شَرْح كتاب
آداب المشي إلَى الصَّلاة
لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله تعالى
شَرْح
فضيلة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن السعد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛
فاللهَ نسأل التوفيق والسَّداد، وأن يَرْزُقَنا الإخلاص والصِّدق معه - - سبحانه وتعالى - -، وأن يُفَقِّهَنا في دِيننا، ويُعَلِّمنا ما شَرَعَه رَبُّنا - - عز وجل - - لنا.
وبعد؛ فهذا شَرْحٌ لكتاب " آداب المشي إلى الصلاة " / للشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) - رحمة الله عليه -، والذي تَحَدَّثَ فيه عَن الآداب التي ينبغي للمُسْلِم أن يتأدب بها عند خروجه إلى بيت الله لأداء الصلاة، وذَكَرَ ما جاء من السُّنن والأدْعية الوَارِدَة في ذلك.
ثم ذَكَرَ المُصَنِّف - رحمه الله تعالى - صِفَة الصلاة وما يتعلق بها من أحكام، ثم ما يتعلق بالصلوات المفروضة، ثم وجوب صلاة الجماعة، ثم صلاة الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء، ثم تحدث عن بعض ما يتعلق بالصلاة.
وتحدث بعد ذلك عن الجنائز وما يتعلق بها من أحكام. ثم الزكاة وما يتعلق بها من أحكام - مِثل: ما أوجبه الله - - عز وجل - - مِن الزَّكَوات في الأموال التي أمر الله - - سبحانه وتعالى - - أن تُخرج منها -. ثم تحدث بعد ذلك عن أحكام الصيام ومُفْسِدَاته.
كل هذه الأمور تحدث عنها الشيخ - رحمه الله تعالى - في هذه الرسالة.
ويبدو - والله أعلم - أن الشيخ - رحمه الله تعالى - اختار هذه المسائل في الحديث عنها دون غيرها؛ لأهميتها، وحاجة الناس إليها أكثر مِن غيرها مِن الأرْكان - كالحَجِّ مثلًا -، ولأن كل إنسان مُطالَب بأن يعرف ويفهم هذه المسائل:
فالصلاة والزكاة والصيام كلها أركان واجبة على الجميع:
أ- فالصلاة: تتكرر في اليوم خمس مرات. هذا فيما يتعلق بالصلوات المفروضة غير النوافل.(1/1)
ب- والزَّكاة: هي قرينة الصَّلاة؛ فدائمًا يَقْرِن رَبُّنا - - عز وجل - - ما بين الصلاة والزكاة؛ فهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وقد جاء في "الصحيحين"(1) من حديث يحيى بن عبد الله بن صَيْفِي عن أبي مَعْبَد نافذ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله ? لَمَّا بَعَثَ مُعاذًا - - رضي الله عنه - - على اليمن؛ قال: " إنَّك تَقْدُم على قَومٍ أهْلِ كِتابٍ؛ فَلْيَكُن أول ما تدعوهم إليه عِبادَة الله، فإذا عَرَفوا الله؛ فأخبرهم أن الله قد فَرَضَ عليهم خمس صلوات في يَومهم وليلتهم، فإذا فَعَلوا فأخبرهم أن الله قد فَرَضَ عليهم زَكاةً مِن أموالهم وتُرَدُّ على فُقَرائهم. فإذا أطاعوا بها فَخُذ مِنهم، وتَوَقَّ كرائِمَ أموال الناس ".
كما أنَّه تكثر الحاجة إلى مَعْرِفَة أحكام الزكاة، خاصة في الأموال التي تجب فيها الزكاة - فهي متنوعة -. والزكاة - كما سيأتي - تنقسم إلى قِسْمَين:
1- زكاة مفروضة: وهي المقصودة بلفظة ( الزكاة ) إذا أُطْلِقَت.
2- زكاة مستحبة: والمقصود بها الصَّدَقَات.
فالإنسان لا يخلو من كونه فقيرًا يحتاج إلى أن يأخذ الزكاة، أو غَنيًّا: تجب عليه الزكاة في ماله - كزكاة الفطر وغيرها -، أو مُتَصَدِّقًا؛ فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق بإخراجها.
ج- والصيام يَتَكَرَّر في كل عام مَرَّة؛ فلذا كانت معرفة أحكامه مُهِمَّة.
وفي حَديث مُعاذ بن جبل - رضي الله عنه - السابق: أمره الرسول ? بتعليم الناس هذه الأمور.
فلذا تَحَدَّث الشيخ - رحمه الله تعالى - في هذه الرسالة عن هذه الأُمور فقط.
وأما ما يتعلق بتوحيد الله - الذي هو الأساس والأصل -: فقد تحدث عنه في كُتُبه ورسائله الأخرى.
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - في عِدَّة مواضِعَ مِن " صحيحه ": ( 1458، 1395، 1496، 7372 )، ومسلم ( 19 ).(1/2)
ولم يتحدث - رحمه الله تعالى - في هذه الرسالة عن الرُّكْن الخامِس مِن أرْكان الإسلام؛ وهو الحج والعمرة - مَع أهميته ومكانته -؛ ويَرْجِع ذلك لِسَبَبين - والله أعلم -:
الأول: أنه تحدث عنهما في بعض كُتُبِه الأخرى(1).
الثاني: لأنَّ الحج لا يجب إلا على المستطيع، وحاجة الناس إلى تعلم مناسك الحج ليست كحاجة الناس إلى تَعَلُّم بقية أركان الإسلام - كالصلاة والزكاة والصيام -، فأهمية هذه الأركان - التي قبله - أكبر وحاجة الناس إليها أكثر. كما أنَّه لا يجب إلا مرة واحدة في العمر، بِخِلاف بقية الأرْكان.
ولهذا الكتاب - "آدابُ المشي إلى الصلاة " - شَرْحٌ مطبوع، جَمَعَه الشيخ ( محمد بن عبدالرحمن بن قاسم ) - رحمه الله - من كلام شيخه الشيخ ( محمد بن إبراهيم آل الشيخ ) - رحمه الله -؛ فينبغي الاطلاع عليه.
وللشيخ - رحمه الله - مؤلفات أخرى فيما يتعلق بالفقه.
( 1 ) وقد اختصر كُتُبًا عديدة(2)
__________
(1) مِثل: " مُخْتَصَر الإنصاف والشَّرح الكبير ". أمَّا كِتاب " الإنصاف في مَعرِفَة الرَّاجِح مِن الخِلاف على مَذهب الإمام أحمد بن حنبل " فهو مِن تأليف الإمام المَرْداوي. وكِتاب " الشَّرح الكبير " لعبد الرحمن بن أبي عُمر المقدسي، وهو كتاب مَشهور مطبوع مُتداوَل، استمد مؤلِّفه أكثرَه مِن كِتاب " المغني" الذي قرأه على مؤلِّفه شيخه وعَمِّه الموفق ( ابن قدامة ) - رحمهما الله تعالى -. وهو - أي صاحب " الشرح الكبير " - مِن مَشايخ الإمام ( ابن تيمية ) - رحمة الله على الجميع -. (السعد).
(2) لا شَكَّ أن في التلخيص والاختصار فوائد كبيرة؛ منها:
أولًا: فوائده على المُلخِص والمُختصِر نفسه؛ لأنَّه سَيَمُرُّ على الكتاب حتى يستطيع تلخيصه، ثُمَّ تبقى وتَرْسَخ المسائل في ذهنه مِن خِلال التَّلخيص والاختصار.
ثانيًا: انتفاع الناس بعده بهذه المُلَخَّصات؛ لأنَّها تُوَفِّر الوقت والجُهد وتأتي على مَقْصود المؤلف مِن كِتابه.
ثالثًا: حِفْظ الكتاب الأصل؛ فهناك كتب ضاعت وبَقيت مُخْتَصَراتها؛ ومِن تلك الكُتُب: كِتاب " قيام الليل " / لمحمد بن نصر المَرْوَزي، وهو مِن كبار الأئمة الحُفَّاظ في زَمَنِه: فهذا الكتاب غَير موجود - فيما نعلم -، لكن وُجِدَ مُخْتَصره للإمام المقريزي - رحمه الله -.
رابعًا: حُصول الثواب والأجْر للمُؤلِّف وللمُخْتَصِر. ( السعد ).(1/3)
- سواء كان فيما يتعلق بالاعتقاد أو فيما يتعلق بغير الاعتقاد -:
فمثلًا فيما يتعلق بالاعتقاد:
أ- اختصر كتاب " الاستغاثة " / للإمام ( ا بن تيمية ) - رحمه الله تعالى -.
ب- واختصر له كذلك مسائل عديدة موجودة في الكتاب المسمى بـ " مُلْحَق المصنفات والرسائل / للإمام محمد بن عبدالوهاب "، التي جُمعت وصُنِّفَت ورُتِّبَت وقُسِّمَت إلى أقسام ضمن مجموعه - رحمه الله -.
وهذه المسائل الملخصة مسائل مهمة جِدًّا ينبغي لطالب العلم أن يطلع عليها وأن يستفيد منها ويرجع إليها.
ج- وَلَخَّص مبحث الإمام ( ابن القيم ) - رحمه الله تعالى - المُتَعَلِّق بمسائل الاجتهاد والتقليد، الذي بَحَثَه في كتابه " إعلام الموقعين "؛ حيث أنَّه بَيَّن هُناك وذكَّر الأمة بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ?.
د- وقيل أن له - أيضًا - مختصرًا لـ " فتح الباري " / للحافظ ( ابن حجر العسقلاني ) - رحمه الله -، ولكن لا يُعلم أنه موجود.
( 2 ) ومن الكتب التي ألفها الشيخ - في العقيدة وغيرها - استقلالًا:
1ـ كتاب التوحيد.
2ـ كشف الشُّبُهات.
3ـ فضل الإسلام.
4ـ مُفيد المُستفيد في كُفْر تارِك التوحيد. أو: شرح حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -.
5ـ أصول الإيمان.
6ـ ثلاثة الأصول.
7ـ مسائل الجاهلية.
8ـ الرد على الرافضة.
9ـ فضائل الصلاة.
10ـ تفسير المُعَوِّذَتَيْن.
11ـ مجموعة الحديث.
وغيرها كثير.
وقد طُبِعَ أكثر هذه الكُتُب في: " مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب "، عام 1398هـ، في الرياض، بإشراف جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
منهج الشيخ رحمه الله:(1/4)
انتَهَج الشيخ - رحمه الله - لِنَفسِه اتباع الدليل، وكثرة استدلاله بالنصوص من الكتاب والسنة، وكان يحث ويدعو إلى اتباع ما جاء فيهما، وعُرِفَ بذلك، وكان يُحَذِّر مِن التقليد الأعمى؛ ولذلك لَمَّا سأله سائل: ما هو الراجح في المذهب فيما يتعلق بهذه المسألة - وذَكَرَ مسألة -؟ فَرَدَّ عليه الشيخ - رحمه الله - قائلًا: " ينبغي لك أن تسأل: ما هو الراجح مِن حيث الدليل؟ "(1).
ولذا؛ فهناك مسائل كثيرة أفتى الشيخ فيها ورَجَّحَ ما دَلَّ عليه الدليل عِندَه، وخالف ما اشتهر عِندَ مَن تأخر مِن الحنابلة؛ حَتَّى أنَّه قال(2): " أكثر ما في " الإقناع " و" المنتهى "(3) مُخَالِفٌ لِمَذْهَب الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -، عَرِفَ ذلك مَن عَرَفَه... ".
وسأذُكُر - هنا - بَعْض المسائل التي خالف فيها الشيخُ المذهبَ:
( 1 ) مسألة: تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام(4): رَجَّح الشَّيْخ أن الماءَ قِسْمَان فقط(5). وسيأتي زيادَة بَسْطِ هذه المسألة - بعد قليل - في المِثال الثاني مِن القاعدة الثانية مِن القواعد الأربع(6).
__________
(2) " الدُّرر السَّنية في الأجوبة النَّجدية ": ( 1 / 45 ).
(3) " الإقناع " / للإمام الحجاوي، و" مُنتهى الإرادات في جَمع المُقْنِع والتَّنقيح وزيادات " / للإمام البُهُوتي - رحمهما الله تعالى -، وهُما عُمدَة الفَتْوَى عِندَ مُتأخِرِي الحنابِلَة.
(4) راجع: " المغني ": ( 1 / 24 )، و" المجموع ": ( 1 / 84 ).
(5) كما في كِتابِه " القواعِد الأربْعَ التي تدور عليها الأحكام "، المسألة الأولى.
(6) ص؟؟؟.(1/5)
( 2 ) مسألة: فَضْل طَهُور المرأة ( حُكْم استعمال الماء الذي توضأت به المرأة في الطَّهارَة ): لا يجوز - في المشهور عند الحنابلة للرجل استعماله - (1): وَرَجَّح الشيخ خِلافَ ذلك(1)؛ واستدل: بما جاء في " صحيح مسلم "(2) أن الرسول ?: " كان يَغْتَسِل بفَضْل مَيْمونَة - رضي الله عنها - "؛ وقال(3) أنَّ هذا الحديث أصَحُّ من الأحاديث التي جاءت في النهي عن ذلك، ثُمَّ بَيَّنَ أن هذا النهي إنما هو لكراهة التنزيه وليس للتحريم.
( 3 ) مسألة: إجزاء القيمة في الزَّكاة: رَجَّح الشيخُ(4) - خِلافًا للحنابلة(5) - جَواز إخراج المال بدلًا مِنَ الأعْيَان.
فالشَّيخ مَعروف باتباعه للدليل، ومَن قال بأن الشيخ - رحمه الله - كان مُقَلِّدًا ومُتَعَصِّبًا... إلخ: فهذا الكلام ليس بصحيح؛ بل بلغ الشيخ - رحمه الله - درجة الاجتهاد المطلق، وكان مِنْ أعلم الناس في زمانه بكتاب الله - - عز وجل - - وبِسُنَّة رسول الله ?، وهما آلة الاجتهاد؛ فالمُجْتَهِد إنما يحتاج إلى أن يَعْلَمَ ما جاء عن الله وما جاء عن رسول ?.
وأنا أدعو الإخوان بالرجوع إلى مصنفات الشيخ؛ ففيها فوائد نفيسة، وخاصَّةً فيما يتعلق بالضوابط والقواعد التي ينبه عليها الشيخ - رحمه الله -.
فهذا بعض ما يتعلق بالكتب التي ألفها الشيخ - رحمه الله -، وبعض ما يتعلق بمنهجه الفقهي.
q q q
أربع قواعد تدور الأحكام عليها:
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 136 )، و" الُفروع ": ( 1 / 55 )، و" كشاف القناع ": ( 1 / 36 ).
(2) برقم ( 323 ).
(3) كما في كِتابِه " القواعِد الأربْعَ التي تدور عليها الأحكام "، تحت المسألة الثانية.
(4) راجع: " الدُّرَر السَّنية ": (؟؟؟ )، و" مجموع مؤلفاته ": (؟؟؟ ).
(5) " المغني ": ( 2 / 357 )، " كشاف القناع ": ( 2 / 254 ).(1/6)
طُبِعَ هذا الجزء ضِمْن " مجموع مؤلفات الشيخ " - رحمه الله تعالى- (1)، وهو مَوجود في القِسْم الثاني مِن الفقه، وتقريبًا مطبوع في أربع عشرة صفحة. وهو جزء لَطيف مُفيد جِدًّا:
افتتحه بالتنبيه على أربع قواعد مُهِمَّة جِدًّا، تدخل في كثير من المسائل والقضايا؛ حتى أن الشيخ - رحمه الله تعالى - قال في نهايتها قبل ذِكْر الأمْثِلَة عليها: " واعْلَم - رَحِمَك الله - أنَّ أرْبَع هذه الكلمات - مع اختصارهن - يَدُور عليها الدِّين، سواءً كان المُتَكَلِّم يتكلم في عِلْم التفسير، أو في عِلْم الأُصُول، أو في عِلْم أعمال القلوب - الذي يُسَمَّى عِلْم السلوك -، أو في عِلْم الحديث، أو في عِلْم الحلال والحرام والأحكام - الذي يُسَمَّى عِلْم الفِقْه -، أو في عِلْم الوَعْد والوَعيد، أو في غير ذلك مِن أنواع عُلوم الدين " اهـ.
وقال في نهايتها: " وهي تَدْخُلُ في كُلِّ أبواب العِلْم ". وذَكَرَ الشيخ أدِلَّتها، وضَرَبَ عليها بعض الأمثِلَة التي تَنبَني عليها أو تَدْخُل فيها، وذَكَرَ بعدها قضايا ومسائل هامَّة.
وهذه القواعد الأربع هي:
القاعدة الأولى: تَحْرِيم القَوْل على الله - - عز وجل - - بلا عِلْم:
وهذه قاعِدَة عَظيمة جِدًّا؛ ينبغي علينا وعلى كل مُسْلِم أن يلتَزِمَ بها؛ وأن لا يقول في دين الله - جَلَّ وعَلا - بلا عِلْم؛ فلا شَكَّ أنَّ القَوْلَ على الله - جَلَّ وعَلا - بلا عِلْم مِنْ أعْظَم المُحَرَّمات ومِن أشَدِّ المَنْهيَّات.
__________
(1) " مجموع مؤلفاته ": (3/6: 12، ط دار القاسم )، ويُنظر: " الدُّرَر السَّنيَّة": (4/5).(1/7)
والأدِلَّة على هذه القاعدة مَعْرُوفَة: ذَكَرَ الشيخ - رحمه الله - مِنها: ما جاء في قوله - - عز وجل - -: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) ?.
ولا شَكَّ أنَّ مَا حَصَل مِن الضَّلالِ والانحراف والباطل لم يَحْصُل إلا بسبب القول على الله بلا عِلْم؛ فتجِد الإنسان يُفْتِي بِفَتْوىَ قائمة على الجَهل وعَدَم العِلم، تُخالِف نُصُوص الكتاب والسُّنَّة؛ فيتبعه فِئَام من الناس، ويقعون في الضلال ويقعون في الانحراف - والعِياذُ بالله -.
القاعدة الثانية: أنَّ كُلَّ شَىءٍ سَكَتَ عنه الشَّارِعُ فَهُو عَفْوٌ؛ لا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يُحَرِّمَه أو يُوجِبَه أو يَسْتَحِبَّه أو يَكْرَهه:
ومعناها: أنَّ رَبَّنا - جَلَّ وعَلا - بَيَّن لنا ما حَرَّمَه عَلَيْنَا، وبَيَّن لنا ما أوجبه عَلَيْنا، وما سَكَتَ عنه - - سبحانه وتعالى - - فهو عَفْوٌ لا يجوز لأحد أن يُوجِبَه، كما أنه لا يجوز - أيضًا - لأحد أن يُحَرِّمَه أو يَسْتَحِبَّه أو يكرهه؛ بل هو يكون مِن القِسْم المُبَاح:
وهذه قاعدة عظيمة جِدًّا، جاءت أدلتها في الشَّرْع. وتَدْخُل في مسائل كثيرة - كما ذَكَر الشيخ رحمة الله عليه -. وإذا طُبِّقَت هذه القاعدة فَسَتُحَلُّ إشكالات عَديدة، وسيَنبَني عليها مَعْرِفَة كثير من القضايا والمسائل. وإذا طَرَدتَ هذه القاعدة في كثيرٍ مِن المسائل تَجِد الحُكم الواضِح البَيِّن فيها؛ لأن هناك الكثير مِن القضايا يتكلم عليها أهل العِلْم؛ فيشترطون عليها شُروطًا ويضعون عليها قُيودًا، لم يَذْكُرْها الشَّارِع - - عز وجل - -، كما سيأتي في المِثال الثالث.(1/8)
وقد ضَرَبَ الشيخ - رحمه الله - عليها أمثلة اختارها مِن أبواب كِتاب الطَّهارَة؛ فَذَكَرَ مِن ضِمْنِ هذه الأمثِلَة:
( 1 ) حَديث: " لا يبولَنَّ أحَدكم في الماء الدائِم الذي لا يَجْرِي ثم يغتسِل فيه "، كما ثَبَتَ في " الصحيحين "(1) مِن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: فما حكم استعمال الماء الرَّاكِد الذي بال فيه إنسان؟(2) ذَهَبَ بعض أهل العلم إلى أن هذا الماء لا يجوز استعماله في الطَّهَارَة - وإنَّما هو مَسلوب الطُّهُوريَّة -، وذهب آخَرون إلى أن هذا الماء طَاهِرٌ، يجوز استعماله في الطَّهارَة، ويُرْفَع باستعمالِه الحَدَثُ. واسَتَدَلَّ الفريق الأول بنهيه - عليه الصلاة والسلام - عَن البول في الماء الراكد؛ وقالوا: إنَّما نهى عن هذا الفعل لأن هذا يُفْسِد هذا الماء؛ وبالتالي لا يجوز استعماله. وأما الفريق الثاني - القائلون بطهارته -: فقد استدلوا على ذلك بأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إنما نهى عن البَوْل في الماء الراكد، ولم يَقُل بِنَجَاسَة هذا الماء، أو أنه مَسْلُوب الطُّهوريَّة = يعني: سَكَتَ عَنه الشَّارِع؛ فبما أنه سكت عليه؛ إذن فهو مُبَاح. وانقسم الفريق الأول أيضًا إلى قِسْمَين: فَقِسْمٌ قالوا: الماء نَجِس لا يُسْتَعْمَل في شىء، وقال آخَرون: بل هو طاهِرٌ، ولكنه مَسلوب الطُّهوريَّة = يعني: طاهِر غير مُطَهِّر؛ فلا يُسْتَعْمَل في الطَّهارَة؛ فَقَسَّموا الماء ثلاثة أقسام:
__________
(1) رواه البخاري ( 239 )، ومسلم ( 282 ).
(2) راجع: " المغني ": ( 1 / 31 ).(1/9)
( 2 ) مَسألة: تَقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام(1): ذَهَبَ بعض أهل العِلْم إلى أن الماء ثلاثة أقسام: طَهُور، وطاهِر ( غير مُطَهِّر )، ونَجِس = فقالوا: هناك ماء طاهِر ولكنه مَسلوب الطُّهوريَّة. وهذا القَول فيه نَظَرٌ؛ والصَّحيح أن الماء قِسْمان فقط: طَهُور ونَجِس، وهذا الذي رَجَّحه الشيخ ( محمد بن عبد الوهاب ) وغيره مِن أهْل العِلْم.
ومِمَّا استدل به الفريق الأول هذا الحديث السابق في النَّهِي عَن البول في الماء الرَّاكِد؛ فقالوا: بِمَا أن الماء الراكد نهى عنه الشَّارِع؛ إذن لا يجوز استعماله في الطَّهارَة؛ لأنه مَسلوب الطُّهُوريَّة، ولكنه ليس نَجِسًا = يعني: هو طاهر.
فَرَدَّ عليهم الشيخ - رحمه الله - فقال: إنَّما نَهى الشَّارِعُ فقط عَن البول في هذا الماء، ولم يَنْهَ عن استعماله، ولم يَقُل أن هذا الماء نَجِس؛ فإذن هو مَسْكُوتٌ عَنْه، ومَا سكت عنه فَهُو مُبَاحٌ.
وأنا أذْكُر مِثالًا ثالِثًا يَدْخُل ضِمنَ هذه القاعِدَة:
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 24 )، و" المجموع ": ( 1 / 84 ).(1/10)
( 3 ) مسألة: المَسْح على الخُفَّين: لا شَكَّ أنَّ المسح على الخُفَّين مَشْروعٌ، ولكن اختلف أهْل العِلْم في شُروط الخُفِّ الذي يَجوز المَسْح عليه(1): فذهب بعضُهم إلى أنَّ الخُفَّ لا بُدَّ أن يكون مِن جِلْدٍ، ولا يكون مُخَرَّقًا، ويُمْكِن مُتابعة المَشي عليه.... وغيرها مِن الشُّروط. ولكن؛ ما هي أدِلَّة هذه القيود وهذه الشروط؟ ليس عليها دليلٌ واضِحٌ لِلَّهِ والشَّارِع إنَّما أباح المَسْحَ على الخُفِّ مُطْلَقًا؛ فمَن اشترط مثل هذه الشروط طُولِبَ بالدليل. فكيف وفي " مُصَنَّف عبد الرزاق"(2) عن سُفْيان الثوري - رحمه الله - قال: " وهل كانت خِفَاف المُهاجِرين والأنصار إلا مُخَرَّقَة، مُشَقَّقَة، مُرَقَّعَة؟! "، بينما يقول كثيرٌ مِن أهل العلم: لا يجوز المسح على الخُفِّ المُخَرَّق، وأنه لا بُدَّ أن يكون من كذا... لِلَّهِ مع أنَّه ليس على هذا دَليلٌ واضِحٌ لِلَّهِ
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 180)، و " المجموع ": ( 1 / 495 )، و" الفروع ": (1 / 127 ).
(2) " مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 1 / 194 ).(1/11)
( 4 ): مسألة: المَسْح على العِمامَة: اختلف أهل العِلْم في هذه المسألة(1): فالجُمهور - ومِنهم الشافعية والحنفية والمالكية - على عَدَمِ مَشروعيَّة المَسْح عليها، بينما ذَهَب طائفةٌ مِن أهل العلم؛ كأهل الحديث - ومنهم الحنابلة - إلى مَشروعية المَسْح عليها. ولا شَكَّ أنَّ هذا هو الرَّاجِحُ في هذه المَسألة؛ وقد جاءت بذلك الأدلة الكثيرة؛ فَمِنها: حَديث كعب بن عُجْرَة - وهو في " صحيح مسلم "(2) - عن بلال - رضي الله عنه - أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - " مَسَح على الخُفَّين والخِمَار "، وكَحديث المغيرة بن شُعْبَة(3) وغيرها من الأحاديث الكثيرة(4).
ومَع ذلك؛ فقد اشترط بَعْضُ الذين قالوا بمشروعية المسح على العمامة - وهو الصواب - شُروطًا ليس عليها دليل واضِح: كأن تكون العمامة مُحَنَّكَة، وأن يكون لها كذا وكذا. ولكن: ما هو الدليل على هذه الشُّروط والقُيود؟ ليس على هذا دليلٌ واضِحٌ لِلَّهِ
فإذن؛ نَخْرُج مِن هذه القاعِدَة الهامَّة وأمثلتها التطبيقية: بأنَّ كُلَّ شىء سكت عنه الشارع لا يجوز لأحد من الناس أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه.
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 184 )، و" المجموع ": ( 1 / 407)، و" الفروع ": (1 / 130 ).
(2) رواه مسلم ( 275 )، والترمذي ( 101 )، والنسائي ( 104 )، وابن ماجه ( 561 ).
(3) رواه مسلم ( 274 )، والترمذي ( 100 )، وأبو داود ( 150 )، والنسائي ( 107 ).
(4) في الباب: حديث ثوبان وسلمان الفارسي وعمرو بن أُمَيَّة - - رضي الله عنهم - -.(1/12)
القاعدة الثالثة: أنَّ تَرْكَ الدَّليل الوَاضِح، والاسْتِدْلال بِلَفْظٍ مُتَشَابِه = هو طريق أهل الزَّيْغ - كالرَّافِضَة والخَوارِج -: قال - تعالى -: ? فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ?. والوَاجِبُ على المُسْلِم اتباع المُحْكَم. وإنْ عَرَفَ معنى المُتَشَابِه وَجَدَه لا يُخَالِف المُحْكَم؛ بل يُوافِقه، وإلا؛ فالوَاجِب عَلَيْه اتِّبَاع الرَّاسِخِين في قولهم: ? آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ?:
ومَعناها: أنَّ اتِّبَاع المُتَشَابِه وتَرك اتِّبَاع المُحْكَم مِن طُرُق الاستدل عِندَ أهل البِدَع والضَّلال، وهو طريقة أهْل الزَّيْغ - مِن الرَّافِضَة وغيرهم -، وأصْل مِن أُصُولِ الفِرَق الضالَّة، وهو سَبَبٌ مِن أسباب انحرافهم.
ودليل هذه القاعِدَة: قول الله - - عز وجل - - ? هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ د&خ#ƒحrù's? ?.
وهذه القاعِدَة مُهِمَّة جِدًّا، وتَدْخُل في جَميع أبواب العِلْم.
ونَضْرِب عليها بَعْضَ الأمثلة:(1/13)
( 1 ) قال الله - - عز وجل - -: ? وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) ?: اتَّبَع الخوارِجُ المُتَشابِه وتَرَكوا المُحْكَم؛ فقالوا:تُفيد هذه الآية أنَّ القاتل مُخَلَّدٌ في النار؛ فهو - إذَن - كافر؛ لأنَّه لا يُخَلَّد في النار إلا الكُفَّار لِلَّهِ واستدلوا - أيضًا - بأدلة أُخْرَى على أن مُرْتَكِبَ الكبيرة يكون كافرًا لِلَّهِ وتَغَافَلوا عَن الأدلة الأخرى التي تَنفي عَن القاتِل الكُفْر، وتُسمِّيه مؤمِنًا؛ مثل ما جاء في قول الله - - عز وجل - - ? وَإِنْ بb$tGxےح!$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ?، وكما جاء في قوله - - عز وجل - - ? فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ?: فَسَمَّى اللهُ - - عز وجل - - القَاتِلَ أخًا للمقتول؛ ولو كان كافرًا لما سُمِّي أخًا له. ومِن الأدلة - أيضًا -: ما جاء في " صحيح مسلم "(1) من حديث أبي الزُّبَيْر عن جابر - - رضي الله عنه - - في قصة الرَّجُل الذي قَطَعَ براجِمَه حتى خَرَج الدَّم مِنها فمات = يعني: قَتَلَ نفسه، وكان مِن قَوم الطُّفَيْل بن عَمْرو الدَّوْسي، فرآه الطُّفَيْل في مَنامِه، فرآه وهَيئته حَسَنة، ورآه مُغَطِّيًا يَدَيْه؛ فقال له: ما صَنَعَ بِك رَبُّك؟ فقال: غَفَر لي بِهِجْرَتي إلى نَبيِّه ?. فقال: ما لي أراك مُغَطِّيًا يَدَيْك؟ قال: قيل لي: لَن نُصْلِحَ مِنك ما أفْسَدتَ. فَقَصَّها الطُّفَيْل على رسول الله ?؛ فقال رسول الله ?: " اللهمَّ ولِيَدَيْه فاغْفِر ". فلو كان هذا القاتِل نَفْسَه كافِرًا وخالدًا في النار؛ لَمَا دَعا له الرسول ? بالمَغْفِرَة، ولم يَنفَعْه
__________
(1) برقم ( 116 )، ورواه - أيضًا - الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 3 / 370 ).(1/14)
هذا الدُّعاء؛ لأن الله - - عز وجل - - نهى عن الاستغفار للمُشركين والكُفَّار؛ فقال - - سبحانه وتعالى - - ? مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) ?، وهذا الحَديث نَصٌّ واضِحٌ بَيِّنٌ... إلى غَير ذلك مِن الأدِلَّة.
( 2 ) ويمكننا تَطبيق هذه القاعِدَة - أيضًا - في مَسائِل الفِقْه وأبوابه: فمثلًا: قال بَعْضُ أهل العِلْم(1) بِعَدَم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام رمضان ( صلاة التَّراويح )؛ واستدلوا على ذلك بِمَا جاء في " الصحيحين "(2) عَن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " ما كان رسول الله ? يَزيد في رَمضان ولا في غَيره على إحدى عشر ركعة... "، وعائشة - رضي الله عنها - حَدَّثَت بما رأته. فهل نَفْهَم مِن هذا الحَديث أنَّ مَن صَلَّى ثلاث عشرة ركعة أو خمس عشرة ركعة فِعْله حرام؟! هذا الحَديث لا يُفْيد عَدَم جواز الزيادة على هذا العَدَد؛ ويؤيد هذا ويُبَيِّنه:
أ- قوله - - عز وجل - - ? قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) ?؛ فأمر رَبُّنَا - - عز وجل - - رسوله ? بقيام الليل، ولم يَحُدَّ له حَدًّا من الرَّكعات. إذا ثَبَتَ هذا؛ فكيف يُقال أن الزيادة لا تجوز؟
__________
(1) كالشيخ العلامة ( الألباني ) - رحمه الله تعالى - في كِتابه " قيام رمضان... ".
(2) رواه البخاري ( 1147، 3569 )، ومسلم ( 738 ).(1/15)
ب- ويُؤَيِّد جواز الزيادة - أيضًا - أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لَمَّا سُئِلَ عن صلاة الليل؛ قال: " صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشي أحدكم الصبح صَلَّى ركعة واحِدَة تُوتِرُ له ما قَد صَلَّى " [ أخْرَجاه في " الصَّحيحَين "(1)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ]؛ فالنبي ? لم يَجْعَل حَدًّا لصلاة الليل إلا الصبح؛ لأنَّ صلاة الليل تنتهي بِطُلوع الفَجْر الصَّادِق. إذا ثَبَت هذا أيضًا؛ فكيف يُقال أن الزيادة على إحدى عشرة ركعة لا تجوز؟
ج- وثَبَتَ - أيضًا - في " صحيح مسلم "(2) مِن حَديث زيد بن خالد الجُهَني، أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - صَلَّى ثلاث عشرة ركعة.
فيُسْتَدَلُّ بهذه الأدِلَّة الواضِحَة البَيِّنَة - وغيرها - على أنَّه: يُشْرَع للإنسان الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام الليل، وأنَّ الجُمودَ على النَّصِّ السابِق فيه اتباعٌ للمُتَشابِه؛ لأن المُحْكَم بَيِّن وواضِح الدلالة على ما قُلْناه.
( 3 ) مَسألة: وُجوب سَتْر وَجْه المرأة(3):
__________
(1) رواه البخاري في عِدَّة مواضع: ( 991، 472، 1137 )، ومسلم ( 749 ).
(2) برقم ( 765 ).
(3) راجع في ذلك: " عودة الحجاب " / لفضيلة الشيخ ( محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ) -حفظه الله -، الجزء الثالثة، وهو كُلُّه في أدِلَّة المسألة والرَّد على المُخالِفين.(1/16)
ذَهَبَ فريقٌ مِن أهل العِلْم إلى جَواز كَشْف المرأة لِوَجْهِها، وأنَّ سَتْرَه ليس واجِبًا عليها؛ بل مَشروعًا ومُسْتَحَبًّا. واستدلوا على ذلك بِعِدَّة أدِلَّة؛ مِنها - مثلًا -: " حديث الخَثْعَميَّة ": فَعَن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "... أقبلت امرأة مِن خَثْعَم وضئية تِستفي رسول الله ?.... فقالت " يا رسول الله؛ إن فريضة الله في الحَجِّ أدْرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يَسْتَوي على الرَّاحِلَة؛ فهل يقضي عَنه أن أَحُجَّ عَنه؟ " قال: " نعم " [ أخْرَجاه في " الصحيحين "(1) ]؛ فقالوا: وَصَفَ ابن عباس - رضي الله عنهما - المرأة بأنها ( وضيئة )؛ فهذا يُفيد أنها كانت كاشِفَةً عَن وَجْهِهَا، وأقَرَّ ذلك رسول الله ?؛ فهذا يَدُلُّ على مَشروعيَّة كَشف الوَجْه، وعَدَم وُجوب سَتْرِه لِلَّهِ وهذا - فيما يبدو، والله أعلم - اتباع للمُتَشَابِه؛ لأنَّ عِندَنا نُصوصًا مُحْكَمَة ووَاضِحَة وبَيِّنَة على وُجوب سَتْر الوَجْه؛ من هذه النصوص: قول الله - عز وجل - ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ?؛ فهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأن الله - عز وجل - أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - في هذه الآية أن يأمُر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين أن يُدْنِينَ عليهنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذلك أدْنَى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ، وهُم يقولون بِوجوب سَتْر الوَجْه على زوجات الرسول - عليه الصلاة والسلام -؛ فَلِمَ يُفَرِّقون بينهم وبين نِسَاء المؤمِنين والآية لم تُفَرِّق بينهنَّ لِلَّهِ وأيضًا قال - عز وجل - ? وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ?: فهذه
__________
(1) رواه البخاري ( 6228 )، ومسلم ( 1334 ).(1/17)
الآية - وإنْ كانت في سياق زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام - إلا أنَّها عامة؛ لأنَّ الله - عز وجل - ذَكَرَ العِلَّة والحِكْمَة مِن ذلك بقوله ? ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ?؛ فَبَيَّن الله - عز وجل - أنَّ زوجات رسوله - عليه الصلاة و السلام - يَحْتَجْنَ إلى طهارة القلب، وأنَّ الصحابة - الذين هم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - يحتاجون - أيضًا - إلى طهارة القلب، وسؤالهم نِساء الرسول - عليه الصلاة والسلام - بدون حِجاب قد يؤَدِّي إلى فَساد القَلْب، فكيف بِمَن دونَهم في المَنزِلَة والفَضْل - كَمَن أتى بَعْدَهم -؟ لا شَكَّ - وهذا مِن باب أوْلَى - أن مَن أتى بَعْدَهم يحتاج إلى تَطهير قلبه، ويُخْشَى عليه أن يقع فيما يُفْسِد قلبه أكثر مِمَّا يُخْشَى على زوجات الرسول ? وصَحابَتِه - - رضي الله عنهم - -. فهذا نَصٌّ واضِحٌ في المسألة.
ومِن الأدِلَّة أيضًا: قوله - عز وجل - ? وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ?: فإذا كان الله الله - عز وجل - قد نَهَى - في هذه الآية - المرأة أن تضرب بِرِجْلِهَا لئلا تُعْلَم زِينتها المُتَخَفيَة - وهي زينة الخُلْخَال -؛ لئلا يُؤَدِّي ذلك إلى فتنة الرِّجال = فكيف بالوَجْه، الذي هو أعظم وأشَدُّ فِتْنَةً مِن فِتْنَة صَوْتِ الخُلْخَال - مَع أنَّه مُخْتَفٍ لا يُعْلَم إلا بِضَرْب المرأة رِجْلَها -؟! لا شَكَّ - وهذا مِن باب أوْلَى - أنَّ الوَجْه أعْظَم فِتْنَةً؛ فَلَزَم سَتْرُه.(1/18)
ومِن الأدِلَّة أيضًا: ما جاء في حديثَي أمِّ سلمة وابن عمر - - رضي الله عنهم - - أن الرسول - الصلاة والسلام - قال: " مَن جَرَّ ثوبه خُيَلاء لم يَنْظُر الله إليه يوم القيامَة ". فقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: فكيف يصنعن النِّساء بِذيُولِهِنَّ؟ قال: " يُرخينَ شِبْرًا "، فقالت: إذًا؛ تَنكَشِف أقْدَامُهُنَّ. قال: " فَيُرْخِينه ذِراعًا لا يَزِدْنَ عَلَيْه " [ أخرجه أصحاب السُّنَن، وصححه الترمذي وابن حبان(1)
__________
(1) رواه الترمذي - واللفظ له - ( 1731 )، وقال: حسن صَحيح، وأبو داود ( 4117 )، والنسائي ( 5336 )، وأحمد ( 2 / 24 )، مِن مُسْنَد ابن عمر - رضي الله عنهما -.
ورواه مالك ( 1700 )، وأحمد ( 6 / 315 )، وابن حِبَّان ( 12 / 256 - " إحسان " )، مِن مُسْنَد أم سَلَمة - رضي الله عنها -.(1/19)
]: فأقر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أم سلمة - رضي الله عنها - على عَدَم جواز كِشْف قَدَمِ المرأة، وبَيَّن لها أنَّه يَجِب عليها أن تَرْخيه بمسافة ذِراع حتى يَسْتُرَ قَدَمَها، مع أنَّ الأصل في إسْبَال الثياب بالنسبة للرِّجال أنَّه مُحَرَّمٌ، ولكن جاء الترخيص فيه للمرأة؛ لأجل سَتْر قَدَمَيْها. ولَمَّا كان هذا عُرْضَةً لأن يُصيب ذَيلَ ثَوبِها نجاسةٌ لِمُخالَطَتِه للأرض؛ فقد رَخَّص لها الشَّارِعُ - أيضًا - تَطهيره بِمُجَرَّد مُرورها على مكانٍ طَيِّبٍ بعد هذا المكان النَّجِس، وأنَّ هذا تَطْهير لتلك النَّجاسَة(1). مع أن الأصل في التَّطهير أن يكون بالماء. نَعم؛ جاءت أدِلَّةٌ على جَواز التَّطهير بغير الماء، ولكن هذا في حالات أُخْرَى خاصَّة - كالاستجمار(2) أو طَهارَة النِّعَال ( بأن تُدْلَك بها التراب )(3)، وغيرها -، وكحالتنا هذه أيضًا.
والشَّاهِدُ مِن هذا الحَديث أنَّ قَدَم المرأة عَوْرَة - وبالتالي يجب سَتْرُه -؛ فكيف بالوَجْه الذي هو أعْظَم فِتْنَةً مِن القَدَم؟ ألا يَجِب سَتْرُه؟ ونَضْرِب على هذا مِثالًا - ولله المَثَل الأعْلَى -: لو أمَر أحُد الرِّجال زَوْجَتَه أن تَسْتُرَ قَدَمَيْها، وأن تَكْشِفَ عَن وَجْهِهَا؛ لَعُدَّ هذا مُتَنَاقِضًا. فتعالى اللهُ عَن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
الخُلاصَة مِن هذه القاعِدَة التي ذَكَرَها الشيخ - رحمه الله -: أنه يَنبَغي للإنسان ألا يَتْرُكَ اتِّباعَ الدَّليل المُحْكَم الواضِح البَيِّن، ويَتَّبِع الدليل المُتَشابِه، الذي يُحْتَمَل فيه أكثر مِن احتمال؛ لأنَّ هذا خَطأ يُوقِعه في الخطأ. وهذه قاعِدَة عَظيمة جِدًّا ينبغي العناية بها وعدم إهمالها.
__________
(1) رواه الترمذي ( 143 )، وأبو داود ( 383 )، وابن ماجه ( 531 )، ومالك ( 47 ).
(2) رواه البخاري ( 155 )، ومسلم ( 238 )، وغيرهم.
(3) رواه أبو داود ( 650 )، وأحمد ( 3 / 20 ).(1/20)
ومِمَّا ينبغي الإشارَة إليه والتَّنبيه عليه: أنَّ العالِمَ قد يَقَع - أحيانًا - في اتِّبَاع المُتَشَابِه باجتهادٍ منه - لا عَن تَعَمُّد -، ويكون مُريدًا للحَقِّ. ولكن - ولا شَكَّ - كُلّ إنسانٍ يؤخَذ مِن قَولِه ويُرَدُّ -. فليس مَعنى قولنا أن القول بِجَواز كَشْفِ وَجْه المرأة مِن باب اتِّباعِ المُتَشابِه، أن مَن قال بهذا مِن أهْلِ العِلْم قَصَدَ اتِّباع المُتَشَابِه لِلَّهِ لا؛ مَعاذَ الله؛ وإنما هو اجتهد، وَوَقَع في الخطأ، وتَرْكُه للمُحْكَم الواضِحَ البَيِّن أوْقَعَه في اتِّبَاع المُتَشابِه، لا عَن تَعَمُّد.
القاعدة الرابعة: أنَّ النبي ? ذَكَرَ أنَّ " الحَلال بَيِّنٌ، والحَرام بَيِّنٌ، وبينهما أمور مُشْتَبِهَات "؛ فَمَن لم يَفْطَن لهذه القاعدة وأراد أن يَتَكَلَّم على مسألةٍ بكلام فَاصِل فقد ضَلَّ وأضَلَّ:
وهذه قاعِدَة مُهِمّة جِدًّا أيضًا، وأصلها ودَليلها: حَديث الشَّعْبِي عَن النُّعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: " إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحرام بَيِّنٌ، وبينهما مُشْتَبِهَات لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناس " [ أخْرَجَاه في " الصحيحين "(1) ]:
يُبَيِّن هذا الحديث أن:
" الحلال بَيِّن ": بمعنى أن هناك أشياء حَلُّها وَاضِح، وأمْرها بَيِّن، ولا تخفى على أحد.
و" الحرام بَيِّن ": يعني أن هناك أشياء مُحَرَّمَة، واضِحَة التَّحريم، ولا تَخْفَى على أحد.
و" بينهما أمور مُشْتَبِهَات ": يعني أن بين الحلال والحرام أشياء مشتبهة.
__________
(1) رواه البخاري ( 52، 2051 )، ومسلم - واللفظ له - ( 1599 ).(1/21)
يقول الشًّيخ - رحمه الله -: " مَن لم يفطن لهذه القاعدة وأراد أن يتكلم على كُلِّ مَسألة بكلامٍ فَاصِلٍ = فقد ضَلَّ وَأضَلَّ ": يعني: مَن أراد أن يُبَيِّن في مسألةٍ ( مثلًا ) أنَّ هذا حلال وإلا حرام وإلا مُسْتَحَبٌّ = فقد ضَلَّ وأضَلَّ. هذه عبارة الشيخ - رحمه الله -؛ وذلك أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: " بينهما أمور مُشْتَبِهَات لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناس ": فإذَن؛ هناك أشياء مُشْتَبِهَة. فما هي القاعدة في هذه الأشياء المُشْتَبِهَة؟ القاعِدة أن الإنسان يجتنبها ويبتعد عنها؛ كَمَا بَيَّن ذلك الرسول - عليه الصلاة والسلام - في نَفْس الحديث؛ فقال: " كالراعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِك أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِك حِمَى، ألا وإنَّ حِمَى الله مَحارِمه "؛ لأنَّ الاقترابَ مِن المُتَشَابِهات يُؤَدِّي بالإنسان إلى الوقوع في المُحَرَّمَات - والعياذ بالله -.
فَنَسْتَخْلِص مِن هذه القاعِدَة: أنَّ مَوقِفَ المُسْلِم مِن الأمُور المُشْتَبِهات، التي وَقَعَ فيها التَّرَدُّد، ولم يَظْهَر له فيها حِلُّه أو حُرْمَته، يُمْكِننا تَقسيمه إلى أمْرَين:
الأمر الأول - فيما يتعلَّق بالفَتْوَى في هذا الأمر المُشْتَبِه -: على الإنسان أن يَتْرُكَ الفتوى في هذا الأمر؛ لئلا يقولَ على الله بلا عِلْم؛ ويُضِلَّ مَن يَتَّبِعُه في ذلك.
الأمر الثاني - فيما يتعلَّق بالعَمَل في هذا الأمر المُشْتَبِه -: على الإنسان نَفْسِه أن يجتنبه؛ لأنَّ هذا الأمر لا يَخْلو إما أن يراه: واجبًا - لكنه مُتَرَدِّد فيه -؛ فيُوجِب على نَفْسِه شىئًا ليس بواجِب، أو يراه حرامًا - لكنه مُتَرَدِّد فيه -؛ فيُحَرِّم شيئًا لم يُحَرِّمْه الشَّارِع = فهو لا زال مُتَرَدِّدًا في نَفْسِه: فَيَحْتَنِبه من جِهَة الفتوى ( القول )، ومِن جِهَة العَمَلِ أيضًا.(1/22)
بمعنى أن الإنسان إذا تَرَدَّدَ في شىء - لم يَظْهَر له حِلَّه مِن حُرْمَتِه -: هل هو حَلالٌ أم حَرامٌ أم واجِبٌ أم مُسْتَحَبٌّ؟ ولم يَظْهر له وَجْه الصواب في ذلك كُلِّه: فعليه - إذَن - أن يَتْرُكَه مِن جِهَة الفِعْل، ويَتْرُكَه مِن جِهَة القول ( الفتوى ) فيقول: الله أعْلَم، ويَبْتَعِد عَنه؛ لأنَّه إذا أراد أن يتكلم فيه بكلام فَصْل مُوَسَّع: واجِب أو حرام: هذا قد يجعله يتساهل في إيجاب ما لم يُوجِبه الله على عِبادِه، أو تَحْريم ما لم يُحَرِّمْه الله على عِبادِه؛ فيقع الإنسان في الخطأ، وقد يَجُرُّه هذا - والعِياذ بالله - إلى الوقوع في الضَّلال والانحراف. فما دام الإنسان لا زال مُتَرَدِّدًا في كونه هذا الأمر واجِبًا: فلا يجوز له القول بوجوبه، وما دام مُتَرَدِّدًا في كَونه حرامًا: فلا يجوز له القول بِتَحْريمه.
فيا أيها الدَّارِس؛ اعْلَم أنَّه ينبَغي الرُّجوع والاستفادة والعَمَل بهذه القواعد الأربع، التي ذَكَرَها الشيخ - رحمه الله -؛ فهي مهمة جِدًّا.
قال المصنف - رحمه الله -:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
باب آداب المشي إلى الصلاة(1/23)
يسن الخروج إليها متطهرًا بخشوع لقوله ?: " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة " وأن يقول إذا خرج من بيته - ولو لغير الصلاة -: " بسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل أو أَزل أو أُزل أو أَظلم أو أُظلم أو أَجهل أو يُجهل علي " وأن يمشي إليها بسكينة ووقار لقوله ?: " وإذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " وأن يقارب بين خطاه ويقول: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "، ويقول: " اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي لساني نورًا واجعل في بصري نورًا وفي سمعي نورًا وأمامي نورًا وخلفي نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا وفوقي نورًا وتحتي نورًا اللهم أعطني نورًا " فإذا دخل المسجد استحب له أن يقدم رجله اليمنى ويقول: " بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " وعند خروجه يقدم رجله اليسرى ويقول: " وافتح لي أبواب فضلك " وإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لقوله ?: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " ويشتغل بذكر الله أو يسكت، ولا يخوض في حديث الدنيا فما دام كذلك فهو في صلاة والملائكة تستغفر له ما لم يؤذ أو يحدث ".
الشرح:
قوله: " يسن الخروج إليها متطهرًا ": أي: صلاة الفَريضة.
قوله " بخشوع ": سوف يأتي الكلام عليه - بمشيئة الله -.
قوله: " لقوله ?: " إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة ":(1/24)
هذا الحديث جاء من حديثَي: كعب بن عُجْرَة وأبي هريرة - رضي الله عنهما -:
أما حديث كعب بن عُجْرَة - رضي الله عنه -:
فقد أخرجه الإمام أحمد في " مسنده "، وابن خزيمة في " صحيحه "، وابن حبان في " صحيحه " وغيرهم(1)، من حديث داود بن قيس عن سعد بن إسحاق عن أبي ثمامة الحَنَّاط عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - به.
وقد اخْتُلِفَ فيه على سعد بن إسحاق:
فرواه داود بن عطاء المَدني عنه عَن أبيه إسحاق بن كعب عَن جَدِّه كعب بن عُجْرَة - رضي الله عنه - به. أخرجه الطبراني في " الكبير "(2).
وَرواه أنس بن عياض أبي ضمرة عن سَعْد بن إسحاق عن سعيد المَقْبُري عن أبي ثمامة الحناط عن كعب - رضي الله عنه - به. أخرجه الطبراني في " الكبير "(3)، مِن طريق مُصْعَب الزبيري عن أبيه عَن أنس به.
فزاد أنس بن عياض - في روايته تلك - سعيد المقبري، بين سعد بن إسحاق وأبي ثمامة الحناط، وفي الرواية الأولى ليس بينهما رجل.
وقد جاء هذا الحديث - مِن طُرُق - عن سعيد المقبري غير هذه الطريق:
فرواه يزيد بن عبد الله بن قسيط ومحمد بن عجلان وابن أبي ذئب وغيرهم:
فأما يزيد بن عبد الله بن قسيط: فقد رواه عَن سعيد المَقْبُرِي عن رَجُلٍ عن كَعْب بن عجرة - رضي الله عنه - (4).
وأمَّا ابن عجلان: فقد رواه عن سعيد المَقْبُرِي عن كعب بن عُجْرَة، بدون ذكر واسِطَة بين سعيد المقبري وكعب بن عجرة - رضي الله عنه - (5).
وابن عَجلان قد اخْتُلِفَ عليه في هذا الحَديث:
__________
(1) رواه أبو داود ( 562 )، وأحمد ( 4 / 241 )، والدارمي ( 1404 )، والطبراني في " الكبير ": ( 19 / 151 )، والبيهقي في " الكُبْرَى ": ( 3 / 230 ).
(2) 19 / 146 ).
(3) " المعجم الكبير " / للطبراني ( ؟؟؟ ).
(4) رواه الطبراني في " الكبير ": ( 19 / 153 ).
(5) رواه ابن ماجه ( 967 )، وأحمد ( 4 / 243 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 228 )، والطبراني في " الكبير ": ( 19 / 153 ).(1/25)
فرواه هو عن سعيد المقبري عن رجل عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - (1).
وجاء مِن طُرُق أخرى عن ابن عجلان عن أبيه به(2).
وجاء (3) مِن حديث شريك بن عبد الله القاضي عن محمد بن عجلان عَن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأيضًا(4) مِن حَديث يحيى بن سَعيد عَن ابن عَجلان عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هريرة أن رسول الله - رضي الله عنه - قاله لكعب - رضي الله عنهما -.
وجاء - أيضًا - من حديث إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. أخرجه الطبراني(5).
فكُلُّ هذا الاختلاف وقع على سعيد المقبري في هذا الحديث.
وأما محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب: فقد رواه عَن سعيد المقبري عن رجل من بني سالم عن أبيه عن جده عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -. ( فذكر ثلاث وسائط بين المقبري وكعب بن عجرة - رضي الله عنه - ). أخرجه الإمام أحمد(6).
وقد تابعه على مثل هذا الإسناد: أبو معشر؛ فرواه عن سعيد المقبري به. أخرجه الطبراني في " الكبير "(7).
ورواية ابن أبي ذئب عَن سعيد المَقبُري مِن أصح هذه الروايات؛ لأمْرَين:
الأول: أن ابن أبي ذئب من أثبت الناس وأحْفَظهم.
__________
(1) رواه الترمذي ( 386 )، وأحمد ( 4 / 242 )، والطبراني في " الكبير ": ( 19 / 153 ).
(2) كما قال البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 3 / 230 )، ولم يُسْنِدْه.
(3) خَرَّجه الحاكم ( 1 / 207 ). ورواه مُعَلَّقًا: الترمذي ( 386 ) - وقال: " غير محفوظ " -، وابن خُزَيمة ( 1 / 229 ).
(4) رواه ابن خُزَيمة في " صَحيحه ": ( 1 / 227 ).
(5) رواه الدارمي ( 1406 )، وابن خُزَيْمَة ( 1 / 226، 229 )، والطبراني (؟؟؟ ).
(6) رواه أحمد ( 4 / 242 )، وأبو داود الطيالسي في " مُسْنَده ": ( ص 143 ) - ومِن طريقه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 3 / 230 ) -، وابن خُزَيمة في " صَحيحه ": (1 / 228 ).
(7) رواه الطبراني في " الكبير ": ( 19 / 153 ).(1/26)
الثاني: أنه أتى بزيادة، والأصل في الزيادة أنها تُقْبَل إذا دلت عليها القرائن، وهنا قد دلت القرائن على هذه الزيادة.
وأما مَن رواه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخطأ، وقد اخْتُلِفَ على ابن عجلان فيه، كما مَرَّ في التَّخريج.
وأما رواية يزيد بن عبد الله بن قسيط عن المقبري عن رَجُلٍ عَن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -:
فيزيد - وإنْ كان من الثقات الحفاظ، وقد أخرج له الجماعة - لكن رواية ابن أبي ذئب تُقَدَّم عليه؛ لأن فيها زيادة.
الخلاصة: أنَّ هذا الحديث لا يَصِحُّ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ وإنما هو خطأ من الرواة، والحديث حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه -.
وجَعَل بَعْضُ أهل العلم حديثَ أبي هريرة - رضي الله عنه - حَديثًا مُسْتَقِلًا عن حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، وقَوَّى هذا بذاك لِلَّهِ وهذا خَطأ؛ فالحديث حديث كعب، ولا يَصِحُّ عَن أبي هريرة - رضي الله عنهما -.
إذا ثَبَت هذا؛ فرواية سعد بن إسحاق عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -، وقد تَقَدَّمَت، وليس فيها سعيد المَقْبُري: هي خطأ؛ وذلك لأنَّه - كما مَرَّ - قد اخْتُلِف على سَعد بن إسحاق فيه: فرواه أبو ضمرة أنس بن عياض عنه عن سعيد المقبري عن أبي ثمامة الحناط = فزاد بينهما سعيد المقبري.
ورواية أنس بن عياض - وهو ثقة مشهور - تُقَدَّم؛ لأن فيها زيادة عِلْم، فَتَبَيَّن بهذا أن رواية حَديث سعد بن إسحاق بدون ذِكْر المَقْبُري هي خطأ مِن الرُّواة؛ وإنما بينه وبين أبي ثمامة الحناط سعيد المقبري = فَرَجَعَت رواية سعد بن إسحاق إلى رواية المقبري.
وأرْجَح الروايات مِن طريق المَقْبُري هي: رواية ابن أبي ذئب عَنه عَن رجل من بني سالم ( وهو أبو ثمامة الحناط ) عن أبيه عن جده عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -.(1/27)
إذا ثَبَت هذا؛ فأبو ثمامة الحناط غير معروف: قال عنه الدارقطني(1): " لا يُعْرَف يُتْرَك "، وفي الإسناد أبوه وجَدُّه: غير معروفين - أيضًا -.
ولذا؛ فهذا الإسناد - الذي فيه المَقْبُري - لا يَصِحُّ.
ولكن جاء الحديث بإسنادٍ آخر أقوى مِن هذه الأسانيد - عِندَ ابن حِبَّان والبيهقي -:
فَرُوي من حديث أبي أيوب الرقي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه -. أخرجه ابن حِبَّان(2).
وأبو أيوب سليمان بن عبد الله الرقي: فيه خِلافٌ، لكنه لا بأس به.
وقد تابع أبا أيوب: عمرو بن قسيط عن عمرو بن قسيط عن عبيدالله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة به. أخرجه البيهقي(3).
وعمرو بن قسيط: لا بأس به، صَدوقٌ.
وهذا الإسناد إسناد جَيِّدٌ وكُلُّ رواته ثقات.
فيُسْتَفاد مِن هذا الحَديث - كما قال المصنف ( رحمه الله ) - أنه يُسَنُّ للمُسْلِم أن يتوضأ قبل أن يخرج مِن بَيْتِه إلى المَسْجِد.
والحِكْمَة مِن هذا: أن الإنسان إذا خَرَج مِن بَيته مُتَطَهِّرًا يكون قد اسْتَعَدَّ للصلاة، وتكون غالب أوقاته وأحواله على طهارة، وهذا أفضل وأحسن. وقد جاء في حَديث ثوبان وأبي أمامة وغيرهما(4)- - رضي الله عنهم - - أن الرسول ? قال: " لا يُحَافِظ على الوضوء إلا مؤمن ".
__________
(1) كما في " سؤالات البَرْقاني له ": ( برقم 590 ).
(2) في " صَحيحه ": ( 5 / 524 - " إحسان " )، ورواه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى " ( 3 / 230 )، مِن طريق الحَسَن بن علي الرقي عَن عمرو بن قسيط عَن عُبَيْد الله بن عمرو به.
(3) في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 3 / 230 ).
(4) رواه أحمد ( 5 / 280، 282 ) مِن حَديث ثوبان - - رضي الله عنه - -، وابن ماجه ( 277، 278، 279 ) مِن حَديث ثوبان وأبي أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص - - رضي الله عنهم - -.(1/28)
وأما إذا خَرَج مِن بَيْتِه على غَيْر طَهارة ونَوى الوضوء في المَسْجِد: فقد لا يَجِد ماءً في المَسْجِد فيتأخَّر عن الصلاة، وقد تُقام الصَّلاة فيفوتُه بعض ركعاتها.
أما إذا خَرَجَ من بيته مُتَوَضئًا فلا يبقَ عليه شىءٌ إلا الصلاة، فإذا دَخَل المَسْجِدَ قبل إقامَة الصلاة: يُصَلِّي ما شاء الله له أن يُصَلِّي - من تحيةٍ مَسْجِدٍ وصلاةِ تَطَوُّعٍ وسُنَّة راتبة -، أو يقرأ القرآن... إلخ. ثم إذا أُقيمَت الصلاة يُصَلِّي مع الجماعة، ويكون مُسْتَعِدًّا لها.
ثم إذا خرج مِن بَيْتِه مُتَوَضِئًا: فلا يُشَبِّك بين أصابعه - لنهي الرسول ? عَن ذلك -؛ مُبَيِّنًا العِلَّة مِن ذلك: أنه - في هذه الحالة - يكون في صلاة. والمُسْلِم في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة، كما ثَبَتَ هذا في " الصحيح "(1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: " إنَّ أحَدَكم إذا كان يَعْمِد إلى الصَّلاة فهو في صَلاةٍ ".
__________
(1) رواه مسلم - واللفظ له - ( 602 )، وأحمد، ومالك ( 65، 152 ). ورواه البخاري بنحوه ومعناه في عِدَّة مواضِع ( 176، 647، 661 ).(1/29)
واعلم أنَّ هذا النَّهي مُقَيَّدٌ بِحَال الذَّهاب إلى المَسْجِد إلى أن يُصَلِّي الفَرِيضة؛ فإذا صَلَّى الفَرِيضة فلا بأس أن يُشَبِّك بين أصابعه. والدليل على هذا: ما جاء في " صحيح البخاري "(1) في قِصَة سَهْو النبي ? في إحْدَى صَلاتَى العَشي، وتَسليمه مِنها عَن رَكْعَتَيْن، أنَّه ? قام إلى خَشَبَة مَعْروضة في المَسْجِد... وشَبَّك بين أصابعه ". وقد بَوَّبَ البخاري عَلَيْه في كتابه " الصحيح ": " باب: تَشبيك الأصابِع في المَسْجِد وغيره "، وذَكَر تَحْتَه - أيضًا - حَديث ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ?: " يا عبد الله بن عمرو؛ كيف بِكَ إذا بَقيتَ في حُثالَة مِن الناس، قد مَرَجَت عُهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا - وشَبَّك بين أصابعه - "(2).
فَدَلَّ هذان الحَديثان - وغيرهما - أنَّه إذا صُليَت الفريضة، فلا بأس بالتَّشبيك بين الأصابِع.
قوله: " وأن يقول إذا خرج من بيته - ولو لغير الصلاة -: " بسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلّ، أو أظْلِم أو أُظْلَم، أو أجْهَل أويُجْهَل عليَّ".
فإذا خَرَجَ الإنسانُ مِن بَيْتِه للصلاة أو لغيرها سُنَّ له أن يقول هذا الدُّعاء؛ لأنَّ هذا الدعاء - وكما قال الشيخ ( رحمه الله ) - يُقَال إذا خرج الإنسان من بيته، سواء كان ذاهبًا إلى الصلاة أو غيرها؛ لأن الدُّعَاء لم يُقَيَّد إلا بالخروج من البيت، فجاء لِمُطْلَق الخُروج.
والمؤلف - رحمه الله - جَمَع هُنا بَيْنَ حَديثَين، جاء فيهما هذا الدُّعاء:
__________
(1) برقم ( 482 ).
(2) رواه البخاري - رحمه الله - مختصرًا ( 480 )؛ وساقه تامًّا الحُمَيدي في " الجمع بين الصَّحيحين " نقلاً عَن أبي مسعود في " أطرافه " ( كما قال الحافظ في " الفتح ": 1 / 566 ). ورواه أحمد ( 2 / 212، 221 ).(1/30)
الحديث الأول: " بسم الله، آمنتُ بالله، توكلتُ على الله ":
رُوي من حديث: أنس، وأبي هريرة، ويزيد بن خُصيفة - رضي الله عنه -.
وَكُلُّ هذه الأحاديث فيها كَلامٌ، لكن بَعْضُها يُقَويِّ بَعضًا:
أما حديث أنس - رضي الله عنه -:
فقد أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي والطبراني(1)، كلهم من حديث: ابن جُريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " مَن قال - يعني - إذا خَرَجَ مِن بَيْتِه: بِسْم الله، توكلتُ على الله، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله؛ يُقال له: كُفِيتَ وَوُقيتَ، وتَنَحَّى عنه الشيطان ". زاد أبو داود: " فيقول له شيطان آخَر: كيف لك بِرَجُلٍ قد هُدِيَ وكُفِيَ وَوُقيَ؟ ".
وصَحَّحه الترمذي؛ فقال: " حسن صحيح غَريب "، وصَحَّحه - أيضًا - ابن حبان(2). إلا أنَّ فيه عِلَّةً ذَكَرَها البخاري(3)؛ فقال: " لا أعْرِف لابن جُرَيجٍ عَن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة غَيْرَ هذا الحَديث، ولا أعْرِف له سَماعًا مِنه " اهـ.
فَعِلَّةُ الخبر: الانقطاع بين ابن جُرَيْج وإسحاق بن عبد الله أبي طلحة(4).
لكن للحديث شواهد - كما ذكرتُ قبل قليل - مِن حَديثَي أبي هريرة ويزيد بن خُصيفة - رضي الله عنهما -.
__________
(1) رواه الترمذي ( 3426 )، وأبو داود ( 5095 )، والنَّسائي في " الكبرى ": ( 6 / 26 )، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 177 )، وابن حبان ( 3 / 104 )، والطبراني في " الدُّعاء ": ( 370 ).
(2) فخَرَّجه في " صَحيحه ": ( 3 / 104 - " إحسان " ).
(3) نقله عنه الترمذي في " العلل الكبير " / بترتيب القاضي: ( ص 362 ).
(4) وجَزَم بذلك الدارقطني؛ فقال في " عِلَلِه ": ( 4 / 19 - مخطوط ): " ابن جُرَيْج لم يَسْمَعه مِن إسحاق " اهـ. بواسطة " موسوعة أقوال الدارقطني " / للسيد أبي المعاطي - رحمه الله -. ونَقل هذا عنه أيضًا الضياء في " المُختارَة ": ( 4 / 373 ).(1/31)
أما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
فقد رُوي من طريقين عنه:
الأول: رواه عبد الله بن حسين بن عطاء عن سُهَيل بن أبي صالح عن أبيه عنه.
أخرجه ابن ماجه والطبراني(1)، وإسناده ضعيف؛ لأنَّ عبد الله بن حسين بن عطاء ضعيف.
الثاني: رواه هارون بن هارون عن الأعرج عنه.
أخرجه - أيضًا - ابن ماجه والطبراني(2)، وإسناده - أيضًا - ضعيف؛ لأنَّ هارون بن هارون ضعيف.
وأما حديث يزيد بن عبد الله بن خُصَيْفَة - رحمه الله -:
فقد رُويَ من طريق يحيى بن يزيد بن عبدالملك النوفلي عن أبيه عن يزيد بن عبد الله بن خصيفة عن أبيه عن جَدِّه مرفوعًا.
أخرجه الطبراني في " الكبير "، وفي " الدُّعَاء "(3).
وهذا إسناد ساقط: يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي ضعيف، وأبوه متروك.
وله شاهد آخر لا يَصِحُّ.
لكن هذه الطرق باجتماعها يُقَوِّي بعضها بعضًا؛ ولذلك حسّن الحافظ ( ابن حجر ) هذا الحديث في " نتائج الأفكار "(4) بمجموع طُرُقِه. ولعل هذا - والله أعلم - هو الأقْرَب.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فحينئذٍ يُسَنُّ للإنسان أن يَدْعُو بهذا الذِّكْر إذا خَرَجَ مِن بَيْتِه.
وأما الحديث الآخر: " اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلّ، أو أظْلِم أو أُظْلَم، أو أجْهَل أويُجْهَل عليَّ ":
فقد رُوي مِن حَديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها -:
__________
(1) رواه ابن ماجه ( 3885 )، والطبراني (؟؟؟ ).
(2) رواه ابن ماجه ( 3886 )، والطبراني (؟؟؟ ).
(3) رواه الطبراني في " الكبير ": ( 22 / 396 )، وفي " الدُّعاء ": ( 371 ).
(4) " نتائج الأفكار ": ( 1 / 156 ).(1/32)
أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي في " الجامع " و ابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم(1)، كلهم من حديث: منصور بن المعتمر عن الشعبي عنها به.
وصَحَّحه بهذا الطريق: أبو عيسى الترمذي(2) وغيره. إلا أنَّ فيه عِلَّة: الشعبي لم يَثْبُتْ له سَمَاع مِن أُمِّ سلمة، وقد نَفَى عليُّ بن المديني سَمَاعه مِنها(3).
فيكون الحديث مُنقَطِعًا، ومَع ذلك؛ فهذا الانقطاع لا يؤثِّر كثيرًا على صِحَّة هذا الحديث وعلى قَبوله والعمل به؛ لأنَّ الشعبي وُصِفَ بأنه لا يَرْوِي إلا عن ثقة، كما وصفه بذلك العِجْلِي ويحيى بن معين وغيرهما(4)
__________
(1) رواه الترمذي ( 3427 )، وأبو داود ( 5094 )، والنسائي ( 5486، 5539 )، وابن ماجه ( 3884 )، وأحمد ( 6 / 318 )، وابن أبي شيبة ( 6 / 25 )، والطبراني في " الكبير ": ( 23 / 320 ).
(2) فقال عقب تَخريجه له: " هذا حَديثٌ حَسَنٌ صحيح ". وصَحَّحه - أيضًا -: الحاكم في " مُسْتَدْركه ": ( 1 / 700 )، والنووي في " رياض الصالحين ": ( برقم 82 ).
(3) نَقل هذا عَن " عِلَله" الحافِظُ ابن حَجَر في كِتابَيه: " تهذيب التهذيب ": ( 5 / 59 )، و" نَتائِج الأفكار ": ( 1 / 160 )، وكلامُه هذا لا يوجَد في القَدْر المَطبوع مِن " عِلَلِه "؛ ولذا فقد عزاه مُحَقِّقو طبعة الرسالة لـ " مُسْنَد الإمام أحمد ": إلى " عِلَله المَخطوط ".
(4) قال العِجلي في " مَعرفة الثِّقات ": ( 2 / 12 ): " مُرْسَل الشَّعبي صَحيح، لا يكاد يُرسِل إلا صَحيحًا " اهـ.
وقال يحي بن مَعين: " إذا حَدَّث عَن رَجُلٍ فَسَمَّاه فهو ثِقَةٌ، يُحْتَجُّ بِحَديثِه " اهـ. راجِع: " تهذيب التهذيب ": ( 5 / 59 ).
وسأل الآجري أبا داود - كما في " سؤالاته ": (1/219) -: " مراسيل الشعبي أحب إليك أو مراسيل إبراهيم؟ "؛ فقال: " مراسيل الشعبي ".
وقال الذهبي ( كما في الموقظة: ص 40 ): إن صَحَّ الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة كمراسيل.... والشعبي = فهو مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، لا بأس به، يقبله قوم ويَرُدُّه آخرون " اهـ.(1/33)
.
وها هُنا فائِدَة ينبَغي التَّنَبُّه لها؛ وهي أنَّ: الأصلَ أن الحديث المُنقَطِع ضَعيفٌ ولا يَصِحُّ؛ لأن مِن شُروط الحديث الصحيح أن يكون إسناده مُتَّصِلًا، ولكن يُتَسَاهَل في مثل هذا الانقطاع في بَعْضِ الأحوال؛ مِنها:
( 1 ) إذا كان المَعْروفُ والغالِبُ على الرَّاوي الذي وَقَعَ عِندَه الانقطاع أنَّه لا يَرْوِي إلا عن ثِقَة، وخاصَّةً إذا كان من أجِلَّة التابعين وعُلَمَائهم، كالشَّعبي هُنَا.
( 2 ) إذا عَرَفْنَا مَن هو السَّاقِطُ من الإسناد، وكان ثِقَةً: ولَنضْرِب على هذا مِثالَيْن:
الأول: رواية حُميد الطويل عَن أنس - رضي الله عنه - (1): هناك أحاديث لم يسمعها حُمَيْد من أنس - رضي الله عنه -، ورواها عنه بدون ذِكْرِ وَاسِطَة، وَعَرَفنا أنه أخذ هذه الأحاديث بواسطة ثابت البناني، وثابت ثِقَة ثَبْت. إذَن؛ رواية حُمَيْد عن أنس - رضي الله عنه - صحيحة.
الثاني: رواية أبي عُبَيْدَة عن أبيه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (2): فقد تُوفي عَنه أبوه عبد الله - رضي الله عنه - وكان صغيرًا لا يَعْقِل - عُمره ثلاث سنوات أو نحوها -، مع أنَّ بَعْض أهل العلم(3) قال أنَّه كان كبيرًا، لكن الصواب ما قُلناه.
__________
(1) راجع في ذلك: " جامِع التَّحصيل " / للعلائي: ( ص 168 )، و" الكامل " / لابن عَدي: ( 2 / 268 )، و" تَهذيب التهذيب ": ( 3 / 35 )، و" طَبقات المُدَلِّسين ": ( ص 38 ) / كِلاهما للحافظ ( ابن حَجَر ).
(2) راجع في هذه المسألة: " المراسيل " / لابن أبي حاتِم: ( ص 256 )، و" عِلل الدارقطني ": ( 5 / 308 )، و" شَرح العِلَل " / لابن رَجَب: ( 1 / 544 )، و" فتح الباري " / له: ( 7 / 174، 342، 8 / 350 )، و" جامع التَّحْصيِل " / للعَلائي: ( ص 205 ).
(3) قال شُعْبَة وأبو داود أنه كان ابن سَبْع سِنين. راجع: " المراسيل " / لابن أبي حاتِم: ( ص 256 )، و" تهذيب الكمال ": ( 14 / 62 ).(1/34)
ومع ذلك؛ فروايته عن أبيه مقبولة؛ لأنها مستقيمة(1).
قال عليُّ بن المَديني(2) - في حديث يرويه أبو عبيدة عن أبيه -: " هو مُنقَطِع، وهو حَديث ثَبْتٌ " اهـ.
وقال يعقوب بن شَيْبَة السدوسي(2): " إنما إستجازَ أصحابُنا - يعني: عَليَّ بنَ المَديني وغيره - أن يُدْخِلوا حَديث أبي عُبَيْدة عن أبيه في المُسْنَد ( يعني: في الحَديث المُتَّصِل )؛ لِمَعْرِفَة أبي عُبَيْدَة بِحَديث أبيه وصِحَّتها، وأنَّه لم يأتِ فيها بِحَديثٍ مُنكَر " = يعني: لا ستقامتها؛ فأبو عُبَيْدَة أخذ هذه الأحاديث من كِبَار أصحاب أبيه، وكِبَار أهل بيته - وهُم ثِقات -؛ فأصبحت روايته عنه مقبولة.
وقَد صَحَّحَ الدارقطني(3) في " السُّنَن "(4) أحاديث مِن رِواية أبي عبيدة عن أبيه، والتِّرْمِذي لا يُصَحِّحها؛ لأنه - ولا شَكَّ في كلامِه - يَرَى انقطاعها(5)، ولكنها مُسْتَقيمَة في حُكْم المُتَّصِل؛ لِمَا قَدَّمنا.
إذا ثَبَتت صِحَّة الحَديث؛ فَمِن السُّنَّة أن يُقال هذا الدُّعاء أيضًا عِندَ الخُروج مِن البَيْت.
__________
(1) راجع فيمن صَحَّحها ولم يُعِلَّها بالانقطاع - غير ما سبق وما سيأتي -:
1ـ النَّسائي: " النُّكَت على ابن الصَّلاح ": ( 1 / 398 ).
2ـ شيخ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله -: " مجموع الفتاوى ": ( 6 / 404 ).
(2) نقله عنه الحافظ ( ابن رجب ) - رحمه الله - في " شَرح علل الترمذي ": ( 1 / 544 ).
(3) قال - رحمه الله - ( 3 / 173 ): " وأبو عُبَيْدَة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وبِفُتياه مِن حَنيف بن مالك ونُظَرائه " اهـ المُراد مِنه. ونقلها عنه الحافظ في " تهذيب التهذيب ": ( 5 / 65 ).
(4) راجع - مثلاً - المواضع التالية: ( 1 / 145، 3 / 172، 173 )، وصَرَّح في " العِلَل " - أيضًا - باتِّصال روايته: راجع ( 5 / 290، برقم 891، 892 ).
(5) راجع - مثلاً - الأحاديث: ( 179، 366، 622، 1061 ).(1/35)
قال: " وأن يمشي إليها بسكينة ووقار لقوله ?: " وإذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة فما أدْرَكْتُم فَصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا ".
أمَرَ الرسول ? المُسْلِمَ إذا خَرَجَ مِن بيته للصلاة، أن يَخْرُجَ إليها بِسَكينةٍ وَوقار، ولا يَسْتَعْجِل، حتى لو أُقيمَت الصلاة. وهذا مِن السُّنَّة.
والحِكْمَة مِن ذلك أنَّ المُسْلِمَ مُطالَبٌ بالخشوع والتَّدَبُّر في الصَّلاة، فإذا خَرَج إليها مُسْتَعْجِلًا ذَهَبَ عنه الخُشوع، ولم يَرْتَح في صلاتِه، فلا يَعْقِل منها إلا الشىء اليَسير. فلذا أرْشَدنا الرسول ? أن نَخْرُج إلى الصَّلاة بسكينة ووقار.
إذا عَلِمنا هذا؛ فالدليل على هذا: مَا ذَكَرَه المصنف - رحمه الله - أنَّه ثَبَتَ عَن الرسول ? أنَّه قال: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسَّكينَة والوَقار، ولا تُسْرِعوا؛ فما أدركتم فَصَلُّوا وما فاتكم فأتِمُّوا " [ أخْرَجاه في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ].
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - ( 636، 908 )، ومسلم ( 602 )، والترمذي ( 327 )، والنسائي ( 861 ) - وعنده " وما فاتكم فاقْضُوا " -، وأبو داود ( 572 )، وغيرهم.(1/36)
ولكن: هل هذا الأمْر على إطلاقِه؛ فيُنْهَى المُسْلِم عَن الإسراع إلى الصلاة في جَميع الأحوال؟(1) أجاز بَعْضُ أهل العلم أنه لا بأس أن يُسْرِع قليلًا لإدراك الركعة أو الصلاة، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه(2). ويبدو أنهما أرادا - رحمهما الله تعالى - بالاستعجال: السَّعِي القليل الذي تُدْرَك به الرَّكْعَة أو الصَّلاة، لا الاستعجال الذي يُذْهِب الخُشوع والتَدَبُّر في الصَّلاة.
ولَمَّا أشار كلام المُصَنِّف - تَبَعًا لهذا النَّص النَّبَوي - إلى مَسألة الخُشوع في الصَّلاة؛ كان مِن المُناسب الكَلامُ على الخُشوع؛ فأقول:
إن الخشوعَ يَنقَسِم إلى قِسْمَيْن:
القسم الأول: الخشوع الواجب - الذي لا بُدَّ منه لِصِحَّة الصَّلاة -:
والمقصود به: هو طُمأنينة أعضاء المُصَلِّي أثناء الصَّلاة: وهذا ثَبَتَ في " الصحيحين "(3)، مِن حديث المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال للمُسىء صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فَكَبِّر، ثم أقرأ مَا تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تَعْتَدِل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا... ". فأمر ? المُسىء صلاتَه بالطُمَأنينة؛ لأنَّها رُكْنٌ مِن أرْكان الصَّلاة.
القسم الثاني: الخشوع المستحب - الذي لو لم يأتِ به المُصَلِّي في صَلاتِه لَصَحَّت وأجْزأته، ولكن يَنْقُص أجْرها -:
__________
(1) راجع: " المجموع ": ( 4 / 206 )، و" المغني ": ( 1 / 271 ).
(2) راجع: " المغني ": ( 1 / 271 )، و" شَرْح العُمدَة " / لشيخ الإسلام ( ابن تيمية ): ( ص 596 - كتاب الصَّلاة )، و" التمهيد " / لابن عبد البر: ( 20 / 233 )، و" الفروع ": ( 1 / 357 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 5 / 393 ).
(3) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.(1/37)
ومِنه: تَدَبُّر ما يقوله المُصَلِّي، أو ما يسمعه من الإمام أثناء الصلاة، واستحضار أنَّه في صَّلاة، وأنَّه واقِفٌ بين يدي الله - - سبحانه وتعالى - -.
فهذا الخُشُوعُ إذا لم يأتِ به المُصَلِّي فإنَّ صلاته صحيحة، وهذا مَذْهَبُ جُلِّ أهل العِلْم(1)، خِلافًا لأبي حامد الغزالي - رحمه الله -؛ فقد نُقِلَ(2) عنه أنَّ رأى أنَّ مَن لم يأتِ بهذا الخُشُوع فصلاته بَاطِلَة ولا تُجْزِئه؛ ويلزمُه إعادتها لِلَّهِ وهذا القول فيه نَظَرٌ؛ لأنَّه ثَبَتَ في الحديث الصحيح أن الرسول ? قال: " إن العبد ليُصَلِّي الصلاة ما يُكْتَب له مِنها إلا عُشْرها، تُسْعها، ثُمُنها، سُبُعها، سُدُسُها، خُمسُها، رُبُعها، ثُلُثها، نِصفها "(3): وهذا الحَديث يُفيد أنَّه لا يُكْتَب للإنسان مِن صلاتِه إلا ما عَقِل فيه، وتَدَبَّر ما يقوله أو يسمعه مِن الإمام = وهذا يعني أنَّ صلاتَه صحيحة، إلا أنَّه يُنقَص مِن أجرها والثواب عليها، بِقَدْرِ ما فاتَه مِن الخُشوع فيها.
فَينبغي للمُسْلِم أن يعتَني بأمر الخُشوع كثيرًا؛ لأنَّه - بلا شَكٍّ - هو لُبُّ ورُوح الصلاة، وهو المُكَمِّل لها.
وهناك أسبابٌ تُعين الإنسان على الخُشوع في صلاتِه، ينبَغي عليه أن يأتي بها لتحصيل الخُشوع؛ ومِنها:
1ـ أن يَخْرُوجَ الإنسان من بيته للصلاة، وهو تام الاستعداد لها، مُتَطَهِّرًا، كما أرشدنا الرسول ?.
__________
(1) " فتح الباري " / لابن رجب، ( 6 / 369: 370 )، و" مدارج السالكين " / لابن القيم: ( 1 / 112 ).
(2) " إحياء علوم الدِّين " / له: ( 285 / 2 )، و" مدارج السالكين " / لابن القيم: ( 1 / 112 ).
(3) رواه أبو داود ( 796 )، والإمام أحمد ( 4 / 321 )، والبيهقي ( 2 / 281 )، والبزار ( 4 /251 )، وابن نصر في " تَعظيم قَدْر الصَّلاة ": ( 196 / 1 )، وغيرهم.(1/38)
2ـ أن يَلتَزِمَ الأدعية الواردة في ذلك: كدُعَاء الخروج من البيت، ودعاء الذهاب إلى المسجد؛ حتى يَتَنَحَّى عنه الشيطان، ويبتعد عَنه، ولا يُوَسْوِس له بما يُشْغِله.
3ـ أن يَخْرُج بِسَكِينَةٍ ووقار؛ لأن هذا يُسَاعِدُه على الخشوع.
4ـ أن يَخْرُج مُبَكِّرًا للصلاة، وقد جاءت النصوص بالحَثِّ على التبكير في الخُروج للصلاة(1)؛ وخُروجه مُبَكِّرًا مِن بَيتِه يُعينُه على المَشي إلى المَسْجِد بِسَكينَة وطُمأنينة وَوقار. فإذا وَصَل إلى المَسْجِد صَلَّى ما كُتِبَ له أن يُصَلِّي، ثم يقرأ القرآن - إنْ شاء - أو يَدْعو. فإذا قام إلى الصلاة قام وهو مُسْتَعِدٌ ومُتَهَيىء لها؛ لأنّ كُلَّ ما سبق هو مُقَدِّمات تُهَيِّئه لأن يَخْشَع في صلاته.
5ـ أن يَخْرُجَ الإنسانُ إلى صلاتِه، وقد فَرَّغ نَفْسَه مِمَّا يُشْغِلها؛ فلا يخرج وفي نفسه حاجة يُرِيد أن يقضيها أو يفعلها - كأن يُدَافِعه الأخْبَثان -؛ كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - عن الرسول ? قال: " لا صلاة بحضرة الطَّعام، ولا هو يُدافِعُه الأخْبَثَان " [ خَرَّجه الإمام مسلم في " صحيحه "(2) ]: ففي هذا الحَديث إرْشادٌ لِمَن تَشْتَاق نَفسُه إلى الطَّعام أن يأكُلَ - قبل الصَّلاة - ثُمَّ يُصَلِّي؛ ليأتي إلى الصلاة مُطْمَئنًا مُتَهَيِّئًا لها، وكذلك الأمر لِمَن يُدافِعه الأخْبَثَان: فعَلَيْه أن يَقْضِي حاجَتَه، ثم يَتَوَضأ ويَذْهَبُ إلى الصلاة؛ لئلا يَنْشَغِل بشىءٍ عَنها.
وقوله ?: " لا صلاة " يُتأوَّل على مَعْنَيَيْن - بُنَاءً على معنى " لا " في الحَديث -:
الأول: مَعناه " لا صلاة له صحيحة "؛ فَتُعْتَبَر صلاته باطلة.
الثاني: مَعناه " لا صلاة له كَامِلَةً الكمالَ الوَاجِب "؛ فهي ليست باطِلَة، ولكنها ناقِصَة.
__________
(1) جاءت في ذلك أحاديث؛ مِنها ما رواه البخاري ( 615، 176، 477، 572 )، ومسلم ( 649 ).
(2) رواه مسلم ( 560 )، وأبو داود ( 89 ).(1/39)
والقاعدة: أنَّ " الشَّارِعَ إذا نَفَى شيئًا يُحْمَل على واحد مِن أمْرَين أو كِلاهما: إما نَفي الصِّحَة وإما نَفي الكَمال ".
فمثلًا:
( 1 ) إذا قرأنا حَديث رسول الله ?: " لا إيمان لمن لا أمانة له "(1): فإمَّا أن يكون الشَّارِعُ قد نَفَى - فعلًا - عَن هذا الشَّخْص الموصوف بهذه الصِفَة، مُطْلَقَ الإسلامِ والإيمانِ؛ فيكون مِن الكُفَّار. وإمَّا أن يَنْفِي عنه كَمَال الإيمان - أو كمال الإسلامِ - الوَاجِب.
فإذا انتفَت - هُنا - عَن الإنسان الأمانة مُطْلَقًا:فلا شَكَّ أنَّ الحَديث يُحْمَل على المعنى الأوَّل؛ فيكون الإنسانُ قد انتفى عَنه مُطْلَق الإيمان وأصبح مِن الكُفَّار. وبيانُ ذلك أنَّ مِن الأمانَة ما جاء في قوله - - عز وجل - - ?$¯Rخ) عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ? [ الأحزاب: 73 ]؛ فَيَدْخُل فيها: التَّوحيد وبقية الشرائع. فإذا انتفت عَن الإنسان الأمانَة مُطْلَقًا = فقد انتفى عَنه التَّوحيد؛ فلا شَكَّ في كُفْرِه. وأما إذا انتَفَت عَنه الأمانة التي هي حِفْظ المال والوَديعة: فهُنا يُحْمَل الحَديث على المعنى الثاني؛ فيُنْفَى عَن الإنسان الإيمان الكامِل؛ فيكون إيمانه ناقِصًا، ولا يُنْتَفَىَ عَنه مُطْلَق الإيمان. ويُمْكِن حَمل الحَديث على هَذَين الأمْرَين مَعًا، ويختلف التأويل باختلاف الشَّخْص المُتَّصِف بهذه الصِّفَة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 3 / 135، 154 )، وابن حِبَّان ( 1 / 422 - " إحسان " )، والبيهقي في " شُعَب الإيمان ": ( 4 / 78 ).(1/40)
( 2 ) ومن ذلك أيضًا: مَا جاء في حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " مَن لم يأخذ مِن شاربه فليس مِنَّا " [ رواه الترمذي والنسائي(1) ]: فهذا معناه: أي: لَيْسَ مِن المُسْلِمين الذين يفعلون الأوامر ويَنْتَهُون عن النواهي، ومن تِلك الأوامر: الأخْذُ مِن الشَّارِب. وهذا يُسْتَفاد مِنه أن الأخذ من الشارب وَاجِبٌ؛ فَمَن لم يأخُذ مِن شاربه = فهذا نَقْصٌ عِندَه في اتباع الرسول ?.
نَعود إلى حَديثنا السابق - لتطبيق هذه القاعِدَة عليه - فنقول:
في قوله ?: " لا صلاة ": إمَّا أن يُحْمَل على بُطْلان الصلاة، وإمَّا على نُقْصَان الكَمَال الواجب فيها:
فإذا كان اشتياق المُصَلِّي للطعام، أو صلاته بَحَضْرَته، أو مُدافَعَته الأخْبَثان = يجعلونه لا يَطْمَئِن في صلاتِه وفي حَرَكَة أعضائه: فهنا يُحْمَل الحَديث على بُطْلان الصَّلاة؛ كما في حَديث " المسىء صَلاتَه " (2).
أمَّا إذا اطْمَئن المُصَلِّي في صَلاته وفي حَرَكَة أعضائه، ولكن ذَهَبَ عَنه الخُشوع والتَّدَبُّر فيها - لانشغاله بالطَّعام أو مُدافَعَة الأخْبَثان -: فهنا يَنْقُص أجْرُه، وتكون صَلاته صحيحة؛ ويُحْمَل قوله ?: " لا صلاة " على المعنى الثاني: " لا صلاة كامِلَةً الكمالَ الوَاجِب ".
6ـ ومِن أهم الأمور التي تُعينُ على الخُشوع في الصلاة: تَدَبُّر المُصَلِّي لِمَا يَقْرأه أو ما يَسْمَعه مِن الإمام، مِن القُرآن والأذْكار المُتَنَوِّعَة.
__________
(1) رواه الترمذي ( 2761 )، والنسائي ( 13، 5047 ).
(2) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.(1/41)
ومِمَّا يُحْزِن أنَّ الغالِبَ عَلَيْنَا أننا لا نَتَدَبَّر في الصّلاة؛ فَتَجِد الواحد مِنَّا يقرأ في الصلاة، أو يستمع آيات الله - - عز وجل - - تُتْلَى عَلَيْه، فلا يتدبرها، ولا يَتَدبَّر ما يقوله مِن الأذكار في الرُّكُوع والسُّجُود، وقد يَتلو الإمام كلامَ الله - - سبحانه وتعالى - - وفيه ذِكْر الجَنَّة والنَّار، ومع ذلك؛ لا تتحرك قُلُوبُنَا ولا تَدْمَع عُيونُنا، إلا مَن رَحِمَ اللهُ لِلَّهِ
ومِمَّا يُعين على التَّدَبُّر: أن يَسْتَحْضِر المرءُ ما يقرأه أو يَسْمَعُه، ويَذْكُر - قبل ذلك - عَظَمَة كلامِ الله - - سبحانه وتعالى - -؛ إذَن لانْتَبَه له وتَفَهَّمَه وتَدَبَّره. ونَفس الأمر بالنسبة لِتَدَبُّر الأذكار النَّبَويَّة التي نقولها في الصَّلاة؛ فهي كلام رسوله ?.
فالخُلاصَة أنَّ أمر التَّدَبُّر يسيرٌ على مَن يَسَّره الله لَه - وهو مِن أهَم الأُمُور -: ما عليك إلا أن تَنْتَبِه لِمَا تقول، وتَتَفَكَّر فيما تقرأه مِن كلامِ رَبِّك، أو تَذْكُره مِن أذكارِ الصَّلاة، أو ما تَسْمَعُه من الإمام.
وقد أمرنا الله - - عز وجل - - بإقامة الصلاة، ومِمَّا يَنبَغي مُلاحَظَتُه أنَّ: كُلَّ ما جاء في القرآن الكريم فيما يتعلق بالأمر بالصَّلاة، إنَّما جاء بالأمر بإقامتها، ولم يأتِ بالأمر بأدائها لِلَّهِ
إذا عَلِمنا هذا؛ فلا يكون الإنسان مُقيمًا لصلاته حتى يأتي بِسِتَّة أشياء:
1ـ ما يَسْبِق هذه الصلاة، من الأمور الواجِبَة: كالطَّهَارَة وسَتْر العَوْرَة واسْتِقبال القِبْلَة، وغيرها. ويُلْحَق بها: السُّنَن التي تُصَاحِبُ هذه الأمور - كما تقدم -: كالتَّطَهُّر قبل الخُروج مِن البَيْت، والإتيانِ بالأدْعيَة... إلخ.(1/42)
2ـ أدَاء نَفسِ الصَّلاة؛ فإنْ تَرَكَ الصَّلاة ولم يُؤَدِّها = فهو كَافِرٌ كُفْرًا أكبر - على الصَّحيح مِن أقوال أهل العِلْم(1) -. والأدِلَّة على هذا كثيرة؛ ومنها:
أ- قوله - - سبحانه وتعالى - - ?y#n=sƒmْ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) ? [ مريم: 59،60 ]: فَلَوْلا أنَّهم كَفَروا بِتَرْكهم للصلاة لَمَا قال الله - - عز وجل - - ? إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ ?.
ب- قوله - - سبحانه وتعالى - - ? فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? [ التوبة: 5 ]، وقوله ? فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ? [ التوبة: 11 ]: فاشترط الله - - عز وجل - - لِتَخْلِيَة السَّبِيل والأُخُوَّة في الدِّين - فيما اشْتَرَطَ - أن يُقِيمُوا الصَّلاة.
ج- والأدِلَّة مِن السُّنَّة كُفْر تَارِك الصَّلاة كَثيرة؛ منها:
( 1 ) ماجاء في " صحيح مسلم "(2)، من حديث أبي الزبير وأبي سفيان، كلاهما عن جَابِر - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " بَيْنَ الرَّجُل وبَيْنَ الشِّرْك والكُفْر تَرْك الصَّلاة ": وهذا يَعْنِي أن الذي يُوقِع الإنسان في الكُفْر - أو في الشِّرْك - هو تَرْكه للصَّلاة، وأنَّ الذي يَمْنَعه من الوقوع في ذلك هو فِعْل الصَّلاة وأدائها.
__________
(1) راجع الاختلاف في المسألة في: " المغني ": ( 2 / 156 )، و" المجموع " ( 3 / 14 )، وبأوعب مِنهما في كتاب " الصلاة وحُكم تاركها " / لابن القيم.
(2) رواه مسلم ( 82 )، وأبو داود ( 4678 )، والترمذي ( 2618، 2620 )، وابن ماجه ( 1078 ).(1/43)
( 2 ) ما جاء في " السُّنَن " و" مُسْنَد الإمام أحمد "(1) - وهو صَحِيحٌ -، مِن حديث ابن بُرَيْدَة عن أبيه - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " العَهْد الذي بَيْنَنَا وبَيْنَهم الصلاة؛ فَمَن تَرَكَها فقد كَفَرَ ".
د- ومِن الأدِلَّة أيضًا: إجماع الصَّحابة - - رضي الله عنهم - -؛ فقَد أجْمَعوا على كُفْر تَارِك الصلاة، ولا نَعْلَم بينهم مُخالِفًا في ذلك؛ وإنَّما حَصَلَ الخِلافُ بَعْدَهم. وقد نَقل الإجماع على ذلك: الإمامان إسْحاق بن راَهَوَيْه ومحمد بن نَصْر المَرْوَزِي(2):
وقد رَوى الإمام محمد بن نصر المَرْوَزِي في كِتابِه " تَعْظيم قَدْرِ الصَّلاة "(3)، من حديث أبان بن صالح عن مُجَاهِد أنه سأل جابر - رضي الله عنه -: ما كان يُفَرِّق بين الكُفْر والإيمان عِندَكم مِن الأعمال في عَهد رسول الله ?؟ قال: " الصَّلاة ". فَجَابر - رضي الله عنه - يَحْكِي هذا عَن جماعَة الصحابة - - رضي الله عنهم - -.
وروى محمد بن نصر المَرْوَزي(4) - أيضًا - عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أنه قال: " تَرْك الصلاة كُفْر لا يُخْتَلَف فيه ".
ورَوى الترمذيُّ في " سُنَنِه "(5)، من حديث الجُرَيْرِي عن شَقِيق بن عبد الله العُقَيْلِي قال: " كان أصحاب محمد ? لا يَرَوْنَ شيئًا مِن الأعمال تَرْكه كُفْر غير الصلاة ": فهذا نَقْلٌ لإجماع الصحابة - - رضي الله عنهم - - على هذا.
3ـ أن يأتي بأرْكان الصَّلاة وَواجِباتها: وسوف يأتي بَيانُ ذلك تَفصيليًّا - بإذن الله -(6).
__________
(1) رواه الترمذي ( 2621 )، والنسائي ( 463 )، وابن ماجه ( 1079 ).
(2) " تَعظيم قَدْر الصَّلاة ": ( 925، 929، 930 وما بعدها / 2 ).
(3) " تَعظيم قَدْر الصَّلاة ": ( 877 / 2 ).
(4) " تَعظيم قَدْر الصَّلاة ": ( 925 / 2 ).
(5) برقم ( 2622 )، ورواه - أيضًا - ابن نصر في " تَعظيم قَدْر الصَّلاة ": ( 904 / 2 ).
(6) ص؟؟؟.(1/44)
4ـ أن يُحافِظَ على أداء الصَّلاة في وَقتها: كما قال - - عز وجل - - ? إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) ? [ النساء: 103 ]: أي: موقوتة في وَقْتٍ مُعَيِّن. والأدلة على هذا كثيرة(1).
5ـ أداء الصَّلاة بِخُشوعٍ وتَدَبُّر: وقد تَقَدَّم الكلامُ على ذلك(2).
6ـ أن يُحافِظَ على أدائها جَمَاعَةً مع المُسْلِمين، وهذا خَاصٌّ بالرِّجَال.
فهذه هي الأُمور السِّتَّة التي مَن أتى بها كان مُقيمًا للصلاة حَقيقةً.
q q q
( هذا الجزء لم يشرحه الشيخ يا خليل لِلَّهِ )
قوله: " وأن يقارب بين خطاه ويقول: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي جميعًا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "، ويقول: " اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي لساني نورًا واجعل في بصري نورًا وفي سمعي نورًا وأمامي نورًا وخلفي نورًا وعن يميني نورًا وعن شمالي نورًا وفوقي نورًا وتحتي نورًا اللهم أعطني نورًا " فإذا دخل المسجد استحب له أن يقدم رجله اليمنى ويقول: " بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم اللهم صل على محمد اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " وعند خروجه يقدم رجله اليسرى ويقول: " وافتح لي أبواب فضلك " وإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين لقوله ?: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " ويشتغل بذكر الله أو يسكت، ولا يخوض في حديث الدنيا فما دام كذلك فهو في صلاة والملائكة تستغفر له ما لم يؤذ أو يحدث ".
بابُ صفة الصلاة
__________
(1) مِنها: ما رواه البخاري ( 527، 2678 )، ومسلم ( 85، 830، 654 ).
(2) ص؟؟؟.(1/45)
" يستحب أن يقوم إليها عند قول المؤذن: " قد قامت الصلاة " إن كان الإمام في المسجد وإلا إذا رآه، قيل للإمام أحمد: قبل التكبير تقول شيئًا؟ قال: لا، إذ لم ينقل عن النبي ? ولا عن أحد من أصحابه، ثم يسوي الإمام الصفوف بمحاذاة المناكب والأكعب.
ويسن تكميل الصف الأول فالأول وتراص المأمومين وسد خلل الصفوف ويمنة كل صف أفضل، وقرب الأفضل من الإمام لقوله ?: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى " وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ".
الشَّرْح:
لا تَصِحُّ الأعْمَال التي يُتَقَرَّب بها إلى الله إلا بِشَرْطَيْن:
الأول: الإخلاص: ومَعناه: أن يكون المَرءُ قَاصِدًا بعمله وَجْهَ الله - عز وجل -، لا يُشْرِك مَعه غيرَه؛ لقوله - تعالى - ? أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ? [ الزمر: 2 ]، ? فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) ? [ غافر: 14 ]، ولقوله ?: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نَوَى "(1)، وغيرها مِن الأدِلَّة.
الثاني: المُتابَعَة: ومعناها: أن يكون هذا الفِعْل مُوافِقًا لِمَا شَرَعَه الله - - عز وجل - -، ولِمَا أنزله - - سبحانه وتعالى - - على رسوله ?.
إذا عَلِمنا هذا؛ فعلى المسلم أن يَقْتَدِي في جَميع أقواله وأعماله - ومِنها: صِفَة الصَّلاة - بالرَّسول ?.
وقد روى البخاري في " صحيحه "(2)، مِن حديث أبي قِلابَة عن مَالِك بن الحُوَيِّرِث - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " صَلُّوا كما رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
__________
(1) رواه البخاري عِدَّة مواضع، واستفتح به " صَحيحه " ( 1، 2529، 5070 )، ومسلم ( 1907 )، والترمذي ( 1647 )، وأبو داود ( 2201 )، والنسائي ( 75 )، وابن ماجه ( 4227 )، وغيرهم.
(2) رواه البخاري ( 631، 6008، 7246 )، والدارمي ( 1253 )، وسيأتي تخريجه بأطول مِن هُنا: ص؟؟؟.(1/46)
وفي " الصحيحين "(1)، مِن حديث أبي حازم عَن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي - رضي الله عنه - قال: "... رأيتُ رسول الله ? صَلَّى عليها [ يعني على أعواد المِنْبَر ]، وكَبَّر وهو عَلَيْها، ثُمَّ رَكَعَ وهو عَلَيْها، ثُمَّ نَزَل القَهْقَرى؛ فَسَجَد في أصْل المِنْبَر، ثم عادَ. فَلَما فَرَغَ أقبل على الناس؛ فقال: أيُّها النَّاس؛ إنَّما صَنَعتُ هذا لِتأتَمُّوا ولِتَعْلَموا صَلاتي ".
وفي رواية أُخْرَى للبُخارِي(2): " فاسْتَقْبَلَ القِبْلَة وكَبَّر، وقام النَّاسُ خَلفَه، فقرأ، ورَكَعَ ورَكَع النَّاسُ خَلفَه... ".
فرسول الله ? لم يَصْعَد المِنْبَر ليَخْطُب في النَّاس؛ وإنَّما لكي يُصَلِّي؛ فيَتَعَلَّم النَّاسُ صلاتَه ? ويَقْتَدوا به في صِفَة صَلاتِه، وقد بَيَّن ذلك للنَّاس، مع أنَّ الأصل أنَّ صلاة الإمام في مكانٍ مُرْتَفِع عن المأمومين مَنْهِيٌّ عنه، كما جاء ذلك - بإسنادٍ صَحيح - عِندَ عبد الرزاق في " المُصَنَّف "، ورواه ابن المنذر في " الأوسط "(3)، في قِصَّة حُذَيفة بن اليمان وأبي مَسْعود الأنصاري - رضي الله عنهما -: فعَن هَمَّامٍ قال: " صَلَّى بنا حُذَيْفَة على مكان مرتفع، فَسَجَدَ، فَجَبَذَه أبو مسعود، فتابعه حذيفة. فلما قضى الصلاة؛ قال له أبو مسعود: أليس قد نُهِيَ عن هذا؟ قال له حذيفة: ألم ترَ أني قد تابعتُك؟ ".
ولكن صَلَّى رسول الله ? بهم مُرتَفِعًا؛ لأجل التَّعليم؛ حتى يقتدي الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - - بصلاته ?، ثُمَّ يُبَلِّغُوها للتابعين... وهكذا؛ حتى تَتَعَلَّم الأُمَّة صِفَة صلاة رسول الله ?.
__________
(1) رواه البخاري ( 917 )، ومسلم ( 544 ).
(2) برقم ( 377 ).
(3) رواه الشافعي في " مُسْنَدِه ": ( ص 59 )، ومِن طريقه ابن المنذر في " الأوسط " ( 1919 )، ورواه عبد الرزاق في " مُصَنَّفِه ": ( 2 / 413 ).(1/47)
والصَّلاة هي الرُّكْن الثاني مِن أرْكان الإسلام الخَمْسَة، ومكانتها في الدِّين مَعروفة؛ وهي أوَّل ما يُحاسَبُ عليه العَبْد يومَ القيامَة(1)، هذا بعد بَعْث الأجساد وقيام الأرواح، أما في القبر ( دار البَرْزَخ ): فإنَّه يُسأل عَن رَبِّه ودِينِه ونَبِيِّه ? (2).
فعلى الإنسان أن يَهْتَم بصلاتِه ويَعْتَني بها، ومِن اهتمامِه بها: أن يُصَلِّيها كما صلاها رسول الله ?، وقد جاء في " الصحيحين "، في حديث " المُسىء صلاتَه "(3)، مِن حَديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ? دخل المسجد، فدخل رجل فصلى فَسَلَّم على النبي ?؛ فَرَدَّ وقال: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ. فَرَجَع يُصَلِّي كما صَلَّى، ثم جاء فَسَلَّم على النبي ?؛ فقال: ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ - ثلاثًا -. فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحْسِن غيره؛ فَعَلِّمني. فقال: " إذا قُمتَ إلى الصلاة فَكَبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا... " الحَديث.
__________
(1) جاء هذا في حَديثٍ رواه الترمذي ( 413 )، وأبو داود ( 864 )، والنسائي ( 465 ) وغيرهم.
(2) جاء هذا في حَديثٍ رواه أبو داود ( 4753 ) وأحمد ( 4 / 287 )، وأصله في البخاري ( 1338، 1369، 4699 ) ومسلم (2871، 905 ).
(3) رُوي هذا الحَديث مِن حديث أبي هريرة ومِن حديث رفاعة بن رافع الزُّرَقي - رضي الله عنهما -:
أما حديث أبي هريرة:
فقد رواه البخاري - واللفظ له - ( 757، 793، 6251، 6667 )، وابن أبي شيبة ( 1 / 257 ) - ومِن طريقه مسلم ( 397 ) -، والترمذي ( 303، 2692 )، والنسائي ( 884 ) - ومِن طريقه ابن عبد البر 9 / 183 -، وأبو داود ( 856 ) - ومِن طريقة أبو عوانة 1 / 433 -، وابن ماجه ( 1060 )، وأحمد ( 2 / 437 )، وغيرهم.
وأما حديث رفاعة: فسيأتي تخريجه: ص؟؟؟.
وقال الترمذي: " وفي الباب: عن... عمار بن ياسر "؛ فليُخَرَّج.(1/48)
فهنا رَدَّ الرسول ? الرَّجُل ثلاث مرات، وفي كُلِّ هذه المرات الثلاث يَحْكُم على صلاته بالبُطْلَان وأنَّها لا تَصِحُّ بالكيفية التي أدَّاها؛ لأنَّه لم يَقْتَدِ فيها بصلاة الرسول ? ولم يطمَئِن فيها. ثُمَّ عَلَّمه كيف يُصَلِّي الصلاة الصَّحيحة.
وقد جاء في " صحيح البخاري " وفي " مُصَنَّف عبد الرزاق "(1)، من حديث الأعمش عن زيد بن وهب قال: " رأى حُذَيْفَة(2) رجلًا لا يُتِم الركوع والسجود. ( زاد عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والبيهقي وغيرهما: فقال له: مُنذ كم صليتَ هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة ). قالَ: ما صليتَ ( وفي رواية ابن أبي شيبة والنسائي: منذ أربعين سنة )، ولو مُتَّ مُتَّ على غير الفِطْرَة التي فَطَرَ اللهُ محمدًا ? عليها ".
فَبَيَّن حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - للرَّجُل أنَّه منذ أربعين سَنَةً لا يُصَلِّي؛ لأنَّ صلاته لم تَقَع على الوَجْه الصَّحيح = فهي بَاطِلَة.
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - ( 791 ) مِن طريق الأعمش عن زيد بن وهب، ورواه أيضًا ( 389، 808 ) من طريق واصل بن حيان عن شقيق بن سلمة عن حذيفة.
ورواه عبد الرزاق: ( 2 / 368 )، وابن أبي شيبة: ( 1 / 258 )، وأحمد: ( 5/ 384 ) والبيهقي ( 2 / 386 )، كلهم مِن طريق الأعمش، وكلهم رَوَوه بهذه الزيادة. ورواه أحمد - أيضًا -: ( 5 / 396 ) من طريق واصل إلا أنه قال: " صليتُها منذ كذا وكذا ".
وخَرَّجه - أيضًا - النسائي ( 1312 )، مِن طريق طلحة بن مُصَرِّف عن زيد بن وهب بهذه الزيادة.
(2) وهو حُذَيفة بن اليمان العَبسي، مِن الصَّحابَة، رضي الله عنه.(1/49)
وقد جاء في " مُصَنَّف بن أبي شيبة "(1)، من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفًا عليه مِن قوله: "إن الرجل ليصلي ستين سنة ما تقبل له صلاة؛ لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع".
وهذا الذي وُصِف في الأحاديث والآثار السابِقَة - مِن عَدَم الاطمئنان في الصَّلاة - هو - وللأسف - حال كَثيرٍ مِن النَّاس؛ فَعِندما نَنظُر إلى صلاة كَثيرٍ مِن النَّاس = نَجِد أنهم يَنقرونَها نَقْرًا لِلَّهِ فلا يأتون بالرُّكوع - أو السُّجُود - الكامِل الصَّحيح، ولا يَطْمَئِنونَ في حَرَكَة أعضائِهم. وهؤلاء - بلا شَكٍّ - صلاتُهم غَيْر صحيحة - كما تقدم في النُّصوص السابقة -.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 257 )، وهشام بن عمار - وهو في حديثه: ( برقم 129 ) - عَن شيخه سعيد: ثنا محمد بن عمرو عن مشيختهم عن أبي هريرة به.(1/50)
ولقد بَيَّنَ الرسول ? لَنَا صِفَةَ الصلاة، وأَمَرَنَا أن نَقْتَدِي به فيها، ولَمَّا افترض الله - - عز وجل - - الصلاة عَلينا، أنْزَلَ جبريل - عليه السلام - حَتَّى يُبَيِّن للرسول ? كيفية الصَّلاة؛ فاقتدى به ?؛ فَصَلَّى خلفه خمس صلوات؛ كما جاء في " الصحيحين "(1)، من حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود الأنصاري عن أبيه أن جبريل - عليه السلام - " نزل فَصَلَّى فَصَلَّى رسول الله ?، ثم صَلَّى فَصَلَّى رسول الله ?، ثم صَلَّى فَصَلَّى رسول الله ?، ثم صَلَّى فَصَلَّى رسول الله ?، ثم صَلَّى فَصَلَّى رسول الله ? ". وفي رواية أحمد: " نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رسولُ الله ?وصَلَّى مَعه النَّاس... حتى عَدَّ خمس صَلَوات ".
__________
(1) رواه البخاري ( 522، 4007، 3221 )، ومسلم ( 610، 611 )، ومالك في الموطأ (2 ) - ومِن طريقه البخاري ومسلم وأحمد ( 5 / 274)، والبيهقي ( 1 / 363 ) في إحدى طرقهم، والدارمي ( 1185 )-. و رواه - أيضًا - النسائي ( 494 )، وأبو داود ( 394 )، وابن ماجه ( 668 )، وأحمد - أيضًا - ( 4 / 120 )، وابن أبي شيبة في " المصنف ": ( 1 / 282 )، وعبد الرزاق: ( 1 / 541 )، والبيهقي: ( 1 / 441 ).(1/51)
ثُمَّ عَلَّم النبي ? أصحابه - - رضي الله عنهم - - هذه الصلاة، وأمَرَهُم أن يَقْتَدُوا به فيها، وكانوا - - رضي الله عنهم - - يَدْعُونَ النَّاس إلى الاقتداء به ?، ويُعَلِّمونَهم صِفَة صلاتِه ?؛ كما مَرَّ هذا مَعنا في أثَرَي حذيفة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - السَّابِقَيْن(1). ومِن ذلك أيضًا: ما جاء في " صحيح البخاري "(2)، عَن أبي قِلابَة - رحمه الله - قال: " كان مالك بن الحُوَيْرِث - رضي الله عنه - يُرِينا كيف كان صلاة النبي ? ( وفي رواية للنسائي وغيره: يأتينا فيقول: ألا أُحَدِّثكم عن صلاة رسول الله ?؟ )، وذاك في غير وَقْت صَلاة، فقام فأمْكَن القيام، ثم رَكَع فأمكن الركوع، ثم رفع رأسه، فأنْصَب هُنَيَّة... " الحديث.
وفي رواية(3): " جاءنا مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - فَصَلَّى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأُصَلِّي بكم وما أُريد الصلاة؛ ولكن أُريد أن أُريكم كيف رأيتُ النبي ? يُصَلِّي... " الحَديث.
وقال مالِك بن الحُوَيْرِث(4): " فأتينا النبي ? فأقمنا عنده، فقال: لو رجعتُم إلى أهليكم صلوا صلاة كذا في حين كذا، صلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن أحدكم وليؤمكم أكبركم ".
وفي رواية(5)
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري - واللفظ له - ( 802 )، والنسائي ( 1153 )، وأحمد ( 5 / 53 - 54 ). وابن أبي شيبة ( 1 / 348 ) - ومِن طريقه البيهقي ( 2 / 135 ) -.
(3) رواه البخاري ( 824، 677 )، وأبو داود ( 842، 843 ) وأحمد ( 3 / 436 )، والبيهقي ( 2 / 124 ).
(4) هذا لفظ إحدى روايات البُخاري ( 819 ).
(5) رواه البخاري ( 631، 6008، 7246 ) - ومِن طريقه ابن حزم في " المُحَلّى ": 3 / 234 -، ورواه الشافعي في " مُسْنَدِه " ( ص: 55 )، وأحمد ( 5 / 53 )، والدارمي ( 1253 )، وابن حبان ( 4 / 541، 5 / 503 - إحسان )، والدارقطني في " سُنَنِه ": ( 1 / 273 )، والبيهقي ( 1 / 385 ).
ورواه مسلم - أيضًا - ( 674 )، والنسائي ( 635 )، ورواه مختصرًا: أبو داود ( 589 ) و ابن ماجه ( 979 )، ولكن ليس عندهم جميعًا قوله -?-: " صلوا كما رأيتموني أُصَلِّي ".(1/52)
: " ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعَلِّموهم ومُروهم - وذَكَر أشياءَ أحفظها ولا أحفظها -، وصَلُّوا كما رأيتموني أصلي... ".
وفي " صحيح البخاري "(1) عَن مُحَمَّد بن عمرو بن عطاء أنه كانَ جالسًا مع نفر من أصحاب النبي ?، فذكرنا صلاة النبي ? ( وفي رواية للترمذي وأبي داود وابن ماجه وأحمد: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله ?، مِنهم أبو قتادة )؛ فقالَ أبو حُمَيْدٍ الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله ? ( وفي رواية لأبي داود: قالوا: فاعْرِض ): رأيتُه إذا كبر جعل يديه حِذَاء مَنْكِبَيْه... فَذَكَرَ الحديث.
وفي رواية(2) - وهي خارِج الصَّحيح - قالوا بعد انتهاء صلاتِه: " صَدَقْتَ؛ هكذا صَلَّى النبي ? ".
__________
(1) رواه البخاري - والسياق له - ( 828 ) - ومِن طريقه البيهقي ( 2 / 127 ) -، ورواه أيضًا البيهقي في عِدَّة مواضع: ( 2 / 84، 97، 102، 116 )، وأبو داود ( 730، 963 )، والترمذي ( 304 )، وابن ماجه ( 1061، 862، 863 )، وأحمد ( 5 / 424 )، والدارمي ( 1356، 1307 ). وروى النسائي بَعْضَه دون أوَّلِه ( 1181، 1039، 1101، 1262 )، وأخرجه أيضًا ابن حِبَّان: ( 5/182 - " إحسان " ).
(2) رواه بالزيادَة: الترمذي - ولفظ الزيادة له - ( 304 )، وأبو داود ( 730، 963 )، وابن ماجه ( 1061 )، والدارمي ( 1356 )، وابن حِبَّان: ( 5/184 - إحسان ).(1/53)
ولَمَّا كان أمر الصلاة بهذه المَنزِلَة والمكانة؛ كان مِن المُنبَغي على أهْل العِلْم وطَلَبَتِه أن يُنَبِّهوا الناس على وجوب الاقتداء بالرسول ?، ويُبَيِّنُوا لهم صِفَة الصَّلاة الصَّحيحة، قارِنين ذلك بالناحية العَمَليَّة؛ لأن بعض الناس لا يَتَصَوَّر التَّصَوُّر الصَّحيح، ولا يَكْمُل عِندَه الفَهْم = إلا بالبَيان العَمَلي، وبعضهم إذا شَرَحْتَ له قد لا يَفْهَم مُرادَك، وقد تُشْكِل عليه بعض الأُمُور. فإذا قُرِنَ ذلك بالناحية العَمَليَّة اكْتَمَلَت عِندَه صِفَة الصَّلاة دونَ لِبْسٍ أو إشْكَال.
وقَد بَيَّن أهل العلم كيفية صلاةِ الرسول ? أحْسَن بيانٍ وأتَمَّه، وأُلِّفَت في ذلك المؤلفات الكثيرة(1)، ومِنْ ذلك: مَا جاء في " صَحِيحَي البُخارِي ومسلم بن الحجاج "، وكُتُبِ أصْحَاب " السُّنَن "، وغيرهم مِن أهل العلم.
__________
(1) ومِن أوْعَبِها وأغزرها فائِدَة كتاب العلامة الشيخ ( الألباني ) - رحمه الله تعالى -: " صفة صلاة النبي ?، من التكبير إلى التسليم، كأنَّك تراها "، ولم يُصَنَّف مِثله في بابِه.(1/54)
ومِمَّا يُسْتَلْطَف ذِكْره - هُنا - أن الإمام أبا حاتم ابن حبان البستي، صاحب كتاب " التقاسيم والأنواع " المعروف بـ " صحيح ابن حبان " = له كِتَابٌ خَاصٌّ في بيان صفة صلاة الرسول ? ذَكَرَه في " صحيحه "(1)؛ فقال: " في أرْبَع ركعات يصليها الإنسان ست مئة سنة عن النبي ? أخرجناها بفصولها في كتاب " صفة الصلاة " " لِلَّهِ فالذي يبدو أنَّه جَمَع النُّصوص واستقرأها، وحَسَبَ السُّنَن مِنها؛ فبلغت عِندَه سِتَمائة سُنَّة. وهذا الكتاب غير مَطبوع؛ بل لا نَعْلَم أنَّه موجود لِلَّهِ فلعله يوجد مُخطوطًا في بَعْض الأماكِن التي لم يَشْتَهِر أمرُها بَين طَلَبَة العِلْم، يَسَّر الله العُثور عليه وطَبعه على خَير.
ويَدُلُّ هذا كُلُّه على عَظيم اعْتِناءِ أهْل العِلْم بالصلاة وأمرِها، وحِرْصهم على ما جاء عن الرسول ? في ذلك.
ومِن الأحاديث المشهورة التي وَصَفَت صَلاةَ الرسول ?:
( 1) حديث أبي حُمَيْد السَّاعِدِي - رضي الله عنه -: رُوي مِن طُرُق مُتَعَدِّدَة. ومن أصَحِّها: ما جاء مِن حديث محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء عنه(2). وقد خَرَّجه البخاري وأصْحَاب السُّنَن وغيرهم(3).
وله طريق آخر(4): مِن حديث فُلَيْح بن سُلَيْمَان عن عباس بن سهل الساعدي عنه.
__________
(1) " صحيح ابن حِبَّان ": ( 5/184 - إحسان )، ذَكَرَ هذا بعد تَخْريجه لحديث أبي حميد الساعدي - - رضي الله عنه - - الذي قال فيه: " أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ? ".
(2) وهي رواية البخاري ( 828 )، وأبي داود ( 963، 730 ) وغيرهم.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(4) رواه أبو داود ( 730 ، 963 )، وروى الترمذي بَعْضَه مُفَرَّقًا في " سُنَنِه ": ( 260، 270، 293 )، وروى ابن ماجه مِنه رَفْع اليَدين للرُّكوع والرَّفع مِنه ( 863 )، وروى الدارمي بعضه ( 1307 ).(1/55)
( 2 ) حَديث " المُسىء صَلاتَه ": ثَبَتَ في " الصحيحين "(1) من حديث المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.
( 3) حَديث عائشة - رضي الله عنها -: رواه بُدَيْل من مَيْسَرَة عن أبي الجَوْزَاء عنها. وخَرَّجه مسلم(2)، إلا أنَّ الإمام أحمد تَكَلَّم في سَماع أبي الجَوزاء من عائشة(3)، لكن للحَديث شواهِد.
وسيأتي كُلُّ شاهِدٍ مِن هذه الأحاديث في مَوضِعِه مِن صِفة الصَّلاة، إنْ شَاءَ اللهُ - تعالى -.
q q q q q
قوله: " يُسْتَحَبُّ أن يقوم إليها عند قول المؤذن: " قد قامت الصلاة " إن كان الإمام في المسجد، وإلا إذا رآه ":
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أن يقوم للصَّلاة مِن حين شُروع المُؤَذِّن في الإقامة، هذا إذا كان الإمام في المَسْجِد، وقد جاء في " الصحيحين "(4)، من حديث يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " إذا أُقيمَت الصَّلاة فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي قد خَرَجْتُ ". فإذا كان الإمام في المسجد وأمَرَ المُؤَذِّن أن يُقيمَ الصلاة؛ فينبغي للمأمومين أن يُسَوُّوا صُفُوفَهم ويتهيأوا للصلاة.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في وَقْت القيام إلى الصلاة(5):
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) برقم ( 498 )، وأبو داود ( 783 ).
(3) وتَكَلَّم في سَماعِه مِنها - أيضًا -: البخاري وابن عبد البر.
راجع: " الكامل " / لابن عَدي: ( 1 / 411 )، و" التمهيد ": ( 20 / 205 )، و" تهذيب التهذيب ": ( 1 / 335 )، و " نصب الراية ": ( 1 / 334 )، و" خُلاصة البَدْر المُنير " / لابن المُلقن: ( 1 / 117 )، و" التلخيص الحبير": ( 1 / 217 ).
(4) رواه البخاري (637، 909 )، ومسلم - واللفظ له ولِمَن بعده - ( 604 )، والترمذي ( 592 ) والنسائي ( 687 ).
(5) راجع: " الأوسط " / لابن المنذر: ( 4 / 167 )، و" المجموع ": ( 3 / 258 )، و" المغني ": ( 1 / 275 ).(1/56)
( 1 ) والرَّاجِحُ - وهو الذي دَلَّت عليه الأدِلَّة - ما قُلْناه؛ لأنَّ سَبَبَ(1)
__________
(1) قال الحافظ ( ابن رَجَب ) - رحمه الله - في " الفتح ": ( 5 / 414 ): " وقد ذَكَرَ الدارقطني وغير واحِدٍ مِن الحُفَّاظ أنَّ هذا الحَديث - يعني لفظ حَديث أبي قتادَة - اختصره الوليد بن مُسْلِم مِن الحَديث الذي قبله - يعني حَديث أبي هريرة -؛ فأتى به بهذا اللَّفظ " اهـ.
وقال مُحَقِّقوا " الفتح " - جزاهم الله خيرًا -: " وكذا قال أبو الفضل بن عمار الشهيد - رحمه الله - في " علل الأحاديث في كِتاب الصَّحيح لمسلم بن الحجاج ": ( ص 78 )، وعزى ابن عمار الحَديث مِن طريق داود بن رشيد إلى " صَحيح مُسْلِم "، ولم نَجِده في المطبوع مِنه، ولعله في نُسْخَة مِن نُسَخ الصَّحيح التي وَقَف عليها ابن عمار، ولم تقع للحافظ المزي - انظر: " التُّحْفَة ": ( 11 / 35 ) -، والذي في المطبوع مِن " الصحيح ": فمن رواية إبراهيم بن موسى عن الوليد " اهـ.
وهذا ما اسْتَظْهَره الحافظ ( ابن حَجر ) - رحمه الله - في " الفتح ": ( 2 / 120 )، وقاله احتمالاً؛ فراجِعْه. وهما حَديثان: حَديث أبي هُرَيرة - - رضي الله عنه - - في قيامهم - - رضي الله عنهم - - قبل دخوله ?، وحَديث أبي قتادة - - رضي الله عنه - - في نَهيهم عَن القيام إلا بعد رؤيته ? قد خرج، والجَمع بينهما مُحْتَمَل معنى. ويظهر أن الحافِظ لم يَقِف عليه أيضًا. والله أعلم.(1/57)
حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النَّاس قاموا ذات مَرَّةٍ بعد إقامَة الصَّلاة، وتأخَّر عَنهم رسول الله ? قليلًا(1)، فكأنه ? رأى أن ذلك قد شَقَّ عليهم؛ فقال: " لا تقوموا حتى تروني خَرَجْتُ ".
( 2 ) وذَهَب بَعْضُ أهْل العِلْم إلى أنَّهم يقومون عِندَ قَولِ المؤذن: " قد قامت الصلاة ": وجاء هذا عن بعض الصحابة - - رضي الله عنهم - -؛ فَرَوى ابنُ المنذر في " الأوسط "(2)، من حديث ابن المبارك عن أبي يعلى قال: " رأيتُ أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذا قيل: " قد قامت الصلاة "؛ وَثَبَ فقام ".
( 3 ) وذَهَبَ آخَرون إلى أنهم يَقومون عِندَ قول المؤذن: " حي على الفلاح "، وهذا مَذْهَب أبي حنيفة - رحمه الله - وبعض أصحابه.
( 4 ) وذَهَبَ الإمام مَالِك - رحمه الله - إلى أنه: ليس هناك حَدٌّ مُعَيِّنٌ في قيام المأموين للصلاة؛ فقال(3): " أمَّا قِيام النَّاسِ حين تُقام الصَّلاة: فإنِّي لم أسْمَع في ذلك بِحَدٍّ يُقام له، إلا أني أرى ذلك على قَدْر طاقة النَّاس؛ فإنَّ مِنهم الثَّقيل والخَفيف، ولا يستطيعون أن يكونوا كَرَجُلٍ واحِدٍ " = فالأمر فيه سَعَة عِندَه.
والرَّاجِح - كما قُلنا - هو القول الأول.
__________
(1) رواه البخاري ( 275 )، ومسلم ( 605 )، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -، ولفظ مُسْلِم: " أُقيمَت الصلاة، فَقُمنا فعَدَّلنا الصُّفوف قبل أن يَخْرُج إلينا رسول الله ?، فأتى رسول الله - ? - حتى إذا قام في مُصَلَّاه قبل أن يُكَبِّر، ذَكَرَ فانصرف؛ وقال لنا: مكانَكم. فلم نَزَل قيامًا ننتظره حتى خرج إلينا وقد اغتسل، يَنْظُفُ رأسُه ماءً؛ فَكَبَّر، فَصَلَّى بِنا ".
(2) برقم ( 1922 )، وحكاه عنه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 20 ) دون أن يُسْنِدَه.
(3) في " موطأه ": ( 1 / 71 )، وراجع: " الأوسط " / لابن المنذر: ( 4 / 167 ).(1/58)
وأما إذا كان الإمامُ غَيْرَ مَوجودٍ: فالأصل أن المؤذِّن ينتظِر حتى مجيئه، فإذا جاء الإمام وأقيمَت الصَّلاة؛ قام النَّاس لها مَع شُروع المؤذِّن في الإقامة.
قوله: " قيل للإمام أحمد(1): قبل التكبير تقول شيئًا؟ قال: لا؛ إذ لم يُنقَل عن النبي ? ولا عن أحد مِن أصحابه ":
إذا قام النَّاس للصلاة وسَوَّوْا صُفوفَهم: فليس ثَمَّ ذِكْرٌ أو دُعاءٌ مأثورٌ يُقال؛ وإنَّما يُشْرَع الدُّخول في الصَّلاة، بتَكبيرة الإحرام - كما هو مَعْلومٌ -.
وقَصَدَ المُصَنِّف فيما نقله عن الإمام أحمد - رحمهما الله -: أن يَرُدَّ على مَن يَتَلَفَّظُ بالنِّيَّة قبل الدُّخول في الصَّلاة - فبعض النَّاس لا يُحْرِم بالصَّلاة إلا إذا قال: نَوَيْتُ أن أُصَلِّي أربع ركعات صلاة العشاء، أو: نَوَيْتُ أني أُصَلِّي ثلاث ركعات صلاة المغرب، وبعضهم يزيد: خَلْفَ الإمام الفلاني لِلَّهِ -: وهذا كُلُّه مِن البِدَع؛ وليس عليه دليلٌ؛ فلم يكن الرسول ? ولا صحابَتِه - - رضي الله عنهم - - ولا أحَدٌ مِن السَّلَف الصَّالِح يقولون شيئًا مِن ذلك.
__________
(1) راجع: " مسائل أحمد " / لأبي داود: ( ص 30 )، و" شَرْح العُمدَة " / لشيخ الإسلام ( ابن تيمية ): ( ص 591 - كتاب الصَّلاة )، و" الفُروع ": ( 1 / 111، 362 )، و" كشاف القناع " - واللفظ بِتَمامِه له -: ( 1 / 328 )، و" مجموع الفتاوى ": ( 22 / 221 ).(1/59)
وأمَّا ما نَقَلَه بَعْضُ أهْل العِلْم عَن الإمام الشافعي - رحمه الله - أنَّه يَرَى مَشروعيَّة التَّلَفُّظ بالنيَّة: فهذا خَطأٌ عليه - رحمه الله -، كما بَيَّن ذلك الإمامان: ابن تيمية(1) وابن القيم(2) - رَحِمَهما الله تعالى -. فبَيَّنا أنَّ مُراد الإمام الشافعي - رحمه الله - بالنيَّة: نيَّة الدُّخول للصَّلاة بِقَلْبِه، لا التَّلَفُّظ والجَهْر بها باللِّسان.
فالحاصِلُ أنَّ التَّلَفُّظَ بالنيَّة مِنَ البِدَع ومُحْدَثات الأُمور.
__________
(1) قال - رحمه الله - ( كما في " مجموع فتاواه ": ( 22 / 221 ) ): "... التَّلَفُّظ بالنيَّة لا يجب عِند أحد مِن الأئمة، ولكن بعض المتأخرين خَرَّج وَجْهًا في مذهب الشافعي بوجوب ذلك، وغَلَّطَه جماهير أصحاب الشافعي، وكان غلطه أن الشافعي قال : " لا بُدَّ مِن النُّطْق في أوَّلها "؛ فَظَنَّ هذا الغالط أن الشافعي أراد النُّطْق بالنيَّة لِلَّهِ فَغَلَّطه أصحاب الشافعي جميعهم؛ وقالوا : إنَّما أراد النُّطْق بالتَّكبير، لا بالنيَّة " اهـ المُراد مِنه.
(2) قال - رحمه الله - في كِتابه " زاد المعاد ": ( 1/ 194، طـ الرسالة ): " كان ? إذا قام إلى الصلاة قال: " اللهُ أكبر " ولم يقل شيئًا قبلها ولا تلفظ بالنية ألبتة.... " إلى أن قال: " وإنَّما غَرَّ بعض المتأخرين قول الشافعي - رضي الله عنه - في الصلاة: " إنها ليست كالصيام، ولا يَدْخُل فيها أحد إلا بِذِكْر "؛ فَظَنَّ أن الذِّكْر تَلَفُّظ المُصَلِّي بالنيَّة لِلَّهِ وإنَّما أراد الشافعي - رحمه الله - بالذِّكْر تكبيرة الإحرام ليس إلا؛ وكيف يَسْتَحِبُّ الشافعيُّ أمرًا لم يفعله النبي ? في صَلاةٍ واحِدَةٍ، ولا أحدٌ مِن خُلفائه وأصحابه... " إلخ كلامه.
وراجع: " تصحيح الدعاء " / للعلامة ( بكر بن عبد الله أبو زيد ): ( ص 417 ).(1/60)
ولم يُنْقَل عَن رسول الله ? التَّلَفُّظُ بالنيَّة في أي عِبادَةٍ مِن العِبادات، إلا في الحَجِّ والعُمْرَة؛ فقد ثَبَت في " الصحيحين "(1)، من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه سَمِعَ الرسول ? يقول: " لبيك عُمْرَة وحَجًّا " - لأنَّه كان قَارِنًا -، وقال أنس - رضي الله عنه -:... " سمعتهم يَصْرُخون بهما جَميعًا ( أي بالحَج والعُمْرَة ) "(2).
فدَلَّت السُّنَّة على مَشروعيَّة التَّلَفُّظ بالنيَّة في هذه العِبادَة فقط؛ فإذا أراد الإنسان أن يَحُجَّ، فإنْ كان مُتَمَتِّعًا قال: " لبيك اللهم عُمْرَة مُتَمَتِّعًا بها إلى الحج "، وإنْ كان قَارِنًا قال: " لبيك عمرةً وحَجًّا "، وإنْ أراد أن يؤدي العُمْرَة وَحْدَها قال: " لبيك عُمْرَة ".
قوله: " ثم يُسَوِّي الإمام الصفوف بمحاذاة المناكب والأكعب. ويُسَنُّ تكميل الصف الأول فالأول ":
يُسَنُّ للإمام أن يُسَوِّي الصُّفوف للصَّلاة. وتَسْويَة الصف في الصلاة على قِسْمَيْن:
__________
(1) رواه مسلم - واللفظ له - ( 1232، 1251 )، والبخاري ( 1551 ). وَروياه أيضًا مِن حَديث جابر - - رضي الله عنه - -: البخاري ( 1570 )، ومسلم ( 1216 ).
(2) رواه البخاري ( 1548، 2951 )، وأبو يَعْلَى في " مُسْنَدِه ": ( 5 / 181، 7 / 202 )، والطبراني في " الأوْسَط ": ( 6 / 269 )، والبيهقي ( 5 / 10، 40 )، والطَّحاوي في " شَرْح مَعاني الآثار ": ( 2 / 153 ).(1/61)
الأول: تَسْوية واجِبَة: وصُورَتها أن يتراصَّ النَّاسُ صُفوفًا مُجْتَمِعَة خَلف إمامهم، مُنضَمِّين إلى بَعْضِهم البعض، ويُتَمَّ الصَّفُ الأول فالذي يَليه وهكذا، ولا يُبْدَء في إقامَة الصَّف الثاني إلا بعد إتمام الصَّف الأوَّل، وهكذا في الصَّف الثالث والذي يَليه. ولا يجوز أن تُصَلِّي كل جماعة مُنفَرِدَةً عَن أُخْتِها دون تراص وانضمام. فقد ثَبَت في " صحيح مسلم "(1) أن الرسول ? قال: " ألا تَصُفُّون كما تَصُفُّ الملائكةُ عند رَبِّها؟ "، فقلنا: يا رَسول الله؛ وكيف تَصُفُّ الملائكةُ عِندَ رَبِّها؟ قال: " يُتِمُّون الصُّفوف الأُوَل، ووَيَتَرَاصُّون في الصَّف ".
وقد أفادَت بعض النُّصوص مِن السُّنَّة النَّبوية أنَّ مَن صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنفَرِدًا وَحْدَه = فصلاته باطِلَة: كما جاء ذلك في حديث وَابِصَة بن مَعْبَد - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلاً " صَلَّى خَلْفَ الصَّف وَحْدَه فأمره النبيُّ ? أن يُعيد الصَّلاة "(2). وقال في حَديث علي بن شَيبان - رضي الله عنه - لَمَّا رأى رَجُلًا فَرْدًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّف: " اسْتَقْبِل صلاتَك؛ لا صلاة للذي خَلْفَ الصف "(3)، وهو حديث صحيح.
وهذا الأمْرُ فيه تَفصيلٌ:
فلا يَخْلو الإنسان إما: أن يأتي بعد كمال الصَّف ولا يَجِد فيه مُتَّسَعًا للوقوف فيه، ولم يَجِد مَن يَصُفُّ بجوارِه: فهل ينتظر حتى تنتهي الصلاة ويُصَلِّي مُنفَرِدًا بعد نهاية الصلاة؟! أم يَسْتَقِل بنفسه عَن الجَماعَة ويُصَلِّي مُنفَرِدًا عَنهم ولا يَنوى الائتمام بإمام الجَماعَة؟
__________
(1) برقم ( 430 )، ورواه أبو داود ( 661 )، والنسائي ( 816 )، وابن ماجه ( 992 ).
(2) رواه الترمذي ( 230، 231 )، وأبو داود ( 682 )، وابن ماجه ( 1004 ).
(3) رواه ابن ماجه ( 1003 )، وأحمد ( 4 / 23 ).(1/62)
لا هذا ولا ذاك؛ بل في هذه الحالة يُصَلِّي وَحْدَه خَلف الصَّف الكامِل، ويَقِف في وَسَطِ الصَّف بادئًا به، لا عَن يَمَينه أو يسارِه، وصلاتُه صَحيحة ولا شىء عليه. والدليل على ذلك أن القاعِدَة الفقهيَّة تَنُصُّ على أنَّ: " الواجِب يَسْقُط بالعَجْز وعَدَم الاستطاعة "؛ والأدِلَّة على هذه القاعِدَة كثيرة؛ مِنها: قوله - - عز وجل - - ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? [ التغابن: 16 ]، وقوله ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ].
ومِن الأمْثِلَة التَّطبيقية على هذه القاعِدَة: أنَّ الأصل في القيام في الصلاة المفروضة أنَّه رُكْنٌ لا تَصِحُّ الصَّلاة إلا به، فَمَن لم يَقْدِر على القيام = صَلَّى جالِسًا، وصلاتُه صحيحة؛ كما ثَبَتَ ذلك في حديث عِمْرَان بن حُصَين - رضي الله عنه - (1). ومَن لم يَسْتَطِع السُّجود أومأ إيماءً... وهكذا.
وأما إذا وَجَد مُتَّسَعًا فَصَلَّى خلف الصَّف وَحْدَه: فصلاته باطِلَة.
فالأصل: عَدَم جواز صلاة المُنفَرِد خَلف الصَّف، لكن يَسْقُط هذا الحق عند عدم استطاعة الإنسان على الإتيان بهذا الواجب؛ كأن يكون الصَّفُ كاملًا ولم يَجِد أحدًا يَصُفُّ معه؛ لأنَّه إن انتَظَر حتى فَراغ صلاة الجَماعَة وصَلَّى وَحْدَه، أو لم يَنْوِ الائتمام بالإمام وصَلَّى لِنَفْسِه: فهذا خِلافُ النُّصوصِ الآمِرَة بالجماعة. فعليه - والحال هكذا - أن يُصَلِّي خلف الصف، وإن كان مُنفَرِدًا؛ لأن هذا هو الواجب الذي يَقْدِر عليه.
وذهب بعض أهل العلم - أيضًا - إلى وُجوب رَصِّ الصَّف مِن وَسَطِه؛ وقالوا أنَّ مَن تَرْكَ وَسَط الصَّف وبدأ الرَّصَّ مِن اليَمَين أو اليَسار: فصلاتُه باطِلَة لِلَّهِ
__________
(1) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.(1/63)
القِسْم الثاني مِن تَسوية الصُّفوف: التَّسويَة المُسْتَحَبَّة: والمُراد بها: تَسوية الصَّف بحيث لا يَتَقَدَّم مُصَلٍّ عَمَّن بجوارِه. وقد جاء التَّرَاصُّ في الصَّفِّ وتَساوي الأقدام: الكَعْب بالكعب والمنكب بالمنكب، من حديثَي أنس والنعمان بن البشير - رضي الله عنهما -(1).
إذا ثَبَتَ هذا؛ فَمِن السُّنَّة أن يَلْزِقَ المُصَلِّي قَدَمَه بِقَدَم صاحبه الذي بجنبه في الصَّف؛ حتى يتراصَّ الناسُّ في الصُّفوف، ولا يكون في الصَّف خَلَلٌ. والتَّساوي يكون - كما مَرَّ - بالكَعْب لا بأطْراف الأصابِع؛ لأنَّ أقْدام الناس -تَخْتَلِفُ - ولا شَكَّ - كِبَرًا وصِغَرًا.
قوله: " وتَرَاص المأمومين، وسَد خَلَل الصفوف ":
أمر الرسول ? بالتَّراصِّ في الصف، وسَدِّ الخَلَل الذي يكون في الصُّفُوف(2) [... ].
قوله: " ويمنة كل صف أفضل ":
__________
(1) حَديث أنس - - رضي الله عنه - -: رواه البخاري (725، 719، 723 ) ومسلم ( 433 ). وحَديث النُّعمان - - رضي الله عنه - -: رواه البخاري ( 717 )، ومسلم ( 436 ).
وفي الباب: عَن أبي هريرة وأبي مسعود الأنصاري وجابر بن عبد الله، وجابر بن سَمُرَة وأبي أُمامَة وعائشة وأبي موسى الأشعري والبَراء بن عازِب - - رضي الله عنهم - -.
(2) سَبق تخريج بعض الأحاديث الوارِدَة في هذا: ص؟؟؟.(1/64)
تقدمت الإشارة إلى أن الإمام يتوسط الصفوف، ولا يكون الجانب الأيمن أطول مِن الأيْسَر، وأيضًا لا يكون الجانِب الأيْسر أطول من الأيمن. والدليل على ذلك: ما ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(1)، مِن حديث جابر - رضي الله عنه - الطَّويل، أن الرسول ? قام ليُصَلِّي - نافلة -، قال جابِر: ثُمَّ جِئْتُ حتى قُمتُ عَن يسار رسول الله ?، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عَن يمينه، ثُمَّ جاء جَبَّار بن صَخْر - رضي الله عنه - فتوضأ فقام عَن يَسار رسول الله ?، فأخذ رسول الله ? بِيَدَيْنا جميعًا؛ فَدَفَعنا حتى أقامنا خَلْفَه... ".
وفي " الصحيحين "(2)، من حديث كُرَيْب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قِصَّة بياتِه عِند خالته ميمونَة - رضي الله عنها - في بَيْت النبي ?، قال: " صَلَّيْتُ مع النبي ? ذاتَ ليلةٍ، فَقُمتُ عَن يسارِه، فأخذ رسول الله ? برأسي مِن ورائي، فَجَعلني عَن يمينه... " وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - حينها صغيرًا.
فهذا الحَديثان يَدُلَّان على ثلاثة أُمور:
الأوَّل: أن يمين الصَّفِّ أفضل من يَسارِه.
الثاني: أنه لا يجوز بِدْء الصَّفِّ مِن اليَسَار، واليَمين خاليًا؛ لأن الرسول ? أدار جابرًا وجَعَلَه عن يمينه، وأدار ابن عباس - أيضًا - وجَعَلَه عن يمينه، والأصل أنّ الحركة في الصلاة ممنوعة؛ فلولا أنه لا يجوز الوقوف على يَسَار الإمام واليَمين خاليًا؛ لَمَا فَعَل ? ذلك = فَدَلَّ ذلك على وجوب صَفِّ المأموم عَن يمين الإمام إذا كانا اثنين فقط.
الأمر الثالث: دَلَّ الحَديث الأوَّل على أنَّه إذا كان المأمومِين اثْنَين: فالسُّنَّة لهما أن يكونَا خَلْفَ الإمام، والإمام يكون أمَامَهما مُتَوَسِّطًا لهما.
__________
(1) برقم ( 3014 ).
(2) رواه البخاري - واللفظ له - في مواضع كثيرة؛ مِنها: ( 726، 138، 697 )، ومسلم ( 763 ).(1/65)
فإن جاء شَخْصٌ ثالث وأراد الدُّخول في الصلاة: يَصُفُّ نفسه إلى يمين الصَّف. فإن جاء رَابِعٌ: فهل الأفضل أن يكون عن اليمين أم عن اليسار؟ فيه خِلافٌ بَيْنَ أهْل العِلْم، والأقرب أن يَصُفَّ نفسه إلى يَسار الصَّف؛ لِحَديث جَابر أنَّ جَبَّارًا - رضي الله عنهما - لَمَّا صَفَّ عَن يسار الرسول ? جَعله هو وجابر خلفه وتوسطهم ? (1).
وينبَغي للإمام أن يُسَوِّي الصَّف بحيث يتساوَى طَرفاه؛ فإذا لاحَظَ الإمام أن الجانِب الأيمن مِن الصَّف - مثلاً - أطْوَل مِن الجانِب الأيْسَر = ساوَى طَرَفي الصَّف؛ فينقُل بَعض مَن على اليَمَين إلى يسار الصَّف حتى يتساوَىا.
مَع أن بَعْض أهْل العِلْم قد ذَهَبَ إلى أن اليمين أفْضَل على كُلِّ حال، إلا أنَّ النُّصُوص السابقة تَدُلُّ على الأفْضَل هو أن يتوَسَّط الإمامُ الصَّفَّ دائمًا = بمعنى أن يتساوَى طَرَفاه؛ فلا يزيد جانِبٌ عَن الآخَر.
قوله: " وقربُ الأفْضَلِ من الإمام؛ لقوله ?: " ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ":
يُفَضَّل للمأموم أن يكون دائمًا قريبًا مِن إمامه؛ فالقُرْب مِنه أفضل، إلا أنَّ هذا مُقَيَّدٌ بما تَقَدَّم مِن النُّصوص: فإنْ كان هناك ثلاثة مأمومين وإمام: فالإمام يتَوَسَّطَهم مُتَقَدِّمًا عليهم، ويَقِفون هُم خَلفَه، فإنْ جاء شخص آخر وَقَف عن يمين الصَّف، فإن جاء خامِس وَقَف عَن اليَسَار... وهكذا.
فلا يُشْرَع لمأمومٍ أن يَصُفَّ خَلف صَفٍّ لم يَكْتَمِل لأجْل تَحصيل فضيلة القُرْب مِن الإمام والصَّفِّ الأوَّل؛ إنَّما يَجِب عليه أن يُتِمَّ الصَّفَّ الأول، ثم يبدأ في الصَّف الثاني... وهكذا.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/66)
فمثلاً: إذا وَقَف خَلْفَ الإمام عِشْرون مُصَلٍّ: عَشرة عَن اليمين، وعشرة عَن اليسار، ولم يَكْتَمِل الصَّفُ بَعْدُ، فجاء رَجُلٌ فأراد أن يقف وَسَطَ الصَّفِّ الثاني خَلف الصَّف الأوَّل؛ حتى يقْتَرِب مِن الإمام: فهل يُشْرَع له هذا؟ الجواب: لا يُشْرَع له هذا؛ وإنَّما يَجِبُ عليه إتمام الصَّفِّ الأوَّل أولاً.
ونَفس الأمر يُقال - بل هو مِن بَاب أوْلَى - بالنسبة لِمَن أراد أن يَقِف بجوار الإمام، والصَّف الأوَّل لم يَكْتَمِل بَعْدُ لِلَّهِ فهذا غير مشروع؛ كما تَقَدَّم(1) في حَديثَي جابر وجبار - رضي الله عنهما -.
ولكن: متى يُشْرَع للمأموم أن يَصُفَّ بجنب الإمام؟
الجواب: يُشْرَع له ذلك في ثلاثة أحوال:
الأوَّل: إذا كان عَدَد المُصَلِّين اثْنَين ( إمام ومأموم ): وفي هذه الحالة - كما مَرَّ(2) - يَصُفُّ المأموم عَن يمين الإمام.
الثاني: إذا كانت الصُّفوف مُكْتَمِلَة، ولم يَجِد المأموم مكانًا في المَسْجِد إلا عَن يَمين الإمام: جاز لَه - هُنا - أن يَصُفَّ عَن يَمينه.
الثالث: إذا كانت الصُّفوف مُكْتَمِلَة، ولم يَجِد المأموم مَن يَصُفُّ مَعَه خَلْفَ هذه الصُّفوف: فقال بَعْضُ أهْلِ العلم بِجَواز صَفِّه - في هذه الحالة أيضًا - بِجَنب الإمام؛ واستدلوا على ذلك بقول الرسول ?: " لا صلاة للذي خَلْفَ الصف "(3). ولكن هذا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ عَدَم شَقِّ الصُّفوف والمُرور بَين المُصَلِّين. فإذا أمْكَنَه المُرور دون شَقِّ الصُّفوف - كأن يكون هناك مَدْخَلٌ مِن جِهَة الإمام ( مثلاً ) - جازَ له ذلك، وإلا فلا.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/67)
وعليه - في هذه الحالة - أن يَصُفَّ خَلْفَ الصَّفِّ الأخير في الوَسَط، حتى وإنْ كان مُنفَرِدًا، وصلاته صحيحة، كما بَيَّنا(1)؛ لأنه بِذَهَابه للصَّفِّ بِجَنب الإمام سَوف يُشَوِّشُ على المصلين، و" الوَاجِبَات تَسْقُط عِندَ عَدَم القُدْرَة عليها "، وهذا غَيْر قَادِر.
ولا يَصِحُّ الاستدل بأن الرسول ? فَعَلَ ذلك وشَقَّ الصُّفوف حتى تَقَدَّم النَّاس، وتأخَّر أبو بكر - رضي الله عنه -، وأتَمَّ النبي - ? - بِهِم الصَّلاة(2)؛ لأنَّ هذا خاصٌّ به ?، ومَن مِثْله ?؟ ولذلك لَمَّا رآه الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - - أفْسَحُوا له الطريق ?، " وجاء يَمشي في الصُّفوف حتى قام في الصَّفِّ، فأخذ النَّاس في التَّصفيق، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت فإذا رسول الله ?؛ فأشار إليه رسول الله - ? - يأمره أن يُصَلِّي، فَرَفَع أبو بكر - رضي الله عنه - يَدَيْه فَحَمِد الله، ورَجَع القَهْقَرى وراءه، حتى قام في الصَّفّ، فَتَقَدَّم رسول الله ? فَصَلَّى للنَّاس... " الحَديث.
وقد جاء في " صحيح مسلم "(3)، من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: " كنا إذا صلينا خلف رسول الله ? أحببنا أن نكون عن يمينه؛ يُقْبِل علينا بِوَجْهِه " = يعني: عِندَ التسليم(4).
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 1234، 684 )، ومسلم ( 421 ).
(3) رواه مسلم ( 709 )، وأبو داود ( 615 )، والنسائي ( 822 )، وابن ماجه ( 1006 )، وأحمد ( 4 / 290، 304 ).
(4) اتظر: " شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 5 / 221 )، وبَوَّب عليه أبو داود؛ فقال: " باب: الإمام يَنْحَرِف بعد التَّسليم ".(1/68)
ويَدُلُّ قوله ?: " لِيَلِنِي مِنكُم أُولُو الأحْلام(1) والنُّهَى، ثُمَّ الذين يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونَهم " [ رواه مُسْلِم(2) ] على أنَّه ينبَغي أن يَقِف أولوا الأحلام والنُّهَى - وهم أهْل العِلْم والفَضْل - خَلْفَ الإمام، لا غيرهم.
ويَقِفُ الرِّجال في الصَّفوف الأوَّل، يليهم الصِّبيان، يليهم النِّساء. تلك هي السُّنَّة إن كان المأمومون رِجالاً وصِبيانًا ونساءً؛ كما جاء ذلك في حَديثٍ عِندَ الإمام أحمد في " المُسْنَد "(3).
ونَلفِت النَّظر إلى أنَّ التَّفريق بين الأطفال الصِّغار إذا كانوا مُجْتَمِعين في صَفٍّ واحِد - كما يفعله اليومَ بعضُ الناس -: فيه تَفصيلٌ:
فإنْ كان يُخْشَى مِن هؤلاء الصبيان - وكانوا قِلَّة - التَّشويش على المُصَلِّين باللَّعب والكلام ونَحْوه أثناء الصلاة = فهنا يُفَرَّق بينهم؛ لأنَّ هذا مِن مَصْلَحَة الصلاة.
وأما إنْ كان لا يُخْشَى مِنهم على المُصَلِّين: فلا يُفَرَّق بينهم؛ لِعَدَم الدليل على ذَلِك، ويُجْعَلون خَلف صُفُوف الرِّجال إن كانوا كَثْرَة.
وعلى كُلِّ حال؛ ينبغي تعليم الصِّبيان وتَعويدهم على الخُضُوع والخُشُوع في الصلاة، ونَهيهم عَن اللَّعَب أثناءها؛ لئلا يُشَوِّشوا على المُصَلِّين. وهذه هي السُّنَّة في ذلك.
__________
(1) تَحَرَّفَت في بعض طَبعات المَتن إلى: " أولو الأرحام " لِلَّهِ وهو خطأ. ( السعد ).
(2) برقم ( 432 )، ورواه الترمذي ( 228 )، وأبو داود ( 674 )، والنسائي ( 807، 812 )، وابن ماجه ( 976 ).
(3) " مُسْنَد الإمام أحمد ": ( 5 / 344 )، مِن حَديث أبي مالك الأشعري - - رضي الله عنه - -.(1/69)
وفي قوله ?: " ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ": أمْرٌ لأُولي الأحْلام والنُّهَى بالمُبادَرَة للوقوف خَلْفَ الإمام. والحِكْمَة مِن هذا واضِحَةٌ: وهي مُعاوَنَة الإمام على الخُشُوع في صَلاتِه، والفَتْح عَليه إن ارْتُجَّ عليه في قراءته أو أخْطأ فيها، وتَنبيهه - بالتَّسبيح - إنْ سَها في صلاتِه.
ولكن: هل يجوزُ لأُولي الأحْلَام والنُّهَى أن يُؤَخِّروا مِن اصْطَف في الصَّف الأول خَلْف الإمام وأخَذَ مكانهم - في حال تأخُّرِهم -؟ الجواب: لا يُشْرَع لهم - والحال هكذا - أن يُؤَخِّروا مِن سَبَقهم إلى الصَّلاة؛ لأنَّهم فَرَّطوا في هذا الحَقِّ؛ فيُلْزَموا بعاقبة تقصيرهم.
وهل هذا الأمر على إطلاقِه، أم يُسْتَثْنَى مِنه الأطفال؟ فأقول: بالنسبة لتأخير الأطْفَال فقد تَقَدَّم الكلامُ عليه قريبًا(1)، ونُلَخِّصُ الأمر فنقول: لا يَخْلو الطِّفل إما أن يكون: مُمَيِّزًا أو صغيرًا لا يُمَيِّز:
فإنْ كان الطِّفْل - الذي صَفَّ خلف الإمام - مُمَيِّزًا ويَعْقِل الصَّلاة: فَيُتْرَك ولا يُؤخَّر؛ لأنَّه سَابِقٌ إلى الصَّف.
وأما إنْ كان صغيرًا لا يُمَيِّز، ويُخْشَى مِنه أن يلْعَب في الصلاة: فيُؤَخَّر؛ لأنَّه بِلَعِبه يُشْغِل الإمام ومَن بجانِبه، ويُشَوِّش على الجماعة، وقد يبدو له أن يَتْرُك الصَّف وينصَرِف؛ فَيَجْعَل فيه خللًا = لذا وَجبَ تأخيرُه.
قوله: " وخَيْر صُفُوف الرِّجَال أولها، وشَرُّها آخِرها. وخَيْر صُفُوف النِّسَاء آخِرُها، وشَرُّها أوَلُها ":
هذا لفظ حديث صحيح(2)
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه مسلم ( 440 )، والترمذي ( 224 )، وأبو داود ( 678 )، والنسائي ( 820 )، وابن ماجه ( 1000 )، والدارمي ( 1268 )، كلهم رَوَوْه مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.
وفي - ? - الباب: عَن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: رواه ابن ماجه ( 1001 )، وأحمد ( 3 / 293 ).(1/70)
. ويُفيد هذا الحَديث أنَّ: خَيْرَ الصُّفُوف بالنسبة للرِّجال: هو الصَّفُّ الأوَّل، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه... وهكذا. وأنَّ خَيْرَ الصُّفوف بالنسبة للنِّساء: هو الصَّفُّ الأخير، ثُمَّ الذي أمامَه، ثم الذي يكون أقرب إلى الرِّجال... وهكذا.
والدَّليل على أفضلية الصَّف الأوَّل بالنسبة للرِّجال - وأنَّه هو خيرها -: هُو حَثُّ النبي? على المُبادَرَة والمُسابَقَة إلى الصَّفِّ الأول والصلاة، في أحاديث كثيرة؛ مِنها: ما ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " لو يعلم الناس ما في النِّداء والصَّف الأوَّل، ثُمَّ لم يجدوا إلا يَسْتَهِمُوا عَلَيْه لاسْتَهَمُوا ... ". والمقصود بـ " الاستهام ": القُرْعَة. وهذا نَصٌّ واضِحٌ على ما للصَّف الأوَّل مِن فَضْل.
وأما الدَّليل على أفضلية الصَّف الأخير بالنسبة للنِّساء - وأنَّه هو خيرها -: فلأنَّه كُلَّما بَعُدَت المرأةُ عَن الرِّجال الأجانب عَنها كان ذلك أحْفَظ وأصْوَن لها ولِمُجْتَمَعِها، وقد قال رَبُّنا - - عز وجل - - ? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ? [ الأحزاب: 33 ]: فيأمُر رَبُّنا - - سبحانه وتعالى - - المرأة في هذه الآية بالقَرار في البَيْت، وينهاها عَن تَبَرُّجِ الجاهليَّة الأوْلَى. هذا في حَياتِهَا اليومِيَّة؛ فكيف يكون الأمُر في العِبَادَة - والصَّلاة مِن أعْظَم العبادات وأجَلِّ الطَّاعات -؟ والعَكْس بالعَكْس: إذا كان الأفْضَل للمرأة أن تَبْتَعِد عَن الرِّجال أثناء الصَّلاة؛ فكيف يكون الحال في حَياتِهَا اليَومِيَّة - كعمل بعض النِّساء في الأماكن التي فيها الرِّجال -؟!
__________
(1) رواه البخاري ( 615، 654، 2689 )، ومسلم ( 437 ).(1/71)
ولا شَكَّ أن اختلاط النِّساء بالرِّجال يُؤَدِّي إلى الفَسَادِ والشَّر وما لا يُحْمَد عُقْبَاه. وتَجِد - مع الأسف - مِن أهل الشَّرِّ والفَسَاد والجُهَّال والسُّفَهَاء مَن يَدْعو المرأة إلى مُزاحَمَة الرِّجال في الأعمال، والاختِلاط بِهم، وقيادَة السيارَة لِلَّهِ وهذا كُلُّه مُخَالِفٌ لِمَا جاء في كتاب الله - - عز وجل - -، ولِمَا جاء في سُنَّة رسوله ?؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى فَسَاد المرأة، وهذا يَنتُج عَنه فَسَادُ المُجْتَمَع كُلِّه. والشَّرْع يَقْصِد بِما شَرَعَه صيانَة المرأة وحِفظها؛ لأنَّه في حِفْظِها حِفْظًا للمُجْتَمَع كُلِّه.
وهذا النَّصُّ - وغَيْرُه مِن النصوص - فيه رَدٌّ على أمْثالِ هَؤلاءِ الجُهَّال.
q q q q q
قوله: " ثم يقول وهو قائم مع القدرة: الله أكبر. لا يجزئه غيرها، والحكمة في افتتاحها بذلك ليستحضر عظمة من يقوم بين يديه فيخشع فإن مد همزة الله أو أكبر أو قال: إكبار لم تنعقد، والأخرس يحرم بقلبه ولا يحرك لسانه وكذا حكم القراءة والتسبيح وغيرهما.
ويسن جهر الإمام بالتكبير لقوله ?: " إذا كبر الإمام فكبروا " وبالتسميع لقوله: " وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد ".
ويسر مأموم ومنفرد ويرفع يديه ممدودتي الأصابع مضمومة ويستقبل ببطونهما القبلة إلى حذو منكبيه إن لم يكن عذر ويرفعهما إشارة إلى كشف الحجاب بينه وبين ربه كما أن السبابة إشارة إلى الوحدانية، ثم يقبض كوعه الأيسر بكفه الأيمن ويجعلها تحت سرته ومعناه ذل بين يدي ربه عز وجل، ويستحب نظره إلى موضع سجوده في كل حالات الصلاة إلا في التشهد فينظر إلى سبابته.
الشرح:
قوله: " ثم يقول وهو قائم مع القدرة: الله أكبر. لا يجزئه غيرها ".(1/72)
اعْلَم أنَّ القيام في الصلاة ( المفروضة ) رُكْنٌ مِن أرْكانِها، لا تَصِحُّ الصَّلاةُ بدونها، مَع القُدرَْة(1). والأدِلَّة على ذلك كثيرة؛ مِنها: قوله - - سبحانه وتعالى - -: ?(#qمBqè%ur لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) ? [ البقرة: 238 ]: فُهنا أمر رَبُّنا - جَلَّ وعَلا - بالقيام له - - سبحانه وتعالى - - في الصَّلاة. وثَبَتَ في " صحيح البخاري "(2)، من حديث عُمْران بن حُصَيْن - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال له: " صَلِّ قائِمًا، فإنْ لم تَسْتَطِع فجالِسًا، فإنْ لم تَسْتَطِع فَعَلَى جَنْبٍ ": فأمره ? أن يُصَلِّي قائِمًا - في حال القُدْرَة والاستطاعَة -، فإنْ لم يَسْتَطِع صَلَّى جَالِسًا، فإنْ لم يَسْتَطِع صَلَّى على جَنْبٍ.
وفي هذه النُّصوص - وغيرها - دلالة على أن القيام رُكْنٌ مِن أرْكان الصَّلاة المفروضة = لا بُدَّ منه لمن كان مستطيعًا.
وأما في صلاة النَّافِلَة: فقد دَلَّت السُّنَّةُ على جواز الصَّلاة جالِسًا لِمَن كان مُسْتَطيعًا القيام، إلا أنَّ أجْرَه على النِّصْف من أجْر القَائِم(3).
" ثم يقول " بَعْدَ ذَلِكَ " الله أكبر، لا يُجْزئه غيرها ":
اعْلَم أنَّ المُصَلِّي لا يَدْخُل في صَلاتِه إلا بالتَّكبير(4) ( وهو قَول: الله أكبر )، وهو شَرْطٌ لا تَصِحُّ الصَّلاة بدونِه. ومِن الأدِلَّة على ذلك(5):
__________
(1) بالإجماع. راجع: " المجموع ": ( 3 / 258 ).
(2) رواه البخاري ( 1117 )، والترمذي ( 371 )، وأبو داود ( 952 )، وابن ماجه ( 1223 ).
(3) جاءت في ذلك أحاديث؛ مِنها: مَا رواه مسلم ( 735 ) وغيره.
(4) وفي المسألة خِلاف، وما قُلناه هو الرَّاجِح. راجع: " المجموع ": ( 3 / 302 )، و" المغني ": ( 1 / 275 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 310 ).
(5) والأحاديث مُستفيضة في ذلك: سنذكر - إن شاء الله - بعد قليل تخريجاتها.(1/73)
( 1 ) ما ثَبَت في " الصحيحين "(1)، مِن حديث المقبري عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال للمُسىء صلاتَه: " ثم اسْتَقْبِل القبلة فَكَبِّر ": فأمره ? أن يُكَبِّر للدُّخول في الصَّلاة.
( 2 ) وفي " جامع الترمذي " وغيره(2)، من حديث ابن عَقيل عن محمد بن الحَنَفيَّة عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " مفتاح الصلاة الطهور، وتَحْرِيمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم ".
( 3 ) ما ثَبَتَ في النُّصوص العَمَليَّة التي وَصَفَ بها الصحابة - - رضي الله عنهم - - صِفَة صلاة الرسول ?(3)؛ فقد أخْبَروا أنَّه كان يَدْخُل الصلاة بالتَّكبير.
وذهب بَعْضُ أهل العلم - كأبي حنيفة وغيره(1) - إلى أن: التَّكبير ليس بِشَرْطٍ للدُّخول في الصَّلاة؛ وإنَّما يَكفيه أن يَذْكُر الله بدون تَكبير لِلَّهِ
وذهب آخَرون إلى اشْتِراطَ التَّكبير للدُّخول في الصَّلاة، ولَكنَّهم وَسَّعوا في صيغَتِه - كما نُقِلَ عَن الإمام الشافعي(1) -: فأجازوا الإحرام للصَّلاة بقول: " الله أكبر "، أو " الله الأكبر "، أو " الله الكبير "، ونحو ذلك.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟. وهذا اللفظ عند البخاري ( 6251، 6667 )، ومسلم ( 397).
(2) رواه الترمذي ( 3 )، وأبو داود ( 61، 618 )، وابن ماجه ( 275 ).
(3) مِنها: أحاديث أبي هريرة ووائل بن حُجْر و عائشة وجابر: رواها مسلم ( 392، 401، 498، 840 ). وروي البخاري ( 789، 738، 739 ) حديثَي: أبي هريرة وابن عمر - أيضًا -.
وحديث أنس بن مالك: رواه أبو داود ( 1225 )، وأحمد ( 3 / 125، 203 ).
وأحاديث علي ومالك بن الحُوَيِّرِث وسَمُرَة أبي قتادة النُّعمان بن بشير: رواها كُلَّها أبو داود (744، 760، 745، 779، 920، 665 ).
وحَديث أبي سعيد الخدري: رواه الترمذي ( 242 )، وأبو داود ( 775 ).
وحديث عقبة بن عمرو: رواه أبو داود ( 863 )، والنسائي ( 1036 ).(1/74)
وحُكى عن جماعَة مِنهم أنه يُكْتَفَى بِمُجَرَّد نِيَّة الدُّخول للصَّلاة دون ذِكْر مُطْلَقًا لِلَّهِ
إلا أنَّ الذي دَلَّت عليه النُّصوص - القَوليَّة والعَمَليَّة - هو ما قُلناه؛ فيُشْتَرَط للدُّخول في الصَّلاة التكبير لها بِلَفظ: " الله أكبر "، فما كان خِلافُ ذلك فهو مُخالِفٌ لِتلك النُّصوص.
قوله: " والحكمة في افتتاحها بذلك ليستحضر عظمة من يقوم بين يديه فيخشع ":
لو أنَّ الإنسان تَفَكَّر في هذا الذِّكر الذي تُسْتَفْتَح به الصَّلاة ( الله أكْبَر ) = لَوَجَد أنَّها كَلِمَة عَظيمة تَدُلُّه على:
أولًا: إيمانه بالله - - سبحانه وتعالى - -.
ثانيًا: اعتقاده بأنَّ الله - - عز وجل - - هو الكَبير، ولا أكْبَر منه - - سبحانه وتعالى - -.
ثالثًا: خُضوعه لربه وانقياده له، وإفراده - - سبحانه وتعالى - - بالعِبادَة والإخْلاص والدُّعاء والتَّوَكُّل.
فهي - بلا شَكٍّ - مُنتَظِمَة - في الحقيقة - لِكُلِّ ما جاء به كتاب الله - - سبحانه وتعالى - -، وما جاءت به سُنَّة الرسول ?.
قوله: " فإنْ مَدَّ همزة ( الله ) أو ( أكبر )، أو قال: أكْبَار = لم تَنْعَقِد ":
لا تَنْعَقِد الصَّلاة إلا بنُطْقِ التَّكبير كما جاءَت به السُّنَّة: ( الله أكْبَر )، فإذا خَالفَ الإنسان ذلك فَقال: آلله أكْبَر أو آكْبَر - بالمَد -، أو قال: أكْبَار = فلا تَنْعَقِد صلاته بأيِّ لَفْظٍ مِن تلك الألْفاظ، كما يقول المُصَنِّف - رحمه الله -.
والغالِب على المُصَلِّي أنَّه لا يَتَعَمَّد النُّطْق بها هكذا؛ وإنَّما ينطقها خَطأ؛ جَهلاً أو غَفْلَةً مِنه؛ لأنَّه في مِثل كلمة ( أكبار ) أو ما شابهها: يَتَغَيَّر المعنى؛ وبالتي لا تُفيد هذه الكلمة المعنى الذي جاء في كلمة ( الله أكبر ).
ومِن الأخطاء التي يَقَع فيها بعض المُصَلِّين - والمؤذِّنين أيضًا - أنَّهم يقولون: " الله وأكبر " - بزيادة واو العَطْف - ولا يقولون " الله أكْبَر ". وهذا خَطأ.(1/75)
فينبغي التَّنبُّه لهذا الأمْر جَيِّدًا؛ لأنَّ هذه الأذكار مُتَعَبَّدٌ بها.
واعلم أنَّ العِبَارَات المُتَعَبَّد بها تَنْقَسِم إلى قِسْمَيْن:
القسم الأول: عباراتٌ لا بُدَّ أن يأتي بألفاظها كما وَرَدَت؛ لأنَّ المُكَلَّف مُتعبَّدٌ بها بذاتِها؛ فَيَجِب عليه أن ينطقها كما جاء في الشرع. ومِن الأمثِلَة على ذلك: ألفاظ الأذان، التكبير للصَّلاة وداخِلَها بلفظ ( الله أكبر )، والأذْكَار التي تُقَال في الصَّلاة وَدُبُرِها. ومِن ذلك أيضًا - وهو أجَلُّ وأعْظَم - تِلاوة القُرآن الكريم كما أنْزَلَه الله - - عز وجل - -؛ لأنَّ بعض النَّاس يُخالِف في ذلك ولا يتلوه التلاوة الصَّحيحة.
القسم الثاني: عبارات لا يجب عليه أن يأتي بألفاظها كما وَرَدَت: فَلَو أتى بمعناها فلا بأس بذلك؛ لأن ألفاظها غَيْر مُتَعَبَّد بها.
ومِن الأمثلة على ذلك: الدُّعَاء؛ فالإنسان غير مُتَعَبَّد بِلَفظٍ أو دُعاءٍ مُعَيِّن واجِب عليه؛ وإنَّما يَدْعُو رَبَّه بما شاء أن يَدْعو. قال الله - - عز وجل - - ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ? [ الأعراف: 55 ]: فأمر ربنا - - سبحانه وتعالى - - بدعائه وأطْلَق، وقال ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ?: [ غافر: 60 ].
ومِن الأمثلة - أيضًا -: الأحاديث التي تتعلق بالأحكام والمَغازي والسِّيَر وغيرها: فهذه لا غير مُتَعَبَّد فيها باللفظ؛ فلا بأس أن يأتي بها بالمعنى إذا لم يَسْتَطِع أن يأتي بلَفْظِها.(1/76)
وعلى هذا يُحْمَل قول مَن أجاز مِن أهْلِ العِلم رواية الحَديث بالمعنى؛ فهذا يكون في الأحاديث غير المُتَعَبَّد بألفاظها. أما ما تُعُبِّدنا بِلَفْظِه - كأدْعية استفتاح الصَّلاة والتشهد، وما شابهها-: فهذه لا يَجُوز للإنسان أن يأتي بها بالمعنى؛ بل لا بُدَّ أن يأتي بألفاظها كما وَرَدَت.
قوله: " والأخرس يُحْرِم بقلبه "
لا يَخْلو المُصَلِّي - والنَّاس عمومًا - إما أن يكون: مُتَكَلِّمًا أو أخْرَس:
القسم الأول: يَتَكَلَّم وينطق يَقْدِر على ذلك: فهذا لا بُدَّ أن ينطق - للدُّخول في الصَّلاة - قائلًا: ( الله أكبر ).
والكَلام في الصَّلاة - بالذِّكر ونَحوه - لا بُدَّ فيه مِن تَحْريك اللِّسَان، ولا يُطْلَق على الإنسانِ القادِرِ أنَّه قارىء - لُغَة وشَرْعًا - إلا إذا حَرَّك لِسَانه بالكَلام المَنطوق به. وقد نَقَلَ الإمام ( ابن تيمية ) - رحمه الله -(1) الإجماع على أن الكلام لا بُدَّ فيه مِن نُطْقٍ.
فقد يَمُرُّ المرءُ على بعض السُّوَر التي يَحْفَظها في صَدْرِه، ويَنوي بِقلبه أنه قرأها، أو يُمْرِرها على ذِهْنِه، دون أن يُحَرِّكَ لِسانَه: فهذا خَطأ، ولا يُعْتَبَر قارِئًا حتى يَنْطِق الألفاظ المُتَعَبَّد بقراءتها بلِسانِه، لا فَرْق في ذلك بين داخِلِ الصَّلاة أو خارِجِها.
القسم الثاني: أخْرَس لا يتكلم: فـ ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ]?. وعليه أن ينوي - بقلبه - الدُّخول في الصَّلاة، ويَرْفَع يَدَيْه يُشير بهما؛ فالإشارة علامة على ما في قلبه مِن أنَّه يريد الدُّخول بها إلى الصَّلاة.
قوله: " ولا يُحَرِّك لسانه ".
__________
(1) ؟؟؟(1/77)
ذَهَبَ بعضُ أهْل العِلْم(1) إلى أنَّه لا بُدَّ للأخْرَس - مع النِّيَّة - مِن تَحْريك لِسانِه لِلَّهِ ولكن هذا ليس عليه دَليل، ولا فائدة منه؛ لأن الأخْرَس لا يستطيع أن ينطق = فما الفائدة مِن تحريك لِسانِه؟!
قوله: " وكذا حكم القراءة والتسبيح وغيرهما ":
ذَكَرَنا قبل قليل(2) أنَّه يَجِب على الإنسان أن يُحَرِّك لِسانَه بالذِّكْر، ما دام قادِرًا على ذلك، ونَفس الأمر يُطْرَد بالنِّسْبَة لتسابيح الرُّكوع والسُّجود وأذكارهما وأذكار دُبُرِ الصَّلاة. فلا يكون الإنسان مُسَبِّحًا أو مُسْتَغْفِرًا بِمُجَرَّد تَحْرِيك يَدَيْه دون تَحْريك فَمِّه ونُطْق لِسانِه بالتَّسبيح أو بالذِّكْر.
قوله: " ويُسَنُّ جَهْر الإمام بالتكبير؛ لقوله ?: " إذا كَبَّر الإمام فَكَبِّروا " ":
من المعلوم بالضَّرُورة أنَّه لا بُدَّ للإمام أن يُكَبِّر حتى يَسْمَعه المأمومون؛ فيُكَبِّرون بَعْدَه؛ كما قال الرسول ?: "... فإذا كَبَّر فَكَبِّروا "(3). فالمأمُوم لا يُكَبِّر إلا بَعْدَ تَكبير إمامِه.
قوله: " وبالتسميع؛ لقوله: " وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد " ":
والإمام يُكَبِّر في جَميع أرْكان الصَّلاة، إلا في حالَي: الرَّفْع مِن الرُّكوع فيقول: " سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه "، وإلا في التَّسليم فيُسَلِّم.
__________
(1) نقله الإمام النووي في المَجموع ( 3 / 394 ) عَن أصحابه الشافعية - رحمهم الله - ووافَقَه لِلَّهِ ونَقله ابن قُدامَة - رَحِمهما الله - في " المغني ": ( 1 / 277 ) عَن القاضي مِن الحنابِلَة ورَدَّه ولم يُوافِقه عَلَيْه !
(2) ص؟؟؟.
(3) هذا قطعة مِن حديثٍ طرفه " إنَّما جُعِل الإمام ليؤْتَمَّ به... ": رواه البخاري ( 378، 734، )، ومسلم ( 411، 414 ).(1/78)
والدَّليل على التَّسميع: ما جاء في " الصحيحين "(1)، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " إذا قال الإمام: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه؛ فقولوا: اللهُمَّ ربنا لك الحمد؛ فإنَّه مَن وافق قَولُه قولَ الملائِكَة غُفِر له ما تَقَدَّم مِن ذَنبه "، وثَبَت الدَّليل على هذا - أيضًا - في غيرما حَديث(2).
وسيأتي(3) الخِلاف - بمشيئة الله - في المأموم: هل يُشْرَع له أن يقول كإمامه: سَمِعَ الله لمن حمده، أم يَقْتَصِر على قول: ربنا ولك الحمد؟ وسُنُبَيِّن هُناك - إن شاء الله - أنَّ الذي دَلَّت عليه النصوص هو الاقتصار على قول: ربنا ولك الحمْد، لا كالإمام.
قوله " ويُسِرُّ مأمومٌ ومُنفَرِدٌ ":
السُّنَّة في حَقِّ المأموم والمُنْفَرِد: الإسْرارُ بقراءَةِ الصَّلاة:
أما المأموم: فلا فَرْقَ في ذلك بَيْن الصَّلاة السِّريَّة أو الجَهْريَّة.
وأما المُنْفَرِد: فيُسِرُّ بالقِراءَة في الصَّلاة السِّريَّة (النَّهاريَّة )، فرضًا كانت أو تَطَوُّعًا. وأما الصلاة الجَهْريَّة ( الليليَّة ) - كالصُّبْح أو المَغْرِب أو العِشاء ( إنْ فاتَه أحَدُها مع الجماعة )، أو قيام اللَّيْل -: فالسُّنَّة في حَقِّه هي الجَهْر.
__________
(1) رواه البخاري ( 796 ، 3228 )، ومسلم ( 409 ).
(2) ثَبَتَ هذا مِن أحاديث: البَراء بن عازِب: رواه البخاري ( 690، 811 ) ومسلم ( 474 ). ورفاعة بن رافع: رواه البخاري ( 799 ). وحُذيفة: رواه مسلم ( 772 ). وربيعة بن كعب الأسلمي: رواه الترمذي ( 3416 )، وأحمد ( 4 / 57 ).
(3) ص؟؟؟.(1/79)
والدَّليل على هذا أنَّ الرسول ? كان يجهر في الصلاة الليلية؛ لِمَا رواه مسلم(1)، من حديث حُذَيْفَة - رضي الله عنه - قال: " صَلَّيْتُ مع النبي ? ذاتَ ليلةٍ، فافْتَتَحَ البقرة، فقلتُ: يَرْكَع عِند المائة، ثُمَّ مَضَى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في رَكْعَة، فَمَضَى، فقلتُ: يَرْكَع بها، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّساء فقرأها، ثُمَّ افْتَتَحَ آل عِمران فقرأها... " الحَديث. ففي هذا دَلالة على أنَّه ? كان يَجْهر في الصلاة اللَّيليَّة.
قوله: " ويرفع يديه ممدودتي الأصابع مضمومة، ويستقبل ببطونهما القِبْلَة إلى حَذْوَ مَنكِبَيْه ":
يُسَنُّ للمُصَلِّي إذا كَبَّر للصلاة أن يَرْفَع يَدَيْه. وصِفَة الرَّفع هي: أن تكون أصابِع اليَدَيْن مَمدودةً، غير مَقبوضَة ولا مَنشورَة، ويستقبِل بِباطِن كَفَّيه القِبْلَة.
أما الدَّليل على رَفْع اليَدَين مَمدودَتَين: فهو ما رواه الترمذي في " سُنَنِه " وغيره(2)، من حديث سعيد بن سِمْعَان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله ? إذا قام إلى الصلاة رَفَعَ يَدَيْه مَدًّا ".
وفي رواية - عند الترمذي وابن خزيمة(3) -، من حديث يحيى بن الَيَمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سِمْعَان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول ? عندما " إذا كَبَّر للصلاة نَشَرَ أصابعه ". ومعنى " نَشَرَ أصابعه ": أي فتح أصابع كفيه، كما يفعله بعض الناس.
إلا أنَّ هذه الرِّواية ضعيفة - بل مُنْكَرَة -؛ لأن يحيى بن اليمان فيه ضَعْفٌ(4)، والثِّقَات الذين رَوَوْا الحديث عن ابن أبي ذئب قالوا: " رَفَعَ يَدَيْه مَدًّا "، ولم يقولوا أنه " نَشَرَ أصابع يديه ".
__________
(1) برقم ( 772 )، ورواه - أيضًا - النسائي ( 1133، 1664 ).
(2) رواه الترمذي ( 240 )، وأبو داود ( 753 )، والنسائي ( 883 ).
(3) رواه الترمذي ( 239 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 233 ).(1/80)
والدَّليل على استقبال القِبلة بباطِن كَفَّيه: هو ما جاء - عند ابن سعد في " الطبقات "(1) - أن ابن عمر - رضي الله عنهما - " كان إذا كبر استقبل بيديه القبلة "، وهذا ثابِتٌ عنه.
وهل يُشْرَع مَسْك شَحْمَة الأُذُنَيْن بإبهام الإصابع قبل التَّكبير - كما يفعله بعض الناس -؟ لا يفعل ذلك؛ لأنَّه لم تَأتِ به سُنَّةٌ.
وإلى أين يَرْفَع يَدَيه عِندَ التكَّبير؟
الجواب: يكون الرَّفْع إما إلى حَذْوِ المَنْكِبَيْن أو حَذْو الأُذُنَيْن، وقد جاءت بِكلتّيهما السُّنَّة؛ فيُخَيَّر الإنسان بينهما، فأيًّا فَعَل فقد أصاب السُّنّة. إلا أن الأفضل للإنسان والأكْمَل له أنه يأتي بهذا مَرَّة، ويأتي بالآخر مَرَّة؛ ليكون قد أتَى بِكلْتَي السُّنَّتَيْن.
أما دَليل الأوَّل: ففي " الصحيحين "(2)، مِن حديث الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه - رضي الله عنه - أن الرسول ? " كان يرفع يَدَيْه حَذْوَ مَنْكِبَيْه ".
وأما دَليل الثاني: فقد ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(3)، مِن حديث قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن الرسول ? " كان إذا كَبَّر رَفَعَ يَدَيْه حتى يُحاذِي بِهما أُذُنَيْه ".
وجاء(4) هذا - أيضًا - مِن حَديث عاصم بن كُلَيْب عن أبيه عن وائل بن حجر - رضي الله عنه -.
وقد اسْتَحَبَّ بَعْضُ أهل العلم(5) رَفْعَ اليدين إلى المَنْكِبَيْن، واسْتَحَبَّ غيرُهم(6) رَفْعَهما إلى الأُذُنَيْن أو نحو ذلك. وكِلاهما - كما مَرَّ - مِنَ السُّنَّة.
__________
(2) رواه البخاري ( 735 )، ومسلم ( 390 ).
(3) برقم ( 391 )، ورواه أبو داود ( 745 )، والنسائي ( 880 )، وابن ماجه ( 859 ).
(4) رواه أبو داود ( 726، 957 )، والنسائي ( 889، 1102 )، وابن ماجه ( 867 ).(1/81)
ورأى آخَرون أنَّ مِن السُّنَّة أن تُرْفَع اليَدان لتَكبيرة الإحْرام أرْفَع مِن غيرها - مِن باقي التَّكبيرات التي بَعْدَها - = بمعنى: أنَّه عِندَ التكبير للرُّكُوع يكون رَفْع اليدين أخفض مِن تَكبيرة الإحرام، وعِندَ الرَّفْع مِنه يكون التَّكبير أخفض مِن السَّابِق. ومُسْتَنَدُهم في هذا: ما جاء عن طاووس بن كيسان اليماني في ذلك(1).
إلا أنَّ الرَّاجح - والذي ثَبَتت به السُّنَّة - هو ما تَقَدَّم: إمَّا أن يَرْفَعَهما إلى حَذْوَ مَنْكِبَيْه، أو إلى حَذْو أُذُنَيْه.
__________
(1) قال طاووس: " التكبيرة الأولى التي للاستفتاح باليدين أرفع مما سواهما من التكبير. قال: حتى يخلف بها الرأس ". قال ابن جريح: " رأيت أنا ابن طاووس يخلف بيديه رأسه ". رواه عبد الرزاق في " مُصنفه ": ( 2 / 70 ).
ورواه مالك في " الموطأ ": ( 169 )، عَن نافع عَن ابن عُمر - رضي الله عنهما أنَّه " كان إذا افتتح الصلاة رَفَعَ يديه حَذْو مَنْكِبَيْه، وإذا رفع رأسه مِن الركوع رَفَعَهما دُونَ ذَلِك ". ورواه عنه الشافعي في " مسنده " ( ص 212 )، ورواه مِن طريق مالك: أبو داود ( 742 )، وقال عَقِبَه: " لم يذكر " رَفَعَهُما دون ذلك " أحدٌ غير مالك فيما أعلم " اهـ.
وهذا مُعارَضٌ بما رواه أبو داود - أيضًا - ( 741 ) مُعَلَّقًا عَن ابن جُرَيْج؛ قال: قلتُ لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرْفَعَهُنَّ؟ قال لا؛ سواءً. قلتُ: أشِر لي؟ فأشار إلى الثَّدْيَيْن أو أسفل مِن ذلك.
ورُوي إنْكار التَّفريق بين التَّكبيرات في الرَّفع عَن عطاء، رواه عنه عبد الرزاق في " مُصنفه ": ( 2 / 70 ).(1/82)
إذا ثَبَتَ هذا: فقد أجمع أهْلُ العِلْم على مَشروعيَّة رَفْع اليَدَين عِندَ تَكبيرة الإحْرام(1)، ودَلَّت على هذا السُّنَّة المُتواتِرَة عن الرسول ?(2). واخْتَلَفوا في رَفْعِهما في غَير هذا المَوْضِع(3)، على ثلاثة أقوال:
( 1 ) فَذَهَبَ جُمهور أهل العلم إلى: مَشروعية رَفْع اليَدَيْن - أيضًا - في ثَلاثة مواضِع أُخَر: عِندَ التَّكبير للرُّكوع(4)، وعِندَ الرَّفْعِ مِنه(5)، وعِندَ القيام مِن التَّشَهُّد الأوَّل إلى الرَّكْعَة الثالِثَة(6)، في الصلاة الثُّلاثية أو الرُّبَاعيَّة. ولا تُرْفَع في غَيْر هذه المواطِن الأرْبَعَة.
وهذا هو الصَّحيح الذي دَلَّت عليه السُّنَّة الصَّحيحة، كما سيأتي كُلٌّ في مَكانِه - إن شاء الله -.
( 2 ) وذَهَبَ أبو حنيفة - رحمه الله - وغيرُه من أهل العلم إلى أنه: لا يَرْفَع يَدَيْه إلا في تكبيرة الإحرام فقط لِلَّهِ وهذا ضَعيفٌ.
__________
(1) " الإجماع " / لابن المُنذِر: ( برقم 43 )، و" الأوْسَط " / له: ( 3 / 72 )، و" المغني ": ( 1 / 280 )، و" المجموع ": ( 3 / 305 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: (6/321).
(2) قال ابن المُنذِر: " وأجمعوا على أن النبي - ?- كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة " اهـ.
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 294 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: (6 / 329: 334)، وراجع مبحثًا نفيسًا مُطَوَّلاً مِن غير إملالٍ في: " المجموع ": ( 3 / 399: 406 ).
(4) جاء ذلك مِن حَديث ( عبد الله بن عمر ) - رضي الله عنهما -، وسيأتي تَخريجه في موضعه: ص؟؟؟.
(5) جاء ذلك مِن حَديثَي ( عبد الله بن عمر ) و( علي بن أبي طالب ) - رضي الله عنهمم -، وسيأتي تَخريجهما في موضعهما: ص؟؟؟.
(6) جاء ذلك مِن حَديث ( علي بن أبي طالب ) - رضي الله عنه -، وسيأتي تَخريجه في موضعه: ص؟؟؟.(1/83)
ويبدو أنَّه - رحمه الله - لم يَقِف على الأحاديث التي أتَتْ بمشروعيَّة الرَّفْع في غير هذا المَوْضِع، والتي ثَبَتَ فيها أن الرسول ? كان يرفع يَدَيْه عند الركوع والرفع منه - وهذا في " الصَّحيحين "(1)، مِن حَديث ابن عمر ( رضي الله عنهما ) -، وعند القيام من الركعتين(2).
( 3 ) تُرْفَع اليَدَيْن في كُلِّ خَفْضٍ ورَفْع، مع كُلِّ تَكبيرَة. واسْتَدَلُّوا على ذلك ببعض النُّصوص. إلا أنَّ - فيما يَظْهَر لي -أنه لا يَصِحُّ منها شىءٌ؛ بل قد ثَبَتَ(3) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن الرسول ? كان لا يرفع يديه في السُّجُود.
وأما وَقْت رَفْع اليَدَين بالنِّسْبَة للتَّكبير:
فقد اتَّفَق العُلماءُ على مَشروعيَّة رَفْع اليَدَين ( مع ) التَّكبير.
وذهب بَعْضُ أهْل العِلْم إلى أنه يُسَنُّ له أحيانًا أن يَرْفَعَ يَدَيْه ثُمَّ يُكَبِّر.
وذَهَب آخَرون أنَّه يُسَنُّ له أن يُكَبِّر ثم يَرْفَع يَدَيْه.
__________
(1) رواه البخاري ( 735 )، ومسلم ( 390 ).
(2) رواه البخاري ( 739 )، وأبو داود ( 741 ) كلاهما مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. ورواه الترمذي ( 304 )، وأبو داود ( 730 )، والنسائي ( 1182 )، وابن ماجه ( 1061 )، كُلهم مِن حَديث أبي حُمَيْد السَّاعِدي - - رضي الله عنه -- في وصفه لصلاة النبي ?.
(3) رواه البخاري ( 735، 738 )، ومسلم ( 390 ).(1/84)
فأمَّا الدَّليل على رَفْعِهما مَع التَّكبير أو قَبْله: فهو ما ثَبَتَ في " صَحيح مُسلم "(1)، مِن حديث ابن جُرَيْج عن الزُّهْري عن سالم بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال: " كان رسول الله ? إذاقام للصلاة رَفَعَ يَدَيه حتى تَكونا حَذْوَ مَنْكِبَيه، ثم كَبَّر... ". وفي أكثر الروايات التي جاءت عن الزهري عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه - أنه ? " كَبَّر ورَفَعَ يَدَيْه "(2) أو " رَفَعَ يَدَيْه حين يُكَبِّر "(3).
فَدَلَّ هذا الحَديث أنَّه يُشْرَع للإنسان أن يَسْتَعِدَّ بِرَفْع يَدَيْه ثم يُكَبِّر، وإنْ قَرَن بينهما - فقال: " الله أكْبَر " مع الرَّفع -: فَمَشروعٌ أيضًا، وهذا قد جاء في أكْثَر الأحاديث.
وأمَّا الدليل على ما ذَهَب إليه بَعْضُ العلماء مِن مَشروعيَّة التَّكبير قبل رَفْع اليَدَين: فهو ما ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(4)، من حديث أبي قِلَابَة أنَّه رأى مالك بن الحُوَيِّرِث - رضي الله عنه - إذا صَلَّى " كَبَّر ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْه... وحَدَّث أن أن رسول الله ? كان يفعل هكذا ". إلا أنَّه في رِواية أُخْرَى من حديث مالك بن الحُوَيِّرِث - رضي الله عنه -، وهي - أيضًا - في " صحيح مسلم "(5)، من حديث قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحُوَيِّرِث - رضي الله عنه - أن رسول الله ? " كان إذا كَبَّر رَفَعَ يَدَيْه حتى يُحاذِي بِهِما أُذُنَيْه... ".
فَدَلَّ هذا على أنَّ الرِّواية الأُولَى " كَبَّر ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْه " قد تكون رُويَت بالمعنى؛ وذلك لأمْرَين:
__________
(1) رواه مسلم ( 390 )، وأبو داود ( 722 )، والنسائي ( 877 ).
(2) رواه النسائي ( 1144 ).
(3) رواه النسائي ( 876 ).
(4) رواه مسلم ( 391 ).
(5) رواه مسلم ( 391 ).(1/85)
الأوَّل: أن نَفْسَ حَديث ( مالك ) - رضي الله عنه - قد جاء مِن طَريقٍ آخَر صَحيح جِدًّا في " مسلم " - قد مَرَّ قبل أسْطُر -، بدون " ثُمَّ "؛ فقال: " كان إذا كَبَّر رَفَعَ يَدَيْه... ".
الثاني: أنَّه ثَبَتَ في أكثر الروايات - غير حَديث مالك بن الحُوَيِّرِث - أنه ? " كبر ورفع يَدَيْه "، بدون " ثُمَّ " - كما في رواية ابن جريج عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه " رفع يديه... ثُمَّ كَبَّر "، وقد مَرَّت قريبًا -.
فالخلاصة: أنه يُشْرَع للمُصَلِّي إمَّا: أن يَرْفَعَ يَدَيه ثُمَّ يُكَبِّر، أو يُكَبِّر مَع رَفْع اليَدَيْن.
قوله: " إن لم يكن عُذْرٌ ":
أما إذا كان الإنسان مَعْذورًا لا يستطيع أن يَرْفَعَ يَدَيْه - كأن يكون أقْطَع اليَدَين -: فـ ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ].
قوله: " ويرفعهما إشارة إلى كشف الحجاب بينه وبين ربه(1)، كما أن السبابة إشارة إلى الوحدانية(2) ":
مُراد المؤلِّف بهذا بَيان الحِكْمَة مِن رَفْع اليَدَيْن في الصَّلاة. وبَيَّن أيضًا أنَّ المُصَلِّي عندما يُشير بأُصْبُعه في التَّشَهُّد: فهذه إشَارَةٌ إلى وَحْدانيَّة الله - - سبحانه وتعالى - -.
قوله: " ثم يَقْبِض كُوعه الأيسر بكفه الأيمن، ويجعلها تحت سرته ".
__________
(1) وهو قول ابن شهاب - رحمه الله -، تتابع على نقله عنه عامَّة الحنابلة في مُصنفاتهم؛ فانظره - مثلاً - في: " الفروع ": ( 1 / 361 )، و" الإنصاف ": ( 2 / 46 )، و" المبدع 1 / 431 "، و" كَشاف القِنَاع ": ( 1 / 333 ).
ورُوي في الحكمة من رفع اليدين أقوال أخرى؛ انظرها في: " شَرءح النووي على صحيح مسلم ": ( 4 / 96 )، و" المجموع ": ( 3 / 309 )، وبأكثر منها في " نيل الأوطار ": ( 2 / 198 )، ونقل بعدها قول النووي - وهو في " شرحه على صحيح مسلم " -: " وفي أكثرها نَظَر " اهـ.
(2) وهذا هو تتمة قول ابن شهاب السابِق.(1/86)
يُسَنُّ للمُصَلِّي أن يضع يَدَه اليُمنَى على اليُسْرَى في حال قيامِه للصَّلاة. وقد ذَهَبَ إلى مَشروعيَّة هذا جُلُّ أهْل العِلْم(1).
وقد تَواتَرَت السُّنَّة بذلك؛ فَمِن ذلك: ما ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(2)، من حديث أبي حازم عن سَهْل بن سَعْد السَّاعِدي - رضي الله عنه - قال: " كان النَّاس يُؤْمَرون أن يَضَعَ الرَّجُل اليَد اليُمْنَى على ذِرَاعِه اليُسْرَى في الصلاة "... إلى غَيرها مِن النُّصوص الكثيرة(3).
وذَهَبَ بَعْضُ أهْل العِلْم إلى أن المَشروع حالَ القيام هو: إرْسال اليَدَين، ورُوي هذا عَن الإمام مالك - رحمه الله - في إحْدَى الرِّوايات عنه(4). وهذا قد ثَبَتَ عن عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه -؛ فرُوي عَنه أنه " كان إذا صلى يُرْسِل يَدَيْه " [ رواه ابن المنذر وغيره(5) ].
أمَّا صِفَة وَضْع اليُمْنَى على اليُسْرَى:
__________
(1) راجع: " جامع الترمذي ": ( 2 / 33 - تحت رقم 252)، و" المغني ": ( 1 / 281 )، و" المجموع ": ( 3 / 311 )، و" التمهيد ": ( 20 / 74 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 6 / 361 ).
(2) رواه البخاري ( 740 )، ومالك ( 378 ).
(3) وفي الباب: عَن وائل بن حُجر: رواه مسلم ( 401 ). وعَن هُلْب: رواه الترمذي ( 252 )، وابن ماجه ( 809 )، وأحمد ( 5 / 226 ). وابن مسعود: رواه النسائي ( 888 ). وجابر: رواه أحمد ( 3 / 381 ). وعبد الله بن الزبير: رواه أبو داود ( 754 ). وغُضَيْف بن الحارِث: رواه أحمد ( 4 / 105، 5 /290 ). ومُرْسل طاوُوس بن كيسان: رواه أبو داود ( 759 ) - - رضي الله عنهم - -.
(4) راجع: " شَرْح الزُّرْقاني على الموطأ ": ( 1 / 454 )، و" البيان والتحصيل " / لابن رُشْد: ( 1 / 394 )، و" المجموع ": ( 3 / 312 )، و" فتح الباري " / لابن حَجَر: ( 2 / 224 ).
(5) رواه ابن المنذر في " الأوسط ": ( 3 / 92 - برقم 1240 )، وابن أبي شيبة: ( 1 / 344 ).(1/87)
فقد ثَبَتَ في السُّنَّة صفتان:
الصفة الأولى: يَضَع كَفَّه اليُمْنَى على ذِراعِه اليُسْرَى. ثَبَتَ هذا في حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، المُتَقَدِّم قبل أسْطُر.
الصفة الثانية: يَضَع يَدَه ( كَفَّه ) اليُمْنَى على ظَهْر كَفِّه اليُسْرَى والرُّسْغ والسَّاعِد. وثَبَتَ هذا في حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حُجْر - رضي الله عنه - أنه رأى الرسول ? يَفْعَل ذلك. [ رواه أصحاب " السُّنَن "(1) ]، وهو صَحيحٌ.
وأمَّا مَوْضِع اليَدَيْن:
فقد اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في ذلك(2):
فقال بعضهم: يَضَع يَدَيْه على صَدْرِه. وقال آخَرون: يَضَعهما على بَطْنه فوق سُرَّته، وقال فِريقٌ ثالث: يَضَعهما تَحْتَ سُرَّته.
فهذه ثلاثة أقوالٍ جاءت عَن أهل العِلْم، الأقْرَب مِنها هو القَول الأوَّل: وهو وَضعهما على صَدْرِه.
والدَّليل عليه: ما جاء عند الإمام أحمد في " مُسْنَدِه "(3)، من حديث سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب الطائي عن أبيه أنه " رأى الرسول ? واضعًا يده اليمنى على يده اليسرى على صَدْرِه في الصلاة ".
وهذا الحديث لا بأس بإسناده. مَع أنَّ قبيصة بن هلب(4) - الراوي عن أبيه هلب الطائي وهو صحابي - ليس بالمشهور، ولَم يَرْوِ عَن أبيه إلا هو = إلا أنّ أحاديثه التي رواها عن أبيه (5) كُلُّها لها شواهد؛ لذا فهو لا بأس به.
وللحَديث شاهِدٌ من حديث طاووس بن كيسان اليماني، قال:" كان رسول الله ? كان يَضَع يَدَه اليُمنَى على يَدِه اليُسْرَى، ثم يَشُدُّ بينهما على صَدْرِه، وهو في الصَّلاة ".
__________
(1) رواه أبو داود ( 726 )، والنسائي ( 889 ).
(2) راجع: " المغني ": ( 1 / 281 )، و" المجموع ": ( 3 / 313 ).
(3) " مُسْنَد الإمام أحمد ": ( 5 / 226 ).
(5) وهي نحو سبعة، قد تتبعتُها قديمًا في دَرْس " الترمذي ". ( السعد ).(1/88)
رواه أبو داود في كتابه " السُّنَن "، وفي " المراسيل "(1).
وهذا مُرْسَلٌ؛ لأن طاووس بن كيسان تابعي(2).
فالحَديثان يُقَوِّي أحَدهما الآخَر.
وله شاهِدٌ آخَر عند ابن خزيمة(3)، من حديث مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر - رضي الله عنه - أن الرسول ? " وضع وضع يدَه اليُمنَى على يَدِه اليُسْرَى على صَدْرِه ".
إلا أنَّ هذه اللفظة مُنكَرَة لا يُعْتَدُّ بها في حَديث وائل بن حجر - رضي الله عنه -؛ وذلك لأنَّها مِن زيادات مؤمل بن إسماعيل، وهو سىءُ الحِفْظ(4). وقد خالَفَه فيها جَمْعٌ(5)؛ فَرَوَوْه عَن سُفيان الثَّورِي عَن عاصِم به، ولم يَذْكُروا هذه الزيادة.
ورُوي - أيضًا - حَديث وائل بن حُجْر - رضي الله عنه - مِن طُرُق كثيرة؛ فَرواه خمسة مِن الرُّواة(6)، من طريق عاصم بن كُلَيْب عن أبيه عن وائل بن حجر - رضي الله عنه - لم يذكروا هذه الزيادة أيضًا.
فَدَلَّ هذا على أنَّ المُتَفَرِّد بها هو مؤمَّل، وقد عَلِمْتَ حالَه.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فالسُّنّة للمُصَلِّي أن يَضَعَ يَدَيْه على صَدْرِه.
وأما وَضْع اليَدَيْن على البطن - سواءً كانت تحت السُّرَّة أو فوق السُّرَّة -: فلم يَثْبُت في ذلك حَديثٌ.
__________
(1) رواه أبو داود في " سُنَنِه " ( 759 )، وفي " المراسيل ": ( ص 89 ).
(3) " صحيح ابن خزيمة ": ( 1 / 243 ).
(5) مِنهم: محمد بن يوسف بن واقِد ( رواه النسائي )، ويحيى بن آدم، والفضل بن دكين ( رواهما أحمد ).
(6) هُم: زائدة بن قُدامَة، والسُّفيانان: الثوري وابن عُيَيْنَة، وعبد الله بن إدريس بن يزيد ( رواها كلها النَّسائي )، وبشر بن المفضل ( رواه أبو داود ). وكُلُّهم ثِقات أثبات.(1/89)
قوله: " ومعناه ذل بين يدي ربه - - عز وجل - -(1) ".
مُراد المؤلِّف بهذا بَيان الحِكْمَة مِن وَضْع اليَد اليُمْنَى على اليُسْرَى حالَ القيامِ للصَّلاة. فالحِكْمَة مِنها: أنَّ هذه وَقْفَة الذليل بين يدي ربه - - عز وجل - -؛ فينبغي للعبد أن يَقِفَ بِخُضُوعٍ وخُشُوعٍ، ويَسْتَحْضِرَ أنَّه وَاقِفٌ بين يدي الجَبَّار - - سبحانه وتعالى - -.
قوله: " ويُسْتَحَبُّ نَظَره إلى موضع سجوده في كل حالات الصلاة ":
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أن يَنْظُرَ - مِن بِدْءِ صَلاتِه إلى أن ينتهيَ مِنها - إلى مَوضْعِ سُجودِه، إلا في التَّشَهُّد - كما سيأتي قريبًا في كلام المُصَنِّف -؛ فَينْظُر إلى سَبَّابَتِه التي يُشير بها.
وجاءت في الدَّلالَة على ذلك نُصوصٌ، لكنها ليست بالقوية:
__________
(1) وهذا مَرويٌّ عَن ( مهاجر النبال )، لَمَّا ذُكِر عنده قبض الرجل يمينه على شماله، فقالَ: " ما أحسنه، ذُل بين يدي عِز ": رواه ابن المبارك في " كتاب الزهد ": (ص 404)، عن صفوان بن عمرو عنه. وحكاه عنه أيضًا ابن المنذر في " الأوسط ": ( تحت رقم 1239 )، وابن رَجَب في " الفتح ": ( 6 / 362 ).
وحُكيَ مثل ذَلِكَ عن الإمام أحمد: نقله عنه أحمد بن يحيى بن حيان الرقي ( أخرجه أبو يعلى في " طبقات الحنابلة ": 1 / 84 )، بإسنادٍ قال عنه الشيخ العلامة ( محمد عمرو بن عبد اللطيف ) - حفظه الله تعالى -: فيه نَظَرٌ ( في تحقيقه للذل والانكسار / لابن رجب: ص 56 ).
وفَسَّره بذلك عامة أصحاب كتب الحنابلة، نقلاً عن أحمد الرقي عَن إمامهم - رحمه الله تعالى -: انظر - مثلاً -: " الفروع ": ( 1 / 361 )، " المبدع ": ( 1 / 432 )، " الإنصاف ": ( 2 / 46 )، " كشاف القناع ": ( 1 / 334 ). وحكاه عنه - أيضًا - ابن رجب في " فتحه ": ( 6 / 363 )، وفي " الذل والانكسار ": ( ص 56 ).
وراجع: " فتح الباري " / لابن حجر: ( 2 / 224 )، و" شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 4 / 115 ).(1/90)
فَرُوي في ذلك حَديثان: أحَدهما مُرْسَل - مِن مراسيل ابن سيرين -، والآخَر موصول عَن أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما -:
أما مُرْسَل محمد بن سيرين:
فقد أخْرجَه ابن أبي شيبة وغيره(1)، من حديث ابن عون عن محمد بن سيرين قال: " كان رسول الله ? إذا صَلَّى رَفَعَ رأسَه إلى السَّماء، تدور عَيناه يَنْظُر ها هُنا وها هُنا، فأنزل الله - - عز وجل - -: ? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ? [ المؤمنون: 1، 2 ]؛ فطأطأ ? رأسَه، ونَكَس في الأرض ".
وهذا مُرْسَلٌ صَحيحٌ إلى مُحَمَّد بن سيرين.
وقد جاء موصولًا - بِذِكْر أبي هريرة - رضي الله عنه - -: خَرَّجه الحاكم وغيره(2). إلا أنَّ الصَّوابَ فيه الإرسال، كما رَجَّح ذلك البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى "(3)؛ فقال: " المحفوظ مُرْسَلٌ " = يعني: أخطأ مَن وَصَلَ الحديث بِذِكْر أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأما حَديث عائشة - رضي الله عنها -:
__________
(1) رواه ابن أبي شَيبة في " مُصَنَّفِه ": ( 2 / 48 )، والبيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 283 ).
(2) رواه الحاكم في " المُسْتَدْرَك ": ( 2 / 426 )، وقال: " صَحيحٌ على شَرْط الشَّيْخَين - لولا خِلاف فيه على مُحَمَّد - يعني: ابن سيرين -؛ فقد قيل عَنه مُرْسَلاً - ولم يُخَرِّجاه " اهـ. وخَرَّجه مِن طَريقه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 283 ).
(3) " السُّنَن الكُبْرَى ": ( 2 / 283 ) .(1/91)
فقد رواه الحاكم - وعنه البيهقي(1) -، من طريق عمر بن أبي سلمة التنيسي عن زُهَيْر بن مُحَمَّد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " دَخَل رسول الله ? الكَعْبَة، ما خَلف بصره مَوْضِع سُجودَه حتى خَرَجَ مِنها ".
وهذا الحَديث - مع أنَّه صَحَّحه الحاكِمُ وغَيْرُه مِن أهْل العِلْم - إلا أنَّ الصَّواب أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّه مِن راوية عمر بن أبي سلمة التنيسي عن زهير بن محمد، وروايته عَن زُهَير ضَعيفَة، شَديدة الضَّعْف، وسيأتي قول الإمام أحمد - رحمه الله - فيها قريبًا. كما أنَّه مُخْتَلَفٌ فيه.
وزهير بن محمد: هو الشَّامي. وحديثه على قِسْمَيْن:
الأول: ما رواه عنه أهل العراق: فحديثه مُسْتَقِيم. كما قال ذلك الإمام أحمد والبخاري(2).
الثاني: ما رواه عنه أهل الشام: فهو مُنْكَر وضَعيفٌ(3). قال الإمام أحمد والبخاري(4): " يَرْوون عَنه - يعني: أهْلَ الشَّام - أحاديث مَناكير "، وقال أحمد(5)
__________
(1) رواه ابن خُزَيمة في " صَحيحه ": ( 4 / 332 )، والحاكم في " المُسْتَدْرَك ": ( 1 / 652 ) - وعنه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 283 ).
(2) راجع: " تهذيب الكمال ": ( 9 / 417، 418 )، و" جامِع التِّرمذي ": ( 2 / 91 - برقم 296، 5 / 399 - برقم 3291 )، و" العِلَل الكبير " له / بترتيب القاضي: ( ص 359 ).
(3) وبِنَحْو هذا قال - غير ما سيأتي -: أبو حاتِم وابن عَدي والعِجلي. كما في " تهذيب الكمال ": ( 9 / 417، 418 ).
(4) راجع: " تهذيب الكمال ": ( 9 / 416، 417، 418 )، و" التاريخ الكبير ": ( 3 / 427 )، و" جامِع التِّرمذي ": ( 2 / 91 - برقم 296، 5 / 399 - برقم 3291 )، و" العِلَل الكبير " له / بترتيب القاضي: ( ص 359، 381 ).
(5) نقله عنه الحافظ ( ابن حَجَر ) - رحمه الله - في: " تهذيب التهذيب ": ( 8 / 39 ).
ونقل عنه أبو بكر الأثْرَم أنَّه قال: " وأما أحاديث أبي حفص ذاك التِّنِّيسي عنه - يعني: عَن زُهَيْر -: فتلك بواطيل موضوعة " - أو نحو هذا -. نقله عنه الحافظ ( المزي ) - رحمه الله - في " تهذيب الكمال ": ( 9 / 417 ).
وبنحو قول أحمد قاله النَّسائي، كما في المَرْجِع السَّابِق: ( 9 / 418 ).(1/92)
- عَن رواية عمرو بن أبي سلمة التِّنِّيسي عنه -: " روى عن زُهَيْر أحاديث بواطِيل، كأنَّه سَمِعها مِن صَدَقَة بن عبد الله؛ فَغَلَط فقلبها عَن زُهَيْر " اهـ.
فالحاصِل أنَّ الحَديث ضَعيفٌ جِدًّا؛ ومما يَدُلُّ على ضَعْفِه أن الرسول ? عِندما دَخَلَ جَوْفَ الكَعْبَة وصَلَّى لم تَكُن عائشة - رضي الله عنها - معه؛ وإنَّما كان بِصُحْبَتِه بلال وأسامة - - رضي الله عنهم - -(1)، ولم يَنْقُلا - ولا غيرهما مِمَّن كان مَعَهم(2) - ذلك عَن الرسول ?، فيما أعْلَم = فَدَلَّ ذلك على ضَعْفِ الحَديث.
فالحاصِل مِن أحاديث الباب: أنَّ أقْوَى ما فيه هو مُرْسَل محمد بن سيرين - رحمه الله -.
والذي يظهر من عموم النصوص - بالإضافة إلى بَعْضِ ما تقدم - أنه ? كان ينظر إلى موضع سُجُودِه.
إلا أنَّه قد دَلَّت أحاديثُ أُخَر على أنَّه لا يجوز للمُصَلِّي أن يَرْفَع بَصَرَه إلى السماء، ولا يجوز له أن يَلْتَفِتَ في صلاته:
ففي " صَحيح البخاري "(3)، مِن حَديث قتادة عن أنس - رضي الله عنه - أنَّ الرسول ? قال: " ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صَلاتهم؟ "، فاشْتَدَّ قوله في ذلك؛ حتى قال: " لَيَنْتَهُنَّ عَن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أْبصارُهم " ": فنهى ? عَن رَفْع البَصَر إلى السماء في الصلاة.
__________
(1) انظر: " صحيح البخاري ": ( 468 )، ومسلم ( 1329 ).
(2) كان معهم - أيضًا -: عُثمان بن طَلْحَة - - رضي الله عنه - -. راجع المصدرَين السابِقَين، وزاد مُسْلِم ( 1329 ): " ولم يدخلها معهم أحَدٌ "، وكانوا هؤلاء الأربعة. غير أن النسائي ( 2906 ) وأحمد ( 2 / 3 ) زادا - وإسناد حَديثَيهما واحِد - " ومعه الفضل بن عباس " = فأصبحوا خمسة؛ فالله أعْلَم.
(3) برقم ( 750 ). ورواه مسلم ( 428، 429 ) بنحوه مِن حَديثَي: جابر بن سَمُرَة وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.(1/93)
وثَبَتَ - أيضًا - فيه(1)، مِن حديث مَسْرُوق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسول الله ? عَن الالتفات في الصلاة؟ فقال: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العَبْد ": فَجَعَل ? الالتفاتَ مِن الشَّيْطَان، وأنَّه اختلاس يختلسه مِن صلاة العِبْد.
وأما ما جاء عند الترمذي والنسائي(2)، أن الرسول ? " كان يَلْحَظُ في الصَّلاة يَمينًا وشِمالًا، ولا يَلْوي عُنُقَه خَلْفَ ظَهْرِه "، وفي رواية أحمد والنَّسائي: " كان يَلْتَفِت في صَلاتِه... ": فهذا حَديثٌ مُنكَرٌ - إسنادًا ومَتْنًا -: وقد أنكره الإمام أحمد وأبو داود وغيرهم من الحفاظ (3). أخطأ فيه الفضل بن موسى السيناني: حيث رواه عن عبدالله بن سعيد بن أبي هند عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا.
والفضل بن موسى السيناني صدوق له أوهام(4)، وقد خالف وكيع بن الجراح: حيث رواه وكيع عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن رجل عن عِكْرِمَة مُرْسلًا.
وقال أبو داود: هذا أصح = يعني المُرْسَل عن عِكْرِمَة.
إذا ثَبَتَ هذا؛ ففي المُرْسَل رَجُلٌ لم يُسَمَّ.
__________
(1) رواه البخاري ( 751 ).
(2) رواه الترمذي (587 )، والنسائي ( 1201 )، وأحمد ( 1 / 275، 306 ).
(3) قال ابن القيم في " زاد المعاد ": ( 1/242 ): " وقال الخلال: أخبرني الميموني أن أبا عبدالله قيل له: إن بعض الناس أسند أن النبي ? كان يُلاحظ في الصلاة. فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، حتى تغير وجهه، وتغير لونه، وتحرك بدنه، ورأيته في حالٍ قط أسوأ منها، وقال: النبي ? كان يلاحظ في الصلاة؟! يعني أنه أنكر ذلك، وأحسبه قال: ليس له إسناد، وقال: من روى هذا؟! إنما هذا من سعيد بن المسيب، ثم قال بعض أصحابنا: إن أبا عبدالله وهَّنَ حديث سعيد هذا، وضعف إسناده، وقال: إنما هو عن رجل عن سعيد " اهـ. انظر: " الإرشادات " / للشيخ ( طارق بن عِوَض الله )، فصل: المنكر أبدًا منكر: ( ص 84: 88 ).(1/94)
وقال الترمذي: " هذا حديث غريب. وقد خالف وكيعٌ [ يعني: ابن الجراح ] الفضل بن موسى في روايته: حَدثنا محمود بن غَيْلان: حدثنا وكيعٌ عَن عبد الله بن سعيد بن أبي هِند عن بعض أصحاب عِكْرِمَة أن النبي ? " كان يلحظ في الصَّلاة " فَذَكَر نَحوه " اهـ = فلم يذكر عِكْرِمَة في الإسْنَاد.
وأمَّا نَكارَة المَتْن: فَمِن المَعلوم أنَّ الرسول ? أكثر الخَلْق خُشُوعًا في صَلاتِه، واللَّحْظُ في الصَّلاة يُنافِي الخُشوع ولا بُدَّ؛ لأنَّ عيناه تَذْهَبان يَمنة ويَسرة؛ فكيف يَخْشَع في صَلاتِه؟! وهذا لو فَعَلَه أحَدُ النَّاس لأُنْكِرَ عليه = فكيف يفعله رسول الله ?؟!
فالحديث مُنكَرٌ لا يَصِحُّ.
ولكن: هل يُشْرَع للإنسان تَغْميض عَيْنَيه أثناء الصَّلاة؟
الجواب: تَغميض العَينين أثناء الصلاة ليس مِنَ السُّنَّة؛ ولم يُنقَل عَنه ? أنَّه كان يفعل ذلك في صَلاتِه؛ بل الذي دَلَّ ظاهِر بَعْضِ النُّصوص عَلَيْه أنَّه كان يَفْتَح عَيْنَيه في الصَّلاة(1): فَمِن ذلك:
( 1 ) أنَّه ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(2) عَن عائشة - رضي الله عنها - أن الرسول ? صَلَّى في خَميصة لها أعلامٌ فقال: " شَغَلتني أعلامُ هذه؛ اذْهَبوا بها إلى أبي جَهْم، وأْتُوني بأنْبِجَانيَّة = فهذا يَدُلُّ على أنه ? كان فاتحًا عَيْنَيْه في صلاته.
__________
(1) انظرها بأوْعَب مِن هُنا في " زاد المعاد " / للإمام ( ابن القيم ) - رحمه الله - ( 1 / 105، طـ دار الريان للتُّراث )، وقد ناقش هناك بَعْضًا مِنها.
(2) بأرقام ( 752، 373، 5817 )، ورواه مسلم ( 556 ).(1/95)
( 2 ) وثَبَتَ - أيضًا - في " صحيح البخاري "(1) في قصة صلاة أبي بكر - رضي الله عنه - بالمُسلمين، لَمَّا جاء الرسول ? " يَمشي في الصُّفوف حتى قام في الصَّفِّ، فأخذ النَّاس في التَّصفيق، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفت فإذا رسول الله ?؛ فأشار إليه رسول الله - ? - يأمره أن يُصَلِّي... " = فهذا يُفيدُ أنَّه ? كان فَاتحًا عَيْنَيْه في الصَّلاة.
فالحاصِلُ أنَّ تَغْميض العَيْنَين في الصَّلاة ليس مِن السُّنَّة في شىء.
وقد كَرِه بَعْضُ العُلماء(2) تَغْميض العَيْنَين في الصَّلاة؛ وعَلَّلوا ذلك بأنَّ اليَهود كانوا يَفْعَلونَه(3)، ونحن لا ندري عن صِحَّة ذلك. ويَكفينا أن نَعْلَم أنَّ الثابت مِن هَدي الرسول ? أنه كان يفتح عَيْنَيْه في الصلاة.
__________
(1) سَبَق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) كُمجاهد وقتادة والثوري والليث وأبي حنيفة وأحمد وبعض الشافعيَّة، وأكثر العُلماء. راجع الآثار والأقوال في ذلك في: " سنن البيهقي الكبرى ": ( 2 / 284 )، و" مصنف ابن أبي شيبة ": ( 2 / 64 )، و" مختصر اختلاف العلماء " / للطحاوي: ( 1 / 321 )، و" بدائع الصنائع " / للكاساني: ( 1 / 216 )، و" المجموع ": ( 3 / 261 )، و" المغني ": ( 1 / 370 )، و" زاد المعاد ": ( 1 / 105، طـ دار الريان للتراث )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 443 ).
(3) رواه عبد الرزاق في " مصنفه ": (2 / 271 ) عَن مُجاهِد، ونسبه إليه ابن رجب في " الفتح ": ( 6 / 443 )، وحَكاه النووي في " المجموع ": (3 / 261 ) عَن سُفيان الثَّوري، وحكاه في " مُغني المُحتاج ": ( 1 / 180 ) عَن العبدري تبعًا لبعض التابعين. ويظهر مِن كلام الحنابلة أن الإمام أحمد احتَجَّ بكراهته لذلك ولأنه مَظِنَّة النوم، كما في " الفروع ": ( 1 / 427 ) - وعنه " كشاف القناع ": ( 1 / 370 ) -، و" المغني ": ( 1 / 370 ) وغيرهم.(1/96)
وذَهَبَ بَعْضُ أهْل العِلم(1) إلى أنه: لا بأس للمُصَلِّي أن يُغَمِّضَ عَيْنَيه في الصَّلاة، إنْ كان فَتْحُهما يَحُول بَيْنَه وبَين الخُشوع، أو كان يَخْشَى أن يَنْشَغِلَ عَن صلاتِه.
قوله: " إلا في التشهد فينظر إلى سبابته ":
يُبَيِّن المؤلِّف - رحمه الله - هُنا أنَّ السُّنَّة للمُصَلِّي إذا كان جالِسًا للتَّشَهُّد: أن يَنْظُرَ إلى أُصْبُعِه التي يُشير بها في التشهد. وأمَّا باقي الصَّلاة: فَيَنظُر إلى مَوضِع سُجوده، كما بَيَّنَّا قبل قليل.
وأمَّا الدَّليل على هذه المسألة: فهو ما جاءَ في " السُّنَن "، وخَرَّجه ابن حِبَّان وغيره(2)، من حديث يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - أن الرسول ? " كان إذا قَعَدَ في التَّشَهُّد وَضَعَ كَفَّه اليُسْرَى على فَخِذه اليُسْرَى وأشار بالسَّبَّابَة لا يُجاوِز بصره إشارَتَه ".
__________
(1) قال ابن سيرين: " كَانَ يؤمر إذا كَانَ يكثر الالتفات فِي الصلاة أن يغمض عينيه ". رواه عبد الرزاق: ( 2 / 271 ) وبنحوه في ( 2 / 255 )، وانظر " مصنف ابن أبي شيبة ": ( 2 / 64 ). ورَجَّحَ ذلك ابن القيم - رحمه الله - في " الزاد ": ( 1 / 294 ).
(2) رواه النسائي - واللفظ له - ( 1275 )، وأبو داود ( 989 )، وأحمد ( 4 /3 )، وابن حِبَّان ( 5 / 271 - " إحسان " ).(1/97)
" ثم يستفتح سرًا فيقول: " سبحانك اللهم وبحمدك " ومعنى سبحانك اللهم أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك يا الله وقوله وبحمدك. قيل: معناه أجمع لك بين التسبيح والحمد " وتبارك اسمك " أي البركة تنال بذكرك " وتعالى جدك " أي جلت عظمتك " ولا إله غيرك " أي لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله ويجوز الاستفتاح بكل ما ورد، ثم يتعوذ سرًا فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وكيف ما تعوذ من الوارد فحسن، ثم يبسمل سرًا، وليست من الفاتحة ولا غيرها بل آية من القرآن قبلها وبين كل سورتين سوى براءة والأنفال، ويسن كتابتها أوائل الكتب كما كتبها سليمان عليه السلام وكما كان النبي ? يفعل وتذكر في ابتداء جميع الأفعال وهي تطرد الشيطان قال أحمد: لا تكتب أمام الشعر ولا معه ثم يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية مشددة وهي ركن في كل ركعة كما في الحديث: " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وتسمى أم القرآن لأن فيها الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القدر فالآيتان الأوليان يدلان على الإلهيات و + مالك يوم الدين " يدل على المعاد. + إياك نعبد وإياك نستعين " يدل على الأمر والنهي والتوكل وإخلاص ذلك كله لله، وفيها التنبيه على طريق الحق وأهله والمقتدى بهم والتنبيه على طريق الغي والضلال، ويستحب أن يقف عند كل آية لقراءته ? وهي أعظم سورة في القرآن وأعظم آية فيه آية الكرسي وفيها إحدى عشرة تشديدة، ويكره الإفراط في التشديد والإفراط في المد، فإذا فرغ قال: آمين بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن ومعناها اللهم استجب يجهر بها إمام ومأموم معًا في صلاة جهرية ".
الشرح:
قوله: " ثم يستفتح سِرًّا ":
يَتَكَلَّم المؤلِّف - رحمه الله - هُنا عَن دُعاء الاسْتِفْتاح ومَشروعيَّته:
فاعْلَم أنَّ دُعاء الاستفتاح سُنَّة ليس بواجِب، فإذا فَعَلَه الإنسان فَحَسَنٌ، وإذا لم يفعله فليس عليه شَىءٌ.(1/98)
وفقد تَواتَرَت الأحاديث عن الرسول ? بِمَشْروعيَّته؛ فقد نُقِلَ عنه ? أنه كان يَسْتَفْتِح في صلاته قبل أن يَشْرُعَ في القراءة. وَوَرَدَت عَنه ? عِدَّة أنْواعٍ للاستفتاح، كما سيأتي قريبًا - إن شاء الله -.
وذَهَب إلى مَشروعيَّتِه جماهير العُلماء، خِلافًا للإمام مالك - رحمه الله -(1)؛ فقد كان لا يرى دُعَاء الاستفتاح.
إذا ثَبَتَ هذا لدينا وتَقَرَّر؛ فاعْلَم أنَّ دُعاء الاستفتاح يكون سِرًّا: كَمَا جاء في " الصحيحين "(2)، من حديث عُمَارَة بن القَعْقَاع أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: " كانَ رسول الله ? يَسْكُت بين التَّكبير وبين القِراءة إسْكاتَة "، - قال: أحسبه قال: هُنَيَّة -. فقلتُ: بأبي وأمي يا رَسول الله؛ إسْكاتُك بين التَّكبير والقِراءة، ما تقولُ؟ قال: أقول " اللهُمَّ بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعَدتَ بين المَشْرِق والمَغْرِب، اللهُمَّ نَقِني مِن الخَطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهُمَّ اغْسِل خطاياي بالماء والثَّلْج والبَرَد ".
فلاحَظ أبو هريرة - رضي الله عنه - سُكوتَ النبي ? قبل الجَهْر بالقراءة؛ ولذا سأله عَن ذلك. ولو كان ? يَجْهَر بِدُعاء الاسْتِفْتَاح لَسَمِعه أبو هريرة - رضي الله عنه -، ولَمَا كانت هناك حاجَةٌ للسُّؤَال.
قوله: " فيقول: " سُبْحَانك اللهم وبحمدك ":
رُوي هذا الدُّعاء مَرفوعًا وموقوفًا عَن بعض الصَّحابة - - رضي الله عنهم - -:
أما الحَديث المَرفوع: فجاء مِن أحاديث: عائشة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - وغيرهما:
__________
(1) راجع: " المدونة الكبرى ": ( 1 / 62، طـ دار صادر )، و" المغني ": ( 1 / 282 )، و" المجموع ": ( 3 / 321 )، و" شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 5 /96 )، و" الفروع ": ( 1 / 362 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 388 ).
(2) رواه البخاري - واللفظ له - ( 744 )، ومسلم ( 598 ).(1/99)
1ـ أما حَديث عائشة - رضي الله عنها -:
فقد أخْرَجَه الترمذي وابن خزيمة وغيرهم(1)، من حديث حَارِثَة بن أبي الرِّجال عن عَمْرَة عنها قالت: " كان النبي ? إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهُمَّ وبِحَمدِك... " فَذَكَرَته.
وهذا الإسْنَاد ضعيف؛ لِحال حارثة بن أبي الرِّجَال؛ فهو بيِّن الضعف واهي الحديث.
وقد ضَعَّفَ الحديث الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة، وغيرهم من الحفاظ(2).
ورُوي أيضًا من طريق عبدالسلام بن حرب عن بُدَيْل بن مَيْسَرَة عن أبي الجَوزَاء عنها - رضي الله عنها -.
رواه أبو داود(3)، وبَيَّن(4) أن عبدالسلام بن حرب قد تَفَرَّد بهذه الزيادة عن بُديل بن ميسرة.
__________
(1) رواه الترمذي (243 )، وابن ماجه ( 806 )، وابن خُزَيْمَة ( 1 / 239 ).
(2) قال الإمام أحمد: " نَذْهَب فيه إلى حديث عُمر. رُوي فيه وجوهٌ ليس بذاك " = يعني حَديث أبي سعيد وعائشة - رضي الله عنهما -، كما في " مسائل ابنه عبد الله ": ( ص 75 )، و" مسائل أبي داود ": ( ص 30 )، وراجع " فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 384 ).
قال الإمام الترمذي: " هذا حديث لا نعرفه مِن حديث عائشة إلا مِن هذا الوَجه، وحارِثة قد تُكُلِّم فيه مِن قِبل حِفظِه " اهـ.
وقال الإمام ابن خُزَيمة ( 1 / 237 ): " لا نعلم في هذا خبرًا ثابتًا عَن النبي ?، عِندَ أهل المَعْرِفَة بالحَديث " اهـ.
وضعفه البيهقي - أيضًا - في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 34 ).
(3) برقم ( 776 ).
(4) فقال: " وهذا الحَديث ليس بالمَشهور عن عبد السلام بن حَرْب، لم يَرْوِه إلا طَلْق بن غَنَّام، وقد روى قصة الصلاة عَن بُدَيْل جماعَةٌ لم يذكروا فيه شيئًا مِن هذا " اهـ.(1/100)
وحديث بُدَيل بن مَيْسَرَة عن أبي الجوزاء عن عائشة - رضي الله عنها -: خَرَّجه مُسْلِم في " صحيحه " وغيره(1)، وليس عِندَهم أنه ? كان يستفتح بـ " سبحانك اللهم وبحمدك... " إلخ؛ وإنما عندهم أنه ? " كان يستفتح الصَّلاة بالتَّكبير، والقراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين )، وكان إذا رَكَع لم يُشْخِص رأسه ولم يُصَوِّبه، ولكن بين ذلك... " إلخ الحَديث.
فَدَلَّ هذا على أنَّ الزيادة التي تَفَرَّد بها عبد السلام بن حرب شَاذَّةٌ لا تَصِحُّ.
2ـ وأما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (2): فلا يَصِحُّ أيضًا؛ وقد ضعفه ابن خزيمة (3).
فالحاصِل مِن هذا: أنَّ الأحاديث المرفوعة لا يَصِحُّ منها شىء. إلا أنَّ ذلك صَحَّ عَن بعض الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - -:
أما الأحاديث الموقوفة في ذلك:
( 1 ) خَرَّج ابن أبي شيبة(4)، من حديث إبراهيم عن الأسود عن عمر - رضي الله عنه - أنّه كان يستفتح بذلك. وخَرَّجه(5) - أيضًا - مِن حَديث الحكم بن عُتيبة عن عمرو بن ميمون عن عمر - رضي الله عنه - به.
وكلا الإسْنادَيْن قد صَحَّا إلى عُمَر - رضي الله عنه -.
__________
(1) رواه مسلم ( 498 )، وأبو داود ( 783 )، وأحمد ( 6 / 110 ). وروى أوَّله: ابن ماجه ( 812 )، والدارمي ( 1236 ).
(2) رواه الترمذي ( 242 )، وأبو داود ( 775 )، والنسائي ( 900 )، وابن ماجه ( 804 ).
(3) في " صَحيحه ": ( 1 / 238 ). وضَعَّفه أحمد ( كما حكاه عنه الترمذي ).
(4) في " مُصَنَّفِه ": ( 1 / 209 )، والبيهقي ( 2 / 34 )، والدارقطني ( 1 / 300 )، والحاكم ( 1 / 361 ).
(5) في " مُصَنَّفِه ": ( 1 / 210 ).(1/101)
وقد جاء في " صحيح مسلم "(1)، من حديث عَبْدَة بن أبي لُبَابَة أن عمر - رضي الله عنه - " كان يَجْهر بهؤلاء الكَلِمات، يقول: سبحانك اللهُمَّ وبحمدك... " فَذَكَر الدُّعاء. إلا أنَّه مُنقَطِعٌ بين عبدة بن أبي لبابة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (2) لِلَّهِ
ولكن كيف يُخَرِّجه مُسْلِم في " صَحيحه " وفي سَنَده انقطاع؟
أقول: إنَّ الإمام مسلم - رحمه الله - لم يَقْصِد تَخْريج هذا الحَديث في " صَحيحه "؛ وإنَّما خَرَّجه لأنه مُقْرَنٌ بحديث آخَر مُتَّصِل(3)، وقَصَدَ - رحمه الله - تَخريج الحَديث الآخر ( المُتَّصِل ) لا هذا الحَديث ( المُرْسَل )(4)؛ ولذا خَرَّج كِلا المَتْنَيْن بِطَرَف إسْنادٍ واحِدٍ.
__________
(1) برقم ( 399 ).
(2) " مراسيل ابن أبي حاتم ": ( ص 136 )، و" تهذيب الكمال ": ( 18 / 541 )، و" تهذيب التهذيب ": ( 6 / 407 )، و" شَرح النووي على صحيح مُسْلم ": ( 4 / 112 )، و" المجموع " / له: ( 4 / 320 )، و" عون المعبود ": ( 2 / 339 ).
(3) فرواه مِن طريق الأوزاعي عَن قتادة عن أنس قال: " صليتُ خلف النبي ? وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فكانوا يستفتحون بـ ( الحمد لله رب العالمين )، لا يَذْكُرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول القراءة ولا في آخِرِها ".
(4) ولذا بَوَّب عليه: " حُجَّة مَن قال لا يَجْهَر بالبسملة ". فَدَّل هذا أنَّه لا يقصد تَخريج حديث عمر - - رضي الله عنه - - وراجع " شرح النووي على صحيح مُسْلِم ": ( 4 /112 )، و" تحفة الأحوذي ": ( 2 / 44 )، و" نصب الراية ": ( 1 / 322 )، و" التلخيص الحبير ": ( 1 / 229 ).(1/102)
وعَادَةُ غيره مِن المُحَدِّثين - كالبُخارِي والنَّسائي وغيرهم - أنهم يحذفون الراوي الضَّعيف الذي لم يَقْصِدوا تَخْريج حَديثه(1)، أما الإمام مسلم - رحمه الله - فَيَتَوَرَّع عَن ذلك؛ لأنه هكذا سمعه، فيؤَدِّيه كما سمعه(2).
ولذا نَجِد - أحيانًا - بَعْض الأحاديث تُرْوَى مِن طريق ابن وهب عن ( عمرو بن الحارث وابن لهيعة ):
فهنا كيف يُخَرِّج الإمام البخاري والنَّسائي هذا الحَديث مِن طريق ابن وهب؟ يقول - والحال هكذا -: عَن عبد الله بن وَهْب قال: عَن ( عمرو بن الحارِث وذَكَر آخر ) أو ( عمرو بن الحارِث وغيره ) أو ( عمرو بن الحارِث وَفُلان )، ولا يُسَمِّيه(3)؛ والعِلَّة في هذا أنَّهما لا يُريدان التَّخريج عن ابن لهيعة - لحال ضَعْفِه -؛ وإنما يُريدان التَّخريج عن عمرو بن الحارث؛ فهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ.
أما الإمام مسلم: فلا يَحْذِفْه مِن السَّنَد. وقَد رَوَى في " صحيحه " - في مَوْضِعَيْن(4) - مِن طريق ابن وهب عن (ابن لهيعة وعمرو بن الحارِث ).
__________
(1) قال ابن رجب في " شَرح علل الترمذي ": ( 1 / 139 ) - عن ابن لهيعة -: " خَرَّج مسلم حديثه مقرونًا بعمرو بن الحارث. وأما البخاري والنسائي فإذا ذَكَرا إسناداً فيه ابن ليهعة وغيره سَميَا ذلك الغَيْر، وكَنَّيَا عن اسم ابن ليهعة ولم يُسَميَّاه ".
وراجع: " تهذيب الكمال " / للمزي: ( 15 / 502، 35 / 86 )، و" فتح الباري " / لابن حَجَر: ( 13 / 283 ).
(2) راجع: " شرح النووي على صحيح مسلم ": (4 /112 )، و" نصب الراية ": ( 1 / 322 ).
(3) انظر - مثلا -: " صَحيح البخاري ": ( 5697، 4515، 4596، 7085 )، و" سنن النسائي ": ( 276، 2298، 2303، 988، 1543 ).
(4) برقم ( 624 ).(1/103)
وهو - مع ذلك - لا يَقْصِد التَّخريج لابن لَهيعة؛ وإنَّما قَصَدَ التَّخريج لعمرو بن الحارِث. ولكنه يَتَوَرَّع عَن حَذْف ( ابن لهيعة ) مِن الإسْناد لأنَّه هكذا سَمِعَه؛ فيُؤَدِّيه كما سَمِعه - رحمه الله تعالى -.
فَمِن الخطأ البَيِّن أن نقول: أن الإمام مُسْلم خَرَّج لابن لهيعة في " صَحيحه " مُتابَعَة لِلَّهِ لأنه لم يَقصِد التَّخريج له وإنَّما قَصَد التَّخريج لِمَن قُرِنَ معه في إسناد الحَديث ( وهو عمرو بن الحارِث ). فالأوْلَى أن يُقال: أنَّه وَقَع في روايته الجَمْعُ بين عمرو بن الحارث وابن لهيعة(1).
( 2 ) رُوي الاستفتاح بهذا الدُّعاء - أيضًا - عَن أبي بَكر الصِّديق - رضي الله عنه -، إلا أنَّ الإسْناد إليه لم يَثْبُتْ: فقد رواه عنه مكحولٌ أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - " كان إذا استفتح الصَّلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك... " فَذَكَرَه. [ رواه ابن المنذر في " الأوسط"(2) بإسناده عن مكحول به ]، ومَكْحُول لم يسمع من أبي بكر - رضي الله عنه - (3).
__________
(1) قال الحافظ في " التقريب ": ( ص 319 ): " وله [ يعني: ابن لهيعة ] في " مسلم " بعض شيء مقرون ". وانظر: " نصب الراية ": ( 1 / 322 ).
(2) برقم ( 1218 ). ورواه - أيضًا - سعيد بن منصور في " سننه "، كذا قال صاحب " تحفة الأحوذي ": ( 2 / 44 )، نقلاً عن " المنتقى ": ( 2 / 211 - " نيل الأوطار " )، ولم أرَه في " سُنَنِه " المطبوع، في أيٍّ من طَبْعَتَيْه، وليس في المطبوع " كِتاب الصَّلاة " أصلًا لِلَّهِ ومعلوم أنهما بمجموعهما لا يمثلان جميع الكتاب؛ فباقي الكتاب مفقود، وفي الله خَلَفٌ.(1/104)
وروى عبد الرزاق(1)، عن ابن جريج قال: " حدثني مَن أُصَدِّق عن أبي بكر وعن عمر وعن عثمان وعن ابن مسعود - - رضي الله عنهم - -أنهم كانوا إذا استفتحوا قالوا: سُبْحَانَك اللهم وبِحَمْدِك... " فذكره.
إلا أنَّ هذا الرَّجُل ( المُبْهَم ) الذي روى عنه ابن جُرَيْج - فيما يبدو لي - لم يَسْمَع من عمر - رضي الله عنه -؛ لأن ابن جريج إنما حمل عن الطبقة الوسطى مِن التابعين، ومن أكبر شيوخه عطاء بن أبي رباح(2)، وعطاء لم يسمع من عمر - رضي الله عنه - = فهو مُنقَطِع. إلا أنَّه يُقَوِّى إسْناد حَديث أبي بَكر - رضي الله عنه - السابِق.
( 3 ) ورُوي - أيضًا - عَن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (3)، مِن حديث خُصَيْف بن عبد الرحمن الجَزَرِي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عنه موقوفًا به.
وخصيف فيه ضَعْفٌ.
فالخُلاصَةُ مِن هذا التَّخريج للآثار الموقوفة الوارِدَة في هذا: أنَّ هذا الدُّعاء ثابت عن عُمَر - رضي الله عنه -، وكان يجهر به(4)؛ يُريد أن يُعَلِّمه الناس.
وأما الأحاديث المرفوعة فهي - وإنْ كانت ضَعيفَة - إلا أنَّها تَدُلُّ على أن الرسول ? كان يَسْتَفْتِح صَلاتَه بهذا الدُّعاء.
وقوله: " ومعنى " سبحانك اللهم ": أي: أُنَزِّهك التنزيه اللائق بجلالك يا الله ":
" التَّسبيح ": هو تنزيه الله - - عز وجل - -. وهو فَرْضٌ لا بُدَّ منه على المُسْلِم؛ فعليه أن يُنَزِّه رَبَّه عَن كُلِّ ما لا يليقُ به - - سبحانه وتعالى - -.
وقوله: " وبحمدك: قيل: معناه: أجْمَع لك بين التَّسبيح والحَمْد ":
__________
(1) رواه عبد الرزاق في " مُصَنَّفِه ": ( 4 / 232 )، ومِن طريقه: الطبراني في " الكبير ": ( 9 / 262 ).
(3) رواه ابن أبي شَيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 209 )،، وابن المُنذِر في " الأوسط ": ( 3 / 82 )، والطبراني في " الأوسط ": ( 1 / 136، برقم 428 )،
(4) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/105)
ومعنى " الحَمْد ": إثْبَات صِفَات الكَمال للمَحْمود. فعندما نَقول أنَّ الله - - عز وجل - - " هو الرَّحْمَن والرَّحيم، وهُو المُتَّصِفُ بِصِفَة العِلْم والقُدْرَة والعِزَّة... " إلخ = فهذا حَمْدٌ مِنَّا له - - سبحانه وتعالى - -.
وعندما تقول: فُلانٌ يَتَّصِف بكذا وكذا: فَقَد حَمَدتَه؛ لأنك أثْبَتَّ له صِفَات الكَمال.
ورَبُّنا - - عز وجل - - يُحِبُّ الحَمْد، وقد أمر - - سبحانه وتعالى - - عِبادَه أن يَحْمَدوه؛ فقد قال النبي ?: " أمَا إنَّ رَبَّك - - عز وجل -- يُحِبُّ الحَمْد "(1)؛ لَمَّا قال له الأسود بن سريع - رضي الله عنه - ألا أُنْشِدك مَحامِدَ حَمِدتُ بها ربي - تبارك وتعالى -؟
والحَمْدُ على قِسْمَين:
الأول: أن يكون لله - - سبحانه وتعالى - -.
الثاني: أن يكون للمَخْلُوق. فعندما يُقال - مثلاً -: إنَّ فلانًا كَرِيمٌ وشُجَاعٌ و...: فهذا حَمْدٌ لِهَذا المَخْلُوق.
فأمَّا حَمْد الخالِق - - سبحانه وتعالى - - فهو على قِسْمَين - أيضًا -:
الأوَّل: حَمْدٌ واجِبٌ لا بُدَّ مِنه: كالحَمْد الذي يكون في أوَّل الصلاة عِند قراءة الفاتِحَة - وهي رُكْن ( وسيأتي ) -؛ فيبدأ المُسْلِم صلاتَه بِحَمده لِرَبِّه - - سبحانه وتعالى - -؛ لأنَّ الفاتِحَة مُفْتَتَحَة بالحَمد: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ ؤ_>u' الْعَالَمِينَ ?.
ولا يُعْقَل - أصلاً - أن يكون الإنسان مُؤْمِنًا بالله - - سبحانه وتعالى - - ولا يَحْمَدُه؛ فهذا غير مَعْقولٍ. فلا بُدَّ مِن حَمْد الله - - عز وجل - -.
الثاني: حَمْدٌ مُسْتَحَبٌّ: كالحَمْد الذي يكون عِندَ افتتاح الدُّعاء، والخُطَب، ونَحوها.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 3 / 435 )، والطبراني في " الكبير ": ( 1 / 282 ).(1/106)
فيُسْتَحَبُّ افتتاح الدُّعاء بالحمد لله - - عز وجل - -، ثُمَّ بالصلاة والسلام على الرسول ?، ثم يَدْعو بما شاء. كما جاء في حديث فَضَالة بن عُبَيْد - رضي الله عنه - أن الرسول ? سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو في صَلاتِه، فلم يُصَلِّ على النبي ?؛ فقال النبي ?: " عَجِلَ هذا " لِلَّهِ ثُمَّ دَعاه فقال له - أو لِغَيرِه -: " إذا صَلَّى أحَدُكم فليبدأ بِتَحميد الله والثَّناء عليه، ثُمَّ لِيُصَلِّ على النبي ?، ثُمَّ ليَدْعُ بَعْدُ بِمَا شاء " [رواه الترمذيُّ وغيره(1) ].
واعْلَم أنَّه كُلَّما حَمِدَ العَبْدُ رَبَّه - - عز وجل - - وأثْنَى على خالقه ومولاه، وأكْثَرَ من ذلك = كُلَّما كان ذلك سبيلاً لِمَرْضاتِه ومَحَبَّتِه - - عز وجل - -.
وأما حَمْد المَخْلُوق: فلا بُدَّ لِجوازِه مِن ثلاثة شروط:
الشَّرْط الأول: أن يكون هذا الحَمْد لائقًا بالمَحْمُود؛ بحيث لا يَرْفَعُه إلى درجة الخَالِق - - سبحانه وتعالى - - لِلَّهِ
فيُشْتَرَط لِجوازَ حَمد المَخلوق: عَدم المُغالاة فيه بِرَفْعِه إلى دَرَجَة الخَالِق - - سبحانه وتعالى - -. وللأسف يَقَع كثيرٌ مِن النَّاس في المَحْذُور - غالبًا - عِندَ مَدْحِهم للرسول ?، وأيضًا عِند مَدْح العلماء والأولياء والصالحين، وغيرهم مِن أهْل العِلْم والفَضْل. فينبغي للمسلم أن يَحْذَر مِن ذلك كُلَّ الحَذَر.
( 1 ) وقد وُجِدَ مَن يَحْمَد المَخلوق فَيَرْفَعه - والعِياذ بالله - إلى درجة الخَالِق - - سبحانه وتعالى - -، كَمَن يَستغيث بالرسول ?، ومِن ذلك: قول البوصيري في " بُرْدَتِه ":
يا أكرم الخالق مالي مَن ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
__________
(1) رواه الترمذي - واللفظ له - ( 3477، 3476 )، وأبو داود ( 1481 )، والنسائي ( 1284 ).(1/107)
ومَعنى هذا البَيْت: يعني: لا يوجد أحدٌ ألوذ به وألجأ إليه، في الحادثة العظيمة والمصيبة الكبيرة، إلا أنتَ يا رسولَ الله لِلَّهِ فما ترك لله - - سبحانه وتعالى - - شيئًا.
فهذا حمدٌ للرسول ? ومَدْحٌ، لكنه - في حقيقته - ذَمٌّ؛ لأنه رَفَعَ الرسول ? إلى مَرْتَبَة الخَالِق - - سبحانه وتعالى - - لِلَّهِ
وقال أيضًا:
فإنَّ مِن جُودك الدُّنيا وضَرَّتها ومِن عُلومك عِلْم اللَّوْح والقَلَم
فجَعَل البوصيري - في هذا البَيْت - الدُّنيا والآخِرَة مِن بَعْض جُود الرسول ? - وهو الجَواد الكَريم، بأبي هو وأمي ? -، ولم يَتْرك لله - - سبحانه وتعالى - - شيئًا لِلَّهِ وأيضًا جَعَلَ مِن بَعْض عُلُوم الرسول ? اللَّوْح والقَلَم = يعني أنَّه يَعْلَم الغَيْب لِلَّهِ
وهذا كُلُّه مِنَ الغُلُوِّ والكُفْر والشِّرْك، والعِياذُ بالله.
فَثَناء البوصيري - في هذه الأبيات وغيرها - على الرسول ?: ثَناءٌ كَاذِبٌ؛ مُخَالِفٌ لِمَا جاء في الكِتَاب والسُّنة.
وقد نَهانا الرسول ? عَن ذلك؛ كما ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، من حديث ابن عباس عن عمر - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " لا تُطْروني كما أطْرَت النصارى ابْنَ مَريم؛ فإنما أنا عَبْدُه؛ فَقُولوا: عَبْد الله ورسوله ".
ومعنى " لا تُطْروني ": أي: لا تُبَالِغُوا في مَدْحِي.
وجاء في " سُنَن أبي داود " وغيره(2)، من حديث مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال: انطلقْتُ في وَفْد بَني عَامِرٍ إلى رسول الله ?، فَقُلنا: أنتَ سَيِّدُنا. فقال: " السَّيِّد الله - تبارك وتعالى - ". قُلنا: وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طَوْلًا. فقال ?: " قولوا بقولكم أو بَعض قولكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشيطانُ ".
__________
(1) بِرَقَمَي ( 3445، 6830 ).
(2) رواه أبو داود ( 4806 )، والنسائي في " الكبرى ": ( 6 / 70 )، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( 248، 249 ) وأحمد ( 4 / 24، 25 ).(1/108)
فنهاهم ? عن هذه المُبَالَغَة، مع أنه ? سَيِّد وَلَدِ آدَم وأفضلهم فضلًا وأعظمهم قولًا، ولكنَّه ? خَشِيَ عليهم أن يَمتَدَّ بهم هذا المدح إلى الوُقوع في المَحْذُور مِن الغُلو والمُبالَغَة في الإطراء والمَدْح؛ ولذا قال لهم: " ولا يَسْتَجْرِيَنَّكم الشيطان ": أي: لا يَجُرُّكم إلى المَمنوع.
( 2 ) ومِن الأمْثِلَة على الحَمد غير الجائِز - في عَصْرِنا -:
1ـ أنَّ بعض الكُتَّاب عَنَّون في كِتابٍ له عَن مناقب الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - بعد وفاته؛ فقال: " تَفريجه للكُرُبات " لِلَّهِ
وهذا كلام باطل؛ لأن الذي يُفَرِّج الكُرُبات هو الله رَبُّ العالمين، لا سِواه. فكان على الكاتِب أن يَقول - مثلاً -: " مَا جَعَلَه الله - - سبحانه وتعالى - - على يَدَي الشيخ مِن تفريج كُرَب المُسلمين، وإزالة الضَّائِقَة عنهم ".
2ـ وبالغ أحَدُهم جِدًّا فقال في قصيدةٍ له: " إنَّ العِزَّ عَبْدٌ للشيخ عبد العزيز بن باز " لِلَّهِ
وهذا وَاضِحُ البُطْلان؛ فلو كان العِزُّ عَبْدًا للشيخ = لَمَا مات الشيخ - رَحِمَه الله -، والعِزَّة لله جميعًا؛ كما قال - - سبحانه وتعالى - - ? فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ? [فاطر: 10].
3ـ ولَمَّا تُوفي الشيخ محمد بن صالح العُثَيْمين - رحمه الله - بَالَغ في مَدْحه بَعْضُ الناس، فَكَتَب - وللأسف - في إحْدَى المَجلات الإسلاميَّة الخَيِّرَة عُنوانًا قال فيه: " فلتبكي البواكي على الشيخ محمد بن عثيمين " لِلَّهِ(1/109)
وكأن الشَّارِعَ ما عَلَّمَنا ما يُشْرَع لنا بَعْدَ وَفاة الإنسان لِلَّهِ كيفَ فلتبكي البواكي؟! ألا يَعْلَم هؤلاء أنَّه يُشْرَع بعد مَوت الإنسان الاستغفار والدُّعاء له، والصَّلاة عليه. أما البُكَاء والعَويل فلا؛ فما الفائدة منه؟! بل قَد جاء النهي عَن رَفْع الصَّوتِ بالبُكَاء وشَقِّ الثِّياب، وما شابه ذلك مِن أُمور الجاهليَّة (1).
4ـ وقد اطَّلَعْتُ على عدة قصائد؛ منها ما في كتاب " في عيون المراثي البازية "، وينبغي ألا يُطْبَع هذا الكتاب إلا بَعْد حذف هذه المُبَالَغَات لِلَّهِ
5- وبَعْضُ النَّاس بعد وفاة الشيخ عبد العزيز أو الشيخ محمد - حمهما الله - ذَكَروا قِصَصًا عَديدة عَن أحَدِهما، وأنَّه فَعَل كذا وكذا. وهذه القِصَص قد يُشَكُّ في ثُبُوتِهَا، وبَعْضها قد يُبَالَغ في تَضْخِيمها.
6- ومِن ذلك: قَول بعَضْهم عن الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله -: " إمام الأئمة " لِلَّهِ
وهذا خطأ؛ لأنَّ إمام الأئمة على الإطلاق هو الرسول ?. فكان على القائِل أن يُقَيِّد ذلك فيقول - مثلاً -: في هذا الزمان. مع أن هُناك مَن يُنازِعُ في هذا؛ فَيَرَى أن هُناك مَن هو أعْلَم مِنه في عَصْرِه.
وأنا أظُنُّ بالشيخ - رحمه الله - أنه من أهل العِلْم والفَضْل، نَحْسَبُه والله حسيبه ولا نُزَكِّيه على الله، ولكن نحن نَنهى عَن الغُلو في المَدْح.
__________
(1) جاء ذلك في أحاديث؛ مِنها: ما رواه البخاري ( 1292، 1294 )، ومسلم ( 67، 103 )، وغيرهم.(1/110)
وقد بَوَّب البخاري في " صحيحه " فقال: باب ما جاء عندما الإنسان يسأل من هو أعلم، وذَكَرَ تحته(1) حَديث ابن عباس عن أُبَيِّ بن كعب - - رضي الله عنهم - - أن موسى بن عمران - - عليه السلام - - سُئِلَ: " هل تَعْلم أحَدًا أعْلَم مِنكَ؟ قال موسى: لا. فأوْحَى الله - - عز وجل - - إلى موسى ( مُعاتِبًا إيَّاه؛ لأنه لم يَرُد العلم إليه ): بَلَى؛ عَبْدُنا الخِضْر... " إلخ الحَديث.
فموسى - - عليه السلام - - ( وهو كَليم الرَّحمن، ومِن أُولي العَزْم مِن الرُّسُل، ويَنزِل عَلَيْه الوَحي ) لَمَّا لم يَرُدَّ العِلْم إلى الله عاتَبَه رَبُّه - - سبحانه وتعالى - -.
ومِن فِقْه البخاري - رحمه الله - أنَّه أتَى بهذا الباب في كتاب " العِلْم ".
فينبغي الانتباه والحَذَر من هذه الأمور؛ لأنَّ بعض الناس يَظُنُّ أنك إذا أثْنَيتَ على المَيِّت أنَّه فَعَل كذا وفَعَل كذا = تكون بهذا قد أسْدَيْتَ له مَعْروفًا ! هذا خطأ؛ فَمِن أعْظَم ما يُحْسَن إلى المَيِّت بِفِعْلِه - بعد مَوته - هو الدُّعاء له؛ فول دَعَوتَ إلى المَيِّت تكون قد أحْسَنتَ إليه كُلَّ الإحْسان؛ ولذا قال الرسول ?: " إذا مات الإنسانُ انقطع عَنه عمله إلا مِن.... وَلَدٍ صالح يدعو له "(2).
فينبغي الحَذَر مِن المُبالَغَة في مَدْح المَخلوقين؛ لأنَّ أوَّل شِرْكٍ وَقَعَ في الأرض إنَّما كان بِسَبَب الغُلُو في الصَّالحين؛ فعلينا أن نتواصَى بالتَّحذير مِن ذلك والإنكار على مَن وَقَعوا فيه، وللأسف فقد وَقَعَ في ذلك مِن أهْل العِلْم أكثر مِن العامَّة لِلَّهِ
__________
(1) برقم ( 74، 78 )، ورواه في مواضع متفرقة مِن " صحيحه ". ورواه - أيضًا - مسلم ( 2380 ).
(2) رواه مسلم ( 1631 )، والترمذي ( 1376 )، وأبو داود ( 2880 )، والنسائي ( 3651 ).(1/111)
ومِمَّا يَجْدُر ذِكْرُه هُنا أنَّ أحد الشُّعراء أثْنَى - قَديمًا - على الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - في إحْدَى الصُّحُف، وكان الشَّيخ لا يزال حيًّا، فَتَبَرأ الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله - مِن هذا الشِّعْر، وقال: " أنا أكْرَه ذلك ".
ونَحْن نُنكِر على الرافضة والصوفية والخُرَافيين أنهم يُبالِغون في الثَّناء على مَشايخهم = فكيف يقع أهل السُّنَّة في نَفْس ما وقع فيه فلان وفلان مِن الناس؟!
وبَعْضُ النَّاس - وللأسِف - تَجِده يُكْثِر مِن قراءة سيرة بعض العُلماء، وهو لم يقرأ سيرة رسوله ? لِلَّهِ بل تَجِده مُقَصِّرًا في مَعْرِفته بِرَبِّه - - سبحانه وتعالى - - وأسمائه وصِفاتِه، وتَعظيمه لخالقه ومولاه - - سبحانه وتعالى - - لِلَّهِ فينبغي الانتباه لهذا.
وأذْكُر أن أحْد مشايخنا الأفاضِل ( وهو مِن أهْل العِلْم ) - رحمه الله -، جاءَه وَلَده ( وهو مِن أهْل العِلم أيضًا ) فقال له: أنا أعْجَب مِن سيرة عمر - - رضي الله عنه - - لِلَّهِ فقال له والده الشيخ: " اعْجَبْ مِن سِيرَة الرسول ? ".
ولا شَكَّ أن سيرة أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - عجيبة، إلا أنَّ ما يُنْهَى عَنه هو التَّشاغُل بسيرة أحَد الصَّحابَة عَن سيرة رَسولِنا ?، أو التَّشاغُل بسيرة الرسول ? عَن مَعْرِفَه الله - - سبحانه وتعالى - -، بأسمائه وصِفَاته ونُعوت جَلاله.
الشَّرْط الثاني مِن شُروط جَواز مَدْح المَخلوق: ألا يَكْذِبَ في مَدْحِه، وإنْ كان الكَذِب لائِقًا بالبَشر.
فلا يجوز مَدْحُ الإنسان بِصِفَةٍ ليست فيه، كأن يقول: هو كريم - مع أنَّه بخيل -، أو يقول: هو عالم - مَع أنَّه جاهل -، مَع أنَّ هاتَيْن الصِّفَتَيْن ( الكَرم والعِلْم ) تليقان بالبَشر، إلا أنَّها كَذِبٌ في ذات الشَّخْص.
الشَّرْط الثالث: ألا يَمْدَح المادِحُ مَمدوحَه في وَجْه:(1/112)
فلقد نَهانا الرسول ? عَن ذلك(1).
فينبغي للإنسان إذا أراد الإنسانُ أن يَحْمِد أحَدًا مِن المَخلوقين أن يُراعي هذه الشُّروط الثلاثة.
واعْلَم أنَّ " الحمد " و" الشُّكْر " بينهما عُمومٌ وخُصوصٌ(2):
فالشُّكْر يكون بالقلب ( الضَّمير ) - فيَعْتَرِف الإنسان بإحْسان ربه - عز وجل - إليه -، وباللِّسان، وبالَجوارِح ( العَمَل )؛ كما قال - جَلَّ وعَلا - ? اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ? [ سبأ: 13 ].
كما أنَّه لا يكون إلا على نِعْمَةٍ أسداها إليك المشكور؛ كما قال القائل:
أفادتكم النَّعْماء مني ثلاثة …يدي ولساني والضمير المجبا
أمَّا الحمد فلا يكون إلا بالِّلسان، ويكون لِنِعْمَة وإحسان، أو لغَيْر نِعْمَة ( لِكَمالٍ وعَظَمَةٍ في الممدوح ).
قال:" وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ":
قوله: " وتبارك اسمك: أي البركة تُنَال بذكرك ":
قوله: " وتبارك اسمك ": أي: تَنَزَّه وتَقَدَّس اسْمُك، أو: تُنال البركة بِذِكْرِك.
" تبارك(3) ": مأخوذ من " البَرَكَة " - وهي: الخَيْر الكثير -، ومِن ذلك " البِرْكَة " - وهي: مَجْمَع الماء -، ومِن أسْمَاء الله - - عز وجل - -: المُبارِك، ومِن صِفَاتِه أنه يُبارِك لِمَن يشاء.
و" البَرَكة " على قِسْمَيْن:
الأوَّل: بَرَكة تليق بالخالق - - سبحانه وتعالى - -:
…وهي البَرَكَة التي تكون مِنَ الله - - عز وجل - -. فهو المُبارِك - - سبحانه وتعالى - -، ويُعْطي البَرَكَة لِمَن يَشاء مِن عِبادِه [... ].
الثاني: بَرَكَة تكون في المخلوق:
…وهي بَرَكَةٌ جَعَلها الله - - سبحانه وتعالى - - في بَعْضِ عِبادِه ومخلوقاته:
ومِن الأمْثِلَة على البَرَكة التي جَعَلها الله في عِبادِه ومَخلوقاته:
__________
(1) جاءٍ ذلك في أحاديث؛ مِنها: ما رواه البخاري ( 2662 )، ومسلم ( 300 )، والترمذي ( 2393 ) ، وأبو داود ( 4804 )، وغيرهم.(1/113)
( 1 ) الأنبياء - عليهم السلام -: فلا شَكَّ أنهم مُبَارَكُون، وأنَّ البَرَكَة التي فيهم تَتَعَدَّى إلى غيرهم، ومِنهم:
( 2 ) الرسول ?: فقد كان الصَّحابة - - رضي الله عنهم - - يَتَبَرَّكون بِشَعْرِه وبُصاقِه وبالماء الذي لامس جَسَده؛ كما وَرَدَ في " الصحيحين "(1)، أنَّه ? " إذا تَوَضَّأ كادُوا يَقْتَتِلُون على وَضُوئِه ".
فكانت بركته ? مُتَعَديَة.
وأمَّا بَرَكَةُ الأوْلياءِ والصَّالحين فهي غَيْر مُتَعَديَة:
( 3 ) فالأولياء والصالِحُون وأهل العِلْم فيهم بَرَكة، في أقوالهم وأفعالهم؛ فيُعَلَّمون النَّاس الخَيْر - لأنَّهم على الحَقِّ والهُدَى -، وكثيرًا ما يَهْدِي بهم الله - - عز وجل - - مَن ضَلَّ عَن الصِّراط المستقيم.
فهذه البَرَكَة تكون في أعْمالِهم؛ لأنَّها موافِقَة للحَقِّ والهُدى والصَّواب، فعندما يراها غيرهم يَقْتَدِي بهم في تِلك الأعمال؛ فتكون أعمالهم حاثَّةٌ للناس على فِعْل الخَير واتِّباع الحَقِّ.
( 4 ) ومِن ذلك - أيضًا -: ماء زَمْزَم: ففيه بَرَكَةٌ؛ كما ثَبَتَ في حديث أبي ذر - - رضي الله عنه - -، عِندَ مسلم(2): " إنها طَعام طُعْم "، وزاد أبو داود الطيالسي(3): " وشِفَاء سُقْم ". فالبركة الموجودة في هذا الماء: أنَّه طَعامٌ يُشْبِع الجائِع وشِفَاء للسُّقْم.
( 5 ) ومن ذلك - أيضًا -: العَسَل؛ كما قال - - عز وجل - - ? فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ? [ النحل: 69 ].
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - ( 2734، 189، 376 )، ومسلم - بمعناه - ( 503 )، وأحمد ( 4 / 329 )، وابن حِبَّان ( 11 / 221 - " إحسان " ).
(2) برقم ( 2473 ) في حَديثٍ أبي ذر - - رضي الله عنه - - الطَّويل، ورواه أحمد ( 5 / 174 ).
(3) في " مُسْنَدِه ": ( ص 61 ).(1/114)
( 6 ) ومن ذلك - أيضًا -: البَرَكَه في المَسْجِد الحَرام؛ فَتُضاعَف فيه الصلاة إلى مائة ألْف صلاة(1).
…لكن مِمَّا ينبَغي التَّنَبُّه له: أنَّ بعض الناس - والعِياذُ بالله - يَتَبَرَّك ويَتَمَسَّح ببعض الأولياء والصالحين، أو بِجُدْرَان الحَرَم، وما شابه ذلك: فهذا مِن الشِّرْك. وهُوَ على قِسْمَيْن:
1- إنْ كان يَعْتَقِد أن هذا الذي يتبرك به يستقل بالبركة: فهذا شِرْكٌ أكْبَر.
2- أما إنْ كان يعتقد أنه مُجَرَّد سَبَبٌ وأن المُبارِك هو الله: فهذا شِرْكٌ أصْغَر.
قوله: " وتعالى جَدُّك: أي جَلَّت عَظَمَتُك ":
" وتعالى جَدُّك(2) ": أي: جَلَّت عَظَمَتُك وجَلالُك.
قوله: " ولا إله غيرك: أي لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله ":
" ولا إله غيرك ": أي: لا مَعْبُود في الأرض ولا في السَّمَاء بِحَقٍّ سِوَاك يا الله، فلا يَسْتَحِقُّ العِبادَة غيرُك، لا إله إلا أنت سُبْحانَك.
قوله: " ويجوز الاستفتاح بكل ما وَرَدَ ":
… جاءت عِدَّة أدْعيَةٍ للاسْتِفتاح عن الرسول ?، ومِن أصَحِّ هذه الأدعية: ما جاء في " الصحيحين "(3)، مِن حديث عُمارة بن القَعْقَاع عن أبي زُرْعَة بن عُمر بن جرير عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? كان يقول: " اللهُمَّ بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعَدتَ بين المَشْرِق والمَغْرِب، اللهُمَّ نَقِني مِن الخَطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهُمَّ اغْسِل خطاياي بالماء والثَّلْج والبَرَد ".
__________
(1) رواه الإمام أحمد ( 3 / 343، 397 )، وابن ماجه ( 1406 ). وأصله في البخاري ( 1190 )، ومسلم ( 1394 ).
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/115)
وأيضًا ثَبَتَ أنه ? كان يقول في صلاة الليل: " اللهمَّ رَبَّ جَبْرَائيل ومِيكائيل واسْرَافيل، فَاطِرَ السماوات والأرض، عَالِمَ الغَيْب والشَّهَادَة، أنت تَحْكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدِني لِمَا اخْتُلِفَ فيه مِن الحَقِّ بإذنك؛ إنَّك تَهْدِي مَن تشاء إلى صراطٍ مُستَقيم " [ خَرَّجه الإمام مسلم(1)، من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سَلَمة قال: سألتُ عائشة أُمّ المؤمنين - رضي الله عنها -: بأيِّ شَىءٍ كان نبي الله ? يَفْتَتِح صَلاتَه إذا قام مِن الليل؟ قالت: " كان إذا قام مِن الليل افتتح صَلاتَه: اللهُمَّ رَبَّ جَبْرائيل... " فَذَكَرَته ].
…وجاء في صحيح مسلم(2)، مِن حديث الأعرج عن عُبَيْد الله بن أبي رَافِع عن عَلي بن أبي طالب - - رضي الله عنه - - عَن الرسول ? أنَّه كان إذا قام إلى الصلاة قال: " وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فَطَرَ السماوات والأرض حَنيفًا مُسْلِمًا وما أنا مِن المُشْرِكين. إنَّ صلاتي ونُسْكِي ومَحْياي ومَمَاتي للهِ رَبِّ العالمين، لا شَرِيكَ له، وبِذَلِك أُمِرْتُ وأنا أوَّل المُسْلِمين.... " الحَديث.
…وقد اخْتُلِفَ في حديث عَلِّي هذا(3): هل كان يقول هذا في صلاة الليل أم في المكتوبة؟ والصَّحيح أنَّه جاء هذا وذاك.
وللاستفتاح أدْعيَةٌ أخْرَى جاءت عن الرسول ?؛ فراجعها.
__________
(1) برقم ( 770 )، ورواه الترمذي ( 3420 )، وأبو داود ( 767 )، والنسائي ( 1625 )، وابن ماجه ( 1357 ).
(2) برقم ( 771 )، ورواه الترمذي ( 3421 )، وأبو داود ( 760 )، والنسائي ( 897 ).
(3) قال الترمذي ( 3423 ): " وقال بعض أهل العلم مِن أهل الكوفة وغيرهم: يقول هذا في صلاة التَّطَوُّع، ولا يقوله في المكتوبة " اهـ. وراجع: " شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 6 / 60 )، و" تحفة الأحوذي ": ( 9 / 269، 2 / 47 )(1/116)
فيُسَنُّ للمُصَلِّي أن يُنَوِّع بين هذه الاستفتاحات؛ فيستفتح بهذا مَرَّة، وبالثاني مَرَّة، وهذا أكْمَل وأحْسَن. أما إن اقتصر على أحَد هذه الاستفتاحات فقد عَمِل بالسُّنَّة، ولا شَكَّ. ويُراعِي أنَّ ما جاء في المكتوبة يستفتح به في المكتوبة، وما جاء في صلاة الليل يستفتح به في صلاة اللَّيْل والتَّطَوُّع.
ودُعاء الاستفتاح لا يكون إلا في الرَّكْعَة الأوُلَى - وهذا الذي ثَبَتَ في السُّنَّة -، إلا أنَّه جاء عَن بَعْض السَّلَف(1) أنه كان يستفتح في كل ركعة. ولا يَصِحُّ الاقتداء بهم في ذلك.
قال: " ثم يتعوذ سِرًّا؛ فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ":
يُسَنُّ للإنسان - بعد دُعاء الاستفتاح - أن يَتَعَوَّذ بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم، ويُسِرُّها ولا يَجْهَر بها(2).
والأدِلَّة على هذا: قول الله - عز وجل - ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) ? [ النحل: 98 ]. وكان الرسول ? إذا كَبَّر استفتح، ثم يتعوذ؛ " فيقول قبل القراءة: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "(3) "، كما جاء في القرآن الكريم.
__________
(2) نقل ابن قُدامَة الإجمَاع على ذلك؛ فقال في " المغني ": ( 1 / 283 ): " بلا خِلاف "، وخالفه في دَعوى الإجماع النووي في " المجموع ": ( 3 / 325 )، وابن رَجَب في " الفتح ": ( 6 / 430 ).
(3) رواه عبد الرزاق في " مُصَنَّفه ": ( 2 / 86 )، ومِن طريقه: ابن المُنذِر في " الأوْسَط ": ( 3 / 87 - برقم 1229 )، مِن حَديث أبي المتوكل عَن أبي سعيد الخُدري - - رضي الله عنه - -.(1/117)
وقد رُوي عَنه ? أنَّه كان يقول: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من هَمزِه ونَفْخِه ونَفْثه "، وهذا قد جاء من حديث جُبَير بن مُطْعِم وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -(1). وكُلُّها لا تَخْلُو مِن كَلام، إلا أنَّ بعضها يُقَوِّي البعض الآخر = فالأقْرَب أنَّ هذا الحَديث: ثَابِتٌ بمجموع طُرُقه.
والاستعاذَة أوَّل الصلاة مَشروعَةٌ، بل هناك شِبْه اتفاقٍ على مَشروعيَّتِها، إلا ما نُقِلَ عَن الإمام مالك(2) - رحمه الله - مِن القَول بِعَدم مَشروعيَّتها؛ فقال: " من حين التكبير يَشْرُع في القراءة ".
ولكن الحُجَّة في الكِتاب والسُّنَّة، وقد ثَبَتَت الاستعاذَة فيهما.
وأمَّا حُكْم الاستعاذة: فقد اختلف أهل العلم في ذلك(2):
فَذَهَبَ الجُمهور إلى أنَّها: سُنَّة. وذَهَب بَعْضُ العُلماء إلى وُجوبِها؛ واستدلوا على ذلك بأمر الله - - عز وجل - - بها.
…ثم وَقَعَ الخِلاف بين العُلماء - أيضًا -: هل تُشْرَع الاستعاذة في كُلِّ رَكعات الصَّلاة، أم يقتصر على الرَّكْعَة الأوُلَى فَحَسْبُ(3)؟
…فَذَهَبَ بَعْضُ أهل العلم إلى القول الثاني؛ وقالوا: يَكتَفي بالاستعاذة في الرَّكْعَة الأُولَى؛ قالوا: لأن القراءة في الركعة التي بعدها مُكَمِّلَة للقراءة الأُولَى.
__________
(1) حَديث جُبَير - - رضي الله عنه - -: رواه أبو داود ( 764 )، وابن ماجه ( 807 )، وأحمد ( 4 / 80 )، وابن حِبَّان ( 5 / 79 - " إحسان " ).
وحَديث أبي سعيد - - رضي الله عنه - -: رواه الترمذي ( 242 )، وأبو داود ( 775 )، وأحمد ( 3 / 50 )، والدارمي ( 1239 ).
(2) راجع: " المدونة الكبرى ": ( 1 / 64 )، و" المغني ": ( 1 / 283 )، و" المجموع ": ( 3 / 325 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 431 ).
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 312 )، و" المجموع ": ( 3 / 325 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 431 ).(1/118)
وذهب آخَرون إلى القَول الأوَّل، وهو مَنقول عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي، وغيرهم من أهل العلم.
والأقْرَب - والله أعلم -: القول الثَّاني؛ فيكتفي بالاستعاذَة في الرَّكْعَة الأوْلَى فَحَسبُ.
قال: " وكيفما تعوذ من الوارد فحسن ".
…قد تَقَدَّم - قبل قليل - أنَّه وَرَدَ عَن النبي ? أنَّه كان يَتَعَوَّذ بقوله: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزة ونفحه ونفثه ". فهذا إنْ قَالَه المُصَلِّي فَحَسَنٌ.
وجاء(1) بِلَفْظ: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه "، ولكن هذه الصيغة ضعيفة.
قال: " ثم يُبَسْمِلُ سِرًّا ":
…اخْتَلَفَ أهل العلم - قديمًا وحَديثًا - (2): هل يَجْهَر الإمامُ بالبَسْمَلَة في الصلاة الجَهْريَّة مع جَهْرِه بالفاتِحَة، أم يُسِرُّ بها مَع جَهْرِه بباقي قِراءته - مِن الفاتِحَة والسُّورَة بَعْدَها -؟
واعْلَم أنَّ الخِلاف في هذه المسألة قديم بين أهل العلم، وقد أُلِّفَت فيه الكُتُب: فللدارقطني كِتاب في البسملة، ولابن عبد البر جزء مطبوع في البسملة، ولغيرهم - أيضًا - مِنْ أهْلِ العِلْم(3).
وفي المسألة عِدَّة أقوال:
__________
(1) جاءت هذه الصيغة في حَديث أبي سعيد الخُدري - - رضي الله عنه - -، وقد تَقَدَّم تخريجه: ص؟؟؟.
(2) " المجموع ": ( 3 / 341 )، و" مجموع الفتاوى ": ( 22 / 407، 410 وما بعدها )، و" التمهيد ": ( 19 / 208، 20 / 206 )، و" المغني " ( 1 / 285 )، وانظر مبحثَين نفيسَين مُطَوَّلَيْن جِدًّا مِن غَير إملالٍ في: " فتح الباري " / لابن رجب ( 6 / 388: 428 )، و" نصب الراية " / للزيلعي: ( 1 / 328: 362 ).
(3) كمحمد بن نصر وابْنَي خُزَيمة وحِبَّان وأبي بكر الخطيب البغدادي والبيهقي وغيرهم. راجع: " فتح الباري " / لابن رجب ( 6 / 407 )، و" نصب الراية ": ( 1 / 335 ) نقلًا عَن ابن عبد الهادي في " التنقيح ".(1/119)
القول الأول: لا يجهر بالبسملة مُطْلَقا. وهو مذهب الجُمهُور، مِنهم: الإمام مالك وأحمد وغيرهم.
القول الثاني: يجهر بالبسملة في الصَّلوات الجَهْريَّة. وهذا مذهب الشافعي.
القول الثالث: يَجْهَر بها أحيانًا، ويُخْفيها في أكْثَر أحوالِه، مع كون هذا هو الأصل فيها.
هذه ثلاثة أقوال قيلت في هذه المسألة، وأقْرَبها وأرجحها: أنَّ المُصَلِّي يُسِّرُّ بالبَسْمَلَة ولا يَجْهَر بها؛ وذلك لِمَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، من حديث قتادة عن أنس - - رضي الله عنه - - قال: " صَلَّيْتُ مع رسول الرسول ? وأبي بكر وعُمَر وعُثمان - - رضي الله عنهم - -؛ فلم أسْمَع أحَدًا مِنهم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ". وفي لفظٍ عند مسلم(2): " لا يَذْكُرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أوَّل القراءة ولا في آخِرِها ". وفي رواية(3): " فكانوا يَستفتحون القراءة بـ: ( الحمد لله رب العالمين ) ". وفي رواية ليست في " الصَّحيحين " بهذا اللَّفظ: " كانوا لا يَجْهَرون بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) " [ رواه ابن خزيمة وأحمد(4)، من حديث وكيع عن شعبة عن قتادة، وهذا الإسناد من أصح الأسانيد ].
وهذه الألفاظ بعضها يفسر البعض الآخر؛ فقول أنس - - رضي الله عنه - - " كانوا يَسْتَفْتِحون القِراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) " أي: " يجهرون بالحمد "؛ لقوله - - رضي الله عنه - -: " كانوا لا يجهرون... " = فيدل مَجموعها على أنَّه ? كان يُسِرٌّ بالبسملة.
__________
(1) رواه البخاري ( 743 )، ومسلم - واللفظ له - ( 399 ).
(2) رواه مسلم ( 399 )، وأحمد ( 3 / 223 ).
(3) وهي رواية البخاري ( 743 ) - وعنده " يفتتحون الصَّلاة " -، ومسلم ( 399 )، والترمذي ( 246 )، وأبو داود ( 782 )، والنسائي ( 903 )، وابن ماجه ( 813 )، وغيرهم.
(4) رواه أحمد ( 3 / 179، 275 )، وابن خُزيمة ( 1 / 249 ).(1/120)
وجاء(1) من حديث عُقْبَة بن خالد عن شُعْبة وسعيد بن أبي عَرُوبَة، كِلاهما عن قتادة عن أنس - - رضي الله عنه - -: "... فلم أسْمَع أحدًا مِنهم يجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ".
وحَديث أنس - - رضي الله عنه - - نَصٌّ صَحيحٌ صَريحٌ في المسألة، ولا يَصِحُّ حديثٌ خِلافَه.
وقد جاء - عند الإمام أحمد والترمذي والطبراني وغيرهم(2) -، بإسنادٍ لا بأس به، من حديث قَيْس بن عَبَايَة عن ابن عبد الله بن مُغَفَّل قال: سَمِعَني أبي وأنا في الصَّلاة أقول ( بسم الله الرحمن الرحيم )؛ فقال لي: " أيْ بُنَيَّ مُحْدَث؛ إيَّاك والحَدَث ". قال: "... وقد صَلَّيْتُ مع النبي ? ومع أبي بكرٍ ومع عُمَر ومع عُثمان؛ فلم أسْمَع أحدًا مِنهم يقولها؛ فلا تَقُلْها. إذا أنتَ صَلَّيْتَ فِقُل: ( الحمد لله رب العالمين ) ". فأنكر عبدالله بن مغفل - - رضي الله عنه - - على ابنه جَهْره بالبَسْمَلة.
ويُؤَيِّد ما ذَهَبنا إليه: ما سيأتي(3) أنَّ البسملة ليست مِن الفاتِحَة؛ وأنَّها آية مُسْتَقِلَّة عنها. وإذا ثَبَتَ هذا؛ فلا يُشْرَع الجًهْر بها؛ وإنَّما يُجْهَر بسورة الفاتِحَة وهي ليست مِنها.
__________
(1) هذا لفظ النسائي ( 907 ).
(2) رواه الترمذي - واللفظ له - ( 244 )، وابن ماجه ( 815 )، وأحمد ( 4 / 85 )، وابن المُنذِر في " الأوْسَط ": ( 1302 )، والطبراني في " الكبير ": (؟؟؟ ). ورواه النسائي مُخْتَصَرًا ( 908 ).
(3) ص؟؟؟.(1/121)
وأقْوَى ما يُسْتَدَلُّ به على الجهر بالبسملة: ما جاء في " السُّنَن "(1)، من حديث الليث عن خالد عن ابن أبي هِلال عن نُعَيْم المُجْمِر قال: " صَلَّيْتُ وَراءَ أبي هريرة - - رضي الله عنه - -؛ فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثُمَّ قرأ بأُمِّ القُرآن... " إلخ الحَديث، وفي آخِرِه: قال أبو هريرة - - رضي الله عنه - -: " والذي نَفسي بيده؛ إني لأشْبَهَكُم صلاةً برسول الله ? ".
فاستدل بهذا الحَديث عَدَدٌ مِن أهْل العِلْم - كالخطيب البغدادي ( وصَحَّحه هو وغيره )(2) ومَن قبله - على مَشروعيَّة الجَهْر بالبَسْمَلَة؛ لقول الراوي: " قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم... ".
والجواب عَن هذا الحَديث مِن وَجْهَيْن:
الوجه الأول: عَلَّل هذا اللفظ عَدَدٌ مِن الحُفَّاظ(3)، وقالوا أنَّ زيادة " قرأ بـ: بسم الله الرحمن الرحيم " زيادَة شاذَّة = فلا يَصِحُّ الحَديث بهذه الزيادَة. ومِمَّن عَلَله بذلك ابن عبد الهادي(4) - رحمه الله تعالى -.
ذلك أنَّ أصلَ الحَديث - وهو قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - وصلاته بالناس - ثَبَتَ في " الصَّحيحين " وغيرهما، مِن عِدَّة طُرُق ليس فيها هذه الزيادَة:
فرواه مُسْلِم(5): مِن حَديث سُهَيْل عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
__________
(1) رواه النسائي ( 905 )، وابن خُزيمة ( 1 / 251 ) - وعَنه: ابن حِبَّان ( 5 / 104 ) -، والحاكِم ( 1 / 357 )، ورواه البخاري ( 782 ) تَعليقًا عَن نُعَيم، وَوَصَله الحافِظ في " تغليق التعليق ": ( 2 / 320 ).
(3) راجع " فتح الباري " / لابن رجب: ( 6 / 408 )، و" نصب الراية ": ( 1 / 336).
(4) في كِتابه " التنقيح ". نقله عنه الزَّيلعي في " نصب الراية ": ( 1 / 335 ).
(5) برقم ( 392 )، ورواه - أيضًا - الإمام أحمد في " مُسْنَده ": ( 2 / 417 ).(1/122)
وثَبَتَ في الصَّحيح(1)، من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وثَبَتَ(2) مِن حديث أبي بكر بن عبدالرحمن عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.
الوَجه الثاني مِن الجواب عَن هذا الحَديث: أنَّ هذا اللفظ ليس فيه دَلالةٌ واضِحةٌ على مَشروعيَّة الجَهر بالبسملة، بخلاف دلالة حَديث أنس - رضي الله عنه - على سُنيَّة الإسرار بها: ففيه " لا يَذْكُرون: بسم الله الرحمن الرحيم "، وفي رواية: " لا يجهرون ".
فراوي حَديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لم يَقُل " جَهَر "؛ وإنَّما قال " قرأ "، وهي لا تُفيد أنَّه جَهَرَ بها؛ فأنتَ قد تَسْمَع قراءة مِن بجانِبك وإنْ كان يُسِرُّ بها، بل قد يَسْمَع المأمومون قراءة إمامهم - أو بعضها - في الصلاة السِّريَّة، أو يسمعون بعضَ ما يأتي به مِن أذْكار الصلاة.
فخُلاصَة المسألة: أنَّ الرَّاجِحَ فيها أن الإنسان يُسِرُّ بالبسملة ويجهر بالفاتحة.
وإنْ جَهَر المُصَلِّي بهما مَعًا: فلا بأس.
وقد رأى بَعْضُ أهْل العِلم(3) أن الرَّاجِح أنَّه يجهر بها أحيانًا ويُسِرُّ بها في غالِب أحواله. ومُسْتَنَد مَن قال ذلك مِنهم: الجَمْع بين حَديثَي: أنس- رضي الله عنه -، وحَديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المُتَقَدِّم، على القَول بِصِحَّتِه، وقد عَلِمتَ ما فيه مِن النَّظَر.
إذا عَلِمنا هذا؛ فالسُّنَّة في البَسْمَلة الإسرار، سواءً كانت الصلاة جَهْرية أو سِريَّة؛ وإنَّما يَجْهر القارىء بالفاتِحَة والسُّورَة التي يقرأها بَعْدَها.
__________
(1) رواه البخاري ( 803، 785 )، ومسلم ( 392 )، وأبو داود ( 836 )، والنسائي ( 1023 )، وأحمد ( 2 / 236 ).
(2) رواه البخاري ( 798، 803 )، ومسلم ( 392 )، والترمذي ( 254 )، وأبو داود ( 836 ).
(3) كالإمام ( ابن القيم ) - رحمه الله -، كما في كتابه " زاد المعاد ": ( 1 / 207 )(1/123)
قال: " وليست من الفاتحة ولا غيرها بل آية من القرآن قبلها وبين كل سورتين سوى براءة والأنفال، ويسن كتابتها أوائل الكتب كما كتبها سليمان عليه السلام وكما كان النبي ? يفعل وتذكر في ابتداء جميع الأفعال وهي تطرد الشيطان قال أحمد: لا تكتب أمام الشعر ولا معه ثم يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية مشددة وهي ركن في كل ركعة كما في الحديث: " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وتسمى أم القرآن لأن فيها الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القدر ".
الشرح:
قال: " وليست من الفاتحة ولا غيرها؛ بل آية من القرآن قبلها، وبين كل سورتين، سوى براءة والأنفال ":
…وقد اخْتَلَفَ أهْل العِلْم في البسملة(1) - بعد اتفاقهم على أنها جُزْءٌ مِن آية مِن سُوَرة ( النمل )(2) -: هل هي آية مِن السُّورَة التي تبدأ بها، أم هي آية مُسْتَقِلَّة يُؤْتَى بها للفَصْل بين السُّوَر - سوى سورة ( براءة ) و( الأنفال ) -؟ أم ليست آية مُطْلَقًا؟
أقرب هذه الأقوال - والله أعلم - أنها آيةٌ مُسْتَقِلَّة يُؤْتَى بها للفَصْل بين السُّوَر، وليست مِن السُّورَة، لا مِن الفاتِحَة ولا مِن غيرها مِن السُّوَر. ويُسْتَثْنَى مِن هذا سورة ( براءة )؛ فليس فيها بسملة.
والأدِلَّة على هذا القول:
__________
(1) راجع: " تفسير القرطبي ": ( 1 / 92 )، و" المجموع ": ( 3 / 334 )، و" المغني ": ( 1 / 284 )، و" التمهيد ": ( 20 / 206 )، و" نَصب الراية ": ( 1 / 327 )، و" الفتاوى الكبرى ": ( 1 / 102، 230 ).
(2) الآية 30 مِن سُورَة النَّمل: ? إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ?.(1/124)
( 1 ) أن الصحابة - رضي الله عنهم - عندما كتبوا القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان - - رضي الله عنه - - جَرَّدُوا القرآن مِن كُلِّ مَا سِوَاه، ومع ذلك كَتَبُوا البسملة في مُفْتَتَح كُلِّ سُورَة(1) = فهذا يَدُلُّ على أنها آية مِن القرآن الكريم، ولو لم تكن آية لَمَا تَرَكوها في المُصْحَف في مُفْتَتَح كُلِّ السُّوَر.
( 2 ) ومِن الأدلة - أيضًا -: ما رواه الإمام مسلم في " صحيحه "(2)، من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول ? قال: " قال الله - تعالى -: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عَبْدي نِصْفَيْن، ولِعَبْدِي ما سأل: فإذا قال العبد: ( الحمد لله رب العالمين )؛ قال الله - تعالى -: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: ( الرحمن الرحيم )؛ قال الله - تعالى -: أثْنَى عَليَّ عَبْدِي... " إلخ الحَديث.
ووَجْه الشاهد مِن هذا الحديث القُدْسِي أن الرسول ? ذَكَر فيه ( الحَمْد ) وما بعدها، ولم يذكر البسملة = فهذا يَدُلُّ على أنها ليست من الفاتحة.
( 4) ومِمَّا يَدُلُّ - أيضًا - على أنَّها ليست مِن الفاتِحَة أنَّ النَّبيَّ ? لم يَجْهَر بها مِثْلَ جَهْرِه بباقي الآيات(3)، فلماذا خَصَّصَها بِحُكْمٍ يختلف عن باقي السُّورَة؟ فهذا يَدُلُّ على أن رسول الله ? خَصَّ البَسْمَلة بِحُكْمٍ يختلف عن باقي السُّورَة؛ لأنها ليست منها = فهي لها حُكْم مُسْتَقِلٌّ عَنها.
__________
(1) راجع: المراجع السابِقة التي ذكرناها في رأس المسألة.
(2) برقم ( 395 )، ورواه الترمذي ( 2953 )، وأبو داود ( 9999 )، والنسائي ( 909 )، وابن ماجه ( 3784 )، ومالك ( 189 ).
(3) وقد سَبَق بيان الأدِلَّة على هذا تفصيليًّا؛ فراجعه: ص؟؟؟.(1/125)
( 5 ) ومما يدل - أيضًا - على ما قُلناه: ما رواه الترمذي في " جامعه "(1)، من حديث شُعْبَة عن قَتادَة عن عَبَاس الجُشَمِي عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إنَّ سُورَةً مِن القرآن، ثلاثون آية، شَفَعَت لِرَجُلٍ حتى غُفِرَ له، وهي سُورَة ? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ... ? " . وَوَجْه الشاهد من هذا الحديث: هو قوله ?: " عدد آياتها ثلاثين "، وسورة ( تبارك ) بالاتفاق عدد آياتها ثلاثين، والبسملة ليست مَعْدودَةً منها = فَدَلَّ هذا أيضًا على أن البسملة ليست - أيضًا - مِن سُورَة ( تبارك )، كما دَلَّ الحديث السابق أنها ليست من سُورَة الفاتحة، ويُطْرَد هذا - أيضًا - على باقي سُوَر القرآن الكريم.
ومِن فوائِد هذا الحَديث: أنَّ سُورةَ ( تبارك ) تُسَمَّى: " المانِعَة والمُنْجِيَة، تُنْجِيه مِن عَذابِ القَبْر "(2).
وعباس الجشمي - الذي في سَنَد هذا الحَديث - ليس بِمَشْهُور، ولكن للحَديث طُرُق أخرى؛ فيَثْبُت بمجموعها.
( 6 ) ومما يؤيد هذا القول - أيضًا -: مَا جاء في " صحيح مسلم "(3)، مِن حديث محمد بن فُضَيْل عن المُخْتَار بن فُلْفُل عن أنَس بن مالك - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? أغْفَى إغفاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رأسه مُبْتَسِمًا. فَقُلنا: ما أضْحَكك يا رَسول الله؟ قال: " أُنْزِلَت عليَّ آنفًا سُورَة: فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) ?... " الحَديث . فعندما قرأ ? افْتَتَح بالبسملة.
__________
(1) برقم ( 2891 )، ورواه أبو داود ( 1400 )، وابن ماجه ( 3786 ).
(2) جاء هذا مرفوعًا: رواه الترمذي ( 2890 )، مِن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(3) برقم ( 400 )، ورواه أبو داود ( 4747، 784 ).(1/126)
( 7 ) ومما يَدُلُّ على هذا - أيضًا -: مَا رواه أبو داود(1)، من حديث سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان النبي ? لا يَعْرِف فَصْل السُّورَة حتى تنزل عليه: بسم الله الرحمن الرحيم ".
فهذا يُؤَيِّد أن البسملة من القرآن الكريم، وأنَّها تَدُلُّ على انتهاء السُّورَة التي نزلت على الرسول ?؛ فَعِند نُزولها يَعْلَم النبي ? أنَّه سُتَنَزَّل عليه سُورَة أُخْرَى.
فَكُلُّ هذه الأدِلَّة تُؤَيِّد أن البسملة من القرآن، ولكنها ليست مِن ذات السُّورَة. والنصوص بعضها يُفَسِّر البعض الآخر.
ونُلاحِظ أنَّهم المصاحف المطبوعة حاليًا - أو في كثيرٍ منها - يَجْعَلون البسملة آيةً مِن الفاتحة، إلا أنَّ الأقْرَب ما قُلْناه.
وقد يُشْكِل على البَعْض أن ( الفاتِحَة ) سَبْع آيات(2)، فتكون البَسْمَلة أوَّل آية مِنها؟ فنقول: لا؛ وإنَّما ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ? هذه آية، و? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ? هذه الآية السابعة.
قال: " وتُسَنُّ كتابتها أوائل الكتب - كما كتبها سليمان عليه السلام -، وكما كان النبي ? يفعل، وتُذْكَر في ابتداء جميع الأفعال ":
__________
(1) رواه أبو داود في " سُنَنِه ": ( 788 )، وفي " المَراسيل ": ( ص 90 )، وقال: " قد أُسْنِد هذا الحَديث وهذا أصَحُّ " = يعني أنَّ المُرْسَل أصَحُّ، ورواه - أيضًا - الحاكم في " المُسْتَدْرَك ": ( 1 / 355، 2 / 668 ).
(2) فقد قال - عز وجل - ? وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) ? [ الحِجْر: 87 ].(1/127)
…تُسَنُّ كِتابَة البَسْمَلة أوائِلَ الكُتُب(1)؛ لأنَّ كِتابَ الله - عز وجل - مُفْتَتَحٌ بها، وجاء في " صحيح البخاري "(2)، من حديث الزهري عن عُبَيْد الله بن عَبد الله بن عُتْبَة عن ابن عباس عن أبي سفيان صخر بن حرب - - رضي الله عنهم - - في حَديثه مع هِرَقْل عَظيم الرُّوم، أن الرسول ? لَمَّا أرْسَلَ إليه كِتابَه، فقرأ؛ فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هِرَقْل عَظيم الروم، سَلامٌ على مَن اتَّبَع الهُدى. أما بعد؛ فإني أدعوك بِدِعاية الإسلام؛ أسْلِم تَسْلَم... " إلخ الحَديث. فافتتح الرسول ? كتابَه إلى هِرَقْل بالبسملة.
وقال رَبُّنا - عز وجل - ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ? [ العلق: 1]، وقال ? وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ? [ هود: 41 ]، ولَمَّا كَتَب نَبيُّ الله سليمان بن داود - عليهما السلام - كِتابَه إلى بلقيس بَدَأه بالبَسْمَلَة؛ قال - عز وجل - عَنه: ? إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ? [ النمل: 30، 31 ].
ولذا؛ سُنَّ الافتتاح بالبَسْمَلة في كِتابَة الكُتُب.
والابتداء بالبسملة له أرْبَعة أحكام:
القسم الأول: أن تكون شرطًا في صِحَّة العَمَل:
__________
(1) ونقل القرطبي الإجماع على ذلك في " تفسيره ": ( 1 / 97 )؛ فقال: " اتفق الأُمَّة على جواز كتابتها في أول كُلِّ كِتاب مِن كُتُب العِلم والرسائل، فإنْ كان الكِتاب كتاب شِعْر... "، ثُمَّ نَقل كراهة كِتابتها أمام الشِّعْر، وسيأتي الخِلاف في هذا.
وراجع - أيضًا -: " الفُروع " / لابن مُفْلِح: ( 1 / 363 ).
(2) برقم ( 4553 )، ورواه مسلم ( 1773 ).(1/128)
مِثال ذلك: التَّسميَة عِندَ الذَّبْح والصيد؛ فالتسمية - كما هو مَعْلوم - شَرْطٌ لِصِحَّة الذَّبيحة والصيد؛ فلا يجوز أكل الذبيحة أو الصيد إلا إذا افْتُتِحَ بالبسملة.
القسم الثاني: أن تكون واجبة:
مِثال ذلك: التَّسمية قبل الأكْل؛ لِمَا ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(1)، مِن حَديث عُمَر بن أبي سَلَمَة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " يا غُلام؛ سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُل مما يليك ".
والفَرْقُ بين الوُجوب والشَّرْط:
أنَّ الشَّرط " هو ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته "؛ فإذا لم يُوجَد الشَّرْط بَطُل العَمَل. بِخِلاف الوَاجِب: مَن تَرَكَه صَحَّ عَمَلُه إلا أنَّه يكون نَاقِصًا.
وَلْنَضْرِب على هذا مَثالًا: الطَّهارة شَرْطٌ لصحة الصلاة، لو تَرَكَها المُكَلَّفُ بَطُلَت صلاته. لكن لو تَرَكَ التَّشَهُّد الأول - وهو واجِبٌ - في الصلاة الثلاثية أو الرباعية - ناسيًا -: يَسْجُد للسَّهْو وتَصِحُّ صلاتُه.
القسم الثالث: أن تكون مستحبة:
وهذا هو الأصْل في التسمية، ولا يُخْرَج عن هذا الأصل إلا بدليل.
والأدِلَّة على ذلك: الآيات المُتَقَدِّمَة؛ كقول الله - عز وجل - لرسوله ? ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ? [ العلق: 1] ، وغيرها مِن الآيات التي في معناها.
__________
(1) رواه البخاري ( 5376 )، ومسلم ( 2022 ).(1/129)
ومِثال ذلك - مِمَّا تُسْتَحَبُّ في التَّسْميَة -: التَّسْميَة عِند جِماع الزَّوْجَه؛ لمَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، من حديث سالم بن أبي الجَعْد عن كُرَيْب عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الرسول ? قال: " لو أنَّ أحدكم إذا أتَى أهْلَه قال: بِسْم الله؛ اللهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيْطَان، وجَنِّب الشَّيْطَان ما رَزَقْتَنا؛ فَقُضِيَ بَيْنَهُما وَلَدٌ؛ لم يَضُرُّه "، ولذلك بَوَّب البخاري على هذا الحديث بقوله: " باب: التسمية على كُلِّ حال، وعِندَ الوِقاع ".
فاسْتُدِلَ بهذا الحديث على مَشروعيَّة التَّسميَة عند الجماع، إذن؛ تُسْتَحَبُّ التَّسميَة في غيرها مِن الأعمال أيضًا.
القسم الرابع: أن تكون غير مشروعة:
يُمْكِننا تقسيم الأعمال التي لا تُشْرَع فيها التَّسمية إلى قِسْمَين:
القسم الأول: الأعمال التي جاء في بدايتها ذكر معين من قِبَل الشارع غير التسمية:
ومِثال ذلك:
( 1 ) الذِّكْر عِند دخول الخلاء؛ فقد ثَبَتَ في " الصحيحين " وغيرهما(2)، من حديث أنس - - رضي الله عنه - - قال: كان النبي ? إذا دَخَلَ الخَلاء قال: " اللهم إني أعُوذ بِك مِن الخُبُث والخَبَائِث ". فلا تُشْرَع التَّسميَة عِندَ دُخول الخَلاء؛ وإنَّما يُشْرَع هذا الذِّكْر السابِق.
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - ( 141، 3271، 5165 )، ومسلم ( 1434 ).
(2) رواه البخاري ( 142، 6322 )، ومسلم ( 375 )، والترمذي ( 5 )، وأبو داود ( 4 )، والنسائي ( 19 )، وابن ماجه ( 298 )، وأحمد ( 3 / 99، 101 )، والدارمي ( 669 ).(1/130)
وأما زيادة " بسم الله اللهم إني أعوذ بك.. "(1): فهي زيادَة شَاذَّة؛ لأنَّها من طريق المعمري. والصواب ما جاء في " الصحيحين " وفي " السُّنَن الأرْبَع " وغيرها بدون التسمية.
( 2 ) أيضًا: لا تُشْرَع التَّسمية عِندَ الدُّخُول إلى المسجد؛ لأن الذي ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(2)، من حديث أبي حُمَيْد أو أبي أُسَيْد - الشَّك مِن الرَّاوي - مرفوعًا: " إذا دَخَل أحَدُكم المسجد؛ فَليَقُل: اللهُمَّ افْتَح لي أبْوابَ رَحْمَتك... "، وليس فيه ذِكْر التَّسمية. أما زيادة التسمية: فقد جاءت في حديث ضعيف(3).
( 3 ) وأيضًا: لا تُشْرَع التَّسمية عِندَ الخُروج مِن الخَلاء؛ وإنَّما يقتصر على قَول " غُفْرانَك "؛ كما جاء في حَديث عائشة - رضي الله عنها - في " السُّنَن "(4).
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 11، 6 / 114 )، وابن أبي حاتِم في " العِلَل ": ( 1 / 64 )، والطبراني في " الدُّعاء ": ( برقم 324 ). كُلُّهم رَوَوْه مِن طريق أبي مَعْشَر نَجِيح عن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعًا به. وعزاه في " المنتقى ": ( 1 / 87 - " نيل الأوطار " ) إلى " سنن سعيد بن منصور "، ولم يَذْكُر سَنَده.
وأما طريق المعمري: فقد ذكره الحافظ ( ابن حَجَر ) - رحمه الله - في " الفتح ": ( 1 / 244 )، ولم يَذْكُر مُخَرِّجه.
(2) برقم ( 713 )، ورواه النسائي ( 729 )، وأحمد ( 3 / 497، 5 / 425 )، والدارمي ( 2691 )، والبزار ( 9 / 170 ).
(3) رواه ابن ماجه ( 771 )، وأحمد ( 6 / 283 )، مِن حَديث فاطمة - رضي الله عنها - بنت رسول الله ?. وراجع كلامًا مُفيدًا لشيخ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - في " شَرحه للعُمدَة ": ( ص 611 - كتاب الصَّلاة ).
(4) رواه الترمذي ( 7 )، وأبو داود ( 30 )، وابن ماجه ( 300 ).(1/131)
فَخُلاصَة هذا القِسْم: أنَّ العَمَل الذي خَصَّصَ له الشَّارِع ذِكْرًا أو دُعاءً مُعَيِّنًا، وليس فيه ذِكْر التَّسميَة: فلا يُشْرَع - حينئذٍ - للإنسان أن يزيد التسمية فيه؛ بل يقتصر على ما جاء به الشَّرع.
القسم الثاني - مِمَّا لا تُشْرَع فيه التَّسميَة -: الأعمال المُحَرَّمَة:
فإذا كان العَمَل مُحَرَّمًا فيَحْرُم على الإنسان أن يبدأ بالتسمية؛ لأن مقصود الإنسان بالتسمية: هو الاستعانة بالرَّبِّ - عز وجل -، والتَّبَرُّك باسم خالقه ومولاه - سبحانه وتعالى - = فَهُو يَلْجأ إلى الله في إنجاز عمله. فإذا كان العَمَل مُحَرَّمًا: فكيف يستعين بالله ويتبرك بِذِكْرِ اسمه - عز وجل - على الشىء المُحَرَّم؟ هذا نوع استخفاف واستهزاء؛ لأنه يطلب من ربه أن يُعينَه على الحرام !!! تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.
فَخُلاصَة هذا القِسْم: أنَّه لا يُشْرَع للإنسان التسمية في العَمَل المُحَرَّم.
…ومِن لَطيف ما يُذْكَر هنا: أنَّ هُناك فَرْقًا بين " البسملة " و" التسمية "؛ فهناك أمور يُبَسْمِل فيها، وهناك مواطن يُسَمِّى فيها:
فَمِن مَوَاطِن التسمية:
1ـ عند الذبح: فتقول " بِسْم الله "؛ كما جاء عن الرسول ?(1).
2ـ عند الأكل: فتقول: " بسم الله "؛ كما في حديث عمر بن أبي سلمة ربيب النبي ?: " يا غُلام؛ سَمِّ الله "(2).
ومِن مَوَاطِن البسملة:
عِندَ قِراءَة القُرآن، في افتتاح السُّورَة، تقول: ( بسم الله الرحمن الرحيم ).
معنى البسملة:
معنى ( بسم الله ): أي: مُسْتَعينًا بالله - سبحانه وتعالى -، فـ ( الباء ) - هنا - للاستعانة. فتقول: ( بسم الله )؛ أي: أبتدأ وألتجأ وأتوكل على الله - سبحانه وتعالى - الذي هو الرَّحْمَن الرَّحيم.
( الله ): عَلَم على الله؛ فهو المألوه. والمألوه: هو المعبود - عز وجل -.
__________
(1) جاء هذا في أحاديث؛ مِنها: ما رواه البخاري ( 2488، 5500 )، ومسلم ( 1960، 1967 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/132)
وقيل أن اسم ( الله ) هو الاسم الأعظم لله. ولا شَكَّ أن هذا الاسم خَاصٌّ بالله عز وجل.
( الرحمن الرحيم ): اسمان من أسماء الخالق سبحانه وتعالى، دالان على صِفَة الرحمة، المتصف بها الرَّبُّ - عز وجل -.
وذَكَرَ أهْل العِلْم فُروقًا عِدَّة بين اسْمَي ( الرحمن ) و( الرحيم )؛ مِن تلك الفُروق:
الفرق الأول: أن اسم ( الرحمن ) خاص بالله عز وجل؛ فلا يجوز لأحد أن يُسَمَّى به. كما نَصَّ على هذا ابن جرير وابن كثير وغيرهم من أهل العلم(1). بخلاف اسْم ( الرحيم ): فقد وَصَفَ رَبُّنا - عز وجل - رسوله الكريم ? به؛ فقال ? بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ? [ التوبة: 128 ].
الفرق الثاني: ( الرحمن ) أبلغ من ( الرحيم )؛ لأن ( رَحْمن ) على صيغة ( فَعْلان )، التي تدل على السَّعَة والامتلاء.
الفرق الثالث: ذُكر أن ( الرحمن ) عَامٌّ للمؤمنين ولغيرهم، بخلاف ( الرحيم ) فإنَّه خاص بالمؤمنين؛ لقوله - عز وجل - ? وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) ? [ الأحزاب: 43 ].
هذه هي بَعْض الفروق التي ذُكِرَت بين اسْمَي ( الرحمن ) و( الرحيم ).
فَضْل التَّسْميَة:
جاءت نُصوص كثيرة - في الكِتاب والسُّنَّة - تَدُلُّ على فَضْل التَّسْميَة؛ مِنها ما تَقَدَّم بَعْضُه: كقول الله - عز وجل - ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ? [ العلق: 1]، وقوله ? وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ? [ هود: 41 ]، وكَحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: " لو أنَّ أحدكم إذا أتَى أهْلَه قال: بِسْم الله... " إلخ الحَديث - وقد تَقَدَّم(2) -.
__________
(1) راجع: " تفسير الطبري ": ( 1 / 56، 59 )، " تفسير ابن كثير ": ( 1 / 22 )، " تفسير القرطبي ": ( 1 / 105 ).
(2) ص؟؟؟.(1/133)
ومِن ذلك - أيضًا -: ما رواه الإمام أحمد(1)، من حديث أبي تَميمية عَمَّن كان رَديف النبي ? قال: كُنتُ رَدِيفَه على حِمارٍ، فَعَثَر الحِمارُ؛ فقلتُ: تَعِسَ الشَّيْطَان لِلَّهِ فقال لي النبيُّ ?: " لا تَقُل: تَعِس الشَّيْطَان؛ فإنَّك إذا قُلتَ: تَعِسَ الشَّيْطَان؛ تَعَاظَم الشَّيْطَان في نَفْسِه، وقال: صَرَعْتُه بِقُوَّتي لِلَّهِ فإذا قُلْتَ: بِسْم الله؛ تَصَاغَرَت إليه نَفْسُه، حتى يكونَ أصْغَر مِن ذُبَابٍ ".
ومِن ذلك - أيضًا -: ما جاء في " صحيح مسلم "(2)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن الرسول ? قال: " إذا دَخَلَ الرَّجُل بَيْتَه فَذَكَرَ الله عِندَ دُخوله وعِندَ طَعامِه؛ قال الشَّيْطَان:لا مَبيتَ لكم ولا عَشَاء. وإنْ لم يَذْكُر اسْمَ الله عِندَ دُخوله؛ قال الشَّيْطَان: أدْرَكْتُم المَبيت، وإنْ لم يَذْكُر اسْمَ الله عِندَ طعامه؛ قال: أدْرَكْتُم المَبيت والعَشَاء ".
فإذا ذَكَرَ الإنسانُ اسم رَبِّه - عز وجل - إذا دَخَل بيته وعِندَ طعامه؛ امتنع الشَّيطان عَن مُشارَكَتِه في بَيته - فلا يبيت معه -، وفي طَعامه - فلا يأكل معه -؛ ولذلك أمرَنا الرسول ? بِذلك؛ لأنَّ الشيطان لا يفتح بابًا مُغْلَقًا ذُكِرَ عليه اسم الله - جَلَّ وعَلا -(3).
هذا بَعْضُ ما ورد في فَضْل التَّسميَة.
قال: " وهي تَطْرُد الشَّيْطَان ":
…ثَبَت هذا في حَديث جابر - - رضي الله عنه - -، المُتَقَدِّم قبل قليل: " إذا دَخَلَ الرَّجُل بَيْتَه فَذَكَرَ الله... " الحَديث.
__________
(1) رواه الإمام أحمد ( 5 / 59، 71 ، 365 ). ورواه أبو داود ( 4982 ) مِن طريق أبي تَميمة عَن أبي المَليح عَمَّن كان رَديف النبي ?؛ فزاد بينهما رَجُلاً.
(2) برقم ( 2018 )، ورواه أبو داود ( 3765 )، وابن ماجه ( 3887 ).
(3) جاء هذا في حَديثٍ: رواه البخاري ( 3304، 5623 )، ومسلم ( 2012 )، مِن حَديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.(1/134)
قال: " قال أحمد: لا تُكْتَب أمام الشعر ولا معه ":
…اخْتَلَف أهل العلم في مَشروعيَّة الشَّعْر(1)، والرَّاجِحُ مِن أقوالِهم: أن الشِّعْر - كالكلام - حَسَنُه حَسَن وقيبحه قبيح، كما ذُكر عن عائشة - رضي الله عنها - وغيرها من أهل العلم(1).
فَيَتَحَصَّل مِن هذا أنَّه إنْ كان الشِّعر - مثلاً - في الحّثِّ على التَّمَسُّك بالكِتَاب والسُّنَّة والأخلاق والآداب والدَّعْوَة للجهاد: فهذا حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ. أمَّا إنْ كان الشِّعْر - مثلاً - في الهِجَاء وفي التشبيب والدَّعوة إلى الخِنَا والزِّنَا ونحوه: فهذا - لا شَكَّ - في حُرْمَتِه وعَدَم جوازِه.
وقد قال ?: " إنَّ مِنَ الشِّعْر حِكْمَة "(2)، وهذا مَحْمولٌ على الشِّعْر الحَسَن، الذي فيه حَثٌّ على الخير والدعوة إلى الجهاد... إلخ.
وقَد ذَمَّ اللهُ - عز وجل - بَعْضَ الشُّعَراء في كتابه؛ فقال ? وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) ? [ الشعراء: 224 - 226 ]، واستثنى مِنهم - سبحانه وتعالى - أهل الإيمان الذين آمنوا بالله؛ فقال ? إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ? [ الشعراء: 227 ].
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 10 / 175 وما بعدها )، و" تفسير القرطبي ": ( 13 / 145 وما بعدها )، و" غذاء الألباب " / للسفارييني: ( 1 / 180 وما بعدها )، " شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 15 / 14 )، و" التمهيد " / لابن عبد البر: ( 22 / 194 )، و" فتح الباري " / لابن حجر: ( 10 / 549 ).
(2) رواه البخاري ( 6145 )، وأبو داود ( 5010 ) وغيرهما، مِن حَديث أُبَيّ بن كعب - - رضي الله عنه - -.(1/135)
إذا ثَبَت هذا؛ فلا يُشْكِل علينا قول الرسول ?: " لأن يمتلئ جَوْفَ أحدكم قَيْحًا خيرٌ له مِن أن يَمتلىء شِعْرًا " [ وهو حَديث صحيح(1) ]: فهذا مَحْمُولٌ - كما هو ظاهر الحديث - على مَن غَلَب عليه الشِّعْر، وأشْغَلَه عن كِتَاب الله وسُنَّة رسوله ? = فهذا هو المذموم(2).
إذا تَقَرَّر كُلُّ هذا: فقد اختلف أهْل العِلْم في كِتابَة البسملة أمام الشِّعْر أو مَعه (3):
فَكَرِه بعضُ السَّلَف(4) - ومِنهم الإمام أحمد(5) - كِتابة ( بسم الله ) في مُفْتَتَح الشَّعْر أو مَعه؛ واسْتَدَلُّوا بأنَّ الله - عز وجل - قد ذَمَّ الشِّعْر ونَزَّه رَسُوله الكريم ? عنه؛ فقال ? وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) ? [ يس: 69 ]، ولأنَّه يَكْثُر في الشِّعْر الهِجَاء والغَزَل الفاحش والتشبيب بالنساء... إلخ = فلا يَليق كِتابَة البَسْمَلَة أمامَه ولا مَعه.
إلا أنَّ الأقرب في ذلك - والله أعْلَم - التفصيل: فإنْ كان الشِّعْرُ حَسَنًا - مثل: ما نَظَمَه أهْلُ العِلْم في التَّوحيد أو الحديث أو الفقه، ونحوه-: فهذا ينبغي افتتاحه بالبسملة. وأما إنْ كان هذا الشِّعْر في الدَّعْوَة إلى الفُجُور والزِّنَا والخِنَا: فلا شَكَّ في تَحريم افتتاحه بالبسملة(6).
قال: " ثم يقرأ الفاتحة مُرَتَّبَة ":
__________
(1) رواه البخاري ( 6154، 6155 )، ومسلم ( 2257 ).
(2) راجع: " شرح النووي على صحيح مسلم ": ( 15 / 14 )، و" التمهيد " / لابن عبد البر: ( 22 / 194 )، و" فتح الباري " / لابن حجر: ( 10 / 549 ).
(3) راجع: " تفسير القرطبي ": ( 1 / 97 ).
(4) كالشعبي والزُّهري وغيرهم. راجع المصدر السابق.
(5) راجع: " الفُروع ": ( 1 / 362 ).
(6) وذَكَرَنا ( ص؟؟؟ ): ما لا يُشْرَع افتتاحه بالبسملة، ومِنها: الأعمال المُحَرَّمة؛ فيدخل فيها هذا، والله أعْلَم.(1/136)
…اعْلَم أنَّ تَرتيب آيات القُرآن الكريم(1) في السُّوَر - كما هي عليها الآن في المُصْحَف - توقيفيٌّ مِن الرسول(2) ?؛ فكان ? يأمرهم أن يضعوا الآية في سورة كذا وكذا(3). فلا يجوز للإنسان أن يُغَيِّر هذا التَّرتيب، أو يقرأ الآيات غير مُرَتَّبَة. ولذا نَبَّه المُصَنِّف - رحمه الله - على هذا فقال: " ثُمّ يقرأ الفاتِحَة مُرَتَّبَة "؛ فلا يجوز للإنسان أن يبدأ بـ ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ?، ثُمَّ يقول ? الْحَمْدُ لِلَّهِ ؤ_>u' الْعَالَمِينَ ?؛ لأنَّ القراءة هكذا ليست هي القرآن الذي أنزله الله - جَلَّ وعَلا - على رسوله ?.
قال: " متوالية مُشَدَّدة ":
…أي: يقرأها مُشَدَّدة فيما هو مُشَدَّد من حُروفِها، وتشديداتها - كما سيأتي(4) - إحدى عشرة تَشديدة.
قال: " وهي رُكْنٌ في كل ركعة؛ كما في الحديث: " لا صلاة لمن لم يَقْرأ بفاتحة الكتاب ":
…ثَبَتَ هذا الحَديث - الذي ذَكَرَه المُصَنِّف - في " الصحيحين "(5)، مِن حديث الزهري عن محمود بن الرَّبيع عن عُبَادَة بن الصَّامِت - - رضي الله عنه - - مرفوعًا به.
__________
(1) وسيأتي ذلك ( ص؟؟؟ ) بأبْسَط مِن هُنا - إن شاء الله -.
(2) بإجماع العُلماء، لا خِلاف في هذا. نَقله غير واحِدٍ. راجع الإجماع مع الإدِلَّة في: " الإتقان في عُلوم القرآن " / للسيوطي: ( 1 / 167 )، " البُرهان في عُلوم القرآن " / للزرْكَشي: ( 1 / 256 )، و" مَناهل العِرفان " / للزرقاني: ( 1 / 240، 172 )، و" تَفسير القرطبي ": ( 1 / 59 وما بعدها )، و" مَجموع الفتاوى ": ( 13 / 396 ).
(3) جاء هذا في أحاديث؛ مِنها: ما رواه أبو داود ( 786 )، والترمذي ( 3086 )، وأحمد ( 1 / 69 ).
(4) ص؟؟؟.
(5) رواه البخاري ( 756 )، ومسلم ( 394 ).(1/137)
وَثَبَت في " صحيح مسلم "(1)، من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " كُلُّ صلاة لا يُقْرأ فيها بأُمِّ الكِتاب فهي خِدَاجٌ فهي خِدَاجٌ فهي خِداجٌ غير تَمام ": أي: ناقصة وفاسدة.
واخْتَلَف أهل العلم في قراءة الفاتِحَة للمأموم في الصَّلاة(2): هل هي واجِبَةٌ أم تَكفيه قراءة إمامِه؟ والخِلاف في هذه المَسألة مُطَوَّلٌ وقَديم، وقد أُلِّفَت فيه الكُتُب: فللبُخاري والبيهقي - رحمهما الله - " جُزءُ القِراءَة خَلف الإمام "، ولغيرهم أيضًا مِن أهْل العلم مُصَنَّفاتٌ في ذلك.
والأرْجَح في هذه المسألة: أنَّه يجب قراءتها على المأموم، في كُلِّ صلاة، سواءً كانت جَهْريَّة أم سِريَّة؛ لِعُموم النُّصوص، كما في حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - السابِق: " كُلُّ صلاة... "، و( كُلُّ ): صيغة عُموم، تَعُمُّ الإمام والمُنفَرِد، ويَدْخُل فيها الصَّلاة الجهرية والسِّريَّة.
أمَّا حُكْم قراءتها للإمام والمُنفَرِد والمأموم في الصَّلاة السِّريَّة: فهي رُكْنٌ(3).
قال: " وتُسَمَّى أُمَّ القرآن ":
__________
(1) برقم ( 395 )، ولفظه: " مَن صَلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأُمِّ القُرآن فهي خِداجٌ - ثلاثًا - غير تَمام ". ورواه - أيضًا - أحمد - واللفظ له - ( 2 / 457 )، والترمذي ( 2953 ).
(2) راجع: " المغني ": ( 1 / 329 )، و" المجموع ": ( 3 / 365 )، و" التمهيد ": ( 11 / 27 )، وانظر مبحثًا نفيسًا جِدًّا مُطَوَّلًا مِن غير إملالٍ لشيخ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - في " الفتاوى الكُبْرَى ": ( 2 / 166: 178 )، و أيضًا في " مجموع الفتاوى ": ( 23 / 327 ).
(3) وهو قول جُمهور العلماء مِن الصَّحابة والتابعين، خِلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله -. راجع: " المغني ": ( 1 / 288 )، و" المجموع ": ( 3 / 327 ).(1/138)
…للفاتِحَة أسماء كثيرة(1) تُسَمَّى بها؛ منها:
1ـ أُمُّ القرآن: وقد جاء هذا في " الصَّحيحين " و" السنن "(2) من حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.
2ـ فاتحة الكتاب: كما في حديثَي عُبادة بن الصامت وأبي هريرة - رضي الله عنهما - مَرْفوعَيْن: " لا صلاة لِمَن لم يقرأ بفاتِحَة الكِتاب "، " كُلُّ صلاة لا يُقْرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِداجٌ خِداجٌ خِداجٌ "، وغيرهما مِن الأحاديث(3).
3ـ أُمُّ الكِتاب.
4ـ السَّبْع المثاني: كما قال - جَلَّ وعَلا - ? وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) ? [ الحجر: 87 ] .
__________
(1) راجعها في: " الجامع لأحكام القرآن " / للقرطبي: ( 1 / 111 )، " تفسير القرآن العظيم " / لابن كثير: ( 1 / 9 )، و" البرهان في علوم القرآن " / للسيوطي: ( 1 / 148 )، و" الدُّر المَنثور " / له: ( 1 / 11 )، و" المجموع " / للنووي: ( 3 / 331 ).
(2) راجع - مثلاً -: " صحيح البخاري ": ( 4704 )، و" صحيح مسلم ": ( 394 )، والترمذي ( 312 )، وأبو داود ( 821 )، والنسائي ( 909 )، وابن ماجه ( 838 ).
(3) وقد سَبَق تخريجهما قبل قليل: ص؟؟؟.(1/139)
5ـ الرُّقْيَة: كما جاء في " الصحيحين "(1)، من حديث ابن سيرين عن أخيه مَعْبَد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - قال: " كُنَّا في مَسيرٍ لنا، فَنَزلنا، فجاءت جارية فقالت: إنَّ سَيِّد الحي سَليمٌ [ يعني: مريض ]، وإنَّ نَفَرنا غَيْبٌ؛ فهل مِنكم راقٍ؟ فقام معها رَجُل ما كُنَّا نأبُنُه بِرُقيَة؛ فَرَقاه، فبرأ؛ فأمَرَ له بثلاثين شاةً، وسقانا لَبَنًا. فَلَمَّا رَجَع قُلنا له: أكُنتَ تُحْسِن رُقْيَةً أو كُنتَ تَرْقِي؟ قال: لا؛ ما رَقَيْتُ إلا بأُمِّ الكِتاب. قُلْنا: لا تُحْدِثوا شيئًا حتى نأتي أو نسألَ النبي ?. فَلَمَّا قَدِمنا المدينة ذَكَرناه للنبي ?؛ فقال: " وما كان يُدْرِيه أنَّها رُقية؟! اقْسِموا واضْرِبوا لي بِسَهْمٍ ".
وجاء في رواية(2) ما يَدُلُّ على أنَّ الذي رَقاه هو راوي الحَديث أبو سعيد الخُدْري - - رضي الله عنه - -؛ فقد قال: " قُلتُ: نَعم؛ أنا، ولكن لا أرْقيه حتى تُعْطونا غَنَمًا ".
إذا ثَبَتَ هذا؛ فينبغي للإنسان أن يَرْقِى بها نَفْسه.
واعْلَم أنَّ القُرآن كُلَّه رُقْيَة وشِفَاءٌ كما قال - عز وجل - ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ? [ الإسراء: 82 ].
6ـ الشافية: لأنه يُتَشَافَى بها كما يُتَشَافَى بباقي القرآن.
7ـ الكافية: سَمَّاها بذلك يحيى بن أبي كثير(3) - وهو مِن أجِلَّة صِغَار التابعين وثِقَاتهم -؛ وسُميِّتَ بذلك لأنها تكفي عن غيرها ولا يكفي غيرُها عنها؛ فلو قرأها الإنسانُ في الصلاة كَفَتْه، وإذا قرأ غيرها لم تَكْفِه.
__________
(1) رواه البخاري ( 5007 )، ومسلم ( 2201 ).
(2) رواه الترمذي ( 2063 )، وابن ماجه ( 2156 )، وأحمد ( 3 /10 ).
(3) " الجامع لأحكام القرآن " / للقرطبي: ( 1 / 113 )، " تفسير القرآن العظيم " / لابن كثير: ( 1 / 9 ). رواه عنه الثَّعْلَبي بإسناده، كما في " الدُّر المَنثور " / للسيوطي: ( 1 / 12 ).(1/140)
8ـ الوافية: سَمَّاها بذلك بَعْض السَّلَف، كما جاء ذلك عَن سفيان بن عُيَيْنَة(1) - رحمه الله -؛ وسُميِّتَ بذلك لأنها لا تُنْتَصف ولا تَحْتَمِل الاختزال؛ فلو نُصِّفَت الفاتحة في رَكْعَتَين لم يَجُز، بِخِلاف باقي السُّوَر.
9ـ الصلاة: كما ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(2)، من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " قال الله - تعالى -: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عَبْدي نِصْفَيْن، ولِعَبْدِي ما سأل: فإذا قال العبد: ( الحمد لله رب العالمين )... " إلخ الحَديث.
10ـ سُورَة الصلاة: سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّه لا بُدَّ مِن قراءتها في الصلاة.
11ـ الكَنْز.
وغيرها مِن الأسماء. و" كَثْرَةُ الأسْمَاء تَدُلُّ على شَرَف المُسَمَّى ".
وسيأتي(3) - أثناء الشَّرْح - فَضْل سُورَة الفاتِحَة - إن شاء الله تعالى -.
قال: " وتُسَمَّى أم القرآن لأن فيها الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القدر فالآيتان الأوليان يدلان على الإلهيات و + مالك يوم الدين " يدل على المعاد. + إياك نعبد وإياك نستعين " يدل على الأمر والنهي والتوكل وإخلاص ذلك كله لله، وفيها التنبيه على طريق الحق وأهله والمقتدى بهم والتنبيه على طريق الغي والضلال، ويستحب أن يقف عند كل آية لقراءته ? وهي أعظم سورة في القرآن وأعظم آية فيه آية الكرسي وفيها إحدى عشرة تشديدة، ويكره الإفراط في التشديد والإفراط في المد، فإذا فرغ قال: آمين بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن ومعناها اللهم استجب يجهر بها إمام ومأموم معًا في صلاة جهرية، " "
الشرح:
__________
(1) رواه عنه الثَّعْلَبي بإسناده، كما في " الدُّر المَنثور " / للسيوطي: ( 1 / 12 ). وراجع: المراجع السابِقَة: نفس الجزء ونفس الصفحة.
(2) سَبَق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.(1/141)
قال: " وتسمى أم القرآن؛ لأن فيها الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القَدَر: فالآيتان الأوْلَيَان يدلان على الإلهيات، و " مالك يوم الدين ": يَدُلُّ على المَعاد ":
…تَتَضَمَّن سُورَة الفاتِحَة الإلهيات والمَعاد والنُّبوات، وفيها إثباتُ القَدَر، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أما " الإلهيات ": لأنها مُفْتَتَحة بـ ? الْحَمْدُ !... ?، وحينما يَحْمَد الإنسانُ رَبَّه؛ فهذا يَدُلُّ على إيمانه به، وتَسليمه لخالقه ومولاه، وعبادته له - سبحانه وتعالى -.
أما " المَعاد ": فلأن الله - عز وجل - يقول فيها ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) ?، ومعنى ( يوم الدين ): يوم القيامة، وهو يَوم الجَزاء الذي يُحاسِب الله - سبحانه وتعالى - فيه النَّاس عندما يعودون إليه.
أما " إثبات النُّبُوَّات ": فلأن مُحاسَبَة الله للنَّاس - يوم الدِّين ( القيامَة ) - على التَّكاليف والعِبادات التي كَلَّفهم إيَّاها، يستلزِم إرْسَال الرُّسُل التي تُخْبِر النَّاس بأوامر الله وبما افْتَرَضَه - سبحانه وتعالى - عليهم.
وفيها " إثبات القَدَر ": لأنَّ اللهَ هو مَالِك يوم الدين؛ فهو المُقَدِّر الذي خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ وقَدَّره، فالإنسان لا يَعْمَل إلا ما قَدَّرَه وكَتَبَه الله - سبحانه وتعالى - عليه.
قال: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ?: يدل على الأمر والنهي والتوكل وإخلاص ذلك كله لله ".
…معنى ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ ? أي: لا نَعْبُد إلا أنت يا ربنا. و? وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?: أي: لا نستعين بأحدٍ سواك يا خالقنا ويا مولانا.
ففي سُورَة ( الفاتِحَة ) إثباتُ العِبادَة لله، ونَفيها عَمَّا سِواه؛ لأنَّ هذه الآية فيها الأمر بعبادة الله - عز وجل -، والنهي عن الإشراك به - سبحانه وتعالى - بِعِبادَة غيره.
وفيها التَّوَكُّل؛ لأنَّ مَعنى ? وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?: أي: لا نستعين بأحدٍ سواك.(1/142)
فتضمنت هذه الآية: التَّوَكُّل على الله، وإخْلاص العِبادَة له - سبحانه وتعالى -؛ لأن تَوحيد الله بالعِبادَة وإفْرادَه بالتَّوَكُّل = يُفيد إخْلاصَ العِبادَة له -سبحانه وتعالى -.
قال: " وفيها التنبيه على طريق الحق وأهله والمقتدى بهم ".
تَضَمَّنت سورة ( الفاتحة ) - أيضًا - بيانَ طريق الله وصِراطه المُوصِل إليه - سبحانه وتعالى -؛ وهذا في قوله - عز وجل - ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ?. فـ ( الصِّراط المُسْتَقيم ): هو دينه الذي شَرَعَه = وهو الكِتَاب والسُّنَّة؛ فهذا هو طريق الحَقِّ.
و( أهله = يعني: أهْلَ الحَقِّ ): هُم المَقصودون بقوله - عز وجل - ? صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ?؛ لأنَّهم هم الذين أنْعَمَ عليهم رَبُّنا - عز وجل - باتِّباع سبيله؛ فهم أهل الحق والصواب والهُدَى المُقْتَدَى بهم.
…فكان مِن الواجِب على العَبْد أن يسألَ رَبَّه - عز وجل - أن يَسْلُكَه ويَنْظُمَه مع هؤلاء الذين هداهم الله - سبحانه وتعالى - إلى صِراطه المستقيم، وأن يُبْعِدَه عن طريق المغضوب عليهم والضالِّين. وهذا هو قوله - سبحانه وتعالى - ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ tLىة)tGَ،كJّ9$#... ? الآيات.
قال: " والتنبيه على طريق الغَي والضلال ":
…تَضَمَّنت الفاتِحَة التَّنبيه على طَريق الغَي والضَّلال، وهو طَريق المغضوب عليهم والضالين.
ومَعنى ? الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ?: اليهود - كما جاء في التَّفسير(1) -؛ فقد غَضِبَ اللهُ - عز وجل - عليهم؛ لأنَّهم عَرَفُوا الحق ولم يلتزموا به؛ بل أعْرَضُوا عنه.
و? الضَّالِّينَ ?: هُم النَّصَارَى؛ لأنَّهم ضَلُّوا الطريق المُسْتَقيم.
__________
(1) ورُوي مرفوعًا: رواه الترمذي ( 2954 )، وأحمد ( 4 / 378 ) مِن حَديث عدي بن حاتِم - - رضي الله عنه - - مرفوعًا. وراجع الآثار والأقوال في: " تفسير الطبري ": ( 1 / 82 )، و" تفسير ابن كثير ": ( 1 / 30 )، و" تفسير القرطبي ": ( 1 / 149 ).(1/143)
وإذا انْحَرَفَ الإنسانُ عَن مَنْهَج الله وَقَعَ - ولا بُدَّ - في واحِدٍ مِن اثنين، ليس لهم ثالِث:
الأول: إمَّا أن يَقَعَ في الجَهْل.
الثاني: أن يَقَع في اتِّباع الهَوَى. فيكون عِندَه العِلْم إلا أنَّه لا يَعْمَل به لِلَّهِ ومِن هذا الصِّنف اليَهود؛ كما جاء في قوله - عز وجل - عنهم ? يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ? [ البقرة: 146 ]: أي: يَعْرِفُون صِدْقَ الرسول ? ونُبُوَّته كما يَعْرِف الإنسان ابْنَه. ومِن ذلك: ما ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، من حديث حماد عن ثابت عن أنس - - رضي الله عنه - - قال: " كان غُلامٌ يهوديٌّ يَخْدُم النبي ?، فَمَرِض فأتاه النبي ? يَعُودُه، فَقَعَد عِندَ رأسه؛ فقال له: أسْلِم. فَنَظَرَ إلى أبيه - وهو عِندَه -؛ فقال له: أطِعْ أبَا القَاسِم ?؟ فأسْلَمَ؛ فَخَرَج النبي ? وهو يقول: الحمد لله الذي أنقَذَه مِن النار ". ولكن هل أسْلَم الأب اليهودي؟ لا؛ بل مات على الكُفْر والضَّلال - والعياذ بالله -، مَعَ أنَّه يَعْرِف أن الرسول ? على الحَقِّ؛ وإلا لَمَا أمر ابْنَه أن يُطيعَه ويُسْلِم. فهذا الرجل اليَهودي - وغيره - مِن جُمْلَة المغضوب عليهم.
قال: " ويستحب أن يقف عند كل آية؛ لقراءته ? ":
__________
(1) برقم ( 1356 )، ورواه أبو داود ( 3095 ).(1/144)
…مِن السُّنَّة(1) الوُقوف عِند رؤوس الآيات عِند القراءة. وقد ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(2)، أنَّ أنَسًا - - رضي الله عنه - - سُئِل: كيف كانت قراءة النبي ?؟ فقال: " كانت مَدًّا "، " ثُمَّ قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ): يَمُدُّ بـ ( بسم الله )، ويَمُدُّ بـ ( الرحمن )، ويَمُدُّ بـ ( الرحيم ) ". وكانت قراءته ? مُرَتَّلَة، وكان لا يَسْتَعْجِل ? في القِراءة؛ حتى أنَّ السُّورَة التي يقرأها تكون أطول مما هي عليه(3).
…هذه هي بَعْضُ سُنَن القِراءَة التي مَن فَعَلها تَدَبَّر القرآن، وتَفَهَّم كلامَ الله - سبحانه وتعالى -، وأعان مَن خَلْفَه - إنْ كان إمامًا - على فَهْمِ ما يقول؛ فيُعينه على الخُشوع والتَّدَبُّر. أمَّا إنْ كانت القراءة سَريعة: فلن يَتَدَبَّر المأموم ما يقوله إمامه؛ فلا يَخْشَع في صَلاتِه.
والإنْسانُ مُحْتاجٌ إلى تَحْصِيل الخُشوع والتَّدَبُّر والتَّفَهُّم غاية الحاجَة؛ فينبغي عليه أن يَعْمَل بالأسباب التي تُعينه في تَحْصيل ذلك.
قال: " وهي أعظم سورة في القرآن، وأعظم آية فيه آية الكرسي ":
__________
(1) جاء هذا مِن حَديث أم سَلمة - رضي الله عنها -: رواه الترمذي ( 2927 )، وأبو داود ( 4001 ).
(2) بِرَقَمَي ( 5046، 5045 )، ورواه أبو داود ( 1465 )، والنسائي ( 1014 )، وابن ماجه ( 1353 ).
(3) رواه مسلم ( 733 )، ولفظه: "... وكان يقرأ بالسورة فيُرَتِّلها، حتى تكونَ أطول مِن أطول مِنها ". ورواه الترمذي ( 373 )، والنسائي ( 1658 )، ومالك ( 311 ).(1/145)
اعْلَم أنَّ الفاتحة هي أعْظَم سُوَر القرآن الكريم؛ فقد ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، من حديث خُبَيْب بن عبد الرحمن عن حَفْص بن عَاصِم عن أبي سعيد بن المُعَلَّى - - رضي الله عنه - - قال: كُنتُ أُصَلِّي في المَسْجِد، فَدَعاني رسول الله ?؛ فلم أُجِبْه لِلَّهِ فقلتُ: يا رَسول الله؛ إنِّي كُنتُ أُصَلِّي. فقال: ألم يَقُل الله: ? اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ? [ الأنفال: 24 ]، ثُمَّ قال: " لأُعَلِّمَنَّك سُورَة هي أعْظَم السُّوَر في القُرآن قبل أن تَخْرُج مِن المَسْجِد "... ثُمَّ قال: " الحمد لله رب العالمين، هي السَّبْع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيتُه ".
وجاء مِثُل هذا في " السُّنَن "(2) عَن أُبَيِّ بن كَعْب - - رضي الله عنه - -، مِن حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عَن أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنهما -؛ فقد ناده ? وهو يُصَلِّي، بِمِثل قصة أبي سعيد بن المُعَلَّى - رضي الله عنهما -، ثُمَّ قال له: " أتُحِبُّ أن أُعَلِّمك سُورَة لم يَنزِل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبُور ولا في الفُرْقان مِثلها؟ " قال: نَعم؛ يا رسول الله . قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أُمَّ القرآن. فقال رسول الله ?: " والذي نَفسي بيده؛ ما أُنزِلَت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبُور ولا في الفُرقان مِثلها، وإنَّها سَبْعٌ مِن المثاني والقرآن العظيم الذي أُعْطيتُه ".
و معنى ( الفُرقان ): القرآن.
__________
(1) بأرقام ( 4474، 4703، 5006 )، ورواه أبو داود ( 1458 )، والنسائي ( 913 )، وابن ماجه ( 3785 ).
(2) رواه الترمذي ( 2875 )، وأحمد ( 2 / 412، 5 / 114 ).(1/146)
وفي رواية(1): " ما أنزل الله - في التوراة ولا في الإنجيل مِثل أٌم القرآن، وهي السَّبْع المثاني، وهي مَقْسُومَةٌ بيني وبين عَبْدِي، ولِعَبْدي ما سأل ".
…وثَبَتَ في " صحيح مسلم "(2)، من حديث سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس - - رضي الله عنه - - قال: " بينما جبريل - عليه السلام - قاعِدٌ عند النبي ? سَمِعَ نَقيضًا مِن فوقه؛ فَرَفَعَ رأسه؛ فقال: هذا بابٌ مِن السَّماء فُتِحَ اليومَ، لم يُفْتَح قَطُّ إلا اليوم، فَنَزَلَ منه مَلَكٌ. فقال: هذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرض لم يَنْزِل قَطُّ إلا اليومَ. فَسَلَّم وقال: " أبْشِر بِنُورَيْن أُوتِيتَهما لم يُؤْتَهما نَبيٌّ قَبْلَكَ: فاتِحَة الكِتاب وخواتيم سُورَة البقرة، لن تقرأ بِحَرْفٍ مِنهما إلا أُعْطيتَه ".
فالحاصِلُ مِن هذه النُّصوص أنَّ: سُورَة ( الفاتِحَة ) هي أعْظَم سُوَرَةٍ في كتاب الله - جَلَّ وعَلا -.
" وأعظم آية فيه " يعني: في كتاب الله، هي " آية الكرسي ":
كما ثَبَتَ هذا في الحديث الصحيح(3) عن أُبَيِّ بن كعب - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? سأله: أتدري أيّ آيةٍ مِن كتاب الله مَعك أعْظَم؟... قال: قُلتُ: ? اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? [ البقرة: 255 ]. قال: فَضَرَبَ في صَدْرِي وقال: " واللهِ؛ لِيَهْنِك العِلْمُ أبا المُنْذِر ".
و( أبو المنذر ): كُنيَة أُبَيِّ بن كعب - - رضي الله عنه - -. وقال ? له: " لِيَهْنِك العِلْمُ "؛ لأنه أجاب الجواب الصحيح.
قال " وفيها إحدى عشرة تشديدة ":
مُراد المؤلف - رحمه الله - بقوله ( تَشديدة ): يعني الحُروف المُشَدَّدة.
__________
(1) رواه الترمذي ( 3125 )، والنسائي ( 914 )،، كِلاهما لم يَرْوِ إلا هذا القَدْر مِن الحَديث = فرَوَياه مُخْتَصَرًا بدون ذِكْر القِصَّة.
(2) برقم ( 806 )، ورواه النسائي ( 912 ).
(3) رواه مسلم ( 810 )، وأبو داود ( 1460 ).(1/147)
مِن المَعلوم أنَّ الحَرْف لا يَخْلو إمَّا أن يكون: مُشَدَّدًا أو مُخَفَّفًا ( غير مُشَدَّد )، والحَرْف المُشَدَّد مُرَكَّبٌ مِن حَرْفَين، فمَن أخَلَّ بالتَّشديد فقد أخَلَّ بهذا الحَرْف الثاني، ومَن أهْمَل التَّشديد بالكُليَّة فقد أهْمَل هذا الحَرْف الثاني بالكُليَّة.
فَينبَغي على القارىء الاعتناء بهذا الأمْر جَيِّدًا.
وَأوَّل هذه الحروف المُشَدَّدة هي ( اللام ) مِن قَوله ? الْحَمْدُ !... ?. وراجِع بيان بَقيَّة هذه الحُروف في كُتُب الفِقه وأحْكام القُرآن.
قال: " ويُكْرَه الإفراط في التَّشديد، والإفْراط في المَدّ ":
…يُكْرَه الإفْرَاط في تَشديد الحُروف المُشَدَّدَة؛ لأنَّ المبالغة فيه تَدُلُّ على الوَسْوَسة؛ فالمُوَسْوَس يُشَدِّد الحَرْف ويَظُنُّ أنه ما شَدَّدَه لِلَّهِ فَيُبَالِغ في تشديده. والمُبالَغَة في الشىء - دائمًا - تُخْرِجه عَن حَدِّه. فلا إفْرَاط ولا تَفْريط.
…وأيضًا تُكْرَه المبالغة في مَدِّ الحُروف المَمدودة.
والمبالغة في تطبيق أحكام التجويد ومخارج الحروف - عمومًا - تُؤَدِّي بالقارىء إلى التَّكَلُّف، وقد يمنعه هذا مِن تَدَبُّر القراءة؛ لأنه جَعَل هَمَّه مُنصَبًّا على مَخَارِج الحروف وتَطبيق أحْكَام التَّجويد، وصَرَف هَمَّة عَن تَفَهُّم وتَدَبُّر ما يقرأه مِن كلام الله - سبحانه وتعالى -.
فينبغي الانتباه لهذا الأمر، وتَرْك التَّكَلُّف والتَّنَطُّع؛ فهذا يُحَسِّن التِّلاوَة، ويُعين السَّامِع على التَّأثُّر بِتِلك القِراءة.(1/148)
كما أنَّنا نُوصِي القُرَّاء ومُدَرِّسُي القُرآن بِعَدم المُبالَغَة في تَدْريس هذه الأحْكام والمَسائِل. ولا نَقْصِد بهذا إلغاء تِلك الدُّروس؛ وإنَّما المذموم هو المبالغة. ولذلك فقد جاء عَن بَعْضِ السَّلَف - كحَمَّاد بن زَيْد وعبد الله بن إدْريس وعبد الرحمن بن مَهْدي والإمام أحمد وغيرهم - كراهية قراءة حَمْزَة؛ لأنَّ فيها المبالغة في شىء مِن ذلك. وسيأتي(1) تَفصيل ذلك أثناء الشَّرْح - إن شاء الله -.
__________
(1) ص؟؟؟.(1/149)
قال: " فإذا فرغ قال: آمين بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن ومعناها اللهم استجب يجهر بها إمام ومأموم معًا في صلاة جهرية، ويستحب سكوت الإمام بعدها في صلاة جهرية لحديث سمرة، ويلزم الجاهل تعلمها فإن لم يفعل مع القدرة لم تصح صلاته، ومن لم يحسن شيئًا منها ولا من غيرها من القرآن لزمه أن يقول: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " لقوله ?: " إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره ثم اركع " رواه أبو داود والترمذي ثم يقرأ البسملة سرًا، ثم يقرأ سورة كاملة ويجزي آية إلا أن أحمد استحب أن تكون طويلة، فإن كان في غير الصلاة فإن شاء جهر بالبسملة وإن شاء أسر، وتكون السورة في الفجر من طوال المفصل وأوله ? ق ?؛ لقول أو س: سألت أصحاب محمد ? كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثًا، وخمسًا، وسبعًا، وتسعًا، وإحدى عشرة وثلاثة عشرة وحزب المفصل واحد ويكره أن يقرأ في الفجر من قصاره من غير عذر كسفر ومرض ونحوهما. ويقرأ في المغرب من قصاره، ويقرأ فيها بعض الأحيان من طواله لأنه ? قرأ فيها بالأعراف ويقرأ في البواقي من أوساطه إن لم يكن عذر وإلا قرأ بأقصر منه، ولا بأس بجهر امرأة في الجهرية إذا لم يسمعها أجنبي والمتنفل في الليل يراعي المصلحة فإن كان قريب منه من يتأذي بجهره أسر، وإن كان ممن يستمع له جهر، وإن أسر في جهر و جهر في سر بنى على قراءته، وترتيب الآيات واجب لأنه بالنص، وترتيب السور بالاجتهاد في قول جمهور العلماء فتجوز قراءة هذه قبل هذه ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها ".
الشرح:
قال: " فإذا فرغ قال: آمين بعد سكتة لطيفة؛ ليعلم أنها ليست من القرآن ":(1/150)
أمَّا صِفَة نُطْق ( آمين )(1): فالأقْرَب أنها بالمَدِّ ( آمين )، وقال بَعْضُ أهْل العِلْم: تكون بالقَصْر ( أمين )، ورأى بَعْضُهم تَشديد الميم ( آمّين )، إلا أنَّ هذا القول الأخير لا حُجَّة لِمَن قالَه.
وأمَّا مَشروعيَّة التَّأمين: فيُشْرَعَ التأمين في حَقِّ الإمام والمأموم؛ لِمَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(2)، مِن حديث سعيد بن المُسَيَّب وأبي سَلَمة بن عبد الرحمن عَن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن النبي ? قال: " إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنَّه مَن وافق تأمينه تأمين الملائِكَة غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِن ذنبه ".
وثَبَتَ(3) - أيضًا - مِن حَديث أبي صالح عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " إذا قال الإمام ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ?؛ فقولوا آمين؛ فإنَّه مَن وافق قولُه قَولَ الملائِكَة غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِن ذنبه ".
وثَبَتَ التَّأمين مِن فِعْل الرسول ?؛ كما في حديث وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - -، عِندَ الترمذي وغيره(4)، أن النبي ? قرأ ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? قال: " آمين، ومَدَّ بها صَوْتَه "، وفي رواية(5): " فَجَهَرَ بآمين ".
__________
(1) راجع في ذلك: " المجموع ": ( 3 / 370 )، " المغني ": ( 1 / 291 ).
(2) رواه البخاري (780 )، ومالِك في " الموطأ ": (195) - ومِن طريقه: مسلم (410) -.
(3) رواه البخاري ( 782، 4475 )، ومسلم ( 410 )، والنسائي ( 929 ).
(4) رواه الترمذي ( 248 )، وأبو داود ( 932 ) - وعنده: " ورَفَعَ " بدل " مَدَّ " -، والبخاري في " جزء القراءة خَلْف الإمام ": ( رقم 144 ).
(5) رواه أبو داود ( 933 ). ورواه النسائي ( 932 )، وابن ماجه ( 855 ) بمعناه؛ فعِندَ الأوَّل: " فَسَمِعْتُه "، وعِندَ الثاني: " فَسَمِعْنَاها ".(1/151)
وخَالفَ في مَشروعيَّة التَّأمين للإمام بَعْضُ أهْل العِلم - ومِنهم الإمام مالك(1) -؛ فَخصُّوا التَّأمين بالمأموم دون إمامِه. واستْدَلُّوا على ذلك: بِمَا جاء في " الصحيحين "(2) أن الرسول ? قال: " إذا قال الإمام ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ?؛ فقولوا آمين " = فقالوا: ففي هذا الحَديث خُصَّ المأموم بالتأمين دون إمامِه؛ فلم يُذْكَر فيه أنَّه أمَّن.
والصحيح في المسألة: ما قُلناه مِن مَشروعيَّة التَّأمين للإمام والمأموم؛ لِمَا تَقَدَّم في الأحاديث الصحيحة.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فقد اخْتَلَف أهْل العِلْم في مَشروعيَّة الجَهر بالتأمين(3): فَذَهَب بعضُهم إلى أنَّ المَشروع في حَقِّ الإمام والمأموم هو إخْفاء ( آمين ). والصَّحيح هو مَشروعيَّة الجَهر بها لِكِلَيْهما؛ لِظاهِر حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم: " إذا أمَّن الإمام فأمِّنُوا ".
قال: " ليُعلم أنها ليست من القرآن ":
…يعني: يُسْتَحَبُّ له الفَصْل بين آخِر الفاتِحَة والتأمين بِقَدْر سَكتة لطيفة؛ ليَعْلَم السَّامِع - والقارىء أيضًا - أنَّها ليست مِن القرآن.
قال: " ومعناها: اللهم استجب ":
معنى " آمين ": اللهُمَّ اسْتَجِبْ.
فَضْل التأمين:
في التأمين أجْر عَظيمٌ:
( 1 ) فقد ثَبَتَ في " الصحيحين "(4) من حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " إذا قال الإمام ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ?؛ فقولوا آمين؛ فإنَّه مَن وافق قولُه قَولَ الملائِكَة غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِن ذنبه ".
__________
(1) راجع: " المدونة الكبرى ": ( 1 / 71 )، و" المغني ": ( 1 / 290 )، و" المجموع ": ( 3 / 373 ).
(2) مَرَّ تخريجه قريبًا.
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 290 )، و" المجموع ": ( 3 / 373 ).
(4) مَرَّ تخريجه قريبًا.(1/152)
وفي هذا الحَديث دَلالةٌ على عَظَم أجْر تأمين المأموم بعد انتهاء إمامِه مِن قراءة الفاتِحَة.
( 2 ) ورَوَى ابن ماجه(1)، مِن حديث حَمَّاد بن سَلَمَة عن سُهَيْل عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أن الرسول ? قال: " ما حَسَدَتكم اليهودُ على شىءٍ ما حَسَدتكم على السَّلام والتأمين ". ففي هذا الحَديث دَلالةٌ على عَظيم فضلها.
ولكن: هل يُشْرَع التَّأمين بعد الفاتِحَة داخلَ الصلاة وخارِجَها؟
نَعْم؛ فقد ذَهَبَ بَعْضُ أهل العلم إلى استحباب قول ( آمين ) بعد فراغ الإنسان مِن قراءة الفاتحة، سواءً كان داخِلَ الصلاة أم خَارِجَها.
وهذا ظاهر؛ لأنَّه ثَبَتَ(2) عن الرسول ? أنَّه كان يُؤَمِّن في الصلاة، وثَبَتَ عنه(3) ? أنَّه قال: " إذا قال الإمام ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ?؛ فقولوا آمين ". فيُسْتَدَلُّ بهذين الحَديثَين على المسألة.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فهل يُشْرَع التأمين خلف الدُّعاء مُطْلَقا؟
نعم؛ ينبغي للإنسان أن يختتم دُعاءه - إذا دعا - بـ ( آمين )؛ فالفاتحة شُرِعَ بعدها التأمين لأنَّ فيها دُعَاء. والإنسان - بقوله ( آمين ) بعد الدُّعاء - يسأل ربه - - عز وجل - - أن يَسْتَجِيبَ له.
قال: " ويُسْتَحَبُّ سُكُوت الإمام بعدها في صلاة جهرية؛ لحديث سَمُرَة ":
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي إذا انتهى مِن قِراءَة الفاتحة أن يَسْكُتَ قليلًا.
__________
(1) برقم ( 856 ).
(2) سَبَق تخريجهما قريبًا.(1/153)
والدَّليل على هذا: مَا جاء في " سُنَن أبي داود " وغيره(1)، من حديث قَتادة عن الحَسَن عن سَمُرَة بن جُندَب - - رضي الله عنه - - قال: " حَفِظْتُ سَكْتَتَين في الصَّلاة: سَكْتَة إذا كَبَّر الإمام حتى يقرأ، وسَكْتَة إذا فَرَغَ مِن فاتِحَة الكِتاب وسُورَةٍ عِندَ الرُّكوع ". قال: فأنكَرَ ذلك عليه عِمران بن حُصين - - رضي الله عنه - -؛ قال: فَكَتبوا في ذلك إلى المدينة إلى أُبَيِّ - - رضي الله عنه - -؛ فَصَدَّق سَمُرَة.
وفي رواية(2) أنَّ السَّكْتَة الثانية هي: "... وسَكْتَة إذا فَرَغَ مِن قِراءة ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ".
إلا أنَّ الحَديث فيه انقطاعٌ بين الحَسَن وسَمُرَة.
ورِواية الحسن عن سَمُرَة اخْتَلَف فيها أهْل الشَّأن(3)، على أقوالٍ ثلاثة:
1ـ الأول: سَماع الحَسن مِن سَمُرَة مطلقًا.
2ـ الثاني: عَدَم سماعِه مِنه مطلقًا.
3ـ القول الثالث: لم يَسْمَع مِنه إلا حَديثَ العَقيقة. وهذا هو الأقْرَب.
ولكن للحَديث بَعْضُ الشَّواهِد. والاستدلال به على مسألتنا ( اسْتِحْباب السُّكوت قليلاً ) قَويٌّ؛ فيُشْرَع للقارىء أن يَسْكُتَ سكتة لطيفة بعد قراءة الفاتِحَة.
ويُؤَيِّد هذا - من حيث المعنى -: أنَّ الشَّرْع جاء بالتمييز بين الأركان وما دونَها، والفاتحة رُكْنٌ وما بعدها ليس بِرُكْن = فيُشْرَع السُّكوت للتمييز بينهما. ولذا شُرِعَ للقارىء السُّكوت قليلاً بعد الفاتِحَة قبل التأمين؛ للفَصْل بين الفاتِحَة والتأمين؛ لأنَّه ليس مِن القُرآن؛ وإنَّما هو فاصِلٌ بين الفاتِحَة وغيرها.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فالكلامُ - هُنا - على السُّكوت القليل.
__________
(1) رواه أبو داود - واللفظ له - ( 777 )، والترمذي ( 251 )، وابن ماجه ( 844 ).
(2) رواه أبو داود ( 779 ).(1/154)
أمَّا السُّكوت الطَّويل حتى ينتهى المأموم مِن قراءة الفاتِحَة - كما يفعله بَعْض الأئمة -: فقد تَكَلَّم عليه بَعْضُ أهْل العِلم - كشيخ الإسلام ابن تيمية(1) -؛ وقالوا: ليس عليه دَليل.
فكلامُهم - رحمهم الله - في السُّكوت الطَّويل؛ فينبغي ألا نَخْلِط في كلامِهم بين السُّكوتَين.
ورأى آخَرون مَشروعيَّة السُّكوت الطَويل لحين قراءة المأموم للفاتِحَة، ولعلهم يستدلون - والله أعْلَم - بأثَر سَعيد بن جُبَير الآتي:
فقد رَوَىَ البخاري في " جزء القراءة خَلْف الإمام "(2)، عن سعيد بن جبير - رحمه الله - قال: " إنَّ السَّلَفَ كان إذا أَمَّ أحدُهم النَّاسَ كَبَّر، ثُمَّ أنْصَتَ حتى يَظُنَّ أنَّ مَن خَلْفَه قد قرأ فاتحة الكتاب، ثُمَّ قَرأ وأنْصَتُوا ".
وقَوَّاه الحافظ ابن حجر في " نتائج الأفكار في تَخريج أحاديث الأذْكار "(3)، وقَوَّى الاستدلال به، وقال: " سعيد بن جُبَيْر من التابعين، وقد أدْرَك الصحابة ".
وهذا الكلام من حيث الاستدلال له قُوَّة. إلا أنَّه لا يَلْزَم أن يكون ما نقله سعيد بن جُبَير - رحمه الله - مَنقولٌ عن الصحابة - - رضي الله عنهم - -؛ وإنما يعني أنَّه أدْرَك بعض الأئمة يَفْعَلون ذلك، والصَّحابة - - رضي الله عنهم - - لم ينقلوا هذا السُّكوت عن الرسول ?.
فالذي يبدو - والله أعلم - أنَّه لم يأتِ على السُّكوت الطويل دَليلٌ.
قال: " ويلزم الجاهل تعلمها ":
عَلِمنا فيما سَبَق(4) - بالأدِلَّة - أنَّ الفاتِحَة رُكْنٌ مِن أرْكان الصَّلاة، لا تَصِحُّ الصَّلاةُ إلا بها. ولذا وَجَبَ على الإنسان - وجوبًا عَينيَّا - أن يتعلَمَها، إنْ كان جاهلاً بها.
قال: " فإنْ لم يفعل مع القدرة = لم تَصِح صَلاته ":
__________
(2) برقم ( 164 )، ورواه مِن طريقه الحافظ ( ابن حجر ) - رحمه الله - في " نتائج الأفكار ": ( 2 / 24 ).
(3) " نتائج الأفكار ": ( 2 / 25 ).
(4) ص؟؟؟.(1/155)
فَمَن لم يَتَعَلَّم فاتِحَة الكِتاب وهو قادِرٌ على تَعَلُّمِها: فلا تَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّه فَرَّطَ في هذا الواجِب مع قُدرَتِه على تَحصيل أسبابِه.
قال: " ومن لم يُحْسِن شيئًا منها ولا من غيرها من القرآن: لزمه أن يقول: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "؛ لقوله ?: " إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره ثم اركع " رواه أبو داود والترمذي ":
أمَّا إنْ كان المُصَلِّي عاجِزًا عَن تَعَلُّم الفاتِحَة ولا يَقْدِر على تَعَلُّمِها: فلا يَخْلو مِن حَالَيْن:
الأوَّل: أن يكون حافِظًا لبعضها أو غيرها مِن القرآن: فعليه - في هذه الحالة - أن يقرأ بما يَحْفَظ.
الثاني: ألا يكون حافِظًا شيئًا مِن القرآن: فيلزمه - في هذه الحالة - أن يقول: " سُبْحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكْبَر، ولا حَوْل ولا قُوَّة إلا بالله(1) ".
فالشَّارِع - عز وجل - جَعَل للعاجِز بَدَلاً، ولا ينتقل مِن البَدَل إلا في حال العَجْز عَن المُبْدَل.
والدَّليل على المسألة الثانية: ما رواه النَّسائي(2)، مِن حديث مِسْعَر بن كدام عن إبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكِي عن عبد الله بن أبي أوْفَى - - رضي الله عنه - - قال: جاء رَجُلٌ إلى النبي ? فقال: إني لا أستطيع أن آخُذ شيئًا مِن القرآن؛ فَعَلِّمني شيئًا يُجْزِئُني مِن القرآن. فقال: " قُل: سبحان الله... " فَذَكَره.
وتابَع مِسْعَرًا أبو خالد الدالاني: فرواه عَن إبراهيم السَّكْسَكِي به(3).
__________
(1) لم يَذْكُر المؤلِّف - رحمه الله - الحوقلة في كلامِه، وسيأتي سبب ذلك قريبًا - إن شاء الله -.
(2) في " سُنَنِه الصُّغْرَى ": ( 924 )، و" الكبرى ": ( 1 / 321 )، ورواه - أيضًأ - ابن خُزَيمة ( 1 / 273 )، وابن حِبَّان ( 5 / 115، 116 ).
(3) أخرجه أبو داود ( 832 ).(1/156)
إلا أنَّ في هذا الإسناد ضَعْفًا؛ مِن أجل إبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكِي، قال النَّسائي(1) بعد أن رَوَىَ هذا الحديث: " إبراهيم السَّكْسَكِي ليس بذاك القوي، ويُكْتَب حَديثه " اهـ.
فالجُمهور على تضعيفه، إلا أنَّه ليس بشديد الضَّعْف، وقد خَرَّج له البُخاري في " صَحيحه " حَديثَين(2)، فيُكْتَب حديثه ولا يُحْتَجُّ به.
وعليه؛ فإنْ وُجِدَ ما يَشْهَد لحديثه تَقَوَّى بغيره. وقد صَحَّح حديثَه بَعْضُ أهْل العِلْم = فلعله يَتَقَوَّى بـ:
ما رُوي مِن طريق الفَضْل بن الموفق عن مَالِك بن مِغْوَل عن طَلْحَة بن مُصَرِّف عن عبد الله بن أبي أوفى - - رضي الله عنه - - به.
رواه ابن حبان والطبراني(3).
وهذا الإسناد ضعيف، بل أضْعَف مِن الأوَّل؛ لِضَعْف الفضل بن الموفق، إلا أنَّه يُسْتأنَس بحديثه؛ فيتقوَّى بالإسناد السابق.
وللحَديث شاهِدٌ مِن حَديث رفاعَة بن رافِع - - رضي الله عنه - -، في قصة " المسىء صلاتَه " ، وهو الذي ذَكَرَه المُصَنِّف بقوله:
" لقوله ?: " إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره ثم اركع " رواه أبو داود والترمذي ":
رُوي هذا الحَديث مِن حَديث يحيى بن علي بن يحيى بن خَلَّاد عن أبيه عن جَدِّه عن رفاعة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال للمسىء صلاتَه: "... فإنْ كان مَعك قُرآنٌ فاقرأ؛ وإلا فاحْمَد الله وكَبِّره وهَلِّله، ثُمَّ ارْكَع... " الحَديث. رواه أصحاب " السُّنَن "(4).
__________
(1) في " الكُبْرَى ": ( 1 / 321 ).
(2) وهما: حَديث عبد الله بن أبي أوفَى - - رضي الله عنه - -: " أن رَجُلًا أقام سِلْعَة وهو في السُّوق...، وحَديث أبي موسى الأشعري - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " إذا مَرِضَ العبد أو سافَر... "، بأرقام ( 2088 - وأيضًا 2675، 4551 -، 2996 ).
(3) رواه ابن حِبَّان ( 5 / 116 ).
(4) رَواه مِن هذا الطَّريق بمَوضِع الشَّاهِد مِنه: الترمذي ( 302 )، وأبو داود ( 856 ).(1/157)
وهذا الحَديث لا يَصِحُّ؛ لحال يحيى بن علي بن يحيى: فهو ليس بالمشهور. ومَعَ أنَّ للحَديث طُرُقًا غير هذا الطَّريق(1)؛ إلا أنَّ هذا اللفظ ( فاحمد الله وكَبِّره وهَلِّلْه ) - وهو مَوْضِع الشَّاهِد - لم يُرْوَ إلا في هذا الطَّريق الضَّعيف لِلَّهِ
ومع هذا؛ فلعله يُقَوِّي ما جاء في حديث عبدالله بن أبي أوفى - - رضي الله عنه - - السَّابِق.
فالخُلاصَة: أنَّ هذه الطُّرُق لعلها تُقَوِّى بعضها بعضًا وتصل إلى دَرَجَة الحُسْن.
وحَديث المُسىء صلاتَه رُوي مِن حَديثَي: أبي هريرة ورفاعة بن رافع - رضي الله عنهما -: وحَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - في " الصَّحيحَين "(2)، وهو أصَحُّ وأشْهَر مِن حَديث رِفَاعَة - - رضي الله عنه - -.
فَخُلاصَة المسألة: أنَّه يَجِبُ على العاجِز عَن قراءة الفاتِحَة أو تَعَلُّمِهاأن يقول: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله ".
ولم يَذْكُر المصنف - رحمه الله - الحَوْقَلَة ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) في كلامِه؛ لأنه استدل على المسألة بِحَديث رفاعة بن رافع - - رضي الله عنه - -، وليست فيه الحوقلة؛ وإنما جاءت مِن حديث عبدالله بن أبي أوفى - - رضي الله عنه - -، وقد عَلِمنا صِحَّة الاحتجاج به على المسألة.
ثم قال: " يقرأ البسملة سِرًّا، ثم يقرأ سورة كاملة ":
تَقَدَّم(3) الكلام على خِلاف العلماء في الإسرار بالبسملة، ورَجَّحنا - هُناك - أنَّ المَشروع هو الإسْرار بها. فما قيل هُناك يُقال هنا.
ثم قال: " يَقْرأ بِسُورَة كاملة ":
__________
(1) أخْرَجَه أبو داود - أيضًا - مِن عِدَّة طُرُق ( 856 )، والنسائي ( 1053، 1313، 1314، 1136 )، وأحمد ( 4 / 340 )، والدارمي ( 1329 )، وغيرهم.
وقال الترمذي ( 302 ): " حديث رفاعة بن رافع حديث حسن، وقد رُوي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجه ".
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.(1/158)
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أن يقرأ بعد الفاتِحَة بِسُورَة كامِلة؛ لأنَّ هذا هو الغالب على صلاته ?(1)، ويَجْهَر بها إذا كانت الصَّلاة جَهْريَّة، ويُسِرُّ بها إذا كانت الصلاة سِريَّة.
وعلى كل حال؛ يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أن يقرأ بعد الفاتِحَة شيئًا مِن القرآن.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فيُشْرَع هذا في الرَّكْعَة الأُولَى والثانية مِن الصَّلاة.
أما القراءة في الرَّكْعَة الثالثة والرابِعَة، في الصَّلاة الثُّلاثيَّة أو الرُّباعيَّة: ففيها خِلافٌ سيأتي(2) الكَلام عليه - إن شاء الله - في مَوضِعه.
قال: " ويُجْزئ آية ":
عَلِمنا أنَّ المُسْتَحَبَّ - وهو الغالِب على صلاته ? - أن يقرأ بِسُورَة كامِلَة.
وقد ثَبَتَ عَنه ? الاقتصار في الرَّكْعَة على بَعْضِ سُورَة؛ فقد " صَلَّى الصُّبْح بِمَكَّة، فاستفتح سُورَة ( المؤمِنين )، حتى جاء ذِكْر موسى وهارون - أو ذِكْر عيسى - [ شَكَّ الرَّاوي ] أخذت النبي ? سَعْلَة؛ فَرَكَع "(3) = يعني: لم يُكْمِلها في رَكْعَة واحِدَة.
__________
(1) كما دَلَّت على هذا عِدَّة أحاديث ستأتي قريبًا - إن شاء الله -.
(2) ص؟؟؟.
(3) رواه البخاري تعليقًا ( 2 / 255 - " فتح " )، ومسلم ( 455 )، والنسائي ( 1007 )، وأبو داود ( 649 )، وابن ماجه ( 820 )، وأحمد ( 3 / 411 ).(1/159)
وثَبَتَ عنه ? أنَّه كان يقرأ في رَكْعَتَي الفَجْر في الأُولَى مِنهما ? قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) ? [ البقرة: 136] ، وفي الآخِرَة مِنهما: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) ? [ آل عمران: 64 ]. [ رواه مسلم وابن خزيمة والحاكم(1) ].
قال: " إلا أن أحمد استحب أن تكون طويلة(2) ":
سوف يأتي(3) مِقْدَار ما كان يقرأ به ? في صَلاته: من صلاة الصُّبْح إلى صلاة العشاء، وأن هذا يختلف باختلاف الصلوات.
قال: " فإنْ كان في غير الصلاة: فإن شاء جَهَرَ بالبسملة، وإن شاء أسَرَّ ":
لا يَخْلو القارىء إمَّا أن: يقرأ مِن أوَّل السُّورَة، أو مِن غير أوَّلِها:
فإنْ قرأ مِن أوَّلها فيُسَنُّ له - بعد الاستعاذة - أن يُبَسْمِل.
وأمَّا إنْ قرأ مِن غير أوَّلها ( مِن وسطها أو مِن نهايتها ): فيستعيذ دون بَسْمَلَة.
لا فَرْقَ في الحالَين بين داخِل الصلاة وخارِجها.
وكُلُّ سُوَر القرآن تُفْتَتَح بالبسملة، إلا سُورَة التوبة؛ فيستفتحها بالاستعاذة فقط.
__________
(1) رواه مسلم ( 727 )، والنسائي ( 944 )، وأحمد ( 1 / 230، 231 )، وابن خزيمة ( 2 / 163 )، والحاكم ( 1 / 450 )، وغيرهم.
(2) راجع: " الفُروع " / لابن مُفْلِح الجَدّ: ( 1 / 368 )، " المُبْدِع " / لابن مُفْلِح الحَفيد: ( 1 / 443 )، و" كَشَّاف القِناع ": ( 1 / 342 ).
(3) ص؟؟؟.(1/160)
أمَّا الجَهْر بِهما: فلا يَجْهَر بهما داخِل الصلاة، وقد تَقَدَّم بيان ذلك(1). أمَّا خارِجها: فالأمر واسِع: إن شاء جَهَر بهما وإنْ شاء أسَرَّ، فهو مَخَيَّرٌ في ذلك.
قال: " وتكون السورة في الفجر من طوال المُفَصَّل ":
يَشْرُع المُصَنِّف - رحمه الله - هُنا في بَيان مِقدار ما يُسْتَحَبُّ قراءته في الصَّلوات الخَمْس.
فبدأ بِمِقدار القِرَاءة في صلاة الصُّبْح:
فاعْلَم أنَّ من سُنَّته ? أنه كان يُطيل القِرَاءة في صلاة الصُّبْح. ومِن الأدِلة على هذا:
( 1 ) ثَبَتَ في " الصَّحيحَين "(2)، مِن حَديث أبي بَرْزَة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان يقرأ في الفَجْر ما بين السِّتين إلى المائة آيَة ".
( 2 ) ثَبَتَ عِند النسائي(3) بإسْنادٍ حَسَنٍ، أنه ? كان يقرأ في صلاة الصُّبْح بِطوال المفصل؛ فقد رَوَى بُكَيْر بن عبد الله بن الأشَجِّ عن سُلَيْمَان بن يَسار عَن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - قال: ما صَلَّيتُ وراءَ أحَدٍ أشبه صلاةً برسول الله ? مِن فُلانٍ. قال سُلَيمان: " كان يُطيل الرَّكْعَتَين الأُولَيَين مِن الظُّهْر، ويُخَفِّف الأُخْرَيَين، ويُخَفِّف العَصْر، ويقرأ في المَغْرِب بِقِصار المُفَصَّل، ويقرأ في العِشاء بِوَسَط المُفَصَّل، ويقرأ في الصُّبْح بِطُوَل المُفَصَّل ".
__________
(1) ص؟؟؟
(2) رواه البخاري ( 541 )، ومسلم - واللفظ له - ( 461 )، وأبو داود ( 398 )، والنسائي ( 948)، وابن ماجه ( 818 ).
(3) بِرَقَمي ( 982، 983 ). ورواه أحمد ( 2 /300 )، ورواه ابن ماجه ( 827 ) مُخْتَصَرًا؛ فلم يذكر فيه إلا: الظُّهْر والعَصْر.(1/161)
( 3 ) ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، أنه ? " كان يقرأ في الصُّبْح، يومَ الجُمُعة: بـ ? الم (1) م@ƒح"\s?... ? [ السَّجْدَة ] في الرَّكْعَة الأولى، وفي الثانية: ? هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا #·'qن.ُ¨B... ? [ الإنسان ] ".
( 4 ) وثَبَتَ في " صحيح مسلم "(2)، أنه ? " كان يقرأ في الفَجْر بـ ? ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ?... ".
قال: " وأوله ? ق ?؛ لقول أوس: سألتُ أصحاب محمد ?: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثًا، وخمسًا، وسبعًا، وتسعًا، وإحدى عشرة وثلاثة عشرة، وحزب المفصل واحد ":
اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في تَعيين أوَّل المُفَصَّل(3)، على أقوالٍ، أصَحُّها أنَّ أوَّله: سورة ( ق ). والدَّليل على ذلك: ما جاء عند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهما(4)، من حديث عبدالله بن عبد الرحمن الطائفي عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي عن جد أوس بن حذيفة الثقفي - - رضي الله عنه - - قال ( في حَديث طِويل ): ".. فلما كان ذات ليلة أبْطأ [ يعني الرسول ? ] عَن الوقت الذي كان يأتينا فيه. فقلتُ: يا رسولَ الله؛ لقد أبْطأتَ علينا الليلة؟ قال: إنَّه طَرَأ عليَّ حِزْبي مِن القرآن؛ فَكَرِهْتُ أن أخْرُجَ حتى أُتِمَّه ". قال أوس: فسألتُ أصحاب رسول الله ?: كيف تُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: " ثلاث وخمس وسبع وتِسْع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحِزب المُفَصَّل ". وفي رواية أحمد: "... وحِزب المُفَصَّل مِن ( ق ) حتى يُخْتَم ".
__________
(1) رواه البخاري ( 891، 1068 )، ومسلم - واللفظ له - ( 880، 879 ).
(2) برقم ( 458، 457 )، ورواه الترمذي ( 306 )، والنسائي ( 949، 950 )، وابن ماجه ( 816 ).
(3) " المجموع ": ( 3 / 384 ).
(4) رواه أبو داود ( 1393 )، وابن ماجه - واللفظ له - ( 1345 )، وأحمد ( 4 / 9، 343).(1/162)
وهذا هو الحديث الذي ذَكَرَه المصنف - رحمه الله تعالى -. فإذا عَدَدتَ مِن القرآن ثلاثًا، ثم خمسًا، ثم سبعًا، ثم تسعًا، ثم إحدى عشر، ثم ثلاثة عشر تقف عند سورة ( ق ) = فَدَلَّ هذا على أنَّها هي أوَّل المُفَصَّل، وأواسِط المُفَصَّل: مِن سُورة ( عَم يتسائلون ) إلى سورة ( الضُّحَى )، وقِصَاره: مِن سورة ( الضُّحَى ) إلى آخر القرآن.
قال: " ويكره أن يقرأ في الفجر مِن قصاره من غير عذر - كسفر أو مرض أو نحوهما - ":
تقدم قبل قليل(1) أن السُّنَّة في قِراءة صلاة الصُّبْح الإطالة، ويُسْتَثنَى مِن ذلك إنْ كان الإنسان في سَفَرٍ أو كان مَريضًا، أو كان له عُذْرٌ:فلا بأس أن يقرأ بِقِصار المُفَصَّل؛ فـ ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ].
وقد جاء في حديث عُقْبَة بن عامر - - رضي الله عنه - -، وهو في " السُّنَن "(2)، وله طُرُق كثيرة، أن الرسول ? " قرأ في سَفَرٍ في صلاة الصبح بـ ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ?، وبـ ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ? ".
وجاء(3) عن عُمَر - - رضي الله عنه - - أنه " قرأ بسورة ( البَلَد ) و( التين ) في صَلاة الصُّبْح، وكان في سَفَر ".
قال: " ويقرأ في المَغْرِب مِن قِصَارَه ".
تَقَدَّم(4) في حديث سُلَيْمان بن يَسار عن رجل من الصحابة، ما يُفيد أن الرسول ? كان يقرأ في صلاة المغرب بِقِصَار المُفَصَّل.
قال: " ويقرأ فيها بعض الأحيان من طواله؛ لأنه ? قرأ فيها بالأعراف ":
ثَبَتَ في " سُنَن النَّسائي "(5) أن الرسول ? " قرأ في صلاة المَغْرِب بسورة الأعْرَاف ".
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه أبو داود ( 1462 )، والنسائي ( 5436 )، وأحمد ( 4 / 152 ).
(3) رواه عبد الرزاق في " مُصَنَّفِه " ( 2 / 120 ).
(4) ص؟؟؟.
(5) رواه النسائي ( 991، 990 )، وأصله في " صحيح البخاري ": ( 764 )، ورواه أبو داود ( 812 ) بمثل رواية البخاري.(1/163)
قال: " ويقرأ في البواقي من أواسطه، إنْ لم يكن عُذْرٌ ":
ثَبَتَ عَن النبي ? أنَّه قرأ في العِشاء(1) والظُّهْر(2) مِن أواسِط المُفَصَّل، وثَبَتَ في حديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - ما يُفيد أنَّه ? كان يُطيل الظُّهر - أحيانًا -؛ فقال: " كنا نَحْرِز قيام رسول الله ? في الظُّهْر والعَصْر: فَحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن الظُّهر قدر قِراءة ? الم (1) م@ƒح"\s?... ? السجدة، ( وفي رواية عِندَ مُسْلِم: قَدْر ثلاثين آية )، وحَزرنا قيامَه في الأُخْرَيَيْن قَدْرَ النِّصْف مِن ذلك... " الحَديث(3).
قال: " إن لم يكن عذر وإلا قرأ بأقصر منه ":
يُسْتَحَبُّ للمُسْلِم - دائمًا - تَحَري السُّنَّة، أمَّا الواجِب على المُصَلِّي الذي يُجْزِئه لو اقتصر عليه: فهو قِراءة الفاتِحَة. وإنْ قرأ بعدها بأقلِ مِن الوارِد، أو زاد أحيانًا: فلا بأس بذلك.
قال: " ولا بأس بِجَهْر امرأة في الجهرية إن لم يسمعها أجنبي ":
والدَّليل على جَواز جَهْر المرأة في الصَّلاة الجَهْريَّة: ما رواه أبو داود(4)، بإسنادٍ لا بأسَ به، أن أُمَّ ورقة - كانت تسمى الشهيدة -، وهي من الصحابة - رضي الله عنها - " استأذنت النبيَّ ? أن تَتَّخِذ في دارها مُؤَذِّنًا، فأذِنَ لها... وكان رسول الله ? يزورها في بَيتها، وجعل لها مُؤَذِّنًا يُؤَذِّن لها، وأمرها أن تَؤُمَّ أهل دارِها ".
وَوَجْه الدلالة مِن هذا الحَديث: أنَّ مِن لوازمِ إمامتها لأهل بيتها = جَهْرها بالقراءة في الصَّلاة الجَهريَّة.
__________
(1) رواه البخاري ( 7546 )، ومسلم ( 464 )، والترمذي ( 309 )، والنسائي ( 999 ).
(2) رواه الترمذي ( 307 )، وأبو داود ( 805 )، والنسائي ( 979 ).
(3) رواه مُسْلِم ( 452 )، وأبو داود ( 804 )، والنسائي ( 475 ).
(4) برقم ( 591 )، ورواه أحمد ( 6 / 405 ).(1/164)
إذا ثَبَتَ هذا؛ فيُشْرَع للمرأة الجَهْر في الصَّلاة الجَهْريَّة، ويتأكَّد ذلك في حَقِّها - وهو مِن السُّنَّة - إنْ أمَّت النِّساء، أمَّا المُنفَرِدَة: فلا بأس بِجَهْرِها أو إسرارها.
قال: " إنْ لم يَسْمَعْها أجنبي ":
وهذا شَرْطُ الجَواز. وهذا مَبنيٌّ على القول بأنَّ صَوت المرأة عَوْرَة.
وصَوتُ المرأة فيه تَفْصيلٌ:
إنْ كان اسْتِمَاع الرَّجُل لِصوتها يُؤَدِّي إلى الفِتْنَة: فلا يجوز له الاستماع إليه، حتى وإنْ كان ذات الكُلام قولاً مَعْروفًا.
وكذلك الأمْر إنْ كان هذا الاستماع بلا ضَرورة ومَصْلَحة؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى الفِتْنَة. فلا يجوز للرَّجُل - مثلاً - أن يستمع لامرأة أجنبيَّة تقرأ القرآن، أو يَتَحَدَّث مَعها بحديث لا مصلحة فيه؛ لأنَّ هذا كُلَّه يؤَدِّي إلى الفِتْنَة.
أمَّا إنْ كانت هُناك مَصْلَحة للاستماع - كالبَيْع والشِّراء وطَلَب العِلْم عَليها(1) -: فيجوز - والحال هكذا - الاسْتِمَاع إلى صَوتِها.
والدَّليل على هذا التَّفصيل: قول الله - - عز وجل - - لنساء رسوله ?: ? فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) ? [ الأحزاب: 32 ]. فالآية تُفيد - بدلالة اللُزوم - أنَّه لا بأس بالاسْتِمَاع لِصَوتِ المرأة، بِشَرْط ألا تُلَيِّن هي القول ولا تخضع وتتكَسَّر به؛ لأنَّ هذا سيؤدي إلى افتِتَان الرَّجُل بِسَماع صَوتها.
وعلى كُلِّ حال؛ ينبغي للمسلم أن يكون حَذِرًا مُنْتَبِهًا، وألا يأتي مَواطِن الفِتْنَة؛ حتى لا يقع فيها - والعياذ بالله -، ويكون هو الجاني على نَفْسِه.
__________
(1) وكان الصحابة - - رضي الله عنهم - - يسألون نِساء الرسول ? عَمَّا يُشْكِلُ عليهم، وهذه سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ مِن أهْلِ العِلم مِن التَّابعين ومَن بعدهم، خاصَّة المُحَدِّثين؛ فكان لَهم مشايخ مِن النِّساء يقرأون عليهنَّ الحَديث، وهذا شىء مَعلوم ومَشهور. ( السعد ).(1/165)
هذا بالنِّسْبَة لِحُكْم الاستماع لِصَوت المرأة بالنسبة للرَّجُل.
أمَّا المرأة إذا خاطَبَت الرَّجُل الأجْنَبي عَنها - لِمَصْلَحة وضَرورة -: فَيَحْرُم عَلَيْها الخُضُوع بالقَول وتَليينه وتَكسيره؛ لأنَّ هذا يُؤَدِّي إلى فِتْنَة مَن يسمعها مِن الرِّجال؛ فيطمع الذي في قلبه مَرَض. وإنَّما الواجِب في حَقِّها: أن تقول قَولًا مَعْرُوفًا = أي وسطًا، لا خُضوعَ فيه ولا جَفَاء. قال الله - - عز وجل - - لنساء رسوله ?: ? فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) ? [ الأحزاب: 32 ].
قال: " والمُتَنَفِّل في الليل يُرَاعِي المَصْلَحَة ":
دَلَّت نُصوص السُّنَّة على جَواز الجَهْر والإسرار بِقراءة صَلاة الليل، وأنَّ الأمر فيها واسِعٌ. ولذا كان مِن المُسْتَحَبّ للمُتَنَفِّل بالليل مُراعاة المَصْلَحة في الجَهْر والإسْرار.
ومِن النُّصوص الوارِدَة بالجَهر فيها: ما ثَبَت في " صحيح مسلم "(1)، في قصة صلاة حُذَيْفَة - - رضي الله عنه - - مع الرسول ?، قال: " صَلَّيْتُ مع النبي ? ذاتَ ليلةٍ، فافْتَتَحَ البقرة، فقلتُ: يَرْكَع عِند المائة، ثُمَّ مَضَى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في رَكْعَة، فَمَضَى، فقلتُ: يَرْكَع بها، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّساء فقرأها، ثُمَّ افْتَتَحَ آل عِمران فقرأها... " الحَديث. فهذا يُفيد أنه ? جَهَرَ بقراءته.
وثَبَتَ(2) أنَّ أبا بكر الصديق - - رضي الله عنه - - كان يُسِرُّ بها، وأنَّ عُمَر - - رضي الله عنه - - كان يَجْهَر بها؛ فقال النبي ?: " يا أبا بكر ارْفَع مِن صَوتِك شيئًا "، وقال لِعُمَر: " اخْفِض مِن صَوتِك شيئًا ".
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) رواه أبو داود ( 1329 )، والترمذي ( 447 ) مُخْتَصَرًا. وفيه قِصَّة.(1/166)
وقوله: " يُراعي المصلحة ": كأن يكون الجَهْر أنشط له = فحينئذٍ يَجْهَر. وقد تكون المَصْلَحة في إسراره بالقراءة: كأن يكون بِجوارِه شَخْصٌ نائِم؛ لئلا يُوقِظَه بِجَهْرِه.
قال: " فإذا كان قريب منه مَن يتأذى بِجَهْرِه = أسَرَّ ":
ويتأكَّد على المُصَلِّي الإسرار إذا كان بِجوارِه أو قريب مِنه شَخْصٌ نائِم أو مَريض، إلا إذا رَغِبَ مَن بِجوارِه الاستماع لقراءته: فحينئذٍ يَجْهَر. ولذلك قال المُصَنِّف - رحمه الله -:
" وإن كان ممن يستمع له = جَهَر ".
ثم قال: " وإنْ أسَرَّ في جَهْرٍ وجَهَرَ في سِرٍّ = بَنَى على قِرَاءَتِه ":
مِن السُّنَّة الإسْرار بالقِراءَة في الصَّلاة السِّريَّة، والجَهْر بها في الصَّلاة الجَهْريَّة. فَمَن خَالَف ذلك - فأسَرَّ في الصَّلاة الجَهريَّة أو جَهَر في الصَّلاة السِّريَّة -: فقد خالف السُّنَّة. لكن الإسرار والجَهر ليسا واجِبَين؛ وقد جاء(1) عَن عُمر - - رضي الله عنه - - أنه أسَرَّ في صلاة جَهْريَّة فلم يَسْجُد للسَّهْو.
قال: " وترتيب الآيات واجب؛ لأنه بالنص، وترتيب السُّوَر بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء ":
اعْلَم أنَّ تَرتيب آيات القُرآن الكريم في السُّوَر - كما هي عليها الآن في المُصْحَف - واجِبٌ؛ لأنَّه توقيفيٌّ (2) مِن الرسول ?؛ لأنَّ السُّورَة لا تَخْلو إمَّا أن: تَنْزِل كامِلَة، أو تَنْزِل مِنها بَعْض آياتها. فإن نَزَلَت كامِلَة: فالأمر فيها واضِح؛ فسَتَنْزِل آياتها مُرَتَّبَة بنفسها، وأمَّا إن نَزَل بعضها: فكان الرسول ? يأمرهم ويقول: اجعلوا هذه الآيات في سورة كذا، وهذه الآيات في سورة كذا... (3). فلا يجوز للإنسان أن يُغَيِّر هذا التَّرتيب، أو يقرأ الآيات غير مُرَتَّبَة. ولا أعلم في ذلك خِلافًا(4).
__________
(1) ؟؟؟
(2) سبق بيان الإجماع على هذا: ص؟؟؟.
(3) سَبَق تخريجه: ص؟؟؟.
(4) سَبَق نَقل الإجماع على ذلك: ص؟؟؟.(1/167)
وإنَّما وَقَعَ الخِلاف بين أهْل العِلْم في تَرتيب السُّوَر(1): فَذَهَب بَعْضُهم - وهو قَول الجُمهور - إلى أنَّه: اجْتِهاد مِن الصحابة - - رضي الله عنهم - -، وقال آخَرون: هو تَوقيفيٌّ مِن الرسول ?.
وهذا الأخير هو الأقْرَب؛ وحديث أوس بن حذيفة الثقفي(2) - - رضي الله عنهم - - يُفيد ذلك؛ فقد سأل الصحابة - - رضي الله عنهم - -: كيف تُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: " ثلاث وخمس وسبع وتِسْع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحِزب المُفَصَّل ". وكان هذا على عَهْد النبي ?.
وسيأتي دَليل الجُمهور بعد قليل.
قال: " فتجوز قراءة هذه قبل هذه؛ ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها ":
اعْلَم أنَّه لا يجوز للقارىء أن يُقَدِّم في القِراءة آيات مِن سُورَة على آيات مِن نفس السُّورَة؛ لأنَّ هذا خِلاف تَرتيب القرآن، وخِلاف السُّنَّة، ولم يأتِ ما يُجيز هذا في السُّنَّة. فعلى الإنسان أن يَتَّبِع في هذا ما جاء عَن الرسول ? توقيفًا.
أمَّا تَقديم قراءة سُورَة على سُورَة قبلها في التَّرتيب: فلا بأس به؛ لأنَّ الرسول ? كان يفعله أحيانًا؛ كما ثَبَتَ في " صَحيح مُسْلِم "(3)، في قصة صلاة حُذَيفة - - رضي الله عنه - - مع الرسول ?، أنَّه ? قرأ بسُورة ( النساء ) قبل سورة ( آل عمران ).
__________
(1) راجع: " الإتقان في عُلوم القرآن " / للسيوطي: ( 1 / 170 )، " البُرهان في عُلوم القرآن " / للزرْكَشي: ( 1 / 257 )، و" مَناهل العِرفان " / للزرقاني: ( 1 / 244 )، و" تَفسير القرطبي ": ( 1 / 59 )، و" مَجموع الفتاوى ": ( 13 / 396 ).
(2) مضى تخريجه: ص؟؟؟.
(3) مضى تخريجه: ص؟؟؟.(1/168)
وقد اسْتَدَلَّ بَعْضُ أهْل العِلْم على جَواز ذلك: بأنَّ مَصاحِفَ الصحابة - - رضي الله عنهم - - تَنَوَّعَت وتَبايَنَت في تَرتيب السُّوَر(1)؛ فَدَلَّ هذا أنَّ ترتيبها ليس تَوقيفيًّا؛ فيجوز تَقديم بعضها على بعض في القراءة، مَهما كان تَرتيبها في المُصْحَف.
q q q q q
قال: " وكره أحمد قراءة حمزة والكسائي، والإدغام الكبير لأبي عمرو، ثم يرفع يديه كرفعه الأول بعد فراغه من القراءة وبعد أن يثبت قليلًا حتى يرجع إليه نفسه، ولا يصل قراءته بتكبير الركوع، ويكبر فيضع يديه مفرجتي الأصابع على ركبتيه ملقمًا كل يد ركبة ويمد ظهره مستويًا ويجعل رأسه حياله لا يرفعه ولا يخفضه لحديث عائشة ويجافي مرفقيه عن جنبيه لحديث أبي حميد، ويقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم لحديث حذيفة رواه مسلم، وأدنى الكمال ثلاث وأعلاه في حق الإمام عشر وكذا حكم سبحان ربي الأعلى في السجود، ولا يقرأ في الركوع والسجود لنهيه ? عن ذلك، ثم يرفع رأسه ويديه كرفعه الأول قائلًا إمام ومنفرد: " سمع الله لمن حمده " وجوبًا، ومعنى سمع استجاب، فإذا استتم قائمًا قال:
" ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد " وإن شاء: " زاد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " وله أن يقول غيره مما ورد. وإن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد بلا واو لوروده في حديث أبي سعيد وغيره ".
الشرح:
قال: " وكره أحمد قراءة حمزة، والكسائي، والإدغام الكبير لأبي عمرو ":
__________
(1) انظر: المراجِع السابِقَة.(1/169)
نُقِلَ(1) عَن جَمْعٍ مِن أهْل العِلْم كراهيتهم لِقراءة حَمزة بن حبيب الزَيَّات(2)؛ ومِنهم: الإمام أحمد بن حنبل(3)
__________
(1) راجع: " ميزان الاعتدال ": ( ترجمة رقم 2297 )، و" سير أعلام النبلاء ": ( 8 / 473، 7 / 91 )، " المُغني ": ( 1 / 292 ).
(2) قراءة حمزة - وباقي السَّبْعَة - هي مِن الآحاد، وليست مِن المُتَواتِر - كما هو مَشهور عِنَد كثير مِن القُرَّاء -. وقد ذَكَرَ ذلك الذهبي، والشوكاني، وصديق حسن خان.
والمقصود بهذه القراءات: هو قِراءَة بَعْض الكَلِمات على صِفَة مُعَيَّنَة، تختلف مِن قراءة لأُخْرَى.
أما القرآن الكريم فقد نُقِل إلينا - ولا شَكَّ في ذلك - نقلا مُتَواتِرًا، سواء كان ذلك بالحِفْظ والتَّلَقي، أو بالكتابَة. ( السعد )
(3) ذَكَرَ بَعْضُ القُرَّاء أنَّ الإمام أحمد لم يُنْكِر قراءة حَمزة لكونها قِراءة حَمزة؛ وإنَّما لأنَّه سَمِع شَخْصًا يَزْعُم أنَّه يقرأ بقراءة حمزة فلم يُتْقِنها ويُحْسِن قراءته = فَكَرِهها لذلك لِلَّهِ
وهذا ليس بِصَحيح؛ بل هو خطأ مَحْض؛ وإنكاره لقراءتها ثابِتٌ عَنه، وهو أجَلُّ مِن أن يتهم حَمزة لِعَدم إتقان شَخْصٍ لِقِراءَتِه لِلَّهِ مَعاذ الله أن يَفْعَل الإمامُ أحمد - رحمه الله - ذلك.
وليس كُلُّ مَن زَعَمَ أنَّه يقرأ بِقراءة فلان، أو حَدَّث حَديثًا عَن فلان، أو نَقل نَقْلاً عَن فلان = لا يعني هذا أنَّ هذا الفُلان قد قرأ تِلك القراءة، أو حَدَّث هذا الحَديث، أو قال ما رُوي عَنه؛ فقد يكون الخَطأ مِن هذا النَّاقِل نَفسه؛ فكيف يُتَّهَمُ به مَن نُقِل عَنه؟!
ولْنَضْرِب على هذا مِثالاً: قد يكون في إسنادِ حَديثٍ ما عددٌ مِن الرُّواة، تُكُلِّم في واحِدٍ مِنهم بِجَرْحٍ؛ فصار الحَديث ضَعيفًا لِضَعْفِ هذا الرَّاوي، ولا يُنْسَب كل الرُّواة للخَطأ في هذا الحَديث.
فهل يليق بالإمام أحمد - رحمه الله - أن يسمعَ إنسانًا لا يُحْسِن قراءة حمزة = فَيَتَّهِم حمزة؟! هذا ليس بصحيح.
ثم إنَّ الإمام أحمد لم يَتَفَرَّد بِكراهة هذه القِراءة؛ بل تابعه على ذلك كَثيرٌ مِن أهْل العِلم، كما سبق بيانه، ومِنهم بعض أقْران حمزة: كَحَمَّاد بن زيد؛ فقد أنكر عليه هذه القراءة. ( السعد )(1/170)
، وحماد بن زيد، وعبد الله بن إدريس، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم مِن أهل العلم(1) - رَحْمَة الله على الجميع -.
وينبغي علينا ألا نُسىء فَهْم هذه المسألة؛ فالإمام أحمد - رحمه الله - وغيره مِن أهْل العِلم لم يُنكِر قراءة حمزة والكسائي؛ وإنَّما كَرِهوا مِنها ما يتعلَّق بِنُطْق الحُرُوف ( التَّجويد )، والتَّكَلُّف فيها.
ومجموع ما نُقِلَ عَن الإمام أحمد - رحمه الله - يُفيد أنَّه كَرِه التَّكَلُّفَ الذي يكون في القراءة: كالإفراط في المَدِّ والإدْغَام والسَّكْت والهَمْز والاضجاع ( ومعناه: الإمالة )، ونحو ذلك. فهذه الأشياء تَتَّفِق أنَّ فيها تَكَلُّفًا؛ ولذلك كَرِهها أحمد(2).
قال الإمام ( ابن قدامة ) - رحمه الله -(3): " لم يَكْرَه الإمام أحمد قراءة أحد من العشرة إلا حمزة والكسائي؛ لِمَا فيهما مِن الكَسْر والإدْغام والتَّكَلُّف وزيادَة المَد " اهـ. وذَكَرَ ذلك - أيضًا - الذهبي، وعَلَّل كراهَة مَن كَرِهه بِذَلِك(4).
__________
(1) كيزيد بن هارون وسفيان بن عُيَيْنَة وأبي بكر بن عيَّاش وعبد الله بن إدريس الأوْدي. انظر أقوالهم في: " ميزان الاعتدال ": ( ترجمة رقم 2297 )، و" سير أعلام النبلاء ": ( 8 / 473، 7 / 91 ).
(2) قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " قال أبي: أكره مِن قراءة حمزة الهَمز الشديد والاضجاع " اهـ نقلاً عَن " معرفة القراء الكِبار " / للذهبي: ( 1 / 116 ).
(3) في " المُغني ": ( 1 / 292 ).
(4) راجع: " ميزان الاعتدال ": ( ترجمة رقم 2297 )، و" سير أعلام النبلاء ": ( 8 / 473، 7 / 91 ).(1/171)
ولا شَكَّ أن المُبالَغَة والتَّكَلُّف في مِثل هذا مَكروهٌ، ومِن المعلوم أن السَّلف كانوا يكرهون التكلف؛ كما قال عُمَر بن الخطاب - - رضي الله عنه - -: " نُهينَا عَن التَّكَلُّف "(1)، وكانوا - - رضي الله عنهم - - يَكْرَهون التَّقَعُّر في السؤال والتكلف في المسائل؛ ولذلك كانوا يَذُمُّون أسئلة أهل العِرَاق(2)؛ لِمَا فيها من التكلف والمبالغة في ذلك.
وقد قال الذهبي(3) - رحمه الله تعالى -: " بلغنا أن رَجُلاً قال له [ يعني لحمزة ]: رأيتُ رَجُلاً مِن أصحابك هَمَزَ حتى انقطع زره لِلَّهِ فقال: لم آمرهم بهذا كله " اهـ.
وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في كتابه " تلبيس إبليس "(4) مِن جُمْلَة تلبيس الشيطان على القُرَّاء: المبالغة في نُطْق الحُروف والتَّقَعُّر والتَّكَلُّف في إخْراجها، ونحو ذلك.
ولم يأتِ الشَّرْعُ بالمُبالَغَة، وحاشاه مِن ذلك؛ فقد أمَرَنا رَبُّنا - عز وجل - بترتيل القرآن الكريم وتَدَبُّره؛ فقال ? وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) ? [ المزمل: 4 ]، وقال ? أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) ? [ محمد: 24 ]؛ والأمر بالتَّدَبُّر يُنافي المُبالَغَة والتَّقَعُّر في قِراءَتِه؛ لأنَّ القارىء إذا انشغل بالمُبالَغَة في نُطْقِ الحُروف وتَطبيق أحكام التَّجويد = فَسَيُشْغِله هذا - ولا بُدَّ - عَن تَدَبُّر القرآن ومعرفة معانيه واستنباط أحْكامِه.
__________
(1) رواه البخاري ( 7293 ).
(2) جاء ذلك في عِدَّة وَقائِع؛ مِنها: مَا رواه البخاري ( 3753 )، ومسلم ( 1235، 2905 ).
(3) في " سير أعلام النُّبَلاء ": ( 7 / 91 ).
(4) " تلبيس إبليس ": ( ص 140 ). ونقله عنه ابن القيم في " إغاثة اللهفان مِن مَصايد الشَّيْطان ": ( 1 / 160 ). وراجع كلامًا مهمًا لشيخ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - في " مجموع فتاواه ": ( 16 / 50 ).(1/172)
وقد أنْكَر الرسول ? على الصَّحابة ما وَقَعَ بينهم مِن اختلاف في الأحْرُف؛ كما في قصة عُمَر بن الخطاب وهِشام بن حَكِيم بن حِزَام - رضي الله عنهما -(1)، وكما في قصة أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنه - - أيضًا -(2).
قال: " والإدغام الكَبير لأبي عمرو ":
" الإدْغَام " - لغة - هو: إدخال شىء في شىء.
وأما في الاصطلاح فهو: فهو النُّطْق بالحَرْفَيْن حَرْفًا وَاحِدًا كالثاني مُشَدَّدًا.
مِثال ذلك: قوله - تعالى - ? مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) ? [ المُدَّثِّر: 42 ]: فالإدْغَام - هنا -: إدْخال ( الكاف ) الأُولَى في الثانية؛ فَتُقْرأ ? مَا سَلَكُّم في سَقَر ?.
والإدغام نَوعان: كبير وصَغير:
فالإدْغَام الكبير: أن يكون الحرفان المُدْغَمان مُتَحَرِّكان.
والإدْغَام الصغير: أن يكون الحَرْفُ الأوَّل سَاكِنًا والثاني مُتَحَرِّكًا.
وكَرِه(3) الإمام أحمد وغَيرُه مِن السَّلَف - رَحِمَهم الله - الإدْغَام؛ لأنَّ فيه زيادة تَكَلُّف. فمثلًا: ? مَا سَلَكُّم... ? فيها نَوعٌ مِنَ التَّكَلُّف، وإذا قرأها القارىء بدون إدْغام ? مَا سَلَكَكُم... ?: فهذا أسْهَلُ عليه وأبْعَد عَن التَّكَلُّف.
ولذلك لَمَّا سُئِل الكَسائي(4): هَلْ لك في الهَمْزِ والإدْغام إمَامٌ ؟ فقال: " نَعَم؛ حَمْزَة كان يهز ويَكْسِر، وهو إمامٌ، لو رأيتَه لَقَرَّت عينُك مِن نُسكه ". فكأنَّ السَّائِل يُنْكِرُ عليه هذا الأمر غير المَعْروف.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فقد نُسِبَ هذا الإدْغَام الكبير لأبي عمرو؛ قيل لاهتمامه به، ولإقْرَائه بالإدْغَام.
__________
(1) روى القصة: البخاري في عِدَّة مواضِع؛ مِنها: ( 2419، 4992 )، ومسلم ( 818 ).
(2) روى قصته: مسلم ( 820 )، والنسائي ( 940 )، وغيرهما.
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 292 ).
(4) راجع: " سير أعلام النُّبلاء ": ( 7 / 90 )، و" معرفة القراء الكِبار " / للذهبي: ( 1 / 116 ).(1/173)
وهو(1): أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري، مِن صِغَار التابعين. وُلد نَحْو سنة سبعين، وتُوفي عام أربعة وخمسين ومائة. وهو إمام ثِقَةٌ جَليل، كان مِن كِبَار العلماء في زَمَنِه.
قال: " ثم يرفع يديه كَرَفْعِه الأوَّل... ":
تَقَدَّم(2) أن رَفْع اليَدَين عِند التَّكبير للصَّلاة مِن السُّنَّة. ويَجوز له رَفْعهما إمَّا: إلى حَذْو مَنْكِبَيْه، أو إلى حَذْو أُذُنَيْه.
وتَقَدَّم(3) - أيضًا - أنَّه يُشْرَع رَفْع اليَدَين في أربَعَة مواضِع: عِندَ تكبيرة الإحرام، وعِندَ التَّكبير للرُّكوع، وعِندَ الرَّفْعِ مِنه، وعِندَ القيام مِن التَّشَهُّد الأوَّل إلى الرَّكْعَة الثالِثَة.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فالمُصَلِّي مُخَيَّرٌ في كُلِّ هذه المواضِع في رَفْع يَدَيْه إمَّا: إلى حَذْو مَنْكِبَيه، أو حَذْو أُذُنَيْه؛ فَكُلٌّ ثَبَتت به السُّنَّة.
…قال: "... بعد فراغه من القراءة، وبعد أن يَثْبُت قليلًا حتى يرجع إليه نَفَسُه ".
يُسَنُّ للمُصَلِّي بعد فَراغِه مِن القِراءَة وتَهَيُّئه للرُّكوع: أن يَسْكُتَ سَكْتَة لَطيفة حتى يَتَرادَّ إليه النَّفَسُ(4)؛ لِئلا يَصِلَ القِراءَة بغيرها مِن سُنَن الصَّلاة ( كالتَّكبير للرُّكوع )، ثُمَّ يَرْفَعَ يَدَيْه ويُكَبِّر ويَرْكَع.
وقد تَقَدَّم(5) لنا أن هناك ثلاث سكتات في الصَّلاة، دَلَّت عليها عُموم النُّصوص:
الأولى: بَعْدَ تكبيرة الإحرام، يَسْكُت حتى يقرأ دُعاء الاستفتاح.
__________
(1) راجع: " سير أعلام النُّبلاء ": ( 5 / 407 )، و" معرفة القراء الكِبار " / للذهبي: ( 1 / 100 ).
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) روى ذلك الترمذي ( 251 )، وابن ماجه ( 844 ) بإسنادِه إلى سَعيد بن أبي عَرْوبَة قال: " وكان يُعْجِبُهم إذا فرغ من القراءة أن يَسْكُتَ حتى يَتَرادَّ إليه نَفَسُه " اهـ، رواه في آخر حَديث سَمُرَة بن جُنْدَب - - رضي الله عنه --، المُتَقَدِّم: ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.(1/174)
الثانية: بعد قراءة الفاتحة، يَسْكُت قليلاً.
الثالثة: بَعْد فَراغِه مِن القِراءة وتَهَيُّئه للرُّكوع.
ولذلك قال المُصَنِّف - رحمه الله -:
قال: " ولا يَصِل قراءته بتكبير الركوع ":
أمَّا وَقْت التَّكبير للرُّكوع وانتهاءه:
فيبدأ المُصَلِّي التَّكبير في بِداية شُروعه في الرُّكوع، وينتهي مِن التَّكبير بِتَمام رُكوعِه.
والدليل على هذا: مَا ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، مِن حديث الزُّهْرِي عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان يُكَبِّر حين يَرْكَع... وحين يَرْفَع رأسَه... وحين يَسْجُد ".
فقوله: " حين يَرْكَع... وحين يَرْفَع رأسَه... وحين يَسْجُد ": يعني: أنَّه عِندَما يَشْرُع في الرُّكُوع يُكَبِّر، وعِندَما يَشْرُع في الهَوي للسُّجُود يُكَبِّر، وعِندَما يَشْرُع في الرَّفْع مِن السُّجُود يُكَبِّر... وهكذا في باقي الصَّلاة.
ولَفظ الحَديث " حين يَرْكَع... "، ولم يَقُل " إذا رَكَع... "؛ فَدَلَّ على ما فَصَّلناه.
فيكون بداية تَكبيره عِندَ شُروعه في الرُّكوع، فإذا رَكَعَ يكون قد انتهى مِن تَكبيره. ونَفس الأمر في السُّجود: يبدأ التَّكبير عِندَ شُروعه في الهَوي للسُّجود، فإذا وَصَل إلى مكان سُجودِه يكون قد انتهى مِن تَكبيره... وهكذا في باقي الصَّلاة.
قال: " ويُكَبِّر فيضع يديه مُفَرَّجَتَي الأصابع على رُكْبَتَيه ":
يُسَنُّ للرَّاكِع أن يَضَعَ يَدَيْه على رُكْبَتَيْه مُفَرَّجَتَي الأصابِع، كأنَّه قابِضٌ عليهما.
__________
(1) برَقَمَي: ( 789، 803 )، ومسلم ( 392 ). ورَوى الترمذي بعضه ( 254 ).(1/175)
والدَّليل على ذلك: ما ثَبَتَ في حَديث العَبَّاس السَّاعِدِي عن أبي حُمَيد السَّاعِدِي أن الرسول ? " رَكَعَ فوَضَعَ يَدَيْه على رُكْبَتَيْه كأنه قابض عليهما، وَوَتَّر يَدَيه فَنَحَّاهما عَن جَنبَيْه ". [ رواه الترمذي وابن خُزَيْمَة وغيرهما، وأصله في البخاري(1) ].
وجاء(2) في حديث عَاصم بن كُلَيْب عن عَلْقَمة بن وائِل عن أبيه وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - - قال: " كان رسول الله ? إذا رَكَعَ فَرَّج أصابِعَه، وإذا سَجَدَ ضَمَّ أصابِعَه ".
قال: " مُلْقِمًا كُلَّ يد رُكْبَة ".
يعني أنَّه يَضَع اليد اليُمْنَى على الرُّكْبَة اليُمْنَى، واليد اليُسْرَى على الرُّكْبَة اليُسْرَى.
قال: " ويَمُد ظهره مستويًا، ويجعل رأسه حِيالَه = لا يرفعه ولا يخفضه؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها -":
أمَّا حَديث عائشة - رضي الله عنها -: فقد رواه مسلم(3)، مِن حديث بُدَيْل عن أبي الجَوزَاء عَنها أن الرسول ? " كان إذا رَكَعَ لم يُشْخِص رأسه ولم يُصَوِّبْه، ولكن بَيْنَ ذلك ".
__________
(1) رواه الترمذي ( 260 )، وأبو داود ( 730 )، والدارمي ( 1307 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 298 )، وأصله في البُخاري ( 828 ).
(2) رواه الحاكم ( 1 / 346 ) مِن طريق عمرو بن عون عَن هُشيم عن عاصم به.
ورواه ابن خزيمة ( 1 / 301 )، وابن حِبان ( 5 / 247 )، والدارقطني ( 1 / 339 )، والبيهقي ( 2 / 112 )، والطبراني في " الكبير ": ( 22 / 19 )، كُلُّهم مِن طريق ابن الخازن عَن هُشَيم عَن عاصم به. وهو بهذا الإسناد لا يَصِحُّ؛ وسيأتي بيان عِلَّته: ص؟؟؟.
(3) برقم ( 498 )، ورواه أبو داود ( 783 ).(1/176)
وجاء أيضًا هذا المعنى في حديث أبي حميد الساعدي - - رضي الله عنه - - (1)؛ فقال: " رَكَعَ، ثُمَّ اعْتَدَل؛ فلم يُصَوِّب رأسَه ولم يُقْنِع، وَوَضَعَ يَدَيه على رُكْبَتيه ".
ومعنى " فلم يُصَوِّب رأسه ولم يُقْنِع ": أي: لم يرفعه ولم يُنْزِله؛ وإنَّمَا ساوَى ظهره مع رأسه.
فيُسَنُّ للمُسْلِم ذلك في رُكوعِه. ويُلاحَظ على كثيرٍ مِن المُصَلِّين أنه إذا رَكَعَ إما أن يخفض رأسه عن ظَهْره، وإما أن يرفع رأسه على ظَهْره. وهذا خِلاف السُّنَّة؛ فالسُّنَّة - كما تَقَدَّم - أن يتساوى الرأس مع الظَّهْر.
قال: " ويُجافي مِرْفَقَيْه عن جنبيه؛ لحديث أبي حميد - - رضي الله عنه - - ":
تَقَدَّم - قبل قليل - حَديث أبي حُمَيْد الساعدي - - رضي الله عنه - -، وفيه أن الرسول ? " وَتَّر يَدَيه فَنَحَّاهما عَن جَنبَيْه " في الرُّكوع.
قال: " ويقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم؛ لحديث حذيفة، رواه مسلم ":
يُشير المُصَنِّف - رحمه الله - إلى ما رواه مُسْلِم(2)، مِن حَديث المُسْتَوْرِد عن صِلَة بن زُفَر عن حُذَيْفَة - - رضي الله عنه - - في قِصَّة صَلاته مع الرسول ?، أنَّه ? "... رَكَع، فَجَعلَ يقول: سُبْحانَ رَبِّيَ العَظيم ".
__________
(1) رواه الترمذي - واللفظ له - ( 304 )، وأبو داود ( 730 )، والنسائي ( 1039 )، وابن ماجه ( 1061 )، والدارمي ( 1307، 1356 ).
(2) برقم ( 772 )، ورواه الترمذي ( 262 )، وأبو داود ( 871 )، والنسائي ( 1008، 1664 ).(1/177)
ورُويَت (1) في هذا الذِّكْر زيادَة: " وبحمده ". واخْتَلَف أهْلُ العِلْم فيها: فَمِنهم مَن قَوَّاها(2)؛ لأنَّها جاءت مِن طُرُق. ومِنهم مَن ضَعَّفها(3) - كالإمام أحمد(4) وابن الصلاح -.
وهذا الأخير هو الأقْرَب، فَكُلُّ طُرُق الحَديث ضَعيفَة، ولا يَتَقَوَّى الحَديثُ بِمجموعها.
فالصَّحيح والأوْلَى الاقتصار على ما صَحَّ؛ وهو قول: " سُبْحَان ربي العظيم ".
قال: " وأدْنَى الكَمال ثلاث، وأعلاه في حَقِّ الإمام عَشْر ":
اخْتَلَف أهْل العِلْم(5) في حُكْم التَّسبيح في الرُّكوع والسُّجود ( سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعْلَى ): فَمِنهم مَن ذَهَب إلى اسْتِحْبابه وعَدَم وُجوبِه، ومِنهم مَن أوْجَبَه.
وهذا القول الأخير هو الأقْرَب؛ والأدِلَّة على ذلك كثيرة؛ نَذْكُر مِنها:
__________
(1) رواه أبو داود ( 869، 885)، وأحمد ( 4 / 57، 5 / 343، 271 )، والدارقطني ( 1 / 341 )، والبزار في " مُسْنَدِه " ( 7 / 322 )، والبيهقي ( 2 / 86 ).
(2) كابن حِبَّان؛ فقد رواه في " صَحيحه ": ( 6 / 329، 330 - " إحسان " )، مِن طريقين، وذَكَر أنَّ الرَّاوي لم يَتَفَرَّد بها.
(3) وقال أبو داود عَقب تَخريجه لها: " وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون مَحْفوظَة " اهـ.
(4) راجع: " المغني ": ( 1 / 297 )، وفيه أنَّه رُويَت عَنه في ذلك رِوايتان.
(5) راجع: " المغني ": ( 1 / 297 )، و" المجموع ": ( 3 / 414 ).(1/178)
1ـ ما رواه أبو داود والحاكم وغيرهما(1)، من حديث مُوسى بن أيُّوب عن عَمِّه عن عُقبة بن عَامِر - - رضي الله عنه - - قال: " لَمَّا نَزَلت ? فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) ? [ الواقعة: 74 ]؛ قال رسول الله ?: اجعلوها في رُكوعكم، فَلَمَّا نَزَلت ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ? [ الأعلى: 1 ]؛ قال ?: اجْعَلُوها في سُجُودِكم ".
وهذا أمر يُفيد الوُجوب.
2ـ دَاوم الرَّسول ? علىها؛ وقد قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "(2).
فالأقْرَب - لهذَين الدَّليلَين وغيرهما -: هو وُجوبُ التَّسبيح بـ: ( سبحان ربي العظيم ) في الرُّكُوع، والتَّسبيح بـ: ( سبحان ربي الأعْلَى ) في السُّجُود.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فأقَلُّ ما يُجزىء مِن هذا الواجب: هو أن يقولَه مَرَّة واحدة.
وينبغي التَّنبيه على وُجوب مُراعاة قَول هذه الأذْكار في مَواطِنها باطْمِئْنان:
ففي الرُّكوع - مثلاً -: لا بُدَّ أن يَرْكَع المُصَلِّي، وبعد اطْمئِنانِه في الرُّكوع يقول: سُبحان ربي العَظيم.
ويُلاحَظ على كَثيرٍ مِنَ المُصَلِّين أنَّه يُكَبِّر للرُّكوع بِتَعَجُّل، أو يَرْكَع قبل تَكبيرِه، أو يُسَبِّح حين شُروعه في الرُّكوع وقبل أن يَصِل إلى مَوضِعه، وعِندَ تَمام رُكوعِه يكون قد انتهى مِن التَّسبيح لِلَّهِ ويَرْفَع رأسه ولم يطمئن في رُكُوعه.
ويُلاحَظ على كَثيرٍ مِنهم - أيضًا - أنَّه يبدأ تَسبيح السُّجود قبل أن يَصِلَ إلى موضِع سُجُودِه، وعِند تَمام سُجوده يكون قد انتهى مِن التَّسبيح لِلَّهِ ويَرْفَع رأسه ولم يطمئن في سُجُوده.
__________
(1) رواه أبو داود ( 869 )، وابن ماجه ( 887 )، وأحمد ( 4 / 155 )، وابن حِبَّان ( 5 / 225 - " إحسان "، والحاكم ( 1 / 347 ، 2 / 519 )، وغيرهم.
(2) سبق تخريجه:؟؟؟.(1/179)
وتَجِد بعضُ المأمومين إذا رَكَع الإمام - وهو لم ينتَهِ بَعْدُ مِن قِراءة الفاتِحَة -؛ فيخفِض رأسه ويَحني ظَهْرَه وهو لا يزال يقرأ الفاتِحَة لِلَّهِ
فَكُلُّ هذه أخطاء، قد لا تَصِحُّ الصَّلاة بسببها؛ لأنَّه لم يطمئن في هذه الأرْكان.
قال: " وأدْنَى الكَمَال ثلاث ":
اسْتَحَبَّ(1) جَمْعٌ مِن السَّلَف أن يكون التَّسبيح ثلاثًا؛ وقالوا: هذا أدْنَى الكَمال. وهذا ظَاهِرٌ؛ لأنَّ أقل شَىءٍ في الكَمَال والطمأنينة والخُشوع يكون ثلاثًا.
قال: " وأعلاه في حَق الإمام عَشْر ":
قَيَّد المُصَنِّف - رحمه الله - ذلك بالإمام؛ لأن المُنفَرِّد له أن يُسَبِّح ما شاء الله له أن يُسَبِّح؛ فقد ثَبَتَ في حديث حذيفة - - رضي الله عنه - -(2) أنَّ الرسول ? قرأ بالبقرة والنِّسَاء وآل عِمْرَان، ثُمَّ رَكَعَ " فكان رُكوعه نَحْوًا مِن قِيامه، ثم قال: سَمِع الله لِمَن حَمِدَه، ثُمَّ قام طويلًا قريبًا مِمَّا رَكَع... " إلخ الصلاة.
فكان ? يُطيل في صلاتِه وَحْدَه، في قيامِه ورُكوعِه وسُجوده، ولا شَكَّ أنه ? كان - في رُكوعِه وسُجودِه - يُكَرِّر هذه الأذكار عِدَّة مرات.
__________
(1) كابن مسعود وعلي وأبي هريرة والحَسَن ومحمد بن كعب والزُّهري وطاووس وغيرهم، وبه أخذ الشافعي وأحمد. راجع أقوالهم في: " مُصَنَّف ابن أبي شيبة ": ( 1 / 225 )، و" مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 2 / 161 )، وراجع - أيضًا -: " المغني ": ( 1 / 296 )، و" المجموع " ( 3 / 411 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/180)
وأمَّا دليل المسألة ( تَسبيح الإمام عشر تسبيحات ): فهو ما رواه أبو داود(1)، من حديث وهب بن مأنوس عن سَعيد بن جُبَيْر عن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - قال: " ما صَلَّيْتُ وراءَ أحَدٍ بعد رسول الله ? أشبه صلاةً برسول الله - ? - مِن هذا الفتى - يعني: عُمَر بن عَبْد العَزيز - ". قال: فَحَزَرْنَا في رُكوعه عَشْر تَسبيحات، وفي سُجوده عَشر تَسبيحات ".
إلا أنَّ هذا الحديث فيه ضَعْفٌ؛ لِحال وَهْب بن مأنوس؛ فهو مَجْهولٌ لا يُعْرَف.
وعليه؛ فليس هُناك حَدٌّ ينتهي إليه الإمامُ في تَسبيحات الرُّكوع والسُّجود، إلا أنَّه ينبغي له ألا يَشُقَّ على المأمومين. فلو كَرَّر التَّسبيح ثلاثًا أو أربعًا أو خَمسًا: فهذا كُلُّه حَسَنٌ جائِزٌ.
قال: " وكذا حُكْم سبحان ربي الأعلى في السجود ":
يَعْني أنَّ قول: ( سبحان ربي الأعْلَى ) في السُّجود واجِبٌ(2). وما قيل في الرُّكوع - هناك - يُقال في السُّجود - هُنا -: فأقل الواجِب: مَرَّة واحِدَة، وأدْنى الكمال ثلاث، وإنْ زاد فهذا أحسن، وإنْ كان إمامًا راعَى أحوال مَأمُومِيه.
قال: " ولا يقرأ في الركوع والسجود؛ لنهيه ? عن ذلك ":
__________
(1) برقم ( 888 )، ورواه النسائي ( 1135 ) - أيضًا -، وأحمد ( 3 / 162 ).
(2) ويُسْتَدَلُّ على وُجوبه بِنفس ما اسْتُدِلَّ به على وجوب تَسبيح الرُّكوع؛ فراجعه هُناك ( ص؟؟؟ ).(1/181)
ثَبَتَ هذا النَّهي في " صحيح مسلم"(1) ، من حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن الرسول ? قال: " ألا وإنِّي نُهيتُ أن أقْرأ القُرَآن رَاكِعًا أو سَاجِدًا: فأمَّا الرُّكُوع فَعَظِّمُوا فيه الرَّب - عز وجل -، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهِدُوا في الدُّعاء؛ فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَابَ لَكُم ". وثَبَتَ(2) - أيضًا - مِن حديث علي - - رضي الله عنه - - أنه قال: " نهاني رسول الله ? عَن قراءة القرآن، وأنا راكِعٌ أو ساجِدٌ ".
فيَحْرُم على المُصَلِّي أن يقرأ القُرآن في حال رُكوعِه وسُجودِه؛ لِنَهي النَّبي ? عَن ذلك، والنَّهي يُفيد التحريم إلا لدليل وصَارِف، ولا أعلم دليلًا يَصْرِف هذا النهي مِن كَرَاهَة التَّحْرِيم إلى كَرَاهَة التَّنزيه.
ويُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي أن يأتي - مَع التَّسبيح - ببعض الأذْكار الأُخْرى الوارِدَة؛ ومِنها:
( 1 ) مَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(3)، مِن حديث عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - قالت: " كان النبي ? يُكْثِر أن يقولَ في رُكُوعِه وسُجُوده: سبحانك اللهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمدِك؛ اللهُمَّ اغْفِر لي؛ يتأوَّل القرآن ".
( 2 ) وفي " صحيح مسلم "(4)، من حديث مُطَرِّف عن عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - أن الرسول ? " كان يقول في رُكوعِه وسُجودِه: سُبُّوح قُدُّوس رَبُّ الملائكة والرُّوح ".
وغيرها مِن الأذْكار.
قال: " ثم يرفع رأسه ويديه كرفعه الأول ":
تَقَدَّم(5) أن هذا هو المَوطِن الثالث مِنَ المواطن التي تُرْفَع فيها اليَدَين في الصَّلاة.
قال: " قائلًا إمامًا ومُنفَرِدًا: سمع الله لمن حمده وجوبًا ":
__________
(1) برقم ( 479 )، ورواه النسائي ( 1045 ).
(2) رواه مسلم ( 480 )، والترمذي ( 1737 )، وأبو داود ( 4044 )، والنسائي (1119 ).
(3) رواه البخاري ( 817، 794 ، 4293، 4968 )، ومسلم ( 484 ).
(4) برقم ( 487 )، ورواه أبو داود ( 872 )، والنسائي ( 1134 ).
(5) ص؟؟؟.(1/182)
يُشْرَع - بل يَجِبُ - للإمام والمُنفَرِد أن يقول: سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه حينما يَرْفَع مِن رُكوعِه. فإن استَتَم قائِمًا قال ( والمأموم أيضًا ): " رَبَّنا ولك الحَمْد "؛ كما ثَبَتَ هذا في حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -، المُخَرَّج عِندَ البخاري وغيره(1).
قال: " وُجُوبًا ":
الدَّليل على وُجوب هذا الذِّكْر على الإمام والمُنفَرِد هو مُداوَمَة الرسول ? عليه؛ وقد قال ?: " صلوا كما رأيتموني أصلي "(2).
قال: " ومعنى سمع: اسْتَجَاب " (3):
السَّمْع على قِسْمَيْن:
1ـ سَماع استجابة: كقول المُصَلِّي: " سمع الله لمن حمده "؛ يعني: استجاب اللهُ لِمَن حمده.
2ـ سماع لا يَلْزَم منه الإجابة: فالله - - عز وجل - - يَسْمَع عِبَادَه، وهو معهم بِعِلْمِه؛ كما قال - جَلَّ وعَلا - ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [ الحديد: 4 ].
قال: " فإذا استتم قائمًا قال: " ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئتَ مِن شىءٍ بعد(4) "، وإن شاء زاد(5): " أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ":
تَقَدَّم - قبل قليل - ( كما في حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - ) أنه إذا انتصب قائمًا أتَى بالذِّكْر الذي ذكره المُصَنِّف: " ربنا ولك الحمد ".
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) في بعض نسخ المتن: " ومعنى استمع: استحباب "، وفي بعضها ما أثبتناه، وهذا أقْرَب، والله أعْلَم. ( السعد ).
(4) رواه مسلم ( 476 )، وأبو داود ( 846 )، وابن ماجه ( 878 ).
(5) رواه - بهذه الزيادة -: مسلم ( 477، 478 )، وأبو داود ( 847 )، والنسائي ( 1068 ).(1/183)
وهذا هو الواجب المُجزىء(1) مِمَّا ذَكَرَه المُصَنِّف؛ فإمَّا أن يقول: " رَبَّنا ولك الحمد "، أو: " ربنا لك الحمد ". وإنْ زاد - كما جاء في السُّنَّة -: فهذا حسَنٌ مُسْتَحَبٌّ.
قال: " وله أن يقول غيره مما وَرَدَ ":
وهذا هو الأكْمَل للمُصَلِّي. فيُسْتَحَبُّ للإنسان أن يأتي بِكُلِّ ما جاء عن الرسول ?؛ فيقول هذا مَرَّة، وذاك مَرَّة. وإنْ اقْتَصَرَ على بعضها: فهذا - أيضًا - حَسَنٌ.
قال: " وإنْ شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، بلا واو؛ لوروده في حديث أبي سعيد - - رضي الله عنه - - وغيره ":
ثَبَتَ في " صحيح البخاري " أربعة ألْفاظٍ، يُخَيَّر المُسْلِم بينها، والأكْمَل أن يأتي بهذا مَرَّة، وذاك مَرَّة. وهذه الصِّيَغ هي:
1ـ اللهم ربنا لك الحمد(2).
2ـ اللهم ربنا ولك الحمد ( بزيادة واو )(3).
3ـ ربنا لك الحمد(4).
4ـ ربنا ولك الحمد ( بزيادة واو )(5).
q q q q q
قال: " فإن أدرك المأموم الإمام في هذا الركوع فهو مدرك للركعة ثم يكبر ويخر ساجدًا ولا يرفع يديه فيضع ركبتيه ثم يديه ثم وجهه ويمكن جهته وأنفه وراحتيه من الأرض ويكون على أطراف أصابع رجليه موجهًا أطرافها إلى القبلة، والسجود على هذه الأعضاء السبعة ركن، ويستحب مباشرة المصلي ببطون كفيه وضم أصابعهما موجهة إلى القبلة غير مقبوضة رافعًا مرفقيه.
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 300 )، و" المجموع ": ( 3 / 419 )
(2) رواه البخاري ( 796، 3228 )، ومسلم ( 409، 476 ).
(3) رواه البخاري ( 795، 7346 ).
(4) رواه البخاري (722، 733 )، ومسلم ( 477، 772 ).
(5) رواه البخاري ( 734، 735، 689، 732، 1046 )، ومسلم ( 392، 411 ).(1/184)
وتكره الصلاة في مكان شديد الحر أو شديد البرد لأنه يذهب الخشوع، ويسن للساجد أن يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه ويضع يديه حذو منكبيه ويفرق بين ركبتيه ورجليه. ثم يرفع رأسه مكبرًا ويجلس مفترشًا يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويخرجها من تحته ويجعل بطون أصابعها إلى الأرض لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي ? باسطًا يديه على فخديه مضموضة الأصابع ويقول: " رب اغفر لي " ولا بأس بالزيادة لقول ابن عباس كان النبي ? يقول بين السجدتين: " رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني " رواه أبو داود، ثم يسجد للثانية كالأولى وإن شاء دعا فيه لقوله ?: " وأما السجود فاكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم " رواه مسلم، وله عن أبي هريرة أن رسول الله ? كان يقول في سجوده: " اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره " ثم يرفع رأسه مكبرًا قائمًا على صدور قدميه معتمدًا على ركبتيه لحديث وائل، إلا أن يشق لكبر أو مرض أو ضعف، ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح ولو لم يأت به في الأولى ".
الشرح:
قال: " فإنْ أدرك المأمومُ الإمامَ في هذا الرُّكوع فهو مُدْرِكٌ للركعة ".
اخْتَلَف العُلماء - رحمهم الله تعالى - في مسألة: إدْراك الرَّكْعَة بالرُّكوع(1) ( بِمَ تُدْرَك الرَّكْعَة؟ ) ، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تُدْرَك الركعة بِقراءَة المأموم للفاتِحَة كامِلَةً، ثُمَّ رُكوعه مَع إمامه. وهذا ما ذهب إليه ابن المَديني والبخاري(2).
القول الثاني: تُدْرَك الركعة بأن يَجِدَ الإمام قائمًا. ولعل هذا أحد الأقوال التي قيلت في المسألة.
__________
(1) راجع: "المغني ": ( 2 / 35 )، و" المجموع ": ( 4 / 215 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 109 ).
(2) راجع جُزءَه: " القِراءة خَلف الإمام ": ( ص 58 ).(1/185)
القول الثالث: تُدْرَك الرَّكْعَة بإدْرَاك الرُّكُوع(1).
وهذا الأخير هو الصَّحيح مِن هذه الأقوال؛ لِمَا ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(2)، من حديث الحَسَن عن أبي بَكْرَة الثقفي - - رضي الله عنه - - أنه انتهى إلى النبي ? وهو راكِع، فَرَكَعَ قبل أن يَصِلَ إلى الصَّف، فَذَكَر ذلك للنبي ?؛ فقال: " زادَك الله حِرْصًا ولا تَعُد ".
ومعنى " لا تَعُد "(3): يعني: لا تَعُد إلى المُبالَغَة في الإسْراع؛ لأنَّ الرسول ? نهى عن هذا(4).
ولا يَصِحُّ حَمْل قوله ? " لا تَعُد " على مَعنى: لا تَعُدَّ نَفْسَك مُدْرِكًا للرَّكْعَة بإدْراك الرُّكُوع لِلَّهِ لأنَّه لو صَحَّ حَمله على هذا المعنى = لأمره النبي ? أن يأتي بِرَكْعَة؛ فَلَمَّا لم يأمره ? بذلك = دَلَّ هذا على أنَّه قَدْ أدْرَك الرَّكْعَة بالرُّكُوع.
قال: " ثم يُكَبِّر ويَخِرُّ ساجدًا ولا يرفع يديه ":
تَقدَّم(5) أن هذا المَوطِن ليس مِن المواطِن التي تُرفَع فيها اليَدان؛ بل قد ثَبَتَ(6) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن الرسول ? كان لا يرفع يديه في السجود.
قال: " فيضع رُكْبَتَيْه ثم يَدَيْه ثم وَجْهَه ":
__________
(1) وهو قول جُمهور العُلماء. نَقله عَنهم: ابن عبد البر في " التمهيد ": ( 7 / 73 )، وابن رجب في " الفتح ": ( 7 / 109 )، والنووي في " المجموع ": ( 4 / 215 ). رَحِمَ اللهُ الجَميع.
(2) برقم ( 783 )، ورواه أبو داود ( 683، 684 )، والنسائي ( 871 ).
(3) راجع الخلاف فيه في: " المجموع ": ( 4 / 297 )، و" فَتح الباري " / لابن حَجَر: " 2 / 268 ".
(4) وقد سَبَق بيان هذا في أول آداب المشى إلى الصَّلاة؛ فليُراجَع: ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.
(6) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/186)
إذا اعتدل الإنسان مِن الرُّكوع، ثم أراد أن يَهْوِي للسُّجود، يُكَبِّر مِن حَين شُروعه في السُّجود إلى أن يصل إلى مَوضِع السُّجود - كما تَقدَّم(1) -، ولكن: هل يَنْزِل أولاً على رُكْبَتَيْه أم على يَدَيْه؟ على قَولَين.
وقد اتَّفَق العُلماء(2) على صِحَّة الصلاة بالنَّزول على أيٍّ مِنهما. وإنَّما الخِلاف في الأفْضَل. والأمر في هذه المسألة وَاسِعٌ:
فَذَهَب جُمهور أهْل العِلم - مِنهم الشافعي وأحمد - إلى: اسْتِحْباب النزول على الرُّكْبَتَيْن.
وعَن أحمد رواية أُخْرَى(3) أنَّه يختار النُّزُول على اليدين، ولكن هذه الرِّواية لا أعلم أنها ثابتة. والذي ثَبَتَ عَنه أنه يختار النزول على الرُّكْبَتَيْن.
وبَوَّب على ذلك: أبو داود(4)، وابن حبان(5)، وغيرهم مِنْ أهْلِ العِلْم(6).
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) راجع: " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - ": ( 22 / 449 ).
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 303 )، و" الإنصاف " / للمَرداوي: ( 2 / 56 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 220 )، و" التَّحقيق في أحاديث الخِلاف " / لابن الجَوزي: ( 1 / 388 ).
(4) فقال ( 1 / 222 ): " باب: كيف يضع رُكْبَتَيه قبل يَدَيه ".
(5) فقال في " صَحيحه ": ( 5 / 237 ): " باب: ذِكْر مَا يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي وَضْع الرُّكْبَتَين على الأرض - ثُمَّ السُّجود - قَبْل الكَفَّين " اهـ.
(6) كابن خُزَيمَة؛ فقد بوب عليه في " صَحيحه ": ( 1 / 318 ): " بابُ: البِدء بِوَضع الرُّكْبَتَين على الأرض قَبْل اليَدَين، إذا سَجَدَ المُصَلِّي؛ إذ هذا الفِعْل ناسِخٌ لِمَا خالف هذا الفِعْل مِن فِعْل النبي ? والأمر به " اهـ. وقال ( 1 / 319 ): " بابُ: ذِكْر الدَّليل على أن الأمر بِوَضع اليَدَين قَبْل الرُّكْبَتَين ثُمَّ السُّجود = مَنسوخٌ، وأنَّ وَضْع الرُّكْبَتَين قَبْل اليَدَين ناسِخٌ... " إلخ.(1/187)
وأمَّا قول أبي بكر بن أبي داود(1) أنَّ النُّزولَ على اليَدَيْن هو " قول أهل الحديث ": فهذا فيه نَظَرٌ؛ فقد قال الترمذي(2): " والعمل عليه عِندَ أكْثَر أهْل العِلْم؛ يَرَوْنَ أن يضع الرَّجُل رُكْبَتَيْه قبل يَدَيْه، وإذا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْه قبل رُكْبَتَيْه " اهـ.
والرَّاجِحُ مِن هذين القولين - والله أعلم -: أنه يَنزِل على رُكْبَتَيْه؛ لِمَا جاء(3) في حديث شَريك بن عبد الله القاضي عن عاصم بن كُلَيب عن أبيه عن وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - - قال: " رأيتُ رسول الله ? إذا سَجَدَ يَضَع رُكْبَتَيْه قبل يَدَيه، وإذا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيه قبل رُكْبَتَيه ".
__________
(1) نقله عنه ابن القيم في " زاد المَعاد ": ( 1 / 231 ).
(2) تحت الحَديث رقم ( 268 ).
(3) رواه الترمذي ( 268 )، وأبو داود ( 838 )، والنسائي ( 1089، 1154 )، وابن ماجه ( 882 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 318 )، وابن حِبَّان ( 5 / 237 - " إحسان " )، والحاكم ( 1 / 349 ).(1/188)
إلا أنَّ هذا الحَديث فيه ضَعْفٌ فلا يَصِحُّ؛ لأن فيه شَرِيك بن عبدالله القاضي، وهو سَىء الحِفْظ، خاصَّةً عندما تَوَلَّى القضاء، وقد تَفَرَّد بهذا اللَّفْظ(1)؛ فقد رُوي الحَديثُ - حَديث وَصف صلاته ? - مِن طُرُق كثيرَة(2) عَن وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - -، ومِن طُرُق أخرى عن عاصم بن كليب عَن أبيه عنه (3)، ولم يأتِ فيها ما جاء في حديث شَرِيك؛ بل لم يأتِ مَن يُتابِع شريكًا، إلا أنَّه خُولِفَ في رواية؛ فَرُوي الحديث مُرْسَلًا(4) غير مُتَّصِل، عن عاصم بن كُلَيْب عن أبيه بدون ذِكْر وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - -.
__________
(1) قاله الترمذي وابن أبي داود والبخاري والبيهقي وغيرهم. راجع: " سنن الدارقطني ": ( 1 / 345 )، و" سنن البيهقي الكبرى ": ( 2 / 99 ).
(2) فروى أصل وَصْفه لصلاة النبي ?: مسلم ( 401 ) ، وأبو داود ( 723، 724، 725، 730، 737، 933، 997 )، والنسائي ( 879، 932، 882، 887، 1055 )، وأحمد ( 4 / 316 )، والدارمي ( 1241، 1252 )، مِن طُرُق عَديدة.
(3) رواه أبو داود ( 726، 730، 957 )، والنسائي ( 889، 1159 )، وابن ماجه ( 810 ) ، والدارمي ( 1357 )، وأحمد ( 4 / 316، 319 ).
(4) رواه أبو داود في " سُنَنِه ": ( 839 )، وفي " المراسيل ": ( ص 94 )، والبيهقي ( 2 / 99 )، والطحاوي ( 1 / 255 )، وأشار إليه الترمذي في " سُنَنِه ": ( 268 ) - وفي " عِلَلِه الكبير " / بترتيب القاضي: ( ص 69 ) أيضًا -؛ فقال: " وروى همام عَن [ شَقيقٍ عَن ] عاصم هذا مُرْسَلاً؛ ولم يَذْكُر وائل بن حُجْر " اهـ، والزيادة بين المَعكوفَتَين مِن " عِلَله ".(1/189)
اللهُمَّ إلا بعض الطُّرُق (1) التي فيها هذا اللفظ، مِن حَديث وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - -، ولكن لا يَصِحُّ مِنها شَىءٌ.
إلا أنَّ الحَديث يَتَقَوَّي باجتماع هذه الطُّرُّق الكثيرة.
ويَشْهَد للحَديث: مَا ثَبَتَ عن عُمَر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أنَّه " كان يَضَع رُكْبَتَيه قَبْلَ يَدَيه " [ رواه ابن أبي شيبة(2) ]. ولم يَثْبُت عن أحد من الصحابة ما يُخَالِفُه.
وقد رُوي(3) مِن حَديث الدَّرَاوَرْدِي عن عُبَيْد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه " كان يَضَع يَدَيه قَبْلَ رُكبَتَيْه " ورَفَعَه. إلا أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ في رواية الدَّرَاوَرْدِي عن عُبَيْد الله بن عُمَر ضَعْفًا، وقد تَكَلَّم فيها الإمام أحمد والنسائي(4).
__________
(1) خَرَّجه أبو داود ( 730، 839 )، مِن طريق عبد الجبار بن وائل بن حُجر عَن أبيه أن النبي ?، فَذَكَر حَديث الصَّلاة، قال: " فلما سَجَدَ وقعتا رُكْبَتاه إلى الأرض قبل أن تقع كَفَّاه ".
(2) " مُصَنَّف ابن أبي شَيبة ": ( 1 / 236 ).
(3) رواه ابن خُزَيمة ( 1 / 318 )، والطحاوي في " شرح معاني الآثار ": ( 1 / 254 )، والدارقطني ( 1 / 344 )، والحاكم ( 1 / 348 ) - وعنه البيهقي ( 2 / 100 ) -.
(4) راجع: " سؤالات أبي داود له ": ( ص 222، برقم 198 )، و" الجَرح والتَّعديل " / لابن أبي حاتم: ( 5 / 395 )، و" تهذيب الكمال ": ( 18 / 194 )، و" شَرح علل الترمذي " / لابن رَجَب: ( 2 / 809 )، و" تُحْفَة الأشراف ": ( 6 / 156 ).(1/190)
والصواب في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: ما رواه(1) أيوب عن نافع عنه أن الرسول ? قال: " إنَّ اليدين تَسْجُدَان كما يَسْجُد الوجه؛ فإذا وَضَعَ أحَدُكم وَجْهَه فَلْيَضَع يَدَيه، وإذا رَفَعَه فليَرْفَعْهما ". هذا هو اللفظ الصحيح لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وليس فيه مَوْضِع الشَّاهِد لِلَّهِ
واحْتَجَّ مَن يَرى تَقديم اليَدَين على الرُّكْبَتَين في السُّجود: بِمَا رواه(2) محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إذا سَجَدَ أحدكم فلا يَبْرُك كما يبرك البَعير، وليَضَع يَدَيه قبل رُكْبَتَيه " .
وهذا الحديث ضَعيفٌ؛ بل شَديد الضَّعْف لا يَصِح، بل قال عنه حمزة الكِنَانِي(3): هذا حديث مُنكَر. وضَعَّفَه - أيضًا - البخاري، والتِّرْمِذِي والدَّارَقُطْنِي (4).
وفيه أكثر مِن عِلَّة:
__________
(1) خَرَّجه أحمد ( 2 / 6 ) - وعنه أبو داود ( 892 ) -، والنسائي ( 1092 ).
(2) رواه أبو داود - واللفظ له - ( 840، 841 ) - ومِن طريقه البيهقي ( 2 / 99 ) -، والترمذي ( 269 )، والنسائي ( 1091 )، وأحمد ( 2 / 381 )، والبخاري في " التاريخ الكبير ": ( 1 / 139 / 418 )، والدارقطني ( 1 / 344 )، والطحاوي في " شرح معاني الآثار ": ( 1 / 254 )، وغيرهم.
(3) نَقَله عَنه ابن رجب في " فتح الباري ": ( 7 / 218 ).
(4) راجع: " التاريخ الكبير ": ( 1 / 139 )، و" زاد المعاد ": ( 1 / 228 ).(1/191)
ففي سَنَدِه: محمد بن عبد الله بن الحسن(1)، وهو ليس مشهورًا بالرِّواية وضبط الحديث وحَمْل العِلْم؛ وإنما اشْتُهِرَ مِن حيث النَّسَب والشَّرَف، وما جَرَى له مع بني العباس مِن خُروجه عليهم، وثَورته على أبي جعفر المنصور مشهورة ومعلومة أفاضت فيها كتب التاريخ. وقد تَفَرَّد النسائي وابن حِبَّان بتوثيقه(2)، ويبدو أنه وَثَّقَه فيما يتعلق بِشَرَفه وفَضْله لا مِن حيث ضَبْطِه للحديث.
وكان - رحمه لله - مُعْتَزِلًا للناس؛ لأنه كان مُطارَدًا مِن قِبَل الحُكَّام والخُلَفَاء = فَمِثْلُه يَندُر أن يتفرد بهذا الحديث، ولا يُتابَع عَلَيْه مِن قِبَل أصْحَاب أبي الزِّناد، ولأبي الزِّناد أصحاب كُثُر؛ منهم الإمام مالك - رحمه الله - وغيره؛ فأين هُم عَن هذا الحديث؟!
وسِلْسِلَة ( أبي الزِّناد عن الأعْرَج عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - ): مِن أصَحِّ الأسانيد عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - -، كما قال البخاري(3) = فكيف يَتَفَرَّد محمد بن عبد الله بن الحسن بهذا الحديث ولا يُتَابَع عليه؟(4)
قال البخاري(5) - بَعْد أنْ ساق الحديث بِسَنَدِه -: " ولا يُتَابَع عَلَيْه، ولا أدري سَمِعَ مِن أبي الزناد أم لا؟ ".
__________
(1) راجع شيئًا مِن سيرَتِه في: " تهذيب الكمال ": ( 25 / 465 )، " تهذيب التهذيب ": ( 9 / 224 )، و" البداية والنِّهاية ": ( 10 / 87 ).
(2) راجع: " تهذيب الكمال ": ( 25 / 465 )، " تهذيب التهذيب ": ( 9 / 224 )، و " ثِقات ابن حِبَّان ": ( 7 / 417 ).
(3) نَقَله عَنه الحاكم بإسناده إليه في " مَعرفة علوم الحَديث ": ( ص 53 ).
(4) قال الترمذي عَقب تخريجه للحديث في " سُنَنِه " ( 269 ): " غريب؛ لا نَعرفه مِن حديث أبي الزِّناد إلا من هذا الوَجْه " اهـ.
(5) في " التاريخ الكبير ": ( 1 / 139 / 418 ).(1/192)
وفي كتاب " مقاتل الطالبين "(1)، عن الواقدي أنَّ محمد بن عبد الله بن الحسن " لَقي أبا الزِّنَاد، وسَمِعَ مِنه، وحَدَّث عَنه " لِلَّهِ
وكلام الواقدي فيه نَظَرٌ، وقول البُخَارِي أوْلَى.
ورُوي الحَديث بإسنادٍ أصَحّ مِن هذا، مِن طريقٍ آخَر، مِن حَديث بُكَيْر بن عبد الله بن الأشج عن أبي مرة عن أبي هريرة موقوفًا عليه: " لا يَبْرُكَنَّ أحد بُرُوك البعير الشَّارِد ". رواه الحافظ قاسم بن ثابت السرقسطي في " غريب الحديث "(2). وليس فيه موضِع الشاهِد: " وليضع يَدَيْه قبل رُكْبَتَيْه " لِلَّهِ
فالصَّواب في هذا الحديث أنَّه مَوقوفٌ على أبي هريرة - - رضي الله عنه - -، وليس فيه " وليضع يديه قبل ركبتيه ".
وقد قَدَّم جَمْعٌ مِن أهْل العِلْم بالحَديث(3) حديثَ وائلِ بن حُجْر على حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -.
فخُلاصَة المسألة: أنَّه يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي تَقديم يَدَيْه أولاً في السُّجود، ثُمَّ رُكْبَتَيْه.
قال: " فيضع ركبتيه ثم يديه ثم وجهه، ويُمَكِّن جَبْهَتَه وأنفه وراحتيه من الأرض، ويكون على أطراف أصابع رجليه ":
اخْتَلَف أهْلُ العِلْم في حُكْم السُّجود على الأعضاء السَّبْعَة(4) - وسيأتي بيانها بعد قليل -: هل هو رُكْنٌ أم واجِب أم سُنَّة؟
والأصَحُّ مِن هذه الأقوال أنَّها إمَّا رُكْنٌ أو واجِب، أمَّا القول بِعَدَم وجوبها: فلا شَكَّ في ضَعْفِه = فهو ليس بِصَحيح.
ولعل الصَّحيح أنَّ الأمرَ فيه تَفصيلٌ:
__________
(1) " مقاتل الطالِبين ": ( ص 163 ).
(2) " غريب الحَديث ": ( 2 / 70 ).
(3) كالخطابي ( كما في " زاد المعاد ": 1 / 230 )، والطَّحاوي في " شَرْح معاني الآثار ": ( 1 / 255 )، وابن القَيِّم في " زاد المَعاد ": ( 1 / 230 ).
(4) راجع: " المغني ": ( 1 / 303 وما بعدها )، و" المجموع ": ( 3 / 424 وما بعدها )، و" فَح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 252 ).(1/193)
فوَضع الجبهة على الأرض رُكْنٌ لا تَصِحُّ الصلاة إلا بهذا؛ لأن المُصَلِّي لا يكون ساجِدًا إلا إذا وَضَعَ جَبْهَتَه على الأرْض.
أما بالنسبة لبقية الأعضاء ( الأنف أو الكَفَّين أو الرُّكْبَتَين أو القَدَمَيْن ): فلو رَفَع شيئًا منها: فقد أساء وارْتَكَب إثْمًا، ولا شَكَّ في ذلك؛ لأنَّه تَرَكَ وَاجِبًا. لكن هل تَبْطُل صلاته؟ هذا يَفْتَقِر إلى دَليلٍ صَحيحٍ.
فالخُلاصَة: أنَّ الصَّواب في المسألة: أنَّ السُّجُود على هذه الأعْظُم وَاجِبٌ، إلا السُّجود على الجَبْهَة: فهو رُكْنٌ لا تَصِحُّ الصَّلاة إلا به.
ولذلك ينبغي للمُصَلِّي أن يَتَفَقَّد هذه الأعضاء في حال سُجودِه. ويُلاحَظ على كَثيرٍ مِن المُصَلِّين أنَّهم يَغْفَلون فلا يضعون الأنْفَ على الأرْض في السُّجُود، أو يرفعون أحَدَ القَدَمَيْن عَنها أثناءه. وهذا خَطأ بَيِّنٌ.
وأمَّا الدَّليل على تَمكين الجَبْهَة والأنف مِن الأرْض: فهو ما رواه أبو داود وابن خُزَيْمَة وغيرهما(1)، مِن حَديث عباس بن سهل الساعدي عن أبي حُمَيْد الساعدي - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان إذا سَجَدَ أمْكَنَ أنفه وجَبْهَتَه مِن الأرض، ونَحَّى يَدَيْه عَن جَنْبَيْه، وَوَضَعَ كَفِّيه حَذْو مَنْكِبَيْه ".
وقد ثَبَتَ في " الصحيحين "(2)، من حديث عبد الله بن طاووس وعمرو بن دينار، كلاهما عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي ?: " أُمِرْتُ أن أسْجُدَ على سَبْعَة أعْظُم: على الجَبْهَة - وأشار بِيَدِه على أنفِه -، واليَدَين، والرُّكْبَتَين، وأطْراف القَدَمَيْن، ولا نَكْفِت الثِّياب والشَّعْر ".
__________
(1) رواه أبو داود ( 730 )، والترمذي (270 )، وابن خُزَيْمَة ( 1 / 322 )، وابن حِبَّان ( 5 / 189 ).
(2) رواه البخاري - واللفظ لابن طاووس - ( 812، 809 )، ومسلم ( 490 ).(1/194)
ولَمَّا ذَكَرَ الجَبْهَة أشار إلى وَجْهه وأنفه؛ لِبيان أنَّهما عَظْمٌ واحِد، والسِّتَّة الآخُرون: الكَّفَّان، والرُّكْبَتَان، وأطْراف القَدَمَيْن. فيكون مجموعهم سَبْعَة أعْظُم.
قال: " ويكون على أطراف أصابع رِجْلَيْه، مُوَجِّهًا أطرافها إلى القبلة ":
يُسَنُّ للمُصَلِّي - وهو سَاجِد - أن يَسْتَقْبِل القِبْلَة بأطراف أصابع رِجْلَيْه المفتوخَة. وجاء هذا في حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -، وقد تَقَدَّم تَخريجُه(1).
قال: " والسُّجُود على هذه الأعضاء السبعة رُكْنٌ ":
اختار المُصَنِّف - رحمه الله - القَول بِرُكْنيَّة السُّجُود على هذه الأعضاء السبعة. وتَقَدَّمَ - قبل قليل - الإشارِةُ إلى الخِلاف في هذه المسألة.
قال: " ويُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَة المُصَلَّى بِبُطُون كَفَّيْه ":
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي مُباشَرَة مَكان السُّجود بِبُطُون كَفَّيْه وجَبْهَته؛ فلا يَسْجُد على ثَوبٍ يحول بَيْنَ الأرْض وكَفَّيه أو جَبْهَته، إلا لِحاجَة - كَحَرٍّ شَديد يكون بالأرْض؛ فيُشْرَع للمُصَلِّي - حينَها - أن يضع ثوبًا يسْجُد عَلَيْه؛ حتى لا يتأذَّى مِن حَرارَة الأرْض -.
ودَليل الرُّخْصَة في ذلك للحَاجَة: ما ثَبَتَ في " صَحيح البخاري "(2)، مِن حديث أنس - - رضي الله عنه - - قال: " كنا نُصَلِّي مَع النبي ? فَيَضَع أحَدُنا طَرَفَ الثَّوب مِن شِدَّة الحَرِّ في مكان السُّجود ".
__________
(1) ص؟؟؟. ولفظ الشَّاهِد مِنه: " واستقبل بأطراف أصابع رِجْلَيه القبلة ". رواه البخاري ( 828 ).
وعِندَ الترمذي ( 304 )، وأبو داود ( 730، 963 ) والنسائي ( 1101 )، وابن ماجه ( 1061 ): " ويَفْتَخ أصابِعَ رِجْلَيه إذا سَجَد ". ومعنى " يَفْتَخ ": يَثنيها إلى باطِن الرِّجل ويُلَيِّنها فيوَجِّهها إلى القِبْلَة.
(2) بأرقام ( 385، 1208، 542 )، ومسلم ( 620 ).(1/195)
ويَنْبَغي للمُصَلِّي أن يَتَعَاهَد شِمَاغه وطاقيته ويَرْفَعَهما؛ حتى تكونَ جَبْهَتَه على الأرض مُباشِرَةً لِمَكان السُّجُود.
قال: " وضم أصابعهما، مُوَجَّهَةً إلى القِبْلَة، غير مقبوضة ":
أمَّا ضَمُّ الأصَابِع: فليس فيه سُنَّةٌ، فيضعها الإنسان على حالتها العاديَّة.
ولا يَصِحُّ الحَديث الذي جاء في سُنيَّة ضَمِّها:
فقد رُوي مِن طريق الحارث الهمداني ( المعروف بابن الخازن ) عن هُشَيْم عن عاصم بن كليب عن عَلقَمَة بن وائل عن أبيه وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - - أن النبي ? " كان إذا سَجَدَ ضَمَّ أصابِعَه ". خَرَّجه ابن خُزَيْمَة والحاكم(1).
وعِلَّته ابن الخازن؛ فهو لا يُحْتَجُّ به، وقد تَفَرَّد بهذه الزيادة ( ضَمّ الأصابِع حَال السُّجود ) عَن باقي مَن رَوَىَ هذا الحَديث؛ فحديث وائل بن حجر - - رضي الله عنه - - مَشهورٌ وله طُرُقٌ كثيرة وألفاظ عديدة(2)، ليس فيها هذا اللفظ.
قال: " رافعًا مِرْفَقَيْه ":
يَجِبُ على السَّاجِد أن يَرْفَعَ مِرْفَقَيه وذِراعَيه عَن الأرْض حَالَ السُّجود، بِخلاف الكَفَّين فيُباشِر بهما الأرْض.
__________
(1) رواه ابن خزيمة ( 1 / 301، 324 )، وابن حِبان ( 5 / 247 )، والدارقطني ( 1 / 339 )، والحاكم ( 1 / 350 )، والبيهقي ( 2 / 112 )، والطبراني في " الكبير ": ( 22 / 19 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/196)
والدَّليل على ذلك: ما ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، من حديث أنس - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " اعْتَدِلوا في السُّجود، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعَيْه انبِساط ( وفي رواية: كما يَبْسُط ) الكَلْب ". وفي رواية(2): " انْبِساط السَّبْع ".
فَنَهى الشَّارِع الحَكيم عَن بَسْط الذِّراعَين في السُّجود؛ لئلا يَتَشَبَّه بالحيوانات؛ فهي التي تَفْعَل ذلك.
وثَبَتَ في " صحيح مُسْلِم "(3) ، من طريق عُبَيد الله بن إياد بن لَقيط عن أبيه عن البَرَاء بن عَازِب - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إذا سَجَدتَ فَضَعْ كَفَّيْك، وارْفَع مِرْفَقَيْك ".
قال: " وتُكْرَه الصلاة في مكان شديد الحر أو شديد البرد؛ لأنه يُذْهِب الخُشُوع ":
يُكْرَه للمُصَلِّي فِعْلُ كلِّ ما يَشْغَلُه عَن الخُشُوع في صلاتِه، وينبغي عليه أن يُزيل كُلَّ سَبَبٍ يحول بينه وبين الخُشوع والاطمئنان فيها.
ولذلك كان مِن هدي النبي ? تأخير الصَّلاة في شِدَّة الحَرِّ(4)؛ لِئلا يتأذَّى المُصَلِّي بالحَر حالَ سُجودِه على الأرْض؛ فلا يَخْشَع في صَلاتِه.
__________
(1) بِرَقَمَي ( 822، 532 )، ورواه - أيضًا - مسلم ( 493 ).
(2) رواه مِن حَديث أنس - - رضي الله عنه - -: الإمام أحمد ( 3 / 179 ) وأبو نُعَيم في " مُسْتَخرجه على صحيح مُسْلِم ": ( 2 / 104 ). ورواه مِن حَديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: ابن خُزَيمة ( 1 / 325 )، وابن حِبَّان ( 5 / 242 ).
ورواه مِن حَديث عائشة - رضي الله عنها -: الإمام مسلم في " صحيحه ": ( 498 )، وأبو داود ( 783 ). ولفظ مُسْلِم: " وينهى أن يفترش الرَّجُل ذِراعَيه افتراش السَّبْع ".
وبِنحو لفظ مُسْلم: رواه ابن خزيمة ( 1 / 325 )، مِن حَديث جابر - - رضي الله عنه - -.
(3) برقم ( 494 ).
(4) ثَبَت ذلك في أحاديث؛ مِنها أمره ? بالإبراد في شِدَّة الحَرّ: رواه البخاري ( 534، 538 )، ومسلم ( 615، 616 )، وغيرهما.(1/197)
وثَبَتَ في الصحيح مِن حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: " لا صلاة بحضرة الطَّعام، ولا هو يُدافِعُه الأخْبَثَان " [ رواه مسلم(1) ].
والحِكْمَة مِن ذلك: لئلا ينْشَغِل المُصَلِّي بغير الصلاة - كمُدافَعَة الأخْبَثَين أو التَّفَكُّر في الطَّعام والاشتياق إليه -.
وقد ثَبَتَ - أيضًا - في الصحيح(2) مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي ? قال: " إذا وُضِعَ عَشَاء أحَدُكم وأُقيمَت الصَّلاة فابْدَءوا بالعَشاء، ولا يَعْجَل حتى يَفْرُغ مِنه ". والحِكْمَة مِن ذلك: أن يَذْهَب المُصَلِّي إلى صلاته وهو فَارِغٌ مِن كُلِّ ما يَشْغَله عَن صلاتِه.
قال: " ويُسَنُّ للسَّاجِد أن يُجافِي عَضُدَيْه عن جَنْبَيْه ":
يُسَنُّ للسَّاجِد أن يُبْعِدَ العَضُدَيْن عَن الجَنبَيْن.
والدَّليل على ذلك: ما جاء في " صحيح البخاري "(3)، مِن حديث عبد الرحمن بن هُرْمُز ( المعروف بالأعرج ) عن عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة - - رضي الله عنه - - أن النبي ? " كان إذا صَلَّى فَرَّج بين يَدَيْه حتى يَبدو بَياض إبْطَيه ". كان يُبَاعِد عضديه عن إبطيه حتى يبدو بياض إبطيه ". وغيرها مِن الأدِلَّة(4).
قال: " وبَطنه عن فَخِذَيْه، وفَخِذَيْه عن سَاقَيْه ".
[........ ]
قال: " ويضع يَدَيْه حَذْوَ مَنكِبَيْه ":
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 674 )، ومسلم ( 559 ). وأخرجاه - أيضًا - مِن حَديث أنس - - رضي الله عنه - -: رواه البخاري ( 5464 )، ومسلم ( 557 ). ومِن حَديث عائشة - رضي الله عنها -: رواه البخاري ( 671 )، ومسلم ( 558 )، ولفظهما عند البخاري: " إذا وُضِعَ العَشاء وأُقيمَت الصلاة فابْدَءوا بالعَشاء ".
(3) رواه البخاري ( 390، 807، 3564 )، ومسلم ( 495 ).
(4) راجع - مثلاً -: " صحيح مسلم ": ( 496 )، و" سنن الترمذي ": ( 270، 304 )، و" سنن أبي داود: ( 730، 898 )، و" سنن النسائي ": ( 1101، 1109 ).(1/198)
يُسَنُّ للسَّاجِد وَضْعَ كَفَّيْه إمَّا: حَذْو أُذُنَيْه أو حَذْو مَنْكِبَيْه، وكِلاهما ثابِتٌ مِن فِعْل الرسول ?.
ودَليل الأوَّل: مَا جاء(1) في حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " سَجَدَ فَجَعل كَفَّيه بِحذاء أُذُنَيْه ".
ودَليل الثَّاني: مَا جاء في حديث عَبَّاس بن سهل الساعدي عن أبي حُمَيد الساعدي - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان إذا سَجَدَ... وَضَعَ كَفِّيه حَذْو مَنْكِبَيْه " [ راوه أبو داود ابن خزيمة وغيره(2) ].
قال: " ويُفَرِّق بين رُكْبَتَيْه ورِجْلَيْه ":
يُسَنُّ للساجِد أن يُقارِبَ بين رِجْلَيه حالَ السُّجود؛ لِمَا ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(3)، من حديث الأعرج عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " فقدتُ رسول الله ? ليلةً مِن الفِراش، فالتَمَسْتُه؛ فَوَقَعت يَدِي على بَطْن قَدَمَيْه وهو في المَسْجِد وهُما منصوبتان... " الحَديث.
وَجْه الدَّلالَه مِن هذا الحَديث: أنَّه ? لو كان مُباعِدًا بين قَدَمَيْه لم تقع كَفَّها على قَدَميه مَعًا؛ بل تَقَع على قَدَم واحِدَة = فَدَلَّ هذا على أنَّه كان مُقارِبًا بينهما. وهذا هو الأقْرَب.
أمَّا ضَمُّ الفَخِذَيْن حالَ السُّجود فلم يَثْبُت: فقد رُوي مِن حَديث دَرَّاج عن ابن حُجَيْرَة عن أبي هريرة - - رضي الله عنه -- مرفوعًا: " إذا سَجَد أحَدُكم فلا يَفْتَرِش يَدَيْه افْتِراش الكَلْب، ولْيَضُمَّ فَخِذَية " [ رواه أبو داود وابن خُزَيمة(4) ].
__________
(1) رواه أبو داود ( 726 )، والنسائي - واللفظ له - ( 889 ).
(2) رواه أبو داود ( 730 )، والترمذي (270 )، وابن خُزَيْمَة ( 1 / 323 )، وابن حِبَّان ( 5 / 189 ).
(3) برقم ( 486 )، ورواه - أيضًا - ابن خُزَيمة ( 1 / 329 ).
(4) رواه أبو داود ( 901 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 328 )، وابن حِبَّان ( 5 / 244 )، والبيهقي ( 2 / 115 ).(1/199)
ودَرَّاج لا يُحْتَجُّ به؛ فالحَديث لا يَصِحُّ.
ويُسَنُّ له أيضًا ألا يَتَمَدَّد حالَ سُجودِه - بِخلاف ما يفعله بَعْضُ المُصَلِّين -؛ لِمَا جاء(1) مِن حَديث يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه عن البراء بن عازب - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان إذا صَلَّى جَخَّى ". ومعنى " جَخَّى ": أي: لم يَتَمَدَّد.
وقد بَوَّبَ ابن خزيمة على هذا الحديث بقوله: " بابُ: تَرْك التَّمَدُّد في السُّجود، واستِحْباب رَفْع البَطن عَن الفَخِذَين ".
إذا ثَبَتَ هذا؛ والتَزَمَ السَّاجِد بِسُنَّة عَدَم التَّمَدُّد حالَ سُجودِه؛ فسوف يَرْفَع بَطْنَه عن فَخِذَيْه - كما ثَبَتَ هذا في السُّنَّة(2) -، ويُقَوِّسُ ظَهْرَه قَليلًا.
قال: " ثم يَرْفَع رأسه مُكَبِّرًا، ويجلس مُفْتَرِشًا: يَفْرِش رِجْلَه اليُسْرَى ويجلس عليها، ويَنْصِب اليُمْنَى، ويُخْرِجها مِن تَحْتِه ":
أمَّا صِفَة الجُلوس بين السَّجْدَتَيْن؛ فقد ثَبَتَت في السُّنَّة عَن رسول الله ? صِفَتَان:
الصِّفَة الأولى(3): أن يَنْصِبَ اليُمْنَى، ويَفْرِش رِجْلَه اليسرى ويَجْلِس عَلَيْهَا.
الصِّفَة الثانية: أن يَنْصِبَ قَدَمَيْه ويَجْلِس على أعْقابِهما. ثَبَتَ هذا في " صحيح مسلم "(4)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
قال: " ويجعل بطون أصابعها إلى الأرض؛ لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة؛ لحديث أبي حُمَيد في صِفَة صلاة النبي ? ":
__________
(1) رواه النسائي ( 1105 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 326 )، والروياني في " مُسْنَده ": ( 1 / 215 ).
(2) ثَبَتَ هذا في حَديث أبي حُمَيْد السَّاعِدِي- - رضي الله عنه - -، ولفظه: " وإذا سَجَد فَرَّج بين فَخِذَيه، غير حامِل بَطنه على شىء مِن فَخِذَيه ". وهذا لفظ أبي داود ( 730 ).
(3) رواه مسلم ( 498 )، وأبو داود ( 783 ).
(4) برقم ( 536 )، ورواه الترمذي ( 283 )، وأبو داود ( 845 ).(1/200)
ولفظه(1): " ثُمَّ جَلَسَ فافْتَرَشَ رِجْلَه اليُسْرَى، وأقْبَل بِصَدْر اليُمنَى على قِبْلَتِه".
قال: " بَاسِطًا يَدَيْه على فَخِذَيْه، مَضمومة الأصَابِع ":
يُسَنُّ للجالِس بين السَّجْدَتَيْن - أو في جَلْسَة التَّشَهُّد - إمَّأ أن يَضَع كَفَّيه على فَخِذَيْه(2)، أو على رُكْبَتَيْه(3)؛ وكُلٌّ ثَبَتَ في السٌّنَّة مِن فعل النبي ?.
وما يُقال في صِفَة وَضْع اليَدَيْن في الجِلْسَة بين السَّجْدَتَيْن يُقال في التَّشَهُّد، إلا أنَّ الأُوْلَى ليس فيها إشارَةٌ بالأُصْبَع كالتَّشَهُّد - كما سيأتي -.
وأمَّا ما رواه عبد الرزاق(4): عن سُفيان الثَّورِي عن عَاصِم بن كُلَيْب عن أبيه عن وائل بن حُجْرٍ - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? "... جَلَس فافْتَرَشَ رِجْلَه اليُسْرَى، ثُمَّ وَضَعَ يَدَه اليُسْرَى على رُكْبَتِه اليُسْرَى، وَوَضَعَ ذِراعَه اليُمنَى على فَخِذِه اليُمنَى، ثُمَّ أشار بِسَبَّابته، وَوَضَعَ الإبْهَام على الوُسْطَى حَلَّق بها، وقَبَضَ سَائِر أصابِعِه، ثُمَّ سَجَدَ... ": فهذه اللَّفْظَة شَاذَّةٌ ولا تَصِحُّ. وإنَّما صَحَّت الإشارة في التَّشَهُّد فقط.
أمَّا ضَمُّ الأصابع - كما اسْتَحَبَّها المُصَنِّف -: فليس فيه سُنَّةٌ؛ فيَضَعَها كيف شاء: مَضمومة أو مفتوحة.
قال: " ويقول: " رَبِّ اغفر لي "، ولا بأس بالزيادة؛ لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي ? يقول بين السجدتين: " رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني " رواه أبو داود ":
__________
(1) رواه أبو داود ( 730 ، 963 ).
(2) رواه مسلم ( 580 )، وأبو داود ( 987 )، والنسائي ( 1267 )، ومالك ( 199 ).
(3) رواه مسلم ( 580 )، والترمذي ( 293 )، وأبو داود ( 730 ).
(4) في " مُصَنَّفِه ": ( 2 / 68 ) - وعنه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 4 / 317 ) -، ومِن طريق عبد الرزاق رواه - أيضًا - الطبراني في " الكبير ": ( 22 / 34 ).(1/201)
أمَّا قول " رَبِّ اغْفِر لي، رَبِّ اغْفِر لي ": فقد جاء مِن حَديث حُذَيْفَة بن اليمان العبسي - - رضي الله عنه - - المُخَرَّج في " السُّنَن "(1).
واختارَ الإمامُ أحمد - رحمه الله - هذا الدُّعاء؛ كما ذَكَرَ ذلك أبو داود في " مسائله "(2)، وقال: " يقول: رَبِّ اغْفِر لي، ثلاثَ مَرَّات، أو ما شاءَ ".
وأمَّا حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: " رَبِّ اغْفِر لي وارحمني واجْبُرني واهدني وارْزُقْنِي ":
فقد رواه الترمذي(3)، من حديث كامل أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي ? " كان يقول بين السَّجْدَتَين: اللهُمَّ اغفر لي... " فَذَكَرَه.
وفي رواية أبي داود(3): " وعافني " بدل " واجْبُرني ".
وفي رواية ابن ماجه(3): " وارْفَعْنِي " بدل " واهْدِني "، وخَتَمَ بها.
إلا أنَّه لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كامل أبي العلاء مُخْتَلَفٌ فيه، وقد تَفَرَّد بهذا اللفظ عن باقي مَن رَوَى هذا الحديث عَن حَبيب بن أبي ثابت؛ فهي لَفْظَة شاذَّة مُنكَرَة.
فأصْلُ هذا الحديث في صفة صلاة الرسول ? بالليل، عندما أرسل العباس ابنه عبدالله - رضي الله عنهما - إلى الرسول ? حتى يحفظ صِفَة صلاة الرسول ? بالليل، والحديث مشهور وجاء من طرق كثيرة؛ فرواه عن ابن عباس - رضي الله عنه - نحو ثمانية(4)
__________
(1) رواه أبو داود ( 874 )، والنسائي ( 1069، 1145 )، وابن ماجه ( 897 ).
(2) " مَسائل أبي دَاود ": ( ص 34 )، وانظر - أيضًا -: " المغني ": ( 1 / 309 ).
(3) برقم ( 284 )، ورواه أبو داود ( 850 )، وابن ماجه ( 898 ).
(4) مِنهم: كُريب وعِكرِمَة وسميع مواليه، وابنه علي، وسعيد بن جبير، وعِكرِمَة بن خالد، ونصر بن عمران، وعطاء بن أبي رباح والشعبي، وغيرهم.
أخرج أحاديثهم: البخاري ( 699، 728، 1138 )، ومسلم ( 763، 764 )، والترمذي ( 442 )، وأبو داود ( 1353، 1365 )، والنسائي ( 806 ).(1/202)
، فتفرد كامل أبو العلاء عن حبيب بن أبي ثابت بهذه اللفظة.
فخُلاصَة هذه المسألة: أنَّه لم يَثْبُت بين السَّجْدَتَين إلا قول " رب اغفر لي، رب اغفر لي "، وكان النبي ? يُكَرِّرها كثيرًا(1).
ويبدو أنَّ المُصَنِّف - رحمه الله - يَرى ثُبوت حَديث ابن عباس - رضي الله عنهما -؛ ولذا فقد احْتَجَّ به. ولكنه - كما قَدَّمنا - شَاذٌّ ضَعيفٌ.
قال: " ثم يسجد الثانية كالأولى ":
يُعني أنَّ المُصَلِّي يَفْعَل في السَّجْدَة الثانية مِثلما فَعَلَ في السَّجْدَة الأُوْلَى.
قال: " وإن شاء دعا فيها؛ لقوله ?: " وأما السجود فأكثروا فيه من الدُّعاء؛ فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَاب لكم ". رواه مسلم ":
قَدَّمنا(2) أنَّه يَجبُ على المُصَلِّي أن يُسَبِّح في سُجوِده بـ " سبحان ربي الأعْلَى "، ما شاء الله له أن يُسَبِّح، ثُمَّ يأتي ويَدْعُو بما ثَبَت في السُّنَّة؛ فهذا أطْيَب له وأحْسَن.
والدَّليل على مَشروعيَّة الدُّعاء: الحَديث الذي ذَكَرَه المُصَنِّف، وقد أخْرَجَه مُسْلِم(3)، كما قال - رحمه الله -.
ومَعنى قوله: " فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَاب لكم ": أي: أحْرَى أن يُسْتَجَاب لَكُم.
__________
(1) ودَليله: حَديث حُذيفة - - رضي الله عنه - - في صلاة النبي ? بالليل الذي فيه أنه ? " كان يقعد بين السَّجْدَتَين نحوًا مِن سُجوده، وكان يقول: رَبِّ اغْفِر لي، رَبِّ اغْفِر لي "، وكان سُجوده ? نحوًا مِن قيامه الذي قرأ فيه سُورَة البقرة. رواه أبو داود ( 874 )، ورواه النسائي ( 1145 ) مُخْتَصَرًا.
واسْتَظْهَر ذلك ونَصَرَه شيخُ الإسلام ( ابن تيمية ) - رحمه الله -، كما في " مجموع فتاواه ": ( 14 / 407 ).
(2) ص؟؟؟.
(3) برقم ( 479 )، ورواه النسائي ( 1045 ). وسَبَقَ لَفظه: ص؟؟؟.(1/203)
ومِن تلك الأدعية والأذْكار: " سبحانك اللهُمَّ رَبَّنا وَبِحَمدِك؛ اللهُمَّ اغْفِر لي "، " سُبُّوح قُدُّوس رَبُّ الملائكة والرُّوح " [ خَرَّجهما الإمام مسلم(1) عَن عائشة - رضي الله عنها - ]، وغيرها مِن الأدْعيَة (2).
قال: " وله عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن رسول الله ? كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذَنبي كُلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وَأوَّلَه وآخِرَه، وَعَلانيتَه وسِرَّه ":
قوله " وله ": أي: لمُسْلِمٍ في " صحيحه "(3).
فهذا الدُّعاء - الذي ذَكَره المُصَنِّف - مِن الأدْعية التي صَحَّ أنَّ الرسول ? كان يقولها في سُجُودِه.
قال: " ثم يرفع رأسه مُكَبِّرًا ":
إذا انتهى المُصَلِّي مِن سُجودِه يَرْفَع رأسه مُكَبِّرًا؛ فيقول: الله أكْبَر.
قال: " قائمًا على صُدورِ قَدَمَيْه، مُعْتَمِدًا على رُكْبَتَيْه؛ لحديث وائل - - رضي الله عنه - - ":
بَيَّن المُصَنِّف - رحمه الله - هنا أنَّه يُشْرَع للمُصَلِّي إذا قام مِن السَّجْدَة الثانية أن يقوم على صُدور قَدَمَيْه، ويَعْتَمِد على رُكْبَتَيْه. وهو بهذا - فيما يبدو - لا يَرى مَشروعيَّة " جِلْسَة الاسْتِرَاحة ".
والمقصود بها: تلك الجِلْسَة الخفيفة التي تكون في وِتْر الصَّلاة = يعني: بَعْد القيام مِن السَّجْدَة الثَّانية مِن الرَّكْعة الأوْلَى، والسَّجْدَة الثَّانية مِن الرَّكْعَة الثالِثَة، يَجْلِسها قبل أن يقوم إلى الرَّكْعَة الثانية والرابِعَة، في الصَّلاة الثُّنائيَّة والثُّلاثيَّة والرُّباعيَّة، غير أنَّه لا يَجْلِس في الثُّنائية والثُّلاثية إلا جِلْسَة واحِدَة بعد الرَّكْعَة الأُوْلَى.
__________
(1) سَبق تخريجهما: أمَّا الأول: ففي ص؟؟؟. والثاني: ففي ص؟؟؟.
(2) راجع - مثلاً -: " صحيح مسلم ": ( 486، 763، 771 ).
(3) برقم ( 483 )، ورواه - أيضًا - أبو داود ( 878 ).(1/204)
إذا عَلِمنا صِفَة تِلْك الجِلْسَة: فقد اخْتَلَف في مَشروعيَّتِها أهْل العِلْم(1)، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: هي مُسْتَحَبَّةٌ وسُنَّةٌ، مُطْلَقًا.
القول الثاني: هي غير مَشروعَة.
القول الثالث: تُشْرَع للكَبير إذا احتاج إليها.
وأرْجَحُ هذه الأقوال: هو القَوْل الأول القائِلُ بأنَّها سُنَّة مُطْلَقًا.
والدَّليل على هذا: مَا ثَبَتَ عِند البخاري(2)، مِن حديث أبي قِلابَة عن مالك بن الحُوَيِّرِث - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " إذا كان في وِتْرٍ من صلاته لم يَنْهَض حتى يَسْتَوي قاعِدًا ". وكان مالك بن الحويرث - - رضي الله عنه - - يَجْلِس هذه الجِلْسَة(3).
وهذا يعني أنَّه ? كان يَجْلِس قبل أن يَسْتَتِم قَائِمًا، ثم يقوم بعد ذلك.
واسْتَدَلَّ أصْحاب القول الثالِث القائِلون بِمَشروعيَّتها للحاجَة: بِنَفس هذا الحَديث؛ فقالوا: أنَّ الرسول ? إنَما فَعَل هذا لِكِبَرِه وحاجَتِه لذلك؛ لأنَّ مالك بن الحويرث - - رضي الله عنه - - إنما قَدِمَ عليه في السَّنَة العَاشِرَة، وكان ? قد كَبر سِنُّه.
أقول: مالِك بن الحويرث - - رضي الله عنه - - هو نَفسه الذي رَوَى عَن النبي ? قَوْلَه: " صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي "(4)، ثُمَّ رَوَى - هُنا - أنَّه يفعلها، وفَهِمَ هذا ونَقَله. والأصْلُ سُنِّيَّة هذه الجِلْسَة مُطْلقًا.
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 311 )، و" المجموع ": ( 3 / 443 )، و" الأوْسَط " / لابن المُنذِر: ( 3 / 193 )، و" الصلاة وحُكْم تاركها " / لابن القيم: ( ص 241 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 7 / 287 ).
(2) برقم ( 823 )، ورواه الترمذي ( 287 )، وأبو داود ( 844 )، والنسائي ( 1152 ).
(3) رواه البخاري ( 677، 802، 824 ).
(4) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/205)
ومِن نافلة القول: أنَّ هذه الجِلْسَة رُويت(1) - أيضًا - مِن حَديث أبي حُمَيْد السَّاعِدِي - - رضي الله عنه - - في وَصْفِه لصلاة النبي ?؛ إلا أنَّه اخْتُلِفَ في صِحَّتِها. ورُويَت - أيضًا - في حَديث " المُسىء صَلاتَه "، ولا تَصِحُّ أيضًا(2).
فاقتصر الاستدلال على سُنيَّتِها بِحَديث مالك بن الحويرث - - رضي الله عنه - -، الذي رواه البُخارِيُّ.
والأمرُ واسِعٌ فيها: إنْ جَلَسها المُصَلِّي فقد أحْسَن، وإن لم يَجْلِسها فلا بأس.
إذا ثَبَتَ أنَّه يُسَنُّ للمُصَلِّي الجُلوس قليلاً للاستراحة قبل قيامِه للرَّكعة الثانية أو الرَّابِعَة: فكيف يقوم إليهما بَعْدَها؟
اخْتَلَف أهْل العِلْم(3) في صِفَة هذا القيام - مع اختلافهم في مشروعيَّة الجِلْسَة -؛ فكأنَّ اختلافهم في مسألة: القيام مِن السَّجْدَة الثانية -: هل يعتمد بِيَدَيْه على الأرض، أم يَعْتَمِد على رُكْبَتَيْه؟ بمعنى: هل يَرْفَع يَدَيْه أولًا ثُمَّ رُكْبَتَيْه، أم يبدأ بِرُكْبَتَيْه قبل يَدَيْه؟ على قَولَين.
__________
(1) رواه أبو داود ( 730 )، وابن ماجه ( 1061 )، وأحمد ( 5 / 424 ).
(2) وهي إحدى روايات البُخارِي ( 6251، 6252 )، ورواه - أيضًا - البيهقي في " سُنَنه الكُبْرَى ": ( 2 / 126 ). وراجع: " فتح الباري " / لابن رَجب: ( 7 / 284 ).
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 311 )، و" المجموع ": ( 3 / 444 )، و" الأوْسَط " / لابن المُنذِر: ( 3 / 194 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 7 / 291 ).(1/206)
والأقرب: أنَّه يَعْتَمِد على يَدَيْه عِند القيام. والدَّليل على هذا: حَديث مالك بن الحويرث - - رضي الله عنه - -، في وَصْفِه لصلاة النبي ?، أنه " إذا رَفَعَ رأسه عن السجدة الثانية جَلَس، واعتمد على الأرض، ثُمَّ قام "(1)؛ لأنَّ قوله " اعتمد على الأرض " = أي: اعْتَمَدَ بِيَدَيْه؛ لأنَّ القَدَمَيْن على الأرْض أصلاً. كما قال الإمام مالك - رحمه الله -.
وفَهِمَ هذا الإمامُ الشَّافعي وفَسَّر الحَديث به(2)، وبَوَّب عليه الإمامان: ( ابن أبي شيبة ) في كتابه " المصنف "(3) فقال: " بابُ: الاعتماد على اليَدَيْن "، وابن خزيمة(4)؛ فقال: " بابُ: الاعتماد على اليَدَيْن، ثُمَّ النُّهوض إلى الرَّكْعَة الثانية وإلى الرَّابِعَة " وذَكَرَا تَحْتَه هذا الحديث.
وقد روى ابن المنذر وغيره(5)، من طريق أبي سلمة حماد بن سَلَمَة عن الأزْرَق بن قَيْس قال:" رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - يَنْهَض في الصَّلاة ويَعْتَمِد على يَدَيْه ".
ولا أعْلَم ما يُخالِفُ هذا عَن الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - -.
وأما حديث وائل بن حُجْرٍ - - رضي الله عنه - -(6) الذي احْتَجَّ به المُصَنِّف على القيام على صُدر القَدَمَين: فَفِيه ضَعْفٌ:
__________
(1) رواه البخاري ( 824 )، والنسائي ( 1153 ).
(2) راجع: " الأم ": ( 1 / 117 )، و" المجموع ": ( 3 / 442، 445 ).
(3) " مُصَنَّف ابن أبي شَيبة ": ( 1 / 348 ).
(4) " صحيح ابن خُزَيمة ": ( 1 / 342 ).
(5) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف ": ( 1 / 347 ) عن وكيع عن حماد به، ومِن طَريقه رواه ابن المُنذِر في " الأوْسَط ": ( 1461 ). ورَوى عن نافع عنه نحوه.
وقال البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 135 ): " وروينا عن ابن عمر أنه كان يعتمد على يديه إذا نهض... ".
(6) سبق تَخريجه، والكلام عليه وعلى عِلَّته تَفصيليًّا: ص؟؟؟.(1/207)
فقد رواه شَريك بن عبد الله القاضي عن عَاصِم بن كُلَيْب عن أبيه عن وائل - - رضي الله عنه - - قال: " رأيتُ رسول الله ? إذا سَجَدَ يَضَع رُكْبَتَيْه قبل يَدَيه، وإذا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيه قبل رُكْبَتَيه ".
فيه: شَرِيك بن عبد الله القاضي، فيه ضَعْفٌ.
وحَديث مالك بن الحويرث - - رضي الله عنه - - أصَحُّ منه - بلا شَكٍّ - فيُغْنِي عَنه.
وأمَّا صِفَة الاعتماد على اليَدَيْن عِندَ القيام: فلم يأتِ نَصٌّ في ذلك؛ فالأمرُ فيها واسِعٌ، فيجوز للمُصَلِّي فبضهما أو بسطهما عِند الاعتماد؛ وكُلُّ هذا يَدْخُل تحت الاعتماد باليدين.
…وأمَّا حَديث العَجْن(1) في الصَّلاة: فهو ضَعيفٌ شَاذٌّ لا يَصِحُّ. والصَّحيح فيه: أنه مَوقوفٌ على عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بغير هذا اللَّفظ؛ وإنَّما باللفظ الذي سَبَق قبل قليل: " كان يعتمد على يديه "، وهذا هو الصَّحيح.
وقد اخْتُلِفَ في صِفَة العَجْن(2)، ولا حَاجَة إلى مَعْرِفَته؛ لِعَدم صِحَّة الحَديث الوارِد فيه.
فالخُلاصَة: أنَّ السُّنَّة في القيام للرَّكْعَة الثانية والرَّابِعَة = هي الاعتمادُ على اليَدَيْن. وإنْ اعْتَمَدَ على رُكْبَتَيْه فالأمْرُ وَاسِعٌ.
__________
(1) رواه - مرفوعًا - أبو إسحاق الحربي في " غريب الحديث " ( 2 / 525 - برقم 613 ) مِن طريق الهيثم عن عطية بن قيس عَن الأزرق بن قيس قال: " رأيتُ ابن عمر - رضي الله عنهما - يَعْجِن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام. فقلتُ له؟ فقال: رأيتُ رسول الله ? يفعله ". ورواه أيضًا الطبراني في " الأوسط " ( 4 / 213، برقم 4007، طـ دار الحرمين ) و ( 3 / 342، برقم 3347 ) عَن الهيثم بنحوه.
(2) وقد بَسَطَ ذلك العلامة ( بكر بن عبد الله أبو زيد ) - حفظه الله - في جُزئه " كيفية النَّهوض في الصَّلاة، وضَعْف حَديث العَجن ": ( ص 201، 205 وما بعدهما - ضِمن " الأجزاء الحَديثيَّة " ).(1/208)
قال: " إلا أن يَشُقَّ - لِكِبَرٍ أو مَرَضٍ أو ضَعْفٍ - ":
مِن تَيسير الله لِعبادِه أنَّ المُصَلِّي يَفْعَل ما يُناسِبه إذا شَقَّ عليه ما سَنَّه له الشَّرْعُ.
قال: " ثم يُصَلِّي الركعة الثانية كالأولى، إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح، ولو لم يأتِ به في الأُوْلَى ":
يَعني أنَّ المُصَلِّي يُصَلِّي الرَّكْعَة الثانية مِثْل الأُوْلَى، ويُسْتَثْنَى فيها أمران:
الأوَّل: أنَّه ليس فيها تَكبيرة الإحرام؛ وإنما يُكَبِّر تكبيرة الانتقال من السُّجُود إلى الرَّفْع مِن السُّجُود ( جِلْسَة الاستراحة ).
الثاني: دُعاء الاستفتاح: فلا يُؤتَى به إلا في الرَّكْعَة الأولى فحسبُ.
ثُمَّ إنَّ الصَّلاة لا تَخْلو إمَّا أن تكون: جَهْريَّة أو سِريَّة:
فإنْ كانت جَهريَّة: فيفوته دُعاء الاستفتاح بِجَهْر الإمام بالفاتِحَة وما بعدها. فإن جاء المُصَلِّي والإمام في الفاتِحَة - وما بَعْدَها - فلا يقرأ دُعاء الاستفتاح.
أمَّا إنْ كانت الصَّلاة سِريَّة، وخَشيَ رُكوع الإمام: وَجَبَ عليه المُبادَرة إلى قراءة الفاتِحَة؛ لأنَّها رُكْنٌ، ودُعاء الاستفتاح سُنَّة، ويكون قد فاتَه وسَقَط عَنه.
قال: " ثم يجلس للتشهد مُفْتَرِشًا، جَاعِلًا يَدَيْه على فَخِذَيْه، بَاسِطًا أصَابِعَ يُسْرَاه، مضمومة، مُسْتَقْبِلًا بها القِبْلَة، قَابِضًا مِن يُمناه: الخِنْصَر والبِنْصَر، مُحَلِّقًا إبْهَامه مع وُسْطاه ":
يُبَيِّن المؤلِّف - رحمه الله - هُنا صِفة الجُلوس للتَّشَهُّد الأوَّل؛ وهو: أن يَفْرِشَ رِجْلَه اليُسْرَى ويَجْلِس عليها، ويَنصب اليُمْنَى.
وثَبَتَ هذا في حديث أبي حُمَيْد الساعدي - - رضي الله عنه - - في وَصْفِه لصلاة النبي ? [ رواه البُخاري في " صَحيحه "(1) ].
__________
(1) برقم ( 828 ). ورواه مسلم ( 498 )، وأبو داود ( 783 ) مِن حَديث عائشة - رضي الله عنها -.(1/209)
وأمَّا صِفَة الجُلُوس للتَّشَهُّد الأخير: فستأتي(1) في موضعها - إن شاء الله -.
وَورَدَت في صِفَة قَبْض أصابِع اليَد اليُمْنَى عِند الجُلوس للتَّشَهُّد ( عمومًا ) صِفَتان:
الصِّفَة الأُولَى: يَقْبِض اثنين مِن أصَابِعِه - وهما الخِنْصِر والبِنْصِر -، ويُحَلِّق بإبهامه والوُسْطَى حَلْقَةً، ويُشير بالسَّبَّابَة، ويَحْنيها شَيئًا قَليلًا.
جاءَت هذه الصِّفَة مِن حَديثَي: أيوب عَن نافع عَن عبد الله بن عمر(2) - رضي الله عنهما -، ومِن حَديث: وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - -(3):
إلا حَنيها قليلاً: فقد جاءت(4) مِن حَديث مَالك بن نُمَيْر الخُزَاعِي عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال: " رأيتُ النبي ? واضِعًا ذِراعَه اليُمنَى على فَخِذه اليُمنَى، رافِعًا إصْبَعَه السَّبَّابَة، قد حناها شيئًا ".
وإسْنادُ حَديث مالك لا بأس به، وصَحَّحه ابن خُزَيْمَة(5). ومالك بن نمير لا بأس به.
الصِّفَة الثانية: يَقْبِض كُلَّ أصَابِعِه، ويُشير بالسَّبَّابَة فقط.
جاءتَ هذه الصِّفَة مِن حَديث علي بن عبد الرحمن المُعَاوِي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن الرسول ? " قَبَضَ أصَابِعَه كُلَّها، وأشار بإصْبَعِه التي تَلي الإبْهام " [ رواه مسلم في " صحيحه "(6) ].
ولم تَثْبُت إلا هاتان الصِّفَتان.
وأمَّا تَحْرِيك السَّبَّابَة المُشار بها: فالسُّنَّة هي الإشارَة بها فقط، أمَّا التحريك فلا.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه مسلم ( 580 ).
(3) رواه أبو داود ( 726 )، والنسائي ( 1263، 1265 )، وابن ماجه ( 912 ).
(4) رواه أبو داود ( 991 )، وأحمد ( 3 / 471 ).
(5) في " صَحيحه ": ( 1 / 354 ).
(6) برقم ( 580 )، ورواه أبو داود ( 987 )، والنسائي ( 1267 )، ومالك ( 199 ).(1/210)
واحْتَجَّ القائِلون بالتَّحْريك: بِمَا رواه(1) زائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حُجْر - - رضي الله عنه - - أنَّه ? " رَفَعَ إصْبَعَه... يُحَرِّكها يَدْعو بها ".
فزاد لَفظة " يُحَرِّكها "، وهي زيادَة شاذَّة تَفَرَّد بها عَن باقي مَن روى الحَديث مِن الأئمة الثِّقات، وقد جاء - أيضًا - مَا يُخَالِفُها في حديث عبد الله بن الزبير - - رضي الله عنه - -، عند النسائي(2)؛ فقال " كان النبي ? يُشير بأُصْبُعِه إذا دعا ولا يُحَرِّكها ". فزاد " ولا يُحَرِّكها "، وزيادته أقوى مِن زيادة زائدة بن قُدامَة وتُخالفها. ومعنى " إذا دعا ": يعني: إذا تَشَهَّد.
فالحاصِل أنَّ الأحاديث الصحيحة ليس فيها إثبات التَّحريك؛ وإنَّما فيها الإشارَة فَحَسْبُ، ولا يلزم من الإشارَة التحريك؛ بل التَّحْرِيك شىءٌ زائِدٌ عَن الإشارَة، يفتَقِر إلى دَليلٍ صَحيحٍ؛ فأنتَ إذا حَرَّكْتَ يَدَك فهذا شىءٌ زائِدٌ عَن مُجَرَّد الإشارَة بِهَا.
إذا ثَبَتَ أنَّ المَسنون للمُصَلِّي هو الإشارَة: فيبدأ الإشارة بالأُصْبُع مِن حين جُلوسه للتَّشَهُّد إلى أن ينتهي مِنه؛ كما يُفْهَم مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - المُتَقَدِّم، وغيرُه.
واعْلَم أنَّ التَّشَهُّد الأوَّل وَاجِبٌ - على القول الراجح -. وسيأتي(3) تَفصيل الكلام على ذلك - إن شاء الله - في الأركان والواجبات.
__________
(1) رواه أبو داود ( 726 )، والنسائي في " سُنَنِه الصُّغْرَى ": ( 889، 1268 )، و" الكُبْرَى ": ( 1 / 310، 376 )، وأحمد ( 4 / 318 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 354 )، وابن حِبَّان ( 5 / 170 )، والدارمي ( 1357 )، وابن الجارود في " المُنتَقى ": ( ص 62 ).
(2) رواه النَّسائي في " سُنَنِه ": ( 1270 )، وأبو داود ( 989 )، والبيهقي ( 2 / 131 )، وعبد الرزاق في " مُصَنَّفِه ": ( 2 / 249 ).
(3) ص؟؟؟.(1/211)
قال: " ثم يتشهد سِرًّا، ويُشير بِسَبَّابَته اليمنى في تَشَهُّده إشارة إلى التوحيد، ويُشير بها عند دعائه - في صلاة وغيرها -؛ لقول ابن الزبير: " كان النبي ? يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها " رواه أبو داود(1) ".
…[........]
q q q q q
قال: " فيقول التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأي تشهد تشهده مما صح عن النبي ? جاز والأولى تخفيفه وعدم الزيادة عليه وهذا التشهد الأول.
__________
(1) مضى تخريجه قبل قليل.(1/212)
ثم إن كانت الصلاة ركعتين فقط صلى على النبي ? فيقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على آل إبراهيم إنك مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ويجوز أن يصلي على النبي ? مما ورد، وآل محمد أهله بينه، وقوله: ( التحيات ) أي جميع التحيات لله تعالى استحقاقًا وملكًا، ( والصلوات ) الدعوات ( والطيبات ) الأعمال الصالحة فهو سبحانه يحيّى ولا يسلم عليه لأن السلام دعاء. وتجوز الصلاة على غير النبي ? منفردًا إذا لم يكثر ولم يتخذ شعارًا لبعض الناس أو يقصد بها بعض الصحابة دون بعض، وتسن الصلاة على النبي ? في غير الصلاة وتتأكد تأكدًا كثيرًا عند ذكره. وفي يوم الجمعة وليلتها، ويسن أن يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ) وإن دعا بغير ذلك مما ورد فحسن لقوله ?: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ) ما لم يشق على مأموم، ويجوز الدعاء لشخص معين لفعله ? في دعائه للمستضعفين بمكة، ثم يسلم وهو جالس مبتدئًا عن يمينه قائلًا السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك والالتفات سنة ويكون عن يساره أكثر بحيث يُرى خده ويجهر إمام بالتسليمة الأولى فقط ويسرهما غيره، ويسن حذفه وهو عدم تطويله أي لا يمد به صوته وينوي به الخروج من الصلاة وينوي أيضًا السلام على الحفظة وعلى الحاضرين وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض مكبرًا على صدور قدميه إذا فرغ من التشهد الأول ويأتي بما بقي من صلاته ".
الشرح:
قال: " فيقول التحيات لله ":
" التحيات ": وهي خاصَّةٌ بالله - - عز وجل - -، ومَعناها: جَميع التَّعظيمات له - - سبحانه وتعالى - -؛ فلا يَسْتَحِقُّها سِواه.
والتَّحيَّات - عُمومًا - على قِسْمَيْن:
الأول: ما لا يكونُ إلا للخالق - جَلَّ وعَلا -.(1/213)
الثاني: ما كان للمَخْلُوق: ويُشْتَرَط لِجوازِها ألا يتجاوَز المُحَيِّي ويُبالِغ ويُغالِي بِرَفع مَن حيَّاه إلى مَرْتَبَة الخالق - - سبحانه وتعالى - -.
فلا يجوز- مثلاً - جَعْل كُلِّ التَّحيات لِمَخلوقٍ مِن البَشَر؛ فلا يجوز لإنسانٍ أن يقول لإنسانٍ مِثْله: لك جَميع تحياتي، أو كامل تَعْظيمي، أو كُل تَقْديري - كما يقوله بعض الناس -؛ فهذا كُلُّه مِن الشِّرْك؛ لأنَّه جَعَل كُلَّ التحيات لهذا المخلوق، وما جعل للخَالِق شَيئًا لِلَّهِ
ومَع الأسف؛ فهذه العبارات الشِّرْكيَّة مُنتَشِرَةٌ بين الناس لِلَّهِ
فإنْ كان لا بُدَّ فاعِلاً فليَقُل - مثلاً -: أنا أُحَيِّيك، أو أُقَدِّرُك، أو أحْتَرِمُك. فهذا صَحيحٌ وليس به بأسٌ.
وسيأتي - بعد قليل(1) - تقسيمٌ آخَر للتَّحيات؛ وهي هناك بمعنى السَّلام.
قال: " والصَّلوات ":
أي: جَميعُ العِبَادَات لك يا رَبِّ. ومِن ذلك: الصَّلوات والدُّعاء - و" الصلاة " معناها " الدعاء " -.
قال: " والطَّيِّبَات ":
هي: كُلُّ الأعْمَال الصَالِحَة الطَّيِّبَة. فتكون تلك الأعْمال لله - - سبحانه وتعالى - -.
قال: " السلام عليك أيها النَّبِيُّ ورحمة الله وبركاته ":
بَعْد أن يُحَيِّي العَبْدُ المُصَلِّي رَبَّه - - عز وجل - -، ويُعَظِّم خَالِقَه ومَولاه = يُسَلِّمُ على رسوله الكريم ?.
ومِن المعلوم أن لله - - عز وجل - - لا يُسَلَّم عليه؛ وإنَّما يُحَيَّى؛ لِمَا ثَبَتَ في حديث ابن مسعود - - رضي الله عنه - - الصَّحيح(2)، أنَّه قال: " كُنَّا نُصَلِّي خلف النبي ?، فنقول: السلام على الله؛ فقال النبي ?؛ وقال: إنَّ الله هو السَّلام، ولكن قولوا: التَّحيات لله... " الحَديث.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري في عِدَّة مواضِع - واللفظ له -: (7381، 835، 6230، 6328)، ومسلم ( 402 ).(1/214)
والحِكْمَة مِن هذا: أنَّ معنى " السَّلام ": الدُّعاء بالسَّلامة؛ فأنتَ حينما تُسَلِّم على أخيك المُسْلِم فمعنى ذلك: أنَّك تَدْعُو له بالسَّلامَة؛ فالله - - عز وجل - - لا يُسَلَّم عليه؛ لأنَّه - - سبحانه وتعالى - - هو السَّلام، والسَّلام اسْمٌ مِن أسماءِه - - سبحانه وتعالى - -، وهو السَّالِم مِن كُلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، بِخِلافِ خَلْقِه فيُدْعَى لَهُم بالسَّلامَة.
وتَحيَّة المُسْلِمين فيما بينهم هي السَّلام.
ويُمكِن تقسيم " التحيات " إلى عِدَّة أقسام:
القِسْم الأول: تَحيَّةٌ بين العَبْدِ ورَبِّه - - سبحانه وتعالى - -: وتَقَدَّم(1) الكلام عليه قريبًا.
القِسْم الثاني: تَحيَّةٌ بين المُسْلمين بَعْضُهم البعض:
وتَحية المُسْلمين فيما بينهم هي: " السَّلام عليكم ورَحْمَة الله وبركاته ". وهي على ثلاث دَرَجَاتٍ في الأجْر - كما ثَبَتَ(2) في الحديث الصحيح -:
الأُولَى: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وفيها ثلاثون حَسَنةً.
الثانية: السلام عليكم ورحمة الله. وفيها عِشْرون حَسَنةً.
الثالثة: السلام عليكم. وفيها عَشْر حَسَناتٍ.
ويكون الرَّد بأحْسَنَ مِنها أو مِثْلها؛ فيقول: " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
وأمَّا زيادَة " ومغفرته " في الرَّد: فهي زيادَة ضعيفة لا تَصِحُّ(3) - وإنْ كان هناك مَن صَحَّحَها مِنْ أهل العلم(4) -؛ لأنَّها مَعْلولَةٌ بأكْثَر مِن عِلَّة:
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه الترمذي ( 2689 )، وأبو داود ( 5195 )، وأحمد ( 4 / 439 )، والدارمي ( 2640 ).
(3) قال البيهقي: "... في إسنادِه إلى شُعْبَة مَن لا يُحْتَجُّ به " اهـ.
(4) كالعلامة الألباني - رحمه الله -.(1/215)
فقد رُويَت(1) مِن حديث محمد بن حُمَيْد عن إبراهيم بن المختار عن شُعْبَة بن الحَجَّاج.
1ـ ومحمد بن حُمَيْد: هو الرازي، مَتْروكٌ لا يُحْتَجُّ به، مَع أنه حافظ، إلا أنَّه اتُّهِمَ بِتَركيب الأسانيد؛ فَتُكُلِّم في عَدالَتِه.
2ـ وإبراهيم بن المختار: فيه ضَعْفٌ مِن جِهَة حِفْظِه، وتَفَرَّد بالحَديث عن شُعْبَة بن الحَجَّاج لِلَّهِ وهو ليس مِن أصحابه المُقَدَّمين - كمحمد بن جعفر ( الملقب بغندر، وهو مِن أثْبَت الناس في شُعْبَة ) وأبي داود الطيالسي -؛ فلا يُقْبَل تَفَرُّده.
وقد ثَبَتَ في " الموطأ "(2)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه مِن قوله: " إن السلام انتهى إلى البَرَكَة " = يعني: إلى " السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته "، وليس فيه " ومغفرته ".
فإذا سَلَّم المُسْلِم على أخيه المُسْلِم بهذه التَّحيَّة = يسأله عَن حالِه وأخباره، إنْ شاء.
وقد مَرَّ معنى - قبل قليل - مَعنى " السَّلام "؛ وأنَّه: الدُّعاء بالسَّلامَة.
وأمر السَّلام عَظيمٌ، وشأنه كَبير، وفيه الأجْرُ الجزيل.
وقد اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في حُكْم ابتداء السَّلام - بعد اتفاقهم على وجوب رَدِّه -:
( 1 ) فَذَهَب جُمهور أهل العِلْم إلى أنَّه: سُنَّةٌ، ورَدَّه واجِبٌ.
واسْتَدَلَّوا على ذلك بقول الله - - عز وجل - -: ? وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ? [ النساء: 86 ]؛ فقالوا: قوله ? وَإِذَا حُيِّيتُمْ ? يُفيد أنَّ ابتداء النَّاس بالسلام مُسْتَحَبٌّ، ورَدُّه وَاجِبٌ.
( 2 ) وذهبَ بَعْضُ العلماء - منهم الإمام ( ابن تيمية ) - إلى أنَّه: واجِبٌ.
__________
(1) رواه البيهقي في " شُعَب الإيمان ": ( 6 / 456 - برقم 8881 )، بهذا الطَّريق مِن حَديث زيد بن أرقم - - رضي الله عنه - -. ورواه أبو داود ( 5195 ) مِن طريقٍ آخر، مِن حَديث مُعاذ بن أنس - - رضي الله عنه - -.
(2) برقم ( 1789 ).(1/216)
وهذا الثاني هو الأقْرَبُ والأرْجَح؛ لأن الرسول ? جَعَلَه مِن حَقِّ المُسْلِم على أخيه المُسْلِم عِند اللُّقيا؛ فقال: " حَقُّ المُسْلِم على المُسْلِم سِتٌّ:... إذا لَقيتَه فَسَلِّم عَلَيْه "(1).
القسم الثالث: تَحيَّة المُسْلِم الحَيِّ لأمواتِ المُسْلمين عِندَ زيارَتِهم في المَقابر:
وهي أن يقولَ: " السَّلام عليكم دَارَ قَومٍ مؤمنين، وإنَّا إنْ شاء اللهُ بكم لاحِقُون.. " الحديث(2)، وهو مَشهورٌ، وغيرها مِن الأدْعيَة.
القسم الرابع: تَحيَّةٌ بَيْن المُسْلِم والكَافِر: وهذه لا تَجوز؛ لأنَّ الرسول ? نَهى المُسْلِم عَن ابتداء الكافِر بالسَّلام(3)، فإذا بدأ هو بالسَّلام يُرَدُّ عليه؛ فيُقال: " وَعَلَيْكُم " فَحَسْبُ(4).
والحِكْمَة مِن هذا النَّهي: أنَّ ابْتِدَاء الإنسان بالسَّلام يُعَدُّ احْتِرَامًا وتَعظيمًا له، والكَافِر لا يَسْتَحِقُّ ذلك.
ويُسْتَثْنَى مِن هذا النَّهي: جَواز تَحيَّة الكافِر بقولنا: " السَّلام على مَن اتَّبَع الهُدَى "، إنْ كانتَ للمُسْلِم حاجة مشروعة عِندَ هذا الكافِر؛ كما فعل الرسول ? عندما أرسل إلى هِرَقْل قال: " مِن محمدٍ عَبْدِ الله ورَسُوله، إلى هِرَقْل عَظِيم الروم، السَّلامُ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى " [ رواه البخاري في " صحيحه "(5) ].
__________
(1) رواه مسلم - واللفظ له - ( 2162 )، والبخاري ( 1240 )، والترمذي ( 2737 )، وأبو داود ( 5030 )، والنسائي ( 1938 )، وابن ماجه ( 1435 ).
(2) رواه مسلم ( 249 )، وأبو داود ( 3237 )، والنسائي ( 150 )، وابن ماجه ( 4306).
(3) جاء في ذلك أحاديث؛ مِنها: مَا رواه مسلم ( 2167 )، والترمذي ( 1602 )، وأبو داود ( 5205 )، وغيرهم.
(4) جاء في ذلك أحاديث؛ مِنها: مَا رواه البخاري ( 6926، 2935، 6257 )، ومسلم ( 2163، 2165 )
(5) رواه في عِدَّة مواضع (6261، 7، 2941، 4553، )، ورواه مسلم ( 1773 ).(1/217)
ومع هذا؛ فهذه التَّحيَّة مُقَيَّدة بِاتِّباع الهُدَى: فإذا اتَّبَعَ الكافِرُ الهُدَى وأسْلَمَ = وَقَعَ السَّلام عَلَيْه، وإنْ لم يَتَّبِعْه لم يَقَع عليه السَّلام؛ لأنَّه مُقَيِّدٌ بِمَن اتَّبَع الهُدَى.
قال: " السلام علينا وعلى عباد الله الصاحين ":
بعد أن يُسَلِّم المُصَلِّي على الرسول ? = يُسَلِّم على نَفْسِه وعلى عِبادِ الله الصَّالِحين؛ فيَدْعُو للجَميع بالسَّلامَة.
وقوله " عباد الله الصَّالحين " - كما جاء في الحديث الصحيح - (1): يُصيب " كل عَبْد صالِح في السَّماء والأرْض "، مِن الإنس والجِنِّ والمَلائكة.
قال: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله ":
[.......].
هذه هي صيغَة التَّشَهُّد، كما ذَكَرَها المُصَنِّف - رحمه الله -، وقد رُويِّت مِن حَديث عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - -، وحَديثه هو أشهر الأحاديث التي جاءت في التَّشَهُّد، وهو في " الصحيحين " وغيرهما(2).
وله طُرُقٌ كَثيرَة؛ مِنها: مَا جَاء(3) مِن طريق الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي عنه.
قال: " وأيُّ تَشَهُّدٍ تَشَهَّدَه مما صح عن النبي ? جَازَ ":
يُشْرَع للإنسان أن يأتيَ بأي تَشَهُّدٍ صَحَّ عَن النبي ?؛ فهو مُخَيِّرٌ في ذلك.
وقد ثَبَتَت عنه ? عِدَّة تَشَهُّدات؛ مِنها:
__________
(1) رواه البخاري ( 6230 )، ومسلم ( 402 )، وأبو داود ( 968 )، والنسائي ( 1298 )، وابن ماجه ( 899 ).
(2) رواه البخاري ( 831، 835، 1202 )، ومسلم ( 402 )، والترمذي ( 289 )، وأبو داود ( 968 )، والنسائي ( 1162 )، وابن ماجه ( 899 ).
(3) رواه مِن هذا الطريق: البخاري ( 831، 835، 6230 )، ومسلم ( 402 )، والنسائي (1170، 1298 )، وابن ماجه ( 899 )، والدارمي ( 1340 ).(1/218)
( 1 ) تَشَهُّد عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: رواه الإمام مسلم(1)، من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جُبَيْر وطاووس كلاهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " كان رسول الله ? يُعَلِّمنا التشهد كما يُعَلِّمنا السُّورَة مِن القرآن؛ فكان يقول: التحيات المُباركات الصَّلوات الطيبات لله، السلام عليك... وأشهد أن مُحَمَّدًا رسول الله " الحَديث. وفي رواية النسائي وابن ماجه: " وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله ". وباقيه بمثل تَشَهُّد ابن مَسعود - - رضي الله عنه - -.
( 2) تَشَهُّد عمر بن الخطاب(2) - - رضي الله عنه - - موقوفًا عليه مِن قوله، أنَّه كان يُعَلِّم النَّاس التَّشَهُّد - وهو على المِنْبَر - يقول: " قولوا: التَّحيات لله، الزَّاكيات لله، الطَّيِّبات الصَّلوات لله، السَّلام... "، وباقيه بمثل تَشَهُّد ابن مَسعود - - رضي الله عنه - -.
( 3 ) تَشَهُّد عبد الله بن عمر(3) - رضي الله عنهما - مرفوعًا. رواه عنه مُجاهِد. وصيغَته عَنه: " التَّحيات لله، الصَّلوات الطِّيبات، السلام عليك.... أشهد أن لا إله إلا الله وَحْدَه لا شَريك له... "، وباقيه بمثل تَشَهُّد ابن مَسعود - - رضي الله عنه - -.
( 4 ) تَشَهُّد عبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري(4) - - رضي الله عنه - -. وصيغته: " التَّحيات الطَّيِّبات الصَّلوات لله، السَّلام عليك... "، وباقيه بمثل تَشَهُّد ابن مَسعود - - رضي الله عنه - -.
__________
(1) برقم ( 403 )، ورواه الترمذي ( 290 )، وأبو داود ( 974 )، والنسائي ( 1174 )، وابن ماجه ( 900 ).
(2) رواه الإمام مالك في الموطأ ( 204 ).
(3) رواه أبو داود ( 971 ).
(4) رواه مسلم ( 404 )، وأبو داود ( 972 )، والنسائي (1280 )، وابن ماجه (901 ).(1/219)
( 5 ) تَشَهُّد عائشة(1) - رضي الله عنها -، لم تَرْفَعْه إلى النبي ?، رواه عنها القاسم بن محمد. وصيغته: " التَّحيَّات الطَّيِّبات الصَّلوات الزَّاكيات لله، السلام عليك... "، وباقيه بمثل تَشَهُّد ابن عُمَر - رضي الله عنهما -.
فيُشْرَع للإنسان أن يُنَوِّع بين هذه التَّشَهُّدات في صلواتِه؛ وهذا أكْمَل وأحْسَن، وإن اقتصرَ على بعضها فَحَسَنٌ أيضًا.
قال: " والأولى تَخفيفه، وعَدَم الزيادة عليه ":
يعني: يُسْتَحَبُّ تَخفيف الجُلوس للتَّشَهُّد الأوَّل.
والدَّليل على هذا: مَا رواه الترمذي وغيره(2)، من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال: " كان رسول الله ? إذا جَلَسَ في الرَّكْعَتَين الأُولَيَيْن كأنه على الرَّضْف ".
ومعنى " الرَّضْف ": الحِجَارَة المُحماة على النَّار.
فَدَلَّ هذا الحَديث أنه ? كان يُخَفِّف هذا الجلوس.
إلا أنَّ بَعْضَ أهْلِ العلم قد تَكَلَّم فيه. ولكن إسناده لا بأس به. وأبو عُبَيْدَة(3) - وإنْ لم يَسْمَع مِن أبيه - لكن رِوايته تُعْتَبَر مُستَقيمَة عَن أبيه؛ لأنَّه أخَذَ عَن كبار أهل بيته. ولذلك قال يعقوب بن شيبة السدوسي: " " إنما إستجاز أصحابنا - علي بن المديني وغيره - إدخال رواية أبي عبيدة عن أبيه ضِمْنَ المسند [يعني: ضِمْنَ المُتَّصِل ]؛ لاستقامتها ".
إذا ثَبَتَ هذا: فما معنى التَّخفيف الوارِد في الحَديث؟
__________
(1) رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 206، 207 ).
(2) رواه الترمذي ( 366 )، وأبو داود ( 995 )، والنسائي ( 1176 ).
(3) تَقَدَّم الكلام على حُكْم رواية أبي عُبَيْدَة عَن أبيه بأوْعَب مِن هذا، فراجعه ص؟؟؟. فاكتفينا بهذه الإشارَة عَن توثيق النُّقول الوارِدَة في تلك الفِقرَة؛ لأنَّها تَقَدَّمَت.(1/220)
ليس مَعنى التَّخفيف أن يُخَفِّفَه جِدًّا - كما يفعله بعض الأئمة -؛ فلا يتمكن مَن خلفهم أن يأتي بالتَّشَهُّد لِلَّهِ فبعض النَّاس يفهم الحَديث فَهْمًا خاطِئًا فيختصر هذا الجُلوس اختصارًا شديدًا حتى يكاد يجعله بِقَدْر الجِلسْة بين السَّجْدَتَيْن لِلَّهِ وهذا كُلُّه خَطأ.
بل يُسَنُّ للمُصَلِّي في هذا الجلوس الدُّعاء بَعْد التَّشَهُّد؛ فقد عَلَّم الرسول ? ابن مسعود - - رضي الله عنه - - وغيره هذا التشهد، ثُمَّ قال له: " ثُمَّ يَتَخَيَّر مِن الدُّعاء أعْجَبه إليه فَيَدْعُو "(1).
وأمَّا الصَّلاة على النبي ? - في هذا التَّشَهَّد الأوَّل ( الصَّلاة الإبراهيمية ) - في الصَّلوات التي فيها أكْثَر مِن تَشَهُّد -: فالأقْرَب عَدَم سُنيَّتِها.
فلا تُسَنُّ إلا في التَّشَهُّد الأخير الذي يَسْبِق السَّلام، سواءً كانت الصَّلاة ثُنائية أو ثُلاثية أو رُباعيَّة أو وِترًا.
والدَّليل على هذا: أنَّ ذلك لم يَثْبُت عَن الرسول ?؛ فقد رُوي في بيان صِفَة التَّشَهُّد الأوَّل أحاديث كثيرة؛ مِنها: حَديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم - - رضي الله عنهم - -، ولا يُعْرَف أنَّ الصَّلوات الإبراهيمية رُويَت في حَديثٍ مِنها.
بل رَوَى ابن خزيمة(2)، مِن طريق ابن إسحاق عَن عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - عَن النبي ? أنَّه " إنْ كان في وَسَط الصَّلاة نَهَضَ حين يَفْرُغ مِن تَشَهُّده... " = أي: في القُعُود الأول.
__________
(1) رواه البخاري - واللفظ له - ( 835 )، ومسلم ( 402 )، وأبو داود ( 968 )، والنسائي ( 1298 ).
(2) في " صَحيحه ": ( 1 / 350 ).(1/221)
أمَّا ما رواه أبو عوانة(1) - وأصله في مسلم(2) -، عَن عائشة - رضي الله عنها - أنه ? كان " يُصَلِّي تِسْع رَكَعات، لا يَجْلِس فيهنَّ إلا عِندَ الثامِنَة، ويَحْمَد الله ويُصَلِّي على نَبيِّه ?، ويَدْعُو بينهنَّ، ولا يُسَلِّم تَسليمًا. ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسعة، ويَقْعُد - وذَكَر كَلِمَة نحوها - ويَحْمَد الله، ويُصَلِّي على نَبيِّه - ? -، ويَدْعو، ثم يُسَلِّم تَسليمًا يُسْمِعُنا... ".
فزيادَة " ويُصَلِّي على نَبيِّه ? " شَاذَّةٌ لا تَصِحُّ، والحَديث في " صحيح مُسْلِم " بدونها.
قال: " وهذا التشهد الأول ".
ثُمَّ قال: " ثم إن كانت الصلاة ركعتين فقط: صَلَّى على النبي ?؛ فيقول(3): اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ":
إذا فَرَغَ المُصَلِّي مِن التَّشَهُّد الأخير الذي قَبْل السَّلام، سأل رَبَّه - - عز وجل - - أن يُصَلِّي على رسوله ?، ويُبارِك عليه وعلى آله، كما صَلَّى وبارَك على إبراهيم وآله.
ومعنى " صلاة الله - - عز وجل - - على الرسول ? ": ثناؤه على عَبْده ? في الملأ الأعْلَى.
قال: " ويجوز أن يُصَلِّي على النبي ? مما وَرَدَ ":
ثَبَتت عَن النبي ? عِدَّة صِفات في الصلاة الإبراهيمية(4)؛ فيُسَنُّ للمُسْلِم أن يأتي بأي صِفَةٍ صَحيحةٍ مِنها؛ ومِنها:
( 1 ) الصِّفَة التي تَقَدَّم ذِكْرُها قبل أسْطُر.
__________
(1) رواه النسائي - واللفظ له - ( 1720 )، وأبو عوانة في " مُسْنَدِه " ( 1 / 551 ).
(2) برقم ( 746 )، ورواه النسائي ( 1719 )، وابن ماجه ( 1191 ).
(3) رواه البخاري ( 4797 )، ومسلم ( 406 ).
(4) راجع - مثلًا - ( غير ما يأتي ): " صَحيح البخاري ": ( 3370، 4798 )، " صحيح مسلم ": ( 405، 406 ).(1/222)
( 2 ) " اللهم صَلِّ على محمد وأزواجه وذريته... " الحَديث(1).
( 3 ) " اللهم صَلِّ على محمدٍ النبي الأمي... " الحَديث(2).
وغيرها(1).
قال: " وآل محمد: أهل بَيْته ":
اخْتَلَف العُلماء في المُراد بـ " آل محمد "(3): هَل هُم آل بَيْتِه فقط، أم يَدْخُل في ذلك كُلُّ مَن اتبعه مِن المُسْلِمين؟ على قَولَين:
والرَّاجِح مِنهما هو ما اختاره المُصَنِّف - رحمه الله تعالى - ( القول الأوَّل ).
والدَّليل على هذا: أنَّ الرِّوايات يُفَسِّر بَعضها بعضًا؛ وقد ثَبَتَ في إحْداها - وهي في " صَحيح مُسْلِم "(4) - أنَّ النبي ? قال: " قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على محمد وأزواجه وذريته "، فيُجْمَع بينها وبين تلك الرِّوايات المُتَقَدِّمَة: " اللهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد " بأنَّ آلَه: هُم أهل بيته ?.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فالمُراد بأهل بَيْتِه ?: زوجاته وأولاده ( يعني: بناتَه )؛ لأنَّ أوْلادَه الذُّكور قد توفاهم الله وهم صِغَار، أمَّا بناته الإناث فقد بَقين حتى الزَّواج.
ويَدْخُل في أهل بَيْتِه - أيضًا -: أعْمامه وآلُهم - كحمزة والعباس -، وأبناء عَمِّه وذُرِّيَّتهم - كعلي بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وبني الحارث بن المطلب - - رضي الله عنهم - -.
فَكلُّ هؤلاء هم أهل بيته ?.
قال: " وقوله: " التحيات ": أي جميع التحيات لله - تعالى - استحقاقًا ومُلْكًا، و" الصلوات ": الدعوات ، و" الطيبات ": الأعمال الصالحة. فهو - سبحانه - يُحَيَّى ولا يُسَلَّم عَلَيْه؛ لأنَّ السَّلام دُعَاء ":
__________
(1) رواه البخاري ( 3369، 6360 )، ومسلم ( 407 )، وأبو داود ( 979 )، والنسائي ( 1294 )، وابن ماجه ( 905 )، ومالك ( 397 )، وغيرهم.
(2) رواه أبو داود ( 979 ).
(3) راجع: " المجموع ": ( 3 / 466 )، " المغني ": ( 1 / 319)، " جلاء الأفها م" / لابن القيم: ( 1 / 203 ).
(4) سبق تخريجه قريبًا.(1/223)
تَقَدَّم(1) الكلامُ على كُلِّ هذا في مَوضْعِه؛ فراجعه هناك.
قال: " وتجوز الصلاة على غير النبي ? منفردًا ":
تُشْرَع الصَّلاةُ على غَير النبي والأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام -؛ فقد قال الله - - سبحانه وتعالى - - لنبيِّه ?: ? وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ? [ التوبة: 103 ]، وثَبَتَ في الحديث الصحيح(2) أن الرسول ? قال: " اللهُمَّ صَلِّ على آل أبي أوْفَى ".
…قال: " إذا لم يَكْثُر ويُتَّخذ شِعَارًا لبعض الناس، ويُقْصَد بها بعض الصحابة دون بعض ":
إذا ثَبَتَ جَوازُ الصَّلاة على غَيْرِ الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ؛ فإنَّ ذلك مَشروطٌ بِشَرْطَين؛ لا بُدَّ مِنهما:
الشَّرْط الأول: أن يكون المُصَلِّي عليه مُسْتَحِقًّ للصَّلا ةعَلَيْه؛ بأن يكون مُسْلِمًا، لا كافِرًا أو فاجِرًا.
الشَّرْط الثاني: أن لا تُتَّخَذ هذه الصلاة شِعَارًا؛ فيُصَلَّى عليه كُلَّما ذُكِرَ، كما يَفْعَل بَعْض أهْل البِدَع والضَّلال - كالرافضة: كُلَّما ذُكِرَ عليُّ بن أبي طالب - - رضي الله عنه - -؛ قالوا: عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام -؛ فاتخذوه شِعَارًا. فهذا بِدْعَةٌ ولا يَجوز، وفيه تَشبيهه بالرسول ?؛ لأنَّ الصَّلاة عليه شِعَارٌ له ?.
وهذا هو مُراد المؤلِّف - رحمه الله - بِما قال؛ فهو يَقْصِد أهْل البِدَع الرَّافِضَة الذين يَخُصُّون أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب - - رضي الله عنه - - بالسَّلام دونَ غيرِه مِن الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - -.
قال: " وتُسَنُّ الصلاة على النبي ? في غَير الصَّلاة، وتتأكد تَأكُّدًا كثيرًا عند ذِكْرِه ":
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 1498 )، ومسلم ( 1078 )، وأبو داود ( 1590 )، والنسائي ( 2459 )، وابن ماجه ( 1796 ).(1/224)
اعْلَم أنَّ الرَّاجِحَ(1) - خِلاف اختيار المُصَنِّف - أنَّ الصَّلاة على النبي ? واجِبَةٌ إذا ذُكِرَ، سواءً في الصَّلاة أو في غيرها؛ ومِن الأدِلَّة على هذا(1):
( 1 ) أمْر رَبِّنا - - عز وجل - - بها؛ فقد قال - - سبحانه وتعالى - - ? إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) ? [ الأحزاب: 56 ].
( 2 ) ثَبَتَ في الحديث الصحيح أنَّ النبي ? قال: " البخيلُ مَن ذُكِرْتُ عِندَه ثُمَّ لم يُصَلِّ عَليَّ " [ رواه بن حِبان وغيره (2) ]. فَذَمَّه ? وسَمَّاه بَخيلًا، والشَّارِع لا يَذُمُّ إلا على تَرْكِ واجِبٍ، أو فِعْلِ حَرامٍ.
وهذا عَامٌّ يَشْمَل الصَّلاة وغيرها.
( 3 ) وجاء(3) مِن طُرُقٍ كثيرة عَن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أنَّ جبريل - عليه السَّلام - خاطب النبي ? والنبي ? يُؤَمِّن ثلاثًا: " رَغِم أنفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِندَه فلم يُصَلِّ عليَّ... ".
ومعنى " رَغِم أنف امرىء ": أي: أصابه الرغام، و" الرغام ": هو التُّراب.
فأفادَت هذه النُّصوص - وغيرها - أنَّ الصلاة عليه ? وَاجِبَة إذا ذُكِرَ.
__________
(1) راجع الخِلاف في هذا ومناقشة أدِلَّة الفريقَين - بما لا تَجِده في غيره - في كِتاب " جَلاء الأفهام " / للإمام ( ابن القيم ) - رحمه الله -.
(2) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 1 /201 )، وابن حِبَّان ( 3 /189 - " إحسان " ).
(3) رواه الترمذي ( 3545 )، وأحمد ( 2 / 254 ) دون حِكايته مَع جبريل - عليه السَّلام -. ورواه بقصة التأمين ثلاثًا: ابن خُزَيمة في " صَحيحه ": ( 3 / 192 )، والطبراني في " الأوْسَط ": ( 9 / 17 )، والبيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى " ( 4 / 304 ).
وروى مُسْلِم ( 2551 ) بَعْض الحَديث ( وهو " مَن أدْرَك أبَوَيْه... " )، دون التأمين.(1/225)
أمَّا إذا تَعَدَّد ذِكْرُه ? في المَجْلِس الواحِد: فيُكْتَفَى بالصَّلاة عَلَيْه مَرَّةً وَاحِدَة(1)، ومَن كَرَّرها فهو أفْضَل؛ كما قال ?: " مَن صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْه بِهَا عَشْرًا "(2).
قال: " وتتأكد.... وفي يوم الجُمُعَة ولَيلتها ":
رُويَت عِدَّة أحاديث في الحَثِّ على الصَّلاة عَليه ? يومَ الجُمُعَة وليلتها، وقد رُويَت مِن حَديث أوس بن أوس، وأنس، وأبي مَسعود الأنصاري - - رضي الله عنهم --، وهاك تفصيلها:
( 1 ) حَديث أوس بن أوس - - رضي الله عنه - -(3):
رُوي مِن طَريق حسين بن عليّ الجُعْفِي عن عبد الرحمن بن يَزيد بن تميم ( أو بن جابر ) - على خِلافٍ في ذلك - عن أبي الأشعث عنه مرفوعًا: " إنَّ مِن أفضل أيامكم يومَ الجُمُعَة؛ فيه خُلِق آدَم... فأكْثِروا عليَّ مِن الصَّلاة؛ فإنَّ صلاتكم معروضة... " الحَديث.
ولا يَصِحُّ هذا الحَديث عِندَ جُمهُور الحُفَّاظ(4)
__________
(1) قال الترمذي ( تحت الحديث رقم 3545 ): " ويُرْوَى عَن بعض أهْل العِلْم قال: إذا صَلَّى الرَّجُل على النبي ? مَرَّةً في المَجْلِس؛ أجزأ عنه ما كانَ في ذلك المَجْلِس " اهـ.
(2) رواه مسلم ( 408، 384 )، والترمذي ( 485 )، والنسائي ( 1296 )، وأبو داود ( 1530 ).
(3) رواه أبو داود ( 1047، 1531 )، والنسائي (1374)، وابن ماجه ( 1085، 1636).
(4) كالبخاري والخَطيب وموسى بن هارون وغير واحِدٍ مِن الحُفَّاظ: نقل ذلك عنهم الإمام الحافظ ( ابن القيم ) - رحمه الله - في كِتابِه " جَلاء الأفهام ": ( ص 81، 82 ).
ورَجَّحه أبو حاتِم؛ فقال عَن هذا الحَديث ( كما في " عِلل ابنه ": 1 / 197 ): " هو حَديث مُنكَر " اهـ.
وراجع: " التاريخ الكبير " / للبخاري: ( 5 / 365 ).(1/226)
؛ لاختلاف العُلَماء في ( عبد الرحمن بن يزيد ): هل هو بن تميم - وهو ضعيف -، أم هو بن جابر(1) - الثِّقَة -؟
فَمَن رَجَّح الأخير صَحَّح الحَديث، ومَن رَجَّح الأوَّل ضَعَّفَه.
والأقْرَب أنَّ عبد الرحمن بن يزيد: هو بن تَميم، كما ذَهَب إليه كِبار الحُفَّاظ = فيكون الحَديث ضَعيفًا.
( 2 ) حَديث أنس - - رضي الله عنه -- في الصَّلاة عليه ? ليلةَ الجُمُعَة:
رُوي(2) مِن طريق يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس. وهذا ضعيف؛ لِضَعْف يزيد بن أبان الرقاشي.
ورُوي(3) - أيضًا - مِن حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي إسحاق السبيعي عن أنس.
وهذا الإسناد غَريب جِدًّا؛ فأبو اسحاق السبيعي لم يُعْرَف بروايتِه عن أنس، ولم يَسْمَع مِنه.
ورُوي(4) مِن طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس. قال أبو حاتم(5): " هذا حَديث مُنكَر بهذا الإسْنَاد " اهـ.
فالحَديث لا يَصِحُّ بجميع طُرُقِه؛ رَغْم تَعَدُّدها.
( 3 ) ورُوي - أيضًا - مِن حديث أبي مسعود الأنصاري - - رضي الله عنه - -(6).
ورُوي - أيضًا - مِن حديث أبي الدَّرْداء - - رضي الله عنه - -. رواه ابن ماجه(7).
__________
(1) رَجَّح هذا الأخير الدَّارَقُطني في " الضُّعفاء " في كَلامِه على " علل ابن أبي حاتِم "، كما نقله عنه ابن القيم في " جَلاء الأفهام ": ( ص 84 ).
(2) أخرَجَه البيهقي في " شُعَب الإيمان ": ( 3 / 110 )، وابن عَدي في " الكامل ": ( 3 / 74، 102 ).
(3) أخرجه البيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 3 / 249 )، وفي " شُعَب الإيمان ": ( 3 / 110).
(4) أخرجه ابن عَدي في " الكامل ": ( 3 / 178 ).
(5) كما في " علل ابنه ": ( 1 / 205 ).
(6) أخرجه الحاكم في " المُسْتَدْرَك ": ( 2 / 457 )، والبيهقي في " شُعَب الإيمان ": ( 3 / 110 ).
(7) برقم ( 1637 ).(1/227)
فالخُلاصَة: أنّ الأحاديث الوَارِدَة في يوم الجُمُعَة وليلتها لا يَصِحُّ مِنها شَىءٌ. لكن تَقَدَّم قَبْل قليلٍ أنَّه يجب الصلاة عليه عِندَ ذِكْرِه ?.
قال: " ويُسَنُّ أن يقول: " اللهم إني أعوذ بك مِن عذاب جهنم، ومِن عذاب القَبْر، وأعوذ بك مِن فِتْنَة المحيا والممات، وأعوذ بك مِن فِتْنَة المسيح الدَّجَّال ":
يُشْرَع للمُصَلِّي بَعْد انتهاءه مِن الصَّلاة على النبي ? أن يَسْتَعيذ بالله مِن أرْبَعٍ: مِن عَذاب جَهَنَّم، وعَذاب القَبْر، وفِتْنَة المَحْيَا والمَمَات، وفِتْنَة المَسيح الدَّجَّال.
وقد اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في حُكْم هذه الاستعاذات الأرْبَع:
( 1 ) فَذَهَب جُلُّ أهْلِ العِلْم - وهو اختيار المُصَنِّف - إلى أنَّها: سُنَّةٌ ليست واجِبَة.
( 2 ) وذَهَبَ بَعْضُ السَّلَف إلى: وجوبها.
وهو قول قَويٌّ؛ لأنَّ الرسول ? أمَرَ بالاستعاذة مِنها؛ فقال: " إذا تَشَهَّد أحَدُكم؛ فليَسْتَعِذ بالله مِن أرْبَع؛ يقول: اللهُمَّ إني أعوذُ بك مِن عذاب جَهَنَّم، و.... " الحَديث(1).
بل جَاءَ عَن طاووس - رحمه الله - ( كما في " صَحيح مُسْلِم "(2) )، أنَّه قال لابنه: أَدَعَوتَ بها في صَلاتِك؟ فقال: لا. قال: أعِدْ صلاتَك لِلَّهِ
واسْتَدَلَّ الجُمهور بقوله ?: "... ثُمَّ يَتَخَيَّر مِن الدُّعاء أعْجَبه إليه فَيَدْعُو "؛ ففي هذا الحديث - وما في معناه(3) - ذِكْر الاخْتيار.
قال: " وإنْ دَعَا بغير ذلك مِمَّا وَرَدَ فَحَسَنٌ؛ لقوله ?: " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ":
في هذا الحَديث أمرٌ بالدُّعاء، ولكن يختار أعْجَب الدُّعاء إلَيْه.
قال: " ما لم يَشُق على المأموم ":
__________
(1) رواه مسلم - واللفظ له - ( 588 )، وأبو داود ( 983 )، والنسائي ( 1310 )، وابن ماجه ( 909 ).
(2) برقم ( 590 ).
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/228)
لا يَخلْو المُصَلِّي إمَّا أن يكون: مُنفَرِدًا أو إمامًا. فإنْ كان مُنفَرِدًا فليُطَوِّل لنفسه ما شاء. أمَّا إنْ كان إمامًا وأراد أن يُكْثِر مِن الدُّعاء: فهذا مُقَيِّدٌ بألا يَشُقَّ على مَن خلفَه مِن المأمومِين.
قال: " ويجوز الدُّعَاء لشخص مُعَيِّن؛ لفعله ? في دُعائه للمستضعفين بمكة ":
اخْتَلَف العُلماء في جَواز الدُّعاء لِمُعَيِّنٍ في الصَّلاة(1): فَمَنَعه بَعْضُهم، والصَّواب جَوازُ الدُّعاء لِمُعَيَّنٍ - كما ذَكَرَه المُصَنِّف - أو الدُّعاء عَليه؛ لأنَّه ثَبَتَ أنَّ الرسول ? دَعا اللهَ - - عز وجل - - أن يُنَجِّي المُسْتَضْعَفين في مَكَّة، وكان ? يَدْعُو على أُناسٍ يُؤذُون المُسلمين ويُسَمِّيهم؛ فقد قال أبو هريرة - - رضي الله عنه -: - " كان ?... يَدْعو لِرِجالٍ فيُسَمِّيهم بأسمائهم؛ فيقول: اللهُمَّ أنْجِ الوليد بن الوليد وسَلَمَة بن هِشام وعَيَّاش بن أبي رَبيعة والمُسْتَضْعَفين مِن المؤمِنين. اللهُمُّ اُشْدُد وَطْأتَك على مُضَرَ، واجْعَلها عليهم سِنين كَسِنِي يُوسُفَ. وأهْل المَشْرِق - يومئذٍ - مِن مُضَرَ مُخالِفون له "(2).
قال: " ثم يُسَلِّم وهو جَالِسٌ، مُبتدءًا عَن يمينه قائلًا: السلام عليكم ورحمة الله، وعَن يَسَارِه كذلك ":
اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في حُكْم التَّسليم(3): هل هو رُكْنٌ أم سُنَّة؟ على قَولَين:
1ـ فَذَهَبَ جُمهور أهْل العِلْم إلى أنَّه: رُكْنٌ، ولا يُخْرَج مِن الصَّلاة إلا به.
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 322 )، و" المجموع ": ( 3 / 471 ).
(2) رواه البخاري في عِدَّة مواضِع؛ منِها ( 804، 1006، 6393 )، ومسلم ( 675 ).
(3) " التمهيد ": ( 11 / 205 )، " المغني ": ( 1 / 323 )، و" المجموع ": ( 3 / 481 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 376 ).(1/229)
2ـ وخالَفَهم الحنفية وبَعْض أهْل العِلْم؛ فقالوا: هو سُنَّة، ويَخْرُج المُصَلِّي مِن صَلاتِه بانتهاءِه مِن الصَّلاة الإبراهيمية، وفِعْله أي شىء يُنافِي الصَّلاة، كَالكلام والحَدَث لِلَّهِ فإنْ سَلَّم فهذا أفْضَل وأحْسَن.
واسْتَدَلُّوا: بِمَا رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما(1)، مِن حديث القاسم بن مُخَيْمِرَة عن عَلْقَمَة عن ابن مسعود - - رضي الله عنه - - أنَّ النبي ? قال لَه - بَعْد أنْ عَلَّمه التَّشَهُّد -: " إذا قُلتَ هذا - أو قَضَيْتَ هذا - فَقَد قَضَيْتَ صَلاتَك ".
إلا أنَّ الصَّوابَ في هذا الحَديث: الوَقْف على ابن مسعود - - رضي الله عنه - -.
والصَّحيح مِن هَذَين القَولَين: هو مَذْهَب الجُمهُور؛ لِحَديث عبد الله بن محمد بن عَقيل عن مُحَمَّد بن الحَنفيَّة عن علي بن أبي طالب - - رضي الله عنه - - قال: " مِفتاح الصَّلاة الطُّهُور، وتَحريمها التَّكبير، وتَحْليلها التَّسليم " [ رواه التِّرمذي وغيره(2) ]؛ فَدَلَّ هذا على أنَّه لا يُخْرَج مِن الصَّلاة إلا بالتَّسليم = فهو رُكْنٌ.
إلا أنَّ في إسناد الحَديث: عبد الله بن محمد بن عَقيل: فيه ضَعْفٌ ويُكْتَب حديثه. لكن جاء(3)
__________
(1) رواه أبو داود ( 968 )، وأحمد ( 1 / 422 )، والدارمي ( 1341 )، والدارقطني ( 1 / 353 ).
(2) رواه الترمذي ( 3 )، وأبو داود ( 61، 618 )، وابن ماجه ( 275 ).
(3) رواه الترمذي ( 4 )، وأحمد ( 3 / 340 )، والطبراني في " الأوسط ": ( 4 / 336 )، وغيرهم.
وجاء مِن حديث أبي سعيد - - رضي الله عنه - -: رواه الترمذي ( 238 )، وابن ماجه ( 276 ).(1/230)
ما يَشْهَد لهذا الخَبَر مِن حديث جابر - - رضي الله عنه - - بنحوه، وصَحَّ(1) نَحْو هذا عن عبدالله بن مسعود - - رضي الله عنه - - موقوفًا عليه.
وأمَّا السُّنَّة العمليَّة: فلا شَكَّ أن الرسول ? مَا كان يَخْرُج مِن صلاته إلا بالتَّسليم، ولم يُنقَل أنَّه خَرَج ? من صلاته بشىءٍ آخر.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فهذا حُكْم التَّسليمة الأُولَى. أمَّا التَّسليمة الثانية فقد وَقَعَ الخِلاف - أيضًا - بين أهْلِ العِلْم في حُكْمها: هل هي واجِبَةٌ أم سُنَّة(2)؟
والصَّحيح هو القَول بأنَّها سُنَّةٌ؛ لأنَّه ثَبَتَ عَن جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابة - - رضي الله عنهم - - أنهم اكْتَفَوْا بِتَسْليمَة وَاحِدَةٍ؛ مِنهم: أنس وعائشة وغيرهم - - رضي الله عنهم - - (3)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 208 )، وأبو نُعَيم في " كتاب الصلاة "، كما قال الحافظ في " التلخيص الحبير ": ( 1 / 216 )، وساق إسنادَه، وصَحَّحه.
(2) راجع: " التمهيد ": ( 11 / 208 )، و" المغني ": ( 1 / 324 )، و"المجموع ": ( 3 / 482 )، " الأوسط " /لابن المُنذِر: ( 3 /220 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 7 / 372 ).
(3) وقال الترمذي ( تحت الحديث رقم 296 ): " ورأى قومٌ مِن أصحاب النبي ? وغيرهم تَسليمةً واحِدَةً في المكتوبة " اهـ.
راجع الآثار في ذلك في: " مُصَنَّف ابن أبي شيبة " ( 1 / 267: 268 ):، و" مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 2 /222: 223 ).(1/231)
، بل نَقَلَ ابنا المُنذِر(1) ورَجَب(2) إجْماَع الصَّحابة على ذلك. وهذا صَحيحٌ؛ إلا أنَّ المسألة فيها خِلافٌ بين مَن بَعْدَهم(4)، أمَّا هُم - - رضي الله عنهم - - فلا يُعْلَم خِلافٌ بينهم في أنَّ التسليمة الأُولَى تَكفي أحيانًا، وأنَّ الثانية سُنَّة، وصَحَّ هذا عَنهم.
أمَّا الأحاديث المرفوعة المَرويَّة في هذا الباب - على كَثرتها - بأنَّه ? " كان يُسَلِّم - أحيانًا - تسليمة واحِدَة "(3)
__________
(1) في كِتابَيه " الإجماع ": ( برقم 45 )، و" الأوْسَط ": ( 3 / 223 ). ونقله عنه: ابن قُدامَة في " المغني ": ( 1 / 324 )، والنَّوَوي في "المجموع ": ( 3 / 482 )، وابن رَجَب في " فتح الباري ": ( 7 / 373 ).
(2) في " فتح الباري ": ( 7 / 374 ).
(3) رُويَت مِن أحاديث: عائشة وأنس وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع وسعد بن أبي وقاص:
أما حديث عائشة: فقد رواه الترمذي ( 296 )، وأبو داود ( 1346 )،وابن ماجه ( 919 ).
وحديث أنس: رواه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 267 )، والطبراني في " الأوسط ": ( 8 / 226 )، والبيهقي ( 2 / 179 ).
وحديث سَهْل بن سَعْد: رواه ابن ماجه ( 918 )، والدارقطني ( 1 / 359 ).
وحديث سلمة بن الأكوع: رواه ابن ماجه ( 920 )، والبيهقي ( 2 / 179 ).
وحديث سعد بن أبي وقاص: رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار ": ( 1 / 266 ).
على أنَّ بعض هؤلاء الصَّحابة - رضي الله عنهم - رُوي عنهم التَّسليمَتَين: كأنس موقوفًا عليه مِن فِعْلِه ( رواه الطبراني في " الكبير ": 1 / 245 )، وسَهل بن سعد مرفوعًا ( رواه أحمد 5 / 338 )، وسعد بن أبي وقاص ( ذَكَر ذلك ابن عبد البر في " التمهيد ": 11 / 207، 16 / 188 ).(1/232)
: فلا يَصِحُّ مِنها شىءٌ - وإنْ صَحَّحها بَعْضُ العُلماء(1) -؛ فقد ضَعَّفها كِبار أهْل العِلْم: كعلي بن المديني، وأبي جعفر العُقيلي، وأحمد، والأثرم، وأبي الحَسَن الدَّارَقُطْنِي، وأبي عُمَر ابن عبد البر، وابن القيم، وغيرهم(2).
قال: " والالتِفَات سُنَّة، ويكون عن يساره أكثر بحيث يُرَى خَده ":
مِن السُّنَّة أثناء التَّسليم: أن يَلْتَفِت المُصَلِّي عَن يمينه، ثم يَلْتَفِت عَن يسارِه، حتى يُرَى بَياضُ خَدِّه؛ كما كان ? يَفْعَل ذلك(2).
وقوله: " ويكون عَن يَساره أكثر ": معناه أن يكون التفاتُه عَن يسارِه أكثر مِن يَمينه.
واسْتَدلَّ القائِلون بِسُنيَّة هذا: بأن الرسول ? " سَلَّم عَن يمينه وعَن يَسارِه حتى رُؤي بَياضُ خَدِّه "(2) = يعني: أنَّ مَن كان عن يَسارِه رأى خَدَّه الأيمن ?؛ قالوا: فهذا فيه أنه ? كان يجعل التفاتَه عَن يسارِه في التسليمة الثانية أكثر من التفاته عَن يمينه في التَّسليمة الأُولَى.
__________
(1) كالحافظ ابن حجر والشوكاني وأحمد شاكر والألباني - رحمهم الله جميعًا -. انظر أقوالهم في: " الدراية في تخريج أحاديث الهِداية ": ( 1 / 159 )، و" نيل الأوطار ": ( 2 / 342 )، وتعليق العلامة ( أحمد شاكر ) على " سُنَن الترمذي ": ( 2 / 91 )، و" إرواء الغَليل ": ( 2 / 33 ).
(2) انظر: " الضُّعفاء الكبير " / للعقيلي: ( 1 / 177 )، " التمهيد ": ( 11 / 207، 16 / 188 )، و" زاد المعاد " / لابن القيم: ( 1 / 259 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 367 )، ولابن حَجَر: ( 2 / 323 )، و" تهذيب التهذيب " / له: ( 8 / 39 )، و" نصب الراية ": ( 1 / 433 )، و" المغني " / لابن قُدامة: ( 1 / 323 )، و" المجموع ": ( 3 / 480 ).(1/233)
إلا أنَّ ظاهِرَ الأحاديث - وبعضها يُفَسِّر بَعْضًا - يُفيد أنَّ الالتفات في التَّسليمَتَيْن سواء؛ فقد جاء ذِكْر الالتفات دون تَفصيل في رِواية مُسْلِم وغيره(1): " كان ? يُسَلِّم عَن يمينه وعَن يَساره حتى يُرَى بَياض خَدِّه "، وفُسِّر ذلك - في لَفظ ابن خُزَيْمَة(2):" كان ? يُسَلِّم عَن يَمينه حتى يُرَى بياض خَدِّه، ثُمَّ يُسَلِّم عَن يسارِه حتى يُرَى بياض خده ".
واللَّفظان كِلاهما مِن حَديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه - - رضي الله عنه - -.
والدَّلالة في اللَّفظ الأخير ظاهِرَةٌ على المُراد.
ولا يوجد دَليلٌ يَخُصُّ اليَسار بزيادة الالتفات أكثر مِن اليَمين؛ وإنَّما هُم سَواء.
قال: " ويجهر إمامٌ بالتسليمة الأولى فقط، ويُسِرُّهما غيره ":
ذَكَرَ المُصَنِّف - رحمه الله تعالى - أنَّه يُشْرَع للإمام الجَهْر في التَّسليمة الأوُلَى فقط؛ إلا أنَّ الأحاديث التي جاءَت لم يأتِ فيها التَّفريق في الجَهر بين التَّسليمَتَين؛ بل ظاهِرها أنه ? كان يَجْهر بهما عَن يَمينه وعَن يسارِه؛ كما جاء ذلك في حديث سعد بن أبي وقاص - - رضي الله عنه - - ( المُتَقَدِّم ) أنَّه ? كان " يُسَلِّم عن يمينه وعن يَساره "، وقد تَقَدَّم قبل أسْطُر. فظاهِره أنَّه كان يُسَوِّي بين التَّسليمَتَين في الجَهْر.
فالحاصِل أنَّه: يُسَنُّ للإمام الجَهْر بالتَّسليمَتَيْن مَعًا، عَن يمينه وعَن يساره؛ حتى يَعْلَم مَن خَلفه مِن المأمومين انتهاء الصَّلاة. أمَّا المأموم: فلا حَاجَة له في الجَهْر؛ بل يُسِرُّ بِتَسليمه.
__________
(1) رواه مسلم ( 582 )، والنسائي - واللفظ له - ( 1317)، وأحمد ( 1 / 414، 5 / 338 ).
(2) رواه أحمد ( 1 / 409 )، والدارمي - واللفظ له - ( 1345 )، وابن خزيمة ( 1 / 359 ).(1/234)
ونُقِلَ(1) عَن الإمام أحمد -رحمه الله - أنَّه كان يَجْعَل التسليمة الأولى أرْفَع مِنَ الثانية. وهذا ليس فيه أنه كان يُسِرُّ بالثانية؛ وإنما فيه أنه يَجْعل الأولى أرْفَع صَوتًا من الثانية. ولعل وَجْه ما ذَهَبَ إليه - رحمه الله - أنَّ: التسليمة الأولى فيها إعلانٌ بانتهاء الصلاة = فتكون أجْهَر مِن الثانية.
إلا أنَّ ظاهِر الأحاديث - كما قَدَّمنا - التَّسوية بين التَّسليمَتَين، ولا أعْلَم نَصًّا فيما ذَهَب إليه - رحمه الله -.
وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العلم - كابن حامد شيخ القاضي أبي يَعْلى ( رَحِمَهما الله )(2)- إلى أنَّه: يَجْهَر بالثانية ويُسِرُّ بالأُولَى لِلَّهِ وعَلَّل ذلك: بأنَّه إذا جَهَر الإمامُ بالأُولَى؛ فإنَّ المأموم قد يُبادِر إلى مُسابَقَة الإمام بالتَّسليم، أمَّا لو جَهَرَ الإمام بالثانية دون الأُولَى، فَسَبقه المأموم بالتَّسليم = فسيكون المأمومُ بَعْده على كُلِّ حال، ويكون هو قد سَبَقه بالتَّسليم الأوَّل لِلَّهِ
وهذا اجتهادٌ مِنه - رحمه الله -؛ إلا أنَّه - بلا شَكٍّ - لا اجْتِهَاد مع النَّص، إنْ كان هناك نَصٌّ؛ والحَديث لم يُفَرِّق بين التَّسليمَتَين، فلا يُحْتاج إلى مِثل هذه التَّعليلات. ويبدو أنَّ مَن قال بهذا مِن أهْلِ العلم لم يَقِف أو يُراجِع النُّصوص الوارِدَة في الباب.
قال: " ويُسَنُّ حَذْفه؛ وهو: عدم تطويله = أي: لا يَمُدُّ به صوته ":
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 326 ).
(2) قال في " المغني ": ( 1 / 326 ): " لئلا يَسْبِقه المأمومون " اهـ.(1/235)
يُسْتَدَلُّ على ما قاله المؤلِّفُ - رحمه الله - مِن سُنيَّة عَدَم حَذْف السَّلام: بِمَا رواه أبو داود والترمذي وابن خزيمة وغيرهم(1)، مِن حديث قرة بن عبدالرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " حَذْف السَّلام سُنَّة ".
ومعنى " حَذف السَّلام ": عَدَم تَطْويله.
إلا أنَّ هذا الحَديث ضَعيفٌ لا يَصِحُّ؛ والآفَة فيه مِن قُرَّة بن عبد الرحمن؛ لأنَ) فيه خِلافًا بين أهل العلم في ضَبْطه وحِفْظه، والرَّاجِحُ أنَّه: لا يُحْتَجُّ به؛ لِضَعْفه مِن جِهَة حِفْظِه؛ وإنَّما يُكْتَب حديثه في الشَّواهِد والمُتابَعَات؛ ذلك أنَّ له أحاديث أخطأ فيها وغَلط وخَالَفَ فيها مَن هو أوثق منه؛ فهو ليس بمُتْقِن. ومِن هذه الأحاديث:
( 1 ) الحديث المشهور: " مِن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ":
فرواه(2) عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا.
وخالَفَه الحُفَّاظ الثِّقات مِن أصْحَاب الزهري؛ فَرَوَوه(3) عن الزهري عن علي(4) بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - مُرْسَلًا.
وصَوَّب إرْساله كِبار الحُفَّاظ؛ كالإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري والدارقطني، وغيرهم(5).
ومَن صَحَّح رَفْعَه مِن أهْل العِلم اعْتَمَدَ إمَّا:
__________
(1) رواه أبو داود ( 1004 )، والترمذي ( 297 )، وأحمد ( 2 / 532 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 362 )، والحاكم ( 1 / 355 ).
(2) أخْرَجَه الترمذي ( 2317 )، وابن ماجه ( 3976 ).
(3) أخْرَجَه الترمذي ( 2318 ) - وراجع تعليقه عليه -، ومالك ( 1672 ).
(4) وهو الملقب بـ ( زين العابدين )، وهو مِن الطبقة الوسطى من التابعين. توفي نحو سنة 93. ( السعد ).
(5) راجع: " جامِع العلوم والحِكم " / لابن رجب: ( 1 / 286 )، و" التاريخ الكبير " / للبخاري ( 4 /220 ).(1/236)
1ـ على رواية قُرَّة بن عبد الرحمن: كالإمامَين: النووي؛ فقد حَسَّن هذا الحديث في " الأربعين النووية "، وابن عبد البر(1) - رحَمِهما الله -.
2ـ وإمَّا بالشَّواهِد لهذا الخَبر(2). ولكن لا يَصِحُّ مِنها شىءٌ.
والصَّواب فيه أنَّه مُرْسَلٌ، وأنَّ قُرَّة أخطأ بِرَفْعه؛ فخالف الحُفَّاظ الثِّقات.
( 2 ) حَديث: " كُل أمر ذي بال لا يُبْدأ فيه بالحَمْد فَهو أقْطَع ":
رواه(3) قُرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا.
واسْتنكِرَ عليه؛ فقد خالفه حُفَّاظ أصحاب الزُّهري؛ كالإمام مالك وغيره: فَرَوَوه مُرْسَلًا(4).
وله - رحمه الله - أحاديث أُخْرَى ليست بالكثيرة، أخطأ في غير واحِدٍ مِنها.
فالخُلاصَة: أنَّ حَديث: " حَذْف السَّلام سُنَّة "، هو مِمَّا غَلِطَ فيه قُرة بن عبدالرحمن، واسْتُنكِرَ عَلَيْه.
__________
(1) كما في " التمهيد ": ( 9 / 198 ).
(2) مِن تلك الشَّواهِد: مَا رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 1 /201 )، وابن عبد البر في " التمهيد ": ( 9 / 195 وما بعدها ).
(3) أخْرَجَه أبو داود ( 4840 )، وابن ماجه - واللفظ له - ( 1894 )، وأحمد (2 / 359).
(4) أخْرَجَه النسائي في " الكُبْرَى ": ( 6 / 127، 128 ) مِن حَديثَي عَقيل بن خالد وغيره.
قال أبو داود ( تحت الحديث رقم 4840 ): " رواه يونس وعَقيل وشُعَيب وسعيد بن عبد العزيز عَن الزهري عن النبي ? مُرْسَلًا " اهـ. وبمثله قال البيهقي ( 3 / 208 )، وجَزَم بإرساله الدارقطني ( 1 / 229 )؛ فقال: " والمُرْسَل هو الصَّواب " اهـ.(1/237)
وقد رُوي(1) بمعناه عن إبراهيم بن يزيد النَّخَعِي - رحمه الله - قال: " التكبير جَزْم والسَّلام جَزْم ". يعني: يُسَنَّ عَدم المَدّ والتَّطويل في التكبير والسلام.
فالحاصِل أنَّه لا يَثْبُت في الباب حَديث مَرفوعٌ إلى النبي ?.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فالقاعِدَة تقول " الأصل بقاء الشىء على ما هو عَليه "؛ فيكون السَّلام على ما هو عَلَيْه: لا زيادة في المَدّ والتَّطويل، ولا زيادة في الحَذْف في التَّقصير؛ وإنَّما يُسَلِّم المُصَلِّي تَسليمًا طَبيعيًّا، ولو كان الرسول ? يُطيل في التَّسليم أو يحذفه = لَنَقَلَ الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - - لنا ذلك.
قال: " ويَنوي به الخروج من الصلاة ":
مِن المَعلوم أن النِّيَّة تَسْبِق العَمَل؛ فإذا سَلَّم المُصَلِّي مِن صلاتِه فلا شَكَّ أنَّه يكون ناويًا الخُروج مِن الصَّلاة.
ولا يُخْرَج مِن الصَّلاة إلا بالتَّسليم - وهذا مَذْهب جُمهور أهْل العِلْم -، وقد سَبَق(2) نِقاشُ الخِلاف في هذا؛ فلا معنى لإعادته هُنا.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فالسَّلام لا يكون إلا في الصَّلاة التَّامَّة الكامِلة، أمَّا الصلاة غير التَّامَّة: فهذه لا يُسَلِّم فيها؛ لأنها انقطعت بِنَفسها.
فمثلاً: إذا كان المُصَلِّي في الرَّكْعَة الأُولَى مِن تَحية المَسْجِد، فأُقيمَت الصَّلاة: فلا يُسَنُّ له السَّلام؛ إنَّما يَخْرُج مِن الصَّلاة بِدون سَلام؛ لأن صلاتَه انقطعت بِنَفْسِهَا.
قال: " وينوي به - أيضًا - السَّلام على الحَفَظَة والحَاضِرِين ":
" الحفظة ": هُم الملائكة الذين عَن يَمين العَبْد وَيَساره.
__________
(1) حكاه عنه الترمذي في " سُنَنِه " ( تحت رقم 297 )، دون إسنادٍ، ورواه مُسْنَدًا عبد الرزاق في " مُصَنَّفه ": ( 2 / 74 ) دون آخِره مَوضِع الشَّاهِد مِنه !
(2) ص؟؟؟.(1/238)
فيُسَنُّ للمُصَلِّي إذا سَلَّم أن يَسْتَحْضِر سَلامه على الحَفَظة مِن الملائِكَة، والحاضِرين الذين معه عَن يَمينه ويَسَارِه مِن الإنس والجِنِّ. فالسَّلام يَشملهم جميعًا.
ويُسْتَدَلُّ على هذا: بِمَا رواه مُسلم(1)، مِن حديث مِسْعَر عن عُبَيْد الله ابن القِبْطيَّة عن جابر بن سَمُرَة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال للصحابة - - رضي الله عنهم - -: " عَلام تُومِئون بأيديكم كأنَّها أذْنَاب خَيلٍ شُمْس؟! إنَّما يكفي أحدكم أن يَضَعَ يَدَه على فَخِذِه، ثُمَّ يُسَلِّم على أخيه مِن على يَمِينه وَشِمَالِه ".
وفي رواية(2): " ما لي أراكم رافِعي أيديكم كأنَّها أذْنَاب خَيلٍ شُمْس؟! اُسْكُنُوا في الصَّلاة ".
فنَهَى الرسول ? في هذا الحَديث أصْحَابَه عَن رَفْع أيديهم عِندَ السَّلام، وأمَرَهَم بالسُّكُون في الصلاة. والمقصود بذلك: أن تَبْقَى أيديهم على رُكَبِهم أو أفْخَاذِهم.
ثُمَّ قال: " يُسَلِّم على أخيه ": وهذا عامٌّ فيمن هو عَن يَمينه ويَساره، سَواءً كان مِن الإنس أو لملائكة أو الجِنِّ.
وجاء في لَفظٍ آخَر أعَمّ مِن هذا، عِند ابن خُزيمة(3): " ثُمَّ يُسَلِّم على مَن عَن يَمينه، ومَن عَن يَسارِه "؛ فيَشْمَلهم جَميعًا.
وأمَّا صيغَة التَّسليم الذي يَخْرُج به مِن الصَّلاة: فهي: السَّلام عليكم ورحمة الله، عَن اليمن واليسار(4).
__________
(1) برقم ( 431 )، ورواه أبو داود ( 998 )، والنسائي ( 1318، 1185 ).
(2) رواه مسلم ( 430 )، والنسائي ( 1184 )، مِن طريق تَميم بن طَرَفة عَن جابر بن سَمُرَة - - رضي الله عنه - - مرفوعًا.
(3) أخْرَجَه في " صَحيحه ": ( 1 / 361، 3 / 103 )، وابن حِبَّان - واللفظ له - ( 5 / 200 ).
(4) جاء ذلك في عِدَّة أحاديث؛ مِنها: مَا رواه مسلم ( 431 )، والترمذي ( 295 )، وأبو داود ( 996 )، والنسائي ( 1142، 1319، 1320 )، وابن ماجه ( 914، 916 ).(1/239)
وأمَّا زيادَة " وبَركاته " فيه: فقد رُويَت مِن حَديثَي: عبد الله بن مسعود(1) ووائل بن حُجْر(2) - رضي الله عنهما -، رواها أصحاب " السُّنَن "، وصححها ابن حِبَّان مِن حَديثَيِهما. إلا أنَّ الأقْرَب - والله أعْلَم - أنَّها شاذَّةٌ؛ لأنَّها لم تُرْوَ في أكثر رِوايات الحَديثَين.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فهي زيادَة شاذَّةٌ في جَميع مَرويَّاتِها؛ فقد رُويَ أنَّها: تُقال على اليَمين دون اليسار، وفي رواية: العكس، وفي رواية: تُقال في الاثْنَين معًا.
فالأقْرَب أنَّها شاذَّةٌ لاتَصِحُّ؛ وبالتالي لا يُشْرَع الخُروج مِن الصَّلاة بزيادتها.
قال: " وإنْ كانت الصلاة أكثر من ركعتين... ":
اعْلَم أنَّ أقَل الصَّلاة ( الواحِدَة ) رَكْعَةٌ(3) - وهذا لا يكون إلا في صَلاة الوِتْر -. والوِتْر إمَّا أن يكون: رَكْعَة أو ثلاث أو خمس أو سبع... إلخ.
وما دونَ الرَّكْعَة لا يُسَمَّى صلاة.
إذا ثَبَتَ هذا: فَسُجود التِّلاوة ليس بِصَلاةٍ، خِلافًا لِبَعْضِ أهْلِ العلم(4) مِمَّن اعتَبَره صلاة. وفائدة الخِلاف في هذه المسألة: أنَّه لو ثَبَتَ أنَّه صلاة: فَيُشْتَرَط لها الطَّهارَة، ويكون فيها تَكبير - في الخَفْض والرَّفْع - وسلامٌ.
__________
(1) رواه ابن خُزَيمة ( 1 / 359 )، وابن حِبَّان ( 5 / 333 )، والطبراني في " الكبير ": ( 10 / 127 )، وفي " الأوسط ": ( 6 / 52 ).
(2) رواه ابن ماجه ( ولم أجدها في النُّسَخ المَطبوعَة؛ ولعل هذا راجِع إلى اختلاف النُّسَخ؛ كما في " عون المعبود ": ( 3 / 208 ) )، وأخْرَجَه - أيضًا - الطبراني في " الكبير ": ( 22 / 45 ).
(3) انظر كلامًا نفيسًا يُسْتَدَلُّ به على هذا في " مَجموع الفتاوى ": ( 23 / 331، 21 / 287 ).
(4) راجع: " المغني ": ( 1 / 359 )، و" المجموع ": ( 4 / 63 ).(1/240)
وهذا فيه نَظَرٌ؛ لأنَّه لم يأتِ عَن الشَّارِع تسميتها صلاة؛ ولذلك لم يُحْفَظ عَن الرَّسول ? بإسنادٍ صَحيح التَّكبير فيها - عِندَ السُّجود لها والرَّفع مِنها - ولا السَّلام مِنها.
وأمَّا ما رواه أبو داود والحاكم(1)، مِن حَديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: " كان رسول الله ? يقرأ علينا القُرآن، فإذا مَرَّ بالسَّجْدَة كَبَّر وسَجَدَ وسَجَدْنا مَعه "؛ فهذا الحديث ضَعيفٌ ليس بِصَحيحٍ.
ومع هذا؛ فيُشْرَع للإنسان إذا سَجَد للتِّلاوَة أن يُكَبِّر في الخَفْض والرَّفع؛ لِعُموم ما ثَبَتَ عَن النبي ? في الصَّلاة؛ أنَّه " كان يُكَبِّر في كل خَفْضٍ ورَفْع "(2)؛ فسجود التِّلاوة داخِل تحت هذا النَّص؛ لأنَّ فيه خَفْضًا ورَفْعًا.
إذا تَقَرَّر هذا وعَلِمنا أنَّ أقل الصَّلاة رَكْعَة؛ فهذه الرَّكْعَة لا تَخْلو إمَّا:
1ـ أن تكون كامِلَةً ( فيها رُكوع ورَفْع منه، وسجود ورفع منه... إلى التَّسليم مِنها ).
2ـ وإما أن يكون ليس فيها رُكوعٌ ولا سُجُودٌ: ومِثالها: صلاة الجِنَازَة.
وقد سَمَّاها الشَّارِع صلاةً؛ ولذا لا بُدَّ فيها مِن طَهارَة وتَكبيرٍ وتَسليم، كما جاء عنه ?(3).
وأمَّا ما نُقل عَن بَعْضِ أهل العلم - كالشَّعبي ( رحمه الله ) (4) - أنَّه قال: لا يُشْتَرَط لها الطهارة = فلم يعتبرها صلاة: فهذا - إنْ صَحَّ عَنه أو عَن غيره -؛ ففيه نَظَرٌ؛ لِمَا قَدَّمنا.
أمَّا ما زادَ عَن الرَّكْعَة: فيُمكِننا تَقسيم الكلام عَنه على النَّحْو التالي:
__________
(1) رواه أبو داود ( 1413 )، والحاكم ( 1 / 344 ).
(2) رواه البخاري ( 785، 787 )، ومسلم ( 392 )، والترمذي ( 253 )، والنسائي ( 1083 ).
(3) وهذا أمرٌ معلوم مشهورٌ؛ فراجعه في كُتُب الحَديث والفقه.
(4) رواه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 375 )، وحكاه عنه في " المغني ": (1 / 359).(1/241)
1ـ الصَّلاة التي تكون مِن رَكْعَتَيْن: كالفَجْر والنَّافِلَة الرَّاتِبَة والتَّطَوُّع المُطْلَق.
2ـ الصَّلاة التي تكون مِن ثلاث ركعات: كصلاة المَغْرِب، والوِتْر بِثلاث.
والفَرْق بين المَغْرِب والوِتر بثلاث: أنه في الوِتْر لا يَجْلِس للتَّشَهُّد الأوَّل كالمَغْرِب؛ وإنما يجلس تَشَهُّدًا واحِدًا بعد آخر ركعة مِن الصَّلاة؛ فتكون الثلاث ركعات مُتَّصِلَة بِتَشَهُّدٍ وسلامٍ واحِد؛ لأنَّه قد جاء - عند الحاكم(1) - النَّهي عَن تَشبيه الوِتْر بِصَلاةِ المَغْرِب.
3ـ الصَّلاة التي تكون مِن أرْبَع رَكعات: كصلاة الظُّهْر والعَصْر والعِشَاء.
4ـ الصَّلاة التي تكون مِن خَمس رَكَعَات مُتَّصِلَة ( بِسَلامٍ وَاحِدٍ ): ثَبَت هذا في " صحيح مسلم "(2)، مِن حَديث عائشة - رضي الله عنها - أن الرسول ? " كان يُوتِر بِخَمسٍ لا يَجْلِس في شىءٍ إلا في آخِرها " = يعني: بِسَلامٍ واحِدٍ.
5ـ الصَّلاة التي تكون سَبْعًا: جاء في " السُّنَن "(3)، أنه ? " أوْتَرَ بِسَبْع رَكَعات، لا يَقْعُد إلا في السَّادِسَة، ثُمَّ ينهَضُ ولا يُسَلِّم، فيُصَلِّي السَّابِعَة، ثُمَّ يُسَلِّم تَسليمَةً... ".
6ـ الصَّلاة التي تكون تِسْعًا، ويُصَلِّيها مِثل السَّبْع: ثَبَتَ هذا في " صحيح مسلم "(4)، مِن حَديث عائشة - رضي الله عنها - أنه ? كان " يُصَلِّي تِسْع رَكَعات، لا يَجْلِس فيها إلا في الثامِنَة، فَيَذْكُر الله ويَحْمَده ويَدْعوه، ثُمَّ ينهض ولا يُسَلِّم، ثُمَّ يقوم، فيُصَلِّي التَّاسعة، ثُمَّ يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يُسَلِّم تَسليمًا يُسْمِعُنا... ".
__________
(1) " مُسْتَدرك الحاكم ": ( 1 / 446 ).
(2) برقم ( 737 )، ورواه الترمذي ( 459 )، وأبو داود ( 1338 )، والنسائي ( 1717 ).
(3) رواه النسائي (1719 )، وأبو داود ( 1342 ).
(4) برقم ( 746 )، ورواه النسائي ( 1719 )، وابن ماجه ( 1191 ).(1/242)
وللحافظ ابن رجب(1) - رحمه الله - كُلامٌ مُطَوَّل عَن الأحاديث التي جاءت في تِلك الصِّفات السابِقَة ( في صَلاة الوِتر )؛ فراجعه هناك.
ولم يأتِ عَنه ? أنَّه صَلَّى أكثر مِن تِسْع رَكعاتٍ مُتَّصِلَة ( بسلامٍ واحِدٍ ).
وأمَّا صلاة أرْبَع رَكَعات بِتَسليمٍ واحِدٍ في غير الفريضة ( تَطَوُّعًا ): فقد اخْتَلَف فيه أهْل العِلْم(2):
1ـ فَمَنَعه بَعْضُهم؛ واسْتَدَلُّوا على هذا: بِمَا رُوي(3) عَنه ?: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ".
2ـ وذهب آخَرون إلى مَشروعيَّة التَّطَوُّع بأرْبَع رَكَعات مُتَّصِلَة.
وهذا الثَّاني هو الصحيح. ومِن الأدِلَّة عَلَيْه:
( 1 ) مَا رواه النسائي(4)، مِن حَديث أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضَمْرَة عن علي - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان يُصَلِّي أربعًا... يَفْصِل بين كُلِّ رَكْعَتَيْن بالتَّسليم على الملائكة المُقَرَّبين... ".
زاد النَّسائي: " يجعل التَّسليم في آخره ".
والمَقصود " بالتسليم على الملائكة ": التَّشَهُّد = ففيه: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين "، ويَدْخُل فيهم: كُلُّ عَبْدٍ صالح - كما جاء في الحَديث(5) -، من الإنس والملائكة والجن.
إلا أنَّ هذه الزيادة " ويجعل التَّسليم في آخِره " فيها نَظَرٌ مِن حَيث الصِّناعَة الحَديثية؛ لأنَّها ليست في أكثر الرِّوايات. ومع هذا؛ فهي - فيما يظهر - مَرويَّةٌ بالمعنى؛ ويُسْتأنَس بها في تَفسير لَفْظِ الحَديث الصَّحيح الوارِدَة فيه؛ أنَّه ? " كان يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة ".
__________
(1) في " فتح الباري ": ( 9 / 101: 136 ).
(2) راجع: " شَرح معاني الآثار ": ( 1 / 334 )، و" المغني ": ( 1 / 433 )، و" المجموع ": ( 4 / 56 ).
(3) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.
(4) رواه الترمذي ( 598 )، والنسائي ( 875 )، وابن ماجه ( 1161 ).
(5) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/243)
( 2 ) صَحَّ عن عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر - - رضي الله عنهم - - أنهما " كانا يُصَلِّيان قبل الجُمُعَة أربعًا... لا يفصلان بينهُنَّ بتسليم " [ رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1) بإسناد صحيح عنهما ].
ولا أعْرِفُ عَن الصَّحابَة خِلافًا في ذلك.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فلا بأس للإنسان أن يُصَلِّي الراتبة القَبْليَّة قَبْل الظُّهر أرْبَع ركعات بسلامٍ واحدٍ؛ أو يُسَلِّم مِن كُلِّ رَكْعَتَيْن؛ فكلاهما حَسَنٌ.
وأمَّا ما استدل به المانِعون ( حديث: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى " ): فزيادة: " والنهار " فيه ضَعيفةٌ شَاذَّةٌ لا تَصِحُّ(2):
__________
(1) " شَرح معاني الآثار ": ( 1 / 335، 334 ). وذَكَرَ هناك آثارًا أخرى عَن غيرهم.
(2) وانظر في ذلك: " جامع الترمذي ": ( 597 )، و" التمهيد " / لابن عبد البر: ( 13 / 240، 185 وما بعدها )، و" نصب الراية ": ( 2 / 143 )، و" التلخيص الحبير ": ( 2 / 22 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 9 / 97 )، وتعليق المُحَقِّقين - جزاهم الله خيرًا - عليه، ولابن حَجَر: ( 2 / 479 )، و" مجموع الفتاوى ": ( 21 / 289 ).(1/244)
فقد رواها(1) علي بن عبد الله البارِقي الأزْدِي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: فخالَف الجَمَّ الغفير مِمَّن رواها عن ابن عمر - رضي الله عنهما -؛ كنافِعٍ وأبي سَلَمَة بن عبد الرحمن وطاووس وغيرهما؛ فَكلهم رَوَوا الحَديث عنه بدون هذه الزيادة؛ فقالوا: " صلاة الليل مثنى مثنى "(2).
ويُسْتَفَاد مِن هذا الحديث أنَّ الأوْلَى في صلاة الليل أن تكون مَثْنَى مَثْنَى؛ مَع جواز صَلاتِها على غير هذه الصِّفَة؛ لِمَا ثَبَتَ عَن الرسول ? أنَّه صلاها بدون أن يجعلها مثنى مثنى؛ فقد صَلَّاها - كما تَقَدَّم قبل قليل - ثلاثًا، وخمسًا، وسبعًا.
قال: " نَهَضَ مُكَبِّرًا ":
يُشْرَع التَّكبير في الانتقال بين الأرْكان في الصَّلاة، بِلا خِلافٍ بين أهْل العِلْم؛ وإنَّما الخِلاف: هل يجب أو لا يَجِب؟(3) وسوف يأتي الكلام عَلَيْه(4) في ذِكْر ( الواجبات ) - بمشيئة الله -.
ويُسَنُّ له رَفْع يَدَيه في هذا المَوْضِع، كما مَرَّ(5) معنا.
قال: " نَهَضَ مُكَبِّرًا على صدور قدميه، إذا فَرَغ مِنَ التَّشَهُّد الأوَّل ":
__________
(1) أخرجه بهذه الزيادة: الترمذي ( 597 )، وأبو داود ( 1295 )، والنسائي ( 1666 ) - وقال: " هذا الحديث عِندي خطأ " -، ورواه في " الكبرى ": ( 1 / 179 ) وقال: " هذا إسنادٌ جَيِّد، ولكن أصحاب ابن عمر خالفوا عَليًّا الأزْدي: خالفه سالِم ونافِع وطاووس " -، ورواه - أيضًا - ابن ماجه ( 1322 )، وأحمد ( 2 / 26 )، والدارمي ( 1458 ).
(2) أخرج حَديثهم: البخاري ( 472، 991، 998 )، مسلم ( 749، 751 )، الترمذي ( 437، 467، 469 )، وأبو داود ( 1326، 1438 )، النسائي ( 1668، 1669، 1670، 1672، 1673، 1674، 1692، 1693، 1694، 1695 )، وابن ماجه ( 1320 )، الدارمي ( 1459 ).
(3) راجع: " المجموع ": ( 3 / 397 )، " المغني ": ( 1 / 293، 367 )، " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 139 ).
(4) ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.(1/245)
تَقَدَّم(1) - بالدَّليل - أنَّ القول الراجح أن المُصَلِّي يقوم مُعْتَمِدًا على يَديه، بأي صِفَة شاء، باسِطهما أو قابضهما.
قال: " ويأتي بما بَقِي من صلاته كما سَبَق ":
يعني: على الصِّفَة التي شَرَحْناها فيما سَبَق.
قال: " إلا أنه لا يجهر ولا يقرأ شيئًا بعد الفاتحة، فإنْ فَعَل لم يُكْرَه ":
يُبَيِّن المؤلِّف - رحمه الله - أنَّ المُصَلِّي: يَقْتَصِر على قِراءة الفاتِحَة في الرَّكْعَة الثالثة مِن الصَّلاة الثُّلاثيَّة - كالمَغْرِب -، وفي الرَّكْعَة الثالثة والرابعة مِن الصلاة الرُّباعيَّة - كالظُّهْر والعَصْر والعِشَاء -. ولا يَجْهَر بالقِرَاءَة في تِلك الرَّكعات:
أمَّا عَدَم مَشروعيَّة الجَهْر: فلا خِلافَ فيه بين أهْل العِلم(2) = فقد اتفقوا عليه. والسُّنَّة العملية متواترة في أن الرسول ? " كان يَجْهَر في الرَّكْعَة الأولى والثانية، ويُسِرُّ في الرَّكْعَتَين الثالثة والرابعة ".
أما قِراءة سُورَة بعد الفاتِحَة في الرَّكْعَة الثالثة والرابِعَة؟ فقد اختلف العلماء في مَشروعيَّة هذا، على قَولَين(3):
فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّه لا يقرأ إلا في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين، ويقتصر في الأخيرَتَين على الفاتِحَة. وذَهَب آخَرون إلى مَشروعيَّة القراءة فيهما.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ونَقل الإجماع على الجَهر في الرَّكْعَتَين الأوُلَيَين مِن المَغْرِب والعِشاء، وصلاة الصُّبْح والجُمُعَة: النووي في " المجموع ": ( 3 / 389 )، وابن قُدامَة في " المُغني ": ( 1 / 332 )، وابن حَزم في " مراتب الإجماع ": ( ص 33 )، وأقره شيخ الإسلام ابن تيمية في " نقد مراتبه "، وابن رجب في " فتحه " ( 7 / 81 ).
(3) راجع في ذلك: " المُغني ": ( 1 / 336 )، " المجموع ": ( 3 / 386 )، و" فَتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 79 ).(1/246)
أمَّا الفريق الأول فاسْتَدَلُّوا: بِمَا جاء في " الصحيحين "(1)، مِن حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قَتادَة عن أبيه - - رضي الله عنه - - أن النبي ? " كان يقرأ في الرَّكْعَتَين الأُولَيَين مِن الظُّهر والعَصر بفاتِحَة الكِتاب وسُورَة، ويُسْمِعُنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الرَّكْعَتَين الأُخْرَيَين بفاتِحَة الكِتاب ".
واستدل الفريق الثاني: بِمَا رواه مسلم(2)، مِن حَديث أبي الصِّديق عَن أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - قال: " كنا نَحْرِز قيام رسول الله ? في الظُّهْر والعَصْر: فَحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن الظُّهر قدر قِراءة ? الم (1) م@ƒح"\s?... ? السجدة، ( وفي رواية عِندَ مُسْلِم: قَدْر ثلاثين آية )، وحَزرنا قيامَه في الأُخْرَيَيْن قَدْرَ النِّصْف مِن ذلك. وحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن العَصْر على قَدْر قيامِه في الأُخْرَيَين مِن الظُّهْر، وفي الأُخْرَيَيْن من العَصْر على النِّصْف مِن ذلك ".
فقول أبي سعيد ومَن معه - - رضي الله عنهم - -: " وحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن العَصْر على قَدْر قيامِه في الأُخْرَيَين مِن الظُّهْر ": يُفيد أنَّه ? كان يقرأ فيهما بِسُورَة الفاتِحَة، وزيادة عليها مِن غيرها.
ويُجْمَع بين الحَديثَين؛ فيُقال: كُلُّ هذا مِن السُّنَّة. فكان ? يقرأ - أحيانًا - في الركعة الثالثة والرابعة بالفاتحة وزيادة - سواء كان سُورَة أو غيرها ( كما سيأتي ) - وأحيانًا كان يقتصر على الفاتحة.
__________
(1) رواه البخاري ( 776 )، مسلم - واللفظ له - ( 451 ).
(2) برقم ( 452 )، ورواه أبو داود ( 804 )، والنسائي ( 475 ).(1/247)
وقد جاء مِن حَديث نافِع عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه " كان إذا صَلَّى وَحْدَه يقرأ في الأرْبَع جميعًا، في كُلِّ رَكْعَة، بأُمِّ القُرآن وسُورَة مِن القُرآن... " [ رواه الإمام مالك في " الموطأ "(1) ].
ورُوي(2) - أيضًا -، مِن حديث أبي عبد الله الصُّنَابِحِي قال: " قَدِمتُ المَدينة في خِلافَة أبي بكر الصِّديق - - رضي الله عنه - -، فَصَلَّيْتُ وراءَه المَغْرِب، فقرأ في الرَّكْعَتَين الأوُلَيَين بأُمِّ القرآن وسُورَة سُورَة مِن قِصار المُفَصَّل، ثُمَّ قام في الثالِثَة، فَدَنَوتُ مِنه، حتى إنَّ ثيابي لَتَكاد أن تَمَسَّ ثِيابه؛ فَسَمِعْتُه قرأ بأُمِّ القرآن وبهذه الآية: ? رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) ? [ آل عمران: 8] ".
فالخُلاصَة أنَّ: هذا مِن السُّنَّة التَّخيريَّة؛ فالإنسان مُخَيَّرٌ بين أن يقرأ بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، وبين أن يكتفي ويقتصر على الفاتحة. ولذلك قال المُصَنِّف - رحمه الله تعالى -:
قال: " فإنْ فَعَلَ لم يُكْرَه ":
لأنَّه سُنَّةٌ قد جَاءَت عَن الرسول ?.
قال: " ثم يجلس في التشهد الثاني مُتَوَرِّكًا: يَفْرِش رِجْلَه اليُسْرَى، ويَنصِب اليُمْنَى، ويخرجهما عن يمينه، ويجعل إليَته على الأرض ":
لا تَخْلو الصَّلاة إمَّا أن يكون لها:
1ـ تَشَهُّدٌ واحِدٌ: كالصَّلاة الثُّنائيَّة كالفَجْر، وكالوِتْر: إذا كان رَكْعَة واحِدَة أو خَمس رَكعات - كما مَرَّ(3) معنا أنَّه ? صَلَّى خَمس رَكعات مُتَّصِلَة بِتَشَهُّد واحِد في آخِرها -.
__________
(1) برقم ( 175 ).
(2) رواه مالك في " الموطأ ": ( 174 ).
(3) ص؟؟؟.(1/248)
2ـ تَشَهُّدان: كالصَّلاة الثُّلاثيَّة والرُّباعيَّة، كالظُّهْر والعَصْر والمَغْرِب والعِشَاء. وقد مَرَّ(2) مَعنا أنَّه ? صَلَّى سَبْع، وتِسع رَكَعات مُتَّصِلَة بَتَشَهُّدَين وسلامٍ واحِدٍ.
وليس هناك أكثر مِن تَشَهُّدَين.
3ـ ليس لها تَشَهُّد: كصلاة الجِنازَة.
والتَّشَهُّد الأوَّل وَاجِبٌ - على القول الراجح -، أمَّا التَّشَهُّد الثاني فهو رُكْنٌ. وسيأتي(1) تَفصيل الكلام على ذلك - إن شاء الله - في الأركان والواجبات.
وقد مَرَّ(2) مَعنا صِفة الجُلوس للتَّشَهُّد الأوَّل؛ وعَلِمنا أنَّ السُّنَّة فيه الافتراش.
والذي يبدو لي أنَّ: الصلاة التي ليس لها إلا تَشَهُّد وَاحِد: تكون جِلْستها كجِلْسَة التَّشَهُّد الأوَّل(3) - أيضًا -؛ والدَّليل على هذا التَّفصيل حديث أبي حُمَيْد(4) - - رضي الله عنه - - في وَصْفِه لصلاة النبي ?.
أمَّا الجُلوس للتَّشَهُّد الثاني: فله صِفَتان:
الصِّفَة الأُوْلَى: أن يَتَوَرَّك. وصِفَة التَّوَرُّك: أن يَجْلِس على وِرْكه اليُسْرَى، ويَجْعَل قَدَمَه اليُسْرَى ( تَحْتَ ) فَخِذِه اليُمْنَى وسَاقِه.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) راجع الاختلاف في هذه المسألة في: " المغني ": ( 1 / 317 )، و" المجموع ": ( 3 / 450 )، و" فتح الباري " / لابن رجب: ( 7 / 311 ).
(4) ففيه: " فإذا جَلَسَ في الرَّكْعَتَين جَلَسَ غلى رِجْلِه اليُسْرَى، ونَصَبَ اليُمنَى، وإذا جَلَسَ في الرَّكْعَة الآخِرَة قَدَّم رِجْلَه اليُسْرَى... " إلخ الحَديث. وقد سبق تخريجه أكثر مِن مَرَّة، أوعبها: ص؟؟؟. وهذا لفظ البخاري ( 828 ).(1/249)
جاءت هذه الصِّفَة عن النبي ? في حديث أبي حُمَيْد الساعدي - - رضي الله عنه - -(1).
الصِّفَة الثانية: يَتَوَرَّك، ولكن يَجْعَل قَدَمَه اليُسْرَى ( بين ) الفَخِذ والسَّاق. جاءت هذه الصِّفَة مِن حَديث عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عبد الله - - رضي الله عنه - - [ رواه مسلم في " صحيحه "(2) ].
وقال بَعض أهل العلم(3): معنى " بين فَخِذه وسَاقه ": يَعْنِي: جعلها ( تَحْت )(4) فَخِذِه وساقه. ولكن الصَّواب الأخْذ بظاهِر الحَديث.
قال: " فيأتي بالتشهد، ثم بالصلاة على النبي ? ":
__________
(1) رواه البخاري ( 828 )، وأبو داود ( 730 )، والترمذي ( 304 )، والنسائي ( 1262 )، وابن ماجه ( 1061 )، وأحمد ( 5 / 424 )،، و ابن حِبَّان: ( 5/182 - " إحسان " ). ورُويَت هذه الصِّفَة أيضًا مِن حَديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - مرفوعًأ: رواه أبو داود ( 988 )، وأبو عوانة في " مُسْنَده ": ( 1 / 535، 2 / 221 )، والطبراني في " الأوسط ": ( 9 / 174 )، وأبو نُعَيم في " مُسْتَخرجه على صحيح مُسْلِم ": ( 2 / 179 )، كُلُّهم رَوَوْه مِن حَديث عامر بن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - عَن أبيه مرفوعًا.
(2) برقم ( 579 ).
(3) ونَصَره الشيخ العلامة ( بكر بن عبد الله أبو زيد ) -حفظه الله - في كِتابه " لا جَديد في أحكام الصَّلاة "، واستدل برواية أبي داود الآتية، وأنَّها مُفَسِّرة لرواية مُسْلِم.
(4) وهي رواية أبي داود ( 988 ) وغيره، وقد سَبَق تخريجه قبل قليل.(1/250)
تُشْرع الصَّلاة على النبي ? ( الصلاة الإبراهيمية ) في التَّشَهُّد الأخير(1)، لا في التَّشَهُّد الأوَّل - كما تَقَدَّم(2) -؛ بل هي رُكْنٌ - على الرَّاجِح -، خِلافًا لِمَن قال أنَّها سُنَّة(3) أو واجِبَة(4). وسوف نتكلم عليها(5) - إن شاء الله - عِندَ الكلام على أركان وواجبات الصَّلاة.
قال: " ثم بالدُّعَاء ":
يعني: يُشْرَع للمُصَلِّي بعد الانتهاء مِن الصلاة الإبراهيمية؛ أن يستعيذ بالله مِن الأرْبَع التي أمَرَ الشَّارِعُ بالاستعاذة مِنها في الصَّلاة؛ وهي: عَذاب جَهَنَّم، وعَذاب القَبْر، وفِتْنَة المَحْيَا والمَمَات، وفِتْنَة المَسيح الدَّجَّال.
وقد تَكَلَّمنا(6) فيما مَضَى عَن حُكْم هذه الاستعاذات؛ فلا معنى للإعادة هنا؛ فليُراجَع.
q q q q q
__________
(1) بِلا خِلاف. راجع: " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 354 ).
(2) ص؟؟؟.
(3) وهُم المالكية والحَنفية وأكثر العُلَماء. راجع: " المغني ": ( 1 / 318 )، و" المجموع ": ( 3 / 467 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 354 ).
(4) يعني: تَصِحُّ الصًّلاة بدونها مَع السَّهو دون العَمد. وهو قول إسحاق، ورواية عَن أحمد. راجع: المراجِع السابِقَة.
(5) ص؟؟؟.
(6) ص؟؟؟.(1/251)
قال: " ثم يُسَلِّم وينحرف الإمام إلى المأمومين على يمينه أو على شماله ولا يطيل الإمام الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة ولا ينصرف المأموم قبله لقوله ?: " إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف "،فإن صلى معهم نساء انصرف النساء وثبت الرجال قليلًا لئلا يدركوا من انصرف منهن ويسن ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة فيقول: استغفر الله ـ ثلاثًا ـ ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد لا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. ثم يسبح ويحمد ويكبر كل واحدة ثلاثًا وثلاثين ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، ويقول بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قبل أن يكلم أحدًا من الناس: اللهم أجرني من النار سبع مرات، والإسرار بالدعاء أفضل وكذا بالدعاء المأثور ويكون بتأدب وخشوع وحضور قلب ورغبة ورهبة لحديث: " لا يستجاب الدعاء من قلب غافل " ويتوسل بالأسماء والصفات والتوحيد ويتحرى أوقات الإجابة ".
الشرح:
قال: " ثم يُسَلِّم ":
تَقَدَّم(1) الكلام على التَّسليم ومسائله بالتَّفصيل؛ فراجعه هُناك.
قال: " ويَنْحَرِف الإمام إلى المأمومين ":
يُسَنُّ للإمام إذا سَلَّم أن يَسْتَقْبِل المأمومين بِوَجْهِه، إلا أنَّه ينتظر قليلاً قبل استقبالهم، كما سيأتي بعد قليل.
ومِن الأدِلَّة على مَشروعيَّة الاستقبال:
__________
(1) ص؟؟؟.(1/252)
( 1 ) مَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، من حديث سَمُرَة بن جُندَب - - رضي الله عنه - - قال: " كان النبي ? إذا صَلَّى صلاةً أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِه ".
( 2 ) وَثَبَتَ - أيضًا - في " الصَّحيحين "(2)، مِن حديث زيد بن خالد الجُهَنِي - - رضي الله عنه - - قال: " صَلَّى بنا رسول الله ? صلاة الصُّبْح بالحُدَيْبيَة، في إثر السَّماء كانت مِن الليل، فَلَمَّا انصرف أقْبَلَ على الناس؛ فقال: هل تَدرون ماذا قال رَبُّكم؟ قالوا: الله ورَسوله أعْلَم. قال: قال: أصْبَح مِن عِبادي مُؤْمِنٌ بي وكَافِر..." الحديث، وهو مَشهورٌ.
قال: " وينحرف الإمام إلى المأمومين، على يمينه أو على شماله ":
ثَبَتت السُّنَّة بِكِلا الأمْرَين؛ فكان الرسول ? يُسَلِّم ثُمَّ يَنْحَرِف عن يمينه فَيَسْتَقْبِل الناس، وفي بعض الأحيان كان ? يُسَلِّم ثُمَّ يَنْحَرِف عَن يَسارِه فَيَسْتَقْبِل الناس.
أمَّا دليل الأوَّل: مَا ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(3)، من حديث أنس - - رضي الله عنه - - قال: " أكْثَر ما رأيتُ رسول الله ? يَنْصَرِف عن يَمِينه ".
وأمَّا دليل الثاني: مَا ثَبَتَ في " الصحيحين "(4)، من حديث عبدالله بن مسعود - - رضي الله عنه - - قال: " لا يَجْعل أحَدُكم للشيطان شيئًا مِن صَلاتِه، يرى أن حَقًّا عَلَيْه أن لا يَنْصَرِف إلا عَن يَمينه. لقد رأيتُ النبي ? كثيرًا يَنْصَرِف عَن يسارِه ( وفي رواية مُسْلم وأصْحاب السُّنَن: " أكثر ما رأيتُ... " ) ".
__________
(1) رواه البخاري ( 845 )، ومسلم ( 2275 ).
(2) رواه البخاري ( 846، 1038 )، ومسلم ( 71 )، ومالك ( 451 ).
(3) برقم ( 708 )، ورواه النسائي ( 1359 ).
(4) رواه البخاري ( 852 )، ومسلم ( 707 )، وأبو داود ( 1042 )، والنسائي ( 1360 )، وابن ماجه ( 930 ).(1/253)
والجَمْع بين الحديثين: أن يُقال بأنَّ كُلَّ صحابِيٍّ أخبر بما رآه وعَلِمَه مِن حال الرسول ?؛ ولذلك جاء في " جامع الترمذي " وغيره(1)، من حديث قَبِيصَة بن هُلْب الطائي عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال " كان رسول الله ? يَؤُمُّنا، فَيَنصَرِف عَلى جانِبَيه جَميعًا: على يَمينه وعلى شَمَاله ". ولذا قال الترمذي - رحمه الله - عَقِب تَخريجه: " وقد صَحَّ الأمران عَن النبي ? "؛ يعني: الانْحِراف عَن اليمين أو اليَسَارَ بعد التَّسليم مِن الصَّلاة.
قال: " ولا يُطيل الإمام الجلوس بعد السَّلام مُسْتَقْبِل القِبْلَة ":
اخْتَلَف أهْل العِلْم في مَشروعية إطالة الإمام الجُلوسَ أمام المُصَلِّين بَعْدَ تَسليمه مِن الصَّلاة، وفي الباب: حَديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: " كان النبي ? إذا سَلَّم لم يَقْعُد إلا مِقْدار ما يقول: اللهُمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجَلال والإكْرَام " [رواه مسلم في " صحيحه "(2) ]:
فاخْتَلَف العُلماء(3): هل نَفي قُعوده ? ( إلا بقدر قوله هذا الذِّكْر ) في هذا الحَديث مَحْمولٌ على: نَفي قعوده مُسْتَقبلَ القبلة بعد التَّسليم إلى أن يَنْحَرِف، أم نَفي قعوده بعد استقبال المأمومين؟ مِن العُلماء مَن حَمَله على الأوَّل، ومِنهم مَن حَمَله على الثَّاني. فعلى الثَّاني: لا يُشْرَع للإمام أن يَقْعُد أمام المأمومين إلا بَقَدْر هذا الذِّكْر، ثم يقوم.
__________
(1) رواه الترمذي - واللفظ له - (301 )، وأبو داود ( 1041 )، وابن ماجه ( 929 ).
(2) برقم ( 592 )، ورواه الترمذي ( 298 )، وابن ماجه ( 924 )، والدارمي ( 1347 ).
(3) " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 436 )، ولابن حَجَر: ( 2 / 336 )، و" المغني ": ( 1 / 328 )، و" نيل الأوطار ": ( 2 / 353 ).(1/254)
والأوَّل هو الأقْرَب؛ فيُسَنُّ للإمام أن يقول هذا الدُّعاء مُسْتَقْبِل القِبْلَة، ثم يَنْحَرِف ويَسْتَقْبِل المأمومين. وهذا ظاهِر كلام المُصَنِّف - رحمه الله -.
وبَوَّب عليه المجد ابن تيمية - رحمه الله - بذلك في كتابه " المنتقى "(1)، وحَمَلَه على مَعنى: الجلوس بهذا القَدْر - مُسْتَقْبِل القِبْلَة - بَيْنَ سَلامه وانحرافه إلى المأمومين.
إذا ثَبَتَ أن المشروع للإمام أن يَسْتَقْبِل المأمومين بِوَجْهِه، بعد أن يقول هذا الذِّكْر مُسْتَقْبِل القبلة: فهل يستقبل كُلَّ النَّاس، أم يستقبل مَن على يَمَينه فقط؟
في الباب حَديثٌ رواه مُسْلِمٌ(2)، مِن حديث البراء بن عازب - - رضي الله عنه - - قال: " كُنَّا إذا صَلَّيْنَا خَلْفَ رسول الله ? أحْبَبْنَا أن نكون عن يَمينِه؛ يُقْبِل عَلَيْنا بِوَجْهه ": فاخْتُلِفَ في معنى هذا الحديث(3): هل كان ? عندما ينصرف من الصلاة وينحرف يستقبل مَن كان عَن يمينه فقط؟ أم يستقبل كُلَّ الناس - مَن أمامه ومَن عَن يمينه ومَن عَن يساره -؟
أقول: تَقَدَّم قَريبًا(4) الكلام على إثبات مشروعيَّة الاستقبال عمومًا، فيُمْكِن حَمْل مَعنى هذا الحَديث على إحدى المعاني التالية:
1ـ إمَّا أنَّه ? كان - في بعض الأحيان - يَنْصَرِف إلى جهة اليمين أكثر، خَاصَّةً إن كانت هُناك حاجَّة؛ كتوجيهٍ أو تَنبيهٍ على شىءٍ ما.
2ـ أو يُحْمَل على أنَّه ? كان يَخُصُّ جِهَة اليَمين بانْحِرَافٍ قَليل.
__________
(1) فقال ( 2 / 352 - " نيل الأوطار " ): " بابُ: الانحراف بعد السَّلام، وقَدْر اللُّبث بينه وبين واستقبال المأمومين " اهـ.
(2) برقم ( 709 )، ورواه أبو داود ( 615 )، والنسائي ( 822 )، وابن ماجه ( 1006 ).
(3) راجع: " فتح الباري " / لابن حَجَر: ( 2 / 336 ).
(4) ص؟؟؟.(1/255)
3ـ أو يُحْمَل على أنَّه ? كان يَسْتَقْبِل النَّاس بِجِسْمِه، ويَسْتَقْبِل جِهَة اليمين بِوَجْهه. ولعل هذا هو الأقرب - والله أعلم -؛ جَمْعًا بين الأدِلَّة.
وقال: " ولا ينصرف المأموم قَبْلَه؛ لقوله ?: إني إمَامُكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسُّجُود ولا بالانصراف ":
هذا الحديث - الذي ذَكَرَه المُصَنِّف -: رواه الإمام مسلم في " صحيحه "(1)، من حديث علي بن مُسْهِر عن المختار بن فُلْفُل عن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - مرفوعًا.
والشَّاهد مِنه: قوله " ولا بالانصراف ": وهذا الانصراف يُمْكِن حَمله على مَعْنَيَين:
( 1 ) يُحْتَمَل أن يكون المقصود به: السَّلام = فيكون المعنى: لا تَنْصَرِفُوا مِن الصلاة بالسَّلام قَبْل سَلام الإمام.
( 2 ) ويُحْتَمَل أن يكون المقصود به: الخُروج مِن الصَّف والقيام بعد انتهاء الصلاة، قبل أن يستقبلهم الإمام بِوَجْهِه. فَمن أراد الانصراف فلينصرف بعد استقبال الإمام لهم. ويَظْهَر أن المُصَنِّف - رحمه الله - قد قَصَدَ هذا المعنى.
والأقْرَب هو القَول الأول؛ لقول الرسول ?: " لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف "، وعلى هذا - فيما يظهر - حَمَلَه الإمام النووي(2) - رحمه الله -.
قال: " فإنْ صَلَّى معهم نساء: انصرف النساء وثَبَتَ الرِّجال قليلًا؛ لئلا يُدْرِكوا مَن انصرفَ مِنهُنَّ ":
يُسَنُّ في حَقِّ النِّساء - إنْ صَلَّيْنَ في المَسْجِد - أن يَنْصَرِفْنَ مِن المَسْجِد بعد تسليم الإمام مُباشرة، وعلى الرِّجال أن ينتَظِروا قليلاً؛ حتى لا يُدْرِكوا النِّساء.
__________
(1) برقم ( 426 )، ورواه النسائي ( 1363 )، وعِندَهما: " ولا بالقيام " قبل قوله: " ولا بالانصراف ". وزاد أحمد بينهما ( 3 / 102 ): " ولا بالقُعود ". ورواه بمعناه: الدارمي ( 1317 )، وأبو داود ( 624 ).
(2) " شرح النووي على صَحيح مُسْلِم ": ( 4 / 150 ).(1/256)
والدَّليل على ذلك: مَا رواه البخاري(1)، من حديث أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - قالت " كان رسول الله ?إذا سَلَّم قام النِّساءُ حين يَقضي تَسليمه، ويَمْكُث هو في مَقامِه يَسيرًا قبل أن يقوم ". قال الزهري: " نَرى - والله أعلم - أنَّ ذلك كان لكي يَنْصَرِف النِّساء قَبْل أن يُدْرِكهن أحَدٌ مِن الرِّجال".
وفي رواية(2) عنها - رضي الله عنها -: " كان ? يُسَلِّم فيَنْصَرِف النساء فَيَدْخُلْنَ بُيوتَهُنَّ مِن قبل أن ينصرف رسول الله ? ".
والحِكْمَة مِن هذا كُلِّه: لئلا يَخْتَلِط الرِّجال بالنساء؛ لِما في اختلاطهم مِن مفاسد عَظيمة = فَمَنعه الشَّارِع - مَع أن المَوْطِن مَوْطِن عبادة وصلاة، والنَّاس قد انتهوا مِن صلاتهم، والشَّيْطان في هذه الحالة يكون أبْعَد عَن الشَّخْص -؛ لِخطورة أمرِالاختلاط وعِظَم خَطَرِه.
أمَّا إن لم يكن بالمَسْجِد نِساء: فللرِّجال أن يُبادِروا إلى القيام بعد انتهاء الصَّلاة - إن شاءوا -؛ لزوال العِلَّة.
قال: " ويسن ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة فيقول: استغفر الله ـ ثلاثًا ـ ثم يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد لا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد. ثم يسبح ويحمد ويكبر كل واحدة ثلاثًا وثلاثين ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ".
سَنَّ الشَّارِع للمُصَلِّي بعد تَسليمه مِن صلاتِه سُنَنًا، فِعْليَّة وقَوليَّة:
أما السُّنَن الفِعْليَّة:
__________
(1) برقم ( 875 )، ورواه ابن ماجه ( 932 ).
(2) رواه البخاري ( 850 ).(1/257)
فللإمام أن يجلس بعد سلامه قليلاً، يقول في جُلوسه - وهو مُسْتَقْبِل القِبْلَة -: " أسْتَغْفِر الله " - ثلاثًا -، ثُمَّ يقول: " اللهُمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام "، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إلى المأمومين، على اليَمين أو اليسار(1).
وأمَّا السُّنَن القولية التي تُقال بعَدْ السلام: فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القِسْم الأوَّل: الدُّعاء: ومِن تِلك الأدْعيَة الوارِدَة في السُّنَّة:
( 1 ) " أسْتَغْفِر الله، أسْتَغْفِر الله، أسْتَغْفِر الله. اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام ". رواه مُسْلِم في " صَحيحه "(2)، مِن حَديث ثوبان - - رضي الله عنه - -، وعبد الله بن الزبير.
( 2 ) " رَبِّ قِني عَذابَك يوم تَبْعَث - أو تَجْمَع - عِبادَك ". رواه مُسْلِم(3)، مِن حَديث البَرَاء بن عَازِب - - رضي الله عنه - -.
( 3 ) " اللهُمَّ اغْفِر لي مَا قَدَّمتُ ومَا أخَّرْتُ، ومَا أسْرَرْتُ ومَا أعْلَنتُ، ومَا أسْرَفْتُ، ومَا أنتَ أعْلَمُ به مِنِّي، أنتَ المُقَدِّم وأنتَ المُؤَخِّر، لا إلَهَ إلا أنتَ ". رواه مُسْلِم(4)، مِن حَديث الأعرج عن عُبَيْد الله بن أبي رافع عن عليِّ بن أبي طالِب - - رضي الله عنه - -.
القِسْم الثاني: التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير والتَّهْليل:
أمَّا التسبيح والتحميد والتكبير: فَرُويَ مِن حَديثَي: أبي هريرة وكَعْب بن عُجْرَة - رضي الله عنهما -، وغيرهما.
__________
(1) وقد سَبَقت الأدِلَّة على هذا؛ فراجعها: ص؟؟؟. وسيأتي دليل الاستغفار ثلاثًا بعد أسْطُر.
(2) رواه مسلم ( 591 ).
(3) رواه مسلم ( 709 )، وأحمد ( 4 / 290، 304 ).
(4) برقم ( 771 )، ورواه الترمذي ( 3421 )، وأبو داود ( 760 ).(1/258)
ورُوي بِعِدَّة صِفات، أوْصَلَها بَعْضُ أهْل العِلم(1) إلى سِتِّ صِفات، إلا أنَّه لم يَثْبُت مِنها إلا أرْبَع صِفات:
الصِّفَة الأولى: التَّسبيح عَشْرًا، والتَّحميد عَشْرًا، والتَّكبير عَشْرًا. ثَبَتَ هذا في " صحيح البخاري "(2)، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.
الصِّفَة الثانية: التَّسبيح خمسًا وعِشرين، والتَّحميد خَمْسًا وعِشرين، والتَّكبير خَمْسًا وعِشرين، والتَّهليل خَمْسًا وعِشرين = فالمجموع مائة. رواهما النَّسائي، مِن حَديثَي: زيد بن ثابت(3) وعبد الله بن عمر(4) - - رضي الله عنهم - -.
الصِّفَة الثالثة: التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين ، والتَّكبير أرْبَعًا وثلاثين. ثَبَتَ هذا في " الصحيح "(5)، مِن حَديث كَعب بن عُجْرَة - - رضي الله عنه - -.
الصِّفَة الرَّابِعَة: التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين ، والتَّكبير ثلاثًا وثلاثين، ويُكْمِل المائة بـ: لا إلَه إلا الله. ثَبَتَ هذا - أيضًا - في " الصحيح "(6)، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.
ورُوي(7) في هذا التهليل زيادة: " يحي ويميت "، إلا أنَّها ضَعيفةٌ لا تَصِحُّ.
__________
(1) كشيخ الإسلام ( ابن تيمية )، كما في " مجموع فتاواه ": ( 22 / 494 )، والحافظ ( ابن رَجَب) في " الفتح ": ( 7 / 411: 413 ). رَحِمَ اللهُ الجَميع.
(2) برقم ( 6329 ).
(3) رواه الترمذي ( 3413 )، والنسائي ( 1350 )، والدارمي ( 1354 ).
(4) رواه النسائي ( 1351 ).
(5) رواه مسلم ( 596 )، والترمذي ( 3412 )، والنسائي ( 1349 ).
(6) رواه البخاري ( 843 ) - وليس عِندَه التَّهليل -، ومسلم ( 597، 595 )، وأبو داود ( 1504 )، ومالك ( 488 )، والدارمي ( 1353 ).
(7) رواه - بالزيادة - النسائي في " الكبرى ": 6 / 42، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 203 )، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - -.(1/259)
فهذه أرْبَع صِفَاتٍ صَحيحة. أمَّا الصِّفَتان اللَّتان لم تَصِحَّا فهما:
الأُولَى(1): التَّسبيح إحْدى عَشْر، والتَّحميد إحْدى عَشْر، والتَّكبير إحْدَى عشر:
فهذه لم تَثْبُت؛ لأنَّ راوي الحَديث - وهو سُهَيْل بن أبي صالح - أخطأ في تَفسيرِ الحديث(2)؛ فَفَسَّر ( الثلاث والثلاثين ) في قوله ?: " تُسَبِّحون وتُكَبِّرون وتَحْمَدون دُبُرَ كُلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين مَرَّة "(3) بـ: " إحدى عشرة تَسبيحَة، وإحدى عشرة تَحْميدة، وإحدى عشرة تَكْبيرة "(4).
الثانية: [........].
ومِن الحِكَم مِن تَنَوُّع هذه التَّسبيحات والتَّحميدات والتَّكبيرات في العَدَد: أنَّ المُصَلِّي قد يقتصر على الأقل في تِلك الصِّفات إنْ كان على عَجَلٍ مِن أمرِه، ويكون قد أتى بالسُّنَّة التي ثَبَتت عَن النبي ?، ويأتي مرَّة بالنَّوع الآخر، وهكذا.
وأيضًا لِدَفْع المَلل والسآمَة عَن النُّفوس مِن اعتيادها على شىءٍ واحِدٍ؛ فَتَخْشَع وتتَدَبَّر في تِلك العِبادَة.
وأمَّا التَّهْليل:
__________
(1) رواه مسلم ( 595 ).
(2) انظر في بَسْط ذلك: " زاد المعاد " / لابن القيم: ( 1 / 299 )، " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 409 )، ولابن حَجَر: ( 2 / 329 ).
(3) وهي الصِّفة الرَّابَعة مِن الصِّفات الصَّحيحة، سبق تخريجها، رواه البخاري ( 843 )، ومسلم (595 ).
(4) وقد رُوي ذلك مرفوعًا وموقوفًا عَن أبي هُريرة - - رضي الله عنه - - وغيره؛ إلا أنَّ الصَّواب أنَّها مِن تفسير أبي صالح - رحمه الله -، وقد أخطأ فيه. راجع: " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 7 / 409 ).(1/260)
( 1 ) فرُوي ذلك مِن حَديثَي: عبد الله بن الزبير(1) والمغيرة بن شعبة(2) - - رضي الله عنهم - -: " لا إله إلا الله، وَحْدَه لا شَرِيك له ... " الحَديث. يُهَلِّل بها مَرَّة واحِدَة.
( 2 ) أما ما رُوي(3) أنَّه " يُهَلِّل بها ثَلاثًا ": فهي رواية شَاذَّةٌ لا تَصِحُّ:
__________
(1) رواه مسلم ( 594 )، والنسائي ( 1340 ). ولفظه: " لا إله إلا الله، وحَدْه لا شريك له، له المُلك وله الحَمْد، وهو على كُلِّ شىءٍ قدير، لا حَول ولا قُوَّة إلا بالله، لا إلهَ إلا الله، ولا نَعْبُدُ إلا إياه، له النِّعْمَة، وله الفَضْل، وله الثَّناء الحَسَن، لا إلهَ إلا الله، مُخْلِصين له الدِّين، ولو كَرِهَ الكافِرون ".
(2) رواه البخاري ( 844، 7292 )، ومسلم ( 593 )، والنسائي ( 1341 ). ولفظه: " لا إله إلا الله، وحَدْه لا شريك له، له المُلك وله الحَمْد، وهو على كُلِّ شىءٍ قدير، اللهم لا مانِعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعطيَ لِمَا مَنَعتَ، ولا يَنفَع ذا الجَدِّ مِنك الجَدُّ ".
(3) وهي إحدى روايات البخاري ( 6473 ) في نُسْخَة الصغاني - كما قال الحافظ في " الفتح ": ( 11 / 307 ) -، ورواه - أيضًا - وابن خُزَيمة ( 1 / 365 ). وليس في روايتِهما: " اللهم لا مانِعَ لما أعطيت... " إلخ الحَديث. ورواه النسائي ( 1343 )، مِن طريق هُشَيم عَن المغيرة عَن الشَّعبي عَن وراد به.(1/261)
رواها عبد الملك بن عُمَيْر عَن وَرَّاد كاتب المغيرة بن شُعْبَة عنه - - رضي الله عنه - -، وللحَديث أسانيد متعددة ليس فيها هذه الزيادَة (1).
( 3 ) وأمَّا التهليل عَشْرًا، بعد صلاة الصُّبْح والمَغْرِب، قَبْل أن يَثْنِي رِجْلَه: فلا يَصِحُّ.
وقد جاء هذا التَّهليل بثلاثة ألْفاظٍ:
__________
(1) واخْتُلِف فيها على عبد الملك بن عُمَير؛ فرواه عَنه هُشيم بها. وخالفه الأئمة الثِّقات: السُّفيانان - الثوري وابن عُيَينة -، وشُعبة، وَوضَّاح بن عبد الله، كُلُّهم رَوَوْا الحَديث بدونها. وخَرَّج رواياتهم جميعَها البخاري ( 844، 7292 )، إلا رواية سُفيان بن عُيَينة فرواها أحمد ( 4 / 251 ). فصارت التِّبِعَة على هُشَيم والزيادة مِنه - رحمه الله -، والله أعْلَم.(1/262)
اللَّفْظ الأوَّل(1) - مُقَيَّدٌ بما بَعْد صلاة الصُّبْح والمَغْرِب -: " من قال في دُبُرِ صلاة الفَجْرِ، وهو ثانٍ رِجْلَيْه، قبل أن يتكلم ( وفي رواية أحمد: قبل أن ينصرف ويَثْنِي رِجْلَه مِن صلاة المَغْرِب والصُّبْح ): لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، ( زاد أحمد: بيده الخَيْر )، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ -عشرَ مرات - = كُتِبَ له عشرُ حسناتٍ، ومُحِيَت عنه عشرُ سيئاتٍ، ورُفِعَ له عشرُ درجاتٍ، وكان يومَه ذلك كُلَّه في حِرْزٍ من كل مكروهٍ، وحُرِسَ من الشيطان، ولم يَنْبَغِ لذَنبٍ أن يُدْرِكَه في ذلك اليوم، إلا الشِّرْك بالله "(2):
فهذا - وإنْ قَوَّاه بَعْضُ أهْل العِلْم(3)
__________
(1) في الباب: عَن أبي ذر، ومُعاذ بن جبل، وأم سلمة، وأبي أُمامة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء وأبي أيوب الأنْصارِيَيْن - - رضي الله عنهم --، ومِن مُرْسَلَي: عبد الرحمن بن غَنْم وعُمَارَة بن شَبيب السِّبأي - رحمه الله -، وفي صُحْبَتهما خِلافٌ. ورُوي الحَديث بألفاظ مُخْتَلِفَة فيها اضطراب.
(2) هذا لَفظ حَديث أبي ذر - رضي الله عنه -: رواه الترمذي - واللفظ له - ( 3474 )، والنسائي في في " الكبرى ": ( 6 / 37 )، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 196 )، والبزار: ( 9 / 438، 439 - " مُسنده " )، والدارقطني في " عِلَلِه ": ( 6 / 45 - 46، 248 ).
(3) مِمَّن قَوَّى هذا الحَديث:
1- الترمذي: فقد صَحَّح حديثَ أبي ذَرٍّ؛ فقال ( 3474 ): " حَسَنٌ غَريبٌ صحيحٌ ".
2- المُنذري: فقد صَحَّح - في " الترغيب والترهيب " ( 3 / 306 ) - حَديثَي: أبي أُمامة - فقال: " رواه الطبراني في " الأوْسَط " بإسناد جَيِّد " -، ومُعاذ - فقال: " رواه ابن أبي الدُّنيا والطبراني بإسناد حَسَنٍ - ".
3- الحافظ ابن حجر: فقد حَسَّن - في " الفتح " ( 11 / 205 ) - إسناد حَديث أبي أيوب عِنَد أحمد.
4- وكأنَّ سُفيان الثوري قد صَحَّح العَمَل به: ( راجع: " فتح الباري " / لابن رَجَب: 7 / 428 ).
5- ومِن المُعاصِرين: العلامة الألباني - رحمه الله تعالى -، مع أنَّه ضَعَّف إسناد شَهر، إلا أنَّه قواه بشواهِدِه في: " صحيح الترغيب والترهيب ": (1 / 262، طـ المعارف )، و" السلسلة الصحيحة ": ( 2563 ).(1/263)
- ضَعيفٌ لا يَصِحُّ(1)، وقد ضَعَّفَه الإمام أحمد كَما نَقَل ذلك ابنُ رَجَبٍ(2).
اللفظ الثاني(3) - يُقال في أذْكار الصَّباح والمَساء -: " مَن قال حين يُصْبِح: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، عشر مرات، كَتَبَ الله له عَشر حسنات، ومَحا عنه عشر سيئات، وكَتَب له بها عَدْل عَشر رِقاب، وكُنَّ له حَرَسًا مِن الشيطان الرجيح حتى يُمْسِي، فإذا قالها حين يُمْسِي فكذلك حتى يُصْبِح ":
رواه البخاري في " التاريخ الكبير" والدولابي في " الكُنى "(4)، وإسناده لا بأس به = فَتكون هذه التهليلات مِن أذكار الصَّبَاح والمَسَاء.
__________
(1) ضَعَّف الحَديث: الإمام أحمد - وسيأتي -، والنَّسائي - عَقِب روايته له - والدَّارَقُطْني، وابن رَجَب في " الفتح ": ( 7 / 428 )، وابن حجر في " فتحه ": ( 11 / 202 ).
(2) قال ابن رجب في " فتح الباري ": ( 7 / 428 ): " ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر؛ فإنه ذُكِرَ له هذا الحديث؛ فقال: " أعجب إليّ أن لا يجلس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه ". يعني: أن هذا أصح من حديث شهر بن حوشبٍ هذا، مع أنه ليس في جميع رواياته: " قبل أن يَثْنِى رجله "؛ بل في بعضها " اهـ.
(3) في الباب: عَن أبي عَيَّاش الزُّرَقي وأبي أيوب وأبي هريرة - - رضي الله عنهم - -، بألفاظ مُختَلِفة في عَدد مرات التَّهليل ومِقدار الثَّواب.
(4) رواه البخاري في " التاريخ الكبير ": ( 3 / 381 ) - وعَنه الدولابي في " الكُنى ": ( 1 / 46 - برقم 245 ) -، مِن حَديث أبي عيَّاش الزُّرَقي - - رضي الله عنه - -.
ورواه أبو داود ( 5077 )، و ابن ماجه ( 3867 )، وأحمد ( 4 / 60 )، والنسائي في " الكبرى ": 6 / 11، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 149 )، والطبراني في " الكبير ": ( 5 / 217 )، بدون التَّقييد بـ ( عَشْر مرات ).(1/264)
اللفظ الثالث(1) - يُقال مُطْلَقًا دون تقييدها بِوَقْتٍ-: كما في حديث أبي أيوب الأنصاري(2) - - رضي الله عنه - -: " مَن قال: لا إله إلا الله، وَحْدَه لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عَشْر مِرَارٍ؛ كان كَمَنْ أعْتَقَ أربعة أنفس من ولد إسمعيل ":
وهذا أصَحُّ شىءٍ.
القِسْم الثَّالِث: القِرَاءة - يعني: قِراءَة القُرآن -:
( 1 ) ما وَرَدَ في قِراءة آية الكُرْسي دُبُر الصَّلاة:
رَوى النَّسائيُّ(3)، مِن طَريق محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن أبي أُمامة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " مَن قرأ آية الكرسي في دُبُرِ كُلِّ صلاة مكتوبَة؛ لم يَمْنَعْه مِن دُخُول الجَنَّة إلا أن يَمُوت ":
__________
(1) في الباب: عَن أبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة وابن مسعود والبراء بن عازِب - - رضي الله عنهم --.
(2) حَديث أبي أيوب - - رضي الله عنه - -: رواه البخاري ( 6404 )، ومُسْلِم - واللفظ له - ( 2693 )، والترمذي ( 3553 )، وأحمد ( 5 / 418، 422 )، والنسائي في " الكبرى ": ( 6 / 33، 35 )، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 191، 192، 193 )، والطبراني في " الكبير ": ( 4 / 165، 166 ). واخْتَلفت الروايات في عدد الرِّقاب المُعْتَقَة.
(3) في " السُّنَن الكبرى ": ( 6 / 30 )، وفي " عمل اليوم والليلة ": ( ص 182 )، والطبراني في " الكبير ": ( 8 / 114 )، وفي " الأوسط ": ( 8 / 93 ) وغيرهم.(1/265)
وهذا الحَديث إسناده لا بأس به، وقد صَحَّحه بَعْضُ أهْل العِلْم(1): كالمُنذِري، ونَقَلَ(2) - بعد أن صَحَّح إحدى أسانيده - عَن شيخه المقدسي أنَّه صَحَّح إسنادَه على شَرْط البُخارِي، ونقل ذلك أيضًا عَن ابن حِبَّان في كِتابِه " الصَّلاة "(3).
وضَعَّفه آخَرون: كما نُقِلَ عن ابن الجوزي(4) وابن تيمية(5).
إلا أنّ الأقْرَب أنَّه لا بأس بإسناده. وكان الإمام ( ابن تيمية ) - رحمه الله - يُداوِم على قراءتها(6)، مع أنَّه يقول بِضَعْف الحَديث.
( 2 ) ما وَرَدَ في قِراءة المُعَوِّذَتَيْن دُبُر الصَّلاة:
رَوى النَّسائي وغيره(7)، مِن حديث عُقبة بن عامر - - رضي الله عنه - - قال: " أمَرَني رسول الله ? أن أقرأ بالمُعَوِّذَات دُبُر كُلِّ صَلاةٍ ".
__________
(1) وصَحَّحه - أيضًا -: ابن كثير في " تفسيره ": ( 1 / 308 )، وحَسَّنه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في " نتائج الأفكار ": ( 2 / 279 )، وصَحَّحه السيوطي في " اللآلي المَصنوعَة في الأحاديث الموضوعَة ": ( 1 / 230 )، ومِن المعاصرين: العلامة الألباني - رحمه الله - في " الصحيحة ": ( 2 / 661 - رقم 972 )، و" صحيح الترغيب والترهيب ": ( برقم 1595 ).
(2) في كِتابه " الترغيب والترهيب ": ( 2 / 453 ).
(3) وقد سَبَق أن أشرنا أنه مَفقود لِلَّهِ راجع: ص؟؟؟.
(4) فَقد وضَعه في كِتابه " الموضوعات ": ( 1 / 243، 244 ) !
(5) " مجموع الفتاوى ": ( 22 / 508، 516 )، و" الفتاوى الكبرى ": ( 1/ 187 ).
(6) نقل ذلك عَنه تلميذه الإمام ( ابن القيم ) - رحمه الله - في كِتابه " زاد المعاد ": ( 1 / 304 )؛ فقال: " وبلغني عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية - قدس الله روحه - أنه قال: ما تركتُها عُقَيْب كُلِّ صلاة " اهـ.
(7) رواه النسائي في " الصُّغْرَى ": ( 1336 )، و" الكُبَرى ": ( 1 / 397 )، وأبو داود ( 1523 ).(1/266)
وجاء تفسير " المُعَوِّذات " في كَثيرٍ مِن الرويات(1) بأنَّها: ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ب,n=xےّ9$#... ? [ الفلق ] و? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ؤ¨$¨Y9$#... ? [ الناس ].
وحديث عُقْبَة بن عامر - - رضي الله عنه - - له ألفاظ وطُرُق ورِوايات كثيرة، تَوَسَّع الإمام النَّسائي - رحمه الله - في سُنَنِه " الصُّغْرَى " و" الكُبْرَى "(2) بِذِكْرِ ألفاظِه وطُرُقه.
( 3 ) ما وَرَدَ في قِراءة سُورَة الإخْلاص وغيرها مِن السُّوَر دُبُر الصَّلاة:
لم يَصِحَّ عن الرسول ? شىءٌ في قراءتها أو في قراءة غيرها مِن السُّوَر، دُبُر الصَّلاة.
وقد اسْتَدَلَّ بَعْضُ أهْل العِلْم على اسْتِحباب قراءتها دُبُر الصَّلاة بِنَوْعَين مِن الأدِلَّة:
النَّوع الأول: ما رُوي صَريحًا في قِراءتها دُبُر الصَّلاة:
رواه الترمذي والطبراني(3)، مِن حَديث معاذ بن عبد الله بن خُبَيْب عن أبيه - - رضي الله عنه - -.
وهذا مَعلولٌ لا يَصِحُّ منه شَىءٌ. وصوابه حَديث عُقْبَة بن عامِر - - رضي الله عنه - - السَّابِق = يعني: صواب الرِّواية: مُعاذ بن عبد الله عَن أبيه عَن عُقبة(4).
__________
(1) كما هي رواية النسائي ( 2903 )، والترمذي ( 2903 ).
(2) فرواه - كما مَرَّ - في " الصُّغْرَى " في عِدَّة مواضِع: ( 1336 ، 2903، 5430 )، وفي " الكُبْرَى ": (1 / 397، 8 / 251 ).
(3) رواه الترمذي ( 3575 )، وأبو داود ( 5082 )، والنسائي ( 5428 )، وأحمد ( 5 / 312 )، والطبراني (؟؟؟ ).
(4) رواه هكذا النسائي في " الصُّغْرَى ": ( 5430 )، وفي " الكُبْرَى ": ( 8 / 251 ).(1/267)
النَّوع الثاني: مَا جاء في بَعْضِ ألفاظ حَديث عُقبة بن عامر - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? " كان يقرأ بالمُعَوِّذات " - كما سبق قبل قليل -؛ فقالوا: سُورَة الإخلاص تَدْخُل في " المُعَوِّذات ". وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنَّه جاء تفسير " المُعَوِّذات " في كَثيرٍ مِن الروايات بأنَّها: ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ب,n=xےّ9$#... ? [ الفلق ] و? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ؤ¨$¨Y9$#... ? [ الناس ]، ولم يأتِ ضِمن تَفسيرها قراءة سُورَة الإخلاص. وقد سَبَق تخريجهُا.
فالسُّنَّة الاقتصار على آية الكُرْسي، والمُعَوِّذَتَيْن: ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ب,n=xےّ9$#... ? [ الفلق ] و? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ؤ¨$¨Y9$#... ? [ الناس ].
أمَّا ترتيب هذه الأذْكَار:
فيُسَنُّ - بعد السلام -: أن يَسْتَغْفِرَ ثلاثًا، ثُمَّ بَعْدَ ذلك يقول: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام ". ثم يُهَلِّل مَرَّةً واحِدَة؛ فيقول: " لا إله إلا الله، وَحْدَه لا شريك له... " الحَديث. ثم يبدأ بالتَّسبيح والتَّحْميد والتَّكبير. ثُمَّ بَعْد ذلك يقرأ آية الكرسي والمُعَوِّذَتَين، يبدأ بأيهما شاء؛ فالأمر في هذا واسِعٌ: فلو بدأ بآية الكرسي وخَتَم بالمعوذات، أو بدأ بالمعوذات وخَتَم بآية الكرسي = فلا بأس.
والحِكْمَة مِن تَنَوُّع أذْكار الصَّلاة - كالاستفتاح والتَّشَهُّد وما بعد الصَّلاة ونحوها -: أنَّ الإنسان إذا اعتاد على شىءٍ معين = قد يَغْفَل عن تَدَبُّر وتَفَهُّم معانيه واسْتِحْضَار النيَّة فيه - لأنَّه اعتاد على قوله وفِعْله -، أمَّا إذا تَغَيَّر = فهذا يَدْعُوه إلى الانتباه والتَّخَشُّع والتَّدَبُّر في فِعْلِه لهذه العِبادَة، سواءً كانت عِبادَةً قولية أو فِعْليَّة.
قال: " ثم يقول: اللهُمَّ أنتَ السَّلام ":
" السلام ": اسْمٌ مِن أسماء الله - - عز وجل - -، كما هو مَعْلومٌ.
قال: " ومِنك السلام ":(1/268)
أي: ومِنك السَّلامة؛ فأنتَ الذي تُسَلِّم عِبادَك = فالسَّلامَة مِن عِندِ الله - سبحانه وتعالى -.
قال: " تباركتَ":
أي: تَقَدَّسْتَ وتَعَظَّمتَ وكَثُرَ خَيْرُك. و" البَرَكة ": هي الخَيْر الكَثير.
قال: " يا ذا الجلال والإكرام ":
وَصَف الله - - عز وجل - - نَفْسَه بأنَّه ذُو الجَلال، وأنَّه ذُو الإكْرَام.
قال: " لا إله إلا الله، وَحْدَه لا شريك له، له المُلْك وله الحَمْد ":
معنى " لا إله إلا الله ": لا مَعْبودَ بِحَقٍّ إلا الله - - سبحانه وتعالى - -.
و" لا شَرِيكَ له، له المُلْك " - - سبحانه وتعالى - -، وهُو المُسْتَحِقُّ للحَمْد. وهذا المُلْك الذي هو مُسْتَحِقُّه هو المُلْك الخَاصُّ به - - سبحانه وتعالى - -.
ولكن: مِن المعلوم أنَّ المخلوق يَمْلِك، والله - - عز وجل - - يَمْلِك المَخْلُوق ومَا مَلَكَ.
ولذا كان مِن الضَّروري أن نتكلم عَن أسماء الله - - عز وجل - -؛ فنقول:
يُمْكِنُنا تقسيم أسماء الله - - عز وجل - - إلى ثلاثة أقسام:
القِسْم الأوَّل: أسْماء خاصة به - - سبحانه وتعالى - -: فلا يجوز لأحَدٍ مِن الناس أن يَتَسَمَّى بها؛ مثل اسمَي: الله والرَّحمن.
القِسْم الثاني: أسْماء مُشْتَرَكَةٌ بين الله وبَيْن خَلْقِه: مثل: المَلِك والكَريم.
فقد ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، مِن حَديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - ?-: " الكَرِيم ابن الكَرِيم ابن الكَرِيم ابن الكَرِيم: يُوسُف بن يَعْقُوب بن إسْحَاق بن إبْراهيم - عليهم والسَّلام - ". فَسَمَّاه ? الكَرِيم، مع أنَّ مِن أسماء الله - - عز وجل - - الكريم = فَدَلَّ هذا على الجَواز؛ لأنَّه اسْمٌ مُشْتَرِكٌ في اللَّفْظ، لكن كَرَم الله خَاصّ به، وكَرَم المخلوق يَليقُ بِحَالِه الضَّعيف. وكذلك المَلِك.
__________
(1) بأرقام ( 3382، 3390، 4688 ).(1/269)
وقد ثَبَتَ في " الصحيحين "(1) أن الرسول ? قال: " إنَّ أخْنَع اسْمٍ عند الله رَجُلٌ تَسَمَّى بملك الأملاك؛ لا مالك إلا الله - - عز وجل - - ". فيَحْرُم على الإنسان أن يَتَسَمَّى بِمَلِك الأملاك أو مَلِك المُلوك؛ لأن مَلِك الأمْلاك ومَلِك المُلوك هو الله، وَحْدَه لا شريك له.
ولذلك قال سُفيان بن عُيَيْنَة أحد رُواة الحديث - رحمه الله - عَقِبَه(2): " مِثل: شَاهانْ شَاه ". وهذه كَلِمَة فارسية، مَعناها في اللُّغَة العربية: مَلِك الملوك.
القِسْم الثالث: أسماء لُوحِظَ فيها معنى الصِّفَة: فهذه يَنبَغي أن تُغَيَّر.
مِثل التَّكَنِّي بأبي الحَكَم إذا لُوحِظَ فيه مَعنى الصِّفَة:
فقد رَوَى النَّسائي(3)، عَن هانئ بن يزيد - - رضي الله عنه - - أنَّه " لَمَّا وَفَدَ إلى رسول الله ? سَمِعَه وهم يُكَنُّونه أبا الحَكَم؛ فَدَعاه رسول الله ? فقال له: إن الله هو الحَكم وإلَيْه الحُكْم؛ فَلِم تُكْنَى أبا الحَكم؟! فقال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شىءٍ أتَوْني فَحَكَمتُ بينهم فَرَضِيَ كِلا الفَريقَين.قال: ما أحْسَنَ مِن هذا لِلَّهِ فما لك مِن الوَلَد؟ قال: لي شُرَيْحٌ وعبد الله ومسلم. قال: فَمَن أكبرهم؟ قال: شُرَيْح. قال: فأنتَ أبو شُرَيْح. فَدَعا له وَلِوَلَدِه ".
__________
(1) رواه البخاري ( 6206 )، ومسلم - واللفظ والزيادَة له - ( 2143 )، والترمذي ( 2837 )، وأبو داود ( 4961 ).
(2) وهذه رواية مسلم، أمَّا في " البخاري ": " تفسيره: شَاهانْ شَاه "، وفي الترمذي: " قال سُفيان: شَاهانْ شَاه ".
(3) رواه النسائي ( 5387 )، وأبو داود ( 4955 ).(1/270)
فَغَيَّر الرَّسول ? كُنيَتَه لَمَّا لُوحِظَ فيها مَعنى الصِّفَة. مع أنَّ هناك جَمعًا مِن الصَّحابة مِمَّن اسْمه الحَكَم(1)، ولم يُغَيِّر الرسول ? أسماءَهم، وتَسَمَّى كثيرٌ مِن التَّابعين بهذا الاسم(2)، وجَرَى العَمَل عَلَيْه بلا إنكار. ولكن إذا لُوحِظَ معنى الصِّفَة يُغَيَّر.
قال: " وله الحمد ":
هذا الحَمْد خَاصٌّ بالله - - سبحانه وتعالى - -.
وسبق(3) بيان معنى الحَمد وأقسامِه؛ فلا معنى لإعادته هنا.
قال: " وهو على كل شىء قدير ":
في هذا إثباتُ القُدْرَة لله - - سبحانه وتعالى - -؛ وأنَّه عَلى كُلِّ شَىءٍ قَدير.
قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ":
هذا فيه تَفويض العَبْد لِرَبِّه - - عز وجل - - الحَوْل والقُوّة، وأنَّهما بِيَدِه - - سبحانه وتعالى --، وَحْدَه لا شَرِيك له.
وقد ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(4)، من حديث أبي موسى الأشعري - - رضي الله عنه - -: أن الرسول ? قال له: " قُل: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله؛ فإنَّها كَنْزٌ مِن كُنُوزِ الجَنَّة ".
قال: " لا إله إلا الله، ولا نَعْبُد لا إياه ":
هذا تَفسير " لا إله إلا الله "؛ فمعناها: أنَّه لا يُعْبَد إلا هُو - - سبحانه وتعالى - -.
قال: " له النِّعْمَة وله الفَضْل وله الثَّنَاء الحَسَن ":
__________
(1) كالحكم بن الأقرع، وبن أيوب، وبن الحارث، وبن حيان، وبن أبي العاص، وغيرهم. وراجع في ذلك كُتُب تراجِم الصَّحابة؛ كـ " الإصابة " و" الاستيعاب "، وغيرهما.
(2) كالحكم بن مسعود، وبن سُفيان، وبن فُضيل، وبن عُتَيْبَة، وغيرهم. وراجع كُتُب تراجِم الرِّجال والسِّيَر.
(3) ص؟؟؟.
(4) رواه في مواضع مُتَعَدِّدة مِن " صَحيحه "؛ مِنها: ( 6384، 4205، 6409 )، ورواه مسلم ( 2704 )، والترمذي ( 3374 )، وأبو داود ( 1526 ).(1/271)
يعني أنَّ الله - - عز وجل - - مُسْتَحِقٌّ للحَمْد، وهو - - سبحانه وتعالى - - يُحِبُّ الحَمْد، كما أخْبَرَ بذلك الرسول ? فقال: " أمَا إنَّ رَبَّك - - عز وجل -- يُحِبُّ الحَمْد "(1)؛ لَمَّا قال له الأسود بن سريع - - رضي الله عنه - - ألا أُنْشِدك مَحامِدَ حَمِدتُ بها ربي - تبارك وتعالى -؟
قال: " لا إله إلا الله، مُخْلِصين له الدِّين ":
فيه دَلالةٌ على أنَّه لا بُدَّ للعَبْد أن يُخْلِص في أعْمَاله وأقْواله لِرَبِّه - - عز وجل - -.
قال: " ولو كَرِه الكَافِرُون ":
يعني: نُخْلِص الدِّين لله رَبِّ العالَمين، على رَغْمِ الكافِرين، ولو كَرِهوا ذلك. ولا شَكَّ أنَّ الكافِرين يَكْرَهون إخْلاصَ العِبادَة لله - - عز وجل - -.
قال: " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ":
كُلُّ هذا فيه مَدْحٌ وثَناءٌ على الله - - سبحانه وتعالى - -؛ حيث أنَّه لا مَانِعَ لِمَا أعْطَى، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ - - سبحانه وتعالى - -؛ كما قال ? وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ? [ يونس: 107]، وقال ? مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ ¾ حnد‰÷èt/ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) ? [ فاطِر: 2 ]. فالأمر كُلُّه بِيَدِ الله، وَحْدَه لا شَرِيك لَه.
قال: " ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ ":
" الجَدّ " هو: الغِنَى والنَّصيب. فالمعنى: لا يَنْفَع الغَني يومَ القيامَة غِناه وماله وولده؛ وإنَّما ينفعه عَمَله وطاعته وإقْبَاله على الله - - عز وجل - -.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 3 / 435 )، والطبراني في " الكبير ": ( 1 / 282 ).(1/272)
قال: " ثم يسبح ويحمد ويُكَبِّر كل واحدة ثلاثًا وثلاثين، ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ":
سَبَق(1) بيان صِفَات التَّسبيح المختلفة الثابتة في السُّنَّة؛ فلتُراجَع هناك.
قال: " ويقول بَعْدَ صَلاة الفَجْر وصَلاة المَغْرِب، قبل أن يُكَلِّم أحدًا من الناس: اللهم أجُرْنِي من النار، سَبْع مَرَّات ":
رُوي هذا الدُّعاء مِن حَديث عبد الرحمن بن حسان الكِنَانِي، عن الحارث بن مسلم، عن أبيه مُسْلِم بن الحارِث عن رسول الله ? أنه أسَرَّ إليه؛ فقال: " إذا انصرفت من صلاة المَغْرِب فَقُل ( زاد في رواية: قبل أن تُكَلِّم أحدًا ): اللهم آجِرني مِن النار، سبع مرات؛ فإنك إذا قُلتَ ذلك ثم مِتَّ في ليلتك كُتِبَ لك جِوارٌ مِنها، وإذا صليت الصُّبْح فقل كذلك؛ فإنك إن مِتَّ في يومِك كُتِبَ لك جِوارٌ مِنها " [ رواه النَّسائي في " الكُبْرَى " وابن حبان والطبراني وغيرهم(2)، كُلُّهم مِن طَريق عبد الرحمن بن حسان به ].
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه أبو داود - واللفظ والزيادَة له - ( 5079 )، وأحمد (4 / 234 )، والنسائي - وعِندَهما الزيادة أيضًا - في " الكُبْرَى ": ( 6 / 33 )، وفي " عَمَل اليوم والليلة ": ( ص 188 )، وابن حبان ( 5 / 366 ) - أخرجه مِن طريق أبي يعلى، ولم أجده في مُسْنَدِه ولا مُعْجَمِه -، والطبراني في " الكبير ": ( 19 / 433، برقم 1051 )، والبخاري في " التاريخ الكبير ": ( 7 / 253 ).(1/273)
وهذا الحَديث ضَعيفٌ لا يَصِحُّ؛ ووَجْه الضَّعْف: أنَّ الحارث بن مسلم أو مسلم بن الحارث: ليس بالمشهور؛ بل هو مجهول(1)، والمجهول في الأصل لا تقوم به الحجة(2). ثُمَّ إنَّ وَالِدَه لم تَثْبُت له الصُّحْبَة إلا في هذا الحَديث. وقد اخْتُلِفَ في اسْمه واسم أبيه(3)، إلا أنَّ هذا الاضطراب في اسمهما أمره يَسيرٌ.
وبيانُ ذلك أن نقول: أنَّ الاضطراب في الحَديث على قِسْمَين:
القسم الأول: اضْطِراب مُؤَثِّر:
ويكون الاختلافُ في الحَديث - في هذه الحالة - اختلافًا واضِحًا بَيِّنًا، يَدُلُّ على أنَّ الرَّاوي لم يَحْفَظ الحديث؛ وبالتالي لا يُحْتَجُّ بِخَبَرِه؛ لأنَّ مِن شُروط الاحتجاج بِخَبَر الرَّاوي أن يكون قد حَفِظَ ما رَوَى، وتَثَبَّت مِمَّا نَقَلَ.
وهذا الاختلاف إمَّا يكون في مَتن الحَديث ( ألفاظه )، أو في سَنَدِه:
أ- الاختلاف في ألفاظه:
__________
(1) قال البَرْقاني ( " سؤالاته ": برقم 490 ): قلتُ [ يعني: للدارقطني ]: مسلم بن الحارث التميمي عن أبيه عن النبي ?. قال: " مسلم مجهول؛ لا يُحَدِّث عَن أبيه إلا هو " اهـ. ولم يوثقه إلا ابن حبان ( كما في " ثقاته ": برَقَمَي 7236، 5353 ). وانظر: ميزان الاعتدال: 6 / 413، 8 / 191، ولسان الميزان 2 / 160، والمراجع الآتية بعد قليل.
(2) راجع: " الكفاية ": ( ص 88 وما بعدها )، و" المنهل الروي ": ( ص 66 وما بعدها )، و" مقدمة ابن الصلاح ": ( 1 / 316 وما بعدها - " تدريب الرواي ").
(3) راجع الاختلاف في اسمه وصُحْبَتِه في: " تهذيب الكمال ": ( 27 / 498 )، و" تهذيب التهذيب ": ( 10 / 113 )، و" الإصابة ": ( 6 / 106 )، و" الاستيعاب ": 290 - 291 / 1، 1395 / 3، و" التاريخ الكبير ": 7 / 253، و" الجرح والتعديل ": ( 3 / 87 )، و" جَامِع التَّحصيل ": ( ص 279 ).(1/274)
ومِثاله: أن يأتي في رواية " افعلوا "، وفي رواية " لا تفعلوا ". أو تَتدافَع الرِّوايات بِذِكر بعض ألفاظٍ للحديث في إحداها، وذِكر ألفاظٍ أُخْرَى تختلف عنها في رِوايات أُخْرى، دون مُرَجِّح لأحَد القَوْلَين.
ب ـ الاختلاف في الإسناد:
ومِثاله: زيادَة راوٍ في السَّنَد أو حَذفه، أو التَّغيير في شَكْل الإسناد.
القسم الثاني: اضطراب غير مُؤَثِّر:
وهو الاضطراب الواقِع في شىءٍ لا يُؤَثِّر في صِحَّة الحَديث.
مِثاله:
( 1 ) ما رواه البخاريُّ وغيره(1)، في قِصَّة شراء الرسول ? بعيرًا مِن جابر - - رضي الله عنه - -: فقد وَقَعَ اختلافٌ بين الرُّواة في قيمة البَعير. فَمِثْل هذا لا يُؤَثِّر على صِحَّة الحَديث؛ لأنَّ الرِّوايات مُتَّفِقَةٌ على أصل الحَديث وعلى القَدْر المَقصود مِنه؛ وهو أنَّ الرسول ? اشترى الجَمَل من جابر - - رضي الله عنه - -، وأنَّ جابرًا - - رضي الله عنه - - اشترط ظهر الجمل إلى أن يصل إلى المدينة. وأما اختلافهم في مِقْدارِ الثَّمَن - عشرون أو ثلاثون أو أقل أو أكثر -: فهذا لا يُؤَثِّر.
( 2 ) وأيضًا: مَا رواه(2) محمد بن سيرين عن عبيدة بن عمرو السلماني، في تَفسير الإدناء في قوله - - سبحانه وتعالى - - ? يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ? [ الأحزاب: 59 ]: بأن تُخْرِج المرأة عينًا واحدة: فقد وَقَعَ اختلافٌ في الرِّوايات في العَيْن المُخْرَجَة: هل هي اليُمنَى أم اليُسْرَى؟ فَمِثل هذا لا يُؤَثِّر على صِحَّة الحَديث ولا يُرَدُّ به الأثَر؛ خِلافًا لِمَن رَدَّه بهذا الاضطراب مِن أهْلِ العِلْم. ذلك أنَّ المقصودَ مِن هذا التفسير أن المرأة المرأة تَحْتَجِب ولا تُخْرِج إلا عَينًا وَاحِدَة ترى بها طَريقها، ولا يراها مَن أمامها مِن النَّاس.
__________
(1) رواه البخاري ( 2385، 2861، 3089 )، ومسلم ( 715 ).
(2) أخْرَجَه الطبريُّ في " تَفسيره ": ( 22 / 46 ).(1/275)
( 3 ) ومِثاله - أيضًا -: اختلاف الرِّوايات في عَيْن الدَّجال العَوراء: هل هي اليُمنَى(1) أم اليُسْرَى(2). مع أنَّ بَعْض أهل العِلم - كالقاضي عِياض وغيره - قد جَمَعوا بين هذه الروايات(3).
فالخُلاصَة: أنَّ الأصلَ أنَّ: الاختلاف في اسم ( الحارث بن مسلم ) أو ( مسلم بن الحارث )، هو مِن قِسْم الاضطراب الذي لا يُؤَثِّر كثيرًا في صِحَّة الحَديث(4).
إذا تَقَرَّر لدينا هذا؛ فمثل هذا الاضطراب يكون غير مُؤثِّرٍ بِذاتِه؛ إلا أنَّه إذا كانت هناك أوجه أخرى لِضَعْف الحَديث؛ فيُلاحَظ - والحال هكذا - مِثل هذا الاضطراب، ويَزيد الرَّاوي جهالة على جَهالَته لِلَّهِ فهذا الاختلاف في اسم الرَّاوي - مع كونه مَجهولًا - يَدُلُّ على أنَّه لا يُعْرَف فيزداد جَهالَةً إلى جَهالَته.
فالحاصِلُ أنَّ الحَديث لا يَصِحُّ.
__________
(1) روى البخاري ( 3440 )، ومسلم ( 169 )، والترمذي ( 2241 )، وغيرهم، أنَّه أعور العين اليمنى.
(2) روى مسلم ( 2934 )، وابن ماجه ( 4071 ) وغيرهما، أنَّه أعور العين اليُسْرَى.
(3) راجع وَجْه الجَمع في: " شَرح النووي على صحيح مسلم ": ( 2 / 235 )، و" فتح الباري " / لابن حَجَر: ( 13 / 97 ).
(4) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في " نُكَتِه على ابن الصَّلاح ": (؟؟؟ ): " واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر ذلك؛ لأنه إنْ كان ذلك الرجل ثقة فلا ضَيْر، وإن كان غير ثقة فَضَعْف الحديث إنما هو مِن قِبَل ضَعْفه لا مِن قِبَل اختلاف الثقات في اسمه؛ فتأمَّل ذلك " اهـ.(1/276)
وأمَّا أصل الاستعاذَة بالله - - سبحانه وتعالى - - مِن النَّار؛ فيُغْنِي عَنه ما رواه الترمذي والنسائي وغيرهم(1)، مِن طريق أبي إسحاق السبيعي عن بُرَيْد بن أبي مريم عن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " مَن سأل الله الجنة ثلاث مَرَّاتٍ؛ قالت الجنة: اللهُمَّ أدخله الجنة. ومَن اسْتَجار مِن النَّار ثلاث مَرَّات؛ قالت النار: اللهُمَّ أجِرْه مِنَ النَّار ". وهذا حديثٌ صَحيحٌ.
وقد اخْتُلِف في رَفْعِه وَوقْفِه:
فذكر الإمام أبو عيسى الترمذي أنَّ هناك مَن وَقَفه فَجَعله مِن كلام أنَسٍ - - رضي الله عنه - -.
إلا أنَّ جَمعًا مِن الرَّواة الذين رَوَوْه عَن أبي إسحاق السبيعي رَفَعُوه؛ مِنهم: أبو الأحوص(2)، وإسرائيل - حفيد أبي إسحاق السبيعي -(3)، ويُونس بن أبي إسحاق(8).
إذا ثَبَتَ هذا؛ فليس في الحَديث تَقييدُ الاستعاذَة بِوقتٍ مُعَيَّنٍ أو بصلاةٍ؛ وإنَّما يُشْرَع للإنسان مُطْلَقًا. بخلاف الاستعاذَة سَبْع مَرَّات؛ فهي مُقيَّدَة بَدُبُر صلاة الصُّبْح والمَغْرِب، وقد عَلِمتَ ما في الحَديث مِن ضَعْف.
q q q q q
قال: " والإسْرَار بالدُّعَاءِ أفْضَل ":
يُسْتَحَبُّ للدَّاعي أن يُخْفِي دُعاءَه ولا يَجْهَر به؛ والدَّليل على هذا: قول الله - - عز وجل - - ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ? [ الأعراف: 55]: ففي هذه الآية يأمُرُنا رَبُّنا - - عز وجل - - أن ندعوه تَضَرُّعًا إليه، ? وَخُفْيَةً ?: يعني: أن نُخْفِي الدُّعاء.
__________
(1) رواه الترمذي ( 2572 )، والنسائي ( 5521 )، وابن ماجه ( 4340 )، وأحمد ( 3 / 262 ).
(2) وهي رواية التِّرمذي والنسائي وابن ماجَه.
(3) وهي رواية الإمام أحمد.(1/277)
والحِكْمَة مِن هذا: أن إخفاء الدُّعاء أقْرَب إلى إخلاص العَمَل لله - - عز وجل - -؛ فلا يَطَّلِع عليه أحَدٌ؛ لأنَّه يكون بين العَبد ورَبِّه - - سبحانه وتعالى - -، هذا فضلًا عَن أنَّه أقرب إلى الخُشوع والخُضوع.
والأصل في العِبادات الإخفاء، إلا أنَّه يَخْرُج عَن هذا الأصل ما يَجِبُ إظهارُه والجَهْر به مِن العِبادات؛ كالصَّلوات المفروضة في جَماعَة، وكَصيام رَمضان، وكالحَجِّ، وغيرها مِن العِبادات. وسيأتي مَزيد بَسْطٍ لهذه المسألة: ص؟؟؟.
قال: " وكذا بالدعاء المأثور ":
" الدُّعاء المأثور ": هو ما وَرَدَ في كِتاب الله - - سبحانه وتعالى - - وفي سُنَّة نَبيِّه ?.
فيُسْتَحَبُّ للدَّاعي أن يَدْعُوَ بالدُّعاء المأثور، ولا يَتَكَلَّف إنشاء دُعاءٍ مِن عِندياتِه، ومِن قِبَل نَفسِه، لم يأتِ في قُرآنٍ ولا سُنَّة. وهذا أقْرَبُ إلى السَّلامَة مِن وُقوعِه في الخطأ، ومُخالَفَته للمَشروع مِن حَيثُ لا يَدْرِي. فَيَتَقيَّد بالمأثور في أصْل الدُّعاء، وفي أدْعيَتِه العامَّة: كسؤال الله الجَنَّة، والاستعاذَة به مِن النَّار، وطَلب رِضاه عَنه، ونحوها مِمَّا وَرَد. أمَّا مُراداته الدُّنيويَّة التي يُريد مِن رَبِّه - - عز وجل - - أن يُحَقِّقها له: فلا بأس أن يُسَمِّيها ضِمن دُعائِه؛ كما جاء(1) في حديث جابر - - رضي الله عنه - - في دُعاء الاسْتِخَارَة، قال: "... ويُسَمِّي حاجته ". هذا مَع أنَّ مُراد العبد الدُّنيوي يَدْخُل تحت عموم قوله - - سبحانه وتعالى - - ? رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [ البقرة: 201 ].
__________
(1) رواه البخاري ( 1166 )، والترمذي ( 480 )، والنسائي ( 3253 )، وغيرهم.(1/278)
وقد رَوَى الإمام أحمد والطبراني وغيرهم(1)، أنَّ عبد الله بن مُغَفَّل - - رضي الله عنه -- سَمِعَ ابنه يقول: اللهُمَّ إني اسألك القَصْر الأبيَض عن يَمين الجَنَّة إذا دَخَلْتُها لِلَّهِ فقال: أيْ بُنَيَّ؛ سَلِ اللهَ الجَنَّة، وتَعَوَّذ بِه مِن النَّار؛ فإني سَمِعتُ رسول الله ? يقول: " إنَّه سيكون في هذه الأُمَّة قَومٌ يَعْتَدون في الطَّهُور والدُّعاء ". فجعل عبد الله بن مُغَفَّل - - رضي الله عنه -- هذا التَّفصيل مِن الاعتداء في الدعاء.
وقد يَدْعو الدَّاعي بما لم يأتِ في المأثور؛ فيقع في المَحظور دون أن يَدْرِي؛ ومِن ذلك:
( 1 ) قولهم في الدُّعاء المَشهور - قاصدين الثَّناء على الرَّب - جل جلاله - -: " وأنتَ أحَقُّ مَن عُبِدَ " لِلَّهِ وهذا باطِلٌ بلا شَكٍّ؛ لأنَّ مَفهومَه أنَّ هُناك مَن لَه الحَقُّ في العِبادَة ومُشارَكَة الله - - سبحانه وتعالى - - في هذا الحَق، لكنَّك يا الله أوْلَى وأحَقُّ مِن غَيْرِك لِلَّهِ ولا شَكَّ أنَّ هذا بَاطِلٌ.
( 2 ) ومِن ذلك قول بَعْضِهم في دُعَائِه - بَقَصْد الثَّناء على الرَّب - جل جلاله - -: " يا مَن لا تراه العيون " لِلَّهِ دون تَقييد ذلك بالدُّنيا. وهذا ليس بِثَناء؛ بل هو باطِلٌ أيضًا؛ لأنَّ الله - - عز وجل - - يُرَى مِن قِبَل عبادِه المؤمِنين في الجَنَّة، كما هو مَعلوم. فالمَحظور هو إطلاق القول بذلك دون تَقييده بالدُّنيا.
فالأسْلَم للإنسان أن يلتَزِم بالدُّعاء المأثور، الوارِد في الكِتاب والسُّنَّة.
قال: " ويكون بتأدب وخشوع وحضور قلب ورغبة ورهبة؛ لحديث: " لا يُسْتَجَاب الدُّعاء مِن قَلْبٍ غَافِلٍ ":
اسْتَدَلَّ المُصَنِّف - رحمه الله - على المسألة بِحَديث: " لا يُسْتَجَاب... "؛ إلا أنَّ هذا الحَديث ضَعيفٌ لا يَصِحُّ. وقد رُوي مِن طَريقَين:
__________
(1) رواه الإمام أحمد ( 4 / 87 )، وأبو داود ( 96 )، وابن ماجه ( 3864 )، والطبراني (؟؟؟ )،(1/279)
الأوَّل: مِن حَديث صالح المُرِيّ عن هِشَام بن حَسَّان عن محمد بن سِيرين عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " اُدْعُوا اللهَ وأنتُم مُوقِنُون بالإجابة، واعْلَمُوا أنَّ الله لا يستجيبُ دُعاءً مِن قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ ".
رواه الترمذي والطبراني وغيرهم(1).
وهذا الإسناد لا يَصِحُّ؛ لأنَّ فيه صالح المري، وهو متروك.
الثاني: مِن طريق عبد الله بن لهيعة عن بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِيّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - مرفوعًا بنحوه.
رواه الإمام أحمد(2).
وفيه عبد الله بن لهيعة: فيه ضَعْفٌ وسُوءُ حِفْظٍ، وله أشياء تُسْتَنكَر عليه، وحديثه يتقوى بغيره إذا وُجِدَ ما يُقَوِّيه.
إلا أنَّ الطريق الأوْلى لا تُقَوِّي هذا الإسناد؛ لأن فيها مَن هو متروك. ومَتروك الحَديث لا يُسْتَشْهَد بحديثه ولا يعتبر حديثه عاضدًا لغيره من الأحاديث التي فيها ضَعْفٌ؛ بل يكون ساقِطًا.
فالخُلاصَة: أنَّ الحَديث ضَعيفٌ، لا تَتَقَوَّى طُرُقه ببعضها.
إلا أنَّه يُسْتَدَلُّ لأصل المسألة بِعُموم النُّصوص، التي دَلَّت على مَعنى هذا الخَبَر.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فيَنبَغي للدَّاعي أن يَدْعُوَ رَبَّه - - عز وجل - - بِحُضورِ قَلْبٍ وخُضوعٍ وخُشوعٍ، ولا يَغْفَل عَن دُعائِه ويَلْهو فيَتَفَكَّر في غَيره؛ فهذا مِن أسباب عَدَم اسْتِجابَة الدُّعَاء.
ومِن هُنا تَعْلَم أنَّ ما يفعله بعض المُصَلِّين مِن الدُّعاء بعد صلاة النَّافِلَة - حتى عند الإقامَة -، ورفع اليَدين لحظاتٍ يسيرة يقوم بعدها للصَّلاة - لِظَنِّه استحباب ذلك -: ليس فيه حُضور قلب وخُضوعِه وخُشوعِه.
__________
(1) رواه الترمذي ( 3479 )، والطبراني في " الأوْسَط ": ( 5 / 211 ).
(2) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 2 / 177 ).(1/280)
وقول المُصَنِّف " رَغبة ورَهْبَة ": يُشير إلى ما ذَكَرَه رَبُّنا - - عز وجل - - عَن زكريا وَزوجه - عليهما السَّلام -: ? إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ? [ الأنبياء: 90 ].
قال: " ويَتَوَسَّل بالأسماء والصِّفَات والتوحيد ":
يُشْرَع للدَّاعي أن يَتَوَسَّل إلى رَبِّه - - عز وجل - - بأسمائه الحُسْنَى وصِفاتِه العُلَى، وبإيمانِه به، وبتوحيده لخالقه ومولاه - - سبحانه وتعالى - -.
ومعنى "التوسل ": التَّقَرُّب؛ ومِنه قوله ? وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ? [ المائدة: 35 ]: يعني: تَقَرَّبوا إليه - - سبحانه وتعالى - - بطاعته وباتباع مَرضاته وتَرْك معصيته.
و" التَّوَسُّل " قِسْمان - كما هو مَعلوم -:
الأول: التَّوَسُّل الَمشْرُوع: وينقسِم إلى ثلاثة أقسام، يمكن أن يُزاد عليها أقسام أخرى راجِعَة إليها:
القِسْم الأوَّل: التَّوَسُّل إلى الله - - عز وجل - - بأسمائه الحُسْنَى وصِفَاتِه العُلَى:
ومِن الأدِلَّة على ذلك:
( 1 ) قوله - - سبحانه وتعالى - - ? وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [ الأعراف: 180 ]؛ ففي هذه الآية يأمُرُنا رَبُّنا - - عز وجل - - أن نَدْعُوه بأسمائه الحُسْنَى.
( 2 ) ومِنها: ما جاء في الحَديث الصَّحيح(1): "... لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِل به أعْطَى ". فهذا داخِلٌ في سؤال الله - - عز وجل - - والتَّوَسُّل إليه بأسمائه الحُسْنَى وصِفاتِه العُلَى.
( 3 ) وقد جاء في حديث آخر(2) أن الرسول ? كان إذا اجْتَهَد في الدُّعاء قال " يا حَيُّ يا قَيُّوم ".
__________
(1) رواه الترمذي ( 3475 )، وأبو داود ( 1493 )، وابن ماجه ( 3857 ).
(2) رواه الترمذي ( 3436 ).(1/281)
( 4 ) وجاء(1) في حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - قال: "... ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطيل السَّفَرَ أشْعَث أغْبَر يَمُدُّ يَدَيْه إلى السَّماء " يَا رَبِّ يا رَبِّ... " إلخ الحَديث.
فيُشْرَع للإنسان أن يَدْعُوَ رَبَّه ويَسأل فيقول: " يا رب يا رب "، أو يقول: " اللهُمَّ يا رحمن ارحمني "، أو " يا غفار اغفر لي "، أو " يا تواب تُبْ عليَّ "، وما شابه ذلك.
أو يقول - فيما يتعلق بصفاته -: " اللهم أسألك برحمتك أن تغفر لي وترحمني "، أو " أسألك بقدرتك أن تزيل عني ما أجده وأشتكي منه "، وما شابه ذلك.
القِسْم الثاني: التَّوَسُّل إلى الرَّب - - عز وجل - - بالأعْمَال الصَّالِحَة:
ومِن الأدِلَّة - والأمْثِلَة - على ذلك:
( 1 ) تَوَسُّل أهل الإيمان بإيمانهم بالله(2). ولا شَكَّ أنَّ الإيمان هو رأسُ الأعْمَال الصَّالِحَة.
( 2 ) تَوَسُّل أصحاب الغار بأعمالِهم الصَّالِحَة(3).
( 3 ) تَوَسُّل يُونُس - - عليه السلام - - بالتَّوحيد؛ كما قال - - عز وجل - - عَنه: ? فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ? [ الأنبياء: 87 ].
القِسْم الثالث: تَوَسُّل العَبْد إلى رَبِّه - - عز وجل - - بِفَقْرِه وحَاجَته إليه، واعترافه بِذَنبه ووقوعه في الخطأ والمعاصي ونَدَمه على ما حَصَل مِنه:
ومِن الأدِلَّة - والأمْثِلَة - على ذلك:
__________
(1) رواه مسلم ( 1015 )، والترمذي ( 2989 ).
(2) كما في قوله - - سبحانه وتعالى - - ? رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ? [ آل عمران: 193 ].
(3) روى قِصَّتهم: البخاري ( 2215 )، ومسلم ( 2743 )، وغيرهم.(1/282)
( 1 ) تَوَسُّل موسى - - عليه السلام - - بقوله ? رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ? [ القصص: 24 ]: فَتَوَسَّل إلى الله - - عز وجل - - بِفَقْرِه وحَاجَته إلى مولاه - - سبحانه وتعالى - -.
( 2 ) تَوَسُّل أيوب - - عليه السلام - - بقوله ? أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? [ الأنبياء: 83 ]: فَتَوَسَّل إلى الله - - عز وجل - - بحاجته وضَعْفه أن يَرْفَع عنه المرض الذي حصل له.
( 3 ) تَوَسُّل يونس - - عليه السلام - -، كما قال - - عز وجل - -: ? فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ? [ الأنبياء: 87 ]: فَتَوَسَّل إلى الله - - عز وجل - - بالتوحيد وباعْتِرافِه بِذَنبِه.
( 4 ) وكما تَوَسَّل الأبوين آدم وحواء - عليهما السَّلام -: ? قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ? [ الأعراف: 23 ].
( 5 ) وأيضًا تَوَسُّل موسى - - عليه السلام - -: ? قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ? [ القصص: 16 ]: فسأل رَبَّه أن يَغْفِر له، وتَوَسَّل إليه - - عز وجل - - بِوقُوعه في المعصية والخطأ وأنه ظَلَمَ نفسه.
والتَّوْبَة تَدْخُل في عموم الأعمال الصَّالِحَة؛ إلا أنَّها خُصَّت بهذا القِسْم لِمَجىء النُّصوص بها.
القِسْم الثاني - مِن أصل تقسيم التَّوَسُّل -: التَّوَسُّل الَممْنُوع:
ويَنقَسِم إلى قِسْمَين:
القِسْم الأول: مَا يُوقِع في الشِّرْك الأكْبَر - والعِياذُ بالله -:(1/283)
وصُورته: أن يسأل الدَّاعي ويلجأ ويَتَوَسَّل إلى المَخْلُوقين - أحياءً أو أمواتًا - فيما لا يَقْدِر عليه إلا الله - - سبحانه وتعالى - -. فهذا شِرْكٌ أكْبَر؛ كما قال - - عز وجل - - ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح!%tوكٹ غَافِلُونَ (5) ? [ الأحقاف: 5 ].
القِسْم الثاني: مَا يُوقِع في البِدْعَة:
وصُورَته: أن يَتَوَسَّل الدَّاعِي إلى رَبِّه - - عز وجل - - بِذاتِ فُلانٍ أو جاهه أو حَقِّه أو نَحوه لِلَّهِ وهذا ليس شِرْكًا أكْبَر - لأنَّه سأل رَبَّه -؛ إلا أنَّه بِدْعَةٌ غير مَشروعَة، لم يأتِ عليها دَليلٌ.
مِثاله: أن يقول الدَّاعِي: اللهُمَّ إني أسألك بِحَقِّ أنبيائك أن تَغْفِرَ لي، وتَرْحَمني، وتَسْتَجِيبَ لي لِلَّهِ أو يقول: اللهُمَّ بِجاهِ أنبيائك ورُسُلِك... لِلَّهِ أو بِجاهِ الصَّحابَة أو بجاه أولياءك... لِلَّهِ
فهذا كُلُّه غير مَشروعٍ(1).
قال: " وَيَتَحَرَّى أوقات الإجابة؛ وهي: ثلث الليل الآخر... ":
اعْلَم أنَّ الدُّعاء مَشروعٌ في كُلِّ وَقْتٍ وحِين، إلا أنَّ بعض الأوقات فُضِّلَت على بَعْضٍ في الُّدعاء، فهي أوْلَى وأحْرَى أن يُسْتَجَاب للعَبْد فيها؛ فينبَغي للعبد أن يَتَحَرَّاها بِدُعائِه.
وعلى رأس هذه الأوقات: ثُلُث الليل الآخِر، وهو وَقْت نُزول الرَّب - - سبحانه وتعالى - -.
__________
(1) وراجِع في مسألة التَّوَسُّل: " التَّوَسُّل والوَسيلة " / لشيخ الإسلام ( ابن تيمية )، و" التَّوَسُّل: أنواعه وأحكامه " / للعلامة ( الألباني ) - رحمهما الله تعالى -.(1/284)
والدَّليل على هذا: ما تَواتَرَت به الأحاديث عن الرسول ? أن الله - - عز وجل - - يَنزِل في ثُلُث الليل الآخِر فيقول: " مَن يَدْعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأُعْطيَه؟ مَن يَسْتَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟ "(1).
وهذا حَديثٌ قُدسيٌّ متواتِر بِلَفظِه، لا أعْرِف سواه في تَواتُرِه بِلَفظِه.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فهذا الوقت مِن أرْجَى الأوقات في إجابة الدُّعَاء.
أمَّا ما رُوي في فَضْل الدُّعاء في جَوف الليل؛ لَمَّا سُئِلَ الرسول ?: أيُّ الدُّعاء أسْمَع؟ فقال: " جوف الليل الآخر، وأدبار الصلاة المكتوبة ": فهذا الحديث بهذا اللفظ لا يَصِحُّ:
فقد رواه الترمذي والنسائي(2)، كلاهما عن محمد بن يحيى الثَّقَفِي عن حَفْص بن غِيَاث عن ابن جُرَيْج عن عبد الرحمن بن سَابِط عن أبي أُمَامَة - - رضي الله عنه - - به.
وقد أعَلَّه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه " نتائج الأفكار "(3) بثلاث عِلَل:
الأولى: أن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي أمامة - - رضي الله عنه - -. كما قال ذلك يحيى بن معين - رحمه الله -.
الثانية: أن فيه ابن جريج - رحمه الله -، وهو مَوصوفٌ بالتَّدليس، وقد عَنْعَنه، ولم يُصَرِّح بالتَّحديث.
__________
(1) رواه البخاري ( 1145، 6321، 7494 )، ومسلم ( 758 )، والترمذي ( 446، 3498 )، وأبو داود ( 1315، 4733 )، وابن ماجه ( 1366 )، ومالك ( 496 )، والإمام أحمد ( 2 / 258 )، وغيرهم.
(2) رواه الترمذي ( 3499 )، والنسائي في " السُّنَن الكُبْرَى ": ( 6 / 32 )، وفي " عَمل اليوم والليلة ": ( ص 186 ).
(3) " نتائج الأفكار ": ( 2 / 232 ).(1/285)
الثالثة: الشُّذوذ؛ فهذا الحديث قد جاء عن خمسة من أصحاب أبي أمامة - - رضي الله عنه - - ( ومنهم: سُلَيْم بن عامر، وضَمْرَة بن حَبِيب، ونُعَيْم بن زِياد وغيرهم ): قد رووا هذا الحديث عن أبي أمامة عن عمرو بن عَبَسَة - رضي الله عنهما - مرفوعًا، بدون زيادة: " وأدبار الصلوات المكتوبة "؛ فهذا اللفظ هو الصحيح بدون الزيادة(1).
قال: " وبين الأذان والإقامة ":
يُسْتَحَبُّ للدَّاعي أن يَتَحَرَّى الدُّعاء بين الأذان والإقامَة؛ ومِن الأدِلَّة على ذلك:
1ـ حَديث سَهْل بن سَعْدٍ السَّاعِدِيّ - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " ساعتانِ يُفْتَح لهما أبوابُ السَّماءِ، وقَلَّ داعٍ تُرَدُّ عَلَيْه دَعْوَتُه: حَضْرَة النِّداءِ للصَّلاةِ، والصَّفُّ في سَبيلِ الله " [ رواه أبو داود(2) ].
إلا أنَّ فيه ضَعْفًا. لكن رواه الإمام مالك في " موطئه "(3)، بإسنادٍ صحيحٍ، عن أبي حازم بن دينار عن سَهْل بن سَعْد السَّاعِدي مَوقوفًا، ومِثله لا يُقال مِن قِبَل الرأي؛ فيكون له حُكْم الرَّفْع.
2ـ حَديث أنس - - رضي الله عنه - - مرفوعًا. رواه ابن خزيمة في " صحيحه "(4).
3ـ حَديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّ رَجُلًا قال: يا رسول الله؛ إنَّ المُؤَذِّنين يَفْضُلونَنا. فقال رسول الله ?: " قُلْ كما يقولون، فإذا انتَهَيْتَ فَسَل تُعْطَه " [ رواه أبو داود(5) ].
قال: " وأدبار الصلاة المكتوبة ":
تَقَدَّم(6) بَيان الدَّليل على هذا، مِن حَديث أبي أمامة الباهلي - - رضي الله عنه - -، إلا أنَّ فيه ضَعْفًا فلا يَصِحُّ، كما بَيَّنَّا.
__________
(1) رواه الترمذي ( 3579 )، والنسائي ( 572 ).
(2) ؟؟؟
(3) برقم ( 155 ).
(4) رواه الترمذي ( 212، 3594 )، وأبو داود ( 521 )، وابن خُزَيمة ( 1 / 222 ).
(5) برقم ( 524 ).
(6) ص؟؟؟.(1/286)
وقد تَقَدَّم(1) معنا - أيضًا - بَعْض الأذكار التي تُقال دُبُر الصَّلوات المكتوبة، فراجعها هُناك.
أمَّا التزام رَفْع اليَدين حالَ الدُّعاء دُبُر الصَّلوات المكتوبَة: فلا يُسَنُّ.
قال: " وآخِر ساعة يومَ الجُمُعَة ":
اعْلَم أنَّ مِن أوقات الإجابة التي دَلَّت عليها السُّنَّة: ساعةً في يوم الجُمُعة؛ كما جاء في " الصحيحين "(2)، عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " في الجُمُعة سَاعة، لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فسأل اللهَ خيرًا إلا أعْطاه... ".
وقد اخْتَلَفَ أهل العلم في هذه الساعة(3)، على أقوالٍ مُتَعَدِّدَة، أوصلها الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في " فتح الباري "(4) إلى أكثر من أربعين قولًا لِلَّهِ
إلا أنَّ أقوى هذه الأقوال قولان:
القول الأول: أنها آخر ساعة مِن يوم الجُمُعَة ( أي: قَبْل مَغيب الشَّمْس ):
جاء(5) هذا عَن بعض ا لصحابة - - رضي الله عنهم - -، وهو اختيار المُصَنِّف - رحمه الله -.
القول الثاني: مِن حين صُعود الإمام المِنْبَر حتى انقضاء الصلاة:
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 5295 )، ومسلم ( 852 ).
(3) راجع في ذلك: " فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 8 / 288 وما بعدها )، و" فتح الباري " / لابن حَجَر: ( 2 / 416 ).
(4) " فتح الباري ": ( 2 / 416 ).
(5) راجع في ذلك: " مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 3 / 265 )، و" الأوْسَط " / لابن المُنذِر: ( 4 / 13 )، و" مُصَنَّف ابن أبي شيبة ": ( 1 / 472 ).(1/287)
ودَليل هذا القول: مَا رواه مُسْلِمٌ في " صحيحه "(1)، مِن حديث مَخْرَمَة بن بُكَيْر عن أبيه عن أبي بُرْدَة بن أبي مُوسَى الأشعري - - رضي الله عنه - - مرفوعًا. وقال الإمام مُسْلِم عَنه(2): " هذا أجود حديثٍ وأصَحه في بَيان ساعة الجُمُعة " اهـ، إلا أنَّ الإمام الدَّارَقطني قد أعَلَّه(3) لِلَّهِ
وقد جاء(4) ما يَشْهَد لهذا الحديث: من حديث كَثير بن عبد الله بن عمرو المُزَني عن أبيه عن جَدِّه. ولكن كَثير بن عبد الله لا يُحْتَجُّ به.
وهذا القول هو الأقْرَب؛ ويُؤَيِّده حديثُ أبي هريرة - - رضي الله عنه - - السابق؛ ففيه: " قائم يُصَلِّي "، وهذا الوقت فيه صلاة الجُمُعَة. بِخلاف مَن قال أنَّها آخر ساعَة مِن يوم الجُمُعَة؛ فإن هذا الوقت ليس فيه صلاة - كما هو مَعلوم -، وقد أُجيب عَن ذلك بأنَّ المُنتَظِر للصَّلاة يكون في صَلاةٍ، كما جاء في الحَديث. ويُجاب عَن هذا بأنَّ المُراد هنا بالصَّلاة: الصَّلاة الحَقيقيَّة، ومُنتَظِر الصَّلاة لا شَكَّ أنَّه في صلاة، لكن ليس كَمَن يُصَلِّي.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فينبغي للمُسْلِم أن يُكْثِر الدُّعاء وَقتَ خُروج الإمام حتى انتهاء الصَّلاة - لأنَّه أرْجَى ساعات يوم الجُمُعَة -، ويَتَحَرَّي الدُّعاء أيضًا في آخِر ساعَةٍ مِن يوم الجُمُعَة؛ لأنَّه يُرْجَى فيه إجابة الدُّعاء.
قال: " وينتظر الإجابة ولا يعجل فيقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي ":
__________
(1) برقم ( 853 )، ورواه أبو داود ( 1049 ).
(2) نقله عنه البيهقي بإسنادِه في " السُّنَن الكبرى ": ( 3 / 250 )، وحكى ذلك النَّوَوي في " شَرْحه لصحيح مسلم ": ( 6 / 141 ).
(3) في " عِلَلِه ": ( 7 / 212 ).
(4) رواه الترمذي ( 490 )، وابن ماجه ( 1138 ).(1/288)
ثَبَتَ في " الصَّحيحَين "(1)، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن رسول الله ? قال: " يُسْتَجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل؛ يقول: دعوتُ فلم يُسْتَجَب لي ". وفي " صَحيح مُسْلِم "(2): " لا يزال يُسْتَجَاب للعَبْد، ما لم يَدْعُ بإثْمٍ أو قَطيعَة رَحِمٍ، ما لم يَسْتَعْجِل "، قيل: يا رَسول الله؛ ما الاسْتِعْجَال؟ قال: " يقول: قد دعوتُ وقد دعوتُ، فلم أرَ يَسْتَجِيبُ لي لِلَّهِ فيَسْتَحْسِر عند ذلك ويَدَعُ الدُّعاء لِلَّهِ ". وروى الإمام أحمد في " مُسْنَدِه "(3)، عَن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " لا يزال العَبْد بِخَيرٍ ما لم يَسْتَعْجِل "، قالوا: يا رسول الله؛ كيف يَسْتَعْجِل؟ قال: " يقول: دَعَوتُ رَبِّي فلم يَسْتَجِبْ لي ".
فيَنبَغي للدَّاعي أن يُلِحَّ على رَبِّه في الدُّعاء، ويُكْثِر مِنه، ولا يسأم مِن الاستمرار فيه؛ فإنَّ مِن أسباب عَدَم إجابَة الدُّعاء: قَطْعه والاستعجال في إجابَته. فَتَجِد الدَّاعي يدعو فترة، ثم يقطع الدُّعاء ولا يَصْبِر. وهذا خطأٌ لِلَّهِ
وكان السَّلَفُ الصَّالِح - - رضي الله عنهم - - لا يَحْمِلون هَمَّ الإجابة - لأنَّها مُتَحَقِّقَةٌ بإذْنِ الله -؛ وإنَّما يَحْمِلون هَمَّ الدُّعاء والاستمرار فيه.
وإكثار العَبْد مِن دُعاءِ رَبِّه - - عز وجل - - دَليلٌ على تَعَلُّقه بربه، وقُوَّة يقينه وتَوحيده لِخالِقه - - سبحانه وتعالى - -؛ ففَتح الله للَعبْد بالإكثار مِن الدُّعاء مِن نِعَم الله - - عز وجل - - عَلَيه، وتوفيقه له.
قال: " ولا يُكْرَه أن يَخُصَّ نفسه، إلا في دعاء يُؤَمَّن عَلَيْه ":
لا يَخْلو الدَّاعي - حالَ دُعائِه - إمَّا أن:
__________
(1) رواه البخاري ( 6340 )، ومسلم ( 2735 ).
(2) برقم ( 2735 ).
(3) " مُسْنَد الإمام أحمد ": ( 3 /193، 210 ).(1/289)
1ـ يَدْعُو لِنَفسِه مُنفَرِدًا: فيُشْرَع له في هذه الحالة أن يَخُصَّ نَفسه بالدُّعاء، وقد دَلَّت نُصوص القرآن والسُّنَّة على ذلك.
2ـ أن يكون إمامًا ويُؤَمِّن النَّاس على دُعائِه: فهل يَجوز له في هذه الحالة أن يَخُصَّ نفسه بالدُّعاء الذي يُؤَمِّن عليه غيره؟ في المسألة خِلافٌ:
فَذَهَب بَعْضُ أهل العِلم - ومِنهم المُصَنِّف - إلى الكَراهَة؛ واستْدَلُّوا على ذلك: بما رواه أبو داود(1)، مِن حَديث ثوبان - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " ثلاث لا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يَفْعَلَهُنَّ: لا يَؤُمُّ رَجُلٌ قومًا فَيَخُصُّ نَفْسَه بالدُّعاء دونَهم؛ فإنْ فَعَلَ فقد خانَهم... " = يعني: خان المأمومِين.
ويُجاب عَن ذلك: بأنَّ هذا الحَديث ضَعيفٌ لا يَصِحُّ؛ بل نقل ابن القيم في " كِتابه " زاد المَعاد "(2) عَن ابن خُزَيمة أنَّه حَكَم عليه بالوَضْع لِلَّهِ وَضَعَّفه أيضًا ابن عبد البر في " التَّمهيد "(3). رَحِمَ اللهُ الجَميع.
إذا ثَبَت ضَعْفُ الحَديث؛ فلا بأس للإمام أن يَخُصَّ نفسه بالدُّعاء الذي يُؤَمِّنُ عليه غيرُه مِن المأمومِين؛ فيُشْرَع له أن يقول - مثلًا -: " اللهُمَّ وَفِّقْنِي وسَدِّدْنِي "، ويُؤَمِّن مَن خَلفَه على ذلك؛ فليس هُناك ما يَدُلُّ على المَنع.
وإنْ كان الأوْلَى به أن يَدْعو دُعاءً عامًّا لِنفسه وللمأمومين؛ كأن يقول - مثلًا -: " اللهُمَّ اغفِر لنا، اللهُمَّ ارْحَمنا، اللهُمَّ وَفِّقْنا، اللهُمَّ سَدِّدْنَا... " إلخ.
قال: " ويُكْرَه رَفْع الصَّوت ":
يعني: " رَفْع الصَّوت بالدُّعاء "؛ لأنَّه قال - قبلها - " ولا يُكْرَه أن يَخُصَّ نَفْسه، إلا في دُعاءٍ يُؤَمَّن عَلَيْه ".
فيُكْرَه للدَّاعي أن يَرْفَع صَوته بالدُّعاء.
__________
(1) برقم ( 90 )، ورواه الترمذي ( 357 )، وابن ماجه ( 923 ).
(2) " زاد المعاد ": ( 1 / 264 )، وانظر " صَحيح ابن خُزَيمة ": ( 3 / 63 ).
(3) " التمهيد ": (؟؟؟ ).(1/290)
ومِن الأدِلَّة على هذه المسألة:
( 1 ) قول الله - - عز وجل - - ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ? [ الأعراف: 55 ]: وهُنا يأمُرُنا رَبُّنا - - عز وجل - - إذا دعوناه أن نَدْعُوه ? تَضَرُّعًا ?: أي نُلِحُّ عليه بالدعاء، وألا نَرْفَع أصواتنا به ? وَخُفْيَةً ?. ثُمَّ بَيَّن - - عز وجل - - أنه ? لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ?: يعني: في الدُّعاء. ومِن الاعْتداء في الدُّعَاء رَفْع الصوت؛ وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية - فيما رواه ابن جريج عن عطاء الخراساني عنه - أنَّه قال: " أي سِرًّا ".
( 2 ) وثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، مِن حديث أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري - - رضي الله عنه - - قال: كُنَّا مع رسول الله ? ( يعني: في غَزْوَةٍ أو سَفَرٍ )؛ فَكُنَّا إذا أشْرَفْنَا على وادٍ هَلَّلنا وكَبَّرْنا ارْتَفَعَت أصواتنا. فقال النبيُّ ?: " يا أيها الناس؛ ارْبَعُوا على أنفُسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعُون أصَمَّ ولا غَائبًا؛ إنَّه مَعَكم؛ إنَّه سَميع قريب، تَبارَك اسْمُه، وتعالى جَدُّه": فنهاهم الرسول ? عَن رَفْع أصواتهم، وبَيَّن أن الله - - عز وجل - - يَسْمَع دُعاءَ عَبْدِه، وأنَّه - - سبحانه وتعالى - - لا يَخْفَى عليه شىءٌ.
( 3 ) ومِن الأدِلَّة - أيضًا -: ما رواه الإمام مالك وغيره(2)، أن الرسول ? خَرَجَ على النَّاس، وهُم يُصَلُّون، وقد عَلَت أصواتُهم بالقِراءَة؛ - فنهاهُم عَن ذلك - فقال: " إنَّ المُصَلِّي يُناجِي رَبَّه؛ فَلْيَنظُر بما يُناجِيه به، ولا يَجْهَر بَعْضُكم على بَعْضٍ بالقُرآن ".
والحِكْمَة مِن عَدَم رَفْع الدَّاعي صَوته في الدُّعاء ظاهِرَةٌ؛ مِنها:
__________
(1) رواه البخاري ( 2992، 4205، 6384 )، ومسلم ( 2704 ).
(2) رواه الإمام مالك في " الموطأ ": (178 )، وأحمد ( 2 / 67 ).(1/291)
أولًا: أن إخفاء الدُّعاء أقْرَب إلى إخلاص العَمَل لله - - عز وجل - -، وأبْعَد عَن الرِّياء؛ فلا يَطَّلِع عليه أحَدٌ؛ لأنَّه يكون بين العَبد ورَبِّه - - سبحانه وتعالى - -، هذا فضلًا عَن أنَّه أقرب إلى الخُشوع والخُضوع.
ثانيًا: في رَفْع الصوت تَشويشٌ على الآخَرين؛ فمِن النَّاس مَن يُصَلِّي، ومِنهم مَن يقرأ، ومِنهم مَن يَدْعو. فَرَفْع الصَّوت فيه تَشويشٌ عليهم، وهذا مُلاحَظٌ: فَتَجِد بعض النَّاس يَرْفَع صوته في دُعاء السُّجود فلا يكاد مَن بجوارِه يَسْتَحْضِر أذْكار السُّجود لِلَّهِ وهذا خطأٌ.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فالأصل أن الدَّاعي لا يَرْفَع صوته بالدُّعاء إلا في المواطِن التي شُرِعَ له فيها الجَهْر؛ ومِنها: المواطِن التي يُؤمِّن فيها على دُعائِه المأمومُون؛ كقُنوت الوِتر، ودُعاء النَّازِلة، والاستِسْقاء، والدُّعاء في الخُطْبَة. فالسُّنَّة - هُنا - رَفْع الصَّوت لإسماع المأمومِين؛ للتأمين على دُعائِه.
q q q q q
قال: " ويُكْرَه في الصلاة التفاتٌ يَسير ":
اعْلَم أنَّ الالتفات في الصَّلاة لا يَخْلو مِن ضَرْبَين:(1/292)
الضَّرْب الأول: أن يَلْتَفِت المُصَلِّي يَمنة ويَسْرَة، مُسْتَقبِلًا بِجسْمِه القِبْلَة، لا يَنْحَرِف عَنها: فهذا لا تَبْطُل الصَّلاة بِفِعْلِه. وهل هو مَكروهٌ تَنزيهًا أم حرامٌ؟ ذَهَب بَعْضُ أهْل العِلْم إلى الأوَّل وأنَّه لا يَحْرم؛ وإنَّما يُكْره كراهةً تَنزيهيَّة. والأقْرَب الثَّاني وأنَّ الكراهَة - هُنا - للتَّحريم لا للتَّنزيه؛ لِمَا رواه البخاريُّ في " صَحيحه "(1)، مِن حَديث أشعث بن أبي الشَّعْثاء عَن أبيه عَن مَسْرُوق عَن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسول الله ? عن الالتفات في الصلاة؟ فقال ?: " هو اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُه الشيطان مِن صَلاة العَبْد "؛ فَبَيَّن ? أن هذا مِن عَمَل الشَّيْطان، وعَمَل الشَّيطان مُحَرَّمٌ على العَبْد فِعْله؛ فلا يجوز.
و" الاخْتِلاس ": هو أخذ الشىء بِسُرْعَة. فالشيطان يُحَاوِل أن يَخْتَلِس من صلاة الإنسان، ويُبْطِلها، ويَحول بينه وبين الخُشوع في صلاتِه بالوَسْوَسة له.
فَالتِفاتُ المُصَلِّي في صَلاتِه مِن جُملَة كَيد الشيطان له، وقد نَهانا رَبُّنا - - عز وجل - - عن اتِّباع خُطوات الشيطان.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فيُكْرَه للمُصَلِّي أن يَلْتَفِت في صَلاتِه، ولو يَسيرًا، فكيف إذا كان كثيرًا؟!
الضَّرْب الثاني: أن يَلْتَفِت المُصَلِّي بِجِسْمِه التفاتًا كامِلًا؛ فيَنْحَرِف عَن جِهَة القِبْلَة: فهذا تَبْطُل الصَّلاة بِمُجَرَّد فِعْلِه؛ لأنَّ استقبال القِبْلَة شَرْطٌ مِن شُروط صِحَّة الصَّلاة، لا تَصِحُّ الصَّلاة بدونِه.
ونَعود للكَلام على الضَّرْب الأول مِن الالتِفات: فاعْلَم أنَّ الأصل في هذا النَّوع مِن الالتِفات: عَدَمُ الجَواز، إلا إذ دَعَت الحاجَة والضَّرورة إلَيه = فيجوز:
__________
(1) بِرَقَمي ( 751، 3291 )، ورواه الترمذي ( 590 )، وأبو داود ( 910 )، والنسائي ( 1196 ).(1/293)
والدَّليل على جَوازه وقتَ الحاجَة: ما رواه أبو داود(1)، من حديث سَهْل بن الحَنْظَليَّة - - رضي الله عنه - - قال: " ثُوِّب بالصَّلاة - يعني صلاة الصُّبْح -، فَجَعلَ رسول الله ? يُصَلِّي وهو يَلْتَفِت إلى الشِّعْب ". قال أبو داود: " وكان أرْسَل فارِسًا إلى الشِّعْب مِن اللَّيل يَحْرُس " اهـ. والحَديث صَحيحٌ.
فالرَّسول ? أرْسَل رَجُلًا يحرسهم، وأمَرَه أن يقوم في أعلى الوادي، فَحَضَرَت صلاة الفَجْر وأُقيمَت الصَّلاة ولم يأتِ هذا الرَّجُل، فكان ? يَلْتَفِت إلى الجِهَة التي أرْسَل إليها هذا الرَّجُل؛ ليَعْلَم: هل جاءَ أم لم يأتِ بَعْد؛ لأن الرسول ? انْشَغَل قَلْبُه - فيما يَظْهَر - لِتأخُّر الرَّجُل.
قال: " ورَفْع بَصَره إلى السَّمَاء ":
اعْلَم أنَّ مِن جُملَة المَنهيَّات في الصَّلاة: رَفْع المُصَلِّي بَصَره إلى السَّماء أثناء صلاتِه، سواءً كان يَدْعو أو يقرأ أو يَذْكُر رَبَّه؛ لإطلاق النَّهي عَن ذلك دون تَفريقٍ بين دُعاءٍ وغيره.
والدَّليل على ذلك: ما رواه البخاري في " صحيحه "(2)، عن أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - قال: قال رسول الله ?: " ما بَالُ أقوامٍ يَرْفَعُون أبْصَارَهم إلى السَّمَاء في صلاتهم؟! "، فاشْتَدَّ قوله في ذلك حتى قال: " لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أوْ لَتُخْطَفَنَّ أبْصَارُهم ". فَبَيَّن النبيُّ ? أنهم إذا لم ينتهوا عن هذا الفعل فإنَّ أبْصَارَهم قد تُخْطَف. وهذا فيه وَعيدٌ على فاعِل هذا؛ فلنَنتَهِ عَن هذا الفِعْل.
قال: " وصلاته إلى صُورَة مَنصوبَة ":
يُكْرَه للمُصَلِّي أن يُصَلِّي إلى صُورَةٍ مَنصوبَةٍ أمامَه. والحَكْمَة مِن الكراهَة: أنَّ في هذا تَشَبُّهًا بالوَثَنيين عَبَدةِ الصُّوَرِ والأصْنَام.
__________
(1) برقم ( 916 ).
(2) برقم ( 750 )، ورواه أبو داود ( 913 )، والنسائي ( 1193 )، وابن ماجه ( 1044 ). ورواه مسلم ( 428 ) مِن حَديث جابر بن سَمُرَة - - رضي الله عنه - -.(1/294)
وقد جاءَ النَّهيُّ عَن تَشَبُّه المُسْلِم بالكُفَّار والمُشْرِكين في غيرما حَديث؛ مِن ذلك: ما رواه أبو داود في " سُنَنِه "(1)، من حديث أبي المُنِيب الجُرَشِيّ عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن الرسول ? قال: " مَن تَشَبَّه بِقَومٍ فَهُو مِنهُم ".
فَيَحْرُم على المُسْلِم أن يَتَشَبَّه بالكُفَّار والمُشْرِكين(2) - عمومًا -، وأهْل الكِتاب - على الأخَصّ -؛ لِقول الله - - عز وجل - - في مُحْكَم تَنزيله ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) ? [ المائدة: 51 ]. فَبيَّن رَبُّنا - - عز وجل - - أنَّ مَن تَوَلَّى اليهود والنصارى فَهُو مِنْهُم، ومِن جُمَلَة التَّولي أن يَتَشَبَّه بهم.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فيُمكِنُنا تقسيم تَشَبُّه المُسْلِم بالكُفَّار - مِن حَيثُ مآل هذا التَّشَبُّه - إلى قِسْمَين:
القِسْم الأوَّل: تَشَبُّه يُؤَدِّي إلى الكُفْر - عياذًا بالله -: ومِثاله: تَشَبُّه المُسْلِم بالكُفَّار في عِباداتِهم.
القِسْم الثاني: تَشَبُّه يُوقِعُ المُتَشَبِّه في كبائر الذُّنُوب، ولا يُوصِله إلى الكُفْر:
ومِثاله: أن يَتَشَبَّه بهم فيما لا عَلاقَة له بالدِّين؛ كعَاداتهم، وزِيِّهم المُخْتَصّ بهم.
__________
(1) برقم ( 4031 )، ورواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 2 / 199 ).
(2) وصَنَّف في ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - سِفره النَّفيس " اقتضاء الصِّراط المُسْتقيم لمُخالَفَة أصحاب الجَحيم "، وهو مَطبوع في مُجَلَّدين بتحقيق د. ناصر بن عبد الكريم العقل - أثابه الله -، طـ دار العاصمة والرُّشْد بالرياض.(1/295)
وقد جاء(1) عَن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنَّه لَبِس ثِيابًا مِن ثِياب الكُفَّار؛ فنهاه الرسول ? عَن هذا الفعل؛ وقال له: أأُمُّك أمَرَتْكَ بهذا؟ فقال عبد الله: أغْسِلُهما؟ قل: بل أحْرِقْهُما.
[ اسْتِطراد فيما نُهي عَن التَّشَبُّه به ]:
ومِن نافِلَة القَول يُمكِنُنا تَقسيم ما نهى الشَّرْع عَن التَّشَبُّه به إلى ما يلي:
1ـ التَّشَبُّه بالكُفَّار - كما تَقَدَّم -.
2ـ التَّشَبُّه بالشَّيْطَان(2):
قال الله - - سبحانه وتعالى - - ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ? [ النور: 21 ].
ومِن الأُمور الخَطيرة جِدًّا التي ابُتلِي بعض النَّاس بها: أنَّهم يقومون بِتَمثيل الشَّيْطان - والعياذُ بالله - لِلَّهِ فيظهرون للنَّاس على أنَّهم شياطين، فيما يُسَمَّونَه - بِزَعْمِهم - تَمثيليات هَادِفَة لِلَّهِ وكيف يَرْضَى الإنسانُ لِنَفْسِه أن يُمَثِّل الشَّيْطَان، وإنْ كان هذا على سَبيل التَّمثيل؟!
3ـ التَّمثيل:
مِمَّا عَمَّ خَطَرُه في هذه الآوِنَةِ: أنَّ بعض النَّاس مِمَّن يَنتَسِبون إلى الخَيْر يقومون بعمل تَمثيليات - يُسَمُّونها تَمثيليات هَادِفَة -، يَقْصِدون توجيه الناس وإرشادهم - زَعَمُوا - مِن خِلال هذه التَّمثيليات لِلَّهِ فما الحُكْم في هذا التَّمثيل؟
اعْلَم أنَّ هذا العَمل ( التَّمثيل ) - وهو مُحاكاة عَمل الآخَرين - حَرامٌ لا يَجُوز؛ لأنَّه مِن أفْعَال الكُفَّار، لا مِن أفْعال المُسْلِمين.
__________
(1) رواه مسلم ( 2077 )، والنسائي ( 5317 ).
(2) راجع في ذلك: " اقتضاء الصَّراط المُسْتقيم " / لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( 1 / 407، طـ دار العَاصِمَة بالرِّياض ).(1/296)
وقد رَوَى الإمام أحمد في " مُسْنَدِه "(1)، مِن حَديث عاصم عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " أشَدُّ الناس عذابًا يوم القيامة: رَجُلٌ قَتَلَه نَبِيٌّ أو قَتَلَ نَبيًّا، وإمامُ ضَلالَةٍ، ومُمَثِّل من المُمَثِّلين ". ومِن مَعاني التمثيل: أن يُحَاكِي الإنسان عَمل الآخرين، وهذا مأخوذٌ مِن الكُفَّار.
وقد نَهَى الشَّارِعُ عَن الكَذِب، والتَّمثيلُ مِن الكَذِب، ولا يَدْخُل التَّمثيل فيما رَخَّصَ الشَّارِعُ فيه مِن الكَذِب. فالشَّارِعُ لم يُرَخِّص الكَذِّب إلا في ثلاثة أشياء(2):
الأول: أن يَكْذِب الرَّجُل على زَوجة، والمرأة على زَوجها؛ مِن أجْل اسْتِمرار العَلاقَة الزَّوجية بَيْنَهما.
ومِثال ذلك: أن تَطْلُب الزَّوْجَة مِن زَوجها أن يأتي لها بحاجَةٍ لا يَوَدُّ هو في نَفسه أن يأتيها بها: فيجوز له أن يَعِدَها بذلك - كاذِبًا -؛ لكي تَسْتَمِر العَلاقَة بينهما.
الثاني: في الإصْلاح بين المُتَخَاصِمَيْن(3).
الثالث: في الحَرْب. وقد قال النبيُّ ?: " الحَرْب خَدْعَة "(4).
__________
(1) " مُسْنَد الإمام أحمد ": ( 1 /407 ).
(2) وفي ذلك حَديثٍ: رواه الترمذي ( 1939 ). ورواه مسلم ( 2605 ) مُدْرَجًا مِن قول الزُّهْرِي - رحمه الله -.
(3) وفيه حَديث رواه: البخاري ( 2692 )، ومسلم ( 2605 ).
(4) رواه البخاري ( 3030 )، ومسلم ( 1739 ).(1/297)
وليس للتَّمثيلِ أصلٌ مِن الشَّرْع؛ إنَّما أتى الشَّرْع بِضَرْب الأمثال، لا بالتَّمثيل. ومِن جُملَة الأمثال: ما يكون بالكتابة؛ كما فَعَلَ الرسول ? عندما خَطَّ خطًّا مستقيمًا، وخَطَّ خَطَّين عن يمينه، وخَطَّ خَطَّين عَن يَساره، ثُمَّ وَضَعَ يَدَه في الخَطِّ الأوْسَط؛ فقال: " هذا سَبيل الله - - عز وجل - - "، وقال عن الخُطوط الأخرى: " هذه سَبيل الشَّيْطان، على كُلِّ سَبيلٍ مِنها شَيطان يَدْعُو إلَيْه "، ثُمَّ تَلا هذه الآية: ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ? [ الأنعام: 153 ] " [ رواه الإمام أحمد وغيره(1) ].
4ـ التَّشَبُّه بالحَيَوان:
نَهى الشَّارِعُ المُكَلَّف عَن التَّشَبُّه بالحَيوان؛ لأنه تَنَزُّل إلى شىءٍ هو دونَه. والله - - عز وجل - - قد كَرَّمَ بَني آدَم، وهذا التَّشَبُّه يُنافي تَكرِيمَه لِعِبَادِه.
ومِن ذلك: ما رواه البخاري في " صَحيحه "(2)، من حديث أنس - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " لا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعَيْه انبِساط ( وفي رواية: كما يَبْسُط ) الكَلْب ".
وكيف يَتَشَبَّه الإنسان بالحَيوان وهو أرْفَع منه قَدْرًا؟! ولذا ذَمَّ رَبُّنا - - عز وجل - - بَعْض الناس فَشَبَّهَهم بالحيوانات؛ لأنَّهم حَمَلُوا بَعْض صِفاتِ تِلك الحَيوانات؛ ومِن ذلك:
1ـ شَبَّه - - سبحانه وتعالى - - قَومًا بالحمير؛ فقال ? كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ? [ الجمعة: 5 ].
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 1 / 435، 465، 3 / 397 )، وابن ماجه ( 11 ).
(2) بِرَقَمَي ( 822، 532 )، ورواه - أيضًا - مسلم ( 493 ). وسبق تخريجه بأوْسَع مِن هُنا: ص؟؟؟.(1/298)
2ـ وشَبَّه غَيْرَهم بالكَلْب؛ فقال ? فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ? [ الأعراف: 176 ].
5ـ تَشَبُّه الرَّجُل بالمرأة، والمرأة بالرَّجُل:
لا يجوز للرَّجُل أن يَتَشَبَّه بالمرأة، ولا للمرأة أن تَتَشَبَّه بالرَّجُل؛ لِنَهى الشَّرْع عَن ذلك؛ فقد ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(1)، من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: " لَعَن رسول الله ? المُتَشَبِّهين مِن الرِّجال بالنساء، والمُتَشَبِّهات مِن النِّساء بالرِّجال ".
والتَّشَبُّه المَنهيُّ عَنه: هو تَشَبُّه إحدى النَّوْعَين بما اخْتَصَّ به النَّوع الآخَر وتَمَيَّز به عَنه؛ فلا يَجوز للرَّجُل - مثلًا - أن يُقَلِّد صَوت المرأة، والعَكْس بالعَكْس.
6ـ تَشَبُّه أهل الإيمان بِمَن بَعُد عَن العِلْم والإيمان مِن المُسْلِمين(2):
فقد ثَبَتَ في " الصَّحيح "(3) أنَّ الرسول ? قال: " لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم؛ ألا إنها العِشاء، وهم يُعْتِمون بالإبِل ".
قال: " أو إلى وجه آدمي " (4):
يُريد المؤلِّفُ - هُنا - أنَّه يُكْرَه للمُصَلِّي أن يُصَلِّي مُسْتَقْبِلًا لآدَميٍّ. والحِكْمَة مِن هذا النَّهي: أنَّه بِفِعْلِه هذا كأنَّه يَعْبُد مَن يُصَلِّي إلَيه لِلَّهِ وأيضًا يَحول بَينَه وبين الخُشوع في صَلاتِه؛ لانشغالِه به.
__________
(1) برقم ( 5885 )، ورواه الترمذي ( 2784 )، وأبو داود ( 4097 )، وابن ماجه ( 1904 ).
(2) راجع في ذلك: " اقتضاء الصَّراط المُسْتقيم " / لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( 1 / 407، طـ دار العَاصِمَة بالرِّياض ).
(3) رواه بهذا اللفظ: مسلم ( 644 )، وأبو داود ( 4984 )، والنسائي ( 541 )، وابن ماجه ( 704 ).
(4) في بعض النسخ: " إلى آدمي ".(1/299)
وهذا الحُكْم خاصٌّ باستقبال وَجْه الآدَمي؛ أمَّا إن استقبل دُبُرَه أو ظَهْرَه: فلا بأس بالصَّلاة إلَيه؛ لِمَا ثَبَتَ(1) أنَّ الرسول ? كان يُصَلِّي وعائشة - رضي الله عنها - مُعْتَرِضَة بَيْنَ يَدَيْه، حتى إذا أراد أن يسجد غَمَزَها ? فَتَقْبِض رِجْلَها.
أمَّا ما رواه أبو داود في " سُنَنِه "(2)، مِن حديث يعقوب بن إسحاق: عَمَّن حدثه عن محمد بن كَعْب عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - أن الرسول ? قال: " لا تُصَلُّوا خَلْف النَّائِم ولا المُتَحَدِّث " = أي: النائمين: فهذا الحَديث باطِلٌ لا يَصِحُّ؛ وكِبَارُ الحُفَّاظ على تضعيفه، خِلافًا لِمَن قواه مِن مُتأخِّري أهْل العِلْم. ومِمَّا يَدُلُّ على تَضعيفه حَديث عائشة - رضي الله عنها - المُتَقَدِّم.
قال: " واستقبال نار ":
ذَكَرَ المُصَنِّف - رحمه الله تعالى - مِن جُملَة ما يُنْهَى عَن استقبالِه في الصَّلاة: النَّار؛ لئلا يَتَشَبَّه بالمَجوس، عَبَدَةِ النَّار ومُعَظِّميها.
وقد جاء(3) عن ابن سيرين - رحمه الله - أنَّه كَرِه الصَّلاة إلى التنور؛ لأنَّه هو المَحل الذي يُسْجَر الحطب فيه ويُصْبِح نارًا؛ فكأنَّ استقبالَه بالصَّلاة استقبالٌ للنَّار؛ فَكَرِهه.
__________
(1) رواه البخاري ( 513، 519 )، ومسلم - بمعناه - ( 744 )، وأبو داود ( 712 )، والنسائي ( 167 ).
(2) برقم ( 694 )، ورواه ابن ماجه ( 959 ).
(3) رواه ابن أبي شَيْبَة في " المُصَنَّف ": ( 2 / 154 ).(1/300)
وخالَفَ في ذلك بَعْضُ أهْل العِلْم؛ فرأوْا أنَّه لا بأس بالصَّلاة إلى النَّار ما دام غير قاصِدٍ لها؛ واستْدَلُّوا على ذلك بِحَديث صلاة النبي ? الكُسُوف، وعَرض الجَنَّة والنَّار عَليه، ورجوعه القهقرَى(1). وقد بَوَّب البُخارِيُّ في " صحيحه "(2) عَليه بقوله: " باب: مَن صَلَّى وقُدَّامَه تَنُّور أو نارٌ أ وشىءٌ مِمَّا يُعْبَد فأرادَ به اللهَ ".
إلا أنَّ الاستدلال بهذا الحَديث على تِلك المسألة ليس بِظَاهِرٍ؛ لأنَّ هذا أمرٌ عَرَضَ للرسول ? في صَلاتِه: فعُرِضَت عليه الجنة ورأى بعض النعيم الموجود فيها، وعُرِضَت عليه النار ورأى بَعْضَ مَن يُعَذَّب فيها = فليس في الحَديث الصَّلاة إلى النار؛ وإنَّما هو شىءٌ عارِضٌ. والله أعْلَم.
إذا تَقَرَّرَ هذا؛ يبقى الأمر على ما قاله المُصَنِّف - رحمه الله -، والله أعْلَم.
قال: " ولو سِرَاجًا ":
كَرِه المُصَنِّف - رحمه الله - أيضًا الصَّلاة ولو إلى سِراج. إلا أنَّ السِّراج - بلا شَكٍّ - ليس مثل النار.
وأدْخَل بعضُ أهل العِلم مِن المُعاصِرين في ذلك: كراهة الصَّلاة إلى اللَّمبَة لِلَّهِ وعَلَّل ذلك بأنَّ هذا النُّور الصَّادِر مِنها، هو في الأصل تيار كهربائي - وهو نار -؛ فَكَرِه الصَّلاة إلى المَصابيح لِذَلِك. لكن الأقرب - والله أعلم - أنَّ النُّور الكَهْرَبَائي ليس مِثل النار = فلا يَدْخُل في الكَراهَة.
قال: " وافْتِراشُ ذِرَاعَيْه في السُّجُود ":
نَهى الرسول ? عَن افْتِراش الذِّرَاعَيْن حالَ السُّجود؛ وذلك فيما رواه(3) أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " لا يَبْسط أحدكم ذراعيه في الصلاة كبسط السبع "، وفي رواية: " كبسط الكلب ".
__________
(1) رواه البخاري ( 745 ).؟؟؟
(2) " صَحيح البخاري ": ( 1 / 528 - " فَتح " ).
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/301)
والمُراد بـ " الافتراش ": وَضْع السَّاجِد ذِرَاعَيْه على الأرْض، وهذه جِلْسَة بعض الحيوانات التي تَجْلِس هكذا - كالسِّباع والكِلاب -؛ فيكون مُتَشَبِّهًا بها. وهذا هو المُراد بقوله ?: " لا يَبْسُط أحدكم... ".
والحِكْمَة مِن هذا النَّهي ظاهِرَةٌ؛ لئلا يَتَشَبَّه المُسْلِم بالحيوانات - وهي دونَه في القَدْر والمَنزِلَة -؛ فالله - - عز وجل - - كَرَّمَ بني آدم، وهذا التَّشَبُّه يُنافي تكريم الله لعباده.
إذا عَلمنا هذا؛ فهذا النَّهي للتَّحريم؛ وهذا هو الأصل فيه، ولم يأتِ ما يَصْرِفه إلى كراهَة التَّنزيه؛ فيبقَى على الأصل. ويُؤَيَّده:
1ـ عُموم النُّصوص التي تَنهى عَن التَّشَبُّه بالحيوان.
2ـ ما رواه مُسْلِمٌ(1)، مِن حديث البراء بن عازب - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? أمَرَ بِرَفْع الذِّرَاعَيْن في الصَّلاة؛ فقال: " إذا سَجَدتَ فَضَع كَفَّيك، وارْفَع مِرْفَقَيْك ". لأنَّ الأمر - هُنا - للوُجوب = فيكون النَّهي للتَّحْرِيم.
فيَنبَغي للمُصَلِّي أن يَنتَبِه لهذا الأمر، وألَّا يَغْفَل عَن هذا النَّهي وغيره - كحال بعض المُصَلِّين الذين يَضَعون ذِراعَيهم على الأرض حال السُّجود -.
قال: " ولا يَدْخُل فيها وهو حَاقِنٌ أو حَاقِبٌ ":
يَنبَغي للمُصَلِّي أن يَدْخُل في صَلاتِه بِخُشوعٍ تامٍّ؛ فلا يَدْخُلها وهو جائِعٌ، أو وهو يُدافِع أحد الأخْبَثَين أو كِلاهما: البول والغائِط.
والدَّليل على هذا: ما ثَبَتَ في " صحيح مسلم "(2)، مِن حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنَّ الرسول ? قال: " لا صلاة بِحَضْرَة الطَّعام، ولا وهو يُدافِعه الأخْبَثَان ".
__________
(1) برقم ( 494 ).
(2) برقم ( 560 )، ورواه أبو داود ( 89 ).(1/302)
والحِكْمَة مِن هذا النَّهي ظاهِرةٌ؛ لأنَّ مُدافَعَة الأخْبَثَين في الصَّلاة، أو الصَّلاة بِحَضْرَة الطَّعام، تُذْهِب الخُشوع والطمأنينة في الصَّلاة، والخُشوع في الصَّلاة مَطلوبٌ، ندَبَ إليه الشَّارِعُ؛ فقد وَصَفَ الله - - عز وجل - - المؤمِنين بقوله ? الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ? [ المؤمنون: 2 ].
ومِن فوائد الحَديث:
أنَّه يَنبَغِي على المُصَلِّي أن يأتي إلى الصَّلاة وقَلْبه مُتَعَلِّقٌ بها، وينبغي عليه ألا يَدْخُلَ في صَلاتِه إلا وقد فَرَّغ ذِهْنه مِن كُلِّ ما يحول بَيْنَه وبين الخُشوع فيها؛ فلا يَتَعَلَّق قَلْبُه بغيرها.
وقد سَبَق لنا(1) أن قَسَّمنا الطمأنينة في الصَّلاة إلى قِسْمَين:
القِسْم الأوَّل: طمأنينة الأعضاء في الصلاة - كأعضاء الرُّكوع والسُّجود وغيرهما -: فهذه رُكْنٌ مِن أركان الصَّلاة لا تَصِحُّ الصَّلاة إلا بها؛ فبدونها تَبْطُل الصَّلاة.
القِسْم الثاني: طمأنينة القلب. ومعناه: الخُشُوع الذي يكون في الصَّلاة.
فهذا أمر مَندوبٌ مَطلوبٌ في الصَّلاة، وهو مِن إقامَة الصَّلاة التي أمر الله بها. إلا أنَّ هذه الطمأنينة لو لم يأتِ بها المُصَلِّي صَحَّت صلاتُه وأجْزأته، ولكن يَنْقُص أجْرها؛ كما جاء في الحَديث الصَّحيح(2): " إن العبد ليُصَلِّي الصلاة ما يُكْتَب له مِنها إلا عُشْرها، تُسْعها، ثُمُنها، سُبُعها، سُدُسُها، خُمسُها، رُبُعها، ثُلُثها، نِصفها ".
وبناءً على هذين التَّقسيمَين: يُمكِننا مَعْرِفة حُكم الصَّلاة وهو يُدافِع الأخْبَثَين: فإنْ كانت مُدافعته للأخْبَثَين تُخِلُّ بطمأنينة أعضائه: فلا تَصِحُّ صلاته. وإن أخَلَّت بطمأنينة قَلبه دون أعضائه: أجزأته صلاتُه، إلا أنَّه ينقُص مِن أجره بِقَدْرِ ذلك.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/303)
ولا شَكَّ أنَّ قضية الخُشوع في الصَّلاة مِن القضايا الهامَّة، التي كثيرًا ما نَغفل عَنها؛ فنَجِد أنَّ الغالِبَ على المُصَلِّين عَدَمُ الخُشوع في الصَّلاة بِقَلْبِه، بل وكَثرة الحَرَكة فيها بِجَوارِحِه بدون سَبَبٍ داعٍ لذلك لِلَّهِ
ومِن تَلبيس إبليس على عِباد الله أنَّك تَجِد بعض النَّاس - مثلًا - إذا نَسيَ شيئًا، وأراد أن يَتَذَكَّره = دَخَلَ في الصَّلاة؛ فَيَتَذَكَّرَه على الفَوْر لِلَّهِ وهذا دَليلٌ على تَعَلُّق قَلْبَه بغير الصَّلاة؛ فالشَّيطان - والعياذُ بالله - يُذَكِّره بما نَسيَ؛ لِصَرْفِه عَن صَلاتِه لِلَّهِ
ولذا يُحْكَى(1) - إنْ صَحَّت القِصَّة - عَن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أنَّه جاءَه شَخْصٌ يسألُه عَن مالٍ قد دَفَنَه، ونَسي مَكانَه لِلَّهِ فقال له أبو حنيفة - رحمه الله -: ليس في هذا فَتوَى فأحتال لك لِلَّهِ ولكن إذا كان قُبَيْل الفَجْر وَقْتَ السَّحَر فَقُم وصَلِّ للهِ. فانصَرَف الرَّجُل، وقام وَقْتَ السَّحَر ودَخَل في الصَّلاة؛ فما إنْ بدأ صَلاتَه إلا وَذَكَّرَه الشَّيْطان بالمكان الذي دَفَنَ مالِه فيه لِلَّهِ فَقَطَع الرَّجُل صلاتَه وذَهَب لإحضار المال !!!
وأَمْرُ الخُشُوع في الصَّلاة - في الحقيقة - يَسيرٌ عَلَى مَن يَسَّرَه اللهُ عَلَيْه، يُمكِن للمُصَلِّي تحصيله بُمراعاة سَمعِه في الصَّلاة لِما يقوله هو مِن أذْكارٍ ودَعوات - في قيامِه ورُكوعِه وسُجودِه -، أو لِمَا يَسْمَعه مِن إمامِه مِن قراءة وذِكْر. فمَن أرْعَى سَمْعَه في صَلاتِه خَشَع ولا بُدَّ؛ لأنَّ مُراعاة السَّمع للكلام المَسموع وإقباله إلَيه = يُؤَدِّي إلى التَّفاعُل مَعه وتَدَبُّره. أمَّا إن انشَغَل عَن القِراءة والذِّكر بغيرهما فلن يَخْشَع له، وسينشَغِل بغير الصَّلاة ولا بُدَّ لِلَّهِ
قال: " أو بِحَضْرَة طَعَامٍ يَشْتَهِيه ":
__________
(1) ؟؟؟(1/304)
قَيَّد المُصَنِّف - رحمه الله - الطَّعام الذي يُنْهَى المُصَلِّي عَن الصَّلاة بِحَضْرَتَه بقوله " يَشْتَهيه "؛ فإنْ كان لا يشتهيه: فَعَلَيه أن يُصَلِّي. وقد تَقَدَّم(1) الدَّليل على ذلك، مِن حَديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: " لا صلاة بِحَضْرَة الطَّعَام "، والمقصود به - طبعًا -: الطَّعام المُشْتَهَى.
وثَبَتَ في " الصَّحيحين "(2)، مِن حَديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ الرسول ? قال: " إذا وُضِعَ عَشَاء أحَدُكم وأُقيمَت الصَّلاة فابْدَءوا بالعَشاء، ولا يَعْجَل حتى يَفْرُغ مِنه " . ففي هذا نَدْبٌ إلى البَدْء بالعَشاء إن اتفق تَقديمه مَع حُضور الصَّلاة.
قال: " بل يُؤَخِّرها ولو فَاتَتْه الجَمَاعَة ":
عَلِمنا أنَّه إذا اشتْهَت نَفسُ الإنسان إلى الطَّعام: فَيُقَدِّم الطَّعام على الصَّلاة؛ حتى يقومَ إلى صَلاتِه غير مُتَعَلِّق ذِهنه بغيرها، حتى لو أدَّى به ذلك إلى فَوات الجَماعَة. وقد ثَبَتَ في " الصَّحيح "(3) أنَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يُوضَع له الطَّعام وتُقام الصَّلاة؛ فلا يأتيها حَتى يَفْرُغ، وإنَّه لَيَسْمَع قِراءة الإمام.
وهذه إحْدَى أعذار التَّخَلُّف عَن الجَماعَة، التي تُسْقِطها عَنه.
قال: " ويُكْرَه مَسُّ الحَصَى ":
اعْلَم أنَّ مِن جمُلة المَنهيَّات في الصَّلاة: مَسّ الحَصَى أثناء الصَّلاة. ومِن الأدِلَّة على ذلك:
( 1 ) ما رواه الشيخان(4)، مِن حَديث أبي سلمة عن مُعَيْقِيب الدوسي - - رضي الله عنه - - قال: ذَكَرَ النبي ? المَسْحَ في المَسْجِد - يعني الحَصَى -؛ قال: " إنْ كُنتَ لا بُدَّ فاعِلًا فواحِدَة ".
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 674 )، ومسلم ( 559 ).
(3) رواه البخاري ( 674 ).
(4) رواه البخاري ( 1207)، ومسلم - واللفظ له - ( 546 ).(1/305)
( 2 ) ما رواه أصحاب السُّنَنَ(1)، مِن حديث الزُّهْرِي عن أبي الأحْوَص عن أبي ذَرٍّ - - رضي الله عنه - - قال: قال الرسول ?: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يَمْسَح الحَصَى؛ فإنَّ الرَّحْمَة تُواجِهُه ".
إذا ثَبَتَ هذا؛ فلا يجوز مَسُّ الحَصَى أثناء الصَّلاة؛ لأنَّ هذا مِن العَبَث الذي سَيؤدِّي به إلى الانشغال عَن صَلاتِه. ولكن يُرَخَّصُ للإنسان في مَسِّ حَصاةٍ واحِدَةٍ لا أكثر؛ لأنَّ المُصَلِّي قد يَحْتاجُ إلى تَسوية الحَصَى بِيَدِه؛ فقد يكون بعض الحَصى بارِزًا؛ فيُؤلِمُه إنْ وَضَع جَبْهَته عليه عِندَ السُّجود، ويمنعه مِن الخُشوع. فَرُخِصَ له في واحِدَة.
والدَّليل على هذا التَّرخيص:
1ـ ما رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه "(2)، مِن حَديث أبي ذَرٍّ - - رضي الله عنه - - قال: سألتُ النبي ? عَن كُلِّ شىءٍ، حتى سألتُه عن مَسْحِ الحَصَى؛ فقال: " واحدةً أو دَعْ ".
2ـ حديث معيقيب - - رضي الله عنه - - المتقدم؛ ولفظه: " إنْ كنتَ لا بُدَّ فاعلًا فَواحدة ".
قال: " وتشبيك أصابعه ":
ذَكَرَ المُصَنِّف - رحمه الله - في بداية كِتابِه هذا - كما مَرَّ(3) مَعنا - أنَّه يُكْرَه للمُصَلِّي أن يُشَبِّك أصابِعَه، وقد ذَكَرنا أنَّ هذا النَّهي مُقَيَّدٌ: مِن حين خُروجه للصَّلاة إلى الانتهاء مِنها، ودَليله: حَديث كَعْب بن عُجْرَة - - رضي الله عنه - - وغيره.
والأقْرَبُ أنَّ تَشبيك الأصابِع في الصَّلاة مَكروهٌ فقط لا يَحْرُم، وهو عَبَثٌ لا يَليق بحال الصَّلاة، وهو كَمِثْلِ الحَرَكَة اليَسيرَة في الصَّلاة، كما سيأتي(4) - إن شاء الله -، وسيأتي(5) دَليلُ ذلك قريبًا.
قال: " واعتماده على يديه في جُلُوسٍ ":
__________
(1) رواه الترمذي ( 379 )، وأبو داود ( 945 )، والنسائي ( 1191 )، وابن ماجه ( 1027 ).
(2) " مُسْنَد الإمام أحمد ": ( 5 /163 ).
(3) ص؟؟؟.
(4) ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.(1/306)
يُسْتَدَلُّ على هذه المسألة بما أخْرَجَه أبو داود(1)، مِن حديث عبد الرزاق عن مَعْمَر عن إسماعيل بن أُمَيَّة عن نافع عن ابن عمر - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " نهى أن يجلس الرَّجُل في الصَّلاة وهو مُعْتَمِدٌ على يَدِه ".
وقد اخْتُلِفَ في لفظ هذا الحديث: فرواه أبو داود عَن أرْبَعَةٍ مِن شُيوخِه عن عبدالرزاق؛ وهم:
1ـ الإمام أحمد. ولفظه: " نهى رسول الله ? أن يجلس الرجل في الصلاة وهو مُعْتَمِدٌ على يَدِه ".
2ـ ابن شَبُّوَيْه. ولفظه: " نهى أن يعتمد الرَّجُل على يَدِه في الصلاة ".
3ـ ومحمد بن رافع. ولفظه: " نهى أن يُصَلِّي الرجل وهو مُعْتَمِدٌ على يَدِه ". وذَكَرَه في باب: الرَّفْع مِن السُّجُود [ السَّجْدَة ] ".
4ـ محمد بن عبد الملك. ولفظه: " نهى أن يعتمد الرجل على يَدَيْه إذا نَهَضَ في الصَّلاة ".
ولَعَلَّ هذا الاختلاف حَصَلَ مِن عَبْدالرزَّاق؛ لأنَّ بَعْضَ هؤلاء الرُّواة مِن كِبَارِ الحُفَّاظ - كالإمام أحمد ومحمد بن رافع -.
وقد خُولف أيضًا مَعْمَر في سَنَدِ هذا الخبر، وفي مَتْنه - أيضًا -:
فرواه أبو داود(2) - أيضًا -، مِن حديث: عبدالوارث عن إسماعيل بن أُمَيَّة قال: سألتُ نافِعًا عن الرَّجُل يُصَلِّي وهو مُشَبِّك يَدَيْه. قال: قال ابن عمر: تلك صلاة المَغْضُوب عليهم.
فعبد الوارث خالف معمر في لفظ هذا الحديث وفي إسناده:
أما في الإسناد: فرواية عبد الوارث موقوفة على ابن عمر ولم يَرْفَعْه. كما مَرَّ.
وأما في المتن فلفظه يختلف عن لفظ الحديث السابق، الذي فيه النهي عن الاعتماد عن اليدين في الصلاة، على اختلاف بين مَن روى هذا الخبر عن عبدالرزاق.
__________
(1) برقم ( 992 )، ورواه الإمام أحمد في " مُسْنَده ": ( 2 / 147 ).
(2) عَقِب الحَديث السَّابِق مُباشَرَةً، برقم ( 993 ).(1/307)
وروى أبو داود(1)، مِن طريق: هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه رأى رجلًا يَتَّكىء على يَدِه اليُسْرَى وهو قَاعِدٌ في الصلاة - وفي لفظ آخر(90): ساقِطًا على شِقِّه الأيْسَر -؛ فقال له: لا تَجْلِسْ هكذا؛ فإنَّ هكذا يجلس الذين يُعَذَّبُون.
وأصَحُّ هذه الروايات: رواية عبد الوارث؛ لأنه مِن كِبَار الحُفَّاظ، وإنْ كان مَعْمَر بن رَاشِد مِن الثِّقَات الحُفَّاظ؛ إلا أنَّ عبد الوارث أحفظ منه وأتقن.
وعَليه؛ فأصَحُّ هذه الرِّوايات هي الرواية الموقوفة على ابن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ التَّشبيك، الذي سَبَق.
نَعَم؛ جاء(2) في حديث عمرو بن الشريد عن أبيه - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال عن رجل كان متكئًا على يَدِه اليُسْرَى: " هذه جلسة المَغْضُوب عَلَيْهِم "، وهذا ليس مُقَيِّدًا بالصلاة.
وعليه؛ فالاعتماد على اليَدَيْن خِلافُ المَشْرُوع، فإنْ كان في الصَّلاة أثناء الجُلوس: فهو غير مشروع - أيضًا -، اللهُمَّ إلا إنْ كان لِحاجَةٍ: فلا بأس بذلك.
قال: " ولَمس لِحْيَته، وعَقص شَعْره، وكَف ثَوبه ":
لا يَنبَغي للمُصَلِّي أن يَنْشَغِل أثناء الصَّلاة بأي شىءٍ خارِجٍ عِنها؛ كانشغالِه بِثيابِه أو بِساعَتِه ونحوها، ومِن ذلك لَمسه لِلِحْيَتِه؛ فهو مِن قَبيل العَبَث الذي لا تَدْعو الحاجَة إليه؛ ولذلك كُرِه، وهذا مُطْرَدٌ في كُلِّ ما يُشْغِل عَن الصَّلاة ويَحول بَين المُصَلِّي وبين تَحصيل الخُشوع فيها.
قال: " وإن تَثَاءَبَ كَظَم ما استطاع، فإنْ غَلَبَه وَضَعَ يَده في فَمه ":
قد يَطرأ على المُصَلِّي التَّثاؤب أثناء الصَّلاة؛ فَبَيَّن المُصَنِّف - رحمه الله - أنَّ على المُتثاءِب أن يَكْظِم ما استطاع؛ وهو بعد ذلك لا يَخْلو مِن حالَين:
__________
(1) عَقِب الحَديث السَّابِق مُباشَرَةً، برقم ( 994 ).
(2) خَرَّجه الطبراني في " الكبير ": ( 7 / 316 ).(1/308)
إمَّا أن يَكْظِم ما استطاع فيَنْدَفِع التَّثاؤب: فبها ونِعْمَت.
وإمَّا ألا يَنْدَفِع: فيُسَنُّ له أن يَضَعَ يَدَه على فيه لِغَلْق فَمِه.
والدَّليل على أصل المسألة: ما رواه مُسْلِمٌ(1)، مِن حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ?قال: " التَّثاؤب مِنَ الشَّيْطَان، فإذا تَثَاءَبَ أحدكم فَلْيَكْظِم ما اسْتَطَاع ": فَبَين ? في هذا الحديث أن التثاؤب من الشيطان. فعليه إذا تثاءب في الصلاة أن يُحَاوِل أن يَدْفَعَه ما استطاع.
وأمَّا الدَّليل على وَضْع اليَد على الفَم: فهو ما رواه مُسْلمٌ(2) - أيضًا - في " صَحيحه "، مِن حديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إذا تَثَاوَبَ أحَدُكم؛ فليُمْسِك بيدِه على فِيه؛ فإنَّ الشيطان يَدْخُل ".
قال: " ويُكْرَه تَسوية التُّراب بلا عُذْر ":
تَقَدَّم(3) ذِكْر الأدِلَّة على كَراهَة مَسِّ المُصَلِّي للحَصَى أثناء الصَّلاة، وأنَّ هذا مِن العَبَث الذي يَمنَع الخُشوع فيها، وتَقَدَّم بيان الدَّليل على التَّرخيص بِمَسِّ حَصاةٍ واحِدَةٍ عِندَ الحاجَة لِذَلِك.
والتُّراب مِثل الحَصَى؛ فيُقال فيه ما قيل في الحَصَى. فإن احتاج المُصَلِّي إلى تسوية التُّراب: فقد رَخَّصَ الشَّارِع للمُصَلِّي أن يفعل ذلك مَرَّةً واحِدةً فقط، وقد جاء(4) عَن جَمعٍ مِن الصَّحابة والسَّلَف - - رضي الله عنهم - - أنَّهم كانوا يفعلون ذلك مَرَّة واحِدَة. فإنْ لم يَكُن ثَمَّ حاجَة: فلا يَفْعَل ولو مَرَّة. ولذ قال المُصَنِّف - رحمه الله -: " ويُكْرَه تَسوية التُّراب بلا عُذْرٍ ".
قال: " ويَرُدُّ المارَّ بَيْن يَدَيْه، ولو بِدَفْعِه ":
__________
(1) برقم ( 2994 ).
(2) برقم ( 2995 )، ورواه أبو داود ( 5026 ).
(3) ص؟؟؟.
(4) راجع الآثار في ذلك في: " مُصَنَّف ابن أبي شَيبة ": ( 2 / 176 )، و" مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 2 / 38 ).(1/309)
اعْلَم أنَّ المُصَلِّي مأمورٌ بِرَدِّ المارِّ بَين يَدَيه ومَنعه مِن المُرور، كما في حَديث أبي سعيد الخُدْرِي(1) - - رضي الله عنه - - أنه قال: " إذا كان أحَدُكم يُصَلِّي فلا يَدَع أحَدًا يَمُرُّ بَيْن يَدَيه، ولْيَدْرأه ما استطاع، فإنْ أبَى فَلْيُقاتِلْه؛ فإنَّما هو شيطان ".
قال: " آدميًا كان المار أو غيره ":
يعني: لا فَرْقَ في ذلك بَين الآدمِي وغيره؛ كأن يكون حَيوانًا - مثلًا -.
قال: " فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا ":
يعني: لا فَرْقَ في رَدِّ المَار سواءً كانت الصَّلاة نافِلَةً أو فريضة.
قال: " فإنْ أبَى فَله قِتاله، ولو مَشَىَ يَسيرًا ":
تَقَدَّم - قبل قليل - بَيان الدَّليل على ذلك مِن حَديث أبي سعيد - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: "... فإنْ أبَى فَلْيُقاتِلْه؛ فإنَّما هو شيطان ". فإنْ أصابَ المُصَلِّي المَارَّ - في هذه الحالة -: فلا شىءَ عَلَيه؛ لأنَّ المَارَّ هو المُعْتَدِي.
قال: " ويَحْرُم المرور بين المُصَلِّي وبين سُتْرَتِه ":
زَجَرَ النَّبيُّ ? عَن المُرور بَيْنَ يَدَي المُصَلِّي وبَيْن سُتْرَتِه زَجْرًا شَديدًا؛ فقد رَوَى البخاري في " صَحيحه "(2)، مِن حديث أبي الجُهَيْم - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? قال: " لو يَعْلَم المارُّ بَيْن يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعينَ خيرًا له مِن أن يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْه ". وهذا فيه وَعيدٌ شَديدٌ في حَقِّ مَن يَمُرّ بَيْن يَدَي المُصَلِّي، وأنَّه لو وَقَف أرْبعين كان خيرًا له مِن أن يَمُرَّ بين يَدَيه.
وهذه " الأربعين " جاءت مُطْلَقَةً في الحَديث: لا نَدْرِي: أهي أربعين سنة، أم شهرًا أم يومًا أم أسبوعًا؟
__________
(1) رواه مسلم ( 505 )، والبخاري بمعناه ( 509، 3275 )، والنسائي ( 757 )، وأبو داود ( 697 )، ومالك ( 364 ).
(2) برقم ( 510 )، ورواه مسلم ( 507 )، والترمذي ( 336 )، وأبو داود ( 701 )، والنسائي ( 756 )، وابن ماجه ( 945 ).(1/310)
أمَّا ما جاء في رواية البزار(1): " أربعين خَريفًا "، وما جاء عند ابنَي ماجه وحِبَّان(2) من حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " لو يَعْلَم... لأنَّ يُقيم مائة عام خَيرٌ له مِن الخَطوة التي خَطاها ": فلا يَصِحَّان.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فَيَحْرُم المُرور بَيْن يَدَي المُصَلِّي وبَيْن سُتْرَتِه؛ بل هذا كَبيرةٌ مِن كَبائِر الذُّنوب؛ ذلك أنَّ الكبيرة هي: " كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ فَاعله بِلَعْنَةٍ، أو وَعيدٍ، أو غَضَبٍ، أو نَارٍ، أو نَقْص إيمانٍ أو نَفيه ". وقد تُوُعِّد المَارُّ - إن مَرَّ - بوعيدٍ قال عَنه النبيُّ ?: " لكان أن يقف أربعينَ خيرًا له مِن أن يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْه ".
قال: " وبَيْن يَدَيه إنْ لم يكن له سُتْرَة ":
اعْلَم أنَّ المُصَلِّي لا يَخْلو إمَّا أن يُصَلِّي إلى سُتْرَة أو بدونها:
1ـ فإنْ صَلَّى إلى سُتْرَة: فالنَّهيُ مُقَيَّدٌ بالمُرور بَين يَدَي المُصَلِّي وسُتْرَته. فإنْ مَرَّ وَراءَها: فلا بأس.
2ـ وإنْ لم يَكُن ثَمَّ سُتْرَة: فيَحْرُم عَليه المُرور قريبًا مِن المُصَلِّي ( بَيْن يَدَيه )، فإن مَرَّ بعيدًا عَنه: فلا بأسَ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْم في مِقْدارِ هذا البُعد الذي يَجوز بَعْدَه المُرور: فَقَدَّره بَعضُهم بِرَمية حَجَرٍ لِلَّهِ وهذا بَعيدٌ جِدًّا بلا شَكٍّ. ولعل الصَّواب تَقديره بثلاثة أذْرُع مِن مَوضِع قَدَمي المُصَلِّي؛ والدَّليل على ذلك: أنَّ الرسول ? كان يَجْعَل بَيْنَه وبين السُّتْرَة مِقْدار ثَلاثة أذْرُع؛ فإذا سَجَد كان بَيْنه وبين السُّتْرَة مِقدارُ ذِراع = يعني: أنَّ مِقدار سُجود ذِراعان(3).
__________
(1) رواه البزار في " مُسْنَدِه ": ( 9 / 239 ).
(2) رواه ابن ماجه ( 946 )، والإمام أحمد ( 2 / 371 )، وابن حِبَّان في " صَحيحه ": ( 6 / 129 - " إحسان " ).
(3) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.(1/311)
وعَلى ذلك؛ فلا يجوز المُرور بَين المُصَلِّي إلى ثَلاثة أذْرُعٍ أمامَه، فإنْ زاد عَن ذلك: فليس عَلى المارِّ شىءٌ.
والدَّليل على جواز المُرور وَراءَ السُّتْرَة: ما رواه البخاري في " صَحيحه "(1)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه مَرَّ بَيْن يَدَي الصَّف وهو على أتان ( وهي أُنثَى الحِمَار )، ثُمَّ نَزَلَ عن الأتان ودَخَل في الصَّلاة. ولم يُمنَع مِن المُرور بين يَدَي الصَّف، ولم يُنْكَر ذلك عَلَيْه؛ لأنَّ مَن كان خَلْف الإمام فَسُتْرَة الإمام سُتْرَة له؛ فكأن المارَّ حينئذٍ مَرَّ مِن بَعْد السُّتْرَة؛ فلذلك لم يُنهَ عن ذلك.
إذا عَلِمنا هذا؛ فإنْ كان هُناك عُذْرٌ يستوجِب المُرور بين يَدَي المُصَلِّي: فلا بأس بالمُرور، ويُسْتَثْنَى هذا مِن النَّهي.
قال: " وَلَه قَتْل حَيَّة وعَقْرَب ":
اعْلَم أنَّ المُصَلِّي إذا أحْرَم بالصَّلاة بتكبيرة الإحْرام؛ فقد حَرُم عَلَيْه فِعْل ما يجوز فِعْله خارِج الصَّلاة(2)؛ لقول النبي - ?-: " تَحريمها التَّكبير "(3)، إلا أنَّ الشَّارِع قد استثنى بعض الأشياء؛ فرَخَّصَ للمُصَلِّي فِعلها أثناء صَلاتِه.
وقد شَرَعَ المُصَنِّف - رحمه الله - هُنا في بَيان تِلك الأشياء التي أُبيح للمُصَلِّي فِعْلها أثناء صَلاتِه، إلا أنَّه - رحمه الله - لم يَسْتَوْعِب كُلَّ المُباحات؛ ويُعْتَذَر له بأنَّ الكِتاب عبارَة عَن رسالَةٍ مُخْتَصَرَة ليس الغَرَضُ مِنها التَّطويل.
فقال - رحمه الله -:
" ولَه قَتْل حَيَّة وعَقْرَب ":
__________
(1) برقم ( 76 )، ورواه مسلم ( 504 )، والترمذي ( 337 )، وأبو داود ( 715 )، والنسائي ( 752 )، وابن ماجه ( 947 ).
(2) ومِن تِلك الأشياء التي نَهى الشَّارِعُ عَن فِعْلِها أثناء الصَّلاة: التَّخَصُّر، والحَرَكة الكثيرة، والأكل والشُّرب والكَلام والضَّحِك، وبعض هذا يُؤَدِّي إلى بُطلان الصَّلاة. ( السعد ).
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/312)
والدَّليل على تِلك المَسألة: ما رواه أبو داود وابن خزيمة وغيرهما(1)، بإسنادٍ لا بأس به، مِن حَديث يحيى بن أبي كثير عن ضَمْضَم عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " اُقْتُلوا الأسْوَدَين في الصَّلاة: الحَيَّة والعَقْرَب ".
والحِكْمَة مِن هذه الرُّخْصَة ظاهِرَة؛ وهي خَشية تأذِّي المُصَلِّي بِلَدْغ الحَيَّة أو لَسْع العَقْرَب أثناءَ صَلاتِه؛ فأُبيح له قَتلهما.
ويُلْحَق بالحيَّة والعَقْرَب: مَا كان مِثْلهما في الإيذاء؛ فيُرَخَّص للمُصَلِّي قَتْل ما قد يُؤذِيه أو يَضُرُّه في صَلاتِه، حتى وإنْ حَصَل بِقَتْله حَرَكةٌ كثيرةٌ في الصَّلاة.
قال: " وقَمْلَة ":
يَعني: يجوز للمُصَلِّي قَتل القَمْلَة أثناءَ صَلاتِه؛ قِياسًا على قَتْل الحَيَّة والعَقْرَب. وقد جاء(2) هذا مِن فِعْل بعض الصحابة - - رضي الله عنهم - -.
قال: " وتَعديل ثَوب وعِمَامَة ":
…يُرَخَّصُ للمُصَلِّي أن يُعَدِّل ثَوبه أو عِمامَته أثناءَ الصَّلاة، إنْ احْتاج إلى ذلك؛ كأن يَخْشَى سُقوط رِدائه، أو انحلال إزاره، أو انفكاك عِمامَته = فلا بأس أن يُصْلِح ما يَحْتاج إلى إصلاحِه مِن ثيابه أثناء الصَّلاة.
والدَّليل على هذا: ما رواه مسلم في " صَحيحه "(3)، مِن حديث عبد الجبار بن وائل عن عَلْقَمَة عن أبيه وائل بن حُجْرٍ - - رضي الله عنه - - أنَّه رأى النبيَّ ? " رَفَعَ يَدَيه حين دَخَلَ في الصَّلاة، كَبَّر... ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِه... ". فهذا الالتحاف مِنه ? نَوعُ تَعْديلٍ لثيابِه وهو في الصَّلاة.
قال: " وحَمل شَىءٍ وَوَضْعه ":
__________
(1) رواه أبو داود - واللفظ له - ( 921 )، والترمذي ( 390 )، والنسائي ( 1202 )، وابن ماجه ( 1245 )، وابن خُزَيمة ( 2 / 41 ).
(2) راجع هذه الآثار في: " مُصَنَّف ابن أبي شَيبة ": ( 2 / 144 )، و" مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 1 / 448 ).
(3) برقم ( 401 ).(1/313)
…إن احتاج المُصَلِّي إلى حَمل شىءٍ أثناء صلاتِه أو وَضْعِه: رُخِّص له في ذلك. كأن يَحتاج الرَّجُل أو المرأة إلى حَمل وَلَده أثناء الصَّلاة، أو يَخْشَى المرءُ على مَالِه الكثير مِن السَّرِقة إن تَرَكَه، أو يَخْشَى على حاجَتِه مِن التَّلَف والضَّياع فَيَحْمِلها أثناء الصَّلاة: فلا بأس بِكُلِّ ذلك.
والدَّليل على هذه المسألة: مَا جاء في " الصحيحين "(1)، مِن حديث أبي قتادة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? كان يُصَلِّي وهو حامِلٌ أُمَامَة بِنتَ زَيْنَب بنت رسول الله ?... فإذا سَجَدَ وَضَعَها، وإذا قام حَمَلَها.
قال: " ولَه إشارَة بِيَد وَوَجْهه وعَين لِحَاجَة ":
…مِمَّا يُرَخَّص للمُصَلِّي فِعْله أثناء الصَّلاة: الإشارَة لِحاجَة، سواءً كانت هذه الإشارَة بِيَدِه أو بِوَجْهه أو برأسِه أو بِعَينه.
…والأدِلَّة على هذه المسألة:
( 1 ) ما رواه مُسْلِمٌ(2)، مِن حديث الليث عن أبي الزُّبَيْر عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أنَّ الرسول ? عندما صلى وهو جالس صلى الصحابة خلفه قيامًا؛ فأشار إليهم وهو في الصلاة أن اجْلِسُوا فَجَلَسُوا.
( 2 ) وأيضًا مَا تَقَدَّم(3) عنه ? من حمله أُمَامة بنت أبي العاص - - رضي الله عنه - - ( زوج زينب بنت رسول الله ? ). وَجْه الدَّلالَة مِن هذا الحَديث: أنَّ الحَمْل - وهو مُباحٌ - أكبر من الإشارة.
( 3 ) ويُسْتَدَلُّ لِذلك - أيضًا - بأنَّه ? كان يَرُدُّ السَّلام إشارةً(4).
__________
(1) رواه البخاري ( 516 )، ومسلم ( 543 )، وأبو داود ( 917 ).
(2) برقم ( 413 )، ورواه ابن ماجه (1240)، وأحمد ( 3 /334 ).
(3) ص؟؟؟.
(4) سيأتي تخريجه قريبًا.(1/314)
على أنَّه يَنبَغي التَّنبيه على أنَّه - وإنْ أُبيح للمُصَلِّي الإشارَة أثناء صَلاتِه لحاجَة - فهو مأمورٌ بالنَّظَر إلى مَوضْع سُجودِه(1)، ويُكْرَه له الالتِفات واللَّحْظ أثناء الصَّلاة؛ لأنَّه يحول بَيْنَه وبين الخُشوع. وقد سَبَق(2) بَسْط هذا تفصيليًّا.
أمَّا ما رواه الترمذي والنسائي وغيرهما، مِن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ الرسول ? " كان يَلْحَظ في صلاته لِلَّهِ ولا يلتفت - يعني ينظر يمينًا أو يسارًا - ": فهذا الحَديث - وإنْ صَحَّحه بَعْض أهل العِلْم كابن خُزَيْمَة - مُنكَرٌ لا يَصِحُّ، وقد أنكره الترمذي وغيره، وقد سَبَق الكلام عليه تَفصيليًّا(3).
قال: " ولا يُكْرَه السَّلام على المُصَلِّي " (4):
اخْتَلَف أهْل العِلْم في هذه المسألة(5): فَكَرِه بَعْضُهم السَّلامَ على المُصَلِّي أثناء الصَّلاة، وذَهَب آخَرون إلى المَشروعيَّة، ومِنهم المُصَنِّف - رحمه الله -.
واسْتَدَل المُجيزون: بأنَّ الصحابة - - رضي الله عنهم - - كانوا يُسَلِّمون على الرسول ? وهو يُصَلِّي؛ فكان يَرُدُّ عليهم بالإشارة.
جاء هذا في حَديثَي: عبد الله بن عمر وصُهيب - - رضي الله عنهم - -:
أمَّا حَديث عبد الله بن عمر(6) - رضي الله عنهما -: فإسنادُه لا بأسَ بِه، وإنْ تَكَلَّم فيه بَعْضُ أهْل العِلْم.
__________
(1) وقد سَبَق بَسْطُ هذا تَفصيليًّا: ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) في بعض النُّسَخ: " ويُكْرَه السلام على المصلي " بالإثبات. والصواب ما أُثبت؛ كما في نسخة المشايخ: عبد الكريم بن محمد اللاحم وناصر بن عبد الله الطريم وسعود بن محمد البشر، وكما في نُسْخَة العلامة ابن مانع - رحمه الله -: ( ص 19، ط المعارف بالرياض ).
(5) راجع: " المَجموع ": ( 4 / 105 )، و" المُغني ": ( 1 / 398 ).
(6) رواه ابن ماجه ( 1017 ).(1/315)
وأمَّا حديث صُهيب(1) - - رضي الله عنه - -: فَفيه نَظَرٌ، ويُغْنِي عنه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
وهذا القول الثاني هو الأقْرَب؛ لأنَّه لو كان مَكروهًا لَنَبَّهَهم النبيُّ ? على ذلك بعد انتهاءِ صَلاتِه؛ فَلَمَّا لم يَفْعَل دَلَّ ذلك على الجَواز.
إذا تَقَرَّر هذا؛ فَقد رَخَّص بعضُ مَن أجاز السَّلام على المُصَلِّي، في رَدِّ السَّلام عَليه لَفْظًا مِن قِبَل المُصَلِّي. وهذا جاء(2) عَن أبي هُريرة - - رضي الله عنه - -.
ورَخَّص بَعضُهم بِمُصَافَحَتِه أثناء الصلاة.
أمَّا الفريق الأوَّل فقد مَنَعَ الرَّد عَليه مُطْلَقًا، لا بإشارَةٍ ولا بغيرها.
قال: " وَلَه رَدُّه بالإشَارَة ":
كما سَبَق. والإشارَة تكون باليَد.
قال: " وَيَفْتَح على إمامه إذا ارْتُجَّ عَلَيْه أو غلط ":
يُريد المؤلِّف بـ " الفَتْح على الإمام " إذا ارْتُجَّ عَلَيه أو غَلط أثناء صَلاته = القِراءَة. فيُشْرَع الفَتح على الإمام أثناء الصَّلاة، وهو مَذْهَب جُمهور أهْل العِلْم، خِلافًا لِمَن كَرِه ذلك مِن العُلماء(3). والصَّواب قول الجُمهور؛ لِدلالة السُّنَّة على ذلك.
قال: " وإن نابه شىء في صلاته سَبَّح رَجُلٌ وصَفَّقَتِ امرأةٌ ":
عَلمنا أنَّ الإمام إذا أخطأ في القِراءة: شُرِع الفَتْح عَليه.
أمَّا إنْ أخطأ في غَير القِراءَة: فزاد في صَلاته - فجعل الرُّباعية خُماسية، والثُنائية ثُلاثية، أو قام لرابعة في ثُلاثيَّة، أو زاد رُكوعًا أو سُجودًا -، أو نَقَصَ مِنها: ففي كُلِّ هذه الأحوال وَجَبَ على المأموم تَنبيه = فيُسَبِّح له الرِّجال، ويُصَفِّق له النِّساء.
__________
(1) رواه الترمذي ( 367 )، وأبو داود ( 925 )، والنسائي ( 1186 ).
(2) راجع: " الأوسط ": ( 3 / 251 )، وحكاه عَنه النَّووي في " المَجموع ": ( 4 / 105 )، وابن قُدامة في " المغني ": ( 1 / 398 ).
(3) راجع: " المغني ": ( 1 / 395 )، و" المجموع ": ( 4 / 240 ).(1/316)
والدَّليل على هذه المسألة: ما جاء(1) في قصة أبي بكر الصِّديق - - رضي الله عنه - - عندما صَلَّى بعد أن ذهب الرسول ? إلى الإصلاح ما بين طائفتين من الأنصار قد وقع بينهم خُصومة، فَلَمَّا حانَت الصَّلاة جاء بلالٌ إلى أبي بكر - رضي الله عنهما -... وتَقَدَّم أبو بكر - - رضي الله عنه - - فَكَبَّر للنَّاس، وجاء رَسول الله ? يَمشي في الصُّفوف يَشُقُّها شَقًّا حتى قام في الصَّفِّ، فأخذ النَّاس في التَّصفيق، وكان أبو بكر - - رضي الله عنه - - لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التفتَ فإذا رسول الله ?؛ فأشار إليه رسول الله - ? - يأمره أن يُصَلِّي، فَرَفَع أبو بكر - - رضي الله عنه - - يَدَيْه فَحَمِد الله، ورَجَع القَهْقَرى وراءه، حتى قام في الصَّفّ، فَتَقَدَّم رسول الله ? فَصَلَّى للنَّاس... ثُمَّ قال لهم ? بعد انتهاء الصَّلاة: " مَن نابه شىءٌ في صَلاتِه فليَقُل: سُبحان الله ". وفي رواية(2): "التَّسبيح للرِّجال، والتَّصفيق للنِّساء".
q q q q q
قال: " وإنْ بَدَرَه بُصَاقٌ أو مُخاطٌ وهو في المسجد: بَصَقَ في ثَوبِه ":
…إذا أراد المرءُ أن يَبْصُق فلا يَخْلُو إمَّا أن يكون: في المَسْجِد أو خارِجَه:
…1ـ فإنْ كان في المَسْجِد: فقد اخْتَلَف(3) أهْل العِلْم في جَواز البَصْق على قَولَين: فَذَهَب بعضُم إلى التَّحريم مُطْلَقًا، وذهب آخَرون إلى أنَّه: يَجوز له البُصاق بِشَرط دَفنِه، فإنْ لم يَدْفِنه حَرُم.
__________
(1) روى القِصَّة: البخاري ( 1218، 684 )، ومسلم ( 421 ).
(2) رواها البخاري ( 1203 )، ومسلم ( 422 ).
(3) راجع: " المجموع ": ( 4 / 100 )، و" المُغني ": ( 1 / 371 ).(1/317)
واسْتَدَل الفَريق الأوَّل بـ: ما رواه البخاري في " صَحيحه "(1)، أنَّ الرسول ? قال: " البُزاق في المَسْجِد خَطيئة، وكَفَّارتها دفنها ". قالوا: فَحَكَم الرَّسول ? على هذا الفٍعْل بأنه " خَطيئة " = يعني: مَعصيَة وسَيِّئة لا تجوز، وأنَّ كَفَّارة ذلك أن يُدْفَن هذا البُصَاق؛ وذلك لِمَا للمَسْجِد مِن حُرْمَة، يُنافيها هذا الفِعْل. فَدَلَّ هذا على أنَّ البُصاق في المسجد مُحَرَّم مُطْلَقًا.
واسْتَدَلَّ المُجيزون بـ: مَا جاء في حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال: رأيت رسول الله ? يُصَلِّي فَبَزَقَ تَحْت قَدَمِه اليُسْرَى، ثُمَّ دَلَكَها. [ رواه ابن خُزَيْمَة وغيره(2)].
ويُجاب عَن هذا الحَديث بأنَّه ليس في الحَديث تَصريحٌ بأنَّ هذا الفِعْل كان في المَسْجِد؛ وإنَّما هذا كان في الصَّلاة، ولا يَلْزَم مِن كُلِّ صلاةٍ أن تكون في المَسْجِد، إلا إذا جاء الدَّليل على أنَّ هذه الصَّلاة كانت مِن الصَّلوات الخَمس؛ لأنَّ الغالِب عليها أنها تُؤَدَّى في المَسْجِد.
فيكون القول الأوَّل هو الأقرب. واللهُ أعْلَم.
قال: " وفي غير المسجد عن يساره ":
2ـ أمَّا إن أراد البَصْق خارِج المَسْجِد: فلا يَبْصُق قِبَل وَجْهِه أو عَن يَمِينه؛ وإنَّما يَبْصُق عَن يَسارِه أو تَحْتَ قَدَمِه اليُسْرَى.
__________
(1) برقم ( 415 )، ورواه مسلم ( 552 )، والترمذي ( 572 )، وأبو داود ( 475 )، والنسائي ( 723 ).
(2) رواه ابن خُزَيمة ( 2 / 45 ). ورواه البزار في " مُسْنَدِه ": ( 6 / 260 ) مِن حَديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عَن أبيه مرفوعًا.(1/318)
والدَّليل على هذا: ما جاء في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث حُميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما - أن الرسول ? قال: " إذا تَنَخَّم أحَدُكم؛ فلا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَل وَجْهه ولا عَن يَمينه؛ وَلْيَبْصُق عَن يسارِه، او تَحَتَ قَدَمِه اليُسْرَى ".
وهذا نَهيٌ مِنه ? عَن بَصْق الإنسان قِبَل وَجْهِه أو عَن يَمينه.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة - كحديث ابن عمر ( رضي الله عنهما ) وغيره - أنَّ الرب - - عز وجل - - قِبَل وَجه المُصَلِّي إذا صَلَّى(2)؛ فلا يجوز للإنسان في هذا الحال أن يَبْصُقَ قِبَل وَجْهِه.
ورَوى ابن خُزَيمة(3)، عَن أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: أنَّ "... المَلَك عن يمينه ".
ورَوَىَ(4) - أيضًا - مِن حَديث طارق بن عبد الله المحاربي - - رضي الله عنه - - مرفوعًا: " فلا تبزقن عَن يمينك؛ ولكن خَلْفَك... ". و" الخَلْف ": يَدْخُل تحته: اليسار أو تحت قَدَمه اليُسْرَى.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فقد اخْتَلَف أهْل العِلم: هل هذا النَّهيُ عَن البُصاق قِبلَ الوَجْه أو عَن اليَمَين، مُخْتَصٌّ بحال الصَّلاة فيجوز خارِجها، أم مُطْلَقٌ في جَميع الأحوال؟ على قَولَين. اختار الأوَّل: الإمام مالك(5)، وابنُ خُزَيْمَة - كما بَوَّب على ذلك في " صحيحه "(6) -. رَحِمَ اللهُ الجَميع.
اسْتَدَل القائِلون بالمَنع مُطْلَقًا - أصحاب القول الثاني -:
1ـ بالأحاديث السَّابِقة وأنَّها مُطْلَقَة. وقالوا: أنَّ حديثَي أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - مُطْلَقَين، ليس فيهما تَقييد ذلك بالصَّلاة.
__________
(1) رواه البخاري ( 409 )، ومسلم ( 548 ).
(2) رواه البخاري ( 406 )، ومسلم ( 547 ).
(3) " صَحيح ابن خزيمة ": ( 2 / 46 ).
(4) " صَحيح ابن خزيمة ": ( 2 / 44 ).
(5) ؟؟؟.
(6) " صَحيح ابن خزيمة ": ( 2 /؟؟؟ ).(1/319)
2ـ وبِمَا جاء(1) عن عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - أنَّه كَرِهَ أن يَبْصُق عن يمينه، وإنْ كان ليس في الصلاة.
3ـ وبِمَا جَاء(2) عن معاذ بن جبل - - رضي الله عنه - - أنَّه قال: " مَا بَصَقْتُ قِبَل وَجْهِي أو عن يميني منذُ أسْلَمتُ ".
والأقْرَب هو القول الأوَّل - أنَّ ذلك خاصٌّ بحال الصَّلاة -؛ والدَّليل على ذلك تقييد النَّهي عَن ذلك في كثيرٍ مِن الأحاديث بحال الصَّلاة؛ ومِن ذلك: ما رواه البخاري، مِن أحاديث أنس(3) وابن عمر(4) وأبي هريرة(5) - - رضي الله عنهم - - أن الرسول ? قال: " إذا كان أحدكم يُصَلِّي فلا يبصقن قِبَل وجهه ولا عن يمينه... " الحَديث. فَوَجبَ حَمل المُطْلَق مِن تِلك النُّصوص على المُقَيِّد مِنها بحال الصَّلاة.
وإن اجْتَنَب المُسْلِم ذلك خارِجَ صَلاتِه أيضًا فهذا أحْسَن - بلا شَكٍّ -؛ خُروجًا مِن الخِلاف.
قال: " وتُكره صلاة غير مأموم إلى غير سُتْرَة ":
…يُكْرَه للمُصَلِّي أن يُصَلِّي إلى غَير سُتْرَة، كما قَرَّر المُصَنِّف - رحمه الله -.
واخْتَلَف أهْل العِلْم في وُجوب الصَّلاة إلى سُتْرَة، على قَوْلَين:
القول الأوَّل: هي واجِبَةٌ؛ وعَليه: يَحْرُم على المُصَلِّي أن يُصَلِّي بدونها.
القول الثَّاني - وهو قول أكْثَر أهْل العِلْم -: هي مُسْتَحَبَّةٌ ليست واجِبَة؛ وعَليه: يُكْرَه للمُصَلِّي أن يُصَلِّي بدونها.
واسْتَدَل المُوجِبون بالأحاديث التي فيها الأمر العام باتِّخاذ السُّتْرَة؛ وقالوا: الأمر للوُجوب. ومِن تلك الأحاديث:
__________
(1) ؟؟؟.
(2) رواه عبد الرزاق في " مُصَنَّفه ": ( 1 / 435 ).
(3) رواه البخاري ( 413 )، ومسلم ( 551 ).
(4) رواه البخاري ( 406 )، ومسلم ( 547 )، وليس عِندَهما ذِكر " اليَمين ".
(5) رواه البخاري ( 409 ).(1/320)
( 1 ) مَا رواه أبو داود(1)، مِن حديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إذا صلى أحدكم فليُصَلِّ إلى سُتْرَة، وَلْيَدْنُ مِنها ".
قالوا: ففي هذا الحديث الأمر بالصلاة إلى السُّتْرَة.
ويُجاب عَن هذا: بأنَّ هذا الحديث بهذا اللفظ فيه نَظَرٌ؛ وذلك أن حديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - له أصلٌ في " الصَّحيحين "(2)، وجاء فيهما بأسانيد وألفاظ مُتَعَدِّدَة،، بدون هذا اللفظ. ففيما يبدو أن محمد بن عجلان تَفَرَّد بهذا اللفظ: " لا تُصَلِّ إلا إلى سُتْرَة "، وابن عجلان - وإنْ كان الرَّاجِح أنه ثِقَة وجَيِّد الحديث - إلا أنَّ له أخطاءً وأوهامًا، ورِواية غيره مِمَّن هو أوثق منه تُقَدَّم على رِوايته.
فالأقْرَبُ أنَّ هذا اللفظ شَاذٌّ، خِلافًا لِمَن قَوَّاه مِن أهْل العِلْم بالنَّظَر إلى ظَاهِرِ إسْنادِه.
نَعَم؛ ظاهرُ إسْنادِ هَذا الخَبَر أنَّه جَيِّدٌ لا بأسَ به لِلَّهِ
لكن طريقة أئمة الحَديث المُتَقَدِّمين أنَّهم يَنظُرون إلى الحَديث بجَميع ِرواياته وألفاظِه المُخْتَلِفَة، ويَرُدُّون الأحاديث بعضها إلى البَعْض الآخَر إنْ كان لها أُصولٌ؛ فَيُقَدِّمون رِواية الأوْثَق والأحْفَظ والأكثر والأصَحّ على رِواية مَن دونِهم.
وهذه قاعِدَة مُهِمَّة جِدًّا: أنَّ الخَبر إذا كان له أصْلٌ، وجاء بأسانيد صِحاح وبروايات كَثيرة = قُدِّم الأصَحّ، وضُعِّف اللَّفظ الآخَر.
__________
(1) برقم ( 697 )، ورواه ابن ماجه ( 954 ).
(2) رواه البخاري ( 509، 3275 )، ومسلم ( 505 )، والنسائي ( 757 )، وأبو داود ( 697 )، ومالك ( 364 ).(1/321)
وأمَّا الحُكْم على إسنادِ الحَديث الواحِد، بِغَضّ النَّظَر عَن باقي رواياته وألْفاظِه الأُخْرَى، أو القَول بأنَّ الحَديث جاء بأكثَر مِن وَجْه؛ فيكون بمجموع طُرُقِه حَسَن لِلَّهِ فليسَت هذه طَريقَتُهم؛ وإنَّما هي طَرِيقة الفُقَهَاء والمُتأخِّرين مِن أهْل الحَديث. وهي طَريقة خاطِئَة لِلَّهِ
نَعم؛ إنْ لم يَكن لِرواية هؤلاء الذين فيهم ضَعْفٌ أصلٌ صَحيح = لَقُلنا أنَّه بِتَعَدُّد رِواياتهم يَقْوَى الخَبَر، وإلا فلا لِلَّهِ
ونَزيد ذلك وُضوحًا وبيانًا؛ فَنقول: في كَثيرٍ مِن الأحيان يُرْوَى الحَديث الواحِد بأسانيد وألفاظ مُتَعَدِّدَة، فما الموقف حينئذٍ؟ لا تَخْلو ألفاظ هذا الحَديث إمَّا أن: تكون مُتَّفِقَة في المعنى بألفاظ مُخْتَلِفَة، أو تَخْتَلِف ألفاظها وتأتي في بَعْض الطُّرُق زيادات لم تأتِ في طُرُقٍ أُخْرَى.
ففي الحالة الأُولَى: الاختلاف في اللَّفظ لا يُؤَثِّر، ما دام المعنى واحِدًا.
أمَّا في الحالة الثانية: فَنُقَدِّم رواية الأحْفَظ والأوْثَق والأكْثَر على رِواية مَن دونَهم.
ومِن الأمْثِلَة التَّطبيقيَّة على هذه القاعِدَة الهامَّة:
1ـ ما فَعلناه في حَديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - -: فقد جاء هذا الحديث في " الصحيحين "، بأسانيدَ وألفاظ مُتَعَدِّدَة، وجاء ابن عَجْلان بزيادة لم يُتابِعْه عليها أحَدٌ، والرِّوايات الأُخْرَى أصَحّ، ولكن ابن عجلان - مَع كونه ثِقَة - له أوْهَامٌ وأخْطَاء؛ فقد يكون روى هذا الحديث بالمعنى؛ فأخطأ فلم يُتْقِن لَفْظَ الخَبَر؛ فزاد فيه هذه الزيادة. ولذا حَكمنا على هذه الرِّواية بالشُّذوذ وأنَّها لا تَصِحّ.(1/322)
2ـ ومِن الأمْثِلَة - أيضًا -: رُويَت أحاديث كثيرة عَن الرسول ? تَتَّفِق أنَّه كان ? إذا دَعَا رَفَع يَدَيْه(1)، وجاء(2) في بَعْض الرِّويات القَليلة أنَّه ? مَسَح بِيَدَيه على وَجْهه بعد الفَراغ مِن الدُّعاء. فما حُكم تِلك الأحاديث؟
نَقول: أنَّ أكثر الأحاديث الصَّحيحة ليس فيها مَسْح الوَجْه بعد الدُّعاء، والأحاديث التي فيها ضَعْف - وهي أقَلّ - جاء فيها المَسْح = فالصَّواب أن نَقول - في هذه الحالة - أنَّ ذِكْر المَسْح في تِلك الأحاديث مُنكَرٌ؛ وذلك لأمْرَين:
الأوَّل: لِمُخالَفَة تِلك الأحاديث للرِّوايات الصَّحيحة التي ليس فيها المَسْح.
الثاني: أنَّ زيادة المَسْح جاءَت بأسانيد فيها ضَعْف.
ومِمَّن ضَعَّف الحَديث بزيادة المَسْح: شَيخ الإسلام ابن تيمية(3) - رحمه الله تعالى -، أمَّا الحافِظ ابن حَجَر - رحمه الله تعالى - فَحَسَّن الحَديث بمجموع طُرُقه في " بُلوغ المرام "(4) لِلَّهِ وما ذَهَب إليه شيخ الإسلام هو الأصَحُّ، وهو طَريقة مَن تَقَدَّم مِن الأئِمَة الحُفَّاظ.
3ـ ومِن الأمْثِلَة - أيضًا -: أحاديث التَّسمية عِندَ الوضوء:
مِن المَعلوم أنَّ أكْثَر الأحاديث الصَّحيحة في صِفَة وُضوء النبي ? لم يَرِد فيها أنَّه ? كان يُسَمِّي عِند بِدْء وُضوئه؛ ومِنها:
( 1 ) حَديث عثمان - - رضي الله عنه - -، وهو في " الصحيحين "(5)، وهو أصَحُّ أحاديث الباب.
__________
(1) ومِن تلك الأحاديث؛ مِنها: ما رواه البخاري ( 932، 1751 )، ومسلم ( 202، 895، 1763 ).
(2) رواه أبو داود ( 1485، 1492 )، والترمذي ( 3386 )، وابن ماجه ( 1181 )، وأحمد ( 4 / 221 )، وغيرهم.
(3) كما في " مَجموع فتاواه ": ( 22 / 519 ).
(4) " بُلوغ المرام ": ( 4 / 219 - " سُبُل السَّلام " ).
(5) رواه البخاري ( 160 )، ومسلم ( 226 ).(1/323)
( 2 ) وحديث عبد الله بن زيد - - رضي الله عنه - -، وهو في " الصحيحين "(1) - أيضًا -.
( 3 ) وحَديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو في " صَحيح البخاري "(2).
( 4 ) وحديث علي - - رضي الله عنه - -، وهو في " السُّنَن "(3)، وجاء بأسانيد مُتَعَدِّدَة.
فَكُلُّ هذه الأحاديث ليس فيها ذِكْر التَّسميَة؛ وإنَّما جاء الأمر بالتَّسمية في أحاديث ضعيفة؛ كِمثل ما رُوي عَنه ? أنَّه قال: " لا وُضوء لِمَن لم يَذْكُر اسْمَ الله عَلَيْه "(4).
فَنقول عَن هذه الأحاديث: أنَّها كُلَّها ضَعيفةٌ، لا تَقوى باجتماعِ بعضها بعضًا؛ لأنَّها مُعارَضَة بِما هو أصَحُّ مِنها، مِمَّا لم يُذْكَر فيه التَّسمية.
ونَعود بعد هذا الاسْتِطْراد إلى أحاديث السُّتْرَة؛ فنقول:
( 2 ) وجاء الأمْر بالسُّتْرَة - أيضًا - مِن حَديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -، فيما رواه ابن خُزَيْمة(5)، مِن حديث ضحاك بن عثمان عن صدقة بن يسار عنه.
والضَّحاك بن عُثمان، صَدوق له أوهام، وقد تَفَرَّد بهذه الزِّيادَة؛ فقد روى الحَديث - مِن نَفسِ هذا الطَّريق - الإمام مُسْلِم في " صَحيحه "(6)، لكن لم يَذْكُر مَوضِع الشَّاهِد؛ وهو: الأمر باتِّخاذ السُّتْرَة = فَدَلَّ هذا على شُذوذ هذه الزِّيادَة وعَدَم صِّحَّتِها.
فالخُلاصَة: أنَّه لم يَثْبُت حَديثٌ - فيما أعْلَم - فيه الأمر العام باتِّخاذ السُّتْرَة.
__________
(1) رواه البخاري ( 185، 192 )، ومسلم ( 235 ).
(2) رواه البخاري ( 140 )، وأبو داود ( 137 ).
(3) رواه أبو داود ( 111، 115، 116، 117 )، والترمذي ( 48، 44 )، والنسائي ( 92، 93، 94، 95، 96 ).
(4) رواه أبو داود ( 101 )، والترمذي ( 25 )، وابن ماجه ( 398 )، وغيرهم.
(5) " صحيح ابن خُزيمة ": ( 2 / 9 ) - وعَنه ابن حبان في " صَحيحه " ( 6 / 133 - "إحسان " ) -، والحاكم ( 1 / 381 ) - ومِن طريقة البيهقي في " الكبرى ": ( 2 / 268)-.
(6) برقم ( 506 ).(1/324)
وعَليه؛ فالأرْجَح في المسألة هو مَذْهَب الجُمهور؛ وهو: اسْتِحْبَاب السُّتْرَة دون وُجوبها.
ولكن يَنبَغي على المُصَلِّي أن يَتَّخِذ السُّتْرَة أثناء الصَّلاة؛ فهي سُنَّة مُؤَكَّدة؛ ولذا قال المُصَنِّف - رحمه الله تعالى -: " تُكْرَه صلاةُ غَيْرِ مأمومٍ إلى غَيْر سُتْرَة ".
واسْتَثنى - رحمه الله - المأموم مِن اتِّخاذِها؛ لأنَّ سُتْرَة إمامِه سُتْرَة له؛ فَسُتْرَة الإمام سُتْرَة لِمَن خَلْفَه - كما قَدَّمنا -؛ والدَّليل على هذا: حديث ابن عباس(1) - رضي الله عنهما - عندما دَخَل بَين الصُّفوف وهو راكِب أتان. فلو لم تَكُن سُتْرَة الإمام سُتْرَة لِمَن خَلْفَه مِن المأمومين = لَبَطلت صلاة هؤلاء في هذه الحالة.
قال: " ولو لم يَخْشَ مَارًّا ":
يُسْتَحَبُّ للمُصَلِّي الصَّلاة إلى سُتْرَة، وإنْ لم يَخْشَ مُرور أحَدٍ أمَامَه؛ والدَّليل على هذا الاسْتِحْباب، ولو في هذه الحالة: أنَّ الرسول ? كان في بعض الحالات لا يَخْشَى مِن مُرورِ أحَدٍ أمامَه، ومع ذلك كان يَتَّخِذ السُّتْرَة؛ فَدَلَّ هذا على أنَّها سُنَّة مُؤَكَّدَة مِن سُنَن الصَّلاة الخارِجَة عَنها.
أمَّا ما رُوي مِن الأحاديث أنَّه ? صَلَّى إلى غَيْر سُتْرَة: فلا يَصِحُّ مِن هذه الأحاديث شىءٌ. ومِن تِلك الأحاديث:
1ـ ما رواه أبو داود(2)، مِن طريق كَثِير بن كَثِير بن المُطَّلِب بن أبي وَدَاعَة عن بَعْضِ أهْلِه عن المُطَّلِب بن وِدَاعَة أنَّه رأى النبيَّ ? " يُصَلَّي مِمَّا يَلِي بابَ بني سَهْمٍ ( يعني: في المسجد الحرام )، والنَّاس يَمُرُّون بَيْن يَدَيه، وليس بينهما سُتْرَة ":
فهذا الحديث فيه ضَعْفٌ؛ لأنَّه قال: " عن بعض أهله "، وهُم غَيْر مَعْروفِين.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) برقم ( 2016 )، ورواه - أيضًا - بنحوه: النسائي ( 758 )، وابن ماجه ( 2958 ).(1/325)
2ـ وأيضًا ما رواه الإمام أحمد(1)، مِن حَديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه ? " صَلَّى في فَضَاءٍ ليس بين يَدَيْه شىء ".
3ـ وأيضًا ما رواه البَزَّار(2) أنه ? صَلَّى إلى غير سُتْرَة.
فكل هذه الأحاديث لا يَصِحُّ مِنها شىء، وأيضًا - كما مَرَّ - لم يَصِحّ في الأمر العام بالسُّتْرَة شىءٌ.
قال: " مِن جدار ":
يُبَيِّن المؤلِّف - رحمه الله - هُنا مِقدار السُّتْرَة؛ فقال: " مِن جِدار ". والدَّليل على هذا: ما ثَبَتَ في " صحيح البخاري "(3)، مِن حديث سهل بن سعد - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? كان يُصَلِّي إلى الجِدَار ـ وذلك في مَسْجده ?؛ فقال سَهل - - رضي الله عنه - -: " كان بين مُصَلَّى رسول الله ? ( يعني: مَقامه في صَلاتِه - وجاء صَريحًا في رواية أبي داود - ) وبين الجِدار مَمَرُّ الشَّاة ".
قال: " أو شَىءٍ شَاخِص، كَحَرْبَة ":
والدَّليل على هذا: ما ثَبَتَ في " الصحيحين "(4)، مِن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله ? إذا خَرَجَ يومَ العِيد أمَرَ بالحَرْبَة؛ فَتُوضَع بَيْن يَدَيه؛ فيُصَلِّي إلَيْها، والنَّاس وَراءَه ".
قال: " أو غير ذلك؛ مثل: آخِرَة الرَّحْل ":
__________
(1) رواه الإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 1 / 224 )، وابن أبي شيبة في " المُصَنَّف ": ( 1 / 249 )، والبيهقي في " الكبرى ": ( 2 / 273 ).
(2) ؟؟؟
(3) برقم ( 496 )، ورواه مسلم ( 508 )، وأبو داود ( 696 ).
(4) رواه البخاري ( 494 )، ومسلم ( 501 ).(1/326)
والدَّليل على هذا: ما ثَبَتَ في " صَحيح مُسْلِم "(1)، مِن حديث موسى بن طلحة عن أبيه طلحة عن عبيد الله أنه شَكا للرسول - عليه الصلاة والسلام - أنَّه يَمُرُّ بين يديهم الدَّواب إذا صَلَّوا؛ فقال ?: " مِثل مؤخرَة(2) الرَّحْل تكون بين يَدَي أحَدكم؛ ثُمَّ لا يَضُرُّه ما مَرَّ بَيْنَ يَدَيه ".
و" مؤخرَة الرحل ": قَدْر ثلثي الذراع.
فيُشْرَع للمُصَلِّي أن يَتَّخِذ شيئًا قَدْر مؤخرَة الرَّحل أو أكْثر، وهي له سُتْرَة.
قال: " ويُسَنُّ أن يَدْنُو منها؛ لقوله ?: إذا صَلَّى أحدكم فَلْيُصَلِّ إلى سُتْرَة، ويَدْنُ مِنْهَا ":
تَقَدَّم(3) لنا أنَّ الأحاديث التي جاء فيها الأمر العام بالصَّلاة إلى السُّتْرَة: أنَّها شَاذَّةٌ لا يَصِحُّ مِنها شىءٌ.
وقوله: " ويَدْنُ منها ": قد جاءت هذه اللفظة في حَديثٍ رواه أبو داود وغيره(4)، وقد وقع اختلافٌ في هذا إسنادِ هذا الحديث، كما ذَكَرَ أبو داود - رحمه الله - عَقِبَ تَخريجِه للحَديث.
إلا أنَّ الدُّنُو مِن السُّتْرَة له أصْلٌ مِن فِعله ?:
1ـ فعندما دَخَلَ ? الكَعْبَة كان بين قَدَمِه وبين جِدار الكَعْبَة ثلاثة أذْرُع(5)، فكان يَسْجُد في نَحْو ذِرَاعَين، ويَبْقَى ذِراعٌ بَيْن مَحِل سُجودِه وبَيْن الجِدار. و" الذِّرَاع " مِقدارُه يَسيرٌ = فهذا يَدُلُّ على دُنُوّ الرَّسول ? مِن السُّتْرَة.
__________
(1) برقم ( 499 )، ورواه أبو داود ( 685 )، والترمذي ( 335 ).
(2) " مؤخرة ": ضُبِطَت هذه الكلمة بأنواع عِدَّة من الضبط؛ فقيل: " مُؤْخِرة "، وقيل: " مُؤَخَّرة "، وقيل: " مَوْخِرة "، وقيل: " مُؤْخَرة ". ( السعد ).
(3) ص؟؟؟.
(4) برقم ( 695، 697 )، ورواه ابن ماجه ( 954 ).
(5) رواه البخاري ( 506، 1599 )، والنسائي ( 749 )(1/327)
2ـ وقال سَهْلُ بن سَعْد - - رضي الله عنه - -: " كان بين مُصَلَّى رسول الله ? وبَيْن الجِدار مَمَرُّ الشَّاة "(1). وهذا يَدُلُّ - أيضًا - على دُنوِّه ? مِن سُتْرَتِه.
قال: " ويَنْحَرِف عنها يَسيرًا؛ لِفِعْلِه ? ":
يُريد المؤلِّف - رحمه الله - بقوله هذا أنَّه يُسَنُّ للمُصَلِّي ألا يَجْعَل السُّتْرَة قُدامَه تمامًا؛ وإنَّما يَجْعَلها إمَّا عَن يَمينِه أو عِن يَسارِه.
ويُشير المُصَنِّف بقوله: " لِفِعْلِه ? " إلى: ما رواه أبو داود وغيره(2)، مِن حديث وليد بن الكامل عن مُهَلَّب بن حُجْر عن ضُباعَة بنت المِقداد بن الأسود عن أبيها - - رضي الله عنه - - قال: " ما رأيتُ رسول الله ? يُصَلِّي إلى عُودٍ ولا عَمودٍ ولا شَجَرَةٍ إلا جَعَلَه على حَاجِبه الأيْمَن أو الأيْسَر، ولا يَصْمُد له صَمْدًا ".
إلا أنَّ هذا الحَديث ضَعيفٌ لا يَصِحُّ؛ فَفيه الوليد بن كامل، وهو مُتَكَلَّمٌ فيه، ومُهَلَّب بن حُجْرٍ وضُباعَة: لا يُعْرَفان، ولا يُدْرَى سَماع بعضهم مِن بَعْضٍ لِلَّهِ هذا فَضلًا عَن أن مَتنه مُخالِفٌ للأحاديث الصَّحيحة الدَّالَّة على أن سُتْرَتَه ? كانت تُوضَع أمامَه؛ فكان يُصَلِّي قُدَّامَها.
قال: " وإنْ تَعَذَّر؛ خَطَّ خَطًّا ":
يُريد المؤلِّف - رحمه الله - أنَّه إنْ تَعَذَّر وُجود سُتْرَة = شُرِعَ للمُصَلِّي أن يَخُطَّ خَطًّا ويُصَلِّي إلَيه.
__________
(1) رواه البخاري ( 496 )، ومسلم ( 508 )، وأبو داود ( 696 ).
(2) رواه أبو داود ( 693 )، وأحمد ( 6 /4 ).(1/328)
ويُسْتَدَلُّ لِذَلك بـ: ما رواه أبو داود وغيره(1)، مِن حَديث أبي عمرو بن مُحَمَّد بن عمر الحريث عن جَدِّه عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? قال: " إذا صَلَّى أحَدكم فَلْيَجْعَل تِلقاءَ وَجْهِه شيئًا، فإنْ لم يَجِد فَلْيَنْصِب عَصَا، فإنْ لم يَكُن مَعه عَصَا فَلْيَخْطُط خَطًّا؛ ثُمَّ لا يَضُرُّه ما مَرَّ أمامَه ".
إلا أنَّ هذا الحَديث لا يَصِحُّ؛ ومَعلولٌ بِعِلَل كَثيرَة:
أولاها: أبو عمرو بن محمد بن حُريث وجَدّه: لا يُعْرَفان.
ثانيًا: أنَّه اخْتُلِف في اسم عمرو بن محمد بن حُريث؛ فقيل: أبو عمرو بن محمد بن حريث، وقيل: أبو محمد بن عمرو بن حريث. وهذا مِمَّا يَزيد في جَهالَتِه لِلَّهِ
ثالثًا: أنَّه تَفَرَّد بهذا الخبر، مع كَونه مَجهولًا لا يُعْرَف لِلَّهِ وأين أصْحاب أبي هريرة - - رضي الله عنه - - مِن هذا الخَبَر؟! وهذا يُفيد نَكارَته.
رابعًا: أنَّه قد اخْتُلِفَ واضْطُرِبَ في إسْناده.
خامسًا: أنَّه مُخالِفٌ للأحاديث الصَّحيحة التي ليسَ فيها ذِكْر الخَط؛ وإنَّما فيها تَقدير السُّتْرَة بِمثل قوله ?: " مثل مؤخرَة الرَّحل "(2) - وليست مؤخرة الرَّحْل هي الخَط -، ولم يأتِ ذِكْر الخَط إلا في هذا الحَديث = فَدَلَّ هذا - كما تَقَدَّم مَعنا في القاعِدَة السَّابِقة - أنَّ هذا الحَديث مُنكَرٌ ضَعيفٌ غَريبٌ.
فالخُلاصَة أنَّ هذا الحَديث: حَديثٌ مُنكَرٌ لا يَصِحُّ. وقد ضَعَّفه كِبار الحُفَّاظ؛ كسفيان بن عُيَيْنَة، والشافعي، والدَّارَقُطْنِي، وابْنُ حَزْمٍ، وغيرهم(3).
__________
(1) رواه أبو داود ( 689 )، وابن ماجه ( 943 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) راجع: " عِلل الدارقطني ": ( 8 / 50 )، و" المجموع " / للنَّوَوي: ( 246 )، و"التَّلخيص الحبير ": ( 1 / 286 ).(1/329)
وأمَّا الإمام أحْمَد: فقد نَقَل عنه الأثرم(1) تَضعيفَه لهذا الحَديث. إلا أنَّ الإمام ابن عبد البر قال في " التَّمهيد "(2): " ينبغي أن يكون هذا الحديث صحيحًا عند أحمد " اهـ = يعني: أنَّ الإمام أحمد عَمِلَ به؛ وما عَمِلَ به إلا لكونه صَحيحًا عِندَه لِلَّهِ
إلا أنَّ تَصريح الأثْرَم بِتَضعيف الإمام أحمد له مُقَدَّمٌ على قوله هذا.
ونَقل ابن عبد البر(3) - أيضًا - تَصحيح الحَديث عَن عَلي بن المَديني واحْتِجاجه به لِلَّهِ إلا أنَّه لم يَذْكُر لفظ علي بن المديني ما هو؟ فالأقْرَب - والله أعْلَم - أنَّ ابن المديني لا يُصَحِّح هذا الخَبَر؛ لِمَا تَقَدَّم مِن العِلَل التي فِيه.
ومع هذا؛ فقد حَسَّنَه الحافظ ابن حجر - رحمه الله- في " بُلُوغ المرام"(4)!
وبما أنَّ الحَديث لم يَثْبُت؛ فإذا لم يَجِد المُصَلِّي سُتْرَةً = صَلَّى على حالِه، ولا يَخُطُّ خَطًّا.
قال: " وإذا مرَّ مِن وَراءها شىءٌ لم يُكْرَه ":
كما تَقَدَّم مَعنا: أنَّه لا يُكْرَه المُرور مِن وَراء السُّتْرَة؛ وإنَّما المَمنوع هو المُرور بين المُصَلِّي وبين سُتْرَتِه.
قال: " فإنْ لم يكن سُتْرَة، أو مَرَّ بَيْنه وبينها امرأة أو كلب أو حمار = بَطَلَت صَلاتُه ":
لا يَخْلو المُصَلِّي إمَّا أن: يُصَلِّي إلى غَير سُتْرَة، أو يُصَلِّي إليها:
ففي الحالة الأُولَى: إنْ مَرَّ أمامَه واحِدٌ مِمَّا ذُكِر في المَتن = بَطُلَت صَلاتُه.
وفي الحالة الثانية: إنْ مَرَّ بَيْنَه وبين سُتْرَتِه واحِدٌ مِنها = بَطُلَت صَلاتُه - أيضًا -.
__________
(1) ؟؟؟
(2) " التَّمهيد ": ( 4 / 199 ).
(3) المَرْجِع السَّابِق: نَفس الجُزء ونَفس الصَّفْحَة.
(4) " بُلوغ المَرام ": ( 1 / 146 - " سُبُل السَّلام " ).(1/330)
والدَّليل على هذه المسألة: مَا جاء في حَديث عبد الله بن صامت عن أبي ذر الغِفَارِي - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? قال: " إذا قام أحَدُكم يُصَلِّي، فإنَّه يَسْتُره إذا كان بَيْن يَدَيه مِثل آخِرَة الرَّحْل، فإذا لم يَكُن بَيْن يَدَيه مِثل آخِرَة الرَّحْل: فإنَّه يَقْطَع صَلاتَه الحِمَار والمرأة والكَلْب الأسْوَد ". قال أبو ذَرّ: سألتُ رسول الله ?: مَا بَالُ الكَلْبِ الأسْوَد مِن الكَلْب الأحْمَر مِن الكَلْب الأصْفَر؟ فقال: " الكَلْب الأسْوَد شَيْطَان "(1).
قال: " ولَه قِراءَةٌ في المُصْحَف ":
والدَّليل على هذه الرُّخْصَة: ما رواه عبد الرزاق وغيره(2)، أنَّ عائشة - رضي الله عنها - كان يؤمها غلام لها في رمضان وكان يقرأ مِن المُصْحَف.
ولم يُنْقَل عَن أحَدٍ مِن الصَّحابة ما يُخالِف ذلك.
__________
(1) رواه مسلم ( 510 )، والترمذي ( 338 )، وأبو داود ( 702 )، والنسائي ( 750 )، وابن ماجه ( 952 ).
(2) رواه ابن أبي شَيْبَة في " مُصَنَّفِه ": ( 2 / 123 )، وعبد الرزاق بمعناه ( 2 / 420 ).(1/331)
إذا ثَبَتَ هذا؛ فلا بأس بالقِراءة مِن المُصْحَف في صلاة الليل؛ لحاجَة المُصَلِّي إلى التَّطويل فيها. وهل يجوز هذا الفِعْل في صَلاة الفَريضَة؟ الأوْلَى ألا يَفْعَل، وأن يقرأ بما يَحْفَظ، فإنْ فَعَل: فلا بأس؛ لِمَا تَقَدَّم، والأصل أنَّ ما ثَبَت في الفَريضة يَشْمَل النَّافِلة، والعَكْس بالعَكْس، إلَّا إذا دَلَّ دَليلٌ على التفريق بينهما؛ لأنَّ كِلتَيهما صَلاة. وما اتَّفَقَا فيه مَعًا أكثر بكثيرٍ مِمَّا اخْتَلَفا فيه وتَمَيَّزَت به إحداهما عَن أُختِها. مَع أن بعض أهْل العِلم أوصل الفُروق بين صلاة الفريضة والنافِلَة إلى نَحوِ ثلاثين فَرْقًا لِلَّهِ مِن تِلك الفروق - مثلًا -: أنَّه يُشْتَرَط للمُسْتَطيع غيرِ العاجِزِ القيامُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَة في صَلاة الفريضة، ويَسْقُط شَرط القيام في صَلاة النَّافِلَة. ويُرَخَّص له صلاتها - يعني النَّافِلَة - على دابَّتِه في السَّفَر حيثَما تَوَجَّهَت به = فلا يَجِب عَليه استقبال القِبْلَة، إلا في تَكبيرة الإحْرام، أمَّا في الفَريضَة فالأصل أنَّ اسْتِقْبال القِبْلَة شَرْطٌ مِن شُروط صِحَّتِها، إلا في بَعْضِ الحالات التي تَسْقُط فيها؛ كَالعَجْزِ والخَوفِ وغيرهما - مِمَّا سيأتي -، ولا تَصِحُّ على الدَّابَّة إلا لِعُذْرٍ. فالأمْر في النَّافِلَة أوْسَع مِن الفَريضَة. وسيأتي(1) مَزيد بَسْطٍ لهذه المسألة - إن شاء الله -.
قال: " والسؤال عند آية رحمة، والتعوذ عند آية العذاب ":
والدَّليل على هذه المسألة: حَديث حُذَيْفَة بن اليَمَان(2) - - رضي الله عنه - -، عِندَما صَلَّى مع الرسول ? فكان ? " إذا مَرَّ بِسؤالٍ سَألَ، وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذ تَعَوَّذ ".
q q q q q
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه مسلم ( 772 )، وأبو داود ( 871 )، والترمذي ( 262 )، والنسائي ( 1008، 1664 )،، وابن ماجه ( 1351 ).(1/332)
قال المصنف رحمه الله تعالى: " والقيام رُكْنٌ في الفَرْض؛ لقوله - تعالى - ? وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [ البقرة: 286 ]، إلا لِعاجز أو عريان أو خائف أو مأموم خلف إمام الحي العاجز عنه، وإن أدرك الإمام في الركوع فبقدر التحريمة ":
يَشْرُع المُصَنِّف - رحمه الله - هُنا في ذِكْر أرْكَان الصَّلاة، يُثَنِّي بِذِكْر وَاجِبَاتها، ويَخْتَم بِذِكِر مُسْتَحَبَّاتها.
والصَّلاة تَنْقَسِم إلى أقوالٍ وأفْعالٍ:
القِسْم الأوَّل ( الأقوال ): مِثل: تَكبيرة الإحْرَام، والاسْتِفْتاح، والقِرَاءة، وأذْكار الرُّكوع والسُّجود والاعْتِدال ونحوها.
القِسْم الثاني ( الأفعال ): مثل: القِيام، والرُّكوع، والاعتدال مِنه، والسُّجُود، ورَفع اليَدين، وغيرها.
وتَنْقَسِم هذه الأقْوال والأفْعَال إلى ثلاثة أقْسَام:
القِسْم الأوَّل: أرْكان لا تَصِحُّ الصلاة إلا بها.
القِسْم الثاني: وَاجِبَات، تَسْقُط بالنِّسيان، إلا أنَّها تُجْبَر بِسُجود السَّهو، كما سيأتي - إن شاء الله -.
القِسْم الثَّالِث: سُنَن مُسْتَحَبَّة ليست بِوَاجِبَة.
والدَّليل على هذا التَّفريق والتَّقسيم: أنَّ الرَّسول ? لَمَّا نَسي التَّشَهُّد الأوَّل - كما جاء في " الصحيحين "(1) - اسْتَمَرَّ في صَلاته ولم يَرْجِع إليه، فَلَمَّا انتَهَى مِن صَلاتِه وأراد أن يُسَلِّم سَجَد للسَّهْو. بينما لَمَّا سَلَّم عَن رَكْعَتَين في صَلاةِ العَصْر ناسيًا(2): لم يَكْتَفِ بالسُّجود للسَّهْو؛ بل قام وأتى بالرَّكْعَتَيْن الباقِيَتَيْن، وَجَلَس للتَّشَهُّد، ثُمَّ سَلَّم، ثُمَّ سَجَد للسَّهْو وسَلَّم.
__________
(1) رواه البخاري ( 829 )، ومسلم ( 570 ).
(2) رواه البخاري ( 482 )، ومسلم ( 573 )، وغيرهما.(1/333)
فَدَلَّت هاتان الواقِعَتان على التَّفريق بَيْن بَعْض الأقْوال والأفْعَال؛ فالرسول ? غَايَر بَيْن هذه الأمرين ( الرُّكْن والوَاجِب )؛ فَدَلَّ ذلك على أنَّهما يختلفان مِن حيثُ الحُكْم؛ وإلا لساوَى بينهما ? في الحُكْم:
1ـ فَبَعْضُها رُكْنٌ لا بُدَّ مِن الإتيان بها، وبِسُجود السَّهْو بَعْدَها، لا تَسْقُط بِحالٍ، حتى في حالِ النِّسيان.
2ـ وبَعْضها وَاجِبٌ يَسْقُط بالنِّسيان، ويَجْبُره سُجُود السَّهْو.
وأمَّا مُسْتَحَبَّات الصَّلاة - مِن أقْوالٍ وأفْعَالٍ -: فهي سُنَّة، وقد وَقَعَ الإجماع على أنَّه لا يَلْزَم تارِكها سُجود السَّهو، إنْ تَرَكَها عامِدًا أو ناسيًا. فلو تَرَكَ المُصَلِّي - مثلًا - رَفْع اليَدَين عِندَ الرُّكوع أو الاعْتِدال مِنه: لم يَلْزَمه شىءٌ بالإجْمَاع.
هذه هي أقسام الصَّلاة الثَّلاثَة، التي لا تَخْرُج عَنها أقوالها وأفعالها، ولا تخْرُج الصَّلاة - أيضًا - عَن الأقوال والأفعال.
ومِمَّا يُسْتَلْطَف ذِكْره - هُنا - أن الإمامَ أبا حاتم ابن حبان البستي، صاحب كتاب " التقاسيم والأنواع " المعروف بـ " صحيح ابن حبان " = له كِتَابٌ خَاصٌّ في بيان صفة صلاة الرسول ? ذَكَرَه في " صحيحه "(1)؛ فقال: " في أرْبَع ركعات يصليها الإنسان ستمائة سُنَّة عن النبي ? أخرجناها بفصولها في كتاب " صفة الصلاة " " لِلَّهِ
وهو يَقْصِد بـ ( السُّنَن ): الأرْكان والواجِبات والمُسْتَحَبَّات - لا بِمعناها عِندَ الأُصوليين -؛ لأنَّها كُلَّها جاءَت في السُّنَّة. فيَدْخُل في ذلك الأقوال والأفْعال؛ فَدَلَّ هذا على كَثْرَتها. والذي يبدو أنَّه - رحمه الله - جَمَع النُّصوص واستقرأها، وحَسَبَ السُّنَن مِنها؛ فبلغت عِندَه سِتَمائة سُنَّة.
__________
(1) " صحيح ابن حِبَّان ": ( 5/184 - إحسان )، ذَكَرَ هذا بعد تَخْريجه لحديث أبي حميد الساعدي - - رضي الله عنه - - الذي قال فيه: " أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ? ".(1/334)
وهذا الكتاب غير مَطبوع؛ بل لا نَعْلَم أنَّه موجود لِلَّهِ فلعله يوجد مُخطوطًا في بَعْض الأماكِن التي لم يَشْتَهِر أمرُها بَين طَلَبَة العِلْم، يَسَّر اللهُ العُثورَ عليه وطَبعَه على خَيرٍ.
قال: " والقِيامُ رُكْنٌ في الفَرْض؛ لِقَولِه - - سبحانه وتعالى - - ? وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [ البقرة: 238 ] ":
بدأ المُصَنِّف - رحمه الله - بِذِكْر أوَّل أرْكان الصَّلاة - وهو القيام -. والقِيام في الصَّلاة يَنقَسِم - مِن حَيث حُكْمِه - إلى قِسْمَيْن:
القِسْم الأوَّل: رُكْنٌ، إلا لعاجز. وهذا يكون في صَلاة الفَريضَة.
القِسْم الثاني: سُنَّة ليس بِواجِب. وهذا يكون في صلاة النَّافِلَة.
اعْلَم أنَّ القيام في صَلاة الفريضَة رُكْنٌ؛ بالكِتاب والسُّنَّة والإجْماع:
1ـ أمَّا دَليل القُرآن: فهو ما ذَكَره المُصَنِّف - رحمه الله -؛ وهو قوله - - سبحانه وتعالى - - ? وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [ البقرة: 238 ]. فأمَرَ رَبُّنا - - عز وجل - - بالقيامِ في الصَّلاة، وأن يكون المُصَلِّي قَانِتًا = يعني: خَاشِعًا خَاضِعًا لِرَبِّه - - سبحانه وتعالى - -.
2ـ وأمَّا دَليل السُّنَّة النَّبَويَّة: فهو ما جاء في " صحيح البخاري "(1)، مِن حديث ابن بريدة عن عِمْران بن حُصَيْن - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? قال: " صَلِّ قائمًا، فإنْ لم تَسْتَطِع فجالسًا، فإنْ لم تَسْتَطِع فَعَلَى جَنْبٍ ". فأمر الرسول ? عِمْران بن حُصَيْن - - رضي الله عنه - - أن يُصَلِّي قائمًا...؛ فَدَلَّ هذا على أنَّه لا بُدَّ مِن القِيام في الصَّلاة.
3ـ وأمَّا الإجماع(2): فقد أجْمَع المُسْلِمُون على أنَّ القيام في صَلاة الفريضة رُكْنٌ.
وفَرَّقَت السُّنَّة النَّبويَّة بين صَلاة الفريضة وصلاة النَّافِلَة في حُكْم القيام:
__________
(1) برقم ( 1117)، وسبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) راجع: " المجموع ": ( 3 / 258 ).(1/335)
1ـ فَروى البخاري في " صَحيحه "(1)، أنَّ الرسول ? قال: "... مَن صَلَّى قاعِدًا فله نِصْف أجْر القائِم "، وهذا في النَّافِلة.
2ـ وكان ? في السَّفَر يُصَلِّي راكبًا على دابته - وهذا جلوس -، وكان يتوجه حيث ما توجهت به دابته ?(2).
3ـ وثَبَتَ عَنه ? أنَّه " كان يصلي صلاة الليل وهو جالس، فإذا بقى عَليه مِن السُّورَة ثلاثون أو أربعون آيةً؛ قام فقرأهُنَّ، ثُمَّ رَكَعَ "، كما جاء في حَديثَي عائشة(3) وحفصة(4) - رضي الله عنهما -.
فَدَلَّ كُلُّ هذا على أنَّ القيام في صَلاة النَّافِلة مُسْتَحَبٌّ ليس بواجِب(5)، وأنَّ أجْرَ القاعِد على النِّصف مِن أجْر القائِم.
قال: " إلا لِعاجِزٍ ":
مِن قواعِد الشَّريعَة ويُسْرها أنَّ المُكَلَّف لا يُكَلَّف إلا بما يَستطيع؛ فإنْ لم يَسْتَطِع ما كُلِّفَ به سَقَطَ عنه. قال الله - - سبحانه وتعالى - - ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ]، وقال - - عز وجل - - ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? [ التغابن: 16 ].
وعَلى ذلك؛ إذا لم يَسْتَطِع المُصَلِّي الصَّلاة قائِمًا سَقَط عَنه القيام، وصَلَّى جَالِسًا؛ والدَّليل على ذلك: حَديث عِمران بن حُصَين - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم، والآيَتَين.
ويَتَفَرَّع على هذا مَسألتان:
__________
(1) برقم ( 1115 )، ورواه أبو داود ( 951 )، والترمذي ( 371 )، والنسائي ( 1660 )، وابن ماجه ( 1231 ).
(2) رواه مسلم ( 700، 701 )، وأبو داود ( 1224 )، والترمذي ( 352 )، والنسائي ( 490 ).
(3) رواه البخاري ( 1148، 4837 )، ومسلم ( 731 ).
(4) رواه مسلم ( 733 )، والترمذي ( 373 )، والنسائي ( 1658 )، ولم تَرْوِ - رضي الله عنها - إلا القَدْر الخاص بصلاتِه ? قاعِدًا.
(5) بالإجماع. راجع " المجموع ": ( 3 / 275 ).(1/336)
المسألة الأوْلَى: مَن قَوي على الصَّلاة قائِمًا إنْ صَلَّى مُنفَرِدًا في بَيْتِه - لتخفيفه عَن نفسه في القِراءَة -، وإنْ صَلَّى خَلْف الإمام لا يقوي إلا على القُعود - لِخَشية إطالة الإمام الصَّلاة والمَشَقَّة عَليه -: فهل تَسْقُط عَنه صلاة الجَماعَة، أم يُصَلِّي مع الجَماعة قاعِدًا؟ في المسألة خِلافٌ(1).
والأرْجَح: أنَّ صَلاته مَع الإمام جالِسًا أوْلَى مِن صَلاتِه مُنفَرِدًا، ولو قائِمًا. ويَدُلُّ على هذا أنَّه يُشْرَع للمأمومين - بل يَجِب عليهم - الجُلوس إنْ صَلَّى إمامُهم جالِسًا، مَع كونِهم قادِرين على القيام = فَسَقط القيام عَنهم لِصلاة إمامِهم جالِسًا؛ فَمِن باب أوْلَى: يُشْرَع للمأموم الصَّلاة جالِسًا مع الجَماعَة، وإنْ كان مُطيقًا للقيام لو صَلَّى مُنفَرِدًا.
المسألة الثانية(2): مَن كان عاجِزًا عَن القيام إلا باعتمادِه على عَصا: فهل يَجب عَليه القيام في هذه الحالَة بالعَصا، أم يَجْلِس؟
قالوا: إنْ كان لا يَشُقُّ عَليه هذا مَشَقَّة واضِحَة بَيِّنَة = وَجَبَ عليه الصَّلاة قائِمًا مُعْتَمِدًا على العَصا؛ لأنَّه أصْبَح في حُكْم القادِر؛ فلا يَسْقُط عَنه القيام. وإنْ شَقَّ عليه ذلك؛ فلا يَلْزَمه القيام؛ لقوله - - سبحانه وتعالى - - ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ].
قال: " أو عُرْيَان ":
اخْتَلَف أهْل العِلم(3) في وُجوب القيام على العُرْيان الذي ليس عِندَه ثياب: هل يَسْقُط عَنه أم لا؟ على قَولَيْن، هُما رِوايتان عَن الإمام أحمد - رحمه الله -:
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 /444 ).
(2) راجع: " المجموع ": ( 3 / 265 )، و" المغني ": ( 1 /444 ).
(3) راجع: " المجموع ": ( 2 / 335، 3 / 182 )، و" والمُغني ": ( 1 / 344 ).(1/337)
فَذَهَب بَعْضُهم إلى سُقوط القيام عَنه وأنَّه يُصَلِّي جالِسًا، وهو اختيار المُصَنِّف - رحمه الله -. قالوا: لأنَّه إنْ صَلَّى قائِمًا فَسَتَنْكَشف عَورَته، وصَلاته جالِسًا أسْتَر له.
وذَهَب الفريق الثاني - وهو الرَّاجِح -: إلى أنَّ القيام مُتَعَيَّنٌ عليه؛ واسْتَدَلُّوا بِحَديث عِمران بن حُصَين - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم؛ وفيه: أن الرسول ? قال له: " صَلِّ قائمًا، فإنْ لم تستطع فجالسًا... ". وَجْه الدَّلالة: قالوا: والعُرْيان مُسْتَطيعٌ للقيام؛ فلا يَسْقُط عنه القيام.
قال: " أو خائف ":
يَسْقُط القيام عَن المُصَلِّي - أيضًا - إذا خافَ مِن عَدُوٍّ، ويَخْشَى إنْ صَلَّى قائمًا أنْ يَراه فَيَتَضَرَّر بِذلك - كأن يأسِره أو يَقْتُله - = فيُشْرَع له الصَّلاة جالِسًا في هذه الحالة.
والدَّليل على هذا: عُموم قوله - - سبحانه وتعالى - - ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? [ التغابن: 16 ]، وقوله ? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ]، وقوله ? إِلَّا مَنْ onجچٍ2é&... ? [ النحل: 106 ] = لأنَّ الخائِف - في هذه الحالة - يُعْتَبَر مُكْرَهًا.
قال: " أو مأموم خلف إمام الحي العَاجِز عنه ":
اعْلَم أنَّه لا يُشْرَع للمأموم - القادِر على القيام - أن يُصَلِّي جالِسًا خَلْف إمامِه، إلا بِشَرْطَين مُجْتَمِعَيْن:
الأوَّل: أن يُصَلِّي إمَامه جالِسًا لِعُذْرٍ.
الثاني: أن يكون هذا الإمام هو إمام الحي الرَّاتِب.
فلو تَغَيَّب الإمام الرَّاتِب، وكان نائِبُه لا يَسْتَطيع القيام: فلا يُصَلِّي بالنَّاس جالِسًا؛ وإنَّما يَجِب عليهم اختيار غيره مِمَّن يَقْدِر على القِيام؛ ليؤمَّهم قائِمًا ويُصَلَّون خَلْفَه قِيامًا.
والأدِلَّة على مَشروعيَّة صلاة المأموم قاعِدًا، خَلفَ إمام الحَي العاجِز عَن القيام؛ هو:
أولًا: فِعْل الرَّسول ?: فقد صَلَّى ? جالسًا، وجاء هذا في حَديثَين:(1/338)
الحَديث الأوَّل: رواه مُسْلِمٌ في " صَحيحه "(1)، مِن حديث أبي الزُّبَيْر عن جابر - - رضي الله عنه - - قال: " اشتكى رسول الله ?؛ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَه وهو قَاعِدٌ، وأبو بكر يُسْمِع النَّاسَ تَكبيرَه، فالتفتَ إلينا فرآنا قِيامًا؛ فأشارَ إلينا؛ فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلاتِه قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّم قال: " إنْ كِدْتُم آنِفًا لَتَفْعَلُون فِعْل فَارِسَ والرُّوم؛ يقومون على مُلوكِهم وهم قُعُود لِلَّهِ فلا تَفْعَلُوا؛ ائْتَمُّوا بأئِمَّتِكم؛ إنْ صَلَّى قائمًا فَصَلُّوا قِيامًا؛ وإنْ صَلَّى قَاعدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ".
فأمر ? المأموم أن يُصَلِّي جالِسًا خَلْف إمامه القاعِد، وبَيَّن الحِكْمَة مِن ذلك بقولِه: " إنْ كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود "؛ فأهل فارس والروم يقومون على رؤوس عُظماءهم، وهذا فيه تَكَبُّر عليهم وغَطْرَسة، فلذلك نهى الشَّرْعُ الحكيم عن ذلك، وأوْجَبَ على المأمومين أن يُصَلُّوا - والحال هكذا - جُلوسًا.
الحَديث الثاني: أنه ? صَلَّى جَالِسًا لَمَّا صُرِعَ عِن الفَرَس وَجُحِشَ شِقُّه الأيْمَن، وقال لأصحابِه: "... فإذا صَلَّى جَالِسًا فصَلُّوا جُلُوسًا أجْمَعون "(2).
ثانيًا: جاء(3) عن جَمْعٍ من الصحابة - - رضي الله عنهم - - أنَّهم صَلُّوا وهم جُلُوس، وصَلَّى مَن خَلْفَهم جَالِسين.
__________
(1) برقم ( 413 )، ورواه ابن ماجه (1240)، وأحمد ( 3 /334 ).
(2) رواه البخاري ( 689 )، ومسلم ( 411 ).
(3) راجع: " مُصَنَّف ابن أبي شيبة ": ( 2 / 115 )، و" مُصَنَّف عبد الرزاق ": ( 2 / 462 ).(1/339)
إذا تَقَرَّر هذا؛ فهذا الحُكْم إنْ ابتدأ الإمامُ صلاتَه قاعِدًا. أمَّا أن ابتدأ صلاتَه قائِمًا، ثم عَرَضَ له عارِضٌ فَصَلَّى جالِسًا: فهل يُصَلِّي المأمومون جُلوسًا؟ اخْتَلَف أهْل العِلْم في هذه المسألة(1):
1ـ فَذَهَب بعضهم إلى أنَّ: المشروع في حَقِّ المأموم في هذه الحالة الصَّلاة قائمًا. قالوا: والدَّليل على هذا أنَّ أبا بَكْرٍ صَلَّى بالنَّاس قائِمًا في مَرْضِ مَوت الرسول ?، وفي أثناء الصَّلاة رأى النبيُّ ? مِن نَفسه خِفَّةً؛ فأُتيَ به وهو يُهادَى بين العباس وعلي - رضي الله عنهما -، وجَلَس بِجِوار أبي بكر الصديق - - رضي الله عنه - -، وصَلَّى بالنَّاس قاعِدًا، وأبو بكر - - رضي الله عنه - - يُبَلِّغ تَكبيره للنَّاس وهو قائِم، ولم يأمره الرسول ? بالجُلُوس، واسْتَمَرَ الصَّحابة - - رضي الله عنهم - - في الصَّلاة وهو قيامٌ - أيضًا -(2).
وأجابوا عَن حَديث جابر - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم، وفيه: صلاة النَّاس خَلفه ? قُعودًا وأمره ? لهم بِذَلِك: بأنَّه مَنسوخٌ بهذا الحَديث؛ لأنَّ هذا الحَديث في مَرْض موته في آخر حياته ?، والآخِر يَنْسَخ المُتَقَدِّم، كما هو مَعلومٌ.
2ـ واسْتَدَلَّ القائِلون بجُلوس المأمومين بِحَديث جابر - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم. وقد سَبَق جواب الفريق الأوَّل عَنه.
__________
(1) راجع: " المجموع ": ( 4 / 265 )، و" المغني ": ( 2 / 27 ).
(2) رواه البخاري ( 664، 713 )، ومسلم ( 418 ).(1/340)
3ـ وجَمَع بَعْضُ أهْل العِلم(1) بين الحَديثَين جَمْعًا حَسَنًا، فيه تَوفيقٌ بين الأدِلَّة؛ فقالوا: لا يَخْلو الإمام إمَّا أن يَفْتَتِح صلاته جالِسًا أو يَعْرِض له الجُلوس أثناء صَلاتِه: فإنْ افْتَتَح صلاته جالِسًا؛ وَجَب على المأمومين الصَّلاة خَلْفَه وهم جُلوس؛ لحديث جابر - - رضي الله عنه - -، وإنْ عَرَضَ له القُعود أثناء الصَّلاة؛ استمروا في صَلاتِهم وهُم قيام؛ لحديث أبي بكر الصِّديق - - رضي الله عنه - -.
وهذا القول هو الأرْجَح؛ ففيه جَمْع بين النُّصوص في المسألة، وهو أوْلَى مِن النَّسْخ.
وها هُنا قاعِدَة عَظيمة هامًّة؛ وهي: أنَّه " يَنبَغي الجَمع بين النُّصوص ما أمْكَن، قبل: التَّرْجيح، أو دَعْوى النَّسْخ ".
قال: " وإنْ أدْرَك الإمام في الركوع فَبِقَدْر التَّحْرِيمَة ":
لا زال المُصَنِّف - رحمه الله - يَذْكُر الحالات التي يَسْقُط فيها القيام؛ ومِن تِلك الحالات - غير ما سَبَق -: إذا أدْرَك المأموم إمامَه وهو راكِع. قال: " فَبِقَدْر التَّحْريمة "؛ يعني: أنَّ القيام يَسْقُط عَن المأموم إلا قيامًا يكون بِقَدْر تَكبيرة الإحْرام؛ لأنَّ على المأموم - في هذه الحالة - أن يُكَبِّر وهو قائم، ثُمَّ يَرْكَع.
وهل يَجِب على المأموم في هذه الحالة أن يُكَبِّر تَكبيرَتَين: واحِدَة للإحرام والثانية للرُّكوع، أم تَكفيه تَكبيرة الإحرام؟ اخْتَلَف أهْل العِلْم(2) في هذه المسألة على قَوْلَين، الأقْرَب هو القول الثاني؛ فَتَكفيه تَكبيرة الإحْرام، وقد جاء هذا عَن جَمْعٍ مِن السَّلَف.
والدَّليل على هذا التَّرْجيح: القاعِدَة التي تَقول: " إذا اجْتَمَعَت عِبادتان كُبْرَى وصُغْرَى، مِن جِنسٍ واحدٍ = دَخَلت الصُّغْر…ى في الكُبْرَى ".
__________
(1) كالإمام أحمد - رحمه الله -. راجع " المغني ": ( 2 / 28 ).
(2) راجع: " المجموع ": ( 4 / 214 )، و" المغني ": ( 1 / 276، 298 ).(1/341)
ومِن الأدِلَّة على صِحَّة هذه القاعِدَة أنَّ الرسول ? عندما قَرَنَ بين الحَجّ والعُمْرة؛ قال: " دَخَلَت العُمْرَة في الحَج "(1) = يعني: لم تَتَمَيَّز العُمْرَة عَن الحَجِّ بأفعالِها؛ بل تَدْخُل فيه دُخولًا كامِلًا؛ فالقَارِن يَفْعَل مثل أفْعال المُفْرِد، ما عدا الهَدي - فَعَليه أن يَذْبَح هَدْيًا - = فَيَكفي القارِن طوافٌ وَاحِدٌ وسَعيٌ وَاحِدٌ.
فالحَجُّ عِبادَة كُبْرَى والعُمْرَة عِبادَة صُغْرَى، وهُما مِن جِنسٍ واحِدٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعتا دَخَلَت العُمْرَة في الحَجِّ دُخولًا كامِلًا، ولم تَتَمَيَّز عَنه بشىءٍ. نَعم؛ للحَجِّ مناسِك مُخْتَصَّةٌ به؛ كالوقوف بِعَرَفة والمَبيت بمُزدلفة ورَمي الجِمار. هذا لِمَن يَقْرِن بين الحَجّ والعُمْرَة.
أمَّا المُتَمَتِّع الذي يأتي بالعُمْرَة ثُمَّ يَتَحَلَّل مِن إحرامه، ثُمَّ يُحْرِم بالحَجّ: فلا تَدْخُل العُمْرَة في الحَجّ. فللعُمْرَة طواف وسَعيٌ خاصٌّ بها، وللحَجّ طواف وسعيٌ خاصٌّ به.
إذا فَهِمنا هذا؛ فنُطَبِّق تِلك القاعِدَة على تَكبيرة الإحرام وتَكبيرة الهوي للرُّكوع: فهما عِباداتان مِن جِنسٍ واحِدٍ، فلما اجتمعتا دَخَلت العِبادَة الصُّغْرَى مِنهما ( وهي تكبيرة الرُّكوع ) في العِبادَة الكُبْرَى ( وهي تَكبيرة الإحرام ) دُخولًا كاملًا، ويَحْصُل بها الإجزاء.
ومِمَّا يَنبغي التَّنبيه علىه أنَّه لا بُدَّ على المُصَلِّي إذا أدْرَك الإمامَ راكِعًا أن يُكَبِّر عَن قيام، ثُمَّ يَرْكَع، لا كما يفعل بعض المُصَلِّين مِن التَّكبير حال الرُّكوع.
قال: " وتكبيرة الإحرام ركن ":
ثَنَّى المؤلِّف - رحمه الله - بِتَكبيرة الإحرام؛ فهي الرُّكْن الثاني من أركان الصلاة، وقد سبق(2) بَيان الأدِلَّة على رُكنيَّتِها في مَوضِعها مِن صِفَة صلاة النبي ?.
__________
(1) رواه مسلم ( 1241)، وأبو داود ( 1790 )، والترمذي ( 932 ).
(2) ص؟؟؟.(1/342)
ثم قال: " وكذا قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد ":
قِراءَة الفاتِحَة - للإمام والمُنفَرِد - هي الرُّكْن الثَّالِث مِن أرْكان الصَّلاة. أمَّا للمأموم في صَلاة الجَماعَة: ففي المسألة خِلافٌ سَبَق(1) بَسْطُه وبيان أدِلَّة كُلِّ فَريقٍ بما يُغْنِي عَن إعادَته هُنا.
إذا تَقَرَّرَ لدينا ما سَبَقَ؛ عَلِمنا أنَّه ليس بين تَكبيرة الإحرام وبين الفاتِحَة رُكْنٌ؛ وإنَّما يُسَنُّ وَضْع اليَد اليُمنَى على اليُسْرَى على الصَّدر، ودُعاء الاستِفْتَاح، والاستِعاذَة، وقد سَبَق(2) بَسْطُ ذلك كُلُّه.
قال: " وكذا الركوع؛ لقوله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ? [ الحج: 77 ]، ولقوله تعالى ? وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ? [ البقرة: 43 ]، وعَن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن رجلًا دخل المسجد فصلى ثم جاء إلى النبي ? فسلم عليه قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعلها ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق نبيًا لا أحسن غير هذا فعلمني فقال له النبي ?: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها. رواه الجماعة ":
مِن الأدِلَّة على رُكنيَّة الرُّكوع في الصَّلاة:
( 1 ) أمر الله - - سبحانه وتعالى - - به في كِتابِه، كما في الآيَتَين اللَّتين ساقهما المؤلِّف - رحمه الله تعالى -.
( 2 ) قول النبيِّ ? للمُسىء صلاتَه - آمِرًا إيَّاه -: " ثم اركع حتى تطمئن راكعًا "(3)(). وهو حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - الذي ذَكَرَه المُصَنِّف - رحمه الله -.
( 3 ) دَوام الرَّسول ? على فِعْلِه، ولم يأتِ عَنه ? أنَّه تَرَكه في صَلاتِه قَط، وقد قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "(4).
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(4) سبق تخريجه:؟؟؟.(1/343)
ثم قال المصنف - رحمه الله تعالى -: " فَدَلَّ على أن المُسَمَّى في هذا الحديث لا يَسْقُط بحال؛ إذ لو سقطت لسقطت عن هذا الأعرابي الجاهل ":
وَوَجْه ما قاله المُصَنِّف - رحمه الله - ظاهرٌ؛ فقد بَيَّن الرسول ? لهذا الأعرابي أنَّ صَلاتَه التي صَلَّاها لا تَصِحُّ وأمره بإعادَتها؛ لِتَرْكِه ما لا تَصِحُّ الصَّلاة بِدونِه.
واسْتَدلَّ جَمْعٌ مِن أهْلِ العِلْم(1) بهذا الحَديث على أنَّ واجِبات الصَّلاة هي التي ذُكِرَت فيه، وما لم يُذْكَر فيه مِمَّا لم يأتِ الأمرُ به = فليس بواجِبٍ.
قالوا: لأنَّ الرسول ? عَلَّم المُسىء صَلاتَه صِفَة الصَّلاة الصَّحيحة، ولم يَقْتَصِر على تَعليمه ما أخَلَّ به مِن تَرْكِه للطمأنينة = فَعَلَّمه ما أخَلَّ به، وما وَجَبَ عَلَيْه.
قالوا: والمقام مَقام تَعليم؛ فما لم يُذْكَر فيه فليس بواجِبٍ؛ إذْ لو كان واجِبًا لَعَلَّمه الرسول ? لهذا الرَّجُل، ولا يجوز تأخير البيان عَن وَقت الحاجَة.
وذَهَب آخَرون - وهو الصَّحيح - أنَّ واجِبات الصَّلاة لا تَقْتَصِر على ما جاء في هذا الحَديث؛ بل كُلُّ ما أمَر به الرَّسول ? مِن أقوال الصَّلاة وأفعالها يَجِب على المُصَلِّي الإتيان به.
قالوا: وعُموم نُصوص الشَّرْع دالٌّ على هذا؛ فالله - - عز وجل - - يأمُرنا ببعض الواجِبات في آياتٍ، وببعضها في آياتٍ أُخْرَى، وهكذا في نُصوص السُّنَّة. فيكون الواجِب على العَبْد هو كُلُّ ما جاء في هذه النُّصوص، لا الاقتصار على نَصٍّ واحِدٍ مِنها.
قالوا: والشَّرْع نَزَل شيئًا فشيئًا، ولم يَنزِل جُمْلَةً واحِدَةً. والدِّين يُؤخَذ مِن نُصوص الكِتاب والسُّنَّة جَميعِها، لا بعضها؛ فما جاء الأمرُ به يكون واجِبًا، ما لم يأتِ دَليلٌ يَصْرِفه عَن الوُجوب إلى غَيرِه.
__________
(1) راجع:؟؟؟.(1/344)
ومِن الأدِلَّة على هذه المسألة - أيضًا -: أنَّه جاء في " الصحيحين "(1)()، مِن حَديث العباس - - رضي الله عنه - -، لَمَّا أرسل الرسولُ ? مُعاذَ بنَ جَبَلٍ إلى أهل اليَمَن، وأمَرَه بِدَعوَتِهم إلى التَّوحيد، ثُمَّ إقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة. فلم يَذْكُر ? في هذا الحَديث الحَجَّ ولا الصَّيام لِلَّهِ فهل يُقال أنَّهما ليس واجِبَين؟! رغم أنَّهما مِن أرْكان الإسلام بالإجماع.
فإن قيل: لعلها لم يكونا قد فُرِضَا بعْدُ لِلَّهِ قيل: إنْ سَلَّمنا لكم ذلك في الحَجّ ( للخِلاف في وَقت فَرْضيَّته: هل هو في السَّنَة الخامِسَة أم التَّاسِعَة ) = فلا يُسَلَّم لكم ذلك في الصِّيام؛ لأنَّه فُرِضَ في السَّنَة الثَّانية مِن الهِجْرَة، والرسول ? أرْسَل مُعاذَ بن جَبل إلى اليَمَن بعد السَّنة الثَّانية لِلَّهِ
فَدَلَّ هذا على ما قُلناه - أنَّ الواجِب يؤخَذُ مِن جَميع النُّصوص، لا بعضها دون البَعْض -، والحمد لله.
ومِن فوائِد حَديث المُسىء صَلاتَه: " عَدَم مُؤاخَذَة العَبْد إذا لم يَبْلُغْه الأمر مِن الكِتاب أو السُّنَّة، أو كان مُتأوِّلًا. فلا يُطالَب بإعادَة ما فَرَّط فيه حال جَهْلِه أو تأويلِه ".
ووَجْه الدَّلالَة مِنه: أنَّ ظاهِرَه يُفيد أنَّ الأعْرابي كان يُصَلِّي طيلةَ حَياتِه على نَفْسِ صُورَة تِلك الصَّلاة التي صَلَّاها أمامَ النبي ?؛ فقد قال: " والذي بعثك بالحق؛ ما أُحْسِن غيره؛ فَعَلِّمني ". ومع ذلك؛ فلم يأمُرْه ? أن يُعيد كُلَّ صَلواتِه السَّابِقَة؛ وإنَّما بَيَّن له أنَّها لا تَصِحّ، وعَلَّمَه صِفَة الصَّلاة الصَّحيحة. وذلك لِجَهْلِه.
__________
(1) رواه البخاري ( 1395 )، ومسلم ( 19 )، وأبو داود ( 1584 )، والترمذي ( 625 )، والنسائي ( 2435 )، وابن ماجه ( 1783 ).(1/345)
ويَدُلُّ لهذه القاعِدَة قولُه - - عز وجل - - ? وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ? [ الأنعام: 19 ]. يعني: أُنْذِرَكم بهذا القُرآن ومَن بَلَغْته النذَارَة. وهذا الجاهِل أو المُتأوِّل ما بَلَغَه الأمرُ مِن الكِتاب أو السُّنَّة.
ولأهل العلم تفصيل في هذه المسألة ولكن لعل ما تقدم هو الأرجح.
ومِن أدِلَّة هذه القاعِدَة - أيضًا -:
( 1 ) ما جاء في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث عَدِيِّ بِنِ حَاتِم - - رضي الله عنه - - قال: لَمَّا نَزَلت ? حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ? [ البقرة: 187 ] قال له عَدِيُّ بن حاتِم: يا رَسولَ الله؛ إني أجْعَل تحتَ وِسادَتي عِقالَين: عِقالًا أبيضَ وعِقالًا أسْوَدَ؛ أعْرِفُ اللَّيل مِن النَّهار؟ فقال رَسول الله ?: " إن وِسَادَك لَعَرِيضٌ؛ إنَّما هو سَوادُ اللَّيل وبَيَاض النَّهار".
ووَجْه الدَّلالَة مِن الحَديث: أنَّ عَدي - - رضي الله عنه - - كان يتأوَّل هذه الآيَة على ما تَقَدَّم، ولم يَكُن يَدْري أنَّ المَقصود مِنها: بَيان بياض النَّهار مِن سَواد اللَّيل ( يعني: طُلوع الفَجر ). فَبيَّن له الرسول ? المُراد، ولم يأمُرْه بإعادَة ما مَضَى مِن صِيامِه ( رغم فَسادِه؛ لأكله بعد طُلوع الفَجْر والإسْفَار )؛ لحال جَهْلِه بالحُكْم.
( 2 ) وأيضًا: حَديث المُسْتَحَاضَة(2) التي كانَت تَدَع الصَّلاة أيام استحاضتها؛ لِظَنِّها أنَّ الاستحاضَة كالحَيْض حُكْمًا. فَلَمَّا أخْبَرت الرسول ? بِذَلِك بَيَّن لها حُكْم الاسْتِحاضَة، ولم يأمُرْها بإعادَة ما مَضَى مِن صَلواتها.
__________
(1) رواه البخاري ( 4509 )، ومسلم - واللفظ له - ( 1090 )، وأبو داود ( 2349 )، والترمذي ( 2971 ).
(2) رواه البخاري ( 228 )، ومسلم ( 333 )، وأبو داود ( 282 )، والترمذي ( 125 )، والنسائي ( 212 )، وابن ماجه ( 621 ).(1/346)
ثم قال: " والطمأنينة في هذه الأفعال رُكْنٌ ؛ لما تقدم، ورأى حذيفة رجلًا لا يُتِمُّ رُكوعه ولا سُجودَه؛ فقال له: ما صليتَ، ولو مُتَّ لمُتَّ على غَيرِ فِطْرَة الله التي فَطَرَ عليه مُحَمَّدًا ? ":
يَعني: أنَّ الطَّمأنينَة في أفْعال الصَّلاة التي تَقَدَّم ذِكْرُها في حَديث المُسىء صَلاتَه ( كالرُّكوعِ والرَّفعِ مِنه والسُّجودِ والجِلْسَة بين السَّجْدَتَين، وغيرها مِن أفعال الصَّلاة ) = رُكْنٌ مِن أرْكان الصَّلاة، لا تَصِحُّ الصَّلاة بدونها؛ فَمَن تَرَكَها بَطَلَت صَلاتُه.
والدَّليل على رُكنية الاطْمِئنان قوله ? للمُسىء صَلاتَه: " ثُمَّ ارْكَع حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا... ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ". فأمَرَه ? بِفِعْل ما أخَلَّ به في صَلاتَه ( وهي الطمأنينة )، بَعْد أن بَيَّن له أنَّ صَلاتَه التي صَلَّاها لا تَصِحُّ وأمره بإعادَتها ( بقوله: " ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ " )؛ لِتَرْكِه ما لا تَصِحُّ الصَّلاة بِدونِه. فَدلَّ هذا على رُكْنيَّة الطمأنينة في جَميع أفعال الصَّلاة.
واسْتَدَلَّ المُصَنِّف - رحمه الله - بهذا الحَديث على رُكنيَّة الاطمئِنان في الصَّلاة وغيره مِمَّا وَرَدَ فيه.
ومسألة الطمأنينة في الصَّلاة مِن المَسائِل الهامَّة جِدًّا التي أخَلَّ بها الكثيرُ مِن المُصَلِّين في عَصْرِنا هذا، بل عُهِدَ ذلك في عَهْد الرَّسُول ?؛ كما يَدُلُّ عليه حَديث المسىء صلاتَه، ثُمَّ في عَهد الصَّحابة - - رضي الله عنهم - -؛ كما دَلَّ عليه حَديثُ حُذيفة بن اليَمان - - رضي الله عنه - - الذي سَاقَه المُصَنِّف - رحمه الله -، وهو في " صحيح البُخارِي "، وقد سَبَق(1) الكلامُ عَليه وتَخريجه فيما مَضَى.
__________
(1) ص؟؟؟.(1/347)
وروى ابن أبي شيبة في " مُصَنَّفِه "(1)، من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - موقوفًا عليه مِن قوله: " إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي سِتينَ سَنَّة ما تُقْبَل له صَلاة؛ لَعَلَّه يُتِمُّ الرُّكُوعَ ولا يُتِمُّ السُّجُودَ، ويُتِمُّ السُّجُودَ ولا يُتِمُّ الرُّكُوعَ " = يعني: لا يَطْمَئِنّ في رُكُوعِه وسُجودِه.
وليس هذا حال عامَّة المُصَلِّين فَحَسبُ؛ بل وحال بعض الأئمة ونُوابِّهم الذي يَؤمُّون النَّاس في صَلاة الجَماعَة لِلَّهِ فَبَعْضُهم يَتَعَجَّلون في صَلاتِهم عَجَلة شَديدة، لا تُمَكِّن النَّاس مِن الاطمِئنان في صَلاتِهم؛ فيَعتادوا بذلك على العَجَلة وتَرك الطَّمأنينة في الصَّلاة لِلَّهِ وهذا يَكْثُر في مَساجِد المَحَطَّات ونحوها، حتى قد يَضْطَرّ بعضُ النَّاس - لِعَجَلَة الإمام في الصَّلاة - إلى تَرْك الصَّلاة، والصَّلاة مُنفَرِدًا لِلَّهِ وأنا قد أضْطَرُّ لذلك أحيانًا لِلَّهِ
ونَفس هذا الأمر يَعتادونَه في قِراءَة الصَّلاة الجَهْريَّة؛ فَيَتَعَجَّلون في القِراءَة عَجَلة شَديدة، كأنَّهم يُلاحَقون مِن غَيرهم لِلَّهِ فلا يَدْرِ المأمومون ماذا يقرأون لِلَّهِ
وتَجِد الواحِد مِن هؤلاء يُضَيِّع السَّاعات الطُّوال في الكلام والقَهْقَهة ونحوها مِن أُمور الدُّنيا، أمَّا في الصَّلاة فلا نَدْري ما الذي يُلاحِقه فيها؟!
والحقيقة أنَّ هذا اسْتِخْفافٌ بالصَّلاةِ وقَدْرِها، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون.
فينبَغي تَعْزير أمثال هؤلاء تَعْزيرًا بالِغًا. والواجِبُ على العُلَمَاء وطَلَبَة العِلْم وأئمة المَساجِد التَّنبيه على هذه مسألة الطمأنينة في الصَّلاة.
__________
(1) " المُصَنَّف ": ( 1 / 257 )، وسبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/348)
قال: " والتشهد الأخير ركن؛ لقول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل، فقال النبي ?: " لا تقولوا هكذا ولكن قولوا التحيات لله.. " رواه النسائي ورواته ثقات ":
اسْتَدَلَّ المُصَنِّف - رحمه الله - على رُكْنيَّة التَّشَهُّد الأخير بِحَديث عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم.
وقد رواه بزيادة " قبل أن يُفْرَض علينا التَّشَهُّد " - وهي مَوْضِع الشَّاهِد مِنه - النَّسائيُّ والدَّارَقُطْنِي ( ومِن طَريقه البيهقيُّ ) (1).
والحَديث رواتُه ثِقات، كما قال المُصَنِّف - رحمه الله -:
فقد رواه النَّسائيُّ: عَن سَعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن الأعمش ومرزوق، كِلاهما عن أبي وائل عن عبد الله به.
فسعيد ثِقَة، وسُفيان إمام جَليل، والأعمَش مِن كِبار الحُفَّاظ، وأبو وائِل مِن أجِلَّة التَّابِعين.
وصَحَّح الدَّارَقُطْنِيُّ إسْنادَه في " سُنَنِه"، ونَقل ذلك عَنه البيهقيُّ، ولم يَتَعقَّبَه بشىء. وصَحَّح إسْنادَه - أيضًا - الحافظ في " الفَتح "(2).
…إلا أنَّ الحَديث بهذه الزِّيادَة لم يأتِ - فيما أعْلَم - إلا مِن هذا الطَّريق المُتَقَدِّم، والحَديث في " الصَّحيحين "(3) مِن طُرُق عَديدة عَن الأعْمَش وغيره، مِن حَديث عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - -، وليس فيه هذه الزِّيادَة.
ورواه البخاريُّ مِن طُرُقٍ عَديدة ليس فيها هذه الزِّيادَة:
__________
(1) رواه النَّسائيُّ في " الصُّغْرَى ": ( 1277 )، وفي " الكبرى ": ( 1 / 378 )، والدَّارَقُطْنِيُّ في " سُنَنِه ": ( 1 / 350 ) - ومِن طريقه البيهقيُّ في " سُنَنِه الكبرى ": ( 2 / 138 ) -.
(2) " فتح الباري ": ( 2 / 312 ).
(3) رواه البخاري في عِدَّة مواضِع مِن " صَحيحه ": (7381، 835، 6230، 6328)، ومسلم ( 402 ).(1/349)
فرواه مِن طَريق يحيى بن سعيد القطان(1)، ومِن طَريق مُجاهِد عن عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود(2)، ومِن طَريق غيرهما.
فَيَتَرَجَّح بذلك أنَّ في صِحَّة هذه الزِّيادَة نَظَرًا؛ وذلك لأمور:
الأوَّل: ما تَقَدَّم.
الثَّاني: أنَّ هُناك مَن هو أجَلُّ بالأعْمَش مِن سُفيان بن عُيَيْنَة - كيحيى بن سَعيد القَطَّان - قد رَوَى الحَديث بدون هذه الزِّيادَة، كما مَرَّ.
وابن عُيَيْنَة ليس مِن المُقَدَّمين في أصْحاب الأعْمَش؛ فَرِوايَته عَنه ليست كَبيرَة. بِخلاف: الثَّوْرِي، وشُعْبَة، وأبي مُعاوية، ويحيى بن سعيد القطان، وحَفْص بن زِياد، وَوَكيع بن الجراح، وغيرهم؛ فَهؤلاء مُقَدَّمون في رِوايتهم عن الأعْمَش. رَحِمَ اللهُ الجَميع.
الثَّالِث: أنَّ سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ( الرَّاوي عَن ابن عُيَيْنَة ) قد سَمِع مِنه في أواخِر عُمرِه - فيما يَظْهَر -؛ لأنَّه تُوفي عام 249، وتُوفي سُفيان عام 198، فهو مُتأخِّرٌ عَنه. وحَديث سُفيان القَديم أصَحُّ مِن حَديثه المُتأخِّر؛ لأنَّه لَمَّا تَقَدَّمَت به السِّن ( فقد مات عَن واِحد وتِسعين سنة تقريبًا - وُلِد عام 107 - ) تَغَيَّر حِفْظُه قليلًا؛ ولِذا رُوي عَنه أنَّه قيل له: كُنتَ تَكْتُبُ الحَديثَ، وتُحَدِّثُ اليومَ وتَزيدُ في إسنادِه أو تَنقُصُ مِنه؟ فقال: عَلَيْك بالسَّمَاع الأوَّل(3). وهذا لَعَلَّه هو الذي دَعا يحيى بن سَعيد القَطَّان أن يَرميه بالاخْتِلاط(4)؛ فَلَعَلَّه يُريد بالاخْتِلاط: التَّغَيُّر القَليل الذي حَصَل لِحِفْظِه لَمَّا تَقدَّمَت به السِّنّ، وهذا مِن طَبيعة البَشَر.
__________
(1) وهو برقم ( 835 ).
(2) برقم ( 6265 ).
(3) راجع: " تَهذيب التَّهذيب ": ( 4 / 107 ).
(4) راجع: " كتاب المُخْتَلِطِين " / للعَلائِي: ( ص 45 )، و" تَهيب الكَمال ": ( 11 / 196)، و" تَهذيب التَّهذيب ": ( 4 / 106 )، و، و" مَن رُمي بالاختلاط " / للطرابلسي: ( ص 59 ).(1/350)
نَعم؛ حَديث سُفيان بن عُيَيْنَة حُجَّة مُطْلَقًا؛ إلا أنَّ بَعْضَ أحايثَه أصَحُّ مِن بَعْض.
…وأمَّا مَرْتَبَة حَديث سُفيان - مِن حَيث القُوَّة - بالنِّسْبَة لشُيوخِه؛ فهو على ثَلاثة أقسام:
القِسْم الأوَّل ( شيوخٌ كان فيهم سُفيان في الدَّرَجَة العُليا مِن الصِّحَة ): مِثل: عَمرو بن دِينار والزُّهْرِي؛ فهو مِن أثْبَت النَّاس فيهما، خاصَّةً في روايته عَن ابن دينار.
القِسْم الثَّاني ( شيوخٌ روايته عَنهم صَحيحه، ولكنها دون الأوُلَى في الرُّتْبَة ): كَروايَتِه عَن غيرِ ابن دِينار والزُّهْرِي، فيما لم يُتَكَلَّم في رِوايَتِه عَنهم.
القِسْم الثَّالِث ( شيوخٌ تُكُلِّم في رِوايَته عَنهم ): وهُم شُيوخه الصِّغار، كالأعْمَش وغيرِه. فقد تَكَلَّم عليُّ بن المَديني - رحمه الله - في رِوايَة سُفيان عَن شُيوخِه الصِّغار.
فالخُلاصَة مِن هذه الزِّيادَة: أنَّ فيها بَعْضَ النَّظَرِ.
نَعم؛ يُسْتَدَلُّ لِرُكنيَّة التَّشَهُّد الأخير بأمر النبي ? به في حَديث ابن مَسعود - - رضي الله عنه - - ؛ فقد قال: " قُولو التَّحيات لله "، وهو في " الصَّحيحين "(1)() .
إذا تَقَرَّر لدينا هذا؛ فالتَّشَهُّد الأخير والجُلوس له رُكْنٌ مِن أرْكان الصَّلاة.
قال: " والواجبات التي تَسْقُط سَهْوًا ثمانية ":
…لَمَّا انتَهى المؤلِّفُ - رحمه الله - مِن ذِكْرِ أرْكانِ الصَّلاةِ؛ شَرَعَ في بَيان واجِباتها.
وَواجِبات الصَّلاة: هي ما يَجِب على المُصَلِّي الإتيان به في صَلاتِه، لكنه يَسْقُط حالَ النِّسيان، ويَجْبُره سُجودُ السَّهْوِ. فإن تَعَمَّد المُصَلِّي تَرْكَ واجِبٍ مِنها بَطُلَت صلاتُه في الحال؛ لأنَّه أخَلَّ بِهيئَةِ الصَّلاة وغَيَّر مِنها، ولم يأتِ بالصَّلاة المَشروعَة التي شَرَعها لنا رَبُّنا - جَلَّ وعَلَا -. ولذا قال المُصَنِّف - رحمه الله -: " تَسْقُط سَهْوًا ".
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/351)
ثُمَّ قال: " التَّكبيرات غَير الأُولَى ":
بدأ المُصَنِّف - رحمه الله - بِذِكْر أوَّل واجِبات الصَّلاة - وهو التَّكبير -.
وتَكبيرات الصَّلاة على قِسْمَين - مِن حَيث حُكْمِها -، كَما يَدُلُّ عليه كَلام المُصَنِّف:
القِسْم الأوَّل: رُكْنٌ. وهي تَكبيرة الإحرام، التي عَناها بقوله " غير الأُولَى ". وقد سَبَق بَسْطُ أدِلَّةِ رُكنيَّتِها؛ فليُراجَع.
القِسْم الثاني: واجِبَة. وهي باقي تَكبيرات الصَّلاة.
وقد اخْتَلَف أهْلُ العِلْم في وُجوب غَير تَكبيرة الإحْرام، على ثَلاثَة أقوال(1):
القَول الأوَّل: وُجوب جَميع تَكبيرات الصَّلاة، كما هو اختيار المُصَنِّف.
القَول الثَّاني: سُنيَّة جَميع تَكبيرات الصَّلاة، وعَدم وُجوبها.
القَول الثَّالِث: يَسْقُط الواجِب بالإتيان بِبَعْض التَّكبيرات. يعني أنَّ أصْحَابَ هذا القَولِ لم يُوجِبُوا جَميعَ تَكبيراتِ الصَّلاة.
ولعلَّ الأقْرَب - واللهُ أعْلَم - هو القَول الثَّاني؛ وهو أنَّ هذه التَّكبيرات ليست واجِبَة، إلا للإمام في صَلاة الجَماعَة؛ لحال اقتداء مأمومِه به؛ فَيَجِب على الإمام أن يُسْمِع مأمومَه تَكبيراتَه لأجل الاقتداء به، وهذا الاقتداء لا يَتِمُّ إلا بإسماع المأموم تَكبيرات الصَّلاة، وما لا يَتِمُّ الواجِب إلا به فهو واجِب = فتكون تَكبيرات الإمام واجِبَة عَليه دون غيره.
وهذا التَّفريقُ بين صَلاة الجَماعَة وغيرها له أصْلٌ في السُّنَّة؛ فقد يَجِبُ فيها ما لا يَجِب في غَيرِها، مِثل: مُتابَعَة المأمومِين لإمامِهم؛ فهذا واجِبٌ عَلَيْهِم؛ وإلا لَمَا صَحَّت جَماعَتُهم. أمَّا إنْ صَلَّى الإنسانُ وَحْدَه فهو - بداهَةً - غَيْرُ مأمورٍ بِمُتابَعَةِ أحَدٍ.
والدليل على هذا التَّفصيل والتَّفريق:
__________
(1) راجع: " المُغني ": ( 1 / 293، 367 )، و" المجموع ": ( 3 / 397 ).(1/352)
( 1 ) أن الرَّسول ? لم يأمُر بها - فيما أعْلَم -، بل قال ? للمُسىء صلاتَه(1): " أسْبِغ الوُضوء، ثُمَّ اسْتَقْبِل القِبْلَة، ثُمَّ كَبِّر، ثُمَّ اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثُمَّ ارْكَع حتى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَع حتى تَعْتَدِلَ قائِمًا... " الحَديث، ولم يأمُرْه فيه بالتَّكبير. فَدَلَّ هذا على عَدَم وُجوبِه.
( 2 ) أنَّه اشْتهر في عَهْد بَني أُمَيَّة - بل وقَبْلَهم - تَرْك بَعْض تَكبيرات الصَّلاة، وكان هذا في مَحْضِر ومَرأى بَعْض الصَّحابَة - - رضي الله عنهم - - مِمَّن لا يزال حيًّا على عَهْدِهم، وكانوا يُصَلُّون خَلْفَهم، ولم يُنْكِروا عَلَيْهِم ذَلِك(2).
ولِذا لَمَّا صَلَّى عليُّ بنُ أبي طالِب - - رضي الله عنه - - وكَبَّر بِكُلِّ هذه التَّكبيرات؛ قال عِمران بن حُصَيْن - - رضي الله عنه - -: " ذَكَّرَنا هذا الرَّجُل صلاةً كُنَّا نُصَلِّيها مَع رسول الله ? "(3)؛ لأنه ? كان يُكَبِّر كُلَّ التكبيرات في صَلاتِه.
قال: "والتَّسْمِيع للإمَام والمُنفَرِد ":
اعْلَم أنَّ التَّسميع لا يَجِبُ على كُلِّ مُصَلٍّ؛ وإنَّما هو واجِبٌ على الإمام والمُنفَرِد، بِخلاف المأموم. ويَجِب عَلَيْهم جَميعًا التَّحميد بَعْدَ الرَّفْع مِن الرُّكوع؛ ولِذا قال المُصَنِّف - رحمه الله تعالى -: " والتَّحْمِيد للكُلّ ". وقد سَبَقَ(4) بَسْطُ ذلك في مَوضِعِه مِن صِفَة صلاة النبي ?.
قال: " وتَسبيحُ رُكوعٍ وسُجودٍ، وقولُ: رَبِّ اغْفِر لي ":
وقد سَبَق(5) بيانُ ذلك بأدِلَّتِه في مَوضِعِه مِن صِفَة صلاتِه ?؛ فليُراجَعَ.
قال: " والتَّشَهُّد الأول والجُلوس له ":
وأمَّا الدَّليل على وُجوب التَّشَهُّد الأوَّل:
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟، وهذا اللفظ رواه ( 6251، 6667 )، ومسلم ( 397).
(3) رواه البخاري ( 784 )، ومسلم ( 393 )، وأبو داود ( 835 )، والنسائي ( 1082 ).
(4) ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.(1/353)
( 1 ) أمْر النبي ? به؛ فقد قال: " قُولوا التَّحيات لله "، وهو في " الصَّحيحين "(1)، مِن حَديث عبد الله بن مَسعود - - رضي الله عنه - -.
ولِذا غايَر المُصَنِّف بين التَّشَهُّد وبين الجَلوس له؛ فَجَعلَهما واِجبَين لا واجِبًا واحِدًا.
( 2 ) أنَّ النبي ? سَجَدَ للسَّهْو لَمَّا تَرَكَه(2)؛ وهذا دَالٌّ على وُجوبِه.
قال: " وما عدا ذلك سُنَن أقوال وأفعال ":
لَمَّا انتَهى المؤلِّف - رحمه الله - مِن ذِكْر واجِباتِ الصَّلاة؛ شَرَعَ في بَيان سُنَنِها وما يُسْتَحَبُّ فيها. وتُسْتَحَبُّ السُّنَن الآتيَة لعُموم المُصَلِّين، سواءً كان إمامًا أو مُنفَرِدًا أو مأمومًا.
ويُعْلَم بهذا أنَّ ما عَدا الأرْكان والواجِبات فهو مِن مُسْتَحَبَّات الصَّلاة.
ويَنبَغي على المُسْلِم الحِرْصُ على الإتيان بِسُنَنِ النبي ? عامَّةً، وسُنَنِ الصَّلاة خاصَّةً، أقوالِها وأفعالِها، وألا يَتساهَلَ في ذلك. وقد أمَرَنا رَبُّنا - - عز وجل - - بالاتِّباع المُطْلَق لرسوله ?؛ فقال ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) ? [ الأحزاب: 21 ]، فهو ? القُدْوَة والأُسْوَة. وقد أمَرَنا ? باتِّباع سُنَّتِه؛ فقال: " عَلَيْكُم بِسُنَّتي... " الحَديث(3)، وقد جاء هذا مِن حَديث العِرْبَاض بن سَاريَة - - رضي الله عنه - - ، وهو حديثٌ صحيحٌ. وخَصَّ ? الصَّلاة بِمَزيد عِنايةٍ فقال: " صَلُّوا كَما رأيتُمُونِي أُصَلِّي"، وهو في " الصحيحين "(4)، مِن حَديث أبي قِلابَة عن مَالِك بن الحُوَيْرِث - - رضي الله عنه - -.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) سيأتي تخريجه: ص؟؟؟.
(3) رواه أبو داود ( 4607 )، والترمذي ( 2676 )، وابن ماجه ( 42 ).
(4) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/354)
وهذه السُّنَن تَنقَسِمُ إلى: سُنَن أقوالٍ وأفْعالٍ. بل وأركان الصَّلاة وواجِباتها تَنقَسِم إلى هذين القِسْمَين - أيضًا -، وقد سَبَق بيانُ الدَّليل على هذا التَّفصيل.
ثُمَّ قال: " وسُنَن الأقوال سبعة عشرة: الاستفتاح والتعوذ والبسملة والتأمين ":
وفي بَعْض هذه السُّنَن خِلافٌ وتَفريعات، سَبَق(1) بيانُها تَفصيليًّا في مواضِعِها مِن صِفَة صلاة النبي ?؛ فراجِعها.
قال: " وقِراءة السُّورَة في الأولَيَيْن، وفي صَلاة الفَجْر والجُمُعة والعِيد والتَّطَوُّع كُلّه ":
…والمُراد بقوله: " الأوُلَيَيْن " يعني: مِن الصَّلاة الثُّلاثيَّة أو الرُّباعيَّة؛ ولذلك قال: " وفي صَلاة الفَجْر والجُمُعة والعِيد والتَّطَوُّع كُلّه "، وأطْلَق ولم يُقَيِّد؛ لأنَّ هذه الصَّلوات كُلَّها رَكْعَتان فَحَسبُ، إلا التَّطَوُّع: ففيه خِلافٌ سيأتي(2)، واختار المُصَنِّف - رحمه الله - عَدَم مَشروعيَّة الزِّيادَة على الرَّكْعَتَين فيه؛ ولذا أطْلَقه ولم يُقَيِّده. وتَقَدَّم(3) الكلامُ على الخِلافِ في هذا؛ فراجِعْه.
أمَّا سُنيَّة قِراءَة سُورَة بعد الفاتِحَة مِن الأوُلَيَيْن: فقد سَبَقَ(4) بَسْطُ ذلك بأدِلَّتِه في مَوضِعِه؛ فراجِعْه هُناك.
قال: " والجَهْر والإخْفَات ":
يُريد المُصَنِّف - رحمه الله - بهذا: الجَهْر في مَواضِع الجَهْر، والمُخافَتة فيما يُخافَت فيه في الصَّلاة.
فمِن مَواضِع الجَهْر: جَهْر الإمام في صَلاة الجَماعَة بالتَّكبير، والقِراءَة في الأوُلَيين - في الصَّلاة الجَهْريَّة -، والتأمين - والمأموم أيضًا -، والتَّسميع، والسَّلام، وغيرها.
ومِن مَواضِع المُخافَتَة: دُعَاء الاسْتِفْتَاح، والتَّعَوُّذ، والبَسْمَلَة، والقِراءَة في الأوُلَيين للإمام - في الصَّلاة السِّريَّة - والتَّشَهُّد، وغيرها.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) ص؟؟؟.(1/355)
وفي بعض هذه المواضِع خِلافٌ بين أهْلِ العِلم، سَبَقَ(1) بَسْطُه كُلٌّ في مَوضِعِه مِن صِفَة صلاة النبي ?، وبَعْضها لا يُخْتَلَف في الإسْرار فيه أو الجَهر.
إذا ثَبَتَ هذا؛ فلا بأس بالجَهْر فيما يُسَنُّ المُخافَتَة فيه بِغَرَضِ تَعليمِ النَّاس. كما جَهَر عبدُ الله بنُ عباس - رضي الله عنهما - بالقراءَة في صَلاة الجَنازَة، ولَمَّا سَلَّم قال: " لِيَعْلَموا أنَّها سُنَّة "(2). وكان عُمَرُ بن الخَطَّاب - - رضي الله عنه - - يَجْهر بِدُعاء الاسْتِفْتَاح: " سُبحانك اللهُمَّ وبِحَمْدِك... "(3)؛ يُريد أن يُعَلِّمه الناس.
ثُمَّ قال: " وقول: مِلء السماء والأرض... إلى آخره ":
…يعني أنَّ ما زاد على قَول: " رَبَّنا لك الحَمْد " بعد الاعْتِدال مِن الرُّكُوع = فهو سُنَّة. فإذا قال الإمامُ " سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه "؛ سُنَّ له ولمأمومِيه أن يقولوا " رَبَّنا ولك الحَمْد، مِلء السَّماء والأرْض... " إلى آخِرِه. والسُّنَّة في هذا الذِّكْر الإسْرار لا الجَهْر لِجَميع المُصَلِّين.
قال: "ومَا زَادَ على مَرَّةٍ في تَسبيحِ رُكُوعٍ وسُجُودٍ ة وقَولِ: رَبِّ اغْفِر لي":
سَبَق(4) أن بَيَّنا أنَّه يُجزىء المُصَلِّي أن يَقول " سُبْحان رَبيَ العَظيم " في الرُّكوع، و" سُبحان ربيَ الأعْلَى " في سُجودِه، و" رَبِّ اغْفِر لي " بين السَّجْدَتَين، مَرَّةً واحِدَةً فقط، ويَسْقُط عَنه الواجِب بهذه المَرَّة.
وأمَّا ما زاد عَن المَرَّة في كُلِّ هذا فهو سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لا يَجِب:
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 1335 ).
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(4) ص؟؟؟.(1/356)
فأمَّا الدَّليل على عَدَمِ وُجوبِها: فهو أنَّ الرسول ? أمَرَ بها أمرًا مُطْلَقًا ولم يُقَيِّده بِعَدَدٍ مَحدودٍ(1)، و" الأمر المُطْلَق يَكفي للامتِثال به الإتيان به مَرَّةً واحِدَةً "، وهذا أقَلُّ حَدٍّ له. ولو أراد الشَّارِعُ مِن العَبْدِ تِكرارَ الأمرِ أكثر مِن مَرَّةٍ لَبَيَّن ذلك.
ومِن الأدِلَّة على تِلك القاعِدَة الأُصوليَّة:
( 1 ) ما ثَبَتَ في " الصَّحيحين "(2)، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? قال: " أيُّها النَّاس؛ قد فَرَضَ اللهُ عليكم الحَجَّ فَحُجُّوا ". فقال رَجُلٌ: أكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ الله؟ فَسَكَت - عليه الصلاة والسلام -، حتى قالها ثلاثًا؛ فقال رَسول الله ?: " لو قلتُ نَعَم لَوَجَبَت، ولَمَا اسْتَطَعْتُم "، ثُمَّ قال: " ذَروني ما تَرَكْتُكم؛ فإنما هَلَكَ مَن كان قَبْلَكُم بِكَثْرَةِ سُؤالِهم واخْتِلافِهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتُكم بشىءٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُم، وإذا نَهيتُكم عَن شىءٍ فَدَعُوه ".
والشَّاهِدُ مِن الحَديث: أنَّ النبي ? كَرِه سؤالَ السَّائِل؛ لأنَّ أمْرَه المُطْلَق ? بالحَجّ يَكفي للامتِثال به الإتيان به مَرَّةً واحِدَةً، ولو كان الواجِبُ هو الحَجُّ زيادَةً عَن المَرَّة لَبيَّن ذلك رسول الله ? أحْسَنَ بيانٍ.
__________
(1) راجع: ص؟؟؟.
(2) رواه مسلم ( 1337 )، والبخاري ( 7288 ) - دون سَبَبِ الحَديث -، والنسائي (2619 ).(1/357)
( 2 ) ومِن الأدِلَّة - أيضًا -: ما ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث أبي سُهَيْل عن أبيه عن طلحة بن عُبيد الله - - رضي الله عنه - - في قِصَّةِ الأعْرابي الذي جَاء مِنْ أهل نجد يَسألُ عَن الإسْلام؛ فقال له الرَّسولُ ?: " خَمس صلوات في اليوم والليلة "؛ فَبيَّن له ? عَدد ما يَجِبُ على العَبْد أداؤه مِن الصَّلوات في اليومِ والليلة، ولو كان الواجِبُ أكْثَرَ مِن ذلك لَبيَّنَه له ولم يُبْهِمْه.
وأمَّا الدَّليل على سُنيَّة تِكرارها: فلأنَّ هذا ثَبَتَ في صِفَة صلاة النبي ?، كما تَقَدَّم(2) ذلك في مَواضِعِه.
ثُمَّ قال المصنف - رحمه الله تعالى -: " والتَّعَوُّذ مِنَ الأرْبَع في التَّشَهُّد الأخير ":
سَبَق(3) بَيانُ اختلافِ العُلماءِ في هذه المسألةِ، وأدِلَّةِ كُلِّ فَريقٍ مِنهم؛ فراجِعْه في مَوضِعه.
أمَّا الأرْبَع المَقصودَة في كَلام المؤلِّف - رحمه الله - فهي: عَذاب جَهَنَّم، وعَذاب القَبْر، وفِتْنَة المحيا والممات، وفِتْنَة المسيح الدَّجَّال. وقد سَبَق(4) تَفصيل مَعانيها والمُراد مِنها في مَوضِعه؛ فليُراجَعَ.
قال: " والصلاة على آل النبيِّ ? ":
تَقَدَّم(5) مَعنا - على الرَّاجِح - أنَّ الصَّلاةَ على النبيِّ ? واجِبَةٌ إذا ذُكِرَ، سواءً في الصَّلاة أو في غيرها، أمَّا إذا تَعَدَّد ذِكْرُه ? في المَجْلِس الواحِد: فيُكْتَفَى بالصَّلاة عَلَيْه مَرَّةً وَاحِدَة، ومَن كَرَّرها فهو أفْضَل. وذَكَرَنا الأدِلَّة على هذا.
__________
(1) رواه البخاري ( 46 )، ومسلم ( 11 )، وأبو داود ( 391 )، والنسائي ( 458 ).
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) ص؟؟؟.
(5) ص؟؟؟.(1/358)
وأمَّا الصَّلاة على آلِه ? فهي مُسْتَحَبَّةٌ ليست واجِبَةً ؛ وذلك لأنَّا أُمِرْنا - في أكثر الأحاديث - بالصَّلاة على النبي ?، ولم نُؤمَر بالصَّلاة على آلِه. ويَدُلُّ عليه حَديث: " البخيلُ مَن ذُكِرْتُ عِندَه ثُمَّ لم يُصَلِّ عَليَّ "(1).
قال " البركة عليه وعليهم ":
مَعنى ( البَرَكَة ): قولنا " اللهم بارِك على محمد وعلى آل مُحَمَّد... ".
والمُراد بـ ( عَلَيْه وعَليهم ) يعني: على نبيِّنا مُحَمَّد وعلى آل بَيْتِه ?، وقد تَقَدَّم مَعنا خِلاف العُلماء في تَعيين آل بَيْتِه ?؛ فلا مَعنى للتِّكْرار.
إذا فَهِمنا هذا؛ فاعْلَم أنَّ البَرَكَة على النبي ? وعلى آله مُسْتَحَبَّةٌ ليست واجِبَة؛ وذلك لأنَّ الأمر إنَّما جاء بالصَّلاة على النبي ? فَحَسْبُ، والبَرَكَة زِيادَة على الصَّلاة.
وبهذا تَنتَهي سُنَن الأقوال السَّبع عَشْرَة. ثُمَّ شَرَعَ المُصَنِّف - رحمه الله - في بَيان سُنَن الأفعال؛ فقال:
" وما سوى ذلك فسنن أفعال؛ مثل: كون الأصابع مضمومة مبسوطة مستقبلاً بها القبلة عند الإحرام والركوع والرفع منه، وحطهما عقب ذلك ":
وقد سَبَق(2) بَيان ذلك - بأدِلَّته - تَفصيليًّا - في مَوضِعِه مِن صِفة صلاة النبيّ ?.
والمُراد بقوله " وحطهما عقب ذلك ": أي لا يَسْتَمِر المُصَلِّي رافِعًا يَدَيه؛ وإنَّما يَضَع اليُمنَى على اليُسْرَى على صَدْرِه. وأمَّا ما يفعله بَعضُ المُصَلِّين مِن إرسال اليَدَين بعد رَفْعِهما ثُمَّ يَرْفَعهما ويَضَعهما على صَدْرِه: فهذا خِلاف ظاهِر السُّنَّة، ولم يَرِد عَن النبيِّ ?، وذَكَر الغَزاليُّ وغيرُه(3) أنَّه ليس عَليه دَليلٌ.
قال: " وقَبْض اليمين على كوع الشمال وجعلها تحت سُرَّته، والنظر إلى موضع سجوده ":
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) راجع: " إحياء عُلُوم الدِّين ": ( 1 / 137، طـ المطبعة العثمانية المصرية، عام 1352 هـ ).(1/359)
سَبَق(1) بيانُ هذه السُّنَن تَفصيليًّا - في مواضِعها - بأدِلَّتها، فلتُراجَع.
قال: " وتَفريقه بين قَدَمَيْه في قيامه ":
والمُراد بذلك: أنَّه يُسَنُّ للمُصَلِّي أن يُفَرِّق بين قَدَمَيه حالَ قيامِه في الصَّلاة، ولا يَضُمّهما، سواءً كان هذا القيام قبل الرُّكوع أو بَعْدَه.
وَوَجْه ذلك: أنَّه لم يُنقَل لنا عَن النبي ? أنَّه كان يَضُمُّ قَدَمَيْه حال القِيام؛ فَدَلَّ هذا على أنَّه ? كان يَضَعهما على وَضْعِهما الطَّبيعيّ، والوَضْع الطَّبيعي للقَدَمين أن تكونا مُتباعِدَتَين. وإنَّما جاء ما يَدُلُّ على ضَمِّهما والمُقارَبَةِ بينهما حالَ السُّجود، كما سبق(2) بيانُه في موضِعِه، وكما سيأتي(3) - إن شاء الله -.
قال: " ومراوحته بينهما ":
المُراد بالمُراوَحَة بين القَدَمَين: اعْتِماد المُصَلِّي على إحْدَى قَدَمَيْه أكْثَر مِن الأُخْرَى حالَ قيامِه في الصَّلاة. والمُصَلِّي قد يحْتاجُ ذلك في بَعْض الأحيان؛ بغَرَض راحَةَ قَدَمَيْه إن شَعَرَ بالمَشَقَّة أو التَّعَب.
ولم يأتِ في ذلك نَصٌّ؛ فإنْ احْتاج المُصَلِّي ذلك فَعَلَه، وإلا فلا.
قال: " وترتيل القراءة ":
والمُراد بِـ ( تَرْتِيل القِراءَة ): هو القِراءَة شيئًا فشيئًا، بلا اسْتِعْجَال؛ فـ ( التَّرْتِيل ) ضِد ( الاسْتِعْجَال ).
والدَّليل على هذا: قوله - - عز وجل - - ? وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ? [ المُزَّمِّل: 4 ]؛ فأمَرَنا رَبُّنا - تبارَك وتعالى - في هذه الآية بِتَرْتِيل القُرآن.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.(1/360)
فيُسَنُّ للمُصَلِّي تَرْتِيل قِراءَتِه، وأيضًا تَسبيحه في الرُّكوع والسُّجود، والذِّكر بين السَّجْدَتَين، وغيرها مِن أذْكار الصَّلاة. وهذا مِمَّا يُعينه على التَّدَبُّرِ والطمأنينة وتَحصيلِ الخُشُوعِ في الصَّلاةِ. وما يَفعله بعض المُصَلِّين مِن الاسْتِعْجَال في القِراءَة اسْتِعْجالًا شَديدًا، فهو خطأٌ مُخالِفٌ للسُّنَّة، وتَزْداد الطِّينَةُ بَلَّةً إنْ كان الاسْتِعْجالُ مِن أئِمَةِ المَساجِدِ؛ لأنَّ في هذا مَشَقَّةً بالِغَةً على المأمومِين؛ فقد يَعُوقُهم هذا عَن المُتابَعَة والتَّدَبُّر والخُشوع في الصَّلاة، واللهُ المُسْتَعَان.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: " والتَّخفيف للإمام ":
لا يَخْلو المُصَلِّي إمَّا: أن يُصَلِّي مُنفَرِدًا، أو يُصَلِّي إمامًا بالنَّاس:
فأمَّا المُنفَرِد: فله أن يُطَوِّل ما شاء في صَلاتِه وقِراءَتِه، وهذا هو هَديُ النَّبي ?. وإنْ شاء خَفَّف تَخفيفًا لا يُخِلُّ بالاطْمِئنان والخُشوع في الصَّلاة.
أمَّا الإمام: فيُسَنُّ له التَّخفيفُ والتَّقدير؛ فقد كان النبي ? إذا صَلَّى بالنَّاس خَفَّف(1)، وللتَّخفيف مِقْدارٌ يُؤخَذُ مِمَّا جاءَت به السُّنَّة، في وَصْف صلاتِه ?، لا باتِّباعِ الهَوى والفَهم الخَاطىء لِمعناه؛ لأنَّ بَعْضَ أئِمَة المَساجِد يُبالِغون في التَّخفيف - عَملًا بِما فَهِموه مِن الحَديث - مُبالَغَة شَديدة؛ تَعوق المأمومِين عَن الخُشوع والاطمئنان في الصَّلاة لِلَّهِ وبَعْضهم يُطَوِّل في القِراءَة ويُخَفِّف باقي أرْكان الصَّلاة؛ مِن الرُّكوعِ والرَّفْعِ مِنه والسُّجود والجِلْسَة بين السَّجْدَتَين لِلَّهِ وكُلُّ هذا خطأٌ مُخالِفٌ لهدي النبي ?.
__________
(1) جاء ذلك في أحاديث؛ مِنها: ما رواه البخاري ( 706، 708 )، ومسلم ( 458، 469)، وغيرهما.(1/361)
والنبي ? أمَرَ الأئِمَةَ بالتَّخفيف، ولم يَدَع ذلك لأهواء النَّاس؛ وإنَّما عَلَّمنا مِقدارَه وصِفَتَه في صَلاتِه التي وَصَفَها أصحابه - - رضي الله عنهم - - لنا؛ فَمَن أراد الاقتداء بالنبي ? فَلْيَتَعَلَّم مِقْدار هذا التَّخفيف الذي أمَرَ ? به.
فَمِن ذلك:
( 1) مَا جَاء في حديث أنس - - رضي الله عنه - - قال: قال رسول الله ?: " إني لأدْخُلُ الصَّلاةَ أُريدُ إطالَتَها فأسْمَعُ بُكاءَ الصَّبِي فأُخَفِّفُ مِن شِدَّة وَجْد أُمِّه به "(1).
( 2 ) وما ثَبَتَ في " الصَّحيحَين "(2)، مِن حَديث أبي بَرْزَة الأسْلَمِي - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " كان يقرأ في الفَجْر ما بين السِّتين إلى المائة آيَة ".
( 3 ) وثَبَتَ عَن أبي سعيد الخُدْرِي - - رضي الله عنه - - أنَّه قال: " كنا نَحْرِز قيام رسول الله ? في الظُّهْر والعَصْر: فَحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن الظُّهر قدر قِراءة ? الم (1) م@ƒح"\s?... ? [ السَّجْدَة ]، ( وفي رواية عِندَ مُسْلِم: قَدْر ثلاثين آية )، وحَزرنا قيامَه في الأُخْرَيَيْن قَدْرَ النِّصْف مِن ذلك "، وفيه: " وحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن العَصْر على قَدْر قيامِه في الأُخْرَيَين مِن الظُّهْر "(3).
__________
(1) رواه البخاري ( 709 )، ومسلم - واللفظ له - ( 470 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/362)
( 4 ) وثَبَتَ أنَّه ? قرأ في المَغْرِب بسُورَة الطُّور(1)، وثَبَتَ في " صَحيح مُسْلِم "(2) أنَّه ? قرأ بطُولَى الطُولَيَيْن ( وهي سُورَة الأعْراف ). وفي حَديث أُمِّ الفَضْل - رضي الله عنها - أنَّه ? قرأ المَغْرِبَ في مَرَضِه بسُورَة المُرْسَلات(3).
( 5 ) وثَبَتَ عَنه ? أنَّه قرأ في العِشاء مِن أواسِط المُفَصَّل(4)، وقد أرْشَدَ مُعاذَ بن جَبَل - - رضي الله عنه - - إلى ذلك(5).
وأمَّا الرُّكوع والاعتدال مِنه والسُّجود والرَّفْع مِنه:
1ـ فقد كان ? يَجْعل هذه الأرْكان قريبًا مِن السَّواء، كما ثَبَتَ في " صَحيح البُخارِي "(6)، مِن حَديث عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى عَن البَرَاءِ بنِ عازِب - - رضي الله عنه - -.
2ـ وكان ? يقول في رُكوعِه " سُبحان رَبيَ العَظيم "(7)، وقال: " أمَّا الرُّكُوع فَعَظِّمُوا فيه الرَّب - - عز وجل - -، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهِدُوا في الدُّعاء؛ فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَابَ لَكُم "(8).
قال: " وكون الأولى أطوَل من الثانية ":
ثَبَتَ عَن النبي ? أنَّه كان يَجْعَل الرَّكْعَتَين الأوُلَيين (الأوْلَى والثانية) أطْوَل مِن الأُخْرَيَيْن ( الثَّالِثَة والرَّابِعَة )، وتكون الرَّكْعَة الأوْلَى أطْوَل مِن الثَّانيَة، والثَّانية أطْوَل مِن الثَّالِثَة.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ": ( 764 )، وأبو داود ( 812 )، والنسائي (990، 991 ).
(3) رواه البخاري ( 4429، 763 )، ومسلم ( 462 )، وأبو داود ( 810 )، والترمذي (308 )، والنسائي ( 985 )، وابن ماجه ( 831 ).
(4) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(5) رواه البخاري ( 705، 6106 )، ومسلم ( 465 )، وأبو داود ( 790 )، وابن ماجه (836، 986 ).
(6) برقم ( 792، 801 )، ورواه مسلم ( 471 )، والترمذي ( 279 )، وأبو داود ( 852 )، والنسائي ( 1148، 1065 ).
(7) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(8) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/363)
وأمَّا الثَّالِثَة والرَّابِعَة: فَظاهِر النُّصوص الآتيَة أنَّهما سواء في الطُّول؛ لأنَّه لم يأتِ أنَّ الرَّكْعَة الثالثة تكون أطْولَ مِنَ الرَّابِعَة.
ومِن الأدِلَّة على ما سَبَق:
( 1 ) ما جاء في حَديث أبي سعيد الخُدْرِي - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم قبل قليلٍ أنَّه قال: " كنا نَحْرِز قيام رسول الله ? في الظُّهْر والعَصْر: فَحَزَرنا قيامَه في الرَّكْعَتَين الأوْلَيَين مِن الظُّهر قدر قِراءة ? الم (1) م@ƒح"\s?... ? [ السَّجْدَة ]، ( وفي رواية عِندَ مُسْلِم: قَدْر ثلاثين آية )، وحَزرنا قيامَه في الأُخْرَيَيْن قَدْرَ النِّصْف مِن ذلك... " الحَديث(1). ففيه دَلالَةٌ على أنَّ الثَّانية أطْوَل مِن الثَّالِثَة.
( 2 ) وفي " الصَّحيحين "(2)، مِن حَديث عبد الملك بن عُمَيْر عَن جابر بن سَمُرَة - - رضي الله عنه - - قال: شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْدَ بنَ أبي وَقَّاص إلى عُمَر بنِ الخَطَّاب - رضي الله عنهما -... فأرْسَلَ إلَيْه فقال: يا أبا إسحاق؛ إنَّ هؤلاء يَزْعُمون أنَّك لا تُحْسِنُ تُصَلِّي؟! فقال سَعْدٌ: أمَّا أنا واللهِ؛ فإنِّي كُنتُ أُصَلِّي بِهم صَلاةَ رسولِ الله ?، ما أخْرِم عَنها، أُصَلِّي صلاة العِشاء، فأرْكُدُ في الأُولَيَيْن، وأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْن ". فقال عُمَر: ذاك الظَّنُّ بك يا أبا إسْحاق.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) رواه البخاري ( 755 )، ومسلم ( 453 ). ورواه مُخْتَصرًا النسائي ( 1003 ).(1/364)
( 3 ) وفي " الصَّحيحين "(1)، مِن حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قَتَادَة عن أبيه - - رضي الله عنه - - قال: " كان النبيُّ ? يقرأ في الرَّكْعَتَين الأُولَيَيْن مِن صَلاة الظُّهْر بِفاتِحَة الكِتاب وسُورَتَين، يُطَوِّل في الأولَى ويُقَصِّر في الثَّانية، ويُسْمِعُ الآية أحيانًا، وكان يقرأ في العَصْر بفاتحة الكِتاب وسُورَتَيْن، وكان يُطَوِّل في الأُولَى، وكان يُطَوِّل في الرَّكْعَة الأُولَى مِن صَلاة الصُّبْح ويُقَصِّر في الثانية.
يعني: أنَّه ? كان يُطَوِّل في الأوُلَيَيْن، ويُخَفِّف الأُخْرَيَيْن فيَقْتَصِر فيهما على الفاتِحَة.
فيُسَنُّ للمُصَلِّي التَّطويل في الرَّكْعَتَين الأولَى والثَّانية أكْثَر مِن الثَّالِثَّة والرَّابِعَة.
قال: " وقبض ركبتيه بيديه مفرجتي الأصابع في الركوع، ومد ظهره مستوياً وجعل رأسه حياله، قال: ووضع ركبتيه قبل يديه في سجوده، قال: ورفع يديه قبلهما في القيام، وتمكين جبهته وأنفه من الأرض، ومجافاته عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه، ووضع يديه حذو منكبيه مبسوطة الأصابع إذا سجد، وتوجيه أصابع يديه المضمومة إلى القبلة، ومباشرة المصلي بيديه وجبهته، وقيامه إلى الركعة على صُدُورِ قَدَمَيْه مُعْتَمِدًا بيديه على فَخِذَيْه، والافتراش في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول ":
سَبَقَ(2) بيانُ هذه السُّنَن تَفصيليًّا - في مواضِعها - بأدِلَّتها، فلتُراجَع.
قال: " والتَّوَرُّك في الثاني ":
والمُراد بـ ( الثَّاني ) يعني: التَّشَهُّد الثَّانِي. وسَبَق(3) بيان صِفَة ( التَّوَرُّك ) بأدِلَّته في مَوضِعِه مِن صِفَة صلاة النبي ?.
__________
(1) رواه البخاري ( 759 )، ومسلم ( 451 ).
(2) ص؟؟.
(3) ص؟؟؟.(1/365)
قال: " ووضع يديه على فخذيه مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلاً بها القبلة، بين السجدتين وفي التشهد، وقبض الخنصر والبنصر من اليمنى، وتحليق إبهامها مع الوسطي والإشارة بسبابتها، والالتفات يَمينًا وشِمالًا في تَسليمه ":
سَبَقَ(1) بيانُ هذه السُّنَن تَفصيليًّا - في مواضِعها - بأدِلَّتها، فَلْتُراجَع.
قال: " وتَفضيل الشِّمال على اليَمِين في الالتِفَات ":
والمُراد بذلك: أن يكون التفاتُ المُصَلِّي - عِندَ التَّسليم مِن الصَّلاة - عَن يسارِه أكثر مِن يَمينه: حتى يُرَى بياضُ خَدِّه الأيْمَن والأيْسَر عِندَ التفاتِه عَن يسارِه. وقد تَقَدَّم(2) بَسْطُ ذلك في مَوضِعِه، وبَيَّنَّا أنَّ الصَّحيح في هذه المسألة: أنَّ الالتفات في التَّسليمَتَيْن سواء.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: " وأمَّا سُجُود السَّهْو... ":
يَشْرُع المُصَنِّفُ - رحمه الله - هُنا في بيانِ أحْكامِ سُجُودِ السَّهْو ومَسائِلِه. ومُناسَبة هذا واضِحَة لِمَا قَبْلَه مِن أبوابٍ؛ ذلك أنَّ المُصَنِّف ذَكَرَ في الأبواب السَّابِقَة صِفَةَ الصَّلاةِ وأركانَها وواجِباتَها وسُنَنَها، فناسب أن يُتْبِعها بأحكام السَّهْوِ في الصَّلاة؛ لأنَّ المُصَلِّي يَتَعَرَّضُ كثيرًا للسَّهو في صَلاتِه: إمَّا نِسيان أو شَكّ أو زِيادَة أو نُقصان ونحوها، وهذا لا يَنفَكُّ عَنه بَشَرٌ.
وسُجود السَّهْو مِن واجِباتِ الصَّلاة؛ لأمرِ الرَّسول ? به، كما سيأتي(3)، وهو ثابِتٌ - أيضًا - مِن فِعْلِ النَّبيِّ ?.
قال: " وأمَّا سُجُود السَّهْو: فقال أحمد(4): يُحْفَظ فيه عن النبي ? خمسة أشياء:... ":
والمُراد بـ ( أحمد ): الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -.
__________
(1) ص؟؟؟.
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) راجع: " المُغني ": ( 1 / 373 ).(1/366)
وهو يَذْكُر هُنا أنواع السَّهْو التي وَقَعَت للنبي ? في صَلاتِه، وذَكَرَ أنَّها خَمسة أنواع. وأمَّا الأحاديث التي وَرَدَت في الباب فهي كثيرةٌ.
قال: " سَلَّم مِن اثْنَتَيْن ":
ثَبَتَ(1) هذا مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - المُتَّفَقِّ على صِحَّتِه، أنَّ الرسول ? سَلَّم في إحْدَى صَلاتَي العَشِيّ - إمَّا الظُّهْر أو العَصْر - عَن رَكْعَتَين، ولَمَّا نُبِّه ? أتَى بما بَقي له، ثُمَّ تَشَهَّد وسَلَّم، ثُمَّ سَجَد للسَّهْو.
قال: " وسَلَّم مِن ثَلاثٍ فَسَجَدَ ":
جاء هذا مِن حَديث أبي قِلابَة عَن أبي المُهَلَّب عَن عِمران بن حُصَيْن - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? " صَلَّى العَصْر، فسَلَّم في ثَلاثِ رَكَعاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنزِلَه؛ فقام إلَيْه رَجُلٌ يُقال له الخِرْباق - وكان في يَدَيْه طُولٌ -؛ فقال: يا رَسولَ الله؛ فَذَكَرَ له صَنيعَه، وخَرَجَ غَضبان يَجُرُّ رِدَاءَه، حتى انتَهَى إلى النَّاس؛ فقال: أصَدَقَ هذا؟ قالوا: نَعَم. فَصَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّم، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَين، ثُمَّ سَلَّم " [ رواه مُسْلِمٌ(2) ].
والذي يَبْدُو أنَّ حديثَ عِمران بن حُصَيْن هو نَفسه حَديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -؛ فيكون كِلاهما قَد رَوَى قِصَّة سَهْوه ? في صَلاة الظُّهْر أو العَصْر، وتَسليمه قبل أن يُتِمَّ الصَّلاة.
وأمَّا اختلافهم: هل حَصَل السُّهو في صلاةِ الظُّهرِ أم العَصرِ: فهذا ليس بمؤثِّرٍ؛ لأنَّ المقصود هو سَهْوه ? في صلاة رُباعيَّة، وتَسليمه قبل إتمام الصَّلاة.
وهذان النَّوعان السَّابِقان يَتَّفِقان في النَّقْصِ مِن الصَّلاة.
قال " وفي الزيادة ":
__________
(1) رواه البخاري ( 482 )، ومسلم ( 573 )، وأبو داود ( 1008 )، والترمذي ( 399 )، والنسائي ( 1224 )، وابن ماجه ( 1214 ).
(2) برقم ( 574 )، ورواه أبو داود ( 1018 )، والنسائي ( 1237 )، وابن ماجه ( 1215 ).(1/367)
ثَبَتَ في " الصَّحيح "(1)، مِن حَديث إبراهيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - قال: " صَلَّى النبيُّ ? الظُّهْر خَمْسًا؛ فقالوا: أزيدَ في الصَّلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَثَنى رِجْلَيه، وسَجَدَ سَجْدَتَيْن".
قال " والنُّقْصَان ":
يَنقَسِم النُّقْصان الذي وَقَعَ للنبي ? في صَلاتِه إلى قِسْمَين:
القِسْم الأوَّل ( نُقْصان بَعْضِ أرْكان الصَّلاة ): كما في حَديثَي أبي هُريرة وعِمران بن حُصَيْن - رضي الله عنهما - المُتَقَدِّمَيْن.
القِسْم الثَّاني ( نُقْصان بَعْضِ واجِبات الصَّلاة ): ومِنه: ما ثَبَتَ في " الصَّحيحين "(2)، مِن حَديث عبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة - - رضي الله عنه - -، أنَّ النبيِّ ? صَلَّى بِهِم الظُّهْرَ؛ فقام في الرَّكْعَتَين الأُولَيَيْن لم يَجْلِس؛ فقام النَّاسُ مَعَه، حَتَّى إذا قَضَى الصَّلاةَ وانتَظَرَ النَّاسَ تَسْليمَه؛ كَبَّر وهو جالِسٌ؛ فَسَجَدَ سَجْدَتَين قَبْلَ أن يُسَلِّم، ثُمَّ سَلَّم ".
وهذا القِسْم هو ما عَبَّر عَنه المُصَنِّف - رحمه الله - بقولِه: " وقام من اثنتين فلم يتشهد ".
قال:" قال الخطابي.... ":
والخَطابي: هو حَمْد(3) بن سليمان، المعروف بالخطابي، مِن كِبارِ أهْلِ العِلْمِ الفُقَهاءِ في زَمانه، له مؤلَّفات كثيرة. تُوفي عام 388، رَحِمَه الله تعالى.
__________
(1) رواه البخاري ( 404 )، ومسلم ( 572 )، وأبو داود ( 1019 )، والنسائي ( 1256 )، وابن ماجه ( 1205 )
(2) رواه البخاري ( 829 )، ومسلم ( 570 )، وأبو داود ( 1034 )، والنسائي ( 1177، 1222 )، وابن ماجه ( 1206، 1207 ).
(3) وقيل في اسمه: أحمد، والصَّواب ما أثْبَتناه. ( السعد )(1/368)
قال: " قال الخطابي(1): المُعْتَمَد عليه عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة؛ يعني: حديثَي ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بحينة - - رضي الله عنهم -- ":
وهذه هي الأحاديث الأُصول التي يَدور عَليها بابُ سُجُود السَّهْوِ؛ وهي: حَديثان لابن مَسعود - - رضي الله عنه - -، تَقَدَّم(2) أحَدُهما، وحَديث لأبي سَعيد - - رضي الله عنه - - سيأتي(3) في ( باب: الشَّكّ في الصَّلاة )، وحَديثا أبي هريرة وابن بُحَيْنَة - رضي الله عنهما - قد تَقَدَّما قبل قَليلٍ.
قال: " وسُجُود السَّهْو يُشْرَع للزيادة والنقص... ":
اعْلَم - رَحِمَك الله - أنَّه ليس كُلُّ سَهْوٍ يَعْرِضُ للمُصَلِّي يُشْرَعُ له سُجود السَّهْوِ؛ وإنَّما يُشْرَع سُجُودُ السَّهْوِ لحالاتٍ خاصَّةٍ في الصَّلاة، سَيَتَكَلَّم عَنها المُصَنِّف - رحمه الله تعالى -، وبهذا يُعْلَم أنَّ هناك مِن السَّهْو ما لا يُشْرَع له السُّجود، وهُناك مِن الأفعال ما لا يُشْرَع لها السُّجود؛ ومِن الأمْثِلَة على ذلك:
( 1 ) الكَلام أو الأكل أو القَهْقَهة ناسيًا.
( 2 ) النَّوم في الصَّلاة.
( 3 ) المَشي مُتَعَمِّدًا في الصَّلاة، وهو مِن مُبْطِلاتها إن كان كثيرًا، كما سيأتي(4) - إن شاء الله - في ( مُبْطِلات الصَّلاة ).
( 4 ) حَكُّ المُصَلِّي بَدَنَه أو العَبَث بملابِسِه.
( 5 ) السَّهْو عَن سُنَّة مِن مُسْتَحَبَّات الصَّلاة؛ كالجَهْر في الصَّلاة السِّريَّة، أو الإسرار في الصَّلاة الجَهْريَّة. وقد جاء(5) عَن عُمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أنه أسَرَّ في صلاة جَهْريَّة فلم يَسْجُد للسَّهْو، وكان ذلك في مَشْهَدٍ مِن الصحابة - - رضي الله عنهم - -.
__________
(1) راجع: " المُغني ": ( 1 / 373 ).
(2) ص؟؟؟.
(3) ص؟؟؟.
(4) ص؟؟؟.
(5) رواه البيهقيُّ في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 347، 381 ). وانظر: ص؟؟؟.(1/369)
أمَّا ما يُشْرَع له السَّهْو؛ فهو: إمَّا للزِّيادَة أو النُّقْصان أو الشَّك.
قال المصنف - رحمه الله -: " يُشْرَع للزيادة... ":
…تَنْقَسِم الزِّيادَة في الصَّلاة إلى قِسْمَين مِن حَيثُ مَشروعيَّة سُجود السَّهْو لها:
القِسْم الأوَّل ( زِيادَة لا يُشْرَع لها سُجود السَّهْو ): وهي ما ليس مِن جِنْسِ الصَّلاة مِمَّا قد يَفْعَلُه المُصَلِّي. وقد ضَرَبْنا عليها بَعْضَ الأمْثِلَة قَبْلَ قَليلٍ.
وهذه الأفعال التي ليسَت مِن جِنْسِ الصَّلاة لا تَخْلو إمَّا أن:
الأوَّل ( تكون مُبْطِلَة للصَّلاة ): وهي ما يَفْعَله المُصَلِّي مُتَعَمِّدًا مِمَّا يكون مُنافيًا للصَّلاة. مِثل: القَهْقَهَة أو الأكْل ونحوهما.
الثَّانِي ( لا تُبْطِل الصَّلاة ): وهي ما أباح الشَّارِعُ فِعْلَه فيها. مِثل: إصلاح الثَّوب لحاجَةٍ، أو حَكّ الجِسْم، أو الحَرَكَة اليسيرة. أو لم يُبَحْ له فَعَله، وفَعَله ناسيًا، والله - - عز وجل - - يقول ? رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ? [ البقرة: 286 ]، وهذا قد نَسيَ فأتَى بهذا الفِعْل الذي يُنافِي الصلاة؛ فلا تَبْطُل صَلاته بِفِعْلِه.
…وقَسَّم بَعْضُ أهْلِ العِلْم أفعال الصَّلاة التي ليسَت مِن جِنسِها إلى الأحْكام التَّكليفية الخَمْسَة: الواجِب والمُسْتَحَبّ والمُباح والمَكروه والحَرام. فقالوا: لا تَخْرُج الأفعال التي يَفعلها المُصَلِّي في صَلاتِه مِمَّا هو ليس مِن جِنسِها عَن هذه الأحكام الخَمْسَة:(1/370)
…فَمِن أمْثِلَة الأفعال الواجِبَة: مُصَلٍّ تَذَكَر أنَّ على ثَوبِه نَجاسَةً يَسْتَطيع التَّخَلُّصَ مِنها أثناءَ صَلاتِه ( كأن تكون على غُترَتِه ). فهنا وَجَب عَليه خَلْعَها وهو يُصَلِّي؛ لأنَّها مِن شُروط صِحَّة الصَّلاة. وهذا فِعْلٌ ليس مِن جِنس الصَّلاة، ولكنه واجِبٌ. والأصْل في ذلك: ما رواه أبو داود في " سُنَنِه "(1)، عَن أبي سَعيد الخُدْرِي - - رضي الله عنه - - قال: بَيْنَما رَسولُ الله ? يُصَلِّي بأصحابِه إذْ خَلَعَ نَعْلَيْه فَوَضَعَهما عَن يسارِه، فلمَّا رأى ذلك القَومُ ألْقَوا نِعالَهم، فَلَمَّا قَضى رسولُ الله ? صَلاتَه قال: ما حَمَلَكم على إلقاء نِعالِكم؟ قالوا: رأيناك ألْقَيْتَ نَعْلَيْك فألْقَيْنَا نِعالَنا. فقال رسولُ الله ?: إنَّ جِبْريل - عليه السَّلام - أتاني فأخْبَرَني أنَّ فيهما قَذَرًا... ".
…ومِن أمْثِلَة الأفعال المُسْتَحَبَّة: الحَرَكَة اليَسيرَة مِن أجْلِ إتْمام الصَّف - مثلًا -؛ وهذا فِعْلٌ ليس مِن جِنسِ الصَّلاة يُسْتَحَبُّ فِعْلُه حتى تَسْتَقيمَ الصُّفوفُ.
ومِن أمْثِلَة الأفعال المُباحَة: الحَرَكَة اليسيرَة التي ليسَت بواجِبَةٍ ولا مُسْتَحَبَّة؛ فهذه الأصل فيها الإباحَة، ويُعْفَى عَن مِثل هذه الحَرَكَة اليسيرة. مِثالها: حَكّ الجِسْم لِضَرورَة.
ومِن أمْثِلَة الأفعال المَكْروهَة: الحَرَكَة التي ليس لها حاجَةٌ أو مَصْلَحَةٌ.
ومِن أمْثِلَة الأفعال المُحَرَّمَة: الحَرَكَة الكَثيرَة التي ليس لها حاجَةٌ؛ كَرَفْع البَصَر إلى السَّماء ( وقد جاء الوَعيد الشَّديد على هذا الفِعْل ).
القِسْم الثَّانِي ( زِيادَة يُشْرَع لها سُجود السَّهْو ): وهي المَقصودَة هُنا. وضابِطها: ما كان مِن جِنْسِ الصَّلاة، كأن يَزيد المُصَلِّي سَجْدَة أو رَكْعَة ونحوها ناسيًا.
وهي تَنقَسِم بِدَورِها ثلاثة أقسام:
__________
(1) رواه أبو داود ( 650 ).(1/371)
الأوَّل ( زِيادَة رُكْنٍ فأكْثَرٍ في الصَّلاة ): كأن يَزيد سَجْدَة أو أكْثَر، أو يأتِي بِرَكْعَة ثالِثَة في صَلاةٍ ثُنائيَّة، أو خامِسَة في رُباعيَّة.
الثَّانِي ( زِيادَة واجِبٍ فأكْثَر في الصَّلاة ): كأن يَجْلِس للتَّشَهُّدِ بَعْد الرَّكْعَة الأوُلَى ظانًّا أنَّها الثَّانيَة، أو جَلَس للتَّشَهُّدِ بعد الثَّالِثَة ظَانًّا أنَّها الرَّابِعَة. فهنا التَّشَهُّد - وهو واجِبٌ - وَقَعَ في غَير مَحِلِّه سَهْوًا.
الثَّالِث ( زِيادَة سُنَّة مِن سُنَن الصَّلاة ).
وسُجودُ السَّهْو واجِبٌ في القِسْم الأوَّل والثَّاني، أمَّا القِسْم الثَّالِث: فيُشْرَع له سُجود السَّهْو ولا يَجِب.
قال: " والنَّقْص ":
يُشْرَع سُجود السَّهو - أيضًا - للنَّقْصِ مِن الصَّلاة.
ويَنقَسِم النَّقْص الذي يُشْرَع له سُجودُ السَّهوِ ثلاثة أقسام - أيضًا -:
الأوَّل ( نَقْص رُكْنٍ فأكْثَرٍ في الصَّلاة ): كما في حَديثَي أبي هُريرة(1) وعِمران بن حُصَيْن(2) - رضي الله عنهما - أنَّ النبي ? سَلَّم مِن رَكْعَتَين ( أو ثلاثٍ ) في صَلاةٍ رُباعيَّة.
الثَّانِي ( نَقْص واجِبٍ فأكْثَر في الصَّلاة ): كما في حَديث ابن بُحَيْنَة(3) - - رضي الله عنه - - أنَّ النبي ? تَرَكَ التَّشَهُّد الأول ناسيًا.
الثَّالِث ( نَقْص سُنَّة مِن سُنَن الصَّلاة ): كأن يَجْهر في صَلاة سِريَّة أو العَكْس. وفي هذا القِسْم خِلافٌ بين أهْل العِلْم في مَشروعيَّة سُجود السَّهو له، والأقْرَب أنَّه لا يَسْجُد للسَّهو؛ لِمَا رواه البيهقيُّ(4) أنَّ عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسَرَّ في صلاة جَهْريَّة فلم يَسْجُد للسَّهْو، وكان ذلك في مَشْهَدٍ مِن الصحابة - رضي الله عنهم - .
قال: " وشَكّ ":
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(4) راجع لفظه في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 347، 381 ). وانظر: ص؟؟؟.(1/372)
يُشْرَع سُجود السَّهو - أيضًا - للشَّكِّ في الصَّلاة.
ويَنقَسِم الشَّكُّ الذي يُشْرَع له سُجودُ السَّهوِ ثلاثة أقسام: إمَّا شَكٌّ في رُكْنٍ أو واجِبٍ أوسُنَّةٍ مُسْتَحَبَّةٍ.
ولا يَخْلو الشَّاكّ في صَلاتِه إمَّا أن: يَتَرَجَّح لَدَيه شىءٌ، أو لا يَتَرَجَّح:
مِثال ذلك: مُصَلٍّ شَكَّ: هل سَجَدَ السَّجْدَة الثَّانية أم لا؟ أو شَكَّ: هل صَلَّى ثلاث رَكعاتٍ أم أرْبَع؟ فإمَّا أن يَتَرَجَّح لَدَيْه مُرَجِّح، أو لا يَتَرَجَّح.
وفائِدَة هذا التَّقسيم أنَّ النبي ? غايَرَ بين حُكْم هاتَين الحالَتَين:
1ـ فقد ثَبَتَ في " صَحيح البُخارِي"(1)، مِن حَديث إبراهيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - قال: " صَلَّى النبيُّ ? ( قال إبراهيم: لا أدْرِي زَادَ أو نَقَصَ )؛ فَلَمَّا سَلَّم قيل له: يا رَسولَ الله؛ أحَدَثَ في الصَّلاةِ شىءٌ؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صَلَّيْتَ كَذا وكذا. فَثَنى رِجْلَيه، واسْتَقْبَل القِبْلَةَ، وسَجَدَ سَجْدَتَين، ثُمَّ سَلَّم "... ثُمَّ قال: " إذا شَكَّ أحَدُكُم في صَلاتِه فَلْيَتَحَرَّ الصَّواب؛ فَلْيُتِمَّ عَلَيه، ثُمَّ ليُسَلِّم، ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَين ".
فلو شَكَّ مُصَلٍّ: هل صَلَّى ثلاثًا أو أرْبَعًا، وتَرَجَّح لَدَيه أنَّها أرْبَع، بنى على ذلك فيجعلها أرْبَعًا، ثُمَّ يُكْمِل الصَّلاة ويَتَشَهَّد، ثُمَّ يُسَلِّم، ثُمَّ يَسْجُد للسَّهْو.
__________
(1) برقم ( 401 )، ورواه - أيضًا - مسلم ( 572 )، وأبو داود ( 1020 )، وابن ماجه - مُخْتَصَرًا دون القِصَّة - ( 1212 ).(1/373)
2ـ وثَبَتَ في " صَحيح مُسْلِم "(1)، مِن حَديث زيد بن أسْلَم عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عن أبي سعيد الخُدْرِي - - رضي الله عنه - - قال: قال رسولُ الله ?: " إذا شَكَّ أحَدُكم في صَلاتِه، فلم يَدْرِ كم صَلَّى: ثلاثًا أم أرْبَعًا؛ فَلْيَطْرَح الشَّكَّ، ولْيَبْنِ على ما اسْتَيْقَن، ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَين قبل أن يُسَلِّم. فإنْ كان صَلَّى خَمسًا شَفَعْنَ له صَلاتَه، وإنْ كان صَلَّى إتْمامًا لأرْبَعٍ كانتا تَرغيمًا للشَّيطان ".
ومَعنى ( البِنَاء على اليَقين ) يعني: البِنَاء على الأقل؛ لأنَّه هو المَقطوع به.
فلو شَكَّ مُصَلٍّ: هل صَلَّى ثلاثًا أو أرْبَعًا، ولم يَترَجَّح لَدَيه أحَدُهما: فاليَقين أنَّه صَلَّى ثلاثًا؛ فيَبْنِي عَلَيْه. وإذا شَكَّ: سَجَدَ أم لم يَسْجُد: فاليَقين أنَّه لم يَسْجُد، وهكذا.
فأمرَنا النبيُّ ? بِطَرْحِ الشَّكِّ والبِناءِ على اليَقين، ثُمَّ يُكْمِل الشَّاكُّ صَلاتَه، ويَسْجُد للسَّهْو قبل أن يُسَلِّم.
وبهذا يُمكِنُنا الجَمعُ بين حَديثَي ابن مَسعودٍ وأبي سَعيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنهما - بِما سَبَقَ: فَفي حديث ابن مسعود - - رضي الله عنه - - الأمر بالبِناء على ما تَرَجَّح لدى الشَّاكّ ثُمَّ السُّجود بعد السَّلام، وفي حَديث أبي سَعيد - - رضي الله عنه - - الأمر بِطَرْحِ الشَّكّ ثُمَّ السُّجود قَبْلَ السَّلام. والمُصَلِّي لا يَخْرُج عَن هذين الحالَين، إنْ شَكَّ في صَلاتِه: فإنْ تَرَجَّح لَدَيه شىءٌ؛ عَمِل بِحَديث ابن مَسعودٍ، وإلا عَمِل بِحَديث أبي سَعيدٍ - رضي الله عنهما -.
قال: " في فَرْضٍ ونَفْلٍ ":
…والمُراد بِذَلِك: أنَّه يُشْرَع سُجودُ السَّهْوِ للزِّيادَة والنُّقْصان والشَّكّ، لا فَرْقَ في ذلك بين صَلاة الفَريضَة والنَّافِلَة؛ فِكلاهما يُشْرَع لها سُجودُ السَّهْوِ.
__________
(1) برقم ( 571 ).(1/374)
…والأصْلُ: أنَّ ما ثَبَتَ في صَلاة الفَريضَة يَثْبُت في النَّافِلَة، إلا بِدليلٍ خاصٍّ على التَّفريق. وقد تَقَدَّم(1) الكلامُ على هذا الأصل؛ فليُراجَع.
قال: " إلَّا أن يَكْثُر فيَصير كَوَسْوَاسٍ ":
نَبَّه المُصَنِّف - هُنا - أنَّ سُجودَ السَّهْو يُشْرَع للشَّكِ في الصَّلاة، إلا إذا كَثُرَ جِدًّا؛ فيكون في هذا قرينةً على أنَّه وَسْواسٌ مِن الشَّيْطان؛ فلا يَعْتَدُّ به المُصَلِّي، ولا يَسْجُد للسَّهْوِ له، إلا إذا تَيَقَّن أنَّه ليس وَسْواسًا؛ وإنَّما هو بِسَبَبِ النِّسيان وكَثْرَة الغَفْلَة وكِبَر السِّن - مثلًا -؛ فيكون حُكْمه حُكم ما قَدَّمناه مِن أحْكام الشَّكِّ.
والمُسْلِم يَتَعرَّضُ للوَساوِس كَثيرًا في عِباداتِه، وبالأخَصِّ في الطَّهارَة والصَّلاة؛ لأنَّ الشَّيْطان حَريصٌ على إبْطال صَلاة الإنسان، وتَشكيكه فيها، وإثقالِها عَلَيه، بَعْدَ أن عَجَزَ عَن الدُّخول إليه مِن باب الشَّر والدَّعْوَة إلى الشِّرْك والبِدْعَة والمعاصِي؛ فيأتِيه مِن باب العِبادات؛ فيُشَكِّكه في طَهارَته وصلاتِه.
قال: " فَيَطْرَحه ":
…بَيَّنَ المُصَنِّف - رحمه الله - هُنا حُكْمَ المسألةِ السَّابِقَة؛ وهي: إنْ كَثُر الشَّكُّ لدى المُصَلِّي فصار كالوَسْواس. فقال: " فَيَطْرَحه " = يعني: يَطْرَح هذه الوَساوِس ولا يَلْتَفِت إلَيها.
…ومِن القَواعِد في هذا البابِ - أيضًا -: أنَّه " إذا فُرِغَ مِن العِبادَةِ فلا عِبْرَة بالشَّكِّ الطارىء بَعْدَها، إلا إنْ كان مُتيَقَّنًا أو يَغْلُب على الظَّنِّ وُقوعَه ".
…فَمِمَّا يَعْرِضُ للعابِدِ كثيرًا بَعْد فَراغِه مِن عِبادَتِه أنَّه يَشُكُّ فيها: هل صَلَّى أرْبَع رَكعات أم ثلاث؟ هل جَلَسَ للتَّشَهُّد الأوْسَط أم لم يَجْلِس؟ هل سَجَدَ السَّجْدَة الثانية مِن الرَّكْعَة الأخيرة أم لا؟
__________
(1) ص؟؟؟.(1/375)
وسَبَبُ هذا الشَّكِّ: أنَّه كُلَّما طال الفَصْل ضَعُفَ اسْتِحضار العابِد لِمَا فَعَلَه في عِبادَتِه، وزاد نِسيانُه وشَكُّه له.
فإنْ حَصَلَ هذا للعابِد فَلْيَطْرَح الشَّك، ولا يَعْبأ به، ولا يَلْتَفِت إلى هذه الوَساوِس التي يُزَيِّنها له الشَّيطان؛ فلو كان ثَمَّ خَللٌ وَقَعَ في صَلاتِه؛ لَشَعَر به أثناءَها؛ فلَمَّا لم يَشْعُر به إلا بعد الفَراغِ مِنها = دَلَّ هذا على أنَّه وَسْواسُ شَيْطان.
قال: " وكذا في الوُضوءِ والغُسْلِ وإزالَةِ النَّجَاسَةِ ":
يُريد المُصَنِّف - رحمه الله - بهذه المسألة: أنَّ الوَساوِس التي تَعْرِضُ للعابِدِ حالَ وُضوئِه وغُسْلِه وإزالَةِ نَجاسَتِه وغيرها مِن صُوَر الطَّهارة، حُكْمها حُكم الشَّكّ الكَثير في الصَّلاة = يَعني: يَطْرَحها ولا يَلْتَفِت إلَيها.
وخَصَّصَ - رحمه الله - الطَّهارَة بالذِّكْر، رَغم أنَّ هذا الحُكْم مُطْرَد في جَميع العِبادات؛ لأنَّ الوَساوِس تكون في الطَّهارَة أكْثَرَ مِن غَيرِها. فيُوَسْوِسُ الشَّيطانُ للعَبْدِ: هل هذا الثَّوب نَجِس أم طاهِرٌ؟ إنَّك لم تَمْسَح برأسِك ( ولا يقول له: لم تَغْسِل يَدَيْك؛ لأنَّ الرأس لا يراها بِخلاف اليَد لِلَّهِ )، لقد انْتَقَض وُضوءَك، لقد زِدْتَ أو نَقَصْتَ كذا وهكذا؛ حتى تُصْبِحَ العِبادَةُ عليه ثَقيلَة؛ فَيمَلَّها وقد يَتْرُكها - والعِياذُ بالله - لِلَّهِ
والشَّيطان دائمًا يأتي للإنسان مِن أضْعَفِ أحوالِه أو أوقاتِه أو هيئاتِه التي يَسْتَطيع وَسْوَسَته فيها.(1/376)
ومِن المُلاحَظ على المُسْلِمين في طَهاراتِهم: أنَّك قد تَجِد الواحِدَ مِنهم يَجْلِس وَقتًا طَويلًا - قد يَمتَدَّ إلى ساعَة أو ساعَتَين - حتى يَفْرُغَ مِن وُضوئِه لِلَّهِ بل قد يُصَوِّر لهم الشَّيطان أشياء تُخالِف الحِسَّ والواقِعَ، ولا يَقبلها العَقْل السَّليم لِلَّهِ فَمِن ذلك ما يُحْكَى(1) عَن أبي الوفاء ابن عَقيلٍ - رحمه الله - أنَّ رَجُلًا قال له: أنغَمِسُ في الماء مِرارًا كثيرَة، وأشُكُّ: هل صَحَّ لي الغُسْل أم لا؟! فما تَرَىَ في ذلك؟! فقال له: اذْهَب؛ فقد سَقَطَت عَنك الصَّلاة لِلَّهِ قال: وكيف؟ قال: لأنَّ النبيَّ ? قال: " رُفِعَ القَلَم عَن ثلاثة: المَجْنُون حَتى يَفيف، والنَّائِم حتى يَسْتَيْقِظ، والصَّبيّ حتى يَبْلُغ "(2)، ومَن ينغَمِس في الماءِ مِرارًا ويَشُكُّ هل أصابه الماء أن لا = فهو مَجنونٌ !!!
وكُلُّ هذا مِن تَلبيس إبليس، نُعوذُ باللهِ مِنه. فلا يَجوز للمُسْلِم أن ينقادَ خَلْفَ ما يُمليه عَلَيْه.
وتَكْثُر الوَساوِس على على النِّساء خاصَّةً؛ لِضَعْفِهن، ولأنَّها في الأصل تُؤَدِّي العِبادَة بِمُفْرَدِها؛ فيَسْهُل تَسَلُّطُ الشَّيْطانِ عَلَيْها. ولِذا مِن المُلاحَظ أنَّ السَّهْو والوَساوِس تكون في صَلاة المُنفَرِد أكْثَر مِنها في صَلاة الجَماعَة، وهي في صَلاة الجَماعَة أبْعَد، فيأتي الشَّيطان للمُنفَرِد ويُوَسْوِس له: لقد نسيتَ كذا، أو زِدْتَ كذا. وقد قال النبيُّ ?: " إنَّما يأكُل الذِّئبُ القاصيَة "(3).
__________
(1) راجع: " إغاثة اللهفان مِن مَصايد الشَّيطان ": ( 1 / 134 طـ الفقي )، و" مَصائِب الإنسان في مَكائد الشَّيطان " / لابن مُفْلِح: ( ص 135 )، وبنحوه في " تَلبيس إبليس ": ( ص؟؟؟ ).
(2) رواه أبو داود ( 4398 )، والترمذي ( 1423 )، والنَّسائي ( 3432 )، والإمام أحمد في " مُسْنَدِه ": ( 6 / 100، 101، 144 ).
(3) رواه أبو داود ( 547 )، والنسائي ( 847 )، وغيرهما.(1/377)
وأمَّا السَّبيل لِعِلاج وَساوِس الشَّيطان: فيَجْمَعُه الدُّعاءُ والتَّضَرُّعُ والابْتِهال إلى الله - - عز وجل - - أن يُزيلَ عَنك الوَساوِس، ويُبْعِدَ عَنك كَيد الشَّيطان. ويكونُ هذا بأمُورٍ:
الأوَّل: الاسْتِعاذَة بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم، والدُّعاء والتَّضَرُّع والابتهال إلى الله - تبارَك وتعالَى -.
الثَّانِي: عَدَم الانقياد خَلْفَ وَساوِس الشَّيطان، وعَدَم الالتِفات إلَيْها والتَّعويل عَلْيها، والتَّساهُلِ في أمْرِها. أمَّا لو صَرَفَ الإنسانُ ذِهْنَه إلى التَّفكير فيها، والانقيادِ خَلْفَها = فَسَتَزْداد شيئًا فشيئًا، حتى تَكْثُر وتَسْتَحْكِم ويَصْعُب دَفْعُها والتَّخَلُّصُ مِنها؛ لأنَّ الشَّيْطان يَتَدَرَّج في غِواية الإنسان بالأقل فالأكْثَر؛ حتى يُحْكِمَ عليه القَبْضَة - والعِياذُ بالله - لِلَّهِ
الثَّالِث: أن يَتَّبِعَ ما جاءَ به الشَّرْعُ في تِلكَ العِبادات التي يُؤَدِّيها. فَمَن أراد تَصحيح عِباداتِه - مِن الطَّهارَة والصَّلاة ونحوها - فَلْيَتَّبِع هَدي النبي ? في ذلك.
ومِن ذلك:
( 1 ) ما ثَبَتَ في " الصَّحيح "(1)، مِن حَديث عبد الله بن زَيد - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? شُكيَ إليه الرَّجُل يُخَيَّل إلَيْه أنَّه يَجِدُ الشىءَ في الصَّلاة؟ فقال: " لا يَنْصَرِف حتى يَسْمَعَ صَوتًا أو يَجِدَ رِيحًا ".
والمُراد بِذلك: حتى يَعْلَمَ بيَقينٍ أو غَلَبَةِ ظَنٍّ وُجودَ أحَدِهما ( يَعني: انتقاضَ وُضوئِه )، ولا يُشْتَرَط السَّماع والشَّم بإجْماعِ المُسْلِمين. فإن تَيَقَّن انتقاضَ وُضوئِه خَرَجَ مِن الصَّلاة، وتَوَضَّأ واسْتأنَفَ الصَّلاة.
__________
(1) رواه البخاري ( 137 )، ومسلم ( 361 )، وأبو داود ( 176 )، والنسائي ( 160 )، وابن ماجه ( 513 ).(1/378)
وقد ذُكِرَ(1) عَن عبد الله بن المُبارَك - رحمه الله - أنَّه قال: " إذا شَكَّ في الحَدَث فإنَّه لا يَجِبُ عَلَيْه الوضوءُ حتى يَسْتَيقِنَ استيقانًا يَقْدِر أن يَحْلِفَ عَلَيْه " = يعني: حتى يَجْزِم بيقينٍ، حتى إنْ حَلَفَ على ما تَيَقَّنه لا يَحْنَث لِلَّهِ وقَصَدَ بِذلك - رحمه الله - ألا يَنقادَ خَلْفَ وَساوِس الشَّيطان، ولا يَنْصَرِف إلا بِيَقينٍ وجَزْمٍ.
فمثلًا: لو شَكَّ هل انتَقَض وُضوءَه، أو زادَ رَكْعَةً أوسَجْدَةً، أو انتَقَصَ رُكعَةً = لا يُبالِي بذلك الشَّكّ إنْ كان مُوَسْوَسًا إلا إذا جَزَمَ وتَيَقَّن ذَلِك، حتى يتجرأ على الحَلِف ولا يَحْنَث بِذَلِك.
وعلى ذَلِك دَلَّت النُّصوصُ، كَحَديث عبد الله بن زَيد - - رضي الله عنه - - المُتَقَدِّم.
( 2 ) ما رواه أبو داود والنَّسائي وغيرهما(2)، عَن عَمرو بن شُعَيْب عَن أبيه عن جَدِّه - - رضي الله عنه - - أنَّ الرَّسُولَ ? تَوَضأ ثَلاثًا ثلاثًا؛ ثُمَّ قال: " هكذا الوُضوء؛ فمَن زَادَ عَلَى هذا فَقَد أسَاءَ وتَعَدَّى وظَلَمَ ".
فلا يَجوز الزِّيادَة في الوُضوء على ثَلاث غَسلات.
__________
(1) حَكاه عَنه الإمام التِّرمذي - رحمه الله - في " سُنَنِه "، تحت الحَديث رقم ( 75 ).
(2) رواه النسائي ( 140 ) - واللفظ له -، وأبو داود ( 135 ) - بزيادَةٍ ستأتي -، وابن ماجه ( 422 )، وأحمد ( 2 / 180 )، والبيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 1 / 79 )، وغيرهم.(1/379)
وأمَّا زِيادَة " أو نَقَصَ "(1) في هذ الحَديث - " مَن زادَ أو نَقَصَ " -: فهي شاذَّةٌ لا تَصِحُّ؛ وقد أنكرها الإمامُ مُسْلِمٌ(2) - رحمه الله -، والحَديث ثابِتٌ بدونِها.
قال: " فَمَتَى زَادَ مِن جِنْسِ الصَّلاةِ قِيامًا أو رُكوعًا أو سُجُودًا أو قُعُودًا عَمْدًا: بَطَلَت ":
يَعْنِي بقوله " بَطَلَت " أي: صَلاتُه.
وقَوله " فَمَتَى زَادَ مِن جِنْسِ الصَّلاةِ... " يُفيدُ - ما قُلناه ساِبقًا - أنَّ الزياداتِ في الصَّلاة على قِسْمَين: زِيادات مِن جِنْسِ الصَّلاة ( يُشْرَع لها سُجُود السَّهْو )، وزِيادات ليست مِن جِنْسِها ( لا يُشْرَع لها سُجُود السَّهْو ).
…وما كان مِن جِنْسِ الصَّلاة وفَعَلَه المُصَلِّي مُتَعَمِّدًا؛ فغَيَّر صِفَة الصَّلاة المَشروعَة، يُبْطِل الصَّلاة. مِثاله: السُّجود قبل الرُّكوع مُتَعَمِّدًا، أو الجُلوس بَدَل السُّجود مُتَعَمِّدًا، أو القيام للخامِسَة في صلاةٍ رُباعيَّة، وهكذا.
فإنْ فَعَل ما كان مِن جِنْسِ الصَّلاة ناسيًا؛ شُرِعَ له سُجود السَّهْو، وهذا هو المَعنيُّ بالبَحْث، وهو الذي عَناه المؤلِّفُ بِقولِه:
" وسَهْوًا يَسْجُد له؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " إذا زَادَ الرَّجُلُ أو نَقَصَ في صَلاتِه فَلْيَسْجُد سَجْدَتَيْن " رواه مسلم(3) ":
__________
(1) وهي رواية أبي داود ( 135 )، والطَّحاوي في " شَرْح معاني الآثار ": ( 1 / 36 )، والبيهقي في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 1 / 79 )، وغيرهم.
(2) نَقلَ ذلك عنه الحافظ ( ابن حجر ) - رحمه الله - في " فتح الباري ": ( 1 / 233 ) و"تَغليق التَّعليق ": ( 2 / 97 )، وقال الحافظ ابن رجب في " شَرْح عِلَل التِّرمذي ": (10/ 1 ): " وقد ذَكَرَ مُسْلِمٌ الإجماع على خِلافِه " اهـ. وراجع: " عَون المعبود ": ( 1 / 157)، و" حاشية السِّندي على النَّسائي ": ( 1 / 88 ).
(3) برقم ( 572 ).(1/380)
وهذا هو دَليل مَشروعيَّة سُجُود السَّهْو لِما فُعِل مِن جِنْسِ الصَّلاة نِسيانًا؛ فقد أمَر النبيُّ ? مَن سَها في صَلاتِه فزاد أو نَقص بِأن يَسْجُد سَجْدَتي سَهْوٍ.
قال: " ومتى ذَكَرَ عَادَ إلى تَرتيبِ الصَّلاةِ بِغَيرِ تَكبيرٍ ":
يَعني: " ومَتى ذَكَر " هذه الزِّيادَة " عادَ إلى تَرتيب الصَّلاة " بدون تَكبيرٍ.
وصُورَة المَسألة: مُصَلٍّ رَفَعَ رأسَه مِن السَّجْدَة الثَّانية مِن الرَّكْعَة الأولَى، فَظَنَّ أنَّها الثَّانية؛ فَجَلسَ للتَّشَهُّد، ثُمَّ تَذَكَّر أنَّها الأولَى. فما الحُكْم؟
هذا التَّشَهُّد وَقَعَ في غَيرِ مَوضِعِه، " فَمَتى ذَكَرَ عادَ إلى تَرتيب الصَّلاة بغير تَكبيرٍ " = يعني: وَجَبَ عليه أن يَتْرُك التَّشَهُّد الذي زادَه، ويَرْجِع إلى الرُّكْن الصَّحيح - وهو القيام للرَّكْعة الثَّانية -، دون تَكبيرٍ؛ لأنَّ هذه الزيادة ليست مِن أصل الصَّلاة، أشْبَه باللَّغْو، فوجودها كَعَدمِها؛ فلا يُشْرَع لها التَّكبير.
قال: " وإنْ زَادَ رَكْعَةً قَطَعَ مَتَى ذَكَرَ وبَنَى عَلَى فِعْلِه قَبْلَهَا ":
صُورَة المَسألَة: مُصَلٍّ زاد خامِسَة في صَلاةٍ رُباعيَّة، أو رابِعَة في ثُلاثيَّة، أو ثالِثَة في ثُنائيَّة، أو زادَ رْكْنًا كرُكوعٍ أو سُجودٍ، ثُمَّ تَذَكَّر. فما الحُكْم؟
الجواب: يَجِب عَليه متى ذَكَرَ ذلك - سواءً ذَكَرَه بَعْدَ أن اسْتَتَمَّ قائِمًا، أو في رُكوعِه، أو بَعْدَ أنْ صَلَّى أكْثَر مِن رَكْعَةٍ - أن يَقْطَع تِلك الزِّيادَة ويَرْجِع ويَبْنِي على ما قَبل تِلك الزِّيادَة؛ لأنَّ هذه الزِّيادَة لا أصْلَ لها وغير مَشروعَة، وما بَعْدَها غيرُ صَحيحٍ وما قَبْلها صَحيح؛ فَوَجب قَطْعُها، والبِناء على ما هو صَحيحٌ قَبْلَها، وعَدَم التَّعويل على الخطأ.
وأيضًا لو زاَد شيئًا مُسْتَحَبًّا في الأصْلِ في غَيرِ مَوضِعِه؛ كأن جَهَرَ في صَلاة سريَّة؛ فَعَليه أن يَقْطَع الجَهْر ويَسْكُت.(1/381)
ولو سَهَا الإمامُ فَزَادَ في صَلاتِه ما ليس مَشروعًا فيها: فلا يُتابِعْه مأمومُه في ذَلِك إنْ كان عَالِمًا أنَّ هذه زِيادَة. مِثال ذلك: إمامٌ زاد خامِسَة في صَلاةٍ رُباعيَّة، أو رابِعَة في ثُلاثيَّة، أو ثالِثَة في ثُنائيَّة. فهل يُتابِعه المأموم على هذه الزِّيادَة؟ أم يُفارِقه؟
الجواب: لا يَجوز للمأمومِ مُتابَعَة إمامِه في هذه الحالَة؛ وإنَّما يُفارِقُه ويَتَشَهَّد، ويَنتَظِر إمامَه لحين الانتهاء مِن رَكْعَتِه التي زادها وظَنَّ أنَّها آخِر رَكْعَةٍ مِن صَلاتِه، ثُمَّ يُسَلِّم مَعَه.
قال: " ولا يَتَشَهَّد إن كان قد تَشَهَّدَ ":
…هذه المسألة مُتَعَلِّقَةٌ بِصُورَة المسألة السَّابِقَة التي ذَكَرَها المُصَنِّف - رحمه الله -؛ وهي لو زاد المُصَلِّي خامِسَة في صَلاةٍ رُباعيَّة، أو رابِعَة في ثُلاثيَّة، أو ثالِثَة في ثُنائيَّة، ثُمَّ ذَكَر. قال: " قَطَعَ مَتَى ذَكَرَ وبَنَى عَلَى فِعْلِه قَبْلَهَا، ولا يَتَشَهَّد إن كان قد تَشَهَّدَ ". فلا يَخْلو المُصَلِّي - في هذه الحالَة - إمَّا أن: يكون قد تَشَهَّد، أو لم يَتَشَهَّد:
مِثال الحالَة الأولَى: مُصَلٍّ تَشَهَّد للرَّكْعَة الرَّابِعَة، ثُمَّ شَكَّ: هل هي الرَّابِعَة أم الثَّالِثَة؛ فقام للخامِسَة يَظُنُّها الرَّابِعَة، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّها الخامِسَة، وأنَّ صلاتَه قد تَمَّت بِتَشَهُّده السَّابِق. فما الحُكْم؟ وَجَبَ عَليه قَطْع هذه الرَّكْعَة الخامِسَة، ويَرْجِع للجُلوس ولا يَتَشَهَّد، ولكن يُسَلِّم، ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَي السَّهْو. فَهُنا لا يَتَشَهَّد - كما قال المُصَنِّف -؛ لأنَّ تَشَهُّدَه صَحيحٌ، وما بَعْدَه خَطأٌ؛ فيَبْنِي على ما قبل الخَطأ، وهو التَّشَهُّد، ولا يبقَى له إلا السَّلام، ثُمَّ سُجود السَّهْو.(1/382)
مِثال الحالَة الثانية: مُصَلٍّ قام مِن السَّجْدَة الثانية مِن الرَّكْعَة الرَّابِعَة إلى الخامِسَة يَظُنَّها الرَّابِعَة، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّها الخامِسَة. فما الحُكْم؟ وَجَبَ عَليه قَطْع هذه الرَّكْعَة الخامِسَة، ويَرْجِع للجُلوس ويَتَشَهَّد، ثُمَّ يُسَلِّم، ثُمَّ يَسْجُد سَجْدَتَي السَّهْو.
ومِثله لو أنَّه تَشَهَّد ثُمَّ ظَنَّ أنَّه لم يَسْجُد السَّجْدَة الثانية فَسَجَدها، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّه سَجَدها؛ فيَقْطَعها، ثُمَّ يُسَلِّم - ولا يُعيد التَّشَهُّد -، ثُمَّ يًسْجُد للسَّهو.
مَسألة ( قد تَكون الزِّيادَةُ في الصَّلاة مَبنيَّةً على نُقْصانٍ لِرُكْنٍ فيها ):
مِثاله: نَسي رَجُلٌ السَّجْدَة الثَّانية مِن الرَّكْعَة الأولَى، ثُمَّ قام للثانيَة. فَهُنا لا يَخْلو إمَّا أن: يَتَذَكَّر ذلك قبل أن يَصِلَ إلى السُّجودِ الثَّانِي مِن الرَّكْعَة الثَّانية ( أي: وَصَلَ إلى مَوضِع الرُّكْن الذي نَسيَه مِن الرَّكْعة الأولَى في الرَّكْعة الثَّانية )، أو يَتَذَكَّر قبل ذلك:
ففي الحالَة الأولى: وَجَبَ عليه الرُّجوع لِيَسْجُد السَّجْدَة الثَّانية، ثُمَّ يَبْنِي عَليها، ويُتِمّ صَلاتَه، ثُمَّ يَسْجُد للسَّهْوِ بَعْدَ سلامِه.
وفي الحالَة الثَّانية: لا يَرْجِع؛ وإنَّما يَعْتَبِر الرَّكْعَة الأولى لاغية، والثانية بدلًا مِنها فتكون هي الأولَى، ويُتِمُّ صلاتَه، ثُمَّ يَسْجُد للسَّهْوِ بَعْدَ سلامِه. وهذا على مَذْهَب الجُمهور.
قال: " ولا يَعْتَدُّ بالرَّكْعَةِ الزَّائِدَة مَسْبوقٌ ":
لهذه المسألة صُورَتان:
الصُّورَة الأولَى: زادَ إمامٌ - سَهْوًا - خامِسَةً في صَلاةٍ رُباعيَّة، أو رابِعَةً في ثُلاثيَّة، أو ثالِثَةً في ثُنائيَّة، يَظُنُّها آخِرَ رَكْعَةٍ مِن صلاتِه، فهل يَعْتَدُّ المَسبوقُ ببعضِ الصَّلاة بهذه الرَّكْعَة الفاسِدَة في حَقِّ الإمام، ويَبْنِي عَليها ما سُبِق به؟(1/383)
اخْتَلَف العُلماء في هذه المسألة، على قَولَين(1):
1ـ فالمَشهور عِندَ الحنابِلَة ومُتأخِّريهم - وهو اختيار المُصَنِّف - أنَّه لا يُعْتَدُّ بِتلك الرَّكْعَة؛ لأنَّها فاسِدَة.
2ـ وذَهَبَ آخرون إلى أنَّه: يَعْتَدُّ بها. قالوا: لأنَّها - وإنْ كانَت فاسِدَةً في حَقِّ الإمام - فهي صَحيحة في حَقِّ مأمومِه، وليست زائِدَةً في حَقِّه.
وهذا الثَّانِي هو الرَّاجِح؛ والدَّليل عَليه - إضافَةً إلى التَّعليل السَّابِق -: ما رواه البخاريُّ في " صَحيحه "(2)، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? قال عَن الأئِمَّة: " يُصَلُّون لكم؛ فإنْ أصابُوا فَلَكُم، وإنْ أخْطأوا فَلَكُم وعَلَيْهم ". يعني: " فَلَكم " الصَّواب، و" عَلَيهم " الخَطأ. فَمن تابَع الإمام على خَطأه فهو صوابٌ في حَقِّه، خطأٌ في حَقِّ إمامِه، وهو ( أي الإمام ) - على كل حالٍ - اجْتَهَد فأخطأ.
قال: " ولا يَدْخُل مَعه مَن عَلِمَ أنَّها زَائِدَةٌ ":
…وهذه هي الصُّورَة الثَّانية مِن أصْلَى صُورَتي المَسألة السَّابِقة:
الصُّورَة الثانية: زادَ إمامٌ - سَهْوًا - خامِسَةً في صَلاةٍ رُباعيَّة، أو رابِعَةً في ثُلاثيَّة، أو ثالِثَةً في ثُنائيَّة، يَظُنُّها آخِرَ رَكْعَةٍ مِن صلاتِه، ثُمَّ جاء مأمومٌ يُريد الدُّخول في صَلاة الجَماعَة؛ فهل يَدْخُل مَعه ويَعْتَدُّ بهذه الرَّكْعَة؟
والرَّاجِح في هذه الصُّورَة هو الرَّاجِح في الصُّورَة الأولَى - وهو خِلاف اختيار المُصَنِّف -؛ وهو أنَّه يَدْخُل مَعه؛ لأنَّ هذه الرَّكْعَة - وإنْ كانَت فاسِدَةً في حَقِّ الإمام - إلا أنَّها صَحيحةٌ في حَقِّ المأمومِ، لها إحْرام وتَكبير ورُكوع وسُجود، والإمام - على كُلِّ حالٍ - مُجْتَهِدٌ ويَظُنُّ صِحَّتَها.
قال: " وإنْ كانَ إمامًا أو مُنفَرِدًا فَنَبَّهَه ثِقَتان؛ لَزِمَه الرُّجُوع ":
__________
(1) راجع:؟؟؟.
(2) برقم ( 694 ).(1/384)
…إنْ سَها المُصَلِّي في صلاتِه - إمَامًا كان أو مُنفَرِدًا - فلا يَخْلو إمَّا أن: يَتَيَقَّن خَطأه، أو يَشُكَّ فيه، أو لا يَعْلَم بخَطأه ويَظُنُّ صوابَ فِعْلِه:
…فالأوَّل: عَليه أن يُصَوِّب خَطأه. وسَبَقَ الكلامُ على أحْكام الثَّاني ( الشَّكّ في الصَّلاة ).
وأمَّا مَن سَها في صَلاتِه ولم يَدْرِ بِخَطأِه، فهذا لا يَخْلو مِن حالَين:
الحال الأول: ألا يُنَبِّهه أحَدٌ. كأن يُصَلِّي مُنفَرِدًا، وسَها، ولم يَعْلَم بِخطأِ نَفْسِه، ولم يُنَبِّهه أحَد. فهذا صَلاته مُجْزئَة؛ لحال جَهْلِه بِخَطأِه، و? لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [ البقرة: 286 ].
…الحال الثَّانِي: أن يُنَبِّهه غَيرُه بِخَطأِه. وهذا المُنَبِّه لا يَخْلو إمَّا أن:
…1ـ يُصَلِّي مَعه. كالإمام في صَلاة الجَماعَة.
…2ـ أو يكونَ خارِجَ الصَّلاة، وقريبًا مِن المُصَلِّي.
…( 1 ) فإنْ نَبَّه الإمامَ واحِدٌ فقط، وكان جازِمًا بِصواب نَفْسِه، ولم يُتابِع هذا المُنَبِّهَ أحَدٌ: فَهُنا لا يَعْتَدُّ بِتَنبيهه؛ لِضَعْف القرائِن في هذه الحالَة؛ فالغالِبُ على المُنَبِّه - في هذه الحالَة - أن يكون مُخْطئًا؛ لِعَدَم مُتابَعَة المأمومين للمُنَبِّه على تَنبيهه، ولِجَزم الإمام بِصوابِ نَفْسِه، ولو كان مُصيبًا لتابَعَه غيرُه عَلَى ذلك.
…والدَّليل على هذه المسألة: حَديث ذي اليَدَين(1)، لَمَّا سَلَّم النبيُّ ? في صَلاة الظُّهر أو العَصْر مِن رَكْعَتَين؛ قال له ذُو اليَدَين: يا رَسولَ الله؛ أنسيتَ أم قَصُرَت الصَّلاةُ؟ قال: لم أنْسَ ولم تُقْصَر؟ فقال رَسول الله ?: أكما يَقول ذو اليدين؟ فقالوا: نَعَم... الحَديث.
__________
(1) رواه البخاري ( 482 )، ومسلم ( 573 )، وأبو داود ( 1008 )، والترمذي ( 399 )، والنسائي ( 1224 )، وابن ماجه ( 1214 ).(1/385)
فالرَّسول ? لَمَّا كان جازِمًا بِصواب نَفْسِه؛ لم يأخُذ بقول ذي اليَدين ابتداءً - لأنَّه واحِدٌ نَبَّه واحِدًا -؛ وإنَّما سَألَ مَن صَلَّى مَعه مِن أصحابَه - - رضي الله عنهم - - الذين صَلُّوا؛ فَلَمَّا تَيَقَّن مِن صِحَّة قول ذي اليَدين؛ قام وأتَى بما بَقيَ له مِن صَلاتِه، ثُمَّ سَلَّم، ثُمَّ سَجَدَ للسَّهْوِ.
…( 2 ) وأمَّا إنْ نُبِّه المُنفَرِّد على سَهْوِه أو خَطأِه: فلا يَخْلو هذا المُنفَرِّد إمَّا أن: يكونَ جازِمًا بصوابِ نَفْسِه، أو شاكًّا في خَطأِه ( لِغَفْلَتِه أو تَفكيره في غَير الصَّلاة ):
فعلى الأوَّل؛ لا يَلْزَمُه أن يأخُذَ بِقول المُنَبِّه؛ لاحتِمال خَطأِه، وهو أعْلَم بِصلاة نَفْسِه مِن غيرِه، وقد جَزَمَ أو غَلبَ على ظَنِّه صِحَّتَها.
وعلى الثَّاني: إنْ كان المُنَبِّه عَدْلًا ثِقَةً عاقلًا ( لا طِفلًا ) يَعي ما يقول = لَزِمَه الأخْذُ بِقَولِه.
ولِذا قال المؤلِّف - رحمه الله -:
" ولا يَرْجِع إنْ نَبَّهَه وَاحِدٌ إلا أن يَتَيَقَّن صَوابَه؛ لأنَّه ? لم يَرْجِع إلى قَول ذِي اليَدَيْن ":
كما تَقَدَّم.
قال: ولا يُبطِل الصَّلاةَ عَمَلٌ يَسيرٌ... ":
نَبَّه المُصَنِّف - رحمه الله تعالى - هُنا على حُكْم ما يَزيده المُصَلِّي في صَلاتِه مِمَّا هو ليس مِن جِنْسِها، وكان يَسيرًا، وقد سَبَق الكلامُ على هذه المَسألة؛ فلتُراجَع.
وقد أفْرَدَ أهْلُ العِلْم كُتُبًا وأبوابًا مُسْتَقِلَّة في جوامِعِهم لِمَوضوع ( العَمَل في الصَّلاة )؛ لِما وَرَدَ فيه مِن نُصوص السُّنَّة، ولِكَثْرَةِ الحاجَةِ إلَيْه. ومِن هؤلاء: الإمام البُخارِيّ - رحمه الله تعالى -؛ فقد أفْرَد له في " صَحيحه "(1) أبوابًا وَضَعها تحت اسم " أبواب: العَمَل في الصَّلاة "، أوْدَعَ تَحْتَها بَعْض الأحاديث الوارِدَة في الباب والتي تَقَع تحت شَرْطِه.
__________
(1) " صَحيح البُخارِي ": ( 3 / 71 - " فَتح " ).(1/386)
…ومِن تِلك الأعمال التي ثَبَتَ أنَّ النبي ? فَعَلها في صَلاتِه:
…1ـ تَقَدُّم ? في صلاة الكُسوف خُطوات، لَمَّا عُرِضَت له الجَنَّة ؛ ليأخُذَ مِنها عُنقودًا مِن العِنَب. وتَأخَّر? القَهْقَرى خُطوات، لَمَّا عُرِضَت له النَّار في قِبْلَتِه(1).
…2ـ ومِن ذلك: ما ثَبَتَ " الصحيحين "(2)، مِن حديث سَهْل بن سعد السَّاعِدِي - - رضي الله عنه - - قال: "... رأيتُ رسول الله ? صَلَّى عليها [ يعني على أعواد المِنْبَر ]، وكَبَّر وهو عَلَيْها، ثُمَّ رَكَعَ وهو عَلَيْها، ثُمَّ نَزَل القَهْقَرى؛ فَسَجَد في أصْل المِنْبَر، ثم عادَ. فَلَما فَرَغَ أقبل على الناس؛ فقال: أيُّها النَّاس؛ إنَّما صَنَعتُ هذا لِتأتَمُّوا ولِتَعْلَموا صَلاتي ".
…فكأنَّه ? يومىء لَهم أنَّ هذا الفِعْلَ ليس بِمَشروعٍ؛ وإنَّما فَعَله بِغَرَضِ تَعليمِ النَّاسِ الصَّلاةَ، مع العِلْم بأنَّ هاتَين الرَّكْعَتَين اللَّتين صَلَّاهما ? لم تكونا صَلاة فَريضة؛ والنَّافِلة يُتَوَسُّع فيها ما لا يُتَوَسُّع في الفَريضَة.
…3ـ ومِن ذلك - أيضًا -: ما رواه أبو داود(3)، من حديث سَهْل بن الحَنْظَليَّة - - رضي الله عنه - - قال: " ثُوِّب بالصَّلاة - يعني صلاة الصُّبْح -، فَجَعلَ رسول الله ? يُصَلِّي وهو يَلْتَفِت إلى الشِّعْب ". قال أبو داود: " وكان أرْسَل فارِسًا إلى الشِّعْب مِن اللَّيل يَحْرُس " اهـ. والحَديثُ صَحيحٌ.
فالرَّسول ? أرْسَل رَجُلًا يحرسهم، وأمَرَه أن يقوم في أعلى الوادي، فَحَضَرَت صلاة الفَجْر وأُقيمَت الصَّلاة ولم يأتِ هذا الرَّجُل، فكان ? يَلْتَفِت إلى الجِهَة التي أرْسَل إليها هذا الرَّجُل؛ ليَعْلَم: هل جاءَ أم لم يأتِ بَعْد؛ لأن الرسول ? انْشَغَل قَلْبُه - فيما يَظْهَر - لِتأخُّر الرَّجُل.
__________
(1) رواه البخاري ( 745، 1212 )، والنسائي ( 1472 ).
(2) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/387)
وغيرِها مِن الأعمال التي فَعَلها ? في صَلاتِه.
ومِمَّا رَخَّصَ ? في فِعْلِه في الصَّلاة قَتل الحَيَّة والعَقْرَب؛ فقد رَوَى أبو داود(1) - بإسنادٍ لا بأسَ به -، مِن حَديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? " اُقْتُلوا الأسْوَدَين في الصَّلاة: الحَيَّة والعَقْرَب ". وهذا يَحْتاجُه الإنسان؛ ولذا رَخَّصَ الشَّرْعُ في فِعْلِه، ولا يُبْطِلُ فِعْلُه الصَّلاةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ المُصَنِّف - رحمه الله - أمثِلَةً على العَمَلِ اليَسيرِ الذي لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ؛ فقال:
" كَفَتْحِه ? البابَ لِعائِشَةَ ":
يُشير المُصَنِّف - رحمه الله - إلى: ما رواه أبو داود والتِّرمذي والنَّسائي(2)، كُلُّهم مِن حَديث بُرْد بن سِنَان الشَّامِي عَن الزُّهْرِي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر عن عَائشة - رضي الله عنها - قالت: " جئتُ ورَسول الله ? يُصَلِّي في البَيْت، والباب عليه مُغْلَقٌ، فَمَشَى حتى فَتَحَ لي، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكانِه "، وَوَصَفَت الباب في القِبْلَة.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.
(2) رواه أبو داود ( 922 )، والترمذي - واللفظ له - ( 601 )، والنسائي ( 1206 ).(1/388)
واخْتَلَف أهْلُ العِلْم في صِحَّتِه: فَمِنهم مَن قواه، ومِنهم مَن ضَعَّفه، وهذا الأخير هو الأقْرَب؛ لأنَّ فيه بُرْدَ بن سِنان؛ فهو - وإنْ كان الجُمهور على تَوثيقه(1) - إلا أنَّه تَفَرَّد بهذا الحَديث عَن الزُّهْرِي، وهو ليس مِن أصْحابِه المُقَدَّمَين فيه، وليس مِن الأئمة الحُفَّاظ المَشهورين؛ فأين أصْحاب الزُّهْرِي عَن هذا الحَديث حتى يَتْرُكوه لِمثْلِ بُرْد؟! وهو - أي الزُّهري - مُكْثِرٌ مِن الرِّواية، وله تلاميذٌ كثيرون مُلازِمون له مَعروفون بَضَبْطِهم لِحَديثِه؛ كَالإمام مالِك بن أنس وشُعيب بن أبي حَمزة وسُفيان بن عُيَينة وعُقَيل بن خالد بن عَقيل الأموي ومَعْمَر بن راشِد البَصْرِي ومحمد بن الوَليد الزبيدي، وغيرِهم مِن أصْحابِه؛ فأين هُم عَن هذا الحَديث؟
وبُرْد - وإنْ كان صَدوقًا - إلا أنَّه لا يُقْبَل تَفَرُّدُه في هذا الإسْنادِ عَن راوٍ مُكْثِرٍ مِن الرِّواية مَشهورٌ بكثرة الأصْحاب كالزُّهرِي - رحمه الله - لِلَّهِ وهذه هي طَريقة الأئِمَة المُتَقَدِّمين في مِثْلِ هذا الإسْناد - فَهم يَرُدُّونَه -، بِخلافِ الفُقهاء ومَن سار على مَنهَجِهم مِن مُتأخِّري أهْل الحَديث - فإنَّهم يَقْبَلونَه -.
ولِسان حالِ الأئِمَة المُتَقَدِّمين - رَحِمَهم اللهُ تعالى -: نَحْنُ لا نُجادِل أنَّ بُرْدًا لا بأس به، لكن تَفَرُّدَه عَن مِثْلِ الزُّهْرِي غَيرُ مَقبولٍ؛ إذ ليس كُلُّ تَفَرُّدٍ مَقبولًا؛ فَمِن التَّفَرُّد ما يُرَدُّ ومِنه ما يُقْبَل.
__________
(1) وقد تَكَلَّم عليُّ بن المديني فيه؛ وقال أنَّه: ضعيف، إلا أنَّ الرَّاجِح أنَّه صدوقٌ مِقبول الحَديث، وقد وَثَّقه جَمْعٌ مِن أهْلِ العِلْم. ( السعد )(1/389)
والقاعِدَةُ أنَّ: كُلَّ مَن كان مُكْثِرًا مِن الرِّواية والحَديث، ومَعروفًا بِكَثْرَة الأصحاب، إذا تَفَرَّد عَنه راوٍ ليس مِن مُتْقِني أصحابِه ولا مِن المُقَدَّمين في حَديثِه، وهو ليس بِذاك = كان هذا التَّفَرُّدُ - عِندَ الأئِمَّة المُتَقَدِّمين - مُنكَرًا وشُذوذًا يُرَدُّ به الخَبَرُ.
فالخُلاصَة: أنَّ هذا الحَديث الذي مَثَّل به المُصَنِّف - رحمه الله - ضَعيفٌ لا يَصِحُّ.
قال: " وحَمله أُمامة وَوَضْعها ":
وأُمَامة: هي بِنتُ زَينَبِ بِنتِ رَسولِ الله ?.
والمُصَنِّف - رحمه الله - يُشير إلى: ما ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث عمرو بن سُلَيْم عن أبي قتادة - - رضي الله عنه - - أن الرسول ? كان يُصَلِّي وهو حامِلٌ أُمَامَة بِنتَ زَيْنَب بنت رسول الله ?... فإذا سَجَدَ وَضَعَها، وإذا قام حَمَلَها.
قال: " وإنْ أتَى بِقَولٍ مَشْروعٍ في الصَّلاةِ في غَيرِ مَوْضِعِه - كالقِرَاءَةِ في القُعُودِ والتَّشَهُّدِ في القِيَامِ - لم تَبْطُل به ":
اعْلَم - رَحِمَك اللهُ - أنَّ الأفْعالَ المَشروعَةَ في الصَّلاة لا يَخْلو المُصَلِّي إمَّا أن: يأتي بها في مَوضِعِها الذي جاء به الشَّرْعُ، أو يأتي بها في غَيرِ مَوضِعِها:
فالأوَّل: هو صِفَة الصَّلاة الصَّحيحية.
والثَّاني: هو المَقصودُ بِكلامِ المؤلِّف - رَحِمَه الله -.
وضَرَبَ مِثالَين على هذا؛ فقال: " كالقراءةِ في القُعُودِ، والتَّشَهُّدِ في القِيَامِ "، وهذا غَير مَشروعٍ.
وأمَّا حُكْمه إنْ وَقَعَ؛ فقد قال المُصَنِّف - رحمه الله - " لم تَبْطُل " أي: الصلاة " بِه ". وَوَجْه ذلك: أنَّ هذا العَمل لا ينُافِي الصَّلاة بالكُليَّة، وقد وَقَعَ سَهْوًا فيُغْتَفَر، ولا تَبْطُل الصَّلاةُ به.
__________
(1) سبق تخريجه: ص؟؟؟.(1/390)
وهل يَسْجُد له سَجْدَتي سَهوٍ أم لا؟ اخْتَلَف العُلماء في هذه المَسألَة، على قَولَين(1): فَذَهب بَعْضُهم إلى القول بِمَشروعيَّة السُّجود له، واخْتاره المُصَنِّف - رحمه الله - فقال:
" وينبغي السُّجُودُ لِسَهْوِه ":
يعني: لهذا السَّهْوِ الذي وَقَعَ مِنه. واسْتَدَلَّ على هذا فقال:
" لِعُموم قوله - ? -: " إذا نَسيَ أحَدُكم فَلْيَسْجُد سَجْدَتَيْن " ":
وهذا الحَديثُ في " الصَّحيح "(2). قالوا: وهذا نِسيان.
وهذا القَول له وَجاهَته؛ لاسْتدِلالهم بِعُموم الحَديث، والأصْل العَمَل بالُعموم.
وأمَّا مَن ذَهَبَ إلى عَدم مَشروعيَّة سُجُودِ السَّهوِ في هذه الحالَة؛ فقد قالوا: لا يَسْجُد؛ لأنَّ الأحاديثَ الوارِدَة في باب سُجُود السَّهو تَدور كُلُّها في تَرْكِه ? لِما هو ظاهِرٌ أنَّ فيه خَللًا بِصُورَة الصَّلاة وصِفَتِها - كَتَرْكِه رَكْعَتَين أو رَكْعَة أو التَّشَهُّد الأوْسَط(3) -، أمَّا في حالَتِنا هذه: فلم يأتِ السَّاهي بما يُنافي الصَّلاة بالكُليَّة؛ وغاية ما فَعَله أنَّه أتى بقولٍ ( مَشروعٍ ) في غَير مَوضِعِه، وهيئة الصَّلاة الظَّاهِرَة لم تَتَغيَّر بِذَلِك؛ فهو - مثلًا - قام للرَّكْعَة وشَرَعَ في القِراءة؛ فقرأ ( التَّحيات لله... ) بدلًا مِن ( الفاتِحَة )، وصورَة القيام صَحيحةٌ لم تَتَغيَّر.
وقالوا - أيضًا -: وتُقاسُ هذه المسألة على مَن تَكَلَّم ناسيًا أو غافِلًا في صَلاتِه، فهل يُقال بِمَشروعيَّة سُجود السَّهو له؟ لا؛ وصلاتُه صَحيحة. فحالتُنا مِن باب أوْلَى؛ لأنَّه أتى بما هو مَشروع، ولكن في غَير مَوضِعِه.
وهذا القَول - أيضًا - له وَجاهَتُه.
__________
(1) راجع: " المغني ": ( 1 / 382 )، و" المجموع ": ( 4 / 126، 128 ).
(2) رواه مسلم ( 572 ).
(3) سبق تخريج هذه الأحاديث: ص؟؟؟.(1/391)
وقد يُسْتَدَلُّ لأصْحاب هذا القول بـ: ما رواه البيهقيُّ(1) أنَّ عُمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أسَرَّ في صلاة جَهْريَّة فلم يَسْجُد للسَّهْو، وكان ذلك في مَشْهَدٍ مِن الصحابة - - رضي الله عنهم - -.
ويُعارِضُه ما رواه ابنُ نَصْرٍ(2) - بإسنادٍ صَحيحٍ - عَنه - - رضي الله عنه - - أنَّه صَلَّى المَغْرِبَ فلم يقرأ؛ فَلَمَّا انصَرَف قيل له؟ فقال: إنِّي حَدَّثْتُ نَفْسِي وأنا في الصَّلاة بعيرًا جَهَّزْتُها مِن المَدينة، فلم أزَل أنزلها حتى دَخَلَتِ الشَّام. فأعادَ الصَّلاةَ وأعادَ القِراءَةَ ". يعني: كان - - رضي الله عنه - - يُجَهِّز غَزوةً تَغزو في سَبيل الله - - عز وجل - -.
ويُجاب عَن هذا الأثَر: بأنَّ هذا لعله مَحمولٌ - واللهُ أعْلَم - على أنَّه نَسي ولم يقرأ في صلاتِه أصلًا ! والصَّلاة لا تَصِحُّ بغير قِراءَة؛ ولا يَجْبُرها سُجود السَّهْوِ وَحْدَه؛ ولِذا أعادَ الصَّلاة.
فَخُلاصَة المسألة: أنَّ القَولَين فيهما قُوَّة ولَهما وَجاهَتهما ولهما حَظٌّ مِن الدَّليل ونَصيبٌ مِن التَّعليل، والأمر في ذلك واسِعٌ: فَمن سَجَد للسَّهْوِ في مِثل هذه الحالَة فقد أحْسَن، ومَن لم يَسْجُد فلا بأسَ.
قال: " وإنْ سَلَّم قَبْلِ إتمامِها عَمْدًا بَطَلَت ":
إذا نَوى المُصَلِّي التَّسليم مِن الصَّلاة قبل إتمامِها، فلا يَخْلو إمَّا أن يكون: مُتَعَمِّدًا، أو ناسيًا:
فإنْ كان مُتَعَمِّدًا: بَطَلَت صَلاتُه في الحال، كما قال المُصَنِّف - رحمه الله -.
وإنْ كان ناسيًا: فهذا ما أشارَ إليه المُصَنِّفُ - رحمه الله - بقوله:
" وإنْ كان سَهْوًا ثُمَّ ذَكَرَ قريبًا أتَمَّها ":
__________
(1) رواه البيهقيُّ في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 347، 381 ).
(2) في " تَعظيم قَدْر الصلاة ": ( 958 / 2 )، ورواه - أيضًا - البيهقيُّ في " سُنَنِه الكُبْرَى ": ( 2 / 382 ).(1/392)
اعْلَم أنَّ مَن سَلَّم ناسيًا مِن صلاتِه، ثُمَّ ذَكَرَ، فلا يَخْلو إمَّا أن: يَذْكُر مَع قُرْب الفَصْلِ، أو بَعْدَ طُول الفَصْل:
فإن لم يَطُل الفَصْل: يأتِي بِما بَقيَ له مِن صَلاتِه، ثُمَّ يُسَلِّم ويَسْجُد للسَّهْوِ، قولًا واحِدًا. والدَّليل على هذا:
1ـ ما ثَبَتَ في " الصحيحين "(1)، مِن حَديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أنَّ الرَّسول ? سَلَّم في إحْدَى صَلاتَي العَشي - إمَّا الظُّهر أو العَصْر - عَن رَكْعَتَين، ولَمَّا نُبِّه ? أتَى بما بَقي له، ثُمَّ تَشَهَّد وسَلَّم، ثُمَّ سَجَد للسَّهْو.
2ـ وما رواه مُسْلِمٌ(2)، مِن حَديث أبي قِلابَة عَن أبي المُهَلَّب عَن عِمران بن حُصَيْن - - رضي الله عنه - - أنَّ الرسول ? سَلَّم في صَلاة العَصر عَن ثلاث رَكَعاتٍ؛ فَلَمَّا نُبِّه على ذلك؛ أتى بِرَكْعَةٍ ثُمَّ تَشَهَّد وسَلَّم، ثُمَّ سَجَدَ للسَّهو.
أمَّا إنْ طالَ الفَصْلُ: ففيه خَلافٌ بين أهْلِ العِلْم(3)؛ مِنهم مَن قال: يَبْنِي على صَلاتِه، ومِنهم مَن قال: يستأنِف الصَّلاة مِن جَديد.
__________
(1) سبق لَفظُه وتخريجُه: ص؟؟؟.
(2) برقم ( 574 )، وسبق تخريجه: ص؟؟؟.
(3) راجع: " الأوْسَط ": ( 2 / 319 )، و" المغني ": ( 1 / 373 )، و" المجموع ": ( 4 / 113 )، و" فتح الباري " / لابن رَجَب: ( 9 / 410 وما بعدها ).(1/393)