لأنها باقية على الزوجية غير مانعة له من الاستمتاع، أشبه ما قبل الطلاق.
الثاني: البائن بفسخ الطلاق، فإن كانت حاملًا فلها النفقة والسكنى، لقول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهل تجب النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه وجهان:
أحدهما: للحمل؛ لأنها تجب بوجوده، وتسقط بعدمه.
والثاني: تجب لها بسببه؛ لأنها تجب مع الإعسار، ونفقة الولد لا تجب على معسر. وإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها، لدلالة الآية، بدليل خطابها على عدمها. وفي السكنى روايتان:
إحداهما: تجب، للآية. والأخرى: لا تجب، لحديث فاطمة بنت قيس، وهو(3/229)
مفسر للآية فإن قلنا: تجب النفقة للحمل، فلا نفقة لزوجة العبد، ولا للأمة الحامل؛ لأنه لا تجب نفقة ولدهما على أبيه. وإن قلنا: تجب للحامل، وجبت نفقتهما، كما تجب في صلب النكاح.
فصل:
الثالث: المعتدة في الوفاة، فإن كانت حائلًا، فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لأن ذلك يجب للتمكين من الاستمتاع، وقد فات بالوفاة، وإن كانت حاملًا، ففي وجوبهما روايتان:
إحداهما: لا تجبان كذلك.
والثانية: تجبان؛ لأنها معتدة في نكاح صحيح، أشبهت البائن في الحياة.
فصل:
الرابع: المعتدة من اللعان، فإن كانت حائلًا، أو منفيًا حملها، فلا سكنى لها ولا نفقة، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فرق بين المتلاعنين. وقضى: أن لا بيت عليه ولا قوت» . رواه أبو داود. ولأنها بائن لا ولد له معها، فأشبهت المختلعة الحائل. وإن كانت حاملا حملًا يلحقه نسبه، فلها السكنى والنفقة؛ لأن ذلك يجب للحمل، أو لسببه، وهو موجود، فإن نفاه فأنفقت وسكنت، ثم استلحقه، لحقه ولزمه ما أنفقت، وأجرة رضاعها ومسكنها؛ لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له، وقد بان خلافه.
فصل:
الخامس: المعتدة من وطء شبهة، أو نكاح فاسد، إذا فرق بينهما، فلا سكنى لها بحال؛ لأنه إنما تجب بسبب النكاح، ولا نكاح هاهنا، ولا نفقة لها إن كانت حائلًا. وإن كانت حاملًا، وقلنا بوجوب النفقة للحمل، وجبت؛ لأن الحمل هاهنا لاحق به، فأشبه الحمل في النكاح الصحيح. وإن قلنا: تجب للحامل، فلا نفقة لها؛ لأن حرمته هاهنا غير كاملة.
فصل:
السادس: الزانية: لا نفقة لها، ولا سكنى بحال؛ لأنه لا نكاح بينهما، ولا يلحقه(3/230)
نسب حملها.
فصل:
السابع: زوجة المفقود، لها النفقة لمدة التربص؛ لأنها محبوسة عليه في بيته، فإذا حكم لها بالفرقة، انقطعت نفقتها، لزوال نكاحها حكمًا، فإذا قدم فردت عليه، فلها النفقة لما يستقبل دون ما مضى؛ لأنها خرجت بمفارقتها إياه عن قبضته، فلا تجب إلا بعودها إليه، وإن لم ترد إليه، فلا نفقة لها بحال.
فصل:
الثامن: زوجة العبد، والأمة المزوجة، وقد تقدم بيان حكمهما.
فصل:
ومن وجبت لها النفقة للحمل، وجب دفعها إليها يومًا بيوم، لقول الله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . ولأن الحمل يتحقق حكمًا في منع النكاح، والأخذ في الزكاة، ووجوب الدفع في الدية، والرد بالعيب، فكذلك في وجوب النفقة لها. وقال أبو الخطاب: ويحتمل أنه لا يجب دفع النفقة إليها، حتى تضع الحمل؛ لأنه لا يتحقق، ولذلك لم يصح اللعان عليه قبل وضعه على إحدى الروايتين، والمذهب:
الأول: فإن أنفق عليها، ثم تبين أنها غير حامل، رجع عليها؛ لأنه دفعها إليها، على أنها واجبة، فرجع عليها، كما لو قضاها دينًا، ثم تبين براءته منه. وعنه: لا يرجع عليها؛ لأنه لو كان النكاح فاسدًا، فأنفق عليها، ثم فرق بينهما، لم يرجع، كذا هاهنا. وإن لم ينفق عليها لظنه أنها حائل، ثم تبين أنها حامل، رجعت عليه؛ لأننا تبينا استحقاقها له، فرجعت به عليه، كالدين. وإن ادعت الحمل، لتأخذ النفقة، أنفق عليها ثلاثة أشهر، ثم ترى القوابل، فإن بان أنها حامل، فقد أخذت حقها، وإن بان خلافه، رجع عليها.
[باب قدر النفقة]
يجب للمرأة من النفقة قدر كفايتها بالمعروف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما(3/231)
يكفيك وولدك بالمعروف» . متفق عليه. ولأن الله قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . والمعروف: قدر الكفاية، ولأنها نفقة واجبة، لدفع الحاجة، فتقدرت بالكفاية، كنفقة المملوك، فإذا ثبت أنها غير مقدرة، فإنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم، فيفرض لها قدر كفايتها من الخبز والأدم. وقال القاضي: هي مقدرة برطلي خبز بالعراقي، وما يكفيها من الأدم؛ لأن الواجب للمسكين في الكفارة رطلان. ويجب لها في القوت الخبز؛ لأنه المقتات في العادة. وقال ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . الخبز والزيت، وعن ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر. ومن أفضل ما تطعمهم: الخبز واللحم. ويجب لها من الأدم بقدر ما تحتاج إليه من أدم البلد، من الزيت، والشيرج والسمن واللبن واللحم، وسائر ما يؤتدم به؛ لأن ذلك من النفقة بالمعروف، وقد أمر الله تعالى ورسوله به.
فصل:
ويختلف ذلك بيسار الزوج وإعساره، لقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] . وتعتبر حال المرأة أيضًا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فيجب للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد وأدمه بما جرت به عادة مثلها ومثله، وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدمه، على قدر عادتهما، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا، ما بينهما، كل على حسب عادته؛ لأنه إيجاب نفقة الموسرين على المعسر، وإنفاق الموسر نفقة المعسرين، ليس من المعروف، وفيه إضرار بصاحبه. وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر، ولأنهما ليسا بأحسن حالًا منه، ومن نصفه حر، إن كان معسرًا، فهو كالمعسرين، وإن كان موسرًا، فهو كالمتوسطين.
فصل:
فإن دفع إليها قيمة الخبز والأدم، أو الحب والدقيق، لم يلزمها قبوله؛ لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يجب أخذ عوضه، كالكفارة، وإن اتفقا على ذلك جاز؛ لأنه حق آدمي، فجاز أخذ عوضه باتفاقهما، كالقرض.
فصل:
ويجب لها ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها، والماء والسدر لغسله، وما(3/232)
يعود بنظافتها؛ لأنه يراد للتنظيف، فيجب عليه، كما يجب على المستأجر كنس الدار وتنظيفها. ولا يلزمه ثمن الخضاب؛ لأنه للزينة، فأشبه الحلي، ولا ثمن الدواء وأجرة الطبيب؛ لأنه ليس من النفقة الراتبة، إنما يحتاج إليه لعارض. وأما الطيب، فما يراد منه لقطع السهك والريح الكريهة والعرق، لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وما يراد للتلذذ والاستمتاع، لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يجب عليه.
فصل:
وتجب الكسوة، للآية والخبر، ولأنه يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام فلزمته، كالنفقة. ويجب للموسرة تحت الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد، من الإبريسم. والخز والقطن والكتان. وللفقيرة تحت الفقير من غليظ القطن والكتان، وللمتوسطة تحت المتوسط، أو إذا كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، ما بينهما على حسب عوائدهم في الملبوس، كما قلنا في النفقة. وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة، ومداس للرجل، وجبة للشتاء؛ لأن ذلك من الكسوة بالمعروف، وملحفة، أو كساء، أو مضربة محشوة للنوم، وبساط، ولبد، أو حصير للنهار. ويكون ذلك من المرتفع للأولى، ومن الأدون للثانية، ومن المتوسط للثالثة؛ لأنه من المعروف.
فصل:
ويجب لها مسكن؛ لأنها لا تستغني عنه للإيواء، والاستتار عن العيون، للتصرف والاستمتاع، ويكون ذلك على قدرهن، كما ذكرنا في النفقة.
فصل:
وإن كانت ممن لا تخدم نفسها، لكونها من ذوات الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم، لقول الله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . وإخدامها في العشرة بالمعروف، ولا يجب لها أكثر من خادم؛ لأن المستحق خدمتها في نفسها، وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يخدمها إلا امرأة، أو ذا رحم محرم، أو صغيرًا وهل يجوز أن تكون كتابية؟ فيه وجهان: بناء على إباحة النظر لهن، فإن قلنا بجوازه: فهل يلزم المرأة قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمها قبولها؛ لأنهم يصلحون للخدمة.
والثاني: لا يلزمها؛ لأن النفس تعافهم وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي، وآخذ أجرة الخادم، لم يلزم الزوج لأن القصد بالخدمة ترفيهها، وتوفيرها على حقه، وذلك(3/233)
يفوت بخدمتها. وإن قال: أنا أخدمك بنفسي، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمها الرضى به؛ لأن الكفاية تحصل به.
والثاني: لا يلزمها؛ لأنها تحتشمه، فلا تستوفي حقها من الخدمة، ولا يلزمه أن يملكها خادمًا، بل إن كان له، أو استأجره، جاز. وإن كان مملوكًا لها، فاتفقا على خدمته، لزمه نفقته بقدر نفقة الفقيرين، في القوت والأدم والكسوة، ولا يجب له مشط، ولا سدر، ولا دهن للرأس لأنه يراد للتنظيف والزينة، ولا يراد ذلك من الخادم. ويجب للخادمة خف إذا كانت تخرج إلى الحاجات، لحاجتها إليه.
فصل:
وعليه دفع نفقتها إليها كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة. فإن اتفقا على تعجيلها، أو تأخيرها، أو تسليفها النفقة لشهر، أو عام، أو أكثر، جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما، فجاز فيه ما تراضيا عليه، كالدين. فإن دفع إليها نفقة يوم، فبانت فيه، لم يرجع بما بقي؛ لأنها أخذت ما تستحقه. وإن أسلفها نفقة أيام، ثم بانت، رجع عليها؛ لأنه غير مستحق لها. وذكر القاضي: ما يدل على أن حكم ذلك حكم الرجوع في معجل الزكاة، على ذكر في موضعه. فأما إن غاب عن زوجته زمنًا، ولم ينفق عليها، فإنها ترجع عليه بنفقة ما مضى، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، إن طلقوا: أن يبعثوا بنفقة ما مضى. ولأنه حق لها عليه بحكم العوض، فرجعت به عليه، كالدين. وعنه: لا ترجع عليه إلا أن يكون الحاكم قد فرضها لها؛ لأنها نفقة، فأشبهت نفقة الأقارب.
فصل:
وعليه كسوتها في كل عام مرة في أوله؛ لأنه العادة. فإن تلفت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها، لزمه بدلها؛ لأن ذلك من تمام كسوتها، وإن بليت قبله، لم يلزمه بدلها؛ لأنه لتفريطها، فأشبه ما لو أتلفتها. وإن مضى زمن يبلى فيه مثلها ولم تبل، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه بدلها؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة.
والثاني: يجب؛ لأن الاعتبار بالمدة، بدليل أنها لو تلفت قبل انقضاء المدة، لم يلزمه بدلها، وإن كساها ثم أبانها، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع؛ لأنه دفع ما تستحق دفعه، فلم يرجع به، كنفقة اليوم.
والثاني: يرجع؛ لأنه دفع لزمن مستقبل، أشبه ما لو سلفها النفقة، ثم أبانها.(3/234)
فصل:
وإذا دفع إليها النفقة، فلها أن تتصرف فيها بما شاءت، من بيع وصدقة وغيرهما. لأنها حق لها، فملكت التصرف فيها، كالمهر، إلا أن يعود ذلك عليها بضرر في بدنها، ونقص في استمتاعها، فلا تملكه؛ لأنه يفوت حقه، وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين. وفي الآخر: ليس لها التصرف فيها بحال؛ لأنه يملك استرجاعها بطلاقها، بخلاف النفقة.
فصل:
وإذا نشزت المرأة، سقطت نفقتها؛ لأنها تستحقها في مقابلة التمكين من استمتاعها، وقد فات ذلك بنشوزها. وإن كان لها ولد، لم تسقط نفقته؛ لأن ذلك حق له، فلا تسقط بنشوزها.
[باب قطع النفقة]
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر، فلها فسخ النكاح، لقول الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وقد تعذر الإمساك بالمعروف، فيتعين التسريح بإحسان. وكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا. فإن طلقوا، بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه إذا ثبت لها الفسخ لعجزه عن الوطء، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة أولى؛ لأن الضرر فيه أكثر. وإن أعسر ببعضها، فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها. وإن أعسر بكسوة المعسر، فلها الفسخ؛ لأن البدن لا يقوم بدونها، فأشبهت القوت. وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر، فلا خيار لها؛ لأنها تسقط بإعساره، ولأن البدن يقوم بدونها. ومن لم يجد إلا قوت يوم بيوم، فليس بمعسر بالنفقة؛ لأن هذا هو الواجب. وإن كان يجد في أول النهار ما يغديها، وفي آخره ما يعشيها، فلا خيار لها؛ لأنها تصل إلى كفايتها. وإن كان يجد قوت يوم دون يوم، فلها الخيار؛ لأنها لا تصل إلى كفايتها، وإن كان صانعًا يعمل في كل أسبوع ثوبًا، يكفيه ثمنه للأسبوع كله، فلا خيار لها؛ لأنها تصل إلى كفايتها. ومتى عازه أمكنه الاقتراض، ثم يقضيه، فلا تنقطع النفقة. فإن كانت نفقته من عمل عجز عنه لمرض مرجو الزوال، أو غيبة ماله، وأمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وفعل، فلا(3/235)
خيار لها. وإن عجز عن الاقتراض، وكان العارض يزول في ثلاثة أيام فما دون، فلا خيار لها؛ لأن ذلك قريب. وإن كثر، فلها الفسخ؛ لأن الضرر يكثر. وإن أعسر بالمسكن ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار لها؛ لأن البدن يقوم بدونه.
والثاني: لها الخيار؛ لأنه مما لا بد منه، أشبه النفقة والكسوة.
فصل:
فإن منع النفقة من يساره، وقدرت له على مال، أخذت منه قدر كفايتها بالمعروف، لما روي «أن هندًا جاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه. وإن منعها بعض الكفاية، فلها أخذه، للخبر. ولها أن تأخذ نفقة ولدها الصغير، للخبر، فإن وجدت من جنس الواجب لها، أخذته، وإن لم تجد، أخذت بقدره من غيره متحرية للعدل في ذلك. فإن لم تجد ما تأخذه، رفعته إلى الحاكم، ليأمره بالإنفاق، أو الطلاق، فإن أبى، حبسه. فإن صبر على الحبس، وقدر الحاكم على ماله، أنفق منه. وإن لم يجد إلا عروضًا، باعها وأنفق منها، فإن تعذر ذلك، فلها الفسخ لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه إذا ثبت الفسخ مع العذر دفعًا للضرر، فمع عدمه أولى. وإن كان الزوج غائبًا، كتب الحاكم إليه، كما كتب عمر إلى الذين غابوا عن نسائهم. فإن لم يعلم خبره، أو تعذرت النفقة منه، ولم يوجد له مال، فلها الفسخ، لما ذكرنا، وهذا اختيار الخرقي، وأبي الخطاب. وذكر القاضي: أن الفسخ لا يثبت مع اليسار؛ لأن الخيار لعيب الإعسار، ولم يثبت ذلك. وما ذكرناه أصح، فإن الإعسار ليس بعيب، وإنما الفسخ لدفع الضرر، وهما فيه سواء، ومن كان له دين يتمكن من استيفائه، فهو كالموسر؛ لأنه قادر عليه. وإن لم يتمكن من استيفائه، فهو كالمعدوم؛ لأنه عاجز عنه.
فصل:
فإن كان له عليها دين من جنس الواجب لها من النفقة، فأراد أن يحتسب به عليها وهي موسرة، فله ذلك؛ لأن له أن يقضي دينه من أي ماله شاء، وهذا منه، وإن كانت معسرة، لم يملك ذلك؛ لأن قضاء الدين في الفاضل عن الكفاية، ولا فضل لها.(3/236)
فصل:
ومتى ثبت لها الفسخ، فرضيت بالمقام معه، ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر، من القوت، والأدم، والكسوة، والمسكن، والخادم، تطالبه بها إذا أيسر؛ لأنها حقوق واجبة عجز عنها، فثبتت في ذمته كالدين. وقال القاضي: لا يثبت في ذمته شيء، قياسًا على الزائد عن نفقة المعسر، والفرق ظاهر، فإن الزائد غير واجب على معسر، وهذا معسر، بخلاف هذا، ولا يلزمها التمكين من الاستمتاع، ولا الإقامة في منزله؛ لأن ذلك في مقابلة النفقة، فلا يجب مع عدمها، ومتى عن لها الفسخ، فلها الفسخ؛ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم، فيتجدد حق الفسخ، ولو تزوجت معسرًا عالمة بإعساره، ثم بدا لها الفسخ لعسرته، فلها الفسخ لما ذكرنا. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه ليس لها الفسخ في الموضعين؛ لأنها رضيت بعيبه، فأشبه امرأة العنين إذا رضيت بعنته.
فصل:
وإن اختارت الفسخ، لم يجز لها ذلك، إلا بحكم حاكم؛ لأنه مختلف فيه، فلم يجز بغير الحاكم، كالفسخ بالعنة، ولها المطالبة بالفسخ في الحال؛ لأنه فسخ لتعذر العوض، فثبت في الحال، كفسخ البيع لفلس المشتري.
فصل:
وإن أعسر زوج الأمة، فلم تختر الفسخ، لم يكن لسيدها الفسخ؛ لأن الحق لها، فلم يكن له الفسخ، كالفسخ للعنة، وإن أعسر زوج الصغيرة والمجنونة، فليس لوليهما الفسخ؛ لأنه فسخ لنكاحهما، فلم يملكها وليهما، كالفسخ للعيب، وحكي عن القاضي: أن لسيد الأمة الفسخ؛ لأن الضرر عليه، ويحتمل أن يملك ولي الصغيرة والمجنونة الفسخ؛ لأنه فسخ لفوات العوض، فملكه كفسخ البيع، لتعذر الثمن.
فصل:
وإذا وجد التمكين الموجب للنفقة، فلم ينفق حتى مضت مدة، صارت النفقة دينًا في ذمته، سواء تركها لعذر، أو غيره، لحديث عمر، ولأنه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة، قلم يسقط بمضي الزمان، كالصداق، وإن أعسر بقضائها، لم تملك الفسخ؛ لأنها دين يقوم البدن بدونه، فأشبهت دين القرض. وعنه: لا يثبت في الذمة، وتسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها؛ لأنها نفقة تجب يومًا بيوم، فإذا لم يفرضها الحاكم، سقطت بمضي الزمن، كنفقة الأقارب، فعلى هذا لا يصح ضمانها؛ لأنه ليس مآلها إلى الوجوب، وعلى الرواية الأولى، يصح ضمان ما وجب منها، وما يجب في المستقبل؛ لأن مآله إلى الوجوب.(3/237)
فصل:
وإذا ادعى الزوج، أنه دفع إليها نفقتها، فأنكرته، فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض. وإن مضت مدة لم ينفق فيها، فادعت أنه كان موسرًا، فأنكرها ولم يعرف له مال قبل ذلك، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه، وإن عرف له مال، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ادعت التمكين الموجب للنفقة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه. وإن قالت: فرض الحاكم نفقتي منذ سنة، فقال: بل منذ شهر، فالقول قوله كذلك، وإن ادعى نشوزها فأنكرته، فالقول قولها كذلك، وإن طلقها طلقة رجعية، وكانت حاملًا، فقال الزوج: طلقتك قبل الوضع، فانقضت عدتك به، وقالت: بل بعده، لم يبق له رجعة لإقراره بانقضاء عدتها، ولزمتها العدة، لإقرارها بها، والقول قولها مع يمينها، في وجوب نفقتها؛ لأن الأصل بقاؤها.
[باب نفقة الأقارب]
وهما صنفان: عمود النسب، وهم الوالدان، وإن علوا، والولد وولده وإن سفل، فتجب نفقتهم لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] ومن الإحسان الإنفاق عليهما، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» . وقال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فثبتت نفقة الوالدين والولد، بالكتاب والسنة، وثبتت نفقة الأجداد، وأولاد الأولاد، لدخولهم في اسم الآباء، والأولاد، قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحسين: «إن ابني هذا سيد» وسواء كان وارثًا، أو غير وارث؛ لأن أحمد قال: لا(3/238)
تدفع الزكاة إلى ولد ابنته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ابني هذا سيد» وإذا منع دفع الزكاة إليهم لقرابتهم، يجب أن تلزمه نفقتهم. وذكر القاضي ما يدل على هذا، وذكر في موضع آخر، أنه لا تجب النفقة إلا على وارث، وهو ظاهر قول الخرقي وغيره من أصحابنا.
الصنف الثاني: كل موروث سوى من ذكرنا، وسوى الزوج، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] إلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي، فيجب أن تلزمه نفقته. وروي أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من أبر؟ قال: أمك وأباك وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصول» رواه أبو داود. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على بني عم منفوس بنفقته. ولأنها قرابة تقتضي التوريث، فتوجب الإنفاق، كقرابة الولد.
فصل:
فأما ذو الرحم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، فلا نفقة عليهم في المنصوص، لعدم النص فيهم، وامتناع قياسهم على المنصوص، لضعف قرابتهم، ويتخرج وجوبها عليهم؛ لأنهم يرثون في حال، فتجب النفقة عليهم في تلك الحال. وإن كان الوارث غير موروث، كالمعتقة، وعم المرأة، وابن عمها، وابن أخيها، والمعتق، وجب عليهم الإنفاق في المنصوص؛ لأنهم وارثون، فيدخلون في العموم. وعنه: لا نفقة عليهم؛ لأنهم غير موروثين، أشبهوا ذوي الأرحام.
فصل:
ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط:
أحدها: فقر من تجب نفقته. فإن استغنى بمال، أو كسب، لم تجب نفقته؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، فلا تستحق مع الغنى عنها، كالزكاة، وإن قدر على الكسب(3/239)
من غير حرفة، ففيه روايتان:
إحداهما: لا نفقة له؛ لأنه يستغني بكسبه، أشبه المحترف.
والثانية: له النفقة؛ لأنه لا مال له، ولا حرفة، أشبه الزمن.
الثاني: أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم فاضلًا عن نفقة نفسه وزوجته، لما روى جابر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن نفقة القريب مواساة، فيجب أن تكون في الفاضل عن الحاجة الأصلية، ونفقة نفسه من الحاجة الأصلية، وكذلك نفقة زوجته؛ لأنها تجب لحاجته، فأشبهت نفقة نفسه، وكذلك نفقة خادمه الذي لا يستغني عن خدمته، تقدم كذلك.
الثالث: اتفاقهما في الدين والحرية، فلا يجب على الإنسان الإنفاق على من ليس على دينه؛ لأنه لا ولاية بينهما، ولا يرث أحدهما صاحبه؛ لأنها تجب على سبيل المواساة، والصلة، فلمن تجب له مع اختلاف الدين، كالزكاة. وعنه في عمودي النسب: أنها تجب مع اختلاف الدين؛ لأنهم يعتقون عليه. فينفق عليهم، كما لو اتفق دينهما. وأما العبد، فلا نفقة عليه؛ لأنه لا شيء له يواسي به، فلا تجب نفقته على قريبه؛ لأن نفقته على سيده، ولأنه لا توارث بينهما، ولا ولاية، فلم ينفق أحدهما على صاحبه، كالأجانب.
فصل:
ولا يشترط في وجوب النفقة نقصان الخلقة، بزمانة، أو صغر، أو جنون، لعموم الخبر، وعن أحمد أنه يشترط ذلك في غير الوالدين؛ لأن من علم ذلك فيه في مظنة التكسب، فكان في مظنة الغنى. ولا يشترط البلوغ ولا العقل فيمن تجب النفقة عليه، بل يجب على الصبي والمجنون، نفقة قريبهما إذا كانا موسرين؛ لأنها من الحقوق المالية فتجب عليهما، كأرش جنايتهما.
فصل:
ومن كان له أب، لم تجب نفقته على غيره؛ لأن الله تعالى أمر الآباء أن يعطوا(3/240)
الوالدات أجر الرضاع بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وقوله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . «وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هندًا: أن تأخذ ما يكفي ولدها من مال أبيهم» . فإن لم يكن لهم أب، ولم يكن له إلا وارث واحد، فالنفقة عليه. وإن كان له وارثان، فالنفقة عليهما على قدر إرثهما. فإذا كان لهم أم وجد، فعلى الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان. وإن كان له جدة وأخ، فعلى الجدة سدس النفقة، والباقي على الأخ. وإن كان له أخوان، أو أختان، فالنفقة عليهما نصفين. وإن كان له أخ وأخت، فالنفقة عليهما أثلاثًا. وإن كان له أخت وأم، فعلى الأخت ثلاثة أخماس النفقة، وعلى الأم الخمسان؛ لأنه مال يستحق بالقرابة، فكان على ما ذكرناه كالميراث، وإن كان له من الورثة ثلاثة، أو أكثر، فنفقته عليهم على قدر إرثهم، لما ذكرنا، وإن اجتمع أم أم، وأبو أم، فالنفقة على أم الأم؛ لأنها الوارثة.
فصل:
ومن كان وارثه فقيرًا، وله قريب موسر محجوب به، كعم معسر، وابن عم موسر، وأخ فقير، وابن أخ موسر، فلا نفقة له عليهما، ذكره القاضي، وأبو الخطاب؛ لأنه علة الوجوب الإرث، فيسقط بحجبه، كما يسقط ميراثه. وإن كانا من عمودي النسب، كأب معسر، وجد موسر، فالنفقة على الجد؛ لأن وجوب النفقة عليه، لقرابته، وهي باقية مع الحجب. ويحتمل أن يجب الإنفاق على الموسر في التي قبلها؛ لأن الموجب للنفقة القرابة الموجبة للميراث، لا نفس الميراث، وهي موجودة مع الحجب، ووجود المعسر كعدمه.
فصل:
ومن لم يفضل عنده إلا نفقة واحدة، بدأ بالأقرب فالأقرب؛ لأنه أولى، فإذا كان له أب وجد، فالنفقة للأب، وإن كان له ابن، وابن ابن، فهي للابن. وإن اجتمع أب وابن صغير، أو زمن، فالنفقة للابن؛ لأن نفقته وجبت بالنص، وإن كان كبيرًا، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقدم الابن كذلك.
والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد.(3/241)
والثالث: هما سواء، لتساويهما في القرب؛ لأن كل واحد يدلي بنفسه. وإن اجتمع أبوان، ففيهما ثلاثة أوجه:
أحدها: هما سواء لتساويهما في القرابة.
والثاني: الأم أحق، لما روي أن «رجلًا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك» .
والثالث: الأب؛ لأنه ساواها في القرابة وهي الولادة، وانفرد بالتعصيب. وإن اجتمع أخ وجد، احتمل أن يقدم الجد؛ لأنه آكد حرمة، وقرابته قرابة ولادة، ولهذا لا يقاد به، ويحتمل تساويهما، لتساويهما في التعصيب والإرث، وإن كان مع الجد عم، أو ابن عم، قدم الجد، لتقديمه في الحرمة والإرث، ولأنهما يدليان به، فقدم عليهما، كالأب مع الأخ.
فصل:
وعلى المعتق نفقة عتيقه، إذا وجدت الشروط؛ لأنه وارثه، ولا نفقة للمعتق على عتيقه؛ لأنه لا يرثه.
فصل:
وتجب نفقة القريب مقدرة بالكفاية؛ لأنها تجب للحاجة، فيجب ما تندفع به. وإن احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقة خادمه. وإن كانت له زوجة، وجبت نفقة زوجته؛ لأنه من تمام الكفاية، وعنه: لا يلزم الرجل نفقة زوجة ابنه. فعلى هذه الرواية لا يلزمه نفقة غير القريب؛ لأن الواجب نفقته، لا نفقة غيره.
فصل:
ويلزمه إعفاف أبيه، وجده، وابنه الذين تلزمه نفقتهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنه يحتاج إليه ويضره فقده، فأشبه النفقة، وهو مخير بين أن يزوجه حرة، أو يسريه بأمة، ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه بوجوب إعفافه، يستغني عن الأمة ونكاحها. ولا يعفه بعجوز ولا قبيحة؛ لأن القصد الاستمتاع، ولا يحصل ذلك بهما. وإن أعفه بزوجة فطلقها، أو بأمة فأعتقها، لم يلزمه إعفافه ثانيًا؛ لأنه ضيع على نفسه، وإن أعفه بأمة فاستغنى عنها، لم يملك استرجاعها؛ لأنه دفعها إليه في حال وجوبها عليه، فم يملك استرجاعها كالزكاة. ويجيء على قول أصحابنا: أن يلزمه إعفاف كل من لزمه نفقته؛ لأنه من تمام كفايته، فأشبه النفقة.(3/242)
فصل:
وإن احتاج الطفل إلى الرضاع، لزم إرضاعه؛ لأن الرضاع في حق الصغير كنفقة الكبير. ولا يجب إلا في حولين، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] فإن امتنعت الأم من رضاعه، لم تجبر. سواء كانت في حبال الأب، أو مطلقة، لقول الله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب، فلا تجبر على الرضاع، إلا أن يضطر إليها، ويخشى عليه، فيلزمها إرضاعه كما لو لم يكن له أحد غيرها. ومتى بذلت الأم إرضاعه متبرعة، أو بأجرة مثلها، فهي أحق به، سواء وجد الأب متبرعة برضاعه، أو لم يجد، لقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] إلى قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وقوله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأنها أحق بحضانته، فوجب تقديمها. وإن أبت أن ترضعه إلا بأكثر من أجر مثلها، لم يلزمه ذلك، ويسقط حقها؛ لأنها أسقطته باشتطاطها، ولأن ما لا يوجد بثمن المثل، كالمعدوم، مثل الرقبة في الكفارة. وإن كانت ذات زوج أجنبي من الطفل، فمنعها زوجها الرضاع، سقط حقها. وإن أذن لها، فهي على حقها من ذلك.
فصل:
وتفارق نفقة القريب، نفقة الزوجة، في أربعة أشياء:
أحدها: أن نفقة الزوجة تجب مع الإعسار؛ لأنها بدل، فأشبهت الثمن في المبيع، ونفقة القريب مواساة، فلا تجب إلا من الفاضل لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] الثاني: أن نفقة الزوجة تجب للزمن الماضي، لما ذكرنا، ونفقه القريب لا تجب لما مضى؛ لأنها وجبت لإحياء النفس، وتزجية الحال، وقد حصل ذلك في الماضي بدونها.
الثالث: إذا دفع إلى الزوجة نفقة يومها، أو كسوة عامها، فمضت المدة ولم تتصرف فيها، فعليه ما يجب للمدة الثانية، والقريب بخلاف ذلك.(3/243)
والرابع: أنه إذا دفع إلى الزوجة ما يجب ليومها، أو لعامها، فسرق، أو تلف، لم يلزمه عوضه، والقريب بخلافه، لما ذكرنا.
[باب الحضانة]
إذا افترق الزوجان وبينهما طفل، أو مجنون، وجبت حضانته؛ لأنه إن ترك، ضاع وهلك، فيجب إحياؤه. وأحق الناس بالحضانة، الأم؛ لأن أبا بكر الصديق قضى بعاصم بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأمه أم عاصم، وقال لعمر: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد. واشتهر ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر، فكان إجماعًا. ولأن الأم أقرب وأشفق، ولا يشاركها في قربها إلا الأب، وليس له شفقتها، ولا يلي الحضانة بنفسه. فإن عدمت الأم، أو لم تكن من أهل الحضانة، فأحقهم بها أمهاتها الأقرب فالأقرب؛ لأنهن أمهات. ولا يشاركهن إلا أمهات الأب، وهن أضعف منهن ميراثًا، ثم الأب؛ لأنه أحد الأبوين، ثم أمهاته وإن علون، ثم الجد، ثم أمهاته. وعنه: أن أمهات الأب، أولى من أمهات الأم؛ لأنهن يدلين بعصبة، فعلى هذا يكون الأب بعد الأم، ثم أمهاته، ثم أمهات الأم. وعنه: أن الخالة، والأخت من الأم، أحق من الأب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخالة أم» . فعلى هذا، الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما؛ لأنها أدلت بالأم وزادت بقرابة الأب. والأول المشهور في المذهب. فإذا انقرض الآباء والأمهات، انتقلت إلى الأخت من الأبوين. ويحتمل أن ينتقل إلى الأخ؛ لأنه عصبة، والأول أولى؛ لأنها امرأة، فتقدم على من في درجتها من الذكور، كالأم والجدة، ولأنها تلي الحضانة بنفسها. ثم الأخت من الأب؛ لأنها تقوم مقام الأخت من الأبوين، وترث ميراثها. ثم الأخت من الأم؛ لأنها ركضت معها في الرحم. ثم الأخ للأبوين، ثم الأخ للأب، ثم بنوهم كذلك. فإذا انقرض الإخوة(3/244)
والأخوات، فالحضانة للخالات. ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات؛ لأنهن يدلين بعصبة فقدمن، كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم، والأولى أولى؛ لأنهن استوين في عدم الميراث، فكان من يدلي بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات، ولأن الخالة أم. ثم العمات، وتقدم التي من الأبوين، ثم التي من الأب، ثم التي من الأم، ثم الأعمام، ثم بنوهم.
فصل:
وللرجال من العصبات حق في الحضانة، بدليل ما روي «أن عليًا وجعفرًا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة بنت حمزة، فقال علي: بنت عمي وعندي بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال زيد بن حارثة: بنت أخي؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين زيد وحمزة. وقال جعفر: بنت عمي وعندي خالتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الخالة أم. وسلمها إلى جعفر» . رواه أبو داود. إلا أن العم لا حضانة له على جارية؛ لأنه ليس بمحرم لها، فلا تسلم إليه، وأولاهم بالحضانة أولاهم بالميراث. فأما الرجال من ذوي الأرحام، كالأخ من الأم، والخال، وأبي الأم، والعم من الأم، فلا حضانة لهم مع أحد من أهل الحضانة؛ لأنهم لا يحضنون بأنفسهم، وليس لهم قرابة قوية يستحقون بها، ولا حضانة لمن يدلي بهم من النساء؛ لأنه إذا لم يثبت لهم حضانة، فمن أدلى بهم أولى. فإن عدم أهل الحضانة، احتمل أن تنتقل إليهم؛ لأنهم يرثون عند عدم الوارث، فكذلك يحضنون عند عدم من يحضن، واحتمل أن لا يثبت لهم حضانة، وتنتقل إلى الحاكم، لما ذكرناه أولًا.
فصل:
ولا حضانة لرقيق، لعجزه عنها بخدمة المولى، ولا لمعتوه، لعجزه عنها، ولا لفاسق؛ لأنه لا يوفي الحضانة حقها، ولا حظ للولد في حضانته؛ لأنه ينشأ على طريقته، ولا لكافر على مسلم كذلك، ولا للمرأة إذا تزوجت أجنبيًا من الطفل، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت أحق به ما لم تنكحي» . رواه أبو داود. ولأنها تشتغل عن الحضانة بالاستمتاع. وقد روي هاهنا عن أحمد: إذا تزوجت الأم وابنها صغير، أخذ(3/245)
منها. قيل له: فالجارية مثل الصبي؟ قال: لا، الجارية تكون معها إلى سبع سنين؛ لأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل بنت حمزة عند خالتها. إلى سبع وهي مزوجة» . والأول: المذهب. وإنما تركت بنت حمزة عند خالتها؛ لأن زوجها من أهل الحضانة.
وإن تزوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة، كالجدة المزوجة بالجد، لم تسقط حضانتها؛ لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردًا، فمع اجتماعهما أولى. ومتى زالت الموانع منهم، مثل، أن طلقت المرأة المزوجة، أو عتق الرقيق، أو عقل المعتوه، أو أسلم الكافر، أو عدل الفاسق، عاد حقهم من الحضانة؛ لأنه زال المانع، فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع.
فصل:
ومن ثبتت له الحضانة فتركها، سقط حقه منها. وهل يسقط حق من يدلي به؟ على وجهين:
أحدهما: يسقط؛ لأنه فرع عليه. فإذا سقط الأصل، سقط التبع.
والثاني: لا يسقط؛ لأن حق القريب سقط لمعنى اختص به، فاختص السقوط به، كما لو سقط لمانع. فعلى هذا إذا تركت الأم الحضانة، فهي لأمها. وعلى الأول: تنتقل إلى الأب. وإذا استوى اثنان من أهل الحضانة، كالأختين، والعمتين، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، قدم؛ لأنهما استويا من غير ترجيح، فقدم أحدهما بالقرعة، كالعبدين في العتق، والزوجتين في السفر بإحداهما.
فصل:
وإذا بلغ الغلام سبعًا وهو غير معتوه، خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما، لما روى أبو هريرة: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير غلامًا بين أبيه وأمه» . رواه سعيد. وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله يريد زوجي أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(3/246)
هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، فإن لم يختر واحدًا منهما. أو اختارهما معًا، قدم أحدهما بالقرعة؛ لأنهما تساويا وتعذر الجمع، فصرنا إلى القرعة. وإن اختار الأم، أو صار لها بالقرعة، كان عندها ليلًا، ويأخذه الأب نهارًا، ليسلمه في مكتب أو صناعة؛ لأن القصد حظ الولد، وحظه فيما ذكرنا. وإن اختار أباه، كان عنده ليلًا ونهارًا، ولا يمنع من زيارة أمه، لما فيه من الإغراء بالعقوق وقطيعة الرحم. وإن مرض صارت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه صار كالصغير في حاجته إلى من يقوم بأمره. وإن مرض أحد الأبوين وهو عند الآخر، لم يمنع من عيادته وحضروه عنده، لما ذكرنا. وإن اختار أحدهما، ثم عاد فاختار الآخر، سلم إليه، ثم إن اختار الأول، رد إليه؛ لأن هذا اختيار تشه، وقد يشتهي أحدهما في وقت دون وقت، فأتبع ما يشتهيه، كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب. وإن لم يكن له أب، خير بين أمه وعصبته، لما روى عامر بن عبد الله قال: خاصم عمي أمي، وأراد أن يأخذني، فاختصما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فخيرني علي ثلاث مرات، فاخترت أمي، فدفعني إليها.
فصل:
وإذا بلغت الجارية سبعًا، تركت عند الأب بلا تخيير؛ لأن حظها في الكون عند أبيها؛ لأنها تحتاج إلى الحفظ، والأب أولى به، ولأنها تقارب الصلاحية للتزويج. وإنما تخطب من أبيها؛ لأنه وليها، والمالك لتزويجها، وتكون عنده ليلًا ونهارًا؛ لأن تأديبها وتخريجها في البيت. ولا تمنع الأم من زيارتها، من غير أن يخلو بها الزوج. ولا تطيل ولا تتبسط؛ لأن الفرقة بين الزوجين تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر. وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها لما ذكرناه في الغلام. وإن مرضت الأم، لم تمنع الجارية من عيادتها لما ذكرنا.
فصل:
وإن كان الولد بالغًا رشيدًا، فلا حضانة عليه. والخيرة إليه في الإقامة عند من شاء منهما. وإن أراد الانفراد وهو رجل، فله ذلك؛ لأنه مستغن عن الحضانة. ويستحب ألا ينفرد عنهما، ولا يقطع بره لهما، لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] . وإن كانت جارية، فلأبيها منعها من الانفراد؛ لأنه لا يؤمن عليها دخول المفسدين.(3/247)
فصل:
وإن أراد أحد أبوي الطفل السفر، والآخر الإقامة، والطريق أو البلد الذي يسافر إليه مخوف، أو كان السفر لحاجة ثم يعود، فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في السفر ضررًا، وفي تكليفه السفر مع العود إتعاب له، ومشقة عليه. وإن كان السفر لنقلة إلى بلد آمن بعيد في طريق آمن، فالأب أحق بالولد؛ لأن كونه مع أبيه أحفظ لنسبه، وأحوط عليه، وأبلغ في تأديبه وتخريجه. وإن انتقلا جميعًا، فالأم على حقها من الحضانة. وإن كانت النقلة إلى مكان قريب، بحيث يمكن الأب رؤيتهم كل يوم، فالأم على حضانتها؛ لأن مراعاة الأب له ممكنة. وإن كان أبعد من ذلك، فظاهر كلام أحمد: انقطاع حق أمه من الحضانة، لعجز الأب عن مراعاة ولده، فهو كالسفر البعيد. وقال القاضي: إن كان دون مسافة القصر، فالأم على حضانتها؛ لأنه في حكم القريب.
[باب نفقة المماليك]
ويجب على الرجل نفقة مملوكه، مما لا غنى عنه، وكسوته، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» متفق عليه. وتجب نفقته من قوت بلده؛ لأنه المتعارف. والمستحب أن يطعمه مما يأكل، ويكسوه مما يلبس، لما روى أبو ذر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم عليه» متفق عليه. وإن ولي طعامه، استحب له أن يطعمه منه، لما روى أبو هريرة قال:(3/248)
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي دخانه وحره» رواه البخاري. وهو مخير بين أن يجعل نفقته في كسبه، وبين أن ينفق عليه من ماله، ويأخذ كسبه، أو يجعله برسم خدمته؛ لأن الكل خدمته. فإن جعل نفقته في كسبه وكان وفق الكسب، فحسن. وإن كان في الكسب فضل، فهو لسيده. وإن كان فيه عوز، فعلى سيده تمامه، ويستحب التسوية بين عبيده، وإمائه في النفقة والكسوة، ويجوز له التفضيل. وإن كان في بعض إمائه من يعدها للتسري، فلا بأس بزيادتها في الكسوة؛ لأن ذلك هو العادة.
فصل:
وعلى السيد إعفافه إذا طلب ذلك، فإن امتنع، أجبر على بيعه إذا طلب ذلك. وإن طلبت الأمة التزويج وكان يستمتع بها، لم يجبر على تزويجها؛ لأنه يكفيها، وعليه في تزويجها ضرر. وإن لم يستمتع بها، لزمه إجابتها، أو بيعها. وإن كان لعبده زوجة، مكنه من الاستمتاع بها ليلًا؛ لأنه إذنه في النكاح تضمن إذنه في الاستمتاع.
فصل:
ولا يجوز أن يكلفه في العمل ما يغلبه، أو يشق عليه، للخبر. وإن سافر به، أركبه عقبة، ولا يجبر العبد على المخارجة؛ لأنه معاوضة، فلم يجبر عليها، كالكتابة. وإن طلب العبد ذلك، لم يجبر عليه المولى كذلك. وإن اتفقا عليها وله الكسب، جاز، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجمه أبو طيبة، فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا عنه من خراجه» . وإن لم يكن له كسب، لم يجز؛ لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة(3/249)
حل، فلم يجز. وإن مرض العبد، أو الأمة، أو زمنا، أو عميا، لزمه نفقتهما؛ لأن نفقتهما بالملك وهو موجود.
فصل:
وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها، إلا أن يكون فيها فضل عن ريه؛ لأن فيه إضرارًا بولدها، واللبن مخلوق له، فوجب أن يقدم فيه على غيره.
فصل:
ومن ملك بهيمة، لزمه القيام بعلفها، لما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعًا فدخلت النار، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» متفق عليه. ولا يجوز أن يحمل عليها ما لا تطيق؛ لأنه إضرار بها، فمنع منه، كترك الإنفاق. ولا يحلب منها، إلا ما فضل عن ولدها؛ لأنها غذاء للولد، فلم يملك منعه منه. فإن امتنع من الإنفاق عليها، أجبر على بيعها. فإن أبى اكتريت، وأنفق عليها. فإن أمكن وإلا بيعت. كما يزال ملكه عن زوجته إذا أعسر بنفقتها، بلغت القراءة والحمد لله رب العالمين.(3/250)
[كتاب الجنايات]
قتل الآدمي بغير حق محرم، وهو من الكبائر إذا كان عمدًا، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الآية. ويوجب القصاص، لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه.
فصل:
والقتل على ثلاثة أضرب. عمد، وهو: أن يقصده بمحدد، أو ما يقتل غالبًا، فيقتله.
والثاني: الخطأ وهو: أن لا يقصد إصابته فيصيبه فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ولأن القصاص عقوبة، فلا تجب بالخطأ، كالحد.
والثالث: خطأ العمد، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل غالبًا فيقتله، فلا قصاص فيه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة(3/251)
من الإبل» . رواه أبو داود. ولأنه لم يقصد القتل، فلا تجب عقوبته، كما لا يجب حد الزنا بوطء الشبهة.
فصل:
يشترط لوجوب القصاص أربعة شروط: أحدها: العمد، لما ذكرنا.
والثاني: كون القاتل مكلفًا، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا نائم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» . ولأنه عقوبة مغلظة، فلم تجب عليهم، كالحد. فإن وجب عليه القصاص، ثم جن، لم يسقط؛ لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بجنونه، كسائر الحقوق.
فصل:
الثالث: أن يكون المقتول مكافئًا للقاتل، وهو أن يساويه في الدين والحرية. أو الرق، فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، ويقتل العبد المسلم، بالعبد المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، تساوت قيمتاهما، أو اختلفتا. وعنه: لا يجري القصاص بين العبيد، إلا أن تتساوى قيمتهم؛ لأنه بدل مال، فيعتبر فيه التساوي، كالقيمة، والأول: الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ولأنه قصاص، فلا يعتبر فيه التساوي في القيمة، كالأحرار. وعن أحمد: أن الرجل إذا قتل بالمرأة، يدفع إليه نصف ديته؛ لأن ديتها نصف ديته، والمذهب خلاف هذا، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: أن الرجل يقتل بالمرأة» . رواه النسائي. ولأنه قصاص واجب، فلم يوجب رد شيء، كقتل الجماعة بالواحد.
ويقتل الحر الذمي بالحر الذمي. والعبد الذمي بمثله؛ لأنهم تساووا، فأشبهوا المسلمين، ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر، والمرتد بالذمي؛ لأنه إذا قتل بمثله، فبمن هو أعلى منه أولى.(3/252)
فصل:
ولا يقتل مسلم بكافر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ولا يقتل مسلم بكافر» رواه النسائي. ووافقه على آخره البخاري.
ولا يقتل حر بعبد، لقول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فيدل على أنه لا يقتل به الحر. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» ، وإن قتل ذمي حر عبدًا مسلمًا، فعليه قيمته، ويقتل لنقضه العهد.
فصل:
والاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب؛ لأنه عقوبة على جناية، فاعتبرت بحالة الوجوب، كالحد. فلو قتل ذمي ذميًا، ثم أسلم القاتل، أو جرح ذمي ذميًا، ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، أو قتل عبد عبدًا، أو جرحه، ثم عتق الجارح، ومات المجروح، وجب القصاص؛ لأنهما متكافئان حال الجناية، ولأن القصاص قد وجب، فلا يسقط بما طرأ، كما لو جن.
وإن جرح مسلم ذميًا، أو حر عبدًا، ثم أسلم المجروح، وعتق ومات، لم يجب القصاص، لعدم التكافؤ حال الوجوب. وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد، أو حربي، ثم أسلم، ومات، فلا قود ولا دية؛ لأنه لم يجن على معصوم. وإن قطع مسلم يد مسلم، فارتد المجروح ومات، فلا قصاص في النفس؛ لأنه حال الموت مباح الدم، وفي اليد وجهان:
أحدهما: يجب القصاص فيها؛ لأن التكافؤ بينهما موجود في حال قطعها.
والثاني: لا قصاص فيها؛ لأننا تبينا أن قطعها، قبل، ولم يوجب القتل، فلا يوجب غيره، ولأن الطرف تابع للنفس، فسقط تبعًا لسقوط القصاص فيها. وإن جرح مسلم مسلمًا، فارتد المجروح، ثم أسلم ومات، وجب القصاص، نص عليه؛ لأنهما متكافئان حال الجناية والموت، أشبه ما لو لم يرتد. وذكر القاضي وجهًا آخر أنه إن كان زمن الردة مما تسري فيه الجناية، فلا قصاص؛ لأن السراية في حال الردة لا توجب،(3/253)
فقد مات من جرح موجب، وسراية غير موجبة، فلا توجب، كما لو قتله بجرحين خطأ وعمد.
فصل:
ولا قصاص على قاتل حربي، لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولا على قاتل مرتد كذلك، ولأنه مباح الدم، أشبه الحربي. ولا على قاتل زان محصن كذلك. وسواء كان القاتل مسلمًا، أو ذميًا، فإن قتل من عرفه مرتدًا، وكان قد أسلم ولا يعلم إسلامه ففيه وجهان: أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه لم يقصد قتل معصوم، فلم يلزمه قصاص، كما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيًا بعد أن أسلم.
والثاني: عليه القصاص؛ لأنه قتل مكافئًا عدوانًا عمدًا، والظاهر أنه لا يخلى في دار الإسلام إلا بعد إسلامه، بخلاف من في دار الحرب. وإن قتل من يعرفه ذميًا، أو عبدًا، وكان قد أسلم، وعتق، فعليه القصاص؛ لأنه قصد قتل معصوم وهو مكافئ له، فأشبه من علم حاله.
فصل:
الشرط الرابع: انتفاء الأبوة، فلا يقتل والد بولده وإن سفل، والأب والأم في هذا سواء. وعنه: ما يدل على أن الأم تقتل بولدها، والمذهب: الأول لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل والد بولده» رواه ابن ماجه. ولأنها أحد الوالدين، فأشبهت الأب، والجد والجدات من قبل الأب، ومن قبل الأم. وإن علوا. يدخلون في عموم الخبر، ولأنه حكم يتعلق بالولادة، فاستوى فيه القريب والبعيد، كالمحرمية.
فصل:
وإذا ادعى رجلان نسب لقيط، ثم قتلاه قبل لحوق نسبه بأحدهما، فلا قصاص فيه؛ لأن كل واحد يجوز أن يكون أباه، ويجوز أن يكونا أبويه. وإن رجع أحدهما عن الدعوة، أو ألحقته القافة بغيره. انقطع نسبه، وعليه القصاص؛ لأنه أجنبي. وإن رجعا(3/254)
جميعًا عن الدعوة، لم يقبل رجوعهما؛ لأن النسب حق للولد، وقد ثبت بإقرارهما، فلم يقبل رجوعهما عنه، كما لو أقرا له بمال، بخلاف ما لو رجع أحدهما منفردًا، فإن نسب الولد لا ينقطع برجوعه وحده. وإن اشترك اثنان في وطء امرأة، فأتت بولد يمكن أن يكون منهما، فقتلاه قبل لحوقه بأحدهما، فلا قصاص، ولو أنكر أحدهما النسب؛ لأن النسب لا ينقطع عنه بإنكاره، بخلاف التي قبلها. وإن قتل زوجته، ولها منه ولد، لم يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب عليه بجنايته عليه، لم يجب بجنايته على غيره. وسواء كان لها ولد من غيره، أو لم يكن؛ لأن القصاص لا يتبعض، فإذا سقط نصيب ولده، سقط باقيه، كما لو عفا أحد الشريكين. وإن قتل خال ولده، فورثته أمه، ثم ماتت فورثها الولد، سقط القصاص كذلك. وإن اشترى المكاتب أباه، فقتل أبوه عبدًا له، لم يجب القصاص كذلك. وإن جنى المكاتب على أبيه، لم يجب القصاص؛ لأنه عبده، فلا يقتص له من سيده.
فصل:
ويقتل الولد بكل واحد من الأبوين، وعنه: لا يقتل؛ لأنه لا تقبل شهادته له، لأجل النسب، أشبه الأب، والمذهب: الأول لظاهر الآية والأخبار والقياس، وقياسه على الوالد ممتنع، لتأكد حرمة الوالد.
فصل:
إذا شارك الإنسان غيره في القتل، لم يخل من أربعة أقسام:
أحدها: أن يشترك جماعة في قتل من يكافئهم عمدًا، فيجني كل واحد منهم جناية، يضاف إليه القتل لو انفردت، فيجب القصاص على جميعهم. وعنه: لا يجب على واحد منهم، لقول الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] مفهومه أنه لا يؤخذ به أكثر من نفس واحدة. والمذهب الأول، لما روى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا واحدًا. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم جميعًا. ولم ينكره منكر، فكان إجماعًا. ولأنه لو لم يجب القصاص على جميعهم، جعل الاشتراك وسيلة إلى سفك الدماء.
القسم الثاني: أن يقتلوه عمدًا، أو بعضهم غير مكافئ، مثل أن يشترك اثنان في قتل ولد أحدهما، أو حر وعبد، في قتل عبد، أو مسلم وذمي في قتل ذمي، ففيه روايتان:(3/255)
أظهرهما: أنه يجب القصاص على المكافئ؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، فوجب عليه القصاص، كشريك المكافئ.
والثانية: لا يجب؛ لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب، فلا يوجب، كما لو كان شريكه خاطئًا.
القسم الثالث: أن يقتلا مكافئًا وأحدهما عامد، والآخر خاطئ، ففيه روايتان:
أظهرهما: لا قصاص فيه؛ لأنه قتل لم يتمخض عمدًا، فلم يوجب القصاص، كعمد الخطأ، وكما لو قتله بجرحين عمد وخطأ.
والثانية: يجب القصاص على العامد؛ لأنه شارك في القتل عمدًا عدوانًا، فوجب عليه القصاص كشريك العامد. والحكم في شريك الصبي والمجنون، كالحكم في شريك الخاطئ؛ لأن عمدهما خطأ.
القسم الرابع: شارك سبعًا، أو إنسانًا، في قتل نفسه، مثل أن يجرح رجلًا عمدًا أو يجرح الرجل نفسه عمدًا، ففيه وجهان:
أحدهما: يجب القصاص لذلك.
والآخر: لا يجب القصاص؛ لأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ وجنايته مضمونة، فهاهنا أولى. وإن جرحه فتداوى بسم غير موح، إلا أنه يقتل غالبًا، أو خاط لحم جرحه في لحم حي، أو خاف التآكل، فقطعه فمات، أو فعل هذا وليه، ففيه وجهان:
أحدهما: الحكم في شريكه، كالحكم فيما لو جرح نفسه عمدًا؛ لأنه عمد هذا الفعل.
والثاني: أنه كشريك الخاطئ؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، إنما قصد المداواة، فكان فعله عمدًا خطأً، فلم يجب القصاص على شريكه.
فصل:
وإن جرح رجلًا جرحًا، وجرح آخر مائة، فهما سواء؛ لأنه قد يموت من الواحد، ولا يموت من المائة، ولا يمكن إضافة القتل إلى أحدهما بعينه، ولا الإسقاط، فوجب على الجميع. وإن قطع أحدهما من الكوع، والآخر من المرفق، فهما سواء؛ لأنهما جرحان، حصل الزهوق عقيبهما، فأشبه ما لو كانا في يدين. وإن قطع أحدهما يده، ثم ذبحه الآخر، أو شق بطنه وأبان حشوته، فعلى الأول ما على قاطع اليد منفردة.(3/256)
والثاني: هو القاتل؛ لأنه قطع سراية القطع، فصار، كما لو اندمل القطع، ثم قتله. وإن كان قطع اليد آخر فالأول القاتل، ولا ضمان على قاطع اليد؛ لأنه صار في حكم الميت، إنما يتحرك حركة المذبوح، ولا حكم لكلامه في وصيته، ولا غيرها. وإن أجافه جائفة، يتحقق الموت منها، إلا أن الحياة فيه مستقرة، ثم ذبحه آخر، فالقاتل هو الثاني؛ لأن حكم الحياة باق، ولهذا أوصى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما سقي اللبن فخرج من جرحه، وأيس منه فعمل بوصيته، فأشبه المريض المأيوس منه. وإن ألقى رجلًا من شاهق، فتلقاه آخر بسيف، فقده قبل وقوعه، فالقصاص على من قده؛ لأنه مباشر للإتلاف، فانقطع حكم المتسبب، كالحافر مع الدافع.
[باب جنايات العمد الموجبة للقصاص]
وهي تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بمحدد يقطع اللحم والجلد، كالسيف، والسكين، والسنان، والقدوم، وما حدد من حجر، أو خشب، أو قصب، أو زجاج، أو غيره، أو بما له مور وغور، كالمسلة والسهم، والقصبة المحددة، فيموت به فهذا موجب للقصاص إجماعًا. وإن غرزه بإبرة في مقتل، كالصدر، والفؤاد، والخاصرة، والعين، وأصل الأذن فمات، وجب القود؛ لأن هذا في المقتل، كغيره في غيره. وإن غرزه في غير مقتل، كالألية والفخذ، فبقي منه ضمانًا، حتى مات، وجب القود؛ لأن الظاهر موته به. وإن مات في الحال، ففيه وجهان:
أحدهما: لا قود فيه؛ لأنه لا يقتل غالبًا أشبه ما لو ضربه بعصاة.
والثاني: فيه القود؛ لأن له مورًا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية، أشبه ما لو غرزه في مقتل.
فصل:
القسم الثاني: ضربه بمثقل كبير، يقتل مثله غالبًا، سواء كان من حديد أو خشب أو حجر، أو ألقى عليه حائطًا، أو حجرًا كبيرًا، أو رض رأسه بحجر، فعليه القود، لما روى أنس: «أن يهوديًا قتل جارية، على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» ، متفق عليه وفي مسلم: «فأقاده» ولأنه يقتل غالبًا، أشبه المحدد. وإن ضربه بقلم، أو إصبع، أو شبههما، أو مسه بكبير مسًا، فلا قود فيه؛ لأنه لم يقتله. وإن كان مما لا يحتمل الموت به، كالعصا والوكزة بيده، فكان في مقتل، أو مرض أو صغر، أو شدة برد، أو حر أو وإلى الضرب به، أو عصر خصيتيه عصرًا شديدًا، بحيث يقتل(3/257)
غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه الكبير. وقد وكز موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - القبطي، فقضى عليه. وإن لم يكن مثله يقتل غالبًا، فهو عمد الخطأ، لا قود فيه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا أن دية القتل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل» . رواه أبو داود.
فصل:
القسم الثالث: منع خروج نفسه، إما بخنقه بحبل أو غيره، أو غمه بمخدة، أو وضع يده على فيه مدة يموت فيها غالبًا، ونحو هذا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن خلاه حيًا متألمًا فمات، فعليه القود؛ لأنه مات من سراية جنايته، أشبه الميت من الجرح. وإن صح منه ثم مات، لم يضمنه؛ لأنه لم يقتله، أشبه ما لو برئ الجرح ثم مات. وإن كان ما فعله به، لا يموت منه غالبًا، فمات، فهو عمد الخطأ.
فصل:
القسم الرابع: إلقاؤه في مهلكة، كالنار، والماء الكثير الذي لا يمكنه التخلص منه، لكثرته، أو ضعف الملقى أو ربطه، ونحو ذلك، أو في بئر ذات نفس، أو ألقاه من شاهق، يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا. وإن كان لا يقتل غالبًا، أو التخلص منه ممكن، فلا قود فيه؛ لأنه عمد الخطأ، وإن التقمه في الماء القليل حوت، فلا قود فيه كذلك، وإن ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص منها، فالتقمه الحوت فيها، أو قبل وصوله إليها، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه القود؛ لأنه ألقاه في مهلكة، فهلك، أشبه ما لو هلك بها.
والثاني: لا قود؛ لأنه هلك بغير ما قصد إهلاكه به، أشبه الذي قبله.
فصل:
القسم الخامس: أن ينهشه حية، أو سبعًا قاتلًا، أو يجمع بينه وبين أسد، أو نمر، أو حية، في موضع ضيق، أو ألقاه مكتوفًا بين يدي أسد أو نحوه مما يقتل غالبًا، ففعل به السبع فعلًا، لو فعله الملقي أوجب القود، ففيه القود؛ لأن فعل السبع كفعله؛ لأنه صار آلة له، والحيات كلها سواء في أحد الوجهين؛ لأنها جنس يقتل سمه غالبًا، وفي الآخر إن كانت الحية مما لا يقتل سمها غالبًا كحية الماء، وثعبان الحجاز، فلا قود فيها؛ لأن هذا لا يقتل غالبًا، أشبه الضرب بمثقل صغير. وإن ألقاه مكتوفًا في أرض مسبعة، أو ذات حيات فقتلته، فلا قود فيه؛ لأنه مما لا يقتل غالبًا، فكان عمد الخطأ.(3/258)
وقال القاضي: حكمه حكم الممسك للقتل على ما سنذكره؛ لأنه أمسكه بربطه حتى قتلته.
فصل:
القسم السادس: سقاه سمًا مكرهًا، أو خلطه بطعامه، أو بطعام قدمه إليه، أو أهداه إليه، فأكله غير عالم بحاله، ففيه القود، لما روي «أن يهودية أهدت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال: ارفعوها، فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: إن كنت نبيًا، لم يضرك، وإن كنت ملكًا، أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل إليها فقتلها» ، رواه أبو داود. ولأنه يقتل غالبًا، أشبه القتل بالسلاح. وإن خلطه بطعام، وتركه في بيت نفسه، فدخل رجل فأكل فمات، فلا قود؛ لأنه عمد قتل نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا، فقتل بها نفسه، وإن ادعى ساقي السم أنه لم يعلم أنه يقتل، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه القود؛ لأن السم يقتل غالبًا.
والثاني: لا قود فيه؛ لأنه يجوز خفاء ذلك عليه، فتكون شبهة يسقط بها القود.
فصل:
القسم السابع: قتله بسحر يقتل غالبًا، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، أشبه السكين. وإن كان مما لا يقتل غالبًا، فهو خطأ العمد. وإن ادعى الجهل بكونه يقتل غالبًا، وكان مما يجوز خفاؤه عليه فيه، فلا قود عليه؛ لأنه يخل بمتحض العمد.
فصل:
القسم الثامن: حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة يموت في مثلها غالبًا، فمات، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن كانت المدة لا يموت فيها غالبًا، فهو شبه عمد. وإن حبسه على ساحل بحر في مكان يزيد عليه الماء غالبًا زيادة تقتله، فمات منه، ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبًا. وإن كانت الزيادة غير معلومة، فهو شبه عمد. وإن أمسكه لرجل ليقتله فقتله، ففيه روايتان:
إحداهما: عليه القصاص؛ لأنه تسبب إلى قتله بما يقتل غالبًا، فأشبه شهود القصاص إذا رجعوا.(3/259)
والثانية: لا قصاص، لكن يحبس حتى يموت لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» . أخرجه الدارقطني. ولأنه حبسه إلى الموت، فيفعل به مثل فعله. وسواء حبسه بيديه، أو بجناية عليه، أو غير ذلك. وإن أمسكه لغير القتل فقتل، فلا ضمان على الممسك؛ لأنه لم يقتله، ولا قصد قتله.
فصل:
القسم التاسع: أن يتسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أربعة أنواع:
أحدها: أن يكره غيره على قتله، فيجب القصاص على المكره، والمكره جميعًا؛ لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبًا، أشبه ما لو أنهشه حية، أو أسدًا، أو رماه بسهم. والمكره قتله ظلمًا، لاستبقاء نفسه، فلزمه القصاص، كما لو قتله في المجاعة ليأكله.
النوع الثاني: أن يأمر من لا يميز من المجانين والصبيان، أو عبدًا أعجميًا لا يعلم تحريم القتل بقتله، فيقتله، فعلى الآمر القصاص، دون المأمور؛ لأن المأمور صار كالآلة له، فأشبه الأسد والحية. وإن كان المأمور مميزًا فلا قود على الآمر؛ لأن المأمور له قصد صحيح فأشبه ما لو كان رجلًا عاقلًا. فإن كان العبد يعلم تحريم القتل، فالقصاص عليه؛ لأنه مباشر للقتل، مختار، عالم بتحريمه، فأشبه الحر، ويؤدب السيد، لتسببه إليه. وإن أمر السلطان رجلًا بقتل رجل بغير حق، ولم يعلم الحال، فقتله، فالقصاص على الآمر؛ لأن المأمور معذور في قتله، لكونه مأمورًا بطاعة السلطان في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. وإن علم أنه مظلوم فالقصاص عليه وحده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» من ((المسند)) . فصار كالقاتل من غير أمر. وإن أمره غير السلطان بالقتل، فقتل، فالقصاص على القاتل وحده، علم أو جهل؛ لأنه لا تلزمه طاعته.
النوع الثالث: أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب القتل، فقتل بغير حق، ثم رجعا عن الشهادة، وأقرا أنهما فعلا ذلك ليقتل، فعليهما القود، لما روى القاسم بن عبد الرحمن: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل، أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن الشهادة، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما، لقطعت أيديكما، وغرمهما دية يده. ولأنهما قتلاه بسبب يقتل غالبًا، أشبه المكره.(3/260)
الرابع: الحاكم إذا حكم عليه بما يوجب قتله ظلمًا متعمدًا، فقتل، فعليه القصاص لذلك، وكذلك الولي الذي أمر بقتله، إذا أقر أنه علم براءته وأمر بقتله ظلمًا.
[باب القصاص فيما دون النفس]
يجب القصاص فيما دون النفس بالإجماع لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . وروى أنس أن «الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله. تكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كتاب الله القصاص. فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» أخرجه البخاري ومسلم ولأن ما دون النفس، كالنفس في الحاجة إلى الحفظ، فكان، كالنفس في القصاص.
فصل:
ومن لا يقاد بغيره في النفس، لا يقاد به فيما دونها بغير خلاف، ومن يقاد به في النفس يقاد به فيما دونها. وعنه: لا قصاص بين العبيد في الأطراف؛ لأنها أموال. والمذهب: الأول لأن ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص، فكان كالنفس فيما ذكرنا.
فصل:
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة، مثل أن يتحاملوا على الحديدة تحاملًا واحدًا حتى يبينوا يده، فعلى جميعهم القصاص، لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أحد نوعي القصاص، فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد، كالنفس. وإن تفرقت جناياتهم، بأن قطع كل واحد من جانب، أو قطع واحد، وأتمه آخر، أو قطعا بمنشار يمده كل واحد مرة، فلا قصاص؛ لأن فعل كل واحد في بعض العضو، فلم يجز أخذ جميع عضوه، كما لو لم يقطع الآخر. وعنه: لا يؤخذ طرف الجماعة بواحد، كما ذكرنا في النفوس ولأن ذلك مما يجب في النفوس للزجر كي لا يتخذ الاشتراك وسيلة إلى(3/261)
إسقاط القصاص، ولا يوجد ذلك في الأطراف، لندرة الحالة التي يمكن إيجاب القصاص بها.
فصل:
والقصاص فيما دون النفس نوعان: جروح، وأطراف. فأما الجروح: فيجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم. سواء كان موضحة في رأس، أو وجه، أو ساعد، أو عضد، أو فخذ، أو ساق، أو ضلع، أو غيره، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنه أمكن الاقتصاص من غير حيف، فوجب كما في الطرف. وما لا ينتهي إلى عظم، كالجائفة، وما دون الموضحة من الشجاج، أو كانت الجناية على عظم، ككسر الساعد، والعضد، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، لم يجب القصاص؛ لأن المماثلة غير ممكنة، ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق، فسقط، إلا إذا كانت الشجة فوق الموضحة، فله أن يقتص موضحة؛ لأنها بعض جنايته، وقد أمكن القصاص، فوجب، كما لو كانت جناية في محلين. وفي وجوب الأرش الباقي وجهان:
أحدهما: يجب، وهو قول ابن حامد؛ لأنه تعذر فيه القصاص فوجب الأرش، كما لو تعذر في جميعها.
والثاني: لا يجب. وهو اختيار أبي بكر؛ لأنه جرح واحد، فلا يجمع فيه بين قصاص وأرش. كالشلاء بالصحيحة.
فصل:
ويجب في الموضحة، قدرها طولًا وعرضًا، لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] والقصاص: المماثلة. ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة، فإن كانت في الرأس، حلق موضعها من رأس الجانب، وعلم القدر المستحق بسواد، أو غيره، ثم اقتص. فإن كانت في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو وسطه، فأمكن أن يستوفي قدرها من موضعها، لم يجز غيره. وإن زاد قدرها على موضعها من رأس الجاني. استوفي بقدرها وإن جاوز الموضع الذي شجه في مثله؛ لأن الجميع رأس. وإن زاد قدرها على رأس الجاني كله، لم يجز أن ينزل إلى الوجه، ولا القفا؛ لأنه قصاص في غير العضو المجني عليه، فيقتص في رأس الجاني كله. وهل له الأرش لما بقي؟ على وجهين، كما تقدم. وإن كانت الموضحة في الساعد، وزاد قدرها على ساعد الجاني، لم ينزل إلى الكف، ولم يصعد إلى العضد. وإن كانت في الساق، لم ينزل إلى القدم، ولم(3/262)
يصعد إلى الفخذ، كما ذكرنا في الرأس. وإن أوضح جميع رأسه ورأس الجاني أكبر، فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني؛ لأن الجميع محل الجناية. وله أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس، وبعضه من مؤخره، إلا أن يكون في ذلك زيادة ضرر أو شين، فيمنع لذلك؛ لأنه لم يجاوز موضع الجناية، ولا قدرها، ويحتمل أن لا يجوز؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة. وإن أوضحه موضحتين، قدرهما جميع رأس الجاني، فللمجني عليه الخيار، بين أن يوضحه في جميع رأسه موضحة واحدة، وبين أن يوضحه موضحتين يقتص فيهما على قدر الواجب له، ولا أرش له في الباقي وجهًا واحدًا؛ لأنه يترك الاستيفاء مع إمكانه.
فصل:
النوع الثاني: الأطراف. ويجب القصاص فيها، إذا كان القطع ينتهي إلى عظم، فتقلع العين بالعين، لقول الله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] . ولأنه يمكن القصاص فيها؛ لانتهائها إلى مفصل، فوجب، كالموضحة. وتؤخذ عين الشاب الصحيحة الحسناء بعين الشيخ المريضة الرمصاء، كما يؤخذ الشاب الصحيح الجميل بالشيخ المريض. ولا تؤخذ صحيحة بقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنها دون حقه، كالشلاء بالصحيحة. ولا أرش له معها؛ لأن التفاوت في الصفة. وإن جنى على رأسه بلطمة، فأذهب ضوء عينيه، وجب القصاص؛ لأن الضوء لا يمكن مباشرته بالجناية، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس، فإن كانت اللطمة لا تفضي إلى تلف العين غالبًا، فلا قصاص فيه؛ لأنه شبه عمد، أشبه ما لو قتله.
فصل:
وإن قلع الأعور عين مثله عمدًا ففيه القصاص، لتساويهما. وإن قلع عين صحيح، فلا قصاص عليه. وعليه دية كاملة؛ لأن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه لم يذهب بجميع بصره، فلم يجز أن يذهب بجميع بصره، كما لو كان ذا عينين. ويجب جميع الدية؛ لأنه لما درئ عنه القصاص لفضيلته، ضوعفت الدية عليه، كالمسلم إذا قتل الذمي عمدًا. وإن قلع عيني صحيح، خير بين قلع عينه، ولا شيء له سواه؛ لأنه أخذ جميع بصره لجميعه، وبين دية عينيه؛ لأن القصاص لم يتعذر. وإن قلع صحيح عين الأعور فله الاقتصاص من مثلها، ويأخذ نصف الدية. نص عليه؛ لأن عينه كعينين، لاشتمالها على جميع البصر، وقيامها مقام العينين.(3/263)
فصل:
ويؤخذ الجفن بالجفن، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنه ينتهي إلى مفصل، ويؤخذ جفن كل واحد من الضرير والبصير بالآخر؛ لأنهما متساويان في السلامة، والنقص، وعدم البصر نقص في غيره، فلم يمنع جريان القصاص فيه.
فصل:
ويؤخذ الأنف بالأنف لقول الله تعالى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] . ولا يجب القصاص إلا في المارن، وهو ما لان منه؛ لأنه ينتهي إلى مفصل. ويؤخذ الشام بالأخشم، والأخشم بالشام، لتساويهما في السلامة، وعدم الشم نقص في غيره، ويؤخذ البعض بالبعض. فيقدر ما قطعه بالأجزاء، كالنصف والثلث. ثم يقتص من مارن الجاني بمثله، ولا يؤخذ بالمساحة؛ لأنه يفضي إلى أخذ جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه، ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بين المنخرين بالحاجز، ولا يؤخذ مارن صحيح، بمارن سقط بعضه أو انخرم؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ولا يؤخذ صحيح بمستحشف كذلك، ويحتمل أن يؤخذ؛ لأنه يقوم مقام الصحيح، ويؤخذ الذي سقط بعضه بالصحيح، وفي الأرش في الباقي وجهان. ويؤخذ المستحشف بالصحيح من غير أرش؛ لأنه نقص معنى، فهو كالشلل.
فصل:
وتؤخذ الأذن بالأذن، لقوله سبحانه: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد فاصل. وتؤخذ أذن السميع. بأذن الأصم، وأذن الأصم، بأذن السميع، كما ذكرنا في الأنف، والمثقوبة للزينة كالصحيحة؛ لأن الثقب ليس بنقص، ويؤخذ البعض بالبعض. ولا تؤخذ صحيحة بمخرومة، وتؤخذ المخرومة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان.
وتؤخذ المستحشفة بالصحيحة، وفي أخذ الصحيحة بالمستحشفة وجهان، كما ذكرنا في الأنف. وإن شق أذنه فألصقها صاحبها، فالتصقت، فلا قصاص، لتعذر المماثلة. وإن قطعها فأبانها، فألصقها صاحبها فالتصقت، فقال القاضي: له القصاص؛ لأنه وجب بالقطع، فلم يسقط بالإلصاق. وقال أبو بكر: لا قصاص فيها؛ لأنا لم تبن على الدوام أشبه الشق، وله أرش الجرح. فإن سقطت بعد ذلك، قريبًا أو بعيدًا، رد الأرش، وله القصاص. وإن اقتص من الجاني، فقطع أذنه، فألصقها فالتصقت برئ من حقه؛ لأن الاستيفاء، حصل بالإبانة. وإن لم يبنها قطع بعضها فالتصقت، فله قطع جميعها،(3/264)
لأنه استحق إبانته ولم يفعل، والحكم في السن، كالحكم في الأذن، فيما ذكرنا.
فصل في السن بالسن: وتؤخذ السن بالسن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] ولحديث الربيع، ولأنه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه، فوجب كالأذن، ولا تؤخذ صحيحة بمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة. وفي الأرش للباقي وجهان. وإن كسر بعض السن، برد من سن الجاني مثله، يقدر بالأجزاء، إلا أن يتوهم انقلاعها أو سوادها، فيسقط القصاص؛ لأن توهم الزيادة، يسقط القصاص. كقطع اليد من غير مفصل. ولا يقتص الحال، كالشعر، وإن مات قبل اليأس من عودها، فلا قصاص، لعدم تحقق الإتلاف، فلا يجوز استيفاؤه مع الشك. فإن لم تعد، ويئس من عودها، وجب القصاص؛ لأن ذلك حصل بالجناية، وإن يئس من عودها فاقتص، أو اقتص من سن كبير، فنبت له مكانها، فعليه دية سن الجاني؛ لأنه قلع سنًا بغير سن، فإن نبتت سن الجاني أيضًا، أو قلع النابتة للمجني عليه، فلا شيء لواحد منهما. وإن نبتت سن الجاني دون المجني عليه، فله قلعها؛ لأنه أعدم سنه على الدوام، فملك أن يفعل به ذلك، ويحتمل ألا يملكه؛ لأنه قلعت له سن، فلا يملك قلع سنين.
فصل:
وتؤخذ الشفة بالشفة، وهي: ما جاوز حد الذقن والخدين علوًا وسفلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . ولأنها تنتهي إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه، فوجب كالأنف. ويؤخذ البعض بالبعض، يقدر بالأجزاء، كبعض المارن.
فصل:
ويؤخذ اللسان باللسان، للآية، والمعنى، وبعضه ببعضه، لما ذكرنا. ولا يؤخذ أخرس بناطق؛ لأنه أكثر من حقه. ويؤخذ الأخرس بالناطق؛ لأنه دون حقه، ولا أرش معه؛ لأن التفاوت في المعنى، لا في الأجزاء. ويؤخذ لسان الفصيح بلسان الألثغ، ولسان الصغير، كما يؤخذ الكبير الصحيح بالطفل المريض.
فصل:
وتؤخذ اليد باليد، والرجل بالرجل، وكل إصبع بمثلها، وكل أنملة بمثلها، للآية، والمعنى. فإن قطع يده من الكوع، أو المرفق، فله أن يقتص من موضع القطع. وليس(3/265)
له أن يقتص من دونه؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه من موضعه، فلم يجز أن يستوفي من غيره. وإن قطعت يده من العضد، أو الساعد، لم يجز الاقتصاص من موضع القطع، بغير خلاف؛ لأنه لا يأمن الزيادة. وهل له أن يقتص من مفصل دونه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، اختاره أبو بكر، لما روى نمران بن جارية عن أبيه: «أن رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فاستدعى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية، فقال: إني أريد القصاص: قال: خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له بالقصاص» . رواه ابن ماجه، ولأنه يقتص من غير محل الجناية، فلم يجز. كما لو أمكن القصاص من محل الجناية.
والثاني: له أن يقتص، اختاره بعض أصحابنا. فإذا قطعت من الساعد، فله أن يقتص من الكوع. وإن قطعت من العضد، فله أن يقتص من المرفق؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه، وأمكنه أخذ دونه، فجاز، كما لو جرحه مأمومة، فأراد أن يقتص موضحة. وفي أخذ الحكومة للباقي وجهان. وإذا قطعت يده من العضد، لم يملك أن يقطع من الكوع؛ لأنه أمكنه استيفاء الذراع قصاصًا، فلم يكن له قطع ما دونه، كما لو قطع من المرفق. وإن قطعها من الكتف، فقال أهل الخبرة. يمكن الاقتصاص من غير جائفة، فله ذلك؛ لأنه مفصل، وليس له أن يقتص مما دونه، وإن قالوا: نخاف الجائفة، فلا قصاص منها؛ لأنها يخاف الزيادة. وفي الاقتصاص من المرفق وجهان. وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها، من القدم والركبة والورك حكم اليد، سواء على ما بينا.
فصل:
ولا تؤخذ صحيحة بشلاء؛ لأنها فوق حقه، فأما الشلاء بالصحيحة، أو بالشلاء، فإن قال أهل الخبرة: لا يخاف عليه، اقتص؛ لأنه يأخذ حقه، أو دونه ولا أرش بالشلل؛ لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة، وإنما نقصت في الصفة، فأشبه الذمي مع المسلم، وإن قالوا: إن قطعت، خيف ألا تنسد العروق، ويدخل الهواء البدن فيفسد، لم يجز أن يقتص، لخوف الزيادة.
فصل:
ولا تؤخذ كاملة بناقصة. فلا تؤخذ ذات أظفار بما لا أظفار لها. ولا ذات خمس أصابع، بذات أربع. ولا بذات خمس بعضها أشل؛ لأنه أكثر من حقه. وهل له أن يقطع(3/266)
من أصابع الجاني بقدر أصابعه؟ على الوجهين. فإن قلنا: له قطعها. فهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: تدخل، كما تدخل في ديتها.
والثاني: لا تدخل؛ لأنه جزء يستحق إتلافه، تعذر عليه أخذه فوجب أرشه، كالمنفرد. فإن كانت الزائدة من أصابع الجاني زائدة في الخلقة، لم تمنع القصاص عند ابن حامد؛ لأنها عيب ونقص في المعنى، فلم يمنع وجودها أخذها بالكاملة، كالسلعة فيها. واختار القاضي: أنها تمنع؛ لأنها زيادة في الأصابع، أشبهت الأصلية. فإن قطع ناقص الأصابع يدًا كاملة، وجب القصاص؛ لأنه يأخذ دون حقه. وفي وجوب الدية للأصابع الزائدة وجهان.
فصل:
وإن قطع ذو يد كاملة، كفًا فيها أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، لم يجب القصاص؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وفي جواز الاقتصاص من أصابعه الأصلية وجهان. فإن اقتص منها. فهل له حكومة في الزيادة؟ على وجهين لما تقدم. وإن قطع من له أربع أصابع أصلية، وإصبع زائدة، كفًا كاملة الأصابع، ملك القصاص، ولا أرش له، لنقصان الزائدة؛ لأنها كالأصلية في الخلقة، وإنما هي ناقصة في المعنى. وإن كان في يد كل واحد منهما إصبع زائدة، أخذت إحداهما بالأخرى، لتساويهما، وإذا قطع إصبعًا فتآكلت إلى جانبها أخرى، وسقطت من مفصل، أو تآكل الكف، وسقط من الكوع، وجب القصاص في الجميع؛ لأنه تلف بسراية قطع مضمون بالقصاص، فوجب فيه القصاص، كالنفس، وإن شلت إلى جانبها أخرى، لم يجب القصاص في الشلاء؛ لأنها لو شلت بجنايته مباشرة، لم يجب القصاص، فهاهنا أولى.
فصل:
وتؤخذ الأليتان بالأليتين، لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فوجب فيهما القصاص، كالشفتين.
فصل:
وتؤخذ الذكر بالذكر كذلك، ويؤخذ بعضه ببعضه، لما ذكرنا في الأنف، ويؤخذ كل واحد من الأقلف والمختون بمثله؛ لأن زيادة أحدهما على الآخر بجلدة تستحق(3/267)
إزالتها. ولا يؤخذ صحيح بأشل؛ لأن الأشل ناقص، فلم يؤخذ به كامل، كاليد. ولا يؤخذ ذكر الفحل، بذكر الخصي؛ لأنه ناقص، لعدم الإنزال، والإيلاد، ولا بذكر خنثى؛ لأنه لا يعلم أنه ذكر. وفي أخذ الصحيح بذكر العنين. وجهان:
أحدهما: لا يؤخذ به، لنقصه.
والثاني: يؤخذ به؛ لأنه غير مأيوس منه، أشبه المريض.
فصل:
وتؤخذ الأنثيين بالأنثيين، للآية والمعنى. فإن قطع إحداهما، وقال أهل الخبرة: يمكن أخذها من غير تلف الأخرى، اقتص منه. وإن قالوا: يخاف تلف الأخرى، لم يقتص منه، لتوهم الزيادة.
فصل:
ولا قصاص في شفري المرأة عند القاضي؛ لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه، فلم يقتص منه، كلحم الفخذ. وقال أبو الخطاب: فيهما القصاص؛ لأنه يعرف انتهاؤهما، فجرى فيهما القصاص، كالشفتين، وأجفان العينين.
فصل:
وإن قطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه وشفريه، فلا قصاص له حتى يتبين؛ لأننا لا نعلم أن المقطوع فرج أصلي. وإن طلب الدية، وكان يرجى انكشاف حاله، أعطي اليقين، وهو دية شفري امرأة، وحكومة في الذكر والأنثيين. وإن كان مأيوسًا من كشف حاله، أعطي نصف دية ذلك كله، وحكومة في نصفه الباقي، وعلى قول ابن حامد: لا حكومة فيه؛ لأنه نقص.
فصل:
وإن اختلف العضوان في صغر، أو كبر، أو طول، أو قصر، أو صحة، أو مرض، لم يمنع القصاص؛ لأن اعتبار التساوي في هذه المعاني، يسقط القصاص، فيسقط اعتبارها، كما في النفس.
فصل:
وما انقسم إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين، والمنخرين، واليدين، والرجلين، أو إلى أعلى وأسفل، كالجفنين، والشفتين، لم يؤخذ شيء منها بما يخالفه في ذلك. ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع تخالفها، ولا أنملة بأنملة لا تماثلها في(3/268)
موضعها واسمها؛ لأنها جوارح مختلفة المنافع والأماكن، فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين والأنف. ولا يؤخذ أصلية من الأصابع والأسنان بزائدة، ولا زائدة بأصلية، لعدم التماثل بينهما. وتؤخذ الزائدة بالزائدة، إذا اتفق محلاهما، لتماثلهما، وإن اختلف محلاهما، لم تؤخذ إحداهما بالأخرى؛ لأنهما مختلفتان في أصل الخلقة، أشبه الوسطى بالسبابة، وإن تراضى الجاني والمجني عليه، بأخذ ما لا يجب القصاص فيه، لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة.
فصل:
وإن جرحه جرحًا فيه القصاص، فاندمل، ثم قتله، وجب القصاص فيهما؛ لأنهما جنايتان، يجب القصاص في كل واحدة منهما منفردة، فوجب عند الاجتماع، كاليدين. وإن قتله قبل اندمال الجرح، ففيه روايتان.
إحداهما: يجب القصاص أيضًا. لما ذكرناه.
والثانية: يقتل ولا قصاص في الجرح؛ لأن القصاص في النفس، أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية.
فصل:
وإن قتل واحد جماعة، أو قطع عضوًا من جماعة، لم تتداخل حقوقهم؛ لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فلم تتداخل، كالديون، لكن إن رضي الكل باستيفاء القصاص منه جاز؛ لأن الحق لهم، فجاز أن يرضى الجماعة بالواحد، كما لو قتل عبدًا عبيدًا خطأً فرضوا بأخذه. وإن طلب واحد القصاص، والباقون الدية، فلهم ذلك، وإن طلب كل واحد استيفاء القصاص مستقلًا، قدم الأول؛ لأن له مزية السبق، فإن أسقط حقه قدم الثاني، ثم الثالث، ويصير حق الباقين في الدية؛ لأن القود فاتهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات، وإذا قتلهم دفعة واحدة، أو أشكل السابق، قدم من تقع له القرعة؛ لأن حقوقهم تساوت، فوجب المصير إلى القرعة، كالسفر بإحدى النساء، فإن عفا من له القرعة، أعيدت للباقين، لتساويهم. ومتى ثبت القصاص لأحدهم بالسبق، أو بالقرعة، فبادر غيره فقتله، كان مستوفيًا لحقه، ووجب للآخر الدية، كما لو قتل مرتدًا، كان مستوفيًا لقتل الردة. وإن أساء في الافتئات على الإمام. وإن كان الأول غائبًا، أو صغيرًا، انتظر؛ لأن الحق له. وإن كان القتل في المحاربة، فهو كالقتل في غيرها؛ لأنه قتل موجب للقصاص، فأشبه غيره.
فصل:(3/269)
وإن قطع طرف رجل، وقتل آخر، قطع لصاحب الطرف، ثم قتل للآخر، تقدم القتل، أو تأخر؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص، فلم يجز إسقاط أحدهما، بخلاف التي قبلها. وإن قطع يد رجل، وإصبعًا من آخر، قدمنا السابق منهما، أيهما كان؛ لأن اليد تنقص بنقص الإصبع، ولذلك لا تؤخذ الصحيحة بالناقصة، بخلاف النفس، فإنها لا تنقص بقطع الطرف، بدليل أخذ الصحيح الأطراف بمقطوعها.
فصل:
وإن قتل وارتد، أو قطع يمينًا وسرق، قدم حق الآدمي؛ لأن حقه مبني على التشديد، لشحه وحاجته. وحق الله مبني على السهولة، لغنى الله وكرمه.
[باب استيفاء القصاص]
إذا قتل الآدمي، استحق القصاص ورثته كلهم، لما روى أبو شريح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . رواه أبو داود. وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل، فهو بخير النظيرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» . ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة موروثه، فأشبه المال. فإن كان الوارث صغيرًا، لم يستوف له الولي. وعنه: للأب استيفاؤه؛ لأنه أحد بدلي النفس، فأشبه الدية. والمذهب الأول؛ لأن القصد التشفي، ودرك الغيظ، ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب، فلم يملك استيفاءه، كالوصي، والحاكم. فعلى هذا: يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير، ويعقل المجنون، ويقدم الغائب؛ لأنه فيه حظًا للقاتل بتأخير قتله، وحظًا للمستحق بإيصال حقه إليه. فإن أقام القاتل كفيلًا، ليخلي سبيله، لم يجز؛ لأن الكفالة بالدم غير صحيحة. وإن وثب الصبي، أو المجنون على القاتل، فقتله، ففيه وجهان:
أحدهما: يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه عين حقه أتلفه، فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل.
والثاني: لا يصير مستوفيًا لحقه؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، فتجب له دية أبيه، وعلى عاقلته دية القاتل، بخلاف الوديعة، فإنها لو تلفت من غير تعد، برئ منها المودع، ولو هلك الجاني، من غير فعل، لم يبرأ من الجناية. وإن كان القصاص بين صغير وكبير، أو مجنون وعاقل، أو حاضر وغائب، لم يجز للكبير العاقل الحاضر(3/270)
الاستيفاء؛ لأنه حق مشترك بينهما، فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه، كما لو كان بين بالغين عاقلين، وإن قتل من لا وارث له، فالقصاص للمسلمين؛ لأنهم يرثون ماله، واستيفاؤه إلى السلطان. فإن كان له من يرث بعضه، كزوج، أو زوجة، فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان، ليس لأحدهما الانفراد به، لما ذكرنا.
فصل:
فإن بادر بعض الورثة، فقتل القاتل بغير أمر صاحبه، فلا قصاص عليه؛ لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه، فلم تلزمه عقوبته، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، ويجب لشركائه حقهم من الدية، وفيه وجهان:
أحدهما: يجب على القاتل. الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما، فإذا أتلفها أحدهما، لزمه ضمان حق الآخر، كالوديعة لهما يتلفها أحدهما.
والثاني: يجب في تركة القاتل الأول؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب في تركة القاتل، كما لو قتله أجنبي، ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية، ماعدا نصيبه من موروثهم. فلو قتلت امرأة رجلًا له ابنان، فقتلها أحدهما، كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه، ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها. وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو، أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص، لم يجب عليه قصاص؛ لأن ذلك شبهة، فدرأت القصاص، كالوكيل إذا قتله بعد العفو، وقبل العلم، وإن قتله بعد العلم، فعليه القصاص؛ لأنه قتل معصومًا مكافئًا له لا حق له فيه، فوجب عليه القصاص، كما لو حكم بالعفو حاكم. فإن اقتصوا منه، فلورثته عليهم نصيبه من الدية، وإن اختاروا الدية، سقط عنه من الدية ما قابل حقه، ولزمه باقيها، وإن كان عفو شريكه على الدية، فله نصيبه منها، في تركة القاتل؛ لأنه حقه، انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته، فأشبه الدين، بخلاف التي قبلها.
فصل:
ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان؛ لأنه يفتقر إلى اجتهاد، ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة سلطان، وقع الموقع؛ لأنه استوفى حقه، ويعزر لافتئاته على السلطان. ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين، لئلا ينكر المقتص الاستيفاء. وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها. فإن كانت كالة، أو مسمومة، منعه الاستيفاء بها، لما روى شداد بن أوس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم وأبو داود ولأن(3/271)
المسمومة تفسد البدن، وربما منعت غسله. وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء، لم يمكن منه في الطرف؛ لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد، أنه يمكن منه؛ لأنه أحد نوعي القصاص، أشبه القصاص في النفس، وإن كان في النفس، وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة، مكن منه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين، أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا» . ولأن القصد من القصاص، التشفي، ودرك الغيظ، وتمكينه منه أبلغ في ذلك. فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى، أقرع بينهم؛ لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل؛ لأن فيه تعذيبًا للجاني، ولا مزية لأحدهم، فوجب التقديم بالقرعة. ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه؛ لأن الحق لهم، فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم. وإن كان فيهم من يحسن، وباقيهم لا يحسنون أمروا بتوكيله. وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء، أمر بالتوكيل. فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض، بذل العوض من بيت المال؛ لأنه من المصالح. فإن لم يمكن، بذل من مال الجاني؛ لأن الحق عليه، فكان أجر الإيفاء عليه، كأجر كيل الطعام على البائع، وإن قال الجاني: أنا أقتص لك من نفسي، لم يجب إلى ذلك؛ لأن من وجب عليه إيفاء حق، لم يجز أن يكون هو المستوفي، كالبائع.
فصل:
وإذا وجب القتل على حامل، لم تقتل حتى تضع، لما روى معاذ بن جبل: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قتلت المرأة عمدًا، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا. وحتى تكفل ولدها، وإن زنت، لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها» . رواه ابن ماجه ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها، ولا يجوز قتله. فإذا وضعت، لم تقتل حتى تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به. وإن لم يكن له من يرضعه، لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «حتى تكفل ولدها»(3/272)
ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل، فحفظه وهو مولود أولى. وإن وجدت مرضعة راتبة، قتلت؛ لأنه يستغني بها عن أمه، وإن وجدت مرضعات غير رواتب، أو لبن بهيمة يسقي منه راتب، جاز قتلها؛ لأن له ما يقوم به. ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام؛ لأن عليه ضررًا، في اختلاف اللبن عليه، وفي شرب لبن البهيمة، فإن ادعت الحمل، حبست حتى تتبين حالها؛ لأن صدقها محتمل. وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها. وفيه وجه آخر، أنها ترى القوابل، فإن شهدن بحملها أخرت، وإلا قتلت؛ لأن الحق حال عليها، فلا يؤخر بدعواها من غير بينة، فإن أشكل على القوابل، أو لم يوجد من يعرف ذلك، أخرت حتى يتبين؛ لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة، فتأخيره أولى.
فصل:
ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف، إلا بعد الاندمال، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «طعن رجل رجلًا بقرن في رجله، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أقدني، قال: دعه حتى يبرأ فأعادها عليه مرتين أو ثلاثًا، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: دعه حتى يبرأ فأبى فأقاده منه، ثم عرج المستقيد، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: برأ صاحبي، وعرجت رجلي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه» . رواه الدارقطني. ولأنه قد يسري إلى النفس، فيصير قتلًا، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص.
فصل:
وإذا اقتص في الطرف على الوجه الشرعي، فسرى، لم يجب ضمان السراية، سواء سرى إلى النفس، أو عضو آخر، لما روي أن عمر وعليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: من مات من حد، أو قصاص، لا دية له، الحق قتله. رواه سعيد في ((سننه)) ولأنه قطع مقدر مستحق، فلم تضمن سرايته، كقطع السارق. وإن تعدى في القطع، أو قطع بآلة كالة، أو مسمومة فسرى، ضمن السراية؛ لأنه سراية قطع غير مأذون فيه، أشبه سراية الجناية. وسراية الجناية مضمونة؛ لأنها سراية قطع مضمون. فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال، ثم سرت الجناية، كانت سرايتها هدرًا، لخبر عمرو بن شعيب، ولأنه استعجل ما ليس له استعجاله، فبطل حقه، كقاتل موروثه. وإن سرى القطعان جميعًا، فهما هدر كذلك. وإن اقتص بعد الاندمال، ثم انتقض جرح الجناية، فسرى إلى النفس وجب القصاص به؛ لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص، فإن اختار الدية، فله دية إلا دية الطرف(3/273)
المأخوذ في القصاص. فإن كانت دية الطرف كدية النفس، فليس له العفو على مال كذلك. وإن كان الجاني ذميًا قطع أنف مسلم، فاقتص منه بعد البرء، ثم سرى إلى نفس المسلم، فلوليه قتل الذمي، وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن دية أنف اليهودي، نصف دية المسلم، فيبقى له النصف.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه استوفى بدل أنفه، أشبه ما لو كان الجاني مسلمًا.
فصل:
ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف، ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك، سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها؛ لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم، أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة، أو تلف النفس، وإن قلع عينه بأصبع، لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع، كذلك.
فصل:
فأما النفس. فإن كان القتل بالسيف، لم يجز قتله إلا بالسيف؛ لأنه آلة القتل، وأوجاه، فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت، كرر عليه حتى يموت؛ لأن قتله مستحق، ولا يمكن إلا بتكرار الضرب. وإن قتله بحجر، أو تغريق أو حبس حتى يموت، أو خنق ففيه روايتان:
إحداهما: يقتل بمثل ذلك، لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] . ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين» . متفق على معناه. وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أنه قال: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» . ولأن القصاص مشعر بالمماثلة، فيجب أن يعمل بمقتضاه.
والثانية: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه. ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المثلة. وقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ولأنه زيادة تعذيب في القتل، فلم تجز المماثلة فيه، كما لو قتله بسيف كال.
وإن قتله بمحرم لعينه، كالسحر وتجريع الخمر، واللواط، قتل بالسيف، رواية واحدة؛ لأن ذلك محرم لعينه، فسقط، وبقي القتل، وإن قتله بسيف كال، لم يقتل بمثله؛ لأن المماثلة فيه لا تتحقق، وإن حرقه، فقال القاضي: فيه روايتان، كالتغريق،(3/274)
وقال بعض أصحابنا: لا يحرق بحال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرق بالنار إلا رب النار» رواه ابن ماجه. وإن قطع يده من المفصل، أو أوضحه، ثم ضرب عنقه، فهل يفعل به كما فعل، أو يقتصر على ضرب عنقه؟ على روايتين، ذكرهما الخرقي، وإن لم يضرب عنقه، بل سرت الجناية إلى نفسه، ففيه أيضًا روايتان:
إحداهما: لا يقتل إلا بالسيف، في العنق، لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتي به.
والثانية: يفعل به كما فعل، فإن مات وإلا ضربت عنقه؛ لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر. والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة، بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة، وإن جرحه جرحًا لا قصاص فيه، كقطع الساعد والجائفة، فمات، أو ضرب عنقه بعده، فقال أبو الخطاب: لا يقتل إلا بالسيف في العنق، رواية واحدة؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فلا يستوفي بها القصاص، كتجريع الخمر، وذكر القاضي فيها روايتين، كالتي قبلها؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رض رأس اليهودي بين حجرين» ، ولأن المنع من القصاص فيها منفردة، لخوف سرايتها إلى النفس، وليس بمحذور هاهنا.
فصل:
وكل موضع، قلنا: ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني، إذا خالف وفعل، فلا شيء عليه؛ لأنه حقه، وإنما منع منه، لتوهم الزيادة، ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده، فاقتص منه مثل ذلك، ولم يسر، فلا شيء عليه كذلك، وإن سرى، ضمن سرايته؛ لأنها سراية قطع، غير مأذون فيه.
فصل:
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه، فكانت مما يجب به القصاص، كالموضحة، اقتص منها، فإن ذهب ضوء عينيه، فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء، ولا يذهب بالحدقة، مثل أن يحمي حديدة، ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما، غطيت العين الأخرى، وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها، لما روى يحيى بن جعدة: أن أعرابيًا، قدم بحلوبة له المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى، فرفعهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعا علي بمرآة، فأحماها ثم(3/275)
وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه، حتى سال إنسان عينه. فإن لم يمكن إلا بالجناية، على العضو، سقط القصاص. وإن أذهب بصره بجناية لا قصاص فيها، كالهاشمة واللطمة، عولج بصره بما ذكرنا، ولم يقتص منه، للأثر، ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية، فعدل إلى أسهل ما يمكن، كالقتل بالسحر، وله أرش الجرح، وذكر القاضي في اللطمة: أنه يفعل به، كما فعل والصحيح: الأول؛ لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة، فكذلك إذا أذهب العين، كالهاشمة.
فصل:
ومن وجب له القصاص في النفس، فضرب في غير موضع الضرب عمدًا، أساء ويعزر. فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه، قبل قبوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا، وهو أعلم بنفسه، وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ، لم قبل قوله، لعدم الاحتمال، فإن أراد العود إلى الاستيفاء، لم يمكنه منه؛ لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانيًا، وقال القاضي: يمكن؛ لأن الحق له. والظاهر، أنه لا يعود إلى مثله. وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه، فلا قصاص عليه؛ لأنه قطع طرفًا يستحق إتلافه ضمنًا، فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته؛ لأنه طرف له قيمة حين القطع، قطعه بغير حق، فوجب ضمانه، كما لو قطعه بعد العفو عنه.
فصل:
وإن وجب له القصاص في الطرف، فاستوفى أكثر منه عمدًا، وكان الزائد موجبًا للقصاص، مثل أن وجب له قطع أنملة، فقطع اثنتين، فعليه القود، وإن كان خطأ، أو لا يجب في مثله القود، مثل من وجبت له موضحة، فاستوفى هاشمة، فعليه أرش الزائد، كما لو فعله في غير قصاص، فإن كانت الزيادة لاضطراب الجاني، فلا شيء فيها؛ لأنها حصلت بفعله في نفسه، فهدرت. وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات، لم يجب القصاص؛ لأنه تلف من جائز وغيره، ويجب نصف الدية؛ لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون، فقسم ضمانه بينهما.
فصل:
وإن وجب له قصاص في يد، فقطع الأخرى، فقال أبو بكر: يقع الموقع، ويسقط القصاص، سواء قطعها بتراضيهما، أو بغيره؛ لأن ديتهما واحدة، وألمهما واحد، واسمهما ومعناهما واحد، فأجزأت إحداهما عن الأخرى، كالمتماثلتين، ولأن إيجاب القصاص في الثانية، يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة، وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها. وقال ابن حامد: لا يجزئ؛ لأن ما لا يجوز أخذه قصاصًا، لا يجزئ(3/276)
بدلًا، كاليد عن الرجل، فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما، فلا قصاص على قاطعها؛ لأنه قطعها بإذن صاحبها، ويسقط القصاص في الأخرى، وفي أحد الوجهين؛ لأن عدوله عن التي يستحقها، رضي بترك القصاص فيها. ولكل واحد على الآخر دية يده.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه أخذ الثانية بدلًا عن الأولى، ولم يسلم البدل، فبقي حقه في المبدل، فيقتص من اليد الأخرى، ويعطيه دية التي قطعها. وإن قطعها كرهًا عالمًا بالحال، فعليه القصاص فيها، وله القصاص في الأخرى. وإن قال: أخرج يمينك لأقتص منها، فأخرج يساره، فقطعها يظنها اليمين، وقال المخرج: عمدت إخراجها عالمًا أنها لا تجزئ، فلا ضمان فيها؛ لأن صاحبها بذلها راضيًا بقطعها، بغير بدل. وإن قال: ظننتها اليمنى، أو أنها الواجب قطع اليسرى. أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة، فعلى قاطعها ديتها؛ لأنه بذلها لتكون عوضًا، فلم تكن عوضًا، فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد، فتلفت عنده، وإن علم المستوفي حال المخرج، وحال اليد، ففيها القود، في أحد الوجهين؛ لأنه تعمد قطع يد معصومة، وفي الثاني: لا قود عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه، وعليه ديتها. وإن جهل الحال، فلا قصاص عليه، وعليه ديتها. وإن كان القصاص على مجنون، فقال له المقتص: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها عمدًا، فعليه القصاص. وإن كان جاهلًا، فعليه الدية؛ لأن بذل المجنون لا يصح، فصار كما لو بدأ بقطعه. وإن كان القصاص للمجنون، فأخرج إليه يساره، فقطعها، ذهبت هدرًا؛ لأنه ليس من أجل الاستيفاء، فإذا سلطه على إتلاف عضوه، لم يضمنه، كما لو أذن له في إتلاف ماله.
فصل:
ومن وجب عليه القصاص في نفس، أو طرف، فمات عن تركة وجبت دية جنايته في تركته؛ لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط، فوجبت الدية، كقتل غير المكافئ. وإن لم يخلف تركة، سقط الحق، لتعذر استيفائه.
فصل:
ومن قتل، أو أتى حدًا خارج الحرم، ثم لجأ إليه، لم يجز الاستيفاء منه في الحرم، لقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] . ولما روى أبو شريح الكعبي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول(3/277)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولن يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» متفق عليه. ولا يبايع، ولا يشارى، ولا يطعم، ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله، واخرج إلى الحل. فإذا خرج استوفي منه؛ لأن ابن عباس قال ذلك، ولأن في إطعامه تمكينًا في تضييع الحق الذي عليه، ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات. وروى حنبل عنه: أن الحدود كلها تقام في الحرم، إلا القتل؛ لأن حرمة النفس أعظم. والمذهب: الأول. قال أبو بكر: انفرد حنبل عن عمه بهذه الرواية. ولأن ما حرم النفس، حرم الطرف كالعاصم، فإن خالف واستوفى في الحرم، أساء ووقع الموقع، كما لو استوفى من غير حضرة السلطان. ومن جنى في الحرم، جاز الاستيفاء منه في الحرم؛ لأنه انتهك حرمته، فلم ينتهض عاصمًا له، ولأن أهل الحرم، يحتاجون إلى الزجر عن الجنايات، رعاية لحفظ مصالحهم، كحاجة غيرهم، فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم.
[باب العفو عن القصاص]
وهو مستحب لقول الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . ومن وجب له القصاص، فله أن يقتص، وله أن يعفو عنه مطلقًا إلى غير بدل، وله أن يعفو على المال، لقول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو. وروى أبو شريح الكعبي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلًا، فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» . رواه أبو داود. وإذا عفا عن القصاص، أو عن بعضه، سقط كله؛ لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض. فإذا سقط بعضه، سقط جميعه، كالرق، وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم، سقط كله، لما روى زيد بن وهب، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي برجل قتل قتيلًا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول، وهي أخت القاتل:(3/278)
قد عفوت عن حقي، فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل قبل أن ... رواه أبو داود، ولما ذكرناه في المعنى. ثم إن عفا على مال، انتقل حق الجميع إلى الدية. وإن عفا مطلقًا. انتقل حق الباقين إلى الدية. كما يسقط حق أحد الشريكين، إذا أعتق شريكه إلى القيمة. وقد روى زيد بن وهب: أن رجلًا دخل على امرأته، فوجد عندها رجلًا، فقتلها، فاستعدى عليه إخوتها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فقال بعض إخوتها: قد تصدقت، فقضى لسائرهم بالدية.
فصل:
ويصح العفو، بلفظ العفو، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] . وبلفظ الصدقة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] . وبلفظ الإسقاط؛ لأنه إسقاط للحق، وبكل لفظ يؤدي معناه؛ لأن المقصود المعنى، فبأي لفظ حصل، ثبت حكمه كعقد البيع.
فصل:
واختلفت الرواية في موجب العمد. فعنه: موجبه، أحد شيئين. القصاص، أو الدية، لخبر أبي شريح؛ لأن له أن يختار أيهما شاء. فكان الواجب أحدهما، كالهدي والطعام في جزاء الصيد. وعنه: موجبه القصاص عينًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . ولأنه بدل يجب حقًا لآدمي، فوجب معينًا كبدل ماله، فإن قلنا بهذا، فعفا عنه مطلقًا، سقط القصاص، ولم تجب الدية؛ لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو. وإن قلنا: موجبه أحد الشيئين، فعفا عن القصاص مطلقًا، وجبت الدية؛ لأن الواجب أحدهما، فإن ترك أحدهما، تعين الآخر. وإن اختار الدية، سقط القصاص، وثبت المال. وإن اختار القصاص، تعين، وقال القاضي: وله الرجوع، إلى المال؛ لأن القصاص أعلى، فكان له أن ينتقل إلى الأدنى، ولهذا قلنا: له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجبًا عينًا، ويحتمل أنه ليس له ذلك؛ لأنه تركها فلم يرجع إليها، كما لو عفا عنها وعن القصاص. ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص، فاشتراه بأرشها، سقط القصاص؛ لأن شراءه بالأرش اختيار للمال، ثم إن كان أرشها مقدرًا بذهب، أو فضة، صح الشراء؛ لأنه ثمن معلوم. وإن كان إبلًا، لم يصح؛ لأن صفتها مجهولة، فلم يصح جعلها عوضًا، كما لو اشترى بها غير الجاني.(3/279)
فصل:
ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص؛ لأن الحجر عليهما في المال، وليس هذا بمال. فإن عفوا إلى مال، ثبت. وإن عفوا إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، ثبت المال؛ لأنه واجب، وليس لهما إسقاط المال، وإن قلنا: الواجب القصاص عينًا، صح عفوهما؛ لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه.
فصل:
وإن وجب القصاص لصغير، فليس لوليه العفو على غير مال؛ لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه. وإن عفا على مال، وللصغير كفاية من ماله، أو له من ينفق عليه، لم يصح عفوه؛ لأنه يسقط القصاص من غير حاجة. وإن لم يكن له ذلك، صح عفوه؛ لأن للصغير حاجة إليه، لحفظ حياته، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن نفقته في بيت المال. وإن قُتل من لا ولي له، فالأمر إلى السلطان، إن رأى قتل، وإن رأى عفا على مال؛ لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه. وإن أراد أن يعفو على غير مال، لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه. ويحتمل جواز العفو على غير مال؛ لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان، ولم ينكره أحد من الصحابة، ولأنه ولي الدم، فجاز له العفو على غير مال، كسائر الأولياء.
فصل:
وإذا وكل من يستوفي له القصاص، ثم عفا عنه، ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه، فلم يصح، كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني.
والثاني: يصح؛ لأنه حق له، فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل، كالدين، ولا قصاص على الوكيل؛ لأنه جهل تحريم القتل، وعليه الدية؛ لأنه قتل معصومًا، ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين؛ لأنه غره، فرجع عليه بما غرم، كالمغرور بحرية الأمة.
والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه محسن بالعفو، بخلاف الغارّ بالحرية.
فصل:
وإذا جنى عليه جناية، توجب القصاص فيما دون النفس، فعفا عنها، ثم سرت إلى نفسه، فلا قصاص فيها؛ لأن القصاص لا يتبعض، وقد سقط في البعض، فسقط في(3/280)
الكل. وإن كانت الجناية لا توجب القصاص، كالجائفة، وجب القصاص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو. وإن كان عفوه على مال، فله الدية كاملة في الموضعين. وإن عفا عن دية الجرح، صح عفوه؛ لأن ديته تجب بالجناية، بدليل أنه لو جنى على طرف عبد، فباعه سيده، ثم برأ، كان أرش الجناية للبائع دون المشتري، وإنما تتأخر المطالبة به، كالدين المؤجل، فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء؛ لأن القطع غير مضمون، فكذلك سرايته. والأول أولى؛ لأن القطع موجب، وإنما سقط الوجوب بالعفو، فيختص السقوط بمحل العفو. وإن قال: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، صح عفوه، ولا قصاص في سرايتها ولا دية؛ لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه، فصح، كالعفو عن الشفعة بعد البيع. ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث. نص عليه؛ لأن الواجب القصاص عينًا، أو أحد شيئين، فما تعين إسقاط أحدهما. وعنه: أنه إن مات من سرايتها، لم يصح العفو؛ لأنها وصية لقاتل، وعنه: تصح وتعتبر من الثلث.
فصل:
وإن قطع إصبعًا، فعفا عنها، ثم سرى إلى الكف، ثم اندمل، فالحكم فيه على ما فصلناه في سرايته إلى النفس. فإن قال الجاني: عفوت عن الجناية وما يحدث منها، فأنكر الولي العفو عن سرايتها، فالقول قوله؛ لأنه منكر، والأصل معه.
فصل:
وإن قطع يده، فعفا عن القصاص، وأخذ نصف الدية، فعاد الجاني فقتله، فلوليه القصاص في النفس؛ لأن القتل انفرد عن القطع، فوجب القصاص فيه، كما لو قتله غير القاطع. فإن اختار الدية، فقال أبو الخطاب: له الدية كلها؛ لأن القتل منفرد عن القطع، فلم يدخل حكمه في حكمه، كما لو كان القاطع غيره، ولأن من ملك القصاص في النفس، ملك العفو عن الدية كلها، كسائر أولياء المقتولين. وقال القاضي: له نصف الدية؛ لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها، كان بمنزلة سرايتها، ولو سرى القطع، لم يجب إلا نصف الدية، كذا هاهنا.
فصل:
إذا قطع يد إنسان، فسرى إلى نفسه، فاقتص وليه في اليد، ثم عفا عن النفس على غير مال، جاز، ولا شيء عليه، سواء سرى القطع، أو وقف؛ لأن العفو يرجع إلى ما بقي، دون ما استوفي، فأشبه ما لو قبض بعض ديته، ثم أبرأه من باقيها، وإن عفا على مال، فوجب له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصف الدية. وإن قطع يدي(3/281)
رجل فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه، ثم عفا عن النفس، لم يجب له شيء؛ لأنه لم يبق من الدية شيء. وإن قطع نصراني يد مسلم، فسرى، فقطع الولي يده، ثم عفا عن نفسه على مال، ففيه وجهان:
أحدهما: له نصف دية مسلم؛ لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه، فبقي له النصف.
والثاني: يجب له ثلاثة أرباعها؛ لأنه استوفى يدًا قيمتها ربع دية مسلم، فبقي له ثلاثة أرباعها. وإن قطع يديه فسرى إلى نفسه، فاستوفى من يديه وعفا عن نفسه، فعلى الوجه الأول: لا شيء له؛ لأنه رضي بيده بدلًا من يديه، فيصير كما لو استوفى ديته. وعلى الثاني: له نصف الدية؛ لأنه أخذ ما يساوي نصفها، وبقي له نصفها. وإن كان الجاني امرأة على رجل، فعلى ما ذكرنا من التفصيل.(3/282)
[كتاب الديات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب الديات تجب الدية بقتل المؤمن، والذمي، والمستأمن ومن بيننا وبينه هدنة؛ لقول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فأما من لم تبلغه الدعوة فلا يضمن؛ لأنه لا إيمان له ولا أمان، فأشبه الحربي.
وقال أبو الخطاب: تجب ديته؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه الذمي، وإن قتل في دار الحرب مسلمًا كاتمًا لإسلامه يظنه حربيًا، ففيه روايتان:
إحداهما: لا دية فيه؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ولم يذكر دية.
والثانية: يضمنه؛ لأنه قتل مؤمنًا معصومًا خطأ، وإن أرسل سهمه إلى حربي، فتترس بمسلم، فقتله ففيه روايتان:
إحداهما: يضمنه كذلك.
والثانية: لا يضمنه؛ لأنه مضطر إلى رميه غير مفرط في فعله.
فصل:
وإن قطع طرف مسلم، فارتد ومات، ففيه وجهان:(4/3)
أحدهما: لا يضمن شيئًا؛ لأن القطع صار قتلًا لنفس لا ضمان فيها.
والثاني: تجب دية الطرف؛ لأن الجناية أوجبت ديته، والردة قطعت سرايته، فلا يسقط ما تقدم وجوبه، كما لو قطع يده، فقتل المجروح نفسه، وفي قدر الواجب وجهان:
أحدهما: أرش الجرح بالغًا ما بلغ، كما لو قتل الرجل نفسه.
والثاني: أقل الأمرين من أرشه، أو دية النفس؛ لأنه لو لم يرتد، لم يجب أكثر من دية النفس، فإذا ارتد، كان أولى ألا يريد ضمانه.
فصل:
وإن قطع يد مسلم فارتد، ثم أسلم ومات، وزمن الردة مما لا تسري فيه الجناية، ففيه دية كاملة؛ لأنه زمن الردة لا أثر له، وإن كان مما تسري فيه الجناية، فكذلك على ظاهر كلامه؛ لأنه مسلم في حالة الجرح والموت. وقال القاضي: يحتمل وجوب دية كاملة اعتبارًا بحال استقرار الجناية، ويحتمل أن يجب نصفها؛ لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة، أشبه من مات من جرح نفسه وأجنبي.
فصل:
وإن قطع يد مرتد أو حربي فأسلم ومات لم يضمن؛ لأنه مات من سراية جرح مأذون فيه، فلم يضمن كالسارق، إذا سرى قطعه، ولو رمى حربيًا أو مرتدًا، فلم يقع به السهم حتى أسلم، فلا ضمان فيه؛ لأنه وجد السبب منه في حال هو مأمور بقتله، على وجه لا يمكن تلافيه، أشبه ما لو جرحه، ثم أسلم.
ويحتمل كلام الخرقي وجوب ديته؛ لأنه قال: لو رمى إلى كافر أو عبد، فلم يقع به السهم، حتى عتق وأسلم، فعليه دية حر مسلم؛ ولأن الاعتبار في الضمان بحال الجناية دون حال السبب، بدليل ما لو حفر بئرًا لحربي، فوقع فيها بعدما أسلم، ويحتمل التفريق بين الحربي والمرتد؛ لأن قتل الحربي مأمور به، وقتل المرتد إلى الإمام، وإن أرسل سهمه إلى مسلم، فأصابه بعد أن ارتد، لم يضمنه؛ لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون، أشبه ما لو أرسله على حي، فأصابه بعد موته.
فصل:
وإذا اشترك الجماعة في القتل، فعليهم دية واحدة تقسم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، وإن جرحه أحدهم جراحات، وسائرهم جرحًا واحدًا، فهم سواء لما تقدم، وإن كان القتل عمدًا، فالدية(4/4)
واحدة، وقال ابن أبي موسى: إذا قلنا: له أن يقتص من جميعهم، ففيه روايتان:
أظهرهما: أن على كل واحد دية كاملة، بدلًا عن نفسه.
والثانية: تجب دية واحدة، وهذا أصح؛ لأن الدية بدل المحل، فلا يختلف بكثرة المتلفين وقلتهم، كبدل المال، وإن أراد الولي أن يقتص من بعضهم، ويعفو عن البعض، ويأخذ الدية من الباقين فله ذلك، ويأخذ منهم حصتهم من الدية، لما ذكرنا، والمكرِه والمكرَه مشتركان في القتل، حكمهما ما ذكرنا، وكذلك حكم الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن المعنى فيه.
فصل:
وإن طرح إنسانًا في ماء يسير، يمكنه التخلص منه، فأقام فيه قصدًا حتى هلك، لم يجب ضمانه؛ لأن طرحه لم يهلكه، وإنما هلك بإقامته، فكان هو المهلك لنفسه، وإن طرحه في نار يمكنه الخلاص منها، فلم يفعل حتى هلك، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه كذلك.
والثاني: يضمنه؛ لأن تركه التخلص لا يُسقط ضمان الجناية، كما لو جرحه، فترك مداواة نفسه حتى هلك به وفارق الماء؛ لأن الناس يدخلونه للسباحة وغيرها.
وإن شده في موضع، فهلك بزيادة الماء ضمنه. فإن كانت الزيادة معلومة، كمد البصرة، فهو عمد محض، وإن كانت تحتمل ويحتمل، فهو شبه عمد، وإن كانت نادرة فهو خطأ، وإن ألقاه في ماء يسير، فالتقمه حوت، فهو خطأ محض، وإن كان الماء كثيرًا، فهو شبه عمد، وإن ألقاه مكتوفًا فأكله سبع، فهو شبه عمد؛ لأنه عمد إلى فعل لا يهلك به غالبًا فهلك به، أشبه ما لو وكزه.
فصل:
وإن صاح بصبي، أو تغفل غافلًا فصاح به، فسقط عن شيء هلك به ضمنه؛ لأنه هلك بسببه، فإن قصده بالصياح، فهو شبه عمد، وإن لم يقصده فهو خطأ، وإن كان العاقل متيقظًا لم يضمنه؛ لأن ذلك لا يقتله، وإن اتبع إنسانًا بسيف، فوقع في شيء هلك به ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إهلاكه، وكذلك إن طرده إلى موضع؛ فأكله به سبع.
فصل
وإن بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها، ففزعت فألقت جنينًا ميتًا وجب ضمانه؛ لما روي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلى امرأة مغيبة كان يُدْخَل عليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينا هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا، فصاح الصبي صيحتين؛ ثم مات، فاستشار عمر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشار(4/5)
بعضهم: أن ليس عليك شيء، إنما أنت مؤدب، فصمت علي، فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطئوا رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها، فألقت.
وإن هلكت المرأة بسبب وضعها ضمنها أيضًا؛ لأنه سبب لإتلافها، وإن فزعت فماتت، لم يضمنها؛ لأنه ليس بسبب لهلاكها غالبًا، ويحتمل أن يلزمه ضمانها؛ لأنها هلكت بفعله فضمنها، كما لو ضربها سوطًا فماتت، وإن زنى بامرأة مكرها فأحبلها، فماتت من الولادة ضمنها؛ لأنها ماتت بسببٍ تعدى به.
فصل:
وإن رمى إنسانًا من علو، فتلقاه آخر بسيف، فقتله، فالضمان على القاتل؛ لأنه مباشر، والملقي متسبب، فكان الضمان على المباشر، كالحافر والدافع.
فصل
وإن حفر بئرًا في الطريق، أو وضع حجرًا أو حديدة، أو قشر بطيخ أو ماء، فهلك به إنسان ضمنه؛ لأنه تعدى به، ولزمه ضمان ما هلك به، كما لو جنى عليه، فإن دفعه آخر في البئر أو على الحجر أو الحديدة، فالضمان على الدافع؛ لأنه مباشر، والآخر صاحب سبب، وإن حفر بئرًا، أو نصب حديدة، ووضع آخر حجرًا، فعثر بالحجر، فوقع في البئر، أو على الحديدة فمات، فالضمان على واضع الحجر؛ لأنه الذي ألقاه، فأشبه ما لو ألقاه بيده.
فصل
ومن حفر بئرًا في طريق لنفسه، ضمن ما هلك بها؛ لأنه ليس له أن يختص بشيء من طريق المسلمين، وكذلك إن حفرها في ملك غيره بغير إذنه؛ لأنه متعد بحفرها، وإن حفرها في الطريق لمصلحة المسلمين، وكانت في طريق ضيق، ضمن ما تلف بها؛ لأنه ليس له ذلك، وإن كانت في طريق واسع لم يضمن؛ لأنه لم يتعد بها، فلم يضمن ما تلف بها، كما لو أذن فيها الإمام.
وعنه: إن حفرها بغير إذن الإمام ضمن؛ لأن ما يتعلق بمصلحة المسلمين يختص الإمام بالنظر فيه، فمن افتأت عليه، كان متعديًا به، فضمن ما هلك به، وإن بنى مسجدًا في موضع لا ضرر فيه، أو علق قنديلًا في مسجد، أو بابًا، أو فرش فيه حصيرًا، لم يضمن ما تلف به؛ لأن هذا من المصالح التي يشق استئذان الإمام فيها، فملك فعله بغير إذنه، كإنكار المنكر، وذكر القاضي: أنه كحفر البئر في الطريق، وإن حفر بئرًا في موات لينتفع بها، أو لينتفع بها المسلمون، أو ليتملكه، لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه غير متعد بحفرها، وإن كان في داره بئر، أو كلب عقور،(4/6)
فدخل إنسان بغير إذنه، فهلك بها، أو عقره الكلب لم يضمنه؛ لأن التفريط من الداخل، وإن دخل بإذنه والبئر مكشوفة في موضع يراها الداخل لم يضمنه، وإن كانت مغطاة، أو في ظلمة، أو الداخل ضريرًا ضمنه؛ لأنه فرط في ترك إعلامه، وإن وضع حجرًا في ملكه، وحفر آخر بئرًا في الطريق، فتعثر بالحجر، فوقع في البئر، فالضمان على الحافر؛ لأن العدوان منه، فكان الضمان عليه، والواضع في ملكه لا عدوان منه فلم يضمن، وإن وضع جرة على سطحه، فألقتها الريح على شيء فأتلفته لم يضمنه؛ لأنه غير متعد بالوضع، ولا صنع له في إلقائها.
فصل:
وإن بنى حائطًا مائلًا إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، فسقط على شيء أتلفه ضمنه؛ لأنه تلف بسببٍ تعدى به، وإن بناه في ملكه مستويًا، فمال إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، فأمره المالك بنقضه، أو أمره مسلم أو ذمي بنقص المائل إلى الطريق، وأمكنه ذلك فلم يفعل، ضمن ما تلف به أحد الوجهين؛ لأن ذلك يضر المالك والمارة، فكان لهم المطالبة بإزالته، فإذا لم يزله ضمن، كما لو بناه مائلًا. والثاني: لا يضمن؛ لأنه وضعه في ملكه، وسقط بغير فعله، فأشبه الجرة التي ألقتها الريح، ويحتمل أن يضمن، وإن لم يطالب بنقضه؛ لأن بقائه مائلًا يضر، فلزمه إزالته وإن لم يطالب به، كالذي بناه مائلا. وإن لم يمكنه نقضه لم يضمن؛ لأنه غير مفرط. وإن أخرج جناحًا، أو ميزابًا إلى الطريق، فوقع على إنسان ضمنه؛ لأنه تلف بسبب تعدى به. فأشبه ما لو بنى حائط مائلًا.
فصل:
وإذا رمى إلى هدف، فمر صبي فأصابه السهم، فقتله أو مرت بهيمة فأصابها، ضمن ذلك؛ لأنه أتلفه وإن قدم إنسانٌ الصبيَ، أو البهيمةَ إلى الهدف فأصابهما السهم، فالضمان على من قدّمهما؛ لأن الرامي كالحافر، والآخر كالدافع. وإن أمر من لا يميز أن ينزل بئرًا، أو يصعد نخلة، فهلك بذلك ضمنه؛ لأنه تسبب إلى إتلافه. وإن أمر من يميز بذلك فهلك به لم يضمنه؛ لأنه يفعل ذلك باختياره. فإن كان الآمر السلطان، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه كذلك.(4/7)
والثاني: يضمنه؛ لأن عليه طاعة السلطان، فأشبه ما لو أكرهه على فعله، وإن غصب صبيًا، فأصابته عنده صاعقة، أو نهشته حية ضمنه؛ لأنه تلف في يده العادية.
وإن مرض فمات، ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه كذلك، فأشبه العبد الصغير.
والثاني: لا يضمنه؛ لأنه حر لا تثبت اليد عليه في الغصب، فأشبه الكبير، وإن أدب المعلم صبيانه، أو الرجل ولده أو زوجته، أو السلطان رعيته، الأدب المأمور به، لم يضمن ما تلف به؛ لأنه أدب مأمور به، فلم يضمن ما تلف به كالحد، ويحتمل أن يضمن، كما لو أرسل إلى امرأة ليحضرها، فأجهضت جنينها.
فصل:
وما أتلفت الدابة بيدها أو فمها، ضمنه راكبها وقائدها وسائقها، وما أتلفت برجلها أو ذنبها لم يضمنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرِّجْل جُبَار» رواه سعيد. فمفهومه أن جناية اليد مضمونة، والفم في معناها؛ ولأن اليد يمكن حفظها، فضمن ما تلف بها، بخلاف الرِّجل، وعنه: في السائق أنه يضمن جناية الرجل والذنب؛ لأنه يشاهدهما، فأشبه اليد في حق القائد، وإن بالت في الطريق، ضمن ما تلف به؛ لأنه كما لو صبه فيها، ويحتمل أن لا يضمن في هذا؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، أشبه جناية الرجل، وإن كان على دابة راكبان، فالضمان على الأول منهما؛ لأنه المتصرف فيها، وإن كان لها قائد وسائق اشتركا في الضمان؛ لاشتراكهما في تمشيتها، وإن كان معهما راكب، فالضمان بينهم أثلاثًا كذلك، ويحتمل أن يختص به الراكب؛ لأنه أقوى منهما يدًا، والجمل المقطور إلى جمل عليه راكب، كالذي في يده؛ لأن يده عليه، وليس عليه ضمان ما جنى ولد البهيمة؛ لأنه لا يمكنه حفظه، وكذلك ما جنت الدابة، إذا لم يكن عليها يد، لم يضمن مالكها كذلك.
فصل:
وإذا اصطدم نفسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه؛ لأن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه، وإنما هو قرّب نفسه إلى محل الجناية عن غير قصد، وإن ماتت دابتاهما، ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر، وإذا كان أحدهما يسير والآخر واقفًا، فعلى السائر دية الواقف وضمان دابته؛ لأنه قتلهما بصدمته، ولا ضمان على الواقف؛ لأنه لا فعل منه، إلا أن يقف في طريق ضيق، فيكون الضمان عليه؛ لأنه(4/8)
تعدى بالوقوف فيه، فأشبه واضع الحجر فيه، وإن تصادما عمدًا، وذلك مما يقتل غالبًا، فدماؤهما هدر؛ لأن ضمان كل واحد منهما يلزم الآخر في ذمته، فيتقاصان ويسقطان. وإن ركب صبيان، أو أركبهما وليهما فاصطدما، فهما كالبالغين.
وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، فعليه ضمان ما تلف منهما؛ لأنه تلف بسبب جنايته، وإن أركب الصبي من لا ولاية له، فصدمه كبير فقتله، فالضمان على الصادم؛ لأنه مباشر، فيقدم على المتسبب، وإن مات الكبير فقتله، فضمانه على الذي أركب الصبي؛ لأنه تلف بسبب جنايته، وإن اصطدمت امرأتان حاملان، فحكمهما في أنفسهما ما ذكرنا، وعلى كل واحد منهما نصف ضمان جنينها، ونصف ضمان جنين الأخرى؛ لأنهما اشتركا في قتلهما لجنايتهما عليهما، وإن تصادم عبدان فماتا، فهما هدر؛ لأن جناية كل واحد منهما تتعلق برقبته، فتفوت بفواته، فإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر، كسائر جناياته.
فصل:
وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا، لتفريط من القيمين، مثل تقصيرهما في آلتهما، وتركهما ضبطهما مع إمكانه، أو تسييرهما إياهما في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها، ضمن كل واحد منها سفينة الآخر بما فيها، كالفارسين إذا اصطدما، فإن لم يفرطا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه تلف حصل بأمر لا صنع لهما فيه، ولا تفريط منهما، أشبه التلف بصاعقة، وإن فرط أحدهما دون صاحبه، ضمن المفرط وحده. وإن فرطا جميعًا، وكان أحدهما منحدرًا، والآخر مصعدًا، فعلى المنحدر ضمان المصعد؛ لأن المنحدر كالسائر، والمصعد كالواقف، فيختص المنحدر بالضمان كالسائر. ومن غرق سفينة فيها ركبان بسبب يقتل مثله غالبًا عمدًا، فعليه القصاص، وإن كان خطأ، فعلى عاقلته دية الركبان. وإن كان عمدًا بسبب لا يقتل مثله غالبًا، فقتلهم شبه عمد.
فصل:
وإذا قال بعض ركبان السفينة لرجل: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، وجب عليه ضمانه؛ لأنه استدعى منه إتلاف ماله بعوض، لغرض صحيح، فأشبه ما لو قال: أعتق عبدك وعلي ثمنه، وإن قال: ألقه وضمانه علي، وعلى ركبان السفينة ففعل، فعليه بحصته من الضمان. إن كانوا عشرة فعليه العشر، ويسقط سائره؛ لأنه جعل الضمان على الجميع، فلم يجب عليه أكثر من حصته، وإن قال: ألق ونحن نضمنه لك، وعلي تحصيله لك لزمه؛ لأنه تكفل له بتحصيل عوضه، وكذلك إن قال: قد أذنوا لي في الضمان عنهم، فألقه ونحن ضمنا لك، ضمن جميعه؛ لأنه غره.(4/9)
فصل:
وإذا رمى أربعة بالمنجنيق، فقتل الحجر رجلًا، فعلى كل واحد منهم ربع ديته، وإن قتل الحجر أحدهم، ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط ربع ديته، ويلزم شركاءه ثلاثة أرباعها؛ لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما قابل فعله، ولزم شركاءه الباقي، كما مات من جراحاتهم، وجراح نفسه.
الثاني: يلزم شركاءه جميع ديته، ويلغو فعل نفسه، قياسًا على المصطدمين.
وإن كانوا ثلاثة فما دون، ففيه وجه ثالث، وهو أن يجب ثلث دية المقتول على عاقلته لورثته، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته.
فصل:
إذا وقع رجل في بئر، ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فمات الأول، وجبت ديته على الثاني؛ لما روى علي بن رباح اللخمي: أن بصيرًا كان يقود أعمى، فخرا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى، فكان الأعمى ينشد في الموسم:
يا أيها الناس لقيت منكرا ... هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معًا كلاهما تكسرا
ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه، فوجبت ديته عليه، وإن مات الثاني هدرت ديته؛ لأنه لا صنع لغيره في هلاكه، وإن ماتا معًا، فعليه ضمان الأول، ودمه هدر كذلك، وإن وقع عليهما ثالث، فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، فانفرد بديته، ودم الثالث هدر، هذا إذا كان الوقوع عليه هو الذي قتله، فإن كان البئر عميقًا يموت الواقع بمجرد وقوعه، لم يجب الضمان على أحد؛ لأن كل واحد منهم مات بوقعته، لا بفعل غيره. وإن احتمل الأمرين فكذلك؛ لأن الأصل عدم الضمان.
فصل:
فإن خر رجل في زبية أسد، فجذب ثانيًا، وجذب الثاني ثالثًا، وجذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فدم الأول هدر؛ لأنه لا صنع لأحد في إلقائه، وعليه دية الثاني؛ لأنه السبب في قتله، وعلى الثاني دية الثالث كذلك، وعلى الثالث دية الرابع، كذلك.(4/10)
وفيه وجه آخر: أن دية الثالث على الأول، والثاني نصفين؛ لأن جذب الأول الثاني سبب في جذب الثالث، ودية الرابع على الثلاثة أثلاثًا كذلك، وقد روي عن أحمد: أنه ذهب فيها إلى قضية علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ما روى حنش الصنعاني: «أن قومًا من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فوقع فيها، فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، ثم جذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: للأول ربع الدية؛ لأنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث الدية؛ لأنه هلك فوقه اثنان، وللثالث نصف الدية؛ لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع الدية كاملة، وقال: وإني أجعل الدية على من حفر رأس البئر، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو كما قال» رواها سعيد بن منصور بإسناده، وذكرها أحمد. واحتج بها، وذهب إليها، فإن كان هلاكهم لوقوع بعضهم على بعض، فلا شيء على الرابع؛ لأنه لا صنع له، وتجب ديته على الثالث في إحدى الوجهين؛ لأنه المباشر لجذبه.
وفي الثاني: ديته على الثلاثة أثلاثًا، وتجب دية الثالث على الثاني في أحد الوجوه، والثاني تجب ديته على الأول والثاني نصفين، ويلغى فعل نفسه، والثالث يهدر ما قابل فعله في نفسه، ويجب على عاقلة الآخرين ثلثا ديته، والرابع يهدر نصف ديته، ويجب على عاقلة الثاني نصفها، وأما الثاني: ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب ديته على الأول والثالث نصفين.
والثاني: يهدر من ديته ثلثها؛ لأنه قابل فعل نفسه، ويجب ثلثاها على الأول والثالث.
والثالث: تجب الدية على عواقلهم ثلاثتهم.
وفي الأول ثلاثة أوجه:
أحدها: تجب ديته على الثاني والثالث نصفين.
والثاني: يجب عليهما ثلثاها ويسقط ثلثها.
والثالث: تجب الدية على عواقلهم كلهم.
فصل:
إذا تجارح رجلان، وزعم كل واحد منهما، أنه جرح الآخر دفعًا عن نفسه، وجب على كل واحد منهما ضمان صاحبه؛ لأن الجرح قد وجد، وما يدعيه من القصد لم يثبت فوجب الضمان، والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص؛ لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص؛ لأنه يندرئ بالشبهات.(4/11)
فصل
ومن اضطر إلى طعام إنسان، أو شرابه، فمنعه مع غناه عنه فهلك ضمنه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى بذلك، ولأنه قتله بمنعه طعامًا يجب دفعه إليه فضمنه، كما لو منعه طعامه فهلك بذلك. وإن رآه في مهلكة فلم ينجيه لم يضمنه؛ لأنه لم يتسبب إلى قتله بخلاف التي قبلها، وقال أبو الخطاب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يلزمه ضمانه على قياس التي قبلها، ولا يصح؛ لأنه في الأول منعه من تناول ما تبقى حياته به، فنسب هلاكه إليه، بخلاف هذا، فإنه لا صنع له فيه.
[باب مقادير الديات]
دية الحر المسلم: مائة من الإبل؛ لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن، بكتاب فيه الفرائض والسنن: «وإن في النفس الدية؛ مائة من الإبل» رواه مالك في الموطأ، والنسائي في السنن.
فصل:
ودية العمد المحض، وشبه العمد أرباع، خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض، في إحدى الروايتين؛ لما روى الزهري، عن السائب بن يزيد قال: «كانت الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعًا، خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، ولأنه قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والثانية: يجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، أي حاملًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول إن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا، أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه، فهو لهم» رواه الترمذي. وقال: حديث(4/12)
حسن. والخلفة: الحامل. وعن عمرو بن شعيب: أن رجلًا يقال له: قتادة، حذف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ منه عمر ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة رواه مالك في الموطأ. وهل يعتبر في الأربعين، أن تكون ثنايا؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الخلفات، فاعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بدليل.
والثاني: يجب أن تكون ثنايا؛ لأن في بعض الألفاظ، منها أربعون خلفة، ما بين ثنية عامها إلى بازل، ولأن سائر الأنواع مقدرة السن، فكذلك الخلفات.
فصل:
ودية الخطأ وما أجري مجراه أخماس، عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة؛ لما روى ابن مسعود: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض» رواه أبو داود. وعمد الصبي، والمجنون جار مجرى الخطأ، وحكمه حكمه؛ لأنه لا يوجب قصاصًا بحال، وكذلك فعل النائم، مثل أن ينقلب على شخص فيقتله، والقتل بالسبب مثل حفر البئر، ووضع الحجر، وسائر ما ذكرناه حكمه حكم الخطأ.
فصل:
وتجب الإبل صحاحًا، غير مراض، ولا عجاف، ولا معيبة؛ لأنه بدل متلف من غير جنسه، فلم يقبل فيه معيب، كقيمة المال. ومتى أحضرها على الصفة المشروطة، لزم قبولها، سواء كانت من جنس ماله، أو لم تكن؛ لأنها بدل متلف، فلم يعتبر كونها من جنس ماله، كسائر قيم المتلفات.
فصل:
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يعتبر قيمة الإبل، بل متى وجدت الصفة المشروطة وجب أخذها، قلت قيمتها أو كثرت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإبل، فتقييدها بالقيمة يخالف ظاهر الخبر، ولأنه خالف بين أسنان دية العمد والخطأ، تخفيفًا لدية الخطأ عن دية العمد، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما، وإزالة للتخفيف المشروع.(4/13)
وعن أحمد: أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهمًا؛ لأن عمر قومها باثني عشر ألف درهم، ولأنها إبدال محل واحد، فيجب أن تستوي قيمتها، كالمثل والقيمة في المتلفات.
فصل:
وظاهر كلام الخرقي: أن الإبل هي الأصل في الدية، قال أبو الخطاب: هذا إحدى الروايتين عن أحمد؛ لما روينا من الأخبار. والرواية الأخرى: أن الأصول ستة أنواع: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والورق، والحلل؛ لما روي في كتاب عمرو بن حزم: «وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار» رواه النسائي.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن عمر قام خطيبًا فقال: إن الإبل قد غلت، قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود. وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعًا. وقال القاضي: لا يختلف المذهب في أن هذه الأنواع أصول في الدية، إلا الحلل، فإن فيها روايتين، فأي شيء منها أحضره من عليه الدية، لزم الولي قبوله؛ لأنها أبدال فائت، فكانت الخيرة إلى المعطي، كالأعيان في الجنس الواحد، وإذا قلنا: الأصل الإبل خاصة، وجب عليه تسليمها، وأيهما أراد العدول إلى غيرها، فللآخر منعه؛ لأن الحق متعين فيها، كالمثل في المثليات، فإن أعوزت، أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن مثلها، فله الانتقال إلى أحد هذه الأنواع؛ لأنها أبدال عنها، فيصار إليها عند إعوازها، كالقيمة في بدل المثليات.
فصل:
وقدرها من هذه الأنواع على ما جاء في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهي ألف مثقال من الذهب الخالص، أو اثنا عشر ألف درهم من دراهم الإسلام التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، أو مائتا بقرة، أو ألفا شاة مقدرة بما تجب في الزكاة، ففي البقر، النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم يجب النصف ثنايا، والنصف أجذعة، إذا كانت من الضأن.
ويجب في الحلل المتعارف من حلل اليمن، كل حلة بردان، ويجب أن يكون كل نوع منها تبلغ قيمته اثني عشر ألف درهم على الرواية التي تعتبر فيها قيمة الإبل، فيكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهمًا، وقيمة كل شاة ستة دراهم؛(4/14)
لما ذكرنا، ولما روى ابن عباس: «أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألفًا» رواه أبو داود.
فصل:
وذهب أصحابنا إلى أن الدية تغلظ بالقتل في الحرم والإحرام والشهر الحرام، وقال أبو بكر: وتغلظ أيضًا بالرحم المحرم، وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ به، ومعنى التغليظ: أن يزاد لكل واحد من هذه الحرمات ثلث الدية، فإن اجتمعت الحرمات الثلاث، وجب ديتان، وعلى قول أبي بكر: إذا اجتمعت الأربع، وجبت ديتان وثلث؛ لما روي، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن امرأة وطئت في الطواف، فقضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها بستة آلاف، وألفين تغليظًا للحرم.
وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم، أو ذا رحم، أو في شهر الحرام، فعليه دية وثلث. وعن ابن عباس: أن رجلًا قتل رجلًا في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام. فقال: ديته اثنا عشر ألفًا، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف، ولم يظهر خلاف هذا، فكان إجماعًا، ولا تغلظ لغير ما ذكرنا؛ لعدم الأثر فيه، وامتناع قياسه على ما ورد الأثر فيه، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تزاد على مائة من الإبل؛ لقوله الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وهذا عام في كل قتيل، وفسر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدية بمائة من الإبل، وإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تقدير الواجب بالقتل بمائة من الإبل أو غيرها، مطلقة في الأمكنة والأزمنة والقرابة. وقد قتلت خزاعة قتيلًا من هذيل بمكة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنتم يا خزاعة، قد قتلتم هذا القتيل من هذيل؟ وأنا والله عاقله، فمن قتل له قتيل بعد ذلك، فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا، وإما أن يأخذوا الدية» ولم يزد.
وقتل قتادة ابنه فلم يأخذ منه عمر أكثر من مائة، ولأنه بدل متلف، فلم يختلف بهذه المعاني، كسائر المتلفات.
فصل:
ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في كتاب عمرو بن حزم أنه قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» ، ولأنه إجماع الصحابة؛ روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهم، وتساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت، صارت على النصف، لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة مثل(4/15)
عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» رواه النسائي. «وعن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر. قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون. قلت: لما عظمت مصيبتها، قل عقلها؟ قال: هكذا السنة يا ابن أخي» رواه سعيد بإسناده، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل
ودية الكاتبي: نصف دية المسلم؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «دية المعاهد نصف دية المسلم» رواه أبو داود. وروي عنه: أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر: جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، إلا أنه رجع عن هذه الرواية. وقال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم. فإن قتله المسلم عمدًا، أضعفت الدية على قاتله، لإزالة القود؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بذلك، ولو قتله الكافر لم تضعف ديته؛ لأن القود واجب، ونساؤهم على النصف من دياتهم، كما أن نساء المسلمين على النصف منهم، ودية المجوسي: ثمانمائة درهم؛ لما روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ديته ثمانمائة درهم، والمستأمن: كالذمي، وإن كان وثنيًا فديته: دية المجوسي؛ لأنه كافر، لا يحل نكاح نسائه، فأما من لم تبلغه الدعوة، إن لم يكن له عهد، فلا ضمان فيه؛ لأنه كافر لا عهد له، أشبه نساء أهل الحرب، وقال أبو الخطاب: يضمن بما يضمن به أهل دينه؛ لأنه محقون الدم من أهل القتال، أشبه المستأمن.
فصل:
وإذا قطع طرف ذمي فأسلم، ثم مات، ففيه وجهان:
أحدهما: تجب دية مسلم. اختاره ابن حامد؛ لأن الاعتبار بحال استقرار الجناية، بدليل ما لو قطع يديه ورجليه فمات، وجبت دية واحدة، اعتبارًا بحال الاستقرار.
والثاني: يجب دية ذمي، وهو ظاهر قول أبي بكر والقاضي؛ لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها، بدليل عدم وجوب القصاص فيها، وهو في حالة الجناية ذمي، فأما إن رمى إلى ذمي، فلم يقع به السهم حتى أسلم، فعليه دية مسلم؛ لأن الإصابة لمسلم.(4/16)
فصل
ودية الخنثى المشكل: نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى. وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر؛ لأنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالًا على السواء، فيجب التوسط بينهما كالميراث، والحكم في جراحه، كالحكم في ديته، فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى، وفيما زاد ثلاثة أرباع دية حر ذكر.
فصل:
ودية العبد والأمة: قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك؛ لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق الآدمي بغير جنسه، فأشبه الفرس. وإن جنى عليه جناية غير مقدرة في الحر، ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح، كسائر الأموال، وإن كانت مقدرة في الحر، فهي مقدرة في العبد من قيمته، فما وجبت فيه الدية: كالأنف، واللسان، والذكر، والأنثيين، ضمن من العبد بقيمته، وما يجب فيه ديتان، كإذهاب سمعه وبصره، ففيه مثلا قيمته، وما ضمن بجزء من الدية، كاليد والرجل والإصبع، ضمن من العبد بمثله من قيمته؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه ساوى الحر في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فساواه في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس، كالرجل والمرأة، وعن أحمد رواية أخرى: أن الجناية على العبد بما نقص من قيمته، سواء كانت مقدرة في الحر، أو لم تكن مقدرة؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب فيه ما نقص كالبهائم، والحكم في المكاتب وأم الولد، كالحكم في القن؛ لأنهم رقيق. فأما من بعضه حر، ففيه بالحساب، من دية حر وقيمة عبد، فإن كان نصفه حرًا، ففيه نصف دية حر لورثته، ونصف قيمته لسيده، وهكذا في جراحه؛ لأن الضمان يتجزأ، فوجب أن يقسم على قدر ما فيه منهما كالكسب.
فصل:
إذا فقأ عيني عبد قيمته ألفان فاندمل، ثم أعتق ومات، وجبت قيمته بكاملها لسيده؛ لأنه استقر حكم الجرح وهو مملوك، وكذلك إن اندمل بعد العتق؛ لأن الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، وإن سرى الجرح إلى نفسه، فروى حنبل عن أحمد، أن على الجاني قيمته السيد. وهذا اختيار أبي بكر والقاضي؛ لأن الضمان يجب بالجناية، وهو حينئذ مملوك، فأشبه ما لو اندمل الجرح، وقال ابن حامد: يجب فيه دية حر؛ لأن اعتبار مقدار الواجب بحال الاستقرار، بدليل ما لو فقأ عينه، وقطع أنفه،(4/17)
فمات من سراية الجرح، لم يجب إلا قيمة واحدة، ويصرف ذلك إلى السيد؛ لأن الجناية في ملكه، فإن فقأ إحدى عينيه، فسرى إلى نفسه بعد العتق، فعلى الوجه الأول تجب القيمة بكمالها للسيد، اعتبارًا بحال وجودها، وعلى قول ابن حامد: يجب دية حر، لسيده منها أقل من الأمرين، من نصف القيمة، أو كمال الدية؛ لأنه إن كان نصف القيمة أقل، فهو الذي وجب له، والزيادة حصلت حال الحرية، وإن كانت الدية أقل، فنقصها بسبب من جهته وهو العتق.
فصل:
وإن قطع يد عبد فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى ومات، فلا قصاص على الأول، لعدم التكافؤ في حال الجناية، وعليه نصف القيمة لسيده على قول أبي بكر. وعلى قول ابن حامد: عليه نصف ديته، لسيده منها الأقل من نصف قيمته يوم القطع، أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل، فهو أرش الجناية الموجودة في ملكه، وإن كان أكثر، فالحرية نقصت ما زاد عليه. وأما الثاني: فعليه القصاص في الطرف. إن وقف قطعه، وفي النفس إن سرى؛ لأنه شارك في القتل العمد العدوان، فأشبه شريك الأب، ويتخرج أن لا قصاص عليه، بناء على الرواية الأخرى في شريك الأب، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، أن الجناية ثم من واحد، فكانت الدية جميعها عليه، وهاهنا من اثنين، فقسمت الدية عليهما.
فإن عاد الأول، فذبحه بعد اندمال الجرحين، فعليه القصاص للورثة، ونصف القيمة للسيد، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية، وإن كان قبل الاندمال، فعلى الأول القصاص في النفس دون الطرف، فإن اقتصوا، سقط حق السيد. وإن عفوا على مال، فلهم الدية لا غير، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة، أو أرش المقطوع، وعلى الثاني: القصاص في الطرف، أو نصف الدية؛ لأن الذبح، قطع سرايتها، فصارت كالمندملة. فإن كان قاطع اليد الأخرى، هو قاطع الأولى، ولم يقتل، فلا قصاص في اليد الأولى لما ذكرنا.
ويجب في الثانية إن وقف القطع. وإن سرى القطعان، فلا قصاص في النفس؛ لأن أحد الجرحين موجب، والآخر غير موجب، ولكن له القصاص من اليد الثانية، فإن عفا عنه على مال، وجب عليه مثل ما يجب على القاطعين في المسألة الأولى، للسيد منه نصف القيمة على قول أبي بكر، وأقل الأمرين من نصف القيمة، أو نصف الدية على قول ابن حامد، وإن اقتص منه في اليد الثانية، فعليه في اليد الأولى نصف القيمة، أو نصف الدية على اختلاف الوجهين، وإن قطع يد عبد فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، فمات من الجراحات، فلا قصاص على الأول؛ لعدم التكافؤ حال الجناية، وعلى الآخرين القصاص في النفس في ظاهر المذهب، بناء على شريك الأب، فإن عفا على(4/18)
مال، فالدية عليهم أثلاثًا، وفيما يستحقه السيد وجهان:
أحدهما: أقل الأمرين من نصف قيمته، أو ثلث ديته؛ لأنه بالقطع استحق النصف، فإذا صارت نفسًا، صار الواجب ثلث الدية، فله أقلهما، وعلى الآخر له أقل الأمرين من ثلث الدية، أو ثلث القيمة، اعتبارًا للجناية بما آلت إليه.
فصل:
وإذا جنى على عبد في رأسه، أو وجهه من دون الموضحة، فزاد أرشها على الموضحة، ففيه وجهان:
أحدهما: يرد إلى أرش الموضحة، كالجناية على الحر.
واحتمل أن يجب ما نقص من قيمته بالغًا ما بلغ، لأن ذلك الأصل في ضمان العبيد، خولف فيما قدر الشرع أرشه، ففيما عداه يرد إلى الأصل.
فصل:
ودية الجنين الحر المسلم: غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، وهو: نصف عشر الدية؛ لما «روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قضى فيه بغرة: عبد أو أمة، وهو: نصف عشر الدية. قال: لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة» متفق عليه. وروي عن عمر، وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا في الغرة: قيمتها خمس من الإبل، ولأنه أقل ما قد في الشرع في الجنايات، وهو دية السن والموضحة، ولا يقبل في الغرة معيبة، وإن قل العيب، ولا خصي وإن كثرت قيمته؛ لأنه عيب، ولا قيمة الغرة مع وجودها، كما لا يجبر على قبول ما ليس بأصل في الدية فيها، فإن أعوزت، وجبت قيمتها من أحد الأصول في الدية، وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى؛ لأن الخبر مطلق، ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث.
فصل:
وإنما يجب ضمانه إذا علم تلفه بالجناية، ولو ضرب بطنًا منتفخًا، أو فيه حركة فزالت، ولم يسقط لم يجب شيء؛ لأنه يحتمل أن ذلك ريح ذهبت، وإن قتل حاملًا، فلم تسقط، لم يضمن جنينها؛ لعدم التيقن لحملها، وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يدًا،(4/19)
أو رجلًا، أو غيرها من أجزاء الآدمي، وجبت الغرة؛ لأننا تيقنا أنه جنين. والظاهر تلفه بالجناية، فأشبه ما لو ألقته، وإن ألقت رأسين، أو أربعة أيد، لم يجب أكثر من غرة؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون من واحد، فلا يجب الزائد بالشك. وإن ألقت جنينين، فعليه غرتان؛ لأن في كل جنين غرة، فأشبه ما لو كانا من امرأتين.
فصل:
وإن ألقت جنينًا حيًا، ثم مات من الضربة. وكان سقوطه لوقت يعيش مثله، ففيه دية كاملة، لما ذكرنا من حديث عمر في التي أجهضت جنينها فزعًا منه، ولأننا تيقنا حياته، وعلمنا موته بالجناية، فأشبه غير الجنين، وإن سقط لوقت لا يعيش مثله، ففيه الغرة؛ لأنه لم يعلم منه حياة يتصور بقاؤه بها، فالواجب فيه غرة، كالذي ألقته ميتًا.
فصل:
وإنما يجب ضمانه إذا علم أنه سقط بالضربة ومات بها، بأن تلقيه عقيب الضرب، أو تبقى متألمة إلى أن تلقيه، ويموت عقيب وضعه، أو يبقى متألمًا إلى أن يموت، فإن بقي مدة سالمًا لا ألم به ثم مات، لم يضمنه الضارب؛ لأن الغالب أنه لم يمت من الضربة، وإن ألقته حيًا فيه حياة مستقرة، فقتله غير الضارب فضمانه عليه؛ لأنه القاتل. وإن كانت حركته حركة المذبوح، فالقاتل هو الأول، وعليه كمال ديته.
فصل
:
وإن كان الجنين كافرًا، فألقته ميتًا، ففيه غرة، قيمتها عشر دية أمه، فإن كان أحد أبويه كتابيًا، والآخر مجوسيًا، ففيه عشر دية كتابية؛ لأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب، وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب، بدليل ما لو قتل المحرم صيدًا متولدًا من مأكول وغيره. وإن ضرب بطن كتابية حاملًا من كتابي فأسلمت، ثم ألقته، ففيه غرة قيمتها: خمس من الإبل على قول ابن حامد؛ لأن الضمان معتبر بحالة الاستقرار. وعلى قياس قول أبي بكر: قيمتها عشر دية كتابية، اعتبارًا بحال الجناية، وما وجب في الجنين الحر ورثه ورثته؛ لأنه بدل حر، فورث عنه كدية غيره.
فصل:
وإن ألقت مضغة لا صورة فيها، لم يجب ضمانها؛ لأنه لا يعلم أنها جنين، وإن شهد ثقات من القوابل: أن فيها صورة خفية، ففيها غرة؛ لأنه جنين، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، لو بقي تصور، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه الغرة؛ لأنه بدء خلق آدمي، أشبه المصور.(4/20)
والثاني: لا شيء فيه؛ لأنه غير متصور، أشبه العلقة.
فصل:
إذا شربت الحامل دواء، فأسقطت جنينًا، فعليها غرة لا ترث منها شيئًا؛ لأن القاتل لا يرث، وتعتق رقبة.
فصل:
وإن ضرب بطن مملوكة، فألقت جنينًا ميتًا، ففيه عشر قيمة أمه؛ لأنه جنين آدمية، فوجب فيه عشر دية أمة، كجنين الحرة، ولأنه جزء منها متصل بها، فقدر بدله من ديتها، كسائر أعضائها، وتعتبر قيمتها يوم الجناية كموضحتها، وإن ضرب بطنها وهي أمة، فأعتقت ثم ألقت، فعلى قول ابن حامد: فيه غرة اعتبارًا بحالة الاستقرار، وعلى قول أبي بكر: فيه عشر قيمة أمه؛ لأن الجناية على عبد، وفي جنين المعتق نصفها: نصف غرة، ونصف عشر قيمة أمه؛ لأن نصفه حر ونصفه عبد، ويستوي الذكر والأنثى؛ لأنه جنين مات بالجناية في بطن أمه، فلم يختلف بالذكورية والأنوثية، كجنين الحرة.
فصل:
إذا غر بحرية أمة فوطئها، فحملت منه، ثم ضربها ضارب، فألقت جنينًا، ففيه غرة؛ لأنه حر، وريثها ورثته كذلك، وعلى الواطئ عشر قيمة أمه لسيدها؛ لأنه لولا اعتقاده الحرية، لوجب لسيدها عشر قيمتها على الضارب، فقد حال بين سيدها وبين ذلك، فألزمناه إياه، سواء كان بقدر الغرة، أو أقل أو أكثر. ولو ضرب السيد بطن أمته، ثم أعتقها، فأسقطت جنينًا، ففي قياس قول أبي بكر: لا ضمان على الضارب؛ لأنه جنى على مملوكه، وعلى قياس قول ابن حامد عليه غرة؛ لأنه حر حين استقرار الجناية.
[باب ديات الجروح]
وهي نوعان: شجاج وغيرها. فالشجاج: جروح الرأس والوجه خاصة، وهي عشر: أولها: الحارصة: وهي التي تشق الجلد قليلًا، ثم البازلة: وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير، ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم المتلاحمة: وهي التي تنزل في اللحم، ثم السمحاق: وهي التي تشق اللحم كله حتى ينتهي إلى قشرة رقيقة بين العظم واللحم، تسمى السمحاق، فسميت الشجة بها، فهذه الخمس لا توقيت فيها، وعنه: في الدامية بعير، والباضعة بعيران. وفي المتلاحمة ثلاثة، وفي(4/21)
السمحاق أربعة؛ لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت ورواه سعيد، عن علي، وزيد في السمحاق. والأول: ظاهر المذهب؛ لأنها جروح لم يرد الشرع فيها بتوقيت، فكان الواجب فيها الحكومة، كجروح البدن، قال مكحول: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموضحة، بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» ، ثم الموضحة: وهي التي تنتهي إلى العظم، فتبدي وضحه أي بياضه، ثم الهاشمة التي تهشم العظم بعد إيضاحه، ثم المنقلة، وهي التي تنقل العظم من مكان إلى غيره، ثم المأمومة وتسمى الأمة، وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحيط به، ثم الدامغة، وهي التي تنتهي إلى الدماغ.
فهذه الخمس فيها مقدر، ففي الموضحة خمس من الإبل، لما ذكرنا، ولما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في المواضح خمسٌ خمس» رواه أبو داود. وسواء في ذلك الكبيرة والصغيرة، وموضحة الرأس والوجه، وعنه: في موضحة الوجه عشر من الإبل؛ لأن شينها أكثر، ولا تسترها العمامة، والأول: المذهب للخبر، ولأننا سوينا الصغرى والكبرى مع اختلاف شينهما، كذا هاهنا. وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، ففيهما عشر، فإن أزال الحاجز بينهما بفعله، أو ذهب بالسراية، ففيهما أرش موضحة؛ لأنهما صارا موضحة واحدة بفعله أو سرايته، وسراية الفعل كالفعل، وإن أزال الحاجز بعد اندمالهما، فهي ثلاث مواضح؛ لأن استقر أرش الأوليين باندمالهما، وإن أزال الحاجز أجنبي، فعليه أرش موضحة، وعلى الأول أرش موضحتين.
سواء أزاله قبل اندمالهما أو بعده؛ لأن فعل أحدهما لا ينبني على الآخر، فصار كل واحد كالمنفرد بجنايته، وإن أزاله المجني عليه، فعلى الأول أرش موضحتين كذلك، وإن أوضحه موضحتين، وحرق ما بينهما في الظاهر دون الباطن، فهما موضحتان، لأن ما بينهما ليس بموضحة، وإن حرق ما بينهما في الباطن دون الظاهر، فكذلك في أحد الوجهين، وفي الثاني: هما موضحة واحدة، لا تصالهما في الباطن، وإن أوضحه في رأسه، ونزل إلى وجهه، ففيه وجهان:
أحدهما: فيها أرش موضحتين؛ لأنها في عضوين.
والثاني: هي موضحة واحدة؛ لأن الجميع إيضاح لا حاجز فيه، أشبه ما كان في عضو واحد، وإن أوضحه في هامته، فنزل إلى قفاه، ففيه أرش موضحة، وحكومة لجرح القفا؛ لأنه ليس بمحل للموضحة، فانفرد الجرح فيه بالضمان. ولو شق جميع رأسه سمحاقًا إلا موضعًا منه أوضحه، لم يلزمه إلا دية موضحة؛ لأنه لو أوضح الجميع لم يجب إلا دية موضحة، فهاهنا أولى، وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الشاج قدر(4/22)
ثلاثة أرباع رأس المشجوج، فاقتص منه، فله ربع أرش الموضحة؛ لأن الباقي بعد القصاص ربعها، فوجب ربع أرشها، وقال أبو بكر: لا يجب مع القصاص شيء؛ لئلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وفي الهاشمة عشر من الإبل؛ لما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الهاشمة عشر من الإبل، وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز، ففيهما دية هاشمتين، وسائر فروعها على ما ذكرنا في الموضحة، وإن ضربه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه حكومة؛ لأنه كسر عظم من غير إيضاح، أشبه كسر عظم الساق.
والثاني: فيه خمس من الإبل؛ لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عشر، ولو أوضحه ولم يهشمه، وجب خمس؛ فدل على أن الخمس الأخرى وجبت في الهشم، فيجب ذلك فيه، وإن انفرد على الإيضاح، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية؛ لما روي عن عمرو بن حزم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية» رواه النسائي. فأما الدامغة، ففيها ما في المأمومة؛ لأن الزيادة لم يرد الشرع بإيجاب شيء فيها. وقيل: يجب للزيادة حكومة مع أرش المأمومة، لتعديه بخرق جلدة الدماغ، وإن أوضحه رجل ثم هشمه آخر، ثم جعلها آخر منقلة، ثم جعلها الرابع مأمومة، فعلى الأول أرش موضحة، وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة، وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة، وعلى الرابع ثماني عشر وثلث تمام أرش المأمومة.
فصل:
النوع الثاني: غير الشجاج، وهي جروح سائر البدن، وذلك قسمان:
أحدهما: الجائفة، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف من بطن، أو ظهر، أو ورك، أو صدر، أو ثغرة نحر، فيجب فيها ثلث الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «في الجائفة ثلث الدية» رواه النسائي. والكبيرة والصغيرة سواء، لما ذكرنا في الموضحة، وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز، أو طعنه في جوفه، فخرج من جانب آخر، أو من ظهره، فهما جائفتان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف، فهي جائفتان، ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف، فوجب فيهما أرش الجائفتين كالواصلتين من خارج، وإن أجافه رجل، ووسع آخر الجائفة، فعلى كل واحد منهما أرش جائفة؛ لأن فعل الثاني لو انفرد كان جائفة، وإن وسعها في الظاهر دون الباطن، أو في الباطن دون الظاهر، فعليه(4/23)
حكومة، لأن جنايته لم تبلغ الجائفة، وإن أجافه، ونزل بالسكين إلى الفخذ، فعليه دية جائفة، وحكومة لجرح الفخذ؛ لأنه في غير محل الجائفة؛ فأشبه ما لو أوضحه، ومد السكين إلى القفا، وإن خزق شدقه، فليس بجائفة؛ لأن حكم الفم حكم الظاهر، فإن طعنه في وجنته، فكسر العظم، ووصل إلى فيه، فليس بجائفة كذلك، وعليه دية هاشمة، لكسر العظم، وفيما زاد حكومة. وإن خاط الجائفة، ففتقها آخر قبل التحامها عزر، وعليه ضمان ما أتلف من الخيوط، وأجرة الخياط.
ولا يلزمه دية الجائفة؛ لأنه لم يجفه، وإن كانت قد التحمت، فعليه دية جائفة؛ لأنها بالالتحام عادت إلى ما كانت، وإن التحم بعضها دون بعض، ففتق ما التحم، فعليه دية جائفة كذلك. وقال القاضي: ليس عليه إلا حكومة، فإن أدخل خشبة في دبر إنسان، ففتح جلده في الباطن، ففيه وجهان بناء على من وسع الموضحة في الباطن وحده، فإن وطئ مكرهة، أو امرأة بشبهة، أو زوجته الصغيرة ففتقها، وهو أن يجعل مسلك البول والمني واحدًا، فعليه ثلث الدية؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية، ولأنها جناية تجرح جلدة تفضي إلى جوف، أشبه الجائفة، وإن وطئ زوجته التي يوطأ مثلها، ففتقها لم يلزمه شيء؛ لأنه من أثر فعل مباح، أشبه أرش البكارة، وإن زنى بامرأة مطاوعة، فلا شيء عليه؛ لأنه فعل مأذون فيه، فلم يلزمه أرش لذلك، كما لو أذنت في قطع عضوها.
فصل
والقسم الثاني: غير الجائفة مثل إن أوضح عظمًا، أو هشمه أو نقله، فلا يجب سوى الحكومة؛ لأنه لا تقدير فيها، ولا يمكن قياسها على المقدر، لعدم المشاركة في الشين والخوف عليها منها، وإن لطم إنسانًا في وجهه أو غيره فلم يؤثر، فلا أرش عليه، وإن سود وجهه أو خضره، وجبت عليه دية كاملة؛ لأنه أذهب الجمال على الكمال، فلزمته دية كما لو قطع أنفه. وإن سود غيره من الأعضاء أو خضره، ففيه حكومة، وكذلك إن حمر وجهه أو صفره، أو سود بعضه، ففيه حكومة؛ لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال. وإن صعره وهو أن يصير وجهه في جانب، ففيه الدية؛ لما روى مكحول، عن زيد بن ثابت أنه قال: في الصعر الدية، ولأنه أذهب الجمال والمنفعة، فوجبت عليه الدية، كإذهاب البصر، وإن لم يبلغ الصعر، لكن يشق عليه الالتفات، أو ابتلاع الماء، فعليه حكومة كذلك؛ لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قلل بصره.
فصل
ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه، كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد(4/24)
برأت، فما نقص من القيمة، فله بقسطه من الدية، كأن قيمته وهو عبد لا جناية به مائة، وقيمته بعد الجناية تسعة وتسعون، فيجب فيه عُشر عشر ديته؛ لأن الجناية نقصته عشر عُشر قيمته؛ لأنه لما عدم النص في أرشه، وجب المصير فيه إلى الاجتهاد بما ذكرنا، كالصيد الحرمي، إذا لم يوجد نص في مثله، رجع فيه إلى ذوي عدل، ليعرف مثله، ولا يقبل التقويم إلا من عدلين من أهل الخبرة بقيم العبيد، كما في تقويم سائر المتلفات، ويجب بقدر ما نقص من الدية؛ لأنه مضمون بها، كما يجب أرش المعيب من الثمن، لكونه مضمونًا به، وإذا نقصته الجناية عشر قيمته، وجب عشر ديته، إلا أن تكون الجناية في رأس، أو وجه فتزيد الجراح بالحكومة على أرش موضحة، أو على عضو، فتزيد على ديته، فإن يرد إلى أرش الموضحة ودية العضو، وينقص عنه بقدر ما يؤدي إليها اجتهاد الحاكم؛ لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون الموضحة ما يجب فيها؛ لأن من جرح الموضحة، فقد أتى على ما دونها، وزاد عليه، وكذلك لا يجوز أن يجب في جراح الإصبع فوق ديتها.
فصل:
وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع، مثل قطع إصبع زائدة، أو قلع سن زائدة، أو لحية امرأة، فاندمل الموضع من غير نقص، أو زاده جمالًا وقيمة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب شيء؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص، فلم يجب شيء، كما لو لكمه فلم يؤثر.
والثاني: يجب ضمانه؛ لأنه جزء من مضمون، فوجب ضمانه كغيره، فعلى هذا يقومه في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله، قوم في أقرب أحواله إليه كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد العلوق، وهي عند الوضع، فإن لم ينقص في تلك الحال، قوم حين جريان الدم، وإن قلع سنًا زائدة، قوم وليس خلفها سن أصلية، وإن قلع لحية امرأة، قومت كرجل لا لحية له، ثم يقوم وله لحية، ويجب ما بينهما.
فصل:
وإن جنى عليه جناية لها أرش، ثم ذبحه قبل اندمال الجرح، دخل أرش الجرح في دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل استقرار الجناية، أشبه ما لو مات من سراية الجرح.(4/25)
وإن قتله غيره وجب أرش الجرح؛ لأنه لا ينبني فعل غيره على فعله، أشبه ما لو اندمل الجرح.
[باب دية الأعضاء والمنافع]
كل ما في الإنسان منه شيء واحد: كاللسان، والأنف، والذكر، ففيه الدية كاملة، وما فيه منه شيئان كالعينين وغيرهما ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، وما فيه منه أربعة، كأجفان العينين، ففيهن الدية، وفي إحداهن ربعها، وما فيه منه عشر، كأصابع اليدين والرجلين، ففيها الدية، وفي الواحدة عشرها، وفي إتلاف منفعة الحس: كالسمع، أو البصر، أو الشم، أو العقل ونحوه الدية؛ لأن ذلك يجري مجرى تلف الآدمي، فجرى مجراه في ديته.
فصل:
يجب في العينين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر بن حزم: «وفي العينين الدية» ولأنه إجماع، وفي إحداهما نصف الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي العين خمسون من الإبل» رواه مالك في الموطأ. وسواء في ذلك الصحيحة والمريضة، وعين الصغير والكبير كذلك، وفي عين الأعور دية كاملة؛ لأنه يروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بذلك، ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم؛ فكان إجماعًا، ولأنه يحصل بها ما يحصل بالعينين، فكانت مثلهما في الدية، وإن قلع الأعور عيني صحيح، ففيها الدية، لما تقدم، وإن قلع عينه التي لا تماثل عين القالع، ففيها نصف الدية كذلك. وإن قلع المماثلة لعينه خطأ فكذلك، وإن قلعها عمدًا، فلا قصاص، وعليه دية كاملة؛ لأنه يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه منع القصاص مع وجود سببه، فأضعفت الدية، كقاتل الذمي عمدًا.
فصل:
وفي البصر الدية؛ لأنه النفع المقصود بالعين، وفي ذهابه من إحداهما نصفها، فإن ذهب بالجناية على رأسه أو عينيه، أو بمداواة الجناية، وجبت الدية؛ لأنه بسببه، فإن ذهب ثم عاد، لم تجب الدية. فإن كان قد أخذها ردها؛ لأن عوده يدل على أنه لم يذهب، إذ لو ذهب لما عاد. وإن ذهب، فقال عدلان من أهل الخبرة: إنه يرجى عوده إلى مدة، انتظر إليها، فإن مات قبلها، وجبت الدية؛ لأنه لم يعد، وإن بلغ المدة ولم يعد وجبت؛ لأننا تبينا ذهابه، وإن قالا: يرجى عوده، ولم يقدرا مدة، لم ينتظر؛ لأنه ذاهب في الحال، وانتظاره لا إلى مدة، إسقاط لموجب الجناية بالكلية، وكذلك الحكم في السمع والشم والسن.(4/26)
فصل
وإن نقص الضوء، وجبت الحكومة، وإن نقص ضوء إحداهما، عصبت العليلة، وأطلقت الصحيحة، ونصب له شخص، كما فعل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل ادعى نقص ضوء عينه، فأمر بها فعصبت، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم أمر فخط عند ذلك، ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت، وفتحت العليلة، وأعطى رجلًا بيضة، فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره، ثم خط عنه ذلك، ثم حول إلى مكان آخر، ففعل مثل ذلك، فوجده سواء، فأعطاه بقدر نقص بصره من مال الآخر، وإنما يمتحن بذلك مرتين، ليعلم صدقه بتساوي المسافتين، وكذبه باختلافهما، والجناية على الصبي والمجنون، كالجناية على غيرهما، إلا أن وليهما خصم عنهما، فإن توجهت اليمين عليهما، لم يحلفا، ولم يحلف وليهما، حتى إذا بلغ الصبي، وعقل المجنون، حلفا حينئذ، وإن جنى عليه، فأحول عينه أو شخصت ففيه حكومة؛ لأنه نقص لم يذهب بالمنفعة كلها، فأشبه ما لو قل بصره.
فصل
ويجب في جفون العينين الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنها تقي العينين ما يؤذيهما وسواء في هذا البصير والأعمى؛ لأن العمى عيب في غير الجفون، وفي الواحد منهما ربع الدية؛ لأنه ربع ما فيه الدية، وإن قلع العينين بجفونهما، لزمته ديتان؛ لأنهما جنسان يجب في كل واحد منهما دية، فيجب فيهما ديتان، إذا أتلفا، كاليدين والرجلين، ويجب في أهداب العينين الدية؛ لأن فيها جمالًا ظاهرًا، ونفعا كاملًا؛ لأنها وقاية للعين، فأشبهت الجفون، وفي الواحد منها ربع الدية، فإن قلع الجفون بأهدابها، لم يجب أكثر من دية؛ لأن الشعر يزول تبعًا لزوال الأجفان، فلم يجب فيه شيء، كالأصابع إذا زالت بقطع الكف.
فصل
وفي الأذنين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي الأذنين الدية» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كاملا، يجمعان الصوت، ويوصلانه إلى الدماغ، فأشبها العينين. وفي إحداهما نصفها؛ لأنه نصف ما فيه الدية، فأشبهت العين، ودية أذن الأصم، كدية أذن الصحيح؛ لأن الصمم نقص في غير الأذن، فلا يؤثر في ديتها، كما لم يؤثر العمى في دية الجفون، وإن جنى عليها، فاستحشفت فعليه حكومة؛ لأن نفعها لا يزول بذلك، إن قطعت بعد استحشافها وجبت ديتها؛ لأنها أذن فيها الجمال والمنفعة، فأشبهت الصحيحة، وفي قطع بعض الأذن بقسطه، يقدر بالأجزاء؛ لأن ما وجبت فيه الدية وجب في بعضه بقسطه، كالأصابع.(4/27)
فصل
وفى السمع الدية؛ لما روى أبو المهلب، عن أبي قلابة: أن رجلًا رمى رجلًا بحجر في رأسه، فذهب بصره، وسمعه، وعقله، ولسانه، فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي، ولأن جنايته تختص بمنفعة، فأشبه البصر، وفي سمع إحدى الأذنين نصف الدية، كبصر إحدى العينين. وإن قطع الأذنين فذهب السمع، وجب ديتان؛ لأن السمع في غير الأذنين، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالبصر والجفون، وإن قل السمع أو ساء ففيه حكومة، وإن نقص سمع إحدى الأذنين، سدت العليلة، وأطلقت الصحيحة. وأمر الرجل يصيح من موضع يسمعه ويعمل كما عمل في نقص البصر من إحدى العينين، ويؤخذ من الدية بقدر نقصه.
فصل
وفي مارن الأنف، وهو ما لان منه الدية؛ لأنه في كتاب عمرو بن حزم، ولما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية» رواه النسائي. ولأن فيه جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كاملًا، فإنه يجمع الشم، ويمنع وصول التراب ونحوه إلى الدماغ، والأخشم كالأشم؛ لأن الشم في غير الأنف، وفي قطع جزء من الأنف بقسطه، كما في الأذن. وفي كل واحد من المنخرين ثلث الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها؛ لأنه يشتمل على ثلاثة أشياء، فتوزعت الدية عليها، ويحتمل أن يجب في كل واحد من المنخرين نصف الدية؛ لأنه يذهب بذهاب أحدهما نصف الجمال والنفع، فإن قطع أحدها والحاجز، ففيهما ثلث الدية، على الأول، وعلى الاحتمال الثاني، يجب نصف الدية، وحكومة. وفي الحاجز وحده حكومة. وإن قطع المارن وشيئًا من القصبة، ففيه دية للمارن، وحكومة للقصبة، وقياس المذهب: أن الواجب دية واحدة، كقطع اليد من الذراع.
فصل
وفي الشم الدية، وفي ذهابه من أحد المنخرين نصفها، وفي نقصه حكومة، وإن نقص من أحد المنخرين، قدر بمثل ما يقدر به، نقص السمع من إحدى الأذنين، وإن قطع أنفه، فذهب شمه، وجبت ديتان، لما ذكرنا في السمع.
فصل
وفي ذهاب العقل الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي العقل(4/28)
الدية» ، ولما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العقل أشرف الحواس، به يتميز عن البهيمة، ويعرف حقائق المعلومات، ويدخل في التكليف، فكان أحق بإيجاب الدية، وإن نقص عقله نقصًا يعرف قدره، مثل من يجن نصف الزمان، ويفيق نصفًا، وجب من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدره، بأن صار مدهوشًا، أو يفزعه الشيء اليسير، ففيه حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب مقدر، فيصير إلى الحكومة، فإن كانت الجناية المذهبة للعقل لها أرش كالموضحة، أو أذهبت سمعه وعقله وجبت ديتهما؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية أذهبت نفعًا في غير محل الجناية، مع بقاء النفس فلم يتداخلا، كما لو أوضحه فذهب بصره، وإن شهر سيفًا على صبي، أو بالغ مضعوف، أو صاح عليه صيحة شديدة، فذهب عقله، فعليه ديته؛ لأن ذلك سبب لزوال عقله، وكذلك إن أفزعه بشيء، مثل أن دلاه في بئر أو من شاهق، أو قدم إليه حية، أو أسدًا لما ذكرنا.
فصل
وفي الشفتين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي الشفتين الدية» ، ولأن فيهما نفعًا كبيرًا، وجمالًا ظاهرًا، فإنهما يقيان الفم ما يؤذيه، ويردان الريق، وينفخ بهما، ويمسك بهما الماء، ويتم بهما الكلام، ويستران الأسنان، وفي إحداهما نصف الدية، وعنه: في العليا ثلثها، وفي السفلى ثلثاها؛ لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأن النفع بالسفلى أعظم؛ لأنها تدور وتتحرك، وتحفظ الريق والطعام، والأول المذهب؛ لأنه قول أبي بكر الصديق وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما، وجب في إحداهما نصفها كاليدين، ولا عبرة بزيادة النفع، بدليل اليمنى مع اليسرى والأصابع، وإن ضربهما فأشلهما، أو تقلصتا بحيث لا ينطبقان على الأسنان، أو التصقتا بحيث لا ينفصلان عنها، ففيهما ديتهما؛ لأنه عطل نفعهما، فأشبه ما أشل يده، وإن تقلصتا بعض التقلص، ففيهما حكومة.
فصل
وفي اللسان الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية» ولأن فيه جمالًا ظاهرا، ونفعًا كثيرًا؛ لأنه يقال: جمال الرجل في لسانه، والمرء بأصغريه: قلبه ولسانه، ولأنه يبلغ به الأغراض، ويقضي به الحاجات، ويتم به العبادات، ويذوق به الطعام والشراب، ويستعين به في مضغ الطعام، وفي الكلام الدية؛ لأنه من أعظم المنافع، فإن جنى على لسانه فخرس، وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب المنفعة به، فأشبه ما لو جنى على عينه فعميت، وإن ذهب بعض الكلام، وجب بقدر ما ذهب؛ لأن ما ضمن جميعه بالدية، ضمن بعضه بقدره منها، كالأصابع.(4/29)
ويقسم على الحروف الثمانية والعشرين، ويحتمل أن يقسم على حروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا، يسقط منها حروف الحلق الستة؛ وهي: العين والغين، والحاء والخاء، والهاء والهمزة، وحروف الشفة وهي أربعة: الباء، والفاء، والميم، والواو، ولأن اللسان لا عمل له فيها، والأول أولى؛ لأن هذه الحروف ينطق بها اللسان أيضًا، بدليل أن الأخرس لا ينطق بشيء منها، وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة، وجب أرش الحرف وحده؛ لأن الضمان وجب لما تلف، وإن صار ألثغ وجب دية الحرف الذاهب؛ لأنه عجز عن النطق بحرف، وإن حصل في كلامه ثقل، أو تمتمة، أو عجلة، لم تكن، ففيه حكومة لما حصل من النقص؛ لأنه لم يمكن إيجاب مقدر. وإن قطع جزءًا من لسانه فذهب جزء من كلامه وجب دية الأكثر، فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام، أو نصف اللسان فذهب ربع الكلام وجب نصف الدية؛ لأن ما يتلف من كل واحد منهما مضمون، فوجبت دية أكثرهما، وإن قطع ربع اللسان، فذهب نصف الكلام، ثم قطع آخر بقيته، فعلى الأول نصف الدية، وعلى الثاني نصفها، وحكومة لربع اللسان؛ لأنه شل، فكانت فيه حكومة.
وإن قطع نصف اللسان، فذهب ربع الكلام، وقطع آخر باقيه، فعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام، ولو جنى عليه، فذهب ثلاث أرباع كلامه من غير قطع، وجب ثلاثة أرباع الدية، فمع قطع نصفه أولى، وإن جنى على لسانه فاقتص مثل جنايته، فذهب من الجاني مثل ما ذهب من المجني عليه، فقد استوفى حقه، وإن ذهب من الجاني أكثر، فكذلك؛ لأن الزائد ذهب من سراية القود، وإن ذهب من كلام المجني عليه أكثر، أخذ من الجاني بقدر ما نقص عنه الجاني من الدية؛ ليحصل تمام حقه، وإن كان لسان رجل ذا طرفين، فقطع أحدهما ولم يذهب من الكلام شيء، وكانا متساويين في الخلقة، فهما كلسان مشقوق، فيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، وإن كان أحدهما تام الخلقة، والآخر ناقصًا، فالتام هو الأصلي فيه الدية كاملة، والناقص زائد فيه حكومة.
فصل
وإن قطع لسان طفل يتحرك بالبكاء، وبما يعبر به الأطفال، كقوله: بابا ونحوه، ففيه الدية؛ لأنه لسان ناطق، وإن كان لا يتحرك بشيء، وقد بلغ حدًا يتحرك به، ففيه ما في لسان الأخرس؛ لأن الظاهر أنه لو كان ناطقًا لتحرك بما يدل عليه، فإن قطع قبل مضي زمن يتحرك فيه اللسان، ففيه الدية؛ لأن الظاهر السلامة، فضمن كما تضمن أطرافه، وإن لم يظهر فيها بطش.(4/30)
فصل
وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه، فلا يحس بشيء من المذاق، وهي خمس: الحلاوة، والمرارة، والحموضة، والعذوبة، والملوحة، وجبت الدية؛ لأنه أتلف حاسة لمنفعة مقصودة، فلزمته الدية كالبصر، وإن نقص الذوق نقصًا يتقدر بأن لا يدرك أحدها وحدها، ففيها الخمس، وفى الاثنين الخمسان، وفي الثلاثة ثلاثة أخماس؛ لأنه تقدر المتلف، فيتقدر الأرش كالأصابع، وإن لم يتقدر بأن يحس المذاق كلها، لكن لا يدركها على كمالها، وجبت الحكومة لتعذر التقدير، وإن أذهب ذوق الأخرس، فعليه الدية كذلك، وإن جنى على لسان ناطق، فأذهب كلامه وذوقه مع بقاء اللسان، فعليه ديتان؛ لأنهما منفعتان تضمن كل واحدة منهما منفردة، فيضمنان إذا اجتمعتا كالسمع والبصر، فإن قطع لسانه، لم يلزمه إلا دية واحدة؛ لأن نفع العضو لا يفرد بضمان مع ذهابه، كالبطش في اليد.
فصل
وفي كل سن خمس من الإبل، سواء قلعت دفعة واحدة أو في دفعات؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعمرو بن حزم: «وفي السن خمس من الإبل» رواه النسائي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وفي الأسنان خمس» رواه أبو داود.
والأضراس والأنياب والرباعيات سواء؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «الأصابع سواء، والأسنان سواء، والثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء» رواه أبو داود. ولأنه جنس ذو عدد، فلم تختلف ديته باختلاف منافعه كالأصابع. وإن قلع السن بسنخها، أو كسر ما ظهر منها، وخرج من لحم اللثة، ففيها دية السن؛ لأن النفع والجمال فيما ظهر، فكملت الدية فيه كالإصبع، وإن قلع السنخ وحده ففيه حكومة، ككف لا أصابع له. وإن كسر بعض السن طولًا أو عرضًا، وجب من دية السن بقدر ما كسر بقدر الأجزاء من الظاهر كالأصابع، وإن ظهر السنخ المعيب بعلة، اعتبر بما كان ظاهرًا قبل العلة؛ لأن الدية تجب بما كان ظاهرًا، فاعتبر المكسور منه، وإن قلع سنًا فيها داء أو أكلة، ولم يذهب شيء من أجزائها، كملت ديتها، كاليد المريضة. وإن ذهب منهما جزء، سقط من ديتها بقدر الذاهب، وإن كانت إحدى ثنيتيه أقصر من الأخرى،(4/31)
فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها؛ لأنهما لا يختلفان عادة فإذا اختلفا، كانت القصيرة ناقصة فنقصت ديتها، كالإصبع الناقصة، وإن قلع سنًا مضطربة لكبر، أو مرض، وبعض نفعها باق، كملت ديتها، كاليد المريضة، ويد الكبير، وإن ذهب نفعها، فهي كاليد الشلاء، وإن جنى على سنه فاحمرت أو اصفرت، ففيها حكومة؛ لأن نفعها باق، وإنما ذهب جمالها، وإن اخضرت أو اسودت، ففيها روايتان:
إحداهما: فيها ديتها؛ لأنه يروى عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه سود ما له دية، فوجبت ديته كالوجه.
والأخرى: فيها حكومة، اختارها القاضي؛ لأنه لم يذهب منها إلا الجمال، فأشبه ما لو حمرها، وإن نقصتها الجناية، ففيها حكومة لنقصها، وإن جنى على سنه، فأذهب نفعها كله، من المضغ وحفظ الريق والطعام، ففيها ديتها، كما لو أشل يده.
فصل
وإن قلع سن صبي لم يثغر، لم يلزمه شيء في الحال؛ لأن العادة عودها، فأشبه ما لو نتف شعره، فإن لم تنبت وأيس من نباتها، وجبت ديتها. قال أحمد: ينتظر عامًا؛ لأنه الغالب في نباتها. وقال القاضي: إذا أسقطت أخواتها ثم نبتن ولم تنبت، وجبت ديتها، فإن مات قبل اليأس منها، ففيه وجهان:
أحدهما: تجب ديتها؛ لأنه قلع سنًا لم تعد.
والثاني: لا يجب؛ لأن الظاهر عودها، وإنما فات بموته، فأشبه نتف شعره، وإن عادت لا نقص فيها، لم يجب شيء. وإن نبتت خارجة عن صف الأسنان لا ينتفع بها، ففيها ديتها. وإن كان ينتفع بها، ففيها حكومة للنقص، وإن نبتت قصيرة، ففيها من ديتها بقدر النقص؛ لأنه نقص حصل بجنايته، وإن نبتت أطول من نظيرتها أو حمر أو صفر، ففيها حكومة، للشين الحاصل بجنايته، ويحتمل أن لا يجب شيء لطولها؛ لأن الظاهر أن الزيادة لا تكون من الجناية، وإن نبتت سوداء، ففيها روايتان، ذكرهما القاضي:
إحداهما: فيها ديتها.
والثانية: فيها حكومة، كما لو جنى عليها فسودها، وهكذا الحكم فيمن قلع سن كبير، إلا أنه إذا مات قبل عودها، وجبت ديتها؛ لأن الظاهر أنها لا تعود، وتجب ديتها حين قلعها، إلا أن يقول عدلان من أهل الطب: إنه يرجى عودها إلى مدة، فينتظر إليها، وإن قلع سنًا فردها صاحبها، فنبتت في موضعها، لم تجب ديتها نص عليه، وهو اختيار أبي بكر، وإن قلعها آخر بعد ذلك، فعليه ديتها.(4/32)
وقال القاضي: على الأول الدية، ويؤمر صاحبها بقلعها؛ لأنها صارت ميتة، ولا شيء على الثاني في قلعها؛ لأنه محسن به، وإن جعل مكانها سن حيوان مأكول أو ذهبًا، فثبت، فقلعه قالع، احتمل أن لا يلزمه شيء؛ لأنه ليس من بدنه، واحتمل أن يلزمه حكومة؛ لأنه أزال جماله ومنفعته، فأشبه عضوه.
فصل
وفي اللحيين الدية، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى؛ لأن فيهما جمالًا كاملًا، ونفعًا كثيرًا، وفي أحدهما نصفها، وإن قلعهما مع الأسنان، وجبت ديتهما، ودية الأسنان؛ لأنهما جنسان مختلفان، يجب في كل واحد منهما دية مقدرة، فلم تدخل دية أحدهما في الآخر، كالشفتين مع الأسنان، بخلاف الكف مع الأصابع.
فصل
وفى اليدين الدية كاملة؛ لما روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في اليدين الدية، وفي إحداهما نصفها» ، لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «وفي اليد خمسون من الإبل» ولأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كثيرًا، أشبها العينين، وسواء قطعهما من الكوع، أو المرفق، أو المنكب، أو مما بين ذلك، نص عليه؛ لأن اليد اسم للجميع، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] .
ولما نزلت آية التيمم، مسح الصحابة إلى المناكب، وفي كل إصبع عشر الدية؛ لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفى لفظ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر» أخرجه البخاري، ولأنه جنس ذو عدد، تجب فيه الدية، فلم يختلف باختلاف منافعه كاليدين، وفي كل أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام، فإنها مفصلان، ففي كل أنملة منها خمس من الإبل؛ لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع، وجب أن تقسم دية الإصبع على عدد الأنامل، وإن جنى على اليد أو الإصبع فأشلها، فعليه ديتها؛ لأنه ذهب بنفعها، فلزمه ديتها، كما لو جنى على عين فأعماها، أو لسان فأخرسه.
فصل
وفي الرجلين الدية، وفي إحداهما نصفها، وفي كل إصبع عشر الدية، وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام، لما ذكرنا في اليدين.(4/33)
فصل
وفي قدم الأعرج، ويد الأعسم السالمتين الدية؛ لأن العيب في غيرهما؛ لأن العرج لقصور أحد الساقين، والعسم لاعوجاج الرسغ، أو قصر العضد أو الذراع، أو اعوجاج فيه، فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف، كأذن الأصم، وإن كسر ساعده، أو ساقه، أو خلع كفه، أو قدمه، فجبرت وعادت مستقيمة، لم يجب شيء، وإن حصل نقص، وجبت الحكومة لجبر النقص، وإن عادت معوجة، كانت الحكومة أكثر، فإن قال الجاني: أنا أعيد خلعها، وأجبرها مستقيمة، منع منه؛ لأنه استئناف جناية، فإن كابره وخلعها فعادت مستقيمة، لم تسقط الحكومة؛ لأنها استقرت باندمالها، وما حصل من الاستقامة، حصل بجناية أخرى، وتجب حكومة أخرى للخلع الثاني؛ لأنه جناية ثانية.
فصل
فإن كان لرجل كفان في ذراع لا يبطش بها، فهي كاليد الشلاء؛ لأن نفعها غير موجود، فإن كان يبطش بأحدهما دون الآخر، فالباطش هو الأصلي، فيه القود، أو الدية، والآخر خلقة زائدة، وإن كان يبطش بهما إلا أن أحدهما أكثر بطشًا، فهو الأصلي والآخر زائد؛ لأن اليد خلقت للبطش، فاستدل به على الأصلي منهما، كما يرجح في الخنثى إلى بوله، وإن استويا في البطش، وأحدهما مستو على الذراع، والآخر منحرف، فالمستوي هو الأصلي، وإن استويا في ذلك، وأحدهما ناقص، والآخر تام، فالتام هو الأصلي فيه القصاص أو الدية، ولا يرجح بالإصبع الزائدة؛ لأن الزيادة نقص في المعنى، وإن استويا في جميع الدلائل، فهما يد واحدة، فيهما الدية، وفي إحداهما نصفها. وفي إصبع إحداهما نصف دية إصبع، ولا قصاص في أحدهما، لعدم المماثلة، وإن قطعهما قاطع، وجب القود أو الدية؛ لأننا علمنا أنه قد قطع يدًا أصلية، وحكومة للزيادة، ويحتمل أن لا يجب حكومة؛ لأن هذه الزيادة نقص في المعنى، فأشبه السلعة والحكم في القدمين على ساق، كالحكم في الكفين على ذراع واحد، وإن كانت إحداهما أطول من الأخرى، فقطع الطولى، وأمكنه المشي على القصيرة، فهي الأصلية، وإلا فهي الزائدة.
فصل
وإن قطع يد أقطع أو رجله، ففيها نصف الدية، لما ذكرنا، وعنه: إن كانت الأولى ذهبت في سبيل الله، ففي الثانية ديتهما؛ لأنه عطل منافعه من العضوين، ولم يأخذ عوضًا عن الأولى، فأشبه ما لو قلع عين أعور، والأول أصح؛ لأن إحداهما لا يحصل بها من النفع والجمال ما يحصل بالعضوين، فلم تجب فيه ديتهما، كأحد الأذنين والمنخرين، وكما لو ذهبت في غير سبيل الله، وفارق عين الأعور؛ لأنه(4/34)
يحصل بها من النفع، والنظر وتكميل الأحكام ما يحصل بالعينين.
فصل
وفي الثديين الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كثيرًا، وإن أشلهما، ففيهما الدية؛ لأنه أذهب نفعهما، فأشبه ما لو أشل اليدين، وإن جنى عليهما، فأذهب لبنهما، فقال أصحابنا: تجب حكومة لنقصهما، ويحتمل أن تجب ديتهما؛ لأن ذلك معظم نفعهما، فأشبه البطش، وإن جنى على ثدي صغيرة، ثم ولدت فلم ينزل لها لبن، وقال أهل الخبرة: إن الجناية قطعت اللبن، فعليه ضمانه، وإن قالوا: قد ينقطع من غير الجناية لم يضمن؛ لأنه يحتمل أن يكون انقطاعه لغير الجناية، فلا يجب الضمان بالشك، وفي حلمتي الثديين الدية؛ لأن نفعهما بالحلمتين؛ لأن بهما يمتص الصبي، فيبطل نفعهما بذهابهما، فأشبه أصابع اليدين، وفي الثندوتين الدية، وهما ثديا الرجل؛ لأن ما وجبت الدية فيه من المرأة، وجبت فيه من الرجل إذا اشتركا فيه كاليدين.
فصل
وفي الأليتين الدية؛ لأن فيهما جمالًا ظاهرًا، ونفعًا كبيرًا، فأشبها اليدين، وفي إحداهما نصفها، وفي قطع بعضها بقدره من الدية، فإن جهل قدره، وجبت الحكومة، كنقص ضوء العين.
فصل
وفي الذكر الدية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الذكر الدية» وفي حشفته الدية؛ لأن نفعه يكمل بها، كما يكمل نفع اليد بأصابعها، والثدي بحلمته، وسواء في هذا ذكر الشيخ والطفل، والخصي والعنين؛ لأنه سليم في نفسه وعنه: في ذكر العنين والخصي حكومة؛ لأن معظم نفع الذكر بالإنزال، والإحبال، وهو معدوم فيهما، فأشبها الأشل. وإن جنى على الذكر فأشله، لزمته ديته؛ لأنه أذهب نفعه، فأشبه ما لو أشل يده. وإن قطع بعض حشفته، وجب من الدية بقدر ما قطع منها، يقسط عليها وحدها، كما تقسط دية اليد على الأصابع.
فصل
وفي الأنثيين الدية؛ لأن في كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «في الأنثيين الدية» وفي إحداهما نصفها؛ لأن ما وجبت الدية فيهما، وجبت في أحدهما نصفها، كاليدين، فإن قطع الذكر والأنثيين معًا، أو قطع الذكر، ثم قطع الأنثيين، فعليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه، وإن قطع الأنثيين، ثم قطع الذكر، فعليه دية الأنثيين، وحكومة لقطع(4/35)
الذكر، نص عليه؛ لأنه ذكر خصي، وعنه فيه دية، على ما ذكرنا في ذكر الخصي.
فصل
وفي أسكتي المرأة الدية، وهما اللحم المحيط بالفرج، كإحاطة الشفتين بالفم؛ لأن فيهما جمالًا ونفعًا في المباشرة، فأشبها الأنثيين، وفي إحداهما نصفها لما ذكرناه، وفي قطع بعض إحداهما بقدره من ديته، إن أمكن تقديره، وإلا فحكومة.
فصل
وإن جنى على مثانته، فلم يستمسك بوله، وجبت الدية؛ لأنها منفعة مقصودة، ليس في البدن من جنسها، فوجبت الدية بتفويتها كسائر المنافع، وإن جنى عليه، فلم يستمسك غائطه، فعليه الدية كذلك، وإن أذهب المنفعتين، لزمته ديتان، كما لو أذهب سمعه وبصره، وإن جنى على صلبه أو غيره، فعجز عن المشي، فعليه الدية كذلك، وإن عجز عن الوطء لزمته كذلك دية، وإن جنى على صلبه، فبطل مشيه ونكاحه، لزمته ديتان؛ لأن في كل واحد منهما دية منفردًا، فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع، كسمعه وبصره، وعنه: عليه دية واحدة؛ لأنهما منفعة عضو واحد، فأشبه ما لو قطع أنثييه، فذهب جماعه ونسله، وإن ضعف المشي أو الجماع أو نقص، فعليه حكومة. وإن كسر صلبه فانجبر وعاد إلى حاله، ففيه الحكومة للكسر، وإن احدودب فعليه حكومة للشين، وعنه: في الحدب الدية؛ لما روى الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه قال: «مضت السنة أن في الصلب الدية» ، ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة، فأشبه ما ذكرناه.
فصل
وفي الصلع بعير، وفي الترقوة بعير، وفي الترقوتين بعيران؛ لما روى أسلم مولى عمر، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قضى في الترقوتين بجمل، وفي الضلع بجمل، ويجب في كل زند بعيران؛ لما روى عمرو بن شعيب: أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين، ولأن في الزند عظمين، ففي كل عظم بعير، وإن كسر الزندين، ففيهما أربعة أبعرة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا توقيف في سائر العظام؛ لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف، ولا توقيف فيها. وقال القاضي في عظم الساق: بعيران، وفي عظم الفخذ مثله، قياسًا على الزند.
فصل
وفي اليد الشلاء، والسن السوداء، والعين القائمة ثلث ديتها؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها»(4/36)
رواه النسائي. وقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمثل ذلك، وعنه رواية أخرى في ذلك كله حكومة؛ لأنه تعذر إيجاب دية كاملة بعد ذهاب نفعه، فوجبت الحكومة فيه، كاليد الزائدة، وهكذا الروايتان في كل عضو ذهب نفعه، وبقيت صورته، كالرجل الشلاء، والإصبع الشلاء، والشفة الشلاء، والذكر الأشل، وذكر الخصي، ولسان الأخرس، قياسًا على ما تقدم، وفي الكف الذي لا أصابع عليه روايتان، مثل ما ذكرنا؛ لأنه قد ذهب نفعه وبقي جماله، وعلى قياسه ساق لا قدم له، وذراع لا كف له، وذكر لا حشفة له. فأما اليد الزائدة والإصبع الزائدة، ففيها حكومة؛ لأنه لا مقدر فيها، ولا يمكن قياسها على ما ذكرنا؛ لأن هذه الأعضاء يبقى جمالها لبقاء صورتها، والزائد يشين ولا يزين، وذكر القاضي أنه في معنى الأشل، فيقاس عليه، فيكون فيه وجهان.
فصل
وفي الأذن الشلاء والأنف الأشل دية كاملة، كدية الصحيح؛ لأن نفعهما وجمالهما باق بعد شللها، فإن نفع الأذن جمع الصوت، ومنع دخول الماء والهوام في صماخه، ونفع الأنف جمع الرائحة، ومنع وصول شيء إلى دماغه، وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء.
فصل
ويجب في الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي أحدهما نصفها؛ لأن فيهما جمالًا ونفعًا؛ لأنهما يردان العرق والماء عن العين ويفرقانه، فوجبت الدية فيهما كالجفون. وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم تنبت الدية؛ لأن فيها جمالًا كاملًا، فوجبت الدية فيها، كأنف الأخشم، وأذن الأصم، وفي ذهاب نقص ذلك بقسطه من ديته يقدر بالمساحة، فإن بقي منها ما لا جمال فيه، كاليسير من لحيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ بالقسط كما لو بقي من أذنه يسيرًا.
والثاني: تجب الدية بكمالها؛ لأنه أذهب المقصود منها، فأشبه ما لو أذهب وضوء العين، ومتى عاد شيء من هذه الشعور، سقطت الدية، كما ذكرنا في عود السن.
فصل
وذكر أبو الخطاب: أن في الظفر خمس دية الإصبع إذا قلعه، أو سوده، فإن عاد(4/37)
فنبت على صفته، رد أرشه. وعنه: أن له خمسة دنانير، وإن نبت أسود فله عشرة، نص عليه. وهذا إنما يصار إليه بالتوقيف، وما لا توقيف فيه من سائر الجروح، تجب فيه الحكومة؛ لأن القياس يقتضيها في جميع الجروح، وخولف ذلك فيما ورد الشرع بتقديره، ففي ما عداه يجب البقاء على مقتضى القياس، والله أعلم.
[باب ما تحمله العاقلة وما لا تحمله]
إذا قتل الحر حرًا خطأ، أو شبه عمد، وجبت ديته على عاقلته؛ لما روى أبو هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدية المرأة على عاقلتها» متفق عليه. ولأن القتل بذلك يكثر، فإيجاب ديته على القاتل يجحف به، وقال أبو بكر: لا تحمل العاقلة عقل شبه العمد؛ لأنه موجب مثل قصده، فأشبه العمد المحض، فأما الجناية على ما دون النفس، فإن العاقلة تحمل منه ما بلغ الثلث فصاعدًا، ولا تحمل ما دونه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية: أن لا تحمل منها العاقلة شيئًا حتى تبلغ الدية عقل المأمومة، ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني، وخولف الأصل في الثلث لإجحافه بالجاني لكثرته، فما عداه يبقى في الأصل، وتحمل العاقلة دية المرأة والذمي، وما بلغ من جراحهما ثلث دية الحر المسلم، ولا تحمل ما دونه لما ذكرنا، وتحمل دية الجنين إن مات مع أمه؛ لأن ديتهما وجبت بجناية واحدة، وهي زائدة على الثلث، ولا تحمله إذا مات منفردًا؛ لأن ديته دون الثلث.
فصل
ولا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا؛ لما روي عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» وروي ذلك موقوفًا على ابن عباس، ولأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل، للتخفيف عن الجاني المعذور، والعامد غير معذور، ولا يليق به التخفيف، وضمان العبد مال، فلم تحمله العاقلة، كقيمة البهيمة، وما صالح عليه، أو اعترف به، ثبت بقوله فلا يلزم غيره، ولأنه يتهم في أن يواطئ غيره بصلح أو اعتراف ليوجب العقل على عاقلته، ثم يقاسمه.
فصل
وجناية الصبي والمجنون حكمهما حكم الخطأ، وتحملهما العاقلة، وإن عمدًا؛ لأنه(4/38)
لم يتحقق منهما كمال المقصود، ولا توجب جنايتهما قصاصًا، فصارت كشبه العمد، ومن اقتص بحديدة مسمومة من الطرف، ففيه وجهان:
أحدهما: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد القطع بما يقتل غالبًا، فأشبه العمد المحض.
والثاني: تحمله؛ لأنه ليس بعمد محض، ولا يوجب قصاصًا، فأشبه شبه العمد، ولو وكل وكيلًا يستوفي له القصاص، ثم عفا عن الجاني، فلم يعلم الوكيل حتى اقتص، فقال القاضي: لا تحمله العاقلة؛ لأنه عمد محض، وقال أبو الخطاب: تحمله العاقلة؛ لأنه لم يقصد الجناية.
فصل
ومن جنى على نفسه، أو طرفه خطأ، ففيه روايتان:
إحداهما: هي هدر؛ لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبًا يوم خيبر، فرجع سيفه على نفسه فقتلها، فلم يقض فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء، ولأنه جنى على نفسه فلم يضمن كالعمد؛ لأن حمل العاقلة إنما كان معونة له على الضمان للغير، ولا يتحقق هاهنا.
والثانية: ديته على عاقلته لورثته، ودية طرفه على عاقلته لنفسه؛ لما روي: أن رجلًا ساق حمارًا بعصا كانت معه، فطارت منها شظية، فأصابت عينه، ففقأتها فجعل عمر ديته على عاقلته، وقال: هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء، ولأنها جناية خطأ، فأشبه جنايته على غيره، فإن كانت العاقلة هي الوارثة، لم يجب شيء؛ لأنه لا يجب شيء للإنسان على نفسه، وإن كان بعضهم وارثًا، سقط ما عليه وحده.
فصل
وما يجب بخطأ الإمام والحاكم في اجتهاده من الديات، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب على عاقلته؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعلي كرم الله وجهه في جنين المرأة التي أجهضت لما بعث إليها: عزمت عليك، لا تبرح حتى تقسمها على قومك.
والثانية: في بيت المال؛ لأن خطأه يكثر في أحكامه واجتهاده، فإيجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم، فأما الكفارة ففي ماله على كل حال؛ لأنها لا تتحمل في موضع، ويحتمل أن تجب في بيت المال؛ لأنها تكثر فأشبهت الدية.
فصل
وكل ما لا تحمله العاقلة من دية العمد، وما دون الثلث وغيره، يجب حالًا؛ لأنه(4/39)
بدل متلف لا تحمله العاقلة، فوجب حالًا كغرامة المتلفات. وما يجب بجناية الخطأ، وعمد الخطأ مما تحمله العاقلة، يجب مؤجلًا؛ لأنه يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قضيا بالدية في ثلاث سنين، ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما، فإن كان الواجب دية كاملة، كدية الحر المسلم، أو دية سمعه، أو بصره، أو يديه، أو رجليه، قسمت في ثلاث سنين، لما ذكرنا، ووجب في آخر كل حول ثلثها.
وإن كان الواجب ثلث دية، كدية المأمومة، والجائفة، وجب ذلك عند آخر الحول الأول، وإن كانت نصف الدية، كدية اليد، أو العين أو ثلثي الدية، كدية مأمومتين، أو جائفتين، وجب في رأس الحول الأول الثلث، والباقي في الحول الثاني، وإن زاد على الثلثين، وجب الزائد في الحول الثالث، وإن وجب بجنايته ديتان، كدية سمعه، وبصره، وجب في ست سنين في كل سنة ثلثها؛ لأنها جناية على واحد، فلم يجب له في كل حول أكثر من ثلث دية، كما لو لم تزد على دية، وإن وجب بجنايته ديتان لاثنين بأن قتلهما، وجب لكل واحد منهما في كل حول ثلث؛ لأنهما يجبان لمستحقين، فلم ينقص واحد منهما من الثلث، كما لو انفرد، وإن كان الواجب دية نفس ناقصة، كدية المرأة والذمي، ففيه وجهان:
أحدهما: تقسم في ثلاث سنين؛ لأنه بدل نفس، أشبه الدية الكاملة.
والثاني: يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية، وباقيها في العام الثاني؛ لأنها تنقص عن الدية، أشبه دية اليد، ويعتبر ابتداء الحول في دية النفس من وقت الموت؛ لأنه حق مؤجل، فاعتبرت المدة من حين وجود سببه كالدين، وإن كان دية طرف اعتبرت المدة من حين الجناية؛ لأنه وقت الوجوب، فأشبه أرش المأمومة، وإن تلف شيء بالسراية، فابتداء مدته حين الاندمال؛ لأن ما تلف بالسراية، اعتبر بحالة الاستقرار كالنفس.
فصل
والعاقلة: العصبة من كانوا من النسب والولاء؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها» رواه ابن ماجه. وهذا اختيار أبي بكر، وعن أحمد رواية أخرى: أن الآباء والأبناء لا يعقلون مع العاقلة؛ لما روى جابربن عبد الله قال: «فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، فقال عاقلة(4/40)
المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ميراثها لزوجها وولدها» رواه أبو داود.
فثبت هذا في الابن؛ لأنه ولد، وقسنا عليه الأب لتساويهما في العصبية، ولأن الدية جعلت على العاقلة، كيلا يكثر على القاتل فيجحف به، ومال والده وولده كماله، وجعل الخرقي الإخوة في هذا كالأبناء وغيره من أصحابنا يخص الروايتين بالأب والأبناء؛ لأنهم الذين لا تقبل شهادتهم له، وشهادته لهم، وبينهم قرابة جزئية، وبعضية، فإن كان الابن من بني العم، حمل من العقل؛ لأنه من بني عمه فيعقل، كما لو لم يكن ابنًا.
فصل
ولا عقل على من ليس بعصبة، كالإخوة من الأم، والمولى من أسفل؛ لأنهم من غير العصبات، فلا يعقلون كالنساء، ومن لم يكن له عاقلة، ففيه روايتان إن كان مسلمًا:
إحداهما: عقله في بيت المال؛ لأن ماله يصرف إليه فيعقله، كعصبته.
والثاني: لا يعقله؛ لأن فيه حقًا للنساء والصبيان والفقراء، ولا عقل عليهم فأما الذمي، فلا يعقل من بيت المال؛ لأنه للمسلمين، والذمي ليس منهم، فإن لم يكن له عاقلة، فقال القاضي: يؤخذ من ماله، فأما المسلم فإن تعذر إيجاب ديته على العاقل أو بعضها، ولم يؤخذ من بيت المال شيء، فقال أصحابنا: لا يلزم القاتل شيء؛ لأنه حق يجب على العاقلة ابتداء، فلم يجب على غيرهم كالدين، ويحتمل أن يجب عليه؛ لأنه هو الجاني، فإذا تعذر أداء موجب جنايته من غيره لزمه كالذمي، والمضمون عنه إذا تعذر الاستيفاء من الضامن، وكالمسائل التي تلي هذا.
فصل
ويتعاقل أهل الذمة، وعنه: لا يتعاقلون. وهل يتعاقلون مع اختلافهم دينهم؟ على وجهين بناء على الروايتين في توريثهم، ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ولا حربي عن ذمي، ولا ذمي عن حربي؛ لأنه لا يرث بعضهم بعضًا، فلا يعقل بعضهم بعضًا كغير العصبات. فإن رمى نصراني صيدًا، ثم أسلم، ثم أصاب السهم إنسانًا فقتله، وجبت الدية عليه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى؛ لأنه قتل وهو مسلم، ولا على عاقلته من المسلمين؛ لأنه رمى وهو نصراني، وإن قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم فمات المقطوع، فديته على عاقلته النصارى؛ لأن الجناية وجدت(4/41)
وهو نصراني، ولهذا يجب القصاص، ولا يسقط بالإسلام، وإن رمى مسلم سهمًا، ثم ارتد، فقتل إنسانًا، وجبت الدية في ذمته لما تقدم، وإن قطع يدًا، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فعقله على عاقلته المسلمين لما ذكرنا.
ويحتمل أن لا تحمل العاقلة أكثر من أرش الجراح في هذه المسألة، وفيما إذا قطع نصراني يد رجل، ثم أسلم، فما زاد على أرش الجراح في مال الجاني؛ لأنه حصل بعد مخالفته لدين عاقلته، فأشبه ما ذكرنا من المسائل، ولو جنى حر أمه مولاة، وأبوه عبد، عقله موالي أمه؛ لأن ولاءه لهم، فإن حصل سراية الجناية بعد عتق أبيه، فالدية في مال الجاني؛ لأنه تعذر إيجابه على مولى أمه؛ لأن السراية حصلت بعد زوال تعصيبهم، ولا يجب على موالي الأب؛ لأن الجناية صدرت وهو مولى غيرهم، ولو حفر العبد بئرًا، ثم أعتقه سيده، ثم وقع فيها إنسان، فضمانه على الحافر، لما ذكرناه.
فصل
وليس على فقير من العاقلة، لا امرأة، ولا صبي، ولا زائل العقل حمل شيء من الدية؛ لأن وجوبها للنصرة والمواساة، وليس هؤلاء من أهل النصرة، والفقير ليس من أهل المواساة، وحكى أبو الخطاب في الفقير المعتمل رواية أخرى أنه يعقل، والمذهب الأول، لما ذكرناه، ولذلك لا تجب عليه الزكاة، ويعقل الشيخ ما لم يهرم، والمريض الذي لم يزمن، وأما الشيخ الهرم والزمن، ففيهما وجهان:
أحدهما: يعقلان؛ لأنهما من أهل المواساة، وتجب عليهما الزكاة، أشبها ما قبل ذلك.
والثاني: لا يعقلان؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة، أشبها المجنون، وتعتبر صفاتهم عند الحول، فمن مات، أو افتقر، أو جن قبل الحول، سقط ما عليه، فإن بلغ، أو عقل، أو استغنى عند الحول لزمه؛ لأنه معنى يعتبر له الحول، فاعتبر في آخره كالزكاة، ومن مات أو تغير حاله بعد الحول، لم يسقط ما عليه كالزكاة.
فصل
والحاضر والغائب سواء في العقل؛ لأنهم تساووا في إرثه، فيتساوون في عقله، ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأنه حكم يتعلق بالعصبات، فقدم فيه الأقرب فالأقرب، كالولاية والتوريث، فيبدأ بإخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وبنيهم، وأعمام أبيه وبنيهم كذلك، حتى ينقرض المناسبون، فيجب على مولاه، ثم عصباته، ثم مولى مولاه، ثم عصباته، كالميراث بالولاء سواء، فإذا كان القاتل هاشميًا، عقله بنو هاشم، فإن فضل شيء، دخل معهم بنو عبد مناف، فإن فضل شيء، دخل بنو قصي، وهل(4/42)
يقدم ولد الأبوين على ولد الأب؟ على وجهين بناء التقديم في الولاية، ومتى اتسع الأقربون لحمل العقل، لم يدخل معهم من بعدهم، وإن كثرت العاقلة في درجة، قسم الواجب بينهم بالسوية؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فيستوون فيه، كالميراث.
فصل
ولا يجب على واحد من العاقلة ما يجحف به ويشق عليه، ولأنه حق لزمهم من غير جنايتهم على سبيل المواساة، فلا يجب ما يضر بهم كالزكاة؛ لأنه وجب للتخفيف عن الجاني، ولا يزال الضرر بالضرر، ويرجع إلى اجتهاد الحاكم في قدر الواجب، فيفرض على كل واحد منهم قدرًا يسهل ولا يؤذي؛ لأن التقدير لا يصار إليه إلا بتوقيف، ولا توقيف هاهنا، فوجب المصير إلى الاجتهاد، وعنه: أنه يفرض على الموسر نصف مثقال، وعلى المتوسط ربع مثقال، وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن أقل مال وجب على الموسر على سبيل المواساة نصف مثقال في الزكاة، وأول مقدار يخرج به المال عن حد التافه ربع مثقال، فوجب على المتوسط، ولهذا قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهل يتكرر هذا الواجب في الأحوال الثلاثة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتكرر لأنه قد يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فيتكرر بالحول كالزكاة.
والثاني: لا يتكرر؛ لأنه يفضي إلى إيجاب أكثر من أقل الزكاة، فيكون مضرًا، ويعتبر الغنى والتوسط عند حلول الحول كالزكاة.
فصل
وإذا جنى العبد جناية توجب المال، تعلق أرشها برقبته؛ لأنه لا يجوز إيجابها على المولى؛ لعدم الجناية منه، وإلا إهدارها؛ لأنها جناية من آدمي، ولا تأخيرها إلى العتق؛ لإفضائه إلى إهدارها، فتعلقت برقبته، والمولى مخير بين فدائه وتسليمه على ما ذكرناه فيما تقدم، وإن قتل عبدان رجلًا عمدًا، فقتل الولي أحدهما، وعفا عن الآخر، تعلق برقبته نصف ديته؛ لأنه قتل واحدًا بنصف، وبقي له النصف.
[باب القسامة]
إذا وجد قتيل، فادعى وليه على إنسان قتله، لم تسمع الدعوى إلا محررة على معين؛ لأنها دعوى في حق، فاشترط لها تعيين المدعى عليه، كسائر الدعاوى، فإذا حرر الدعوى، ولم يكن بينهم لوث، فالقول قول المدعى عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو(4/43)
يعطى الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم. ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله، كدعوى المال، وهل يستحلف؟ فيه روايتان:
إحداهما: يستحلف للخبر، ولأنه دعوى في حق آدمي، أشبهت دعوى المال.
والأخرى: لا يستحلف، ويخلى سبيله؛ لأنها دعوى فيما لا يجوز بدله، فلم يستحلف فيها، كالحدود، وإذا قلنا: يستحلف، حلف يمينًا واحدة؛ لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل، فلم تغلظ بالعدد، كاليمن في المال.
وإن كان بينهما لوث، فادعى أنه قتله عمدًا، حلف المدعي خمسين يمينًا، واستحق القصاص؛ لما روى سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج: «أن محيصة بن مسعود، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر، فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء عبد الرحمن، وابنا عمه حويصة ومحيصة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كبر الكبر فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم فقالوا: يا رسول الله، قوم كفار ضلال. قال: فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قبله» متفق عليه.
ولأن اللوث يقوي جنبة المدعي، ويغلب على الظن صدقه، فسمعت يمينه أولًا، كالزوج في اللعان، وإذا حلف استحق القصاص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيدفع إليكم برمته» وفي لفظ: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ولأنها حجة يثبت بها القتل العمد، فيجب بها القود كالبينة، وليس له القسامة على أكثر من واحد؛ لقوله: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته» ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه.
فصل
ويقسم الورثة دون غيرهم في إحدى الروايتين؛ لأنها يمين في دعوى، فلم تشرع في حق غير المتداعيين، كسائر الأيمان.
والثانية: يقسم من العصبة الوارث وغيرهم خمسون رجلًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» فعلى هذا يحلف أولياؤه - الأقرب منهم فالأقرب، كقولنا في تحمل العقل - كل واحد يمينًا واحدة، وعلى الرواية الأولى يفرض على ورثة المقتول على قد ميراثهم، فإن كان له ابنان، حلف كل واحد منهما خمسة وعشرين يمينًا، وإن كان فيها كسر جبر وكملت يمينًا في حق كل واحد، فإذا كانوا(4/44)
ثلاثة بنين، حلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وإن كان له أب وابن، حلف الأب تسعة أيمان، وحلف الابن اثنين وأربعين يمينًا؛ لأن اليمين لا تتبعض، فوجب أن تكمل.
فصل
وإن نكل المدعون، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا وبرئ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» ، وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهم يحلفون ويغرمون الدية؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأول المذهب للخبر. وفي لفظ منه قال: «فيحلفون خمسين يمينًا، ويبرءون من دمه» ، ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى الأنصاري بمائة من الإبل، إذ لم يحلفوا ولم يرضوا بيمين اليهود، فإن تعذرت ديته، لم يكن لهم إلا يمين المدعى عليهم، كسائر الدعاوى، وإن نكل المدعى عليهم، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يخلى سبيلهم؛ لأنها يمين في حق المدعى عليه، فلم يحبس عليها كسائر الأيمان، قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال، كالتي قبلها.
والثانية: يحبسوا حتى يحلفوا أو يقروا؛ لأنها أيمان مكررة يبدأ فيها بيمين المدعي، فيحبس المدعى عليه في نكولها كاللعان.
والثالثة: تجب الدية على المدعى عليه؛ لأنه حكم يثبت بالنكول، فثبت بالنكول هاهنا، كما لو كانت الدعوى قتل خطأ.
فصل
ومن مات ممن عليه الأيمان، قام ورثته مقامه، ويقسم حصته من الأيمان بينهم، ويجبر كسرها عليهم، كورثة القتيل، فإن مات بعد حلفه البعض، بطل ما حلفه، وابتدءوا الأيمان؛ لأن الخمسين جرت مجرى يمين واحدة، ولا يجوز أن يبني الوارث على بعض يمين الموروث، وإن جن ثم أفاق، بنى على ما حلفه؛ لأن الموالاة غير مشترطة في الأيمان.
فصل
وتشرع القسامة في كل قتل موجب القصاص، سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا، أو حرًا أو عبدًا؛ لأنه قتل موجب للقصاص، أشبه قتل المسلم الحر، وظاهر كلام الخرقي: أنها لا تشرع في قتل غير موجب للقود كالخطأ، وشبه العمد، وقتل المسلم الكافر، والحر العبد، والوالد الولد؛ لأن الخبر يدل على وجوب القود بها، فلا(4/45)
تشرع في غيره، ولأنها مشروطة باللوث، ولا تأثير له في الخطأ، فعلى هذا يكون حكمه حكم الدعوى مع عدم اللوث سواء. وقال غيره: تجري القسامة في كل قتل؛ لأنها حجة تثبت العمد الموجب للقصاص، فيثبت بها غيرها كالبينة، فعلى قولهم تسمع الدعوى على جماعة إذا كان القتل غير موجب للقصاص، وإذا ردت الأيمان عليهم، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، وقال بعض أصحابنا: تقسم الأيمان عليهم بالحصص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا» لم يزد عليها. والأول: أقيس؛ لأنه لا يبرئ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد كسائر الدعاوى، وإن كانت الدعوى على جماعة في حق بعضهم لوث، حلف المدعون على صاحب اللوث، وأخذوا حصته من الدية، وحلف المدعى عليه يمينًا واحدة وبرئ. ولا تشرع القسامة فيما دون النفس من الجروح والأطراف؛ لأنها تثبت في النفس لحرمتها، فاختصت بها كالكفارة.
فصل
ويشترط للقسامة اتفاق المستحقين على الدعوى، فإن ادعى بعضهم القتل، فكذبه البعض، لم يجب قسامة؛ لأن المكذب منكر لحق نفسه، فقبل كالإقرار. وإن قال بعضهم: قتله هذا، وقال بعضهم: قتله هو وآخر، فعلى قول الخرقي: لا قسامة، وعلى قول غيره: يقسمان على المتفق عليه، ويأخذان نصف الدية، ويحلف الآخر ويبرأ، وإن قال أحدهما: قتله زيد، وآخر لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو، وآخر لا أعرفه، فقال أبو بكر: ليس هاهنا تكذيب؛ لأنه يمكن أن يكون المجهول في حق أحدهما هو الذي عرفه أخوه، ويحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينًا، وله ربع الدية، فإن عاد كل واحد منهما، فقال: الذي جهلته، هو الذي عينه أخي، حلف خمسًا وعشرين يمينًا، واستحق عليه ربع الدية، وإن قال: الذي جهلته قد عرفته هو غير الذي عينه أخي، بطلت القسامة وعليه رد ما أخذ؛ لأن التكذيب يقدح في اللوث، وإن رجع الولي عن الدعوى بعد القسامة بطلت، ولزمه رد ما أخذ؛ لأنه يقر على نفسه، فقبل إقراره، وعليه رد ما أخذه.
فصل
وإن كان في ورثة القتيل صبي، أو غائب، وكانت الدعوى عمدًا لم تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي، ويقدم الغائب؛ لأن حلف أحدهما غير مفيد، وإن كانت موجبة للمال كالخطأ ونحوه، فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق حصته من الدية، وفي قدر أيمانه وجهان:
أحدهما: يحلف خمسين يمينًا، هذا قول أبي بكر: لأننا لا نحكم بوجوب الدية(4/46)
إلا بالأيمان الكاملة، ولأن الخمسين في القسامة، كاليمين الواحدة في غيرها.
والآخر: يحلف خمسًا وعشرين يمينًا، هذا قول ابن حامد؛ لأنه لو كان أخوه كبيرًا حاضرًا، لم يحلف إلا خمسًا وعشرين، فكذلك إذا كان صغيرًا أو غائبًا، ولأنه لا يستحق أكثر من نصف الدية، فلا يلزمه أكثر من نصف الأيمان، فإذا قدم الغائب، وبلغ الصغير، حلف نصف الأيمان وجهًا واحدًا؛ لأنه يبني على يمين غيره، ويستحق قسطه من الدية، فإن كانوا ثلاثة، فعلى قول ابن حامد: يحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا، وعلى قول أبي بكر: يحلف الأول خمسين. وإذا قدم الثاني حلف خمسًا وعشرين، فإذا قدم الثالث حلف سبعة عشر يمينًا.
فصل
قال أصحابنا: ولا مدخل للنساء في القسامة؛ لأنه لا مدخل لهن في العقل، فإذا كان في الورثة رجال ونساء، أقسم الرجال دون النساء، فإن كانت المرأة مدعى عليها، فينبغي أن تقسم؛ لأن اليمين لا تشرع في حق غير المدعى عليه، ولو كان جميع ورثة القتيل نساء، احتمل أن يقسم المدعى عليهم؛ لتعذر الأيمان من المدعين، واحتمل أن يقسم من عصبات القتيل خمسون رجلًا، ويثبت الحق للنساء إذا قلنا: إن القسامة تشرع في حق غير الوارث، فإن لم يوجد من عصبته خمسون، قسمت على من وجد منهم.
فصل
واللوث المشترط في القسامة: هو العداوة الظاهرة بين القتيل والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل المتحاربين، وما بين أهل البغي والعدل، وما بين الشرطة واللصوص؛ لأن اللوث إنما ثبت بحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأنصاري المقتول بخيبر عقيب قول الأنصار: عدي على صاحبنا فقتل، وليس لنا بخيبر عدو إلا يهود، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم باليمين، فوجب أن يعلل بذلك، ويعدى إلى مثله، ولا يلحق به ما يخالفه. وعنه: أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي في أن المدعى عليه قتله؛ إما العداوة المذكورة، أو تفرق جماعة عن قتيل، أو وجود قتيل عقيب ازدحامهم، أو في مكان عنده في رجل معه سيف أو حديدة ملطخة بدم، أو يقتتل طائفتان، فيوجد في إحداهما قتيل، أو يشهد بالقتل من لا تقبل شهادته من: النساء، والصبيان، والعبيد، والفساق، أو عدل واحد؛ لأن العداوة إنما كانت لوثًا، لتأثيرها في غلبة الظن بصدق المدعي، فنقيس عليها ما شاركها في ذلك، فأما قول القتيل: دمي عند فلان، فليس بلوث؛ لأن قوله غير مقبول على خصمه، ولو شهد عدلان أن أحد هذين هو القاتل، لم يكن لوثًا؛ لأنهم لم يعينوا واحدًا، ومن شرط القسامة التعيين.(4/47)
فصل
ولا يشترط في اللوث أن يكون بالقتيل أثر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل الأنصار عن هذا، ولو اشترط، لاستفصل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وسأل عنه، ولأنه قد يقتل بما لا يظهر أثره، كغم الوجه، وعصر الخصيتين. وقال أبو بكر: يشترط ذلك، وقد أومأ إليه أحمد؛ لأن الغالب أن القتل لا يحصل إلا بما يؤثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر أنه مات بغير قتل.
فصل
وإذا ادعى رجل على رجل قتل وليه وبينهما لوث، فجاء آخر فقال: أنا قتلته، ولم يقتله هذا، لم تسقط القسامة بإقراره؛ لأنه قول أجنبي، ولا يثبت القتل على المقر؛ لأن الولي لم يدعه، وعن أحمد: أن الدعوى تبطل على الأول؛ لأنها عن ظن، وقد بان خلافه. وله الدية على الثاني؛ لأنه مقر على نفسه بها ولا قصاص عليه، ولأن دعوى الولي على الأول شبهة في تبرئة الثاني، فيمتنع القصاص، ويحتمل أن لا يملك مطالبته بالدية كذلك، وإن كان قد أخذ الدية من الأول، ردها عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب اختلاف الجاني والمجني عليه]
إذا قتل رجلًا، وادعى أنه قتله وهو عبد، فأنكر وليه، فالقول قول الولي مع يمنيه؛ لأن الأصل الحرية، والظاهر في الدار الحرية، ولهذا يحكم بإسلام لقيطها وحريته، وإن ادعى أنه كان قد ارتد، فأنكر الولي؛ فالقول قوله كذلك. وإن قد ملفوفًا في كساء، وادعى أنه كان ميتًا، فالقول قول الولي؛ لأن الأصل حياته، وكونه مضمونًا، فأشبه ما ذكرنا، وإن جنى على عضو، وادعى أنه كان أشل بعد اتفاقهما على أنه كان سليمًا، فالقول قول المجني عليه، وإن لم يتفقا على ذلك. فإن كان من الأعضاء الباطنة، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل السلامة، وإن كان من الأعضاء الظاهرة، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الولي؛ لأن الأصل السلامة.
والثاني: القول قول الجاني؛ لأن العضو يظهر ويعرف حاله، فلو كان سليمًا، لم تتعذر إقامة البينة عليه، وهذا اختيار القاضي.
فصل
وإذا زاد المقتص على حقه، وادعى أنه أخطأ، وقال الجاني: تعمد، فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بقصده، إلا أن يكون مما لا يجوز الخطأ في مثله، فلا يقبل قوله فيه لعدم الاحتمال، وإن قال: هذه الزيادة حصلت باضطرابه، فأنكر الجاني،(4/48)
فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الاضطراب، وفيه وجه آخر: أن القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته.
فصل
وإذا جرح ثلاثة رجلًا فمات، فادعى أحدهم أن جرحه برأ، وأنكره الآخران، فصدق الولي المدعي في موضع يريد القصاص، قبل تصديقه، وليس على المدعي إلا ضمان الجرح؛ لأنه لا ضرر على الآخرين في تصديقه؛ لأن القصاص يلزمهما في الحالين، وإن أراد أخذ الدية، لم يقبل تصديقه في حقهما؛ لأن عليهما ضررًا، فإنه إذا حصل القتل من ثلاثة، وجب على كل واحد ثلث الدية، وإذا برأ جرح أحدهم، كان القتل من اثنين، فلزم كل واحد نصفها، ويقبل تصديقه في حق نفسه، ويسقط عن المدعي ثلث الدية، ويلزمه أرش الجرح، ويجب على الآخرين ثلثا الدية.
فصل
وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز، فأزيل الحاجز، فقال الجاني: تأكل بالسراية، فلا يلزمني إلا دية موضحة، وقال المجني عليه: أنا أزلته، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأصل بقاء أرش موضحتين، وإن قال الجاني: ما أوضحتك إلا واحدة، وقال المجني عليه: بل أوضحتني اثنتين، فخرقت ما بينهما، فصارا واحدة، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته من أرش أخرى، وإن قطع أصابع امرأة، فقال: قطعت من أصابعك أربعًا، فقالت: إنما قطعت ثلاثًا، والرابعة قطعها غيرك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب دية ثلاث.
فصل
وإن قطع أنف رجل وأذنيه فمات، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا دية نفسه، وقال وليه: بل اندملت الجنايتان، فالقول قول وليه؛ لأن الأصل وجوب ديتين، فلا يسقط بالاحتمال، وإن قطع ذلك، ثم ضرب عنقه في مدة لا يحتمل البرء فيها، فليس عليه إلا دية واحدة، وإن كان بينهما مدة تحتمل البرء فادعاه الولي، فالقول قوله وعلى الجاني ثلاث ديات لما ذكرنا. وإن ضرب عنقه أجنبي آخر، فعلى الأول ديتان، وعلى الثاني: دية، وإن كان قبل الاندمال؛ لأن جناية الثاني قطعت سراية الأول، فإن قال القاطع: أنا قتلته، وقال الولي: بل قتله غيرك، فالقول قول الولي: لما ذكرنا.
فصل
وإن جنى على عين، فأذهب ضوءها، ثم مات المجني عليه، فقال الجاني: عاد بصره قبل موته، وأنكر الولي، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن قلع العين آخر،(4/49)
وادعى أنه قلعها قبل عود بصرها، فأنكر الولي والجاني الأول، فالقول قول الثاني؛ لأن الأصل معه، فإن صدق الولي والمجني عليه الأول، قبل قوله في إبرائه؛ لأنه يسقط حقه، ولم يقبل على الثاني؛ لأنه يوجب عليه حقًا الأصل عدمه.
فصل
وإذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه بالجناية، فأنكر الجاني، امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد أخرى، فإن ظهر منه انزعاج، أو إجابة، أو أمارة للسماع، فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر معه ويحلف؛ لئلا يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقًا، وإن لم يظهر منه أمارة السماع، فالقول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر معه ويحلف، لئلا يكون ذلك لجودة تحفظه، وإن ادعى ذهاب شمه، امتحن في أوقات غفلاته بالرائحة الطيبة والمنتنة، فإن ظهر منه تعبيس من المنتنة، وارتياح للطيبة، فالقول قول الجاني مع يمينه، وإلا فالقول قول المجني عليه مع يمينه. وإن ادعى ذهاب سمع إحدى أذنيه، أو الشم من أحد منخريه، سد الصحيح، وامتحن بما ذكرنا. وإن ادعى نقص سمعه، أو شمه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يدعي محتملًا لا يعرف إلا من جهته، ولا سبيل إلى إقامة البينة عليه، فيقبل قوله مع يمينه، كقول المرأة في حيضها، ومتى حكم له بالدية ثم انزعج عند صوت، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فطولب بالدية فادعى أنه فعل ذلك اتفاقًا، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، فلا ينقض الحكم بالاحتمال، وإن تكرر منه ذلك، بحيث تعلم صحة سمعه وشمه، رد ما أخذ؛ لأننا تبينا كذبه، ولو كسر صلبه، فادعى ذهاب جماعه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه محتمل لا يعرف إلا من جهته.
فصل
وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا، وقالت: هو من ضربك فأنكرها، وكان الإسقاط عقيب الضرب، أو بقيت متألمة إلى أن أسقطت، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها، وإن بقيت مدة غير متألمة، فالقول قوله؛ لأنه يحتمل ما قاله، احتمالًا ظاهرًا، والأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في التألم، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل عدم التألم، وهو مما يظهر، ويمكن إقامة البينة عليه، وإن أسقطت الجنين حيًا ثم مات، فقالت المرأة: مات من ضربك فأنكرها، وكان موته عقب الإسقاط، أو بقي متألمًا إلى أن مات، فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها، وإن بقي مدة صحيحًا ثم مات، فالقول قول الجاني، وإن اختلفا في تألمه، فالقول قوله لما ذكرنا، وإن قالت المرأة: استهل ثم مات، فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه، وإن اتفقا على استهلاله، وقالت: كان ذكرًا، وقال: بل أنثى، فالقول قوله؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزائد على دية أنثى.(4/50)
وإن صدق الجاني المرأة في حياته، وكونه ذكرًا، وأنكرت العاقلة، وجبت الدية في مال الجاني؛ لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا، وإن مات الجنين مع أمه، واعترف الجاني، أنه سقط حيًا، ثم مات، وأنكرت العاقلة، فعلى العاقلة غرة؛ لأنها لم تعترف بأكثر منها وما زاد على الجاني؛ لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة.
فصل
وإن اصطدمت سفينتان، فتلفت إحداهما، فادعى صاحبها أن القيم فرط في ضبطها فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التفريط، ومتى اختلفا في وجود جناية غير ما يوجب القسامة، كالجناية على الأطراف وغيرها، فالقول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته، وعدم الجناية.
فصل
وإذا سلم دية العمد ثم اختلفا، فقال الولي: لم يكن فيها خلفات، وقال الجاني: كانت فيها، ولم تكن، رجع فيه إلى أهل الخبرة، فالقول قول الولي؛ لأن الأصل عدم الحمل، وإن رجع في الدفع إليهم، فالقول قول الدافع؛ لأننا حكمنا بأنها خلفات بقولهم، فلا ينقض ما حكمنا به إلا بدليل.
[باب كفارة القتل]
تجب الكفارة، على كل من قتل نفسًا محرمة مضمونة خطأ، بمباشرة أو تسبب، كحفر البئر، وشهادة الزور؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وتجب على من قتل في بلاد الروم مسلمًا يعتقده كافرًا؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وكذلك يلزم من رمى صف الكفار فقتل مسلمًا، قياسًا عليه، ومن ضرب بطن امرأة، فألقت جنينًا حيًا أو ميتًا، فعليه كفارة؛ لأنه آدمي محقون الدم لحرمته، فوجبت فيه الكفارة كغيره، وإن قتله وأمه، فعليه كفارتان؛ لأنه قتل نفسين، وإن قتل نفسه أو عبده خطأ، فعليه كفارة؛ لأنها تجب لحق الله تعالى، وقتل نفسه وعبده كقتل غيرهما في التحريم، لحق الله تعالى، وإن اشترك جماعة في قتل واحد، فعلى كل واحد منهم كفارة؛ لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل، اشتركوا في سببها فلزم كل واحد(4/51)
كفارة، كالطيب في الإحرام، وعنه: على الجميع كفارة؛ لأنها تجب بالقتل، فإذا كان واحدًا، وجبت كفارة واحدة، كقتل الصيد.
فصل
ولا تجب الكفارة بالعمد المحض، سواء أوجب القصاص أو لم يوجبه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فتخصيصه بها يدل على نفيها في غيره، ولأنها لو وجبت في العمد، لمحت عقوبته في الآخرة؛ لأنها شرعت لستر الذنب، وعقوبة القاتل عمدًا ثابتة بالنص لا تمحى بها، فوجب ألا تجب الكفارة فيه، وعنه: أنها تجب؛ لأنها إذا وجبت في الخطأ مع قلة إثمه، ففي العمد أولى.
وأما شبه العمد، فتجب فيه الكفارة؛ لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي عقوبته، وتحمل العاقلة ديته وتأجيلها، فكذلك في الكفارة، ولأنه لو لم تجب الكفارة، لم يلزم القاتل شيء؛ لأن الدية تحملها العاقلة، وتجب الكفارة في مال الصبي والمجنون إذا قتلا وإن تعمدا؛ لأن عمدهما أجري مجرى الخطأ في أحكامه، وهذا من أحكامه، وتجب على النائم إذا انقلب على شخص فقتله، وعلى من قتلت بهيمته بيدها، أو فمها إذا كان قائدها، أو راكبها، أو سائقها؛ لأن حكم القتل لزمه، فكذلك كفارته.
فصل
ولا يجب بالجناية على الأطراف كفارة، ولا بقتل غير الآدمي؛ لأن وجوبها من الشرع، وإنما أوجبها في النفس، وقياس غيرها عليها ممتنع؛ لأنها أعظم حرمة، ولذلك اختصت بالقسامة، ولا تجب بقتل مباح، كقتل الزاني المحصن، والقصاص، وقتل أهل البغي، والصائل، ومن ضرب الحد فمات فيه أو في التعزير، أو قطع بالسرقة، أو القصاص، فسرى إلى نفسه، ونحو ذلك؛ لأن الكفارة شرعت للتكفير والمحو، وهذا لا شيء فيه يمحى.
فصل
والكفارة تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين للآية، فإن لم يستطع؛ ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه إطعام ستين مسكينًا؛ لأنها كفارة فيها العتق وصيام شهرين، فوجب فيها إطعام ستين مسكينًا إذا عجز عنهما، ككفارة الظهار، والجماع في رمضان.(4/52)
والأخرى: لا يجب فيها الإطعام؛ لأن الله تعالى لم يذكره، وصفة الرقبة والصيام والإطعام، كصفة الواجب في كفارة الظهار على ما ذكر فيه، ومن عجز عن الكفارة، بقيت في ذمته؛ لأنها كفارة تجب بالقتل، فلا تسقط بالعجز، ككفارة قتل الصيد الحرمي.(4/53)
[كتاب قتل أهل البغي]
كل من ثبتت إمامته، حرم الخروج عليه وقتاله، سواء ثبتت بإجماع المسلمين عليه، كإمامة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو بعهد الإمام الذي قبله إليه، كعهد أبي بكر إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو بقهره للناس حتى أذعنوا له ودعوه إماما، كعبد الملك بن مروان؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وروى أبو ذر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، فميتته جاهلية» رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
فصل
والخارجون على الإمام على ثلاثة أقسام: قسم لا تأويل لهم، فهؤلاء قطاع طريق، نذكر حكمهم فيما بعد إن شاء الله، وكذلك إن كان لهم تأويل، لكنهم عدد يسير لا منعة عندهم، وقال أبو بكر: هم بغاة؛ لأن لهم تأويلًا، فأشبه العدد الكثير.
والأول: أصح؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يجر ابن ملجم مجرى البغاة، ولأن هذا يفضي إلى إهدار أموال الناس.
القسم الثاني: الخوارج الذين يكفرون أهل الحق وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويستحلون دماء المسلمين، فذهب فقهاء أصحابنا إلى أن حكمهم حكم البغاة؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في الحرورية: لا تبدءوهم بالقتال، وأجراهم مجرى البغاة، وكذلك عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار،(4/54)
حكمهم حكم المرتدين؛ لما روى أبو سعيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال فيهم: «إنهم يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري. وفي لفظ: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ، فعلى هذا يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب، وإلا قتل.
القسم الثالث: قوم من أهل الحق خرجوا على الإمام بتأويل سائغ، وراموا خلعه، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء بغاة، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتالهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قاتلوا مانعي الزكاة، وقاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل البصرة يوم الجمل، وأهل الشام بصفين، ولا يقاتلهم الإمام حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن اعتلوا بمظلمته أزالها، أو شبهة كشفها؛ لقول الله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفي هذا إصلاح، ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - راسل أهل البصرة يوم الجمل قبل الوقعة، وأمر أصحابه ألا يبدءوهم بقتال، وقال: إن هذا يوم، من فلج فيه، فلج يوم القيامة.
وروى عبد الله بن شداد: أن عليا لما اعتزلته الحرورية، بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف، فإذا راسلهم فأبوا وعظهم. وخوفهم القتال، فإن أبوا قاتلهم، فإن استنظروه مدة، نظر في حالهم، فإن بان له أن قصدهم تعرف الحق، وكشف اللبس، والرجوع إلى الطاعة، أنظرهم؛ لأن في هذا إصلاحًا، وإن علم أن قصدهم الاجتماع على حربه، أو خديعته، عاجلهم لما في التأخير من الضرر، فإن أعطوه مالًا على إنظارهم أو رهنًا لم يقبل؛ لأنه لا يؤمن جعل ذلك طريقًا إلى قهره وقهر أهل العدل.
فصل
وإذا قوتلوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجز على جريح، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم يسب لهم ذرية؛ لما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يا ابن أم عبد، ما حكم من بغى على أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم،(4/55)
فقال: لا يقتل مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال يوم الجمل: لا يذفف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابًا أو بابه، فهو آمن. وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يطلبون موليًا، ولا يسلبون قتيلًا، ولأن المقصود دفعهم، فإذا حصل لم يجز قتلهم كالصائل، وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إياكم وصاحب البرنس، يعني محمد بن طلحة السجاد، وكان قد حضر طاعة لأبيه، ولم يقاتل، ولأن القصد كفهم، وهذا قد كف نفسه، ومن أسر منهم فدخل في الطاعة، خلي سبيله، وإن أبى ذلك وكان رجلًا جلدًا، حبس حتى تنقضي الحرب؛ لئلا يعين أصحابه على قتال أهل العدل، فإذا انقضت الحرب، خلي سبيله، وإن لم يكن من أهل القتال خلي سبيله ولم يحبس؛ لأنه لا يخشى الضرر من تخليته، وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر: أنه يحبس كسرًا لقلوب أصحابه، والأول أصح، وحكم النساء والصبيان حكم الرجال، إن قاتلوا، جاز دفعهم بالقتل، وإلا فلا، ومن قتل أحدًا ممن منع من قتله ضمنه؛ لأنه قتل معصومًا لم يؤمر بقتله، وهل يلزمه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأنه قتل مكافئًا عمدًا.
والثاني: لا يجب؛ لأن في قتلهم اختلافًا، فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص.
فصل
ولا يجوز قتالهم بالنار، ولا رميهم بالمنجنيق، وما يعم إتلافه؛ لأنه يعم من لا يجوز قتله، ومن يجوز. فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز قتل الصائل، ولا يستعين على قتالهم بكافر، ولا بمن يستبيح قتلهم؛ لأن القصد كفهم لا قتلهم، وهؤلاء يقصدون قتلهم، فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فقدر على كفهم عن فعل ما لا يجوز، جازت الاستعانة بهم، وإلا فلا، وإن اقتتلت طائفتان من أهل البغي، فقدر الإمام على قهرهما، لم يعن واحدة منهما؛ لأنهما على الخطأ، وإن لم يقدر، ضم إليه أقربهما إلى الحق، فإن استويا، اجتهد، في ضم إحداهما إلى نفسه، يقصد بذلك الاستعانة بها على الأخرى، فإذا قهرها، لم يقاتل المضمومة إليه حتى يدعوها إلى الطاعة؛ لأنها حصلت في أمانة بالاستعانة بها.
فصل
ولا يجوز أخذ مالهم لما تقدم، ولأن الإسلام عصم مالهم، وإنما أبيح قتالهم للرد إلى الطاعة، فبقي المال على العصمة، كمال قاطع الطريق، ولا يجوز الاستعانة(4/56)
بكراعهم وسلاحهم من غير ضرورة لذلك، فإن دعت إليه ضرورة جاز، كما يجوز أكل مال الغير في المخمصة.
فصل
ومن أتلف من الفريقين على الآخر مالًا أو نفسًا في غير القتال ضمنه؛ لأن تحريم ذلك كتحريمه قبل البغي، فكان ضمانه كضمانه قبل البغي، وما أتلف أحدهما على الآخر حال الحرب بحكم القتال من نفس أو مال لم يضمنه؛ لما روى الزهري قال: كانت الفتنة العظمى، وفيهم البدريون، وأجمعوا على أن لا يجب حد على رجل ارتكب فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دمًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم مالًا أتلفه بتأويل القرآن، ولأن العادل مأمور بإتلافه فلم يضمنه، كما لو قتل الصائل عليه، والبغاة: طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى بحكم الحرب، كأهل العدل، ولأن تضمينهم ذلك يفضي إلى تنفيرهم عن الطاعة فسقط، كأهل الحرب، وعنه: يلزم البغاة الضمان؛ لأنهم أتلفوه بغير حق، فضمنوه كقطاع الطريق.
فصل
وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب، فأمنوهم بشرط المعاونة، لم ينعقد أمانهم؛ لأن من شرط الأمان ألا يقاتلوا المسلمين، فلم ينعقد بدون شرطه وإن أعانوهم، فلأهل العدل قتلهم، وغنيمة أموالهم، كما قبل الاستعانة، ولا يجوز لأهل البغي قتلهم، ولا يحل لهم مالهم؛ لأنهم أمنوهم، فلزمهم الوفاء به، وإن استعانوا بأهل الذمة، فقاتلوا معهم طائعين عالمين بتحريم ذلك، فيه وجهان:
أحدهما: ينتقض عهدهم؛ لأنهم قاتلوا المسلمين من غير عذر، فانتقض عهدهم، كما لو كانوا منفردين.
والثاني: لا ينتقض عهدهم؛ لأنهم تابعون لأهل البغي، فعلى هذا حكمهم حكم البغاة في قتل مقاتلتهم دون مدبرهم وأسيرهم، وتذفيف جريحهم، ولكنهم يضمنون ما أتلفوا من نفس أو مال، في الحرب وفي غيره؛ لأن سقوط التضمين عن البغاة كيلا يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، ولا يخاف تنفير أهل الذمة، وإن قالوا: كنا مكرهين، أو ظننًا أنه يجوز لنا معاونتهم، لم تنتقض الذمة؛ لأن ما ادعوه محتمل، فلا ينقض العهد مع الشبهة، وإن استعانوا بمستأمن، فحكمه حكم أهل الحرب إلا أن يقيم بينة على الإكراه.
فصل
وإن ولوا قاضيًا يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم، لم ينفذ حكمه؛ لأن العدالة(4/57)
شرط للقضاء، وليس هذا بعدل، وإن كان عدلًا مجتهدًا، نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي الإمام، ورد منه ما يرد منه؛ لأن له تأويلًا يسوغ فيه الاجتهاد، فأشبه قاضي أهل العدل، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل، استحب ألا يقبل كتابه كسرًا لقلوبهم، فإن قبله جاز؛ لأن حكمه ينفذ، فجاز قبول كتابه، كقاضي الإمام.
فصل
وإن استولوا على بلد، فأقاموا الحدود، وأخذوا الزكاة والخراج والجزية احتسب به؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يتتبع ما فعله أهل البصرة وأخذه. وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري، ومن ادعى دفع زكاته إليهم، قبل منه، ولم يستحلف؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، ومن ادعى من أهل الذمة دفع جزيته إليهم، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنها عوض، فأشبهت الأجرة، ومن ادعى دفع خراجه إليهم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه أجرة للأرض، فأشبه أجرة الدار، ولأنه خراج أشبه الجزية.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن الدافع مسلم، فقبل قوله في الدفع كالزكاة.
فصل
وإن أظهر قوم رأي الخوارج، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، فقال أبو بكر: لا يتعرض لهم؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سمع رجلًا يقول: لا حكم إلا لله - تعريضًا به في التحكيم - فقال: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال. وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل؛ لأن ابن ملجم جرح عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن عشت فأنا ولي دمي، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت قتلتموه، ولا تمثلوا به، ولا يتحتم القصاص إذا قتلوا مسلمًا؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإن شئت عفوت، وفيه وجه آخر أنه يتحتم؛ لأنه قتل بإشهار السلاح في غير المعركة، فتحتم قتله، كقاطع الطريق، وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل، عزروا؛ لأنه محرم لا حد فيه، ولا كفارة، فشرع التعذير فيه، وإن عرضوا بالسب، ففيه وجهان:
أحدهما: يعزرون كيلا يصرحوا به ويخرقوا الهيبة.
والثاني: لا يعزرون؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان في صلاة الفجر،(4/58)
فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، فأجابه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60] ولم يعزره، فأما من ذهب من أصحابنا إلى تكفيرهم، فإنهم متى أظهروا رأي الخوارج استتيبوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، كسائر المرتدين.
فصل
وإن اقتتلت طائفتان، لطلب ملك أو رئاسة أو عصبية، ولم تكن إحداهما في طاعة الإمام، فهما ظالمتان، يلزم كل واحدة منهما ضمان ما أتلفت على الأخرى، فإن كانت إحداهما في طاعة الإمام تقاتل بأمره، فهي المحقة، وحكم الأخرى حكم من يقاتل الإمام؛ لأنهم يقاتلون من أذن له الإمام، فأشبه المقاتل لجيشه.
[باب أحكام المرتد]
وهو: الراجع عن دين الإسلام، ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل، فأما المجنون والطفل، فلا يصح إسلامهما ولا ردتهما؛ لأنه قول له حكم، فلا يصح منهما، كالبيع وغيره من العقود، وأما الصبي المميز، فيصح إسلامه وردته؛ لأن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم وهو ابن سبع، فصح إسلامه، وثبت إيمانه، وعد بذلك سابقًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا، وإما كفورًا» ، ولأن الإسلام عبادة محضة، فصح منه، كالصلاة والحج، ومن صح إسلامه صحت ردته، كسائر الناس.
وعنه: لا تصح ردته؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ، ولأنه قول يثبت به عقوبة، فلم يصح منه، كالإقرار بالحد، واختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه وردته، فقال الخرقي: هي عشر سنين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بضربهم على الصلاة والتفريق بينهم في المضاجع لعشر، وعن أحمد: أنه إذا كان ابن سبع سنين، صح إسلامه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروهم بالصلاة لسبع» ، وعن عروة: أن عليًا والزبير أسلما وهما ابنا ثمان سنين، ولأنه تصح عباداته، فصح إسلامه كابن عشر، وفي ردة السكران روايتان، كطلاقه.(4/59)
فصل
ولا تصح الردة من المكره؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وإن لفظ بالكفر وهو أسير، فثبت أنه لفظ به وهو آمن كفر. وإن لم يثبت، لم يحكم بردته؛ لأنه في محل المخافة، وإن لفظ بها غير الأسير، حكم بردته، إلا أن يثبت إكراهه، ومن ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير، أو شرب خمرًا، لم يحكم بردته؛ لأنه قد يأكله معتقدًا تحريمه، والأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها؛ لما روى خباب، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه، ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه» .
فصل
والردة تحصل بجحد الشهادتين، أو إحداهما، أو سب الله تعالى، أو رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو جحد كتاب الله تعالى، أو شيء منه، أو شيء من أنبيائه، أو كتاب من كتبه، أو فريضة ظاهرة مجمع عليها، كالعبادات الخمسة، أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه: كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والزنا ونحوه، فإن كان ذلك لجهل منه، لحداثة عهده بالإسلام، أو لإفاقة من جنون ونحوه لم يكفر، وعرف حكمه ودليله، فإن أصر عليه كفر؛ لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله وسنة رسوله، فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله وسنة رسوله.
فصل
ومن ارتد عن الإسلام، وجب قتله؛ لما روى ابن عباس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري. وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس» .
فصل
وتقتل المرتدة للخبر، ولأنها بدلت دين الحق بالباطل، فتقتل كالرجل.
فصل
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا يدعى فيها إلى الإسلام، وعنه: أنه يقتل من غير(4/60)
استتابة للخبر، ولأنه يروى: أن معاذًا قدم على أبي موسى، وعنده رجل محبوس على الردة، فقال معاذ: لا أنزل حتى يقتل فقتل. والأول ظاهر المذهب؛ لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه: أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قدمناه، فضربنا عنقه، قال عمر: فهل حبستموه ثلاثًا فأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب الاستتابة، لما تبرأ من فعلهم ولأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له، فإذا تأنى عليه، وكشفت شبهته، رجع إلى الإسلام، فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه، فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس، ويدعى إلى الإسلام، وتكشف شبهته، ويبين له فساد ما وقع له، فإن قتل قبل الاستتابة، لم يجب ضمانه؛ لأن عصمته قد زالت بردته، وإن ارتد وهو سكران، لم يقتل قبل إفاقته؛ لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره، فإذا صحا، وتمت له ثلاثة أيام من وقت ردته، قتل وإن ارتد صبي، لم يقتل قبل بلوغه؛ لأن القتل عقوبة متأكدة، فلا تشرع في حق الصبي، كالحد، وإذا بلغ، استتيب ثلاثًا؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، فاعتبرت الاستتابة فيه، فإن لم يتب قتل، وإن ارتد عاقل فجن، لم يقتل في جنونه؛ لأن القتل يجب بالإصرار على الردة، والمجنون لا يوصف بالإصرار، ومن قتل أحد هؤلاء، عزر؛ لارتكابه القتل المحرم ولم يضمن؛ لأنه قتل كافرًا لا عهد له، فأشبه قتل نساء أهل الحرب.
فصل
فإذا تاب المرتد قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] ، وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر، وعن أحمد: أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره؛ لأنه كان مستسرًا به دهره، فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه، ولا توبة من تكررت ردته؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] .
وقال أحمد: لا تقبل توبة(4/61)
من سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الخرقي: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، وقال أبو الخطاب: هل تقبل توبة من سب الله تعالى ورسوله؟ على روايتين:
إحداهما: لا تقبل؛ لأن قتله موجب السب والقذف، فلا يسقط بالتوبة، كحد القذف.
والثانية: تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة والولد لله سبحانه وتعالى، وقد سماه الله تعالى شتمًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي صاحبة وولدًا» والتوبة من هذا مقبولة بالاتفاق.
فصل
وتثبت التوبة من الردة والكفر الأصلي، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لخبر أنس، إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمدًا بعث إلى العرب خاصة، أو يزعم أن محمدًا نبي يبعث غير نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمدًا نبي بعث إلى الناس كافة، أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام؛ لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده. وإن شهد أن محمدًا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقط، ففيه روايتان:
إحداهما: يحكم بإسلامه؛ لأنه لا يقر برسالته، إلا وهو مقر بمن أرسله.
والثانية: إن كان ممن يقر بالتوحيد كاليهود، حكم بإسلامه؛ لأن كفره بجحده لرسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان ممن لا يوحد الله تعالى كالنصراني، لم يحكم بإسلامه، حتى يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه غير موحد، فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى، ويقر بما كان يجحده، وإن ارتد بجحد فرض، أو استحلال محرم، لم يصح إسلامه، حتى يرجع عما اعتقده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده، وإن صلى الكافر، حكمنا بإسلامه، سواء صلى جماعة، أو فرادى في دار الحرب، أو الإسلام؛ لأنها ركن يختص به الإسلام، فحكم بإسلامه، بها كالشهادتين، ولأن ما كان إسلامًا في دار الحرب، كان إسلامًا في دار الإسلام، كالشهادتين، وإن قال: أنا مؤمن، أو مسلم، حكم بإسلامه، وإن لم يلفظ بالشهادتين، ذكره القاضي؛ لأن ذلك اسم لشيء، فإذا أخبر به، فقد أخبر بذلك الشيء.
فصل
وإن أصر على الردة قتل بالسيف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة»(4/62)
ولا يقتله إلا الإمام؛ لأنه قتل يجب لحق الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني، وإن قتله غيره بغير إذنه أساء، ويعزر لافتئاته على الإمام، ولا ضمان عليه؛ لأنه أتلف محلًا غير معصوم.
فصل
وإذا ارتد، لم يزل ملكه؛ لأنه سبب مبيح لدمه، فلم يزل ملكه، كزنا المحصن، وإن وجد منه سبب يقتضي الملك، كالاصطياد، والابتياع، ملك به كذلك، ويرفع الحاكم يده عن ماله، ويمنعه التصرف فيه، ويقضي ديونه من ماله، وأرش جناياته، وينفق على من يلزمه الإنفاق عليه، وإن تصرف المرتد في ماله، ببيع أو هبة ونحوها، كان تصرفه موقوفًا، إن أسلم تبينا وقوعه صحيحًا، وإن لم يسلم كان باطلًا؛ لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته، فأشبه تبرع المريض لوارثه، وقال أبو بكر: يزول ملكه بردته؛ لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه، فوجب أن يملكوا ماله كالأصلي؛ لأنه زالت عصمته بردته، فوجب أن تزول عصمة ماله، فلا تصح تصرفاته، ولا تملك بأسباب الملك، ولا تنفق على أهله منه، فإن أسلم رد إليه تمليكًا مستأنفًا، وإن قتل أو مات قُضيت ديونه؛ لأن موته لا يمنع قضاء دينه.
فصل
ولا يجوز استرقاق المرتد؛ لأنه لا يجوز إقراره على ردته، وإن ارتد وله ولد، لم يجز استرقاق ولده؛ لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده، فإذا بلغ، استتيب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل. والحمل كالولد الظاهر؛ لأنه يحكم له بالإسلام، ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد، وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة، جاز استرقاقه؛ لأنه كافر وُلِدَ بين كافرين، فجاز استرقاقه، كولد الحربيين، ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد: إذا تزوج في دار الحرب، وولد له، ما يصنع بولده؟ قال: يردون إلى الإسلام، ويكونون عبيدًا للمسلمين، فظاهر هذا أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر، ولا يقبل منه إلا الإسلام، وإذا أسلم بعد سبيه رق؛ لأنه ولد من لا يُقر على كفره، فلا يقر على كفره، كوالده الذي كان موجودًا قبل ردته.
فصل
وما يتلفه المرتد مضمون عليه؛ لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه واعترافه به، فلا يسقط عنه بجحده، كمن جحد الدين بعد إقراره به، فإن لحق بدار الحرب، فقد روي عن أحمد: أنه إذا لحق بدار الحرب، فقتل أو سرق، قال: قد زال عنه الحكم؛ يعني: لا يؤخذ بجنايته، ثم توقف بعد ذلك، فيحتمل أن يضمن ما أتلفه لما ذكرناه، ويحتمل أن لا يضمن؛ لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب فلم يضمن، كالكافر الأصلي.(4/63)
وإن ارتدت طائفة وامتنعت، وجب على الإمام قتالها؛ لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة، ولأنهم كفار لا عهد لهم، فوجب قتالهم كالأصليين، وما أتلفوه في حال الحرب لم يضمنوه؛ لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألونه الصلح، فقال: تَدُونَ قتلانا، ولا نَدِي قتلاكم، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن قتلانا قُتلوا على أمر الله، ليس لهم ديات، فتفرق الناس على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري.
وإن أتلفوا في غير دار الحرب شيئًا، ففيه وجهان؛ كالواحد إذا لحق بدار الحرب، وذكر ابن أبي موسى، والقاضي، وأبو الخطاب: أن ما أتلفه المرتد، فهو مضمون عليه، سواء كان واحدًا، أو جماعة ممتنعة بالحرب، ويحتمل في الجماعة الممتنعة ألا تضمن ما أتلفت.
فصل
ومن أكره على الإسلام بغير حق كالذمي والمستأمن، لم يصح إسلامه، ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك، بعد زوال الإكراه. وإن أكره عليه بحق كالمرتد، ومن لا يجوز إقراره على دينه حكم بإسلامه، ومن أسلم ثم قال: لم أعتقد الإسلام، أو: لم أدر ما قلت، لم يقبل منه، وصار مرتدًا، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعنه أنه يقبل منه. والمذهب: الأول.
[باب الحكم في الساحر]
السحر: عزائم ورقى وعُقَد تؤثر في الأبدان، والقلوب، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] ، وقال الله سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة، لم يأمر بالاستعاذة منه، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سُحِرَ حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال:(4/64)
لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي أروان» رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.
وتعلم السحر، والعمل به حرام، فإن فعله رجل، وجب قتله إذا كان مسلماً؛ لما روي عن بجالة قال: كنت كاتباً لجَزْء بن معاوية عم الأحنف بن قيس؛ إذ جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، رواه أحمد وأبو داود. وقتلت حفصة أمة لها سحرتها. ورأى جندب بن كعب رجلاً يعمل سحراً بين يدي الوليد بن عقبة، فضربه بالسيف. وأما ساحر أهل الكتاب، فلا يقتل. نص عليه أحمد. وقال: الشرك أعظم من ذلك. وقد سحر لبيد بن الأعصم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يقتله.
قال أصحابنا: ويكفر بتعلم السحر، والعمل به؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . فدل هذا على أنه يكفر بتعلمه. وهل يستتاب؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يستتاب؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة.
والثانية: يستتاب. فإن تاب، قبلت توبته، وخلي سبيله؛ لأن دينه لا يزيد على الشرك.
والمشرك يستتاب، وتقبل توبته، فكذا الساحر. وعلمه بالسحر لا يمنع توبته، بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.
فصل
الكاهن - الذي له رئي من الجن - والعراف، وقد نقل عن أحمد: أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا؛ لأنهما يلبسان أمرهما، وليس هو من أمر الإسلام. قال أحمد: العراف طرف من السحر، والساحر أخبث؛ لأنه شعبة من الكفر.
فصل
فأما المعزم الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن، وأنها تطيعه والذي يحل السحر، فذكرهما أصحابنا من السحرة الذين ذكرنا حكمهم. وقد توقف(4/65)
أحمد لما سئل عن رجل، يزعم أنه يحل السحر فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل: إنه يجعل في الطنجير ماء، ويغيب فيه، ويفعل كذا، فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا؟ قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر؟ قال: ما أدري ما هذا.
وسئل ابن سيرين عن امرأة تعذبها السحرة، فقال رجل: أخط خطا عليها، وأغرز السكين عند مجمع الخط، وأقرأ عليها القرآن، فقال محمد: ما أعلم بقراءة القرآن بأساً على حال، ولا أدري ما الخط والسكين. وسئل سعيد بن المسيب عن رجل يؤخذ عن امرأته يلتمس من يداويه. قال: إنما نهى الله تعالى عما يضر، ولم ينه عما ينفع. إن استطعت أن تنفع أخاك، فافعل. وهذا يدل على أن مثل هذا، لا يكفر صاحبه، ولا يقتل.(4/66)
[كتاب الحدود]
[باب المحارب]
كتاب الحدود باب حد المحارب وهو الذي يقطع الطريق، ويخيف السبيل، وعلى الإمام طلبه؛ ليدفع عن الناس شره، فإن ظفر به قبل أن يقتل، ويأخذ مالاً، ففيه روايتان:
إحداهما: ينفيه، فلا يتركه يأوي بلداً.
والثانية: يعزره بما يرى من حبس، وغيره.
ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وظاهر اللفظ وجوب نفيهم، ووجه الثانية: أنه قد قيل: إن نفيهم طلبهم لتعزيرهم، وإقامة حد الله تعالى فيهم. فروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا، فتقام عليهم الحدود، ولأن نفيهم من البلد يفضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه.
وإن شهر السلاح في الصحراء، فقتل وأخذ مالاً، قتل حتماً وإن عفا ولي الدم؛ لأنه حد، فلا يدخله عفو، كسائر الحدود، ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره، ولا توقيت فيه؛ لأن التوقيت طريقه التوقيف، ولا توقيف فيه، ولا يصلب قبل القتل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ثم ينزل ويصلى عليه، ويدفن. وإن مات قبل قتله، لم يصلب؛ لأنه تابع للقتل، فسقط بفواته. وإن قتل، ولم يأخذ مالاً قتل حتماً، ولم يصلب. وإن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حسمتا، وخلي؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] .(4/67)
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة الأسلمي، فجاء أناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال، قتل وصلب. ومن قتل ولم يأخذ المال، قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف» ، وهذا نص.
وحكم الردء حكم المباشر في جميع هذه الجنايات؛ لأنها محاربة، فاستوى فيها الردء والمباشر، كالجهاد يستوي الردء والمباشر في استحقاق الغنيمة. وذكر القاضي فيمن قتل وأخذ المال رواية أخرى: أنه يقطع، ثم يقتل؛ لأن القتل جزاء القتل، والقطع جزاء أخذ المال مفرداً، وإذا اجتمعا، وجب حدهما، كالزنا والسرقة. والأول أولى؛ لأنه متى كان في الحدود قتل، سقط ما دونه، كالرجم في الزنا، والقطع في السرقة.
فصل
ومن شرط المحارب أن يكون مع سلاح، أو يقاتل بسلاح؛ لأن من لا سلاح له لا منعة له. وإن قاتل بالعصا والحجارة، فهو محارب؛ لأنه سلاح يأتي على النفس ولأطرف، أشبه الحديد، وهل من شروطه أن يكون في الصحراء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يكون محارباً حتى يشهر السلاح في الصحراء، فإن شهره في مصر أو قرية، وسعى فيها بالفساد، فليس بمحارب، هذا ظاهر كلام الخرقي؛ لأن الواجب على المحاربين يسمى: حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما يكون في الصحراء، ولأن المصر يلحق فيه الغوث غالباً، فتذهب شوكتهم، ويكونون مختلسين. وقال جماعة من أصحابنا: هم محاربون حيث كانوا، لعموم الآية فيهم، ولأن ضررهم في المصر أعظم، فكانوا بالحد أولى. وقال القاضي: إن كبسوا داراً في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين. وإن حضروا قرية، أو بلداً؛ بحيث لا يلحقهم الغوث، لكثرة العدد، أو بعد البلد من الغوث، فهم قطاع طريق؛ لأن الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء.
فصل
ويشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصداً لأخذ المال، فإن قتل لغير ذلك فليس(4/68)
بمحارب، وحكمه حكم القاتل في المصر. وإن قتل المحارب من لا يكافئه، كحر قتل عبداً، أو مسلم قتل ذمياً، ففيه روايتان:
إحداهما: يقتل ويصلب؛ لعموم ما روينا؛ ولأنه حد لله تعالى، فلم تعتبر فيه المكافأة. كقطع السارق.
والثانية: لا تقتل به؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» . وإن جرح إنساناً جرحاً يجب في مثله القصاص، وجب القصاص. وهل يتحتم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتحتم؛ لأنه نوع قود، أشبه القود في النفس.
والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين، فذكر القتل والصلب، والقطع، ولم يذكر الجرح، فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة.
فصل
ويشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يأخذ المال مجاهرة وقهراً، فإن أخذه مختفياً فهو سارق. وإن اختطفه وهرب به، فهو منتهب، لا قطع عليه؛ لأن عادة قطاع الطريق القهر، فيعتبر ذلك فيهم.
والثاني: أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله؛ لأنه قطع يجب بأخذ المال، فاعتبر النصاب، كقطع السارق. فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع، قطعوا كالمشتركين في السرقة.
والثالث: أن يأخذ من حرز، فإن أخذ منفرداً عن القافلة، أو من جمال ترك القائد تعهدها، لم يقطع لما ذكرناه.
فصل
وإذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى، والرجل اليسرى، وأخذ المال، انبنى ذلك على الروايتين في السارق، إن قلنا: يؤتى على أطرافه كلها، قطعت هنا يده اليسرى، ورجله اليمنى، وإن قلنا: لا يؤتى عليها، سقط القطع. وإن وجد أحد طرفيه دون الآخر، قطع الموجود حسب؛ لأن ما يتعلق به الفرض معدوم، فسقط، كغسلها في الوضوء. وإن قطع القاطع يد المحارب اليسرى، ورجله اليمنى مع وجود الطرفين الآخرين، أساء، وأجزأ؛ لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين، أفضى إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة.(4/69)
فصل
وإن تاب المحارب قبل القدرة عليه، سقط عنه حد المحاربة؛ لقول الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . فيسقط عنه انحتام القتل، والصلب، والقطع، والنفي، ولا يسقط حق الآدمي من القصاص، وغرامة المال، وحد القذف؛ لأنه حق للآدمي، فلم يسقط بالتوبة، كالضمان. وإن تاب بعد القدرة عليه، لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه؛ لأن الله تعالى شرطه في المغفرة لهم، كون التوبة قبل القدرة، فيدل على عدمها بعدها، ولأن إسقاطه بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه بالكلية؛ لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا عليه، ولا نأمن أن يكون تقية، فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك.
فصل
ومن وجب عليه حد لله تعالى فتاب، فهل يسقط عنه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسقط؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقال في الزانيين: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ولأنه حد فسقط بالتوبة، كحد المحارب.
والثانية: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ؛ ولأن ماعزاً والغامدية جاءا مقرين تائبين. فأقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما الحد.
قال أصحابنا: ولا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» ولأنها توبة من ذنب، فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل، كالإسلام. ويحتمل أن يعتبر إصلاح العمل مدة يتبين فيها أمره؛ لقول الله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] . وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء: 16] علق الحكم على شرطين، فلا يثبت بدونهما، ولأنه لا يؤمن أن يكون إظهار التوبة تقية، فلا يتحقق وجودها، فلا يثبت الحكم بها بمجردها، كتوبة المحارب بعد القدرة.(4/70)
[باب حد السرقة]
وحد السرقة: قطع اليد اليمنى؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ويعتبر في وجوبه أمور تسعة:
أحدها: السرقة: وهو أخذ المال مختفياً، فإن اختطفه، أو اختلسه، فلا قطع عليه؛ لما روى جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المنتهب قطع» وروي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «ليس على الخائن، ولا المختلس قطع.» رواهما أبو داود، ولأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق، وليس هؤلاء بسراق. وفي جاحد العارية روايتان:
إحداهما: لا قطع عليه؛ لأنه خائن، فلا يقطع للخبر، ولأنه ليس بسارق، فلا يقطع، كجاحد الوديعة. وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب.
والثانية: يجب عليه القطع؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها.» متفق عليه.
فصل
الثاني: أن يكون مكلفاً، فلا يجب الحد على صبي، ولا مجنون؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ولأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات، والإثم في المعاصي، فالحد المبني على الدرء والإسقاط أولى. ولا قطع على مكره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ويخرج في قطع السكران وجهان، بناء على الروايتين في طلاقه. وقال القاضي: حكمه حكم الصاحي فيما يجب عليه من العقوبات. ويجب القطع على السارق من أهل الذمة، والمستأمنين، ويقطع المسلم بسرقة مالهما؛ لأنهم التزموا حكم الإسلام، فأشبهوا المسلم مع المسلم.
فصل
الثالث: أن يكون المسروق نصاباً، فلا قطع فيما دونه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» متفق عليه.(4/71)
وفي قدر النصاب روايتان:
إحداهما: ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو ما قيمته ذلك من غيرهما؛ لما روت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم.» متفق عليهما. وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فما بلغ ثمن المجن، ففيه القطع» وعنه: أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة؛ لهذا الخبر.
والثانية: الأصل الدراهم خاصة، ويقوم الذهب بها؛ لحديث ابن عمر، والأول أولى؛ لخبر عائشة، ولأن ما كان فيه أحد النقدين أصلاً، كان الآخر فيه أصلاً، كالديات، ونصب الزكوات. وسواء في هذا الصحاح، والمكسرة، والتبر، والمضروب، للخبر. فإن اشترك اثنان في هتك حرز، وسرقة نصاب منه، فعليهما القطع؛ لأنه قطع يجب على المنفرد، فوجب على المشتركين فيه، كالقصاص، ويحتمل ألا يجب؛ لأن كل واحد لم يسرق نصاباً، فلا يجب عليه القطع، للخبر، وكما لو انفرد بسرقته، فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه، كالأب والصبي، وكانت سرقة الأجنبي البالغ، نصاباً، فالقطع واجب عليه؛ لأن المانع اختص بأحدهما، فاختص السقوط به، كالقصاص، ويحتمل ألا يجب قطعه؛ لأن سرقتهما علة قطعهما، وسرقة الأب لا تصلح علة للقطع، فلم يجب على واحد منهما. وإن كانت سرقة الأجنبي، لم تبلغ نصاباً، لم يجب قطعه؛ لأن ما سرقه لم يجب به القطع، ولا يمكن بناء فعله على فعل شريكه؛ لأن فعل الشريك لا يوجب، ويحتمل أن يجب قطعه، كما في القصاص. ومن هتك حرزاً، فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه درهماً في ليلة أخرى، أو وقتين متباعدين، فلا قطع عليه؛ لأن كل سرقة منهما منفردة، لا تبلغ نصاباً، وإن تقاربا، وجب القطع؛ لأنهما سرقة واحدة من حرز هتكه، فأشبه ما لو أخرجهما معاً. وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه، فعلى فعل نفسه أولى، ومتى شككنا في المسروق، هل يبلغ نصاباً أو لا؟ لم يجب القطع؛ لأن الأصل عدمه، فلا يجب الشك.
فصل
والشرط الرابع: أن يكون المسروق مما يتمول في العادة؛ لأن القطع شرع لصيانة الأموال، فلا يجب في غيرها، وسواء في ذلك ما يبقى زمناً كالثياب، وما يفسده طول بقائه، كالفاكهة، والأطعمة الرطبة، وما أصله الإباحة، كالصيود، والفخار، والآجر، واللبن، والخشب؛ لأنه مال يتمول به عادة، فوجب القطع بسرقته كالأثمان. فإن سرق حراً صغيراً، فلا قطع عليه؛ لأنه ليس بمال. وعنه: يقطع. فإن قلنا: لا يقطع وكان(4/72)
عليه حلي يبلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً من المال.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه، بدليل أن اللقيط يحكم له بما عليه، فأشبه ما لو سرق جملاً، صاحبه راكب عليه. وإن سرق عبداً صغيراً أو مجنوناً قطع؛ لأنه مال ممكن سرقته، وإن كان كبيراً عاقلاً، فلا قطع عليه؛ لأن سرقته غير ممكنة، فإن قهره وأخذه، كان غاصباً، لا سارقاً، إلا أن يكون نائماً، أو غريباً لا يميز بين سيده وغيره، فيقطع؛ لأن سرقته ممكنة. فإن كانت أم ولد كذلك، ففي قطع سارقها وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنها مضمونة بالقيمة، أشبهت القن.
والثاني: لا يقطع؛ لأن بيعها محرم، أشبهت الحرة، ويقطع سارق الوقف؛ لأنه مملوك للموقوف عليه، ويحتمل أن لا يقطع؛ لأنه لا يحل بيعه، ولأنه غير مملوك على إحدى الروايتين.
فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر، أو ماء، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه سرق نصاباً فلزمه القطع، كما لو كان فيه بول.
والثاني: لا يقطع؛ لأن الإناء يراد وعاء لما فيه، فصار تابعاً لما لا قطع فيه، أشبه ثياب الحر إذا سرقه. وإن سرق آلة لهو، كالطنبور والمزمار وشبهه، فلا قطع عليه؛ لأنه آلة معصية، فأشبه الخمر. وسواء بلغ قيمة خشبه مكسوراً نصاباً، أو لم يبلغ؛ لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية، فصار المباح فيه تابعاً. وإن سرق إناء ذهب أو فضة تبلغ زنته نصاباً، قطع؛ لأن جوهره هو المقصود، والصناعة مغمورة فيه، فصارت تابعة له، بخلاف التي قبلها. وإن سرق صليباً، أو صنماً من ذهب أو فضة، فقال أبو الخطاب: فيه القطع، لما ذكرنا. وقال القاضي: لا قطع فيه؛ لأنه مجمع على تحريمه، أشبه الطنبور.
فصل
وإن سرق مصحفاً، فقال أبو الخطاب: عليه القطع، للآية، ولأنه متقوم يبلغ نصاباً، أشبه كتب الفقه. وقال أبو بكر والقاضي: لا قطع فيه؛ لأن المقصود منه كلام الله تعالى. فإن كان محلى بحلية تبلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع، وهو قول القاضي؛ لأنه سرق نصاباً يجب به القطع منفرداً، فيجب به مع غيره، كما لو كانت الحلية منفصلة عنه.(4/73)
والثاني: لا قطع فيها؛ لأنها تابعة لما لا قطع فيه، أشبه ثياب الحر، ويقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة؛ لأنه يجوز بيعها، أشبهت الثياب. فإن كانت محرمة، ككتب البدع، والشعر المحرم، فلا قطع فيها؛ لأنها محرمة، أشبهت المزامير، ولا يقطع بسرقة الماء؛ لأنه لا يتمول عادة، ولا بسرقة السرجين، وإن كان طاهراً لذلك، ولأنه يوجد كثيراً مباحاً، فلا تكثر تعلق الرغبات به، فلا حاجة إلى الزجر عنه. وإن سرق كلأً، أو ملحاً، فقال أبو بكر: لا قطع عليه؛ لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه، أشبه الماء. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: يقطع؛ لأنه يتمول عادة أشبه الصيد، والثلج مثله. وقال القاضي: هو كالماء؛ لأنه ماء جامد.
فصل
الشرط الخامس: أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده وإن سفل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» رواه أبو داود. والأم كالأب في هذا؛ لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال والده وإن علا في إحدى الروايتين؛ لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما لصاحبه، أشبهت الأب. ويقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم، لعدم ذلك فيهم، ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده؛ لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي قال لعمر: إن عبدي سرق مرآة امرأتي، ثمنها ستون درهماً، فقال: أرسله، لا قطع عليه، غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن يده كيد مولاه، بدليل أنه لو كان في يده مال، فتنازعه السيد وأجنبي، كان لسيده. وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه. وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان:
إحداهما: لا قطع عليه؛ لقول عمر: غلامكم أخذ متاعكم؛ ولأن أحدهما يرث صاحبه من غير حجب، وترد شهادته له، أشبه الولد، وهذا اختيار الخرقي وأبي بكر.
والأخرى: يقطع، لعموم الآية، ولأنه سرق مالاً محرزاً عنه، لا شبهة له فيه، أشبه الأجنبي، ولا قطع على من سرق مالاً له فيه شركة؛ لأن له فيه حقاً، فكان ذلك شبهة، ولا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال: أرسله، فما من أحد إلا وله في هذا المال حق. وإن سرق منه ذمي قطع؛ لأنه لا حق له فيه.
ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده، أو لسيده، لم يقطع لذلك. وإن لم يكن كذلك، فسرق منها بعد إخراج الخمس، قطع؛ لأنه لا حق له فيها. وأن سرق قبل إخراج الخمس، لم يقطع؛ لأن له حقاً في خمس الخمس. وإن سرق مسكين(4/74)
من وقف المساكين لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً، وإن سرق منه غني، قطع؛ لأنه لا حق له فيه، وإن سرق حصير مسجد، أو قنديله، أو نحوه مما جعل لنفع المصلين، لم يقطع؛ لأن له فيه حقاً. وإن سرق بابه، أو تأزيره، أو شيئاً من خشب سقفه، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه لا حق له فيه وهو محرز بحرز مثله، أشبه سارق ذلك من بيت آدمي.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين، ولأنه ليس له مالك من المخلوقين. والكعبة وغيرها في هذا سواء، ولا يقطع بسرقة ستارتها الخارجة منها؛ لأنها غير محرزة. وقال القاضي: إن كانت مخيطة عليها، قطع سارقها لأن هذا حرز مثلها.
فصل
ولا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولا على الضيف إذا منع قراه، فأخذ بقدره؛ لأن له حقاً. وإن سرق غير ذلك من البيت الذي هو فيه، لم يقطع؛ لأنه غير محرز عنه، وإن كان محرزاً عنه، فعليه القطع، لعدم الشبهة. ولا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة؛ لأنه فعل ما له فعله. قال أحمد: لا قطع في المجاعة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا قطع في عام سنة. قيل لأحمد. تقول به؟ قال: أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة. ولا قطع على الغريم إذا جحده غريمه، أو منعه ولم يقدر على استيفاء دينه، فأخذ بقدره في أحد الوجهين، وهو اختيار أبي الخطاب؛ لأن طائفة من أهل العلم أباحت له ذلك، فيكون شبهة. وفي الآخر عليه القطع، وهو قول القاضي؛ لأنه ليس له الأخذ. فإن كان غريمه باذلاً له، قطع؛ لأنه لا شبهة له في السرقة، لإمكان التوصل إلى أخذه. وإن سرق المسروق منه مال السارق، والمغصوب منه مال الغاصب من حرز فيه ماله، ففيه وجهان:
أحدهما: لا قطع عليه؛ لأنه هتك حرزاً له هتكه، لأخذ ماله.
والثاني: يقطع؛ لأنه لما أخذ غير ماله، علم أنه قصد سرقة مال غيره. وإن سرق ماله من حرز لا مال له فيه، فحكمه حكم السارق من غريمه، وإن أحرز المغصوب أو المسروق، فسرقه أجنبي، لم يقطع؛ لأنه حرز لم يرضه مالكه. وإن غصب داراً، فأحرز(4/75)
فيها متاعه لم يقطع سارقه؛ لأنه لا حكم لحرزه حيث كان متعدياً به ظالماً فيه. وإن سرق المعير من الدار المستعارة أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئاً، قطع؛ لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي.
فصل
السادس: أن يسرق من حرز؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رجلاً من مزينة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمار فقال: ما أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن» رواه أبو داود.
ويعتبر الحرز بما يتعارفه الناس، فما عدوه حرزاً، فهو حرز، وما لا فلا؛ لأن الشرع لما اعتبر الحرز، ولم يبينه، علمنا أنه رده إلى العرف، كالقبض، والتفرق. وإحياء الموات. هذا ظاهر قول أصحابنا، وإليه ذهب ابن حامد، والقاضي. وذكر أبو بكر كلاماً يدل على أن الإحراز لا يختلف، فقال: إذا أفرد الشيء في الملك، فهو محرز، والعمل على الأول. فحرز الأثمان، والجواهر، ونحوها في الخانات الحريزة. والدور في العمران دونها الأغلاق والأقفال، أو حافظ مستيقظ، أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه، أو كمه، أو وسطه، أو معضدته ونحن ذلك. ونقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل، أو كمه: لا قطع عليه، وهذا محمول على من اختلس دون من سرق؛ لأنه قد بينه في رواية ابن منصور، فقال: الطرار يقطع إذا كان يطر سراً.
وإن اختلس، لم يقطع، فأما الجواسق في البساتين، والخانات في البرية، فإن كانت مغلقة وفيها حافظ، فهي حرز، نائماً كان أو يقظان، وإن كانت مفتوحة، فلا تكون حرزاً إلا أن يكون الحافظ يقظان. وإن لم يكن فيها حافظ، فليست حرزاً بحال؛ لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ.
والخيمة والخركاه المنصوبة، كالجواسق فيما ذكرنا. ويقطع سارقها متى كان فيها حافظ. وإن كان نائماً؛ لأنها تحرز بهذا، وحرز متاع الباعة من العطارين، وغيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق والأقفال، وإن كانت مفتوحة، فبحافظ يقظان.
وحرز قدور الباقلا في الدكاكين، وشرائح القصب، وما جرت العادة بإحرازها به. وحرز(4/76)
باب الدار والدكان نصبه في موضعه. وحرز حلقة الباب تسميرها فيه وحرز آجر الحائط وحجارته كونه مبنياً في الحائط. وحرز الخشب والحطب بالحظائر، وتغيبه بعضه على بعض، مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه. وإن كان في فندق مغلق، أو فيه حافظ، فهو محرز، وإن لم يقيد. وحرز متاع الباعة وأشباههم كونه بين أيديهم؛ لأنه محفوظ بذلك، فإن نام عنه أو اشتغل، أو جعله خلفه بحيث تناله اليد، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ. وإن نام إنسان على ثوبه، أو متاعه، فقد أحرزه؛ لما «روى صفوان بن أمية أنه نام في المسجد، وتوسد رداءه، فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله، لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلا قبل أن تأتيني به» رواه ابن ماجه. فإن تدحرج عنه، خرج من الحرز.
فصل
وحرز المواشي الراعية بنظر الراعي إليها، فما استتر عنه بحائل، أو نوم الراعي، خرج عن الحرز؛ لأنه غير محفوظ، وحرز البارك من الإبل المعلقة بالحافظ، نائماً كان أو يقظان؛ لأن العادة أن صاحبها يعقلها إذا نام، وإذا لم تكن معقلة فحرزها بحافظ يقظان، لما ذكرنا. وحرز الحمولة بسائق يراها، أو قائد يكثر الالتفات إليها، ويراها إذا التفت؛ لأنها لا تنحفظ إلا بذلك.
فصل
ومن ترك ثيابه في الحمام لا حافظ لها، فليست محرزة. وإن استحفظها إنساناً، فحفظها، فعن أحمد أنها غير محرزة أيضاً، إلا أن يتوسدها، أو يجلس عليها؛ لأن الحمام مستطرق، وقال القاضي في موضع: يخرج في المسألة روايتان، وفي موضع آخر: تصير محرزة بذلك، كالقماش بين يدي الباعة. وإن نام الحافظ أو اشتغل، فعليه الضمان، ولا قطع على السارق؛ لأنها خرجت عن الحرز. وإن لم يفرط في الحفظ، فلا ضمان عليه؛ لأنه مؤتمن.
فصل
وحرز الكفن كونه على الميت في القبر، فمن نبشه وسرقه، قطع؛ لأنه سارق، بدليل قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " سارق أمواتنا، كسارق أحيائنا "؛ ولأن القبر حرز الكفن؛ لأنه يوضع فيه عادة، ولا يعد واضعه مفرطاً، ولا مضيعاً وقد سرق منه، وما زاد(4/77)
على الكفن المشروع، كاللفافة الرابعة، لم يكن القبر حرزاً له؛ لأن تركه فيه تضييع، فأشبه الكيس المدفون معه. وإن أكل الضبع الميت وبقي الكفن، فلا قطع على سارقه؛ لأنه غير محرز، ويكون للورثة؛ لأن لهم ما فضل عن حاجته من ماله.
فصل
السابع: أن يخرجه من الحرز، سواء أخرجه بيده، أو بفيه، أو رماه إلى خارج، أو اجتذبه بمحجن، أو بيده، أو تركه على ظهر بهيمة وساقها، أو على ماء جار، أو في مهب ريح فأطارته، أو على ماء راكد وحركه، أو فجره فخرج به، أو أمر صبياً مميزاً فأخرجه، أو فتح طاقاً فانهال الطعام إليه، أو بط جيبه إنسان، أو كمه فسقط المال، فأخذه، فعليه القطع في هذا كله؛ لأنه بسبب فعله، فأشبه ما أخرجه بيده، فإن جمعه في الحرز ثم تركه ومضى، أو أخذ منه، أو تركه في ماء راكد، ففجره غيره فخرج به، أو أخرج النباش الكفن من اللحد إلى القبر فتركه فيه، أو أتلف المتاع في الحرز، لم يقطع؛ لأنه لم يسرق. وإن ترك المتاع على دابة، فخرجت به بنفسها، أو في ماء راكد فانفجر، فخرج به، أو على حائط في غير مهب ريح، فهبت ريح فأطارته، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه القطع؛ لأن فعله سبب خروجه، أشبه ما لو ساق البهيمة.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأن ذلك لم يكن آلة للإخراج وإنما خرج بسبب حادث، أشبه ما لو فجر الماء آدمي آخر، أو ساق البهيمة غيره. وإن أخرجه من الحرز، فألقاه خارج الحرز، أو رده إلى الحرز لخوف، أو غيره، فعليه القطع؛ لأنه وجب بإخراجه. وإن أخرج خشبة، فألقاها ومنها شيء في الحرز، لم يقطع؛ لأن بعضها لا ينفرد عن البعض، ولذلك لو أمسك عمامة، وطرفها في يد صاحبها، لم يضمنها. وإن أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار، وكان البيت مغلقاً، ففتحه أو نقبه، قطع؛ لأنه أخرج المتاع من الحرز، وإن لم يكن كذلك، فلا قطع عليه؛ لأنه لم يخرجه من الحرز.
فصل
وإن دخل الحرز، فأكل طعاماً فيه وخرج منه، لم يقطع؛ لأنه أتلفه، ولم يخرجه. وإن ابتلع ديناراً فلم يخرج منه، فلا قطع عليه كذلك. وإن خرج منه، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرجه في وعاء، أشبه ما لو أخرجه في كمه.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه ضمنه بالبلع. فكان ذلك إتلافاً.
وإن دخل، فشرب لبن ماشية، فلا قطع عليه؛ لأنه أتلفه. وإن احتلب نصاباً(4/78)
وأخرجه، قطع؛ لأنه محرز بحرز الماشية. وإن ذبح الشاة وشق الثوب، ثم أخرجه وقيمته بعد ذلك نصاباً، قطع؛ لأنه أخرج نصاباً من الحرز، وإلا فلا قطع فيه؛ لأنه لم يخرج نصاباً. وإن تطيب بطيب في الحرز، ثم خرج وعليه من عين الطيب، ما إذا لو جمع بلغ نصاباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه أخرج من الحرز نصاباً.
والثاني: لا قطع عليه؛ لأنه أتلفه بالاستعمال.
وإن لم يبق من عينه نصاب، لم يقطع وجهاً واحداً؛ لأنه لم يخرج نصاباً، أشبه ما لو أكله.
فصل
وإن أخرج نصاباً، فنقصت قيمته عن النصاب قبل القطع، قطع؛ لأنه وجد شرط القطع فيه وقت الوجوب، فلم يسقط القطع بفواته بعد ذلك، كالحرز إذا تغير، وإن ملك المسروق بهبة أو غيرها، لم يسقط القطع؛ لحديث سارق رداء صفوان؛ ولأن ملكه لمحل الجناية لا يسقط الحد، كما لو زنى بأمة ثم اشتراها.
فصل
وإن نقب الحرز، ثم دخل آخر، فأخرج المتاع، فلا قطع عليهما؛ لأن الأول لم يسرق.
والثاني: سرق من حرز هتكه غيره. ويحتمل أن يقطعا إذا كانا شريكين. وإن نقبا معاً، ودخل أحدهما فأخرج المتاع، قطع الداخل؛ لأنه نقب وسرق، ولم يقطع الآخر؛ لأنه لم يسرق. وكذلك إذا رمى المتاع إلى خارج الحرز، فأخذه الآخر، أو خرج هو، فأخذه. وإن نقبا ودخلا، فأخرج أحدهما المتاع، فالقطع عليهما؛ لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه ومعونته، وإن دخل أحدهما، فقرب المتاع من النقب، فمد الخارج يده فأخرجه، أو شده الداخل بحبل، فمده الخارج، فأخرجه، قطعا، لاشتراكهما في هتك الحرز، وإخراج المتاع.
فصل
الثامن: أن تثبت السرقة عند الحاكم؛ لأنه المتولي لاستيفاء الحدود، فلا يجوز له استيفاء حد قبل ثبوته، ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فأما البينة فيشترط أن يكون فيها شاهدين ذكرين حرين مسلمين عدلين، فإذا وجب القطع بشهادتهما، ثم غابا، أو ماتا، لم يسقط القطع على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وأما الإقرار، فيعتبر أن يقر مرتين، لما روى أبو أمية المخزومي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف، فقال له: ما إخالك(4/79)
سرقت؟ قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، فأمر به فقطع.» رواه أبو داود. ولو وجب القطع بأول مرة، لم يؤخره، وعن القاسم بن عبد الرحمن: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتاه رجل، فقال: إني سرقت، فطرده، ثم عاد مرة أخرى، فقال: إني سرقت، فأمر به علي أن يقطع، وقال: شهدت على نفسك مرتين، وقطع يده. رواه الجوزجاني، ولأنه حد يتضمن إتلافاً، فاعتبر في إقراره التكرار، كحد الزنا.
فصل
قال أحمد: لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمقر بالسرقة: «ما إخالك سرقت» وطرد علي له. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل فقال: أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه.
ولا بأس بالشفاعة في السارق قبل أن يبلغ الإمام؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب» وقال الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الشفاعة في الحد: يفعل ذلك دون السلطان، فإذا بلغ الإمام، فلا أعفاه الله إن أعفاه. وإذا بلغ الإمام، حرمت الشفاعة فيه كذلك؛ لما روي: أن «أسامة بن زيد شفع في المخزومية التي سرقت، فغضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أتشفع في حد من حدود الله» . وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في حكمه.
فصل
التاسع: أن يأتي مالك المسروق ويدعيه سواء ثبتت سرقته ببينة، أو إقرار. وقال أبو بكر: ليس بشرط؛ لأن موجب الحد قد ثبت، فوجب من غير طلب، كالزنا.
والأول: أولى؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه، أو أذن له في دخول حرزه، أو وقفه على طائفة السارق منهم، فاعتبر الطلب لنفي هذا الاحتمال، بخلاف الزنا. فإن حضر المالك وطالب، لكنه خالف المقر، فقال: لم تسرق مني، لكن غصبتني، أو انتهبت مني، أو خنتني، أو جحدت وديعتي، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق دعوى المدعي. وإن كان النصاب لاثنين، فخالفه أحدهما في إقراره، لم يقطع؛ لأنه لم يوافق على سرقة النصاب، وإن كان لمن وافقه نصاب قطع، لموافقته على(4/80)
سرقة نصاب. وإن كان المالك غائباً وله وكيل حاضر، قام مقامه في الطلب. وإن لم يحضر له وكيل، فقال القاضي: يحبس حتى يحضر، وإن كانت العين في يده، حفظها الحاكم للغائب.
فصل
وإن ثبتت السرقة ببينة، فأنكر السارق، لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الإنكار شرط سماع البينة في مواضع فلم يقدح فيها. وإن قال: إنما أخذت ملكي، أو لي فيه ملك، أو دخلت بإذن المالك، فالقول قول المسروق منه مع يمينه. وإن نكل، قضي عليه، وإن حلف، ففي القطع ثلاث روايات:
إحداهن: لا يقطع؛ لأنه يحتمل صدقه، ولذلك أحلفنا خصمه، وهذا شبهة يندرئ بها الحد.
والثانية: يقطع، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى إسقاط القطع، فتفوت مصلحته.
والثالثة: إن كان معروفاً بالسرقة، لم تقبل دعواه؛ لأننا نعلم كذبه. وإن لم يعرف بالسرقة، قبلت دعواه، لاحتمال صدقه، فيصير ذلك شبهة، والأول أولى. فإن أقر العبد بسرقة مال في يده، وادعى ذلك المسروق منه، وكذبه السيد، وقال: بل هذه الدراهم لي، قطع العبد، وكانت الدراهم للسيد، نص عليه أحمد؛ لأن الموجب للقطع الإقرار مع مطالبة المدعي، وقد وجد ذلك، وتكون الدراهم للسيد؛ لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده؛ لأن يده كيده. ويحتمل ألا يجب القطع؛ لأن المال محكوم به لسيده، فلا يجب القطع بأخذه، كما لو ثبت له ببينة، ولأنه لم تثبت المطالبة من المالك، فيكون ذلك محكوماً به للسيد. وإن طالب المالك وثبت القطع، ثم عفا عن المطالبة بعد ذلك، لم يسقط القطع، بدليل أن صفوان عفا عن الطلب من سارق ردائه، فلم يدرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه القطع، ولأنه قد وجب، فلم يسقط، كما لو وهبه إياه. وإن أكذب المدعي نفسه، وقال: لم يكن هذا المال لي، ولم يسرق مني شيئاً، أو أنا أذنت له في أخذه، ونحو هذا، سقط القطع؛ لأنه رجع عن شرط الوجوب، فأشبه رجوع البينة عن الشهادة، أو المقر عن الإقرار.
فصل
وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع؛ لأن في قراءة عبد الله بن مسعود: " فاقطعوا أيمانهما " ولما روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من مفصل الكوع، ولا مخالف لهما في الصحابة؛ ولأن البطش باليمنى وهو حاصل بالكف، وما زاد من الذراع تابع، لهذا تجب الدية فيه(4/81)
وحده، ويحسم موضع القطع، وهو: أن يغلى الزيت غلياً جيداً، ثم تغمس فيه، لتحسم العروق، وينقطع الدم؛ لما روى أبو هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقال: اذهبوا به، فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به فقطع وأتي به، فقال: تب إلى الله تعالى فقال: تبت إلى الله. فقال: تاب الله عليك» .
ولا يجب الحسم؛ لأنه مداواة، فلم يجب على القاطع، كالمقتص، وثمن الزيت، وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه من المصالح، فإن لم يكن للسارق يد يمنى، قطعت رجله اليسرى؛ لأنه معدوم اليمنى، فقطعت رجله اليسرى، كالسارق في المرة الثانية. وإن كانت يده ناقصة الأصابع، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها. فإن ذهبت الأصابع كلها، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع الكف؛ لأنه بعض ما يقطع في السرقة، فوجب قطعه، كما لو كان عليه بعض الأصابع.
والثاني: لا يقطع؛ لأنه تجب فيه دية اليد، أشبه الذراع، وإن كانت اليمنى شلاء، لم تقطع، نص عليه؛ لأنها ذاهبة النفع، فأشبه كفاً لا أصابع عليه، وينتقل إلى الرجل. وعنه: يسأل أهل الطب، فإن قالوا: إنها إذا قطعت، رقأ دمها، وانسدت عروقها، قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها، فهي كالصحيحة. وإن قالوا: لا يرقأ دمها، لم تقطع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه. ويعدل إلى الرجل. وإن سرق وله يد صحيحة، فلم تقطع حتى ذهبت بآكلة، أو نحوها، سقط الحد؛ لأن الحد تعلق بها، فسقط بذهابها، كما لو مات من عليه الحد.
فصل
فإن سرق ثانياً، قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى كذا هاهنا، وإنما قطعت اليسرى للرفق به؛ لأنه يتمكن من المشي على خشبة. ولو قطعت يمناه، لم يمكنه ذلك. وموضع القطع المفصل؛ لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها أحد المقطوعين فتقطع من المفصل. كاليد.
فصل
فإن سرق ثالثة، ففيه روايتان:
إحداهما: يحبس، ولا يقطع غير يد ورجل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه(4/82)
قال: إني لأستحيي من الله ألا أدع له يداً يبطش بها، ولا رجلاً يمشي عليها؛ ولأن قطعها يفوت منفعة الحبس، فلم يشرع، كالقتل.
والثانية: تقطع يده اليسرى، فإن عاد، فسرق مرة رابعة، قطعت رجله اليمنى؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنها يد تقطع قوداً، فجاز قطعها في السرقة كاليمنى، ولأن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قطعا اليد اليسرى في المرة الثالثة. فإن سرق بعد قطع يديه ورجليه، حبس وعزر، وكذلك إن سرق ثالثة على الرواية الأولى، فإنه يحبس ولا يقطع؛ لما روى سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر بن الخطاب برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر أن تقطع رجله، فقال علي: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية. وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إما أن تعزره، أو تستودعه السجن، فاستودعه السجن.
فصل
فإن سرق ويده اليمنى صحيحة، واليسرى مقطوعة، أو شلاء، انبنى على الروايتين، فإن قلنا: إن يسراه تقطع في المرة الثالثة، قطعت يمناه هاهنا؛ لأنها موجودة، وسبب قطعها متحقق. وإن قلنا: لا تقطع يسراه، لم تقطع يمينه؛ لأن قطعها يفوت منفعة الحبس، ويتركه لا يد له يبطش بها، وكذلك إن كانت يسراه صحيحة فقطعت، أو شلت قبل يمينه، فالحكم على ما ذكرنا. وإن كانت اليد قد قطعت أصابعها، أو معظمها، فهو كقطعها؛ لأنه يفوت منفعة البطش.
فصل
وإذا وجب قطع يمنيه، فقطع القاطع يساره، أساء، وأجزأ، ولا تقطع يمينه، لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة، ولأن قطعها يفوت منفعة البطش، ويتخرج على الرواية التي تقول: تقطع أربعته، أن تقطع يمناه، كما لو قطعت يسراه عدواناً، فعلى هذا إن كان السارق أخرجها عمداً عالماً أنها لا تجزئ، فلا ضمان على قاطعها؛ لأنه قطعها بإذنه. وإن أخرجها دهشة، أو ظناً أنها تجزئه، فعلى القاطع ضمانها بالقصاص إن تعمد، وبالدية إن كان جاهلاً بالحال؛ لأنه قطع يداً معصومة عمداً، فضمنها، كما لو قطع يد غير السارق.(4/83)
فصل
ومتى تكررت منه السرقة ولم يقطع، أجزأ قطع يده عن جميعها. وذكر القاضي فيما إذا طالب الجماعة متفرقين رواية أخرى: أنها لا تتداخل، والصحيح الأول ويقطع للثانية؛ لأنها أسباب حد تكررت قبل استيفائه فيجزئ حد واحد، كسائر الحدود. فأما إن قُطع بسرقة، ثم عاد فسرق، قُطع ثانية، سواء سرق العين التي قطع بها، أو لا أو غيرها، من المسروق منه الأول أو من غيره؛ لأنه حد يجب بفعل في عين، فكان تكرره في عين واحدة كتكرره في أعيان، كالزنا.
فصل
ويسن تعليق يد السارق بعد قطعها في عنقه؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» رواه أبو داود. وفعل ذلك علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالذي قطعه؛ ولأنه أبلغ في الزجر. ولو قال السارق: أنا أقطع نفسي، لم يُمَكَّن؛ لأنه حق عليه، فلم يُمَكَّن من استيفائه من نفسه، كالقصاص.
فصل
وإذا قطع، فإن كان المسروق قائماً، رد إلى مالكه؛ لأنه ملكه، فرد إليه، كما قبل القطع. وإن كان تالفاً، فعلى السارق ضمانه؛ لأنه مال آدمي تلف تحت يد عادية، فوجب ضمانه، كالذي تلف في يد الغاصب، ولأن الضمان يجب للآدمي، والحد لحق الله تعالى، فوجبا جميعاً، كالدية، والكفارة في قتل الآدمي.
[باب حد الزنا]
الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام، بدليل قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . «وروى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» . متفق عليه.
فصل
والزنا: هو الوطء في الفرج لا يملكه، ولا يجب الحد بغير ذلك، لما روى ابن(4/84)
عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لماعز: «لعلك قبلت، أو غمزت قال: لا. قال: أفنكتها لا يكني. قال: نعم. قال: فعند ذلك رجمه» . رواه البخاري. وفي رواية عن أبي هريرة قال: «أنكتها. قال: نعم، قال: حتى غاب ذاك منك في ذاك منها قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة، والرشاء في البئر؟ قال: نعم» . رواه أبو داود.
وأدناه أن تغيب الحشفة في الفرج؛ للخبر، ولأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، لا بما دونه، وسواء كان الفرج قبلاً، أو دبراً؛ لأن الدبر فرج مقصود، فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل، ولأنه إذا وجب الحد بالوطء في القبل وهو مما يستباح، فلأن يجب الوطء في الدبر الذي لا يستباح بحال أولى، ولو تلوط بغلام، لزمه الحد كذلك، وفي حده روايتان:
إحداهما: يجب عليه حد الزنا، يرجم إن كان ثيباً، ويجلد إن كان بكراً؛ لأنه زان، بدليل ما روى أبو موسى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إذا أتى الرجلُ الرجلَ، فهما زانيان. وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان» ولأنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب، كالزنا بالمرأة.
والثانية: حده القتل، بكراً كان أو ثيباً؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود. وفي لفظ: «فارجموا الأعلى والأسفل» واحتج أحمد بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرى رجمه؛ ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك. وإن وطئ الرجل امرأة ميتة، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم لا شبهة له فيه، أشبه الحية.
والثاني: لا يجب؛ لأنه لا يقصد، فلا حاجة إلى الزجر عنه.
وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان:
إحداهما: يُحَدّ؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه أبو داود. ولما ذكرنا فيما تقدم.(4/85)
والثانية: لا يحد، ولكن يعزر؛ لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس، وهذا مما تعافه وتنفر عنه.
فإن قلنا: يحد، ففي حده وجهان:
أحدهما: القتل للخبر.
والثاني: كحد الزنا؛ لما ذكرنا في اللائط. وإن تدالكت المرأتان، فهما زانيتان، للخبر، ولا حد عليهما؛ لأنه لا إيلاج فيه، فأشبه المباشرة فيما دون الفرج، وعليهما التعزير؛ لأنها فاحشة لا حد فيها، أشبهت المباشرة دون الفرج.
فصل
ولا يجب الحد إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يكون الزاني مكلفاً، كما ذكرنا في السرقة، فإن كان أحد الزانيين غير مكلف، أو مكرهاً، أو جاهلاً بالتحريم، وشريكه بخلاف ذلك، وجب الحد على من هو أهل للحد، دون الآخر؛ لأن أحدهما انفرد بما يوجب الحد، وانفرد الآخر بما يسقطه، فثبت في كل واحد منهما حكمه، دون صاحبه كما لو كان شريكه فذاً. وإن كان أحدهما محصناً، والآخر بكراً. فعلى المحصن حد المحصنين، وعلى البكر حد الأبكار كذلك. وإن أقر أحدهما بالزنا، دون الآخر، حُدّ المقر وحده؛ لما روى سهل بن سعد «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه قد زنى بامرأة، فسماها له، فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون قد زنت، فجلده الحد، وتركها.» رواه أبو داود؛ ولأن عدم الإقرار من صاحبه لا يبطل إقراره، كما لو سكت.
فصل
الشرط الثاني: أن يكون مختاراً، فإن أكرهت المرأة، فلا حد عليها، سواء أكرهت بالإلجاء أو بغيره، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب قال: أتي عمر بامرأة قد زنت، قالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي، فخلى سبيلها ولم يضربها. وروي: أنه أتي بامرأة قد استسقت راعياً، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها. فقال لعلي: ما ترى فيها؟ فقال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئاً وتركها. فأما الرجل إذا أكره بالتهديد، فقال أصحابنا: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة،(4/86)
والاختيار، بخلاف المرأة، ويحتمل أن لا يجب عليه حد، لعموم الخبر، ولأن الحد يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها. فأما إن استدخلت امرأة ذكره وهو نائم، فلا حد عليه؛ لأنه غير مكلف، ولم يفعل الزنا.
فصل
والثالث: أن يكون عالماً بالتحريم، ولا حد على من جهل التحريم؛ لما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: لا حد إلا على من علمه. وروى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة، قالوا: ما تقول؟ قال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب: إن كان يعلم أن الله حرمه، فحدوه، وإن لم يكن علم، فأعلموه، فإن عاد فارجموه. وسواء جهل تحريم الزنا، أو تحريم عين المرأة، مثل أن تزف إليه غير زوجته، فيظنها زوجته، أو يدفع إليه غير جاريته، فيظنها جاريته، أو يجد على فراشه امرأة يحسبها زوجته أو جاريته، فيطأها، فلا حد عليه؛ لأنه غير قاصد لفعل المحرم. ومن ادعى الجهل بتحريم الزنا، ممن نشأ بين المسلمين، لم يصدق؛ لأننا نعلم كذبه. وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو بإفاقة من جنون، أو ناشئاً ببادية بعيدة عن المسلمين، صدق؛ لأنه يحتمل الصدق، فلم يجب الحد مع الشك في الشرط. وإن ادعى الجهل بتحريم شيء من الأنكحة الباطلة، كنكاح المعتدة، أو وطء الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى الجهل بالتحريم قُبِلَ؛ لأن تحريم ذلك يحتاج إلى فقه، ويحتمل أن لا يقبل، إلا ممن يقبل قوله في الجهل بتحريم الزنا؛ لأنه زنا، والأول أصح؛ لما روي عن عبيد بن نضلة قال: رفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة تزوجت في عدتها، فقال: هل علمتما؟ فقالا: لا. قال: لو علمتما لرجمتكما، فجلده أسواطاً، ثم فرق بينهما. وإن ادعى الجهل بانقضاء العدة، قبل إذا كان يحتمل ذلك؛ لأنه مما يخفى.
فصل
الرابع: انتفاء الشبهة، فلا حد عليه بوطء الجارية المشتركة بينه وبين غيره، أو وطء مكاتبته، أو جاريته المرهونة، أو المزوجة، أو جارية ابنه، أو وطء زوجته أو جاريته في دبرها، ولا بوطء امرأة في نكاح مختلف في صحته، كالنكاح بلا ولي أو بلا شهود، ونكاح الشغار، والمتعة، وأشباه ذلك؛ لأن الحد مبني على الدرء والإسقاط بالشبهات، وهذه شبهات فيسقط بها.
فصل
فأما الأنكحة المجمع على بطلانها، كنكاح الخامسة، والمعتدة، والمزوجة،(4/87)
ومطلقته ثلاثاً، وذوات محارمه من نسب، أو رضاع، فلا يمنع وجوب الحد، لما ذكرنا من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو بكر بإسناده عن خلاس عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه رفع إليه امرأة تزوجت ولها زوج، فكتمته، فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة، ولأنه وطء محرم بالإجماع في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه وطأها قبل العقد. وفي حد الواطئ لذات محرمه بعقد أو بغير عقد، روايتان:
إحداهما: حده حد الزنا؛ لعموم الآية والخبر فيه.
والثانية: يقتل بكل حال، لما «روى البراء قال: لقيت عمي ومعه الراية، قال: فقلت: إلى أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.» قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى ابن ماجه بإسناده عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه» .
فصل
فإن ملك من يحرم عليه بالرضاع، كأمه، وأخته، فوطئها، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الحد؛ لأنها لا تستباح بحال، فأشبهت المحرمة بالنسب.
والثاني: لا حد عليه؛ لأنها مملوكته، فأشبهت مكاتبته. بخلاف ذات محرمه من النسب. فإنه لا يثبت ملكه عليها، ولا يصح عقد تزويجها.
فصل
وإن استأجر أمة ليزني بها، أو لغير ذلك، فزنى بها، فعليه الحد؛ لأنه لا تصح إجارتها للزنا، فوجوده كعدمه، ولا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم. ومن وطئ جارية غيره، أو زوجته بإذنه، فهو زان عليه الحد؛ لأنه لا يستباح بالبذل والإباحة، سواء كانت جارية أبيه، أو أمه، أو أخته، أو غيرهم، إلا جارية ابنه، لما ذكرنا، وذكر ابن أبي موسى قولاً في الابن يطأ جارية أبيه: لا حد عليه؛ لأنه لا يقطع بسرقة ماله، فلا يلزمه حد بوطء جاريته، كالأب، وجارية زوجته، إذا أذنت له في وطئها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم بكراً كان، أو ثيباً، ولا تغريب عليه؛ لما روى حبيب بن سالم أن عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ إن كانت أحلتها لك، جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك، رجمتك بالحجارة، فوجدوه قد أحلتها له،(4/88)
فجلده مائة. رواه أبو داود.
فإن علقت منه. فهل يلحقه نسبه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يلحق به؛ لأنه وطء لا حد فيه، أشبه وطء الأمة المشتركة.
والثانية: لا يلحق به؛ لأنه وطء في غير ملك، ولا شبهة ملك، أشبه ما لو لم تأذن له.
فصل
الخامس: ثبوت الزنا عند الحاكم؛ لما ذكرنا في السرقة، ولا يثبت إلا بأحد شيئين: إقرار، أو بينة؛ لأنه لا يعلم الزنا الموجب للحد إلا بهما، ويعتبر في الإقرار ثلاثة أمور:
أحدها: أن يقر أربع مرات، سواء كان في مجلس واحد، أو مجالس؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى رجل من الأسلميين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أبك جنون قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارجموه» متفق عليه. ولو وجب الحد بأول مرة، لم يعرض عنه. وفي حديث آخر: «حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك قد قلتها أربع مرار، فبمن؟ قال: بفلانة» . رواه أبو داود. وفي حديث، «فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - له عند النبي: إن أقررت أربعاً، رجمك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
الأمر الثاني: أن يذكر حقيقة الفعل؛ لما روينا في أول الباب، ولأنه يحتمل أن يعتقد أن ما دون ذلك زنا موجب للحد، فيجب بيانه. فإن لم يذكر حقيقته، استفصله الحاكم، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بماعز.
الثالث: أن يكون ثابت العقل. فإن كان مجنوناً، أو سكراناً، لم يثبت بقوله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «أبك جنون» وروي أنه استنكهه، ليعلم أبه سكر، أم لا، ولأنه إذا لم يكن عاقلاً، لا تحصل الثقة بقوله.
فصل
وإن ثبتت ببينة، اعتبر فيهم ستة شروط:(4/89)
أحدها: أن يكونوا أربعة؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] . وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم؛ لأن في شهادة النساء شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
والثالث: أن يكونوا أحراراً؛ لأن شهادة العبيد مختلف فيها، فيكون ذلك شبهة فيما يدرأ بالشبهات.
الرابع: أن يكونوا عدولاً؛ لأن ذلك مشترط في سائر الحقوق، ففي الحد أولى.
الخامس: أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها، كالمرود في المكحلة؛ لما ذكرنا في الإقرار.
السادس: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، سواء جاءوا جملة، أو سبق بعضهم بعضاً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة، حدهم حد القذف، ولو لم يشترط المجلس، لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو جاء الرابع بعد حد الثلاثة، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس، لوجب أن يقبل.
فصل
وإن حبلت امرأة لا زوج لها، ولا سيد، لم يلزمها حد؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه: أتى بامرأة ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، ووقع علي رجل، وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد؛ ولأنه يحتمل أن يكون من وطء شبهة، أو إكراه. والحد يدرأ بالشبهات. ولا يجوز للحاكم أن يقيم الحد بعلمه؛ لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه متهم في حكمه بعلمه، فوجب أن لا يتمكن منه مع التهمة فيه.
فصل
ومن وجب عليه حد الزنا، لم يخل من أحوال أربعة:
أحدها: أن يكون محصناً، فحده الرجم حتى الموت؛ لما روي عن عمر بن(4/90)
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن الله بعث محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى وقد أحصن من الرجال والنساء إذا قامت ببينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، متفق عليه؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية، ورجم الخلفاء بعده. وهل يجب الجلد مع الرجم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجب؛ لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فلما وجب الرجم بالسنة، انضم إلى ما في كتاب الله تعالى، ولهذا قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شراحة: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . رواه مسلم.
والثانية: لا جلد عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزاً والغامدية، ولم يجلدهما. وقال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . ولم يأمره بجلدها، ولو وجب لأمر به، ولأنه معصية توجب القتل، فلم توجب عقوبة أخرى، كالردة.
الثاني: الحر غير المحصن، فحده مائة جلدة وتغريب عام؛ للآية وخبر عُبادة.
الثالث: المملوك، فحده خمسون جلدة بكراً كان أو ثيباً، رجلاً أو امرأة، لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . والعذاب المذكور في الكتاب مائة جلدة، فنصف ذلك خمسون، ولا تغريب عليه؛ لأن تغريبه إضرار بسيده دونه، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن. فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» متفق عليه. ولم يأمر بتغريبها.(4/91)
الرابع: من بعضه حر، فحده بالحساب من حد حر وعبد. فالذي نصفه حر، حده خمس وسبعون جلدة، وتغريب نصف عام؛ لأنه يتبعض، فكان في حقه بالحساب، كالميراث.
والمكاتب، وأم الولد، والمدبر حكمهم حكم القن في الحد؛ لأنهم عبيد، ومن لزمه حد وهو رقيق، فعتق قبل إقامته، فعليه حد الرقيق؛ لأنه الذي وجب عليه. ولو زنى ذمي حر، ثم لحق بدار الحرب، فاسترق، حد حد الأحرار كذلك.
فصل
والمحصن: من كملت فيه أربعة أشياء:
أحدها: الإصابة في القبل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولا يكون ثيباً إلا بذلك.
الثاني: كون الوطء في نكاح. فلو وطئ بشبهة، أو زنا، أو تسرية، لم يصر محصناً، للإجماع، ولأن النعمة إنما تكمل بالوطء في ذلك. ولو وطئ في نكاح فاسد، لم يصر محصناً؛ لأنه ليس بنكاح في الشرع، ولذلك لا يحنث به الحالف على اجتناب النكاح.
الثالث: كون الوطء في حال الكمال بالبلوغ، والعقل، والحرية؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . فلو كان الوطء بدون الكمال إحصاناً، لما علق الرجم بالإحصان؛ لأنه من لم يكمل بهذه الأمور، لا يرجم، ولأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال الكمال.
الرابع: أن يكون شريكه في الوطء مثله في الكمال؛ لأنه إذا كان ناقصاً لم يحصل الإحصان، فلم يحصل لشريكه كوطء الشبهة.
ولا يشترط الإسلام في الإحصان؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بيهوديين زنيا فرجمهما» .
وإن تزوج مسلم ذمية، فأصابها، صارا محصنين؛ لكمال الشروط الأربعة فيهما.
فصل
ومن حرمت مباشرته بحكم الزنا واللواط، حرمت مباشرته فيما دون ا